نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار

بدر الدين العيني

نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار تأليف الإِمام بدر الدين العيني محمود بن أحمد بن موسي العينتابي الحلبي ثم القاهري الحنفي المولود سنة 762 هـ والمتوفى سنة 855 هـ رحمه الله تعالي المجلد الأول حققه وضبط نصه أبو تميم ياسر بن إبراهيم إصدرات وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر طبع بتمويل الهيئة القطرية للأوقاف

إدارة الشؤون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد؛ فهذا كتاب: نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار للإمام بدر الدين العيني (762 - 855 هـ) يقع الكتاب المخطوط في ثمانية أجزاء موجودة كاملة في دار الكتب المصرية برقم (526) حديث، وقد فرغ العيني من تأليفه عام 819 هـ وكان قد انتهى من تأليف كتابه "مباني الأخبار" عام 810 هـ، ويسمَّي أيضًا "معاني الأخبار" وهو شرح لـ"معاني الآثار" للإمام الطحاوي ورغم أنه مختصر من "مباني الأخبار" ففيه زيادات عليه. وحين بدأ العيني بتأليفه وعمره 46 سنة كان قد نضج علميًا وأمضى فيه 10 سنوات وهو يبلغ في حجمه ثلاثة أرباع الأصل، وانتهى المؤلف من الجزء الأول سنة 808 ومن الأخير سنة 819.

وهذا يدل على أنه اشتغل في "نخب الأفكار" قبل أن ينجز "معاني الأخبار" بسنتين، فقد أدرك ضرورة تنقيح المباني فشرع في تنقيح المنجز منه. والكتاب رغم توافر نسخه الخطية وهي: 1 - نسخة دار الكتب المصرية في ثمانية مجلدات كاملة بخط المؤلف. 2 - نسخة طوب قابي سراي ناقصة في ثلاثة مجلدات، تضم الأجزاء الثاني والرابع والخامس. 3 - نسخة أخرى في دار الكتب المصرية. فإنه لا حاجة للرجوع لهاتين النسختين مع وجود نسخة المؤلف إلا لملء البياض والسقط الذي وقع في بعض مواضع المخطوط. وكان هذا الكتاب قد طبع بعضه بالهند بعناية محمد أرشد رئيس القسم التعليمي بجامعة ديوبند بالهند. طبعة قديمة لا تتيسر للطالبين في الوقت الحاضر فضلًا عن تطور أدوات الطباعة والإِخراج والالتزام بقواعد التحقيق العلمي. وقد قام خبراء الوزارة بدراسة منهج التحقيق، وأبدوا توجيهات وملحوظات على عمل المحققين تم الأخذ بها حيث بذل المحققون الأفاضل جهودًا كبيرة في ضبط النص والتعليق عليه بما يكفل سلامة القراءة وتيسير النص ونقل أقوال النقاد في الحكم على الأحاديث، وقد تصدرت الكتاب مقدمة مستفيضة عن الإِمام العيني ومنهجه ومكانة كتابه، هذا وإن اللجنة إذ تضع هذا الكتاب النفيس بين يدي العلماء وطلبة العلم فإنها تدعوهم إلى موافاتها بملحوظاتهم واقتراحاتهم حول منشوراتها في حقل التراث.

وهي تسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي الجميع إلى ما فيه الخير والعزة والسؤدد لأمة الإِسلام. لجنة إحياء التراث الإِسلامي

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فإن كتاب "شرح معاني الآثار" من أعظم دواوين الإِسلام وأنفسها، وأكثرها فائدة ونفعًا، وقد تضمن مزايا عديدة، وفوائد فريدة يجدها من يمعن النظر فيه، وكما قال العيني -رحمه الله-: فإن الناظر فيه المنصف إذا تأمله يجده راجحًا علي كثير من كتب الحديث المشهورة المقبولة ويظهر له رجحانه بالتأمل في كلامه وترتيبه، ولا يشك في هذا إلا جاهل أو متعصب. وقال في مقدمة "مغاني الأخيار": قد جمع من سننهم كتابا مُترَّهًا بشرح معاني الآثار، فائقًا غيره من الأمثال والأنظار، مشتملًا علي فوائد عظيمة وعوائد جسيمة، إن أردت حديثًا؛ فكبحر تتلاطم فيه أمواجه، وإن أردت فقها؛ رأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا، بحيث من شرع فيه لم يبرح يعاوده، ومن غرف منه غرفة لم يزل يراوده، ومن نال منه شيئًا نال مُنَاهُ، ومن ظفر استوعب غناه، ومن تعلق به سِفْرًا ساد أهل زَمَانِهِ، ومن تعلق به كثيرًا يقول متلهفًا: ليت أيام الشباب ترجع إلى ريعانِهِ، ولم يهجر هذا الكتاب إلا حاسد ذو فساد، أو ذو عناد، أو متعصب مماري، أو مَنْ هو من هذا الفن عاري.

وقد قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/ 30) في ترجمة أبي جعفر الطحاوي: ومن نظر في تواليف هذا الإِمام علم محله من العلم وسعة المعرفة. وقد يتميز هذا الكتاب بأنه يشتمل على الفوائد الكثيرة التي لا توجد في غيره. فمنها: أنه يكثر من سرد أسانيد الحديث فكثير من الأحاديث المروية في غيره توجد فيه بزيادات مهمة كتعدد الأسانيد التي تزيد الأحاديث قوة. وقد يكون الحديث في غيره بسند ضعيف ويوجد فيه بسند قوي. أو يكون في غيره من طريق وتوجد فيه طرق أخرى، وتعدد الأسانيد يظهر للمحدث نكت وفوائد مهمة. ومنها: أنه توجد في كتابه فوائد كثيرة في المتون؛ فيقع في كتابه مطولًا ما وقع في غيره مختصرًا، أو مفسرًا ما كان عند غيره مجملًا، أو مقيَّدًا ما كان عند غيره مطلقًا وغير ذلك من مهمات الفوائد. ومنها: أنه يشتمل علي كثير من الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم وآرائهم في الفقه ما لا يوجد في غيره من الكتب حاشا مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة والمحلي. ولذلك قال العيني في كتاب الزكاة، باب "الصدقة علي بني هاشم": فانظر إلى اتساع رواية الطحاوي وجلالة قدره الذي أخرج في حكم واحد نادر الوقوع بالنسبة إلى غيره عن اثني عشر صحابيًّا مع استنباط الأحكام والتوغل فيها! ومنها: أنه بوب كتابه علي مسائل الفقه ثم يورد الأحاديث وينبه على استنباطات عزيزة من الأحاديث لا يكاد يُنتَبَه إليها. ومنها: أن مؤلفه رتب الكتاب علي ترتيب كتب الفقه ثم تلطف في استخراج مناسبات يورد فيها الأحاديث المتعلقة بالأمور التي يتبادر إلى الذهن أنها ليست متعلقة بتلك المسألة التي عقد لها الباب.

وهذا في كتابه كثير يظهر بالتتبع والتأمل. ومنها: أنه مع إثباته مذهب الأحناف وإيراد أدلتهم يذكر أدلة المخالفين في الباب ثم يرجح بينها وينصر مذهب أبي حنيفة غالبًا إلا في مواضع يسيرة. قال الكوثري: من مصنفات الطحاوي الممتعة: كتاب "معاني الآثار" في المحاكمة بين أدله المسائل الخلافية، يسوق بسنده الأخبار التي يتمسك بها أهل الخلاف في تلك المسائل ويخرج من بحوثه بعد نقدها إسنادًا ومتنًا رواية ونظرًا ما يقنع الباحث المنصف المتبرئ من التقليد الأعمى، وليس لهذا الكتاب نظير في التفقيه، وتعليم طرق التفقه، وتنمية مَلَكة الفقه. وقد صرح الإِمام الطحاوي في مقدمته بسبب تأليفه للكتاب فقال: سألني بعض أصحابنا من أهل العلم أن أضع له كتابًا أذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد، والضعفة من أهل الإِسلام أن بعضها ينقض بعضًا لقلة علمهم بناسخها ومنسوخها وما يجب عليه به العمل منها لِمَا يشهد له من الكتاب الناطق والسُّنَّة المجتمع عليها، وأجعل لذلك أبوابًا أذكر في كل كتاب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم علي بعض وإقامة الحجة لمن صح -عندي- قوله منهم بما يصح به مثله من كتاب أو سنة أو إجماع، أو تواتر من أقاويل الصحابة أو تابعيهم، وإني نظرت في ذلك وبحثت بحثًا شديدًا، فاستخرجت منه أبوابًا على النحو الذي سأل وجعلت ذلك كتبًا، ذكرت في كل كتاب منها جنسًا من تلك الأجناس. قلت: وقد توسع: في دعوى النسخ كثيرًا، وقام بنصرة مذهب أبي حنيفة: وتكلف في كثير من الأحيان تكلفًا شديدًا لنصرة مذهبه. فتراه في كتابه هذا يبدأ بعدد من الآثار والأدلة التي يذهب إليها المخالف ثم يتبعها بالآثار المعارضة التي يراها هي أولى بالاتباع، ويرجحها، ثم يصرح بأن هذا هو مذهب أبي حنيفة أو أحد أصحابه، أما غير الأحناف فنادرًا ما يصرح باسمهم.

ولما كان المشتهر بين الناس أن مذهب الأحناف هو مذهب أهل الرأي حتى ادعى عليهم بعضهم بأنهم يردون الأحاديث التي تتعارض مع مذهبهم؛ تصدر الطحاوي: لنصرة هذا المذهب بالأحاديث والآثار. فأضحى هذا الكتاب أصلًا أصيلًا ومرجعًا مهمًّا في نصرة مذهب أهل الرأي بالأثر. ومن أجل هذا كان لعلمائهم عناية خاصة بهذا الكتاب وروايته وتدريسه وشرحه وتلخيصه والكلام علي رجاله. فألفوا حوله كتبًا كثيرة ما بين شروح ومختصرات وتراجم لرجاله. ومن أعظم من شرحه العلامة بدر الدين العيني -رحمه الله-: وهو الشرح الذي بين أيدينا. وقد كانت للحافظ بدر الدين العيني: عناية خاصة بهذا الشرح وكيف لا والسبب الداعي لتأليفه له هو دفع الفرية التي تتهم الأحناف بأخذهم الرأي وتقديمه على الأحاديث والآثار؛ لذلك شد العزم وأخرج كل ما في جعبته من علوم ومعارف لنصرة المذهب ودفع الشبهات والتشكيكات من حوله؛ فأضحى هذا الكتاب كنزًا للأحناف في نصرة مذهبهم. وقد عني العيني بتدريسه سنين طويلة في المدرسة المؤيدية، وكان الملك المؤيد شيخ ملمًّا بالعلم يناقش العلماء فيه حتي جعل لهذا الكتاب كرسيًّا خاصًّا في جامعته كباقي أمهات كتب الحديث، وعين لهذا الكرسي البدر العيني فقام البدر بتدريس هذا الكتاب خير قيام مدة مديدة وألف في شرحه كتابين ضخمين فخمين صورة ومعنى أحدهما "نخب الأفكار في تنقيح معاني الآثار"، وهو الكتاب الذي بين أيدينا. والشرح الثاني هو "مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" وهو خالٍ من الكلام في الرجال حيث أفردهم في تأليف خاص سماه "مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار"، وقد قال في مقدمته:

ولما كانت مخدرات هذا الكتاب مقَنَّعَة تحت النقاب، ومستوراته محتجبة وراء الحجاب، وأزهاره مستورة، وأثماره مخبأة في أكمامه، أردت أن أجلوها علي منصة الإِيضاح وأجلوها على الإفصاح؛ ليصير عرضة للخطاب وبغية للطلاب، فيرغب فيها كل من له دين سليم، ويميل إليها كل من كان علي منهج مستقيم؛ بأن أدون له شرحًا يزيل صعابه، ويستخرج عن القشور لبابه، ويبين ما فيه من المشكلات، ويكشف ما فيه من المعضلات؛ مشتملًا: أولًا: علي تخريج رجاله من الرواة، وتمييز الضعفاء من الثقات؛ لأنهم العمدة في هذا الباب، وهم الأعمدة في قيام صحة كل كتاب. وثانيًا: متعرضًا لمشكلات ما هي من المتون، فيما يتعلق بأحوال اللفظ والمعني، منبهًا علي من وافقه من أصحاب الصحاح والسنن. اهـ. وسنتكلم عن منهجه إن شاء الله تعالى أثناء ترجمتنا للعيني -رحمه الله-. وممن شرحه قبل العيني -رحمه الله-: محمد بن محمد الباهلي (314هـ)، وسماه: "تصحيح معاني الآثار". وقد ذكره العلامة فؤاد سيزكين في "تاريخ التراث العربي" (2/ 86). وكذا شرحه الشيخ العلامة عبد القادر القرشي (775 هـ) وسماه: "الحاوي في بيان آثار الطحاوي"، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (195 حديث). وكذا شرحه الحافظ أبو محمَّد المنبجي صاحب كتاب "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، وهو مخطوط يوجد منه قطعة في مكتبة آيا صوفيا في الآستانة. وممن لخصه: حافظ المغرب ابن عبد البر. وكذلك الحافظ الزيلعي صاحب "نصب الراية"، وهو مخطوط محفوظ بمكتبة رواق الأتراك، ومكتبة آيا صوفيا في الآستانة. وكذلك اختصره ابن رشد المالكي وهو مخطوط في مجلد بدار الكتب المصرية تحت رقم (419 حديث).

وقد جمع مشايخ الطحاوي في جزء واحد عبد العزيز بن أبي الطاهر التميمي كما في "الحاوي". وقد جمع الحافظ قاسم بن قطلوبغا رجاله في كتاب وترجم لهم بإسهاب وسماه "الإيثار في رجال معاني الآثار" كما في "الرسالة المستطرفة". وقد اعتني بجمع أطرافه الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "إتحاف المهرة بأطراف العشرة". وأما العيني -رحمه الله-: فقد أفرد كما ذكر في تراجم رجال الطحاوي كتابًا جعله كالمقدمة لكتابه "مباني الأخبار شرح معاني الآثار"، والذي لم يتعرض فيه لتراجم رجال الأسانيد بخلاف كتاب النخب الذي تعمد الترجمة لكل رجال أسانيده فيه. وسماه "مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار".

ترجمة المصنف

ترجمة المصنف اسمه ونسبه: هو البدر أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن الحسين بن يوسف بن محمود، الحلبي الأصل العنتابي المولد ثم القاهري، الحنفي المذهب الشهير بالبدر العيني. مولده ونشأته: ولد البدر في بلدة عينُ تاب -وهي قلعة حصينة ورستاق بين حلب وأنطاكية، وكانت تعرف بدلوك، ودلوك رستاقها، وهي من أعمال حلب- في السابع عشر من رمضان سنة اثنين وستين وسبعمائة من الهجرة، ونشأ بها نشأة أبناء العلماء في زمانه، فتلقى العلوم علي والده القاضي شهاب الدين أحمد بن موسي وعلي غيره من المشايخ بعين تاب، وبرع في كثير من العلوم حتى إنه استطاع أن يتولى القضاء نيابة عن والده وأن يجيد القيام بمهامه. ولم يقف طموح البدر عند تلقي العلوم علي علماء بلدته فارتحل إلى البلاد المجاورة طلبًا للعلم علي يد العلماء المبرزين في كل فن، فانتقل إلى حلب وأخذ عن أجلة شيوخها، كما انتقل إلى بهنسا وإلى كختسا وإلي ملطية لنفس الغرض، وفي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة سافر إلى الحج، وزار بيت المقدس فالتقي بشيخ علماء العصر علاء الدين أحمد بن محمد السيرافي الحنفي فلازمه وداوم علي صحبته ثم سافر معه إلى مصر، وقرَّه صوفيًّا في عداد صوفية المدرسة البرقوقية التي افتتحها السلطان الظاهر برقوق في سنة تسع وثمانين ثم عين خادمًا فيها، وتهيأ له بذلك طول الملازمة لشيخه علاء الدين، فدرس عليه علوم الفقه وأصوله والمعني والبيان وغيرها، وسنحت له الفرصة لتلقي العلوم علي غيره أيضًا من أكابر شيوخ القاهرة.

شيوخه

ثم بعد أن رسخ له كثير من العلوم وذاع صيته في القاهرة، تولي عدة مناصب ووظائف، فعين محتسبًا للقاهرة بعد عزل العلامة تقي الدين المقريزي في سنة إحدى وثمانمائة، ثم عزل عنها ثم أعيد مرة أخرى، ثم عزل وعن تقي الدين المقريزي مكانه، ثم عين ناظرًا للأحباس في عصر السلطان المؤيد وفوض إليه تدريس الحديث بالمدرسة المؤيدية عند افتتاحها وصار من خلصاء السلطان المؤيد، وألف له كتابًا في سيرته وسماه "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد". وحينما استقر الظاهر ططر وتولى السلطنة زاد في إكرام العيني لسابق صحبته معه، وعلت منزلته عنده، وأسرع بتأليف كتاب في سيرته وأسماه "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر". كما قام بترجمة كتاب القدوري في فقه الحنفية بناء علي توجيه هذا السلطان، ولما تولى الملك الأشرف برسباي السلطنة قربه إليه، ونال البدر من رفعة المنزلة وعلو الدرجة في أيامه ما لم ينله في أيام غيره من السلاطين حتى كان يسامره ويقرأ له التاريخ الذي جمعه -وهو عقد الجمان- باللغة العربية ثم يفسره له بالتركية لتقدمه في اللغتين؛ وعلمه كثيرًا من أمور الدين حتى حكي عنه أنه كان يقول: لولا البدر العيني لكان في إسلامنا شيء، وعرض عليه النظر علي أوقاف الأشراف فأبى فولاه حسبة القاهرة، ولم يزل يترقى عنده إلي، أن عينه لقضاء الحنفية في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين عوضًا عن التفهني ويقال: إنه لم يجتمع القضاء والحسبة ونظر الأحباس في آن واحدٍ لأحد قبله. شيوخه: أكثر العيني من الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم، وكان من كبار شيوخه: الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، والحافظ سراج الدين البلقيني، وعالم الديار المصرية ومسندها المحدث تقي الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الدجوي، والعلاء علي بن محمد بن عبد الكريم القوي، والحافظ نور الدين

تلاميذه

أبو الحسن علي الهيثمي، وقطب الدين عبد الكريم بن المتقي بن الحافظ الحلبي، وشرف الدين بن الكويك، والشيخ محمود بن محمد العينتابي، والشيخ ذو النون، والعلامة ولي لدين البهنسي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن خاص التركي، والشيخ جمال الدين يوسف بن موسى الملطي، وغيرهم كثير، وقد جمعهم في مصنف أسماه "معجم الشيوخ". تلاميذه: تولى العيني التدريس بعدة مدارس أهمها المؤيدية وقد ظل يدرس الحديث بها نحو أربعين سنة، ودَرَّس الفقه بالمدرسة المحمودية، وتعددت دروسه في مدارس القاهرة وتتلمذ عليه كثير من العلماء، وذلك لأنه عُمِّر طويلًا، وعده الحافظ ابن حجر في عداد شيوخه برغم تقاربهما في السن وما كان بينهما من مشاحنات. وقال السخاوي: حدث وأفتي ودرس وأخذ عنه الأئمة من كل مذهب طبقة بعد أخرى بل أخذ عنه أهل الطبقة الثالثة. اهـ. وممن تتلمذ علي يديه: الإِمام المحقق كمال الدين بن الهمام، والعلامة الحافظ ناصر الدين أبو البقاء محمد بن أبي بكر الصالحي المعروف بابن زريق، والحافظ قاسم الدين قطلوبغا، والحافظ شمس الدين السخاوي، والعلامة أبو الفتح محمد بن محمد العوفي، والعلامة زكي الدين أبو بكر الكختاوي، وقاضي القضاة عز الدين أحمد بن إبراهيم الكتافي الحنبلي. مؤلفاته: ترك البدر العيني رصيدًا ضخمًا من المصنفات في جميع العلوم المعروفة في زمانه حتي قيل: إنه لا يقاربه أحد من أهل عصره في كثرة مصنفاته إلا أن يكون الحافظ ابن حجر العسقلاني.

فصنف في علوم التفسير والحديث واللغة والفقه والبلاغة والبيان والعروض والتاريخ والمنطق وغير ذلك كثير، فمن مؤلفاته: 1 - البناية في شرح الهداية للإمام المرغيناني، مطبوع في عشر مجلدات. 2 - تحفة الملوك في المواعظ والرقائق -مخطوط في مكتبة برلين تحت رقم (4520/ 41)، وفي مكتبة الجزائر تحت رقم (992). 3 - تكميل الأطراف مجلدة مخطوط في مكتبة شهيد باشا علي برقم (387). 4 - الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة للرهاوي في المذاهب الأربعة، في مجلدين ثانيهما بخط المؤلف- محفوظ بدار الكتب تحت رقم (183 - 184) فقه حنفي. 5 - رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق للنسفي -في فقه الحنفية- مطبوع مع شرحه في مجلدين. 6 - الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر، مطبوع. 7 - السيف المهند في سيرة الملك المؤيد- مطبوع في مجلد. 8 - شرح سنن أبي داود، مطبوع. 9 - عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان في خمسة وعشرين جزءًا، وقيل: ثلاثة وعشرين تقع في تسعة وستين مجلدًا. 10 - العلم الهيب في شرح الكلم الطيب لابن تيمية، وهو مطبوع في مجلد. 11 - عمدة القاري في شرح الجامع الصحيح للبخاري، وهو مطبوع. 12 - فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد، المعروف بالشواهد الصغرى، وهو مطبوع في مجلد. 13 - المسائل البدرية المنتخبة من الفتاوى الظهيرية لظهير الدين أبي بكر محمد بن أحمد البخاري الحنفي المتوفى سنة (619) - دار الكتب (428 فقه حنفي، وهو بخط المؤلف).

عقيدته

14 - المستجمع في شرح المجمع (مجمع البحرين لابن الساعاتي) في مجلدين، دار الكتب (رقم 418، 790 فقه حنفي). 15 - مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار، مطبوع في مجلدين. 16 - المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، المعروف بالشواهد الكبرى وهو مطبوع علي هامش كتاب خزانة الأدب للبغدادي. 17 - منحة السلوك في شرح تحفة الملوك لزين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد المحسن الرازي الحنفي- مخطوط في دار الكتب في عدة نسخ. 18 - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر الطحاوي، وهو كتابنا هذا. 19 - المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية -المعروف بالشواهد الكبري- مطبوع علي هامش كتاب خزانة الأدب للبغدادي. 20 - ملاح الألواح في شرح مراح الأرواح، مطبوع. 21 - كشف القناع المُرنى عن مهمات الأسامي والكني، مطبوع. وغير ذلك كثير مما يطول المقام بذكره. عقيدته: البدر العيني شأنه شأن كثير من أهل العلم في عصره والعصور التي قبله قد جنحوا إلى تأويل الصفات من نسبة اليد والوجه والقدم والسمع والبصر لله عز وجل والأفعال مثل الاستواء والإتيان والنزول وغير ذلك مما صحت به النصوص ونقلها الخلف عن السلف. وأما أهل السنة والجماعة فلم يتعرضوا لها برد ولا تأويل، بل أنكروا علي من تأولها، مع إجماعهم علي أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله -جل وعلا-:

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) وفوضوا كيفيتها إلى الله -عز وجل- ولم يُعْمِلوا العقل في ذلك بل آمنوا وكَفُّوا، وهذا هو اعتقاد أهل العلم المبرزين وأهل الحديث خاصة؛ تبعًا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -وقال به مَنْ بعده من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون وتابعوهم، ولذا نجد الإِمام ابن خزيمة يقول في كتابه "التوحيد" (1/ 26): فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه ربنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا أن نشبهه بالمخلوقين وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز عن أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون. انتهى. ونحن مع ذلك نعذر من تلبس من علمائنا ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذَل وسعه، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع حسن قصده وتوخيه اتباع الحق أهدرناه وتركنا ما برع فيه من العلوم الأخرى لقلَّ مَنْ يسلم لنا من الأئمة، فرحم الله الجميع بمنه وكرمه، وعفا عنا وعنهم. مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: لا شك أن هذا التراث الذي خلفه لنا البدر يعطي فكرة واضحة عن المكانة العلمية التي كانت له في عصره، ولقد أثنى عليه كثير من العلماء، فقال العلامة أبو المعالي الحسيني في كتابه "غاية الأماني": شيخ العصر، وأستاذ الدهر، ومحدث زمانه المتفرد بالرواية والدراية. وقال الشيخ أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي في "المنهل الصافي": كان بارعًا في عدة علوم، مفتيًا كثير الاطلاع، واسع الباع في المعقول والمنقول، لا يستنقصه إلا متغرِّض، قل أن يذُكر علم إلا له فيه مشاركة جيدة. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، آية: (11).

وفاته

وقال السخاوي في "الضوء اللامع": وكان إمامًا عالمًا علامة، عارفًا بالصرف والعربية وغيرها، حافظًا للتاريخ وللغة كثير الاستعمال لها مشاركًا في الفنون، ذا نظم ونثر مقامه أجل منهما، لا يمل من المطالعة والكتابة، كتب جملة، وصنف الكثير، بحيث لا أعلم بعد شيخنا -أي: ابن حجر- أكثر تصانيف منه، يقال: إنه كتب القدوري في ليلة، بل سمع ذلك منه العز الحنبلي، وكذا قال المقريزي: إنه كتب الحاوي في ليلة. اشتهر اسمه وبَعُد صيته، مع لطف العشرة والتواضع. وقال ابن خطيب الناصرية في "تاريخه": هو إمام عالم فاضل مشارك في علوم، وعنده حشمة ومروءة، وعصبية وديانة. وفاته: توفي البدر العيني ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانمائة عن ثلاث وتسعين سنة، وصُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن في مدرسته التي تقع في حارة كتامة بحي الأزهر، وإلى حفيده الأمير أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني ينسب قصر العيني الشهير بالقاهرة. منهج العيني في شرح "معاني الآثار": شرح العيني: كتاب "شرح معاني الآثار" شرحًا جميلًا منسقًا، يذكر فيه مناسبة الحديث بالباب، ومناسبة الباب بما قبله من الأبواب، ويتكلم علي رجال إسناده بإسهاب، ويبين فيه اللغات والإعراب، ووجوه المعاني والبيان، والأسئلة والاعتراضات والأجوبة، وتخريج مواضع الحديث وما يستنبط منه من الأحكام. وقد قام المؤلف: بوضع حرف "ص" قبل الجزء الذي يريد أن يشرحه من كتاب "شرح معاني الآثار" دلالة علي أنه من كلام المصنف أو إشارة إلي أن هذا الكلام هو صدر الكتاب، كما يضع حرف "ش" قبل الشرح.

ثم يبدأ في شرح الأبواب فيشرح ترجمة الباب وعلاقته بالباب الذي قبله، وسبب تأخيره عنه. ثم يقوم بترجمة إسناد الحديث فيترجم لرواة الحديث راويًا راويًا مقتصرًا على اسمه ونسبه ولقبه ومرتبته في الجرح والتعديل وذكر من وثقه ومن جرحه ومن أخرج له من أصحاب الكتب الستة. وغالبًا ما يضبط الأسماء والألفاظ المشتبهة إما بالشكل أو بالحروف. ثم يقوم بذكر من أخرج الحديث من أصحاب الكتب المشهورة. ثم يقوم بالحكم على الأحاديث من حيث الصحة والضعف. ثم يشرع في شرح الألفاظ الغريبة في النص، وإعراب ما يشكل من الجمل والكلمات بإسهاب. ثم ينقل المصنف المذاهب الفقهية المتعلقة بالمسألة ويناقشها، ويتوسع فيها فيذكر آراء الصحابة والتابعين وبقية الفقهاء، مع أدلتهم والردود عليها، وغالبًا ما يقوم بترجيح الآراء الموافقة لأصحابه الأحناف وينتصر لهم ويقرر مذهب أبي حنيفة ويتكلف كثيرًا في الرد علي مخالفيهم، ناقلًا عن أمهات كتب الفقه والحديث. ويكثر من عرض الاعتراضات والإشكالات مبرزًا إياها بقوله: فإن قيل ... ويجيب بـ قلت: غالبًا ما يذكر المصنف بعض الفؤائد المنتقاة من الأحاديث في آخر كل حديث فيقول في بعض الأحيان: ويستفاد منه أحكام، ثم يسردها. وأحيانًا يقول: ويستنبط منه أحكام ... ثم يذكرها. وأحيانًا أخرى يقول: وفيه ... ثم يذكر الفائدة. في كثير من الأحيان يذكر الطحاوي أثناء عرض المسألة الفقهية الفرق المختلفة فيقول: فقال قوم، أو يقول: فقالت طائفة، أو ما شابه ذلك.

التوصيف العلمي للمخطوطات

فيقوم العيني: ببيان من هم هؤلاء القوم أو الطائفة ويسميهم بأسمائهم إن كانوا من الصحابة أو التابعين أو أصحاب المذاهب. عند إنتهاء المسألة وسرد أدلتها يذكر غالبًا العيني الأحاديث التي لم يذكرها الطحاوي فيقول مثلًا: روى الطحاوي في هذه المسألة عن خمسة عشر صحابيًّا وينقل عن الترمذي أحيانًا ما فات الطحاوي فيقول وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: وفي الباب عن فلان وفلان، ثم يسردهم ثم يذكر الأحاديث والآثار التي فاتت الطحاوي ويذكر من أخرجها. في كثير من الأحيان يترك المؤلف بياضًا عند ذكر حديث لم يعثر علي من أخرجه أو لم يستحضره، أو عند راوٍ لم يجد من ترجمه وقد تتبعته في كثير من هذه المواضع واستدركتها. التوصيف العلمي للمخطوطات: 1 - المخطوط "الأصل": وهي من محفوظات دار الكتب المصرية تحت رقم (526 حديث)، وهي بخط المؤلف:، وقد كتبت بخط نسخي جميل، وعدد أجزائها ثمانية أجزاء، وقد فرغ من تأليفه عام (819 هـ). وقد نقص من أول خطبته شيء قليل. وأوراقها من القطع الكبير وكل ورقة منها تتكون من وجهين، عدد أسطر كل وجه ما بين (29: 30) سطرًا. وهذه النسخة يوجد بها نقص وخروم في مواضع كثيرة فوقع نقص في أول المجلد الأول، وأول المجلد الثاني، وآخر المجلد الثالث، وآخر المجلد الرابع، وأول المجلد الثامن، وينتشر هذا النقص في المجلد الثامن. وهناك بعض الأوراق وضعت في غير موضعها، وتم التصوير علي هذا الخطأ مما سبب لنا مشكلات في كثير من الأحيان حتى انتبهنا إلى، موضعها فأعدناها إلى موضعها.

وقد جزَّأ المؤلف: كل مجلد إلى أجزاء فجعل كل عشرة ورقات جزءًا يكتب عند بداية كل جزء أعلي يسار الورقة "ب" رقم الجزء بالحروف مثل: الأول، أو الثاني، وهكذا. كتب علي بعض الورقات من "الأصل" بعض التصويبات أو التعليقات، ولم يذكر اسم كاتبها، ويغلب علي ظني أنها بخط ناسخ النسخة المتأخرة "ك"، كما في [8/ ق 214]. وفي بعض الورقات يكتب صاحب هذه الحواشي عناوين فرعية علي جانب الورقة مثل إذا تكلم المؤلف في مسألة أصولية مثلًا يكتب بجواره: بحث أصولي كما في [4/ ق65 - أ]. أو بحث "أولاد المشركين"، وبحث "كل مولود يولد على الفطرة"، كما في [4/ ق 90 - أ] وغير ذلك. 2 - مخطوط كتاب "مباني الأخبار في شرح معاني الآثار"، وهي نسخة بخط المؤلف: وهي من محفوظات دار الكتب المصرية تحت رقم (492 حديث)، وانتهي من نسخها سنة (810 هـ)، وعدد أجزائها أحد عشر جزءًا، الموجود منها في دار الكتب ستة أجزاء، وهي الأول، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والحادي عشر، وينتهي بآخر الكتاب. وأوراقها من القطع الكبير، وكل ورقة منها تتكون من وجهين، عدد أسطر كل وجه 30 سطرًا، وعلى حاشية بعض أوراقها تعليقات وتصويبات للمؤلف بخطه، وكتب فوق التعليق أو التصويب "صح". وقد استعنت بها في استدراك بعض النقص في النسخ الأخرى خاصة في أول المجلد الأول. واستيضاح بعض الكلمات بمراجعة موضعها من هذا الكتاب الأم.

3 - نسخة أحمد الثالث "ح"، وهي من مخطوطات متحف "طوبقبو سراي" تحت رقم (653/ 2)، وهي نسخة كتبت بخط نسخي نفيس في سنة (882 هـ) كتبها عمر بن عبد الله بن محمد المنظراوي، برسم المقر الأشرف محمد بن إينال العلائي، وقوبلت علي نسخة المؤلف، وبأوله لوحة مذهبة برسم محمد بن إينال العلائي، وبجانبها توقيعه، والموجود منها: المجلد الثاني، والرابع، والخامس، وأوراقها من القطع المتوسط، ومسطرتها (18/ 28) تقريبًا. وكل ورقة منها تتكون من وجهين، عدد أسطر كل وجه 27 سطرًا. والنسخة بها آثار أرضة طاغية أفضت إلى تآكل أطراف أوراقها ووسطها، مما جعل الاستفادة منها عسير جدًّا، ولذا لم نستعن بها إلا في مواضع قليلة جدًّا مثل أول المجلد الثاني الناقص من الأصل. 4 - نسخة دار الكتب المصرية المتأخرة "ك"، وهي من محفوظات دار الكتب القومية (فؤاد) تحت رقم (21547 - ب). وهي منسوخة من النسخة "الأصل" وبها نفس الخروم والسقط الذي في النسخة الأصل. وهي منسوخة بخط نسخي جميل واضح مقروء وتقع في 18 مجلدًا، كل ورقة من وجهين، عدد أسطر كل وجه 21 سطرًا. ونظرًا لأن المجلد السادس في النسخة الأصل يتميز بالطمس الكثير في وسطه خاصة الوجه "ب"، فقد استعنت بهذه النسخة "ك" في استيضاح هذا الطمس، وهو ما يوافق (ج 13) من "ك". وكذا المجلد الثامن من الأصل حيث وقع فيه طمس كثير أيضًا استعنا في استيضاحه من "ك"، وهو ما يوافق (ج 17، ج 18).

عملي في الكتاب

عملي في الكتاب: اتخذت من نسخة "دار الكتب المصرية" -والتي بخط المصنف- أصلًا في ضبط الكتاب فقمنا بقراءتها قراءة متفحصة، ثم قمنا بنسخها ورمزنا لها بـ"الأصل". استعنت بالنسخة المتأخرة والمحفوظة بدار الكتب القومية تحت رقم (21547 - ب) والتي رمزنا لها بالرمز "ك"، ونسخة أحمد الثالث، والتي رمزنا لها بالرمز "ح" في استدراك بعض السقط، واستيضاح بعض الطمس الذي وقع في النسخة "الأصل". فقمنا بمقابلة "الأصل" عليهما مقابلة دقيقة وأثبتنا الفروق المهمة بينهما، وإذا كان ما في "الأصل" هو الصواب أثبتناه بين قوسين () مستديرين ونبهنا على الفرق في الهامش. وإذا كان ما في "الأصل" ليس له وجه صحيح عندنا. أثبتنا الصواب في أصل الكتاب بين معقوفين []، وأشرنا إلى ما كان في "أصل" في الهامش. كما استعنت بنسخة "مباني الأخبار" وهو الكتاب الأم الذي قام مؤلفه بتنقيحه واختصاره في كتابنا هذا، وهو "نخب الأفكار" في استدراك بعض السقط الذي لم يوجد في النسخ المساعدة كما في أول المجلد الأول. كما استعنت بكتاب "شرح معاني الآثار" في ضبط كلام الطحاوي ومقابلة أصل الكتاب وهو المتن الذي يصدره المؤلف بالرمز "ص" فقابلناه عليه وأثبتنا الفروق المهمة مع الوضع في الاعتبار أن نسخة الإمام العيني هي أضبط كثيرًا من النسخ المطبوعة والتي تتميز بكثرة السقط والتحريف كما أن كتابنا بخط المؤلف: مما يزيدنا ثقة في نقله عن الإمام الطحاوي، كما أنه ينقل من رواية أخرى للكتاب غير الرواية التي طبع عليها الكتاب. قمت بتنظيم فقرات النص، وكتابته بما هو متعارف عليه في عصرنا من صورة الإملاء ورسم الكلمات، وغَيَّرتُ ما اصطلح عليه الناسخ -وهو المؤلف نفسه- في رسم بعض الكلمات، مثل: "لا يخلو" فيكتبها "لايخ"، "لابد حينئذ"

فيكتبها "لابح"، وكلمة "حينئذ"، والتي يكتبها كثيرًا "ح"، وكلمة "إحداهما"، يكتبها دائمًا "إحديهما" مهما كان موقعها من الإعراب، ولعله أراد أن يضع ألف صغيرة فوق الياء. وكذا تسهيل الهمزات وحذف الألف الوسطية في كثير من الأسماء مثل "الحارث" يكتبها "الحرث"، و"سفيان" يكتبها "سفين"، و"صالح" يكتبها "صلح". وكذا حذف الهمزة المتطرفة في الكلمات مثل "جاء" يكتبها "جا"، و"السماء" يكتبها "السما"وغير ذلك. قمت بوضع علامات الترقيم المناسبة والتنسيق بين فقرات النص وضبط ما يشُكل من كلماته، وتقييد ما وقع لنا من فوائد أثناء ضبطه في الهامش، وما زدته عن "الأصل" أو غيرته وضعته بي معقوفين []، وأشرت إليه في الهامش وإلى مصدر الزيادة أو التصويب. قمت بتخريج الأحاديث والآثار التي ذكرها المؤلف أثناء شرحه. وكذلك قمت بعزو الأحاديث والآثار التي خرجها المصنف إلى النسخ المطبوعة منها. قمت بعزو الآيات إلى موضعها من المصحف. قمت بالتنبيه على بعض الأخطاء والأوهام التي وقع فيها المؤلف: وغالبها في تعيين الرواة أو تخريج بعض الأحاديث. فمن أمثلة الأوهام في تعيين بعض الرواة: وهم تكرر منه مرارًا في تعيين الفريابي شيخ البخاري، فكثيرًا ما يقول: الفريابي هو عبد الله بن يوسف وهو وهم أو سبق قلم، والصواب: أنه محمَّد بن يوسف، وأما عبد الله بن يوسف فهو التنيسي، وهو شيخ البخاري أيضًا، وقد تكرر منه ذلك، كما في [8/ 223، 290، [12/ 224، 228]، وغير ذلك، وكذا وهم في تعيين القواريري، واختلط عليه بآخر، كما في [8/ 227].

وكذا في تعيين عبد الله بن عاصم، كما في [31/ 238]. وأما من أمثلة الأوهام في عزو الأحاديث: فقد وقع له وهم في عزو الحديث لأبي داود، كما في [13/ 275]، ووهم أيضًا في عزو الحديث لمسلم في "صحيحه"، كما في [12/ 443]. قمت بعمل فهارس علمية في آخر الكتاب، وهي تشتمل على فهرس لآيات القرآن الكريم، وفهرس لأطراف الأحاديث والآثار، وفهرسٍ للمسائل الفقهية والأصولية والحديثية، وفهرس للرواة المتكلم فيهم بجرح أو تعديل، وأدخلت فيه كل من قال فيه العيني: رجاله ثقات أو إسناده صحيح. وفهرس للكلمات الغريبة التي شرحها المولف -رحمه الله-. ووضعت في آخر كل مجلد فهرسًا للموضوعات الواردة فيه حتى يسهل الانتفاع بمادة الكتاب العلمية. كما قمت بعمل ترجمة وافية للمؤلف ومنهجه في الشرح وعقيدته وشيوخه وتلاميذه. ووضعت توصيفًا علميًّا لنسخ الكتاب المخطوطة؛ الأصل، والنسخ المساعدة. فالله أسأل أن يتقبل مني، وأن يجعله لي ذخرًا في الآخرة، وأن يخلصه من شوائب السمعة والرياء، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وما كان من عيب فمني ومن الشيطان وما كان من صواب فمن الله وحده. ونستغفر الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وكتبه راجي عفو ربه أبو تميم ياسر بن إبراهيم بدار المشكاة في يوم الأربعاء الخامس من جمادى الأخرى سنة 1428 هـ

صورة من الورقة الأولي من النسخة الأصل

الورقة الأخيرة من النسخة الأصل

الورقة الأولي من المجلد الثاني والرابع

الورقة الأولى والأخيرة من الجزء 13

[مقدمة المؤلف]

(¬1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله، وأشكره شكرًا كثيرًا، والصلاة والسلام على مَنْ بُعث بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، محمَّد المصطفى ناسخ الملل، وخاتم الأنبياء والرسل، وعلي آله وصحبه الطيبن الطاهرين، والرضوان على علماء الدين، ومن تبعهم من المسلمين، ما قُرئ السبع المثاني والمئين، وبعد: فإني لما فرغتُ من توشيح رجال معاني الآثار، شرعتُ في الشرح الذي ترجمتُه بمباني الأخبار، متوكلًا على العزيز الغفَّار، وقد بيّنتُ هناك طريق روايتنا للكتاب عن الشيخ الإِمام العلَّامة: أبي جعفر الطحاوي -سقى الله ثراه- وجعل الجنَّةَ مثواه، ولنشرع الآن فيما سبق الوعدُ به، فنقولُ: قال الشيخ الإِمام العلَّامة أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي -رحمه الله-: ص: سألني بعض أصحابنا من أهل العلم أنْ أضع له كتابا أذكرُ فيه الآثار المأثورة المروية عن رسول الله - عليه السلام - في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد والضعفة من أهل الإسلام أن بعضها ينقض بعضًا؛ لقلة علمهم بناسخها من منسوخها، وما يجب [به] (¬2) العمل منها، لما يشهد له من الكتاب الناطق، والسُّنة المجتمع عليها، وأجعل لذلك أبوابًا، أذكر في كل باب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم على بعض، وإقامة الحجة لمن صحّ عندي ¬

_ (¬1) سقطت الصفحة الأولي من "الأصل، ك" وقد رأيتُ أن أستدركها من الكتاب الأم "مباني الأخبار" إتمامًا للفائدة وسدًّا لهذا النقص، وقد وقعت هذه الصفحة في حوالي ورقتين من كتاب "مباني الأخبار" وسأنبه عند نهاية النقل منها هناك إن شاء الله. (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله منهم، بما صح به مثله من كتاب أو سنُه أو إجماع أو تواتر، من أقاويل الصحابة أو تابعيهم، وإني نظرت في ذلك وبحثت عنه بحثًا شديدًا، فاستخرجت منه أبوابًا على النحو الذي سأل، وجعلتُ ذلك كتبا، ذكرتُ في كل كتابٍ منها جنسًا من تلك الأجناس، فأول ما ابتدأت بذكره من ذلك: ما رُوي عن رسول الله في الطهارة، فمن ذلك: ش: قال محمود -عفا الله عنه -: قد جَرتْ عادة السلفِ والخلف أنْ يُعَنْوِنوا أوائل رسائلهم وكتبهم وخطبهم بالبَسْملة، ثم بالحمدلة؛ اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح به كذلك، وعملًا بقوله - عليه السلام -: "كلُّ أمْرٍ ذي بال لا يُبْدأُ فيه بذكر الله وبسم الله الرحمن الرحيم أقطع". رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في أربعينه. وفي رواية أيضًا أبي داود (¬1) والنسائي (¬2): "كل كلام لا يُبْدأ فيه بحمد الله فهو أجذم". وفي رواية ابن ماجه (¬3): "كل أمر ذي بال لا يُبْدأ فيه بالحمد أقطع". ورواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما (¬4)، قال ابن الصلاح: ورجاله رجال الصحيحين سوي قرة بن عبد الرحمن؛ فإنه ممن انفرد به مسلم بالتخريج له، قال: وهو حديث حسن صحيح، وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: إنما بدأ -يعني مسلمًا- كتابه بالحمد لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ بالحمد لله أقطع" وفي رواية: "بحمد الله"، وفي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 261 رقم 4840) من حديث أبي هريرة. (¬2) هو في "السنن الكبرى" - كتاب "عمل اليوم والليلة" (6/ 127 رقم 10328) من حديث أبي هريرة أيضًا ولكن بلفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 610 رقم 1894) من حديث أبي هريرة أيضًا. (¬4) "صحيح ابن حبان" (1/ 173 رقم 1).

رواية: "بالحمد فهو أقطع"، وفي رواية: "أجذم"، وفي رواية: "لا يبدأ فيه بذكر الله"، وفي رواية: "ببسم الله الرحمن الرحيم". ومعنى "أقطع": قليل البركة وكذلك "أجذمُ" -بالجيم والذال المعجمة- ويقال فيه: جَذِم بكسر الذال يَجْذَمُ بفتحها، وقيل: الأجذم مقطوع اليد. وقيل: الأبتر الذي لا عقب له. فإن قيل: فلِمَ اقتصر أبو جعفر على ذكر البسملة، ولم يسلك منهج غيره من الابتداء بالبسملة والتَّثَنِّي بالحمدلة؟ قلت: الجواب عنه من وجوه: الأول: لا نسلم أنه ترك الحمدلة؛ بل حَمِدهُ بعد التسمية بقوله: الرحمن الرحيم. فإن الحمد هو الذكر بالوصف الجميل على وجه التفضيل، ولما ذكر الله تعالى بكونه رحمانًا رحيمًا أي موليًا لجلائل النعم ودقائقها، وذلك وصف له بالجميل على وجه التفصيل، صار آتيًا بحمد الله، وليس المراد من الحمد في الحديث الإتيان بلفظ الحمد بخصوصه، بل المراد منه الذكر؛ بدليل ما روي: "بذكر الله" بدل "حمد الله" كما مرّ. الثاني: أن الذي اقتضاه لفظُ الحمد أن يَحْمدَ الله بلسانه لا أن يكتب حمده قراءة، فما يمنع أنه ذكر الله، تعالى بلسانه بعد التسمية عند افتتاح تصنيف الكتاب، ومن أين عُرف أنه تركه بلسانه عند الشروع؟! الثالث: أن الافتتاح بالتحميد محمول على ابتداءات الخطب دون غيرها؛ زجرًا عما كانت الجاهلية عليه من تقديم الشعر المنظوم والكلام المنثور، وذلك ما روي: "أن أعرابيًّا خطب فترك التحميد، فقال - عليه السلام -: كل أمر ذي بال ... " الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ولأن أول ما نزل من القرآن سورة {اقْرَأْ}، وقيل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وليس في ابتدائهما حمد الله. وفيه نظر؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الرابع: أنه إنما ترك التحميد؛ لأن حديث الافتتاح بالتحميد منسوخ بأنه - عليه السلام - لما صالح قريشًا عام الُحديبية كتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله - عليه السلام - سُهَيل بن عمرو. فلولا نسخه لما تركه. وفيه نظر أيضًا؛ لأن لقائل أن يقول: أي دليل دلّنا على النسخ؟ فلِمَ لا يجوز أن يكون الترك لبيان الجواز؟! بل الظاهر هذا؛ لأن الحث على التحميد للاستحباب لا للوجوب؛ لأن الحث عليه إنما هو لمنفعة العباد، حتى يصير فعلُهم وقولُهم تامًّا ذا نظام، ولا يقع أبتر مقطوع البركة. فلو كان الحث عليه للوجوب للزم عود الأمر على موضوعه بالنقض. واعلم أن هذا السؤال يَرِدُ على البخاري أيضًا؛ حيث شرع في "صحيحه" بعد البسملة بغير ذكر الحمدلة، فالجواب هو الجواب. ثم الكلام في البسملة؛ فالباء فيها تتعلق بمحذوف تقديره: بسم الله أشرع، كما أن المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال: بسم الله والبركات، كان المعنى: بسم الله أحل، وبسم الله أرتحل. وكل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمرًا ما جعل التسمية مبدأ له. وقال الزمخشري في هذا المقام: فإن قلت: لم قدرت المحذوف متأخرًا؟. قلت: لأن الأهم من الفعل والمتعلق، هو المتعلق به؛ لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، باسم العُزَّي، فوجب أن يقصد المُوحِّد معنى اختصاص اسم الله -عزَّ وعلا- بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل، كما فُعل في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬1)؛ حيث صرَّح بتقديم الاسم ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، آية: [5].

إرادة للاختصاص، والدليل عليه قوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬1). انتهى. قلت: تخصيص الابتداء باسم الله قصر إفرادٍ كما في قوله تعالي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ لأن المشركين وإن بدءوا بأسماء آلهتهم لا ينوب عن الابتداء باسم الله تعالي ثم قال الزمخشري: فإن قلت: فقد قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (¬2) فقدم الفعل. قلت: هناك تقديم الفعل أوقع؛ لأنها أول سورة نزلت، فكان الأمر بالقراءة أهم. انتهى. ثم اعلمْ أن الباء في كلام العرب تجيء لأربعة عشر معنى: الأول: الإلصاق، قيل: هو معنّى لا يفارقها، نحو مررت بزيدٍ، أي: ألصقت مروري بمكان يقرب منه زيدٌ. الثاني: التعدية، وتُسمى باء النقل أيضًا، نحو: ذهبت يزيد. الثالث: الاستعانة، وهي الداخلة على آلة الفعل، نحو: كتبت بالقلم، ونجرت بالقدوم، قيل: ومنه باء البسملة؛ لأن الفعل لا يتأتى على الوجه الأكمل إلَّا بها. الرابع: السببية نحو: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (¬3)، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} (¬4). الخامس: المصاحبة، نحو: {بِسَلَامٍ مِنَّا} (¬5)، أي: معه. ¬

_ (¬1) سورة هود، آية: [41]. (¬2) سورة العلق، آية: [1]. (¬3) سورة البقرة، آية: [54]. (¬4) سورة العنكبوت، آية: [40]. (¬5) سورة هود، آية: [48].

السادس: الظرفية، نحو: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (¬1). السابع: البدل كقول الحماسي: فليتَ لي بهم قومًا إذا ركبوا .... شنُّوا الإَغارَةَ فرسانًا وركبانًا وانتصاب الإغارة على المفعول لأجله. الثامن: المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألفٍ. التاسع: المجاورة، كعن، فقيل: تختص بالسؤال نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬2)، وقيل لا تختص به. العاشر: الاستعلاء، نحو: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} (¬3)، الآية. الحادي عشر: التبعيض، أثبته الأصمعي والفارسي وابن مالك، قيل: والكوفيون، وجعلوا منه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (¬4)، ومنه: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬5)، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة. الثاني عشر: القسم، وهي أصل أحرفه. الثالث عشر: الغايةُ، نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} (¬6)، أبي: إليَّ. والرابع عشر: التوكيد، وهي الزائدة فتكون في الفاعل، نحو: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬7) [1/ ق 2 - أ]، وتكون في المفعول، نحو: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬8)، وتكون في المبتدأ نحو: بحسبك درهم، وخرجت فإذا بزيدٍ، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) سورة القمر، آية: [34]. (¬2) سورة الفرقان، آية: [59]. (¬3) سورة آل عمران، آية: [75]. (¬4) سورة الإنسان، آية: [6]. (¬5) سورة المائدة، آية: [6]. (¬6) سورة يوسف آية: [100]. (¬7) سورة الرعد، آية: [43]. (¬8) سورة البقرة، آية: [195].

والاسم أحدُ الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدأ زادوا همزة؛ لئلَّا يقع الابتدأء بالساكن، وهو من الأسماء المحذوفة الأَعْجَاز كيدٍ، ودَمٍ، وأصله: سمو، واشتقاقه من السُّمو عند البصريين، وقال الكوفيون: مشتق من وَسَمَ يَسِمُ سِمَةً. قلتُ: ولو كان كذلك لقالوا في تصغيره: وُسَيْم، وفي جمعه: أوسام، فلما قالوا: سُمَيّ وأَسْمَاء، دلّ على أن أصله سِمو، ويقال: اسِمٌ وسِمٌ -بالكَسْر فيهما- واسُم وسُمٌ -بالضم فيهما- وقال المبرد: سمعت العرب تقى: اسِمُه واسُمْه ويِسْمُه وسِمْهُ وسَمَاه. ولفظة "الله" اسم علم للباري -جل جلالة- والمختار أنه ليس بمشتق وهو قول الخليل وسيبويه، وأكثر الأصوليين والفقهاء؛ وذلك لأنه لو كان مشتقًّا لكان معناه معنى كليًّا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة، وحينئذ لا يكون قولنا: "إلا الله" موجبًا للتوحيد المحض؛ وحيث أجمع العقلاء على أن هذا توحيد محض، علمنا أن لفظة "الله" اسمٌ علمٌ موضوع لتلك الذات المُعيَّنَة، وليست من الألفاظ المشتقة فافهم. و"الرحمن": فعلان من رَحِمَ كَغَضْبَان من غَضِبَ. و"الرحيم": فعيل منه، كمريض من مَرِضَ، وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قالوا: رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، والزيادة في البناء لزيادة في المعنى. واتصاف الله بالرحمة -ومعناها العطف والحنو- مجاز عن إنعامه على عباده، وذكر الرحيم بعد الرحمن من قبيل التتميم والترديف؛ وذلك لأنه لما قال: الرحمن تناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، ثم أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها وما لطف. وقد اختُلف في صرف "رحمان" ومنعه، فمن شرط في المنع انتفاء فعلانه منعه، ومن شرط وجود فعلانه صرفه، على ما عرف في موضعه.

و"الشيخ" في اللغة يطلق على من استبانت فيه السنن، ويقال: من عَدَّى خمسين سنة يُسمَّى شيخًا إلى ثمانين سنة، ثم يَصير هِمًّا. وقال الإِمام أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد المعروف بابن الأجداني: ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، فإذا وُلد فهو منفوس وأمه نفساء، فإذا خرج رأسه قبل رجليه فهو وَجِيةٌ، وإنْ خرجت رجلاه قبل رأسه فهو يَتْنٌ وذلك مذموم، ويسمى طفلًا ورضيعًا، فإذا ارتفع شيئًا وأكل فهو جَفرٌ، والأنثى: جَفْرَة، فإذا فطم، فهو فطيم، فإذا قوي وجمد فهو حَزَوَّر، فإذا ارتفع فوق ذلك فهو يَافِعٌ، فإذا قارب الاحتلام فهو مراهق، فإذا بلغ الحُلم فهو محتلمٌ وحالم، فإذا بقل وجهه فهو طارٌّ، يقال: طرَّ وجهه، وطرَّ شاربه، فإذا جاوز وقت النكاح ولم يتزوج فهو عانس، فإذا اجتمع وتم فهو كهل، فإذا رأى البياض فهو أشيب وأشمط، فإذا استبانت فيه السن فهو شيخ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو مُسِنٌّ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو قَحْمٌ، فإذا قارب الخَطْوَ فهو دالف، فإذا زاد على ذلك فهو هَرِمٌ وهِمٌّ بكسر الهاء، فإذا ذهب عقله من الكبر فهو خَرفٌ. وقال بعضهم: الولد ما دام في بطن أمه فهو جنين، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سُمِّي غُلامًا إلى سبع سنين، ثم يصير يَافِعًا إلى عشر حِجَج، ثم يصير حزوَّرًا إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قُمُدًّا (¬1)، إلى خمس وعشرين سنة، ثم يصير عَنَطْنَطًا إلى ثلاثين سنة، ثم يصير صملًا إلى أربعين سنة، ثم يصير كهلًا إلى خمسين سنة، ثم يصير شيخًا إلى ثمانين سنة، ثم يصير بعد ذلك هِمًّا. وقال الجوهري: جمع الشيخ: شيوخ وأشياخ وشِيخَةٌ وشيخانُ ومَشِيخَةٌ ومشايخ ومَشيُوخاء، والمرأة شيخةٌ. قال عَبيدٌ: كأنها شَيخةٌ رَقُوب وقد شاخ الرجل يشيخ شَيَخًا -بالتحريك جاء على أصله- وشيخوخةً، وأصل الياء متحركة فسكنت لأنه ليس في الكلام فعلول، وما جاء على هذا مثل ¬

_ (¬1) القُمُد: القوي الشديد انظر "لسان العرب" (مادة: قمد).

كينونة وقيدودة وديمومة وهيعوعة فأصله كَيَّنُونة بالتشديد [1/ق 2 - ب] فخفف، ولولا ذلك لقالوا: كونونة وقودودة، ولا يجب ذلك في ذوات الياء مثل الحيدودة، والطيرورة، والشيخوخة، وشيّخ تَشييخًا، أي: شاخ، وشَيَّخْتُهُ أي دَعَوتُه شيخًا للتبجيل، وتصغير الشيخ: شُيَيْخ وشِيَيْخ أيضًا، ولا تقل: شُوَيْخ. انتهى. وأما في الاصطلاح: فالشيخ يطلق على من تقدم في العلم، وإنْ لم يبلغ حد الشيخوخة في السن، ويقال: الشيخ من يَصلحُ أن يتتلمذ له. فإن قيل: هل يجوز إطلاق ذلك على الأنبياء عليهم السلام؟. قلت: قد جاء في قوله تعالى حكايته عن قول سارة امرأة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} (¬1)، قال المفسرون: كانت حينئذٍ ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق. وفي قول مجاهد ابنة تسع وتسعين سنة، وكان سن إبراهيم - عليه السلام - مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. ومائة سنة في قول مجاهد. وجاء أيضًا في قوله تعالى حكايته عن قول بنات شعيب - عليه السلام - {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (¬2)، يعني لا يستطيع أن يسقي مواشيه لكبر سنه، ولقد سمعت شيخي العلَّامة أبا الروح عيسى السُّرْماري عند قراءة التفسير عليه أن إطلاق لفظ الشيخ على إبراهيم - عليه السلام -؛ لإظهار التعجب، وعلي شعيب - عليه السلام -، للاستعطاف، فافهم. قوله: "الإِمام" الذي يقُتدَى به؛ فإن كان في الصلاة يُسمّى إمامًا باعتبار اقتدائهم به في الصلاة، وإنْ كان في العلم يسمى إمامًا باعتبار أخذهم العلوم منه، وإنْ كان في الخلافة يسمى إمامًا باعتبار إطاعتهم له وانقيادهم لأمره. ¬

_ (¬1) سورة هود، آية: [72]. (¬2) سورة القصص، آية: [23].

وجمعه: أئمة، وأصله: أَأْمِمَة على أَفْعِلَة مثل: إناء وآنية، وإله وآلهة، فأدغمت الميم، فنقلت حركتها إلى ما قبلها، فلما حرَّكوها بالكسر جعلوها ياءً، وقرئ {فَقَاتِلُوا أَيمَّةَ الْكُفْرِ} (¬1)، قال الأخفش: جعلت الهمزة ياء لأنها في موضع كسرة وما قبلها مفتوح فلم يهمز؛ لاجتماع الهمزتين، قال: ومن كان رأيه اجتماع الهمزتين هَمَزَهُ، قال: وتصغيرها أُوَيْمة، لما تحركت الهمزة بالفتحة قلبها واوًا. وقال المازني: أُيَيْمة، ولم يقلب. قوله: "العلامة" مبالغة عالم، وقال الجوهري: رجل علامة أي عالم جِدًّا، والهاء للمبالغة كأنهم يريدون به: داهية. قوله: "أبو جعفر" كنية الطحاوي، و"أحمد" اسمه، و"الأزدي" نسبته إلى القبيلة، و"الطحاوي" نسبته إلى البلد، وقد ذكرنا وجه ذلك في ترجمته، والفرق بين الكُنية واللقب والاسم والنسبة: أن الكُنية كل اسم بُدئ بأب أو أم، كما تقول: أبو عمرو، وأم عمرو. و"اللقب" ما يدل على شرف في المُسمّي أو حقارة، كعتيق لقب الصديق، وسَفِينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبَطّة، وقُفَّة، وأنف الناقة. و"الاسم" -أعني به العلَمَ-: ما وضع في أول أحواله لشيء بعَيْنه ولا يقع على كل ما يشبهه، ألا ترى أن زيدًا وضع في أول ما وضع للرجل المعين، ثم ليس كل من يكون مثل زيد يسمى زيدًا، ثم هو ينقسم إلى شخصي وجنسيّ: فالشخصي: كأعلام أولي العلم، وما يتحد ويؤلف. فالأول: كزيد من الإنس، وآصف من الجن، وجبريل من الملائكة (¬2). ومنه أسماء الله تعالى الله والرحمن. ¬

_ (¬1) هي قراءة نافع كما في "البدور الزاهرة" (ص 133، 134)، والآية من سورة التوبة، آية: [12]. (¬2) هذا آخر ما قمتُ باستدراكه من كتاب "مباني الأخبار" نسخة "دار الكتب المصرية" بخط مؤلفه بدر الدين العيني -رحمه الله-. انظر وصف المخطوطات في المقدمة.

والثاني: أنواع ما يتخذ لقبيلة كتميم، أو بلد كمكة ودمشق، أو فرس كلاحق (¬1). وأعوج (¬2)، أو جمل كشَدْقم (¬3)، وعِلَيّانِ (¬4)، أو شاة كخطّة وهَيْلة، أو كلب، كضُمْران (¬5)، وواشق (¬6)، ونحوها. وجنسي: كل اسم جنس جرى مجرى العلم الشخصي في الاستعمال كأسامة للأسد، وثعالة للثعلب (¬7)، وحضاجر للضبع ونحوها. قوله: "الآثار" جمع "أَثَر" بفتحتين، وهو ما بقي من رسم الشيء، وضربة السيف، وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثاره، وأصله من أثَرْتُ الحديث -مقصور الهمزة- آثُره -بالمدّ وضم الثاء وكسرها- أثْرًا ساكنة الثاء: حدّثتُ به. قوله: "المأثورة" أبي المحكية والمروية، فإن قلت: ما الفرق بين السُّنَّة والحديث والخبر؟ قلت: السُّنة في اللغة: الطريقة، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (¬8)، والسيرة. ¬

_ (¬1) لاحق: اسم لفرس معروف من خيل العرب، ولاحق اسم لفرس كان لمعاوية بن أبي سفيان، انظر "لسان العرب" (مادة: لحق). (¬2) أعوج: فرس سابق رُكب صغيرًا فاعوجت قوائمه، وهو فرس كريم تنسب إليه الخيل الكرام، وأعوج اسم لفرس كان لعُدي بن أيوب، انظر اللسان (مادة: عوج). (¬3) الشدقم: هو واسع الشدق، وهو اسم لفحل من فحول إبل العرب معروف، انظر "لسان العرب" (مادة: شدقم). (¬4) العِلَيَّان: يقال ناقة عليَّان أي طويلة جسيمة مرتفعة السير لا ترى أبدًا إلَّا أمام الركب، انظر "لسان العرب": (مادة: علو). (¬5) ضُمْرَان: من أسماء الكلاب، وهو بضم الضاد المعجمة، انظر "لسان العرب" (مادة: ضمر). (¬6) الوشق: العَضُّ، ووشقه وشقًا: أي خدشه، وواشق اسم كلب، وقيل للكلب: واشق؛ لأنه يخدش ويقطع. انظر "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 259)، و"لسان العرب" (مادة: وشق). (¬7) الثعلب الذكر، والأنثى ثعلبة، ويقال لكل ثعلب إذا كان ذكرًا: ثُعَالةُ بغير صرف، ولا يقال للأنثى: ثعالة. ويقال للأسد: أسامةُ بغير صرف، ولا يقال للأنثى: أسامة. انظر "لسان العرب": (مادة: ثعل). (¬8) سورة فاطر، آية: [43].

قال الهذليّ: فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت .... فأول راضٍ سُنَّةَ من يَسِيرُهَا (¬1) وفي الاصطلاح: السُّنة: الوحي غير المتلو، وفي الشرع: السُّنَّة: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول -ويُسَمَّى الحديث- أو فعل أو تقرير، فعلم أنْ لفظ الحديث مختص بالأقوال، ولفظة السُّنة تعم الأقوال والأفعال. و"الخبر": واحد الأخبار، وأصله من الخُبْر -بضم الخاء وسكون الباء- وهو العلم بالشيء، من خَبَرتُ الشيء أَخْبُره خُبْرًا وخِبرة، ومن أين خَبرْت هذا؟ أي علمته. وفي الاصطلاح: الخبر ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب، وقال الطحاوي: القرآن لم يفرق بين الخبر والحديث؛ قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (¬2)، وقال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (¬3)، فجعل الحديث والخبر واحدًا، وقال تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} (¬4)، وهي الأشياء التي كانت بينهم، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} (¬5)، و {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬6)، وقال: - عليه السلام -: "ألا أخبركم بخير دور الأنصار" (¬7)، "وأخبرني تميم الداري وذكر قصة الجن" (¬8)، وقال: "إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب": (مادة: سير). (¬2) سورة الزمر، آية: [23]. (¬3) سورة الزلزله، آية: [4]. (¬4) سورة التوبة، آية: [94]. (¬5) سورة البروج، آية: [7]. (¬6) سورة النساء، آية: [42]. (¬7) أخرجه البخاري (5/ 2031 رقم 4994) والترمذي (5/ 716 رقم 3910) والنسائي في "الكبرى" (5/ 89 رقم 8336) وأحمد في "مسنده" (1/ 56 رقم 392)، وأبو يعلى (6/ 327 رقم 3650) وابن حبان (16/ 274 رقم 7285) من حديث أنس بن مالك. (¬8) أخرجه الطبراني في "الكبير" (24/ 401 رقم 970، 973) وأصله عند مسلم في "صحيحه" (4/ 2261 رقم 2942).

وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ... " (¬1) الحديث، وفي رواية: "فأخبروني" (¬2). قلت: ومن هذا قال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعته يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان. وإليه مال الطحاوي، وصحح هذا المدقق ابن الحاجب ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، وهو مذهب جماعة من المحدثين منهم الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى القطان، وقيل: إنه قول معظم الحجازين والكوفيين. وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلَّا مقيدًا، مثل: حدثنا فلان قراءة عليه، وأخبرنا قراءة عليه، وهو مذهب ابن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيي بن يحيى التميمي، والمشهور عن النسائي، وصححه الآمدي والغزالي، وهو مذهب المتكلمين، وقال آخرون بالمنع في حدثنا، وبالجواز في أخبرنا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، ونُقِلَ عن أكثر المحدثين منهم ابن جريج والأوزاعي والنسائي وابن وهب، وقيل: إنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر وصار هو السابغ الغالب على أهل الحديث، والأحرى أن يقال فيه: إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين، وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا المفيدة إشعاره بالنطق والمشافهة. ثم إنَّ السُّنة [1/ ق 2 - أ]، إحدى أصول الشرع الثلاثة المتفق عليها، أعني الكتاب والسُّنة والإجماع، والأصل الرابع هو القياس المستنبط من هذه الثلاثة، ووجه الحصر أن الدليل إنْ كان وحيًا مَتلُوًّا فهو الكتاب، أو غير متلوٍّ فهو السُّنة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 34 رقم 61) ومسلم (4/ 216 رقم 2811) من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري (4/ 1735 رقم 4331) ومسلم (4/ 2166 رقم 2811) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - بلفظ: "أخبروني".

وغير الوحي إنْ كان معصومًا عن الخطأ فهو الإجماع، أو غير معصوم عنه فهو القياس، والأصل الكتاب، والسُّنة مُخْبِرةٌ عنه، والإجماع مستندٌ إليهما، والقياس متفرع عليهما. وأما شرائع من قبلنا التي قصَّ الله أو رسوله -من غير إنكار- فملحقة بالكتاب أو السُّنة، وقول الصحابي ملحق بالسُّنة، والتعامل ملحق بالإجماع، والاستصحاب ملحق بالقياس، فلا يبطل الحَصرُ المذكور. قوله: "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فالرسول على وزن فعول بمعنى مفعل، مشتق من الرسالة وهي الإبلاع، وفي الاصطلاح: الرسول من أوتي الكتاب والمعجزة، قاله بعض المحققين، وقيل: إنَّ الرسول من بعُث ومعه كتاب منُزل عليه، والنبي من لا كتاب له، فكل رسول نبي ولا عكس. وهذا كله غير مرضي، والصحيح أن الرسول من نزل عليه ملك أو كتاب، والنبي من يوقفه الله تعالى على الأحكام، أو يتبع رسولًا من الرسل. و"الصلاة" في اللغة الدعاء، وإنْ أضيفت إلى الربّ فهي رحمة، وإلى العبد فهي سؤال وخضوع، ومعناها: اللهم عظّمه في الدنيا بإعلاء كلمته وإحياء شريعته، وفي الآخرة بتكثير أجره وتشفيعه في أمته. قوله: "أهل الإلحاد": من ألحد في دين الله، أي: حادَ عنه وعدل، ولَحَد لغة فيه وقرئ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ [إِلَيْهِ] (¬1)} ووالتحد مثله، وألحد الرجل أي ظلم في الحرم، وكل من عدل عن الحق فهو ملحد، وكل من كذب على الله تعالى أو على رسوله فهو ملحد، وكل من فسر القرآن برأيه فهو ملحد، وكل من لم ير بتأويل الأحاديث المتعارضة فهو ملحد، وكل من لا يرى بالنسخ في ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "فيه"، وهو خطأ، والآية من سورة النحل رقم: [103]، ومن قرأ بفتح الياء، والحاء في {يُلْحِدُونَ} حمزة والكسائي وخلف. انظر "البدور الزاهرة" (ص 182).

الكتاب أو السُّنة فهو ملحد، وقد ورد وعيد شديد في الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله - عليه السلام -: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬1)، وفي رواية: "من تعمد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬2)، وهذا حديث جليل متواتر مقطوع به لا يوجد له مشابه في طرقه وكثرتها، وقال البزّار: رواه مرفوعًا نحو من أربعين صحابيًّا. وقال ابن الصلاح: قيل: إنَّه رواه ثمانون من الصحابة فيهم العشرة إلَّا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - وقال الطبراني وابن منده: رواه سبعة وثمانون صحابيًّا منهم العشرة. وقيل: رواه مائتان منهم ولم نزل في ازدياد. وقال ابن دِحْيَةَ: قد أخرج من نحو أربعمائة [طريق] (¬3). وقيل: لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة غيره، ثم الكذب عند الأشاعرة الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وإنْ كان سهوًا، واشترطت المعتزلة العمدية فيه. قلت: الحديث يدل على أن من لم يتعمد يقع عليه اسم الكذب، ولكن الإجماع منعقد على أن الناسي لا إثم عليه، والمطلق محمول على المقيد في الإثم، ثم الكذب عليه - عليه السلام - من الكبائر، والمشهور أن فاعله لا يكفر -إلَّا أن يستحله- خلافًا للجُوَيْني حيث قال: يكفر ويُراق دمه. وضَعَّفه ولدُهُ الإمام وجعله من هفوات والده، نعم من كَذَب في حديث واحد عمدًا يفسق وترد شهادته ورواياته كلها وإنْ تاب، وبه قال [1/ق 2 - ب]، أحمد وغيره، وهو نظير ما قاله مالك في شاهد الزور إذا تاب؛ أنه لا تقبل شهادته، ونظير ما قاله أبو حنيفة والشافعي فيمن ردّت شهادته بالفسق أو العداوة ثم تاب وحسنت حاله لا يقبل ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، فأخرجه البخاري (1/ 52 رقم 110) ومسلم (1/ 10 رقم 4). (¬2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - فأخرجه البخاري (1/ 52 رقم 108) ومسلم (1/ 10 رقم 2). (¬3) في "الأصل، ك": "طرق".

منه إعادتها لما يلحقه من التهمة في تصديق نفسه، ونظير ما قاله أبو حنيفة من أن قاذف المحصن إذا تاب لا تقبل شهادته أبدًا، ونظير ما قاله من أنه إذا ردَّت شهادة أحد الزوجين للآخر ثم بَانت لا تسمع للتهمة، وخالف النووي فقال: المختار صحة توبته وقبول روايته بعد صحة التوبة بشروطها، ثم لا فرق بين تحريم الكذب عليه - عليه السلام - بين ما كان في الأحكام وغيرها كالترغيب والترهيب، ولا عبرة بقول الكرامية في تجويزهم الوضع في الترغيب والترهيب وتشبثهم برواية: "من كذب عليّ متعمدًا ليضل به" (¬1) بهذه الزيادة ولأنه كذب له لا عليه، فهذه زيادة باطلة باتفاق الحفاظ، واللَّحْنُ ونحوه يحتمل دخوله في هذا الوعيد؛ فلذلك قالوا: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو واللغة ما يسلم به من قول ما لم يقله، وقال الأصمعي: أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في قوله - عليه السلام -: "من كذب عليّ ... " (1) الحديث؛ لأنه - عليه السلام - لم يكن يلحن، فمهما لحن الراوي فقد كذب عليه. قوله: "والضعفةُ" بالرفع عطفًا على المضاف في قوله: "أهل الإلحاد" وأراد بهم الضعفة -وهو جمع ضعيف- في النقل، أو في استنباط الأحكام، أو في فهم المعاني من الألفاظ. قوله: "من الناسخ" النسخ لغة: الإزالة والرفع، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته ورفعته، والنقل أيضًا يقال: نسختُ الكتابَ أي نقلت مثل ذلك المكتوب إلى موضع آخر. وشرعًا: بيان لمدة الحكم المطلق الذي كان معلومًا عند الله تعالى وأجمع المسلمون على جوازه -خلافًا لليهود- وعلي وقوعه -خلافًا لأبي مسلم الأصفهاني- وشرطه: التمكن من عقد القلب، فأما الفعل أو التمكن منه فليس بشرط -خلافًا للمعتزلة- وذلك لأن الله تعالى فرض على عَبيده خمسين صلاة ¬

_ (¬1) تقدم.

ليلة المعراج ثم انتسخ ما زاد على الخمس لسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك نسخًا قبل التمكن من الفعل إلَّا أنه كان بعد عقد القلب عليه، والرسول - عليه السلام - هو الأصل لهذه الآية ولا شك أنه عقد قلبه على ذلك، ومحله أربعة: الأول: لا مدخل للنسخ فيه، كصفات الباري وأسمائه، وهذا القسم لا يحتمل العدم أصلًا. الثاني: ما لا يحتمل الوجود أصلًا، كاجتماع النقيضين، وهذا أيضًا ما استحال نسخه؛ لأنه لا يجري في المعدوم. والثالث: ما يحتمل الوجود والعدم لكن اقترن به ما يمنع الزوال من توقيت، مثل أن يقول الشارع: أذنت لك كذا إلى سنة كذا، فإن المنع عنه قبل حلول الأجل بداء فهو باطل وليس لهذا القسم مثال في أحكام الشرع، أو تأبيد صريح مثل: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ولا يجري فيه النسخ أيضًا. والرابع: هو المطلق الذي يحتمل أن يكون مؤقتًا، ويحتمل أن يكون مؤبدًا احتمالًا على السواء فيجري فيه النسخ، وذلك في الأحكام الشرعية بالأمر والنهي، ولا نسخ في الأخبار عند الجمهور، ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، والسُّنة بالسُّنة، والكتاب بالسُّنة والعكس [1/ق 3 - أ]، خلافًا للشافعي في الأخيرين، ولا يجوز نسخ الكتاب والسُّنة بالقياس عند الجمهور -خلافا لابن سريج- ووجوهه أربعة: نَسخ التلاوة والحكم جميعًا، كصحف إبراهيم ومن تقدمه من الرسل، عليهم السلام. ونَسخ الحكم مع بقاء التلاوة، كما في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (¬1)، فإن الحبس في البيوت والأذى باللسان كان حَدَّ الزنى، وقد نسخ هذا مع بقاء التلاوة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [15].

ونَسخ رسم التلاوة مع بقاء الحكم، كما في صوم كفارة اليمن ثلاثة أيام متتابعة بقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات} (¬1). والنَّسخ بطريق الزيادة على النص، فهذا بَيَانٌ عندنا صورة، ونَسْخ معنًى، سواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم، وعلي قول الشافعي هو بمنزلة تخصيص العام، ولا يكون فيه معنى النسخ، حتى جوز ذلك بخبر الواحد والقياس، وبيان هذا في النفي مع الجلد، وقيد صفة الإيمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين. قوله: "وتأويل العلماء" مِنْ أوّل، أصله من آل الشيء يئول إلى كذا، أي رجع وصار إليه، وقال ابن الأثير: التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. وقال البغوي: التأويل صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسُّنة من طريق الاستنباط، والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها فلا يجوز إلَّا بالسماع بعد ثبوته بطريق النقل، وأصله من التفسِرة وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب، فيكشف عن علة المريض، فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها. قوله: "وإقامة الحجة" من حَجَّ إذا غلب، سمّيت حُجَّة لأنها تغلب من قامت عليه وألزمته حقًّا، وتستعمل في القطعي وغيره، والبرهان نظيرها، وقيل: هو بيان صدق الشهادة. و"البينة" مأخوذة من البين وهو الفصل، والفاصل بين الحق والباطل سمّي بينة. و"الدليل" يُذكر ويراد به الدالّ، ومنه قول الداعي: يا دليل المتحيرين إني هاديهم إلى ما تزول به الحَيْرة، ومنه دليل القافلة وهو الذي يرشدهم الطريق، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [89].

ويُذَكَّر ويراد به العلامة المنصوبة لمعرفة المدلول ومنه سمّي الدخان دليلًا على النار، ثم اسم الدليل يقع على كل ما يعرف به المعلوم حِسِّيًّا كان أو شرعيًّا، قطعيًّا كان أو غير قطعيّ، حتى سمّي الحِسُّ والعقل والنص والقياس وخبر الواحد وظواهر النصوص كلها أدلة. قوله: "أو إجماع أو تواتر" الإجماع لغة: العزم، يقال: أجمع زيد على كذا، أي عزم وصمم عليه. وفي الاصطلاح: هو اتفاق المجتهدين من هذه الأمَّة في كل عصر على أمر من الأمور، ولا بد من قيد "إلى انقراض العصر" عند من يشترط ذلك، وقال داود ومن تابعه: لا إجماع إلَّا للصحابة. وهو رواية عن أحمد، وقال مالك ومن تابعه: لا إجماع إلَّا لأهل المدينة من الصحابة والتابعين. وقالت الزيدية والإمامية: لا إجماع إلَّا لعترة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم رهطه الأدنون. والصحيح: أن إجماع علماء كل عصر من أهل العدالة والاجتهاد حجة، ولا عبرة بقلتهم وكثرتهم، خلافًا لإمام الحرمين في اشتراطه عدد التواتر في انعقاده. وأما التواتر في اللغة: من تواترت الكتب إذا اتصل بعضها ببعض في الورود متتابعًا. [1/ ق 3 - ب] وفي الاصطلاح: ما اتصل بنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنقل المتواتر، وهو أن ينقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب؛ لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم، عن قوم مثلهم، هكذا إلى أن يتصل برسول الله - عليه السلام - فيكون أوله كآخره وأوسطه كطرفيه، نحو نقل أعداد الصلوات وأعداد الركعات ومقادير الزكوات والديات ونحو ذلك، والمذهب عندنا: أن الثابت بالمتواتر من الأخبار علم ضروري كالثابت بالمعاينة، وأصحاب الشافعي يقولون: إنَّ الثابت به علم يقين، ولكنه مكتسب لا ضروري.

قوله: "من أقاويل الصحابة" الأقاويل: جمع أقوال، جمع قول، وهو النطق المعتمد على مقاطع الفم، وقال ابن جني: القول يقع على الكلام التام وعلى الكلمة الواحدة على سبيل الحقيقة، ويصح جعله مجازًا على الاعتقاد والرأي، كما نقول: فلان يقول بقول أبي حنيفة ويذهب إلى قول مالك، وقد يستعمل في غير النطق، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} (¬1)، واللفظ ما يتلفظ به الإنسان أو في حكمه مهملًا كان أو مستعملًا، والصوت كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع. و"الصحابة" في الأصل مصدر ولكن المراد الأصحاب، يقال: صَحِبَهُ يصحَبُه صُحْبة وصَحابةً، وجمع الصاحب: صَحْب كراكب ورَكْب، وصُحْبة -بالضم- كَفَارِه وفُزهة، وصِحاب كجائع وجياع، وصُحْبَان، كشابّ وشبَّان، والأصحاب جمع صحب. والصحابي: كل مسلم رأى النبي - عليه السلام - ولو ساعة وإنْ لم يصحبه، وقال البخاري: من صحب النبي - عليه السلام - أو رآه من المسلمين. وقالت جماعة: هو من طالت صحبته مع النبي - عليه السلام - وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه. وعن ابن المسيّب: هو من أقام مع رسول الله - عليه السلام - سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين. والأصح أنه من رأى النبي - عليه السلام - أو رآه النبي - عليه السلام - ولو ساعة. ويعرف كونه صحابيًّا بالتواتر أو بالاستفاضة أو يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، أو بقوله وإخباره عن نفسه أنه صحابي بعد ثبوت عدالته. والتابعيّ: من رأى الصحابيّ، والياء فيهما للمبالغة كما يقال أحمريّ ودُوَّاريّ، أو زائدة لازمة لغير معنى كقولهم للناصر حواريّ ولضرب من النبت بَرْدي. ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [40].

قوله: "وبحثت" من بحث عن الشيء وابتحث عنه إذا فتش عنه، وفي الاصطلاح: البحث هو التفتيش عن النسبة الإيجابية أو السلبية في الكلام. قوله: "أبوابًا ... " جمع باب وهو النوع وقد يجمع على أبوبة قاله ابن فارس، و"الجنس" كلي مقول على كثيرين مختلفين في النوع، والنوع كلي مقول على كثيرين مختلفين بالشخص. قوله: "في الطهارات" جمع طهارة وهي النظافة مطلقًا، وفي الشرع هي النظافة عن النجاسات وما به، من طَهُر يطهُر بضم الهاء وفتحها في الماضي، وإنما جمع المصدر وإنْ كان يتناول القليل والكثير لقصده الأنواع، كما يقال: كتاب البيوع لاشتماله على أنواع البيع، والتاء فيها كالتاء في "رحمة" و"شدة". قوله: "فمن ذلك" إشارة إلى باب الطهارة الذي دل عليه سياقه أو إلي الطهارات باعتبار، المذكور.

كتاب الطهارة

ص: باب: الماء تقع فيه النجاسة ش: ارتفاع الباب بالابتداء، وخبره قوله: "فمن ذلك"، أي فمن باب الطهارات باب حكم الماء الذي تقع فيه النجاسة، هذا على النسخة التي ترتيبها هكذا فمن ذلك باب الماء تقع فيه النجاسة، وأما على النسخة التي ترتيبها فمن ذلك باب ما تقع فيه النجاسة، باب الماء تقع فيه النجاسة فهو مرفوع إما على أنه بدل من الباب الأول، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب في بيان أحكام الماء الذي تقع فيه النجاسة، فيكون هذا من ذكر الخاص بعد العام؛ لأن قوله: باب ما تقع فيه النجاسة أعم من أن يكون ماءً أو غيره. وإنما قدم أبواب الطهارات؛ لأنها شروط للصلاة، والشرط يذكر قبل المشروط، وقدم الماء لأنه آلة للتحصيل، وخصّ الماء الذي تقع فيه النجاسة لشدة الاحتياج إلى معرفة أحكامه. وأصل الماء: مَوَه فلذلك تجمع على أمواه ومياه، فالأول في القِلة، والثاني في الكثرة، والذاهب عنه الهاء لأن تصغيره مُوَيْه، وماهت الركيّةُ تَموه وتَميه وتماه مَوهًا وموؤها إذا طهر ماؤها، ومِهْتُ الرجلَ ومهُته بكسر الميم وضمها إذا سقيته الماء، قال الجوهري: الماء الذي يشرب. قلت: الماء جوهر سيَّال منبِت مُرْوٍ للعطش. والنجاسة اسم للنجس من نَجِسَ الشيء -بالكسر- يَنجُس نَجَسًا بفتحتين ونِجْسًا بكسر النون وسكون الجيم، وأَنْجَسَهُ غيره ونَجَّسَه بمعنى. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري، قال: حدثنا الحجاج بن منهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبيد اللهَ بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ من بئر بضُاعة، فقيل: يا رسول الله، إنَّه تُلقي فيها الِجيَفُ والمحائضُ. فقال: إنَّ الماء لا ينجس".

ش: محمَّد بن خزيمة وثقه ابن يونس وقال: توفي بالإسكندرية سنة ست وسبعن ومائتين. والحجاج بن منهال الأنماطي أبو محمَّد البصريّ، روى له الجماعة. وحماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة البصري، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. ومحمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المدني، روي له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. وعُبيد الله -بتصغير العبد- بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري العدوي، وقيل: عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن رافع بن خَديج، وقيل: عبد الله بن عبد الله بالتكبير فيهما. وقيل: إنهما اثنان، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأبو سعيد اسمه سعد بن مالك، مشهور باسمه وكنيته. والحديث أخرجه الثلاثة، فقال أبو داود (¬1): حدثنا ابن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سُليمان الأنباري، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري: "أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تُطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنَّتْن؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء [1/ق 4 - ب] طهور لا ينجسه شيء". وقال الترمذي (¬2): حدثنا هنّاد والحسن بن علي الخلال وغير واحد، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمَّد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله ابن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري: "قيل: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 17 رقم 66). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 95 رقم 66).

بضاعة وهي بئر تُلقي فيها الحِيَض ولحوم الكلاب والنَّتْنُ؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء". وقال النسائي (¬1): أخبرني هارون بن عبد الله، ثنا أبو أسامة، ثنا الوليد بن كثير، ثنا محمَّد بن كعب القُرَظِي، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري قال: "قيل: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها لحوم الكلاب والحيض والنتن؟! فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء". وأخرجه أيضًا أحمد (¬2) والبزار وأبو يعلى (¬3) في مسانيدهم، والدارقطني (¬4) والبيهقي (¬5) في سننهما، وقال أحمد: "هو صحيح". وقال التزمدي: هذا حديث حسن. فإن قلت: قال ابن القطان: هو ضعيف؛ لأن مداره على أبي أسامة عن محمَّد بن كعب، واختلف على أبي أسامة في الواسطة الذي بين محمَّد بن كعب وأبي سعيد على خمسة أقوال: عبد الله بن عبد الله بن رافع، وعبيد الله بن عبد الله بن رافع، وعبد الله ابن عبد الرحمن بن رافع، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبد الرحمن بن رافع، وكيف ما كان لا نعرف له حالًا ولا عينًا. قلت: القول ما قال أحمد؛ "إذا قالت حَذام فصدِّقوها". ووثق ابن حبان عبيد الله بن عبد الله وعبيد الله بن عبد الرحمن وعقد لهما ترجمتين، وهما عند البخاري واحد، بل الخمسة المذكورون عند ابن القطان واحد عند البخاري، فعل هذا ما أحَقّه أن يكون صحيحًا، ولما أخرجه ابن منده من رواية ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 174 رقم 326). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 31 رقم 11275). (¬3) "مسند أبي يعلى" (2/ 476 رقم 1304) لكن من طريق خالد بن أبي نوف، عن سليط، عن أبي سعيد الخدري به، بلفظ: "إنَّ الماء لا ينجسه شيء". (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 31 رقم 13). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 4 رقم 7).

محمَّد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع قال: هذا إسناد مشهور، ولكن تركه البخاري ومسلم لاختلاف في إسناده. وله طريق حسن من غير رواية أبي سعيد، من رواية سهل بن سعد. قال قاسم بن أصبغ: ثنا أبوعلي عبد الصمد بن أبي سُكينة الحلبي بحلب، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد: "قالوا: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما يُنْجِي الناس والمحائض والجيف! فقال رسول الله - عليه السلام -: الماء لا ينجسه شيء". قال قاسم: هذا من أحسن شيء في بئر بضاعة. وقال ابن حزم في كتاب "الإيصال": عبد الصمد بن أبي سُكينة ثقة مشهور. وقول ابن القطان في تضعيفه مرجوح، وأكثر ما فيه أنه جَهِل من عرفه غيرُه، وإذا صح من طريق لا يضره أن يُروى من طريق أخرى غير صحيحة، فالضعيف لا يُعِلّ الصحيح. قوله: "تتوضأ" من باب تفعل وثلاثيه "وَضُأ" على وزن فَعُلَ بالضم، قال الجوهري: الوضاءة الحسن والنظافة، تقول منه وَضُؤَ الرجل أي صار وضيئًا، وتوضأت للصلاة، ولا تقل: توضيت، وبعضهم يقوله. و"البئر" يجمع في القِلة أَبْؤُر وأبآر بهمز بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار، فإذا كثرت فهي البِئارُ وقد بأرت بئرًا، والبئرة هي الحفرة، وقال أبو زيد: [1/ق 5 - أ]، بَأَرْتُ أَبأَرَ بَأْرًا: حفرتُ بُؤْرَة يطبخ فيها، وهي الإِرةُ والبَئيرةُ على فعيلة: الذخيرة. و"البُضاعة" بضم الباء هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر وبعدها ضاد معجمة وعن مهملة وحُكي أيضًا بالصاد المهملة، وقال المنذري: بئر بضاعة دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة. وفي بعض شروح الهداية: بئر بضاعة بئر بالمدينة قديمة ماؤها يجري في البساتين.

قوله: "يلقى" من ألقيت الشيء إذا طرحته، يقال: ألقه من يدك، وألق به من يدك، وألقيت إليك المودة، وألقيت عليه أُلْقِيةً كقولك ألقيت عليه أُحْجية. و"الجيف" جمع جيفة، وقال الجوهري: الجيفة جثة الميت وقد أراح، تقول منه: جيّفَ تجييفًا، والجمع: جيف ثم أجياف. و"المحائض" جمع مَحِيضة وهي خرقة الحيض، وكذلك الحِيَض -بكسر الحاء وفتح الياء- جمع حِيْضة -بكسر الحاء وسكون الياء- وهي خرقة الحيض وقال ابن الأثير: "وقيل: المحائض جمع محيض وهو مصدر خاص فلما سَمَّى به جمعه، ويقع المحيض على المصدر والزمان والمكان والدم". و"النتّن" الرائحة الكريهة وتقع أيضًا على كل مستقبح. و"عَذِرُ النَّاس" -بفتح العين وكسر الذال المعجمة- اسم جنس للعذرة، وضبط أيضًا بكسر العين وفتح الذال كَمَعِد ومِعَد وكلاهما صحيح، وضم العين تصحيف. قوله: "ما يُنْجي الناس" بضم الياء بعدها نون ساكنة ثم جيم، والناس مرفوع على الفاعلية، يقال: أنجي الرجل إذا أحدث. قوله: "لا ينجس" من نَجِسَ يَنْجَس مِن باب علم يعلمُ، ونَجِسًا ونَجَسًا ونجاسةً، ويقال: في نجس لغتان ضم الجيم وكسرها فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع، ومن ضمها ضمها في المستقبل أيضًا. قوله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" بفتح الهمزة في محل النصب على أنه مفعول "روي"، المقدر؛ لأن التقدير: عن أبي سعيد الخدري روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و"كان" من الأفعال الناقصة وهي أم الباب لكثرة أقسامها ودلالتها على الكون إذا كانت تامّة وكل شيء داخل تحت الكون. قوله: "إنّه" الضمير فيه للشأن، ولما كانوا مترددين في حال بئر "بضاعة" بحسب ما يلقي فيها من المحائض ونحوها أكَّدَ رسول الله - عليه السلام - جوابه بنوع من المؤكد فقال: "إنَّ الماء لا ينجس" وقد عُلِمَ أن "إنَّ" تدخل الكلام للتأكيد ولكن البلاغة أن يراعى

فيه الحال فإن كان المخاطب خالي الذهن يُستغنى عن المؤكِّد، وإنْ كان متصورًا لطرفي الخبر مترددًا فيه حسن تقويته بمؤكد، وإنْ كان منكرًا للحكم وجب توكيده بحسب الإنكار، والألف واللام في "إنَّ الماء" للعهد أي ماء بئر بضاعة ولا يصح أن يكون للاستغراق؛ لأنه يلزم أن يكون كل فرد من أفراد الماء طاهرًا وليس كذلك، ولئن سُلِّم أنه للاستغراق ولكنه مخصوص بوجهين: الأول: مجمع عليه، وهو المتغير بالنجاسة. والثاني: مختلف فيه، وهو إذا كان دون القلتين كما قال به الشافعي وأحمد، وسيأتي كيفية استنباط الحكم بهذا الحديث في اختلاف العلماء، ولما أخرج الترمذي [1/ق 5 - ب]، هذا الحديث قال: وفي الباب عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -. أما حديث ابن عباس فأخرجه أبو يعلى (¬1) بإسناد صحيح عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء". وأما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬2): حدثنا أحمد، ثنا أبو الربيع عبيد الله بن محمَّد الحارثي، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الماء لا ينجسه شيء" لم يروه عن المقدام إلَّا شريك، ورواه البزار (¬3): عن عمر بن علي، عن أبي أحمد. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود سليمان بن داود الأسدي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبى، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "قيل: يا رسول الله، إنَّه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب. فقال: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (4/ 301 رقم 2411). (¬2) "المعجم الأوسط" (2/ 318 رقم 2093). (¬3) ورواه أبو يعلى أيضًا (8/ 203 رقم 4765) من طريق الحماني، عن شريك به.

ش: إبراهيم هذا هو: إبراهيم بن سليمان بن داود أبو إسحاق الأسدي المعروف بالبُرُلُّسي، قال ابن عساكر: كان ثقة من حفاظ الحديث. قوله: "سليمان بن داود" عطف بيان على قوله: "ابن أبي داود" وقد صحّف النساخ هَا هنا تصحيفًا فاحشًا وكتبوا "وسليمان بن داود" بواو العطف، وهذا غلط كبير. وأحمد بن خالد: روي له الأربعة، ووثقه يحيى بن معين. و"سَليط" بفتح السين، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث لا غير. وأخرجه بهذا الإسناد أبو داود (¬1) وقال: حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز ابن يحيي الحرانيان، قالا: ثنا محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن سَليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - وهو يقال له: "إنَّه يستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقي فيها لحوم الكلاب والمحائض وعَذِرُ الناس! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء". قوله: "إنَّه" أي إن الشأن. قوله: "طَهُور" بفتح الطاء، وهو الماء الذي يتطهر به، وبالضم: التطهر كالوَضوء، والوُضوء والسَّحور والسُّحور، وقال سيبويه: الطَّهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معًا. فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما: التطهر، يقال: طَهَرَ يَطْهُر طَهْرًا من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، وطَهُر يَطْهُر من باب حَسُنَ يَحْسُن، وتَطَهَّر يَتَطَهَّر تَطَهُّرًا فهو مُتَطَهِّر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 18 رقم 67).

والماء الطهور في الفقه: هو الذي يُرفع به الحدث، ويُزيل النجس؛ لأن "فعولًا" من أبنية المبالغة فكأنه تناهى في الطهارة، والماء الطاهر غير الطهور: هو الذي لا يَرفع الحدث ولا يزيل النجس، كالمستعمل في الوضوء والغسل؛ قاله ابن الأثير، ولكن هذا على مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن على ما عرف في موضعه، ويجوز أن يكون وزن "فعول" على معنى الفاعل يعني مُطّهر كما في قوله: في البحر: "هو الطهور ماؤه" (¬1) أي المطهر، ووجه ذكر "إنَّ" قد ذكرناه، وأما الجملة الاسمية فلتدل على الشرب والاستبراء، وأما ذكر الخبر بصيغة فعول فلقصد المبالغة في الوصف المذكور. وقوله: "لا ينجسه شيء" جملة تفسيرية فلذلك ترك العاطف، ويجوز أن تكون [1/ق 6 - أ]، كالمؤكدة للأولى لدفع توهم تجوز أو غلط أو سبق لسان تحمله الجملة السابقة، وهاتان من الجمل التي لا محل لها من الإعراب. ص: حدثنا إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم البرَكيّ، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القَسْملي، قال: حدثنا مُطَرِّف، عن خالد بن أبي نَوف، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: "انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله، أتتوضأ منها وهي يُلقي فيها ما يُلقي من النتن؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء". ش: "إبراهيم" هو البرلسي وقد مر ذكره الآن. و"عيسى بن إبراهيم" شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان وغيره، والبِرَكي -بكسر الباء الموحدة وفتح الراء- نسبة إلي سكة البِرَك بالبصرة؛ قاله البزار. و"عبد العزيز بن مسلم أبو زيد المروزي ثم البصري"، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. ¬

_ (¬1) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وغيرهم، فأخرجه أبو داود (1/ 21 رقم 83)، والترمذي (1/ 100 رقم 69)، والنسائي (1/ 50 رقم 59)، وابن ماجه (1/ 136 رقم 386)، وأحمد (2/ 237 رقم 7232).

و"القَسْملي" -بفتح القاف وسكون السين المهملة- نسبة إلى القساملة قبيلة من الأزد، وقيل: إنَّه نزل القساملة فنسب إليهم. و"مُطَرِّف" -بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالفاء- ابن طريف، وقد نسبه النسائي في روايته، روى له الجماعة. و"خالد بن أبي نوف السجستاني"، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي هذا الحديث فقط. و"ابن أبي سعيد الخدري" هو عبد الرحمن بن أبي سعيد سعد بن مالك، وقد جاء مصرحًا به في رواية الحافظ أبي الفتح اليعمري من حديث مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، روى له الجماعة. وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا وقال: أخبرنا العباس بن عبد العظيم، ثنا عبد الملك ابن عمرو، ثنا عبد العزيز بن مسلم -وكان من العابدين- عن مطرف بن طريف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: "مررت بالنبي - عليه السلام - وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت: أتتوضأ منها وهي تطرح فيها ما يكره من النَّتن؟! فقال: الماء لا ينجسه شيء". وزادت رواية النسائي على رواية الطحاوي بشيئين: أحدهما نسبة مطرف إلى أبيه. والآخر إدخال سليط بين خالد وابن أبي سعيد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): من رواية عبد العزيز، مثل رواية الطحاوي سواء، غير أن في رواية أحمد: "فقلت: يا رسول الله، توضأ منها؟ " بدون همزة ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 174 رقم 327). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 15 رقم 11134).

الاستفهام. وفي رواية الطحاوي، بالهمزة، وفي رواية أحمد "إنَّ الماء" وفي رواية الطحاوي بدون "إنَّ". وأخرجه أبو يعلى (¬1) أيضًا من رواية عبد العزيز مثل رواية الطحاوي سواء، غير أن في رواية أبي يعلى: "إنَّ الماء". قوله: "انتهيت إلى رسول الله - عليه السلام -" أي بلغت إليه في النهاية، وهي الغاية، ولما ضمِّن معنى بلغت عُدِّي بكلمة "إلى" التي هي للغاية. قوله: "أتتوضأ" الهمزة للاستفهام وهو بتائين مثناتين من فوق، خطاب للنبي - عليه السلام - وكذلك وقع مصرحًا به من طريق الشافعي: "قيل: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة" وكذا وقع في رواية النسائي. قوله: "وهم تُلقى" أبي بئر بضاعة تُطرح فيها ويلقى، على صفة المجهول. قوله:" ما يُلقى" مسند إلى "تُلقى". قوله: "من النتن" كلمة من البيان، وموضعها النصب على الحال. [1/ ق 6 - ب]. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: حدثنا أصبغ بن الفَرَج، قال: ثنا حاتم ابن إسماعيل، عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمّه قالت: "دخلنا على سهل بن سعد في نِسوة، فقال: لو سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك؛ وقد سَقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي منها". ش: أصبغ بن الفرج بن سعيد الفقيه المصري وَرّاق عبد الله بن وهب أحد مشايخ البخاري في "الصحيح"، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وحاتم بن إسماعيل المدني مولى بني عبد المدان، روى له الجماعة. ومحمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو عبد الله المدني، روى له الأربعة، والترمذي في "الشمائل". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (2/ 476 رقم 1304).

قوله: "عن أمّه" أي عن أم محمَّد بن أبي يحيى، ولم أقف على اسمها في الكتب المشهورة ولا عرفت حالها بعد الكشف التام ولا لها ذكر في الكتب الستة. ووقع في رواية الطبراني (¬1): "عن أبية" موضع "أمه" وقال: حدثنا موسى بن سهل، عن هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، عن محمَّد بن يحيى الأسلمي، عن أبيه قال: "دخلنا على سهل بن سعد الساعدي في بيته، فقال: لو أني سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم، وقد -والله- سقيت منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي". وأخرجه الدارقطني (¬2) أيضًا هكذا وقال: حدثنا أبو حامد محمَّد بن هارون، ثنا محمَّد بن زياد الزيادي، ثنا فضيل بن سليمان، عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبيه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - يقول: "شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر بضاعة" وقد وقع في أصل الدارقطني: عن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمه مثل رواية الطحاوي، واسم أبيه سمعان بن يحيى، روى له أبو داود والترمذي. قوله: "في نسوة" كلمة "في" هَا هنا بمعنى المصاحبة كما في قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} (¬3) أي معهم، وقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (¬4) وموقعها النصب على الحال، أي دخلنا مصاحبين نسوة. قوله: "لو سقيتكم" خطاب لجماعة النساء ولكن ذكره بخطاب المذكر تغليبا للمذكر على المؤنث؛ لأنهن ما خلون عن رجل بينهن. ويستفاد من هذا جواز استعمال الماء الذي تتغير بعض أوصافه بمخالطة شيء طاهر أو بطول المكث؛ وذلك لأن قوله: "لكرهتم ذلك" يدل على أنه كان متغيرا. قلت: "وقد سقيت رسول الله - عليه السلام -" يدل على أن تغييره في ذلك الوقت ما كان إلَّا بشيء طاهر أو بانحباسه وانسداد جريانه، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 207 رقم 6026). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 32 رقم 17). (¬3) سورة الأعراف، آية: [38]. (¬4) سورة القصص، آية: [79].

"الأوسط" (¬1) و"الكبير" (¬2) من حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ينُجّس الماء شيء إلَّا ما غَيَّرَ ريحه أو طعمه". ورواه ابن ماجه (¬3) ولفظه: "إلَّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". وفي سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف. وروى الطبراني (¬4) أيضًا عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتوضأ بالماء ما لم يأْجَن الماء؛ يخضرّ أو يصفرّ". ص: حدثنا فهد بن سليمان بن يحيي، قال: ثنا محمَّد بن سعد الأصبهاني، قال: أخبرنا شريك بن عبد اللهَ النخعي، عن طريف البصري، [1/ق 7 - أ]، عن أبي نضرة، عن جابر -أو أبي سعيد الخدري- قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فانتهينا إلي غدير وفيه جيفة، فكففنا وكفّ الناس، حتى أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لكم لا تستقون؟ فقلنا: يا رسول اللهَ، هذه الجيفة. فقال: استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء. فاستقينا وارتوينا". ش: فهد بن سليمان بن يحيي أبو يحيى الكوفي، وثقه ابن يونس. ومحمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني أحد مشايخ البخاري في "الصحيح"، وروى له الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة". وشريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في المتابعات. وطريف -بالطاء المهملة- هو ابن شهاب، وقيل: ابن سعد، وقيل: ابن سفيان، أبو سفيان السعدي البصري الأشل، ضعيف جِدّا، وروى له الترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (1/ 417 رقم 748). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 104 رقم 7503). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 521). (¬4) "المعجم الكبير" (20/ 99 رقم 193).

وأبو نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العَوَقي -بفتح العين والواو، وفي آخره قاف- روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1) أيضًا وقال: ثنا أحمد بن [سنان] (¬2) نا يزيد بن هارون، نا شريك، عن طريف بن شهاب، قال: سمعت أبا نضرة يحدّث عن جابر - رضي الله عنه - قال: "انتهينا إلى غدير فإذا فيه جيفة حمار، قال: فكففنا عنه حتى انتهى إلينا رسول الله - عليه السلام - فقال: إنَّ الماء لا ينجسه شيء. فاستقينا، وأروينا، وحملنا". قوله: "فانتهينا إلي غدير" أي بلغنا إليها، والغدير على وزن فعيل بمعنى مفاعل من غادره، أو بمعنى مفعل من أغدره، وقيل: فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه يغدر بأهله لانقطاعه عند شدة الحاجة إليه، وهو القطعة من الماء يغادره السيل. قوله: "وفيه جيفة" جملة اسمية وقعت حالًا عن الغدير. قوله: "فكففنا" من كفّ إذا امتنع، يتعدى ولا يتعدى. قوله: "وارتوينا" بمعنى رَوَيْنَا وكذلك تَروّينا، يقال رَوِيت من الماء -بالكسر- أَرْوي رَيّا ورِيّا ورِوي -مثل رضي- وارتويت وتروّيت كله بمعنى. والمراد من الغدير هَا هنا هو الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، والمراد من الاستقاء هو الاستقاء من الجانب الذي لا يصل إليه أثر الجيفة وذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر أحدا إلَّا باستعمال ماء طاهر. ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا ينجسّ الماء شيء وقع فيه إلَّا أن يُغيّر لونه أو طعمه أو ريحه فأي ذلك إذا كان فقد نجس الماء. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد ومالكا وعبد الله بن وهب وإسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير والحسن بن صالح وداود بن علي ومن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 173 رقم 520). (¬2) في "الأصل، ك": سليمان، وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجة"، و"تحفة الأشراف".

تبعهم؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة وقالوا: لا ينجس الماء شيء وقع فيه، وأرادوا به من النجاسة؛ لأن وقوع الشيء الطاهر لا ينجسه عندنا أيضًا وإنْ غيّر بعض أوصافه، وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران: "أنه سأل القاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أَيُشْربُ منه ويُغتسل وتُغسل منه الثياب؟ فقالا: انظر بعينك فإن رأيت ماء لا يدنسه ما وقع فيه فنرجو ألَّا يكون به بأس". قال: وأخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: "كل ماء فيه فضل عما يصيبه [1/ق 7 - ب]، من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به". قال: وأخبرني عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة قال: "إذا وقعت الميتة في البئر فلم يتغير طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ فلا بأس أن يتوضأ منها، وإنْ رُؤيت فيها الميتة، قال: وإنْ تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها" هذا قول ابن وهب. وقال القشيري: "وهو الذي شهره العراقيون عن مالك فاشتهر". وهو قول لأحمد، ورجحه أيضًا من أتباع الشافعي القاضي أبو المحاسن الروياني صاحب "بحر المذهب". وفي "البدائع" ما ملخصه: أن الظاهرية استدلت بالآثار المذكورة أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلًا سواء كان جاريا أم راكد، وسواء كان قليلًا أم كثيرا، تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وممن روي عنه القول بمثل قولنا: "إن الماء لا ينجسه شيء": عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن العباس والحسن بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة ابن اليمان - رضي الله عنهم - والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه وعبد الرحمن بن أبي ليلى ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 168).

وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتِّي وغيرهم. قوله: "فأي ذلك" إشارة إلى كل واحد من اللون والطعم والريح. قوله: "فقد نجس الماء" بفتح النون وكسر الجميع وضمها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه -رحمهم الله- فإنهم قالوا: الماء لا يخلو إما أن يكون جاريا أو راكدا قليلًا أو كثيرا، فإن كان جاريا فوقعت فيه نجاسة وكانت غير مرئية كالبول والخمر ونحوهما فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضأ منه من أي موضع شاء، من الجوانب التي وقعت فيها النجاسة أو من جانب آخر؛ كذا ذكر محمَّد في كتاب "الأشربة". وإنْ كانت مرئية كالجيفة ونحوها؛ فإن كان يجري جميع الماء عليها لا يجوز التوضؤ من أسفلها، وإنْ كان يجري أكثره عليها؛ كذلك اعتبارا بالغالب، وإنْ كان أقله يجري عليها يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإنْ كان يجري عليها النصف دون النصف فالقياس جواز التوضؤ وفي الاستحسان لا يجوز احتياطا. وإنْ كان راكدا فقد اختلفوا فيه: فقال الظاهرية: لا ينجس أصلًا. وقال عامة العلماء: إنْ كان الماء قليلًا ينجس وإنْ كان كثيرا لا ينجس. لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فقال مالك: إنْ تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل؛ وإلَّا فهو كثير. وقال الشافعي: "إذا بلغ قلتين فهو كثير وما دونهما قليل. وبه قال أحمد". وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص. بعضه إلى بعض فهو قليل وإلَّا فهو كثير.

ثم اختلفوا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك وهو أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، وإلَّا فهو مما لا يخلص. واختلفوا في صفة التحريك، فعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال في غير عنف، وعن محمَّد أنه يعتبر بالوضوء، وروي أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء. وأما اختلافهم في تفسير الخلوص فعن أبي حفص الكبير أنه اعتبره بالصبغ، وعن ابن أخي محمَّد بن سلام أنه اعتبره بالتكدير، وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه اعتبره بالمساحة وقال: إن كان عشرا في عشر فهو مما لا يخلص، وإنْ كان دونه فهو مما يخلص. وعن ابن المبارك أنه اعتبره بالعشرة أولا ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب أبو مطيع البلخي فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز [1/ ق 8 - أ] وإنْ كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئًا. وعن محمَّد أنه قدّره بمسجده وكان ثمانيا في ثمان، وبه أخذ محمَّد بن مسلمة، وقيل: كان مسجده عشرا في عشر، وقيل: كان داخله ثمانيا في ثمان وخارجه عشرا في عشر، وعن الكرخي لا عبرة للتقدير وإنما المعتبر هو التحري، فإن كان أكثر رأيه أن النجاسة خلصت إلى الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإنْ كان أكثر رأيه أنَّهَا لم تصل إليه يجوز. فإن قلت: نصب المقدّرات بالرأي لا يجوز. قلت: حديث بئر بضاعة يصلح أن يكون مستندا لتقديرهم الماء الكثير بالعشر في العشر وذلك لأن محمدا قدّره بمسجده وكان ثمانيا في ثمان على ما مرّ وكان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان على ما قيل، ولكن قال أبو داود: قدّرتُ بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غُيّر بناؤها عما كان عليه؟ فقال: لا. ورأيت الماء فيها متغير اللون. انتهى.

فإذا كان عرضها ستة أذرع يكون طولها أكثر منها إذ لو كانت البئر مدورة لقال أبو داود: فإذا دورها ستة أذرع. فإذا أضيف ما في الطول من الزيادة إلى العرض يكون ثمانية وأكثر فيستقيم قول من قال: كان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان لأن مبنى ذلك على التقدير لا على التحرير؛ فأخذ محمَّد من هذا وقال: إنْ كان قدر مسجدي هذا فهو كثير فلما قاسوه وجدوه ثمانيا في ثمان من داخله وعشرا في عشر من خارجه ولكنهم اعتبروا مساحة خارجه، وقالوا: الماء الكثير عشر في عشر. ولم يعتبروا داخله لأجل الاحتياط في باب العبادات، وأما على قول محمَّد بن مسلمة في تقديره بثمان في ثمان فهو على ظاهره؛ لأن مسجد محمَّد ثمان في ثمان كما أن بئر بضاعة ثمان في ثمان فتنبّه على هذا فإن كثيرا منهم لم يحوموا حوله حتى تعرف أن مبنى أقوال أصحابنا على أصل محكم. وأما من اعتبر الخلوص في تقدير الماء الكثير فله أن يستند على حديث ابن ماجه الذي ذكر عن قريب، واعلم أيضًا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مستندا لتقدير بعض أصحابنا عمق الماء الكثير بذراع على ما قال صاحب البدائع، وأما العمق فهل يشترط مع الطول والعرض؟ عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق. وعن الفقيه أبي جعفر الهنداوي إنْ كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه انحسر أسفله ثم اتصل لا يتوضأ به وإنْ كان بحال لا ينحسر أسفله لا بأس بالوضوء منه. وقيل: مقدار العمق أن يكون زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال، وقيل: أن يكون قدر شبر، وقيل: قدر ذراع، انتهى. بيان ذلك: أن أبا داود -رحمه الله-: قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها قلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. فهذا عند ازدياده يكون إلى العانة وهذا قدر ذراع وأكثر، وعند انتقاصه يكون دون العورة أراد به ما دون الركبة فهذا وأكثر من شبر، وأيّا ما

كان لا تنجس الأرض لو رفع إنسان ماءه بكفيه، وعلى كل تقدير فيه استناد للأقوال التي ذكرت في مقدار العمق في الماء الكثير، فافهم. ص: فقالوا: أما ما ذكرتموه من بئر بضاعة فلا حجة لكم فيه؛ لأن بئر بضاعة قد اختلفت فيها ما كانت؟ فقال قوم: كانت طريقا للماء إلى البساتين، فكان الماء لا يستقر فيها، فكان حكم مائها كحكم ماء الأنهار، وهكذا نقول في كل موضع كان على هذه الصفة وقعت في مائه نجاسة؛ فلا ينجس ماؤه إلَّا أن يغلب على طعمه أو لونه أو ريحه [1/ ق 8 - ب]، أو يعلم أنَّهَا في الماء الذي يؤخذ منه؛ فإن علم ذلك كان نجسا، وإنْ كان لم يعلم ذلك كان طاهرا. ش: أشار بهذا إلى الجواب عن الآثار المذكورة وهو ظاهر. قوله: "فيه" أي فيما ذكرتموه من الآثار، وأراد بقوله: "فقال قوم" الواقدي ومن تبعه على ما يجيء، وهو قول عائشة - رضي الله عنه - أيضًا على ما روي عنها أنَّهَا قالت: "إنَّ بئر بضاعة كانت قناة ولها منفذ إلى بساتينهم ويسقى منها خمسة بساتين أو سبعة" وقال صاحب الهداية: والذي رواه مالك ورد في بئر بضاعة وماؤه كان جاريا في البساتين. وقال الخطابي: قد يتوهم من سمع حديث أبي سعيد أن هذا كان منهم عادة، وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدا وتعمدًا، وهذا ما لا يجوز أن يُظَنّ بذمي بل وثني فضلا عن مسلم، ولم تزل عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه المياه، فكيف يُظن بأعلى طبقات الدين وأفضل جماعة المسلمين والماء ببلادهم أعز والحاجة إليه أمس أن يكون صنيعهم به هكذا وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تغوط في موارد الماء ومشارعه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا للأنجاس ومطرحا للأقذار، مثل هذا الظن لا يليق بهم ولا يجوز فيهم، وإنما كان من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور من الأرض، وأن السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية فتحملها فتلقيها فيها، وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء، ولا تُغيره، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأنها ليعلموا حكمها من الطهارة والنجاسة، فكان من

جوابه لهم: "إنَّ الماء لا ينجسه شيء" يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته؛ لأن السؤال إنما وقع عنها نفسها فخرج الجواب عليها. قوله: "على هذه الصفة" إشارة إلى قوله: "فكان الماء لا يستقر فيها". قوله: "أو يعلم أنَّهَا" أي النجاسة. قوله: "وإنْ كان لم يعلم ذلك" أي وقوع النجاسة في الماء الذي يؤخذ منه، كان الماء طاهرا على حاله؛ لأن الأصل الطهارة فلا يثبت كونه نجسا إلَّا بالعلم، وإنْ شك فيه فكذلك طاهر، على الأصل المعهود: أن اليقين لا يزول بالشك. ص: وقد حُكي هذا القول الذي ذكرناه في بئر بضاعة عن الواقدي، حدثنيه أبو جعفر أحمد بن أبي عمران، عن أبي عبد الله محمَّد بن شجاع الثَلجي، عن الواقدي: أنَّهَا كانت كذلك. ش: أشار به إلى القول المحكي عن القوم الذين قالوا: إنها كانت طريقا للماء إلى البساتين. قوله: "حدثنيه" أي هذا القول. أبو جعفر أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، وثقه ابن يونس. ومحمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة وبالجيم في آخره- من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي وقد شنع عليه أصحاب الحديث تشنيعا عظيما، وقال في التهذيب: كان فقيه أهل الرأي في وقته وصاحب التصانيف. ونقل ابن الجوزي عن ابن عدي أنه كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبها إلي أصحاب الحديث يثلبهم بها. قلت: من جملة تصانيفه كتاب "الردّ على المشبهة" فكيف يصح هذا عنه، وكان دَيّنا صالحا عابدا (¬1). ¬

_ (¬1) قال الذهبي -رحمه الله- في "السير" (12/ 380): "وكان صاحب تعبد وتهجد وتلاوة، مات ساجدًا، له كتاب "المناسك" في نيف وستين جزءًا، إلَّا أنه كان يقف في مسألة القرآن وينال من الكبار. =

واسم الواقدي محمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو عبد الله المدني قاضي بغداد أحد مشايخ الشافعي. فإن قلت: قد قيل: إنَّ المدينة لم يكن بها ماء جارٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأما عين الزرقا وعيون حمزة - رضي الله عنه - فحدثت بعد ذلك، وبئر بضاعة كان نبعا غير جارٍ وهي باقية إلى اليوم شرقي المدينة بدار بني ساعدة. قلت: يرد هذا ما رواه الطحاوي عن الوليد بن [1/ ق 9 - أ]، علي أنه يحتمل أن يكون مراد هذا القائل: إن المدينة لم يكن بها ماء جار. الجاري على وجه الأرض مثل النهر، وبئر بضاعة كان ماؤها جاريا تحت الأرض كالقنوات التي تجري تحت الأرض. فإن قلت: قال البيهقي: "زعم أبو جعفر الطحاوي أن بئر بضاعة كان طريقا للماء إلى البساتين فكان الماء لا يستقر فيها، وحكاه عن الواقدي، ومحمد بن عمر الواقدي لا يحتج بروايته فيما يسنده فكيف فيما يرسله؟! ضعفه يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وقال البخاري: محمَّد بن عمر الواقدي متروك الحديث. ثم أسند عن الشافعي أنه قال: كتب الواقدي كذب". قلت: هذا تحامل من البيهقي على الطحاوي؛ لأنه حكي عنه أن بئر بضاعة كانت كذلك، وهو إنما أخبر عن مشاهدة لأنه من أهل المدينة وهو أخبر بحالها وحال أماكنها من غيره، وليس فيه إسناد حديث ولا إرساله حتى يشنع عليه هذا التشنيع، فما للواقدي لا يحتج بكلامه في مثل هذا وقد طبّق شرق الأرض وغربها ذكره وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم كما ذكره الخطيب، وقال إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت الصاغاني وذكر الواقدي فقال: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه. وحدّث عنه أربعة أئمة كبار: أبو بكر بن أبي شيبة وأبو عُبَيد القاسم بن سلام وأبو خيثمة ورجل ¬

_ = وقال في "الميزان" (3/ 578) بعد أن ذكر الأقوال في تضعيفه: "وكان مع هناته ذا تلاوة وتعبد، ومات ساجدًا في صلاة العصر، ويرحم إنْ شاء الله".

آخر. ويمكن أن يكون هو الشافعي لأنه روى عنه، وقال مصعب الزبيري: الواقدي ثقة مأمون. وقال أبو عُبَيد: الواقدي ثقة. ورواية الطحاوي عن الثلجي عن الواقدي دليل على أنهما مرضيان عنده، ولا يلزمه تضعيف غيره إياهما على ما عرف. ص: وكان من الحجة في ذلك أيضًا أنهم قد أجمعوا إن النجاسة إذا وقعت في البئر فغلبت على طعم مائها إو ريحه أو لونه أن ماءها قد فسد، وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء إنما فيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن بئر بضاعة فقيل: إنَّه يلقى فيها الكلاب والمحائض. فقال: إنَّ الماء لا ينجسه شيء" ونحن نعلم أن بئرا لو سقط فيها ما هو أقل من ذلك لكان محالا ألَّا يتغير ريح مائها أو طعمه، هذا مما يعقل ويعلم، فلما كان ذلك كذلك وقد أباح لهم النبي - عليه السلام - ماءها وأجمعوا أن ذلك لم يكن وقد داخل الماء التغير من جهة من الجهات اللاتي ذكرنا؛ استحال عندنا -والله أعلم- أن يكون سؤالهم النبي - عليه السلام - عن مائها وجوابه إياهم في ذلك بما أجابهم كان والنجاسة في البئر، ولكنه كان -والله أعلم- بعد إن أخرجت النجاسة من البئر فسألوا النبي - عليه السلام - عن ذلك هل يطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك؟ وذلك موضع مشكل؛ لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يُخْرَجْ؟ فقال لهم النبي - عليه السلام -: "إنَّ الماء لا ينجس" يريد بذلك الماء الذي يطرأ عليها بعد إخراج النجاسة منها؛ لا أن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة، وقد رأينا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن لا ينجس". ش: هذا إشارة إلي جواب آخر عن مقالة الخصم وهو ظاهر. قوله: "أنهم" في محل الرفع على أنه اسم "كان" والتقدير: وكان من الحجة في ذلك اجتماعهم -أعني إجماع كل من الخصم والأصحاب- على أن النجاسة ... إلى آخره. فإن قلت: كيف قال: قد أجمعوا، والظاهرية ليسوا بقائلين بهذا الحكم فإن عندهم الماء لا ينجسه شيء أصلًا على ما حكينا عن ابن حزم أن مذهبهم هو مذهب

[1/ ق 9 - ب] جماعة من الصحابة والتابعين، وقد سردنا أسماءهم، ثم قال في آخره: فإن كان التقليد؛ فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي. ثم استدل على مذهبه بحديثين: أحدهما ما رواه سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء" والآخر ما رواه حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الناس بثلاث" فذكر - عليه السلام - منها "وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" (¬1) يعم - عليه السلام - كل ماء ولم يخص ماء من ماء. قلت: المراد من الخصم في هذا الفصل مالك ومن تبعه فإنهم قائلون بأن البئر إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصاف الماء فيها فإنه ينجس، ولا اعتبار لمخالفة الظاهرية؛ لأن كلامهم ساقط؛ ألَّا ترى إلى قول ابن حزم: فعمّ - عليه السلام - كل ماء ولم يخصّ ماء من ماء. كيف هو في غاية السقوط والتفاهة؛ لأن قوله: - عليه السلام -: "إذا لم نجد الماء" أي الماء الطاهر المطهر، بدليل قوله - عليه السلام -: "لا ينجس الماء شيء إلَّا ما غيّر ريحه أو طعمه" رواه الطبراني وابن ماجه وقد ذكرناه (¬2)، قوله - عليه السلام - "لا يبل أحدكم في الماء الراكد ثم يتوضأ منه" رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3)، ولو كان البول فيه لم ينجسه لم يكن للنهي فائدة. قوله: "وليس في حديث بئر بضاعة من هذا شيء" يعني من الحكم المجمع عليه وهو فساد ماء البئر بوقوع النجاسة التي غلبت على أحد أوصاف الماء. قوله: "ألَّا تتغير" في محل الرفع على أنه اسم كان، والتقدير: لكان عدم تغير ريح مائها محالا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 371 رقم 522). (¬2) تقدم. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 141) من حديث أبي هريرة، والحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة أيضًا، بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" أخرجه البخاري (1/ 94 رقم 236)، ومسلم (1/ 235 رقم 282).

قوله: "فلما كان ذلك كذلك" أي لما كان الأمر كما ذكرنا. قوله: "وقد أباح" جملة حالية وكذلك الواو في قوله: "وقد داخل الماء التغير" للحال، والتغير فاعل "داخل". قوله: "استحال" جواب "لمّا". قوله: "وجوابه إياهم" أي جواب النبي - عليه السلام - للصحابة الذين سألوه. قوله: "والنجاسة في البئر" جملة حالية أيضًا. قوله: "من البئر" أي بئر بضاعة. قوله: "يطرأ" أي يعرض ويُجدّد. "بعد ذلك" أي بعد إخراج النجاسة من البئر. قوله: "وذلك موضع مشكل" إشارة إلى عدم نجاسة الماء الطارئ عليها، يعني كيف يطهر هذا، وهو مشكل "لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها النجس لم يخرج" لأنه خالطه نجاسة فأجاب - عليه السلام - بقوله: "إنَّ الماء لا ينجس" يعني الماء الذي يطرأ ويجدّد بعد إخراج النجاسة، لا أن الماء لا ينجس أصلًا إذا خالطته النجاسة، يعني ليس المراد من قوله: "إنَّ الماء لا ينجس" أنه لا ينجس إذا خالطته النجاسة، ثم أيد هذا التأويل بقوله: "وقد رأينا أنه - عليه السلام - قال: المؤمن لا ينجس" لأن معناه ليس أن بدنه لا ينجس وإنْ أصابته النجاسة؛ لأن نجاسته حينئذ ظاهرة لا يمكن نفيها عنه، بل معناه لا ينجس من حيث الاعتقاد، كما يقال في حق المشرك: إنه نجس من حيث الاعتقاد؛ إذ لو كان نجسا بغير هذا المعنى لكان سؤره نجسا مع أنه طاهر. ص: حدثناه ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد. وحدثناه ابن خزيمة، قال: حدثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فمد يده إليّ فقبضت يدي عنه وقلت: إني جُنُب. فقال: سبحان الله، إنَّ المسلم لا ينجس".

ش: أي حدثنا الحديث المذكور وهو قوله - رضي الله عنه -: "المؤمن لا ينجس" إبراهيم بن أبي داود البرلسي. قوله: "حدثنا" بفتح الدال من حدث و"نا" مفعوله "وابن أبي داود" فاعله. و"المقدّمَي" -بضم الميم وفتح القاف [1/ق 10 - أ]، وتشديد الدال المفتوحة وكسر الميم الثانية -نسبة إلى المُقدَّم- على صيغة الفعول -وهو جدّ أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم، والذي اشتهر بهذه النسبة منهم جماعة، منهم: محمَّد بن أبي بكر هذا، روى عنه البخاري ومسلم وابن أبي داود البرلسي أيضًا، ومنهم: ابن عمه محمد بن عمر بن علي بن عطاء البصري روى عنه الأربعة- والبرلسي أيضًا وثقه ابن حبان- قيل: هو المراد هَا هنا من المقدمي. وابن أبي عدي هو محمَّد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي مولاهم أبو عمرو البصري، ويقال: محمَّد بن أبي عدي، واسم أبي عدي إبراهيم، روى له الجماعة. وحُميد -بضم الحاء- ابن أبي حميد الطويل، أبو عُبيدة الخزاعي البصري، روى له الجماعة. وابن خزيمة هو محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري ثقة مشهور. والحجاج بن منهال روى له الجماعة. وحماد بن سلمة بن دينار البصري روى له الجماعة، البخاري مستشهدا. وبكر هو ابن عبد الله المزني أبو عبد الله البصري روى له الجماعة. وأبو رافع اسمه نُفيع -بضم النون- الصائغ المدني نزيل البصرة روى له الجماعة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن المثني، عن ¬

_ (¬1) لم أجده في "صحيح البخاري" من طريق محمَّد بن المثني، ولم يذكر المزي -رحمه الله- هذا الطريق في "تحفة الأشراف"، وإنما أخرجه البخاري في (1/ 109 رقم 279) من طريق علي بن عبد الله، عن يحيى به، ولفظه: "إنَّ المسلم" وأخرجه (1/ 109 رقم 281) من طريق عياش، عن عبد الأعلى به، وانظر "تحفة الأشراف" (9/ 385).

يحيى بن سعيد، عن حميد، قال: ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت، ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. قال: سبحان الله، إنَّ المؤمن لا ينجس". وقال مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن عُلية، عن حميد الطويل، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أنه لقيه النبي - عليه السلام - في طريق من طرق المدينة وهو جُنب، فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقده النبي - عليه السلام - فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جُنب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله! إنَّ المؤمن لا ينجس". وقال أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: نا يحيى وبشر، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: "لقيني رسول الله - عليه السلام - في طريق من طرق المدينة وأنا جُنب، فاخْتَنَسْتُ منه فذهبت فاغتسلت، ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: إني كنت جُنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة. فقال: سبحان الله، إنَّ المسلم لا ينجس". وقال الترمذي (¬3): نا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد القطان، قال: نا حميد الطويل، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - لقيه وهو جنب، قال: فانبجَسْتُ فاغتسلتُ ثم جئت، فقال: أين كنت -أو أين ذهبت-؟ قلت: إني كنت جنبا. فقال: إنَّ المسلم لا ينجس". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 282 رقم 371). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 59 رقم 231). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 207 رقم 121).

وقال النسائي (¬1): أخبرنا [حميد بن مسعدة] (¬2) قال: ثنا بشر -وهو ابن المفضل- قال: ثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - لقيه في طريق من طرق المدينة وهو جنب فانسلَّ عنه فاغتسل ففقده النبي - عليه السلام - فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، إنك لقيتني وأنا جُنُب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال: سبحان الله إنَّ المؤمن لا ينجس". وقال ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ... إلي آخر ما رواه مسلم لأنهما كليهما أخرجاه عن ابن أبي شيبة، ولكن عند مسلم منقطع بين حميد وأبي رافع بينهما بكر بن عبد الله المزني (¬4)، وعند ابن ماجه موصول فافهم. فإن قلت: قد قال الطحاوي أولًا: وقد رأينا أنه - عليه السلام - قال: "المؤمن لا ينجس". ثم روى الحديث وفيه: "إن المسلم لا ينجس". قلت: كلا اللفظين مروي كما ذكرناه [1/ ق -10 ب] وقال الترمذي: وفي الباب عن حذيفة وابن عباس - رضي الله عنهم -. قلت: حديث حذيفة رواه أبو داود (¬5) عن مسدد، عن يحيي، عن مسعر، عن واصل، عن أبي وائل، عن حذيفة: "أن النبي - عليه السلام - لقيه فأهوى إليه فقال: إني جُنب. فقال: إنَّ المسلم ليس بنجس" (¬6). ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 145 رقم 269). (¬2) في"الأصل، ك": "قتيبة بن سعيد"، وهو تحريف، والمثبت من "المجتبى" و"تحفة الأشراف"، ولم يذكر المزي في "تهذيبه": "قتيبه" فيمن روى عن بشر بن المفضل. (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 178 رقم 534). (¬4) قال الحافظ في "النكت الظراف": "بكر بن عبد الله" في السند عند مسلم في أكثر النسخ من (م) وثبت في بعضها من رواية بعض المغاربة وكذا هي عندي بخط أبي الحسن المرادي الراوي عن الفراوي. (¬5) "سنن أبي داود" (1/ 59 رقم230). (¬6) في "سنن أبي داود": (لا ينجس).

ورواه مسلم (¬1) أيضًا ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه وهو جُنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جُنبا. قال: إن المسلم لا ينجس". وفي رواية الكَسّار عن النسائي: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - لقيه وهو جُنب، فأهوي إليّ فقلت: إني جنب. فقال: المسلم لا ينجس" وفي رواية غيره: "عن حذيفة" بدل "عبد الله" (¬2). وكذا عند ابن ماجه (¬3): "عن حذيفة". وحديث عبد الله بن عباس أخرجه الحكم في "مستدركه" (¬4): على ما نذكره الآن إنْ شاء الله تعالى. قوله: "جُنُب" على وزن فُعُل بضمتين صفة مشبّهة، وهو الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني، ويقع على الواحد والإثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وقد يجمع على أجناب وجُنُبين، وأَجْنَبَ يُجنِبُ إجنابا، والجنابة الاسم، وهي في الأصل: البعُد، ويسمى الإنسان جنبا؛ لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبته الناس حتى يتطهر، قال الجوهري: تقول: أجنب الرجل وجُنِبَ أيضًا بالضم. قوله: "فقبضت يدي عنه" يعني جمعتها عنه؛ لأن القبض في الأصل خلاف البسط. قوله: "سبحان الله" في موضع التعجب، وسبحان عَلَمٌ للتسبيح. كعثمان علم للرجل، ومعناه أُسبح الله تسبيحا أي أنزّهه عن النقائص. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 282 رقم 372). (¬2) "المجتبى" (1/ 145 رقم 268)، وكذا فيه مسعر بدل سفيان. (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 178 رقم 535). (¬4) "المستدرك" (1/ 542 رقم 1422).

قوله: "فانخنست" أبي تأخرت، ومنه خنس الشيطان وهو بالخاء المعجمة والنون، وكذا معنى "فاختنست" فالأول من باب الانفعال والثاني من باب الافتعال، وفي رواية للبخاري (¬1) -رحمه الله-: "فانسللت" من السَّلِّ وهو الجذب. قوله: "فانبجست" يعني اندفعت ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (¬2) أي جَرْتَ واندفعت. وروي "فانتجست" أي اعتقدت نفسي نجسا، وروي "فانتجشت" -بالشين المعجمة- من النجش وهو الإسراع، روي "فانبخست" -بالنون والباء الموحدة والخاء المعجمة والسين المهملة- واستبعده بعضهم، وقال بعضهم: البخس النقص فكأنه ظهر له نقصانه عن مُمَاشاةِ رسول الله - عليه السلام - لما اعتقد في نفسه من النجاسة. قوله: "أهوى إليه"أي أهوى إليه يده، أي أمالها إليه، يقال: أهوى يده إليه وأهوى بيده إليه، ويترك المفعول كثيرا. قوله: "فحاد عنه" من حاد عن الشيء أو عدل عنه يحيد حيدا وحيدودة. ويستفاد منه فوائد: - كون الجنُب طاهرا وكذا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه، وكون المسلم طاهرا حيّا وميتا، وعن الشافعي قولان في الميت أصحهما الطهارة. - وذكر البخاري في "صحيحه" (¬3): عن ابن عباس تعليقا "المسلم لا ينجس حيّا ولا ميتا". - ووصله الحكم في "المستدرك" (¬4) فقال: أخبرني إبراهيم بن عصمة، قال: ثنا أبو مسلم المسيب بن زهير البغدادي، أنبأ أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: ثنا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 109 رقم 281). (¬2) سورة الأعراف، آية: [160]. (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 422) في ترجمة الباب. (¬4) "المستدرك" (1/ 542 رقم 1422).

سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المسلم ليس بنجس حيّا ولا ميِّتّا" قال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فإن قلت: على هذا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنه طاهر. قلت: اختلف علماؤنا في وجوب غسله، فقيل: إنما وجب لحدثٍ يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته؛ فإن الآدمي لا ينجس بالموت كرامة، إذ لو تنجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات وكان الواجب اقتصار الغسل على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة، لكن ذلك إنما كان نفيا للحرج فيما يتكرر كل يوم والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج فكذا هذا. وقال العراقيون: يجب غسله لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأن للآدمي دمًا سائلا فيتنجس بالموت قياسا على غيره، ألا ترى أنه لو مات في البئر نجّسها ولو حمله المصلي لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسا لجازت كما لو حمل محدثا. هذا حكم المسلم، وأما حكم الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة كحكم المسلم عند الجمهور خلافا لقوم. - ومنها: جواز تأخير الغسل عن الجنابة بمقدار ما لا يفوته الفرض فيه؛ لأنه - عليه السلام - ما أنكر عليه ذلك حين قال: إني جنب. - واستحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات وأحسن الصفات. - وأن العالم إذا رأى من تابعه في أمر يخافُ عليه فيه خلافَ الصواب، سأله عنه وبيّن له الصواب وحكمه. ص: وقال - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث: "إنَّ الأرض لا تنجس". ش: ذكر هذا تأييدا لتأويله الثاني في قوله - عليه السلام -: "إنَّ الماء لا ينجس".

ص: حدثنا بذلك أبو بكرة بكار بن قتيية البكراوي، قال: حدثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عقيل الدورقي، قال: حدثنا الحسن: "أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم". ش: أشار بذلك إلى ما ذكره من قوله - عليه السلام -: "إنَّ الأرض لا تنجس". وبكَّار بن قتيبة هو القاضي الزاهد المشهور، روى عنه أيضًا أبو عوانة وأبو بكر ابن خزيمة في صحيحيهما، والبكراوي نسبة إلى أبي بكرة نفيع بن الحارث الصحابي؛ لأنه من نسله ونُسِبَ هكذا ليكون فرقا بينه وبن النسبة إلى أبي بكر، فإن فيه يقال: بكريّ. والمراد بأبي داود هو الطيالسي صاحب المسند واسمه سليمان بن داود بن الجارود البصري الحافظ، روى له الجماعة البخاري مستشهدا. وأبو عقيل -بفتح العين- اسمه بَشير بن عقبة الناجي -بالنون والجيم- السامي البصري من رجال الصحيحين، والدَّوْرَقي -بفتح الدال وسكون الواو وفتح الراء وفي آخره قاف- نسبة إلى دورق من بلاد خوزستان. والحسن هو البصري الإمام المشهور. وهذا من مراسيل الحسن، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن يونس، عن الحسن قال: "جاء النبي - عليه السلام - ورهط من ثقيف، فأقيمت الصلاة، فقيل: يا نبي الله، إنَّ هؤلاء مشركون! قال: إنَّ الأرض لا ينجسها شيء". وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬2) نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 414 رقم 1620). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 260 رقم 8775).

والحديث المسند فيه ما أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: "أن وفد ثقيف قدموا على النبي - عليه السلام - فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على النبي - عليه السلام - ألَّا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبّوا ولا يستعمل عليهم من غيرهم. فقال: لا تُحشروا ولا تعشروا ولا تُجبّوا ولا يستعمل عليكم من غيركم، ولا خير في دين ليس فيه ركوع". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2). قوله: "إنَّ وفد ثقيف" الوفد جمع وافد كركب جمع راكب وهم القوم يجتمعون ويَرِدُون البلاد، وكذلك يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد وانتجاع وغير ذلك، تقول: وفد يفد فهو وافد، وأوفدته فوفد، وأوفد على الشيء فهو موفد إذا أشرف، وثقيف أبو قبيلة من هوازن واسمه فَسِيّ، والنسبة إليه ثقفي، وأصله من ثقف الرجل ثقافة أبي صار حاذقا خفيفا فهو ثَقْفٌ مثل ضخم ومنه المثاقفة، والثقاف ما تسوى به الرماح. قوله: "ضرب لهم قبة" أي نصبها وأقامها على أوتاد، وهذه المادة تستعمل لمعانٍ كثيرة، والقُبة -بضم القاف- بيت صغير مستدير من بيوت العرب قاله ابن الأثير، وقال الجوهري: هي من البناء والجمع قِبَبٌ وقبَاب. قوله: "قوم أنجاس" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم قوم أنجاس، جمع نَجَس بفتحتين. قوله: "إنَّه" أي إن الشأن. ومعنى قوله: "إنَّه ليس من أنجاس الناس على الأرض شيء" أي الأرض لا تنجس بنزول المشركين عليها، وليس المعنى أنَّهَا لا تنجس إذا أصابتها النجاسة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 444 رقم 4131). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 218 رقم 17942).

ومعني قوله: "إنما أنجاس الناس على أنفسهم" أي أنجاسهم منحصرة عليهم لا تعدو إلى غيرهم، وكان قدوم وفد ثقيف على رسول الله - عليه السلام - في رمضان سنة تسع من الهجرة وكانوا بضعة عشر رجلًا منهم كنانة بن عبد ياليل وهو رئيسهم، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد. قوله: "ألَّا يحشروا ولا يعشروا" أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم بل يأخذها في أماكنهم. قوله: "ولا يجبّوا" من التجبية -بالجيم- وهو أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود، والمراد من قولهم: "لا يجبوا" أنهم لا يصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع لقوله: في جوابهم "لا خير في دين ليس فيه ركوع" فسمى الصلاة ركوعا لأنه بعضها. ومن فوائده: جواز دخول الكافر المسجد، وهو حجة على مالك في منعه عن ذلك، واستحباب إكرام الوفد والرسل القادمين وتهيئة نزلهم والنظر في أمرهم، وعدم نجاسة الأرض بدون إصابة النجاسة الحقيقية. ص: فلم يكن معنى قوله - عليه السلام -: "المسلم لا ينجس" يريد بذلك أن بدنه لا ينجس وإنْ أصابته النجاسة وإنما أراد أنه لا ينجس بمعنى غير ذلك، وكذلك قوله: "الأرض لا تنجس" ليس يعني بذلك أنَّهَا لا تنجس وإنْ أصابتها النجاسة، وكيف يكون ذلك وقد أمر بالمكان الذي بال فيه الأعرابي من المسجد أن يصب عليه ذنوب من ماء! ش: "ليس يعني" أي ليس يقصد، من عَني يَعْني عَنْيا، وأما عَنَا يَعْنُو عُنوا فمعناه خضع وذل، وعَنِيَ يعني -من باب عَلِمَ يَعْلَمُ- عَنَاءً إذا تعب، والضمير فيه يرجع إلى النبي - عليه السلام - والواو في "وقد كان" للحال.

والأعرابي: هو الذي يسكن البادية، منسوب إلى الأعراب ساكني البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلَّا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجنس من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية أم المدن، والنسبة إليه عربي. قوله: "أن يُصَبَّ" في محل النصب و"أن" مصدرية والتقدير بأن يصب أي أمر بصب ذنوب عليه، والذنوب -بفتح الذال المعجمة- الدلو العظيمة، وقيل: لا تسمى ذنوبا إلَّا إذا كان فيها ماء. ص: حدثنا بذلك أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس اليمامي (من اليمامة) (¬1) قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك، قال: "بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوسا إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ! فقال رسول الله - عليه السلام - "دعوه". فتركوه حتى بال، ثم إنَّ رسول الله - عليه السلام - دعاه (فقال) (¬2): "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والعذرة، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن- قال عكرمة: أو كما قال رسول الله - عليه السلام - فأمر رجلًا (فجاء) (¬3) بدلو من ماء فسَنَّه عليه". ش: أي حدثنا بحديث الأعرابي المذكور أبو بكرة بكَّار القاضي. وعمر بن يونس بن القاسم الحنفي أبو حفص اليمامي، روى له الجماعة. وعكرمة بن عمار العجلي اليمامي، روي له الجماعة؛ البخاري مستشهدا. وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) ليست في "شرح معاني الآثار". (¬2) في "شرح معاني الآثار": "فقال له". (¬3) في "شرح معاني الآثار": "فجاءه".

وأخرجه البخاري (¬1) وقال: ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد [قال] (¬2): سمعت أنس بن مالك قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي - عليه السلام -، فلما قضى بوله، أمر النبي - عليه السلام - بذنوبٍ من ماء فأهريق عليه". ومسلم (¬3)، وقال: حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا عمر بن يونس الحنفي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحاق- قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - عليه السلام - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - عليه السلام -: مَهْ مَهْ قال: قال رسول الله - عليه السلام -: لا تُزْرموه ودعوه. [فتركوه] (¬4) حتى بال، ثم إنَّ رسول الله - عليه السلام - دعاه فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن- أو كما قال رسول الله - عليه السلام - قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء [بدلومن ماء فشَنَّه] (¬5) عليه". والنسائي (¬6)، وقال: أنا قتيبة، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: "أن أعرابيّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال النبي - عليه السلام -: دعوه، لا تزرموه، فلما فرغ، دعا [بدلو من ماء فصبه] (¬7) عليه". وابن ماجه (¬8)، وقال: ثنا أحمد بن عبدة، أنا حماد بن زيد، ثنا ثابت، عن أنس: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 89 رقم 219). (¬2) من "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 236 رقم 285). (¬4) في "الأصل، ك": "وتركوه" والمثبت من "صحيح مسلم". (¬5) في "الأصل، ك": "بدلوٍ فسنه". والمثبت من "صحيح مسلم". (¬6) "المجتبى" (1/ 47 رقم 53). (¬7) في "الأصل، ك": "بدلو فصب"، والمثبت من "المجتبى". (¬8) "سنن ابن ماجه" (1/ 176 رقم 528).

"أن أعرابيًّا بال في المسجد، فوثب إليه بعض القوم، فقال رسول الله - عليه السلام -: لا تُزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه". قوله: "بينما نحن" اعلم أن "بين" تُشبع فتحة نونه فتصير ألفا فيقال: "بينا"، وتارة تدخل عليه "ما" نحو "بينما" وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة، قلت: "نحن" مبتدأ و "مع رسول الله" خبره و"بينما" أضيف إلى هذه الجملة، والمعنى بينما أوقات كوننا مع رسول الله - عليه السلام - جاء أعرابي. قوله: "جلوسا" نُصبَ على الحال، جمع جالس كالركوع جمع راكع. قوله: "إذ جاء" إذ هذه للمفاجأة -نص عليه سيبويه- وهو جواب "بينما". قوله: "مَهْ" كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه اكفف لأنه زجر، فإن وُصِلَتْ نونت، فقلت: مَهٍ مَهْ، و"مَهْ" الثاني تأكيد كما تقول: "صَهْ صَهْ". قوله: "فسنه" بالسين المهملة ويروى بالمعجمة، ومعنى السَنّ -بالمهملة- الصب المتصل، ومعنى الشن -بالمعجمة- الصب المنقطع، قاله ابن الأثير. قوله: "في طائفة من المسجد" أي قطعة منه. قوله: "فأهريق" أي أريق، والهاء زائدة. قوله: "لا تزرموه" بتقديم الزاي على الراء المهملة يعني لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والدم انقطعا، وأزرمته أنا. واستنبط منه أحكام: الأول: استدل به الشافعي على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة تطهر بصب الماء عليها، وقال النووي: ولا يشترط حفرها. وقال الرافعي: إذا أصاب الأرض نجاسة يصب عليها من الماء ما يغمرها ويستهلك فيه النجاسة طهرت بعد نضوب الماء، وقبله فيه وجهان: إنْ قلنا إنَّ

الغسالة طاهرة والعصر لا يجب فنعم، وإنْ قلنا إنها نجسة والعصر واجب فلا، وعلي هذا فلا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف بل يكفي أن يغاص الماء كالثوب المُعَصَّر ولا يشترط فيه الجفاف والنضوب كالعصر، وفيه وجه أن يكون الماء المصبوب سبعة أضعاف البول، ووجه آخر يجب أن يصُب على بول الواحد ذنوب وعلي بول الإثنين ذنوبان وعلي هذا أَبدا. انتهى. وقال أصحابنا: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة، فإن كانت الأرض رخوة صُبَّ عليها الماء حتى يتسفَّل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفَّل الماء يحكم بطهارتها، ولا يعتبر فيه العدد، وإنما هو على اجتهاده وما في غالب ظنه أنَّهَا طهرت ويقوم التسفّل في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر وعلي قياس ظاهر الرواية: يصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل في كل مرة وإنْ كانت الأرض صلبة، فإن كانت صعودا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل إلى الحفيرة ثم تكبس الحفيرة، وإنْ كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل بل تحفر، وعن أبي حنيفة: لا تطهير الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب. ودليلنا على الحفر ما رواه الدارقطني (¬1) وقال: ثنا عبد الوهاب بن عيسى ابن أبي حيّة، ثنا أبو هشام الرفاعي محمَّد بن يزيد، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله - عليه السلام - بمكانه فاحتفر فصب عليه دلو من ماء فقال الأعرابي: يا رسول الله، المرء يحب القوم ولا يعمل بعملهم. فقال رسول الله - عليه السلام -: المرء مع من أحب". ورواه أبو يعلى أيضًا (¬2). ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 131 رقم 2). (¬2) "مسند أبي يعلى" (6/ 310 رقم 3626).

وما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس قال: "بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه، فقال النبي - عليه السلام -: احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوا من ماء، علّموا ويسّروا ولا تعسروا". والقياس أيضًا يقتضي هذا الحكم لأن الغسالة نجسة فلا تطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب. فإنيْ قيل: قد استدللتم بالأثرين الأول مرفوع ضعيف؛ لأن سمعان بن مالك ليس بالقوي، وقال ابن خراش: "مجهول". والثاني مرسل وتركتم الحديث الصحيح! قلت: لا نسلم ذلك فإنا قد عملنا بالكل فعملنا بالصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض والإهمال للبعض. فإن قلت: كيف تحملون الأرض فيه على الصلبة وقد ورد الأمر بالحفر فدل على أنَّهَا كانت رخوة؟! قلت: محتمل أن تكون قضيتين، في الأولي كانت الأرض صلبة، وفي الأخرى كانت رخوة. الثاني: استدل به بعض الشافعية على أن الماء متعين في إزالة النجاسة ومنعوا غيره من المائعات المزيلة، وهذا استدلال فاسد؛ لأن ذكر الماء هَا هنا لا يدل على نفي غيره؛ لأن الواجب هو الإزالة، والماء مزيل بطبعه، فيقاس عليه كل ما كان مزيلا؛ لوجود الجامع، على أن هذا الاستدلال يشبه مفهوم مخالفة وهو ليس بحجة. الثالث: استدلت به جماعة من الشافعية وغيرهم أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة وذلك لأن الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض ويصل إلى محل لم يصبه البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة لكان الصب ناشرا ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 424 رقم 1659).

للنجاسة وذلك خلاف مقصود التطهير وسواء أكانت النجاسة على الأرض أم غيرها لكن الحنابلة فرقوا بين الأرض وغيرها ويقال إنَّه رواية واحدة عند الشافعية إنْ كانت الأرض، وإنْ كان غيرها فوجهان. قلت: روي عن أبي حنيفة أنَّهَا بعد صب الماء عليها لا تطهر حتى تدلك وتشعر بصوف أوخرقة وفُعِلَ ذلك ثلاث مرات، وإنْ لم يفعل ذلك لكن صب عليها ماء كثيرا حتى عرف أنه أزال النجاسة ولم يوجد فيه لون ولا ريح، ثم ترك حتى نشفت كانت طاهرة. الرابع: استدل به بعض الشافعية أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب، وهذا استدلال فاسد وقياس بالفارق؛ لأن الثوب ينعصر بالعصر بخلاف الأرض. الخامس: استدل به البعض أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء لا تطهر، وهو محكي عن أبي قلابة أيضًا، وهذا أيضًا فاسد؛ لأن ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلي تطهير المسجد، وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه. السادس: فيه دليل على وجوب صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار والنجاسات، ألا ترى إلى قوله: - عليه السلام -: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والعذرة". السابع: فيه دليل على أن المساجد لا يجوز فيها إلَّا ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، فقوله: "وإنما هي لذكر الله" من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ الذكر عام يتناول قراءة القرآن وقراءة العلم ووعظ الناس، والصلاة أيضًا عام يتناول المكتوبة والنافلة، ولكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء ككلام الدنيا والضحك واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلًا بأمر من أمور الدنيا ينبغي ألا يباح، وهو قول بعض الشافعية، والصحيح أن الجلوس فيه لعبادة أو قراءة علم أو درس أو سماع موعظة أو

انتظار صلاة أو نحو ذلك مستحب ويثاب على ذلك، وإنْ لم يكن لشيء من ذلك كان مباحا وتركه أولي، وأما النوم فيه، فقد نص الشافعي في الأم أنه يجوز، وقال ابن المنذر: رخص في النوم في المسجد ابن المسيب والحسن وعطاء والشافعي. وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقدا. وروي عنه أنه قال: إنْ كان ينام فيه لصلاة فلا بأس به. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد: إنْ كان مسافرا أو شبهه فلا بأس وإنْ اتخذه مقيلا ومبيتا فلا. وهو قول إسحاق، وقال اليعمري: وحجة من أجازه: نوم علي بن أبي طالب وابن عمر واهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنيين، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية، وهي أخبار صحاح مشهورة، وأما الوضوء فيه فقال ابن المنذر: أباح كل من يُحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلَّا أن يتوضأ في مكان يبلّه ويتأذى الناس به فإنه مكروه. وقال ابن بطال: هذا منقول عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والنخعي وابن القاسم صاحب مالك، وذكر عن ابن سيرين وسحنون أنهما كرهاه تنزيهًا للمسجد. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج قال: "قال إنسان لعطاء: يخرج إنسان فيبول ثم يأتي زمزم فيتوضأ؟ قال: لا بأس بذلك فليدخل إنْ شاء فليتوضأ في زمزم، الدين سمح سهل. قال له إنسان: إني أرى أناسا يتوضئون في المسجد. قال: أجل ليس بذاك بأس. قلت: فتوضأ أنت فيه؟ قال: نعم. قلت: تتمضمض وتستنشق؟ قال: نعم، وأسبغ وضوئي في مسجد مكة. وروى عبد الرزاق (¬2): أيضًا، عن الثوري، قال: أخبرني أبو هارون العبدى: "أنه رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - يتوضأ في المسجد". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 418 رقم 1637). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 419 رقم 1641).

وقال بعض أصحابنا: إن كان فيه موضع معد للوضوء فلا بأس وإلَّا فلا. وفي "شرح الترمذي" لليعمري: إذا افتصد في المسجد فإن كان في غير إناء فحرام وإنْ كان في إناء فمكروه، وإنْ بال في المسجد في إناء فوجهان أصحهما أنه حرام، والثاني أنه مكروه، ويجوز الاستلقاء في المسجد ومدّ الرجل وتشبيك الأصابع للأحاديث الثابتة في ذلك. الثامن: فيه مبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. التاسع: فيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة النبي - عليه السلام - من غير مراجعة له. فإن قلت: أليس هذا من باب التقدّم بين يدي الله ورسوله؟ قلت: لا؛ لأن ذلك تقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار فأمر الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك، وإنْ لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن فدلّ على أنه لا يشترط الإذن الخاص ويُكتفي بالعام. العاشر: فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما فإن البول فيه مفسدة، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، فدفع أعظمهما أيسر المفسدتين، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصلت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. فإن قيل: ما الحكمة في نهيه - عليه السلام - إياهم عن الأعرابي حين أسرعوا إليه؟ قلت: مراعاة حق البائل لئلَّا يلحقه الضرر ومراعاة حق المسجد لئلَّا ينتشر البول عند القطع. الحادي عشر: فيه مراعاة التيسير على الجاهل والتألّف للقلوب. الثاني عشر: فيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأن الأعرابي حين فرغ، أمر بصب الماء. الثالث عشر: في رواية الترمذي (¬1): "أهريقوا عليه سجلا من ماء -أو دلوا من ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 275 رقم 147).

ماء" على ما نذكرها: اعتبار الأداء باللفظ؛ وإنْ كان الجمهور على عدم اشتراطه، وأن المعنى كافٍ وتحمل "أو" هَا هنا على الشك، ولا معني فيه للتنويع، ولا للتخيير، ولا للعطف؛ فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى لاقتصر على أحدهما فلما تردد في التفرقة بين الدلو والسجل وهما بمعنى؛ عُلم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ. قاله الحافظ القشيري. ولقائل أن يقول: إنما يتم هذا لو اتحد المعني في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد؛ فالسجل الدلو الضخمة المملوءة ولا يقال لها فارغة: "سجل" فافهم. ص: (وكما) (¬1) حدثنا بذلك علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى (بن يحيى) (1)، قال: أخبرني عبد العزيز بن محمَّد، عن يحيى بن سعيد أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يَذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه غير أنه لم يذكر قوله: "إنَّ هذه المساجد ... " إلى آخر الحديث. ش: أي وكما حدثنا بحديث الأعرابي المذكور علي بن شيبة بن الصلت بن عصفور أبو الحسن البصري؛ وفي بعض النسخ: "وكما أخبرنا بذلك". ويحيي بن يحيى بن بكر أبو زكريا النيسابوري، شيخ البخاري ومسلم. وعبد العزيز بن محمَّد بن عبيد الدراوردي أبو محمَّد الجهني مولاهم المدني، روى له الجماعة. ويحيي بن سعيد بن قيس الأنصاري قاضي المدينة، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث يحيى بن سعيد أنَّه سمع أنسا قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى حاجته قام إلى ناحية فبال، فصاح به الناس فكفَّهم عنه ثم قال: صبّوا عليه دلوا من ماء". ¬

_ (¬1) ليست في "شرح معاني الآثار". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 427 رقم 4033).

قوله: "يَذكر" جملة وقعت حالا عن أنس. قوله: "نحوه" أي نحو الحديث المذكور. قوله: "غير أنه" استثناء أي غير أن يحيى بن سعيد لم يذكر عن أنس في هذه الرواية قول النبي - رضي الله عنه - في الرواية السابقة: "إنَّ هذه المساجد" إلى آخره. ص: ورَوَى طاوس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمكانه أن يحفر". ش: طاوس بن كيسان اليماني التابعي الكبير الثقة المأمون، وهذا مرسل. ص: حدثنا بذلك أبو بكرة بكار بن قتيبة البكراوي، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بذلك. ش: أي حدثنا بما رواه طاوس: بكَّار القاضي، والكل رجال الصحيح ما خلا بكّارا. و"بشّار" على وزن فعال بالتشديد، من البشارة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس قال: "بال أعرابي في المسجد، فأرادوا أن يضربوه، فقال النبي - عليه السلام -: احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوا من ماء، علّموا ويسّروا ولا تعسّروا". ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أيضًا. ش: أي بالحفر كما في رواية طاوس. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن سمعان بن مالك الأسدي، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "بال أعرابي في المسجد، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فصُبَّ عليه دلو من ماء ثم أمر به فحفر مكانه". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 424 رقم 1659).

ش: أي حدثنا بما روي عن ابن مسعود: فهد بن سليمان الكوفي نزيل مصر. ويحيي بن عبد الحميد الكوفي، وثقه بعضهم وكذبه آخرون، والحماني -بكسر الحاء- نسبة إلى حِمّان قبيلة من تميم. وأبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحناط -بالنون- مختلف في اسمه فقيل: محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: اسمه كنيته، وقيل غير ذلك. وعياش بالياء المشددة آخر الحروف وبالشين المعجمة، وهو من رجال الستة. وسمعان بن مالك ضعيف. وأبو وائل اسمه شقيق بن سلمة الأسدي، روى له الجماعة. وأخرجه الدراقطني بأتم منه، وقد ذكرناه عن قريب (¬1). فإن قلت: هذا الحديث ضعيف، فكيف يحتجون به في وجوب الحفر؟ قلت: هو عند الطحاوي غير ضعيف، ولئن سلمنا ذلك فإن الحفر قد روي بطريقين مسندين وطريقين مرسلين. فأما طريقا الإسناد ففي رواية الدارقطني الأولى (¬2): عن سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله. والثانية (¬3): عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس: "أن أعرابيًا بال في المسجد، فقال - عليه السلام -: احفروا مكانه ثم صُبّوا عليه ذنوبا من ماء". وأما طريقا الإرسال: فأحداهما: ما رواه أبو داود (¬4) من حديث عبد الله بن معقل بن مقُرّن قال: "قام أعرابي إلى زاوية من زوايا المسجد فاكتشف فبال، فقال ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 131 رقم 2). (¬3) انظر "تلخيص الحبير" (1/ 59) بتحقيقنا. (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 103 رقم 381)، واللفظ للدارقطني (1/ 132).

النبي - عليه السلام -: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء" رواه عن موسى بن إسماعيل، نا جرير -يعني ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث، عن عبد الله بن معقل به، وقال أبو داود: روي متصلًا ولا يصح (¬1). والثانية: ما رواه عبد الرزاق (¬2) من حديث عمرو بن دينار، عن طاوس، وقد مرَّ عن قريب. واعلم أن حديث الأعرابي رواه خمسة من الصحابة وهم أنس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وواثلة بن الأسقع - رضي الله عنهم - وقد أخرج الطحاوي حديثي أنس وابن مسعود وقد ذكرناهما مع بيان من أخرجهما أيضًا من الأئمة. وأما حديث عبدالله بن عباس فرواه الطبراني في "الكبير" (¬3) وأبو يعلى في "مسنده" (¬4) والبزار في "مسنده" (¬5) بإسناد رجاله رجال "الصحيح" إلى ابن عباس أنه قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فبايعه ثم انصرف فقام (ففشخ) (¬6) فبال فهمَّ الناسُ به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تقطعوا على الرجل بوله. ثم دعا به فقال: ألست برجل مسلم؟ قال: بلى. قال: فما حملك على أن بُلتَ في المسجد؟ قال: والذي بعثك بالحق ما ظننت إلَّا أنه صعيد من الصعدات فبلت فيه. فأمر النبي - عليه السلام - بذنوب من ماء فصب على بوله". ¬

_ (¬1) لفظ أبي داود في "السنن": وهو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 424 رقم 1660). (¬3) "معجم الطبراني الكبير" (11/ 20 رقم 11552). (¬4) "مسند أبي يعلى" (4/ 431 رقم 2557). (¬5) في "الأصل، ك": في "سننه"، وقد ذكره الهيثمي في "كشف الأستار" (1/ 207 رقم 409)، والحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" (1/ 212) وقال: قال الشيخ: -أي الهيثمي- رجاله رجال "الصحيح" ثم تعقبه بقوله: لكن أبو أويس ضعيف؛ إنما أخرج له مسلم وحده متابعة. (¬6) كذا في "الأصل، ك":" ففشخ" آخره خاء معجمة قبلها شين معجمة أيضًا، وعند الطبراني: "ففحج" بحاء مهملة بعدها جيم، وعند أبي يعلى: "ففشج" بشين معجمة بعدها جيم.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة ما خلا مسلما. فقال البخاري (¬1): أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي - عليه السلام -: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء -أو ذنوبا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". وقال أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وابن عبدة في آخرين -وهذا لفظ ابن عبدة- قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة: "أن أعرابيّا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي - عليه السلام -: لقد تحجّرت واسعا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع [إليه] (¬3) الناس، فنهاهم النبي - عليه السلام - وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين؛ صُبّوا عليه سجلا من ماء- أو قال: ذنوبا من ماء". وقال الترمذي (¬4): نا ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: نا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: "دخل أعرابيّ المسجد والنبي - عليه السلام - جالس فصلي فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فالتفت إليه النبي - عليه السلام - فقال: لقد تحجرت واسعا. فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناسُ، فقال النبي - عليه السلام -: أهريقوا عليه سجلا من ماء -أو دلوا من ماء- ثم قال: إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين". وقال النسائي (¬5): أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، عن عمر بن عبد الواحد، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 89 رقم 217). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 103 رقم 380). (¬3) في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 275 رقم 147). (¬5) "المجتبى" (1/ 48 رقم 56)، و (1/ 175 رقم 330).

الأوزاعي، عن محمَّد بن الوليد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: دعوه وأهريقوا على بوله دلوا من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسّرين". وقال ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا علي بن مسهر، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "دخل أعرابيّ المسجد ورسول الله - عليه السلام - جالس، فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا. فضحك رسول الله - عليه السلام - وقال: لقد احتظرت واسعا. ثم وليّ حتى إذا كان في ناحية المسجد (فثني) (¬2) يبول، فقال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليَّ -بأبي وأمي- صلى الله عليه وسلم - فلم يؤنب ولم يسبَّ فقال: إنَّ هذا المسجد لا يبُال فيه، وإنما بني لذكر الله وللصلاة، ثم أمر بسجل من ماء فأفرغ على بوله". وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه ابن ماجه (¬3) وقال: نا أبو حاتم محمَّد بن عبد الله الأنصاري وهو من حديث أبي بكر بن الأصفهاني، نا محمَّد بن يحيى، نا محمَّد بن عبد الله، عن عبيد الله الهذلي- قال محمَّد بن يحيى: هو عندنا ابن أبي جميلة - أنا أبو المليح الهذلي، عن واثلة بن الأسقع قال: "جاء أعرابي إلى النبي - عليه السلام - فقال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتك إيانا أحدا. فقال: لقد حظرت واسعا، ويحك -أو ويلك- قال: (فثني) (2) يبول، [فقال أصحاب النبي - عليه السلام -: مَهْ] (¬4) فقال رسول الله - عليه السلام -: دعوه (فدعا) (¬5) بسجل من ماء فصبه عليه". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 176 رقم 529). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجه": "فشج". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 176 رقم 530). (¬4) كذا في "سنن ابن ماجه"، وفي "الأصل، ك": "فقام أصحاب النبي - عليه السلام -". (¬5) كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن ابن ماجه": "ثم دعا".

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكأن معنى قوله: "إنَّ الأرض لا تنجس" أي أنَّهَا لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها؛ لا أنه يريد أنَّهَا غير نجسة في حال كون النجاسة فيها، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة: "إنَّ الماء لا ينجس" ليس هو على كون النجاسة فيها إنما هو على حال عدم النجاسة فيها، فهذا وجه قوله - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة: "الماء لا ينجسه شيء". ش: لما أوّل قوله - عليه السلام -: "الماء لا ينجسه شيء" بالتأويل المذكور، واستدل عليه بالأحاديث المذكورة؛ أوضحه بقوله: "فكان معنى قوله"أي النبي - عليه السلام -؛ فلذلك ذكره بالفاء التفصيلية. ص: وقد رأيناه بَيّن ذلك في غير هذا الحديث. ش: أي قد رأينا النبي - عليه السلام - بَيّن ذلك ما ذكرنا من التأويل وأوضحه في غير حديث بئر بضاعة، و"رأي" هَا هنا بمعنى علم؛ فلذلك تعدى إلى مفعولين كما في قوله: رأيت الله أكبر كل شيء .... محاولة وأكثره جنودا ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري وعلي بن شيبة بن الصلت البغدادي، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، قال: سمعت ابن عون يحدث، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نَهَى -أو نُهي- أن يبول الرجل في الماء الدائم أو الركد ثم يتوضأ منه أو يغتسل فيه". ش: رجاله كلهم ثقات، وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري التابعي الثقة الزاهد. وأخرجه الطبراني (¬1) بهذا الطريق من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ قال: سمعت ابن عون يحدث، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "نهى -أو نُهي- أن يبول ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (3/ 254 رقم 3069).

الرجل ... " إلى آخره، رواه عن بشر بن موسى، عنه، وقال: لم يجوِّدْه عن ابن عون غير المقرئ. وأخرجه الجماعة أيضًا، فقال البخاري (¬1): أنا أبو اليمان، أنا شعيب، أنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "نحن الآخرون السابقون". وبإسناده، قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه". وقال مسلم (¬2): حدثني زهير بن حرب، قال: نا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه". وقال أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة في حديث هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه". وقال الترمذي (¬4): حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه". وقال النسائي (¬5): أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عيسى بن يونس، قال: ثنا عوف، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 94 رقم 236). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 235 رقم 282). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 18 رقم 69). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 100 رقم 68). (¬5) "المجتبى" (1/ 49 رقم 57).

وقال ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد". قوله: "نَهَى" على صيغة المعلوم، وقوله: "أو نُهِي" علي صيغة المجهول، وحرف "أو" يدل على تشكك الراوي، فالمعني في الأول: نهى رسول الله - عليه السلام - ويكون محل "أن يبول الرجل" نصبا على المفعولية. وفي الثاني: أتى النهي في بول الرجل في الماء الدائم ويكون محل "أن يبول" رفعا لاستناد "نهي" إليه، و"أن" في الوجهين مصدرية. قوله: "الدائم" أي الثابت الواقف الذي لا يجري كما جاء في بعض الألفاظ: "في الماء الدائم الذي لا يجري" (¬2) وهو تفسير للدائم وأيضًاح لمعناه. قوله: "أو الراكد" شك من الراوي، من ركد إذا ثبت، قال الجوهري: ركد الماء ركودا سكن، وكل ثابت في مكان راكد. ثم اعلم أن قوله: و"نهى" حكايته النهي كما أن قوله: "أمر" حكاية الأمر، واختلفوا فيما إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو السُّنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الأخبار بأمر رسول الله - عليه السلام - أو أنه سُنَّة رسول الله - عليه السلام -. وقال الشافعي في القديم: "ينصرف إلى ذلك عند الإطلاق"، وفي الجديد قال: "لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان؛ لاحتمال أن يكون المراد سُنّه البلدان أو الرؤساء" حتى قال في كل موضع قال: السُّنة ببلدنا كذا، فإنما أراد سليمان بن بلال وكان عريفا بالمدينة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 124 رقم 344). (¬2) وهو لفظ رواية البخاري ومسلم السابقتين.

واستنبط من الحديث المذكور أحكام: الأول: احتج به أصحابنا أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به؛ قليلًا كان أو كثيرا. وعلي أن القلتين تحمل النجاسة لأن الحديث مطلق؛ فبإطلاقه يتناول الماء القليل والكثير والقلتين والأكثر، ولو قلنا: إن القلتين لا تحمل النجاسة لم يكن للنهي فائدة؛ على أن هذا أصح من حديث القلتين لما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى ومذهب مالك أن الماء القليل لا يتنجس إلَّا بتغير أحد أوصافه، لقوله: - عليه السلام -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬1) ومذهب الشافعي وأحمد أن الماء إذا كان قلتين لا يتنجس إلَّا بالتغير لحديث القلتين، والجواب أن حديث مالك ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا كما قد قررناه، وحديث الشافعي ضعيف من جهة كونه مضطربا سندا ومتنا على ما يجيء بيانه أو مؤُوَّل على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. فإن قلت: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يجوز تخصيصه ببئر بضاعة. قلت: قد خُصَّ بدليل يساويه وهو حديث هذا الباب. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬2): ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في المذهب أنه ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد، ورُوي عن أحمد أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغيير قليله وكثيره، وروي مثل ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - قالوا: "الماء لا ينجس" ورُوي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وابن أبي ليلي ومالك والأوزاعي ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر، وهو قول للشافعي. ثم قال: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "المغني" (1/ 31).

ودليلنا حديث القلتين وحديث بئر بضاعة، ثم قال: "وهذان الحديثان نص في خلاف ما ذهب إليه الحنفية"، وقال أيضًا: بئر بضاعة لا يبلغ إلى الحد الذي يمنع التنجس عندهم. قلت: لا نسلم أن هذين الحديثين نص في خلاف مذهبنا، أما حديث القلتين فلأنه ضعيف -على ما يأتي- والعمل بالصحيح المتفق عليه أقوى وأقرب، وأما حديث بئر بضاعة فإنا نعمل به لأن ماءها كان جاريا على ما ذكرنا، وقوله: "وبئر بضاعة لا يبلغ ... " إلى آخره غير صحيح؛ لأن البيهقي روى عن الشافعي أن بئر بضاعة كانت كثير الماء واسعة، وكان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما. فإن قيل: حديثكم عام في كل ماءٍ وحديثهم خاص فيما بلغ القلتين، وتقديم الخاص على العام متعين؛ كيف وحديثكم لابد من تخصيصه، فإنكم وافقتمونا على تخصيص الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع وإذا لم يكن بد من التخصيص فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي من غير أصل يرجع إليه ولا دليل يعتمد عليه. قلت: لا نسلم أن تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب أبي حنيفة ترجيح العام على الخاص في العمل به كما في بئر الناضح، فإنه رجح قوله - عليه السلام -: "من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا" (¬1) على الخاص الوارد في بئر الناضح أنه ستون ذراعا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2/ 831 رقم 2486) من حديث عبد الله بن مغفل، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 85): هذا حديث ضعيف من الطريقين معًا؛ لأن مدار الحديث فيه على إسماعيل بن مسلم المكي، وقد تركه ابن مهدي وابن المبارك ويحيى القطان والنسائي، وضعفه البخاري وابن الجارود والعقيلي وغيرهم. (¬2) ذكره في "الهداية" بلفظ: "حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم البئر العطن أربعون ذراعًا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعًا". =

ورجح قوله - عليه السلام -: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" (¬1) على الخاص الوارد بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬2) ونسخ الخاص بالعام أيضًا كما فعله في بول ما يؤكل لحمه فإنه جعل الخاص من حديث العرنيين (¬3) فيه منسوخا بالعام وهو قوله - عليه السلام -: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" (¬4). قلت: "فالتخصيص بالحديث أولى من التخصيص بالرأي"، إنما يكون إذا كان الحديث المخصّص غير مخالف للإجماع، وحديث القلتيين خبر آحاد ورد مخالفا لإجماع الصحابة فَيُرَدُّ. بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله. ولم يظهر أثره في الماء وكان الماء أكثر من قلتين وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعا (¬5)، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يُردُّ، يدل عليه أن علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود: لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن ¬

_ = قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" (2/ 245): لم أجده هكذا. وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 292): قلت غريب. وقال ابن حزم في "المحلى" (8/ 239): ولا أعلم لأبي حنيفة سلفًا في قوله في بئر الناضح. (¬1) ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 384) وقال: غريب بهذا اللفظ، وبمعناه ما أخرجه البخاري، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال رسول ال - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر". (¬2) أخرجه البخاري (2/ 529 رقم 1390)، ومسلم (2/ 673 رقم 979) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (1/ 92 رقم 231)، ومسلم (3/ 1296 رقم 1671) كلاهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه الدارقطني (1/ 128 رقم 7) من حديث أبي هريرة، وقال: الصواب مرسل، وأخرجه (1/ 127 رقم 2) من حديث أنس، وقال أيضًا: المحفوظ مرسل. (¬5) راجع له "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (1/ 111)، و"المحلى" لابن حزم (11/ 363)، و"سنن البيهقي الكبري" (1/ 268).

النبي - عليه السلام - في تقدير الماء. وقال صاحب "البدائع": ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية. الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أما البول فيه فينجسّه فكذلك الغسل فيه، وفي دلالة القِران بين الشيئن على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك وخالفهما غيرهما. الثالث: أن النووي زعم أن النهي المذكور فيه للتحريم في بعض المياه، والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث ولكن الأولى اجتنابه، وإنْ كان قليلًا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا: يكره، والمختار أنه يحرم؛ لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وإنْ كان كثيرا راكدا فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدا، وأما الماء الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه وأقبح، وكذا إذا بال في إناء ثم صبّه في الماء. قلت: زَعْمُ النووي من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول. الرابع: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المُستَبْحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر كما قلناه، أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي، أو بالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك. الخامس: أنَّ من تمسك بالعمومات الواردة الدالة على طهورية الماء الذي لم يتغير وصف من أوصافه الثلاثة يحمل النهي هَا هنا على الكراهة فيما لم يتغير، وهو خلاف المشهور في النهي، ومن قال بتنجيس ما دون القلتين من الماء وإنْ لم يتغير -من

أصحاب الشافعي وغيره- فإنما أخذه من مفهوم حديث القلتين، وفي تخصيص العموم بالمفهوم تنازع بين أهل الأصول فبعضهم يقول: لا نعلم خلافا بين القائلين بالمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم به، وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أم من قبيل مفهوم المخالفة، وغيره يقول: إذا قلنا: المفهوم حجة فالأشبه أنه يجوز تخصيص العام به؛ لأن المفهوم أضعف دلالة من المنطوق فكان التخصيص تقديما للأضعف على الأقوى وذلك غير جائز. السادس: أن المذكور فيه البول فيلحق به التغوط قياسا، والمذكور فيه الغسل من الجنابة فيلحق به اغتسال الحائض والنفساء قياسا، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما. فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس ممن زعم أن العلة الاستعمال فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الذي بين أبي يوسف ومحمد في كون الماء مستعملا. السابع: فيه دلالة على تنجيس البول. ص: وحدثنا علي بن معبد بن نوح البغدادي، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه". ش: هذا طريق آخر، ورجاله ثقات، وأخرج مسلم نحوه (¬1)، وقد ذكرناه. قوله: "لا يبولن" نهي مؤكد بالنون الثقيلة وأصله "لا يبل أحدكم" فلما دخلت النون عادت الواو المحذوفة. قوله: "الذي لا يجري" صفة كاشفة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

قوله: "ثم يغتسل فيمه برفع اللام؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي ثم هو يغتسل فيه، ويجوز الجزم عطفا على محل لا يبولن؛ لأنه مجزوم، وعدم ظهور الجزم لأجل النون، وقد قيل: يجوز النصب بإضمار "أن" ويعطي لـ"ثم" حكم واو الجمع. قلت: هذا فاسد؛ لأنه يقتضي أن يكون المنهي عنه هو الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقل به أحد، بل البول فيه منهيّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أم منه أم لا، وقال القرطبي في "المفهم": الصحيح "يغتسلُ" برفع اللام، ولا يجوز نصبها إذ لا تنتصب بإضمار"أن" بعد "ثم". وخالفه في ذلك ابن مالك وأجازه بالوجه الذي ذكرناه، وقال النووي: الرواية "يغتسل" بالرفع. وقال القرطبي: ومثل هذا قوله - عليه السلام -: "لا يضرب أحدكم امرأته ضربَ الأَمة ثم يُضاجعُها" (¬1) برفع "يُضاجعُها". ولم يروه أحد بالجزم، والتقدير: ثم هو يضاجعها، وثم هو يغتسل. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أبو موسى الصدفي، قال: أخبرني أنس بن عياض الليثي، عن الحارث بن أبي ذُبَاب -وهو رجل من الأزد- عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب". ش: هذا طريق آخر أيضًا، ورجاله ثقات. ويونس بن عبد الأعلي شيخ مسلم أيضًا والنسائي وابن ماجه، وقد شاركهم الطحاوي في الرواية عنه. وأنس بن عياض شيخ الشافعي وأحمد. والحارث بن أبي ذباب هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد -وقيل: المغيرة- بن أبي ذباب الدوسي المدني. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/ 2246 رقم 5695)، ومسلم (4/ 2191 رقم 2855) كلاهما من حديث عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - بنحوه.

وأخرج البيهقي نحوه إسنادا ومتنا (¬1). قوله: "أو يشرب" أي منه. ص: حدثنا يونس قال: أخبرني عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله الأشج حدثه، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة، حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جُنب. فقال: كيف نفعل يا أبا هريرة؟ فقال: تتناوله تناولا". ش: رجال هذا كلهم رجال الصحيح، فنصفه مصري، ونصفه مدني. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2) عن النيسابوري عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره نحوه سواء بسواء. وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (¬3): عن عبد الله بن مسلم، عن حرملة ابن يحيى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحوه (¬4). قوله: "لا يغتسلْ" نهي؛ فلذلك جزم "اللام"، ويجوز أن يكون نفيا؛ فحينئذ تضم اللام. قوله: "وهو جنب" جملة حالية. قوله: "كيف نفعل" بالنون المصدرة للجماعة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 239 رقم 1072) من طريق ابن وهب عن أنس بن عياض به. وأخرجه ابن خزيمة (1/ 50 رقم 94)، وعنه ابن حبان في "صحيحه" (4/ 67 رقم 1256) من نفس طريق المصنف، فروياه عن يونس بن عبد الأعلى به. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 51 رقم 1). (¬3) "صحيح ابن حبان" (4/ 62 رقم 1252). (¬4) فات المصنف أن يعزوه إلى "صحيح مسلم" وهو أولى بالعزو، فقد رواه مسلم من طريق هارون بن سعيد الأيلي، وأبي طاهر، وأحمد بن عيسى، جميعًا عن ابن وهب به سواءً بسواء (1/ 236 رقم 283)، وهو عند ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 49 رقم 93) من طريق يونس به.

قوله: "تتناوله" بتاء الخطاب، و"تناولا" نُصِبَ على المصدرية. واستدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل؛ لأنه نهي عن الاغتسال في الماء الدائم في حالة الجنابة؛ فلو لم يتنجس الماء بذلك لم يكن للنهي فائدة. ومن فوائده: جواز إدخال الجنب يده في الماء الدائم ليأخذ منه شيئا للاغتسال، وكذا حكم الإناء؛ لأن في منع هذا حرجا عظيما؛ لأن كل أحد لا يجد إناء يأخذ الماء به، ولو أدخل رجله لفسد الماء لعدم الحاجة إليه، وعن أبي يوسف: لو أدخل رجله في البئر لا يفسد؛ لأنه يحتاج إلى ذلك لطلب الدلو. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه. ش: ابن أبي داود هو إبراهيم، وقد مر غير مرة. وسعيد بن الحكم المصري، روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن أبي الزناد -بالزاي والنون- أبو محمَّد القرشي المدني، استشهد به البخاري، واحتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه. واسم أبي عبد الرحمن: عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، روى له الجماعة. وموسى بن أبي عثمان التبان مولى المغيرة بن شعبة، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. ولم يعرف اسم أبي موسى المذكور، روى له الترمذي والنسائي. ص: وكما حدثنا حسين بن نصر بن المعارك البغدادي، قال: ثنا محمَّد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد ... فذكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان آخران للطريق السابق، فحصل لحديث أبي الزناد ثلاث طرق. وحسن بن نصر ذكره ابن يونس فيمن قدم مصر وقال: كان ثقة ثبتا. ومحمد بن يوسف الفريابي روى له الجماعة، والفِريابي -بكسر الفاء- نسبة إلى فارياب، بليدة بنواحي خراسان. وسفيان هو الثوري الإمام المشهور. وفهد هو ابن سليمان. وأبو نعيم هو الفضل بن دكين شيخ البخاري وغيره. واعلم أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر يكتب عند الانتقال من إسناد إلى إسناد آخر "حاء" مهملة مفردة؛ دلالة على التحويل والانتقال، ولذلك كَتَبَ "ح" بعد قوله: "ثنا سفيان ح وحدثنا فهد". ص: حدثنا الربيع بين سليمان المؤذن قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عبد الله ابن لهيعة، قال: ثنا عبد الرحمن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه". ش: هذا طريق آخر. والربيع بين سليمان بن عبد الجبار المرادي، راوي كتب الأمهات عن الشافعي، وثقه الخطيب. وأسد بن موسى بن إبراهيم الأموي المصري، وثقه ابن حبان وغيره. وعبد الله بن لَهِيعة -بفتح اللام وكسر الهاء- قاضي مصر قالوا: فيه مقال. ولكنه كبير، وثقه أحمد ورضي به الطحاوي (¬1). ¬

_ (¬1) راجع ترجمته في "تهذيب الكمال" (15/ 487 - 503) و"ميزان الاعتدال" (2/ 475 - 483). وقال الذهبي في "السير" (8/ 14): لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معًا، كما كان الإِمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم =

وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج القرشي، روي له الجماعة. ص: وكما حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أنا حيوة بن شريح، قال: سمعت ابن عجلان يحدث، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ولا يغتسل فيه". ش: هذا طريق آخر رجاله كلهم ثقات. والربيع هذا غير الربيع المذكور في الحديث السابق فإن ذاك مرادي وهذا جيزي نسبة إلى جيزة مصر مقابل المقياس وكلاهما من أصحاب الشافعي. وحيوة بن شريح التميمي المصري. وهذا الإسناد نصفه مصري ونصفه مدني. قوله: "ولا يغتسلُ" برفع اللام، عطف جملة على جملة لا عطف فعل على فعل، إذ لو كان ذاك لقيل: ولا يغتسلن -بالنون- وهذه الرواية بحرف "في" والتي قبلها بحرف "من" فافهم. ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ العُصْفري، قال: حدثني إدريس بن يحيى، قال: ثنا عبد الله بن عياش، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبى - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "ولا يغتسل فيه جنب". ش: هذا إسناد آخر في الحديث السابق، وفيه زيادة لفظة: "جُنب" بعد قوله: "ولا يغتسل فيه" ورجاله ثقات. وإبراهيم بن منقذ من أصحاب عبد الله بن وهب. ¬

_ =اليمن، وشعبة والثوري عالمي العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير؛ فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم، وبعض الحفاظ يروي حديثه، ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم، لا في الأصول. وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنه عدل في نفسه.

وإدريس بن يحيى بن إدريس بن يحيى الخولاني. وعبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- القِتْبَاني أبو حفص المصري، روي له مسلم. والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز. ص: وحدثنا محمَّد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -: "أنه نهى أن يبال في الماء الركد ثم يتوضأ فيه". ش: محمَّد بن الحجاج ذكره ابن يونس وقال: محمَّد بن الحجاج بن سليمان الجوهري مولى حضرموت، يكني أبا جعفر، كان صالحا. وعلي بن معبد بن شداد العبدي أبو الحسن الرَّقي نزيل مصر، وثقه أبو حاتم، وروي له الترمذي والنسائي. وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، الإِمام المشهور أكبر أصحاب أبي حنيفة، وثقه ابن حبان وغيره. وابن أبي ليلي هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري قاضي الكوفة، روى له الأربعة، وفيه مقال. وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، روي له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه نهى أن يبال في الماء الراكد". وابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن رمح، عن الليث ... إلي آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 235 رقم 281). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 124 رقم 343).

والطبراني في "الأوسط" (¬1) بإسناد صحيح إلى جابر قال: "نهي رسول الله - عليه السلام - أن يبال في الماء الجاري فإذا كان البول في الجاري منهيّا عنه ففي الراكد بالطريق الأولى. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة؛، عن ابن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا [يبولن] (¬3) أحدكم في الماء الناقع". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما خصّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء الذي لا يجري دون الماء الجاري مع ما في هذه الآثار؛ علمنا بذلك أنه إنما فصل ذلك لأن النجاسة تداخل الماء الذي لا يجري ولا تداخل الماء الجاري، وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في غسل الإناء من ولوغ الكلب ما سنذكره في غير هذا الموضع من كتابنا هذا إنْ شاء الله تعالى فذلك دليل على نجاسة الإناء ونجاسة مائه وليس ذلك بغالب على ريحه ولا على لونه ولا على طعمه، فتصحيح معاني هذه الآثار يوجب فيما ذكرنا من هذا الباب من معاني حديث بئر بضاعة ما وصفنا لتتفق معاني ذلك ومعاني هذه الآثار ولا تتضادَّ، فهذا حكم الماء الذي لا يجري إذا وقعت فيه النجاسة من طريق تصحيح معاني الآثار، غير أن قوما وقتوا في ذلك شيئًا فقالوا: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا. ش: لما أوّل فيما مضى معنى قوله - عليه السلام - في بئر بضاعة: "إنَّ الماء لا ينجس" بأنه لا ينجس في حال عدم النجاسة فيها، وكذلك معنى قوله - عليه السلام -: "إنَّ الأرض لا تنجس" بأنها لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها، وأقام على ذلك شواهد تدل على صحة مدعاه وهي أحاديث بول الأعرابي في المسجد، ثم أوضح ذلك ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (2/ 208 رقم 1749)، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلَّا الحارث". أي الحارث بن عطية. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 124 رقم 345). (¬3) في "الأصل، ك": "يبول"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".

بأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري، علم بذلك اتفاق معاني آثار بئر بضاعة مع معاني هذه الآثار وليس بينها تضاد في الحقيقة؛ وإنْ كان يتُوهم ذلك بحسب الظاهر. قوله: "ما سنذكره" مسند إلى قوله: "وقد روي". قوله: "فذلك" إشارة إلى حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب. قوله: "وليس ذلك بغالب" جملة حالية. قوله: "فتصحيح معاني هذه الآثار" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله: "يوجب" قلت: "ما وصفنا" مفعوله. قوله: "ولا تتضاد" بالنصب عطفا على قوله: "لتتفق معاني هذه الآثار" والتضاد بين الشيئين التنافي بينهما وهو أن يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر انتفاءه في محل واحد بشرط تساويهما في القوة، وكذا التناقض بين الشيئين والتعارض بينهما فالمتضادان لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان كالأبيض والأسود، والتناقض عند أهل المعقول: اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى. قوله: "غير أن قوما" أراد بهم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد ومن تبعهم في توقيت الماء القليل. قوله: "وقتوا" أي قدروا في الماء الدائم في حكم القليل الذي يتنجس بوقوع النجاسة بما دون القلتين على ما يتحرر عن قريب إنْ شاء الله تعالى. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: أبنا أبو أسامة حماد بن أسامة، عن الوليد بن كثير المخزومي، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الماء وما ينوبه من السباع، فقال: إذا بلغ الماء قلتين فلم يحمل الخبث".

ش: أي احتج هؤلاء القوم وهو الذي ذكره في قوله: "غير أن قوما وقتوا في ذلك". وقد ذكر أن المراد منهم الشافعي وأحمد وإسحاق ومن تبعهم. ورجال هذا كلهم رجال الصحيح ما خلا بحر بن نصر فإنه أيضًا ثقة، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: صدوق ثقة. روى عنه النسائي. وأخرجه الأربعة، فأبو داود (¬1): عن ابن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي، عن أبي أسامة ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬2): عن هنّاد، عن عبدة، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر ... إلى آخره، ولفظه: "سمعت رسول الله - عليه السلام - وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". والئسائي (¬3): عن هناد بن السري والحسن بن حريث، عن أبي أسامة ... إلى آخره نحو رواية أبي جعفر، غير أن فيه: "من الدواب والسباع". وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن خلَّاد، عن يزيد بن هارون، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر ... إلى آخره نحو رواية الترمذي. وقد وقع في رواية النسائي وابن ماجه: "عُبيد الله بن عبد الله" (¬5) مثل ما وقع في رواية الطحاوي بتصغير "العبد" في الابن وتكبيره في الأب، وفي رواية أبي داود والترمذي (¬6): بالتكبير فيهما، ولما أخرجه الترمذي سكت عنه ولم يحكم عليه بشيء، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 17 رقم 63). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 97 رقم 67). (¬3) "المجتبى" (1/ 46 رقم 52). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 172 رقم 517). (¬5) في المطبوع في هذا الموضع: "عبد الله بن عبد الله" بالتكبير فيهما، وأما في (1/ 175 رقم 328) من طريق الحسين بن الحريث فقط من غير ذكر هناد بن السري. (¬6) في المطبوع في "جامع الترمذي" في هذا الموضع و"سنن أبي داود" (1/ 17 رقم 64): "عبيد الله =

وقال اليعمري: وقد صححه ابن حبان وابن منده والطحاوي والخطابيّ والبيهقي، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1) والحاكم في "مستدركه" (¬2): وزعم أنه على شرط الشيخين، ووافقه ابن منده في أنه على شرط مسلم، وقال الحكم: "صحيح ولا تقبل دعوى من ادعى اضطرابه". وقال اليعمري أيضًا: وقد حكم الفقيه أبو جعفر الطحاوي بصحة هذا الحديث لكنه اعتل في ترك العمل به بجهالة مقدار القلتين. قلت: وضعفه الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ، وقال ابن العربي: مداره على علته أو مضطرب في الرواية أو موقوف، وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد ابن كثير وهو إباضيّ، واختلفت روايته فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا، ¬

_ = ابن عبد الله" بالتصغير في الابن والتكبير في الأب، وكلاهما من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر. وقد ذكر الحافظ المزي في كتابه العظيم "تحفة الأشراف" روايتي أبي داود والنسائي في مسند عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، بالتكبير فيهما (5/ 471 رقم 7272)، وكلاهما من طريق الوليد بن كثير عن محمَّد بن جعفر، وذكر رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه في مسند عُبَيد الله بن عبد الله عن أبيه، بالتصغير في الابن والتكبير في الأب، وكلها من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر (3/ 6 رقم 7305). ورواه أبو داود (1/ 17 رقم 65) من طريق عاصم بن المنذر، عن عُبَيد الله بن عبد الله به، بالتصغير في الابن أيضًا، وهي عند ابن ماجه أيضًا (1/ 172 رقم 518)، واختلف على عاصم في رفعه ووقفه كما سيأتي. والخلاصة: أنه اختلف على محمَّد بن جعفر فيه، فرواه عنه محمَّد بن إسحاق وعاصم بن المنذر عن عبيد الله -بالتصغير- بن عبد الله بن عمر. ورواه الوليد بن كثير عنه عن عبد الله -بالتكبير- بن عبد الله. وعُبَيد الله بن عبد الله ثقة، وعبد الله بن عبد الله ضعيف، المصغر مكبر في الرواية، والمكبر مصغر في الرواية. (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 49 رقم 92). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 225).

وروي "أربعون قلة" وروي "أربعون غربا" ووقف على أبي هريرة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عن جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب ولعل مسلما تركه لذلك. قلت: اضطرابه لفظي ومعنوي، أما اللفظي فمن جهة الإسناد والمتن، أما إسناده فمن ثلاث روايات: الأول: رواية الوليد بن كثير كما في رواية الطحاوي وأبي داود والنسائي وكذا في رواية الشافعي عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن الوليد بن كثير، وكذا في رواية إسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة. والثانية: رواية محمَّد بن إسحاق، كما في رواية الترمذي وابن ماجه. والثالثة: رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر، واختلف في إسنادها ومتنها: أما الإسناد فما رواه أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن عاصم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: حدثني أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس" وخالف حماد بن سلمة فرواه عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله موقوفا. وأما المتن فإن يزيد بن هارون رواه عن حماد بن سلمة، فاختلف فيه على يزيد، فقال الحسن بن محمَّد الصباح عنه عن حماد، عن عاصم قال: "دخلت مع عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقرى ماء فيه جلد بعير ميت، فتوضأ فيه، فقلت له: أتتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت؟! فحدثني عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بلغ الماء قلتين أو أكثر لم ينجسه شيء" أخرجه الدارقطني (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 17 رقم 65). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 172 رقم 518). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 22 رقم 21)، وفيه: "أو ثلاثًا" موضع "أو أكثر".

وكذلك رواه وكيع عن حماد بن سلمة وقال:"إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثًا لم ينجسه شيء" رواه ابن ماجه (¬1). وأما متنه فالاضطراب فيه ما تقدم. ورروي الدارقطني في "سُننه" (¬2) وابن عُدي في "الكامل" (¬3) والعقيلي في كتابه (¬4) عن القاسم بن [عبد] (¬5) الله العمري، عن محمَّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث" وقال الدارقطني: القاسم العمري وهم في إسناده، وكان ضعيفًا كثير الخطأ. وروى الدارقطني (¬6) أيضًا: من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سليمان بن سنان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه قال: "إذا كان الماء قدر أربعين قلة لم يحمل خبثا" وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا: "أربعين غربا" ومنهم من قال: "أربعين دلوا". وأما الاضطراب المعنوي فقيل: إنَّ القلّة اسم مشترك يطلق على الجرّة وعلى القربة وعل رأس الجبل وعلي قامة الرحل، والاسم المشترك لا يراد به إلَّا أحد المعاني الذي دلّ عليه الدليل المرجح، فأي دليل مرجح دلّ على أن المراد من القلّة ما أرادوه من التقدير لا غيره. فإن قلت: روى الشافعي في "مسنده" (¬7): أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 26 رقم 34). (¬3) "الكامل" (6/ 34). (¬4) "ضعفاء العقيلي" (3/ 374). (¬5) في "الأصل، ك": "عُبَيد، وهو خطأ، والمثبت من "سنن الدارقطني"، و"الكامل" لابن عدي، و"ضعفاء العقيلي"، ومحمد بن المنكدر لم يذكروا في الرواة عنه القاسم بن عبيد الله، إنما يروي عنه القاسم بن عبد الله. (¬6) "سنن الدارقطني" (1/ 27 رقم 40). (¬7) "مسند الشافعي" (1/ 165).

ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل [خبثا] (¬1) " وقال في الحديث: "بقلال هجر" قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر، فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا. وقال الشافعي: فالاحتياط أن تجعل القلّة قربتين ونصفا، فإذا كان الماء خمس قِرب كبار كقرب الحجاز لم يحمل نجسا إلَّا أن يظهر في الماء ريح أو طعم أو لون. قلت: في هذا ثلاثة أشياء: أحدها: أن مسلم بن خالد ضعفه جماعة، فالبيهقي أيضًا ضعفه في باب: من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل (¬2). الثاني: أن الإسناد الذي لم يحضره ذكره مجهول، فهو كالمنقطع، فلا تقوم به حجة. الثالث: أن قوله: "وقال في الحديث: بقلال هجر" يوهم أنه من لفظ النبي - عليه السلام - والذي وجد في رواية ابن جريج أنه قول يحيى بن عقيل كما بينه البيهقي، ويحيي هذا ليس بصحابي فلا تقوم بقوله حجة. فإن قلت: أسند البيهقي (¬3): عن محمَّد [أن يحيى بن عقيل أخبره] (¬4) عن يحيى ابن يعمر، أنه - عليه السلام - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسا". قال: فقلت ليحيي بن عقيل: قلال هجر؟ [قال: قلال هجر] (¬5) قال: فأظن أن كل قلة تأخذ فرقين" زاد أحمد بن علي في روايته: "والفرق ستة عشر رطلا". قلت: في هذا أيضًا أشياء: أحدها: أنه مرسل. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند الشافعي": "نجسًا". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 495). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 263 رقم 1173). (¬4) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬5) وكذا صرح باسمه الدارقطني في "سننه" (1/ 24 رقم 28).

الثاني: أن محمَّد المذكور فيه هو ابن يحيى -على ما قال أبو أحمد الحافظ- يحتاج إلى الكشف عن حاله. الثالث: أنه ظن من غير جزم. الرابع: أنه إذا كان الفرق ستة عشر رطلا يكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلا، وهذا لا يقول به البيهقي وإمامه. فإن قلت: قد ارتفع الاضطراب برواية إسماعيل بن عُلَيّة، والاضطراب الذي يرجع إلى المتن قد يدفع بما ذكر من طريق ابن إسحاق من عدة أوجه ليس فيها ذكر لغير القلتين، وكذلك طريق الوليد بن كثير ولم يقع من ذلك إلَّا اليسير جِدّا في طريق عاصم بن المنذر من بعض الوجوه وهي كلها لا تساوي واحدا من طريقي ابن إسحاق والوليد ولا يقاربها، فالاضطراب إنما يقدح إذا تساوت الطرق وتعذر الجمع أو الترجيح، وكذا تعليل مرفوعه بموقوفه ليس بمستقيم؛ لأن الرافع إذا كان ثقة لا يضره من لم يرفعه؛ لأنه زيادة من ثقة، وأن من رفعه أكثر وأحفظ ممن وقفه بكثير، فيكون الاعتبار للأكثر وللأحفظ. قلت: لا نسلم أن ارتفاع الاضطراب برواية ابن عُلية؛ لأنه يروي عن عاصم بن المنذر وهو ليس ممن اتفق عليه، ألا تري أن البخاري استشهد به وما روى له، وقوله: "طريق عاصم لا يساوي طريق ابن إسحاق" غير مسلم؛ لأن كليهما سواء في القوة والضعف، ولهذا استشهد بهما البخاري ولم يخرج لهما شيئًا، وقوله: "إنَّ الرافع إذا كان ثقة" معارَضٌ بما إذا كان الواقف أيضًا ثقة، قلت: "الاعتبار للاكثر" غير مسلم؛ بل الاعتبار للقوة، ولئن سلمنا جميع ذلك وسلمنا صحة الحديث لكنا نأوّله ونحمله على ما ذكره الطحاوي؛ ألَّا ترى أنه وهو إمام في الحديث وفي معرفة طرق معانيه، قد أخرج هذا الحديث بإسناد صحيح ولكنه لم يعمل به لجهالة مقدار القلتين على ما يجيء بيانه مستقصى إنْ شاء الله.

قوله: "وما ينوبه" أي ما يطرقه، وقيل: أي ما يقصده، يقال: نابه ينوبه نوبا وانتابه، إذا قصده مرة بعد أخرى، ويقال: معناه: ما تنزل به الدواب للشرب وهو جمع دابة، وهو ما يدب على وجه الأرض في اللغة، وفي العرف الدابة تطلق على ذوات الأربع مما يركب، وفي الصحاح: الدابة التي تركب. والسباع جمع سبع وهو كل حيوان عادٍ مفترس ضار ممتنع، وعطف السباع على الدَّواب من عطف الخاص على العام، إنْ اعتبرنا في الدواب المعنى اللغوي، وإلَّا فلا يكون من هذا القبيل. قوله: "فقال" أي النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا كان الماء قلتين" وهي تثنية قلة وهي الحُبّ (¬1) العظيم والجمع قلال، واختلفوا في تفسير القلة، فقيل: خمس قرب كل قربة خمسون منّا، وقيل: جرة تسع فيها مائة وخمس وعشرون منّا، وقيل: القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي، وقيل: القلتان خمسمائة منّ، وقيل: القلة هي الجرّة التي يقُلّها القوي من الرجال أي يحملها، وقال اليعمري: الصحيح أن القلتين خمسمائة رطل، خمس قرب كل قربة مائة رطل بالبغدادي. وقيل: ستمائة، وقيل: ألف، وهما بالمساحة ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا، هكذا قالوا وليس محرّرا؛ فإن الماء تختلف أوزانه، وفي المغني لابن قدامة: القلة هي الجرّة، ويقع هذا الاسم على الصغيرة والكبيرة، والمراد من القلتين هَا هنا من قلال هجر، وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي، فتكون القلتان خمسمائة رطل، هذا هو المشهور في المذهب وعليه أكثر الأصحاب. وهو مذهب الشافعي، وروى الأثرم عن أحمد أنَّهما أربع قرب، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن إمامه. قلت: وهجر التي تنسب إليها القلال قرية كانت ببلاد المدينة، ويقال: هجر التي باليمن، والأول أصح. ¬

_ (¬1) الحُبُّ -بالحاء المهملة- هو الجرَّة الضخمة، وهو الذي يجعل فيه الماء. انظر "لسان العرب"، (مادة: حبب).

قوله: "لم يحمل الخَبَث" بفتحتين أي لا يحتمل نجسا لضعف قوته، هذا تأويلنا وهم يقولون: معناه لم ينجس بملاصقة النجاسة ووقوعها فيه. وقال النووي: وأما قول المانعين من العمل بالقلتين: "إن معناه يضعف عن حمله" فخطأ فاحش من أوجه: أحدها: أن الرواية الأخري مصرحة بلفظه وهي قوله: "فإنه لا ينجس". الثاني: أن الضعف عن الحمل إنما يكون في الأجسام كقولك فلان لا يحمل الخشبة أبي يعجز عن حملها لثقلها، وأما في المعاني فمعناه لا يقبله. الثالث: أن سياق الكلام يفسده؛ لأنه لو كان المراد أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقييد بالقلتين معني فإن ما دونهما أولى بذلك. وأجيب بأن تأويل المانعين في الرواية التي لفظها "لم يحمل الخبث" صحيح لأن المعنى لا يحتمل هذا الماء نجسا لعدم قوته كما يقال فلان لا يحمل ألف رطل أي يضعف عنه، وتأويلهم إنما هو في هذه الرواية، وأما الرواية الأخري فالجواب عنها أن العمل متعذّر؛ للاختلاف الشديد في تفسير القلتين. وقال أبو عمر في "التمهيد": "وما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم؛ ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع". وقال ابن حزم: "وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلًا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحدّ مقدار القلتين، ولا شك في أنه - عليه السلام - إذا أراد أن يجعلها حدّا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها لمَا أهمل أن يحدّها لنا بحد ظاهر، لا يحيل، وليس [هذا] (¬1) مما يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره ولو كان ذلك لكانت كل قلتين -صغرتا أو كبرتا- حدّا في ذلك". ¬

_ (¬1) من "المحلى" لابن حزم (1/ 175).

وأما الشافعي فليس حدّه في القلتين بأولى من حدّ غيره ممن فسرهما بغير تفسيره، وكل قول لا برهان له فهو باطل. والقلتان هو ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين صغرتا أم كبُرتا، ولا خلاف في أن القلة التي تَسَعُ عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة، وليس [في هذا] (¬1) الخبر ذكر لقلال هجر أصلا، ولا شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا. فإن قيل: إنَّه - عليه السلام - ذكر قلال هجر في حديث الإسراء. قلئا: نعم وليس ذلك بموجب أن يكون - عليه السلام - متى ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر، وليس تفسير ابن جريج للقلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال: هما جرتان. وتفسير الحسن كذلك أيضًا. ص: وكما حدثنا الحسن بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أبنا محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر أبي الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه سئل عن الحياض التي بالبادية تصيب منها السباع، قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا". ش: هذه طريقة أخرى وهي صحيحة أيضًا، وإسنادها بعينه إسناد ابن ماجه الذي ذكرناه؛ لأنه أخرجه (¬2) عن أبي بكر بن خلاد، عن يزيد بن هارون ... إلى آخره، غير أن لفظهما مختلف كما ترى. قوله: "بالبادية" أي في البادية على وزن فاعلة، من بدا إذا ظهر، يقال: بدا القوم بدوًّا أي خرجوا إلى باديتهم، والبدوي نسبة إلى البدو، والبدو البادية. وقد استدل به بعضهم على نجاسة سؤار السباع، لقوله: "تصيب منها السباع" وأجاب عنه من لا يرى بنجاسة سؤرها بأنها إذا وردت مياه الغدران خاضتها، وإذا خاضت بالت في الأكثر عادة، مع أن قوائمها لا تخلو من النجاسة غالبا، فكان ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لهذا"، والمثبت من "المحلى" لابن حزم. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 172 رقم 517)، وقد سبق.

سؤالهم عن ذلك، وكان الجواب عنه - عليه السلام - عن ذلك تقرير قاعدة عامة في الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، ومياه الغدران بالفلوات لا تنقص عن قلتين غالبا. قلت: فيه نظر؛ لأنا لا نسلم أنها تخوض في الماء عند الورود إليه، ولئن سلمنا ذلك فلا نسلم أنَّهَا تبول، ولئن سلمنا أنّها تبول فلا نسلم أن يكون تنجيس بولها الماء منافيا عن تنجيسه بسؤرها، فلم لا يجوز أن يكون تنجيسه بهما جميعا عند اجتماعهما وكل واحد منهما عند الإفراد؟! وقوله: "مع أن قوائمها لا تخلو من النجاسة" معارض بأن أفواهها لا تخلو عن النجاسة بل كون نجاسة فمها أقرب وأكثر من كون قوائمها نجسة؛ لأنها تأكل الجيف والعذرة ونحوهما، فهذا ما فتُح لي من الأنوار الربانية والأسرار الرحمانية ولله الحمد. ص: حدثنا محمد بن الحجاج، ثنا علي بن معبد، ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبيد اللهَ بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه طريقة أخرى وهي أيضًا صحيحة. وأخرجه البزار في "مسنده" وقال: حدثنا عمرو بن علي، نا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق إلى آخره نحوه. وأبو معاوية هو عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلب البصري، روى له الجماعة. ص: وكما حدثنا يزيد بن سنان بن يزيد البصري، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذه طريقة أخرى، وهي أيضًا صحيحة.

ويزيد بن سنان أبو خالد القزاز البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي. وموسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود. ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر أخبرهم قال: "كنا في بستان لنا -أو بستان لعبيد الله بن عبد الله بن عمر- فحضرت صلاة الظهر، فقام إلى بئر البستان فتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت، فقلت: أتتوضأ منه وهذا فيه؟ " فقال عبيد الله: أخبرني أبي أن رسول الله - عليه السلام - قال: إذا كان الماء قلتين لم ينجس". ش: يزيد هو ابن سنان المذكور. وعاصم بن المنذر وثقه ابن حبان. وهذا أخرجه الدارقطني (¬1): وقد ذكرناه ولكن في روايته: "إذا بلغ الماء قلتين أو (أكثر) (¬2) لم ينجسه شيء". وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا: من حديث حماد عن عاصم بن المنذر قال: "دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مِقرى ماء فيه جلد بعير ميت، فتوضأ منه، فقلت: أتتوضأ منه وفيه هذا؟! فحدثني عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بلغ الماء قدر قلتين أو ثلاث لم ينجسه شيء". قوله: "وفيه جلد بعير" جملة حالية، وكذا قوله: "وهذا فيه". قوله: "مِقرى ماء" بكسر الميم قال ابن الأثير: المقرى والمقراة: الحوض الذي يجتمع فيه الماء. ص: وكما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن سلمة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقفه على ابن عمر - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 22 رقم 20). (¬2) في "سنن الدارقطني": "ثلاثًا". (¬3) "سنن البيهقي الكبري" (1/ 262 رقم 1169).

ش: هذا موقوف، فقد ظهر لك بهذا اضطراب هذا الحديث -يعني حديث القلتين- لأن في سنده ضعفا وفي متنه اضطرابا، والقلة في نفسها مجهولة. قلت: "لا يحمل الخبث" يحتمل معنيين مختلفين لا ندري أيهما المراد، والاعتماد على مثل هذا الخبر لا يصلح؛ كيف وقد ظهر العمل من الصحابة بخلافه في ماء البئر، فكان الاعتماد على ما روي من الأحاديث المشهورة. قلت: والجواب القاطع لحديث القلتين أنه خبر واحد، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يُردّ، بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله. ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - ولم ينكر عليهما أحد منهم، فانعقد الإجماع برد هذا الحديث. ص: فقال هؤلاء القوم: إذا بلغ الماء هذا المقدار؛ لا يضره ما وقعت فيه من النجاسة إلَّا ما غلب على ريحه أو طعمه ولونه. واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر - رضي الله عنهم - هذا. ش: أشار بهؤلاء القوم إلى قوله: "غير أن قوما وقتوا في ذلك شيئًا" وهم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ومن تبعهم، وأراد بهذا المقدار القلتين. وفي "المغني" (¬1): وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة فهو طاهر، وأما ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في الذهب أنه ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عُبيد. وروي عن أحمد رواية أخرى: أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغيير؛ قليله وكثيره. وروي ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس، قالوا: الماء لا ينجس إلَّا بالتغير. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 30).

وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري ويحيي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر، وهو قول الشافعي. وأما الزائد على القلتين إذا لم يتغير بالنجاسة ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة فلا يختلف المذهب في طهارته، روي ذلك عن ابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي وإسحاق وأبي عُبيد وأبي ثور. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة التي صححناها أن هاتين القلتين لم يبيَّن لنا في هذه الآثار ما مقدارهما، فقد يجوز أن يكون مقدارهما قلتين من قلال هجر كما ذكرتم، ويحتمل أن تكونا قلتين أريد بهما قلّة الرحل وهي قامته فأريد إذا كان الماء قلتين أبي قامتين لم يحمل نجسا لكثرته ولأنه يكون بذلك في معنى الأنهار. ش: أشار بهذا إلى بيان كيفية ترك العمل بحديث القلتين والجواب عنه. قوله: "عليهم" أي على هؤلاء القوم وهم الذين ذكرناهم عن قريب، وأراد بأهل المقالة التي صحح لهم أبا حنيفة وأصحابه ومن تبعهم فيما ذهبوا إليه. قوله: "أن هاتين القلتين" إسم لكان و"أنَّ" مصدرية. وكلمة "من" في قوله: "من الحجة" يجوز أن تكون للتبعيض وأن تكون للبيان والتقدير، فكان عدم بيان هاتين القلتين في هذه الآثار المذكورة من بعض الحجة عليهم، تحريره أن القلة في نفسها مجهولة لأنها وردت لمعاني كثيرة كما ذكرنا، فيبقي محتملا فلا يقوم به الدليل. فإن قلت: قد تبين ذلك في حديث ابن جريج الذي أسنده البيهقي الذي ذكرناه فيما قبل بورقتين. قلت: قد أجبت عن هذا هناك، وأيضًا لا يندفع الاحتمال بذلك؛ لأن ابن جريج ممن لا يقُلد، كذا قال شيخ الإِسلام في "المبسوط".

فإن قلت: قد أخرج ابن عدي (¬1) من جهة المغيرة بن سقلاب، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء" وذكر أنهما فرقان. قلت: الحديث معلول بالمغيرة؛ لأن ابن عدي ضعفه، وقال ابن حبان: غلب على حديثه المناكير فاستحق الترك. فإن قلت: ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أنه صالح، وعن أبي زرعة: جزري لا بأس به. قلت: إنْ سلمنا ذلك فالحديث يقتضي أن تكون القلتان اثنين وثلاثين رطلا، وهذا لا يقول به هؤلاء القوم. ص: فإن قلتم: إنَّ الخبر عندنا على ظاهره والقلال عندنا هي قلال الحجاز المعروفة، قيل لكم: فإن كان الخبر على ظاهره كما ذكرتم فإنه ينبغي أن يكون الماء إذا بلغ ذلك المقدار لا تضره النجاسة وإنْ غيرت لونه أو طعمه أو ريحه؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يذكر ذلك في هذا الحديث؛ فالحديث على ظاهره. ش: السؤال ظاهر، وتحرير الجواب أن يقال لهم: إنْ كان الحديث على ظاهره يقتضي ما ذكرتم؛ كان ينبغي أن الماء إذا بلغ القلتين لا تضره النجاسة وإنْ غيرت وصفا من أوصافه، فحين شرطتم عدم التغير دلّ أنكم لم تعملوا بظاهر الحديث؛ لأنه - عليه السلام - لم يذكر هذا الشرط في الحديث فلم تكونوا عاملين به. فإن قالوا: عملنا به ولكن شرطنا عدم التغير بحديث أبي أمامة الباهلي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "لا ينجس الماء شيء إلَّا ما غيّر ريحه أو طعمه" رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2) و"الكبير" (¬3). ¬

_ (¬1) "الكامل" لابن عدي (6/ 359). (¬2) "المعجم الأوسط" (1/ 226 رقم 744). (¬3) "المعجم الكبير" (8/ 104 رقم 7503).

وفي رواية ابن ماجه (¬1): "إلَّا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". قلنا: يلزمكم حينئذ أن تحكموا بطهارة ما دون القلتين إذا لم يغير وقوع النجاسة فيه وصفا من أوصافه، ومع هذا لا تحكمون بطهارتها، على أن في سند الحديث رشدين بن سعد وهو ضعيف. ص: فإن قلتم: فإنه وإنْ لم يكن ذكره في هذا الحديث فقد ذكره في غيره، فذكرتم ما حدثنا به محمَّد بن الحجاج قال: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء إلَّا ما غلب على لونه أو طعمه". قيل لكم: هذا منقطع وأنتم لا تثبتون المنقطع ولا تحتجون به. ش: تحرير هذه المعارضة أن النبي - عليه السلام - وإنْ لم يكن ذكر اشتراط عدم التغير في حديث القلتين، فقد كان ذكره في غيره، وهو الحديث الذي رواه راشد بن سعد المقرائي الحبُراني الحمصي التابعي، والجواب أنه منقطع فلا يقوم حجة. والمعني أنه مرسل وهم لا يحتجون به، وأطلق على المرسل منقطعا لأنهما سواء عند الطحاوي، وقال ابن الصلاح: "المنقطع مثل المرسل وكلاهما شاملان لكل ما لا يتصل إسناده". وقال أبو عمر بن عبد البر: "المرسل مخصوص بالتابعين، والمنقطع شامل له ولغيره". وهو عنده كل ما لا يتصل إسناده سواء كان يعزى إلى النبي - عليه السلام - أو إلى غيره. قلت: فظهر من هذا أن المنقطع أعم. فإن قلت: فهذا وإنْ كان منقطعا من وجه فإنه متصل من وجه آخر على ما رواه الدارقطني (¬2): حدثنا محمَّد بن موسى البزاز، ثنا علي بن السرَاج، ثنا ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 521). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 28 رقم 1).

أبو شرحبيل، ثنا مروان بن محمَّد، ثنا رشدين بن سعد، ثنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور إلَّا ما غلب على ريحه أو على طعمه". قلت: قد اختلف أصحاب الحديث في منقطع من وجه متصل من وجه آخر، فمنهم من قال: سقط اعتبار الاتصال فيه بالانقطاع من وجه، والأكثرون على أنه حجة (¬1)، ولكن الحديث معلول برشدين بن سعد على ما ذكرناه عن قريب. ص: فإن كنتم قد جعلتم قوله في القلتين على خاص من القلال، جاز لغيركم أن يجعل الماء على خاص من المياه، فيكون ذلك عنده على ما يوافق معاني الآثار الأول ولا يخالفها، فإذا كانت الآثار الأول التي قد جاءت في البول في الماء الراكد، وفي نجاسة الماء الذي في الإناء من ولوغ الهرّ فيه عامّا لم يذكر مقداره، وجعل على كل ما لا يجري؛ ثبت بذلك أن ما في حديث القلتين هو على الماء الذي لا يجري، ولا نظر في ذلك إلى مقدار الماء، كما لم يُنْظَرْ في شيء مما ذكرنا إلى مقداره؛ حتى لا يتضادّ شيء من الآثار المروية في هذا الباب. ش: تحريره: أنهم إذا قالوا: نحن نخص القلتين بما هو المعروف عند أهل الحجاز فلا يبقى حينئذ احتمال فتقوم الحجة، فنحن نعارضهم بأن نخص الماء المذكور في حديث القلتين بأن نحمله على الماء الراكد، وهو أعم من أن يكون على الأرض أو في الإناء ليوافق معناه معاني الآثار التي وردت في البول في الماء الراكد، وفي نجاسة الماء الذي في الإناء من ولوغ الكلب أو الهرة، ولم يذكر في هذه الآثار مقدار معين، بل جعل على كل ما لا يجري فكذلك يحمل ما في حديث القلتين على الماء الذي لا يجري من غير نظر إلى مقداره كما في الآثار المذكورة؛ لئلَّا يقع التضاد والتنافي بين حديث القلتين والآثار المذكورة. ¬

_ (¬1) والحق أن العبرة بمن روى هذا أو ذاك، فإن كان الذي رواه موصولًا أوثق أو أتقن فالحكم للوصل، وإن كان الذي رواه منقطعًا أوثق أو أتقن كان الحكم للقطع، وكذا يحكم للأكثر إن كان الرواة ثقات وأكثر من واحد.

بيان وقوع التضاد عند عدم التوفيق: أن الآثار المذكورة تدل على نجاسة الماء الراكد مطلقا، سواء كان في قلة أو قربة أو طشَتٍ أو حوض أو نحو ذلك، وسواء كان قليلًا أو كثيرا، وسواء تغيّر أحد أوصافه أو لا، وحديث القلتين يدل بظاهره على أن الماء إذا بلغ قلتين لا يتنجس بوقوع النجاسة، وبينهما منافاة ظاهرة؛ لأن كلا الماءين من الماء الذي لا يجري فالحكم في أحدهما بالنجاسة وفي الآخر بالطهارة والحال أنهما سواء تضاد ومنافاة، فإذا حمل حديث القلتين على ما ذكرنا ارتفع التضاد وتوافقت الآثار واتحدت معانيها. وهَا هنا جواب آخر تفردت به وهو أنكم إذا حملتم معنى القلة على قلة معينة يعرفها أهل الحجاز الذي هو أحد معاني القلة، فنحن أيضًا نحمله على معنى قامة الرحل؛ لأنه أحد محتملاته، فيكون المعنى إذا بلغ الماء قامتين لا يحمل الخبث وقدر القامتين لا يكون إلَّا في الغدران والحياض الكبيرة فيكون كثيرا، ونحن أيضًا نقول: إنَّ الماء الكثير لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه إلَّا إذا تغيّر أحد أوصافه من الطعم واللون والرائحة. فإن قلتم: حَمْلكم على معنى القامة ترجيح بلا مرجح. قلنا: حَمْلكم أيضًا على قلة يعرفها أهل الحجاز ترجيح بلا مرجح. فإن قلتم: عندنا ما يرجح ذلك وهو رواية ابن جريج أنَّهَا قلال هجر. قلنا: قد مرَّ الجواب عن هذا أن ابن جريج لا يقلد في ذلك، وقد حمل بعض الناس القلة على قلّة الجبل وهي أعلاه لأن قلة كل شيء أعلاه وهذا بعيد عادة؛ لأن الماء إذا بلغ إلى أعلى الجبلين يكون كالبحر فلا تؤثر فيه النجاسة أصلًا، فلا يبقى لقوله: "إذا بلغ الماء أعلى الجبلين لا يحمل الخبث" زيادة فائدة. ص: وهذا المعنى الذي صححنا عليه معاني هذه الآثار، هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بهذا المعني: وجه التوفيق الذي ذكره بين الآثار المذكورة وحديث القلتين.

ص: وقد روي في ذلك عمن تقدمهم ما يوافق مذهبهم. ش: أي قد روي فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه عمن تقدمهم من الصحابة والتابعين ما يوافق مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد و"ما يوافق" محله رفع لاستناد روي إليه، و"مذهبهم" مفعول يوافق. ص: فمما روي في ذلك ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، وقال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن عطاء: "أن حبشيّا وقع في بئر زمزم فمات، فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها، فجعل الماء لا ينقطع، فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير: حسبكم". ش: أي فمن الذي روي فيما يوافق مذهبهم ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث. ورجال هذا رجال الصحيح ما خلا صالحا. وسعيد بن منصور أحد مشايخ مسلم وأبي داود. وهُشَيم -بضم الهاء وفتح الشين المعجمة- بن بَشير -بفتح الباء- أبو معاوية الواسطي. ومنصور بن المعتمر أبو العتاب الكوفي. وعطاء بن أبي رباح أحد مشايخ أبي حنيفة. وأخرجه ابن أبي شيبة في"مصنفه" (¬1) قال: ثنا هشيم، عن منصور ... إلى آخره نحوه. قوله: "أن حبشيًّا" منسوب إلى الحبش وهم حبش من السودان مشهور، وقال السهيلي: "الحبشة هم بنو حبش بن كرُش بن حام بن نوح - عليه الصلاة والسلام -. و"زمزم" اسم بئر بمكة أصلها من ركضة جبريل - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 150 رقم 1721).

قوله: "فجعل الماء" جعل هذه من أفعال المقاربة؛ لأنه بمعني شرع، ولا يكون خبره إلَّا مضارعا مجردا من "أن". قوله: "فإذا" للمفاجأة. قوله: "حسبكم" أي يكفيكم نزح الماء الذي فيه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، وبالعكس. واستدل به أصحابنا أن البئر إذا مات فيها آدمي وما يقاربه في الجثة لا يطهر إلَّا بنزح جميع مائها، ودل هذا أيضًا أن القلتين يتنجس وإنْ لم يتغير؛ لأن ماء زمزم كان أكثر من قلتين بلا خلاف. ص: وما قد حدثنا حسين بن نصر، ثنا الفريابي، ثنا سفيان، أخبرني جابر، عن أبي الطفيل قال: "وقع غلام في زمزم فنزفت". ش: الفريابي هو محمَّد بن يوسف، روى له الجماعة. وسفيان هو الثوري. وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجُعفي، فيه مقال. وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي - رضي الله عنه -. ورواه الدارقطني (¬1) أيضًا وفي روايته: "فنزحت" موضع: "فنزفت". ورواه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2) و"المعرفة" (¬3): ثم تكلم في جابر الجعفي. قلت: قال ابن عدي: للجعفي حديث صالح، وقد روي الثوري عنه وقد احتمله الناس ورووا عنه. وعن شعبة: هو صدوق في الحديث. ولئن سلمنا ما قاله البيهقي فإن نزح زمزم قد روي من طريق آخر صحيح وهو الرواية السابقة التي أخرجها الطحاوي وابن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 33 رقم 2). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 266 رقم 1183). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 332 رقم 405).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر قال: "سقط رجل في زمزم فمات فيها فأمر ابن عباس أن تسد عيونها وتنزح فقيل له: إنَّ فيها عينا قد غلبتنا. قال: إنها من الجنة. فأعطاهم مِطرفا من خَزٍّ فحشوه فيها ثم نزح ماؤها حتى لم يبق فيها نتن". فإن قلت: حكى البيهقي (¬2): عن الشافعي أنه قال: لا نعرفه عن ابن عباس وزمزم عندنا، ما سمعنا بهذا. وعن ابن عيينة قال: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي. وعن أبي عُبيد كذلك؛ لأنه قد جاءت الآثار في نعتها أنَّهَا لا تنزح ولا تذم. قلت: قد عرف هذا الأمر وأثبته أبو الطفيل، وابن سيرين وقتادة ولو أرسلاه، وعمرو بن دينار وعطاء ومعمر، والمثبت مقدم على النافي خصوصا مثل هؤلاء الأعلام، ولا يلزم من عدم سماع من لم يدرك ذلك الوقت وعدم من يعرفه عدمُ هذا الأمر في نفسه، وليس في حديث ابن الزبير وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قدرا على استئصال الماء بالنزح حتى يكون مخالفا للآثار التي جاءت بأنها لا تنزح ولا تذم بل صَرَّح في رواية ابن أبي شيبة (¬3): بأن الماء لم ينقطع، وفي رواية البيهقي: بأن العين غلبتهم حتى دسّت بالقباطي والمطارف. وجعل السهيلي حديث الحبشي مؤيدا لما روي في صفتها أنَّهَا لا تنزف. فإن قلت: قد حكى البيهقي أيضًا عن الشافعي أنه قال لمخالفيه: قد رويتم عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء" أفترى أن ابن عباس يروي عن النبي - عليه السلام - خبرًا ثم يتركه؟! قلت: لم يتركه بل خصّصه كما خصصت أنت أيها الشافعي فقلت بنجاسة ما دون القلتين بالنجس ولو لم يتغير، وبنجاسة ما بلغ قلتين فصاعدًا بالتغير. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 82 رقم 275). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 266 - 267). (¬3) سبق تخريجه.

فإن قلت: حكي أيضًا عن الشافعي أنه أوَّل نزح زمزم -إنْ صح- بأنه كان للتنظيف لا للنجاسة. قلت: هذا ممنوع؛ لأن ابن عباس وابن الزبير أمرا بالنزح، ومطلق الأمر للوجوب، وليس ذلك إلَّا للتنجيس، ويبعد هذا التأويل أيضًا أنهم بالغوا في النزح وسدّ العين، ولو كان للتنظيف لم يبالغوا هذه المبالغة العظيمة. فإن قلت: حكي أيضًا عنه أنه قال: وقد يكون الدم ظهر على وجه الماء حتى رُئُي فيه. قلت: الغالب أن من يقع في الماء يموت خنقا ولا يخرج منه دم، ولو خرج كان قليلًا لا يصل إلى أن يظهر على وجه الماء الكثير ويرى فيه. قوله: "لا تُذمّ" أي لا يوجد ماؤها قليلًا، من قولهم بئر ذِمّة إذا كانت قليلة الماء. قوله: "نُزِفَت" من نَزَفت ماء البئر نَزْفا إذا نزحته كله، ونَزَفت هي، يتعدى ولا يتعدى، ونُزِفت أيضًا على ما لم يسم فاعله. ص: وما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة: "أن عليّا - رضي الله عنه - قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت قال: ينزح ماؤها". ش: رجاله ثقات. قلت: "ينزح ماؤها" محمول على ما إذا ماتت وانتفخت، وأما إذا لم تنتفخ بل أُخرجت على الفور، فإنه ينزح عشرون دلوا، روي ذلك عن عطاء ذكره ابن حزم، وفي "البدائع" و"الأيضَاح": ينزح في الفأرة وما يقاربها في الجثة عشرون أو ثلاثون، هكذا روي عن علي - رضي الله عنه -. وروي عن علي ما يخالف ذلك كله، وهو ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): حدثنا إبراهيم بن محمَّد، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، أن عليّا - رضي الله عنه - قال: "إذا ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 82 رقم 273).

سقطت الفأرة في البئر فتقطعت؛ نزع منها سبعة أدلاء، فإنْ كانت الفأرة كهيئتها لم تقطع؛ نُزع منها دلو أو دلوان، فإن كانت منتنة أعظم من ذلك فلينزع من البئر ما يذهب الريح". فإن قلت: ما معنى الترديد بين العشرين والثلاثين في مسألة الفأرة وبين الأربعين والخمسين والستين في الدجاجة؟ قلت: لما اختلفت أقوال الصحابة والتابعين في الفأرة من عدم وجوب شيء، ووجوب دلوا ودلوين، ووجوب عشرين دلوا، ووجوب أربعين دلوا، اختار أصحابنا قول من يقول بالعشرين التي هي الوسط بين القليل والكثير ثم زادوا عليه مقدار نصفه بطريق الاستحباب لأجل الاحتياط، بيان ذلك فيما رواه عبد الرزاق (¬1) عن معمر أخبرني من سمع الحسن يقول: "إذا ماتت الدابة في البئر أخذت منها وإنْ تفسخت فيها نزحت" وما رواه أيضًا من حديث علي المذكور آنفا وما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) عن ابن عُيينة، عن ليث، عن عطاء قال: "إذا وقع الجُرذ في البئر نزح منها عشرون دلوا". و"الجُرَذ" -بضم الجيم وفتح الراء وفي آخره ذال معجمة- وهو الذكر الكبير من الفأر فجمعها الجُرذان. وما رواه أيضًا (¬3) عن حفص، عن عاصم، عن الحسن: "في الفأرة تقع في البئر قال: يستقي منها أربعون دلوا". وأما الترديد في الدجاجة فكذلك لاختلاف أقوالهم. بيان ذلك فيما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4) عن معمر قال: "سألت الزهري ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 81 رقم 271). (¬2) ليس هذا الأثر والذي يليه في "مصنف عبد الرزاق" وإنما هو في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 149 رقم 1714). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 149 رقم 1712). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 81 رقم 269).

عن دجاجة وقعت في بئر فماتت، قال: لا بأس أن تتوضأ منها وتشرب إلَّا أن تنتن حتى يوجد ريح نتنها في الماء؛ فينزح". وما رواه أيضًا (¬1) عن يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء: "في البئر تموت فيها الدجاجة وأشباهها قال: استق منها دلوا وتوضأ منها، فإن هي تفسخت استق منها أربعين دلوا". وما رواه أيضًا (¬2) عن المحاربي، عن الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان: "في البئر تقع فيها الدجاجة والكلب والسنور فتموت، قال: ينزح منها ثلاثون أو أربعون دلوا". وما رواه أيضًا عن أسباط بن محمد بن عبد الملك، عن سلمة بن كهيل: "في الدجاجة تقع في البئر قال: يستقي منها أربعون دلوا". فلما اختلفت هذه الأقوال اختار أصحابنا الأربعين؛ لأن أكثر ما ذكر فيه ثم زادوا عليه على وجه الاستحباب عشرة، وبعضهم زادوا عشرين؛ لأنه نصف الأربعين تأكيدا في طلب الاحتياط، فافهم. فإن قيل: قد قلتم إنَّ مبنى مسائل الآبار على الآثار دون القياس والرأي، وما ذكرتم لا يخلو عن رأي. قلت: المقادير بالرأي إنما تمنع في التي تثبت لحق الله تعالى ابتداء دون المقادير التي تتردد بين القليل والكثير والصغير والكبير، فإن المقادير في الحدود والعبادات لا مدخل للرأي فيها أصلا، وكذا ما يكون بتلك الصفة، وأما الذي يكون من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه فللرأي فيه مدخل، ولما عرف بآثار الصحابة حكم طهارة البئر في الفصول كلها مع اختلاف الأقوال عنهم وعن غيرهم من التابعين في القليل والكثير من النزح؛ صار ذلك من باب الفرق ¬

_ (¬1) ليس هذا الأثر والذي يليه في "مصنف عبد الرزاق" وإنما هو في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 149 رقم 1716). (¬2) "مصنف ابن أبي شييبة" (1/ 149 رقم 1717).

فدخل فيه الرأي لاختيار عدد دون عدد بحسب صفة القضية، ألا ترى أن محمدا حكم في البئر المعين بمائتي دلو إلى ثلاثمائة بناء على كثرة الماء في آبار بغداد، فهذا رأي ولكنه عن دليل، وذلك لأن الشرع لما أمر بإخراج جميع ما فيها صار الواجب نزح ذلك الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وغالب مياه الآبار لا تزيد على مائتي دلو، فبنزح هذا المقدار يحصل المطلوب، وأما قوله: "إلى ثلاثمائة" فللاحتياط في باب التطهير. ص: وما قد حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بنعين، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: "إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء". ش: محمَّد بن حميد وثقه ابن يونس. وعلي بن معبد بن شداد من أصحاب محمَّد بن الحسن ثقة. وموسى بن أعين الجزري، روى له الجماعة سوى الترمذي. وعطاء هو ابن السائب، وثقه أحمد، وعن يحيي: "لا يحتج به". وميسرة أبو صالح الكوفي. وزاذان أبو عبد الله الكوفي، روى له الجماعة؛ البخاري في الأدب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي - رضي الله عنه -: "في الفأرة تقع في البئر، قال: ينزح إلى أن يغلبهم الماء". واستدل به أبو حنيفة في البئر إذا كانت معينا، تنزح حتى يغلبهم الماء، ولم يقدر الغلبة بشيء لأنها متفاوتة، بل يفوض إلى رأي المبتلي به. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي المهزّم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شييبة" (1/ 149 رقم 1711).

قال: "سألنا أبا هريرة عن الرجل يمر بالغدير أيبول فيه؟ قال: لا، فإنه يمر به أخوه المسلم فيشرب منه ويتوضأ، وإنْ كان جاريا فليبُل فيه إنْ شاء". ش: حجاج هو ابن المنهال. وحماد هو ابن سلمة. وأبو المُهزّم اسمه يزيد بن سفيان، وقيل: عبد الرحمن بن سفيان، ضعفه يحيى ابن معين وتركه النسائي. واستفيد منه: أن الماء القليل يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإنْ كان مقدار القلتين ولم يتغير. وأن البول في الماء الراكد منهي عنه وفي الجاري لا بأس به، ولكن روى الطبراني في "الأوسط" (¬1) بإسناد صحيح عن جابر قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن يُبال في الماء الجاري" وهذا من أقوى الدليل على تنجس القلتين بوقوع النجاسة وإنْ لم يتغير. ص: حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة بمثله. ش: هذاطريق آخر بإسناد صحيح عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر العَقَدي، قال: ثنا سفيان، عن زكريا، عن الشعبي: "في الطير والسنّور ونحوهما يقع في البئر؛ ينزح منها أربعون دلوا". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي. وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو البصري. وسفيان هو الثوري. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (2/ 208 رقم 1749).

وزكريا هو ابن أبي زائدة الكوفي. واسم الشعبي عامر بن شراحيل أبو عمرو الكوفي. واحتج به أبو حنيفة وأصحابه أن الهرة وما يقاربها في الجثة إذا ماتت في البئر وأخرجت على الفور ينزح منها أربعون دلوا. ص: حدثنا حسين بن نصر، ثنا الفريايى، ثنا سفيان، عن زكريا، عن الشعبي قال: "ينزح منها أربعون دلوا". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح، والفريابي هو محمَّد بن يوسف. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن عبد الله بن سبرة الهمداني، عن الشعبي قال: "يُدلي منها سبعون دلوا". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح، وهشيم هو ابن بشير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) قال: ثنا هشيم، عن عبد الله بن سبرة، عن الشعبي أنه قال: "يُدلى منها سبعون دلوا -يعني في الدجاجة". قوله: "يُدلي" على صيغة المجهول من دلوت الدلو: نزعتها، والمعنى: ينزع من البئر سبعون دلوا في الدجاجة، ولم يفسر في رواية الطحاوي كون هذا العدد في الدجاجة ولكن هو المراد؛ لتفسير ابن أبي شيبة. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا حفص بن غياث النخعي، عن عبد الله بن سبرة الهمداني، عن الشعبي قال: "سألناه عن الدجاجة تقع في البئر فتموت فيها، قال: ينزح منها سبعون دلوا". ش: هذا أيضًا إسناده صحيح، وفيه إيضاح لما في الخبر الأول من الإبهام في محل العدد المذكور. ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أبنا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 149 رقم 1715).

مغيرة، عن إبراهيم،: "في البئر تقع فيها الجُرذ أو السنور فتموت، وقال: ندلو منها أربعين دلوا. قال المغيرة: حتى يتغير الماء". ش: هذا أيضا إسناد صحيح. ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، أبو هشام الكوفي الفقيه الأعمي، روى له الجماعة. وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) عن هشيم ... إلى آخره نحوه. و"الجُرذ" -بضم الجيم وفتح الراء وفي آخره ذال معجمة- وهو الذكر الكبير من الفأر. قوله: "ندلو" بالنون المصدرة للجماعة، من دلوت الدلو: نزعتها، أي ننزع من البئر أربعين دلوا. قوله: "حتى يتغير الماء" أي ماء البئر، أراد أنهم يعنفون في إرسال الدلو حتى يتكدر الماء فيخرج الكدر فتطهر بعده. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم: "في فأرة وقعت في بئر، قال: ينزح منها قدر أربعين دلوا". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز، روى له الجماعة. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: "في البئر تقع فيها الفأرة، قال: ينزح منها دلاء". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. والفريابي محمَّد بن يوسف. قوله: "دلاء" جمع دلو، وهو جمع كثرة، وجمع القلة أدل. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 149 رقم 1713).

ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد ابن. أبي سليمان: "أنه قال في دجاجة وقعت في بئر فماتت قال: ينزح منها قدر أربعين دلوا أو خمسين، ثم يتوضأ منها". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. ص: فهذا من روينا عنه من أصحاب رسول ال - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم، قد جعلوا مياه الآبار نجسة بوقوع النجاسات فيها ولم يراعوا كثرتها ولا قلتها، وراعوا دوامها وركودها، وفرقوا بينها وبين ما يجري مما سواهما، فإلي هذه الآثار مع ما تقدمها مما رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب أصحابنا في النجاسات التي تقع في الآبار، ولم يجز لهم أن يخالفوها؛ لأنه لم يرو عن أحد خلافها. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن هذه الآثار كلها دالة على أن الماء الدائم الذي لا يجري إذا وقعت فيه نجاسة فإنه يتنجس، سواء بلغ القلتين أو لم يبلغ أو زاد عليهما، ألا ترى أنهم لم يراعوا -لما حَكموا- النظر في كثرة الماء ولا في قلته، بل راعوا دوامه وعدم جريانه؛ فلذلك فرقوا بين الجاري وغيره، فهذا أدل دليل على أن المراد من قوله: "لم يحمل الخبث" في حديث القلتين لا يحتمله لضعفه، إذ لو كان المراد لم ينجس بملاصقة النجاسة -كما فسره الخصم- لكان ينقل عنهم في هذه الآثار ما يدل على هذا المعنى. فإن قيل: قد جاء مصرحا في رواية أبي داود وغيره (¬1): "لم ينجس" فهذا ينافي تفسيركم. قلت: نلتزم هذا المعنى إذا عرفنا معنى القلتين، فلما كان معنى القلتين مشتركا لم يرجح منه معني مقصود صار محتملا، والمحتمل لا يصلح حجة، فتركنا العمل به وعملنا بالأحاديث الصحيحة التي وردت بالنهي عن البول في الماء الدائم، وبالآثار المروية [عن] (¬2) الصحابة والتابعين في هذا الباب ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في "الأصل، ك": "من".

قوله: "فهذا" معناه: مضى هذا، أو خذ هذا. قلت: "من روينا عنه" مبتدأ، وخبره قوله: "قد جعلوا". وأراد بالأصحاب مثل: ابن الزبير وابن عباس وأبي الطفيل وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وبتابعيهم مثل: عطاء والشعبي وميسرة وزاذان وإبراهيم النخعي. قوله: "فإلى هلمه الآثار" يتعلق بقوله: "ذهب أصحابنا" وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وأصحابهم. قوله: "أن يخالفوها" في محل الرفع على الفاعلية، و"أن"مصدرية، أي: ولم يجز لهم مخالفتهم تلك الآثار. "لأنه" أي لأن الشأن لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين خلاف ما ذكر من الآثار والأخبار، فإذن بطل حكم من يحكم في الآبار أيضًا باعتبار القلتين، ألا ترى أن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - لم يحكما في زمزم حين وقع الحبشي إلَّا بنزح الماء كله ولم يلتفتا إلى القلتين، وكذلك حكم علي - رضي الله عنه - في الفأرة، فهؤلاء يجب تقليدهم لأن الحق لا يعدو أقاويلهم. ص: فإن قال قائل: فأنتم قد جعلتم ماء البئر نجسا بوقوع النجاسة فيها فكان ينبغي ألَّا تطهر تلك البئر أبدا. لأن حيطانها قد تشربت ذلك الماء النجس واستكنَّ فيها. فكان ينبغي ألا تطهّر. قيل له: لم نر العادات جرت على هذا، قد فعل عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ما ذكرنا في زمزم بحضرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكروا ذلك عليه ولا أنكره من بعدهم؛ ولا رأى أحد منهم طَمَّها، وقد أمر رسول الله - عليه السلام - في الإناء الذي قد نجس من ولوغ الكلب فيه أن يغسل ولم يأمر أن يكسر، وقد تشرب من الماء النجس، فكما لم يأمر بكسر ذلك الإناء فكذلك لا يؤمر بطم تلك البئر. ش: هذا السؤال وارد من جهة القياس، فتحريره: أنكم لما حكمتم بنجاسة ماء البئر بوقوعها فيه من غير اعتبار كثرة الماء وقلته وكثرة النجاسة وقلتها؛ فكان مقتضى القياس ألَّا تطهير نفس البئر أبدا؛ لأن حيطان البئر قد تشربت ذلك

الماء النجس واستقر فيها، وكان الظن يبقي في البئر بعد نزح الماء، وكذا الأحجار؛ فكان ينبغي أن تطم البئر، كما قاله بشر المريسي ومن تبعه، أي يردم ويسوى، يقال: طمّ ماء السيل الركية أبي دفنها وسوَّاها، والجواب ظاهر. ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا الإناء يغسل، فلم لا كانت البئر كذلك؟ قيل له: إنَّ البئر لا يستطاع غسلها؛ لأن ما يغسل به يرجع فيها وليست كالإناء الذي يُهراق منه ما يغسل به، فلما كانت البئر مما لا يستطاع غسلها وقد ثبت طهارتها في حال ما، وكان كل من أوجب نجاستها بوقوع النجاسة فيها فقد أوجب طهارتها بنزحها، وإنْ لم ينزح ما فيها من طين، فلما كان بقاء طينها فيها لا يوجب نجاسة ما يطرأ فيها من الماء وإنْ كان يجري على ذلك الطين؛ كان إذا ماسّ حيطانها أحرى ألَّا تنجس، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما طهرت حتى تغسل حيطانها ويُخرج طينها ويُحفر، فلما أجمعوا أن نزح طينها وحفرها غير واجب كان غسل حيطانها أحرى ألَّا يكون واجبا، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال قد نشأ من وجه قياس عدم وجوب طم البئر النجسة على عدم وجوب كسر الإناء النجس، بيانه أنكم لما أوجبتم غسل الإناء النجس ولم توجبوا كسره حيث قلتم أمر رسول الله - عليه السلام - بغسله ولم يأمر بكسره والحال أنه قد تشرب من الماء النجس وقستم البئر النجسة عليه حيث حكمتم بطهارتها بالنزح ولم تحكموا بالطم والحال أن حيطانها قد تشربت من الماء النجس، فَلِمَ ما حكمتم بغسل حيطانها قياسا على الإناء؟! والجواب طاهر. قوله: "وقد ثبت طهارتها في حال ما ... " إلى آخره جواب عن سؤال مقدّر تقريره أن يقال: سلّمنا أن غسل البئر متعسر غير مستطاع ولكن إخراج الطين غير متعسر فكان ينبغي أن يجب ذلك.

فأجاب بقوله: "وقد ثبت طهارتها" أي طهارة البئر "في حال ما" أي في حال من الأحوال وهي حالة النزح؛ لأن نزح ماء البئر كالجريان في غيرها فكما تثبت الطهارة في الماء الجاري بجريانه وإنْ وقعت فيه نجاسة فكذلك البئر تثبت لها طهارة بالنزح، فحينئذ كل من كان أوجب نجاستها بوقوعها فيها فقد أوجب طهارتها بواسطة ذلك النزح وإنْ لم ينزح ما فيها من طين وحمأة كما في قضية زمزم حيث حكم ابن الزبير وابن عباس بعد نزح مائها كلها بطهارتها ولم يحكما بنزح طينها وحماءتها، ثم لما كان بقاء طينها فيها لا يوجب نجاسة ما ينبع فيها من الماء الجديد بعد النزح وقلع الماء النجس وإنْ كان ذلك الماء الجديد يجري على ذلك الطين كان إذا ماسّ حيطانها أحرى وأولي ألَّا ينجس. قوله: "إذا ماسّ" بتشديد السين وأصله ماسس لأنه من باب المفاعلة الذي فيه الاشتراكة بين اثنين، وثلاثيه "مسّ" فلما نقل إلى باب المفاعلة لذلك المعنى أدغمت السين في السين ومضارعه يماسّ مماسّة ومساسا كما تقول: مادّ يمادّ مماددة ومدادا. قوله: "أحرى" بمعنى "أولى" ومنه يقال: هو حَري أن يفعل ذلك -بفتح الراء- أي خليق وجدير، لا يثني ولا يجمع، وإذا قلت: هو حَريّ -بكسر الراء على وزن فعيل- يُثَنَّي، ويجمع ويذكر ويؤنث، تقول: هما حَريّان، وهم حَريّون وأحرياء، وهي حَريّة، وهن حَريّات وحَرَايا. قوله: "ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر" أي ولو كان الحكم بطهارة البئر النجسة بعد إخراج مائها مأخوذا من طريق القياس ... إلى آخره. وعن هذا قال أصحابنا: إذا طهرت البئر يطهر طينها وحماءتها ودلوها ورشاها.

ص: باب: سؤر الهر

ص: باب: سؤر الهرّ ش: أي هذا باب في بيان أحكام سؤر الهرّ، وهو السنّور، والجمع هِرَرة، مثل قرد وقردة، والأنثى هرة وجمعها هرر مثل قربة وقرب، ومن أسمائها: القط والجمع قطاط، قال الأخطل: أكلت القطاط فأفنيتها ...... فهل في الخنانيص من مغمز والقطة السنّورة، وجمع السنّور سنانير. و"السؤر" بقية الماء التي يبقيها الشارب، وفي المطالع: كل بقيّة من ماء أو طعام فهو سؤر. قلت: أصله سُؤر بضم السين وسكون الهمزة وقد يخفف بالحذف، والفاعل منه مُسئِّرٌ على القياس ولكن السماع سَأرٌ. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، أن مالكا حدثه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة: "أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرّة فشربت منه، فأصغى لها أبو قتادة الأناء حتى شربت، قالت كبشة: فجعلت انظر إليه، فقال: أتعجيين يا بنت أخي؟ قالت: قلت: نعم. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات". ش: يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، شيخ مسلم والنسائي. وعبد الله بن وهب المصري، روى له الجماعة. ومالك هو ابن أنس الإِمام المشهور. وإسحاق بن عبد الله هو ابن أخي أنس بن مالك، روى له الجماعة.

وحميدة -بضم الحاء وعن مالك بفتحها- بنت عبيد بن رفاعة الأنصارية زوجة إسحاق المذكور، روى لها الأربعة. وكبشة بنت كعب بن مالك الأنصارية زوجة ابن أبي قتادة، روى لها الأربعة، ووثقها ابن حبان. وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الخزرجي الأنصاري، واسم أبيه عبد الله. وأخرجه الأربعة، فأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره، مثله، غير أن قوله: "من الطوافين عليكم والطوافات" من غير شك. والترمذي (¬2): عن إسحاق بن موسى (¬3)، عن معن، عن مالك، ... إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬5): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن حباب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬6) والحاكم في "مستدركه" (¬7) وقال: وقد صحح مالك هذا الحديث واحتج به في "موطئه" وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحَكَم في حديث المدنيين، فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرّ، ورواه ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 19 رقم 75). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 153 رقم 92). (¬3) في "الأصل، ك": إسحاق بن منصور، وهو تحريف، والمثبت من "جامع الترمذي"، وإسحاق ابن منصور لم يذكروا له رواية عن معن بن عيسى، وذكره المزي في "تحفة الأشراف" (9/ 272 رقم 12141) من طريق إسحاق بن موسى الأنصاري به. (¬4) "المجتبى" (1/ 55 رقم 68). (¬5) "سنن ابن ماجه" (/ 131 رقم 367). (¬6) "صحيح ابن حبان" (4/ 114 رقم 1299). (¬7) "مستدرك الحاكم" (1/ 263 رقم 567).

ابن خزيمة (¬1) وابن منده في صحيحيهما. فإن قلت: قد قال ابن منده: وحميدة وخالتها كبشة لا تعرف لهما رواية إلَّا في هذا الحديث ومحلهما محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر بوجه من الوجوه. قلت: لعل طريق من صححه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتثبت وقال البيهقي (¬2): قال البخاري: جوّده مالك وروايته أصح من غيره. قوله: "فسكبت له وضوءا" بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به. قوله: "فأصغى لها" أي أماله ليسهل عليها الشرب، قال الجوهري: صغي يصغو ويصغِي صُغوّا أي مال، وكذلك صَغِيَ -بالكسر- يَصغِي صَغا وصُغِيّا، وصَغَت النجوم: مالت للغروب، وأَصغيتُ أنا: أملتُ. قوله: "نَعم" بفتح النون، وكنانة تكسرها، وبها قرأ الكسائي وهي حرف تصديق ووعد وإعلام، فالأول بعد الخبر، والثاني بعد افعل ولا تفعل، والثالث بعد الاستفهام، وها هنا للإعلام. قوله: "إنها ليست بنَجَس" بفتح النون والجيم، ويقال لكل شيء مستقذر: نجس؛ قال الله تعالى: {الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا} (¬3) وهذا تعليل لإصغائه الإناء إليها. قوله: "إنها من الطوافين عليكم" تعليل لقوله: "إنها ليست بنجس" والطوافون هم بنو آدم ويدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإبل، وجعل النبي - عليه السلام - الهرّ من القبيلين لكثرة طوافه واختلاطه بالناس، وأشار إلى الكثرة بصيغة التفعيل؛ لأنه للتكثير ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 55 رقم 104). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 245) ونقله عن الترمذي عن البخاري. (¬3) سورة التوبة، آية: [28].

والمبالغة، وموصوف كل واحد من الطوافين والطوافات محذوف أقيمت الصفة مقامه، ويقَدَّر ذلك بحسب ما يليق له، مثل ما يقال: خدم طوافون، وحيوانات طوافات، وقال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬1) يعني المماليك والخدم الذين لا يقُدَرُ على التحفّظ منهم غالبا، ثم إنَّه وقع "أو الطوافات" بحرف الشك في رواية الطحاوي، وكذا في رواية ابن ماجه، ووقع عند غيرهما بواو العطف، وقد روي الوجهان عن مالك -رحمه الله-. ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن كعب بن عبد الرحمن، عن جده أبي قتادة قال: "رأيته يتوضأ، فجاء الهر، فأصغى له حتى شرب من الإناء، فقلت: يا أبتاه، لم تفعل هذا؟ فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله -أو قال: هي من الطوافين عليكم". ش: إسناده معلول بقيس بن الربيع؛ لأن فيه كلاما كثيرا. قوله: "يا أبتاه" منادى مضاف إلى تاء المتكلم، والتاء والألف عوضان عن يائه، والهاء للسكت. قوله: "أو قال" شك من الراوي. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا أبو الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة - رضي الله عنه - أنَّهَا قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإناء الواحد وقد أصاب الهرّ منه قبل ذلك". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي. ومؤمل بن إسماعيل القرشي أبو عبد الرحمن البصري، وثقه ابن حبان، واستشهد به البخاري، وروى له الأربعة. وأبو الرجال -بالجيم، جمع رجل- اسمه محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، من رجال الصحيحين. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [58].

وأمه عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، روي لها الجماعة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا [عمرو] (¬2) بن رافع إسماعيل بن توبة، قالا: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حارثة، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أتوضأ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد قد أصابت منه الهرة قبل ذلك". وأخرجه الدارقطني (¬3): عن الحسين بن إسماعيل، عن زياد بن أيوب، عن ابن أبي زائدة ... إلى آخره نحو رواية ابن ماجه. وحارثة هذا وثقه الدارقطني (¬4)، وضعفه البخاري والنسائي وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم. ويستفاد منه: طهارة سؤر الهرة، وجواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، وروي فيه أحاديث كثيرة تأتي إنْ شاء الله تعالى في باب سؤر بني آدم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان الثوري، عن حارثة ابن أبي الرجال. ونا أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، ثنا شجاع بن الوليد، عن حارثة بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذان طريقان آخران: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 131 رقم 368). (¬2) في "الأصل، ك": أبو عمرو، وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجه"، وعمرو بن رافع هو ابن الفرات بن رافع أبو حجر القزويني شيخ ابن ماجه، مترجم في "تهذيب الكمال" (22/ 19). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 69 رقم 17). (¬4) لم أجد هذا التوثيق عن الدارقطني، ولم ينقله عنه أحد إلا المصنف وأظنه وهم فيه، وفي علل الدارقطني (5/ ق 97): قال الدارقطني: ليس بالقوي، فعلى كل فحارثة متفق على تضعيفه، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (5/ 313 - 316)، وميزان الاعتدال (1/ 446).

عن حارثة بن أبي الرجال -بالجيم- عن عمرة، عن عائشة. والآخر: عن عبد الملك، عن شجاع بن الوليد ... إلى آخره. وحارثة هذا مختلف فيه (¬1) وقد ذكرناه الآن. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا خالد بن عمرو الخراساني، قال: ثنا صالح ابن حسان، قال: ثنا عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصغي الأناء للهر ويتوضأ بفضله". ش: صالح بن حسان النضري أبو الحارث المدني، ضعيف متروك، روى له أبو داود في "المراسيل" والترمذي وابن ماجه. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬2): ثنا موسى، ثنا محمَّد بن المبارك، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن داود بن صالح، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصغي لها لإناء لتشرب ثم يتوضأ بفضلها- يعني الهرة". قلت: رجاله موثقون. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فلم يروا بسؤر الهرِّ بأسا. ش: أراد بالقوم: الشافعي ومالكا وأحمد والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبا عُبيد. وفي "المغني" لابن قدامة: السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس ونحوهما من حشرات الأرض سؤرها طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره، وهذا قول كثير أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلَّا النعمان، فإنه كره الوضوء بسؤر الهرّ فإن فعل أجزأه. وروي عن ابن عمر أنه كرهه، وكذلك يحيى الأنصاري وابن أبي ليلى، وقال ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق، فهو متفق على تضعيفه. (¬2) "المعجم الأوسط" (8/ 55 رقم 7949).

أبو هريرة: يغسل مرة أو مرتين، وبه قال ابن المسيب، وقال الحسن وابن سيرين: يغسل مرة. وقال طاوس: يغسل سبعا كالكلب؛ ولأنها سبع فكره سؤرها كبقية السباع. ص: وممن ذهب بلى ذلك أبو يوسف ومحمد. ش: أي ومن الذين ذهبوا إلي طهارة سؤر الهر من غير كراهة الإِمام أبو يوسف ومحمد، وقد ذكر أكثر أصحابنا قول محمَّد مع أبي حنيفة. وقال صاحب "الإيضاح": والنوع الثاني من الأسئار الطاهرة المكروهة هو سؤر الهرة في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يكره. وقال صاحب "الهداية": وسؤر الهرة طاهر مكروه. وعن أبي يوسف أنه غير مكروه. وكذا أثبت الخلاف صاحب المنطوق وغيره، والذي ذكره الطحاوي أن محمدًا مع أبي يوسف هو الأصح، ألا ترى أنه روى حديث مالك المذكور في "موطئه" ثم قال: قال محمَّد: لا بأس بأن تتوضأ بفضل سؤر الهرة، وغيره أحب إلينا منه. وهذا قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوه. ش: أي خالف القوم المذكورين في سؤر الهر جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري وأبا حنيفة؛ فإنهم كرهوا سؤر الهرة وهو المروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. فإن قلت: أهي كراهة تحريم أم تنزيه؟ قلت: كان الطحاوي يقول: كراهة سؤرها كحرمة لحمها. وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب، وقال الكرخي: كراهة سؤرها لأنها تتناول الجيف فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة. وهذا يدل على أنه كراهة تنزيه وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الآثار.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن حديث مالك عن إسحاق ابن عبد الله لا حجة لهم فيه من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات" لأن ذلك قد يجوز أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماسّتها الثياب، فأمّا ولوغها في الماء فليس في ذلك دليل على أن ذلك يوجب النجاسة أم لا، وإنما الذي في الحديث من ذلك من فعل أبي قتادة، فلا ينبغي أن يحتج من قول رسول الله - عليه السلام - بما قد يحتمل المعنى الذي احتج به فيه ويحتمل خلافه، وقد رأينا الكلاب كونها في المنازل، للصيد والحراسة والزرع غير مكروه وسؤرها مكروه، فقد يجوز أيضًا أن يكون ما روي عن رسول الله - عليه السلام - مما في حديث أبي قتادة أريد به الكون في المنازل وليس في ذلك دليل على حكم سؤرها هل هو مكروه أم لا؟. ش: أي كان من الحجة للآخرين على أهل المقالة الأولى وهم أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد ومن تبعهم، تحرير هذا الكلام: أن احتجاج هؤلاء في مدعاهم بحديث مالك غير تام؛ لأنه قد يجوز أن يكون الرسول - عليه السلام - أراد من قوله: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات" باعتبار كون الهرّ في البيوت وملاصقتها ثيابهم ونومها معهم في فرشهم، وبالاحتمال لا تقوم الحجة، وأما ولوغها في الماء فليس في الحديث دليل أن ذلك يوجب نجاسة سؤرها أم لا، وإنما الذي في الحديث من ذلك وهو إصغاء الإناء للهرّ للشرب، فِعْلُ أبي قتادة وليس بفعل الرسول - عليه السلام - ولا حكاية عن فعله، فلا يحتج من قول رسول الله - عليه السلام - بما ذكرنا من الاحتمال. قوله: "ويحتمل خلافه" جملة وقعت حالًا أي بما قد يحتمل المعنى الذي احتج به الخصم فيه حال كونه محتملا لغيره، وهو الذي ذكره من قوله: "قد يجوز أن يكون أريد به ... " إلى آخره. قوله: "وقد رأينا الكلاب ... " إلى آخره ذكره تأييدا وأيضًاحا لما ذكره من الاحتمال بقوله: "لأن ذلك قد يجوز أن يكون أريد به كونها في البيوت ومماستها

الثياب" تحريره أن يقال: إنَّ الكلاب تكون في البيوت للصيد أو الحراسة أو الزرع وهو غير مكروه مع أن سؤرها مكروه فيجوز أن يكون ما روي في حديث أبي قتادة من هذا القبيل وليس فيه دليل على حكم سؤرها. على أنَّا نقول: قد خالف أبا قتادة رجلان من أصحاب النبي - عليه السلام - أبو هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - فذهبا إلى نجاسة سؤرها، فلم يكن مذهب أبي قتادة أولى من مذهبهما، على أنه قد وافقهما جماعة من التابعين. ص: ولكن الآثار الآخرى، عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إباحة سؤرها؛ فنريد أن ننظر هل روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يخالفها؟ فنظرنا في ذلك فإذا: أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهرّ أن يغسل مرة أو مرتين" قرة بن خالد شك. وهذا حديث متصل الإسناد فيه خلاف ما في الآثار الأول، وقد فَضَلهَا هذا الحديث بصحة إسناده، فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة الإسناد فإن القول بهذا أولي من القول بما خالفه. ش: لما بيّن أن حديث أبي قتادة لا يتم به الاحتجاج للاحتمال الذي ذكره، استدرك وقال: لكن أحاديث عائشة - رضي الله عنها -المذكورة صريحة بإباحة سؤرها فيُحتاج إلى النظر هل ورد عن النبي - عليه السلام - ما يخالف أحاديث عائشة، فنظرنا فإذا عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - ما يخالفها، ففي مثل هذا لا يؤخذ إلَّا بالأصح والأقوي، وهذا معنى قوله: "فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة الإسناد فإن القول بهذا" أي بحديث أبي هريرة "أولى"؛ لأن سنده صحيح ورجاله رجال الصحيحين ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي. وأبو عاصم اسمه الضحاك بن مخلد.

وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، قال: ثنا حماد بن الحسن وبكار بن قتيبة، قالا: ثنا أبو عاصم ... إلى آخره نحوه. قوله: "طُهور الإناء" بضم الطاء، بمعنى طهارة الإناء. قوله: "إذا ولَغ" من الولوغ، يقال: ولَغ الكلب في الإناء يلَغ -بفتح اللام فيهما- ولوغا، إذا شرب بأطراف لسانه، وعن ثعلبة أنه يقال: وَلِغَ -بكسر اللام- ولكنها غير فصيحة، وتبعه في ذلك أبو علي القالي وابن سيده وابن القطاع وأبو حاتم السجستاني، وزاد: وسكَّن بعضهم اللام فقال: وَلْغَ. وقال ابن جني: مستقبله يَلغ بفتح اللام وكسرها، وفي مستقبل وَلِغَ -بالكسر- يلَغ بالفتح. زاد ابن القطاع: ويلَغ بفتح اللام كما في الماضي. وقال ابن خالويه: ولَغَ يَلَغُ وُلُوغا وولْغَانا، وولِغ وُلُوغا وَوَلَغا وولُوغا ووَلَغَانا. قال أبو زيد: يقال: ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا. وقال ابن الأثير: وأكثر ما يكون الولوغ في السباع. وقال ابن قرقول: كل ولوغ شرب وليس كل شرب بولوغ، والشرب أعم، ولا يكون الولوغ إلَّا للسباع، وكل من يتناول الماء بلسانه دون شفتيه. فإذًا الولوغ صفة من صفات الشرب يختص بها اللسان، والشرب عبارة عن توصيل المشروب إلى محله من داخل الجسم، ألا ترى أنه يقال: شربت الثمار، والشجر والأرض؟ والمصدر من وَلَغ الكلب: الوُلُوغ -بالضم- قال الخطابي: فإذا كثر فهم الوَلُوغ- بالفتح. وقال المُطرزّ: الولْغ من الكلاب والسباع كلها: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع يحركه تحريكًا قليلًا أو كثيرًا. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 67 رقم 8).

وقال مكي في شرحه: فإن كان غير مائع يقال: لعِقه وَلَحِسَه. قال المطرز: فإن كان الإناء فارغا يقال: لَحِسَ، وإنْ كان فيه شيء يقال: ولغ. وقال ابن درستويه: معني ولغ لَطِعه بلسانه، شرب منه أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن، ولا يقال: ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه. ص: فإن قال قائل: فإن هشام بن حسان قد روى هذا الحديث عن محمَّد بن سيرين فلم يرفعه، وذكر في ذلك ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: أخبرني وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد، عن أبي هريرة قال: "سؤر الهرّ يُهراقُ ويغسل الإناء مرة أو مرتين". قيل له: ليس في هذا ما يجب به فساد حديث قرة؛ لأن محمَّد بن سيرين قد كان يفعل هذا في أحاديث أبي هريرة يقفها عليه، فإذا سئل عنها هل هي عن النبى - عليه السلام -؟ رفعها. ش: تقرير السؤال أن حديث عائشة المذكور مرفوع لم يَقِفَهُ أحد، وحديث أبي هريرة وقفه هشام بن حسان، فكيف يرجح على حديث عائشة؟! والجواب ظاهر، و [قال] (¬1) المحدثون في خبر يروى موقوفا على بعض الصحابة بطريق ومرفوعا إلى رسول الله - عليه السلام - بطريق فإن كان يرويه عن رسول الله - عليه السلام - من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت مرفوعا، وإنْ كان إنما يرويه عن رسول الله - عليه السلام - من ليس في الطبقة العليا ويرويه موقوفا من هو في الطبقة العليا فإنه يثبت موقوفا، وكذلك قالوا في المرسل والمسند، ولكن الفقهاء لم يأخذوا بهذا القول؛ لأن الترجيح عند أهل الفقه يكون بالحجة لا بأعيان الرجال (¬2). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": وقالت. (¬2) قلت: مدار الأمر عند الاختلاف على الضبط لا على المعاني، فالحجة عند الاختلاف تكون مع الأضبط والأتقن والأكثر.

وأخرجه الدارقطني (¬1) أيضًا موقوفًا في إحدى رواياته: عن النيسابوري، عن أحمد بن يوسف وإبراهيم بن هانئ كلاهما، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة "في الهر يلغ في الإناء قال: اغسله مرة أو مرتين" وكذلك عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة موقوفًا. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة "في الهر يلغ في الإناء قال: اغسله مرة وأهرقه". ص: والدليل على ذلك ما حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يحيى بن عتيق، عن محمَّد بن سيرين: "أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة فقيل له: عن النبي -عليه السلام-؟ فقال: كل حديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -". وإنما كان يفعل ذلك؛ لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلَّا عن النبي - عليه السلام -؛ فأغناه ما أعلمهم من ذلك في حديث ابن أبي داود أن يرفع كل حديث يرويه لهم محمَّد عنه، فثبت بذلك أيضًا اتصال حديث أبي هريرة هذا مع ثبت قرة وضبطه وإتقانه. ش: أي الدليل على أن محمد بن سيرين قد كان يقف أحاديث أبي هريرة عليه فإذا سئل هل هي عن النبي - عليه السلام - رفعها و"هو" مبتدأ قلت: "ما حدثنا" خبره. وإبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهروي شيخ الترمذي وابن ماجه، وثقه الدارقطني، وضعفه أبو داود. وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم البصري المعروف بابن عُلية، روى له الجماعة. ويحيي بن عتيق الطفاوي البصري، استشهد به البخاري، وروى له مسلم. قوله: "فأغناه" أي أغني محمَّد بن سيرين. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 68 رقم 9). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 99 رقم 344).

"ما أعلمهم من ذلك" أي ما أعلم الناس من أن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلَّا عن النبي - عليه السلام -. قوله: "محمَّد عنه" أي عن أبي هريرة. قوله: "مع ثبت قرة" أشار به إلى أن قرة بن خالد الذي رفع الحديث أثبت من هشام بن حسان الذي وقفه، قال يحيى بن سعيد: قرة بن خالد عندنا من أثبت شيوخنا. وروى له الجماعة. ص: ثم قد روي ذلك أيضًا عن أبي هريرة موقوفًا من غير هذا الطريق: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: "يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب". ش: أي ثم قد روي حديث غسل الإناء من الهر عن أبي هريرة موقوفًا عليه من غير طريق قرة بن خالد. وسعيد بن كثير -بفتح الكاف- بن عُفَير -بضم العين وفتح الفاء- الأنصاري، المصري أحد مشايخ البخاري وروى له مسلم. ويحيي بن أيوب الغافقي المصري، روى له الجماعة. وابن جريج اسمه عبد الملك، أبو خالد المكي، روى له الجماعة. وعمرو بن دينار المكي، روى له الجماعة. وأبو صالح اسمه ذكوان المدني، روى له الشيخان. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، إلى ... آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 248 رقم 1107).

ورواه الدارقطني (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا غيلان بن المغيرة، ثنا ابن أبي مريم، ثنا يحيى أيوب، أخبرني خير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب". ورواه أيضًا مرفوعا (¬2) قال: ثنا علي بن محمَّد المصري، ثنا روح بن الفرج، ثنا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب". وقال عبد الحق: قال الدارقطني لا يثبت هذا مرفوعًا، والمحفوظ من قول أبي هريرة، واختلف عنه (¬3). فإن قلت: هذا يقتضي أن يكون سؤر الهرّ نجسا كسؤر الكلب لأنهما تساويا في هذا الحكم. قلت: لا نسلم ذلك، فإن التشبيه لا عموم له، ولئن سلمنا ولكن تنجيسه قد سقط بعلة الطوف، ولا يلزم من سقوط النجاسة سقوط الكراهة، فافهم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن خير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح، وأخرجه بهذا الطريق الدارقطني وقد ذكرناه الآن (¬4). وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن سالم المعروف بابن أبي مريم أبو محمَّد المصري، أحد مشايخ البخاري. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 68 رقم 10) وقال الدارقطني عقبه: هذا موقوف، ولا يثبت عن أبي هريرة، ويحيى بن أيوب في بعض أحاديثه اضطراب. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 68 رقم 11). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 68 رقم 10). (¬4) تقدم تخريجه.

وخير بن نعيم قاضي مصر، روى له مسلم. وأبو الزبير اسمه محمَّد بن مسلم. وأبو صالح ذكوان. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم. ش: أي قد روي غسل الإناء من ولوغ الهر عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - روى أبو جعفر من ذلك ما روي عن ابن عمر من الصحابة فقط، وروى النسائي (¬1) من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: "أنه - عليه السلام - نهى عن ثمن الكلب والسنور" وإنما نهى عن ذلك لنجاستهما، فصار الهر كالكلب، إلَّا أن تنجيسه سقط بعلة الطوف فبقيت الكراهة، وروي من التابعين عن سعيد والحسن فقط على ما يجيء. وروى عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: الهر. قال: هو بمنزلة الكلب أو أشر منه". وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عن محمَّد "في الإناء (تلغ فيه الهرة) (¬4) قال: يغسل مرة". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: أخبرنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يتوضأ بفضل الكلب والهرّ، وما سوى ذلك فليس به بأس". ش: أبو بكر الحنفي اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد البصري، من جملة أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. وعبد الله بن نافع ضعيف متروك الحديث، روى له ابن ماجه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 309 رقم 4668) ورواه أحمد في "مسنده" (3/ 386 رقم 15176). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 98 رقم 342). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 340). (¬4) في "المصنف": يلغ فيه الهّر. بالتذكير.

وأبوه نافع مولى ابن عمر، روي له الجماعة. وروى عبد الرزاق (¬1): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يكره سؤر السنور". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الربيع بن يحيى الأشناني، قال: ثنا شعبة، عن واقد بن محمَّد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "لا تتوضئوا من سؤر الحمار ولا الكلب ولا السنور". ش: إسناده صحيح. والأشناني نسبة إلى بيع الأشنان. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يكره سؤر الحمار والكلب والهرّ أن يتوضأ بفضلهم". عبد الرزاق (¬3): عن الثوري، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مثله. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن أبي عُبيد الله، عن قتادة، عن سعيد قال: "إذا ولغ السنّور في الإناء فاغسله مرتين أو ثلاثًا". ش: إسناده صحيح. وسعيد هو ابن المسيب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: "يغسل مرتين أو ثلاثًا -يعني إذا ولغ السنور في الإناء". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 98 رقم 340). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 105 رقم 373). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 105 رقم 374). (¬4) الذي في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 344) من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ولفظه: "يغسل مرتين". ورواه (1/ 38 رقم 345) من طريق هشام، عن قتادة من قوله: "يغسل مرتين أو ثلاثًا".

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج -يعني ابن المنهال- قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: "في السنّور يلغ في الإناء، قال أحدهما: يغسله مرة. وقال الآخر: يغسله مرتين". ش: إسناد صحيح، وحماد هو ابن سلمة. والحسن هو البصري. قوله: "قال أحدهما" أراد به الحسن على ما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) عن معمر، عن يونس، عن الحسن: "أنه سئل عن الإناء يلغ فيه السنور قال: يغسل (مرة) (¬2) ". وأراد بقوله: "وقال الآخر" سعيد بن المسيب على ما رواه إبراهيم بن مرزوق في الخبر السابق. وروى عبد الرزاق (¬3): عن معمر عن قتادة قال: "سألت ابن المسيب عن الهرّ يلغ في الإناء قال: يغسل مرة أو مرتين. قال: وكان الحسن يقول: مرة أو ثلاثًا". ص: حدثنا سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا همام، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب والحسن يقولان: "اغسل الإناء ثلاثًا -يعني من سؤر الهرّ". ش: سليمان بن شعيب هذا من أصحاب محمَّد بن الحسن، قال في التهذيب: فقيه. والخَصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح القرشي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان. وهمام هو ابن يحيى بن دينار العوذي البصري، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 341). (¬2) ليست في "المصنف". (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 99 رقم 345).

ص: ثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرّة، عن الحسن: "في هرّ ولغ في الإناء وشرب منه، قال: يُصب ويغسل الإناء مرة". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي. وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند. وأبو حرّة -بضم الحاء المهملة وتشديد الراء- اسمه واصل بن عبد الرحمن البصري، روى له مسلم. وقد ذكرنا الفرق بين الولوغ والشرب في هذا الباب. ص: حدثنا روح بن الفرج القطان، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب: "أنه سأل يحيى بن سعيد عما لا يتوضأ بفضله من الدواب، فقال: الخنزير والكلب والهرّ". ش: روح وثقه الخطيب، وروى عنه الطبراني. ويحيي بن أيوب الغافقي المصري. ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني قاضيها، روى له الجماعة. قوله: "بفضله" أي سؤره، وقد سوى يحيى بن سعيد بين الكلب والخنزير والهر فيكون سؤر الثلاثة سواء، وقول عطاء بن أبي رباح مثله، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الحسن بن علي، قال: سمعت عطاء يقول في الهر يلغ في الإناء: "يغسله سبع مرات". وقد ورد في الحديث "الهِر سبعٌ" رواه أحمد في "مسنده" (¬2): بهذا اللفظ، وكذا رواه إسحاق بن راهوية (¬3) وابن أبي شيبة (¬4) في "مسنديهما" بهذا اللفظ، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 342). (¬2) "مسند أحمد" (12/ 442 رقم 9706) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) "مسند إسحاق بن راهوية" (1/ 222 رقم 178). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 343).

كلهم عن وكيع (¬1). ورواه الحكم في "مستدركه" (¬2): من حديث عيسى بن المسيب، ثنا أبو زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "السنور سبع". قال الحكم: حديث صحيح ولم يخرجاه، وعيسى هذا تفرد عن أبي زرعة إلَّا أنه صدوق ولم يجرح قط. انتهي. وتعقبه الذهبي في مختصره وقال: ضعفه أبو داود وأبو حاتم. انتهى. وقال ابن أبي حاتم في "علله" (¬3): قال أبو زرعة: لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح، وعيسى ليس بالقوي. انتهى. ورواه الدارقطني في "سننه" (¬4): بقصة فيه عن أبي النضر، عن عيسى بن المسيب، قال: حدثني أبو زرعة، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار فشق ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله، تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا! فقال - عليه السلام -: لأن في داركم كلبا. قالوا: فإن في دارهم سنورا. فقال - عليه السلام -: السنور سبع". ثم أخرجه مختصرا (¬5): من جهة وكيع ومحمد بن ربيعة، كلاهما عن [عيسي] (¬6) بن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "السنور سبع". وقال وكيع: "الهر سبع". ص: وقد شدَّ هذا القولَ النظرُ الصحيحُ؛ وذلك أنا رأينا اللُّحْمَان على أربعة أوجه: ¬

_ (¬1) أي كلهم عن وكيع عن عيسى بن المسيب عن أبي زرعة عن أبي هريرة به. (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 292 رقم 649). (¬3) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 44 رقم 98). (¬4) سنن الدارقطني (1/ 63 رقم 5). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 63 رقم 6). (¬6) في "في الأصل": سعيد وهو سبق قلم، والمثبت من "سنن الدارقطني" ويدل عليه ما تقدم من الروايات.

فمنها لحم طاهر مأكول، وهو لحم الإبل والبقر والغنم فسؤر كل ذلك طاهر؛ لأنه ماسَّ لحما طاهرا. ومنها لحم طاهر غير مأكول، وهو لحم بني آدم وسؤرهم طاهر؛ لأنه ماسَّ لحما طاهرا. ومنها لحم حرام، وهو لحم الخنزير والكلب فسؤر ذلك حرام؛ لأنه ماسَّ لحما حراما. فكان حكم ما ماسَّ هذه اللحمان الثلاثة كما ذكرنا يكون حكمه حكمها في الطهارة والتحريم. ومن اللحمان أيضًا لحم قد نُهي عن كله، وهو لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السِّباع، فمن ذلك السنور وما أشبهه فكان ذلك منهيّا عنه ممنوعا من أكل لحمه بالسُّنة، فكان في النظر أيضًا سؤر ذلك حكمه حكم لحمه؛ لأنه ماسَّ لحما مكروها فصار حكمُه حكمَه، كما صار حكم ما ماسَّ اللحمان الثلاثة الأول حكمها، فثبت بذلك كراهة سؤر السنور. ش: "شدَّ" بالدال المهملة أي قوّى، وأيّد هذا القول أشار به إلى قول من ذهب إلى كراهة سؤر الهرّ. قوله: "النظر الصحيحُ" فاعله و "هذا القولَ" بالنصب مفعوله. قوله: "وذلك" إشارة إلى النظر الصحيح في محل الرفع على الابتداء، وقوله: "أَنَّا رأينا" خبره ولهذا فتحت "أنّ" وأراد بالنظر الصحيح: القياس، وهو ظاهر. قوله: "فسؤر كل ذلك طاهر" فإن قلت: ليس هذا على عمومه؛ لأن الإبل الجلالة والبقر الجلالة سؤرهما مكروه. قلت: كراهة سؤرهما ليست مبنية على ما ذكر، وإنما هي لكونها تأكل النجاسات حتى لو حبست ومنعت من ذلك صار سؤرهما طاهرا على ما كان.

قوله: "وسؤرهم" أي سؤر بني آدم طاهر، وهذا عام في كل آدمي سواء كان مسلما أو كافرا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى طاهرا أو نجسا حائضا أو جُنبا إلَّا في حال شرب الخمر لنجاسة فمه حينئذ، وقيل: هذا إذا شرب الماء من ساعته، فأما إذا شرب بعد ساعة [...] (¬1) يبلع بصاقه فيها ثلاث مرات يكون طاهرا عند أبي حنيفة، خلافا لهما بناء علي مسألتين: إحداهما: إزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن بما سوى الماء من المائعات الطاهرة. والثانية: إزالة النجاسة الحقيقية بالغسل في الأواني ثلاث مرات، وأبو يوسف مع أبي حنيفة في المسألة الأولى ومحمد في الثانية، لكن اتفق جوابهما في هذه المسألة لأصلين مختلفين: أحدهما: أن الصب شرط عند أبي يوسف فلم يوجد. والثاني: أن ما سوى الماء من المائعات ليس بطهور عند محمَّد. قوله: "فسؤر ذلك حرام" فإن قلت: لا يلزم من كون سؤرهما حراما كونه نجسا. قلت: القصد ها هنا بيان أقسام اللحمان وإثبات النجاسة في هذا القسم يحصل ضمنا؛ وذلك لأنه لم يحرم إلَّا لقذارته ونجاسته، وقد قال بعض أصحابنا: نجاسة سؤر الكلب حكم ثابت بدلالة الإجماع؛ لأن الإجماع لما انعقد على وجوب غسل الإناء بولوغه كان لهذا الإجماع دلالة على نجاسة الماء؛ لأن لسان الكلب لم يلاق الإناء وإنما لاقى الماء، ولما ورد الشرع بتنجس الإناء مع أن لسانه لم يلاق الإناء فلأن يَرِد بتنجيس الماء ولسان الكلب لاقاه كان أولى. فإن قيل: يمكن أن يكون المراد من الأمر بالغسل من الولوغ لكونه قد نجس الإناء فحينئذ كان لسانه ملاقيا للإناء فلم يتم الاستدلال بالأولوية. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في "الأصل، ك".

قلت: الحقيقة لا تترك ما لم يقم الدليل على المجاز، فحقيقة الولوغ شرب الكلب المائعات بأطراف لسانه كما ثبت ذلك في كتب اللغة. قوله: "لحم قد نهي عن أكله وهو لحم الحمر الأهلية" لما روى مسلم في "صحيحه" (¬1): من حديث علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية". وكذلك لحم كل ذي ناب من السباع؛ لما روى مسلم (¬2): من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير". قوله: "فمن ذلك السنور" أي من كل ذي ناب من السباع السنور. "وما أشبهه" كابن عرس ودَلَق ونمس ونحوها؛ لقوله: - عليه السلام - "السنور سبع" فظهر من هذا الكلام أن كراهة سؤر الهرة عند الطحاوي لحرمة لحمها يدل أنه إلى التحريم أقرب، وعند الكرخي: لتناولها الجيف فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة، فهذا يدل على أن كراهته تنزيه، وقد ذكرناه مرة. فإن قيل: كان ينبغي على ما ذكره أن يكون سؤره نجسا؛ لأن لحمه منهي عنه فيكون حراما؛ فإذا كان حراما يكون كالكلب والخنزير. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الحرمة عارضة عليه لأنه ما حرّم إلَّا حين حرم السباع، فتكون نجاسته عنده عارضة لتناول اسم السبع عليه، فلم يؤثر ذلك في نجاسة سؤره، على أن حديث الطوف يدل على طهارة سؤره، فصار لسؤره شبهان: إنْ نظرنا إلى أنه سبع يقتضي أن يكون سؤره نجسا، وإنْ نظرنا إلى قوله - عليه السلام -: "إنها ليست بنجس" يقتضي أن يكون طاهرا، لكن لما انتفى التنجيس بعلة الطواف، بقيت الكراهة، وهذا هو التحقيق في هذا المقام. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1027 رقم 1407). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1534 رقم 1934).

قوله: "فصار حكمُه حكمَه" برفع الأول ونصب الثاني أي صار حكم سؤر الهر كحكم لحمه. قوله: "فثبت بذلك" جواب شرط محذوف، أي إذا تقرر هذا ثبت بذلك. ص: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة. ش: أي بهذا القول وهو كراهة سؤر الهر نأخذ، أشار بهذا إلى أن هذا القول هو اختياره، ومما ورد في الباب مما يوافق مذهب أبي يوسف ومن تبعه. ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أبي إسحاق قال: "ولغ هرّ في لبن لآل أبي قيس فأراد أهله أن يهريقوا اللبن، فنهاهم عن ذلك وأمرهم أن يشربوه". عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن حسين بن علي - رضي الله عنه -: "أن امرأة سألت عن السنور يلغ في شرابي، فقال: الهرّ؟ قالت: نعم. قال: فلا تهريقي شرابك ولا طهورك، فإنه لا ينجس شيئا". عن عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن قتادة وأيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الهرّ من متاع البيت". عبد الرزاق (¬4): عن الثوري، عن الحسن بن عُبيد الله، عن إبراهيم قال: "السنور من أهل البيت". عبد الرزاق (¬5): عن إبراهيم بن محمَّد، قال: أخبرني صالح مولى التوأمة، قال: سمعت أبا قتادة يقول: "لا بأس بالوضوء من فضل الهرّ، إنما هي من عيالي". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" 1/ 101 رقم 354). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" 1/ 102 رقم 357). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 102 رقم 358). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 103 رقم 36). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 100 رقم 350).

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي إسحاق قال: "ولغ هرّ في لبن لآل علقمة، فأرادوا أن يهريقوه، فقال علقمة: إنَّه ليتفاحش في صدري أن أهريقه". ثنا (¬2) روح بن عبادة، عن محمَّد بن عبد الرحمن العرني، قال: سمعت محمَّد بن علي يقول: "لا بأس أن يتوضأ بفضل الهرّ. ويقول: هي من متاع البيت". ثنا (¬3) عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن عكرمة قال: "كان العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - يوضع له الوضوء فيشغله الشيء، فيجيء الهرّ فيشرب منه، فيتوضأ منه ويصلي". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 338). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 331). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 37 رقم 334).

ص: باب: سؤر الكلب

ص: باب: سؤر الكلب ش: أي هذا باب في بيان أحكام سؤر الكلب، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لاشتمال كل منهما على أحكام السؤر، وتأخير هذا عن باب سؤر الهرّ؛ لكون الكلب أدنى حالا منه وأخس. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبى - عليه السلام - قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. والأعمش اسمه سليمان. وذكوان هو أبو صالح الزيات. وأخرجه الجماعة على ما نذكره. وأخرجه الدارقطني (¬1): عن عبد الله بن محمَّد، عن عباس بن الوليد النَرْسي، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات". قوله: "إذا ولغ" قد استقصينا تفسير الولوغ في الباب الذي قبله. واستنبط منه أحكام: الأول: استدلت به جماعة على وجوب غسل الإناء سبع مرات عند ولوغ الكلب، وسيأتي بيانه مفصلًا. الثاني: أن ظاهر الأمر بالغسل يدل على نجاسة الإناء والماء، ويؤيد ذلك الرواية الأخرى: "طهور إنائكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 63 رقم 1).

رواه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2)؛ وذلك لأن الطهارة تارة تستعمل عن الحدث وتارة عن الخبث، ولا حدث على الإناء فبقي الخبث، وأما مالك فحمله على التعبد؛ لاعتقاده طهارة الماء والإناء، وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد الخصوص بالسبع؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بما دون السبع؛ فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة وقد اكتفي فيها بما دون السبع، والحمل على الأول وهو التنجس أقوى؛ لأنه شيء دار الحكم بين كونه تعبدا وبين كونه معقول المعنى، فالثاني أولى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى، وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة فممنوع. الثالث: أن العلة من الحكم المذكور هي النجاسة، وقيل: القذارة لاستعماله النجاسات، وقيل: علته لأنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا؛ فغُلِّظ عليهم بذلك، ومنهم من قال: إنَّ ذلك معلل بما يتقى من كَلِب الكَلْب، والعدد السبع قد جاء في مواضع من الشرع على جهة الطب والتداوي، وفيه نظر؛ لأن الكَلْب الكَلِب لا يقرب الماء؛ على ذلك جماعة من الأطباء. الرابع: أن ظاهر الأمر فيه يدل على الوجوب، وعن مالك أنه للندب، وقد اتفق أصحابنا وجمهور الشافعية وجماعة من المعتزلة على أن الأمر المطلق -أي المتجرد عن القرائن الدالة على الوجوب أو العدم- أنه للوجوب وأنه حقيقة فيه، مجاز فيما سواه، وذهب بعض فقهاء أهل السنة وجماعة من المعتزلة إلى أنه حقيقة في الندب مجاز فيما سواه، وذهب طائفة إلى أنه حقيقة للطلب المشترك بين الوجوب والندب، وهو ترجيح الفعل على الترك فتكون من الاشتراك المعنوي، وقيل: مشترك بينهما باشتراك لفظي، وقيل: مشترك بين الوجوب والندب والإباحة بالاشتراك اللفظي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 234 رقم 279) من حديث أبي هريرة. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 19 رقم 71) من حديث أبي هريرة أيضًا، ووقع فيهما: "طهور إناء أحدكم".

الخامس: أن لفظ الإناء أعم من أن يكون إناء ماء، أو إناء مائع آخر، أو إناء طعام، وعن مالك: لا يغسل إلَّا إناء الطعام -وهو نص المدونة- لأنه مصون. السادس: أن ظاهر الحديث عام في جميع الكلاب، وفي مذهب مالك أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، والرابع لابن الماجشون: يفرق بين البدوي والحضري. ثم اختلف أصحابنا في الكلب هل هو نجس العين كالخنزير أم لا؟ والأصح أنه ليس بنجس العين كذا في "البدائع" وفي "الإيضاح": فأما عين الكلب فقد روي عن محمَّد أنه نجس، وكذا عن أبي يوسف، وبعضهم قالوا: هو طاهر؛ بدلالة طهارة جلده بالدباغ. وقال في فصل مسائل البئر: فأما الحيوان النجس كالكلب والخنزيز والسباع ينزح كله؛ لأنه نجس في عينه، ولهذا قالوا في كلب إذا ابتل وانتضح منه على ثوب أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وذكر في "قنية المنية" (¬1): الذي صح عندي من الروايات في "النوادر والأمالي" أن الكلب نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة ليس بنجس العين، وفائدته تظهر في كلب وقع في بئر وخرج حيّا فأصاب ثوب إنسان، ينجس الماء والثوب عندهما؛ خلافا لأبي حنيفة -رحمه الله-. السابع: أن الظاهرية تعلقوا بظاهر ألفاظ الحديث وحكموا بأشياء مخالفة للإجماع، فقال ابن حزم: فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا يهراق ما فيه البتة، وهو طاهر حلال كله كما كان، وكذا لَوْ وَلغَ الكلب في بقعة في الأرض أو في يد إنسان أو فيما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا يهراق ما فيه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا أبو صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) انظر "كشف الظنون" (2/ 1886).

ش: هذا طريق آخر ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهذا. والأعمش سليمان، وأبو صالح ذكوان. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المُقدَّميّ، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله، وزاد: "أولاهن بالتراب". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البُرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم أبي عبد الله الثقفي المقدمي شيخ البخاري، عن المعتمر بن سليمان بن طرخان، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة. وكلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، قال: نا قتادة، أن محمَّد بن سيرين حدثه، عن أبي هريرة، أن نبي الله - عليه السلام - قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرار (¬2) السابعة بالتراب". وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: نا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن [أو أُخراهن] (¬4) بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة". قوله: "وزاد أولاهن بالتراب" أي زاد ابن أبي داود في روايته: "أولاهن بالتراب". وهكذا وقع في رواية مسلم (¬5): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 19 رقم 73). (¬2) في "سنن أبي داود": "مرات". (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 151 رقم 91). (¬4) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي". (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 234 رقم 279).

ووقع في إحدى روايات ابي داود (¬1): "السابعة بالتراب" كما ذكرنا. وروى أيضًا (¬2): من حديث مطرف، عن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرار والثامنة عفروه بالتراب" وكذا رواه ابن ماجه (¬3) ومسلم (¬4). وروى الدارقطني (¬5): من حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء". ورواه الطبراني أيضًا في "الأوسط" (¬6)، وروى البزار أيضًا من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات- أحسبه قال: إحداهن بالتراب". وروى البيهقي (¬7): من حديث أيوب [عن ابن سيرين] (¬8) عن أبي هريرة: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن -أو أُخراهن- بالتراب". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة، قال: ثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن قرة بن خالد السَّدُوسي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 19 رقم 73). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 19 رقم 74). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 130 رقم 365). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 235 رقم 280). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 65 رقم 12). (¬6) "المعجم الأوسط" (8/ 42 رقم 7899). (¬7) "سنن البيهقي" (1/ 241 رقم 1079). (¬8) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: سئل سعيد عن الكلب يلغ في الإناء، فأخبرنا عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - ... مثله، غير أنه قال: "أولها -أو السابعة- بالتراب" شك سعيد. ش: هذا طريق آخر إسناده جيد. وسعيد هو ابن أبي عروبة مهران البصري، من رجال الصحيحين. ص: فذهب قوم إلى هذا الأثر، فقالوا: لا يطهر الإناء إذا ولغ فيه الكلب حتى يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب كما قال النبي - عليه السلام -. ش: أراد بالقوم: الأوزاعي والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى العمل بهذا الحديث، وقال ابن قدامة: يجب غسل الإناء سبعا إحداهن بالتراب من ولوغ الكلب، وهو قول الشافعي، وعن أحمد: أنه يجب ثمانيا إحداهن بالتراب، وروي ذلك عن الحسن، والرواية الأولى أصح، ويحمل الحديث الذي فيه الثامنة على أنه عد التراب ثامنة؛ لأنه وإنْ وجد مع إحدى السبع فهو جنس آخر، فيجمع بين الخبرين. انتهى. وعن الشافعي: يغسل سبعا أولاهن وأخراهن بالتراب. وفي "المغني": فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان والصابون والنخالة ونحو ذلك أو غسله ثامنة، قال أبو بكر: فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه، والثاني: يجزئه، وأظهر الوجهين في الغسلة الثامنة أنَّهَا لا تقوم مقام التراب، وقال غير أبي بكر: إنما كان جواز العدول إلى غير التراب عند عدم التراب أو كونه يفسد المحل المغسول، فأما لغير ذلك فلا. وقال أبو عبد الله بن حامد: إنْ كان التراب يفسد التور يعدل إلى غيره، وقال: والمستحب أن يكون التراب في الغسلة الأولى لموافقته لفظ الخبر، وليأتي عليه الماء فينظفه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: يغسل الإناء من ذلك كما يغسل من سائر النجاسات.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد ومن تبعهم. ص: واحتجوا في ذلك بما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال حدثني الأوزاعي. وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أحدكم فيم باتت يده". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بما قد روي عن النبي - عليه السلام - من الأحاديث. قوله: "فمن ذلك" أي فمن ما روي من الأحاديث ما حدثنا، فقوله: "ما حدثنا" مبتدأ، قلت: "فمن ذلك" خبره و"الفاء" تفصيلية. وقد روي هذا الحديث من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي -شيخ البخاري- عن الأوزاعي ... إلي آخره. وأخرج مثله ابن ماجه (¬1): ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من الليل ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، غير أن في روايته: "إذا قام" موضع "إذا استيقظ". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 138 رقم 393).

قوله: "من الليل" كلمة "من" ها هنا يجوز أن تكون على أصل معناها بمعنى إذا كان غاية قيام أحدكم من الليل، ويجوز أن تكون بمعنى "في" للظرف كما في قوله: تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1) أي فيها. قوله: "فلا يدخل" بجزم اللام لأنه نهي. قوله: "حتى يفرغ" من أفرغت الإناء إفراغا: قلبت ما فيه، وكذا أفرغت تفريغا، والمعنى حتى يصب على يديه مرتين أو ثلاثا، وفي سنن الكجي الكبير: "حتى يصب عليها صبة أو صبتين" وفي جامع عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك: "حتى يغسل يده أو يفرغ فيها فإنه لا يدري حيث باتت يده". وفي علل ابن أبي حاتم الرازي (¬2): "فليغرف على يده ثلاث غرفات" وفي لفظ (¬3) "ثم ليغترف بيمينه من إنائه" (¬4). وعند ابن عدي (¬5): من رواية الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا: "فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليُرِق ذلك الماء". قلت: أنكر ابن عدي على معلي بن الفضل الذي روى هذا الحديث عن الربيع ابن صبيح، عن الحسن، عن أبي هريرة زيادة: "فليرق ذلك الماء". والحديث منقطع أيضًا عند الأكثرين. قوله: "فيمَ باتت يده" (ما) استفهامية أي في أي شيء باتت يده، ويجب حذف ألف (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت ابقاء الفتحة دليلًا عليها نحو: فيم، وإلامَ، ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، آية: [9]. (¬2) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 62 رقم 162) من حديث عائشة. (¬3) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 65 رقم 170) من حديث أبي هريرة. (¬4) وقال أبو حاتم: ينبغي أن يكون "ثم ليغترف بيمينه ... " إلى آخر الحديث من كلام إبراهيم بن طهمان، فإنه كان يصل كلامه بالحديث، لا يميزه المستمع. (¬5) "الكامل" لابن عُدي (6/ 374 رقم 1857).

وعلام، وعلة الحذف الفرق بين الاستهفام والخبر، فلذلك حذفت نحو {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (¬1) وثبتت في {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} (¬2). واستنبط منه أحكام: الأول: استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاثًا على ما يجيء محررا عن قريب. الثاني: أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة. فإن قلت: كان ينبغي ألَّا تبقى هذه السُّنة؛ لأنهم كانوا يتوضئون من الأتوار، فلذلك أمرهم - عليه السلام - به، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك. قلت: السُنّة لما وقعت سُنة في الابتداء بقيت ودامت وإنْ لم يبق ذلك المعنى، كالرمل في الحج. الثالث: أن قيد الليل باعتبار الغالب، وإلَّا فالحكم ليس مخصوصًا بالقيام من النوم بالليل بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتي شك كُرِهَ له إدخالها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل، أو من نوم النهار، أو شك في نجاستها في غير نوم، هذا مذهب الجمهور، وعن أحمد: إنْ قام من نوم الليل كُرِهَ كراهة تحريم، وإنْ قام من نوم نهار كُرِهَ كراهة تنزيه، ووافقه داود الظاهري؛ اعتمادا على لفظ المبيت. الرابع: أن هذا النهي نهي تنزيه لا تحريم، حتى لو غمس يده لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس، وعن الحسن البصري وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس إنْ قام من نوم الليل، وهذا ضعيف، وفي "التلويح": قال الشعبي: النائم والمستيقظ سواء، لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها. وذهب عامّة أهل العلم إلى أن ذلك على الاستحباب، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها وأن الماء طاهر ما لم يتيقين نجاسة يده وممن روي عنه ¬

_ (¬1) سورة النازعات، آية: [43]. (¬2) سورة الأنفال، آية: [68].

ذلك: عَبيدة وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب والأعمش فيما ذكره المصنف. وقال ابن المنذر: قال أحمد: إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الماء قبل الغسل أعجب إلىّ أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل. ولا يهُراق في قول عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي عُبيد. واختلفوا في المستيقظ من النوم بالنهار، فقال الحسن البصري: نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد. وسهّل أحمد في نوم النهار ونهى عن ذلك إذا قام من نوم الليل، وقال أبو بكر: وغسل اليد في ابتداء الوضوء ليس بفرض. وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك وأن الماء ينجس إنْ لم تكن اليد مغسولة، وقال ابن القاسم: غسلهما عبادة. الخامس: أن قوله: "في الإناء" محمول على ما كانت الآنية صغيرة كالكوز، أو كبيرة كالحُبّ ومعه آنية صغيرة، أما إذا كانت الآنية كبيرة وليس معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة حتى لو أدخل أصابع يده اليسري مضمومة في الإناء دون الكف ويرفع الماء من الحبّ ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، يفعل كذلك ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ في الإناء إنْ شاء، هذا الذي ذكره أصحابنا. وقال النووي: وإذا كان الماء في إناء كبير بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به، فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه، أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره. قلت: لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ وما قاله أصحابنا أحسن وأوسع.

السادس: أن الفاء في قوله: "فإنه لا يدري" للتعليل وذلك لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن أن يطوف بيده على ذلك الموضع النجس أو على بَثْرة أو قذر غير ذلك. قلت: "فيم باتت يده" كناية عن وقوعها على دبره أو ذكره أو نجاسة، وإنما ذكر بطريق الكناية تحاشيا من التصريح به، وذلك من آداب النبي - عليه السلام - ونظائر ذلك كثيرة في القرآن والحديث. السابع: يُستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإنْ لم تغيره، وهذا حجة قوية لأصحابنا في نجاسة القلتين بوقوع النجاسة فيها وإنْ لم تغيره، وإلَّا لا يكون للنهي فائدة. الثامن: يُستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثًا لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى، ولم يرد شيء فوق الثلاث إلَّا في ولوغ الكلب، وسيجيء أنه - عليه السلام - أوجب فيه الثلاث وخيَّرَ فيما زاد. التاسع: أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار بل يبقي نجسا معفوّا عنه في حق الصلاة، حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتلّ به سراويله أو قميصه ينجسه. العاشر: أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش؛ فإنه - عليه السلام - قال: "حتى يفرغ عليها" وفي لفظ: "حتى يغسلها" ولم يقل: "حتى يرشها". الحادي عشر: استحباب الأخذ بالاحتياط في باب العبادات. الثاني عشر: أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه، وهذا بالإجماع، وفي العكس كذلك عندنا خلافا للشافعي، وقال النووي: وفيه دلالة أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته، وإنْ قلت ولم تغيره فإنها تنجسه؛ لأن الذي يعلق باليد ولا يرى قليل جدّا، وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن القلتين بل لا تقاربها، قال القشيري: وفيه نظر عندي؛ لأن مقتضى الحديث أن

ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه، ومطلق التأثر أعم من التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، فإذا سَلَّم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثر، ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس. [الثالث] (¬1) عشر: استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال - عليه السلام -: "فإنه لا يدري أين باتت يده" ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة أو نحو ذلك، وإنْ كان هذا معني قوله - عليه السلام -؛ وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح ليزى اللبس والوقوع في الخلاف في المطلوب، وعلي هذا يحمل ما جاء مصرحًا به. [الرابع] (¬2) عشر: أن قوله: "في الإناء" وإنْ كان عامّا لكن القرينة دلّت على أنه إناء الماء، بدليل قوله في الرواية الأخرى: "في وَضُوئه" وهو الماء الذي يتوضأ به، ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة، فافهم. ص: حدثنا ابن أبي داود وفهد قالا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح نصفه مصري ونصفه مدني. وأبو صالح اسمه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال أبو حاتم: صدوق أمين. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وسعيد هو ابن المسيب. وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "الثاني"، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه. (¬2) في "الأصل": "الثالث"، وهو سبق قلم أيضًا.

وأخرجه الترمذي (¬1): من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا زائدة بن قدامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح. والأعمش سليمان. وأبو صالح ذكوان. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "فليغسل يديه مرتين أو ثلاثا". ش: هذا طريق آخر رجاله رجال الصحيح. وأبو شهاب اسمه موسى بن نافع. وأبو صالح ذكوان. وأبو رزين اسمه مسعود بن مالك. قوله: "مرتين أو ثلاثا" يفيد أنه إذا اكتفي بالغسل مرتين يجوز؛ لأنه مستحب إذا قلنا: إن هذا شك في نجاسة اليد، أما إذا تحقق فإنه يجب عليه الغسل إلى أن تطهير، سواء كان بالثلاث أو أكثر، وهذا مذهب الجمهور؛ لأنه - عليه السلام - نبَّه على ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 36 رقم 24). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 25 رقم 103).

العلة وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، ولو كان النهى عامّا لقال: إذا أراد أحدكم استعمال الماء فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها. وعند بعض الشافعية: حكمه حكم الشك لكن أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم الناس فَيَسُدُّ الباب لئلَّا يتساهل فيه من لا يعرف. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذا طريق آخر بإسناد صحيح. وحجاج هو [ابن] (¬1) المنهال. وحماد هو ابن سلمة. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا ابن وهب، عن جابر بن إسماعيل، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من النوم فرغ على يديه ثلاثا". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وعُقيل بضم العين. وابن شهاب محمَّد بن مسلم الزهري. ورواه الدارقطني (¬2): من حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده منه -أو أين طافت يده- فقال له رجل: أرأيت إنْ كان حوضا؟ فحصبه ابن عمر، وقال: أخبرك عن رسول الله - عليه السلام - وتقول: أرأيت إنْ كان حوضا؟ ". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك". (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 49 رقم 3).

ويُستفاد منه: أن المستحب ألَّا ينقص عن الثلاث، فإن اقتصر على مرتين جاز وليس عليه بأس؛ لما ورد في الحديث السابق: "فليغسل يديه مرتين أو ثلاثًا". فإن قيل: فإن اقتصر على مرة ماذا يكون حكمه؟ قلت: ظاهر ما رواه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه (ماء) (¬2) ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من (منامه) (¬3) فليغسل يديه قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" يشعر بجواز الاكتفاء على واحدة ولكن المستحب ألَّا ينقصها عن الثلاث؛ لما تقرر من القواعد: أن المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الحكم. ص: قالوا: فلما روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطهارة من البول لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت يدهم من أبدانهم فقد يجوز أن تكون كانت في موضع قد مسحوه من البول (أو) (¬4) الغائط فيعرقون [فتتنجس] (¬5) بذلك أيديهم فأمر النبي - عليه السلام - بغسلها ثلاثًا، وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إنْ كان أصابها، فلما كان ذلك يُطهّر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات؛ كان أحرى أن يطهر مما هو دون ذلك من النجاسات. ش: أي قال أهل المقالة الثانية: "فلما روي هذا" أي حديث المستيقظ من النوم. قوله: "وهما أغلظ النجاسات" جملة وقعت حالا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 72 رقم 160). (¬2) ليست في "صحيح البخاري"، وأشار الحافظ في "الفتح" إلى أنها مذكورة في رواية أبي ذر فقط. (¬3) في "صحيح البخاري": "نومه". (¬4) تكررت من الناسخ في "الأصل". (¬5) في "الأصل، ك": يتنجس أوله "ياء" آخر الحروف.

قوله: "كان أحرى" أي كان الثلاث أولى أن يطهر مما دون البول والغائط من النجاسات. ص: وقد دلّ على ما ذكرنا من هذا ما قد روي عن أبي هريرة من قوله بعد رسول الله - عليه السلام - كما قد حدثنا إسماعيل بن إسحاق تُرُنْجَه قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة: "في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهرّ، قال: يُغسل ثلاث مرات" فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاث تطهر الأناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي - عليه السلام - ما ذكرنا، ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به ولا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - عليه السلام - إلَّا إلي مثله، وإلَّا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته. ش: أي قد دل على ما ذكرنا من قولهم: "قالوا: فلما روي ... " إلى آخره "ما قد روي عن أبي هريرة" و"ما" في محل الرفع على أنه فاعل "دلّ". تحرير ذلك: أن أبا هريرة أفتي بغسل الثلاث من ولوغ الكلب، والحال أنه روى عن النبي - عليه السلام - الغسل بالسبع فدل ذلك أن الأمر بالسبع قد نُسخ وأن النسخ قد ثبت عنده، وإنما قلنا ذلك لأن الراوي إذا ظهرت منه المخالفة فيما رواه قولًا أو فعلا فإن كان ذلك تنازع قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إنْ لم يُعلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث، وأما إذا عُلم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجة؛ لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه لا أصل للحديث، فإن الحال لا يخلو إما أن [تكون] (¬1) الرواية تقوّلا منه لا عن سماع، فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلّة المبالاة والتهاون بالحديث؛ فيصير به فاسقا لا تقبل روايته أصلا، أو يكون ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": كانت.

ذلك عن غفلة ونسيان وشهادة المغفل لا تكون حجة، فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه، فيجب الحمل عليه تحسينا للظن بروايته وعمله؛ فإنه روى على طريق إبقاء الإسناد وعلم أنه منسوخ فأفتي بخلافه، فبهذا الطريق حكمنا في حديث أبي هريرة لأنا نحسن الظن به، فحملنا ما رواه من السبع على أنه كان قد علم انتساخ هذا الحكم فأفتي بالثلاث، أو علم بدلالة الحال أن مراد رسول الله - عليه السلام - التقرب فيما وراء الثلاث، وهذا كما في قول عمر - رضي الله عنه - "متعتان كانتا على عهد رسول الله - عليه السلام -وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج" (¬1) فإنما يحمل هذا على علمه بالانتساخ، ولهذا قال ابن سيرين: هم الذين رووا الرخصة في المتعة وهم الذين نهوا وليس في رأيهم ما يرغب عنه ولا في نصيحتهم ما يوجب التهمة. وقال صاحب "البدائع": وما رواه الشافعي -أراد به الأمر بالسبع في ولوغ الكلب [في] (¬2) الإناء- كان في ابتداء الإِسلام لقطع عادة الناس في الألف بالكلاب، كما أمر بكسر الدِّنان، ونهى عن الشرب في ظروف الخمر حتى حرمت الخمر، فلما تركوا العادة أزال ذلك كما في الخمر، دلّ عليه ما روي في بعض الروايات: "فليغسله سبعا أولاهن -أو أخراهن- بالتراب" وفي بعضها: "وعفروا الثامنة بالتراب" وذلك غير واجب بالإجماع. قوله: "وقد روي عن النبي - عليه السلام -" جملة وقعت حالا. قوله: "ثبت بذلك" جواب لـ"ما". ثم إسناد الحديث المذكور صحيح؛ لأن إسماعيل بن إسحاق المعروف بتُرنجه قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه وهو صدوق. وترُونْجَه -بضم التاء المثناة من فوق والراء وسكون النون وفتح الجيم- ووقع صفة له ها هنا. ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 146). وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 325 رقم 14519) بنحوه من حديث جابر بن عبد الله عن عمر. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

وأبو نعيم الفضل بن دكين. وعبد السلام بن حرب روي له الجماعة وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي أبو عبد الله الكوفي روي له مسلم. وعطاء بن أبي رباح، روى له الجماعة. فإن قلت: قال البيهقي: تفرّد به عبد الملك من بين أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في زمانه تركه شعبة ولم يحتج به البخاري في صحيحه وقد اختلف عليه في هذا الحديث فمنهم من يرويه عنه مرفوعا، ومنهم من يرويه عنه موقوفا على أبي هريرة من قوله، ومنهم من يرويه عنه من فعله، وقد اعتمد الطحاوي على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع، وأن أبا هريرة لا يخالف النبي - عليه السلام - فيما يرويه عنه، وكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الإثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطا، برواية واحد قد عرف بمخالفة الحفاظ في بعض أحاديثه. قلت: هذا تحامل منه؛ لأن الحديث رواه الطحاوي بسند صحيح، ثم الدارقطني كذلك بسند قال في "الإمام": هذا سند صحيح، ثم ابن عدي أيضًا عن عمر بن شبة، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك إلى آخره. وعبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه"، وقال ابن حنبل والثوري: هو من الحفاظ. وعن الثوري: هو ثقة متقن فقيه. وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث. ويقال: كان الثوري يسميه الميزان. ولا يلزم من ترك احتجاج البخاري به أن يترك قوله، وتشنيعه على الطحاوي بأنه اعتمد على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع باطل؛ لأنه لما صح عنده هذه الرواية حمل رواية السبع على النسخ توفيقا بين الكلامين وتحسينا للظن في حق أبي هريرة، ولا سيما وقد تأيدت الرواية الموقوفة بالرواية المرفوعة على ما أخرجه

ابن عدي (¬1): عن الكرابيسي، عن إسحاق الازرق، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات". ثم قال لم يرفعه غير حسين بن علي الكرابيسي ولم أجد له حديثا منكرا غير هذا، وإنما حمل عليه أحمد بن حنبل من جهة اللفظ بالقرآن، فأما في الحديث فلم أر به بأسا. وبما روى عبد الرزاق (¬2): عن معمر قال: "سألت الزهري عن الكلب يلغ في الإناء، قال: يغسل ثلاث مرات" فهذا الزهري لو لم يثبت عنده نسخ السبع لما أفتي بما أفتي به أبو هريرة. وروى عبد الرزاق (¬3): أيضًا عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب؟ قال: كل ذلك سمعت: سبعا وخمسًا وثلاث مرات". فإن قلت: قد قال البيهقي: وقد روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة في الثلاث. قلت: يحتمل أن تكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، أو يكون ذلك بطريق الندب، ومُخطِّئ عبد الملك مُخْطئ. وقد روي عن أبي هريرة مرة واحدة أيضًا، قال عبد الرزاق (¬4): أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة "في الهرّ يلغ في الإناء قال: اغسله مرة واحدة". ¬

_ (¬1) "الكامل" لابن عُدي (2/ 366). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 97 رقم 366). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 97 رقم 333). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 99 رقم 344).

وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح، فهذا أدلّ دليل على ثبوت انتساخ السبع عنده، وأن مراده من رواية الثلاث هو أن يكون على الندب والاستحباب. ص: ولو وجب أن يعمل بما روينا في السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روى عبد الله بن المغفل في ذلك عن النبي - عليه السلام - أولى مما روى أبو هريرة؛ لأنه زاد عليه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن أبي التيّاح، عن مُطَرِّف بن عبد الله، عن عبد الله بن مُغفّل - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما لي وللكلاب؛ ثم قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات وعَفِّروا الثامنة بالتراب". ش: تحريره أن حديث السبع إذا لم يجعل منسوخا يكون العمل بحديث عبد الله بن مغفل أولى؛ لأنه زاد عليه -أي على حديث أبي هريرة- للاحتياط ولهذا ذهب إليه الحسن وأحمد -في رواية-. ورجال الحديث رجال الصحيح ما خلا بكَّارا. وأبو التَيَّاح اسمه يزيد بن حميد وهو بفتح التاء المثناة من فوق ثم الياء آخر الحروف المشددة وفي آخره حاء مهملة. ومُطَرِّف بضم الميم وتشديد الراء المكسورة. وأخرجه مسلم (¬1): عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة إلى آخره، ولفظه "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب! ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في [إناء أحدكم] (¬2) فاغسلوه سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم": (1/ 235 رقم 280). (¬2) في"صحيح مسلم": "الإناء".

وأبو داود (¬1): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬2): عن محمَّد بن عبد الأعلي، عن خالد، عن شعبة ... إلى آخره نحوه، وليس فيه "ما لي وللكلاب". وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة، عن شعبة ... إلى آخره مقتصرا على قوله: "إذا ولغ الكلب ... " إلى آخره. قوله: "ما لي وللكلاب" أراد بهذا التنبيه على النهي عن قتلها. قوله: "وعفروا" قال صاحب "المطالع": معناه اغسلوه بالتراب، وهو من العَفَر -بالتحريك- وهو التراب، يقال: عفره في التراب يعفره عفرا، وعفره تعفيرا أي مرّغه، وشيء معفور ومعفّر مُترّب. قوله: "الثامنه بالنصب على الظرفية وموصوفها محذوف، والتقدير: عفروه في المرة الثامنة بالتراب. ويُستفاد من هذه الروايات: أن قتل الكلاب كان جائزا ثم نُسخ. وروى الطبراني (¬4): من طريق الجارود عن إسرائيل، بإسناده إلى علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم، ومن اقتني كلبا لغير صيد ولا زرع ولا غنم؛ أوى إليه كل (يوم) (¬5) قيراط من الإثم مثل أحد". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 9 رقم 74). (¬2) "المجتبى" (1/ 54 رقم 67)، (1/ 177 رقم 336). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 130 رقم 363). (¬4) "المعجم الأوسط" (8/ 41، 42 رقم 7899). (¬5) في "المعجم الأوسط": "ليلة". وزاد في آخره: "وإذا ولغ الكلب في إناء فليغسله سبع مرات إحداهن بالبطحاء".

وأخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2): "من اقتني كلبا إلَّا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" رواه ابن عمر. فإن كان الكلب عقورا جاز قتله؛ لحديث عائشة رواه مسلم (¬3): "خمس (من الفواسق) (¬4) يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحُديَّا. ويُستفاد منه أيضًا: حرمة اقتنائه لغير الحاجة، نحو أن يقتني إعجابا بصورته أو للمفاخرة به، فهذا حرام بلا خلاف، وأما للحاجة نحو: الصيد وحراسة الزرع والغنم فجائز بلا خلاف، وفي معناه لحراسة الدروب والدور، واختلف في اقتناء كلب صيد ولا يصيد. ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب، عن شعبة فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر إسناده صحيح. ص: فهذا عبد الله بن مغفل قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه يغسل سبعا ويعفّر الثامنة بالتراب، وزاد على أبي هريرة، والزائد أولي من الناقص، فكان ينبغي لهذا المخالف لنا أن يقول: لا يطهر الإناء حتى يغسل ثمان مرات السابعة بالتراب والثامنة كذلك، ليأخذ بالحديثين جميعًا، فإن ترك حديث عبد الله بن مغفل فقد لزمه ما ألزمه خصمه في ترك السبع التي قد ذكرنا، وإلَّا فقد بينَّا أن أغلظ النجاسات يُطهِّر منها الإناء غسلُ ثلاث مرات، فما دونها أحرى أن يُطهّره ذلك أيضًا. ش: هذا موضح لقوله: "ولو وجب أن يعمل بما رويناه في السبع ... " إلى آخره، وأراد بالمخالف الشافعي وكل من ذهب إلى مذهبه في هذا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2088 رقم 5163). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1201 رقم 1574). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 856 رقم 1198). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم": "فواسق".

قوله: "والثامنة كذلك" يعني بالتراب فيكون استعمال التراب مرتين؛ لأن في حديث أبي هريرة: "سبع أخراهن بالتراب" وفي حديث ابن مغفل: "الثامنة بالتراب" فإن لم يعمل كذا لا يكون عملا بالحديثين، وقد أوَّل ذلك النووي وغيره حيث قالوا: المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن تراب مع الماء، فكان التراب قائم مقام غسله فسميت ثامنة لهذا. قلت: هذا مخالف لصريح الحديثين، فإن صريح حديث أبي هريرة يدل على أن يكون التراب واحدة من السبعة، وحديث ابن مغفل صريح بأن تكون الثامنة هو التراب، ولهذا روي عن الحسن أنه قال: "يفتقر إلى دفعة ثامنة". قوله: "فقد لزمه" أي المخالف المذكور. قوله: "وإلَّا" أي وإنْ لم يترك حديث ابن مغفل. "فقد بينّا" يعني فيما مضى. قوله: "يُطَهِّر منها الإناء" على صيغة المعلوم. و"غسلُ ثلاث" كلام إضافي فاعله. و"الإناءَ" بالنصب مفعوله، وفي بعض النسخ: "يَطْهُر منها الإناء بعد غسل ثلاث مرات" فعلى هذا يكون يطهر لازما بخلاف الأول فإنه متعد؛ لأنه من التطهير. ص: ولقد قال الحسن في ذلك بما روى عبد الله بن مغفل. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات والثامنة بالتراب". ش: ذكر هذا تأييدا لقوله: "والزائد أولى، من الناقص" أي لقد قال الحسن البصري في غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه. وأبو داود هو سليمان الطيالسي. وأبو حرة اسمه واصل بن عبد الرحمن.

ص: وأما النظر في ذلك فقد كفانا الكلام فيه ما بيّنا من حكم اللحمان في باب سؤر الهر. ش: أي في حكم ولوغ الكلب في الإناء فكان قد بيّن في باب سؤر الهرّ أن ما كان سؤره نجسا كان حكمه حكم سائر النجاسات، وحكم النجاسات أن تُطهر بالغسل ثلاث مرات، فكذلك الإناء الذي ولغ فيه الكلب يطهر بالغسل ثلاث مرات، والتقدير بالثلاث في إزالة النجاسات غير لازم عندنا، بل هو مفوض إلى غالب رأيه وأكثر ظنه، وإنما ورد النص بالثلاث بناء على غالب العادة، فإن الغالب أنَّها تزول بالثلاث، ولأن الثلاث هو الحد المضروب لإبلاع الأعذار كما في قصة العبد الصالح مع موسى - عليه السلام - حيث قال له موسى في المرة الثالثة: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} (¬1). ص: وقد ذهب قوم في الكلب يلغ في الإناء أن الماء طاهر ويغسل الإناء سبعا وقالوا: إنما ذلك تعبد تُعبدنا به في الآنية خاصة. فكان من الحجة عليهم: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحياض التي تردها السباع قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" فقد دلّ ذلك أنه إذا كان دون القلتين حمل الخبث، ولولا ذلك لما كان لذكر القلتين معنى، ولكان ما هو أقل منهما وما هو أكثر سواء، فلما جرى الذكر على القلتين ثبت أن حكمهما خلاف حكم ما هو دونهما، فثبت بهذا من قول رسول الله - عليه السلام - أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، وجميع ما بيّنا في هذا الباب هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالقوم: الأوزاعي ومالكا وأصحابه وبعض الظاهرية فإنهم قالوا: إنَّ الإناء إذا ولغ فيه الكلب لا ينجس الماء ولا الإناء، إنما يغسل سبعا تعبدا. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: [76].

وقال عياض في "شرح مسلم": مذهبنا في غسل الإناء من ولوغ الكلب تعبد مستحق العدد وهو مذهب أهل الظاهر، لكن يتنزه عنه عندنا مع وجود غيره وهو قول الأوزاعي، وقال الثوري: من لم يجد غيره توضأ به ثم تيمم. ووافقنا الشافعي في العدد وخالف في نجاسة الكلب فقال: هو نجس. وقد حُكي هذا عن سحنون. فإن قيل: ما حكم الخنزير إذا ولغ في الإناء؟. قلت: يقُاس على الكلب لنجاسته، وهو أحد قولي الشافعي، وعند مالك لا يغسل؛ لأنه لا يقتني فلا يوجد فيه علة الكَلِب من أذى الناس، وهو قول للشافعي، وعنه يغسل لتقذره وأكله الأنجاس. وقال الإِمام: احتج أصحابنا بتحديد غسل الإناء سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة. واختلف عندنا هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام في قوله: "إذا ولغ الكلب" هل هي للعهد أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؛ أيضًا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة، إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام. انتهى. والجواب عن ذلك: إنَّا لا نسلم أن يدل تحديد الغسل بالسبع على الطهارة، بل يدل على قوة النجاسة، ولهذا أمر بالتراب في السابعة مبالغة في قصد التنظيف، ولا نسلم أيضًا أن يحصل الإنقاء في مرة واحدة؛ لأن ذلك يعرف عقلًا ويلزمهم في قولهم بالتعبد أن يقولوا بغسل جميع الإناء ما لاقى الولوغ وما لم يلقه، عملًا بحقيقة لفظ الإناء، وأما الألف واللام في "الكلب" فلتعريف الحقيقة وتفيد الاستغراق، بيان ذلك أن المعرف باللام قد يكون نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد، مثل: الرجل خير من المرأة، وقد يكون حصة معينة منها واحدًا أو أكثر مثل جاءني رجل،

فقال الرجل كذا، وقد يكون حصة غير معينة منها لكن باعتبار عهدتها في الذهن نحو: ادخل السوق. وقد يكون جميع أفرادها نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬1) فإذا لم توجد قرينة البعضية كيف يحمل على العهد، بل يحمل على الاستغراق؛ حتى لا تترجح بعض المتساويات، ولا يفهم من الإطلاق إلَّا الاستغراق، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية كما قلنا، وأما تخصيص العام بالعادة إنما يكون في موضع يستبعد حمل الكلام على عمومه، نحو ما إذا قال: لا نأكل رأسًا، فإنه يستبعد أن يتناول كلامه رأس العصفور ونحوه، بخلاف الإناء فإنه لا يستبعد -لا عقلًا ولا عادة- أن يتناول الماء والطعام، على أن البعض لم يجوز هذا التخصيص. قوله: "فإنه" أي التعبد "في الآنية خاصة" احترز به عن الأمر بالغسل في غيرها فإنه للنجاسة. قوله: "فكان من الحجة عليهم" أي على القوم الذين قالوا بالتعبد. قوله: "فثبت بهذا" أي بما ذكرنا من قول رسول الله - عليه السلام - أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، فحينئذٍ تجب إراقته، وعلي قول الشافعي إذا كان الماء في الإناء مقدار القلتين لم تجب إراقته لأنه طاهر، وأما إذا كان غير الماء فإنه يراق وإنْ كان قلتين أو أكثر، وعن الأوزاعي إذا ولغ الكلب في إناء فيه عشرة أقساط لبن يهرق كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب، وعن المالكية قولان في غير الماء: أحدهما: أنه طاهر لا يهرق ولكن يغسل الإناء سبعا تعبدا. والآخر: أنه يهرق ويغسل الإناء سبعا، وقد شنع ابن حزم ها هنا على أبي حنيفة وأساء الأدب وقال: قال أبو حنيفة: لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلَّا مرة واحدة، وأن كل ما في الإناء يهرق -أي شيء كان- وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين؛ إلَّا ما روي عن إبراهيم أنه قال فيما ولغ الكلب: ¬

_ (¬1) سورة العصر، آية: [2].

اغسله، وعنه: اغسله حتى تنقيه. ولم يذكر تحديدا وهو قول مخالف لسُنّة رسول الله - عليه السلام - واحتج له بعض مقلديه بأن أبا هريرة قد روي عنه أنه خالفه، وهو باطل؛ لأنه إنما روى ذلك الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف وعلي نحس روايته شَرَطَ الثلاث، فلم يحصلوا إلَّا على خلاف السُّنة وخلاف ما اعترضوا به عن أبي هريرة، فلا النبي - عليه السلام - اتبعوا، ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا. قلت: هذا كلام في غاية السخافة والتفاهة؛ لأن أبا حنيفة لم يقل فيه بالمرة، ولا أحد من أصحابه، بل مذهبه أن يغسل ثلاث مرات كما أفتي به أبو هريرة، وحفظ هذا عن أبي هريرة، وكيف يقول وهذا قول لا يحفظ عن الصحابة ولما ثبت نجاسة الإناء بالولوغ، ثبت نجاسة ما يجاوره، سواء كان ماء أو غيره، وهو أيضًا محفوظ عن بعض الصحابة والتابعين. وقد روى عبد الرزاق (¬1): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان يكره سؤر الكلب". وروى (¬2): عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: ولغ الكلب في جفنة قوم فيها لبن فأدركوه عند ذلك، فغرفوا حول ما ولغ، قال لا تشربوه". وحكمه على حديث عبد السلام بالسقوط ساقط باطل؛ لأن الخبر صحيح صححه جماعة من المحدثين كما ذكرناه، وعبد السلام بن حرب ثقة مأمون حافظ، أخرج له الجماعة. وغمز أيضًا ابن قدامة في "المغني" علينا حيث قال: قال أبو حنيفة: لا يجب العدد في شيء من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة؛ لأنه روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 98 رقم 338). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 97 رقم 337).

سبعا"، فلم يعين عددا وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف، وقد روى غيره من الثقات: "فليغسله سبعا". قلت: كان أبو هريرة يغسل ثلاثًا والراوي إذا روى شيئًا ثم فعل بخلافه فالعبرة عندنا لما رأى لا لما روى وقد بسطنا الكلام فيه، وأيضًا روي من طريق أبي هريرة مرفوعًا التخيير المذكور، فلو كان السبع واجبا لم يخير بينه وبين الباقي، وأيضًا هذا الأمر كان حين أمر بقتل الكلاب فلما نهي عن قتلها نسخ ذلك، وأيضًا الأمر بالسبع محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وكون عبد الوهاب ضعيفًا لا يضرنا. لأن الدارقطني (¬1): أخرج عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات". وهذا إسناد صحيح، وقد مر الكلام فيه مستقصى. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 66 رقم 16). وقال الدارقطني: هذا موقوف، ولم يروه هكذا غير عبد الملك، عن عطاء، والله أعلم.

ص: باب: سؤر بني آدم

ص: باب: سؤر بني آدم ش: أي هذا باب في بيان أحكام سؤر بني آدم، وأرادَ به ما يبُقِيه في الإناء بعد الغسل والوُضوء، وتأخيره عن سؤر الكلاب من قبيل قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} (¬1). ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا المعليّ بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن يحيى الباهلي، عن المعلى بن أسد ... إلى آخره نحوه، وفيه: "بفضل وَضُوء المرأة". وأخرجه الدارقطني (¬3): أيضًا، عن عبد الله بن محمَّد بن سعيد المقرئ، عن أبي حاتم الرازي، عن المعلي بن أسد ... إلى آخره نحوه. ثم قال: خالفه شعبة، حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا الحسن بن يحيى، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس قال: "تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره، ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها". وهذا موقوف [صحيح] (¬4) وهو أولي بالصواب. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [40]. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 133 رقم 374). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 116 رقم 1). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن الدارقطني" (1/ 116 رقم 1).

وأخرجه البيهقي أيضًا مرفوعا (¬1) وموقوفا (¬2)، ثم قال: الموقوف أولى، وقال: قال البخاري: أخطأ من رفعه. قلت: الحكم للرافع (¬3) لأنه زاد، والراوي قد يفتي بالشيء، ثم يرويه مرة أخرى فيجعل الموقوف فتوى فلا تعارض المرفوع، وعبد العزيز بن المختار أخرج له الشيخان وغيرهما، ووثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة، فلا يضره وقف من وقفه، وصححه ابن حزم مرفوعا من حديث عبد العزيز بن مختار، وقال ابن القطان؛ رفعه عبد العزيز وهو ثقة، ولا يضره وقف من وقفه، وتوقف ابن القطان في تصحيحه لأنه لم يره إلَّا في كتاب الدارقطني، وشيخ الدارقطني فيه لم يعرف حاله، ولو رآه عند ابن ماجه أو عند الطحاوي لا توقف؛ لأن ابن ماجه رواه عن محمَّد بن يحيى، عن المعلى بن أسد، والطحاوي رواه عن محمَّد بن خزيمة وهما مشهوران. قلت: لا نشك أنه صحيح لأن رجاله رجال الصحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن خزيمة، أما عبد العزيز بن المختار فجاء في هذا الإسناد بطامّة، وهو خبر خطأ في السند والمتن جميعا، وشعبة أحفظ من مائتين من عبد العزيز، وأما عاصم عن ابن سرجس من النوع الذي كان يقول الشافعي: أخذ من طريق المجرَّة. قوله: "بفضل المرأة" أراد به فضل الماء الذي اغتسلت منه المرأة. قوله: "ولكن يشرعان جميعا" أراد أنهما يغتسلان معا، فلا يتقدم أحدهما على الآخر حتى لا يكون مغتسلا بفضل الآخر. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 192 رقم 876). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 192 رقم 877). (¬3) في هذا نظر؛ بل الحكم للأحفظ والأتقن سواء رفعه أو وقفه. والزيادة من الثقة قد تكون شاذة إذا خالف بها مَنْ هو أوثق منه أو أكثر عددًا كما سيأتي.

ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: نا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: "لقيت مَنْ صَحِبَ النبي - عليه السلام - كما صَحِبَه أبو هريرة أربع سنين، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " فذكر مثله. ش: إسناده صحيح، وصححه ابن القطان، وأبو بكر بن المنذر. وقال أحمد بن حنبل: إسناده حسن -فيما ذكره الأثرم- ولا التفات إلى قول ابن منده وابن حزم: لا يثبت من جهة سنده، زاد ابن حزم إنْ كان داود هذا هو عم ابن إدريس فهو ضعيف وإنْ لم يكن إياه فهو مجهول؛ لأن الحميدي كتب إلى أبي محمَّد في العراق يخبره بصحة هذا الخبر، ويبين له أن داود هذا هو ابن عبد الله الزعافري أبو العلاء الكوفي، روى عنه جماعة ووثقه أحمد وغيره، وقال ابن مفُوِّز: فلا أدري رجع أبو محمَّد عن قوله أم لا، وذكره البيهقي في "المعرفة"، وقال: هو منقطع، وداود بن عبد الله متفرد به، وذكره في "السنن" وقال رواته ثقات: إلَّا أن حميدا لم يسمّ الصحابي، فهو بمعنى المرسل، إلَّا أنه مرسل جيد؛ لولا مخالفة الأحاديث الثابتة الموصولة قبله، وداود لم يحتج به الشيخان انتهى. وعليه فيه مآخذ: الأول: قوله: "إنَّه بمعنى المرسَل" إنْ أراد أنه يشبهه في أنه لم يسم الصحابي فصحيح، لكنه لا يمنع خصمه من الاحتجاج ذاهبا إلى أنه لا حاجة إلى تسمية الصحابي بعد أن حكم التابعي له بالصحبة، وإنْ أراد أنه في معناه في أنه لا يحتج به قوم كما لا يحتجون بمرسل التابعي فغير صحيح لما قدمناه. الثاني: قوله: "مرسل جيّد" غير جيّد؛ بل هو مسند على الصحيح من أقوال العلماء. الثالث: قوله: "لولا مخالفة الأحاديث الثابتة" يعني بذلك ما تقدم، فليس جيدا لأمرين، الأول: شأن المحدث الأعراض عن المعارضة كما قرره الأئمة. الثاني: على تقدير التسليم يجاب بأنه لا بأس أن يتوضئا أو يغتسلا جميعًا من إناء

واحد يتنازعاه، على حديث عائشة، وميمونة، وأنس، وغيرهم، علي أنه لا يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة على حديث الحكم الغفاري، ولأن الأحاديث التي وردت في الكراهة عن الصحابة والتابعين لم يكن في شيء منها أن الكراهة في ذلك للرجل أن يتطهر بفضل وضوء المرأة، ولتلك الأحاديث علل ذكرها أبو بكر الأثرم في كتاب الناسخ والمنسوخ. الرابع: قوله: وداود لم يحتج به الشيخان، فيه نظر في موضعين: الأول: أنه إنْ أراد عيبه بذلك فليس بعيب عند المحدثين قاطبة؛ لأنهما لم يلتزما الإخراج عن كل ثقة، ولو التزماه لما [أطاقاه] (¬1).الثاني: إنْ كان يريد بهذا الكلام رد الحديث وهو الأقرب بضميمة كلامه على انقطاعه وغيره؛ فهو كلام متناقض لا حاصل تحته. الخامس: قوله: "منقطع" إنما يريد به الإرسال الذي أشار إليه في "السنن" لا الانقطاع الصِناعيّ، وزعم أبو عمر أن أبا عوانة رواه عن داود، عن حميد، عن أبي هريرة، وأخطأ فيه. قلت: زعم ابن القطان أن المبهم ها هنا قيل: هو عبد الله بن مغفل، وقيل: ابن سرجس. والحديث أخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن أبي عوانة ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬3): عن قتيبة عن أبي عوانة ... إلى آخره، ولفظه "نهي رسول الله - عليه السلام - أن يمتشط أحدنا كل يوم، أو يبول في مغتسله، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعا". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة، عن عاصم الأحول قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم الغفاري قال: "نهى ¬

_ (¬1) في "الأصل": أطاه. وكتب في الحاشية بخط مغاير: لعله: أطاقاه. وأظنه هو الصواب. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 21 رقم 81). (¬3) "المجتبى" (1/ 130 رقم 238).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة". لا يدري أبو حاجب أيهما قال. ش: إسناده حسن، وأبو حاجب اسمه سوادة بن عاصم العنزي، وثقه ابن حبان، وأخرجه الثلاثة: فأبو داود (¬1)، عن ابن بشار، عن أبي داود، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو -وهو الأقرع- "أن النبي - عليه السلام - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة". والترمذي (¬2)، عن ابن بشار، ومحمود بن غيلان كلاهما، عن أبي داود، عن شعبة إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬3)، عن ابن بشار ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "بفضل وضوء المرأة". وقال جماعة من المحدثين: هذا الحديث لا يصح. وقال البخاري: سوادة بن عاصم لا أراه يصح عن الحكم بن عَمرو. وأشار الخطابي أيضًا إلى عدم صحته، وقال ابن منده في كتاب الطهارة: لا يثبت من جهة السند. وقال أبو عمرو والآثار في هذا الباب مضطربة ولا تقوم بها حجة. وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: يسنده أحد غير عاصم؟ قال: لا، ويضطربون فيه عن شعبة، وليس هو في كتاب غُندَر، بعضهم يقول: من فضل سؤر المرأة، وبعضهم يقول: من فضل المرأة، ولا يتفقون عليه، ورواه التيمي إلَّا أنه لم يسمه، قال: عن رجل من الصحابة، والآثار الصحاح واردة بالإباحة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 21 رقم 82). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 93 رقم 64). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 132 رقم 273).

قلت: لما أخرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن. ورجحه ابن ماجه على حديث عبد الله بن سرجس، وصححه ابن حبان وأبو محمَّد الفارسي، والقول قول من صحَّحه لا من ضعَفه؛ لأنه بسندٍ ظاهره السلامة من مُضعَّفٍ وانقطاع، وقال ابن قدامة: الحديث رواه أحمد واحتج به. وتضعيف البخاري له بعد ذلك لا يقبل؛ لاحتمال أن يكون وقع له من غير طريق صحيح، ويُجاب عن قول أبي عبد الله بأنه مضطرب بأن معنى ما روي كله يرجع إلى شيء واحد وهو البقية، إِذ الرواية بالمعني جائزة بلا خلاف، وكونه ليس في كتاب غندر ليس بقادح؛ لأن غندر لم يَدَّعِ الإحاطة بجميع حديث شعبه، وإبهام الصحابي لا يضر بالإجماع. ص: حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، عن سوادة بن عاصم أبي حاجب، عن الحكم الغفاري قال: نهي رسول الله - عليه السلام - عن سؤر المرأة". ش: هذا طريق آخر، وفيه قيس بن الربيع، ضَعَّفه يحيى، وتركه النسائي. والفريابي هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري. ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فكرهوا أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل. ش: أراد بالقوم: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وأحمد بن حنبل، وداود، وآخرين، ولكن عندهم تفصيل: ففي "المغني": اختلفت الرواية عن أحمد في وضوء الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت به، والمشهور عنه أنه لا يجوز له ذلك، وهذا قول عبد الله بن سرجس، والحسن، وغنيم بن قيس، وهو قول ابن عمر في الحائض والجنب، قال أحمد: كرهه غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام -، وأما إذا كانا جميعًا فلا بأس، والثانية: يجوز الوضوء به للرجال والنساء. اختارها ابن عقيل، وهو قول أكثر أهل العلم.

وفي "التمهيد": قال أبو عمر: في هذه المسألة أقوال: الأول: لا بأس أن يغتسل الرجل بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جُنبا. الثاني: الكراهة، أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل. الثالث: الكراهة في أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، والترخيص في أن تتطهر المرأة بفضل وضوء الرجل. الرابع: أنهما إذا شرعا جميعا في التطهر فلا بأس به، وإذا خلت المرأة بالطهور فلا خير في أن يتوضأ بفضل طهورها، وهو قول أحمد بن حنبل. الخامس: لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه؛ شرعا جميعا أو خلا كل واحد منهما به، وعليه فقهاء: الأمصار، والآثار في معناه متواترة. وفي "المحلى" قال ابن حزم: وكل ما توضأت منه امرأة حائض أو غير حائض، أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلالٌ شربه للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال، ولا يكون فضلا، إلا ما كان أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا، والوضوء والغسل به جائز أي للرجال والنساء، وأما فضل الرجل فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة، إلَّا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده، ولم نجده صحيحا، فإن توضأ الرجل والمرأة من إناء واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز ولا نبالي أيهما بدأ قبل، أو أيهما أتم قبل. ثم استدل [بحديثي] (¬1) الحكم وابن سرجس، ثم قال: وبهذا يقول ابن سرجس والحكم وغيرهما، وبه تقول جويرية أم المؤمنين، وأم سلمة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": بحديث.

وقال قتادة: "سألت سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة، فكلاهما نهاني عنه". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس بهذا كله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة ومالك والشافعي وجماهير العلماء. ص: وكان مما احتجوا به في ذلك ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب ابن عطاء، عن شعبة، عن عاصم، عن معاذة، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نغتسل من إناء واحد". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن معبد، وعاصم هو ابن سليمان الأحول. ومعاذة بنت عبد الله العدوية، من العابدات - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): عن يزيد بن هارون، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): عن قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد وكلانا جنب". قوله: "ورسولُ الله" بالرفع عطف على قوله: "أنا" وذلك لأنه لا يحسن العطف على الضمير المرفوع إلَّا بمؤكد -على ما عرف- وفيه خلاف بين الكوفيين والبصريين. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عاصم، فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (7/ 457 رقم 4483) من طريق إبراهيم، عن حماد، عن قتادة وعاصم الأحول، عن معاذة العدوية ... إلى آخره بنحوه. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 115 رقم 295).

ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وحماد هو ابن سلمة وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمانية عشر طريقا على ما تقف عليها في هذا الباب. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة مثله. ش: إسناده صحيح، وأبو عبد الرحمن اسمه عبد الله بن يزيد الفقير، روى له الجماعة. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهريّ. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد، وكان يغتسل من القدح- وهو الفَرق". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عروة، عن عائشة مثله. ش: إسناده صحيح، وأبو الوليد اسمه هشام بن عبد الملك الطيالسي، شيخ البخاري وأبي داود. وأبو بكر بن حفص اسمه عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث أبي الوليد، عن شعبة إلى آخره نحوه، والبزار كذلك بهذا الإسناد. ص: حدثنا يونس، نا ابن وهب أن مالك حدثه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بمثله. ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 37 رقم 24135). (¬2) "سنن البيهقي" (1/ 187 رقم 847).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عبيد عن حريث، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة مثله. ش: إسناده معلول بحريث بن أبي مطر أبي عمرو الحنّاط -بالنون- الكوفي، ضعفه يحيى بن معين وغيره. ويعلى بن عبيد الطنافسي الكوفي، روى له الجماعة، والشعبي هو عامر بن شراحيل، ومسروق هو ابن الأجدع الهمْداني الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن عبيد الله بن يزيد الحراني، حدثني أبي، عن سليمان بن أبي داود الجزري، عن الحكم بن عتيبة، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: "لقد رأيتني أنازع رسول الله - عليه السلام - من إناء واحد" تعني الغسل. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب ابن خالد، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن عائشة مثله. ش: رجاله موثقون وأم منصور اسمها صفية بنت شيبة الحاجب الصحابية. فهذه طرق سبعة متوالية، والبقية تأتي عن قريب. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحدا". ش: الوهبي هو أحمد بن خالد الكندي، روى له الأربعة، وهو نسبة إلى أحد أجداه. وشيبان بن عبد الرحمن المؤدب، روى له الجماعة. وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، روى له الجماعة. وزينب بنت أم سلمة صحابية بنت صحابية. وأم سلمة اسمها هند.

وأخرجه البخاري (¬1): بأتم منه، عن [سعد] (¬2) بن حفص، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن زينب ابنة أبي سلمة حدثته، أن أم سلمة قالت: "حِضْتُ وأنا مع النبي - عليه السلام - في الخميلة، فانسَلَلْتُ فخرجت منها، فأخذت ثياب حيضتي فلبستها، فقال لي رسول الله - عليه السلام -: أَنَفِشتِ؟ قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة". قالت: وحدثتني "أن النبي - عليه السلام - كان يقبلها وهو صائم، وكنت أغتسل أنا والنبي - عليه السلام - من إناء واحد من الجنابة". وأخرجه مسلم (¬3): أيضًا مختصرا نحو: رواية الطحاوي. و"الخميلة" هي الأسود من الثياب. قوله: "فانسللتُ" أي ذهبت في خفية. قوله: "أنَفِستِ" بنون مفتوحة وفاء مكسورة، قال النووي: هذا هو الصحيح في اللغة أبي أَحِضْتِ، فأما في الولادة فَنُفِست بضم النون وكسر الفاء، وقيل: بضم النون وفتحها، وفي الحيض بالفتح لا غير. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أخبرتني ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي - عليه السلام - من إناء واحد". ش: حدثنا أبو بكرة بكَّار القاضي. وإبراهيم بن بشار الرمادي، وثقه ابن حبان. وسفيان هو: ابن عُيينة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 122 رقم 316). (¬2) في "الأصل، ك": سعيد، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح البخاري"، وسعد بن حفص هو الطلحي أبو محمَّد الكوفي، المعروف بالضخم، شيخ البخاري، له ترجمة في "تهذيب الكمال" (10/ 260). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 257 رقم 324).

وجابر بن زيد الأزدي اليحمدي، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة جميعا، عن ابن عيينة -قال قتيبة: ثنا سفيان- عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، قال: "أخبرتني ميمونة أنَّهَا كانت تغتسل هي والنبي - عليه السلام - في إناء واحد". وأخرجه الترمذي (¬2): أيضًا نحوه، عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عُيينة ... إلى آخره. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم بن عتيية، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "اغتسلت أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد". ش: إسناده صحيح، وعُتَيبَةُ بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): من حديث الأسود، عن عائشة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد ونحن جنبان". ص: حدثنا يزيد بن سنان البصري، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: نا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن عائشة مثله. ش: إسناده صحيح، وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو. وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة أنَّهَا أخبرته، عن النبي - عليه السلام -: "أنهما شرعا جميعا وهما جنب في إناء واحد". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 257 رقم 322). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 91 رقم 62). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 191 رقم 25624). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 268 رقم 1028).

وأخرجه البيهقي (¬1): من طريقه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال أخبرنا سعيد بن يزيد، قال: سمعت عبد الرحمن بن هرمز الأعرج يقول: حدثني ناعم مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - في مِركن واحد، نفيض على أيدينا حتى نُنْقيها، ثم نفيض علينا الماء". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وناعم -بالنون- بن أُجَيْل الهَمداني أبو عبد الله المصري مولى أم سلمة زوج النبي - عليه السلام -. وأخرجه النسائي (¬2) وقال: أخبرنا سويد بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن يزيد ... إلى آخره نحوه. قوله: "في مِركن" بكسر الميم، وهو الإجّانة التي تغسل فيها الثياب. قوله: "نفيض" من الإفاضة. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا شعبة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد اللهَ بن جَبْر، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل هو والمرأة من نسائه من الإناء الواحد". ش: رجال الطريقين كلهم من رجال الصحيحين، ما خلا ابن مرزوق وأبا بكرة. وأخرجه البخاري (¬3)، عن أبي الوليد، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 188 رقم 855). (¬2) "المجتبى" (1/ 129 رقم 237). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 103 رقم 261).

ومسلم أيضًا (¬1) وزاد: "من الجنابة". قوله: "والمرأةُ" بالرفع عطف على الضمير الذي في "يغتسل"، وقد ذكرنا أنه لا يحسن إلَّا بمؤكد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلم يكن في هذا عندنا حجةٌ على كل ما يقول أهل المقالة الأولى؛ لأنه قد يجوز أن يكونا كانا يغتسلان جميعا، وإنما التنازع بين الناس إذا ابتدأ أحدهما قبل الآخر، فنظرنا في ذلك فإذا عليّ بن معبد قد حدثنا، قال: ثنا عبد الوهاب، عن أسامة بن زيد، عن سالم، عن أم صُبيَّة الجُهنِيّة- زعم أنَّهَا قد أدركت وبايعت رسول الله - عليه السلام - قالت: "اختلفت يدي ويد رسول الله - عليه السلام -في الوضوء من إناء واحد". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة، عن سالم بن النعمان، عن أم صُبَيّة الجهنية مثله. ففي هذا دليل على أن أحدهما قد كان يأخذ من الماء بعد صاحبه. ش: لما احتجت أهل المقالة الثانية بالأحاديث المذكورة على أهل المقالة الأولى، عارضوهم وقالوا: لا نسلم أن أحاديثكم حجة علينا؛ لأن دعوانا في كراهة فضل الرجل للمرأة وفضل المرأة للرجل، وأحاديثكم لا تمنع هذا؛ لأنه يجوز أن يكونا قد اغتسلا معا، فلا يكون كلٌّ منهما مغتسلا بفضل الآخر، وهذا معنى قوله: "فلم يكن في هذا عندنا حجة" ... إلى آخره. فأجاب أهل المقالة الثانية عن هذا وقالوا: وجدنا أحاديث منها حديث أم صُبَيّة يدل على أن أحدهما قد كان يأخذ من الماء بعد صاحبه، فَفَسَّرت هذه الأحاديث معنى الأحاديث المذكورة، وأزالت الاحتمال الذي ذكروه. ¬

_ (¬1) هذا وهم من المؤلف رحمه الله؛ فمسلم هذا ليس صاحب الصحيح، وإنما هو مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري، فقد قال البخاري عقب إيراده للحديث في الموضع المذكور: وزاد مسلم ووهب عن شعبة: "من الجنابة". فذهل المؤلف -رحمه الله-، وظنه مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح فعزاه إليه. ومسلم لم يخرج هذا الحديث. ووهب هو ابن جرير كما حرره الحافظ في "الفتح".

ثم إنَّه أخرج حديث أم صُبيّة من طريقين صحيحين؛ لأن رجالهما كلهم موثقون، وسالم بن النعمان ويقال: أبو النعمان ويقال له: سالم بن سَرْج -بالجيم- وهو ابن خربوذ مولى أم صُبَيّة، وثقه ابن حبان. والحديث أخرجه أيضًا أبو داود (¬1)، وقال: ثنا النفيلي، ثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، عن ابن خرَّبُوذ، عن أم صُبَيَّة الجُهنية قالت: "اختلفت يدي ويد رسول الله - عليه السلام - في الوضوء من إناء واحد". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، عن أنس بن عياض، عن أسامة بن زيد، عن سالم أبي النعمان -وهو ابن سرْج- عن أم صُبَيّة الجُهَنيَّةِ، قالت: "ربما اختلفت يدي ويد رسول الله - عليه السلام - في الوضوء من إناء واحد". قال أبو عبد الله (¬3): سمعت محمدا يقول: أم صُبَيَّة هي خولة بنت قيس، فذكرت لأبي زرعة، فقال: صدق. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أبان بن صَمْعة، عن عكرمة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد، يبدأ قبلي". ش: إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي (¬4): وقال أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا محمَّد بن أيوب، نا موسى بن إسماعيل، نا أبان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أنا ورسول الله - عليه السلام - نغتسل من إناء واحد، فيبدأ قبلي". ص: ففي هذا دليل على أن سؤر الرجل جائز للمرأة التطهر به. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 20 رقم 78). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 135 رقم 382). (¬3) أي ابن ماجه. (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 188 رقم 854).

ش: أي في حديث عائشة هذا دليل صريح أن فضل الرجل يجوز للمرأة أن تتطهر به؛ لأنها قالت: "يبدأ قبلي"، أي يبدأ رسول الله - عليه السلام - في الغرف من الإناء؛ فتكون عائشة - رضي الله عنها - مغتسلة بما فضله رسول الله - عليه السلام -. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): كلاهما عن عبد الله بن مسلمة، عن أفلح ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا أفلح. وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن عبد الله بن مسلمة شيخ الشيخين، والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "كنت أَتَنَازعَ أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -الغُسل من إناء واحد من الجنابة". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه النسائي (¬3): وقال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبيدة بن حميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لقد رأيتُني أُنَازعُ رسول الله - عليه السلام - الإناء أغتسل أنا وهو منه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 103 رقم 258). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 256 رقم 321). (¬3) "المجتبى" (1/ 129 رقم 234).

قوله: "أتنازع" معناه تريد هي أن تغترف أولا، ويريد رسول الله - عليه السلام - أن يغترف أولا، فيتسابقان في تحصيله. ص: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا الخَصيب، قال: ثنا همام، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنَّهَا والنبي - عليه السلام - كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله". ش: إسناده صحيح، والخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح، وهمام بن يحيى البصري. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"، وقال: ثنا أبو خيثمة، نا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أغتسلت أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد كل واحد منا يغترف منه". قوله: "يغترف قبلها وتغترف قبله" معناه أنهما يتسابقان، يسبق أحدهما تارة والآخر أخرى. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن مبارك بن فضالة، عن أمه، عن معاذة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد، فأقول: ابْق لي، ابْق لي". ش: أبو عاصم النَّبيل اسمه الضحاك بن مخلد، روى له الجماعة. ومبارك بن فضالة بن أبي أمية البصري، ضعفه النسائي، ووثقه ابن حبان، واستشهد به البخاري. وأم مبارك لا ندري حالها ولا اسمها، ومعاذة [بنت] (¬1) عبد الله العدوية من العابدات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): وقال: ثنا هاشم بن القاسم، ثنا المبارك، حدثتني أمي، عن معاذة العدوية، عن عائشة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": ابن، وكتب بالحاشية بخط مغاير: لعله: بنت. وهو الصواب. (¬2) "مسند أحمد" (6/ 91 رقم 24643).

ص: حدثنا محمَّد بن العباس بن الربيع اللؤلؤى، قال: ثنا أسد بن موسى قال: ثنا المبارك، فذكر بإسناده مثله. ش: أخرج مسلم (¬1) هذا الحديث: عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني حتى أقول له: دَعْ لي، دَعْ لي" قالت: وهما جنبان. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن يزيد الرِّشْك، عن معاذة، عن عائشة مثله. ش: إسناده صحيح، ويزيد الرِّشْك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي أبو الأزهر البصري، روى له الجماعة، والرِّشْك -بكسر الراء وسكون الشين المعجمة- معناه القَسَّام بلغة أهل البصرة، وكان يُقَسِّم الدور فَسُمِّي به، ويقال: الرشك بالفارسية: الكبير اللحية، وكان كبير اللحية حتى قيل: إنَّ عقربا دخلت في لحيته فمكثت بها ثلاثة أيام فلم يعلم بها. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): وقال: ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن الغسل من الجنابة، فقالت: إنَّ الماء لا ينجسه شيء؛ قد كنت [أغتسل] (¬3) أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد، يبدأ فيغسل يديه". ص: حدثنا أبو بكرة [قال] (¬4): ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن بعض أزواج النبي - عليه السلام - اغتسلت من جنابة، فجاء النبي - عليه السلام - فتوضأ، فقالت له، فقال: إنَّ الماء لا ينجسه شيء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 257 رقم 321). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 172 رقم 25428). (¬3) في "الأصل، ك": اغتسلت، والمثبت من "مسند أحمد". (¬4) تكررت في "الأصل".

ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي، وأبو أحمد اسمه محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الزبيري. وسفيان هو الثوري. وسماك هو ابن حرب بكسر السين المهملة. وأخرجه الأربعة، فأبو داود (¬1): عن مسدد، عن أبي الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "اغتسل بعض أزواج النبي - عليه السلام - في جفنة، فجاء النبي - عليه السلام - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جُنبا، فقال رسول الله - عليه السلام -: إنَّ الماء لا يجنب". والترمذي (¬2): عن قتيبة، عن أبي الأحوص ... إلي آخره نحوه. والنسائي (¬3): عن سويد بن نصر، عن عبد الله المبارك، عن سفيان، عن سماك ... إلى آخره، ولفظه: "إنَّ الماء لا ينجسه شيء". وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. و"الجَفْنة": القصعة الكبيرة، ومعنى "الماء لا يَجنب": لا ينجس، من أجنب إجنابا. ثم اعلم أن أحاديث هذا الباب رويت عن عشرة من الصحابة، وهم عليّ، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبو هريرة، وعائشة، وأم صُبيّة، وأم سلمة، وأم هانئ، وميمونة بنت قيس. أما حديث علي - رضي الله عنه - فأخرجه أحمد (¬5): من حديث الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأهله يغتسلون من إناء واحد". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 18 رقم 68). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 94 رقم 65). (¬3) "المجتبى" (1/ 73 رقم 325). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 132 رقم 370). (¬5) "مسند أحمد" (1/ 77 رقم 572).

وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني (¬1) في "الكبير": من حديث عكرمة عنه: "أن رسول الله - عليه السلام - وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة، وتوضآ جميعا للصلاة". وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا محمَّد بن الحسن الأسديّ، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأزواجه يغتسلون من إناء واحد". وأما حديث أنس فأخرجه الطحاوي والبخاري، وقد ذكرناه (¬3). وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار في "مسنده" (¬4): من حديث عكرمة، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - كان هو وأهله -أو بعض أهله- يغتسلون من إناء واحد". وأما حديث عائشة فأخرجه الطحاوي، والبخاري (3). وأما حديث أم صُبَيّة فأخرجه الطحاويّ وأبو داود وابن ماجه (3). وأما حديث أم سلمة فأخرجه الطحاوي أيضًا، وأحمد (3). وأما حديث أم هانىء فأخرجه النسائي (¬5): من حديث مجاهد، عن أم هانئ بنت أبي طالب "أن النبي - عليه السلام - اغتسل هو وميمونة من إناء واحدٍ في قصعة فيها أثر العجين". وأخرجه ابن ماجه (¬6) أيضًا. ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (11/ 361 رقم 12016). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 40، 41 رقم 382). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 273)، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. (¬5) "المجتبى" (1/ 131 رقم 240). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 134 رقم 378).

وأما حديث ميمونة فأخرجه الترمذي (¬1): بإسناده إلى ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحدٍ من الجنابة"، وقال هذا حديث حسن صحيح. ص: فقد روينا في هذه الآثار تَطَهُّرِ كل واحد من الرجل والمرأة بسؤر صاحبه، فضاد ذلك ما روينا في أول هذا الباب؛ فوجَبَ النظر ها هنا لنستخرج به من المعنين المتضادين معنى صحيحا، فوجدنا الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذ بأيديهما الماء معا من إناء واحد أن ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضيء منه أن حكم كل ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك وكان وضوء كل واحد من الرجل ومن المرأة مع صاحبه لا ينجس الماء عليه؛ كان وضوءه بعده من سؤره في النظر أيضًا كذلك، فثبت بهذا ما ذهب إليه الفريق الآخر، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي وردت عن عائشة، وأم سلمة، وأم صُبَيَّة، وأنس، وابن عباس - رضي الله عنهم -. وأراد بما روينا في أول هذا الباب: حديث عبد الله بن سرجس، والحكم الغفاري. وجه التضاد بينهما ظاهر؛ لأن أحاديث أول الباب تمنع اغتسال الرجل بفضل المرأة واغتسال المرأة بفضل الرجل، وأحاديث عائشة ومن معها تطلق ذلك وتُجَوِّزه، ففي مثل هذا يطلب المخلص، ووجوهه كثيرة على ما عرف في موضعه، منها: يكون بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر والآخر موجبا للإباحة كما فيما نحن فيه، وكان الذي ينبغي على هذا أن تكون أحاديث أول الباب متأخرة عن الأحاديث الأخرى، ولكن هنا أبقى ما كان على ما كان؛ لكون الإباحة أصلًا فصارت الأحاديث [...] (¬2) كالمنسوخة [...] (¬3). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 91 رقم 62). (¬2) طمس في "الأصل، ك". (¬3) سبق تخريجه.

وقد قال البيهقي في الخلافيات: وحديث أبي حاجب عن الحكم إنْ كان صحيحا فمنسوخ، بإجماع الحجة على خلافه. قوله: "وَكَان وضوء" الواو فيه للحال. قوله: "فثبت بهذا" أبي بما ذكرنا من وجه النظر. قوله: "وهو قول أبي حنيفة" أي الذي ذكرنا من ثبوت ما ذهب إليه الفريق الآخر، وهو قول الشافعي، ومالك أيضًا.

ص: باب: التسمية علي الوضوء

ص: باب: التسمية علي الوضوء ش: أي هذا باب في بيان التسمية عند الوضوء، ولما فرغ عن بيان المياه التي هي آكد لتحصيل الطهارة، شرع في بيان أحكام الوضوء، وقدم بيان التسمية لاحتياج كل أمر ذي بال إليها في الابتداء به. ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود البغدادي، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا وهب، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، أنه سمع أبا ثِفال المُريّ يقول: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنَّهَا سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله يقول: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". ش: شيخ الطحاوي وثقه ابن يونس، وعفان بن مسلم روى له الجماعة، ووهيب بن خالد روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن حرملة المري روى له مسلم، وأبو ثفال -بكسر الثاء المثلثة بعدها الفاء وضبطه الدارقطني بضم الثاء- واسمه ثمامة بن وائل المري الشاعر، قال البخاري: في حديثه نظر، روى له الترمذي وابن ماجه، والمُرِّي -بضم الميم وتشديد الراء- نسبه إلى مرة بن غطفان. ورباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب بن عبد العزيز القرشي العامري المدني قاضيها، روى له الترمذي وابن ماجه هذا الحديث. وجدة رباح اسمها: أسماء بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: لا أدري ما اسمها. وأبو جدة رباح هو: سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرة. وأخرجه الترمذي (¬1) عن نصر بن علي وبشر، كلاهما عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن حرملة ... إلى آخره نحوه من غير ذكر: "لا صلاة لمن لا وضوء له". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 37 - 38 رقم 25).

وابن ماجه (¬1): عن الحسن بن علي الخلال، عن يزيد بن هارون، عن يزيد بن عياض، عن أبي ثفال ... إلى آخره، ولفظه: "لا صلاة لمن لا وضوء له ... " إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬2): وزاد: "ولا يؤمن بالله من لم يؤمن بي ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار". وكذا رواه البيهقي (¬3). وقال ابن قطان في كتاب "الوهم والإيهام": فيه ثلاثة مجاهيل الأحوال؛ جدة رباح لا يعرف لها اسم ولا حال، ورباح أيضًا مجهول الحال، وأبو ثفال كذلك مع أنه أشهرهم. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬4) هذا الحديث عندنا ليس بذلك الصحيح، وأبو ثفال مجهول، ورباح مجهول. وقال أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد. وعن الترمذي: أبو ثفال ليس بالمعروف جدّا. قلت: قوله: أبو ثفال ليس بالمعروف جدّا. غير مُسَلَّم؛ لأن البزار ذكر أنه مشهور. وعن البخاري: ليس في هذا الباب حديث أحسن عندي من حديث رباح بن عبد الرحمن. قوله: "لا صلاة" كلمة "لا" لنفي الجنس، وخبرها محذوف، أي لا صلاة حاصلة لمن لا وضوء له، أيّ صلاة كانت، وهذا بإجماع المسلمين من السلف والخلف، أن الصلاة لا تصح إلَّا بالوضوء. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 140 رقم 398). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 72 رقم 5). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 43 رقم 193). (¬4) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 52 رقم 129).

فإن قلت: قوله: "صلاة". مفرد مقابل المثنى والمجموع، وهو يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على الكثرة، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين. قلت: لا تنافي بين الاستغراق وإفراد الاسم؛ لأن "لا" التي لنفي الجنس إنما تدخل على الاسم المفرد حال كونه مجردا عن إرادة معنى الوحدة والكثرة؛ لأن دلالة اللفظ على المعنى منوطة بالإرادة الجارية على قانون الوضع، وإنما يلزم التنافي لو لم تجرد عن معنى الوحدة وأدخل عليه "لا" وكذلك الجواب في "لام" الاستغراق، ولأن معنى قولنا: "لا صلاة" كل فرد من أفراد الصلاة، لا مجموع الصلاة من حيث هو مجموع، والذي ينافي الإفراد والوحدة هو الثاني، كما في قولك: لا رجل في الدار. كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال. وقوله: "لا وضوء له" يتناول الوضوء الضمني أيضًا، أعني الوضوء الذي يوجد في الاغتسال، بأن اغتسل ولم يتوضأ، ويتناول خلفه الذي هو التيمم؛ لأنه طهارة في حق عادم الماء. قوله: "ولا وضوء" عطف على قوله: "لا صلاة". فإن قيل: إذا كان "ولا وضوء" عطف على "لا صلاة" كان ينبغي ألَّا يجوز الوضوء بدون ذكر الله كما لا تجوز الصلاة بدون الوضوء. قلت: نعم، ظاهر الكلام يقتضي ذلك، كما ذهب إليه جماعة، ولكن خرج هذا عن ذلك الحكم بدليل آخر سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. واستنبط منه أحكام: الأول: احتجت به جماعة على فرضية التسمية في الوضوء على ما يجيء مفصلا. والثاني: قوله: "اسم الله" يتناوله كل اسم -يعني من أسماء الذات والصفات- فظاهره يدل على أنه إذا ذكر الله على الوضوء مطلقا يكون أتي بالوجوب عند من يرى الوجوب، وبالسُّنة عند من يرى التسمية سُنة.

وقال ابن قدامة في "المغني" (¬1): وصفتها أن يقول: بسم الله، لا يقوم غيرها من الذكر مقامها، لأن التسمية عند الإطلاق تنصرف إلى قول: "بسم الله" بدليل التسمية المشروعة على الذبيحة والطعام وشرب الشراب. قلت: لفظ الحديث بعمومه ينافي هذا؛ لأنه لم يقل: لمن لم يذكر لفظة الله؛ وإنما قال: لمن لم يذكر اسم الله، وأسماء الله كثيرة بخلاف الذبيحة؛ لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح، فيجب أن يأتي بلفظة اسم الله؛ ليكون إظهارا لمخالفيهم في ذلك. والثالث: لفظ الحديث يدل على أن يكون ذكر اسم الله واقعا على الوضوء لقوله: "عليه" أي على الوضوء، ومعنى وقوعه عليه: أن يكون الوضوء مشمولا به، ولا يكون مشمولا به إلَّا بتقديم التسمية عليه، ولهذا قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء، لما أن الاستنجاء سُنَّه من سنن الوضوء، فيسمي قبله لتقع جميع أفعال الوضوء، فرضها وسننها بالتسمية. وقال بعضهم: يسمي بعده؛ لأن قبله حال انكشاف العورة، وذكر الله تعالى حال كشف العورة غير مستحب؛ تعظيما لاسم الله تعالى كذا في مبسوط شيخ الإِسلام. وذكر في "فتاوى قاضي خان": والأصح أنه يسمي مرتين، فلو سمى في أثناء الوضوء ينبغي أن يجزئ؛ لأنه ذكر اسم الله عليه، ولو سمى بعد فراغه منه لا يجزئ ولا يكون مقيما للتسمية. ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود البغداديُّ، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفير، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن أبي ثفال المري، قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان يقول: حدثتني جدتي، أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول ذلك. ش: هذا طريق آخر، وفيه أن جَدَّة رباح هي التي سمعت رسول الله - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 74).

وقال الدارقطني في "علله": اختلف فيه عن عبد الرحمن بن حرملة، فروى عنه وهيب، وبشر بن المفضل، وابن أبي فديك، وسليمان بن بلال، عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، عن جدته، عن أبيها، عن النبي - عليه السلام - وخالفهم حفص بن ميسرة، وأبو معشر نجيح، وإسحاق بن حازم، فرووه عن ابن حرملة، عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن، عن جدته، أنها سمعت النبي - عليه السلام -، ولم يذكروا أباها في الإسناد. قلت: في رواية الطحاوي سليمان بن بلال من جملة من خالف وهيبا وبشر بن المفضل وابن أبي فديك، وهذه الرواية تدل على أن جدة رباح صحابية، وقد ذكرنا أن ابن حبان ذكرها في التابعيات. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا الدراوردي، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن العامري، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: محمَّد بن سعيد بن سليمان الملقب: حمدان، وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمَّد، روى له الجماعة؛ البخاري مقرونا بغيره، نسبة إلى دراورد، قرية بخراسان. وابن حرملة عبد الرحمن. وأبو ثفال ثمامة. وابن ثوبان هو محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي المدني، روى له المجماعة. وأخرج أبو داود (¬1): عن قتيبة بن سعيد، عن محمَّد بن موسى، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر [اسم] (¬2) الله عليه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 25 رقم 101). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن أبي داود".

ورواه أحمد (¬1) بهذا الإسناد. ورواه ابن ماجه (¬2): عن أبي كريب وعبد الرحمن بن إبراهيم، كلاهما عن ابن أبي فديك، عن محمَّد بن موسى ... إلي آخره نحوه. فهذا أبو جعفر الطحاوي قد أخرج حديث التسمية عن صحابيين: سعيد بن زيد، وأبي هريرة. وفي الباب عن عائشة، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وأنس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي سبرة. أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فرواه البزار في "مسنده" (¬3) وقال: ثنا إبراهيم بن زياد الصائغ، نا أبو داود الحفري، نا سفيان، عن حارثة بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا بدأ الوضوء سمى". وأخرجه الدارقطني (¬4)، ولفظه: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا مَسَّ طهورا سمى الله". وأما حديث أن سعيد، فرواه ابن ماجه (¬5): من ثلاث طرق عن كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، أن النبي - عليه السلام - قال:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". وأما حديث سهل بن سعد فرواه ابن ماجه أيضًا (¬6): وقال: نا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 418 رقم 19408). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 140 رقم 399). (¬3) ذكره الحافظ ابن حجر في "زوائد مسند البزار" (1/ 159 رقم 159) ونقل عن البزار أنه قال بعده: حارثة ليِّن الحديث. (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 72 رقم 4) من طريق آخر. (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 139 رقم 397). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 140 رقم 400).

ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لا يصلي على النبي - عليه السلام - ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار". وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فرواه النسائي (¬1): وقال: أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: "طلب بعض أصحاب النبي - عليه السلام - وَضُوءا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل مع أحد منكم ماء؟ فوضع يده في الماء ويقول توضئوا بسم الله، فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، حتى توضئوا من عند آخرهم" قال: [ثابت] (¬2): قلت لانس: كم تراهم؟ قال: نحوًا من سبعين. وأما حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - فرواه الدارقطني (¬3)، وقال: نا أحمد بن محمَّد بن زياد، ثنا محمد بن غالب، ثنا هشام بن بهرام، ثنا عبد الله بن حكيم، عن عاصم بن محمَّد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ فذكر اسم الله على وضوءه كان طهورا لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوءه كان طهورا لأعضائه". وأخرجه البيهقي (¬4): بهذا الإسناد ثم قال: هذا ضعيف، وأبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث. قلت: أراد بأبي بكر الداهري عبد الله بن حُكيم -بضم الحاء وفتح الكاف، وذكره المزي بفتح الحاء-. قال يحيى بن معين: عبد الله بن حكيم أبو بكر الداهري ليس بشيء، وقال السعدي: كذاب مُصَرِّح. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات. وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فرواه الدارقطني (¬5) أيضًا وقال: نا عثمان بن أحمد ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 61 رقم 78). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي". (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 74 رقم 13). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 44 رقم 200). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 73 رقم 11).

الدقاق، نا إسحاق بن إبراهيم بن [سنين] (¬1)، قال: ثنا يحيى بن هاشم، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله؛ فإنه يطهر جسده كله، وإنْ لم يذكر اسم الله على طهوره لم يطهر منه إلَّا ما مَرَّ عليه الماء، فإذا فرغ من طهوره فليَشْهَدْ أن لا إله إلَّا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا قال ذلك؛ فتحت له أبواب السماء". ورواه البيهقي (¬2) مثله: وزادَ بعدَ قوله: "وأن محمدا عبده ورسوله": "ثم ليصل عليَّ، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة"، ثم قال: وهذا ضعيف لا أعلمه رواه عن الأعمش غير يحيى بن هاشم وهو متروك الحديث. وأما حديث أبي سبرة فرواه الطبراني في "الكبير" (¬3): بإسناده إليه مرفوعًا قال: "لا صلاة" لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار". ص: فذهب قوم إلى أن من لم يسم على وضوء الصلاة فلا يجزئه وضوءه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم: الحسن البصري، وإسحاق، وأحمد -في رواية- وبعض الظاهرية. وقال صاحب "البدائع": وقال مالك: إنَّ التسمية فرض إلَّا إذا كان ناسيا؛ فتقام التسمية بالقلب مقام التسمية باللسان دفعا للحرج، واحتج له بالحديث المذكور. وهذا غير صحيح؛ لأن مذهب مالك أن التسمية سُنة، وقد قال صاحب "الجواهر في مذهب مالك": وأما فضائله أي الوضوء فأربع: التسمية. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": سفيان، وهو تحريف، وما أثبتناه هو الصواب كما في "سنن الدارقطني"، وإسحاق بن إبراهيم بن سنين هو الختلى الحافظ. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (13/ 342). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 44 رقم 199). (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 296 رقم 755) ولفظه: "لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء ... " إلخ.

فهذا عدّها من الفضائل، وبين الفضيلة والفريضة فرق كثير. وروي عن الواقدي: ليس ذلك مما يؤمر به؛ من شاء قال ذلك ومن شاء لم يقله، وروي عن علي بن زياد إنكارها. وفي "المغني": ظاهر مذهب أحمد أن التسمية مسنونة في طهارات الحدث كلها، رواه جماعة من أصحابه عنه، وقال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به -يعني إذا ترك التسمية- وهذا قول الثوري، ومالك، والشافعي، وأبي عُبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى: أن التسمية واجبة في جميع طهارات الحدث: الوضوء، والغسل، والتيمم، وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الحسن، وإسحاق. ثم إذا قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته، فإن تركها سهوا صحت -وهو قول إسحاق- وإنْ ذكرها في اثناء الطهارة أتى بها، وقال أبو الفرج: إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأ يعني على كل حال؛ لأنه قد ذكر اسم الله على الوضوء، وقال بعض أصحابنا: لا تسقط بالسهو لظاهر الحديث، وقياسا لها على سائر الواجبات، والأول أولى. قال أبو داود: قلت لأحمد: إذا نسى التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو ألَّا يكون عليه شيء (¬1). ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من لم يسم على وضوئه فقد أساء، وقد طهّره وضوئه ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدا، ومالك، والشافعي، وأحمد -في أصح روايتيه- فإنهم قالوا: من لم يُسم على وضوئه جاز وضوئه، ولكنه يكون مُسيئا لتركه السُّنة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 72 - 73) بتصرف وتقديم وتأخير.

المهاجر بن قنفذ: "أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ من وضوئه قال: إنَّه لم يمنعني أن أرد عليك إلَّا أني كرهت أن أذكر الله إلَّا على طهارة". ففي هذا الحديث: أن رسول الله كره أن يذكر الله إلَّا على طهارة، وردّ السلام بعد الوضوء الذي صار به متطهرا، ففي ذلك دليل أنه قد توضأ قبل أن يذكر اسم الله تعالى. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بما قد حدثنا ... إلي آخره. وسعيد هو ابن أبي عروبة أبو النضر البصري، روى له الجماعة. وحُضَين -بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء وفي آخره نون- روى له مسلم وهذا الإسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن المثني، ثنا عبد الأعلي، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر، عن المهاجر بن قنفذ "أنه أتى النبي - عليه السلام - وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد [عليه] حتى توضأ، ثم اعتذر إليه قال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلَّا على طهر أو [قال] (¬2) على طهارة". وأخرجه النسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4) أيضًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5)، عن محمَّد بن جعفر، عن سعيد ... إلي آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 5 رقم 17). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "المجتبى" (1/ 37 رقم 38). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 26 رقم 350). (¬5) "مسند أحمد" (4/ 345 رقم 19056).

وكذلك البيهقي في "سننه" (¬1)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (¬2)، والحكم في "مستدركه" (¬3)، وقال: إنَّه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال ابن دقيق العيد في "الإمام": هذا الحديث معلول، ومعارض؛ أما كونه معلولا فلأن سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره، فيراعى فيه سماع من سمع منه قبل الاختلاط. وقد رواه النسائي (¬4): من حديث شعبة عن قتادة به وليس فيه: "أنه لم يمنعني ... " إلى آخره، ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره، عن الحسن، عن مهاجر منقطعا، فصار فيه ثلاث علل. وأما كونه مُعَارَضا فبما رواه البخاري (¬5) ومسلم (¬6): من حديث كريب عن ابن عباس قال: "بتّ عند خالتي ميمونة ... " الحديث. ففي هذا ما يدل على جواز ذكر اسم الله تعالى وقراءة القرآن مع الحدث. قوله: "ففي هذا الحديث" أي حديث مهاجر، أراد أن هذا الحديث دلّ أنه - عليه السلام - توضأ قبل أن يذكر اسم الله؛ فدل ذلك على عدم اشتراط التسمية. وفي "المبسوط": عَلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي الوضوء ولم يذكر التسمية. فتبيَّن بهذا أن المراد من قوله - عليه السلام -: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" نفي الكمال لا نفي الجواز، وفي الحديث المعروف: "كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله أقطع" أي ناقص غير كامل، وقد قيل: إنَّ الأحاديث التي وردت في هذا الباب كلها ليست بصحيحة ولا أسانيدها مستقيمة، ولهذا قال أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيّد. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 90 رقم 430). (¬2) "صحيح ابن حبان" (3/ 82 رقم 803، 806). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 272 رقم 592). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) "صحيح البخاري" (4/ 1665 رقم 4293). (¬6) "صحيح مسلم" (1/ 526 رقم 763).

قلت: قد ذكرنا عن جماعة أنهم صححوا حديث المهاجر، والأولى أن يقال الحديث محمول على نفي الفضيلة، حتى لا يلزم الزيادة على مطلق الكتاب بخبر الواحد، وذلك نحو قوله - عليه السلام -: "لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد". فإن قيل: قوله - عليه السلام -: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" نظير قوله - عليه السلام -: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" في كونه خبر الواحد، فكيف اختلف حكمهما من السُّنة والوجوب؟ قلت: قد قال بعضهم: لا نسلم أنهما نظيران في كونهما خبر الواحد، بل خبر الفاتحة أشهر من خبر التسمية فقدر مرتبة الحكم على حسب مرتبة العلة، وفيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إذا كان خبر الفاتحة مشهورا لكان تعيين الفاتحة فرضا؛ لجواز الزيادة على النص بالخبر المشهور، والأحسن أن يقال: قارن خبر الفاتحة مواظبة النبي - عليه السلام - عليها من غير ترك، فهذا دليل الوجوب، بخلاف التسمية حيث لم تثبت فيها مواظبة. فإن قلت: حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي أخرجه البزّار الذي ذكرناه عن قريب يدل على أنه - عليه السلام - كان يسمّي في الوضوء دائما. قلت: نعم، لكن لا نسلّم أنَّهَا كانت باعتبار أنَّهَا سُنّة الوضوء بل باعتبار أنَّهَا مستحبة في ابتداء جميع الأفعال. ص: وكان قوله - عليه السلام -: "لا وضوء لمن لم يُسمّ" يحتمل أيضًا ما قال أهل المقالة الأولي، ويحتمل لا وضوء له أي لا وضوء له متكاملا في الثواب كما قال: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، فلم يُرد بذلك أنه ليس بمسكين خارج من حدّ المسكنة كلها حتى تحرم عليه الصدقة، وإنما أراد بذلك أنه ليس بالمسكين المتكامل المسكنة الذي ليس بعد درجته في المسكنة درجة. ش: ملخص كلامه أن الحديث له احتمالان، فلا تقوم به الحجة.

فإن قلت: ما وجه ترجيح احتمال نفي الكمال مع أنه لا دليل يقُطعُ به لأحد الاحتمالين؟ قلت: طلب الموافقة لمعنى حديث المهاجر حتى لا يقع التضاد بينهما، على ما يذكره الطحاوي عن قريب. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عُمر الحوضى، قال: ثنا خالد بن عبد اللهَ، عن إبراهيم الهَجَريّ، عن أبي الأحوص، عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "ليس المسكينَ بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان. قالوا: فما المسكين؟ قال: الذي يستحي أن يسأل، ولا يجدُ ما يُغنيه، ولا يفُطنُ له فيعطَى". ش: لما نَظَّرَ بهذا في معنى نفي الكمال ذكره مسندا وإلَّا فليس له مدخل في هذا الباب. وأبو عُمر الحوضي اسمه حفص بن عمر، شيخ البخاري وأبي داود، والحوضي نسبة إلى حَوْض داود، مَحلَّه كانت ببغداد. وخالد بن عبد الله الطحان، روى له الجماعة، وإبراهيم بن مسلم الهجري قال الأزدي: صدوق، وفي "الميزان": ضعّفه ابن معين، والنسائي. وأبو الأحوص اسمُه عوف بن مالك، روى له مسلم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) قال: ثنا أبو معاوية، ثنا إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي تردّه التمرة ولا التمرتان ولا اللقمة ولا اللقمتان، ولكن المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يُفْطَنُ له فَيُتصَدَّق عليه" وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة كما يأتي إنْ شاء الله تعالي. قوله: "ليس المسكين" هو مِفْعِيل من صيغ المبالغة كمنطيق، واشتقاقه من السكون، ويستوي في هذه الصيغة المذكر والمؤنث، يقال: رجل مسكين، وامرأة مسكين، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 384 رقم 3636)

ويقال: مسكينة أيضًا، وجمعه مساكين ومسكينون، وقال الجوهري: المسكين الفقير، وقد يكون مع الذلة والضعف، يقال: تسكن الرجل وتَمسكن، كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وتمندل من المنديل على تمفعل وهو شاذ، والقياس: تسكن وتدرع وتندل مثل: تسمع وتَحَلَّم، وكان يونس يقول: المسكين أشد حالًا من الفقير، قال: وقلت لأعرابي: أنت أفقير أنت؟ فقال: لا والله، بل مسكين. وقال الخطابي: وقد اختلف الناس في المسكين والفقير، والفرق بينهما. فروي عن ابن عباس أنه قال: المساكين هم الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين، وعن مجاهد، وعكرمة، والزهري: أن المسكين الذي يسأل، والفقير الذي لا يسأل. وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال الشافعي: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زَمِنا كان أو غير زمن، والمسكين من له مال أو حرفة ولا يقع منه موقعا ولا يغنيه، سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل اللغة: المسكين الذي لا شيء له، والفقير من له البلغة من العيش، واحتج بقى الراعي: أما الفقيرُ الذي كانت حَلُوبَتَه وَفْقَ العِيال فلم يُتركْ له سَبَدُ. قال: فجعل للفقير حلوبته. وقيل: المسكين أحسن حالًا من الفقير لقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬1) فأثبت لهم مع المسكنة ملكا وكسبا، وهما: السفينة، والعمل بها في البحر، وقيل: إنما سماهم مساكين مجازا، على سبيل الترحم والشفقة عليهم إِذْ كانوا مطلوبين. وقال صاحب الهداية: الفقير من له أدنى شيء، والمسكين من لا شيء له وهذا مروي عن أبي حنيفة، وقد قيل على العكس والأول أصح، ووجهه {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬2) أي: لاصقا بالتراب من الجوع والعري، ووجه الثاني أن الفقير مشتق من انكسار فقار الظهر فيكون أسوأ حالًا من المسكين، فإن قلت: فائدة هذا الخلاف ماذا؟ قلت: في الوصايا والأوقاف وفي الزكاة لا يظهر الخلاف عندنا. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: [79]. (¬2) سورة البلد، آية: [6].

قوله: "بالطَوَّاف" خبر ليس، و "الذي ترده التمرة" جملة وقعت صفة للمسكين، يعني ليس المسكين بالدوران على الناس، والطواف: اسم من الطوف، يقال: طاف حول البيت يطوف طوفا، وطوَفانا، وتَطَوَّف، واستطاف كله بمعنى. قوله: "ما يغنيه" من الإغناء. قوله: "ولا يُعطى له" على صيغة المجهول، أي لا يُعلم له فقر حتى يُعطي له شيء، من فَطَن يفطِنُ، من باب ضَرَبَ يَضْربُ. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم، فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر، وقبيصة روى له الجماعة، وسفيان هو: الثوري، وإبراهيم هو: ابن مسلم الهجري. ص: حدثنا يونس قال: ثنا ابنُ وهب، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. ش: يونس هو: ابن عبد الأعلي، شيخ مسلم، وابن وهب هو: عبد الله بن وهب المصري، روى له الجماعة، وابن أبي ذئب هو: محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة، وأبو الوليد اسمه: عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري، نسيب محمَّد بن سيرين، ختن ابن سيرين على أخته، قال: أبو زرعة ثقة. وقال: أبو حاتم يكتب حديثه. ص: حدثنا أبو أميّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم، قال: ثنا عليّ بن عياش الحِمْصي، عن ابن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: أبو أميّة وثقه ابن حبان، وروي عنه النسائي، وعلي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- أبو الحسن الحمصي أحد مشايخ البخاري، وروى له الأربعة، وابن ثوبان هو: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي أبو عبد الله

الدمشقي الزاهد، روى له الأربعة، وعن يحيى ضعيف، وعنه صالح، وعنه لا شيء، وعن النسائي ليس بثقة، وعن دحيم ثقة يُرمى بالقدر. وأخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة بن سعيد، عن المغيرة -يعني: الحزامي- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمةُ واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: وما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غناء يُغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا". ص: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذا طريق آخر على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن الأعرج. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عثمان بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يفطنون به فيعُطونه". وأخرجه النسائي (¬3): عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن شريك، عن عطاء ابن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان؛ إن المسكين المتعفف، واقرأوا إنْ شئتم {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬4) ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 719 رقم 1039). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 118 رقم 1631). (¬3) "المجتبى" (5/ 84 رقم 12571). (¬4) سورة البقرة، آية: [273].

ص: وكما قال: "ليس المؤمن الذي يبيتُ شبعان وجارُه جائع". حدثنا بذلك أبو بكرة قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المُساور -أو ابن أبي المُساور- قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يُعاتبُ ابن الزبير في البخل ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المؤمن الذي يبيت شبعان، وجارُه إلى جَنبه جائع". ش: هذا عطف على قوله: كما قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان" أي وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "حدثنا بذلك" أي بقوله: "ليس المؤمن " ... إلى آخره. وأبو بكرة بكَّار القاضي، ومؤمل بن إسماعيل القرشي البصريّ وثقه يحيى وابن حبان، وسفيان هو: الثوري، وعبد الملك بن أبي بشيرالبصري، وثقه يحيى، وعبد الله بن المساور وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يؤمن مَن باتَ شبعان وجارُه طاوٍ إلى جَنْبه". وأخرجه البخاري في كتاب "الأدب" (¬2) من حديث عبد الله بن مساور. قوله: "شبعان" نصب على أنه خبر لقوله: "يبيت" الواو في "وجاره" للحال، وكلمة "إلى" في "إلى جنبه" بمعنى عند، كما في قول الشاعر: أم لا سبيل إلي الشباب وذكره .... أشهى إلىَّ من الرحيق السَلْسل أي: أشهى عندي. ص: فلم يُرد بذلك أنه ليس بمؤمن إيمانا خرج بتركه إياه إلى الكفر، ولكنه أراد به أنه ليْس في أعلي مراتب الإيمان، في أشباه لهذا كثيرة يطول الكتابُ بذكرها، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 164) رقم 30359). (¬2) "الأدب المفرد" للبخاري (1/ 52 رقم 112).

فكذلك قوله:" لا وضوءَ لِمَنْ لم يُسمّ" لم يُرد بذلك أنه ليس بمتوضيء وضوءا لم يخرج به من الحدث، ولكنه أراد أنه ليس بمتوضئ وضوءا كاملا في أسباب الوضوء الذي يُوجبُ الثواب، فلما احتمل هذا الحديث من المعاني ما وصفنا، ولم تكن هناك دلالة يُقطع بها لأحد التأويلين على الآخر، وجبَ أن يُجعل معناه موافقا لمعاني حديث المهاجر حتى لا يتَضادان، فثبت بذلك أن الوضوء بلا تسمية يخرجُ به المتوضيء من الحدث إلى الطهارة. ش: أي لم يرد النبي - عليه السلام - بذلك أي بقوله: "ليس المؤمن الذي يبيت شبعان، وجاره جائع"، أنه خرج بتركه ذلك عن الإيمان إلى الكفر؛ لأن حقيقة الإيمان موجودة فيه لعدم ما يضادِده، ولكنه - عليه السلام - أراد بذلك أنه ليس المؤمن الكامل في مراتب الإيمان، والإيمان له مراتب، وشُعب كما قال - عليه السلام -: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فبتركه شعبة منها لا يخرج عن حقيقة الإيمان، ولكن عن تلك الشعبة التي هي من فضائل الإيمان. قوله: "في أشباه لهذا كثيرة" يتعلق بمحذوف، أي كما أراد - عليه السلام - هذا المعني في أشباه، أي أمثال ونظائر لهذا، أي للحديث المذكور. قوله: "كثيرة" بالجرّ صفة لأشباه. منها ما رواه البخاري (¬1): عن مسدّد، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". ومنها ما رواه (¬2) أيضًا عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام -قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده" وهذا من إفراد البخاريّ. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 14 رقم 13). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 14 رقم 14).

ومنها ما رواه (¬1): عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: مَنْ يا رسول الله؟، قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، وأمثال هذا كثيرة، وكل ما ورد من ذلك فهو محمول على المعنى الذي ذكره. قوله: "حتى لا يتضادان" أي حديث التسمية وحديث المهاجر، ولأن حديث التسمية يقتضي عدم جواز الوضوء بدونها، وحديث المهاجر يقتضي [جوازه] (¬2) بدونها، فإذا أُوّلَ معنى حديث التسمية، بالتأويل المذكور يتوافق مع حديث الهاجر، ويرتفع التضاد، والعمل بالحديثين أولى من العمل بأحدهما وإهمال الآخر. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا أشياء لا يُدْخَلُ فيها إلَّا بكلام، منها العقدة التى يعْقدها الناس لبعض من البياعات والإجارات والمناكحات والخلع، وما أشبه ذلك فكانت تلك الأشياء لا تجب إلَّا بأقوال، وكانت الأقوال منها إيجاب؛ لأنه يَقولُ: قد بعتك، قد زوجتك، قد خلعتك، فتلك أقوال فيها ذكر العقود، وأشياء يُدْخَلُ فيها بأقوال وهي: الصلاة، والحج، فَيدخَلُ في الصلاة بالتكبير، وفي الحج بالتلبية، فكان التكبير في الصلاة والتليية في الحج ركنا من أركانهما، ثم رجعنا إلى التسمية في الوضوء، هل تشبه شيئًا من ذلك؟ فرأيناها غير مذكور فيها إيجابُ شيء كما كان في النكاح والبيوع؛ فخرجت التسمية لذلك من حكم ما وصفنا، ولم تكن التسمية أيضًا ركنا من أركان الوضوء كما كان التكبر ركنا من أركان الصلاة، وكما كانت التلبية ركنا من أركان الحج؛ فخرج بذلك أيضًا حكمها من حكم التكبير والتلبية، فبطل بذلك قولُ مَنْ قال: إنَّه لا بد منها في الوضوء كما لا بد من تلك الأشياء فيما يُعمل فيه. ش: ملخّصه أن ثمة أشياء لا يمكن تحصيلها إلَّا بالقول كما في البيع مثلا، فإنه لا يمكن تحصيله إلَّا بالقول، وهو الإيجاب، وكما في الصلاة لا يصح الشروع فيها إلَّا بالقول وهو التكبير، وكما في الحج لا يصح الشروع فيه إلَّا بالقى وهو التلبية، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2240 رقم 5670). (¬2) في "الأصل، ك": جوازها، وما أثبتناه هو الصواب.

فنظرنا في التسمية في الوضوء هل لها شبه لشيء من تلك الأشياء؟ فلم نجد فيها إيجاب شيء كما في البيع ونحوه، فخرجت من حكم ذلك، ولم تكن هي ركنا من أركان الوضوء كالتكبير في الصلاة، والتلبية في الحج، فخرجت بذلك أيضًا من حكم ذلك، فحينئذ بطل القول بأنه لا بد منها في الوضوء كما لا بد من الإيجاب في المعاملات، والقول المخصوص في العبادات، فافهم. قوله: "من البِياعات" بكسر الباء، وتخفيف الياء، جمع بياعه، مصدر كالبيع. ص: فإن قيل: فإنا قد رأينا الذبيحة لا بدّ من التسمية عندها، ومَنْ ترك ذلك متعمدًا لم تؤكل ذبيحته، فالتسمية أيضًا على الوضوء كذلك، قيل له: ما ثبتَ في حكم النظر أن مَنْ ترك التسميةَ متعمدًا على الذبيحة أنَّهَا لا تُؤكلُ؛ فقد تنازع الناسُ في ذلك، فقال بعضهم: تؤكل، وقال بعضهم: لا تؤكل، فأما من قال: تؤكل فقد كُفِينا البيانَ لقوله، وأما من قال لا تؤكل فإنه يقول: إن تركها ناسيا أكل، وسواءٌ عنده كان الذابح مسلما أو كافرا بعد أن يكون كتابيّا، فجعلت التسمية ها هنا في قول من أوجبها في الذبيحة إنما هي لبيان الملَّة، فإذا سَمى الذابح صارت ذبيحته من ذبائح الملّة المأكولة ذبيحتها، وإذا لم يُسم جُعلت من ذبائح الملل التي لا تؤكل ذبيحتها، والتسمية للوضوء ليست للملّة إنما هى مجعولة لذكر على سبب من أسباب الصلاة، فرأينا من أسباب الصلاة: الوضوء، وستر العورة، فكان مَنْ ستر عورته لا بتسمية لم يضره ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون مَنْ تطهير أيضًا لا بتسمية لم يضره ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال وارد على وجه النظر المذكور، تقريره أن يقال: إنا وجدنا شيئا يحتاج في الدخول له إلى التسمية ليصح ذلك الشيء كالذبيحة، قال: من أراد أن يذبح لا بد من التسمية عنده حتى تحل ذبيحته حتى إذا تركها عمدًا لم تؤكل ذبيحته؛ لفوات شرطه، فكان ينبغي أن تكون التسمية على الوضوء كذلك، والجامع أن كلَّا منهما فِعْل تدخل فيه.

وتقرير الجواب أن نقول: لا نسلم ثبوت عدم أكل الذبيحة بترك التسمية عمدًا فيما يقتضيه النظر والقياس، فهذا باب تنازع فيه العلماء، فقال بعضهم: تؤكل، وهو قول الشا فعي، ومالك -في قول- وأحمد -في رواية- وقال بعضهم: لا تؤكل، وهو قول الحنفية، فعلى القول الأول لا يرد السؤال، فلا يحتاج إلى الجواب، وهو معنى قوله: فأما من قال تؤكل فقد كفينا البيان، فنحتاج إلى الجواب على القول الثاني، وهو أن يقال: وجوب التسمية على الذبيحة لبيان الملَّة، أي الدين، حتى إذا سمى تصير ذبيحته من ذبائح أهل الدين، وإذا لم يسمّ لم تؤكل؛ لأنَّا إنما أُمرنا بها إظهارا لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا يسمّون آلهتهم عند الذبح، فكان الترك عمدًا مفسدا، والتسمية على الوضوء ليست لأجل ذلك المعنى، وإنما هي مجعولة لذكر على شرط من شروط الصلاة، وشروط الصلاة كثيرة وهي: الوضوء، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها، فلم يقل أحد: إنَّ ستر العورة يحتاج إلى التسمية، أو استقبال القبلة، وأن تركها يضر ذلك، فالنظر على ذلك إذا توضأ ولم يسمّ لا يضره ذلك. قوله: "من أسباب الصلاة" أراد بها الشروط، وأطلق عليها أسبابا باعتبار اللغة، فإن السبب هو الذي يتوصل به إلى المقصود، ومنه سمى الحبل سببا؛ فكذلك الشروط يتوصل بها إليه. وفي الاصطلاح: السبب ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به، والشرط ما يوجد الحكم عند وجوده، وينعدم عند عدمه. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" وهو قول الشافعي ومالك أيضًا كما ذكرناه.

ص: باب: الوضوء مرة مرة وثلاثا ثلاثا

ص: باب: الوضُوء مرة مرة وثلاثا ثلاثا ش: أي هذا باب في بيان الوضوء الذي ورد عن النبي - عليه السلام - مرة مرة، وثلاث مرات، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفِريابيُّ، قال: ثنا زائدة بن قدامة، قال: ثنا علقمة بن خالد -أو خالد بن علقمة- عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هذا طهورُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ش: الفِريابيُّ محمَّد بن يوسف شيخ البخاري، وزائدة بن قدامة روى له الجماعة، وعلقمة بن خالد الهمداني أبو حيَّة -بالياء آخر الحروف- وثقه يحيى، وروى له الأربعة، ويقال له: خالد بن علقمة؛ فلذلك قال: أو خالد، ولا يفهم من التشكيك أنهما شخصان شك الراوي في تعيين أحدهما؛ وإنما هما شخص واحد، وعبد خير بن يزيد الهمداني الكوفي أدرك الجاهلية، ووثقه يحيى، العجلي، وروي له الأربعة. ورواه أبو داود (¬1): بأتم منه، وقال: ثنا مُسدّد، قال: ثنا أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير قال: "أتانا علي - رضي الله عنه - وقد صلي، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهُور وقد صلي؟! ما يريد إلَّا أن يُعلمنا، فَأُتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل [يده] (¬2) ثلاثا، ثم (مضمض) (¬3) واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده الشمال ثلاثا، ثم جعل يده بالإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله الشمال ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله - عليه السلام - فهو هذا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 27 رقم 111). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن أبي داود": تمضمض.

وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن خالد بن علقمة ... إلى آخره نحوه، إلَّا أنّ في لفظه: "أتينا عليّ بن أبي طالب ... ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا" والباقي لا خلاف فيه. قوله: "هذا طُهور رسول الله - عليه السلام -" بضم الطاء، وقيل: بالفتح. والضم أرجح. قوله: "فدعا بطهور" بفتح الطاء لا غير. قوله: "وطستٍ" بالجرّ، عطف على قوله: "بإناءً" وأصله طسّ، بدليل جمعه على طسوس (¬2)، والعامة تقوله: بالشين المعجمة. قوله: "واستثر" أي استنشق، وانتصاب "ثلاثا" الأول على أنه صفة لمصدر محذوف، أي توضأ توضئا ثلاثيا، أي ثلاث مرات، أي محدودا بهذا العدد [1/ق 46 - أ]،، والثاني تأكيد للأول. ويستفاد منه: أن الثلاث سُنَّة، ولكن وردت أحاديث صحيحة بالثلاث، وبالمرة، وفي بعض الأعضاء بالثلاث وبعضها مرتين مرتين، وبعضها مرّة، فالاختلاف على هذه الصفة دليل الجواز في الكل، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ، وعن هذا قال أصحابنا: الأولى فرض، والثانية مستحبة، والثالثة سُنة، وقيل: الأولى فرض، والثانية سُنة، والثالثة إكمال السُّنة، وقيل: الثانية والثالثة سُنّة، وقيل: الثانية سُنَّة والثالثة بدل، وقيل: على عكسه، وعن أبي بكر الإسكاف: أن الثلاث تقع فرضا كما إذا الحال في الركوع والسجود، وقال بعض أصحابنا: إنَّ الزائد على الثلاث لا يقع طهارة ولا يصير الماء به مستعملا إلَّا إذا قصد به تجديد الوضوء، وما ذكر في "الجامع" أن ماء الرابعة في غسل الثوب النجس طهور، وفي العضو النجس مستعمل محمول على ما نوى بها القربة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 68 رقم 92). (¬2) انظر "لسان العرب" (مادة: طسس).

وفي "العتابي": وماء الرابعة مستعمل في العضو النجس؛ لأن الظاهر هو قصد القربة حتى يقوم الدليل على خلافه. وفي "شرح النسفي": فيه لأنه وجد فيه معنى القربة؛ لأن الوضوء على الوضوء نور، ولهذا صار الماء مستعملا به، وفي "المحيط": أن ماء الرابعة لا يصير مستعملا إلَّا بالنيَّة. وعند الشافعية خمسة أوجه: أصحها: إنْ صلى بالوضوء الأول فرضا أو نفلا استحب وإلَّا فلا، وبه قطع البغوي. وثائيها: إنْ صلى فرضا استحب وإلَّا فلا وبه قطع الفوراني. وثالثها: مستحب إنْ فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلَّا فلا، ذكره الشاشيّ. ورابعها: إنْ صلي بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قراءة القرآن في مصحف استحبّ وإلَّا فلا، وبه قطع أبو محمَّد الجوينيّ. وخامسها: مستحب وإنْ لم يفعل بالوضوء الأول شيئًا أصلًا، حكاه إمام الحرمين قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع مثله تفريق، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غَسْلة رابعة. ص: حدثنا حُسَين، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي حية الوادعي، عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذا طريق آخر، والفريابي محمَّد بن يوسف، وإسرائيل هو ابن يونس السَبيعي الهَمذاني الكوفي، روى له الجماعة، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله الكوفي جَدُّ إسرائيل، روى له الجماعة، وأبو حيّة -بالياء آخر الحروف- بن قيس الوادعي الخارفي الهمداني الكوفي، قال الحاكم أبو أحمد: لا يعرف اسمه، وقال أبو زرعة: لا يسمّى، وقال ابن ماكولا: مختلف في اسمه فيقال: عمرو بن نصر، ويقال: عامر بن الحارث. وعن أحمد: شيخ، روى له الأربعة.

وأخرجه الترمذي (¬1) قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي حيّة، عن علي - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - توضأ ثلاثا ثلاثا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا ابن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق قال: "رأيت عليّا وعثمان - رضي الله عنه - توضئا ثلاثا ثلاثا، وقالا: هكذا كان يتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ش: علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري، وأبي داود ثقة متقن من أصحاب الإِمام أبي يوسف، وابن ثوبان هو: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ضعيف، وعبدة بن أبي لبابة الأسدي الكوفي نزيل دمشق روى له الجماعة، وأبو وائل شقيق بن سلمة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمود بن خالد الدمشقي، نا الوليد بن مسلم الدمشقي، نا ابن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق بن سلمة قال: "رأيت عثمان وعليّا يتوضئان ثلاثا، ويقولان: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ص: حدثنا أحمد بن يحيى الصُوري، قال: حدثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا ابن ثوبان، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر عن أحمد بن يحيى الصوريّ، عن الهيثم بن جميل البغدادي، نزيل انطاكية، قال الدارقطني: ثقة حافظ، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ هكذا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 63 رقم 44). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 144 رقم 413).

ش: عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي البصري، أخو أبي بكر الحنفي، روى له الجماعة، وإسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله القرشي المدني، عن يحيي: لا يكتب حديثه، وقال ابن حبان: يحتج به فيما وافق الثقات، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني، وثقه العجلي وابن حبان. وعبد الله بن جعفر والد معاوية المذكور الصحابي المشهور - رضي الله عنه -. وأخرجه الدراقطني (¬1): وقال: ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا محمَّد بن إسماعيل ابن يوسف السُلمي، نا أيوب بن سليمان بن بلال، حدثني أبو بكر، عن سليمان ابن بلال، عن إسحاق بن يحيى، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن عفان: "أنه توضأ فغسل يديه ثلاثا كل واحدة منهما، واستنشق ثلاثا، ومضمض ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل ذراعيه كل واحد منهما ثلاثا، ومسح برأسه ثلاثا، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا كل واحد منهما، ثم قال: رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ هكذا". واعلم أن حديث عثمان - رضي الله عنه - روي من وجوه كثيرة وطرق مختلفة. فأخرجه البخاري (¬2): عن حمران مولى عثمان: "أنه رأى عثمان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا (ويديه ثلاثا إلى المرفقين) (¬3) ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه؛ غفر له ما تقدم من ذنبه". ومسلم (¬4): عن حمران: "أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه (ثلاثا) (¬5)، ثم غسل يده ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 91 رقم 1). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 71 رقم 158). (¬3) كذا في"الأصل، ك"، وفي "صحيح البخاري": "ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار". (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 204 رقم 226). (¬5) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم": "ثلاث مرات".

اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ... " الحديث. وأبو داود (¬1): عن حمران قال: "رأيت عثمان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ... " إلى آخره نحوه. والنسائي (¬2): عن حمران ... إلى آخره نحو رواية أبي داود، إلَّا أن موضع "واستنثر": "واستنشق". وأحمد (¬3): عن حمران قال: "دعا عثمان بماء وهو على المقاعد، فسكب على يمينه فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاث مرار ومضمض واستنثر، وغسل ذراعيه إلي المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرار ... " الحديث. والبرار (¬4): عن حمران، عن عثمان: "أنه دعا بوضوء، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم ضحِكَ، قال: ألا تَسْألوني ما أضحكني؟ قلنا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: ضحكت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بوضوء قريبا من هذا المكان، فتوضأ رسول الله - عليه السلام - كما توضأت، ثم ضحك كما ضحكتُ، ثم قال: ألا تسألوني ما أضحكني؟ قلنا: ما أضحكك يا نبي الله؟ قال: أضحكني أن العبد إذا توضأ فغسل وجهه؛ حطّ الله عنه كل خطيئة [أصاب] (¬5) بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، فإذا مسح رأسه كان كذلك، فإذا طهّر قدميه كان كذلك". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 26 رقم 106). (¬2) "المجتبى" (1/ 64 رقم 84). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 59 رقم 418). (¬4) "مسند البزار" (2/ 74 رقم 420). (¬5) في "الأصل، ك": أصابت، والمثبت من "مسند البزار".

قلت: رجال البزار رجال الصحيح. والدارقطني (¬1): عن ابن البَيلماني، عن أبيه، عن عثمان بن عفان: "أنه توضأ بالمقاعد -والمقاعد بالمدينة حيث يصلي على الجنائز عند المسجد- فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، واستنثر ثلاثا، ومضمض ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ومسح برأسه ثلاثا، وغسل قدميه ثلاثا، وسلم عليه رجل وهو يتوضأ فلم يردّ عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه يعتذر إليه، وقال: لم يمنعني أن أردّ عليك إلَّا أني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من توضأ هكذا ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله؛ غفر له ما بين الوضوئين". وأبو يعلى (¬2): عن غسان، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي النضر: "أن عثمان - رضي الله عنه - دعا بالوضوء، وعنده الزبير وطلحة وعلي وسعد - رضي الله عنه - فتوضأ وهم ينظرون، فغسل وجهه ثلاث مرات، ثم أفرغ على يمينه ثلاث مرات، وعلي شماله ثلاث مرات، ومسح برأسه، ورش على رجله اليمنى ثلاث مرات، ثم غسلها، ثم رش على رجله اليسرى، ثم غسلها ثلاث مرات، ثم قال للذين حضروا: أنا أنشدكم الله عز وجل أتعلمون أن رسول الله - عليه السلام - كان يتوضأ كما توضأت الآن؟ قالوا: نعم، وذلك لشيء بلغه". قلت: أبو النضر لم يسمع من أحد من العشرة، وغسان بن الربيع ضعفه الدارقطني مرة، وقال مرة: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سُمَيعْ، عن أبي أمامة "أن النبي- عليه السلام - توضأ ثلاثا ثلاثا". ش: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وسُمَيعْ -بضم السين المهملة، وفتح الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره عين مهملة- ذكره الطبراني، ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 92 رقم 5). (¬2) "مسند أبي يعلى" (2/ 8 رقم 633) بتصرف.

وقال: سُميع الزيات، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: سُميع شيخ يروي عن أبي أممامة، روي عنه عمر وبن دينار المكي، لا أدري مَنْ هو، ولا ابن مَنْ هو. ومن قال هذا سُبيع بالباء الموحدة موضع الميم فقد صحف، وسبيع هذا هو ابن خالد اليشكري، ويقال له: خالد بن سبيع، ويقال له: خالد بن خالد هكذا سمّاه النسائي وروى له، وأبو أمامة اسمُه صُدَي بن عجلان - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سُمَيع، عن أبي أمامة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل يديه ثلاثا، وتمضمض واستنشق (ثلاثا ثلاثا) (¬2)، وتوضأ ثلاثا ثلاثا". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3) نحوه. ص: ففي هذه الآثار أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، وقد روي عنه أنه توضأ مرة مرة. حدثنا الربيع بين سليمان المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا الضحاك بن شرحبيل، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ مرة مرة". ش: أراد بهذه الآثار حديث علي، وعثمان، وأبي أمامة - رضي الله عنهم -. قوله: "وقد روي عنه" أي عن النبي - عليه السلام -: "أنه توضأ مرة مرة" كما في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره، والربيع صاحب الشافعي، وأسد هو: ابن موسى المصري، وثقه النسائي. وابن لهيعة عبد الله بن لَهيعة -بفتح اللام، وكسر الهاء- قاضي مصر، تكلموا فيه، ولكنه من المرضيين عند الأحمدين، أعني ابن حنبل، والطحاوي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 17 رقم 61). (¬2) هكذا في "الأصل، ك" مكررة مرتين، وفي المصنف لم تتكرر. (¬3) "معجم الطبراني الكبير" (8/ 254 رقم 7990).

والضحاك بن شرحبيل وثقه ابن حبان، وزيد بن أسلم المدني الفقيه روى له الجماعة. وأبوه أسلم أبو زيد مولى عمر، روى له الجماعة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو كريب، نا رشدين بن سعد، أنا الضحاك بن شرحبيل، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - في غزوة [تبوك] (¬2) توضأ واحدة واحدة". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ألا أنبئكم بوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، أو قال: توضأ مرة مرة". ش: أبو عاصم: النبيل الضحاك بن مخلد، وسفيان هو الثوري. إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬3): عن محمَّد بن يوسف، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬4): عن مسدّد، عن يحيى، عن سفيان ... إلى آخره، ولفظه: "ألا أخبركم بوضوء رسول الله - عليه السلام -، فتوضأ مرة مرة". والترمذي (¬5): عن محمَّد بن بشار، عن يحيى. وعن قتيبة وهناد وأبي كريب، ثلاثتهم عن وكيع، عن سفيان ... والنسائي (¬6): عن محمَّد بن المثني، عن يحيى، عن سفيان ... إلى آخره نحو: رواية أبي داود. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 143 رقم 412). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه". (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 70 رقم 156). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 34 رقم 138). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 60 رقم 42). (¬6) "المجتبى" (1/ 62 رقم 80).

وابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن خلاد، عن يحيي بن سعيد، عن سفيان إلى آخره، ولفظه: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ غرفة غرفة". قوله: "ألا" كلمة تنبيه. و"أنبئكم" أي أخبركم، من النبأ وهو الخبر، ومنه النبيّ؛ لأنه يخبر عن الله تعالى. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظِي، قال: ثنا عبيد الله ابن عمرو، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: "توضأ رسول الله - عليه السلام - مرة مرة". ش: يحيي بن صالح الدمشقي، وثقه ابن حبان، وكان مُرْجئا، والوُحاظي -بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة، وبعد الألف ظاء معجمة- نسبة إلى وُحَاظَة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك. وعُبيد الله بن عمرو أبي الوليد الرقي، روى له الجماعة. وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبي نجيح يَسَار -بالياء آخر الحروف- روى له الجماعة. (وأخرجه) (¬2) الطبراني في "الأوسط" (¬3): ثنا محمَّد بن أبان، ثنا محمَّد بن الليث أبو الصباح الهدادي، ثنا بكر بن يحيي بن زبان، ثنا مندل بن علي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ مرة مرة، ثم قام فصلّى". لم يروه عن ابن أبي نجيح إلَّا مندل، تفرد به بكر. قلت: هذا عبيد الله بن عمرو أيضًا روى عنه، فكيف يقول لم يروه عنه إلَّا مندل؟! ومندل ضعيف، ضعفه أحمد، وابن المديني، وابن معين في رواية، ووثقه في أخرى. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 143 رقم 411). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "المعجم الأوسط" (7/ 228 رقم 7346).

وأخرجه البزار (¬1): نحو رواية الطحاوي. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن مَعبد، ثنا عبيد الله، عن الحسن بن عمارة، عن ابن أبي نجيح، ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وعبيد الله هو ابن عمرو المذكور. والحسن بن عُمارة: الفقيه، فيه مقال كثير. وهذا ابن عمارة روى عن ابن أبي نجيح هذا الحديث، وقد قال الطبراني: لم يروه عن ابن أبي نجيح إلَّا مندل! ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، وابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطى، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ ثلاثا ثلاثا، ورأيته غسل مرة مرة". ش: سعيد بن سليمان المشهور بسعدويه، روى له الجماعة. وعبد العزيز بن محمَّد الدراوردي روى له الجماعة، البخاري مقرونا بغيره. وعمرو بن أبي عمرو -واسمه ميسرة- مولى المطلب بن عبد الله بن حَنْطب أبو عثمان المدني، روى له الجماعة. وعبد الله بن عبيد الله -بتكبير الإبن، وتصغير الأب- ابن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام - روى له مسلم حديثا واحدا، وأبوه عبيد الله بن أبي رافع المدني روى له الجماعة، وأبوه أبو رافع مولى النبي - عليه السلام - اسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، نا ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (6/ 368 رقم 2385) من طريق بكر بن يحيي بن زبان، عن مندل به. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 81 رقم 7).

عبد الله بن عمر الخطابي، ثنا الدراورديّ، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (توضأ) (¬1) ثلاثا ثلاثا، ورأيته (توضأ) (2) مرة مرة". ص: فثبت بما ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة فثبت بذلك أن ما كان منه من وضوئه ثلاثا؛ إنما لإصابة الفضل لا للفرض. ش: كلامه يُشْعر بأن الثانية والثالثة فضيلة، وإنما الفرض هو المرة، فإن قلت: أخرج أبو داود (¬2): من حديث عمرو بن شعيب في حديث الوضوء ثلاثا ثلاثا، وفي آخره: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم -أو ظلم وأساء". فهذا يقتضي أن يكون بترك الثانية والثالثة مسيئًا ظالما، وتارك الفضيلة غير مسيء ولا ظالم. قلت: معنى قوله: "فقد أساء" أي في الأدب بتركه السُّنة والتأدب بآداب الشرع، ومعنى "ظلم" نفسه بما نقصها من الثواب وفي تركه الفضيلة والكمال، ويقال: إنما يكون ظالما إذا اعتقد خلاف السنة في الثلاث. وقد قيل: إن حديث عمرو بن شعيب هذا لا يُعادل الأحاديث الصحيحة التي فيها الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، ولكن فيه ما فيه؛ لأن حديثه صحيح عند من يصحح رواية شعيب عن جده عبد الله، لصحة الإسناد إليه، وقيل: الإساءة ترجع إلى الزيادة، والظلم إلى النقصان؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير محله، قلت: الزيادة على الثلاث أيضًا وضع الشيء في غير محله، وأيضًا إنما يتمشى هذا في رواية تقديم الإساءة على النقصان. ¬

_ (¬1) في "سنن الدارقطني": "يتوضأ". (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 33 رقم 135).

وفي "البدائع" (¬1): واختلف في تأويله، فقيل: زاد على مواضع الوضوء ونقص عن مواضعه. وقيل: زاد على ثلاث مرات ولم ينو ابتداء الوضوء ونقص عن الواحدة. والصحيح أنه محمول على الاعتقاد دون نفس العمل، معناه فمن زاد على الثلاث أو نقص عن الثلاث ولم ير الثلاث سنة؛ لأن من لم ير سُنة النبي - عليه السلام - سُنة فقد ابتدع فيلحقه الوعيد، حتى لو زاد على الثلاث أو نقص ورأى الثلاث سُنة؛ لا يلحقه هذا الوعيد؛ لأن الزيادة على الثلاث من باب الوضوء على الوضوء إذا نوى به، وإنه نور على نور على لسان النبي - عليه السلام -. وقال البخاري: كره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يُجَاوَزَ فعل النبي - عليه السلام -. هذا من البخاري إشارة إلي نقل الإجماع على منع الزيادة على الثلاث، وقد قال الشافعي في "الأم": لا أحب الزيادة عليها، فإن زاد لم أكرهه -إن شاء الله. وذكر أصحابه ثلاثة أوجه؛ أصحها: أن الزيادة عليها مكروهة كراهة تنزيه، وثانيها: أنها حرام، وثالثها: أنها خلاف الأولى. وأبعد قوم فقالوا: إذا زاد على الثلاث بطل وضوءه. حكاه الدارمي في استذكاره، وهو خطأ. وبقيت هنا فائدتان: الأولى: بيان ما روي عنه - عليه السلام - أنه توضأ مرتين مرتين، وما روي عنه أنه توضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثًا، وما روي أنه توضأ بعض وضوءه مرة وبعضه ثلاثًا، فهذه ثلاثة أقسام لم يذكرها الطحاويّ، فنقول: قال البخاريّ (¬2): ثنا الحسين بن عيسي، ثنا يونس بن محمَّد، أنا فليح بن ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 22). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 70 رقم 70).

سليمان، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - توضأ مرتين مرتين". وقال أبو داود (¬1): حدثنا محمَّد بن العلاء، ثنا زيد -يعني ابن حباب- عن عبد الرحمن بن ثوبان، ثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - توضأ مرتين مرتين". وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي (¬3): حدثنا ابن أبي عمر قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن يحيي، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه مرتين مرتين، ومسح برأسه، وغسل رجليه [مرتين] (¬4) "، وقال: أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد ذُكر في غير حديث أن النبي - عليه السلام - توضأ بعض وضوئه مرة، وبعضه ثلاثا، وقد رخّص بعض أهل العلم في ذلك، ولم يَرَوْا بأسا أن يتوضأ الرجل بعض وضوئه [ثلاثا وبعضه] (4) مرتين أو مرة. وروى الدارقطني في سننه (¬5): وقال: ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا العباس بن يزيد، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أُري النِداء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- توضأ فغسل وجهه ثلاثا، ويديه مرتين، ورجليه مرتين"، كذا قال ابن عُيينة، وإنما هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وليس هو الذي أُري النداء. حدثنا (¬6) محمَّد بن عبد الله بن زكريا، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمَّد بن منصور، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 34 رقم 136). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 62 رقم 43). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 66 رقم 47). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "جامع الترمذي". (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 81 رقم 9). (¬6) "سنن الدارقطني" (1/ 82 رقم 10).

ثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد الذي أُري النداء، قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -توضأ فغسل وجهه ثلاثا، ويديه مرتين، وغسل رجليه مرتين، ومسح برأسه مرتين". حدثنا (¬1) جعفر بن محمَّد الواسطي، ثنا موسى بن إسحاق، ثنا أبو بكر، ثنا ابن عيينة بهذا الإسناد، وقال: "ومسح برأسه ورجليه مرتين". ثنا (¬2) دعلج بن أحمد، ثنا محمَّد بن عليّ بن زيد، ثنا سعيد بن منصور، نا سفيان بهذا: "أن النبي - عليه السلام - غسل وجهه ثلاثا، ويديه مرتين مرتين". الفائدة الثانية: أن الطحاوي قد أخرج في هذا الباب في الوضوء أحاديث عن ثمانية من الصحابة وهم: عليّ، وعثمان، وأبو أمامة، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن زيد، وأبو رافع - رضي الله عنهم -. قال الترمذي (¬3): بعد أن أخرج حديث عليّ - رضي الله عنه -: وفي الباب عن عثمان، وعن عائشة، والربيع، وابن عمر، وأبي أمامة، وأبي رافع، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، وأبي هريرة، وجابر، وعبد الله بن زيد، وأبي بن كعب -رضي الله عنهم-. قلت: وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي مالك الأشعري، والبراء ابن عازب، وأنس بن مالك، ووائل بن حجر، وأبي بكرة، وعبد الله بن أنيس، ومعاذ بن جبل، وأبي كاهل، والمقدام بن معدي كرب، وكعب بن عمرو، وبريدة، وابن الفاكه فهؤلاء (تسعهٌ وعشرون) (¬4) صحابيّا. فحديث عائشة - رضي الله عنها - عند ابن ماجه (¬5): "أن النبي - عليه السلام - توضأ ثلاثا ثلاثا". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 82 رقم 11). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 82 رقم 12). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 44). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، والمذكورون عددهم ثمانية وعشرون. (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 144 رقم 415).

وحديث الربيع عنده (¬1) أيضًا: عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا". وحديث ابن عمر عنده (¬2) أيضًا: "أنه توضأ ثلاثا ثلاثا" ورفع ذلك إلى النبي - عليه السلام -. وحديث معاوية عند أبي داود (¬3): "أنه توضأ للناس كما رأى رسول الله - عليه السلام - يتوضأ، فلما بلغ رأسه اغترف غرفة من ماء، فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر، ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلي مقدمه". وحديث أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" (¬4): "أن رسول الله - عليه السلام - توضأ فمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه ثلاثا ومسح برأسه ثلاثا، وغسل قدميه ثلاثا". وحديث جابر عند ابن ماجه (¬5): عن ثابت بن أبي صفية قال: "سألت أبا جعفر قلت له: حُدِّثت عن جابر بن عبد الله أن النبي - عليه السلام - توضأ مرة مرة"؟ قال: نعم، قلت: ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا؟ قال: نعم". وحديث عبد اللهَ بن زيد عند البخاري (¬6): وقد ذكرناه. وحديث أبي بن كعب عند ابن ماجه (¬7): "أن رسول الله - عليه السلام - دعا بماء، فتوضأ ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 145 رقم 418). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 44 رقم 414). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 31 رقم 124). (¬4) "المعجم الأوسط" (6/ 97 رقم 5912). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 43 رقم 310). (¬6) سبق تخريجه. (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 145 رقم 420).

مرة مرة، فقال: هذا وظيفة الوضوء، أو قال: وضوءٌ من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة، ثم توضأ مرتين مرتين، ثم قال: هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال: هذا وضوئي، ووضوء المرسلين قبلي". وحديث عبد الله بن أبي أوفى عنده (¬1) أيضًا قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ (ثلاثا) (¬2) ومسح رأسه مرة". وحديث أبي مالك عنده (¬3) أيضًا قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ ثلاثا ثلاثا". وحديث البراء بن عازب عند أحمد (¬4)، و (كان أميرَّا بعُمان) (¬5) فقال: "اجتمعوا (لأريكم) (¬6) كيف كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ، وكيف كان يصلي، فإني لا أدري ما قدر صحبتي إياكم، قال: فجمع بنيه وأهله، ودعا بوَضوء فتمضمض واستنثر، فغسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمني ثلاثا وغسل هذه ثلاثا -يعني اليسرى- ثم مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل هذه الرجل يعني اليمنى ثلاثا، وغسل هذه الرجل (يعني اليسرى ثلاثا) (¬7)، ثم قال: هكذا ما ألوتُ أن أريكم كيف كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 144 رقم 416). (¬2) كذا في "الأصل، ك" دون تكرار، وفي "سنن ابن ماجه": "ثلاثا ثلاثا". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 144 رقم 417). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 288 رقم 18560). (¬5) الذي كان أميرًا بعمان هو يزيد بن البراء الراوي عن أبيه البراء. قال أحمد في إسناده: عن يزيد بن البراء بن عازب -وكان أميرًا بعمان، وكان كخير الأمراء- قال: قال أبي: "اجتمعوا ... الحديث". (¬6) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": (فلأريكم). (¬7) كذا في "الأصل، ك" وفي "مسند أحمد": (ثلاثًا يعني اليسرى).

وحديث أنس عند الطبراني في "الأوسط" (¬1): "رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ ثلاثا ثلاثا، (وقال: بهذا أمرني ربي عز وجل) " (¬2). وحديث وائل بن حجر عنده في "الكبير" (¬3)، وعند البزار قال: "حضرت رسول الله - عليه السلام - وقد أُتى بإناء فيه ماء فأكفأ على يمينه ثلاثا، ثم غمس يمينه في الإناء فأفاض بها على اليسرى ثلاثا، ثم غمس اليمنى فحفن حفنة من ماء فمضمض بها، واستنشق واستنثر ثلاثا، ثم أدخل كفيه في الإناء فحمل بهما ماء فغسل وجهه ثلاثا، ثم خلّل لحيته، ثم مسح باطن أذنيه، وأدخل خنصره في داخل أذنه؛ ليبلغ الماء، ثم مسح رقبته وباطن لحيته من فضل ماء الوجه، وغسل ذراعه اليمنى ثلاثا حتى جاوز المرفق، وغسل اليسرى مثل ذلك باليمني حتى جاوز المرفق، ثم مسح على رأسه ثلاثا، ومسح ظاهر أذنيه، ومسح رقبته وباطن لحيته بفضل ماء الرأس، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا، وخلل أصابعها، وجاوز بالماء الكعب، ورفع في الساق الماء، ثم فعل في اليسري مثل ذلك، ثم أخذ حفنة من ماء بيده اليمنى فوضعه على رأسه حتى تحدر من جوانب رأسه، وقال: هذا تمام الوضوء، فدخل محرابه فصف الناس خلفه، ونظر عن يمينه ويساره". وحديث أبي بكرة عند البزار (¬4) قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ فغسل يديه ثلاثا، ومضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، و [غسل] (¬5) ذراعيه إلى المرفقين، ومسح برأسه يقبل بيديه من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه، ثم غسل رجليه ثلاثا، وخلّل [بين] (4) أصابع رجليه، وخلّل لحيته". ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (2/ 159 رقم 1571). (¬2) ليست في "المعجم الأوسط". (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 49 رقم 118). (¬4) "مسند البزار" (9/ 133 - 134 رقم 3687). (¬5) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند البزار".

وحديث عبد الله بن أنيس عند الطبراني في "الأوسط" (¬1) قال: "ألا أريكم كيف كان توضأ رسول الله - عليه السلام -، وكيف صلى؟ قلنا: بلى، فغسل يديه ثلاثا ثلاثا، [ومضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه وذراعيه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا] (¬2) ومسح برأسه مقبلا ومدبرا، وأمسَّ أذنيه، [وغسل] (¬3) رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم أخذ ثوبا فاشتمل به وصلي، قال: هكذا رأيت حِبّي رسول الله - عليه السلام - يتوضأ ويصلي". وحديث معاذ بن جبل (عنده) (¬4) أيضًا في "الكبير" (¬5) قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ واحدة (واحدة) (¬6)، وثنتين (ثنتين) (¬7) وثلاثا ثلاثا كل ذلك كان يفعل". وفي إسناده محمَّد بن سعيد المصلوب، وهو ضعيف. وحديث أبي كاهل عنده أيضًا في "الكبير" (7)، قال: "مررت برسول الله - عليه السلام - وهو يتوضأ [فقلت] (¬8): يا رسول الله، قد أعطانا الله منك خيرا كثيرا، فغسل كفيه، ثم تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه ولم يوقت، وظهر قدميه ولم يوقت، وقال: يا أبا كاهل، ضع الطهور مواضعه، وأبق فضل طهورك لأهلك لا تعطش أهلك ولا تشقق على خادمك". وفي إسناده الهيثم بن جماز، وهو متروك. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (4/ 257 رقم 4133). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الأوسط". (¬3) في "الأصل، ك": وأخذ، ولعله انتقال نظر من المصنف -رحمه الله-، والمثبت من "المعجم الأوسط". (¬4) تكررت في "الأصل". (¬5) "المعجم الكبير" (20/ 68 رقم 125). (¬6) ليست في "المعجم الكبير" وهي مثبتة في "الأصل، ك". (¬7) "المعجم الكبير" (18/ 360 رقم 926). (¬8) في "الأصل، ك": قلت، والمثبت من "المعجم الكبير".

وحديث المقدام بن معدي كرب عند أبي داود (¬1) قال: "أُتي رسول الله - عليه السلام - بوَضُوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثا، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما، وباطنهما". وحديث كعب بن عمرو عند الطبراني (¬2) وأبي داود (¬3). وحديث بريدة (¬4). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 30 رقم 121). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 180 رقم 409). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 32 رقم 132) من طريق طلحة بن مصرف بن كعب بن عمر، عن أبيه، عن جده. (¬4) هذا آخر كلام الشارح في "الأصل، ك" وبيض لحديثي بريدة وابن الفاكه. فأما حديث بريدة: فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (4/ 78 رقم 3661). وأما حديث ابن الفاكه: فأخرجه علي بن الجعد في "مسنده" (1/ 495 رقم 3447).

ص: باب: فرض مسح الرأس في الوضوء

ص: باب: فرض مسح الرأس في الوضوء ش: أي هذا باب في بيان أحكام فرض مسح الرأس في الوضوء، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَدَفي وعبد الغني بن أبي عقيل وأحمد بن عبد الرحمن قالوا: أبنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ومالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه أخذ بيده في وضوئه للصلاة ماء فبدأ بمقدّم رأسه، ثم ذهب بيده إلى مؤخر الرأس، ثم ردهما إلى مقدّمه". قال مالك: هذا أحسن ما سمعت في ذلك، وأعمّه في مسح الرأس. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعبد الأعلى وأحمد عبد الرحمن كلاهما من شيوخ مسلم، ولقب أحمد بَحشَلْ، وعبد الله بن وهب عمّه، والصَدَفي -بفتح الصاد والدال نسبة- إلى الصَدِف -بفتح الصاد وكسر الدال- واسمه عمرو بن مالك بن دَعْمِي بن زياد بن حضرموت. وعبد الغني بن أبي عقيل من شيوخ أبي داود، واسم أبي عقيل: رفاعة بن عبد الملك الجمحي المصريّ. والحديث أخرجه الجماعة، فالبخاريّ (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره. وأبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره. والترمذي (¬3): عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 80 رقم 183). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 29 رقم 118). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 47 رقم 32).

والنسائي (¬1): عن محمَّد بن [سلمة] (¬2) والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك. وابن ماجه (¬3): عن الربيع بن سليمان وحرملة بن يحيى، كلاهما عن الشافعي، عن مالك. ومسلم (¬4): عن محمَّد بن الصباح، عن خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن يزيد بن عاصم الأنصاري وكانت له صحبة. وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه" (¬5): وقال: أنا مالك بن أنس، قال: أنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني، عن أبيه يحيى، أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد بن عاصم- وكان من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قال: "هل تستطيع أن تُرِيني كيف كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ؟ قال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوَضوء، فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين، ثم تمضمض، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم مسح من مقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه"، قال محمَّد: هذا حسن، والوضوء ثلاثًا ثلاثًا أفضل الوضوء، والاثنتان تجزئان، والواحدة إذا أَسْبغَت تجزئ أيضًا، وهو قول أبي حنيفة. واستنبط منه أحكام: الأول: استدلّت به جماعة على أن الواجب مسح جميع الرأس، على ما يجيء بيانه مستقصي قريب -إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 71 رقم 97). (¬2) في "الأصل، ك": مسلمة، وهو تحريف، والمثبت من "سنن النسائي"، وهو المرادي أبو الحارث المصري. (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 149 رقم 434). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 210 رقم 235). (¬5) "الموطأ" رواية محمَّد بن الحسن (ص 33 رقم 5).

الثاني: فيه استيعاب الرأس بالمسح، والإجماع قائم على مطلوبيّته لكن هل ذلك على وجه الوجوب أو الندب؟ فيه خلاف نذكره إن شاء الله، والكيفية المذكورة في هذا الحديث هي المشهورة، وبه استدل أصحابنا على أن السنة في مسح الرأس البداية من مقدّم الرأس، وقال الحسن البصري: السنة البداية من الهامة فيضع يديه عليها ويُمِرُّهما إلى مقدّم الرأس، ثم يُعيدها إلى القفا، وهكذا روي هشام، عن محمَّد، والصحيح قول العامة؛ للحديث المذكور. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان يمسح رأسه هكذا، ووضع أيوب كفّه وسط رأسه، ثم أمرّها إلى مقدم رأسه". ثنا (¬2) حماد بن مسعده، عن يزيد، قال: "كان سلمة يمسح مقدم رأسه". ثنا (¬3) يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه "أنه كان يمسح رأسه هكذا: من مقدّمه إلى مؤخره، ثم ردّ يديه إلى مقدمه". وقال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): ثنا ابن جريج قال: أخبرني نافع "أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء ثم لا ينفضها، ثم يمسح بها ما بين قرنَيْه إلى الجبين مرةً واحدةً لا يزيد عليها". عبد الرزاق (¬5): عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "كان يدُخْل يده في الوَضُوء فيمسح بها مسحةً واحدةً اليافوخ فقط". الثالث: أن المذكور في حديث الجماعة هو مسح الرأس مرةً واحدةً، وبه قال ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 23 رقم 154). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 23 رقم 155). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 23 رقم 152). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 6 رقم 6). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 6 رقم 7).

أصحابنا، ولهذا قال أبو داود في "سننه" (¬1): أحاديث عثمان - رضي الله عنه - الصحاح تدل على مسح الرأس أنه مرة؛ فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، وقالوا ب [فيها: و] (¬2) مسحَ رأسه، ولم يذكروا عددًا كما ذكروا في غيره. وعند الشافعي يُسن تكراره كالغسل. ويستدل بما رواه أبو داود (¬3): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن آدم قال: أنا إسرائيل، عن عامر [بن] (¬4) شقيق بن جمرة، عن شقيق بن سلمة قال: "رأيت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - غسل ذراعيه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله فعل هذا". وقال ابن قدامة في "المغني": ولا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من المذهب، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وروي ذلك عن ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، والنخعي، ومجاهد، وطلحة بن مصّرف، والحكم، قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - ومَنْ بَعدهم، وعن أحمد أنه يسن تكراره، وهو مذهب الشافعي، وروي عن أنس، وقال ابن عبد البرّ: كلهم يقول: يمسح الرأس مسحة واحدة، إلَّا الشافعي قال: يمسح برأسه ثلاثًا؛ لحديث أبي داود المذكور آنفًا، ولنا أن عبد الله بن زيد وصف وضوء النبي - عليه السلام - قال: "ومسح برأسه مرةً واحدةً" متفق عليه، وحديث علي - رضي الله عنه - قال فيه: "ومسح برأسه مرةً واحدة". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وكذا وصف عبد الله بن أبي أوفى، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، والربيع، كلهم قالوا: ومسح برأسه مرة واحدةً، ولم يصح من أحاديثهم شيء صريح في تكرار المسح، أما حديث عثمان - رضي الله عنه - فرواه ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 26). (¬2) في "الأصل، ك": وفيها. والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 27 رقم 110). (¬4) في "الأصل، ك": عن، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود" ومصادر ترجمة عامر بن شقيق.

يحيى بن آدم، وخالفه وكيع فقال: توضأ ثلاثًا ثلاثًا فقط، والصحيح عن عثمان أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه، ولم يذكروا عددًا كما ذكروا في غيره، وبقية أحاديثهم إنما [أرادوا] (¬1) بها توضأ ثلاثًا ثلاثًا في غير المسح، فإن رواتها حين فصلوا الوضوء قالوا: ومسح برأسه مرةً (¬2). قلت: ولهذا قال البيهقي (¬3): قد روي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس، إلَّا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإنْ كان بعض أصحابنا يحتج بها. فإن قلت: قد روى الدارقطني في "سننه" (¬4): عن محمَّد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه توضأ ... " الحديث، وفيه: "ومسح برأسه ثلاثًا، ثم قال: هكذا رواه أبو حنيفة [عن خالد بن علقمة] (¬5)، وخالفه جماعة (من) (¬6) الحفاظ الثقات فرووه عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: "ومسح رأسه مرة واحدة". ومع خلافه إياهم قال: إنَّ السُّنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة (¬7). قلت: الزيادة عن الثقة مقبولة ولا سيما من مثل أبي حنيفة (¬8)، وأما قوله: فقد خالف في حكم المسح غير صحيح؛ لأن تكرار المسح مسنون عند أبي حنيفة أيضًا صرّح بذلك صاحب الهداية، ولكن بماء واحد. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": أراد، والمثبت من "المغني" وهو الأليق بالسياق. (¬2) انتهى من "المغني" بتصرف واختصار (1/ 88). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 62). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 89 رقم 1). (¬5) سقطت من المصنف، واستدركها في الحاشية، ولكن قال: عن علقمة بن خالد، وقال العيني: في "المغاني" وفي هذا الكتاب (1/ 238): ويقال له: علقمة بن خالد، والمثبت من "سنن الدارقطني". (¬6) تكررت في "الأصل". (¬7) انتهى كلام الدارقطني باختصار وتصرف من المصنف -رحمه الله-. (¬8) لا جرم أن هذا تكلف شديد من المصنف، فهذه ليست زيادة؛ إنما هي خلاف في اللفظ يعارض ما رواه الحفاظ، راجع كلام الدارقطني.

الرابع: احتج الشافعي بما في حديث مسلم من هذا الحديث، وهو: "فمضمض، واستنشق من كف واحد يفعل ذلك ثلاثًا"، أن السنة في الوضوء أن يتمضمض، ويستنشق ثلاثًا من كف واحد، وهو وجه عنده. وفي "الروضة": وفي كيفيته وجهان: أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثًا، ويستنشق من أخرى ثلاثًا، والثاني: بست غرفات. قلت: فعلى هذا ثلاثة أوجه عند الشافعي في المضمضة والاستنشاق، وهذه الأوجه الثلاثة منقولة عن أحمد، وأما مذهب مالك، فقد قال في "الجواهر": حكى ابن سابق في ذلك قولين: أحدهما: يغرف غرفة واحدة لِفيه وأنفه، والثاني: يتمضمض ثلاثًا في غرفة، ويستنشق ثلاثًا في غرفة فقال: وهذا اختيار مالك، والأول اختيار الشافعي. وفي "المغني": وهو مخيَّر بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثًا من غرفة أو بثلاث غرفات فإن عبد الله بن زيد روى عن النبي - عليه السلام -: "أنه مضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات"، متفق عليه، وروي البخاري عنه: "أن النبي - عليه السلام - مضمض واستنشق ثلاثًا ثلاثًا من غرفة من واحدة"، وروى الأثرم، وابن ماجه: "أن رسول الله - عليه السلام - توضأ فمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا من كف واحد"، وإنْ أفرد لكل عضو ثلاث غرفات جاز؛ لأن الكيفية في الغسل غير [واجبة] (¬1). وفي "التلويح" (¬2) شرح البخاري: والأفضل أن يتمضمض، ويستنشق بثلاث غرفات كما في الصحاح وغيرها. ووجه ثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثًا، ثم يستنشق منها ثلاثا، رواه علي بن أبي طالب، عن النبي - عليه السلام - عند ابن خزيمة وابن حبان، ورواه أيضًا وائل بن حجر بسند ضعيف عند البزار. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) هو كتاب "التلويح شرح الجامع الصحيح" للحافظ علاء الدين مغلطاي صاحب "إكمال تهذيب الكمال". انظر "كشف الظنون" (1/ 546).

وثالث: يجمع بينهما بغرفة، وهو أن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة. رواه عبد الله بن زيد، عن النبي - عليه السلام - عند الترمذي، وقال: حسن غريب. ورابع: يفصل بينهما بغرفتين يتمضمض من إحداهما ثلاثًا، ثم يستنشق من الاخرى ثلاثًا. وخامس: يفصل بست غرفات يتمضمض بثلاث، ويستنشق بثلاث انتهى. قلت: استدل أصحابنا على ما قالوا بما رواه الترمذي (¬1): ثنا هنّاد وقتيبة، قالا: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي حية قال: "رأيت عليًّا - رضي الله عنه - توضأ، فغسل كفيه حتى أَنْقاهما، ثم مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام بأخذ فضل طَهُوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - عليه السلام - وقال: هذا حديث حسن صحيح. فإن قيل: لم يُحك فيه أن كل واحدة من المضامض، والاستنشاقات بماء واحد بل حكي أنه تمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا. قلت: مدلوله ظاهرًا ما ذكرناه، وهو أن يتمضمض ثلاثًا، يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا، ثم يستنشق كذلك، وهو رواية البُويطي عن الشافعي؛ فإنه روى! عنه أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق، وفي رواية غيره عنه في "الأم" يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف غرفةً يتمضمض بها ويستنشق، ثم يغرف ثالثة يتمضمض منها ويستنشق، فيَجْمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق، واختلف نصّه في الكيفيَّتن، فنصّ في "الأمّ" -وهو نص مختصر المزني- أن الجمع أفضل، ونصّ البُويطي أن الفصل أفضل، ونقله الترمذي عن الشافعي. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 67 رقم 48).

قال النووي: قال صاحب "المهذب": القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي، وهو أيضًا أكثر في الأحاديث "الصحيحة" والجواب عن كل ما روي من ذلك فهو محمول على الجواز. وقال المرغيناني: لو أخذ الماء بكفه وتمضمض ببعضه واستنشق بالباقي جاز، وعلي عكسه لا يجوز لصيرورة الماء مستعملًا، والجواب عما ورد في الحديث "فتمضمض واستنشق من كف واحد" أنه مجمل لأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكفٍ واحدٍ بماء واحدٍ، ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحد بمياه، والمحتمل لا تقوم به حجة، أو يُرَدُّ هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه توفيقًا بين الدليلين، وقد يقال: إنَّ المراد: استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين كما في الوجه، وقد يقال؛ إنَّه فعلهما باليد اليمنى؛ ردَّا على قول من يقول يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأن الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في "المبسوط". وفيه نظر لا يخفى، وأما وجه الفصل بينهما كما هو مذهبنا: فما رواه الطبراني (¬1). عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جدّه كعب بن عمرو اليامي: "أن رسول الله - عليه السلام - توضأ فمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، فأخذ لكل واحدة ماءً جديدًا". وكذا روى عنه أبو داود في "سننه" (¬2): وسكت عنه، وهو دليل رضاه بالصحة. ثم اعلم أن السُنَّة أن تكون المضمضة والاستنشاق باليمني، وقال بعضهم: المضمضة باليمني والاستنشاق باليسار؛ لأن الفم مطهرة والأنف مقذرة، واليمين للأطهار، واليسار للأقذار، ولنا ما روي عن الحسن بن علي - رضي الله عنه -: "أنه استنثر بيمينه فقال له معاوية: جهلت السنة فقال: كيف أجهل والسُّنة من بيوتنا خرجت ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 180 رقم 409). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 34 رقم 139).

أما علمت أن النبي - عليه السلام - قال: اليمين للوجه، واليسار للمقعد" كذا ذكره صاحب "البدائع". والترتيب بينهما سُنّة، ذكره في الخلاصة؛ لأنه لم يُنْقَل عن النبي - عليه السلام - في صفة وضوئه إلَّا هكذا، وهما سنتان في الوضوء، واجبتان في الغسل عندنا، وبه قال الثوري. وقال الشافعي: هما سنتان فيهما جميعًا. وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري، والزهريّ، والحكم، وقتادة، وربيعة، ويحيي بن سعيد الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، والليث، وهو رواية عن عطاء، وأحمد. وقال أحمد -في المشهور عنه-: إنهما واجبتان فيهما. وهو مذهب ابن أبي ليلى، وحماد، وإسحاق، ورواية عن عطاء. والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة، وهو مذهب أبي ثور، وأبي عبيد، ورواية عن أحمد، قال ابن المنذر: وبه أقول. واحتجوا بما رواه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2): عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - قال: "من توضأ فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر". قلنا: هذا محمول على الاستحباب. ثم "المضمضة" تحريك الماء في الفم، قال ابن سيده: مضمض، وتمضمض. وكماله أن يجعل الماء في فيه ثم يُدِيره ويَمُجّه، وأقله أن يجعل الماء في فيه، ولا يشترط إدارته على مشهور مذهب الشافعي، وقال جماعة من أصحابه: يشترط، وفي "شرح البخاري للركني": المضمضة أصلها مُشْعِرٌ بالتحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحرك، واستعمل في المضمضة لتحريك الماء في الفم. وأما "الاستنشاق": فهو إدخال الماء في الأنف، وقال ابن طريف: نثر الماء في أنفه: دفعه، وأما الاستنثار فزعم ابن سيده أنه يقال: استنثر إذا استنشق الماء ثم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 72 رقم 160). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 212 رقم 237).

استخرج ذلك بِنَفَسِ الأنف، والنثرة: الخيشوم وما والاه، وتنشق واستنشق الماء في أنفه: صبّه في أنفه، وفي "جامع القزاز": نثرت الشيء أنثِره وأنثُره إذا بددته، فأنت ناثر، والشىء منثور، قال: والمتوضئ يستنشق إذا جذب الماء بريح أنفه، ثم يستنثره، وفي "الغريبين": يستنشق أبي يبلغ الماء خياشيمه، ويقال: نثر، وانتثر، واستنثر، إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف، وذكر ابن الأعرابي، وابن قتيبة: الاستنشاق والاستنثار واحد. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي وحفص بن غياث، عن ليث، عن طلحة بن مُصَرِّفٍ، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت النبي - عليه السلام - يمسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه". ش: عبد الصمد روى له الجماعة. وأبوه عبد الوارث بن سعيد البصري روى له الجماعة. وحفص بن غياث قاضي الكوفة من أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. وليث هو ابن أبي سليم القرشي الكوفي، روى له مسلم مقرونًا بغيره وروى عنه أبو حنيفة، وعن يحيى لا بأس به. وطلحة بن مصرف بن عمرو الكوفي، روي له الجماعة. وأبوه مصُرّف بن عمرو بن كعب يقال: له صحبة. وجده عمرو بن كعب - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن عيسي، ومسدد قالا: ثنا عبد الوارث، عن ليث، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يمسح رأسه مرةً واحدةً حتى بلغ القذال، وهو أول القفا -وقال مُسدّد: مسح رأسه من مقدمه إلى مؤخره حتى أخرج يديه من تحت أذنيه-" قال أبو داود: فحدثت به يحيى فأنكره. قال أبو داود: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: ابن عيينة زعموا أنه كان ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 32 رقم 132).

ينكره، ويقول أَيْشْ طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده؟ قلت: قال ابن أبي حاتم: مصرف بن كعب بن عمرو اليامي روى عن أبيه، قال بعضهم: صحبة، روى عنه ابنُه طلحة، سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هذا خطأ، طلحة رجل من الأنصار وليس هو ابن مصرف، ولو كان ابن مصرف لم نختلف فيه. قوله: "مقدم رأسه" ذكر ابن جني: أن الجمع أَرْؤُس و [آراس] (¬1) -على القلب و (رُؤُس) (¬2). قال ابن السكيت: ورُءْسٌ على الحذف. وأنشد (¬3): فيومًا إلى أهلي ويومًا إليكُم ... ويومًا أحُطُّ الخيل من رُؤْسِ أجْبال قوله: "حتى بلغ القذال" بفتح القاف، والذال المعجمة، جماع مؤخر الرأس، وهو معقد العذار من الفرس خلف الناصية، ويقال: القذالان: ما اكتنف فأس القفا عن يمين وشمال، ويجمع على أَقْذِلة وقُذُل، وقذلته: ضربت قذاله. ويُستفاد منه: أن كيفية المسح أن يكون من مقدم الرأس إلى أن يبلغ القذال من مقدم عنقه، وروي في كيفية المسح أحاديث كثيرة. فعند النسائي (¬4): من حديث عبد الله بن زيد: "ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". وعند ابن أبي شيبة (¬5): من حديث الربيع "بدأ بمؤخره، ثم رَدّ على ناصيته". وعند الطبراني (¬6): "بدأ بمؤخر رأسه ثم جَرّه إلى قفاه، ثم جره إلى مؤخره". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": اارُس، والمثبت من "لسان العرب" (مادة: رأس). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب": رؤوس، بزيادة واو قبل السين. (¬3) عزاه في "لسان العرب" لامرئ القيس. (¬4) "المجتبى" (1/ 71 رقم 98). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 23 رقم 153). (¬6) "المعجم الأوسط" (3/ 35 رقم 2389) من حديث الربيع أيضًا.

وعند أبي داود (¬1): "يبدأ بمؤخره ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما". وفي لفظ (¬2): "مسح الرأس كله، من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته". وفي لفظ (¬3): [مسح رأسه وما أقبل] (¬4) وما أدبر، وصدغيه". وعند البزار (¬5): من حديث بكار بن عبد العزيز، عن أبيه، عن أبي بكرة يَرْفعه-: "توضأ ثلاثًا ثلاثًا"، وفيه: "مسح برأسه، يقبل (بيده) (¬6) من مقدمه إلي مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدّمه" وبَكارٌ ليس به بأس. وعند ابن قانع من حديث أبي هريرة: "وضع يديه على النصف من رأسه، ثم جرّهما إلى مقدم رأسه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، وجزهما إلى صُدْغيه". وعند أبي داود (¬7): من حديث أنس: "أدخل يده من تحت العمامة فمسح مُقدّم رأسه". وفي كتاب ابن السكن: "فمسح باطن لحيته وقفاه". وفي "معجم البغوي"، وكتاب ابن أبي خيثمة: "مسح رأسه إلى سالفته". وفي كتاب النسائي (¬8): عن عائشة، ووصفت وضوئه - عليه السلام -: "ووضعت يدها في مقدّم رأسها، ثم [مسحت رأسها مسحة واحدة إلى مؤخره، ثم أمرّت يديها بأذنيها، ثم مرّت] (¬9) على الخدين". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 31 رقم 126). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 31 رقم 128). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 32 رقم 129). (¬4) في "سنن أبي داود": فمسح رأسه، ومسح ما أقبل منه. (¬5) "مسند البزار" (9/ 134 رقم 3687). (¬6) في "مسند البزار": بيديه. (¬7) "سنن أبي داود" (1/ 36 رقم 147). (¬8) "المجتبى" (1/ 72 رقم 100). (¬9) في "الأصل، ك": مسحت بماء مؤخره، ثم مدَّت بيديها بأذنيها ثم مدَّت. والمثبت من "المجتبى".

فهذه أوجه كثيرة يختار المتوضئ أيها شاء، واختار بعض أصحابنا رواية عبد الله بن زيد، وقال السغناقي في شرح الهداية: وكيفيّته: أن يبلّ كفّيه وأصابع يَدَيه، ويضع بطون ثلاث أصابع من كل كف على مقدم الرأس، ويعزل السبّابتن والإبهامين، ويجافي الكفن، ويجرهما إلي مؤخر الرأس، ثم يمسح الفودين بالكفين، ويجرهما إلى مقدم الرأس، ويمسح ظاهر الأذنين بباطن الإبهامين، وباطن الأذنين بباطن السبابتن، ويمسح رقبته بظاهر اليدين حتى يصير ماسحًا ببل لم يَصِرْ مستعملًا، كذا علمنا الأستاذ الشفيق فخر الدين المَايْمرُغي، إلَّا أن الرواية في "المبسوط" على أن الماء لا يعطي له حكم الماء المستعمل حال الاستعمال فقال: ألا ترى أن في المسنون يستوعب الحكم جميع الرأس كما في المغسولات، فكما في المغسولات الماء في العضو لا يصير مستعملًا، فكذلك في حكم إقامة السُنَّة في الممسوح، ولكن يجب أن تستعمل فيه ثلاث أصابع اليد في الاستيعاب؛ ليقوم الأكثر مقام الكل حتى أنه لو مسح ناصيته بجوانبها الأربع لا يجوز -في الأصح- لعدم استعمال أكثر الأصابع. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن ليث ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله ابن عمرو التميمي المقعد البصري، شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث ابن سعيد البصري، عن ليث بن أبي سليم، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): وقال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن طلحة، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت النبي - عليه السلام - توضأ فمسح رأسه هكذا، وأَمرَّ حفص بيديه على رأسه حتى مسح قفاه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 23 رقم 150).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ولفظه: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يمسحُ رأسه حتى بلغ القذال، وما يليه من مقدم العنق مرةً، قال: القذال السالفة". قال الجوهري: السالفة ناحية مقدّم العنق، من لدن معلق القرط إلى قلب الترقوة. ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا عليّ بن بحر، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا عبد الله بن العلاء، عن أبي الأزهر، عن معاوية - رضي الله عنه -: "أنه أراهم وضوء رسول الله - عليه السلام - فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه، ثم مرّ بهما حتى بلغ القفا، ثم ردَّهما حتى بلغ المكان الذي منه بدأ". ش: أحمد بن داود وثقه ابن يونس. وعلي بن بَحْر بن بَريّ القطان وثقه يحيى وغيره، روى له الترمذي. والوليد بن مسلم القرشي الدمشقي روى له الجماعة. وعبد الله بن العلاء بن زَبْر أبو عبد الرحمن الدمشقي روى له الجماعة. وأبو الأزهر اسمه المغيرة بن فروة الثقفي وثقه ابن حبان، روى له أبو داود. وأخرجه أبو داود (¬2): عن المؤمل بن فضل الحراني، عن الوليد بن مسلم إلى آخره بأتم منه، ولفظه: "ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه". وأخرجه البيهقي في سننه (¬3): من طريق أبي داود، وأخرجه أحمد (¬4)، والطبراني (¬5) أيضًا. ص: فذهب ذاهبون إلي مسح الرأس كله واجب في وضوء الصلاة، لا يجزئ ترك شيء منه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 481 رقم 15993). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 31 رقم 124). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 59 رقم 276). (¬4) "مسند أحمد" (14/ 94 رقم 16900). (¬5) "المعجم الكبير" (19/ 384 رقم 900).

ش: أراد بهؤلاء الذاهبين: مالكًا، وابن عليّة، وأحمد في رواية، فإنهم ذهبوا إلى أن مسح جميع الرأس فرض، واستدلوا على ذلك بالأحاديث المذكورة، والمروي عن مالك فرض الكل، ولكن أصحابه اختلفوا، فقال أشهب: يجوز مسح بعض الرأس، وقال غيره الثلث فصاعدًا. وفي "المغني": اختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومذهب مالك، والرواية الثانية: يجزئ مسح بعضه، وممن قال بمسح البعض: الحسن، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، إلَّا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وفي حق المرأة يجزئها مقدم الرأس، قال الخلال: العمل في مذهب أبي عبد الله أنَّهَا إنْ مسحت بمقدّم رأسها أجزأها. وقال مهنَّى: قال أحمد: أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل. قلت له: ولم؟ قال: كانت عائشة - رضي الله عنها - تمسح مقدم رأسها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الذي في آثاركم هذه إنما هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه كله في وضوئه للصلاة، (فلهذا) (¬1) نأمر المتوضيء أن يفعل ذلك في وضوءه للصلاة، ولا نوجب ذلك، بكماله عليه فرضًا، وليس في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه ما قد دلّ على أن ذلك كان منه لأنه فرض، وقد رأيناه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثًا لا لأن ذلك فرض لا يجزى أقل منه، ولكن منه فرض ومنه نفل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، والشافعي، وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: الذي في آثاركم أي الأحاديث المتقدمة، والباقي ظاهر. قوله: "ومنه نفل" أي ومن المسح، وفي بعض النسخ: "ومنه فضل" أي زائد على الفرض، وكلاهما في المعني سواء؛ لأن معنى النفل في اللغة: الفضل والزيادة. ¬

_ (¬1) في "شرح المعاني" المطبوع: فهكذا.

ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآثار الدالة على ما ذهبوا إليه في الفرض في مسح الرأس أنه على بعضه ما قد حدثنا الربيع المؤذن، ثنا يحيى بن حسّان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب الثقفي، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ وعليه عمامة فمسح على عمامته، ومسح بناصيته". ش: رواته ثقات، وأيوب هو السختياني. وأخرجه الدارقطني (¬1): عن أبي بكر النيسابوري، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، عن يحيى بن حسان ... إلى آخره مثله، وزاد: و"خفَّيْه". وكذا رواه البيهقي في "المعرفة" (¬2): عن أبي زكريا بن أبي إسحاق، وأبي بكر أحمد بن الحسن، وأبي سعيد بن عمر قالوا: أنا أبو العباس قال: أنا الربيع قال: أنا الشافعي ... إلى آخره نحوه. ورواه الطبراني في "الكبير" (¬3): عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، عن محمد بن بكار، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن محمَّد بن سيرين، عن عمرو بن وهب الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال: "مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناصيته وعمامته، ومسح على خفيه وأنا شاهد على ذلك". والحديث أخرجه مسلم (¬4) أيضًا: من غير هذا الوجه، وقال: حدثني محمَّد بن عبد الله بن بزيع قال: ثنا يزيد -يعني ابن زريع- قال: ثنا حميد الطويل قال: ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه قال: "تخلف رسول الله - عليه السلام - وتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: أمعك ماء؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسرُ عن ذراعيه فضاق كمّ الجبّة، فأخرج يده من ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 192 رقم 1). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 160 رقم 59). (¬3) "المعجم الكبير" (20/ 426 رقم 1030). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 230 رقم 274).

تحت الجبَّة فألقى الجبَّة على منكبيه، وغسل ذراعيه، ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه ... " الحديث. ورواه أبو داود (¬1)، والنسائي (¬2) أيضًا. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أخبرنا ابن عون، عن عامر، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. وابنُ عَون عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة بن شعبة رفعه إليه قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فتوضأ للصلاة، فمسح على عمامته، وقد ذكر الناصية بشيء". ش: أخرج الطحاوي هذا عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، ويزيد هذا أخرجه من طريقين: الأول: عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني، عن عامر الشعبي، عن ابن المغيرة، واسمه حمزة، ويقال: عروة، وقال القاضي عياض: حمزة بن المغيرة هو الصحيح، وعروة بن المغيرة في الأحاديث الأخرى، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة، والحديث مرويّ عنهما جميعًا لكن رواية بكر بن عبد الله المزني إنما هي عن حمزة ابن المغيرة. قلت: رواية بكر بن عبد الله عنه رواها أبو داود، والطبراني، ولكن أبا داود ما صرّح بحمزة وإنما قال: ابن المغيرة، كرواية الطحاوي، وصرّح الطبراني بحمزة ابن المغيرة، وبعروة بن المغيرة أيضًا، وكذا صرّح النسائي بحمزة بن المغيرة في رواية بكر بن عبد الله المزني عنه، وصرّح بعروة بن المغيرة في رواية عامر الشعبيّ عنه وكذا صرح مسلم في رواية بكر بعروة بن المغيرة على ما مر عن قريب فعلي هذا يحتمل في رواية الطحاوي أن يكون حمزة، ويحتمل أن يكون عروة؛ لأن روايته ليس فيها بكر بن عبد الله المزني فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 38 رقم 150). (¬2) "المجتبى" (1/ 76 رقم 108).

الثاني: عن ابن عون، عن محمَّد بن سيرين، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة ابن شعبة. فكالطريق الأول أخرجه الطبراني (¬1): عن معاذ بن المثنى بن معاذ، عن أبيه، عن ابن عون، عن محمَّد والشعبي، عن عروة بن المغيرة في حديث طويل، وفيه قال ابن عون: "وذكر من ناصيته وعمامته شيئًا لا أدري أصبته أم لا، ومسح على خفيه". وأخرجه أيضًا (¬2): عن محمَّد بن أحمد بن البراء، ثنا المعافي بن سليمان، نا موسى بن أعين، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن المغيرة بن شُعبة، عن أبيه قال: "كنت أسيرُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً ... " الحديث، وفيه: "فتوضأ فغسل يديه ووجهه وذراعيه، ومسح على خفيه". وكالطريق الثاني: أخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمَّد، عن عمرو بن وهب الثقفي في حديث طويل، وفيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين". قوله: "في سفر" صرّح في رواية أبي داود (¬4): أنه كان في غزوة تبوك قال: ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: حدثني عباد بن زياد، أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره [أنه سمع أباه] (¬5) المغيرة بن شعبة يقول: "عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي - عليه السلام - فتبرّز، ثم جاء فسكبتُ على يديه من الاداوة، فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حَسَر عن ذراعيه فضاق كمَّا جُبّته، فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 373 رقم 870). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 372 رقم 869). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 247 رقم 18189). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 37 رقم 149). (¬5) في "الأصل، ك": أن أباه. والمثبت من "سنن أبي داود".

ثم إنهم استدلوا بهذه الأحاديث أن فرض المسح هو مقدار الناصية، وقال النووي: هذا مما احتج به أصحابنا على أن مسح بعض الرأس يكفي ولا يشترط الجميع. قلت: هذا حجة عليهم لا لهم؛ لأن الفرض عندهم أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، وها هنا قد نصّ على الناصية، وهو مقدار الربع، وقال ابن قدامة: احتج من أجاز البعض بأن المغيرة بن شعبة روى أن النبي - عليه السلام - مسح بناصيته، وعمامته، ولأن من مسح ببعض رأسه يقُال: مسح برأسه كما يقال: مسح برأس اليتيم، وقبَّل رأسه، وزعم بعض من ينصر ذلك أن الباء للتبعيض، ولنا ظاهر قوله تعالى: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬1)، والباء للإلصاق فكأنه قال: امسحوا رؤسكم. فيتناول الجميع، كما قال [في التيمم] (¬2): {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (3)، قال بعض أهل العربية: من جعل الباء للتبعيض أدخل في اللغة ما ليس منها، وقال ابن بَرْهان: (من زعم) (¬3) أن "الباء" تُفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه، وحديث المغيرة يدل عل جواز المسح على العمامة، ونحن نقول به، وأيضًا فإن النبي - عليه السلام - لما توضأ مسح برأسه كله، وهذا خرج من النبي - عليه السلام - مخرج البيان؛ فدل علي وجوبه، وما ذكروه من اللفظ مجاز، لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بدليل. انتهى. قلت: اتفق الشافعي مع أبي حنيفة في البعضية، ولكن عند الشافعي أقله ما ينطلق عليه اسم المسح، ولو بعض شعره. وفي "الروضة" الواجب في مسح الرأس ما ينطلق عليه الاسم ولو بعض شعره أو قدره من البشرة، وفي وجه شاذ: يشترط ثلاث شعرات، وشرط الشعر الممسوح ألَّا يخرج عن حد الرأس لو مُدّ، سَبطا كان أو جعدَّا انتهى. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المغني" (1/ 87). (¬3) تكررت في "الأصل".

وعند أبي حنيفة: الفرض مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، قال صاحب "الهداية": والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وفي بعض الروايات قدَّره أصحابنا بثلاث أصابع، وهو ظاهر الرواية، وهو المذكور في الأصل، وهو رواية عن محمَّد، ذكرها ابن رستم في نوادره، وإذا وضع ثلاث أصابع ولم يمدّها؛ جاز في قول محمَّد في الرأس والخف جميعًا، ولم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف حتى يمدّها مقدار ما تصيب البلة ربع رأسه، فهما اعتبرا الممسوح عليه، ومحمد اعتبر الممسوح به، وهو عشر أصابع ربعها أصبعان ونصف، إلَّا أن الإصبع الواحدة لا تُجَزَّأ، فجعل المفروض قدر ثلاث أصابع لهذا، فالحاصل أن علمائنا اتفقوا في اعتبار الربع، لكنهما اعتبرا ربع المحل، ومحمد اعتبر ربع الآلة، وما قالاه مُرَجَّح؛ لأن المذكور في النص هو الرأس، فالاعتبار لما هو المذكور فيه أولى. وفي "البدائع": ولو مسح بثلاثة أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لم يجز، لأنه لم يأت بالقدر المفروض، ولو مدّها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عندنا وعند زفر يجوز، وعلي هذا الخلاف إذا مسح بأصبع أو أصبعين ومدهما حتى بلغ مقدار المفروض، ولو مسح بأصبع واحدة ببطنها وظهرها وجانبيها لم يذكر في ظاهر الرواية، واختلف المشايخ، فقال بعضهم: لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز، وهو الأصح، ولو مسح علي شعره وكان شعره طويلًا فإن مسح على ما تحت أذنيه لم يجز، وإنْ مسح على ما فوقهما يجوز، ولو أصاب رأسه من ماء المطر مقدار المفروض سقط عنه فرض المسح -والله أعلم- ثم إنَّ أصحابنا استدلوا على فرضية ربع الرأس في المسح بحديث المغيرة؛ لأن الكتاب مجمل في حق المقدار فقط لأن الباء في {وَامْسَحُوا} للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح، فيتناول جميعه، كما يقول الرجل: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله، وإذا قرنت بمحل المسح، يتعدى الفعل بها إلى الآلة، فلا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادةً، ثم أكثر الآلة ينزل منزلة الكل، فيتأدي المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل

المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق، لا بمعني أن الباء للتبعيض كما قاله البعض، وتحرير الكلام في هذا المقام ما ذكره النحاة: أن الباء تستعمل لمعانٍ كثيرة: أحدها الإلصاق، وقد جعلها الجرجانيّ أصلًا فيه بحيث إنها إذا استعملت في غيره فإنما تكون بقرينة زائدة مع الإشعار بمعنى الإلصاق، فإذا قلت: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم فالباء للاستعانة أي كتبت مستعينًا بالقلم، وعملت مستعينًا بالقدوم، وفي ذلك معنى الإلصاق، وغير الجرجاني يجعل لها معاني كثيرة، كل واحد منها برأسه، منها أن تكون للتبعيض، ذكره أبو علي في "التذكرة"، ويحكي عن الأصمعي في قول الشاعر: شربن بماء البحر ثم ترفعت .... متى لجج خضر لهن نئيج (¬1) ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (¬2)، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (¬3)، وقال ابن هشام: أثبت مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، والقُتبي، وابن مالك -قيل: والكوفيون- وجعلوا منه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (2) قيل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬4)، والظاهر أن الباء فيهما للإلصاق، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا، فإن "مسح" يتعدى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل بالباء، فالأصل امسحوا رؤسكم بالماء، ونظيره بيت اللباب: كنواح ريش حمامة نجديّة ...... ومسحت باللثَتين عَصْف الأثمد يقول: إنَّ لبابك تضرب إلى سُمْرة فكأنك مسحتها بمسحوق الأثمد، فَقلبَ مَعْمول مَسحَ. وقال الزمخشري في {يَشْرَبُ بِهَا}: المعنى يشرب بها الخمر كما تقول شربتُ الماء ¬

_ (¬1) عزاه في "لسان العرب" (مادة: مخر) لأبي ذؤيب. (¬2) سورة الإنسان، آية: [6]. (¬3) سورة المطففين، آية: [28]. (¬4) سورة المائدة، آية: [6].

بالعسل، فإن قيل: سلمنا أن خبر الواحد يصحّ به بيان مجمل الكتاب، ولكن لا نسلّم أن آية الوضوء فيها إجمال؛ لأن بيان المُجْمَل: ما لا يدرك بيانه إلَّا من جهة المُجْمِل، ونحن لا نحتاج إلى البيان إذا قلنا بالاستيعاب كما قال مالك، أو بأقل ما ينطلق عليه المسح كما قال الشافعي؛ لأن في الأول عملًا بالأقاويل كلها، وفي الثاني عملًا بالمتيقن. قلت: الأول: إنما يكون عملًا بالأقاويل إذا كان الاستيعاب فرضًا عند الكل، وليس بفرض عند الكل، ولهذا قال أحمد: ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله؟! فحينئذ ينفي الإجمال، والثاني: إنما يكون عملًا بالمتيقن إذا كان ذلك الأقل معتبرًا، وقد يحصل بغسل الوجه ولا اعتبار له فيبقى الإجمال أيضًا، وأما وجه التقدير بالناصية، فلأن مسح جميع الرأس ليس بمراد بالإجماع؛ لأن عند مالك لو مسح جميع الرأس إلَّا قليلًا منه جاز، فلا يمكن حمل الآية على جميع الرأس، ولا على بعض مطلق، وهو أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما قال الشافعي؛ لأن ماسح شعره أو ثلاث شعرات لا يُسّمي ماسحًا في العرف، فلا بد من الحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحًا في التعارف، وذلك غير معلوم، فصار فعله - عليه السلام - حديث المغيرة بيانًا لمجمل الكتاب؛ إِذْ البيان يكون تارة بالقول وتارة بالفعل، كفعله في هيئة الصلاة، وعدد ركعاتها، وفعله في مناسك الحج، وغير ذلك، فكان المراد من المسح بالرأس مقدار الناصية ببيان النبي - عليه السلام -فإن قيل: أليس -أي في التميم- حكم المسح ثبت بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬1) ثم الاستيعاب فيه شرط، قلت: أمَّا على رواية الحسن، عن أبي حنيفة لا يشترط فيه الاستيعاب، لهذا المعنى الذي ذكرناه، وأما على ظاهر الرواية فإنما عرفنا الاستيعاب هناك إما بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذر الغسل، والاستيعاب في الغسل فرض بالنص، فكذا فيما قام مقامه، أو عرفنا ذلك بالسنة، وهو قوله: - عليه السلام - لعمار: "يكفيك ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6].

فإن قيل: المسح فرض، والمفروض مقدار الناصية، ومن حكم الفرض أن يكفر جاحده، وجاحد المقدار لا يكفر فكيف يكون فرضًا؟ قلت: بلى جاحد الفرض كافر، وجاحد المقدار لا يكفر؛ لأنه في حق المقدار ظني، وأصل المسح قطعي وجاحده كافر. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الناصية كل الرأس كما في قوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (¬1)، فإن المراد بها ها هنا الرءوس فيكون المراد من قوله: "ومسح بناصيته": مسح برأسه؟ قلت: الأصل استعمال اللفظ فيما وضع له، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا فائدة ولا قرينة لا يجوز، ولا قرينة ها هنا على أن المراد من الناصية كل الرأس، فإن قيل: كيف استدل أبو حنيفة ببعض الحديث، وترك البعض، ولم يجوز المسح على العمامة؟. قلت: لو عمل بكل الحديث لكان تلزم به الزيادة على النص؛ لأن هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ، فلا يجوز، وأما المسح على الرأس فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، ولهذا قال مالك في "موطأه": بلغني عن جابر بن عبد الله: "أنه سئل عن العمامة فقال: لا حتى يمسّ الشعر الماء". ورواه عنه محمد في موطأه (¬2): ثم قال: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، وأما مسحه - عليه السلام - على العمامة فأوّله البعض بأن المراد به ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأَوَّله البعض بأن الراوي كان بعيدًا عن النبي - عليه السلام -فمسح النبي - عليه السلام - على رأسه ولم يضع العمامة في رأسه، فظن الراوي أنه مسح على العمامة، وقال القاضي عياض: وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه - عليه السلام - لعلّه كان به مرض مَنَعه كشفَ رأسه فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة، وقال ابن حزم: إنَّ ذلك كان في مرات مختلفة لا أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، آية: [41]. (¬2) "الموطأ" رواية محمَّد بن الحسن (ص 45 رقم 52).

معًا، بل مسح على العمامة مرةً، ومسح على الناصية في مرة أخرى. وفيه نظر؛ لأنه ليس للتفقه فيه مجال فلا بدّ من النقل على ذلك، ويمكن أن يقال أنه مسح مرتين، مرةً على الناصية، ومرةَّ عَلى العمامة، كما نقل عنه المسح في غير هذا الحديث تارة مرةً، وتارة ثلاثًا، ويدل على ذلك تكرار قوله: "فمسح بناصيته" بعد قوله: "فمسح على عمامته"، ولم يقل: فمسح على عمامته وناصيته، فافهم. وقال ابن حزم أيضًا ما ملخصه: إن الناس اختلفوا في مسح الرأس، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء، وقال أبو حنيفة بمسح مقدار ثلاث أصابع، وعنه ربع الرأس، وقال الثوري: يجزئ في الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة، ويجزئ مسحه بأصبع، وببعض أصبع، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع، وأحب ذلك إلى الشافعي: العموم ثلاث مرات. وقال أحمد بن حنبل: يجزئ للمرأة أن تمسح بمقدم رأسها. وقال الأوزاعي والليث: يجزئ مسح مقدم الرأس فقط، وقال داود: يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح، وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر، وأحب إليه العموم، وهذا هو الصحيح، وعن النخعي: إنْ أصاب هذا يعني مقدم رأسه، وصدغيه، وعن الشعبي: إنْ مسح جانب رأسه أجزأه، وروي أيضًا عن عطاء، وصفية بنت أبي عبيد، وعكرمة، والحسن، وأبي العالية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم، ثم قال: ولا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة خلاف لما روينا عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط، ولا حجة لمن خالفنا يعني مَن روي عنه من الصحابة وغيرهم: مسح جميع رأسه؛ لأنا لا ننكر ذلك بل نستحبه. ثم قال: وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس، ولمقدار ثلاث أصابع ففاسد، لأنه لا دليل عليه، فإن قالوا: هو مقدار الناصية قلنا لهم: ومن أين لكم بأن هذا هو مقدار الناصية والأصابع تختلف، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة، وهذا باطل.

قلت: قوله: لأنه لا دليل عليه باطل؛ لأن مذهب أبي حنيفة الذي روى عنه الطحاوي والكرخي هو مقدار الناصية لحديث المغيرة المذكور، ولهذا قال أبو الحسين القدوري: والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وسكت عليه، ولا يلزم من هذا أن تكون الناصية ربع الرأس تحقيقًا، وأما إذا كان تقريبًا فلا يحتاج إليه؛ نعم روى الحسن عن أبي حنيفة أن مقدار الناصية هو الربع كما قال به زفر باعتبار أن الرأس لها أربعة أركان: الناصية، والقفا، والفودان، فبهذا الاعتبار تكون الناصية ربع الرأس، ولا يلزم من هذه القسمة أن تكون الناصية ربعًا حقيقيًا حتى يلزم ما ذكره ابن حزم، وقد قال ابن فارس: الناصية قصاص الشعر، ثم فسر القصاص بأنه نهاية منبت الشعر من مقدم الرأس، فهذا أعم من أن يكون ربع الرأس على الحقيقة، أو باعتبار أنه أحد الأركان الأربعة، وأما جوازه في غير الناصية فكما أن الرأس كله محل للمسح فلا تتعين الناصية دون غيرها، وإنما الذي تعين هو مقدار الناصية فافهم. واستدل بعض الشافعية بالحديث المذكور على استحباب تتميم المسح بالعمامة، لتكون الطهارة على جميع الرأس، ولا فرق عندهم بين أن يكون لَبِس العمامة على طهر أو على حدث، وكذا لو كان على رأسه قلنسوة ولم ينزعها ومسح بناصيته يستحب أن يتممّ على القلنسوة كالعمامة، واستدل به أحمد علي جواز المسح على العمامة. قال ابن المنذر: وممن مسح على العمامة: أبو بكر الصديق، وبه قال عمر، وأنس، وأبو أمامة، وروي عن سعد بن مالك، وأبي الدرداء، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، ومكحول، والأوزاعي، وأبو ثور. وقال عروة، والنخعي، والشعبي، والقاسم، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي: لا يجوز المسح عليها. وفي "المغني": ومن شرائط جواز المسح على العمامة شيئان: أحدهما: أن تكون تحت الحنك، وسواء أرخي لها ذوابة أولا، قاله القاضي، ولا فرق بين الصغيرة

والكبيرة إذا وقع عليها الاسم، وقيل: إنما لم يجز المسح على العمامة التي ليس لها حنك؛ لأن النبي - عليه السلام - أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، قال أبو عُبيد: الاقتعاط ألَّا يكون تحت الحنك شيء، وروي: "أن عمر - رضي الله عنه - رأي رجلًا ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقية" وقال الخلال: أن تكون ساترةً لجميع الرأس إلَّا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين، ويستحب أن يمسح على ما ظهر من الرأس مع المسح على العمامة، نصّ عليه أحمد، وقال الخلال: وإذا نزع عمامته بعد مسحها بطلت طهارته كما لو نزع الخف بعد مسحه، وكذلك إنْ انكشف رأسه، نصّ عليه أحمد إلَّا أن يكون يسيرًا جرت العادة بمثله، مثل: إنْ حك رأسه أو رفعها لأجل الوضوء، فإن انتقضت العمامة بعد مسحها بطلت طهارته وإنْ انتقض بعضها، وقال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت طهارته، وهو المنصوص، وقال ابن عقيل: فيه رواية آخري: لا تبطل. وأما القلانس فإن كانت طاقية لم يمسح عليها، وأما القلانس المبطنات كَدَنِّيَات القضاة والنوميات فقال إسحاق بن إبراهيم: قال أحمد: لا يمسح على القلنسوة. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال بالمسح على القلنسوة، إلَّا أن أنسًا مسح على قلنسوته، وروي الأثرم بإسناده، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إنْ شاء حسر عن رأسه، وإنْ شاء مسح على قلنسيته وعمامته". وفي جواز المسح للمرأة على الخمار روايتان: إحداهما: يجوز، والثانية: لا يجوز، قاله نافع، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ولا يجوز المسح على الوقاية قولًا واحدًا، ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأنه لا يشق نزعها والله أعلم (¬1). ص: ففي هذا الأثر أن رسول الله - عليه السلام - مسح على بعض الرأس، وهو الناصية، وظهور الناصية دليل على أن بقية الرأس حكمه حكم ما ظهر منه؛ لأنه لو كان ¬

_ (¬1) انتهى من "المغني" لابن قدامة بتصرف وتقديم وتأخير (1/ 184 - 186).

الحكم قد ثبت بالمسح على العمامة لكان كالمسح على الخفين فلم يكن ألَّا وقد غُيِّيت الرجلان فيهما، ولو كان بعض (الرجل) (¬1) باديًا لما أجزأه أن يغسل ماظهر (منها) (¬2)، ويمسح على ما غاب منهما [فجعل حكم ما غاب منهما مضمنًا] (¬3) لحكم ما بدا منهما [فلما] (¬4) وجب غسل الظاهر؛ وجب غسل الباطن، فكذلك الرأس لما وجب مسح ما ظهر منه ثبت أنه لا يجوز مسح ما بطن منه ليكون حكمه كله حكمًا واحدًا كما كان حكم الرجلين إذا غيّب بعضهما في الخفين حكمًا واحدًا، فلما أكتفى النبي - عليه السلام - في هذا الأثر بمسح الناصية عن مسح ما بقي من الرأس، دلَّ ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، وأن ما فعله فيما جاوز به الناصية فيما سوى ذلك من الآثار كان دليلًا على الفضل لا على الوجوب؛ حتى تستوي هذه الآثار ولا تتضّاد، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: أشار بهذا الأثر إلى حديث المغيرة بن شعبة، تحريره أنه - عليه السلام - مسح على بعض رأسه في هذا الحديث، وهو الناصية، وظهورها من بين أجزاء الرأس دليل على أن حكم بقية الرأس من الفودين والقفا كحكم ما ظهر منه، وأن الحكم قد ثبت بالمسح على الناصية إِذْ لو ثبت بالمسح على العمامة لكان حكمه كحكم المسح على الخفين ولم يكن المسح (على) (¬5) الخفين إلَّا عند تغيب الرجلين فيهما إِذْ لو كان بعض الرجل ظاهرًا لما أجزأه أن يغسل ما ظهر من ذلك ويمسح ما غاب لعدم [جواز] (¬6) الجمع بين الغسل والمسح من غير ضرورة، فإذا وجب غسل ما ظهر، وجب غسل ما بطن، فكذلك الرأس، لما وجب مسح ما ظهر منه ثبت أنه لا يجوز مسح ما بطن منه تحت العمامة ونحوها، ليكون حكمه كله حكمًا واحدًا كما كان حكم الرجلين ¬

_ (¬1) في "شرح المعاني": "الرجلين". (¬2) في "شرح المعاني": "منهما". (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني". (¬4) في "الأصل، ك": "فلو". والمثبت من "شرح المعاني". (¬5) تكررت في "الأصل". (¬6) في "الأصل، ك": الجواز.

كما ذكرنا، ثم إنَّ النبي - عليه السلام - لما اكتفى في هذا الحديث بالمسح على الناصية عن مسح ما بقي من رأسه دل فعله ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، إِذ لو كان غيرها منها فرضًا لما اكتفي بها، ودلّ ذلك أيضًا أن مسحه جميع رأسه في الأحاديث المتقدمة كان ذلك منه على سبيل الفضل والنفل، لا على سبيل الوجوب، إِذْ لو لم يكن الأمر كذلك يلزم التضاد بين هذه الآثار؛ لأن حديث المغيرة يدل على وجوب البعض، وأحاديث غيره تدل على وجوب الكل فإذا حملنا على المعنى المذكور يرتفع التضاد، وتستوي معاني الآثار. ص: وأما من طريق النظر: فإنا رأينا الوضوءَ يجبُ في أعضاء، فمنه ما حكمُه أن يغسل، ومنها ما حكمُه أن يمسح، فأما ما حكمه أن يغسل فالوجه، واليدان، والرجلان في قول من يوجب غسلهما، فكل قد أجمع أن ما وجب غسله من ذلك فلا بد من غسله كله، ولا يجزى غسل بعضه دون بعض، فكان ما وَجب مسحه من ذلك هو الرأس، فقال قوم حكمهُ أن يُمسح كله كما تغسل تلك الأعضاء كلها. وقال آخرون: يمسح بعضه دون بعض، فنظرنا فيما حكمه المسح كيف هو؟ فرأينا حكم المسح على الخفين قد اختلف فيه، فقال قوم: يمسح ظاهرهما وباطنهما، وقال آخرون: يمسح ظاهرهما دون باطنهما، فكل قد اتفق أن فرض المسح في ذلك هو على بعضهما دون مسح كلهما، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم مسح الرأس هو على بعضه دون بعض، قياسًا ونظرًا على ما بينا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن - رحمهم الله-. ش: أي وأما حكم هذا الباب من وجه النظر والقياس وهذا قياس اقتراني جملي مشتمل على مقدمتين؛ لأن تقديره: فرض الرأس في الوضوء مسح كفرض الرجل التي في الخف، وكل رجل في الخف لا يجب استيعاب مسحه، ينتج فرض الرأس لا يجب استيعاب مسحه وكلام الطحاوي ظاهر.

قوله: "والرجلان في قول من يوجب غسلهما" وهم جمهور العلماء خلافًا لابن جرير الطبري وطائفة يسيرة، فإنهم خيروا بين الغسل والمسح، وخلافًا للروافض فإنهم أوجبوا المسح، وما جوّزوا الغسل على ما سيأتي مفصلًا- إنْ شاء الله تعالى. قوله: "فقال قوم" وهم مالك، وابن عُلية، وأحمد في رواية. قوله: "وقال آخرون" وهم: أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وغيرهم. قوله: "فقال قوم يمسح ظاهرهما" وهم: مالك، والشافعي، والزهري وغيرهم. قوله: "وقال أخرون" وهم: النخعي، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وإسحاق، وغيرهم. ص: وقد روي في ذلك عمّن بعد النبي - عليه السلام - أيضًا ما يُوافقُ ذلك، حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: ثنا يحيى بن حمزة، عن الزُبَيْدي، عن الزُهْريّ، عن سالم، عن أبيه: "أنه كان يمسح بمقدم رأسه إذا توضأ". ش: أي قد روي فيما ذكرنا من التوفيق بين الأحاديث، وتعيّن بعض الرأس في الوجوب، "ما رُوي" عن بعض الصحابة "ما يوافق ذلك"، أي ما ذكرنا، ثم بين ذلك بقوله: "حدثنا ... " إلى آخره. ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود. والزُّبَيْدي هو: محمَّد بن الوليد، صاحب الزهريّ، نسبة إلى زُبَيد بضم الزاي، وفتح الباء الموحدة، وهو: منبه بن مصعب، وهذا هو زبيد الاكبر، إليه ترجع قبائل زُبيد. والزهري هو: محمَّد بن مسلم. وسالم هو: ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر "كان يدخل يده في الوَضُوء فيمسح بها مسحةً واحدةً [علي] (¬2) اليافوخ فقط". قلت: اليافوخ اسم لمقدم الرأس، يفعول، والجمع اليآفخ، وأَفَخْتُه: ضربت يافوخه، ويافوخ الليل معظمه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 12 رقم 30). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "مصنف عبد الرزاق".

ص: باب: حكم الأذنين في وضوء الصلاة

ص: باب: حكم الأذنين في وضوء الصلاة ش: أي هذا باب في بيان حكم الأذنين في الوضوء هل يمسحان أم لا؟ فإذا كانا يمسحان، هل يمسحان بماء الرأس أو بماء جديد؟ ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمَّد بن طلحة بن يزيد بن رُكانة، عن عبيد الله الخولاني، عن عبد الله بن عباس قال: "دخل عليَّ عليٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد أراق الماء، فدعا بإناء فيه ماء، فقال: يا ابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ قلت: بلى فداك أبي وأمي، فذكر حديثا طويلًا، وذكر فيه أنه أخذ حفنة من ماء بيديه جميعًا فصكّ بهما وجهه، ثم الثانية مثل ذلك، ثم الثالثة مثل ذلك، ثم ألقم إبهامَيه ما أقبل من أذنيه، ثم أخذ كفا من ماء بيده اليمنى فصبّها على ناصيته، ثم أرسلها تستن على وجهه، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، واليسرى كذلك، ثم مسح برأسه، وظهور أذنيه". ش: رجاله ثقات. وعَبَدَة بفتحات (¬1) قيل: اسمه عبد الرحمن، وعبدة لقب عليه. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، نا محمَّد يعني ابن سلمة، ¬

_ (¬1) لم أجد من ضبطه بفتحات غير المصنف، والمشهور بسكون الباء الموحدة، ولما ذكره ابن ماكولا في "الإكمال" قال: أما عَبْدة بسكون الباء، فجماعة. فكأن الأصل أن يكون بسكون الباء. ثم قال: وأما عَبَدة بفتح العين والباء فهو عَبَدة بن هلال أبومالك، شاعر. ولم يذكر في هذا الباب غيره. فالله أعلم. انظر "الإكمال" (6/ 28، 29). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 29 رقم 117).

عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس قال: "دخل عليَّ عليٌّ بن أبي طالب، وقد أهراق الماء، فدعا بوَضوء، فأتيناه بتَور فيه ماء حتى وضعنا بين يديه، فقال: يا ابن عباس ألا أريك كيف كان يتوضأ رسول الله - عليه السلام -؟ قلت: بلى، فأصغى الإناء على يديه فغسلهما، ثم أدخل يده اليمني، وأفرغ بها على الأخرى، ثم غسل كفيه ثلاثا، ثم تمضمض، واستنثر، ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء، فضرب بها على وجهه، ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، ثم الثانية، ثم الثالثة مثل ذلك، ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء، فصبها على ناصيته فتركها تستن على وجهه، ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه وظهور أذنيه، ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها بها، ثم الأخرى مثل ذلك، قال: قلت وفي النعلين؟! قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين؟! قال: وفي النعلين؟! قال: قلت: وفي النعلين؟! قال: وفي النعلين". وأخرجه أحمد (¬1)، والبيهقي (¬2) أيضًا: وقال الترمذي: سألت محمَّد بن إسماعيل البخاريّ عن هذا الحديث فقال: لا أدري ما هذا الحديث، وقال البيهقي: فكأنه رأى حديث عطاء بن يسار أصحّ. وحديث عطاء ما رواه زيد بن أسلم عنه قال: "قال لي ابن عباس: ألا أُريك وُضوء رسول الله - عليه السلام - فتوضأ مرة مرة، ثم غسل رجليه وعليه نعله". أخرجه الجماعة (¬3) بألفاظ مختلفة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 82 رقم 625). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 74 رقم 355). (¬3) لم يخرجه مسلم ولم يعزه المزي في "أطرافه" (5/ 105 رقم 5978) إلَّا للبخاري والأربعة، وهو عند البخاري (1/ 65 رقم 140)، وأبي داود (1/ 34 رقم 137)، والترمذي (1/ 52 رقم 36)، والنسائي (1/ 74 رقم 102) وابن ماجه (1/ 151 رقم 439).

قلت: هذا الحديث إسناده جيد، ولكن الجواب عنه أن قوله: "فأخذ حفنة من ماء" يحتمل أن تلك الحفنة قد وصلت إلى ظاهر القدم وباطنه وإنْ كان في النعل، ويدل على ذلك قوله: ففتلها بها، ثم الأخرى مثل ذلك، والحفنة من الماء ربما كفت مع الرفق في مثل هذا، ولو كان أراد المسح على بعض القدم لكان يكفيه ما دون الحفنة، وسيجيء البحث فيه مستقصى باب فرض الرجلين في وضوء الصلاة، إنْ شاء الله. قوله: "أَلا" كلمة تنبيه. قوله: "بلى" حرف جواب، وألفه أصلية، وقيل: أصله "بل" والألف زائدة، والفرق بينها وبين "نعم" أنَّ "بلى" حرف إيجاب بعد النفي، و"نعم" تصديق لما قبله نفيا كان أو إثباتا. قوله: "فداك أبي وأمي" معناه أنت مفدّى بأبي وأمي، والفداء بفتح الفاء والقصر، وإذا كسرت الفاء تُمدُّ، يقال: فَداه يفديه فِداء، وفَدَى، وفَادَاهُ يُفَاديه مُفَادَاة إذا أعطى فداءه وأنقذه، وفَدَاه بنفسه، وفَدَّاه إذا قال له: جُعلِتُ فداك، وقيل: المفاداة: أن يُفْتَكَّ الأسير بأسير مثله. قلت: فدى الأسير معناه افتكَّهُ بمال، وإذا أخذ مالا ودفع الأسير يقال: أفداه، وإذا دفع أسيرا وأخذ أسيرا عوضه يقال: فاداه. قوله: "فصك" أي ضرب، ومنه قوله تعالى: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} (¬1). قوله: "ثم ألقم إبهاميه" أي أدخلهما، من الإلقام، كأنه جعلهما لقمة لأذنيه. قوله: "يستن" بالسن المهملة أي يسيل وينصب، من سننت الماء إذا صببته صبّا سهلا. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: [29].

قوله: "وظهور أذنَيْه" أي مسح ظهري أذنيه، أطلق الجمع على التثنية مجازا كما في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1) أي قلباكما. ص: فذهب قوم بلى هذا الأثر فقالوا: ما أقبل من الأذنين فحكمه حكم الوجه يغسل مع الوجه، وما أدبر منهما فحكمه حكم الرأس يمسح مع الرأس. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبيّ، وابن سيرين، والنخعي، وابن جرير الطبري، وإسحاق بن راهويه. وقال أبو عمر: حكي هذا القول ابن أبي هريرة عن الشافعي (¬2)، وقد روي عن أحمد مثله. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: "ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس". ثنا (¬4) ابن عُلية، عن ابن عون، عن ابن سيرين: "كان يغسل أذنيه مع وجهه، ويمسحهما مع رأسه". ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [4]. (¬2) في "التمهيد" (4/ 37) بعد أن عزا هذا القول لابن راهويه والحسن بن حي قال ابن عبد البر: وحكي عن أبي هريرة هذا القول وعن الشافعي والمشهور من مذهبه ما تقدم ذكره، رواه المزني والربيع والزعفراني والبويطي وغيرهم. قلت: وهذا تحريف وتلفيق من محققه؛ والصواب ما أثبتناه، وابن أبي هريرة هو الإِمام أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي القاضي، قال الإِمام الذهبي في "السير" (15/ 430): الإِمام شيخ الشافعية، من أصحاب الوجوه، انتهت إليه رئاسة المذهب، تفقه بابن سريج ثم بأبي إسحاق المروزي، وصنف شرحًا لمختصر المزني، أخذ عنه أبو علي الطبري والدارقطني وغيرهما. واشتهر في الآفاق. وكأن محقق "التمهيد" لم يعرف ابن أبي هريرة، واستبعد أن يروي عن الشافعي فلفق الكلام حتى يستقيم مع فهمه دون التنبيه عليه، غفر الله لنا وله. وكأن ابن عبد البر أراد أن يذكر الخلاف في الروايات عن الشافعي في المسألة. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 165). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 166).

ثنا (¬1) ابن فضيل، عن حُصين، عن إبراهيم قال: "سألته عن مسح الأذنين، مع الرأس أو مع الوجه؟ فقال مع كلٍ". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الأذنان من الرأس يمسح مقدمهما، ومؤخرهما. ش: أي خالف القوم المذكورين "في ذلك" أي في حكم الأذنين جماعة آخرون وهم: أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأصحابهم، فقالوا: الأذنان من الرأس، فإذا كانتا من الرأس فتمسحان مع الرأس، وليس لهما حكم في الغسل، وقال ابن قدامة في"المغني": والأولى ألَّا يخل بمسحهما؛ لكونهما من الرأس، ولكون رسول الله - عليه السلام - مسحهما في وضوئه وقد صح أنه - عليه السلام - مسحهما مع رأسه ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة، وروى ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما". وقال الترمذي: حديث ابن عباس، وحديث الرُّبَيِّع صحيحان، فيستحب أن يدخل سبابته في صماخي أذنيه، ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه. وقال أبو عمر: قال داود: إنْ مسح أذنيه فحسن، وإنْ لم يمسح فلا شيء عليه، وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - عليه السلام -، ولا يوجبون عليه إعادة، إلَّا إسحاق فإنه قال: إنْ ترك مسح أذنيه عمدًا لم يجزه، وقال أحمد: إنْ تركها عمدًا أحببت أن يعيد، وقد كان بعض أصحاب مالك يقول: من ترك سُنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد، وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف، ولا له حظّ من النظر، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف الفرض والواجب من غيره. وقال ابن حزم: وأما مسح الأذنين فليس بفرض، ولا هما من الرأس؛ لأن الآثار في ذلك كلها ضعيفة، فلو كانتا من الرأس لأجزأ أن يمسحا عن مسح ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 170).

الرأس، وهذا لا يقوله أحد، ويقال لهم: إنْ كانتا من الرأس فما بالكم تأخذون لهما ماء جديدا وهما بعض الرأس؟! قلت: هذا كلام ساقط؛ لأنه يفرُّ من القياس، ويستدل على خصمه بالقياس على ما لا يخفى من كلامه، قلت: "لأن الآثار في ذلك ضعيفة كلها" غير صحيح؛ لأن الآثار الصحيحة في سُنية مسحهما كثيرة، وورد أيضًا بعض الآثار بأنهما من الرأس بأسانيد جيدة كما نُبينه- إنْ شاء الله. وقوله: "فلو كان الأذنان ... إلى أخره"، قياس فاسد، على أنه لا يعمل بالقياس؛ لأن معنى كونهما من الرأس كونهما تبعًا لها، فحينئذ لا يثبت لهما حكم الأصل من كل وجه. وقوله: "ويقال لهم ... إلى آخره" لا يرد على الحنفية أصلًا؛ لأنهم لا يأخذون لهما ماء جديدا، ولا على الشافعية أيضًا؛ لأنهم يأخذون ماء جديدا لورود الأثر، لا لكونهما ليستا من الرأس. ص: واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا الربيع، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "أنه توضأ فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". ش: الربيع هو ابن سليمان المرادي المؤذن صاحب الشافعي، وأسد هو ابن موسى، وإسرائيل هو ابن يونس، وعامر بن شقيق بن جمرة -بالجيم- فيه مقال، والبقية ثقات. وأخرجه الدارقطني (¬1): عن دَعلج، عن موسى بن هارون، عن أبي خيثمة، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل ... " إلي آخره نحوه. وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 86 رقم 13). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 63 رقم 299).

ص: حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصَيْرفي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الدراوردي، قال: نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح برأسه وأذنيه". ش: أبو الوليد هو: هشام بن عبد الملك الطيالسي، شيخ البخاريّ. والدراورديّ هو: عبد العزيز بن محمَّد. وأخرجه أبو داود (¬1): عن عثمان بن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحوه بأتم منه، وفيه: "ثم مسح [بها] (¬2) رأسه وأذنيه". والنسائي (¬3): ولفظه: "ثم مسح [برأسه] (¬4)، وأذنيه باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه". والترمذي (¬5): ولفظه: "مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما". وقال: حديث حسن (¬6)، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يرون مسح الأذنين ظهورهما وبطونهما. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا عبد العزيز ... فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "مرة واحدة". ش: يحيى بن يحيى النيسابوري، وعبد العزيز هو: الدراوردي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 34 رقم 137). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "المجتبى" (1/ 74 رقم 102). (¬4) في "الأصل، ك": "رأسه"، والمثبت من "المجتبى". (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 52 رقم 36). (¬6) في المطبوع من "جامع الترمذي": "حسن صحيح".

وأخرجه النسائي (¬1): أخبرنا الهيثم بن أيوب الطالقاني، ثنا عبد العزيز بن محمَّد قال: ثنا زيد بن أسلم (¬2). يقول مِأقٍ ومؤقٍ بكسرها، وبعضهم يقول ماق بلا همز كقاض، والأفصح الأكثر المأْقي بالهمزة والياء، والمُؤْق بالهمز والضم، وجمع المؤق آماق وأماق، وجمع المأقي مآقي وفي "المطالع": فيه لغات: موق وماق على مثال: قاض، ومؤقٍ على مثال: مُعطٍ ناقص أيضًا، وموقي على مثال: موقع، وأمق على مثال عنق. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا محمَّد بن عجلان، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن الربيعّ ابنة معوذ بن عفراء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ عندها فمسح رأسه على مجاري الشعر، ومسح صدغيه، وأذنيه ظاهرهما وباطنهما". ش: تكرر ذكر ربيع، وأسد، وابن لهيعة عبد الله. ومحمد بن عجلان المدني روى له مسلم متابعة، وروى له الأربعة. وعبد الله بن محمد بن عَقيل -بفتح العين- ابن أبي طالب، ضعفه يحيى في رواية، وقال الحاكم كان أحمد وإسحاق بن إبراهيم يحتجان بحديثه، ولكن ليس بالمتين عندهم، وقال يعقوب بن سفيان: صدوق، روى له الأربعة. والرُبَيِّع -بضم الراء، وفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء آخر الحروف- ابنة مُعوّذ -بكسر الواو المشددة- بن عفراء الصحابيّة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬4): عن قتيبة بن سعيد، عن بشر بن المفضل، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 73 رقم 101). (¬2) وقع هنا في "الأصل، ك" سقط بمقدار لوحة -نصف ورقة-. (¬3) "مسند أحمد" (6/ 359 رقم 27067). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 48 رقم 33).

محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: "أن النبي - عليه السلام - مسح برأسه [مرتين] (¬1) بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن الرُبيّع: "أن النبي - عليه السلام - توضأ فمسح ظاهر أذنيه، وباطنهما". وأخرجه الدارقطني (¬3)، والبيهقي (¬4)، والطبراني (¬5). قوله: "على مجاري الشعر" أي على مواضعه، فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: "النصب" لأنها بدل من الرأس، والتقدير فمسح على مجاري شعر رأسه. قوله: "مسح صُدغيه" الصُدغ بضم الصاد ما بين العين والأذن، ويسمى أيضًا الشعر المتدلي عليها: صدغا، يقال: صدغ معقرب. قوله: "وأذنيه" أي ومسح أذنيه. قوله: "ظاهرِهما" بالجرّ بدل من أذنيه، و"باطِنِهما" عطف عليه. ويستفاد منه: استيعاب مجاري شعر الرأس بالمسح، والمسح على الصغدين، وسنية المسح على الأذنين ظاهرهما وباطنهما. ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ العصفري، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني ابن عجلان، ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر حسن، عن إبراهيم، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب مقلاص الخزاعي، عن محمَّد بن عجلان ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "جامع الترمذي". (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 151 رقم 440). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 106 رقم 50). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 59 رقم 277). (¬5) "المعجم الكبير" (24/ 267 - 269 رقم 676، 682، 683).

ص: حدثنا أبو العوام محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا عمي أبو الأسود، قال: حدثني بكر بن مضر، عن ابن عجلان ... فذكره بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر رجاله ثقات، وأبو الأسود اسمه: النضر بن عبد الجبار بن النضير، كلاهما بالضاد المعجمة لكن الأول مكبر، والثاني مصغر. وأخرجه أبو داود (¬1): من حديث بكر بن مضر، عن ابن عجلان ... إلى آخره، ولفظه: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ، قالت: فمسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وأدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة". وأخرجه الترمذي (¬2): وقال: حديث حسن (¬3). ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا همام، قال: ثنا محمَّد بن عجلان، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهمام بن يحيى. وأخرجه أحمد (¬4): من حديث ابن عجلان ... إلى آخره، ولفظه: "أن رسول الله - عليه السلام - توضأ عندها، فمسح برأسه، فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية بمَنْصِب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته" انتهى، ومَنْصِب الشعر: أصله، بفتح الميم، وكسر الصاد. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن عبد اللهَ بن محمَّد، عن الربيّع قالت: "أتانا النبي - عليه السلام -فتوضأ فمسح ظاهر أذنيه وباطنهما". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 32 رقم 129). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 49 رقم 34). (¬3) في المطبوع: "حسن صحيح". (¬4) "مسند أحمد" (6/ 359 رقم 27069).

ش: هذا طريق آخر وهو حسن. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "وضأت النبي - عليه السلام - فأتيتُه بميضأة تسع مُدّا أو مدّا وثلثا، فقال: اسكبي، فتوضأ ومسحَ مقدم رأسه، ومسح ظاهر أذنيه وباطنهما". و"الميضأة" -بكسر الميم-: الركوة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا رَوحُ بن القاسم، عن عبد الله بن محمَّد، عن الربيع، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): وقال: ثنا أبو مسلم الكشِّي، ثنا محمَّد بن المنهال ... إلى آخره، ولفظه:"قالت: كان النبي - عليه السلام - يأتينا فنأتيه بمضأة لنا فيها ماء، يأخذ بمد المدينة مدا ونصفا أو ثلثا، فأَصُبُّ عليه فيغسل يديه ثلاثا، ويمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه ثلاثا، ويمسح برأسه مرة واحدة، ويمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وبظهر قدميه". ص: ففي هذه الآثار أن حكم الأذنين ما أقبل منهما وما أدبر من الرأس، وقد تواترت الآثار بذلك ما لم يتواتر بما خالفه، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي ففي هذه الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الثانية. قوله: "وقد تواترت" أي تكاثرت وتتابعت، وليس المراد منه التواتر المصطلحي. قوله: "بما خالفه" أراد به حديث أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى. قوله: "فهذا وجه هذا الباب" أراد أن العمل بالذي تواتر أولى من الذي لم يتواتر مثله، وهذا هو الوجه في التوفيق بين الأحاديث المخالفة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 269 رقم 682). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 267 رقم 676).

ص: وأما من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم لا يختلفون أن المحرمة ليس لها أن تغطي وجهها، ولها أن تغطي رأسها، وكلٌّ أجمع أن لها أن تغطي أذنيها ظاهرهما وباطنهما، فدلّ ذلك أن حكمهما حكم الرأس في المسح لا حكم الوجه. ش: هذا ظاهر. قوله: "رأيناهم" أي أهل المقالة الأولى والثانية، وجه القياس يقول الأذنان من الرأس: لأنهما تُغطيان معها في إحرام المرأة، وكل جزء من أجزاء الرأس يغطي فهو من الرأس، ينتج أن الأذنين من الرأس. ص: وحجةٌ أخرى: أنا رأيناهم لم يختلفوا أن ما أدبر منهما يمسح مع الرأس، واختلفوا فيما أقبل منهما على ما ذكرنا، فنظرنا في ذلك، فرأينا الأعضاء التي اتفق على فرضها في الوضوء هي: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس، فكان الوجه يغسل كله، وكذلك اليدان، وكذلك الرجلان، ولم يكن حكم شيء من تلك الأعضاء خلاف حكم البقية، بل جعل حكم كل عضو منها حكمًا واحدا فجعل مغسولا كله أو ممسوحا كله، واتفقوا أن ما أدبر من الأذنين فحكمه المسح، فالنظر على ذلك أن يكون ما أقبل منهما كذلك، وأن يكون حكم الأذنين كله حكما واحدا كما كان سائر الأعضاء التي ذكرنا؛ فهذا هو وجه النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي "حجة أخرى" عقلية، وارتفاعها بالابتداء، وخبرها قوله: "إنا رأيناهم" أي أهل المقالتين، وهذه ظاهرة، ولكن قيل: هذا النظر ليس بمستقيم؛ لأن الأذنين ليستا من الأعضاء الأربعة التي اتفق على فرضيتها حتى يلزم أن يكون حكمهما حكمًا واحدا، فنقول: لا يضرنا ذلك؛ لأن حقيقة وجه النظر هو أن الوضوء ليس فيه عضو -سواء كان عضو الفرض كالأعضاء الأربعة أو عضو السُّنه كالرقبة- يختلف حكمه بأن يمسح بعضه ويغسل بعضه، بل إما يغسل كله وإما

يمسح كله، فالنظر على [ذلك] (¬1) ينبغي أن تكون الأذنان مما يمسح كله قياسا على نظائرها. قوله: "وهو قول أبي حنيفة" أي وجه النظر الذي اقتضى أن يكون ما أقبل من الأذنين وما أدبر منهما من الرأس فيمسحان معها، هو قول أبي حنيفة. ص: وقد قال بذلك جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن حُمَيد قال: "رأيت أنس بن مالك توضأ، فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما مع رأسه، وقال: إنّ ابن مسعود كان يأمر بالأذنين. ش: أي قد قال بأن ما أقبل من الأذنين وما أدبر منهما من الرأس؛ جماعة من الصحابة، وبيّن ذلك بقوله: حدثنا ... إلى آخره. وإسناده صحيح، وهُشيم بن بشير، وحميد الطويل أبو عُبيدة البصري. وأخرجه الدارقطني (¬2): عن أحمد بن عبد الله الوكيل، عن الحسن بن عرفة، عن هشيم ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن حميد الطويل. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬3) من طريقين: الأول: عن أبي سعيد بن أبي عمرو، عن محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن هشام، عن مروان بن معاوية، عن حميد قال: "توضأ أنس ونحن عنده، فجعل يمسح ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 106 رقم 52). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 64 رقم 308، 309).

باطن أذنيه وظاهرهما، فرأى شدة نظرنا إليه، فقال: إنَّ ابن مسعود كان يأمرنا بهذا". الثاني: عن محمد بن عبد الله الحافظ، عن محمد بن يعقوب، عن أسيد بن عاصم، عن الحسن بن حفص، عن سفيان الثوري، عن حميد قال: "رأيت أنس ابن مالك توضأ ومسح أذنيه، فنظرنا إليه، قال: كان ابن أمّ عبد يأمرنا بذلك". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن أبي جمرة قال: "رأيت ابن عباس توضأ فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما". ش: إسناده صحيح. وأبو جمرة -بالجيم، والراء- واسمه نصر بن عمران الضُبَعي البصري، روى له الجماعة. ص: فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روى عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - ما قد رويناه في أول هذا الباب، وروى عنه عطاء بن يسار، عن النبي - عليه السلام - كما رويناه في الفصل الثاني من هذا الباب، ثم عمل هو بذلك، (وترك ما حدثه) (¬1) عليّ عن النبي - عليه السلام - فهذا دليل أن نسخ ما روى عن علي - رضي الله عنه - قد كان ثبت عنده. ش: قد تقّرر أن الراوي إذا عمل بخلاف ما روى، أن ذلك فيه احتمالات كثيرة، وأحسنها أن يحمل ما رواه على النسخ، تحسينا بالظن في حق الصحابي - رضي الله عنه -. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "الأذنان من الرأس". ش: إسناده صحيح. ويعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأبوه: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، روى له الجماعة. وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي أسامة، عن أسامة، عن هلال بن أسامة، عن ابن عمر قال: "الأذنان من الرأس". ثنا (¬2) عبد الرحيم بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع قال: "كان ابن عمر يمسح أذنيه ويقول: هما من الرأس". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "الأذنان من الرأس". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن غيلان بن عبد الله، قال: سمعت ابن عمر يقول: "الأذنان من الرأس". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وهذا الطريق أخرجه الدارقطني (¬4): عن أحمد بن عبد الله النحاس، عن الحسن ابن عرفة، عن هشيم، عن غيلان بن عبد الله مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: "الأذنان من الرأس". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، يتتبع بذلك الغضون". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 163). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 164). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 11 رقم 24). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 98 رقم 9).

وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن عبد الله بن عمر، عن نافع: "أن ابن عمر كان يمسح بأذنيه مع رأسه إذا توضأ، يدخل أصبعيه في الماء فيمسح بهما أذنيه، ثم يرد إبهاميه خلف أذنيه". قوله: "الغضون" جمع غَضْن -بفتح الغين وسكون الضاد المعجمتين- وجاء بالتحريك أيضًا، وهي مكاسر الأذنين. وقد روي أيضًا عن أبي موسى، فروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي موسى قال: "الأذنان من الرأس"، والحسن [لم يسمع] (¬3) من أبي موسى. وعن عثمان - رضي الله عنه - فروى ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن الجُريري، عن عروة بن قبيصة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن عثمان قال: "واعلموا أن الأذنين من الرأس". وعن ابن عباس، فروى ابن أبي شيبة (¬4): عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: "الأذنان من الرأس". وعن أبي هريرة، فروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5): عن عبد الله بن محّرر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: "الأذنان من الرأس". وروي عن التابعين أيضًا، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬6): عن عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "الأذنان من الرأس". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 12 رقم 29). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 158). (¬3) في "الأصل، ك": "لم يرو"، والصواب ما أثبتناه. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 169). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 12 رقم 21). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 24 رقم 157).

وروى عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن قتادة: "أنه كان يمسح الأذنين، ويقول: الأذنان من الرأس". وروى أيضًا (¬2): عن الثوري، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم: "أنه كان يَمسحُ ظهور الأذنين، وبطونهما". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 13 رقم 31). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 13 رقم 32).

ص: باب: فرض الرجلين في الوضوء

ص: باب: فرض الرجلين في الوضوء ش: أي هذا باب في بيان فرض الرجلين في الوضوء، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النَزّال بن سبرة قال: "رأيت عليّا - رضي الله عنه - صلى الظهر، ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أُتي بماء فمسح بوجهه ويديه، ومسح برأسه ورجليه، وشربَ فضله قائمًا، ثم قال: إنَّ ناسا يزعمون أن هذا يكره، وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم. وأخرجه أحمد في مسنده (¬1): عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: "أُتي علي بكوز وهو في الرحبة، فأخذ كفّا من ماء، فمضمض واستنشق، ومسح وجهه، وذراعيه، ورأسه، ثم شرب وهو قائم، ثم قال: هذا وضوء من لم يُحدث، هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام -[فعل] (¬2) ". وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬3): أخبرنا أبو علي الروذباري، نا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن محموية العسكري، نا جعفر بن محمَّد القلانسي، ثنا آدم، نا شعبة، نا عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن [سبرة] (¬4) يُحدّث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أُتي بكوز من ماء، فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه، ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 78 رقم 583). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 75 رقم 359). (¬4) في "الأصل، ك": ميسرة، وهو انتقال نظر من المصنف، والمثبت من "سنن البيهقي".

إنَّ ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث". رواه البخاري في الصحيح (¬1): عن آدم بن أبي إياس ببعض معناه. قوله: "في الرحبة" أراد بها رحبة الكوفة، وهي رحبة خنيس بن سَعْد أخو النعمان بن سَعْد جدّ أبي يوسف القاضي. وفيه: دلالة على استحباب شرب الماء الذي فضل من الوضوء قائما (¬2). ص: قال أبو جعفر: وليس في هذا الحديث عندنا دليل أن فرض الرجلين هو المسح؛ لأن فيه أنه قد مسح وجهه، وكان ذلك المسح هو غسلا فكذلك يحتمل أن يكون مَسْحه لرجليه كذلك. ش: أشار بهذا إلي أن احتجاج مَن يذهب إلى أن وظيفة الرجلين المسح بهذا الحديث غير صحيح؛ لأنه ليس فيه ذلك على [الإطلاق] (¬3) ألا ترى أنه قال فيه: "فمسح بوجهه" ولم يكن ذلك إلاَّ غسلا؛ لأنهم قائلون أيضًا أن الوجه لا يمسح، ولا اليدين، فكذلك يكون معنى المسح في الرجلين الغسل. فإن قيل: سلمنا أن المراد بالمسح الغسل في الوجه واليدين، ولكن لا نسلم ذلك في الرجلين، فإن قوله: "ومسح برأسه ورجليه" قرينة تدل على أن المراد من المسح في الرجلين هو خلاف الغسل؛ بقرينة ذكر الرأس؛ لأن وظيفتها المسح بالإجماع، ويدل عليه أيضًا ما روي عن عكرمة: "غسلتان ومسحتان" وأراد بالغسلتن غسل الوجه، وغسل اليدين، وأراد بالمسحتين مسح الرأس، ومسح الرجلين. قلت: ولئن سلمنا ذلك فهذا كان في وضوء متطوع به، لا في وضوء واجب عليه من الحدث الذي يوجب الوضوء، وذلك لقوله - رضي الله عنه -: "وهذا وضوء مَنْ لم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2130 رقم 5293). (¬2) كذا قال المصنف -رحمه الله- وفيه نظر، ولعل الصواب أنه فيه دلالة على جواز ذلك لا استحبابه والله أعلم. وانظر كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 83) فإنه نفيس. (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

يُحدث"، وقال البيهقي: وفي هذا الحديث دلالة على أن الحديث الذي روي عن النبي - عليه السلام - في المسح على الرجلين -إنْ صحّ- فإنما عنى به وهو طاهر غير محدث إلَّا أن بعض الرواة اختصر الحديث فلم ينقل قوله: "هذا وضوء مَنْ لم يحدث". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو كُريب، قال ثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن محمَّد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبد الله الخولاني، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "دخل عليَّ عليٌّ - رضي الله عنه - وقد أراق الماء، فدعا بوَضوء فجئناه بإناء من ماء، قال: يابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ؟ قلت: بلى، فداك أبي وأمي -فذكر حديثا طويلا- قال: ثم أخذ بيديه جميعا حفنة من ماء فصك بها على قدمه اليمنى، وفي اليسرى كذلك. ش: قد مرَّ هذا الحديث بعينه بهذا الإسناد في أول باب حكم الأذنين في وضوء الصلاة، وأَعادَه لأجل التبويب. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "توضأ رسول الله - عليه السلام -، فأخذ ملء كله ماء، فرش به على قدميه وهو منتعل". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه أبو داود بأتم منه (¬1): وقد ذكرناه في باب حكم الأذنين. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): عن أبي الحسن بن عبدان، عن أحمد بن عُبَيد، عن إسماعيل بن إسحاق، عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز بن محمَّد ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3) مطولا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 72 رقم 347). (¬3) "المعجم الكبير" (10/ 311 - 312 رقم 10759).

ص: حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أبنا شريك، عن السُّدي، عن عبد خير، عن عليّ - رضي الله عنه -: "أنه توضأ فمسح على ظهر القدم، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - عليه السلام - فعله لكان باطن القدم أحق من ظاهره". ش: أبو أمية اسمه محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، وثقه ابن حبان. وشريك بن عبد الله النخعي. والسُّدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي الأعور التابعي، كان يقعد في سدة باب الجامع بالكوفة؛ فسمي السدي، روى له الجماعة إلاَّ البخاري. عبد خير بن يزيد، أبو عمارة الكوفي، وثقه يحيى وأحمد بن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن السُّدي ... إلى آخره، ولفظه: "ومسح على ظهر قدميه، ثم قال هذا طهور (¬2) من لم يحدث، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - عليه السلام - مسح على ظهر قدميه، رأيت أن بطونهما أحق، ثم شرب فضل وضوئه ... " وأخرج أيضًا (¬3): عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدين برأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكني رأيت رسول الله - عليه السلام - مسح ظاهرهما". وأصحابنا استدلوا بهذا في كتبهم عل أن السُنَّة في مسح الخفين أن يكون على ظاهرهما. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن الحسين اللهبي، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله - عليه السلام - يصنع هكذا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 116 رقم 943). (¬2) في "المسند": وضوء. (¬3) "مسند أحمد" (1/ 95 رقم 737). بألفاظ مختلفة عن هذا اللفظ، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 25 رقم 183) بهذا اللفظ عن وكيع به

ش: أحمد بن الحسين من ولد أبي لهب بن عبد المطلب، ثقة مأمون. وابن أبي فديك اسمه محمَّد بن إسماعيل بن أبي فديك، واسم أبي فديك دينار، روى له الجماعة. وابن أبي ذئب اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام بن سعد المدني، روى له الجماعة. وأخرجه البزار في "مسنده": عن إبراهيم بن سعيد، عن روح بن عبادة، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام بن يحيى قال: أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: ثنا علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع: "أنه كان جالسا عند النبي - عليه السلام - فذكر الحديث حتى قال: إنَّه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل فغسل وجهَه ويدَيْه إلى المرفقين، ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين". ش: إسناد صحيح على شرط البخاري، نصفه بَصْري، ونصفه مدني. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): بتمامه، وقال: نا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن منهال، ونا محمَّد بن حيان المازني، قال: نا أبو الوليد الطيالسي، قال: أنا همام، أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه -أبي رفاعة بن رافع- زاد أبو الوليد في حديثه: وكان رفاعة، ومالك أخوين من أهل بدر قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، نظر حوله فإذا رجل فاستقبل القبلة فصلى ركعتين، وقال حجاج في حديثه: كنت جالسا عند النبي - عليه السلام - إِذ جاء رجل فدخل المسجد فصل، فلما قضى صلاته، جاء فسلم على رسول الله - عليه السلام - وعلى القوم، فقال رسول الله - عليه السلام -: وعليك، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل! قال: فرجع فصلى، فجعل يَرمُق صلاته لا يدري ما يعيب منها! قال: فلما قضى، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 37 رقم 4525).

جاء فسلم على رسول الله - عليه السلام - وعلى القوم، فقال له رسول الله - عليه السلام -: وعليك، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل، قال: وذكر ذلك إما مرتين، وإما ثلاثا، فقال الرجل: ما أدري ما عِيب عليَّ؟ فقال النبي - عليه السلام -: إنَّه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله -عز وجل- يغسل وجهه، ويدَيه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله، ويحمده، ويقرأ من القرآن ما أذن الله له فيه وتيسّر، ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، فيستوي قائما حتى يأخذ كل عظم مأخذه، ويقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد، فيمكن جبهته -قال همام: وربما قال: فيمكن وجهه- من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يكبر فيرفع رأسه، فيستوي قاعدا على مقعدته، ويقيم صلبه، فوصف الصلاة هكذا حتى فرغ، ثم قال: لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" واللفظ لحديث حجاج. انتهى. قلت: هذا دليل واضح، وبرهان ساطع على أن قراءة الفاتحة ليست فرضًا في الصلاة كما زعم به الشافعي، إِذْ لو كانت فرضا لقال: ويقرأ فاتحة الكتاب، ولم يقل به، بل قال: ويقرأ من القرآن ما أذن الله له فيه وتيَسّر، وهو أعم من الفاتحة وغيرها، وهذا مقام التعليم والبيان، فلو كانت الفاتحة فرضا لبيّنه - عليه السلام - فافهم. والحديث رواه أبو داود أيضًا (¬1) في "باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود": عن الحسن بن علي، عن هشام بن عبد الملك والحجاج ... إلى آخره. ورواه الترمذي (¬2): وقال: حديث رفاعة بن رافع حديث حسن، وقد روي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عباد بن تميم، عن عمه: "أن النبي - عليه السلام - توضأ ومسح على القدمين"، وأن عروة كان يفعل ذلك. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 227 رقم 858). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 100 - 102 رقم 302).

ش: روح بن الفرج أبو الزنباع المصري، كان من الثقات، روى عنه الطبراني أيضًا. وعمرو بن خالد بن فروخ، أبو الحسن الحراني، سكن مصر، وثقه العجلي، وروى له ابن ماجه. وعبد الله بن لهيعة قد ذكرنا أن أحمد وثقه، وجماعة ضعفوه. وأبو الأسود اسمه: محمَّد بن عبد الرحمن، يتيم عروة بن الزبير، ثقة. وعم. عباد: هو عبد الله بن زيد الأنصاري الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي عبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود، عن عباد بن ميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - توضأ، ومسح بالماء على رجليه". وهذا إسناد صحيح، ولكن قال أبو عمر: هذا إسناد لا تقوم به حجة، وما أدري أيّ شيء الذي أنكره من ذلك. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن عبد الله بن زيد. وفي "الأوسط" (¬3): من حديث عباد بن تميم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ، ويمسح بالماء على رجليه". قوله: "وإن عروة كان يفعل ذلك"، من كلام أبي الأسود، أبي كان يفعل المسح على رجليه. ص: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هذا حكم الرجلين يمسحان كما تمسح الرأس. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن، والشعبي، وعكرمة، والإمامية القائلين بإمامة عليّ - رضي الله عنه - نصّا ظاهرا. ¬

_ (¬1) لم أجده في "المصنف"، وهو في "مسند أحمد" (4/ 40 رقم 16510) من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ به. (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 60 رقم 1286) من طريق عباد بن تميم عن أبيه، كما في "المعجم الأوسط". (¬3) "المعجم الأوسط" (9/ 132 رقم 9332).

وفي "المغني": وقالت الروافض: الواجب المسح، والغسل لا يجوز. وفي "البدائع": قالت الرافضة: الواجب هو المسح لا غير، وقال الحسن البصري: بالتخيير بين الغسل والمسح، وقال بعض المتأخرين بالجمع بينهما. وقال ابن حزم في "المحلّى": وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح، وهكذا جاء عن ابن عباس، نزل القرآن بالمسح يعني في الرجلين في الوضوء، وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وغيرهم، وهو قول الطبريّ. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن علية، عن أيوب قال: "رأيت عكرمة يمسح على رجليه، وكان يقول به". نا (¬2) ابن عُلَيَّة، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: "إنما هو المسح على القدمين، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما". نا (¬3) ابن عُلَيَّة، عن داود، عن الشعبي قال: "إنما هو المسح على القدمين". نا (¬4) ابن عُلَيَّة، عن مالك، عن زبيد اليامي، عن الشعبي، قال: "نزل جبريل - عليه السلام - بالمسح على القدمين". نا (¬5) ابن عُلَية، عن حميد قال: "كان أنس إذا مسح على قدميه بلّهما" وهذه الأسانيد كلها جيدة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يغسلان. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن سيرين، والزهري، والثوري، والأوزاعي، وأبا حنيفة، والليث بن سعد، والشافعي، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 25 رقم 178). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 25 رقم 179). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 25 رقم 181). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 26 رقم 184). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 25 رقم 182).

ومالكًا، وأحمد، وإسحاق، وأبا عُبَيد، والحسن بن صالح، وداود بن علي، والحكم ابن عتيبة، فإنهم قالوا: وظيفة الرجلين الغسل، وبه قال من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وحذيفة، وأبو هريرة، وتميم الداري، وسلمة بن الأكوع، وعائشة - رضي الله عنهم - وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله - عليه السلام - على غسل القدمين، وقد لقي عبد الرحمن مائة وعشرين صحابيا، وقال عطاء بن أبي رباح: لم أدرك أحدا منهم يمسح على القدمين، وقد لقي عطاء عشرة من الصحابة، وذكر أبو محمَّد الجماعيلي أن لُقيّه لأربعة عشر صحابيًّا، وفي "التهذيب" ذكر أكثر من ذلك. ص: واحتجوا في ذلك من الآثار، بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابيُّ، قال: نا زائدة بن قدامة، قال: ثنا علقمة بن خالد -أو خالد بن علقمة- عن عبد خير، قال: "دخل عليٌّ الرحبةَ ثم قال لغلامه: إيتني بطَهُور، فأتاه بماء وطست [فتوضأ] (¬1) فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا، وقال: هكذا [كان] (1) طهُور رسول الله - عليه السلام -". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من غسل القدمين. وهذا الحديث أخرجه الطحاوي في أول باب الوضوء للصلاة مرة مرة، وثلاثا ثلاثا بهذا الإسناد بعينه، ولكن لفظه هناك: "عن عليّ أنه توضأ ثلاثا ثلاثا". وأخرجه أبو داود، والنسائي، وأحمد، والدارقطني، وقد ذكرناه (¬2). والرحبة هي رحبة الكوفة ذكرناها عن قريب واعلم أنه قد تواترت الأخبار عن النبي - عليه السلام - بغسل الرجلين في الوضوء، فثبت به الحكم قطعا، وما يروى عن عليّ وابن عباس وابن عمر وغيرهم من المسح عليهما كما ذكرنا فهي أخبار آحاد لا يجب قبولها من وجهين: ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني". (¬2) سبق تخريجه.

أحدهما: لما فيه من الاعتراض على موجب الآية من الغسل، على ما نبين ذلك إنْ شاء الله تعالى. والثاني: أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله؛ لعموم الحاجة إليه، وقد روي عن عليّ - رضي الله عنه - "أنه قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} (¬1) بالنصب، وقال: المراد الغسل" فلو كان عنده عن النبي - عليه السلام - جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل، لما قال: إن مراد الله الغسل، كذا قاله أبو بكر الجصاص. وقال البيهقي: وحديث عبد خير عن عليّ في المسح على ظهر القدمين إنْ صح فالمراد به ظهر الخفين، وقد روي عن عليّ من أوجه كثيرة أنه غسل رجليه في الوضوء. قلت: أما الجواب عن الأحاديث التي فيها مسح الرجلين، فقد أجاب أبو جعفر: عن الحديث الأول -أعني حديث النزال بن سبرة- أنه ليس فيه دليل على أن فرض الرجلين هو المسح؛ لأن فيه أنه قد مسح وجهه، وهو لا شك أنه غسل؛ لأن الوجه لا يمسح عليه بالإجماع، فكذلك المراد من قوله: "ومسح رجليه" معناه غسلهما. فإن قيل: هل أتى المسح بمعنى الغسل؟ قلت: نعم، وقد قال أبو زيد الأنصاري: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضائه: قد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك، أي أذهب عنك وطهرك من الذنوب. وأما الجواب عن الحديث الثاني- وهو حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو أن يقال: إنه ضعيف، وقد قال الترمذي: سألت محمَّد بن إسماعيل عنه فضعفه، ولئن سلمنا أنه صحيح، ولكنه قال: "ثم أخذ بيديه جميعا حفنة من ماء"، والحفنة من الماء قد تصل إلى ظاهر القدم وباطنه وإنْ كان في النعل، ويدل على ذلك قوله: "ففتلها بها، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6].

ثم الأخرى مثل ذلك" والحفنة قد تكفي مع الرفق في مثل هذا، ولو كان أراد المسح على بعض القدم لكان يكفيه ما دون الحفنة. وأما الجواب عن الحديث الثالث -وهو حديث عطاء بن يسار، عن ابن عباس- فهو أن المراد به غسل قدميه وهو منتعل، والدليل على ذلك أنه قال: "فأخذ ملء كفه ماء" ولو كان المراد أنه مسح لكان يكفي أقل من ذلك؛ لأن المسح هو الإصابة وليس الإسالة. وأما الجواب عن الحديث الرابع، وهو حديث السُّدي، عن عبد خير، عن عليّ - رضي الله عنه - فمراده باطن الخف الذي على القدم. قال البيهقي في "المعرفة" (¬1): هذا حديث تفرّد به عبد خير الهمداني، عن عليّ - رضي الله عنه - وعبد خير لم يحتج به صاحب الصحيح، وقد اختلف عليه في متن هذا الحديث، فروي هكذا، وروي عنه أن ذلك كان على الخفين، أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، قال: نا أحمد بن عبيد الصفار قال: نا عباس بن الفضل الأسفاطي، قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا حفص -هو ابن غياث- عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكنِّي رأيت رسول الله - عليه السلام - يمسح على ظاهرهما" ويحتمل أن يكون المراد بالأول ما فسّر في هذا، وروي من وجه آخر عن عبد خير: أن المسح إنما كان في وضوء من لم يُحدث. وأما الجواب عن الحديث الخامس -وهو حديث نافع عن ابن عمر- فالمراد أنه مسح على جورَبَيْه المنعلين، أو كان هذا في وضوء متطوع به لا في وضوء واجب عليه من الحدث. وكذلك الجواب عن حديث علي - رضي الله عنه -: "أنه توضأ وضوءا خفيفا، ثم مسح على نعليه" أراد به على جورَبيه المنعلين أو في وضوء متطوع به. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 169 رقم 76).

وأما الجواب عن الحديث السادس -وهو حديث رفاعة بن رافع- فالمراد أنه مسح برأسه وخفيه على رجليه، وقد قال بعضهم في هذا الحديث: إن هذا وأمثاله من الآثار الدالة على مسح الرجلين في الوضوء من غير خف منسوخة بالأحاديث الواردة بغسلها، وقد قال الطحاوي: فذكر عبد الله بن عمرو أنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى أمرهم رسول الله - عليه السلام - بإسباغ الوضوء وخَوَّفهم، فقال: "ويل للأعقاب من النار" فدلّ ذلك على أن حكم المسح الذي قد كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا من الأحاديث التي وردت بالغسل. وأما الجواب عن الحديث السابع -وهو حديث عباد بن تميم عن عمه- فالمراد أنه مسح على الخفين على القدمين، أو مسح على القدمين في وضوء متطوع به، كما ذكرناه. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابيّ، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي حيّةالوادعي، عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -. ش: هذا طريق آخر عن حسين، عن محمَّد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعي، عن أبي حيّة -بالياء آخر الحروف- لا يُعرفُ اسمُه، عن عليّ، وقد ذكر هؤلاء في أول "باب الوضوء مرة مرة". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يحيى بن يحيى، ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر عن علي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله. وأخرجه أبو داود (¬1): نا مسدّد وأبو توبة، نا [أبو الأحوص، و] (¬2) نا عمرو ابن عون قال: أنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي حية قال: "رأيت عليّا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 28 رقم 116). (¬2) في "الأصل، ك": روح، وهو خطأ، والمثبت من "سنن أبي داود"، و"تحفة الأشراف" للحافظ المزي (7/ 461 رقم 10321).

توضأ فذكر وضوءه ثلاثا ثلاثا، قال: ومسح رأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: إنما أحببت أن أريكم طهور رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه الترمذي (¬1): عن هناد وقتيبة، كلاهما عن أبي الأحوص نحوه، وزاد فيه: "ثم قام فأخذ فضل طَهُوره فشربه وهو قائم". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن مالك بن عرفطة قال: سمعت عبد خير ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر بن عبد الملك بن عمرو العَقَدي البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن مالك بن عرفطة ... إلى آخره. ومالك بن عرفطة، ذكر في "التكميل": مالك عن عبد خير عن علي في الوضوء، وعنه شعبة، وتابعه أبو عوانة بعد ما كان يسميه باسمه الصحيح، قال أبو داود: إنما هو خالد بن علقمة، أخطأ فيه شعبة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): وقال: نا يحيى بن سعيد، نا شعبة، حدثني مالك ابن عرفطة، سمعت عبد خير قال: "كنت عند عليّ - رضي الله عنه - فَأُتي بكرسي وتور، قال: فغسل كفيه ثلاثا، ووجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه -وصف يحيى- فبدأ بمقدم رأسه إلى آخره، قال: ولا أدري أرد يده أم لا، وغسل رجليه، ثم قال: من أحبّ أن ينظر إلى وضوء رسول الله فهذا وضوء رسول الله -عليه السلام -" قال أبو عبد الرحمن: هذا أخطأ فيه شعبة إنما هو خالد بن علقمة، عن عبد خير. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "أنه توضأ فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا وقال: رأيت رسول الله - عليه السلام - توضأ هكذا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 67 رقم 48). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 122 رقم 989).

ش: ذكر الطحاوي هذا بعينه إسنادا ومتنا في باب الوضوء مرة مرة. ص: حدثنا يونس وابن أبي عقيل، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد الليثي أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، عن عثمان مثله. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن أبي عقيل اسمه عبد الغني، واسم أبي عقيل رفاعة بن عبد الملك الجمحي. ويونس الأول هو: ابن عبد الأعلى، والثاني هو: ابن يزيد الأيلي. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان [أخبره]، (¬2): "أنه رأى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دعا بإناء، فأفرغ على كفَّيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين". وأخرجه مسلم (¬3): عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو، وحرملة بن يحيى كلاهما، عن ابن وهب ... إلى آخره نحوه مع بعض زيادة. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: "دخلت على زيد بن دارة بيته، فسمعني وأنا أمضمض فقال لي: يا محمَّد، فقلت: لبيك، فقال: ألا أخبرك عن وضوء رسول الله - عليه السلام -؟ قلت: بلى. قال: رأيت عثمان بن عفان عند المقاعد دعا بوضوء، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وُضوء رسول الله - عليه السلام - فلينظر إلى وضوئي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 71 رقم 158). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 204 رقم 226).

ش: رجاله كلهم ثقات. وأخرجه الداراقطني (¬1): عن الحسين بن إسماعيل، عن محمَّد بن عبد الله المخرمي، عن صفوان بن عيسى ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي (¬2): عن أبي الحسن علي بن محمَّد بن علي المقرئ، عن الحسن ابن محمَّد بن إسحاق الإسفرائيني، عن يوسف بن يعقوب القاضي، عن مسدد بن مسرهد، عن صفوان ... إلى آخره. قوله: "عند المقاعد"، وهي في المدينة حيث يُصلَّي على الجنائز عند المسجد. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: سمعت كثير بن زيد، قال: ثنا المطلب بن عبد الله بن حَنطب المخزومي، عن حمران بن أبان: "أن عثمان - رضي الله عنه - توضأ، فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا، وقال: لو قلت أنَّ هذا وضوء رسول الله - عليه السلام - صدقت". ش: أبو بكر الحنفي الصغير اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد، روى له الجماعة. وكثير بن زيد الأسلمي السهمي، وثقه محمَّد بن عبد الله بن عمار، وقال يحول: ليس بذاك القوي، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. والمطلب بن عبد الله، وثقه ابن حبان. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": نا أبو موسى، نا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا كثير بن زيد المدني، نا المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن حمران بن أبان: "أن عثمان توضأ فمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل ذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: لو قلت هذا وضوء رسول الله - عليه السلام - صدقت". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 91 رقم 4). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 62 رقم 298).

ص: حدثنا ابن أبي عقيل، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد يقول: سمعت المستورد بن شداد القُرشيَّ يقولُ: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه". قال أبو جعفر: وهذا لا يكون إلَّا في الغَسل؛ لأن المسح لا يبلغ فيه ذلك، إنما هو على ظهور القدمين خاصة. ش: يزيد بن عمرو المعافري المصري، قال أبو حاتم: لا بأس به، والمعافري -بفتح الميم- نسبة إلى المعافِر بن يَعْفُر، قبيل عامتهم بمصر. وأخرجه أبو داود (¬1): عن قتيبة، عن ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه. ولفظه: "إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره". وأخرجه الترمذي (¬2): وقال: هذا حديث غريب (¬3) لا نعرفه إلَّا من حديث ابن لهيعة. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن محمَّد بن المصفى الحمصي، عن محمَّد بن حمير، عن ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، وإبراهيم بن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يتوضأ فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 37 رقم 148). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 57 رقم 40). (¬3) في النسخة المطبوعة من "الجامع": "حسن غريب". (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 152 رقم 446).

وعبد الله بن عبيد الله بتكبير الابن، وتصغير الأب. وأبو رافع مولى النبي - عليه السلام -، واسمُه أسلم أو إبراهيم. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬1): ثنا أحمد -يعني ابن يحيى الحلواني- نا سعيد -يعني ابن سليمان- عن عبد العزيز بن محمَّد الدراورديّ، ثنا عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده أبي رافع قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه ثلاثا، ومسح برأسه وأذنيه، وغسل رجليه ثلاثا، ورأيته مرة أخرى توضأ مرة مرة" لا يروى عن أبي رافع إلَّا بهذا الإسناد، تفرد به الدراورديّ. ص: حدثنا يونس وحسين بن نصر، قالا: ثنا علي بن مَعبد، قال: ثنا عبيد الله ابن عَمرو، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن الرُبيّع قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيتوضأ للصلاة، فيغسل رجليه ثلاثا ثلاثا". ش: أخرج الطحاوي هذا الحديث في باب حكم الأذنين، من وجوه كثيرة، والتكرار للتبويب، واختلاف فيه إسنادا ولفظا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عُمر الحوضي، قال: ثنا همامٌ، قال: ثنا عامر الأحول، عن عطاء، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه، ووضأ قدميه". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود. وأبو عمر الحوضي اسمه حفص بن عمر البصري، شيخ البخاري، والحوضي نسبة إلى حوض داود، محلة ببغداد. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (1/ 278 رقم 907)، وانظر "مجمع البحرين" (1/ 329 رقم 404).

ورواه الطبراني في "الأوسط" (¬1): عن محمَّد بن يحيى القزاز، عن حفص بن عمر الحوضي ... إلى آخره نحوه، غير أن فيه: "ومسح رأسه ثلاثا، وغسل قدميه ثلاثا". وأخرجه الترمذي (¬2) معلقا، وقال وقد روي عن همام، عن عامر الأحول، عن عطاء، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - توضأ ثلاثا ثلاثا". قوله: "وضأ قدميه" أبي غسلهما، من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، وقد فسره في رواية الطبراني كما ذكرنا. ص: حدثنا أحمد بن أبي داود، قال: نا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة، عن موسى ابن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا أتى النبي - عليه السلام - فسأله كيف الطهور؟ فدعا بماء، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه، وغسل رجليه، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم". ش: ذكر الطحاوي هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه في باب حكم الأذنين، ولكن اقتصر هناك على حكم الأذنين، وذكرها هنا بقية الحديث، وقد مر الكلام فيه مستقصى هناك. قوله: "فقد أساء" أبي في الأدب بترك السُّنَّة والتأدب بآداب الشرع، و"ظلم" نفسه بما نقصها من الثواب بترداد المرات في الوضوء، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب: الوضوء مرة مرة. ويُستفاد منه: أن النية ليست بشرط في الوضوء، إِذ لو كانت شرطا لكان - عليه السلام - علم ذلك الرجل؛ لأن الوضع موضع الحاجة إلى البيان. ص: حدثنا يونس وابن أبي عقيل، قالا: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (6/ 97 رقم 5912). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 63) عقب الحديث رقم 43.

عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم: "هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ؟ فدعا بماء فتوضأ وغسل رجليه". ش: ذكر هذا في باب فرض مسح الرأس بهذا الإسناد، ولكن المتن يختلف. وأخرجه البخاري (¬1) بأتم منه، وقال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: "أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد -وهو جدّ عمرو بن يحيى-: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يده فغسل يده مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقن، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه". وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والطبراني من وجوه كثيرة، وقد ذكرناها (¬2) في باب: "فرض مسح الرأس". ص: حدثنا بحر قال: ثنا ابن وهب قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه: "أن أبا جُبَير الكنديّ قدم على رسول الله - عليه السلام - فأمر له بوضوء، فقال: توضأ يا أبا جُبير، فبدأ بفيه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبدأ بفيك. فإن الكافر يبدأ بفيه، ودعا رسول الله - عليه السلام - بماء، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم مسح برأسه، وغسل رجليه ... ". ش: إسناده صحيح. وبحر هو ابن نصر بن سابق الخولاني. وجبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي أبو عبد الرحمن الحمصي التابعي، أدرك النبي - عليه السلام - وأسلم في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - روى له الجماعة إلَّا البخاري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 80 رقم 183). (¬2) سبق تخريجها هناك.

وأبو جبير الكندي شامي، وليس له اسم يعرف. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا ابن قتيبة، قال: ثنا حرملة بن يحيى، نا ابن وهب، قال: نا معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه: "أن أبا جبير الكندي قدم على رسول الله - عليه السلام -، فأمر له رسول الله - عليه السلام - بوضوء، فقال: توضأ يا أبا جبير. فبدأ بفيه، فقال رسول الله - عليه السلام -: لا تبدأ بفيك؛ فإن الكافر يبدأ بفيه، ثم دعا رسول الله - عليه السلام - بوضوء، فغسل يديه حتى أنقاهما، ثم تمضمض واستنثر (واستنشق) (¬2)، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح برأسه، وغسل رجليه". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا آدم، قال: ثنا الليث بن سعد، عن معاوية، ثم ذكر مثله بإسناده. قال فهدٌ: فذكرته لعبد الله بن صالح، فقال: سمعته من معاوية بن صالح. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح. ص: فهذه الآثار قد تواترت عن النبي - عليه السلام - أنه غسل قدميه في وضوئه للصلاة. ش: أي الأحاديث المذكورة قد تكاثرت وتتابعت عن النبي - عليه السلام - في غسل القدمين في الوضوء. ص: وقد روي عنه أيضًا ما يدل على أن حكمهما حكم الغسل، فمما روي في ذلك: ما حدثنا يونس، وابن أبي عقيل جميعًا قالا: أخبرنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (3/ 369 رقم 1089). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، ولم يذكر في "صحيح ابن حبان": واستنشق.

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات. وأخرجه مسلم (¬1): عن سويد بن سعيد، عن مالك ... إلى آخره نحوه، وفي لفظه: "نظر إليها بعينيه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء" وهكذا بعد اليدين، والرجلن، وفي آخره: "حتى يخرج نقيّا من الذنوب". وأخرجه الترمذي (¬2): عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى القزاز، عن مالك ... إلى آخره، نحو رواية مسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "كل خطيئة" أي إثم، من خَطِئ في دينه خِطْئا -بكسر الخاء، وسكون الطاء- إذا أثم فيه، والخِطْئُ: الذنب، وأَخْطَأَ يخطئ إذا سلك سبيل الخطأ عمدا أو سهوا، ويقال: خَطِئ بمعنى أخطأ أيضًا، وقيل: خَطِئَ إذا تعمّد، وأخطأ إذا لم يتعمد، ويقال لمن أراد شيئًا ففعل غيره أو فعل غير الصواب: أخطأ. قوله: "بطشتها"، من البطْش وهو السطوة، والأخذ بالعنف، وقد بَطَشَ به يَبْطُشُ، ويَبْطِشُ بَطْشا وبَاطَشَهُ مُباطَشَةً، وعين الفعل في المضارع مضموم ومكسور. قوله: "مَسَّتها"، من المسّ، من مَسِسْتُ الشيء -بالكسر- أمَسُّه مَسّا، فهذه اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيد مسَسْتُ الشيءَ -بالفتح- أمَسُّه مَسّا، فهذه بالضم، وربما قالوا: مِسْتُ الشيء بحذف السين الأولى، وتحويل كسرها إلى الميم، ومنهم من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن المراد من قوله: "كل خطيئة" الصغائر لا الكبائر، وإنْ كانت الخطيئة تتناول الكل، وذلك لأن الكبائر لا تكفرها إلَّا التوبة أو رحمة الله تعالى، وقال القاضي في قوله: "حتى يخرج نقيّا من الذنوب": هذا يعم كل ذنب. قلت: نعم، ذلك بحسب الظاهر، ولكن المراد منه الصغائر كما ذكرنا، ولهذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 215 رقم 244). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 6، 7 رقم 2).

لا يخرج من مظالم العباد إلَّا بإرضاء الخصوم فهذه أيضًا ذنوب، وقد يقال: إنَّ المراد من الذنوب: الذنوب التي يقترفها ما بين الوضوئين من الصغائر والكبائر ما خلا مظالم العباد، كما ورد في حديث: "الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما" (¬1). الثاني: أن قوله: "فإذا غسل رجليه" نص صريح أن وظيفة الرجلين الغسل، ولهذا قال في رواية مسلم: "مع الماء أو مع آخر قطر الماء" وإنما ذكر ذلك عند غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين، ولم يذكر شيئا في مسح الرأس؛ لأنه غير الغسل، فإن قلت: ما معنى خروج الخطيئة عند الغسل، والخروج ونحوه مما يضاف إلى الأجسام؟ قلت: هذه استعارة؛ لأنه شبَّه الخطيئة بالوسخ والدرن الذي يتراكب على الجسم، ثم أثبت له على طريق الترشيح ما يلائمه، وهو الخروج الذي بمعنى الزوال، وجه التشبيه زوال الدرن من الجسم بالماء، والمعنى تزول الخطيئة عنه عند الغسل، بمعنى يغفر لها وتمحى، كما يزول الدرن حقيقة من الجسم عند مماسَّة الماء. الثالث: أن ظاهر الحديث يدل على أن تلك الفضيلة تحصل له وإنْ لم يصل بذلك الوضوء شيئًا من الصلوات، وفيه دليل على أن الوضوء نفسه عبادة وقربة، وإنْ لم يصل به. والدليل عليه ما روى البخاري (¬2): بإسناده، عن أسامة بن زيد أنه قال: "دفع رسول الله - عليه السلام - من عرفة حتى نزل بالشعب، فبالَ ثم توضأ، ولم يُسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله، قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء إلى المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلى ولم يُصل بينهما". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 506 رقم 10584) من حديث أبي هريرة مطولًا، والحديث أصله في "صحيح مسلم" (1/ 209 رقم 233) من حديث أبي هريرة، ولفظه: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 65 رقم 139).

فهذا يدل على أن وضوءه - عليه السلام - أولا ما كان لأجل الصلاة، وإنما كان لتحصيل الطهر والتقرب، ولهذا كان - عليه السلام - يقدم الطهارة إذا أوى إلى فراشه، ليكون مَبيتُه على طهر. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا موسى بن يعقوب، قال: حدثني عبّاد بن أبي صالح السمان، أنه سمع أباه يقول: سمعت أبا هريرة يقولُ: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "ما من مسلم يتوضأ فيغسل سائر رجليه إلَّا خرج مع قطر الماء كل سيئة مشى بهما إليها". ش: ابن أبي مريم هو سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري. وموسى بن يعقوب بن عبد الله المدني، وثقه يحيى، وضعفه ابن المديني، وقال: ليس بشيء. وأخرجه البزّارُ في "مسنده": ثنا محمَّد بن مسكين، نا ابن أبي مريم، نا موسى ابن يعقوب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يتوضأ للصلاة فيغسل وجهه إلَّا تناثر مع الماء أو مع قطر الماء كل سيئة نظر إليها، ولا تمضمض إلا تناثر مع كل قطر الماء كل سيئة وجد ريحها، ولا يغسل يديه إلا خرج مع قطر الماء كل سيئة بطش بها، ولا يغسل شيئًا من رجليه إلا خرج مع قطر الماء كل سيئة مشى بهما إليها، فإذا خرج من المسجد كتبت له بكل خطوة خطاها حسنة، ومحي بها عنه سيئة حتى يأتي مقامه". وأخرجه الطبراني أيضًا في "الأوسط" (¬1): وقد استدل بهذا الحديث وبأمثاله أصحابنا على أن الماء المستعمل لا يجوز استعماله؛ لأنه أزال الآثام عن المتوضئ، فينتقل ذلك إلى الماء فيتمكن منه نوع خبث، كالماء الذي تصدق به، ولهذا سمّيت الصدقة غسالة الناس، فإذا تمكن منه نوع خبث تسلب عنه الطهورية، ولا تسلب الطاهرية، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، حتى روي عن القاضي أبي حازم ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (8/ 174 رقم 8314) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -.

العراقي أنه كان يقول: إنا نرجوا ألَّا تثبت رواية نجاسة الماء المستعمل عن أبي حنيفة، وهو اختيار المحققين، ومشايخنا بما وراء النهر. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: أخبرنا الحمانيّ، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد العبدي، عن أبيه قال: "ما أدري كم حدّثنيه رسول الله - عليه السلام - أزواجا وأفرادا، ما من عبد يتوضأ فيحسن الوضوء فيغسل وجهه حتى يسيل الماء على ذقنه، ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه، ويغسل رجليه حتى يسيل الماء من قبل كعبيه، ثم يقوم فيصلي إلَّا غفر الله له ما سلف من ذنوبه". ش: الحِمَّانيّ هو: يحيى بن عبد الحميد، وثقه ابن معين، وهو بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم. وقيس بن الربيع، مختلف فيه. والأسود بن قيس، روى له الجماعة. وثعلبة بن عباد، قال ابن حزم: مجهول. قلت: روى له الأربعة، وأبوه عِبَاد -بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة- العبدي الصحابي، يُعدّ في أهل الكوفة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): عن العباس بن الفضل الأسفاطي، عن أبي الوليد الطيالسي. وعن أبي حصين القاضي، والحسين بن إسحاق التستري، كلاهما عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "كم" هنا خبرية، أي كم أحاديث حدثنيها. ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 224) للطبراني في "الكبير"، وكذا فعل المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 195) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" بإسنادٍ ليِّن. ولعله في الجزء المفقود من "معجم الطبراني".

وقوله: "أزواجا وأفرادًا" حال عن المحذوف، أبي مجتمعات ومتفرقات. قوله: "ذَقَنِة" بفتح الذال المعجمة وفتح القاف، وهو مجتمع لِحْيَيْه. قوله: "إلى مرفقيه" المِرفَق بكسر الميم، وقال أبو عُبَيدة (¬1): المِرفَق والمَرفِق من الإنسان والدابة: أعلى الذراع وأسفل العضد، والمِرفق: المتكأ، قال الأصمعي: المرفق من الإنسان والدابة بكسر الفاء، وفي "جامع القزاز": وقال قوم: المرفق من اليد، والمتكأ، والأمر، مكسور الميم، وكذلك قرأ الأعمش، والحسن، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} (¬2) بكسر الميم، وقرأها أهل المدينة، وعاصم بالفتح وبهذا يُرَّد على الجوهري أن الفتح لم يقرأ به أحد، وفي "الغريبين": الفتح أقيس، والكسر أكثر في مرفق اليد. قوله: "كعبيه" الكعبان هما العظمان الناتئان في أسفل الساق، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن الكتب في اللغة اسم لما علا وارتفع، ومنه سميت الكعبة، وكذا في العرف يفهم منه الناتئ، وما روي عن هشام، عن محمَّد: أنه المفصل الذي هو معقد الشراك على ظهر القدم فغير صحيح، وإنما قال محمَّد ذلك في مسألة المحرم إذا لم يجد نعلين أنه يقطع الخف أسفل الكعبين، قيل: إنَّ الكعب هنا الذي في مفصل القدم، فنقل هشام ذلك إلى الطهارة. وقال أبو بكر: الكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي القدم إِذ لو كان العظم الناتئ على ظهر القدم، لكان للرجل اليمنى كعب لا كعبان، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لقوم: أين الكعبان؟ فأشاروا إلى رأس الساق، فقال: بل هو هذا، وأشار إلى المفصل، وعن الأصمعي: الكعبان عند موصل الساق والقدم، وهما في (وحشي) (¬3) الرجلين، وأنكر قول الناس: إنه في ظهر القدم. ¬

_ (¬1) عزاه صاحب "لسان العرب" لابن سيده. (¬2) سورة الكهف، آية: [16]. (¬3) الوحشي: هو الجانب الأيمن من كل شيء، قاله الجوهري، وقال غيره: هو شقه الأيسر، انظر "لسان العرب" (مادة: وحش).

وفي "المخصص": في كل رِجْل كعبان وهما ما بين عظمي الساق وملتقى القدمين، والجمع كعوب وكعاب. وفي "العباب": والتركيب يدل على نتوء الشيء. ص: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش البصري، قال: نا أبو الوليد، قال: نا قيس، فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر، عن عبد الله بن محمَّد، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن قيس بن الربيع ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في إحدى طرقه من حديث أبي الوليد. وخُشيش بضم الخاء المعجمة، وبشينين معجمتين بينهما ياء آخر الحروف ساكنة. ص: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرميّ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن شرحبيل بن السِمْط أنه قال: "مَنْ يُحدّثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمرو بن عبسة: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا دعا الرجل بطهوره فغسل وجهه؛ سقطت خطاياه من وجهه وأطراف لحيته، فإذا غسل يديه سقطت خطاياه من أطراف أنامله، فإذا مسح برأسه سقطت خطاياه من أطراف شعره، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من بطون قدميه". ش: رجاله ثقات. وأيوب هو السختياني. وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أحد الأئمة الأعلام. وعمرو بن عَبَسَة -بفتحات- بن عامر السُلمي الصحابيّ - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إنَّ العبد إذا توضأ فغسل يديه (جرت) (¬2) خطاياه من يديه، وإذا غسل ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 15 رقم 43). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مصنف ابن أبي شيبة": خرجت.

وجهه (جرت) (¬1) خطاياه من وجهه، إذا غسل ذراعيه (جرت) (1) خطاياه من ذراعيه ورأسه، إذا غسل رجليه (جرت) (1) خطاياه من رجليه". وقال الطبراني في "الكبير" (¬2): حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا أبو ثابت محمَّد بن عبيد الله، نا عبد العزيز بن أبي حازم، عن الضحاك بن عثمان، عن أيوب بن موسى، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، أنه قال لعمرو بن عبسة: حَدِّثنَا حَدِيثا سمعته من رسول الله - عليه السلام -. قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض واستنثر تناثرت الخطايا من فمه ومنخره، فإذا غسل وجهه تناثرت الخطايا من وجهه، فإذا غسل يديه تناثرت الخطايا من أظفاره، فإذا مسح رأسه تناثرت الخطايا من شعر رأسه، فإذا غسل رجليه تناثرت الخطايا من أظفار رجليه، فإذا قام فصلّى ركعتين يقبل فيهما بقلبه وطرفه إلى الله -عز وجل- خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه". ص: حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب وأبي يحيى وأبي طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، عن عمرو بن عَبَسَةَ قال: "قلت: يا رسول الله كيف الوضوء؟ قال: إذا توضأت فغسلت يديك ثلاثا خرجت خطاياك من بين أظفارك وأناملك، فإذا مضمضت واستنشقت في منخرك، وغسلت وجهك وذراعيك إلى المرفقين، وغسلت رجليك إلى الكعبين اغتسلت من عامة خطاياك". ش: رجاله ثقات. وأبو يحيى اسمه سُلَيم بن عامر الكلاعي الحمصي، وثقه ابن حبان وروى له مسلم. وأبو طلحة اسمه نُعيم بن زياد الأنماري الشامي، وثقه النسائي وروى له. وأبو أمامة صُدَيّ بن عجلان الباهلي الصحابيّ. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) مسند عمرو بن عبسة مفقود من "معجم الطبراني الكبير" المطبوع، والحديث أخرجه الطبراني أيضًا سندًا ومتنًا في "مسند الشاميين" (2/ 270 رقم 1320).

وأخرجه الطبراني (¬1) بأتم منه: وقال: ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي يحيى سُليم بن عامر الخبائري، وضمرة بن حبيب، وأبو طلحة نعيم بن زياد، وكل هؤلاء سمعه من أبي أمامة الباهلي صاحب رسول الله - عليه السلام - قال: سمعت عمرو بن عبسة السلمي يقول: "أتيت رسول الله - عليه السلام - وهو نازل بعكاظ فقلت: يا رسول الله من معك في هذا الأمر، قال: معي رجلان: أبو بكر وبلال، فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني ربع الإِسلام، قلت: يا رسول الله، أمكثُ معك أم ألحق بقومي؟ قال: بل الحق بقومك، فيوشك الله أن يفي بمن يرى إلى الإسلام، ثم أتيته قبيل فتح مكة فسلمت عليه، فقلت: يا رسول الله، أنا عمرو بن عَبَسة أُحبّ أن أسألك عما تعلم وأجهل عنه، وعما ينفعني ولا يضرك. فقال: يا عمرو، إنك تريد أن تسألني عن شيء ما سألني عنه أحد ممن ترى، ولن تسألني إنْ شاء الله إلَّا أخبرتك. فقلت: يا رسول الله فهل من ساعة أقرب من أخرى أو ساعة ينبغي ذكرها؟ قال: نعم، أقرب ما يكون من الدعاء جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن؛ فإن الصلاة مشهودة إلى طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وهي صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها، ثم الصلاة مشهودة محضورة حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح لنصف النهار؛ فإنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم وتسجر، فدع الصلاة حتى يفيء الفيء، ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان، وهي ساعة صلاة الكفار، فقلت: يا رسول الله، هذا في هذا، فكيف الوضوء؟ قال: أما الوضوء فإنك إذا توضأت وغسلت كفَّيك فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظفارك وبين أناملك، فإذا مضمضت واستنشقت في منخريك، وغسلت وجهك، ويديك إلى المرفقين، ومسحت رأسك، وغسلت رجليك إلى الكعبين؛ اغتسلت من عامة خطاياك، فإن أنت وضعت وجهك لله تعالى- خرجت من خطاياك كيوم ولدتك أمك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

فقلت: يا عمرو بن عَبَسَة انظر ما تقول كل هذا يُعطى في مجلس واحد؟! قال: والله لقد كبرتْ سنّي، ودنا أجلي، وما بي من فَقْر أن أكذب على رسول الله - عليه السلام - لقد سمعتْ أذناي وَوَعَاه قلبي". قوله: "في مَنْخَريك" بفتح الميم، وهو ثقب الأنف، وقد تكسر الميم اتباعا لكسرة الخاء كما قالوا: مِنْتِن، وهما نادران؛ لأن مِفْعلا ليس من الأبنية، والمنخور لغة في المنخر، قال الراجز: مِنْ لَدُ لَحْيَيْهِ إلى مُنْخُورِهِ (¬1) قوله: "من عامّة خطاياك" أبي من جميع ذنوبك، وسائر آثامك. ص: فهذه الآثار تدلّ أيضًا على أن الرِّجْلين فرضهما الغسل؛ لأن فرضهما لو كان هو المسح لم يكن في غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذي فرضه المسح لا ثواب في غسله، فلما كان في غسل القدمين ثواب دلّ ذلك على أن فرضهما هو الغسل. ش: أي فهذه الأحاديث التي جاءت بفضل الوضوء المذكورة. والدليل على أنه لو غسل رأسه لا ثواب له ما ذكره من فضيلة مسح الرأس في حديث أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا تمضمض أحدكم حُط ما أصاب بفيه، وإذا غسل وجهه حط ما أصاب بوجهه، وإذا غسل يديه حط ما أصاب بيديه، وإذا مسح برأسه تناثرت خطاياه من أصول الشعر، وإذا غسل قدميه حط ما أصاب برجليه". رواه الطبراني في "الأوسط" (¬2) برجال الصحيح. ¬

_ (¬1) عزاه صاحب "لسان العرب" لغيلان بن حريث، ونقل عن ابن بري أن الصواب فيه: إلى منحوره -بالحاء المهملة- وكذا أنشده سيبويه وقال: والمنحور: النحر، انظر "لسان العرب" (مادة: نحر). ونقل عنه ابن بري في (مادة: لدن) أنه قال: وأنشده سيبويه: إلى مَنْخُوره -بفتح الميم والخاء- أبي مَنْخَره. (¬2) سقط من "الأوسط"، وذكره الهيثمي في "مجمع البحرين" (1/ 317 رقم 386)، وذكره أيضًا في "مجمع الزوائد" (1/ 222) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح.

فإن قلت: قد عرفنا أنه إذا غسل رأسه لا يستحق تلك الفضيلة فهل هو يغني عن المسح أم لا؟ قلت: نعم يجزئ؛ لأن المسح إصابة الماء، والغسل فيه الإصابة مع زيادة، وهي الإسالة، ولهذا لو صبّ على رأسه ميزاب أو ترك عليه مطر فأصاب قدر موضع المسح يجزئ عن المسح. وفي "المغني" لابن قدامة: فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الله أمر بالمسح، والمسح غير الغسل. والوجه الآخر: يجزئه، وهو قول ابن حامد؛ لأنه لو كان عليه جنابة فانغمس في ماء يقصد الطهارتين أجزأه مع عدم المسح، فكذلك إذا كان الحدث الأصغر مفردا. انتهى. ومن أبين الدلائل على ما ذكرتُ حديث ابن عباس في وصفه وضوء علي - رضي الله عنهم - قال: "وأخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء، فصبها على ناصيته، فتركها حتى تستن على وجهه -أي تسيل". رواه أبو داود (¬1) وقد ذكرناه. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا ما يدل على ذلك. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن إسحاق، عن سعيد بن أبي كَرْب، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "رأى النبي - عليه السلام - في قدم رجل لمعة لم يغسلها، فقال: ويل للعراقيب من النار". ش: أي قد روي عن النبي - عليه السلام - أيضًا ما يدل على أن وظيفة الرجلين الغسل لا المسح، ثم بيّنه بقوله: "حدثنا فهد ... " إلى آخره. إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأبو نعيم الفضل بن دكين، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله السَّبيعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كَرْب، عن جابر بن عبد الله قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للعراقيب من النار". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن ابن أبي شيبة نحوه. قوله: "لُمْعَة" بضم اللام، وهي بياض أو سواد أو حمرة تبدو من بين لون سواها، وهي في الأصل قطعة من النبت إذا أخذت في اليُبْس، والمراد بهَا هنا الموضع الذي لم يصبه الماء، وكذا اصطلح به الفقهاء. قوله: "ويل" من المصادر التي لا أفعال لها، وهي كلمة عذاب وهلاك، وهي تقابل "ويح"، يقال لمن وقع فيما لا يستحقه: ويحه، ترحما، وعن أبي سعيد الخدري: تأويل: وادٍ في جهنم، لو أرسلت عليه الجبال لما غيرته من حره"، وقيل: "ويل" صديد أهل النار. وارتفاعه على الابتداء، والمخصّص كونه مصدرا في معنى الدعاء كما في "سلامٌ عليكم" كما عرف في موضعه. و"العراقيب" خبره، جمع عرقوب، وهو الوتر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم، والساق من ذوات الأربع، وهو في الإنسان فوق العقب، وقال الجوهري: العرقوب: العصب الغليظ المُوتّر فوق عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. وقال الأصمعي: وكل ذي أربع عرقوباه في رجليه، وركبتاه في يديه، وقد عرقبتُ الدابة: قطعت عرقوبها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 32 رقم 271). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 155 رقم 454).

ويستفاد منه: وجوب استيعاب غسل الرجلين، وأن المسح غير جائز، ووجوب تعميم الأعضاء بالمطهر، وأنَّ ترك البعض منها غير مجزئ حتى إذا كان تحت أظفاره وسَخ أو عجينٌ يَمنعَ وصولَ الماء إليه لا يجوز. وأنه إذا غسل أعضاء وضوئه ولم يسل الماء، بل استعمله مثل الدهن لا يجوز، وفي "البدائع": وهو ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه يجوز، وعلى هذا قالوا: لو توضأ بالثلج ولم يقطر منه ماء لا يجوز، ولو قطر منه قطرتان أو ثلاث جازة لوجود الإساله. وأن الجسد يُعذب في النار، وهو مذهب أهل الحق. وأن العالم ينبغي له إنكار ما يرى من تضييع الفرائض والسنن، ويُغَلِّظ القول في ذلك. وأن تعليم الجاهل وإرشاده واجب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمّل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار؛ أسبغوا الوضوء". ش: رجاله ثقات، وأبو بكرة بكَّار القاضي، وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله، وسعيد هو ابن أبي كرب. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "ويل للأعقاب من النار". قوله: "للأعقاب" جمع عَقِبْ مثال: كَبدْ، وهو المستأخر الذي يمسك مؤخر شراك النعل، وقال أبو حاتم: عَقِبْ، وعَقْب مثال: كَبِدْ وصَقْر، وهي مؤنثة، ولم يكسروا العين كما في كبد وكتف. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وقال النضر بن شُميل: العَقب يكون في المتَن والساقين مختلط باللحم، يمشق منه مشقا، ويهذّب، ويُنَقَّى من اللحم، ويُسَوَّى منه الوتر، وأما العصب فالعِلْباء الغليظ، ولا خير فيه، قال الليث: والعقِب مؤخر القدم فهو من العصب لا من العقَب، وقال الأصمعي: العقب ما أصاب الأرض من مؤخر الرجل إلى موضع الشراك، وفي "المخصّص": عرش (¬1) القدم أصول سلامياتها المنتشرة القريبة من الأصابع، وعقبها مؤخرها الذي يفصلها عن مؤخر القدم، وهو موقع الشراك من خلفها. فإن قلت: لم خصّ الأعقاب بالعذاب؟. قلت: لأنها العضو التي لم تغسل. وفي "الغريبين": وفي الحديث: "ويل للعقب من النار" أي لصاحب العقب المقصر عن غسلها، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2) أي أهلها، وقيل: إن العقب تخصّ بالمؤلم من العقاب إذا قصر في غسلها. وفي "المنتهى في اللغة": وفي الحديث: "ويل للأعقاب من النار" أراد التغليظ في إسباغ الوضوء، وذلك أنهم كانوا يبولون على شباق من أعقابهم، ثم يصلون، ولا يغسلون. قوله: "أسبغوا" أمر من الإسباغ، وهو التكميل، والإتمام، والسبوغ: الشمول، وإنما ترك العاطف بين الجملتين؛ لأن الثانية كالبيان للأصلى فلا يحتاج إلى العاطف. فإن قلت: ما الألف واللام في الأعقاب؟ قلت: للعهد، أبي الأعقاب التي رآها كذلك لم يمسها الماء، أو يكون المراد الأعقاب التي صِفَتُها هذه لا كل الأعقاب. ¬

_ (¬1) كتب في الحاشية بخط مغاير: عرش القدم ما نتأ من ظهرها، وفيه الأصابع، وهو بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وفي آخره شين معجمة. (¬2) سورة يوسف، آية: [82].

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، قال ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: نا أبو سلمة، قال: ثنا سالم مولى المهري، قال: "سمعت عائشة - رضي الله عنها - تنادي عبد الرحمن: أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للأعقاب من النار". ش: رجاله رجال مسلم ما خلا شيخ الطحاوي، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى المهري هو الذي يقال له: سالم سَبَلان، وسالم الدَوْسي، وسالم مولى شداد (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): عن هارون بن سعيد الأيلي وأبي الطاهر وأحمد بن عيسى، كلهم عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد قال: "دخلت على عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - عليه السلام - يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - فتوضأ عندها، فقالت: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للأعقاب من النار". وأخرجه أحمد أيضًا في مسنده (¬3). ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عاصم، قال: ثنا ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي سلمة أنه سمع عائشة - رضي الله عنه - تقول: "يا عبد الرحمن ... " فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن عجلان هو محمَّد، والمقبُري هو سعيد بن أبي سعيد كيسان. وأخرجه أحمد (¬4): نا يحيى، عن ابن عجلان، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال: "رأت عائشة عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم - يتوضأ، فقالت: يا عبد الرحمن، أحسن الوضوء، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للأعقاب من النار". ¬

_ (¬1) ويقال له غير ذلك، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (10/ 154). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 213 رقم 240). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 81 رقم 24560). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 191 رقم 25630).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي، عن عائشة مثله. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي، وهو سالم سبلان المذكور آنفا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني سالم الدوسي، قال: سمعت عائشة تقول لعبد الرحمن ابن أبي بكر: "يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للأعقاب من النار". ص: حدثنا ربيع الجيزيّ، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة بن شريح قال: أنا أبو الأسود، أن أبا عبد الله مولى شداد بن الهاد حدّثه: "أنه دخل على عائشة زوج النبي - عليه السلام - وعندها عبد الرحمن بن أبي بكر ... " ثم ذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو جيد حسن. وأبو زرعة اسمه وهب الله بن راشد الحجري المؤذن، قال أبو حاتم: محله الصدق (¬2). وحيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري. وأبو الأسود النَّضر بن عبد الجبار بن نُضير -بضم النون في الجدّ، وبفتحها في الابن- وثقه ابن حبان. وأبو عبد الله هو سالم بن عبد الله مولى شداد، فهذا كما رأيت ذكره في الطريق الأول وقال: سالم مولى المهري، وفي الثاني ذكره وقال: سالم الدوسي، وفي الثالث ذكره وقال: إن أبا عبد الله مولى شداد، والكل واحدٌ كما ذكرنا، وبالطريق الثالث ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 84 رقم 24587). (¬2) قلت: وهو متكلم فيه. انظر ترجمته في "لسان الميزان".

أخرجه مسلم (¬1): عن حرملة، عن ابن وهب، عن حيوة، عن محمَّد بن عبد الرحمن، أن أبا عبد الله مولى شداد بن الهاد حدثه: "أنه دخل على عائشة - رضي الله عنها - ... " فذكر عنها عن النبي - عليه السلام - بمثله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) -وقال: سالم سبلان-: ثنا حسين، ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان قال: "خرجنا مع عائشة إلى مكة، وكانت تخرج بأبي يحيى التيمي؛ يصلي بها، [قال] (¬3) فأدركنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فأساء عبد الرحمن الوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ويل للأعقاب من النار" (¬4). ص: حدثنا فهد، قال: نا ابن أبي مريم، قال: أنا سليمان بن بلال، قال: حدثني سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ويلٌ للأعقاب من النار يوم القيامة". ش: إسناده صحيح، وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم، وقد تكرر ذكره، وأبو صالح ذكوان. وأخرجه مسلم (¬5): حدثني زهير بن حرب قال: نا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "ويل (للعقب) (¬6) من النار". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 213 رقم 240). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 112 رقم 24857). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) زاد في "مسند أحمد": "يوم القيامة" بعد "للأعقاب". (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 215 رقم 242). (¬6) كذا في "الأصل، ك" بالإفراد، وفي "شرح المعاني": "للأعقاب" بالجمع.

وأخرجه البخاري (¬1): نا آدم بن أبي إياس، ثنا شعبة، نا محمَّد بن زياد قال: "سمعت أبا هريرة وكان يَمرُّ بنا والناس يتوضئون من المطهرة، فقال: أسبغوا الوضوء؛ فإن أبا القاسم قال: ويل للأعقاب من النار". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وإسناده صحيح أيضًا. وأخرجه النسائى (¬2)، أنا قتيبة، قال: نا يزيد بن زريع، عن شعبة. وأنا مؤمل بن هشام، قال: ثنا إسماعيل، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار". وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا من حديث شعبة، ولفظه: "ويل للعراقيب من النار". ص: حدثنا يونس قال: ثنا يحيى بن عبد اللهَ بن بُكير قال: حدثني الليث، عن حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزُبيدي قال: سمعتُ رسول الله - عليه السلام - يقول: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا عقبة، ووثقه العجلي. وغيره. والزُّبيدي -بضم الزاي المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف- نسبة إلى زُبيد أحد أجداده؛ لأن عبد الله هو: ابن الحارث بن جزء بن عبد الله بن معدي كرب بن عمرو بن عُصم بن عُريج بن عمرو بن زُبيد، وإلى زبيد ترجع قبائل كثيرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4):، ثنا هارون قال: نا عبد الله بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 73 رقم 163). (¬2) "المجتبى" (1/ 77 رقم 110). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 214 رقم 242). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 190 رقم 17742).

وهب، أخبرني حيوة بن شريح، أخبرني عقبة بن مسلم، عن عبد الله بن الحارث ابن جزء الزُّبيدي، وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار يوم القيامة". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): عن يحيى بن أيوب العلاف، عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد والليث بن سعد، عن يحيى بن شريح، عن عقبة بن مسلم ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: نا أبو الأسود، قال: نا الليث وابن لهيعة، قالا: أبنا حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، قال: سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: قال رسول الله - عليه السلام - ... فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وعبد الله بن لهيعة وإنْ كان فيه مقال فهو مذكور متابعة. وأبو الأسود هو: النضر بن عبد الجبار. وأخرجه الطبراني (¬2): من حديث ابن لهيعة وحده، عن حيوة بن شريح ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: نا زائدة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ويل للأعقاب من النار". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك، وأبو يحيى الأعرج اسمه مصدع مولى عبد الله ابن عمرو بن العاص. ¬

_ (¬1) مسند عبد الله بن جزء في الجزء المفقود من المعجم الذي لم يطبع بعد. (¬2) انظر التعليق السابق.

وأخرجه الثلاثة، فأبو داود (¬1): عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن هلال ... إلى آخره نحوه، ولفظه: [أن] (¬2) النبي - عليه السلام - رأى قوما وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". والنسائي (¬3): عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان. وعن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن منصور ... إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلى بن محمَّد، كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن منصور ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: نا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي - عليه السلام - رأى قوما توضئوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا، فقال: ويل للعقب من النار، أسبغوا الوضوء". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5)، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة ... إلى آخره، ولفظه: "سألت رسول الله - عليه السلام - عن صلاة الرجل قاعدًا، فقال: على النصف من صلاته قائما، قال: وأبصر رسول الله - عليه السلام - قوما يتوضئون لم يتموا الوضوء، فقال: أسبغوا -يعني الوضوء- ويل للعراقيب من النار -أو للأعقاب-". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا زائدة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 24 رقم 97). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "المجتبى" (1/ 77 رقم 111). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 154 رقم 450). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 201 رقم 6883).

"سافرنا مع رسول الله - عليه السلام - من مكة إلى المدينة، فأتى على ماء بين مكة والمدينة، فحضرت العصر، فتقدم أناس، فانتهينا إليهم وقد توضأوا وأعقابهم تلوح لم يمسّها ماء، فقال النبي - عليه السلام -: ويل للأعقاب من النار؛ أسبغوا الوضوء". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا أبو يعلى قال: نا أبو خيثمة، قال: نا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال: "رجعنا مع رسول الله - عليه السلام - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا ببعض الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال، قال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله - عليه السلام -: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: عن زهير بن حرب، عن جرير، عن منصور ... إلى آخره نحوه. قوله: "وقد توضئوا" حال، وكذا "وأعقابهم تلوح" وكذا "لم يمسها ماء" أحوال مترادفة أو متداخلة، وتلوح: مِن لاح الشيء إذا ظهر. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكّار، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: "تخلف عنا رسول الله - عليه السلام - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر، ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى: ويل للأعقاب من النار -مرتين أو ثلاثا-". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو عوانة الوضّاح اليشكري. وأبو بشر جعفر بن أبي وحشيّة إياس الواسطي التابعي الكبير. وماهَك بفتح الهاء، والكاف، لا تتصرف للعجمة، والعلمية وهو اسم أبيه، وقيل: اسم أمه، والاصح أن اسم أمه مُسَيْكة، وعن ابن المديني: يوسف بن ماهك ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (3/ 335 رقم 1055). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 214 رقم 241).

ويوسف بن ماهان واحد، قلت: ماهك بالفارسية تصغير القمر، يعني قمير؛ لأن ماه عندهم اسم القمر، والتصغير عندهم بالكاف. وأخرجه البخاري (¬1): عن أبي النعمان، عن أبي عوانة إلى آخره نحو: رواية الطحاوي، وفيه فنادى بأعلى صوته. وأخرجه مسلم (¬2): عن شيبان بن فروخ وأبي كامل الجحدري جميعًا، عن أبي عوانة إلى آخره نحوه. قوله: "في سفرة" قد جاء مفسرا في الرواية الأولى أنها كانت من مكة إلى المدينة. قوله: "وقد أرهقتنا" جملة حالية، وصلاة العصر فاعِلُهُ، أبي أعجلتنا لضيق وقتها، قال القاضي عياض: ومنه المراهق -بالفتح- في الحج؛ وقيل: بالكسر، وهو الذي أعجله ضيق الوقت أن يطوف. وفي "الموعب": قال أبو زيد: رَهِقتنا الصلاة بالكسر رهوقا: حانت، وأرهقنا نحن الصلاة إرهاقا: أخرناها عن وقتها، وقال صاحب "العين": استأخرنا عنها حتى يدنو وقت الأخرى، ورهِقتُ الشيء رهقا أي دنوت منه. وفي "المحكم": أرهقنا الليل: دنا منّا، ورهِقَتنا الصلاة رهقا: حانتْ. وفي "المعرب": رهقتنا الصلاة غشيتنا. وفي "الاشتقاق" للرُماني: أصل الرهَق الغشيان، وكذا قاله الزجاج. وقال أبو النضر: رهقني: دنا مني، وقال ابن الأعرابي: رهقته، وأرهقته بمعنى دنوت منه. قوله: "ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا" قال القاضي عياض: معناه نغسل كما هو المراد في الآية بدليل تباين الروايات، وليس معناه ما أشار إليه بعضهم أنه دليل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 33 رقم 60). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 214 رقم 241).

على أنهم كانوا يمسحون، فنهاهم النبي - عليه السلام -عن ذلك، وأمرهم بالغَسل، وقالوا أيضًا: لو كان غسلاُ لأمرهم بالإعادة لما صلوا. هذا لاحجة فيه لقائله؛ لأنه - عليه السلام - قد أعلمهم بأنهم مستوجبون النار على فعلهم بقوله: "ويل للأعقاب من النار"، ولا يكون هذا إلَّا في الواجب، وقد أمرهم بالغسل بقوله: أسبغوا الوضوء، ولم يأت أنهم صلوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبلُ؛ فيلزم أمرهم بالإعادة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة ... فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذكر عبد الله بن عمرو أنهم كانوا يمسحون حتى أمرهم رسول الله - عليه السلام - بإسباغ الوضوء، وخوّفهم فقال: "ويل للأعقاب من النار" فدلّ ذلك أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: المفهوم من كلامه أن معنى قوله: "ونمسح على أرجلنا" هو أنهم كانوا يمسحون عليها مثل مسح الرأس، ثم إنَّ رسول الله - عليه السلام - منعهم عن ذلك، وأمرهم بالغسل، فهذا يدل على انتساخ ما كانوا يفعلونه من المسح، ولكن فيه ما فيه؛ لأن قوله: "ونمسح على أرجلنا" يحتمل أنْ يكون معناه نغسل غسلا خفيفا مُبقَّعا حتى يرى كأنه مسح، والدليل عليه ما في الرواية الأخرى: "رأى قوما توضئوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا" فهذا يدل على أنهم كانوا يغسلون، ولكن غسلا قريبا من المسح، فلذلك قال لهم: "أسبغوا الوضوء" وأيضًا إنما يكون الوعيد على ترك الفرض، ولو لم يكن الغسل في الأول فرضا عندهم لما توجه الوعيد؛ لأن المسح لو كان هو المعمول فيما بينهم كان يأمرهم بتركه وانتقالهم إلى الغسل بدون الوعيد، ومن ذلك قال القاضي عياض: معناه نغسل كما ذكرناه آنفا، والصواب أنْ يُقال: إنَّ أمر رسول الله - عليه السلام - بإسباغ الوضوء، ووعيدَه وإنكاره عليهم في ذلك الغسل

يدل على أن وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي، لا الغسل المشابه للمسح كغسل هؤلاء، وما روي من الأحاديث التي فيها المسح صريحا فقد أجبنا عنها في أول الباب، وقول عياض: وقد أمرهم بالغسل بقوله: "أسبغوا الوضوء" غير مُسَلّم؛ لأن الأمر بالإسباغ أمر بتكميل الغسل، والأمر بالغسل فُهِمَ من الوعيد؛ لأنه لا يكون إلَّا في ترك واجب، فلما فُهِمَ ذلك من الوعيد أكده بقوله: "أسبغوا الوضوء" ولهذا ترك العاطف فوقع هذا تأكيدًا عامّا يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء؛ لأنه لم يقل: أسبغوا الرجلين، بل قال: أسبغوا الوضوء، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين، فكما أنه مطلوب فيهما فكذلك هو مطلوب في غيرهما. فإنْ قيل: لِمَ ذكر الإسباغ عامّا، والوعيد خاصّا؟ قلت: لأنهم ما قصّروا إلَّا في وظيفة الرجلين؛ فلذلك ذكر لفظ الأعقاب، فيكون الوعيد في مقابلة ذلك التقصير الخاص، فهذا كله ظهر لي من الأنوار الربانية، وتحقق عندي أنه صواب، فلذلك غيرت هنا ما قلت هناك والله أعلم. ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب عن رسول الله - عليه السلام - ما لمن غسل رجليه في وضوئه من الثواب، فثبت بذلك أنهما مما يغسل في الوضوء، وأنهما ليستا كالرأس الذي يمسح في الوضوء وغاسله لا ثواب له في غسله، وهذا الذي ثبت (بهذه) (¬1) الآثار هو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أبي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ما لمن غسل" مفعول "قد ذكرنا"، و"من" موصولة. وقوله: "من الثواب" بيان لكلمة "ما" فافهم. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

ص: وقد اختلف الناس في قوله عز وجل: {وَأَرْجُلَكُمْ} (¬1) فأضافه قوم إلى قوله: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (1) قصرا على معنى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وأضافه قوم إلى قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فقرءوا {وَأَرْجُلَكُمْ} (1) نَسَقا على قوله: فاغسلوا وجوهكم، واغسلوا أيديكم، واغسلوا أرجلكم على الإضمار والنسق. ش: لما ذكر حجج الفريقين من الآثار والأخبار، شرع بذكر استدلالهم بالقرائتين المختلفتين في آية الوضوء، فالفريق الأول -أعني الذين ذهبوا إلى مسح الرجلين- أخذوا بقراءة الجرِّ في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} (1) وجعلوها عطفا على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وهو معنى قوله: "فأضافه قوم إلى قوله: وامسحوا ... " إلى آخره فيكون المأمور في الوضوء أربعة أشياء: غسلان: غسل اليدين، والوجه، ومسحان: مسح الرأس والرجلين، فقرأ بالجرّ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وحمزة، وابن كثير، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: وقرأ أنس، وعلقمة، وأبو جعفر أيضًا بالخفض، وقال موسى بن أنس لأنس: يا أبا حمزة، إنَّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا حتى ذكر الرجلين، وغسلهما، وغسل العراقيب، فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (1) قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما، وقال: نزل القرآن بالمسح وجاءت السُّنَّهُ بالغسل. وعن ابن عباس وقتادة: "افترض الله -سبحانه- مسحين، وغسلين"، وبه قال عكرمة، والشعبي، واختار الطبري التمييز بينهما، وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر، يعمل بهما إذا لم يتناقضا. انتهى. والفريق الثاني -أعني الذين ذهبوا إلى غسل الرجلين- أخذوا بقراءة النصب، وهو معنى قوله: "وأضافه قوم إلى قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1) وأراد بالإضافة ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6].

في الموضعين: العطف؛ لأن معنى العطف: الميل لغة، وفيه معنى الضم؛ لأن العاطف يضم شفقته إلى من يعطف عليه، ويجعلون المعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم واغسلوا أرجلكم، على الإضمار والنسق، أما الإضمار فهو تقدير اغسلوا، وأما النسق فهو العطف على اغسلوا وجوهكم، وممن قرأ بالنصب: عليٌّ، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس -في رواية- وإبراهيم، والضحاك، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعلي بن حمزة، وقال الأزهريّ: وهي قراءة ابن عباس، والأعمش، وحفص عن أبي بكر، ومحمد بن إدريس الشافعي -رحمهم الله-. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: ثبتت القراءة بثلاث روايات: الرفع، قرأ به نافع، ورواه عنه الوليد بن مسلم، وهي قراءة الأعمش. والنصب والجرّ ذكرناهما، وقال الإِمام أبو بكر الرازي -رحمه الله-: وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعًا ونقلهما الأئمة تلقيّا من رسول الله - عليه السلام - ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفهما على الرأس، ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها (على) (¬1) المغسول من الأعضاء، وذلك لأن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب يجوز أن يكون مراده واغسلوا أرجلكم، ويجوز أنْ يكون معطوفا على الرأس، فيراد بها المسح وإنْ كانت منصوبة فيكون عطفا على المعنى لا على اللفظ؛ لأن الممسوح مفعول به، كقول الشاعر: مُعاوِيَ إننا بشرٌ فأسجح (¬2) ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى، وتحتمل قراءة الخفض أنْ يكون معطوفا على الرأس، فيراد به المسح، ويحتمل عطفه على الغسل، ويكون ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) كتب في الحاشية بخط مغاير: قوله: "أسجح" أمر من الإسجاح، وهو حسن العفو، والجيم مقدمة على الحاء.

مخفوضا بالمجاورة، كقوله: تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (¬1)، ثم قال: {وَحُورٌ عِينٌ} (¬2) فخفضهن بالمجاورة، وهن معطوفات في المعنى على الولدان؛ لأنهن يطفن ولا يطاف بهن، وكما قال الشاعر: فهل أنت إنْ ماتت أتانك ركبُ ... إلى دار بسطام بن قيس فخاطِب فخفض خاطِب بالمجاورة، وهو معطوف على المرفوع من قول راكبُ، والقوافي مجرورة، ألا ترى إلى قوله: فهَلْ مثلُها في مثل حَيّ وكلَّهُم ... على داري بين ليلى وغالِب فثبت بما وصفنا احتمال كل واحدة من القراءتين المسح، والغسل، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معانٍ ثلاثة، إما أنْ يقال: إنَّ المراد هما جميعًا مجموعان فيكون عليه أنْ يمسح، ويغسل فيجمعهما، أو يكون أحدهما على التخيير، يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض، أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير، وغير جائز أنْ يكون هما جميعًا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه، ولا جائز أيضًا أنْ يكون المراد أحدهما على وجه التخيير؛ إِذ ليس في الآية ذكر التخيير، ولا دلالة عليه، ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع؛ فبطل التخيير بما وصفنا، وإذ انتفى التخيير والجمع، ولم يبق إلَّا أنْ يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير، فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما، فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد، وأنه غير ملوم على ترك المسح، فثبتَ أن المراد الغسل، وأيضًا فإن اللفظ للاحتمال الذي ذكرنا مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما ضار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان، فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول - عليه السلام - من فعل أو قول، علمنا أنه مراد الله، وقد ورد البيان عنه - عليه السلام - بالغسل قولًا ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [17]. (¬2) سورة الواقعة، آية: [22]. وهي قراءة حمزة والكسائي وأبو جعفر، وقرأ الباقون بالرفع، انظر "البدور الزاهرة" (ص 312).

وفعلا، أما الأول فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أنه - عليه السلام - غسل رجليه في الوضوء، ولم تختلف الأمة فيه، فصار ذلك واردا مورد البيان، فإذا ورد فعله على وجه البيان فهو على الوجوب، فثبتَ أن ذلك مراد الله بالآية. وأما الثاني فما روى جابر وأبو هريرة، وعائشة، وعبيد الله بن عمر وغيرهم: "أن النبي - عليه السلام - رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء" (¬1) وتوضأ النبي - عليه السلام - مرة فغسل رجليه وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلَّا به" (1) وأيضًا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي - عليه السلام - من بيانه إِذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل، فكان يجب أنْ يكون مسحه في وزن غسله، فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل؛ ثبت أن المسح غير مراد. وأيضًا فإن القراءتين كالآيتين في أحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين، فإذا وردت آيتان إحداهما توجب الغسل، والأخرى توجب المسح، لما جاز ترك الغسل إلى المسح؛ لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأجر بالغسل، فكان يكون حينئذ يجب استعمالها على أعمّهما حكمًا، وأكثرهما فائدة وهو الغسل؛ لأنه يأتي على المسح، والمسح لا يتضمن الغسل، وأيضًا لما حَدّد الرجلين بقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} دلّ على استيعاب الجميع كما دلّ ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل، وذكر صاحب "البدائع" ما ملخّصه: أن من قال بالمسح أخذ بقراءة الخفض، ومن قال بالتخيير يقول: إنَّ القراءتين ثابتتان، وقد تعذر الجمع بينهما بأن يجمع الغسل والمسح إِذ لا قائل به من السلف فيتخير، وأيهما فعل يكون آتيا بالمفروض، ومن قال بالجمع يقول: القراءتان في آية واحدة كالآيتين، فيجب العمل بهما جميعًا ما أمكن، وهنا أمكن لعدم التنافي بين الغسل والمسح في محل واحد، فيجب الجمع، ولنا قراءة النصب وأنها ترجح؛ لأنها محكمة في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على المغسول، وقراءة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الخفض محتملة؛ لأنه يحتمل عطفها على الرؤوس حقيقة ومحلها الخفض، وعلى الوجه واليدين حقيقة ومحلها النصب إلَّا أنها خفضت للمجاورة كما في: "جُحْر ضبٍّ خرب"، والخرب نعت للجحر لا للضبّ، فكانت قراءة النصب أرجح، إلَّا أن فيه إشكالا وهو أن الكلام في حد التعارض؛ لأن قراءة النصب محتملة أيضًا في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على اليدين والوجه؛ لأنه يحتمل أنَّهَا معطوفة على الرأس، والمراد بها المسح حقيقة، لكنها نصبت على المعنى لا على اللفظ؛ لأن الممسوح به مفعول به فصار كأنه: فامسحوا رؤوسكم، والإعراب قد يتبع اللفظ وقد يتبع المعنى، فحينئذ يُصلب الترجيح من وجه آخر، وذلك من وجوه: أحدها: أنَّ الله مدّ الحكم في الأرجل إلى الكعبين، ووجوب المسح لا يمتد إليهما. الثاني: أنَّ الغَسْلَ يتضمن المسح. والثالث: أنه روى عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" والوعيد لا يُستحق إلَّا بترك الواجب، والحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين، فإنْ أمكن العمل بهما مطلقا يعمل، وإلَّا يعمل بالقدر الممكن، وها هنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحدٍ في حالة واحدةٍ؛ لأنه لم يقل به أحد، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح؛ لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار فيحمل في حالتين، فتُحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرِّجْلان باديتان، وقراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفن؛ توفيقا بين القراءتين، وعملا بهما بالقدر الممكن. انتهى. فإنْ قيل: لا يستقيم الحمل على هذا الوجه؛ لأن قراءة الجر تقتضي المسح على الرجل دون الخف. قلت: لما أقيم الخف مقامه كان المسح على الخف كالمسح عليه، وإنما أضيف المسح إلى الرجل دون الخف لئلا يوهم جواز المسح على الخف بدون اللبس، وهذا على اختيار بعض المشايخ الذين أثبتوا جواز المسح على الخف بالكتاب، ولكن الجمهور منهم أثبتوه بالسُّنة المشهورة دون الكتاب وقالوا: لو كان ثابتا

بالكتاب لكان مغيًّا إلى الكعبين كالغسل، وليس كذلك، وأجابوا عن قراءة الجرّ بأن الأرجل في محل النصب أيضًا بالعطف على الوجه فيكون مغسولا، فلا تعارض، وإنما صار مجرورا للمجاورة، وقيل: المراد بالمسح في حق الرجل الغسل، ولكن أُطلق عليه لفظ المسح للمشاكلة، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1) وقيل: إنما ذكر بلفظ المسح؛ لأن الأرجل من بين سائر الأعضاء مظنة إسراف الماء بالصبّ، فعطف على الممسوح، وإنْ كانت مغسولة على وجوب الاقتصاد في الصبّ لا لتُمْسح، وجيء بالغاية فقيل: إلى الكعبين إماطة لظن ظان يحسبها أنها ممسوحة؛ إذ المسح لم تصرف له غاية، وإليه أشار العلامة الزمخشري في "الكشاف"، واعترض عليه بأنا لا نسلم أنّ العطف لا لتمسح؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وقوله: إماطة لظن ... إلى آخره، غير مسلم أيضًا لأن الحكم الشرعي لا يعلم كيفيته وكميته إلَّا بالشرع، فننتهي إلى ما أنهانا الشارع إليه، وما قاله تعليل في معارضة النص، وهو فاسد، وأيضًا لو كان لتعليله أثر لم يُقرأ بالنصب، وقد ظهر فساد علّته لتخلف المعلول عن العلة، على تقدير قراءة النصب، وها هنا سؤال، وهو أنْ يقال: المسح في المعطوف عليه للإصابة حقيقة، وفي المعطوف إذا جعل للغسل مجاز، فيكون جمعا بين الحقيقة والمجاز. وأجيب بأن المسح الذي يُعبّر به عن الغسل هو لفظ المسح المقدر الذي تدل عليه الواو التي في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} فحينئذ لا يلزم ذلك في لفظٍ واحدٍ. ص: وقد اختلف في ذلك أصحاب رسول الله - عليه السلام - فمن دونهم، فمما روي عنهم في ذلك ما: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن قيس، عن عاصم، عن زِرٍّ: "أنَّ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالفتح". ¬

_ (¬1) سورة الشورى، آية: [40].

ش: أي وقد اختلف في عطف قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} هل هو على قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أو على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أصحاب رسول الله - عليه السلام - فمن دونهم من التابعين، فمما روي عن الصحابة: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. أخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن بهدلة الكوفي المقرئ، عن زر بن حُبَيْش، عن عبد الله، وفي قيس خلاف. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): عن أبي بكر أحمد بن علي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله، عن محمَّد بن إسحاق بن خزيمة، عن بُنْدَار، عن أبي داود ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق، قال: ثنا عبد الوارث ابن سعيد ووهيب بن خالد، عن خالد الحذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنه قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} يعني رجع الأمر إلى الغسل". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب، قال: نا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو حسن؛ لأن علي بن زيد روى له مسلم مقرونا بثابت البناني (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 70 رقم 336). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 26 رقم 193). (¬3) قلت: بل هو ضعيف، ورواية مسلم له مقرونًا بغيره لا تنفعه؛ فالرجل مجمع على ضعفه. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال"، "وميزان الاعتدال".

ويوسف بن مهران وثقه أبو زرعة وابن سعد. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: سمعت هشيما يقول: أبنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنه قرأها كذلك، وقال: عاد إلى الغسل". ش: هذا طريق آخر وإسناده صحيح. قوله: "قرأها كذلك" يعني وأرجلَكم بالفتح. قوله: "عاد إلى الغسل" أي عاد الأمر أو الحكم إلى غسل الرجلين بمقتضى هذه القراءة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا يعقوب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قيس، عن مجاهد قال: "رجع القرآن إلى الغسل، وقرأ {وَأَرْجُلَكُمْ}. ش: يعقوب: هو ابن إسحاق، وقيس هو ابن الربيع، فيه مقال. وأخرجه البيهقي (¬1): عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس، عن إبراهيم، عن يعقوب بن إسحاق ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حماد ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن مجاهد ... إلى آخره. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا يعقوب، قال: نا سفيان بن عُيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مثله. ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 70 رقم 337، 338).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أنه كان يقرأ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬2)، يقول رجع الأمر إلى الغسل". وأخرجه البيهقي (¬3) نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: [ثنا يعقوب قال] (¬4)، ثنا عبد الوارث، قال: ثنا أبو التياح، عن شهر بن حوشب مثله. ش: إسناده صحيح، وأبو التياح اسمُه يزيد بن حُميد الضبعي. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن الشعبي قال: "نزل القرآن بالمسح، والسُّنَّة بالغسل". ش: إسناده صحيح، ويعقوب هو ابن إسحاق، وحماد هو ابن سلمة، وعاصم هو ابن بَهْدلة، والشعبي اسمُه عامرٌ. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5): عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: "أما جبريل فقد نزل بالمسح على القدمين". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا حميد الأعرج، عن مجاهد: "أنه قرأها {وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض. ش: إسناده صحيح، وحميد بن قيس الأعرج المكي، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 26 رقم 194). (¬2) سورة المائدة، آية: [6]. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 70 رقم 337) من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة به. (¬4) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني" وإبراهيم بن مرزوق لا يدرك عبد الوارث ابن سعيد، إنما يروي عن ابنه عبد الصمد بن عبد الوارث. وسيأتي على الصواب إن شاء الله تعالى. (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 19 رقم 56).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن قرة، عن الحسن، أنه قرأها كذلك. ش: إسناده صحيح، وأبو داود: سليمان الطيالسي، وقرة بن خالد السدوسي، والحسن البصري -رحمهم الله-. ص: وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - أنهم كانوا يغسلون، فمما روي في ذلك ما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الزبير بن عَدِيّ، عن إبراهيم قال: قلت للأسود: "أكان عمر يغسل قدميه؟ فقال: نعم كان يغسلهما غسلا". ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم: الفضل بن دكين، وسفيان هو: الثوري، وإبراهيم هو: النخعي، والأسود هو: ابن يزيد، خال إبراهيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبد الله بن نمير، عن الحجاج، عن الزبير بن عدي ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: نا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "توضأ عمر - رضي الله عنه - فغسل قدميه". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا روح بن الفرج، ولكنه منقطع؛ لأن إبراهيم لم يسمع من الصحابة شيئا. وأبو الأحوص سلّام بن سُليم الكوفي، ومغيرة هو [ابن] (¬2) مقسم الضبي. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا أبو ربيعة، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي جَمرة قال: "رأيت ابن عباس يغسل رجليه ثلاثا ثلاثا". ش: أبو ربيعة اسمه زيد بن عوف. القُطَعي، قال الدراقطني: ضعيف. وقال الفلاس: متروك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 26 رقم 186). (¬2) سقط من "الأصل، ك" والصواب إثباته، ومغيرة بن مقسم من رجال التهذيب.

وأبو عوانة الوضاح اليشكري، وأبو جمرة -بالجيم- نصر بن عمران. وما روي عنه: "الوضوء مسحتان وغسلتان" فمحمول على مسح الرجلين وهما في الخف. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابنُ لهيعة، عن عمارة بن غَزِيَّة، عن ابن المُجْمر قال: "رأيت أبا هريرة يتوضأ مرة، وكان إذا غسل ذراعيه كاد أنْ يبلغ نصف العضد، ورجليه إلى نصف الساق، فقلت له في ذلك، فقال: أريد أنْ أُطيل غرتي، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرّا محجَّلين من الوضوء، ولا يأتي أحد من الأمم كذلك". ش: أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، ثقة. وعبد الله بن لهيعة فيه مقال. وعمارة بن غزية روى له مسلم. وابن المُجْمر هو نعيم بن عبد الله المُجْمِر، بضم الميم، وسكون الجيم، وكسر الميم الثانية، ويقال: بتشديد الميم (¬1)، ثم هو صفة عبد الله والد نعيم في رواية الطحاوي، وبه جزم ابن حبان في كتاب "الثقات"، وكذلك جزم النووي في شرح مسلم بأن المجمر صفة لعبد الله، وتطلق على ابنه نعيم مجازا، قال ذلك مع جزمه أولا بأن نعيما هو كان يُبخِّر المسجد ووقع في رواية البخاري ومسلم عن نعيم المجمر، فوقع المجمر صفة له، والصحيح أنَّ المجمر صفة لأبيه عبد الله، كما في رواية الطحاوي؛ لأنه كان يأخذ المجمر قدام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا خرج إلى الصلاة في رمضان ونعيم هو ابن المجمر، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث، عن خالد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: "رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد، ¬

_ (¬1) أي مع فتح الجيم: المجَمِّر. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 63 رقم 136).

فتوضأ وقال: إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن أمتي يُدْعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرته فليفعل لما. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن سعيد الأيلي، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن عبد الله: "أنه رأى أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه ويديه (إلى) (¬2) المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أنَّ رسول الله - عليه السلام - خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون، وددت أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعد، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غرٌّ محجلةٌ في خيل بهُمٍ دُهمٍ، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض". قلت: هذا الحديث رواه أيضًا عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، وأبو الدرداء (¬4): فحديث عبد الله عند ابن أبي شيبة (¬5)، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله قال: "قلت: يا رسول الله، كيف تعرف مَنْ لم تر من أمتك؟ قال: هم غُرٌّ [محجلون] (¬6) بلق من آثار الوضوء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 216 رقم 246). (¬2) في "صحيح مسلم": "حتى كاد يبلغ". (¬3) "المجتبى" (1/ 93 - 94 رقم 150)، وأخرجه ابن ماجه أيضًا (2/ 1439 رقم 306). (¬4) وعبد الله بن بسر أيضًا كما عند البزار في "مسنده" (8/ 429 رقم 3500). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 15 رقم 40)، وأخرجه ابن ماجه أيضًا (1/ 104 رقم 284). (¬6) ليست في "الأصل، ك"، وما أثبتناه من "مصنف ابن أبي شيبة".

وحديث جابر عند البزار (¬1): عن إسماعيل بن حفص الأيلي، عن يحيى بن اليمان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر قال: "قيل: يا رسول الله، كيف تعرف منْ لم تر من أمتك؟ قال: غُرّا -أحسبه قال-: محجلون من آثار الوضوء". وحديث أبي سعيد عند الطبراني في "الأوسط" (¬2): بإسناده إليه قال: "قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: غرٌّ محجلون من الوضوء". وحديث أبي أمامة عنده أيضًا في "الكبير" (¬3): بإسناده إليه قال: "قلت يا رسول الله، أتعرف أمتك يوم القيامة؟ قال: نعم. قلت: مَنْ رأيت ومَنْ لم تر؟ قال: مَنْ رأيت ومنْ لم أر، قلت: بماذا؟ قال: غرٌّ محجلون من آثار الوضوء". رواه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬4). وحديث أبي الدرداء عند أحمد (¬5) والطبراني (¬6) أيضًا: بإسناد فيه ابن لهيعة فقال أبو الدرداء: قال رسول الله - عليه السلام -: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يرفع رأسه، فأنظر (بين) (¬7) يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي [مثل] (¬8) ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك، فقال رجل: كيف تعرف أمتك يا رسول الله من بين سائر الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غرّ محجلون من أثر الوضوء ليس لأحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتُبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيدهم ذريتهم". ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 225) للبزار وقال: إسناده حسن. (¬2) "المعجم الأوسط" (6/ 97 رقم 5852). (¬3) "المعجم الكبير" (8/ 106 رقم 7509). (¬4) "مسند أحمد" (5/ 260 - 261 رقم 2231) بنحوه. (¬5) "مسند أحمد" (5/ 199 رقم 21788). (¬6) "المعجم الأوسط" (3/ 304 رقم 3234). (¬7) تكررت في "الأصل". (¬8) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

قوله: "نصف العضد" يجوز فيه ضُم الضاد وسكونها، وقال الجوهري: العضد الساعد، وهي من المرفق إلى الكتف، فيه أربع لغات: عَضُد، وعَضِد، مثل: حَذُر، وحَذِر، وعَضْد، وعُضْد، مثل: ضَعْف، وضُعْف، وعضدتُه أعضُده -بالضم- أَعَنْتُه، والساق ساق القدم، والجمع سوق وسيقان وأسوق. قوله: "غرتي" الغرة بياض في جبهة الفرس، والحجل بياض في يديها ورجليها، فسُمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرّا وتحجيلا؛ تشبيها بذلك، وقيل: الأغرَّ من الخيل الذي غرته أكثر من الدرهم، قد وسطت جبهته ولم تُصِبْ واحدة من العينين، ولم تمل على واحد من الخدين، ولم تَسِل سُفلى، وهي أفشى من القرحة (¬1)، وقال بعضهم: بل يقال للأغر: أغرَّ أقرح؛ لأنك إذا قلت: أَغَرَّ فلا بد من أنْ تصف الغرة بالطول والعرض، والصغر والعِظَمْ والدقة، وكلهن غُرَر، فالغرة جامعة لهن، وغرة الفرس: البياض يكون في وجهه، فإنْ كان [مُدَوَّرَة فهي] (¬2) وتيرة، وإنْ [كانت] (¬3) طويلة فهي شادخة. وفي "الصحاح": الوتيرة الوردة البيضاء، ووتَره حقه أبي نقصه. والأغرب الأبيض من كل شيء، وقد غَرَّ وجهه يَغَرّ -بالفتح- غَرَرا، وغُرَّة، وغَرارة: صار ذا غُرَّة. والتحجيل بياض يكون في قوائم الفرس كلها، وقيل: هو أنْ يكون البياض في ثلاث قوائم منهن دون الأخرى، في رجل ويدين، ولا يكون التحجيل في اليدين خاصة إلَّا مع الرجلين، ولا في يد واحدة دون الأخرى إلَّا مع الرجلين، والتحجيل بياض قلَّ أو كثُرَ حتى يبلغ نصف الوظيف ويكون سائره ما كان. وفي "الصحاح": يجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين، ولا العرقوبين. ¬

_ (¬1) زاد في "لسان العرب" (مادة: غرر): والقرحة: قدر الدرهم فما دونه. (¬2) في "الأصل، ك": موزرة فهو، والمثبت من "لسان العرب". (¬3) في "الأصل، ك": كان، والمثبت من "لسان العرب".

وفي "المغيث" لأبي موسى المديني: فإذا كان البياض في طرف اليد فهو العُصمة، يقال: فرس أعصم. قوله: "إنَّ أمتي" الأُمة تطلق على أُمَّه الدعوة، وعلى أمة الأتباع، والمراد ها هنا أمة أتباعه - عليه السلام -، جعلنا الله منهم، والأمة في اللغة: الجماعة، قال الأخفش: هو في اللفظ واحدة والمعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وفي الحديث: "لولا أنَّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" (¬1). قوله: "يوم القيامه" يوم: من الأسماء الشاذة لوقوع الفاء والعين فيه حَرْفَيْ علة (¬2)، فهو من باب "ويل" و"ويح"، وهو اسم لبياض النهار، وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والقيامة: فعالة من قام يقوم، وأصلها قوامة، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. قوله: "غُرّا" بضم الغين جمع أغرّ. ويستفاد منه أحكام: الأول: المراد بالغُرة غسل شيء من مقدم الرأس، وما تجاوز الوجه زائدا على الجزء الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وبالتحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وادعى ابن بطال ثم القاضي عياض ثم ابن التين اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب، وهي دعوى باطلة، فقد ثبت ذلك من فعل رسول الله - عليه السلام -، وأبي هريرة، وعمل العلماء وفتواهم عليه، فهم محجوجون بالإجماع، واحتجاجهم بقوله: - عليه السلام - "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" لا يصح؛ لأن المراد به الزيادة في عدد المرات، أو النقص عن الواجب، أو الثواب ¬

_ (¬1) أخرجه "أبو داود" (3/ 108 رقم 2845)، و"الترمذي" (4/ 78 رقم 1486)، والنسائي في "المجتبى" (7/ 185 رقم 4280)، و"ابن ماجة" (2/ 1069 رقم 3205) وغيرهم من حديث عبد الله بن مغفل، وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬2) أي أول حرفين من وزن الاسم؛ لأنه على وزن: فعل.

المرتب على نقص العدد، لا الزيادة على تطويل الغرة والتحجيل، وأما حد الزيادة فغايته استيعاب العضد والساق، وقال جماعة من أصحاب الشافعي: يستحب إلى نصفهما. وقال البغوي: نصف العضد فما فوقه، ونصف الساق فما فوقه. وقال النووي: اختلف أصحابنا في القدر المستحب على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيف. وثانيها: إلى نصف العضد والساق. وثالثها: إلى المنكب والركبتين، والأحاديث تقتضي ذلك كله. وقال الشيخ تقي الدين القشيري: ليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين، وقد استعمله أبو هريرة على إطلاقه فغسل إلى قريب من المنكبين، ولم ينقل ذلك عن النبي - عليه السلام -، ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين؛ فلذلك لم يقل به أحد من الفقهاء، ورأيت بعض الناس قد ذكر أنَّ حد ذلك نصف العضد والساق. قلت: قوله: "لم يقل به أحد من الفقهاء" غريب على ما قدمنا عنهم آنفا عن أصحاب الشافعي. فإن قيل: لِمَ اقتصر أبو هريرة على قوله: "أريد أنْ أطيل غرتي" ولم يذكر التحجيل؟ قلت: هو من باب الاكتفاء للعلم به، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬1) ولم يقل: والبرد؛ للعلم به، والمعنى تقيكم الحر والبرد. وقد قيل: إنَّ هذا من باب التغليب بالذكر لأحد الشيئين على الآخر، وإنْ كانا بسبيل واحد للترغيب فيه. وقد استعمل الفقهاء ذلك وقالوا: يستحب تطويل الغرة، ومرادهم الغرة والتحجيل وفيه نظرة لأن التغليب اجتماع الاسمين أو ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [81].

الأسماء وتغليب أحدهما على الآخر نحو: القمرين والعمرين، وهنا لم يذكر إلَّا اسم واحد، وقد يجاب بأنها خصت بالذكر لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة. فإنْ قيل: الوضوء من خصائص هذه الأمة أم كان أيضًا لأحد من الأمُم؟ قلت: استدلت جماعة من العلماء بهذا الحديث على أنَّ الوضوء من خصائص هذه الأمة، وبه جزم الحليمي في "منهاجه"، وقال آخرون: ليس الوضوء مختصا بهذه الأُمة، وإنما الذي اختصت به: الغرة والتحجيل، واحتجوا بقوله - عليه السلام -: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي"، وأجاب الأولون عن هذا بوجهين: أحدهما: أنه ضعيف. والثاني: أنه لو صح لاحتمل اختصاص الأنبياء عليهم السلام دون أممهم بخلاف هذه الأمة، وفيه شرف عظيم لهم؛ حيث استووا مع الأنبياء - عليهم السلام - في هذه الخصوصية، وامتازت بالغرة والتحجيل، ولكن ورد في الحديث فيه شأن جريج العابد: "أنه توضأ وصلى" (¬1)، وفيه دلالة على أنَّ الوضوء كان مشروعا لهم، فعلى هذا تكون خاصية هذه الأمة الغرة والتحجيل الناشئين عن الوضوء لا الوضوء، ونقل الزناتي المالكي شارح "الرسالة" (¬2) عن العلماء: أنَّ الغرة، والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم و [من] (¬3) لم يتوضأ، كما قالوا: لا يكفر أحدٌ من أهل القبلة بذنب، إنَّ أهل القبلة كل من آمن به من أمته، سواء صلّى أو لم يصلّ، وهذا نقل غريب، فظاهر الأحاديث يقتضي خصوصية ذلك لمن توضأ منهم. ¬

_ (¬1) هذه هي رواية البخاري في "صحيحه" (3/ 1268 رقم 3253). (¬2) هو يوسف بن عمر الزناتي المالكي، والرسالة هي رسالة ابن زيدون. انظر "كشف الظنون" (1/ 841). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

الحكم الثاني: استحباب المحافظة على الوضوء، وسننه المشروعة فيه، وإسباغه. الثالث: فيه ما أعد الله تعالى من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة. الرابع: فيه دلالة قطعية أنَّ وظيفة الرجلين غسلهما، ولا يجزئ مسحهما، فافهم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا يعقوب، قال: نا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد: "أنه ذكر له المسح على القدمين، فقال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يغسل رجليه غسلا، وأنا أسكب عليه الماء سكبا". ش: إسناده صحيح، وأبو عوانة: الوضاح، وأبو بشر: جعفر بن أبي وحشية الواسطي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمَّد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "إني كنت لأسكب عليه الماء فيغسل رجليه". وفيه: إباحة استعانة الغير في الوضوء. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو عامر العَقَدي، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجُشَون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان يغسل رجليه إذا توضأ". ش: إسناده على شرط الشيخين. وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو، والعَقَدي -بفتح العين المهملة والقاف- نسبة إلى العَقَد -بالتحريك- قبيلة من اليمن، وقيل: من بجيلة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 26 رقم 190).

والماجُشِون -بضم الجيم كذا في "العباب" (¬1) وقال: هي ثياب مُصَبَّغة، وأنشد لأمية الهُذلي. وتخفي بخَيْفاء مُغبّرةٍ ... تَخالُ القَتامَ بها الماجُشونا أي تخفي شخص الرجل لسرعتها، قاله أبو سعيد، وقال غيرُه: الماجشون: السفينة، وماجُشُون من الألقاب، وهو مُعّربُ مَاهُ كوُنْ، ومعناه: المُوَرَّدُ على لون القمر، وهو من الأبنية التي أغفلها سيبويه. انتهى. قلت: "ماه" بالفارسية هو القَمُر، وكوُن: معناه اللون، وقد استَقْصَينا الكلام فيه في كتاب الرجال. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر: "كان في توضئه يُنَقي رجليه، وينظف أصابع يديه مع أصابع رجليه، ويتتبع ذلك حتى ينقيه". عبد الرزاق (¬3)، عن عبد العزيز بن أبي [رواد] (¬4)، عن نافع: "أنَّ ابن عمر كان يغسل قدميه بأكثر وضوئه". قال عبد الرزاق: "فوضّأت أنا الثوري فرأيته يفعل ذلك، يغسلهما فيكثر". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا عبد السلام، عن عبد الملك، قال: "قلت لعطاء: أبَلَغَك عن أحدٍ من أصحاب النبي - عليه السلام - أنه مسح على القدمين؟ قال: لا". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) هو "العباب الزاخر" في اللغة، للإمام الحسن بن محمَّد الصغاني وهو في عشرين مجلدًا، انظر "كشف الظنون" (2/ 1122)، و"سير أعلام النبلاء" (23/ 283). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 24 رقم 73). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 25 رقم 76). (¬4) في "الأصل، ك": داود، وهو تحريف، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق"، ومصادر ترجمته.

ص: وقد زعم زاعم أنَّ النظر يُوجبُ مسح القدمين في وضوء الصلاة لا غسلهما، فقال: لأني رأيت حكمهما بحكم الرأس أشبه؛ لأني رأيتُ الرَجُلَ إذا عدِمَ الماء فصار فرضه التيمم، يَمَّمَ وجهَه وَيَدَيْه ولا يُيَمّم رأسه ولا رجليه، فلما كان عدم الماء يسقط فرض غسل الوجه واليدين إلى فرض آخر -وهو التيمم- ويسقط فرض الرأس، والرجلين لا إلى فرض؛ ثبت بذلك أنَّ حكم الرجلين في حال وجود الماء كحكم الرأس، لا كحكم الوجه واليدين. ش: هذا سؤال من جهة مَنْ يذهب إلى مسح الرجلين، أوردوه من جهة القياس، وهو ظاهر، ومن ذلك قال: ابن حزم في "المحلى": إنا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم كما تسقط الرأس فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه، ويثبتان بثبوته أولى من حملهما على ما لا يثبتان بثبوته. وأيضًا فالرِجْلان مذكوران مع الرأس؛ فكان حملهما على ما ذُكرا معه أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه. وأيضًا فالرأس طرف، والرجلان طرف؛ فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط. وأيضًا فإنهم يقولون بالمسح على الخفين؛ فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل. وأيضًا فإنه لما جاز المسح على ساتر الرجلين، ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين؛ دلَّ -على أصول أصحاب القياس- أنَّ أمر الرجلين أخف (وأيسر) (¬1) من أمر الوجه والذراعين، فإذا كان كذلك فليس إلَّا المسح. فهذا أصح قياس في الأرض لو كان القياس حقّا. انتهى. ¬

_ (¬1) ليست في "المحلى" (2/ 57).

قلنا: هذا كله قياس، ونحن ما أثبتنا فرضيّة غسل الرجلين بالقياس حتى يلزمنا ما ذكرتم، وإنما ثبتت فرضيّة ذلك بالنصّ، والأحاديث الدالة على ذلك، وليس للقياس فيه مجال، نعم هذا إنما يَرِدُ علينا لو أنْ أثبتنا الحكم بالقياس ابتداء، وليس كذلك، فافهم. ص: قال أبو جعفر: فكان من الحجة عليه في ذلك: أنَّا رأينا أشياء تكون في حال وجود الماء كحكم الوجه واليدين لا كحكم الرأس، ويكون فرضها الغسل في حال وجود الماء، ثم يسقط ذلك الفرض في حال عدم الماء لا إلى فرض، من ذلك: الجنب عليه أنْ يغسل سائر بدنه عند وجود الماء، وإذا عَدِمَ يمَّمَ الوجه واليدين، ولم يَدُلّ هذا على أنَّ ما عداه لا يجب غسلُه عند القدرة على الماء، فكذلك حكم الرجلين. ش: أيّ فكان من الجواب على هذا الزاعم فيما أورده في السؤال المذكور: أنَّا رأينا ... إلى آخره وهذا أيضًا ظاهر. قوله: "في ذلك" أيْ فيما ذكرنا من قولنا أشياء. قوله: "وإذا عَدِمَ" بكسر الدال أيْ إذا عَدِمَ الماء وهو متعدٍ، يُقال: عَدِمْتُ الشيء -بالكسر- أَعْدَمُه عُدَما وعَدَما بالتحريك على غير قياس، أيْ: فقدته. قوله: "يَمَّمَ الوجه" أيْ استعمل التراب على الوجه واليدين.

ص: باب: الوضوء هل يجب لكل صلاة أم لا؟

ص: باب: الوضوء هل يجب لكل صلاة أم لا؟ ش: أيّ هذا باب في بيان أنَّ الوضوء يجب لكل صلاة أم يجوز بوضوء واحد صلوات عديدة؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن كلا منهما مشتمل على أحكام الوضوء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سفيان، عن علقمة ابن مرثد، عن سليمان بن بُرَيْدَة، عن أبيه: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان الفتح صلى الصلوات بوضوءٍ واحد". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو بكرة بكَّار، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي ذكرناه عن قريب في الباب الذي قبله، وبُريدة -بضم الباء الموحدة- ابن الحُصَيْب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- بن عبد الله الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ ... " إلى آخره نحوه. قوله: "الفتح" أيّ فتح مكة، فتحت سنة ثمان من الهجرة في شهر رمضان يوم الجمعة لعشر بقين، وأقام بها النبي - عليه السلام - خمس عشرة ليلة. في رواية البخاري (¬2)، وفي رواية أبي داود (¬3) والترمذي (¬4): "أقام ثماني عشر ليلة - لا يصلي إلَّا ركعتين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 298). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، والذي في "صحيح البخاري" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (4/ 1564 رقم 4047): "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا، يصلي ركعتين" فرواية البخاري "تسعة عشر وليس خمس عشرة". أما رواية خمس عشرة فعند أبي داود (2/ 10 رقم 1231). وانظر كلام الحافظ في "الفتح" (2/ 654) فإنه نفيس. (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 9 رقم 1229) من حديث عمران بن حصين. (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 430 رقم 545) من حديث عمران بن حصين ولكن ليس فيه محل الشاهد.

ثم ظاهر قوله: "كان يتوضأ لكل صلاة" يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة. وقوله: "فلما كان الفتح ... " إلى آخره، يدل على جواز صلوات كثيرة بوضوء واحد، ثم قيل: إنَّ الحكم الأول قد انتسخ بالحكم الثاني، والصحيح أنَّ مواظبته - عليه السلام - على الوضوء لكل صلاة كان لأجل العمل بالأفضل، وصلاته - عليه السلام - يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد بيان للجواز، والدليل عليه: قوله في الحديث الآتي: "عمدا فعلته يا عمر" فهذا يدل على أنَّ فعله الأول كان للأفضل، وفعله الثاني كان بيانا للجواز، ودليل آخر على ألَّا نسخ ثمة: أنَّ الوجوب إذا نسخ يبقى التخيير، ثم أجمع أهل الفتوى بعد ذلك على أنَّه لا يجب إلَّا على المُحدِث، وأنَّ تجديده لكل صلاة مندوب، ولم يبق بينهم اختلاف، على ما يجيء مزيد البيان إنْ شاء الله تعالى. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال ثنا أبو عاصم وأبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "صلى رسولُ الله - عليه السلام - يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر - رضي الله عنه -: صنعت شيئًا يا رسول الله لم تكن تصنعه ... قال: عمدا فعلته يا عمر". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وأبو حذيفة النهْدي اسمه موسى بن مسعود البصري شيخ البخاري وغيره، وسفيان هو الثوري. وأخرجه مسلم (¬1): وقال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي، قال: نا سفيان، عن علقمة بن مرثد. وحدثني محمَّد بن حاتم -واللفظ له- قال: أنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني علقمة ... إلى آخره نحوه سواء. وأبو داود (¬2): عن مُسدّد، عن يحيى، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 232 رقم 277). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 44 رقم 172).

والترمذي (¬1)، عن ابن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان ... إلى آخره نحوه، وقال هذا حديث حسن صحيح. ومما يُستفاد منه: جواز المسح على الخفين، وسؤال المفضول الفاضلَ عن بعض أعماله التي في ظاهرها مخالفة للعادة؛ لأنه قد يكون عن نسيان فيرجع عنه، وقد يكون تعمدا لمعنى خَفِي على المفضول ليستفيده. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال ثنا سفيان، قال: ثنا علقمة، عن سليمان، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أنَّه كان يتوضأ لكل صلاة. ش: هذا الإسناد بعينه هو إسناد الحديث الأول ولكن فيه اقتصر على قوله: "إنه كان يتوضأ لكل صلاة". وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": عن زهير، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، نحوه. ص: فذهب قوم إلى أنَّ الحاضرين يجب عليهم أنْ يَتوضئوا لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من الظاهرية، وجماعة من الشيعة فإنهم أوجبوا الوضوء لكل صلاة في حق المقيمين دون المسافرين، واحتجوا في ذلك بحديث بُريدة المذكور؛ لأنه - عليه السلام - كان يتوضأ لكل صلاة، ثم صلى الصلوات الخمس يوم فتح مكة بوضوء واحد؛ لأنه كان مسافرا. وذهبت طائفة إلى إيجاب الوضوء لكل صلاة مطلقا من غير حَدَثٍ، وروي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى، وجابر بن عبد الله، وعَبِيدة السَّلْمَاني، وأبي العالية، وسعيد بن المسيّب، إبراهيم، والحسن، وحكى ابن حزم في كتاب "الإجماع" هذا المذهب عن عمرو بن عبيد قال: "وروينا عن إبراهيم النخعي: ألَّا يصلى بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 89 رقم 61).

ص: وخالفهم في ذلك أكثر العلماء فقالوا: لا يجب الوضوء إلَّا مِنْ حدَث. ش: أيّ خالف القوم المذكورين أكثر العلماء من الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأكثر أصحاب الحديث، وغيرهم، فقالوا: لا يجب الوضوء إلَّا من أجل حدَث، وذلك لأن آية الوضوء نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة؛ لأن قوله: تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون. وقال الإِمام أبو بكر الرازي ما ملخصه: إنَّ ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة؛ لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الصلاة، وحكم الجزاء تأخره عن الشرط، ولا خلاف بين السلف والخلف أنَّ القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة، وأنَّ سبب وجوبها شيء آخر غيره، وقد بُيِّن ذلك في حديث أسماء بنت زيد: "أنَّ رسول الله - عليه السلام - أُمِرَ بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلَّا من حدَثٍ" (¬2) فدلّ هذا أنَّ وجوب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة. هذا ما ذكره. قلت: اختلفوا في سبب وجوب الوضوء؛ فقالت الظاهرية: هو القيام إلى الصلاة، وكل من قام إليها فعليه أنْ يتوضأ وإنْ كان على الوضوء، لظاهر الآية. وقال أهل الطَّرْدِ: وسببه الحدث؛ لدورانه معه وجودا وعدما، وقال أبو بكر الرازي: سببه الحدث عند القيام إلى الصلاة. كما ذكرنا الآن، وكل ذلك فاسد، أما الأول فلحديث بُريدة أنَّه - عليه السلام - يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، ولأن فيه تسلسلا على ما لا يخفى وهو باطل، وأما الثاني والثالث فكذلك لأنَّا ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6]. (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" بمعناه (1/ 12 رقم 48)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 11 رقم 15)، والحاكم في مستدركه (1/ 258 رقم 556) كلهم من طريق أسماء بنت زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

لا نسلم أنَّ الدوران دليل العليَّة، ولئن سلّمنا ذلك لا نسلم أنَّ الدوران وجودا موجود؛ لأنه قد يوجد الحدث ولا يجب الوضوء ما لم تجب الصلاة بالبلوغ ودخول الوقت، وقد يقال: السبب ما يكون مفضيًا إلى الشيء ويجتمع معه، والحدث رافع للطهارة، فكيف يكون سببا لها؟! والصحيح في المذهب: أنَّ سبب وجوب الوضوء الصلاة؛ لأنه نسب إليها، ويقوم بها، ويجب بوجوبها، ويسقط بسقوطها، وهو شرطها فيتعلق بها، حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلاة، والحدث شرطه، فإنْ قلت: لا يجوز أنَّ تكون الصلاة سببًا لأنه لا بد حينئذ يكون الوضوء حكما وشرطا للصلاة، وهو فاسد؛ لأن المتقدم متأخر والمتأخر متقدم. قلت: الوضوء شرط الجواز، والصلاة سبب الوجوب، وبينهما مغايرة. فافهم. وإنما قلنا: إنَّ الحدث شرطه لأن الأمر بالوضوء أمر بالتطهير وهو يقتضي النجاسة لا محالة إما حقيقة أو حكمًا، والأول منتفٍ بالإجماع، فتعين الثاني، وإلَّا يلزم إلغاء النص عن الفائدة، وأنَّ القيام المذكور بإطلاقه يتناول كل قيام، وهو غير مراد بالإجماع، فتعين أخصّ الخصوص وهو القيام إلى الصلاة وهو محدث، قد يكون تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون. أو إذا قمتم إلى الصلاة عن المنام. والنوم دليل الحدث، فإنْ قلت: قد صرح بذكر الحدث في الغسل والتيمم دون الوضوء فما الفائدة فيه؟ قلت: ليعلم أنَّ الوضوء يكون سُنّة وفرضا، والحدث شرط في الفرض دون السُّنَّة؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور (¬1)، والغسل على الغسل والتيميم ¬

_ (¬1) هذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 98 رقم 315): وأما الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور على نور" فلا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعله من كلام بعض السلف والله أعلم. وقال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 120): لم أجد له أصلًا. ونقل صاحب "كشف الخفا" (2/ 447) عن الحافظ ابن حجر أنه قال: حديث ضعيف، ورواه رزين في "مسنده".

على التيمم ليس كذلك، فإنْ قلت: أليس هذا التقدير زيادة تُقَيِّد إطلاق الكتاب بخبر الواحد؟ وأنتم تأبون ذلك كما أبيتم زيادة تعيين الفاتحة على القراءة وزيادة الطهارة على الطواف بخبر الواحد. قلت: بين الزيادتين فرق، وهو أنَّ هذه الزيادة لو لم تكن فيما نحن فيه يلزم منه فساد بيِّن وحرجٌ ظاهر، وكلاهما منتفٍ، وقد نفاهُ الشارعُ بقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وحججه لا تتناقض، فكانت الزيادة ثابتة بالنصّ الذي ينفي الحرج وخبر الواحد وقع موافقا له، وربما يقال: إنَّ هذه الزيادة ثبتت بقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وأنتم محدثون" ورواية ابن بريدة "أنَّه خطاب للمحدثين" ومثله عن ابن عباس، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعُبَيْدة، وأبي موسى، وجابر، وأبي العالية، وسعيد بن المسيّب، وإبراهيم، والحسن، والضحاك، وعليه إجماع التابعين والفقهاء. وعند الشافعية في موجب الوضوء ثلاثة أوجه حكاها المتولي والشاشي عنهم. أحدها: وجوبه بالحدث، فلولاه لم يجب. والثالث: وجوبه بالقيام إلى الصلاة، فإنه لا يتعين الوضوء قبله. والثالث: وهو الصحيح عند المتولي وغيره: يجب بالحدث والقيام إلى الصلاة جميعا. والأوجه الثلاثة جارية في موجب الغسل هل هو الإنزال والجماع، أم القيام إلى الصلاة، أم كلاهما؟ ص: وكان مما رُوِي عن النبي - عليه السلام - ما يوافق ما ذهبوا إليه في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد وابن جريج وابن سمعان، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقربت لهم شاة مصلية، فأكل وأكلنا ثم حانت ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [78].

الظهر، فتوضأ وصلى، ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل، ثم حانت العصر، فصلى ولم يتوضأ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: إنه صلى الظهر والعصر بوضوئِه الذي كان في وقت الظهر. ش: "ما يوافق" في محل الرفع لاستناد "روي" إليه. وقوله: "ما حدثنا" اسم لكان وخبره "مما رُوي". وقوله: "ما ذهبوا إليه" في محل النصب؛ لأنه مفعول "يوافق" أيّ ما يوافق ما ذهب إليه أكثر العلماء. وقوله: "في ذلك" أيّ في أنَّ الوضوء لا يجب إلَّا مِنْ حدث. وإسناد الحديث المذكور صحيح على شرط مسلم، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، وابن جريج هو عبد الملك بن جريج. وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان، كذَّبَه أبو داود، وتركه النسائي، ولا يضر هذا صحة الإسناد؛ فإنّ ابن وهب رواه عن أسامة وابنُ جريج، وهما كافيان لصحة الإسناد، ولا يلتفت إلى ابن سمعان بينهم. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن عقيل، سمع جابر بن عبد الله -قال سفيان: وحدثنا محمَّد ابن المنكدر، عن جابر- قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة فأكل، وأتته بقناع من رطب فأكل منه، ثم توضأ للظهر وصلى ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة فأكل، ثم صلى العصر ولم يتوضأ". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) نحو: رواية الطحاوي، وقال النووي في شرح المهذب: إسناد هذا الحديث صحيح على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 116 - 117 رقم 80). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 156 رقم 702).

وأخرج أبو داود (¬1): ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، قال: نا حجاج، قال: نا ابن جريج، أخبرني محمَّد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "قربتُ للنبي - عليه السلام - خبزا ولحما. فأكل، ثم دعى بوَضوء فتوضأ، ثم صلى الظهر، ثم دعى بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ". قوله: "إلى امرأة من الأنصار" هي عمرة بنت حزم أخت عَمرو بن حزم، قاله ابن منده وأبو عمر، وقال أبو نعيم: عمرة بنت حزام، وكانت تحت سعد بن الربيع. فقتل عنها يوم أحد، وقال ابن الأثير: روى يحيى بن أيوب، عن محمَّد بن ثابت البناني، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر، عن عمرة بنت حَزْم: "أنها جعلت النبي - عليه السلام - في صُوْر نخل كَنَسَتْه ورَشَّتْه، وذبحتْ له شاة، فأكل منها وتوضأ وصلى الظهر، ثم قدّمت له من لحمها فأكل، وصلى العصر ولم يتوضأ" رواه أبو نعيم (¬2)، عن الطبراني، عن يحيى بن عثمان بن صالح، عن عمرو بن الربيع ابن طارق، عن يحيى بإسناده، وقال: عمرة بنت حزام. ورواه ابن منده بإسناده: عن محمَّد بن إسحاق الصاغاني، وأبي حاتم الرازي، عن عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن محمَّد فقالا: عمرة بنت حَزم. قوله: "فقرّبت" بتشديد الراء. قوله: "مصلية" أيّ مشويّه، يقال: صَلَيْت اللحم -بالتخفيف- أيّ شَوَيْتُه، فهو مَصليٌّ، فأما إذا أحرقته وألقيته في النار. قلتَ: صلَّيتُه -بالتشديد- وأصْلَيْتُه. قوله: "ثم حانت الظهر" أيّ آنت يعني حضرت، من الحين، وهو الوقت. قوله: "فأتته بقِنَاع" بكسر القاف، وهو الطبق الذي يؤكل عليه، ويقال له القُنْعٍ -بالكسر والضم- وقيل: القناع جمعه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 49 رقم 191). (¬2) "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (6/ 3394 رقم 7759). وهو عند الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 339 رقم 848).

وقال الجوهري: القناع: الطبق من عُسُب النخل، وكذلك القِنع. وفي "الدستور": هو طبق الفاكهة، وبالفارسية: طبق مِرِه. قوله: "بِعُلالة"، بضم العين المهملة أيّ ببقية لحم الشاة ويقال لبقية اللبن في الضرع، وبقية قوة الشيخ، وبقية جري الفرس: علالة، وقيل: عُلالة الشاة: ما يُتَعَلَّل به شيئًا بعد شيء، من العَلَل: الشرب بعد الشرب. قوله: "صَوْر" بفتح الصاد وسكون الواو، وهو النخل المجتمع الصغار، لا واحد له، ويجمع على صِيران. ويُستفادُ منه ما ذكره الطحاوي، وجواز العود إلى فضلة الطعام، وجواز ترك الوضوء مما مسَّته النار. ص: وقد يجوز أنْ يكون وضوءه - عليه السلام - لكل صلاة -على ما روى بُريْدة- كان ذلك على التماس الفضل لا على الوجوب. ش: أشار بهذا إلى أنَّ حديث بريدة لا تقوم به حجة لهؤلاء القوم للاحتمال المذكور، على ما ذكرناه في أول الباب. ص: فإنْ قيل: فهل في هذا من فضل فيلتمس؟ قيل له: نعم، قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبي غطيف الهذلي، قال: "صليتُ مع عبد الله بن عمر بن الخطاب الظهر، فانصرف في مجلس في داره، فانصرفت معه حتى إذا نُودي بالعصر دعى بوَضوء فتوضأ ثم خرج وخرجت معه، فصلى العصر، ثم رجع إلى مجلسه ورجعت معه حتى إذا نودي بالمغرب دعى بوضوء فتوضأ فقلت له: أيّ شيء هذا يا أبا عبد الرحمن، الوضوء عند كل صلاة؟! فقال: وقد فطنت لهذا مني؟ ليست سُنّة إنْ كان لكافيا وضوئي لصلاة الصبح وصلواتي كلها ما لم أُحدث، ولكني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من توضأ على طُهر كتب الله له بذلك عشر حسناتٍ، ففط ذلك رغبت يا ابن أخي".

فقد يجوز أنْ يكون رسول الله - عليه السلام - إنما فعل ذلك -[ما روى] (¬1) عنه بُريدةُ- لأصابة الفضل لا لأن ذلك كان واجبا عليه. ش: إيراد هذا السؤال على قوله: كان [يفعل] (¬2) ذلك طلبا للفضل. قوله: "فيلتمسُ" بالرفع أيّ فهو يلتمس؟ قوله: "حدثنا" بيان لما قاله من قوله المذكور. ويونس هو ابن عبد الأعلى، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي قاضيها، فيه مقال، روى له الأربعة. وأبو غُطَيْف -بضم الغين المعجمة وفتح الطاء المهملة- ويقال: غُضَيف، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): مختصرا وقال: ثنا عبدة بن سليمان، عن الأفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من توضأ على طهرٍ، كتب له عشر حسنات". وقال الترمذي (¬4): ورُوي في حديث عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - أنَّه قال: "من توضأ على طُهرٍ؛ كتب الله له عشر حسنات" وروى هذا الحديث الأفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - حدثنا بذلك الحسن بن حُريث المروزي، قال: ثنا محمَّد بن يزيد الواسطي، عن الأفريقي، وهو إسناد ضعيف. قوله: "دعى بوَضوء" بفتح الواو في الموضعين، وهو الماء الذي يتوضأ به. قوله: "يا أبا عبد الرحمن الوُضُوء" هذا بضم الواو. قوله: "وقد فَطِنْتَ" من الفطنة، وهو الفهم، تقول: فَطَنْتُ الشيء -بالفتح- ورجل فَطِن وفَطُن، وقد فَطِنَ -بالكسر- فطنة وفطانة وفطانية. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": يفعله، والصواب ما أثبتناه. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 16 رقم 53). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 87 رقم 59).

قوله: "إنْ كان لكافيا" إنْ هذه مخففة، من المثقلة، وأصله: إنه كان كافيا، أيّ: إنَّ الشأن كان وضوئي لكافيا، و"كافيا" خبر كان، مقدم على اسمه، وهو قوله: "وضوئي". فإنْ قلتَ: ما الحكمة في تنصيص هذا العدد بالعَشْر؟ قلتُ: قالوا: إنَّ هذا أمر شرعي لا مجال للعقل فيه، وسنح بخاطري من الأنوار الربانية في حكمة هذا العدد أنَّ بالوضوء الأول حصل له خمس حسنات باعتبار أنه يمكن أنْ يصلي به خمس صلوات ثم بالوضوء الثاني تضاعف الأجر فيصير عشر حسنات!! ص: وقد رُوي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أيضًا ما يدل على ما ذكرنا. حدثنا ابن مرزوق، قال ثنا وهب بن جرير، قال ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك قال: "أُتي رسول الله - عليه السلام - بوضوءٍ فتوضأ منه، فقلت لأنس: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء". فهذا أنسن - رضي الله عنه - قد علم حكم ما ذكرنا من فعل رسول الله - عليه السلام - ولم يُردِ ذلك فرضا على غيره. ش: أيّ قد روي عن أنس أيضًا ما يدل على ما ذكرنا من أنَّ النبي - عليه السلام - فعل ما رواه بريدة لإصابة الفضل لا لأنه كان واجبا، وقد علم أنس أنَّه النبي - عليه السلام - إنما كان يتوضأ عند كل صلاة لإصابة الفضل، وإلَّا لما كان وسعه ولا لغيره أنْ يخالفوه، وإسناد الحديث المذكور صحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي، قالا: نا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر الأنصاري، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ عند كل صلاة. قلت: وأنتم، ما كنتم ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 88 رقم 60).

تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نُحدِثْ" قال هذا حديث حسن صحيح. ص: وقد يجوز أيضًا أنْ يكون رسول الله - عليه السلام - كان يفعل ذلك وهو واجب ثم نسخ، فنظرنا في ذلك هل نجد شيئًا من الآثار يدل على هذا المعنى؟ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمَّد بن يحيى بن حَبَّان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: "أرأيت توضؤ ابن عمر لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّ ذلك؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب، أنَّ عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها، أنَّ رسول الله - عليه السلام - أُمِرَ بالوضوء لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أُمِرَ بالسِّواك لكل صلاة، وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يرى أنَّ به على ذلك قوة، وكان لا يدع الوضوء لكل صلاة. ففي هذا الحديث: أنَّ رسول الله - عليه السلام - كان أُمِرَ بالوضوء لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك، فثبت بما ذكرنا أنَّ الوضوء يجزئ ما لم يكن الحدث. ش: هذا جواب آخر عن حديث بريدة، أنَّه - عليه السلام - كان يتوضأ لكل صلاة وهو طاهر. قوله: "أنْ يكون" فاعل "يجوز" و"رسول الله - عليه السلام -" اسم "يكون". وقوله: "كان يفعل ذلك" خبره. وقوله: "وهو واجب" جملة حالية، وذلك إشارة إلى توضئه - عليه السلام - لكل صلاة، وإسناد الحديث المذكور جيد حسن. والوَهْبيّ هو أحمد بن خالد بن موسى الكندي، ونسبته إلى وهب والد عبد الله المصري. وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق.

ومحمد بن يحيى بن حَبّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن منقذ بن عمرو بن مالك الأنصاري. وأسماء ابنة زيد بن الخطاب أخت عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، من التابعيات. وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب واسمه عبد عمرو بن صيفي بن زيد بن أميّة الأنصاري، أبو عبد الرحمن المدني، له رؤية من النبي - عليه السلام - ويقال: توفي النبي - عليه السلام - وهو ابن سبع سنين. وروى له أبو داود هذا الحديث (¬1) فقط: عن محمَّد بن عوف الطائي، عن أحمد بن خالد، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه بسواء. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من طريق أبي داود. قوله: "أرأيت" معناه أَخْبِرْني. قوله: "طاهرا"، نصب على أنَّه خبر "كان" مقدما عليه. قوله: "أُمِرَ بالوضوء" على صفة المجهول، أيّ: أمره الله تعالى، وكذلك "أُمِرَ" الثاني. قوله: "فلما شق ذلك عليه" أيّ: لما ثقل التوضؤ لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر على النبي - عليه السلام - "أُمِرَ بالسواك" أيّ باستعماله؛ لأن نفس السواك لا يؤمر به. قوله: "يرى أنَّ به قوة" أيّ يظن أنَّ به طاقة يتحمل الوضوء لكل صلاة. قوله: "وكان لا يدع" أيّ: لا يترك، وهذا من الألفاظ التي أماتوا ماضيها، كذا قالوا، وليس بشيء؛ فإنه قرئ قوله: تعالى: {مَا وَدَّعَكَ} (¬3) بالتخفيف. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 12 رقم 48) وقد تقدم. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 37 رقم 157). (¬3) وهي قراءة ابن عباس وابن الزبير، انظر "تفسير القرطبي" لسورة الضحى (20/ 83).

ص: فإنْ قال قائل: معنى هذا الحديث إيجاب السواك لكل صلاة، فكيف لا توجبون ذلك وتعملون بكل الحديث إذْ كنتم قد عملتم ببعضه؟ قيل له: قد يجوز أنْ يكون النبي - عليه السلام - خُصَّ بالسواك لكل صلاة دون أمته، ويجوز أنْ يكون هو وجميع أمته في ذلك سواء، وليس يوصل إلى حقيقة ذلك إلَّا بالتوقيف، فاعتبرنا ذلك، هل نجد شيئًا يدلنا على شيء من ذلك؟ فإذا علي بن معبد قد حدثنا، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عمي عبد الرحمن ابن يسار، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كل صلاة". ش: تحرير السؤال: أنَّ حديث عبد الله بن حنظلة دَلَّ على إيجاب السواك لكل صلاة، لقوله: "أُمِرَ بالسواك" ومقتضى الأمر الوجوب، فإذا كان كذلك فلِمَ لا توجبون السواك؟ وَلِمَ لا تعملون بكل الحديث؟ تعملون بعضه وتتركون بعضه؟! قوله: "إذْ كنتم" أيّ "حين كنتم" ويصح أنْ تكون "إذ" للتعليل، كما في قوله: تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} (¬1). وتحرير الجواب من وجهين: أحدهما: أنَّه قد يجوز أنْ يكون النبي - عليه السلام - مخصوصا بالسِّواك لكل صلاة، ولا يكون ذلك لأمته، فلا يجب على غيره، فلا يمكن العمل بكل الحديث، والأصل فيه أنَّ فعل النبي - عليه السلام - إذا علمت صفته أنَّه فعله واجبا أو ندبا أو مباحا فإنه يتتبع فيه بتلك الصفة، وإنْ لم يعلم فإنه تثبت له صفة الإباحة، ثم لا يكون الاتباع فيه ثابتا إلَّا بقيام الدليل على كونه مخصوصا بصفته، وهذا هو المذهب الصحيح في أفعال النبي - عليه السلام -. فإنْ قلت: قد علمت هنا صفته أنَّه كان واجبا لقوله: "أُمِرَ بالسواك". ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، آية: [37].

قلت: قد يحتمل أنْ يكون ذلك الأمر خاصا به كما في الضحى ونحوه، ويحتمل أنْ يَعُمّ هو وأمته كما قال في الجواب الثاني بقوله: ويجوز أنْ يكون هو وجميع أمته في ذلك سواء، ولكن لهذين الاحتمالين يجب التوقيف حتى يقوم الدليل على ترجيح أحدهما، فاعتبرنا ذلك، فوجدنا حديث عليّ - رضي الله عنه - قد دلَّ على أنه ليس بواجب -على ما يجيء إنْ شاء الله تعالى-. وإسناد حديث عليّ حسنٌ، بل صحيح؛ لأن ابن إسحاق ثقة ولكنه مدلس، ولكن قد صرّح هنا بالتحديث. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه (¬1) وقال: حدثني عقبة بن مكرم الكوفي، نا يونس بن بُكير، نا محمَّد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة. وعن عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬2) ولفظه: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". قوله: "لولا" كلمة لربط امتناع الثانية لوجود الأولى، نحو: لولا زيد لأكرمتك، أيّ لولا زيد موجود، والمعنى ها هنا: لولا مخافة أنْ أشق لأمرتهم أمر إيجاب. وإلَّا لانعكس معناها إذ الممتنع: المشقة، والأمر موجود، وقد استدلت جماعة من الفقهاء على سُنية السواك بهذا الحديث، فإنْ قلتَ: كيف تثبت بهذا؟ قلتُ: لما امتنع الوجوب لوجود المشقة، ثبت ما دون الوجوب وهو السُّنَّة، لعدم المانع، وهو المشقة؛ لأنه بسبيل في ترك السُّنَّة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 80 رقم 607). (¬2) "المعجم الأوسط" (2/ 57 رقم 1238).

قوله: "بالسواك" أيّ باستعمال السواك؛ لأن نفس الخشبة التي تسمى سواكا ومِسْواكا أيضًا ليست بسنة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ لأمنِ اللبس، كما في قوله: "خير خلال الصائم السواك" (¬1)، أيّ استعماله. قال أبو زيد: السواك يجمع على سُوُك، ككِتَاب وكُتب، وسَوَّكَ فاه تَسْوِيكا، وإذا قلت: اسْتَاك أو تَسَوَّكَ لم تذكر الفم. وفي "النهاية" لابن الأثير: السِّواك بالكسر والمِسْواك: ما تدلك به الأسنان من العيدان، يقال: سَاكَ فاه يَسُوكَهُ إذا دلّكه بالسِّواك، فإذا لم تذكر الفم، قلت: أستاكَ. قوله: "عند كل صلاة" يشُعرُ بأنه مستحب عند كل صلاة، وما روي من حديث أبي هريرة الذي رواه الطحاوي عن مالك -على ما يأتي- يشعر بأنه مستحب [عند] (¬2) كل وضوء، وأكثر أصحابنا ذكروه عند الوضوء، كذا في "المحيط" و"شرح مختصر الكرخي" و"الطحاوي" و"التحفة" و"الغُنية" وقال صاحب "البدائع": ومن سنن الوضوء: السواك، ولكن المنقول عن أبي حنيفة على ما ذكره صاحب "المفيد" أنَّه من سنن الدين، فحينئذ تستوي فيه كل الأحوال، ولا سيما تتأكد سُنِّيَتَهُ عند تَغَيُّر الفم، وفي شرح الطحاوي: أنَّه سُنة، رطبا كان أو يابسا، مبلولا بالماء أو لا، في جميع الأوقات على أيّ حال كان. وقال أبو عمر: فضل السواك مجمع عليه، لا خلاف فيه، والصلاة عند الجميع به أفضل منها بغيره، حتى قال الأوزاعي: هو شطر الوضوء. ويتأكد طلبه عند إرادة الصلاة، وعند الوضوء، وقراعة القرآن، والاستيقاظ من النوم، وعند تغير الفم، ويستحب بين كل ركعتين من صلاة الليل، ويوم الجمعة، وقبل النوم، وبعد الوتر، وعند الأكل، وفي السحر. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1/ 536 رقم 1677)، والدارقطني في "سننه" (2/ 203 رقم 6) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "من خير خصال الصائم السواك". (¬2) ليست في "الأصل، ك".

وفي "المغني" لابن قدامة: قال أبو القاسم: السِّواك سُنة مستحبة عند كل صلاة، لا يعلم في هذا خلاف، غير ما حكي عن إسحاق وداود أنهما قالا بوجوبه استدلالا بالأمر به، وقول سائر أهل العلم أصح. وقال ابن حزم: هو سُنّة، ولو أمكن لكل صلاة لكان أفضل، وهو يوم الجمعة فرض لازم. وحكى أبو حامد الإسفرائيني والماوردي عن أهل الظاهر وجوبه، وهو غير جيِّد، الفهم إلَّا إذا أراد به يوم الجمعة، وعن إسحاق: أنه واجب، إنْ تركه عمدًا بطلت صلاته، وزعم النووي أنَّ هذا لم يصح عن إسحاق. ثم أصحابنا قالوا: الأولى أنْ يكون السواك من شجر مُرٍّ في غلظ الخنصر، وطول الشِّبر، وأنْ يستاك طولا وعرضا، وقد ورد في حديث أبي موسى (¬1) الاستياك طولا، وورد في حديث بَهْز (¬2)، وربيعة بن أكثم (¬3) وغيره الاستياك عرضا، وحديث عائشة - رضي الله عنها - "كان - عليه السلام - يستاكُ عرضا ولا يستاك طول" ذكره أبو نعيم (¬4). وفي "مراسيل أبي داود" (¬5): "إذا استكتم فاستاكوا عرضا". ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" بعد أن ذكر أحاديث الاستياك عرضًا: هذا إنما هو في الأسنان، أما في اللسان فيستاك طولًا كما في حديث أبي موسى في "الصحيحين"، ولفظ أحمد: "وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق"، قال الراوي: كأنه يستن طولًا. والحديث أخرجه البخاري (1/ 96 رقم 241) ومسلم (1/ 220 رقم 254). (¬2) أخرجه: الطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 47 رقم 1242) والبيهقي في "الكبرى" (1/ 41 رقم 172) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 440 رقم 1277)، وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 65): وفي إسناده ثبيت بن كثير وهو ضعيف، واليمان بن عدي وهو أضعف منه. (¬3) أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 229 رقم 1230)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 40 رقم 173) وقال العقيلي: لا يصح. وقال الحافظ في، "تلخيص الحبير" (1/ 65): وإسناده ضعيف جدًّا. (¬4) عزاه الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 65) لأبي نعيم في كتاب "السواك" من حديث عائشة، وقال: وفي إسناده عبد الله بن حكيم وهو متروك. (¬5) مراسيل أبي داود (1/ 74 رقم 5) من طريق عطاء بن أبي رباح.

وفي "المغني" لابن قدامة: ويستحب أن يجعل السواك أراكا أو عرجونا أو زيتونا أو عودا ينقي ولا يجرح ولا يتفتت، ولا يستاك بالرياحين ولا الرمّان ولا الأعواد الذكية؛ لأنه رُوي أنَّ السواك بعود الرياحين يحرك عرق الجذام، وقيل: السِّك بعود الرمّان يضر بلحم الفم، فإنْ استاك بإصبعه أو بخرقة لم يُصِبْ السُّنَّة، وقيل: يكون مصيبا. انتهى (¬1). وقال صاحب "الهداية": وعند فقده يُعالج بالإصبع. أيّ عند عدم السواك يزاول بالإصبع. وروى الطبراني في "الأوسط" (¬2): من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، قال: ثنا عبد الله بن يَسَار، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ثنا أصحاب محمَّد - عليه السلام -، عن نبي الله - عليه السلام - مثل ذلك. ش: إسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضره، ويحيى بن حماد بن أبي الزناد الشيباني، شيخ البخاري، وأبو عوانة الوضاح، وسليمان هو الأعمش، وعبد الله ابن يَسَار -بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة- الجهني، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عُبَيدة بن حميد، ثنا الأعمش، عن عبد الله بن يَسار، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بعض أصحاب النبي - عليه السلام - رفعه قال: "لولا أنْ أشق على أمتي لفرضت على أمتي السواك كما فرضت عليهم الطهور". ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 70) لكن بتصرف واختصار. (¬2) "المعجم الأوسط" (6/ 288 رقم 6437). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 156 رقم 1797).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن خلف الطُّفَاوي، قال: نا هشام ابن حسّان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثله. ش: عبد الله بن خلف ذكره في "الميزان" وقال: في حديثه وهم ونكارة. والطُّفَاوِي -بضم الطاء- نسبة إلى طُفاوة حيَّ من قيس غيلان. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا محمد بن صالح بن النطاح، ثنا أرطاة أبو حاتم، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وروى أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، نا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّ النبي - عليه السلام - قال: "عليكم بالسواك فإنه مَطيبة للفم، ومرضاة للربّ تبارك وتعالى". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: هذا حديث غريب ما كتبناه إلَّا عن ابن مرزوق. ش: أشار به إلى حديث ابن عمر هذا الذي رواه عن إبراهيم بن مرزوق، قال ابن منده: الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث سمي غريبا، وإذا روى عنهم رجلان أو ثلاثة واشتركوا في حديث سمي عزيزا، وإذا روى الجماعة عنهم حديثا سمي مشهورا. وقال ابن الصلاح: الحديث الذي ينفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب، وكذلك الحديث الذي ينفرد به بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره، إما في متنه وإما في إسناده، ثم إنَّ الغريب ينقسم إلى صحيح؛ كالأفراد المخرجة في "الصحيح"، وإلى غير صحيح وذلك هو الغالب على الغرائب. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 375 رقم 13389). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 108 رقم 5865).

وينقسم الغريب أيضًا من وجه آخر، فمنه ما هو غريب متنا وإسنادا، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راوٍ واحد، ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا؛ كالحديث متنه معروف مروي عن جماعة من الصحابة إذا انفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر كان غريبا من ذلك الوجه، مع أنَّ متنه غير غريب، ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، وهذا الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه، ولا أرى هذا النوع ينعكس فلا يُوجد إذن ما هو غريب مَتْنا وليْس غريبًا إسنادا، إلَّا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرّد به فرواه عنه عددٌ كثيرون، فإنه يصير غريبا مشهورا، وغريبا متنا وغير غريب إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد فإنّ إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث: "إنما الأعمال بالنيّات" (¬1) وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة، ومُراد الطحاوي ها هنا تفرّد عبد الله بن خلف الطُفاوي، عن هشام بن حسّان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وغيره يروي عن هشام عن عبيد الله، عن نافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن محمد بن [إبراهيم بن] (¬2) الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زيد بن خالد، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذا إسناد لا بأس به؛ لأن محمد بن إسحاق مدلِّس، ولم يصرّح بالتحديث إلَّا أنَّ الترمذي صححه كما يجيء الآن، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صدر "صحيحه" (1/ 3 رقم 1) ومسلم (3/ 1515 رقم 1907) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال الحافظ في "الفتح": قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودًا؛ لكونه فردًا، فإنه لا يروى عن عمر إلَّا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلَّا من رواية محمَّد بن إبراهيم، ولا عن محمَّد بن إبراهيم إلَّا من رواية يحيى بن سعيد ... إلخ. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" ومصادر التخريج.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى بن يونس، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زيد بن خالد الجُهني، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لولا أنْ أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وأخرجه الترمذي (¬2): عن هنّاد، عن عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه، وزاد: "ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل. قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم لصلاة إلَّا استنّ، ثم يردّه إلى موضعه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم أيضًا وصحّحه (¬3). ص: حدثنا عليّ، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني سَعيد المَقْبري، عن عطاء مولى أم صُبَيَّة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: إسناده صحيح؛ صرَّح ابن إسحاق بالتحديث، وعطاء مولى أم صُبَيَّة وثقه ابن حبان. والحديث أخرجه الجماعة بأسانيد مختلفة على ما نذكرها. وبهذا الإسناد أخرجه البيهقي (¬4): وقال: أنا أبو طاهر، أنا أبو حامد، نا محمَّد ابن يحيى، أنا أحمد بن خالد، نا محمَّد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عطاء مولى أم صُبَيَّة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لولا أني أكره أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 12 رقم 47). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 35 رقم 23). (¬3) لم أجده عند الحاكم من حديث زيد بن خالد، وإنما أخرج نحوه (1/ 245 رقم 516) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 36 رقم 148).

ص: حدثنا يونس وابن أبي عقيل، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لولا أنْ يُشَقُّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وابن أبي عقيل عبد الغني. وأخرجه البيهقي (¬1): عن أبي الحسن محمَّد بن الحسين بن داود العلوي، عن أبي النضر محمَّد بن محمَّد بن يوسف الفقيه، عن الحارث بن أبي أسامة، عن إسماعيل ابن أبي أويس، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد ... إلى آخره نحوه. ثم قال: وهكذا رواه الشافعي في رواية حرملة مرفوعا، وهو في الوطأ بهذا الإسناد موقوف دون ذكر الوضوء. وقال أبو عمر في "التمهيد" (¬2): مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة أنه قال: "لولا أنْ يَشُقَّ على أمته لأمرهم بالسِّواك مع كل وضوء" وهذا مُدْخل في المسند عند جميعهم لاتصاله من غير ما وجهٍ، وبهذا اللفظ رواه أكثر الرواة عن مالك، وممّن رواه كذلك كما رواه يحيى: أبو المصعب، وابن بُكير، والقعنبي، وابن القاسم، وابن وهب، وابن [نافع] (¬3) ورواه معن بن عيسى، وأيوب بن صالح، وعبد الرحمن بن مهدي، وحوثرة، وأبو قرة موسى بن طارق، وإسماعيل بن أبي أويس، ومطرف بن عبد الله اليَساري الأصم، وبشر بن عمر، ورَوْحُ [بن] (¬4) عبادة، وسعيد بن عُفَير، عن مالك. وسحنُون، عن ابن القاسم، عن مالك بإسناده، أنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "لولا أنْ يشُقُّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك مع كل وضوء". وبعضهم يقول: "مع كل صلاة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 35 رقم 144). (¬2) التمهيد (7/ 194). (¬3) في "الأصل، ك": قانع، وهو تحريف، وما أثبتناه من "التمهيد"، وابن نافع هو عبد الله بن نافع الصائغ صاحب مالك. وهو من رجال التهذيب. (¬4) سقط من "الأصل، ك"، والصواب إثباته كما في "التمهيد".

قوله: "مع كل صلاة" أيّ عند كل صلاة، وكلمة "مع" أصلها للمصاحبة، وتجيء بمعنى عند، وهو معناها. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال ثنا بشر بن عمر، قال ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وقد اختلفت الرواية كما تراها، ففي الأولى: "مع كل صلاة"، وها هنا: "مع كل وضوء". ص: حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لولا أنْ أشق على أمتي. لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ش: إسناده صحيح، وأنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، ومحمد ابن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، أبو عبد الله المدني، روى له الجماعة -البخاري مقرونا بغيره ومسلم في المتابعات- وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن. وأخرجه الترمذي (¬1): عن أبي كريب، عن عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة ... إلى آخره نحوه. وقال: وحديث أبي هريرة إنما صح؛ لأنه روي من غير وجه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان آخران صحيحان: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 34 رقم 22).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن يحيى، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لولا أنْ أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك مع الوضوء، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل -أو شطر الليل-". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفريابي، قال: ثنا ابن عُيَيْنة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، يرفعه مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، والفريابي محمَّد بن يوسف، وابن عُيينة هو سفيان، وأبو الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز. وأخرجه أبو داود (¬3): عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، يرفعه قال: "لولا أنْ أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة". وأخرجه مسلم (¬4): عن قتيبة وعمرو (بن) (¬5) الناقد وزهير بن حرب، كلهم عن سفيان ... إلى آخره نحوه، قال: وفي حديث زهير: "على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 105 رقم 287). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 250 رقم 7406). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 12 رقم 46). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 220 رقم 252). (¬5) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "صحيح مسلم".

وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. والنسائي (¬2): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك ... إلى آخره. قوله: "يرفعه" أيّ يرفع أبو هريرة هذا الحديث إلى رسول الله - عليه السلام - وهذه جملة فعلية وقعت حالًا، وفعلها مضارع مُثْبت، لا يحتاج إلى الواو. وقال الخطيب: قول التابعي: يرفع الحديث، ويُنْميه، ويبلغ به، كلها كناية عن رفع الصحابي للحديث، وروايته إياه عن رسول الله - عليه السلام - ولا يختلف أهل العلم أنَّ الحكم في هذه الأخبار وفيما صرّح برفعه سواء، في وجوب القبول والتزام العمل. ثم اعلم أنَّ الطحاوي أخرج حديث السواك عن ستة من الصحابة، وهم: عبد الله بن حنظلة، وعلي بن أبي طالب، وبعض أصحاب النبي - عليه السلام -، وعبد الله بن عمر، وزيد بن خالد، وأبو هريرة - رضي الله عنه -. وفي الباب عن أبي بكر الصديق، وابن عباس، وحذيفة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وواثلة بن الأسقع، وأبي موسى، وعامر بن ربيعة، وبهز، وربيعة بن أكثم، ومليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده، وسليمان بن صُرَد بن الجَوْن، وسَهل بن سَعْد، وجَابرٍ، وعبد الله بن الزبير، ومُحْرِزٍ، وأسامة، وكَثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وأبي سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، وأبي خَيْرة الصُّبَاحِي، والعباس بن عبد المطلب، وشيخ من الأنصار، وعمَّار بن ياسر، وجبير بن مُطعم، وَوَضِين، وعبد الله بن جَراد، وعبد الله بن عمرو بن حَلْحَلة، ورافع بن خَديج، وعبد الله بن مسعود، وسعيد وعامِر بن واثلة، وأبي أمامة، وأبي أيوب، وتمام بن عباس، وجعفر بن أبي طالب، وعائشة، وأم حبيبة، وزينبْ بنت جحْش، وأم سلمة - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 303 رقم 847). (¬2) "المجتبى" (1/ 12 رقم 7).

فحديث أبي بكر - رضي الله عنه - عند أحمد (¬1): عن أبي كامل، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنَّ النبي - عليه السلام - قال: "السِّواك مَطهرة للفم مرضاة للرب". وحديث ابن عباس عند ابن ماجه (¬2): عن سفيان، عن وكيع، عن عثام بن علي، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بالليل ركعتن ركعتين، ثم ينصرف فيستاك". وحديث حذيفة: عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن هُشيم، عن حُصين، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان، قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام فتهجد، يشوص فاه بالسواك". وأخرجه البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، وأبو داود (¬6)، والنسائي (¬7). وحديث أنس بن مالك: عند البخاري (¬8): عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس قال: قال رسول الله - عليه السلام - صلى الله عليه وسلم -: "أكثرت عليكم في السواك". وأخرجه النسائي (¬9) أيضًا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 3 رقم 7). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 106 رقم 288). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 155 رقم 1783). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 382 رقم 1085). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 220 رقم 255). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 62 رقم 55). (¬7) "المجتبى" (1/ 8 رقم 2). (¬8) "صحيح البخاري" (1/ 33 رقم 848). (¬9) "المجتبى" (1/ 11 رقم 6).

وحديث عبد الله بن عمرو: عند أبي نعيم من حديث إبراهيم بن سليمان بن هشام الإفريقي، عن معاوية بن صالح، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عبد الله بن عَمرو، أنَّ رسول الله - عليه السلام -[قال] (¬1): "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وحديث واثلة بن الأسقع: عند الطبراني في "الكبير" (¬2): عن أبي خليفة، عن علي بن المديني، عن إسماعيل بن إبراهيم وجرير، عن ليث، عن أبي بريدة، عن أبي المليح، عن واثلة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لقد أُمِرْتُ بالسواك حتى لقد خشيت أنْ يُكتب عليّ". وأخرجه أحمد أيضًا (¬3). وحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: عند البخاري (¬4): بإسناده إليه قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فوجدته يستنّ بسواك بيده يقول: أُعْ أُعْ، والسواك في فِيه كأنه يتهوّع". وأخرجه مسلم (¬5)، وأبو داود (¬6)، والنسائى (¬7): بألفاظ مختلفة. وحديث عامر بن ربيعة: عند الطبراني (¬8): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، وعن علي بن عبد العزيز، عن أبي نُعيم، وعن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (22/ 76 رقم 190). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 490 رقم 16050). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 96 رقم 241). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 220 رقم 254). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 13 رقم 49). (¬7) "المجتبى" (1/ 9 رقم 3). (¬8) في الجزء المفقود، والحديث عند أبي داود (2/ 307 رقم 2364)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 294 رقم 9148)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4/ 199 رقم 7479) وغيرهم. وذكره البخاري تعليقًا (2/ 682).

سفيان، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يَسْتاك وهو صائم ما لا أُحْصِي". وحديث بَهْز: عند الطبراني (¬1): أيضًا بإسناده إليه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يستاك عرضا". وحديث ربيعة بن أكثم: عند البيهقي في "سننه" (¬2): بإسناده إليه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يَسْتاك عرضا ويَشْرَبُ مَصّا ويقى: هو أهنأ وأمرأ". وحديث مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده عند البزار في "مسند" (¬3): بإسناده إلى مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "خمس من سنن المرسلين: الحياء والعلم والحماسة والسواك والتعطر". وحديث سليمان بن صُرَد: عند الطبراني في "الأوسط" (¬4): بإسناده إليه يرفعه: "استاكواو نظفوا ... ". وحديث سهل بن سعد عنده أيضًا في "الكبير" (¬5) و"الأوسط" (¬6) بإسناده إليه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أمرني جبريل - رضي الله عنه - بالسواك حتى ظننتُ أني سأدْرَد". قلت: هو من دَرِدَ الرجل: إذا سقطت أسنَانُه، فهو أَدْرَدُ. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 47 رقم 1242). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 40 رقم 173). (¬3) ذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 99) وقال: رواه البزار، ومليح وأبوه وجده لم أجد من ترجمهم. وذكره الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" (1/ 257 رقم 369). وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 233 رقم 2208). وأخرجه الطبراني أيضًا في "الكبير" (22/ 293 رقم 749). (¬4) "المعجم الأوسط" (7/ 259 رقم 7442). (¬5) "المعجم الكبير" (6/ 205 رقم 6018). (¬6) "المعجم الأوسط" (2/ 316 رقم 2087).

وحديث جابر: عند البيهقي في سننه (¬1): من حديث سفيان، عن ابن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر قال: "كان السواك من أذن النبي - عليه السلام - موضع القلم من [أذن] (¬2) الكاتب". وحديث عبد الله بن الزبير: عند ابن أبي شيبة (¬3): بإسناده إليه عن النبي - عليه السلام - قال: "لولا أنْ أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وحديث محرز -غير منسوب-: عند ابن منده وأبي نُعَيْم (¬4) بإسنادهما عن عكرمة قال: "جاءني محرز ذات ليلة عشاء، فدعونا له بعَشاء، فقال محرز: هل عندكم سواك؟ فقلنا: ما تصنع به هذه الساعة؟! فقال: إنَّ رسول الله - عليه السلام - ما نامَ ليلة حتى (تسوّك) (¬5) ". وحديث أسامة: عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬6): بإسناده إلى أبي عتيق، عن جابر قال: "كان يَسْتَاكُ إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل، وإذا خرج إلى الصبح، قال: فقلت له: قد شقَقْتَ على نفسك بهذا السواك. فقال: إنَّ أسامة أخبرني، أنَّ رسول الله - عليه السلام - كان يستاك هذا السواك". وحديث كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده: عند الطبراني في "الأوسط" (¬7): بإسناده إلى كثير بن عبد الله بن عَمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " (تجري الأصابع) (¬8) مجرى السواك إذا لم يكن سواك". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 37 رقم 156). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 156 رقم 1795). (¬4) "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (5/ 2592 رقم 6247). (¬5) في "معرفة الصحابة": "يستن". (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 155 رقم 1788). (¬7) "المعجم الأوسط" (6/ 288 رقم 6437). (¬8) في "المعجم الأوسط": الأصابع تجري.

وحديث أبي سعيد الخدري: عند أحمد في "مسنده" (¬1): بإسناده إلى عبد الرحمن ابن سعيد، عن أبيه، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك وأنْ يمس من الطيب ما يقدر عليه". وحديث معاذ بن جبل: عند الطبراني في "الأوسط" (¬2): بإسناده إليه قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "نعم السواك الزيتون؛ من شجرة مباركة، يطيب الفم ويُذهب بالحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي". وحديث أبي خَيْرةَ الصُّباحي: عند الطبراني أيضًا في "الكبير" (¬3): بإسناده إليه قال: "كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - عليه السلام -[من عبد قيس] (¬4) فزوَّدنا بالأراك نستاكُ به ... " الحديث. وحديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: عند البزار (¬5) بإسناده إليه قال: "كانوا يدخلون على رسول الله - عليه السلام - ولم يَسْتاكوا، فقال: تدخلون عليَّ قلحا؟! استاكوا فلولا أنْ أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء". وأخرجه الطبراني (¬6) وأبو يعلى (¬7). قلت: القُلْح -بضم القاف وسكون اللام- جمع أقلح، من قَلِح الرجل -بالكسر قَلَحا- بالتحريك- وهو صفرة في الأسنان. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 30 رقم 11268)، و (3/ 69 رقم 11677). (¬2) "المعجم الأوسط" (1/ 210 رقم 678). (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 368 رقم 924). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير" للطبراني. (¬5) "مسند البزار" (4/ 129 رقم 1302). (¬6) "المعجم الكبير" (2/ 64 رقم 1301). (¬7) "مسند أبي يعلى" (12/ 71 رقم 6710).

وحديث شيخ من الأنصار: عند أحمد في "مسنده" (¬1): نا وكيع، عن سفيان، عن سَعد بن إبراهيم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن شيخ من الأنصار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق على كل مسلم: الغسل، والطيب، والسواك، يوم الجمعة". وحديث عمار بن ياسر: عند أحمد (¬2)، وأبي داود (¬3)، وابن ماجه (¬4): في خصال الفطرة أنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "من الفطرة -أو الفطرة-: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك ... " الحديث. وحديث جبير بن مطعم: عند ثابت بن أبي ثابت السَّرَقُسْطي في كتاب "الدلائل" له: ثنا موسى بن هارون، ثنا محمَّد بن الصباح، ثنا سفيان بن عُيينة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أُمِرْتُ بالسِّواك حتى خشيتُ أنْ يُدَردِرني" وأبو الحويرث ضعيف، والدَرْدرة: ذهاب الأسنان. وحديث وَضين: عند أبي مسلم اللَيثي في "سننه": عن عبد العزيز بن خطاب، عن مندل، عن أبي رجاء، عن وضين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طيِّبوا أفواهكم؛ فإنّ أفواهكم طريق القرآن" (¬5). وحديث عبد الله بن جراد: عند أبي نُعَيم: عن يَعلى بن الأشدق، عن عبد الله ابن جراد، عن النبي - عليه السلام - قال: "السِّواكُ من الفطرة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 363 رقم 23126). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 264 رقم 18353). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 14 رقم 54). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 107 رقم 294). (¬5) وأخرجه البيهقي في "الشعب" (2/ 382 رقم 2119) من حديث سمرة بن جندب بسند ضعيف.

حديث عبد اللهَ بن عمرو بن حلحلة، ورافع بن خديج: عند أبي نعيم (¬1): أيضًا من حديث القاسم بن مالك المزني، نا محمَّد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن صهيب قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن حلحلة ورافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السِّواك واجب، وغسل الجمعة واجب على كل مسلم". وحديث عبد اللهَ بن مسعود: عند أبي يعلى الموصلي (¬2): من حديث زِرٍّ عنه: "كنت أجتني لرسول الله - عليه السلام - سواكا من أراك ... " ورواه أحمد (¬3) أيضًا. وحديث سعيد وعامر بن واثلة: عند أبي نعيم: أخرجه عن العاص أبي أحمد محمَّد بن أحمد بن إبراهيم، عن علي بن الحسن العجلي، عن محمَّد بن طريف، عن محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد وعامر بن واثلة يرفعانه عن النبي - عليه السلام - قال: "لقد أمرت بالسواك حتى خشيت على فمي". وحديث أبي أمامة: عند ابن ماجه (¬4): عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، أنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "تسوكوا؛ فإنّ السواك مَطهرة للفم، مرضاة للربّ، ما جاءني جبريل - عليه السلام - إلَّا أوصاني بالسواك ولقد خشيت أنْ يفرض على أمتي، ولولا أني أخاف أنْ أشق على أمتي لفرضته عليهم، وإني لأستاك حتى إني لقد خشيت أنْ أحفي مقادم فمي". وحديث أبي أيوب: عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): ثنا يزيد بن هارون، عن حجاج، عن مكحول، قال: قال أبو أيوب: قال رسول الله - عليه السلام -: "أربع من سنن المرسلين: التعطر، والنكاح، والسواك، والحِنّاء". ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 68): رواه أبو نعيم، وإسناده واهٍ. (¬2) "مسند أبي يعلى" (9/ 209 رقم 5310). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 420 رقم 3991). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 106 رقم 289). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 156 رقم 1802).

وحديث تمام بن العباس: عند البزار (¬1): بسند جيد عن تمام بن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ما لي أراكم تدخلون عليّ قلحًا؟! استاكوا". وأعلّه ابن القطان بأبي علي الصَّيْقل في إسناده وليس بجيد؛ لعرفان حاله. وحديث جعفر بن أبي طالب: عند محمَّد في "آثاره" (¬2) وقال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثني أبوعلي، عن تمام، عن جعفر بن أبي طالب، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "ما لي أراكم تدخلون عليَّ قلحًا؛ استاكوا، ولولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يستاكوا عند كل صلاة". وأخرجه الدارقطني في "الغرائب". وحديث عائشة - رضي الله عنها -: عند مسلم (¬3): نا أبو كريب محمَّد بن العلاء، ثنا ابن بشر، عن مسْعر، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: "سألت عائشة، قلت: بأيّ شيء كان يبدأ النبي - عليه السلام - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك". وأخرج أبو يعلى في "مسنده" (¬4): بإسناد صحيح، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "السواك مطهرة للفم مرضاة للربّ". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (4/ 130 رقم 1302) من طريق أبي علي الصيقل، عن جعفر بن تمام، عن أبيه، عن جده العباس. ثم قال البزار: ولا نعلم يروى هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا عن العباس عنه بهذا الإسناد، وقد روى تمام بن العباس عن أبيه حديثًا آخر. ورواه أبو يعلى مثله (12/ 71 رقم 6710). والحديث أخرجه البيهقي في "الكبرى" (1/ 36 رقم 150) من طريق أبي علي الصَّيْقل، عن ابن تمام، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر طرقه. وهو عند ابن قانع في "معجم الصحابة" (1/ 114). وأخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 214 رقم 1835) من طريق أبي علي الزراد، عن جعفر بن تمام بن عباس، عن أبيه مرفوعًا، وذكره العلائي في "المراسيل" (1/ 151 رقم 71). وانظر تاريخ البخاري "الكبير" (2/ 157 رقم 2044)، و"تلخيص الحبير" (1/ 69). (¬2) كتاب "الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 54 رقم 40). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 220 رقم 253). (¬4) "مسند أبي يعلى" (8/ 73 رقم 4598).

وأخرج البزار في "مسنده": عنها -بإسناد فيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف- عن النبي - عليه السلام - قال: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وحديث أم حبيبة: عند أحمد في "مسنده" (¬1): عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثني محمَّد [بن]، (¬2) طلحة بن يزيد بن ركانة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبي الجراح مولى أم حبيبة، عن أم حبيبة أنها حدثته، قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وأخرجه أبو يعلى (¬3) أيضًا. وحديث زينب بنت جحش: عند أحمد (¬4): أيضًا بإسناد جيد، من رواية أبي الجراح مولى، أم حبيبة، عنها، عن زينب بنت جحش [قالت] (¬5) سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون". وحديث أم سلمة: عند الطبراني في "الكبير" (¬6): بإسناده إليها أنها قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "ما زال جبريل - عليه السلام - يُوصّيني بالسواك حتى خفت على أضراسي". ص: فثبت بقوله: - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أنَّه لم يأمرهم بذلك، وأنَّ ذلك ليس عليهم، وأَنَّ ارتفاع ذلك عنهم وهو المجعول بدلا من الوضوء لكل صلاة؛ دليل على أنَّ الوضوء لكل صلاة لم يكن عليهم، ولا أُمِروا به، وأنَّ المأمور به النبي - عليه السلام - دونهم، وأنَّ حكمه كان في ذلك غير ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 325 رقم 26806). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) "مسند أبي يعلى" (13/ 48 رقم 7127). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 428 رقم 27355). (¬5) في "الأصل، ك": قال، وهو خطأ، والمثبت من "المسند". (¬6) "المعجم الكبير" (23/ 251 رقم 510).

حكمهم، فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار وقد ثبت بذلك ارتفاع وجوب الوضوء لكل صلاة. ش: وجه ثبوت عدم أمره - عليه السلام - إياهم بالسواك ظاهر من ظاهر الحديث، وفي ارتفاع السواك عنهم والحال أنَّه كان بدلا من الوضوء لكل صلاة كما في حديث عبد الله بن حنظلة المذكورة دليل على أنَّ الوضوء لكل صلاة لم يكن واجبا عليهم، ولا أنهم أمروا بذلك بل المأمور به هو النبي - عليه السلام - فإذا كان كذلك يثبت ارتفاع وجوب الوضوء لكل صلاة. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الوضوء طهارة من حدث، فأردنا أنْ ننظر في الطهارات من الأحداث كيف حكمها؟ وما الذي يَنْقُضُها؟ وجدنا الطهارات التي توجبها أحداثُ على ضربين: فمنها الغسل، ومنها الوضوء، فكان من جَامَع أو أَجْنَبَ وجبَ عليه الغسل، وكان من بالَ أو تغوَّطَ وجبَ عليه الوضوء، فكان الغسلُ الواجبُ بما ذكرنا، لا تنقضه مرور الأوقات ولا تنقضه إلَّا الأحداث، فلما ثبت أنَّ حكم الطهارة من الجماع والاحتلام كما ذكرنا، كان في النظر أيضًا أنْ يكون [حكم] (¬1) الطهارات من سائر الأحداث كذلك وأنه لا ينقض ذلك مرور الوقت، كما لا ينقض الغسل مرور وقت. ش: ملخصه على وجه التحرير: أنَّ الطهارة من الأحداث على نوعين: طهارة يرى وهو الغسل، وطهارة صغرى وهو الوضوء، فالموجب في الأولى: خروج المني على وجه الدفق، والشهوة، والتقاء الختانين، وفي الثانية: البول والغائط ونحوه. ثم إنه إذا تطهر في الأولى، لا ترتفع طهارته تلك بمرور الأزمان، إلَّا إذا وُجِدَ الحدث، فكذلك في القياس، ينبغي أنْ يكون في الصغرى كذلك، بألَّا ترتفع بمرور الأزمان إلَّا بالحدث؛ قياسا على الكبرى؛ لأنها أختها ونظيرتها فافهم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: وحجة أخرى: أنّا رأيناهم أجمعوا أنَّ المسافر يُصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يُحدث، وإنما اختلفوا في الحاضر، فوجَدْنا الأحداث من الجماع والاحتلام والغائط والبول وكل ما إذا كان من الحاضر كان حدثًا يوجب به عليه طهارة، فإنه إذا كان من المسافر كان كذلك أيضًا، ووجب عليه من الطهارة ما يجب عليه لو كان حاضرا، رأينا طهارة أخرى يَنقضها خروجُ وقتٍ، وهي المسح على الخفين، فكان الحاضرُ والمسافر في ذلك سواء، ينقضُ طهارتَها خروج وقت ما، وإنْ كان ذلك الوقت في نفسه مختلفا في الحضر والسفر، فلما ثبت أنَّ ما ذكرنا كذلك، وأنَّ ما ينقض طهارة الحاضر من ذلك ينقض طهارة المسافر، وكان خروج الوقت عن المسافر لا ينقض طهارته؛ كان خروجه عن المقيم أيضًا كذلك؛ قياسا ونظرا على ما بَيَّنَّا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: لما ادعت أهل المقالة الأولى وجوب الوضوء لكل صلاة على الحاضرين دون المسافرين، أشار بهذه الحجة إلى بطلان هذا الفرق بالوجه الذي يقتضيه النظر والقياس، تحريره: أنَّ الكل متفقون على أنَّ المسافر يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يُحدث، واختلافهم في الحاضر، ومتفقون على أنَّ كل ما هو حدث في حق الحاضر مما يُوجب عليه الطهارة؛ فإنه في حق المسافر كذلك، ومتفقون أنَّ المسح على الخفين طهارة ينقضها خروج الوقت، يعني تمام المدة، وإنْ كانت المدة في نفسها مختلفة، فإذا ثبت هذا وثبت أنَّ ما ينقض طهارة الحاضر ينقض طهارة المسافر، وكان خروج وقت الصلاة عن المسافرلا ينقض طهارته؛ حتى لم يكن يحتاج إلى الوضوء إلَّا بالحدث، كان خروجه عن المقيم كذلك لا ينقض طهارته ما لم يحدث؛ قياسا عليه ونظرا. قوله: "فوجدنا الأحداث من الجماع" أيّ الأحداث الحاصلة من الجماع ... إلى آخره. قوله: "وكلُّ ما إذا كان من الحاضرِ" بالرفع مبتدأ، وخبره: قوله: "فإنه إذا كان من المسافر" ودخلت الفاء لتُضَّمِّن المبتدأ معنى الشرط.

قوله: "خروج وقت ما" أيّ وقت من الأوقات، و"ما" ها هنا نكرة وقعت صفة لوقت. قوله: "وإنْ كان ذلك الوقت في نفسه مختلفا في الحضر والسفر" لأنه في حق المقيم يوم وليلة، وفي حق المسافر ثلاثة أيام ولياليها. ص: وقد قال بذلك جماعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك: "أنَّ أصحاب أبي موسى الأشعري توضئوا وصلوا الظهر، فلما حضر العصر قاموا ليتوضئوا، فقال لهم: ما لكم، أحدَثتم؟ فقالوا: لا. قال: الوضوء من غير حدث؟ ليوشك أنْ يَقْتُل الرجل أباه، وأخاه، وعمه، وابن عمه، وهو يتوضأ من غير حدث". ش: أيّ قال بعدَمِ وُجُوب الوضوء لكل صلاة من غير حدث جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - فمن ذلك ما روي عن أبي موسى الأشعري، واسمُه: عبد الله بن قيس، أخرجه الطحاوي عن محمَّد بن خزيمة بإسناد صحيحٍ على شَرْط مسلمٍ. وحجاجُ هو ابن المنهال، وحمادٌ هو ابن سلمة وأبو عمران اسمُه عبد الملك بن حبيب البصري، روى له الجماعة، والجَوْني نسبة إلى جَوْن -بفتح الجميع، وسكون الواو، وفي آخره نون- أحد الأجداد. قوله: "ما لكم" استفهام على سبيل الإنكار، أيّ: ما لكم، أو ما أصابكم، فكأنه أنكر عليهم وضوءهم ذلك. قوله: "أحدثتم" أصله أأحدثتم بهمزة الاستفهام. قوله: "الوضوءُ من غير حدثٍ" ارتفاع الوضوء بالابتداء، وخبره "من غير حدث" ومتعلقه محذوف، أيّ: الوضوء يفعل من غير حدث؟ وتكون الجملة في موضع الاستفهام على سبيل الإنكار، ويجوز أنْ يكون ارتفاعه بالفعل المحذوف، أيّ: هل يفعل الوضوء من غير حدث؟!

ويجوز أنْ يكون منصوبا على تقدير: هل تفعلون الوضوءَ، أو تتوضئون الوضوءَ من غير حدث؟! فأنكر عليهم ذلك ونسبهم إلى الجهل، ثم بالغَ في إنكاره بقوله: "ليوشك ... " إلى آخره. فقوله: "ليُوشِك" بكسر الشين، وفتحها لغة عَاميّة، وهو من أفعال المقاربة. قال الجوهري: أوشك فلان، يُوشِك إيشاكا، أيّ أسْرع، ومنه قولهم: يوشك أنْ يكون كذا، وفي "المطالع": حكى بعضهم: وَشُك - بضم الشين أيّ أسْرع- وَشْكا وَوَشْكَانا بتثليث الواو فيهما، وأنكر الأصمعي أَوْشَكَ. وخبرها فعل مضارع مقرون بـ"أنْ" غالبا، كعَسَى، وقد يجيء مجردا من "أنْ" كما فيما روى ابن ماجه في "سننه" (¬1): أنَّ رسول الله قال: "يُوشك الرجل متكئا على أريكته (يأتيه الأمر من أمري) (¬2) ... " الحديث. وقد عُلم أنَّ أحد استعمالي "عسى" أنْ يُذكر لها مرفوع فقط، فيستغني عن الخبر لاستعمال الإسم على المنسوب والمنسوب إليه، فكذلك "يوشك" ها هنا ذكر لها مرفوع فقط، وهو قوله: "أنْ يقتل الرجل أباه" كما تقول "عسى أنْ يخرج زيد" و"أنْ" مصدرية، والتقدير: قَرُب قتل الرجل أباه من الجهل، وهو يتوضأ من غير حدث، وهذه الجملة حال، أيّ حال كونه متوضئا من غير حدث، وهذه مبالغة عظيمة في غاية الإنكار، حتى جعل التوضؤ من غير حدث كقتل الوالد والأخ من الجهل، فإنْ قلت: هذا الإنكار العظيم يدل على أنَّ الوضوء من غير حدث ذنب عظيم؟ قلت: إنكار أبي موسى - رضي الله عنه - إنما كان لأجل فعلهم بالجهل، واعتقادهم أنَّ بوضوء واحد لا تجوز إلا صلاة واحدة، والدليل على ذلك ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن مَعمر، عن قتادة، عن يونس بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 6 رقم 12). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجة": "يُحدَّث بحديث من حديثي". (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 55 رقم 159).

جُبَير أبي غلّاب، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، قال: "كنا مع أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في جيش على ساحل دجلة، إذ حضرت الصلاة، فنادى مناديه للظهر، فقام الناس إلى الوضوء، فتوضأ ثم صلى بهم، ثم جلسوا حِلَقا، فلما حضرت العصر نادى منادي العصر، فَهَبَّ الناسُ للوضوء أيضًا، فأمَر منادِيه: ألا لا وضوء إلَّا على مَنْ أَحْدَث، قال: أوْشك العلم أنْ يذهبَ، ويَظهر الجهل، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل". انتهى. فهذا صريح على أنَّ إنكاره إنما كان على فعلهم بالجهل، فلذلك أكد كلامه في الإنكار باللام، وتشبيه حال من يتوضأ من غير حدث بالجهل؛ بحال مَن يقتل أباه أو أخاه بالجهل، ثم إنه خص الأب والأخ والعم وابن العم، ولم يُشبّه بقتل النفس مطلقا بالجهل، وإنْ كان القتل بالجهل كله حراما؛ زيادة للمبالغة أيضًا؛ لأن قتل هؤلاء أعظم في النفس من قتل غيرهم، مع حرمان الإرث، ومن الدليل على ما قلنا أيضًا: ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: "الوضوء من غير حدثٍ اعتداء". أيّ ظلم، إذا كان عن جهل مثل ما ذكرنا، وإلَّا فالوضوء على الوضوء نور على نور، وقد ذكرنا ما رواه الطحاوي والترمذي من حديث عبد الله بن عمر "من توضأ على طهر؛ كتب الله له بذلك عشر حسنات" (¬2). ولكن ذكروا أنَّ هذا الثواب إنما يحصل إذا فصل بين الوضوءين بصلاة، أيّ صلاة كانت؛ لأنه لم ينقل عنه - عليه السلام - أنَّه توضأ لصلاة واحدة مرتين، قال أبو عمر في "التمهيد": لم يحفظ عنه - عليه السلام - قط أنَّه توضأ لصلاة واحدة مرتين، وإنْ كان توضأ لكل صلاة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 295). (¬2) تقدم تخريجه عند التعليق على حديث: "الوضوء على الوضوء نور على نور".

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنسا يقول: "كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نُحْدث". ش: إسناده صحيح، وأبو داود سليمان الطيالسي، وذكره الطحاوي هنا في هذا الباب بأتم منه حيث قال: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب بن جرير قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1) أيضًا بنحوه، وقد ذكرناه. وأخرجه البخاري (¬2) ثنا محمَّد بن يوسف، قال: نا سفيان، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنسا. ونا مُسَدّد، قال: نا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني عمرو بن عامر، عن أنس قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ عند كل صلاة. قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث" وقد قال بعض شراح البخاري: المراد من سفيان هو الثوري؛ لأنّا لم نجد لابن عيينة عن عمرو رواية. قلت: قد صرح الترمذي في روايته بأنه هو سفيان الثوري حيث قال: نا محمَّد بن بشار، نا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: ثنا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر ... إلى آخره. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني مسعود بن علي، عن عكرمة: "أنَّ سَعْدا كان يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يُحْدِث". ش: مَسعود بن علي وثقه ابن حبان، وسعدٌ هو ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن يحيى بن سعيد، عن مسعود بن علي، عن عكرمة، قال: قال سَعْدٌ: "إذا توضأت، فصلّ بوضوئك ما لم تُحْدِث". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 88 رقم 60) وقد تقدم أيضًا. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 87 رقم 211). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 301).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله، غيرَ أنَّه لم يذكر عكرمة، وزاد: "وكان عليّ - رضي الله عنه - يتوضأ لكل صلاة ويتلو: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} " (¬1). ش: أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يحيى بن سعيد، عن مسعود بن علي، عن عكرمة قال: قال سَعد: "إذا توضأت فصل بوضوئك ما لم تُحدث". وقال عليّ - رضي الله عنه -: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن رجل من أهل مصر، قال: أخبرني فُضيل بن مرزوق الهمداني: "أنَّ عليّا - رضي الله عنه - كان يتوضأ لكل صلاة". قلت: هذا يرد كلام ابن شاهين حيث يقى: لم يبلغنا أنَّ أحدا من الصحابة والتابعن كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلَّا ابن عمر. ويرده أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة (¬4): نا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن محمَّد قال: "كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضئون لكل صلاة، فإذا كانوا في المسجد دعوا بالطست". ثنا (¬5) وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: "كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وليس في هذه الآية عندنا دليل على وجوب الوضوء لكل صلاة؛ لأنه قد يجوز أنْ يكون قوله ذلك على القيام وهم محدثون، ألا ترى أنهم قد أجمعوا أنَّ حكم المسافر هو هذا؟ وأنَّ الوضوء لا يجب عليه حتى يحدث، فلما ثبت أنَّ هذا حكم المسافر في هذه الآية، وقد خوطب بها كما خوطب الحاضر؛ ثبت ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6]. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 58 رقم 168). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 35 رقم 303). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 35 رقم 302).

أنَّ حكم الحاضر فيها كذلك أيضًا، وقد قال ابن الفَغْوَاء: إنهم كانوا إذا أحدثوا لم يتكلموا حتى يتوضئوا، فنزلت هذه الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬1) فأخبر أنَّ ذلك إنما هو لقيام إلى الصلاة بعد حدثٍ. ش: هذا جواب عَمّا رُوي من فعل علي - رضي الله عنه - أنَّه كان يتوضأ لكل صلاة، ويحتج بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (¬2) وتحريره: أنَّ أهل المقالة الأولى احتجوا فيما ذهبوا إليه بما روي عن عليّ - رضي الله عنه - وليس في ذلك دليل على ما قالوا؛ لأنه قد يجوز أنْ يكون المراد من قوله: هو القيام في حالة الحدث، ونحن أيضًا نقول: إذا قام إلى الصلاة وهو محدث فعليه أنْ يتوضأ، وإنْ تعدّد قيامه مع الحدث، ثم أوضح ذلك بقوله: "ألا ترى أنهم قد أجمعوا، أيّ أهل المقالتين أجمعوا أنَّ حكم المسافر هو أنَّه لا يجب عليه الوضوء إلَّا بالحدث، وإنْ مضى عليه أوقات، والحال أنَّه مخاطب بالآية كما أن المقيم مخاطب بها، فإذا ثبت حكم المسافر على ما ذكرنا كان حكم الحاضر كذلك؛ لشمول الخطاب إياهما، ثم أكد ما ذكره من قوله: إنَّ المراد هو القيام إلى الصلاة وهم محدثون، بما قال ابن الفغواء، أنهم -أيّ الصحابة- كانوا إذا أصابهم الحدث، لم يتكلموا حتى يتوضئوا؛ فنزلت هذه الآية، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (1) فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك لأجل القيام إلى الصلاة بعد حدث لا لمطلق القيام، على ما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم. وابن الفغواء هو عمرو بن الفغواء، ويقال: ابن أبي الفغواء، والد عبد الله بن عمرو بن الفغواء، له صحبة، وهو بالفاء ثم الغين المعجمة. وقد قال أبو بكر الرازي: الآية غير مستعملة على حقيقتها؛ لأن فيها مضمرا يتعلق إيجاب الطهارة به، وهو النوم، والتقدير: إذا قمتم من النوم، وأراد به نوم ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6]. (¬2) سبق تخريجه.

النائم المضطجع؛ لأن من نام قاعدا، أو ساجدا، أو راكعا، لا يقال: إنه قام من النوم؛ لأن السلف وسائر فقهاء الأمصار اتفقوا على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا، غير مستندٍ إلى شيء، وروى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أنَّ رسول الله - عليه السلام - أخّر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناسُ، ثم استيقظوا، فجاء عمر- رضي الله عنه - فقال: الصلاة يا رسول الله، فخرج وصل" (¬1) ولم يذكر أنهم توضأوا. وروى قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كنا نجيء إلى مسجد رسول الله - عليه السلام - ننتظر الصلاة، فمنا مَنْ نعس، ومنّا منْ نام، ولا نُعيد وضوءا". وروى نافع عن ابن عمر قال: "لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام" ثم إنما كان نوم المضطجع حدثا؛ لاسترخاء مفاصله، فلا يؤمن منه خروج الريح، فإذا كانت العلة هذا يدخل في مضمر الآية إيجاب الوضوء من الريح، والغائط، والبول، والمذي، والمني، ودم الاستحاضة، فكل هذه أحداث، يشتمل عليها مضمر الآية، ويؤخذ من هذا أنَّ النوم حدث، وبه قال علماء الأمة، إلَّا ما روي عن أبي موسى الأشعري أنَّه لم يكن يراه حدثا، ولم يثبت ذلك ... انتهى. واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في النوم هل ينقض الوضوء أم لا؟ على مذاهب: أحدها: أنَّ النوم لا ينقض الوضوء بحال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيّب، وأبي مجلز، وحميد بن عبد الرحمن، والأعرج، قال ابن حزم: وإليه ذهب الأوزاعي، وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم: ابن عمر، ومكحول، وعَبِيدَة السَلْماني. وادّعى بعضهم الإجماع على خلافه، وهو غير جيد؛ لِمَا روى أنس: "كان أصحاب رسول الله - عليه السلام - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6/ 2645 رقم 6912).

قال ابن القطان: رواه قاسم بن أصبغ، عن محمَّد بن عبد السلام، ثنا ابن بشار، ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة وهو كما ترى صحيح من رواته (¬1). وعند البزار "يضعون جنوبهم فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ". ولما ذكر الأثرم لأبي عبد الله هذا، تبسّم وقال: هذا لمن لا يضعون جنوبهم. وقال الطبري: فبان بهذا الحديث أنَّ من استغرق في نومه مضطجعا أو جالسا توضأ. وزاد أحمد بن عبيد في "مسنده": من جهة يحيى بن سعيد، عن قتادة، عنه: "على عهد رسول الله - عليه السلام - وعند البيهقي (¬2): "كان الصحابة يوقَظُون للصلاة وإني لأسمع غطيطا، ثم يصلون ولا يتوضئون" وفي آخره قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس. قال البيهقي وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي. وذكره أيضًا الطبري في "التهذيب": عن هُشَيْم. ولكن يعارضه ما رواه أبو عيسى" (¬3): من حديث أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية عن ابن عباس: "أنَّه رأى رسول الله - عليه السلام - نام وهو ساجد حتى غطّ -أو نفخ- ثم قام فصل، فقلت: يا رسول الله، إنك قد نمت. قال: إنَّ الوضوء لا يجب إلَّا على من نام مضطجعا؛ فإنه إذا اضطجع، استرخت مفاصله". قال أبو عيسى (¬4): رواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولم يرفعه. ¬

_ (¬1) عزاه الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 34)، و"تلخيص الحبير" (1/ 119) للبزار في "مسنده". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 120 رقم 587). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 111 رقم 77). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 113).

وفي "مسند دعلج": سمعت موسى بن هارون يقول: هذا حديث منكر، لا نعلم أحدا رواه إلَّا الدالانيّ. ولفظه عند "البيهقي" (¬1): "لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا؛ حتى يضع جنبه؛ فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله". وقال: تفرّد به على هذا الوجه الدالانيُّ. وقال أبو داود (¬2): قوله: "الوضوء على من نام مضطجعا" هو منكر. قال: وذكرته لأحمد بن حنبل، فقال: ما للدالاني يُدِخل على أصحاب قتادة، ورأيته لا يعبأ بهذا الحديث، زاد في "التفرد": لم يسمع قتادة هذا من أبي العالية، ولم يجىء به إلَّا يزيد. انتهى. وذكر الدارقطني له متابعا (¬3) -مع قوله أيضًا: تفرد به- وهو مقاتل بن سليمان، ويعقوب بن عطاء، فلا تفرد إذن على هذا، والله أعلم. وقال شعبة (¬4): إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث ليس هذا منها. وقال البخاريُّ (¬5): هذا لا شيء، ولا نعرف لأبي خالد سماعا من قتادة. وقال الدارقطني (¬6): تفرد به الدالاني ولا يصح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 121 رقم 593). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 52 رقم 202). (¬3) لم يذكر له الدارقطني متابعًا، بل قال بعد ذكره (1/ 159 رقم1): تفرد به أبو خالد عن قتادة، ولا يصح. وذكر بعده بحديث حديثًا آخر من طريق يعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. وهذا يقال له: شاهد وليس متابعًا. (¬4) انظر "سنن أبي داود"، الموضع السابق. (¬5) "علل الترمذي الكبير" (1/ 45 رقم 43). (¬6) "سنن الدارقطني" (1/ 159 رقم 1).

وقال البيهقي: أنكره على أبي خالد جميع الحفاظ. وقال ابن الحصَّار: هذا منكر، وليس بمتصل الإسناد. وقال ابن المنذر: لا يثبت. وقال ابن أبي داود: هذا الحديث معلول، لم يسمع قتادة من أبي العالية إلَّا أربع أحاديث معروفة ليس هذا منها، وهذا مرسل من قتادة. وقال أبو عمر: حديث أبي خالد هذا عند أهل الحديث منكر. وفي كتاب البيهقي (¬1) عن أبي هريرة "من استحق النوم؛ فقد وجب عليه الوضوء؛ فسئل عن استحقاق النوم، فقال: هو أنْ يضع جنبه". قال البيهقي: ورُوي مرفوعًا أيضًا ولا يصح. ولفظه عند ابن عدي (¬2): "إذا وضع أحدكم جنبه فليتوضأ". وقال الحربي: هذا حديث منكر. وعند الدراقطني (¬3): من حديث يعقوب بن عطاء -وهو ضعيف- عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ رسول الله - عليه السلام - قال: "من نام جالسا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء". وعند البيهقي (¬4) مُضَعَّفا: عن حذيفة مرفوعا: " ... حتى تضع جنبك". قال ابن حزم: وبه قال داود: إنَّ النوم لا ينقض الوضوء إلَّا نوم المضطجع فقط، وهو قول رُوي عن عمر بن الخطاب وابن العباس، ولم يصح عنهما، وعن ابن عمر وصَحّ عنه، وصح عن النخعي، وعطاء، والليث، والثوري، والحسن بن حيّ. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 119 رقم 580). (¬2) "الكامل" لابن عدي (6/ 400). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 160 رقم 4). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 120 رقم 591).

الثاني: أنَّ النوم ينقض الوضوء على كل حال، وهو مذهب الحسن، والمزني، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن راهوية. قال ابن المنذر: وهو قول غريب للشافعي، قال: وبه أقول، قال: ورُوي معناه عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة. وقال ابن حزم: النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء، سواء قلّ أو كثُرَ، قاعدا أو قائما، في صلاة أو غيرها، أو راكعا أو ساجدا، أو متكئا، أو مضطجعا، أيقن من حواليه أنَّه لم يحدث أو لم يوقنوا، برهان ذلك حديث صفوان. يعني المذكور عند ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1) وكذلك عند ابن حبان (¬2). وقال الحاكم (¬3): صحيح على شرط الشيخين وإنما لم يخرجاه لتفرد عاصم به عن زرّ، عن صفوان: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا ألَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلَّا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم". انتهى كلامه. وفيه نظر؛ لأنا قد رأينا غير عاصم رواه عن زرّ، وهو المنهال بن عمرو -فيما ذكره ابن السكن في كتاب "الحروف"- وحبيب بن أبي ثابت عند الطبراني (¬4). قال ابن حزم: وهو قول أبي هريرة، وأبي رافع، وعروة، وعطاء، والحسن، وابن المسيب، وعكرمة، ومحمد بن شهاب في آخرين. الثالث: كثير النوم ينقض وقليله لا ينقض بكل حال. قال ابن المنذر: وهو مذهب الزهري، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 13 رقم 17)، (1/ 98 رقم 196). (¬2) "صحيح ابن حبان" (3/ 381 رقم 1100)، (4/ 149 رقم 1320). (¬3) لم أجده بهذا اللفظ في "المستدرك". (¬4) "المعجم الكبير" (8/ 55 رقم 7350).

وعند الترمذي (¬1): قال بعضهم: إذا نام حتى غلب على عقله وجب عليه الوضوء. وبه يقول إسحاق. الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلين كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد، لا ينتقض وضوءه، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإنْ نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض، وهو قول أبي حنيفة، وداود، وقول غريب للشافعي، وقاله أيضًا حماد بن أبي سليمان، وسفيان. قال ابن حزم: احتجوا بحديث لا يثبت رواه ابن عباس. وقد ذكرناه. الخامس: لا ينقض إلَّا نوم الساجد، رُوي عن أحمد. السادس: لا ينقض إلَّا نوم الراكع، وهو قول عن أحمد ذكره ابن التين. السابع: من نام ساجدا في مصلاه فليس عليه وضوء، فإنْ نام ساجدا في غير مصلاه توضأ، فإنْ تعمد النوم ساجدا في الصلاة فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك. الثامن: لا ينقض النوم في الصلاة، وينقض خارج الصلاة، وهو قول للشافعي. التاسع: إذا نام جالسا مُمَكِّنا مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قلّ أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي. وقال ابن العربي: هذا كله في حقنا، فأما سيدنا رسول الله - عليه السلام - فمن خصائصه: ألَّا ينقض وضوءه بالنوم مضطجعا ولا غير مضطجع. ص: وحدثنا ابن مرزوق مرة أخرى، قال: ثنا عبد الصمد وبشْر بن عمر، قالا: ثنا شعبة، عن مَسْعود بن علي ... بذلك ولم يذكر عكرمة. ش: أشار بهذا إلى أنَّ إبراهيم بن مرزوق أسمعهم هذا الأثر مرتين، وليس فيهما ذكر عكرمة، كما ذكره أبو بكرة بكَّار القاضي في روايته حيث قال: ثنا أبو داود، ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 113) بعد الحديث رقم (78).

قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني مسعود بن علي، عن عكرمة: "أنَّ سعدا ... " غير أنَّه زاد في طريقه الواحد: "وكان علي - رضي الله عنه - يتوضأ ... " إلى آخره. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمَّد: "أنَّ شريحا كان يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد". ش: إسناده صحيح، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: "قلت لشريح: أأتوضأ لكل صلاة؟ قال: انظر ماذا يصنع الناس". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن: "أنَّه كان لا يرى بذلك بأسا". ش: إسناده صحيح، ويزيد بن إبراهيم التستري، أبو سعيد البصري، روى له الجماعة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: "يصلي الرجل الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث، وكذلك التيمم". قوله: "كان لا يرى بذلك بأسا" أيّ: بأن يصلي الصلوات بوضوء واحدٍ ما لم يحدث. وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬3): ثنا حفص، عن ليث، عن عطاء والحسن ومجاهد: "أنهم كانوا يصلون الصلوات كلها بوضوء واحدٍ". ثنا (¬4) أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود قال: "كان له قعب يتوضأ به، ثم يُصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 296). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 33 رقم 290). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 33 رقم 284). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة (1/ 33 رقم 285).

ثنا (¬1) حفص، عن يزيد مولى سلمة، عن سلمة: "أنَّه كان يصلي الصلوات بوضوءٍ واحدٍ". ثنا (¬2) يحيى بن سعيد، عن مجالد، قال: "رأيت الشعبي يُصلي الصلوات بوضوءٍ واحدٍ". ثنا (¬3) وكيع، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم قال: "إني لأصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوءٍ واحدٍ، إلَّا أنْ أُحدث، أو أقول منكرا". ثنا (¬4) وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "تصلي الصلوات كلها بطهور واحد". ثنا (¬5) ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن: "أنَّه صلى الظهر والعصر -ولا أعلمه إلَّا قال: صلى المغرب- ولم يَمسَّ ماء" والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 287). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 288). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 289). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 294). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 34 رقم 297).

ص: باب: الرجل يخرج من ذكره المذي كيف يفعل؟

ص: باب: الرجل يخرج من ذكره المذي كيف يفعل؟ ش: أيّ هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يخرج من ذكره المذي، كيف يكون حكمه؟ ولما فرغ من أحكام الوضوء، شرع في بيان ما ينقضه، والمذي -بفتح الميم وسكون الذال المعجمة- ما يخرج عند الملاعبة والتقبيل. قاله في الصحاح. يقال: مذى الرجل -بالفتح- وأمذى- بالألف مثله، ويقال: كل ذكر يُمذِي، وكل أنثى تَقْذِي من قَذتِ الشاة: إذا ألقت من رحمها بياضا. وقال ابن الأثير: المذي -بسكون الذال مخفف الياء-: البَلَل اللزج الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء، ولا يجب فيه الغُسل، وهو نجس يجب غسله، وينقض الوضوء، ورجل مَذَّاء: فَعَّال للمبالغة في كثرة المذي، وقد مَذى الرجل، يَمْذِي، وأَمْذى، والمِذاء: المُمَاذاة فَعَال منه. وفي "المطالع": هو ماء رقيق، يخرج عند التذكر أو الملاعبة، بسكون الذال وكسرها، يقال: مَذى، وأمذى، ومَذَّى. وقال عياض: فيه وجهان: مَذْي بالتخفيف، ومَذِيّ بالتشديد. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا أميّه بن بسطام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا رَوْحُ بن القاسم، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس بن خليفة، عن رافع بن خديج: "أنَّ عليّا - رضي الله عنه - أمَر عمَّارا أنْ يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المَذْي، قال: يَغْسلُ مذاكيره ويتوضأ". ش: أميّة بن بسطام بن المنتشر أبو بكر البصري، ابن عم يزيد بن زريع، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي. وابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح، روى له الجماعة. وعطاء بن أبي رباح.

وإياس بن خليفة البكري قال الذهبي: لا يكاد يُعرف. قال العُقيلي: في حديثه وهم، روى له النسائي. وأخرجه النسائي (¬1): عن عثمان بن عبد الله، عن أميّة بن بسطام ... إلى آخره نحوه. قوله: "مذاكيره" جمع ذكر على غير قياس. قال الجوهري: كأنهم فرقوا بين الذكر الذي هو الفحل وبين الذكر الذي هو العضو في الجمع. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له مثل العباديد، والأبابيل. ويُستفاد منه: وجوب الوضوء من المذي دون الغسل، واستنابة الصحابة بعضهم بعضا، وتعاونهم في العلم والتعلم، وحسن التعلم مع الصهر، واستعمال الحياء في أمثال هذه الأمور ما لم يقدح في الدين، ويؤدي إلى تضييع ما يلزم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنَّ غسل المذاكير واجب [على الرجل] (¬2) إذا أمْذى، وإذا بال، واحتجوا في ذلك بهذا الأثر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري وبعض المالكية والحنابلة؛ فإنهم أوجبوا غسل المذاكير إذا أمذى وإذا بال، وقد اختلف أصحاب مالك، منهم من أوجب غسل الذكر كله لظاهر الخبر، ومنهم من أوجب غسل مخرج المذي وحده. وعن الزهري: لا تغسل الأنثيين من المذي إلَّا أنْ يكون أصابهما شيء. وقال الأثرم: وعلى هذا مذهب أبي عبد الله، سمعته لا يرى في المذي إلَّا الوضوء، ولا يرى فيه الغُسل، وهذا قول أكثر أهل العلم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 97 رقم 155). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وفي "المغني" لابن قدامة: المذي ينقض الوضوء، وهو ما يخرج لزجا متسبسبا عند الشهوة، فيكون على رأس الذكر، واختلفت الرواية في حكمه، فروي أنَّه لا يوجب [إلَّا] (¬1) الاستنجاء والوضوء، والرواية الثانية: يجب غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء. انتهى. وقال ابن حزم في "المحلى": المذي تطهيره بالماء؛ يغسل مخرجه من الذكر وينضح بالماء ما مسّ من الثوب. وقال مالك: يغسل الذكر كله. وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": اختلف أصحابنا في المذي هل يجزئ منه الاستجمار كالبول، أو لا بد من الماء؟ واختلف القائلون بغسل الذكر من المذي هل يجزئ أنْ يغسل منه ما يغسل من البول أو لا بد من غسل جميعه؟ واختلفوا أيضًا هل يفتقر إلى نية في غسل ذكره أم لا؟ وقال أبو عمر: المذي عند جميعهم يوجب الوضوء ما لم يكن خارجا عن علة أبردةٍ وزمانةٍ، فإن كان كذلك فهو أيضًا كالبول عند جميعهم، فإنْ كان سَلَسا لا ينقطع، فحكمه حكم سلس البول عند جميعهم أيضا، إلَّا أنَّ طائفة توجب الوضوء على من كانت هذه حاله لكل صلاة؛ قياسا على المستحاضة عندهم، وطائفة تستحبه ولا توجبه، وأما المذي العهود المتعارف، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله؛ لما يجري من اللذة أو لطول عزْبة، فعل هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي - رضي الله عنه - وعليه يقع الجواب، وهو موضع إجماع، لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، إيجاب غسله لنجاسته. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها، والذي في "المغني" (1/ 112): لا يجب أكثر من الاستنجاء والوضوء. وهذه هي الرواية الثانية في "المغني". فالمؤلف ينقل من "المغني" وغيره بالمعنى، ويتصرف في كثير من الألفاظ بالاختصار والتقديم والتأخير.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لم يكن ذلك من رسول الله - عليه السلام -[علي] (¬1) إيجاب غسل المذاكير، ولكنه ليتقلص المذي فلا يخرج، قالوا: ومن ذلك ما أُمر به المسلمون في الهدي إذا كان له لبن أنْ ينضح ضرعه بالماء؛ ليتقلص ذلك فيه فلا يخرج. ش: أيّ خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالكا في رواية، وأحمد كذلك؛ فإنهم قالوا: لم يكن ذلك أيّ قوله: - عليه السلام -: "يغسل مذاكيره" إيجاب غسل ولكنه ليتقلص أيّ ليرتفع ويزول، من قلص الشيء، تقلص قلوصا: ارتفع. يقال: قلص الظلّ، وقَلَص الماء: إذا ارتفع في البئر فهو ماء قَالِصٌ، وقَلاص، وقَلِيص، وقَلَص، وقَلَّص وتَقَلَّص: كله بمعنى واحد. أيّ: انضم وانزوى، يقال: قلصت شفته: إذا انزوت، وقلص الثوب بعد الغسل، وشفة قالصة، وظل قالص: إذا نقص. قوله: "ومن ذلك" أيّ من القبيل المذكور: مسألة الهدي إذا كان لها لبن يُدِرُّ، فإنه ينضح بالماء ليتقلص، أيّ: ليرتفع لبنها وينقطع، فإنّ هذا في الحديث ليس على الإيجاب. ومن خاصيَّة الماء البارد أنَّه يقطع اللبن ويردّه إلى داخل الضرع، وكذلك إذا أصاب الأنثيين رَدَّ المذي وكسره، و"النضح" -بالضاد المعجمة، والحاء المهملة-: الرش. ص: وقد جاءت الآثار متواترة بما يدل على ما قالوا، فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود وابن أبي عمران، قالا: حدثنا عمرو بن محمَّد الناقد، قال: نا عَبيدةُ بن حميد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال علي - رضي الله عنه -: "قد كنت رجلًا مذاء، فأمرتُ رجلًا، فسأل النبي - عليه السلام - فقال: فيه الوضوء". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أيّ قد جاءت الآثار حال كونها متكاثرة متتابعة بما يَدلُّ على ما قال الآخرون، من أنَّ قوله - عليه السلام -: "يغسل مذاكيره" ليس على إيجاب غسلها؛ ولكن ليتقلص المذي كما ذكرنا. فمن ذلك ما رواه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وأحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، كلاهما عن عمرو بن محمَّد شيخ الشيخين وغيرهما، عن عَبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن حميد بن صُهيب الضبي، عن سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس قال: قال علي - رضي الله عنه -: "أرسلت المقداد ابن الأسود إلى رسول الله - عليه السلام - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان، كيف يفعل به؟! قال رسول الله - عليه السلام -: توضأ وانضح فرجك". قوله: "مذاء"، فعَّال بالتشديد، وهو صيغة المبالغة في كثرة خروج المذي، وكان علي - رضي الله عنه - كثير المذي جدّا. حتى قال البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث ابن جريج، عن عطاء: "أنَّ عليّا كان يدخل الفتيلة في إحليله من كثرة المذي". قوله: "فأمرت رجلًا" قد فسره في رواية مسلم بأنه المقداد. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: أبنا هُشيم، قال: أبنا الأعمش، عن منذر بن يعلى الثوري، عن محمَّد بن الحنفية، قال: سمعته يُحدِّث عن أبيه قال: "كنت أجد مذيا؛ فأمرت المقداد أنْ يسأل النبي - عليه السلام - عن ذلك، واستَحْييتُ أنْ أسأله؛ لأن ابنته عندي، فقال: إن كل فحل يُمْذي، فإذا كان المني فعليه الغسل، وإذا كان المذي فعليه الوضوء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 247 رقم 303). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 356 رقم 1554) بنحوه.

ش: هذا طريق آخر، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وهشيم هو ابن بشير، والأعمش هو سليمان، ومحمد بن الحنفية هو محمَّد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - المعروف بابن الحنفية، واسمها خولة بنت جعفر. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع وأبي معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى ... إلى آخره، نحوه، ولفظه: "فكنت أستحي أنْ أسأل رسول الله لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا بنحوه. قوله: "واستحييت"، بيائين، وفيه لغة أخرى: بياء واحدة، وقرأ ابن كثير: {إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا} (¬3) بياء واحدة كراهة للجمع بين حرفي لين. قاله ابن خالويه. قوله: "كل فحل" أيّ كل ذكر من بني آدم يخرج من ذكره مذي. قوله: "فإذا كان المني" أيّ وُجدَ المني و"كان" ها هنا تامة؛ فلهذا لم تحتج إلى الخبر، وهذا لم يذكر فيه وجوب غسل الذكر، وكل موضع ذكر فيه ذلك فالمراد غسل موضع الإصابة، لا جميع الذكر. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة بن قدامة عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاء، وكانت عندي ابنة النبي - عليه السلام - فأرسلتُ إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: توضأ واغسله". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. وأبو حصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- واسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 247 رقم 303). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 61 رقم 132). (¬3) سورة البقرة، آية: [26].

وأبو عبد الرحمن اسمه عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة -بالتصغير- السلمي الكوفي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا الوليد، ثنا زائدة، عن أبي حَصِين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذَّاء، فأمرت رجلًا أنْ يسأل النبي - عليه السلام - لمكان ابنته، فسأله فقال: توضأ واغْسل ذكرك". وأخرجه النسائي (¬2) وقال: أنا هنّاد بن السري، عن أبي بكر بن عيّاش، عن أبي حَصِين، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال عليّ: "كنت رجلًا مذاء، وكانت ابنة النبي - عليه السلام - تحتي، فاستحييت أنْ أسأله فقلت لرجل جالس إلى جَنْبي: سَلْه. فسأله فقال: فيه الوضوء". ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أنا يزيدُ بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي - رضي الله عنه - قال: "سئل النبي - عليه السلام - عن المذي، قال: فيه الوضوء، وفي المني الغسل". ش: هذا طريق آخر وهو جيد حسن، ورجاله ثقات، وسعيد هو ابن منصور. وأخرجه الترمذي (¬3) نا محمَّد بن عمرو السواق البلخي، ثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، قال: ونا محمود بن غيلان، قال: نا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي قال: "سألت النبي - عليه السلام - عن المذي، فقال: من المذي الوضوء ومن المني الغسل". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفريابي، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاء، وكنت إذا أمزيت اغتسلتُ، فسألت النبي - عليه السلام - فقال: فيه الوضوء". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 105 رقم 266). (¬2) "المجتبى" (1/ 96 رقم 152). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 193 رقم 114).

ش: هذا أيضًا طريق آخر، وهو جيد لا بأس به، والفريابي هو [محمد] (¬1) بن يوسف، وأبو إسحاق هو عَمرو بن عبد الله السّبيعي، وإسرائيل ابنه، وهانئ بن هانئ الهمداني الكوفي، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، ووثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاء، فإذا أمزيت اغتسلت، فأمرت المقداد فسأل النبي - عليه السلام - فضحك، وقال: فيه الوضوء". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أبنا إسرائيل. ح وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسرائيل ... ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان آخران صحيحان: أحدهما: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء بن عمر البصري، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي - رضي الله عنه -. والآخر: عن ربيع المؤذن المصري، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل ... إلى آخره. و"الحاء" المفردة علامة الانتقال والتحول من إسناد إلى إسناد. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة، قال: ثنا الرُكَيْن بن الربيع الفزاري، عن حُصَيْن بن قبيصة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاء، فسألت النبي - عليه السلام - فقال: إذا رأيت المذْي فتَوضأ واغسِل ذكرك، وإذا رأيت المني فاغتسل". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عبد الله. وهو وهم أو سبق قلم تكرر مرارًا من المؤلف -رحمه الله-، وعبد الله بن يوسف هو التنيسي، وهو شيخ البخاري أيضًا، وأما الفريابي فهو محمَّد بن يوسف. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 108 رقم 856).

ش: إسناده جيد حسن، والرُكين -بضم الراء- بن الربيع بن عميلة الفزاري الكوفي، روى له مسلم والأربعة. وحُصين -بضم الحاء- وثقه ابن حبان. وأخره أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عَبيدة بن حميد الحذاء، عن الركين ابن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاء، فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي - عليه السلام -أو ذكر له- فقال: رسول الله - عليه السلام -: لا تفعل؛ إذا رأيت المذي؛ فاغسل ذكرك، وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضَخْت الماء فاغتسل". وأخرجه أحمد (¬2)، والطبراني (¬3) أيضًا، وفي رواية أحمد: "فليغسل ذكره وأُنْثييه" فمراده استظهار بزيادة التطهير؛ لأن المذي ربما ينتشر فيصيبهما. قوله: "فضخت"، بالضاد والخاء المعجمتين أيّ إذا دفقت. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن عايش بن أنس، قال: سمعت عليّا - رضي الله عنه - على المنبر يقول: "كنت رجلًا مذاء فأردت أنْ أسال النبي - عليه السلام - فاستحييت منه لأن ابنته كانت تحتي، فأمرت عمارا فسأله، فقال: يكفي منه الوضوء". ش: هذا أيضًا جيد، وعايش -بالياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة- وثقه ابن حبان (¬4) وأخرجه النسائي (¬5): عن قتيبة، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 53 رقم 206). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 145 رقم 1237). (¬3) "المعجم الكبير" (20/ 238 رقم 563). (¬4) وذكره الذهبي في "الميزان" (2/ 364) وقال: قال ابن خراش: مجهول. ثم قال: كوفيٌّ له عن علي وغيره، وعنه عطاء بن أبي رباح فقط: "كنت رجلًا مذاءً". فعلى هذا فهو مجهول العين، والإسناد ضعيف. (¬5) "المجتبى" (1/ 96 رقم 154).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: أفلا ترى أنَّ عليّا - رضي الله عنه -، لما ذكر عن النبي - عليه السلام - ما أوجبه عليه في ذلك ذكر وضوء الصلاة؛ فثبت بذلك أنَّ ما كان سوى وضوء الصلاة مما أمره به؛ فإنما كان لغير المعني الذي أوجب وضوء الصلاة. ش: أراد من قوله: "مما أمر به" من غسل الأنثيين، أو نضح الماء، التحقيق أنَّه - عليه السلام - أوجب الوضوء لكون المَذْي خارجا نجسا، وأما ما سواه من ذلك فإنه إنما كان لغير هذا المعنى، وهو كونه نجسا أصاب موضعا طاهرا؛ فيجب غسله، ولهذا قلنا باقتصار غسل موضع الإصابة من الذكر. ص: وقد روى سهلُ بن حُنَيْف، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على هذا أيضًا. حدثنا نصر بن مرزوق وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن محمَّد بن إسحاق، عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف: "أنَّه سأل النبي - عليه السلام - عن المذي، فقال: فيه الوضوء". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر أنَّ ما يجب فيه هو الوضوء، وذلك ينفي أنْ يكون عليه مع الوضوء غيره. ش: أيّ ما دلّ على ما ذكرناه من أنَّ ما سوى الوضوء مما أمر به فإنما كان لغير المعنى الذي وجب به الوضوء، وإسناد الحديث المذكور صحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هنّاد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره، ولفظه: "كنت ألقى من المذي شدة وعَناء، فكنت أكثر منه الغسل، فذكرت ذلك لرسول الله - عليه السلام - وسألته عنه، فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء. قلت: يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أنْ تأخذ كفّا من ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنَّه أصاب منه". قال: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 197 رقم 115).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن عبد الله بن المبارك وعبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه. فهذا سهل بن حُنيف أخبر أنَّ الذي يجب فيه: هو الوضوء لا غير، وهذا ينفي أنْ يكون عليه مع الوضوء غيره وأما المذي إذا أصاب الثوب فحكمه ما قال الترمذي في "جامعه": وقد اختلف أهل العلم في المذي يُصيب الثوب، فقال بعضهم: لا يجزئ إلَّا الغسل -وهو قول الشافعي وإسحاق- وقال بعضهم: يجزئه النضح. وقال أحمد: أرجو أن يجزئ النضح بالماء. قلت: مذهب أبي حنيفة أنه لا يجزئ إلَّا الغسل. ص: فإن قال قائل: فقد رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما يوافق ما قال أهل المقالة الأول، فذكر: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أبنا حماد بن سلمة، قال: أبنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النَهْدي: "أن سلمان بن ربيعة الباهلي، تزوج امرأة من بني عُقَيل، فكان يأتيها فيُلاعبها فيمذي، فسأل [عن] (¬2) ذلك عمر بن الخطاب، فقال: إذا وجدت الماء فاغسل فرجك وأُنثييك، وتوضأ وضوئك للصلاة". قيل له: يحتمل أن يكون وجه ذلك أيضًا ما صرفنا إليه وجه حديث رافع بن خديج. ش: توجيه السؤال: أن قول عمر - رضي الله عنه - يدل على ثلاثة أشياء: غسل الفرج، وغسل الأنثيين، والوضوء كوضوء الصلاة، وهذا يعضد قول أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى أن غسل المذاكير واجب إذا أمذى وإذا بال. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 169 رقم 506). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

والجواب: أنه يحتمل تأويل حديث عمر نحو تأويل حديث رافع بن خديج الذي مضى ذكره في أى الباب، بأن يكون المراد من غسل الفرج والأنثيين هو لأن يتقلص المذي، أو المراد منه غسل موضع الإصابة فقط، وذكر الأنثيين يكون لاستظهار الطهارة. وأبو بكرة: هو بكَّار القاضي. وأبو عمر: هو الحَوْضِي واسمُه حفص بن عمر، شيخ البخاريّ. وسليمان التيمي، روى له الجماعة. وأبو عثمان النهدي: اسمه عبد الرحمن بن مَلّ الكوفي، روى له الجماعة. وسلمان بن ربيعة الباهلي صحابي، وذكره ابن حبان في التابعين. "وأخرجه بن أبي شيبة" (¬1): عن ابن عُلية، عن سليمان التيمي ... إلى آخره نحوه، ولكن فيه: "ثم أتيت عمر فقال: ليس عليك في ذلك غسل". قوله: "من بني عُقَيْل" بضم العين وفتح القاف، وهم قبيلة كبيرة. ص: وقد روُي عن جماعة ممن بعده ما يوافق ذلك؛ حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري. (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا أبو عوانة، كلاهما عن منصور، عن مجاهد، عن مُورق، عن ابن عباس قال: "هو المني والمذي والوّدْيُ؛ فأما المَذْي والوّدْي فإنه يغسل ذكره ويتوضأ، وأما المَني ففيه الغسل". ش: أي قد رُوي عن جماعة ممن بعد النبي - عليه السلام - من الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، أبي ما صرفنا إليه معنى حديث رافع بن خديج. وأثر ابن عباس أخرجه من طريقين جيدين حَسنين: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 88 رقم 971).

أحدهما: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي -وثقه ابن حبان- عن الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد بن جبر المكي، عن مُوَرّق العجلي -بضم الميم وتشديد الراء المكسورة-. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) في "مصنفه": عن وكيع، عن سفيان، عن منصور ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أبي بكرة، عن هلال بن يحيى بن مسلم الرأي البصري- أحد الأئمة الحنفية الكبار، قال ابن الجوزي: كان فقيها كبيرا، وضعفه بعضهم، (¬2) وكان أجَلّ من ذلك. عن أبي عُوانة، عن منصور ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (¬3): عن الثوري، عن منصور (إلى) (¬4) مجاهد عن ابن عباس قال في المَذْي والودي والمني: "في المني الغُسْلُ، وفي المَذي والوّدْي الوضوءُ، يغسل حَشَفَته ويَتوضأ". قوله: "كلاهما" أبي سفيان وأبو عوانة. قوله: "هو المني ... " إلى آخره، أي: الذي يخرج من الذكر غير البول ثلاثة أشياء: المَنِيُّ، والمَذْي، والوَدْي، وقد مر تفسير المذي. وأما "الوَدْي": فهو بفتح الواو وسكون الدال المهملة، وهو الذي يكون مع البول وبعده، وفي "البدائع": الوَدْي ماء غليظ يخرج بعد البول، وكذا رُوُيَ عن عائشة - رضي الله عنها -، ويقال: الودي في نفس الأمر: بقيّة البول، ولكنه غليظ أغلظ ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 89 رقم 2984)، وليس فيه ذكر لمورق العجلي. (¬2) ذكره ابن حبان في "المجروحين" (3/ 87 - 88) وقال: كان يخطئ كثيرًا على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 159 رقم 610). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المصنف": منصور، عن مجاهد، ومنصور يروي عن مجاهد مباشرة كما في مصادر ترجمته، وليس في إسناده مورق.

من البول، وقال الجوهري: الوَدْي بالتسكين ما يخرج بعد البول، وكذا الوديَّ بالتشديد، وفي "المطالع": ويقال فيه بذال معجمة أيضًا، ويقال: الوديُّ أيضًا، يقال فيه: وَدي، وأَوْدَى، ووَدَّي، وهو من السيلان، وَوَدَي: سال، ومنه الوادي. وأما المني: فهو الماء الدافق بشهوة، وفي "البدائع": المني: حاثر أبيض ينكسر منه الذكر، وقال الشافعي: إن له رائحة الطلع. وفي "المطالع": المَنِيّ والمُنِيّ والمِنِيّ على مثال: المُرِيُّ لغات كلها، وقال الأزهري: سُمي مَنِيّا لأنه يُمْنَى، أبي: يُراق ويدفق، ومنه سميت منى لما يُمنى بها من الدماء، أبي: يراق، والمَنِيُّ مشدد، ولا يجوز فيه التخفيف، يقال: مَنى الرجل وأَمْنَى: إذا دفق ماؤه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي جمرة، قال: "قلت لابن عباس: إني أركب الدابة فأُمْذي. قال: اغْسِلْ ذكرك، وتوضأ وضوءك للصلاة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: أفلا ترى أن ابن عباس حين ذكر ما يجب في المذي ذكر الوضوء خاصة، وحين أمر أبا جمرة أمره [مع الوضوء] (¬1) بغسل الذكر. ش: إسناده صحيح، وأبو عامر: عبد الملك بن عَمرو العقدي. وأبو جمرة -بالجيم- نصر بن عمران بن عاصم الضُبَعي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن هشيم، عن أبي جمرة مولى بني أسد قال: "سألت ابن عباس، قلت: بينا أنا على راحلتي أخذتني شهوة، فخرج من ذكري شيء ملأ (حَاذيَّ) (¬3) وما حوله، فقال: اغسل ذكرك، وما أصابك، ثم توضأ وضوءك للصلاة". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": بالوضوء، والمثبت من "شرح المعاني". (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 158 رقم 609). (¬3) الحاذان: لحمتان في ظاهر الفخذين، تكونان في الإنسان وغيره. انظر "لسان العرب" (مادة: حوذ).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا وهب، قال: نا الربيع بن صَبيح، عن الحسن -في المذي والودي-: "يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة". ش: وهب هو ابن جرير البصري، روى له الجماعة. والربيع بن الصبيح -بفتح الصاد- السعدي، استشهد به البخاري في الكفارات، وضعفه جماعة، وقال أبو زرعة: صالح صدوق. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن سماك، قال: قلت للحسن البصري: "أرأيت الرجل إذا أمذى، كيف يصنع؟ قال: كل فحل يُمذي، فإذا كان ذلك، فليغسل ذكره. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن زياد بن فياض، عن سعيد بن جبير، قال: "إذا أمذى الرجل غسل الحشفة، وتوضأ وضوءه للصلاة". ش: زياد بن فياض الخزاعي أبو الحسن الكوفي، روى له مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن سعيد بن جبير: "أنه قال في الذي: يغسل الحشفة ثلاثا ويتوضأ". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا (¬3): عن الثوري، عن زياد بن فياض، قال: "سمعت سعيد بن جبير يقول في الذي: يغسل حشفته". وهذا كله صريح بأن الواجب: غسل موضع الإصابة، لا كما قال أهل المقالة الأولى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا وجه هذا الباب، من طريق تصحيح الآثار، قد ثبت به ما وصفنا، وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا خروج المذي حدثا، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 88 رقم 981). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 88 رقم 983). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 158 رقم 608).

فأردنا أن ننظر في خروج الأحداث ما الذي يجب فيه؟ فكان خروج الغائط يجب فيه غسل ما أصاب البدن منه، ولا يجب غسل ما سوى ذلك، إلَّا التطهر للصلاة. وكذلك خروج الدم من أي موضع ما خرج -في قول من جعل ذلك حدثا- فالنظر على ذلك أن يكون كذلك خروج المذي الذي هو حدث، لا يجب فيه غسل غير الموضع الذي أصابه من البدن، غير التطهر للصلاة، فثبت بذلك أيضًا ما ذكرنا من طريق النظر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أشار بقوله: "فهذا" إلى ما ذكر من قوله: إن المراد من غسل المذاكير هو أن يتقلص وينزوي حتى لا يخرج، لا أنه يجب غسل الذكر كله. قوله: "قد ثبت به" أبي بهذا الطريق "ما وصفنا" من وجوب الوضوء في المذي خاصة وغسل موضع الإصابة، والباقي طاهر.

ص: باب: حكم المني هل هو طاهر أم نجس؟

ص: باب: حكم المني هل هو طاهر أم نجس؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم المني في الطهارة والنجاسة، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحَكَمِ، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: "أنه كان نازلا على عائشة - رضي الله عنها - فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه -أو يغسل ثوبه- فأخبَرتْ بذلك عائشة، فقالت عائشة: لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والحَكَم هو ابن عُتَيْبَة الكوفي، وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، أنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي مدثر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود: "أن رجلًا نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إِنْ رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر؛ نضحت حوله؛ ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - عليه السلام - فركا، فيصلي فيه". ثنا [عمر بن حفص] (¬2) بن غياث، ثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وهمّام، عن عائشة في المني قالت: "كنت أفركه من ثوب رسول الله - عليه السلام -". قوله: "أثر الجنابة" المراد من الأثر: البقية، ومن الجنابة: المني. قوله: "لقد رَأَيْتُني" بضم التاء، أي: لقد رأيت نفسي وأنا أفركه، ويجوز كسر التاء على كونه خطابا للجارية. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 238 رقم 288). (¬2) في "الأصل، ك": حفص بن عمر، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وَهْب بن جرير، قال: ثنا شعبة، أخبرنا الحكم، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، ولقد أخرج الطحاوي حديث عائشة هذا من اثنين وعشرين طريقا وستقف على الكل إن شاء الله تعالى. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: "أنه كان عند عائشة فاحتلم، فأبصرته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه -أو يغسل ثوبه- فأخبرت عائشة، فقالت: لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، عن الحكم، عن إبراهيم النخعي، عن همام، عن عائشة ... نحوه. ش: هذا أيضًا طريق صحيح. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حمّاد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام ... فذكر نحوه. ش: هذا أيضًا طريق صحيح. وأخرجه الترمذي (¬2) عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همّام بن الحارث، قال: "ضاف عائشة ضيف، فأَمَرَت له بملحفة صفراء، فنام فيها، فاحتلم، فاستحيا أن يُرسِل بها وبها أثر الاحتلام، فغمسها في الماء، ثم أرسل بها، فقالت عائشة: لِمَ أفسدَ علينا ثوبنا؟! إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه، وربما فركته من ثوب رسول الله - عليه السلام - بأصابعي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 101 رقم 371). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 198 - 199 رقم 116).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي، قال: ثنا عبيد الله، عن زيد، عن الأعمش ... فذكر مثله بإسناده. ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وعبيد الله هو ابن عمرو الرَّقِيِ. وزيْدُ: هو ابن أبي أُنَيْسة. والأعمش: سليمان. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: أخبرني حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد وهمام، عن عائشة ... مثله. ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وحفص هو ابن غياث. وأخرجه مسلم (¬1): عن حفص، عن أبيه، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه، وقد ذكرناه آنفا. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحمّاني، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عائشة، مثله، (غير أن في حديث يحيى قال: "رأيتُني وما أزيد على أن أَحُتُّه من الثوب، فإذا جَفَّ دلكته") (¬2). ش: هذا أيضًا صحيح، والحمّاني هو يحيى بن عبد الحميد. وأخرج النسائي (¬3): عن شعيب بن يوسف، عن يحيى بن سعيد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن عائشة قالت: "كنت أراه في ثوب رسول الله - عليه السلام - فأحكه". قوله: "أَحُتُّه" من الحَتَّ، والحَتُّ والحك والقشر سواء. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 238 رقم 288)، وفيه: عمر بن حفص بن غياث عن أبيه، وسبق تخريجه والتنبيه على الخطأ. (¬2) كذا في "الأصل"، وليست في "شرح المعاني". (¬3) "المجتبى" (1/ 156 رقم 299).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم، عن همام عن عائشة مثله، غير أنه قال: "لقد رأيتني وما أزيد على أن أحته من الثوب فإذا جفّ دلكته". ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي. والمَسْعوديّ اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي ونسبته إلى والد عبد الله بن مسعود. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث إلَّا أنه اختلط في آخر عمره، روى له البخاري مستشهدًا والأربعة. وحماد هو ابن سلمة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): وقال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: "أن همام بن الحارث كان نازلا على عائشة فاحتلم، فأبصرته جارية لعائشة يغسل أثر الجنابة من ثوبه، فأخبرت عائشة، فأرسلت إليه عائشة: لقد رأيتني وما أزيد أن أفركه من ثوب رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: ثنا مَهْدّي بن مَيْمون، قال: ثنا وَاصِل الأحْدَبُ، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود قال: "رأتني عائشة - رضي الله عنها - أغسل جنابة أصابت ثوبي، فقالت: لقد رأيتني وإنه ليصيبُ ثوب رسول الله - عليه السلام -، فما نزيد على أن نقول به هكذا- تعني نفركه". ش: هذا أيضًا طريق صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، نا مهدي، نا واصِلٌ الأحدب الأسدي الكوفي، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره نحوه سواء؛ غير أن في آخره" (ووصف) (¬3) حك يده على الأخرى". ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 199 رقم 1401). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 101 رقم 24746). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": "ووصفه مهدي".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا دُحَيم، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن عائشة قالت: "كنت (أفرك) (¬1) من ثوب رسول الله - عليه السلام - تَعْني المَنيُّ". ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وإسناده شامي، ودُحَيْم -بضم الدال وفتح الحاء المهملتين- عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، قاضي الأردن وفلسطن، شيخ البخاري وغيره. والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو. وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه البزار في "مسنده": من حديث عطاء، عن عائشة، وقال: ثنا إسماعيل، نا موسى، نا خطّاب، عن عبد الكريم، عن عطاء ... إلى آخره نحوه، وزاد: "ولا أغسله". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن الحارث بن نوفل، عن عائشة، مثله. ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وأبو هاشم اسمه يحيى بن دينار الزِّمَّاني، روى له الجماعة. وأبو مجلز -بكسر الميم وسكون الجميع وفي آخره زاي معجمة- واسمه لاحق بن حميد، روى له الجماعة. والحارث بن نوفل ذكره ابن حبان في الثقات التابعين، وقال المزي في التهذيب الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد [المطلب] (¬2) بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، والد عبد الله بن الحارث بن نوفل، له ولأبيه صحبة. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "أفركه". (¬2) كذا في "تهذيب الكمال" (5/ 292)، وفي "الأصل، ك": مناف، ولعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبة، ثنا حماد، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن الحارث بن نوفل، عن عائشة قالت: "كنت أفرك الجنابة- وقالت مرة أخرى: المني- من ثوب رسول الله عليه الصلاة والسلام". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابنُ أبي السَّريّ، قال: ثنا مُبَشَّر بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن بُرْقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من مرطْ رسول الله - عليه السلام - وكانت مروطنا يومئذ الصوف". ش: هذا أيضًا طريق صحيح، وابن أبي السريّ هو محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن بن حسان القرشي الهاشمي المعروف بابن أبي السري العسقلاني، أخو الحسن بن أبي السري، شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان. ومبشر بن إسماعيل الحلبي، روى له الجماعة. وجَعْفرُ بن بُرْقان الدالاني، أبو عبد الله الجزري الرقي، روى له مسلم. والزهري هو محمَّد بن مسلم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عمر بن أيوب المَوْصِلي، عن جعفر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يراه في مْرط إحدانا ثم يفركه، ومُروطهن يومئذ الصوف، تعني النبي - عليه السلام -". قوله: "أفرك" من فركت الثوب بيدي، أفركها فركا، من باب: نَصَرَ يَنْصُرُ. "والمِرطُ" بكسر الميم وسكون الراء: واحد المروط، وهي أكسية من صوف أوخَزّ، كانوا يأتزرونها. ص: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البَرْقي، قال: ثنا الحْميدي، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 156 رقم 296). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 263 رقم 26307).

قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - إذا كان يابسا، وأغسله -أو أمسحه- إذا كان رطبا" شك الحميديّ. ش: هذا أيضًا طريق صحيح، والحمُيديّ هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة بن عبد الله بن حميد، أبو بكر المكي، شيخ البخاري. والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا محمَّد بن مخلد، ثنا أبو إسماعيل الترمذي، ثنا الحميدي ... إلى آخره، نحوه سواء. قوله: "شك الحميديّ" يعني في قوله: "وأغسله أو أمسحه". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عَبْثَر بن القاسم، عن بُرْد أخي يزيد بن أبي زياد، عن أبي سَفَّانَةَ النخعي، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام -". ش: يوسف بن عدي بن زُريق الكوفي، شيخ البخاريّ. وعَبْثَر -بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح الثاء المثلثة وفي آخره راء- ابن القاسم الزبيدي الكوفي، روى له الجماعة. وبُرْد -بضم الباء الموحدة- ابن أبي زياد، أبو العلاء الكوفي، وثقه النسائي وروى له. وأبو سَفَّانة -بفتح السين المهملة، وتشديد الفاء، وبعد الألف نون- قال ابن أبي حاتَم: شيخ مجهول، كوفي لا يعرف اسمه، ماله راوٍ غير بُرْد بن أبي زياد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب ذاهبون إلى أن المني طاهر، وأنه لا يُفسد الماء وإن وقع فيه، وإن حكمه في ذلك حكم النُّخَامة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالذاهبين هؤلاء: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، فإنهم ذهبوا إلى ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 125 رقم 3).

أن المَني طاهر، وحكى صاحب "البيان" في نجاسته قولين، وزعم بعضهم أن القولين في مني المرأة، وفي مني غير الآدمي أقوال ثلاثة: أحدهما: طاهر جميعه إلَّا مني الكلب والخنزير. الثاني: كله نجس. الثالث: مني مأكول اللحم طاهر، وغيره نجس. وفي "الروضة": أما المني فمن الآدمين طاهر، وقيل: فيه قولان، وقيل: القولان في مني المرأة خاصة. والمذهب: الأول. وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ومني الآدمي طاهر، وعنه: نجسر يجزئ فرك يابسه من الرجل -وقيل: مطلقا- ويمسح رطبه، وعنه: يغسل، وعنه: أنه كالدم؛ فيعفى عن يسيره، وذكر في غيره عن أحمد: في منيها قولان، وفي مني غير الآدمي ثلاثة أوجه، مثل الأقوال الثلاثة. قوله: "وأن حكمه في ذلك حكم النخامة" لأنه أصل آدمي مكرم، وليس من كرامته تنجيس أصله. وروى الدارقطني (¬1): ثنا ابن مخلد، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا سعيد بن يحيى بن الأزهر، ثنا إسحاق بن يوسف، ثنا شريك، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "سئل النبي - عليه السلام - عن المني يصيب الثوب، فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة". لم يرفعه غير إسحاق الأزرق. قلت: لم يصح رفعه. قاله الذهبي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هو نجس. ش: أبي خالف هؤلاء الذاهبين إلى طهارة المني جماعة آخرون، وأراد بهم: ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 124 رقم 1).

الأوزاعي، والثوري، وأبا حنيفة، ومالكا، والليث، والحسن بن حي؛ فإنهم قالوا: هو نجس، وهو رواية عن أحمد أيضًا، إلَّا أن أبا حنيفة قال: يكفي في تطهيره فركه إذا كان يابسا وهو رواية عن أحمد. وقال مالك: لا بد من غسله، رطبا كان أو يابسا. وقال الليث: هو نجس، ولا تعاد الصلاة منه. وقال الحسن بن صالح: لا تعاد من المني في الثوب وإن كان كثيرا، وتعاد منه في الجسد وإن قَلَّ. ص: وقالوا: ولا حجة لكم في هذه الآثار؛ لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب يَنام فيها، ولم تأت في ثياب يُصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نُبيحُ ذلك، ونُوافقُ ما رَوَيْتُم عن النبي - عليه السلام - في ذلك، ونقى من بعد: لا تصلحُ الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئًا مما رُوي، في ذلك عن النبي - عليه السلام -. ش: أي قال الآخرون: "لا حجة لكم في هذه الآثار". أي الأحاديث التي رُويت عن عائشة فيما مضى. "لأنها إنما جاءت في ثياب يَنَامُ فيها" أبي النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولم تأت في ثياب يصلي (عليها) (¬1) " فإذا لم تكن هذه الآثار في الثياب التي يُصل فيها فيجوز أن يكون حكمها حكم الثياب النجسة بالغائط أو البول أو الدم، فإن هذه الثياب لا بأس بالنوم فيها، ولا يجوز الصلاة فيها، فيكون حكم المني كذلك، وباقي كلامه ظاهر. فإنْ قيل: إذا كان المني نجسا عندكم كان ينبغي ألَّا يجوز الفرك فيه، كما في سائر النجاسات. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" ولعل الصواب: "فيها"، كما في متن الكتاب.

قلت: نعم، هذا هو القياس في هذا الباب، ولكن خُصَّ بحديث الفرك، ورُوي عن محمَّد أنه قال: إن كان المني غليظا فهو يطهر بالفرك، وإن كان رقيقا لا يطهر إلَّا بالغسل. وقال: إذا أصاب المني ثوبا ذا طاقين فالطاق الأعلى يطهر بالفرك والأسفل لا يطهر إلَّا بالغسل؛ لأنه تصيبه البَلَّة دون الجرم، وهذه مشكلة فإن الفحل لا يمني حتى يمذي، والمَذْي -بالتخفيف- لا يطهر بالفرك، إلَّا أنه جعل المذي في هذه الحالة معلوما مستهلكا بالمني، فكان الحكم للمني دون المذي. وقال الإِمام أبو إسحاق الحافظ: المني اليابس إنما يطهر بالفرك، إذا كان رأس الذكر طاهرا وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، وأما إذا لم يكن طاهرا لا يطهر، قال: وهذا رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وكذلك إنما يتطهر المصاب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل، ثم خرج المني؛ لا يطهر الثوب بالفرك، ثم إذا فرك المني اليابس عن الثوب وحُكِمَ بطهاراته، ثم أصابه الماء، هل يعود نجسا؟ فهو على الروايتين عن أبي حنيفة، كذا في "المحيط". وعن الفَضَلي: إن مني المرأة لا يطهر بالفرك؛ لأنه رقيق. فإن قيل: ما تقى في رواية الدارقطني التي ذكرناها؟ قلت: إنما شبهه بالمخاط في لزوجته وقلة تداخله في الثوب، ولهذا أمره بإماطته، لأنه إذا أماطه عنه ذهب أكثره، وبقي القليل منه، مع أنه أمره بإماطته، والأمر للوجوب، ومن يقول بأنه طاهر لا يوجب إزالته. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الأمر للإباحة؟ قلت: أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني؛ لأنه - عليه السلام - لم يتركه على ثوبه أبدا، وكذلك الصحابة من بعده، والأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ؛ ينصرف إلى الكامل، اللهم إلَّا أن يصرف ذلك عنه بقرينة تقوم، فتدل عليه حينئذ.

فإن قيل: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} (¬1) سماه ماءً وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل أنه أراد به الشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا. قلت: إن تسميته ماءً لا يدل على طهارته؛ فإن الله سمّى مني الدواب ماء بقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} (¬2) ولا يدل ذلك على طهارة ماء كل الحيوان. وقد قال الخطابي: حديث الفرك يدل على طهارة المني، وحديث الغسل لا يخالفه، إنما هو استحباب واستظهار بالنظافة، كما قد يغسل من النخامة والمخاط، والحديثان إذا أمكن استعمالهما؛ لم يجز أن يحملا على التناقض. قلت: ما ادعى أحد المخالفة بين الحديثين ولا التناقض، وإنما يدل حديث الغسل على نجاسة المني، بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضًا في بابه، ولكنه خُصَّ بحديث الفرك كما قلنا، ولا نسلم أن غسل هذا مثل غسل النخامة والمخاط. لأنه ورد في حديث أخرجه الدارقطني في "سننه" (¬3): "يا عمار، ما نخامتك ولا دموعك إلَّا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما يُغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء" فانظر كيف ذكره بين الغائط والدم؟! والاستدلال به: أنه أمره بغسل الثوب عن المني بكلمة "إنما" وهي لإثبات المذكور ونفي ما عداه، وإثبات المذكور بنفي ما عداه يدل على التحقيق لا على البدل. والثاني: أنه قرنه بالأشياء التي هي نجسة بالإجماع (¬4)؛ فكان حكمه حكم ما قرن به؛ لأن القرآن في الجملة الناقصة. فإن قيل: قد قال الدارقطني: لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدًّا. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، آية: [54]. (¬2) سورة النور، آية: [45]. (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 127 رقم 1) بتقديم وتأخير في المتن. (¬4) الدم والقيء يختلف في نجاستهما، وإن نقل البعض فيهما الإجماع.

قلت: قال البزار: وثابت بن حماد كان ثقة. فإن قيل: قد قال البيهقي: وأما حديث عمار بن ياسر "أن النبي - عليه السلام - قال: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك ... " الحديث فهو باطل لا أصل له؛ إنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار. وعلي بن زيد غير محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع. قلت: كفاك أن الدراقطني أخرجه. قلت: علي بن زيد غير محتج به لا تُفيد دعواه؛ لأن مسلما روى له مقرونا بغيره، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي، وقال رجل لابن معين: اختلط علي بن زيد؟ قال: ما اختلط علي بن زيد قط وهو أحب إلى من ابن عقيل، ومن عاصم بن عبد الله. وقال العجلي: لا بأس به. وفي موضع آخر: يكتب حديثه. وروى له الحاكم في المستدرك، وقال الترمذي: صدوق. وفي "الجوهر النقي": وأما كون ثابت بن حماد متهما بالوضع فما رأيت أحدا بعد الكشف التام ذكره غير البيهقي، وقد ذكر هو أيضًا هذا الحديث في كتاب المعرفة، وضعّف ثابتا هذا ولم ينسبه إلى التهمة بالوضع. فإن قيل: إنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرا. قلت: هو أصل الأعداء أيضًا كنمروذ وفرعون وغيرهم، على أَنَّا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني وهي أيضًا أصل الأنبياء، ومع هذا لا يقال طاهرة: فَعُلم أن كون المني أصل الأنبياء - عليهم السلام - لا عبرة له في الطهارة، أو نقول: الواجب في خروج المَني أكبر الطهارتين -وهو الغسل- والبول لا يجب بخروجه إلَّا الوضوء، فلو لم تكن نجاسته أقوى من نجاسة البول لم يكن حكمه أغلظ من حكمه. فرضنا أنه طاهر، لكن مخرجه مخرج النجس لأنه يخرج من حيث يخرج البول فينجس؛ لاتصال النجس به. فإن قيل: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط.

قلت: لا نسلم أن القياس صحيح؛ لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلًا، والمَني موجب لاكبر الحدثين، وهو الجنابة، ولا نسلم أن سقوط الغَسْل يدل على الطهارة كما في موضع الاستنجاء. فإن قيل: ما حكم المني إذا جفّ على البدن؟ قلت: قال مشايخ بخارى وسمرقند فيه: إنه كالثوب؛ لأن البلوى فيه أشد من البلوى في الثوب، فَيطَهَّر البدن كالثوب دفعا للحرج. وفي "مبسوط السرخسي" رُوي عن أبي حنيفة في المنى إذا أصاب البدن: لا يطهر إلَّا بالغَسْلِ؛ لأن لين البدن يمنع زوال أثره بالحتّ. ص: وقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - فيما كانت تفعل بثوب رسول الله - عليه السلام - الذي كان يُصلّي فيه إذا أصابه المني: حدثنا يونسُ، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عبد الله بن المبارك وبشر بن المفضل، عن عَمرو بن ميمون، عن سليمان بن يَسَار، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - فيخرج لي الصلاة، وإن بُقَعَ الماء لفي ثويه". ش: لما ذكر فيما مضى أن هذه الآثار إنما جاءت في ثياب النوم ولم تأت في ثياب الصلاة؛ بيّن هنا ما جاء من الآثار التي فيها ما كانت عائشة - رضي الله عنها - تفعل بثوب رسول الله - عليه السلام - إذا أصابه المني، وقد بَيَّنَت عائشة - رضي الله عنها - ها هنا أنها كانت تغسل الثوب الذي كان يصلي فيه إذا أصابه المني، وتفرك من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه، وفعلها هذا دلّ على نجاسة المني. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الجماعة، فالبخاري (¬1): عن عبدان، عن عبد الله بن المبارك ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "كنت أغسل الجنابة" موضع: "المني". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 91 رقم 227).

ومسلم (¬1) عن ابن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن عمرو بن ميمون، قال: "سألت سليمان بن يَسار عن المني يصيب [ثوب] (¬2) الرجل أيغسله أم يغسل الثوب؟ فقال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - عليه السلام - كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا انظر إلى أثر الغسل فيه". وأبو داود (¬3): عن النفيلي، عن زهير. وعن محمَّد بن عبيد البصري، عن سليم، كلاهما عن عمرو بن ميمون، قال: سمعت سليمان بن يَسَار يَقُولُ: سمعت عائشة تقى: "إنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - قالت: ثم أَرَاهُ فيه بقعة أو بقعا". والترمذي (¬4): عن ابن منيع، عن أبي معاوية، عن عمرو بن ميمون ... إلى آخره، ولفظه: "أنها غسلت مَنِيّا (من) (¬5) ثوب رسول الله - عليه السلام -". والنسائي (¬6): عن سويد بن نصر، عن عبد الله، عن عمرو بن ميمون ... إلى آخره نحو رواية البخاري. وابن ماجه (¬7): عن ابن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن عمرو بن ميمون ... إلى آخره نحو: رواية مسلم. قوله: "وإن بقع الماء" جمع بقعة، والمراد منها: آثار الغسل التي في القماش، والجنابة: المني. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 239 رقم 289). (¬2) في "الأصل": الثوب، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 102 رقم 117). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 201 رقم 117). (¬5) في "الأصل": في، والمثبت من "جامع الترمذي". (¬6) "المجتبى" (1/ 156 رقم 295). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 178 رقم 536).

ص: حدثنا أبو بشر الرَقّي، قال: ثنا أبو معاوية، عن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بشر عبد الملك بن مروان بن إسماعيل الرقي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم -بالمعجمتين- الضرير، عن عمرو بن ميمون ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن أبي معاوية، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن سليمان بن يَسَار، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنها غسلت مَنِيّا أصاب ثوب رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أبنا عمرو ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، أبنا عمرو بن ميمون، نا سليمان بن يسار، أخبرتني عائشة: "أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - فيخرج ويصلي، وأنا أنظر إلى البقع في ثوبه من أثر الغَسْلِ". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهكذا كانت عائشة تفعل بثوب النبي - عليه السلام - الذي كان يُصلي فيه، تغسل المني عنه وتفركه من ثوبه الذي كان لا يُصلّي فيه، وقد وافَقَ ذلك ما رُوي عن أمّ حَبية: حّدّثنا ربيعٌ الجيزيُّ، قال: ثنا إسحاقُ بن بَكرْ بن مُضَر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيد بن قَيْس، عن مُعاويةَ بن حُدَيْج، عن معاوية بن أبي سفيان: "أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كان النبي - عليه السلام - يصلي في الثوب الذي يضاجعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يُصبه أذى". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 47 رقم 24253). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 142 رقم 25141).

ش: لما بَيَّنَ الفرق بين الغسْل والفرك في المني الذي يُصِيب الثوب، بما كانت تفعل عائشة - رضي الله عنها - في ثوب النبي - عليه السلام - حيث كان فركها في ثوبه الذي كان ينام [فيه] (¬1) وغسلها في ثوبه الذي كان يصلي فيه، وأن ذلك يدل على نجاسة المَني؛ أكدَّ ذلك بما روي عن أم حبيبة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، أخت معاوية بن أبي سفيان، إحدى زوجات النبي - عليه السلام - وذلك أن معاوية لما سألها هل كان النبي - عليه السلام - يصلي في الثوب الذي يضاجعك فيه؟ قالت أم حبيبة: نعم؛ إذا لم يُصبْه أذى. وأرادت به المني -على ما نذكره- فدلّ ذلك أن ما كان من الثوب الذي أصابه المني لم يكن يصلي فيه إلَّا بالغسل، وهذا يدل على نجاسة المَني. وإسناد الحديث المذكور صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا الربيع وسُوَيد ابن قيس؛ فإنهما أيضًا ثقتان، ومعاوية بن حُدَيج -بضم الحاء وفتح الدال المهملتين- الخولاني المصري، الأصح أن له صحبة، فهذا الحديث فيه ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -. وأخرجه الثلاثة؛ فأبو داود (¬2): عن عيسى بن حماد المصري، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "في الثوب الذي يجامعها فيه؟ فقالت: نعم؛ إذا لم يَرَ فيه أذى". والنسائيُّ (¬3): عن حماد بن عيسى أيضًا إلى آخره، نحو: رواية أبي داود؛ غير أن في لفظه: "في الثوب (الذي) (¬4) يجامع فيه". وابن ماجه (¬5): عن محمَّد بن رمح، عن الليث بن سَعد، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحو: النسائي. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 100 رقم 366). (¬3) "المجتبى" (1/ 155 رقم 29). (¬4) "المجتبى": (الذي كان). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 179 رقم 540).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن محمَّد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ... إلى آخره، ولفظه: "قلت لأم حبيبة زوج النبي - عليه السلام -: كان رسول الله - عليه السلام - يصلي في الثوب الذي ينام معك فيه؟ قالت: نعم، ما لم يَرِ فيه أذى". قوله: "يُضاجعك فيه" أي يجامعك، وهكذا في رواية أبي داود مُصرّحا كما ذكرنا. قوله: "أذى" يتناول سائر النجاسات كالمني والدم والبول والغائط ونحوها، ولكن المراد منه ها هنا المني؛ بقرينة ذكر المضاجعة، فإن قلت: المراد منه الدم، ولهذا جاء مصرحا في بعض روايات أبي داود: "إذا لم يَرَ فيه دمًا". قلت: قد قلت لك: إن لفظة الأذى عام؛ لأنه من أذاه يؤذيه أَذِيَّه وأذى وإِذايَة، وهو إيصال شيء مكروه إلى غيره، ألا ترى إلى قوله - عليه السلام -: "أميطوا عنه الأذى" (¬2) أراد به الشعر والنجاسة، وما يخرجَ على رأس الصبي حين يولد يحلق عنه يوم سابعه. وقوله - عليه السلام -: "أدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬3) وهو ما يؤذي فيها، كالشوك والحجر والنجاسة ونحوها، قلت تعالى {قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4) أراد به الدم؛ فحينئذ لا يرجح معنى خاص فيه إلَّا بقرينة كما في الآية؛ فإنه أريد به الدم؛ بقرينة قوله: {عَنِ الْمَحِيضِ} (4) فقال: {قُلْ هُوَ أَذًى} (4) أي دم مستقذر يؤدي، وكما في الحديث فإنه أريد به المني بقرينة قوله: "يضاجعك" لأن ثوب المضاجعة قد يُصيبه المني وهذا لا يُنْكر. فإن قلت: لِمَ لا يتعين الدم ها هنا لاحتمال الحال ذلك؟ قلت: لا يتأتى ذلك ها هنا؛ لأن المضاجعة حالة الدم حرام، فكان ثوب المضاجعة بعيدا عن الدم، ولكن ليس ببعيد عن المني. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 325 رقم 26803). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6/ 325 رقم 26803). (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" (1/ 63 رقم 35) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) سورة البقرة، آية: [222].

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون دم الاستحاضة، فإن المضاجعة غير ممنوعة؟ قلت: الكلام في مضاجعة النبي - عليه السلام - وشأنه أجلّ من أن تكون مضاجعته نحو ذلك، ورواية أبي داود مسألة بذاتها مستقلة، فافهم؛ فإنه مما سنح به خاطري من الأنوار الإلهية ولله الحمد. ص: حدثنا يُونسُ، قال: أبنا ابن وهب، قال: أخبرني (ابن لهيعة) (¬1) والليث، عن يزيد، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر صحيح على شرط مسلم، وذكر عبد الله بن لهيعة لا يَضُره؛ فإنه مذكور متابعة، ويزيد هو ابن أبي حبيب المذكور. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا عبد الله بن عبد الحكم، ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيج، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: "سألت أم حبيبة، هل كان رسول الله - عليه السلام - يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يكن فيه أذي". ص: وقد رُوي عن عائشة أيضًا ما يوافق ذلك: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المُقدَّميُّ، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن أشعث، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي في لُحُف نسائه. ش: أي ما يوافق حديث أم حبيبة؛ لأن امتناعه عن الصلاة في لحف نسائه كان مخافة أن يكون أصابها شيء من دم الحيض أو المني، فهذا يدل أيضًا أنه كان يجانب الثوب الذي يجامع فيه؛ لاحتمال أن يكون قد أصابه شيء من المني، وذا دليل ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "عمرو، وابن لهيعة"، فزاد مع ابن لهيعة والليث عَمْرًا. (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 220 رقم 405).

النجاسة، وإسناد الحديث المذكور صحيح، والمُقدَّمِي هو محمَّد بن أبي بكر بن عطاء بن مُقَدَّم -بفتح الدال-. وأشعث هو ابن عبد الملك الحُمْراني. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأشعث، عن محمَّد بن سيرين، عن [عبد الله] (¬2) بن شقيق، عن عائشة، قالت: "كان النبي - عليه السلام - لا يصلي في شُعرنا- أو لُحُفِنَا" قال عبيد الله: شك أبي. وفي رواية لأبي داود (¬3): "كان لا يصلي في ملاحفنا". وأخرجه الترمذي (¬4): نا محمَّد بن [عبد] (¬5) الأعلى، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن أشعث -وهو ابن عبد الملك- عن محمَّد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - لا يصلي في لحف نسائه" قال: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "في لُحُف" بضم اللام والحاء، جمع لحاف، وهو اسم لما يلتحف به، وكل شيءٌ تغطيت به فقد التحفت به. و"الشُعُر" بضمتين: جمع شعار، مثل كتُب وكِتَاب، وهو الثوب الذي يَسْتَشْعره الإنسانُ، أي يجعله مما يلي بدنه. "والدثار" ما نلبسه فوق الشعار. و"الملاحف" جمع مِلحفة -بكسر الميم- وهي ما يلتحف به. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 101 رقم 367). (¬2) "الأصل، ك": محمَّد، وهو تحريف أو انتقال نظر من المؤلف، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 101 رقم 368). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 496 رقم 600). (¬5) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي".

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حُميد، قال: ثنا غُنْدَر، عن شعبة، عن أشعث ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "في لحفنا". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأحمد بن حميد الطُرَيْثِيثي، أبو الحسن الكوفي، شيخ البخاري. وغُنْدَر -بضم الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وفي آخره راء - وهو لقب محمَّد بن جعفر الهُذلي، روى له الجماعة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فثبت بما ذكرنا أن رسول الله - عليه السلام - لم يكن يصلي في الثوب الذي ينام فيه، إذا أصابه شيء من الجنابة، وثبت أن ما ذكر الأسود وهمام، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - إنما هو في ثوب النوم؛ لا في ثوب الصلاة. ش: أبي بما ذكرنا من حديث أم حبيبة، وحديث عائشة الموافق لحديث أم حبيبة، والباقي ظاهر. وهمام هو ابن الحارث، وقد مضى في الأحاديث الأول. ص: فكان من (حجة أهل) (¬1) القى الأول على أهل القول الثاني في ذلك: ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أبنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - يابسا بأصابعي، ثم يصلي فيه ولا يغسله". ش: هذا اعتراض من جهة الفريق الأول على ما ذكره الفريق الثاني، من قولهم: إن ما ذكره الأسود وهمام عن عائشة من حديث الفرك إنما كان في ثوب النوم لا في ثوب الصلاة، وأن عائشة إنما كانت تفرك المني من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه، وأنها قالت: "كان - عليه السلام - لا يصلي في لحف نسائه" وأن كل ذلك دليل على نجاسة المني. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وفي "شرح المعاني": الحجة لأهل.

وجه الاعتراض: أن قول عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - يابسا ... " إلى آخره. صريح أنه كان - علية السلام - يصلي في ثوب نومه، بعد فرك المني عنه، بدون الغَسْل، فهذا يدل على طهارة المني، ثم إسناد هذا الحديث صحيح على شرط مسلم. وخالد الأول: هو ابن عبد الله الطحان الواسطي. وخالد الثاني: هو ابن مهران الحذاء البصري. وأبو معشر اسمه زياد بن كليب الكوفي. وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا حماد، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام - ثم يذهبُ فيُصلي فيه". وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" أيضًا: عن زهير، عن عثمان بن عمرو، عن هشام، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن الجنابة تكون في الثوب، فقالت: كنا نفركه من ثوب رسول الله - عليه السلام - ثم يصلي فيه". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عائشة، مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث. ص: حدثنا محمَّد بن الحجاج وسليمان بن شعيب، قالا: نا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كنت أفركه من ثوب رسول الله - علية السلام - ثم يُصلي فيه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 132 رقم 25052).

ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. قوله: حماد بن سلمة، عن حماد وهو ابن أبي سليمان، أحد مشايخ أبي حنيفة. قوله: "كنت أفركه" أي: المني. ص: حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا قزعة بن سُوَيْد، قال: حدثني حميد الأعرج وعبد الله ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة، مثله. ش: قزعة فيه مقال. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن يحيى الأزدي، نا عاصم بن [مهجع] (¬1) نا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج، عن مجاهد، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - عليه السلام -" وليس فيه: "ثم يصلي فيه". ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا عيسى بن ميمون، قال: ثنا القاسم بن محمَّد، عن عائشة مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو الثاني والعشرون من الطرق التي رويت عن عائشة كما ذكرنا، وعيسى بن ميمون مولى القاسم، ضعيف وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (¬2): ثنا عباد بن منصور، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة قالت: "لقد رأيتني أفرك الجنابة من ثوب رسول الله - عليه السلام - ولا يغسل مكانه". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": مهج، وهو تحريف، والمثبت من "الجرح والتعديل" (6/ 350) و"ثقات ابن حبان" (8/ 506). وقد روى البزار في "مسنده" -في الأجزاء المطبوعة حتى الآن- من طريق الحسن بن يحيى الأزدي عن عاصم بن مهجع في ثلاثة مواضع (3/ 303 رقم 1093)، و (6/ 31 رقم 2099)، و (8/ 402 رقم 3478). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 202 رقم 1420).

ص: قالوا: ففي هذه الآثار أنها كانت تفرك المني من ثوب الصلاة، كما تفركه من ثوب النوم. قال أبو جعفر: وليس في هذا عندنا دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون كانت تفعل به هذا، فيطهر بذلك الثوب، والمني في نفسه نجس؛ كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى. حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي، عن محمَّد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو بنعله؛ فطهورهما التراب". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روينا في المني، يحتمل أن يكون كان حكمه عندهم كذلك، يطهر الثوب بإزالتهم إياه عنه بالفرك، وهو في نفسه نجس، كما كان الأذى يطهر النعل بإزالتهم إياه عنها وهو في نفسه نجس. ش: أي قالت أهل المقالة الأولى: "ففي هذه الآثار" أراد بها الأحاديث التي رواها علقمةُ والأسود وهمامٌ ومجاهدُ والقاسمُ بن محمَّد عن عائشة: "أنها كانت تفرك المَني من ثوب الصلاة كما كانت تفركه من ثوب النوم" فهذا يدل على طهارة المَني، وأجاب عن ذلك بقوله: "وليس في هذا" أي فيما قلتم ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "أن يكون كانت" أي عائشة - رضي الله عنها - والضمير في "أن يكون" يرجع إلى الشأن أو الأمر المقدر، وهو اسمه. قلت: "كانت تفعل به" في محل النصب، خبره. قوله: "والمني نجس في نفسه" جملة إسمية وقعت حالا. ثم الحديث المذكور صحيح، ومحمد بن كثير الصنعاني وإن كانوا تكلموا فيه ولكن ابن حبان وثقه.

وروى الحديث في "صحيحه" (¬1): بغير هذا الإسناد عن أبي سعيد الخدري. والحاكم في "مستدركه" (¬2): وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأبو داود (¬3): رواه بهذا الإسناد حيث قال: ثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب". وقال النووي في "الخلاصة": رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان: هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة. ورواه أبو داود (¬4) أيضًا من حديث عائشة - رضي الله عنها -: ثنا محمود بن خالد، ثنا محمَّد يعني ابن عائذ، نا يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي، عن محمَّد بن الوليد، قال: أخبرني أيضًا سعيد بن أبي سعيد، عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - عليه السلام - معناه، أبي معنى حديث أبي هريرة. وقال المنذري: حديث عائشة حديث حسن، غير أنه لم يذكر لفظه. قلت: رواه ابن عدي في "الكامل" (¬5): عن عبد الله بن زياد بن سمعان القرشي، عن سعيد المقبري، عن القعقاع بن حكيم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سألت رسول الله - عليه السلام -[عن] (¬6) الرجل يطأ بنعليه في الأذى، قال: التراب لهما طهور". فإن قلت: قال الدارقطني: مدار الحديث علي ابن سمعان وهو ضعيف. قال ابن الجوزي: قال مالك: هو كذاب. وقال أحمد: متروك الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 250 رقم 1404). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 271 - 272 رقم 590، 591). ولكن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه. (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 105 رقم 386). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 105 رقم 387). (¬5) "الكامل" لابن عدي (4/ 126). (¬6) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "الكامل" لابن عدي.

قلت: ذكر صاحب "الكمال": قال أبو زرعة، حدثني أحمد بن صالح، قال: قلت لابن وهب: ما كان يقول مالك في ابن سمعان؟ قال: لا يقبل قول بعضهم في بعض. وروى له الترمذي مقرونا بيونس بن يزيد. ورواه أيضًا أبو داود (¬1): من حديث أبي سعيد الخدري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: "بينما رسول الله - عليه السلام - يُصلي بأصحابه؛ إذ خَلَع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟! قالوا: رأيناك ألقيت نعلك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - عليه السلام -: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذرا. وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى، فلْيمسحه، وليصلي فيهما". وأخرجه ابن حبان (¬2) أيضًا نحوه. قوله: "الأذى" أرادَ به النجاسة. و"النعل" الحذاء مؤنثة، وتصغيرها نعيلة. وقال ابن الأثير: وهي التي تلبس في المشي وتُسمى الآن تاسُومة. واستدلت أصحابنا بهذه الأحاديث أن الخف ونحوه إذا أصابته النجاسة التي لها جرم كالروث، والعذرة، والدم، والمني، فجفَّت، فدلكه بالأرض جاز؛ خلافا لمحمد، وكان الأوزاعي يستعمل هذه الأحاديث على ظاهرها، وقال: يجزئه أن يمسح القذر من نعله أو خفه بالتراب، ويصلي فيه. وروي مثله عن عروة بن الزبير، وكان النخعي يمسح النعل والخف يكون فيه السِّرقين عند باب المسجد ويصلي بالقوم، وقال أبو ثور في الخف والنعل إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحا ولا أثرا: رجوت أن يجزئه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 175 رقم 650). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 560 رقم 2185).

وقال الشافعي: لا تطهر النجاسات إلَّا بالماء، سواء كانت في ثوب أو حذاء. وبه قال مالك وأحمد وزفر، والحديث حجة عليهم، ثم بإطلاق الحديث أَخذَ أبو يُوسف، حتى يطهر الخف أو النعل عنده بالمسح، سواء كان النجس رطبا أو يابسا. وقال أبو حنيفة: المراد بالأذى: النجاسة العينية اليابسة؛ لأن الرطبة تزداد بالمسح بالأرض انتشارا وتلوثا. فإن قيل: الحديث مطلق؛ فلِمَ قيده أبو حنيفة هذا القيد؟ قلت: التي لا جرم لها خرجت بالتعليل، وهو قوله: "فطهورهما التراب" في رواية أبي جعفر، وفي رواية أبي داود: "قال: الشراب طهور" أي يزيل نجاسته، ونحن نعلم يقينا أن النعل والخف إذا تشرب البول أو الخمر لا يزيله المسح، ولا يخرجه من أجزاء الجلد، فقال: إطلاق الحديث مصروف إلى الأذى الذي يقبل الإزالة بالمسح، حتى إن البول أو الخمر لو استجسد بالرمل أو الشراب فجف؛ فإنه يطهر أيضًا بالمسح -على ما قال شمس الأئمة؛ وهو الصحيح- فلا فرق أن يكون جرم النجاسة منها أو من غيرها، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر، والشيخ الإِمام أبو بكر محمد بن الفضل عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف مثل ذلك؛ إلَّا أنه لم يشترط الخفاف. وذكر في "الجامع الصغير" في النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف والنعل وحَكّه أو حته بعد ما تبيّن؛ أنه يطهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وذكر في الأصل: إذا مسحهما بالتراب تَطْهر. قال مشايخنا: لولا المذكور في "الجامع الصغير" لكنا نقول لا يطهران ما لم يمسحهما بالتراب؛ لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة، فالمذكور في "الجامع الصغير" أن الحك له أثر. وقال القدوري في شرحه: ومعنى قول أبي حنيفة في هذه المسألة: إن الخف والنعل يطهران في حق جواز الصلاة معه،

أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجسا -على إحدى الروايتين- وأصل المسألة الأرض إذا ذهب أثر النجاسة عنها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على إحدى الروايتين. والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فالذي وقَفْنا عليه من هذه الآثار المروية في المنّي: هو أن الثوب يطهر مما أصابه من ذلك بالفرك إذا كان يابسا، ويُجزِئ ذلك من الغسل، وليس في شيء من هذا دليل على حكمه هو في نفسه؛ طاهر هو أم نجس؟ فذهب ذاهب إلى أنه قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - ما يدل على أنه كان عندها نجسا، فذكر في ذلك. ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها - أنها قالت في المني إذا أصاب الثوب: "إذا رأيته فاغسله، وإن لم تره فانضحه". ش: لما ذكر أن أحاديث الفرك لم تَدلّ قطعا على طهارة المني؛ لاحتمال أَنْ يَطهر الثوب بالفرك والمني في نفسه نجس، كما في مسألة النعل؛ فإنه يَطْهُر بالمسح والذي أصابه في نفسه نجس، وأن ذلك كان احتمالا، وبالاحتمال لا تقوم الحجة؛ أشار هنا إلى أن الذي يُوقفُ عليه من الآثار المذكورة: هو أن الثوب يَطهُر مما أصابه من المني بالفرك إذا كان يابسا، وليس فيه دليل يَدُل على حكم المَني في نفسه، هل هو طاهر أم نجس؟ يعني الدليل الصريح، وذكر أن طائفة من الأصحاب قالوا: إنه نجس في نفسه، واحتجوا على ذلك بحديث عائشة هذا؛ لأن قولها: "اغسله" يدل على أنه كان عندها نجسا؛ إذ لو لم يكن نجسا لما أمرَت بغسله عند الرؤية، وبالنضح عند عدمها، فرد الطحاوي هذا بقوله: قيل له ما في ذلك دليل على ما ذكرت على ما يأتي، ثم تبين أن نجاسته بطريق النظر والقياس على ما نحرره، إن شاء الله تعالى. وإسناد هذا الحديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود.

قوله: "فانضحه" أبي انضح عليه شيئا من الماء، والنضح: الرش بالحاء المهملة، وأما بالمعجمة فهو الأثر يبقى في الثوب وغيره، قال أبو زَيد: النضح بالحاء المهملة الرش مثل النضخ بالخاء المعجمة وهما سواء، وإنما أَمَرَت بالنضح عند عدم الرؤية؛ للاحتياط، وقطعا للوسوسة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: أنا أبو بكر بن حفص، قال: سمعت عمتي تُحدِّث، عن عائشة - رضي الله عنها - مثله. ش: عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، أبو عبد الله، ثقة. وأبو بكر بن حفص بن عمر بن سَعْد بن أبي وقاص القرشي الزهري، واسمه عبد الله، روى له الجماعة. وعمته: الظاهر أنها عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وهي عمة أبيه فقال: عمتي تجوزا؛ لأنه لا يُعْرف في آل سَعْدٍ امرأة لها رواية غيرها، وقد أدركها أبو بكر بن حفص؛ لأنه روى عن جده عمر بن سَعْد؛ فبالضرورة يكون روى أيضًا عن أخت عمر التي هي عمة أبيه، وعائشةُ هذه روى لها البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. إسناد صحيح، وقد روي عن أبي هريرة وسالم نحوه.

قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن أبي هريرة: "أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: إن رأيت أثره فاغسله، وإن علمت أن قد أصابه ثم خفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككت فلم تدر أصاب الثوب أم لا فانضحه". ثنا (¬2) محبوب القواريري، عن مالك بن حبيب، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: "سأله رجل فقال: إني احتلمت في ثوبي. قال: اغسله. قال: خفي عليَّ. قال: انضخه بالماء". ص: قال: فهذا قد دلّ على نجاسته عندها. قيل له: ما في ذلك دليل [على ما ذكرت] (¬3) لأنه لو كان حكمه عندها حكم سائر النجاسات من الغائط والبول والدم؛ لأمرت بغسل الثوب كله إذا لم يعرف موضعه منه، ألا ترى أن ثوبا لو أصابه بول فجف مكانه، أنه لا يطهره النضح؛ فإنه لا بد من غسله كله حتى يعلم طهوره من النجاسة، فلما كان حكم المني عند عائشة إذا كان موضعه من الثوب غير معلوم النضح؛ ثبت بذلك أن حكمه كان عندها بخلاف سائر النجاسات. ش: أي قال هذا الذاهب المذكور عند قوله: "فذهب ذاهب إلى أنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه كان عندها نجسا، وأشار بقوله: "قيل له". أبي: لهذا الذاهب: ما فيما قلت دليل على ما ادّعيت، والباقي ظاهر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد اختلف أصحاب النبي - عليه السلام - في ذلك، فروي عنهم في ذلك: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هُشَيمٌ، قال: أنا حُصَينٌ، عن مُصْعب بن سعد، عن أبيه: "أنه كان يفرك الجنابة عن ثوبه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 81 رقم 899). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 82 رقم 907). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني".

فهذا يحتمل أن يكون كان يَفُعل ذلك؛ لأنه عنده طاهر، ويحتمل أن يكون كان يَفعلُ ذلك كما يَفعلُ بالرَوث المحكوك من النعل؛ لا لأنه عنده طاهر. ش: "في ذلك". أبي في حكم المني هل هو طاهر أم نجس؟ فمن ذلك ما روي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - "أنه كان يفرك الجنابة" فهذا يحتمل مثل احتمال ما في بعض أحاديث عائشة -رضي الله عنها-، فلم يدل على أنه طاهر عنده أو نجس. وإسناد حديثه صحيح على شرط الشيخين وسعيد: هو ابن سليمان الواسطي المعروف بسَعْدُويه. وحُصن -بضم الحاء- هو ابن عبدِ الرحمن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن حصين، عن مصعب بن سَعد، عن سعد: "أنه كان يفرك الجنابة من ثوبه" والجنابة: المني. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدّثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: "أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر- رضي الله عنه - عرس ببعض الطريق، قريبا من بعض المياه، فاحتلم عمر بن الخطاب، وقد كاد أن يصبح، فلم يجد ماءً في الركب، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك. فقال عمر - رضي الله عنه -: بل أغسل ما رأيت، وانضح ما لم أره". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، ويونس شيخه. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: "أن عمر أصابته جنابة وهو في سفر، فلما أصبح، قال: أترونا ندرك الماء قبل طلوع الشمس؟ قالوا: نعم فأسرع المسير حتى أدرك، فاغتسل، وجعل يغسل ما رأى من الجنابة في ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 83 رقم 918). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 370 رقم 1446).

ثوبه، فقال له عمرو بن العاص: لو لبست ثوبا غير هذا وصليت؟ فقال له عمر: إن وجدت ثوبا وجده كل إنسان؟! إني لو فعلت لكان سُنة، ولكني أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر". قوله: "في رَكبْ" بفتح الراء، وهم أصحاب الإبل في السفر، دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها، والجمع أَرْكُبْ، والرَّكَبَةُ -بالتحريك-: أقل من الركب، والأركوب -بالضم-: أكثر من الركب، والركبان الجماعة منهم، والرُكَّاب: جمع راكب، يقال: هم رُكَّابُ السفينة. قوله: "عَرَّس" بتشديد الراء: من التعريس، وهو نزول القوم في السفر من آخر الليل، يقفون وقفة للاستراحة، ويرتحلون، وأَعْرَسَ: لغة فيه قليلة، والموضع: مُعرِّسٌ ومُعْرَسٌ، والعِرِّيس: موضع الأسد. قوله: "إن وجدتُ وجده كل إنسان؟ " يعني إن وجدت أنا الثوب، فهل وجده كل إنسان؟!. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زُيَيْد بن الصلت، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب إلى الجرَف، فنظر فإذا هو قد احتلم ولم يغتسل، فقال: والله ما أراني إلَّا احتلمت وما شعرت، وصليت وما اغتسلت، فاغتسل وغَسل ما رأى في ثوبه، ونضح ما لم يَرَ". ش: هذا أيضًا إسناده صحيح، وزُيَيّد -بضم الزاي المعجمة وبيائين آخر الحروف، أولاهما مفتوحة، والأخرى ساكنة- ابن الصلت الكندي، وثقة ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) مختصرا: عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زُييد بن الصلت: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - غسل ما رأى، ونضح ما لم ير، وأعاد بعد ما أضحى متمكنا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 82 رقم 901).

قوله: "إلى الجُرف" بضم الجيم والراء: موضع قريب من المدينة، وهي في الأصل ما تجرفه السيول وأكلته من الأرض. قوله: "ما أراني" أي ما أرى نفسي. قوله: "وما شعرت" أي وما علمتْ. قوله: "ما رأى في ثوبه" أي من المني. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأما ما رُوي عن يحيى بن عبد الرحمن، عن عمر، فهو يدل على أن عمر فعل ما لا بد له منه؛ لضيق وقت الصلاة ولم ينكر ذلك عليه أحد ممن كان معه، فدل ذلك على متابعتهم إياه على ما رأى من ذلك، وأما قوله: "وأنضح ما لم أر" فإن ذلك يحتمل أن يكون أراد به: وانضح ما لم أره مما أتوهم أنه أصابه ولا أتيقن ذلك؛ حتى يقطع ذلك (الشك عنه) (¬1) فيما يستأنف، ويقول: هذا البلل من الماء. ش: ملخص هذا الكلام: أن هذا من عمر - رضي الله عنه - لا يدل على طهارة المني عنده، ولا على نجاسته، كما هو هكذا في حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله، عن أبي هريرة، قال في المني يصيب الثوب: "إَنْ رأيته فاغسله، وإلَّا فاغسل الثوب كله". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا يدل على أنه قد كان يراه نجسا. ش: إسناده صحيح، وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي، شيخ البخاري وغيره. والزهري: هو محمَّد بن مسلم. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح المعاني": عنه الشك.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن أبي هريرة، أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: "إن رأيت أثره فاغسله، وإن علمت أن قد أصابه ثم خفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككت فلم [تدر] (¬2) أصاب الثوبَ أم لا؟ فانضحه". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نُعيم، قال: ثنا سفيان، عن حبيب -يعني ابن أبي ثابت- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "امسحه بإذخر". فهذا يدل على أنه قد كان يراه طاهرا. ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين. وسفيان هو الثوري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. قوله: "امسحه" أي المني، والدليل عليه في رواية ابن أبي شيبة عن ابن عباس في المني: "امسحه -ويُروى امسحوا- بإذخرة". ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، نحوه. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وعبد الرحمن: هو ابن زياد الرّصاصي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا هُشيم، أنا حجاج وابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، في الجنابة تصيب الثوب قال: "إنما هو كالنخامة أو النخاعة، أَمِطْه عنك بخرقةٍ، أو بإذخرة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 81 رقم 899). (¬2) في "الأصل، ك": تدري، وهو خلاف العبادة، والمثبت من "المصنف". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 83 رقم 923). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 83 رقم 924).

قوله: "أَمِطْه" أي أزله، من أَمَاطَ يُمِيطُ. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن مِسْعر، عن جبلة بن سحيم: "قال: سألت ابن عمر عن المني يُصيبُ الثوب. قال: انضحه بالماء". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح: الغَسْل؛ لأن النضح قد يُسَمي غسلا، قال رسول الله - عليه السلام -: "إني لاعرف مدينة ينضح البحر بجانبها" يعني يضرب البحر بجانبها، ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد غير ذلك. ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله. قوله: "لأن النضح قد يُسَمّي غَسْلا"، وفي "المطالع" قوله: ونضح الدمَ عن جبينه أي غسله ونزعه، والنضح الصَبُّ أيضًا، والنضخُ: الرَشّ، ومنه حديث بول الصبي: "فنضحه ويقال: غسله". وقوله: "وانضح فرْجَك بالماء" أي رُشَّه؛ مخافة الوسواس. وقيل: اغسله. وهو أظهر هنا، وفي حديث دم الحيض "تقرصه بالماء ثم لتنضَحْه" أي تغسله، فإن قلت: أصَل النضح الرشّ. يقال: نضح عليه الماء ونضحه به إذا رشه عليه. قلت: قد يستعمل في معنى الغسل كما ذكرنا، وإذا أكثر الرش يكون غسْلا. واستدل الطحاوي على أن النضح قد يُسَمّي غَسْلا بحديث نضح البحر، أخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، أنا جرير، أنا الزبير بن خِرّيت، عن أبي لبيد، قال: "خرج رجل من ضاحية مهاجرا، يقال له: بيرح بن أسد، فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - عليه السلام - فرآه عمر - رضي الله عنه - فعلم أنه غريب، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 369 رقم 1443). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 44 رقم 308).

أهل عُمان. قال: من أهل عمان؟! قال: نعم. قال: فأخذ بيده فأدخله على أبي بكر - رضي الله عنه -فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعْت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني لأعلم أرضا يَقال لها: عُمان، ينضحُ بناحيتها البحرُ بها [حي من العرب] (¬1) لو أتاهم رسولي ما رَمَوْهُ بسهم ولا حجر". وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده" (¬2). قوله: "ويحتمل أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - أراد غير ذلك" كأن يريد من النضح الرش لا الغَسل، ويكون ذلك محمولا على ما إذا خفي مكانه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك ابن عمير، قال: سئل جابر بن سمرة، عن الرجل يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله. قال: "صَلِّ فيه؛ إلَّا أن ترى فيه شيئًا فتغسله ولا تنضحه؛ فإن النضح لا يزيده إلَّا شرا". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة: بكار. وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك. وأبو عوانة: الوضّاح اليشكري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) مرفوعًا: عن عبد الله بن ميمون، عن عبيد الله -يعني ابن عمرو- وعن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: "سمعت رجلًا يسأل النبي - عليه السلام - قال: أُصلِّي في ثوبي الذي آتي فيه أهلي؟ قال: نعم؛ إلَّا أن ترى فيه شيئًا، فتغسله". وقال أبو عبد الرحمن: [قال أبي] (¬4) هذا الحديث لا يُرْفَعُ عن عبد الملك. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬2) "مسند أبي يعلى" (1/ 101 رقم 106). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 89 رقم 20857). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

قوله: "فَتَغْسِلَهُ" بالنصب؛ عطفا على قوله: "أن ترى". وكذا قوله: "ولا تَنْضَحَه" بالنصب عطفا عليه، ويجوز الجزم فيه؛ على النهي. قوله: "إلَّا شَرا" أراد به الأقذار. كما في رواية ابن أبي شيبة (¬1): عن ابن عليه، عن أيوب، عن الحكَم -في الجنابة في الثوب- قال: "إن رأيته فاغسله، وإن لم تره فدعْه، ولا تنضحه بالماء؛ فإن النضح لا يزيده إلَّا قذرا". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا السريٌّ بن يحيى، عن عبد الكريم بن رُشَيْد، قال: سْئِل أنس بن مالك عن قطيفة أصابتها جنابة لا ندْري أين موضعها؟ قال: اغسِلْها". ش: هذا إسناد صحيح بصريُّ. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن السري بن يحيى، عن عبد الكريم بن رُشَيْد، عن أنس: "في رجل أجنب في نومه لم يَرَ أثره- قال: يغسله كله". فهذا يدل على أن أنسا كان يراه نجسا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما اختلف فيه هذا الاختلاف؛ ولم يكن فيما روينا عن رسول الله - عليه السلام - دليل على حكمه كيف هو؟ اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فوجدنا خروج المني حدثا أغلظ الأحداث؛ لأنه يُوجبُ أكبر الطهارات، فأردنا أن ننظر في الأشياء التي خروجها حدث، كيف حكمها في نفسها؟ فرأينا الغائطَ والبولَ خروجهما حدثٌ، وهما نجسان في أنفسهما، وكذلك دم الحيض والاستحاضة هما حدث، وهما نجسان في أنفسهما، ودمُ العروق كذلك في النظر، فلما ثبت بما ذكرنا أن كل ما كان خروجه حدثا فهو نجسٌ في نفسه، وقد ثبت أن خروج المني حدث، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 82 رقم 911). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة (1/ 82 رقم 902).

ثبت أيضًا أنه في نفسه نجسٌ، فهذا هو النظر فيه، غير أنَّا اتَّبَعْنَا في إباحة حكه إذا كان يابسا ما روي في ذلك عن النبي - عليه السلام - وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: ملخصه: لَمَّا لم يدل دليل قطعا من الأحاديث المذكورة والآثار المروِّية على نجاسة المني ولا على طهارته؛ لكثرة الاختلاف فيها؛ رجعنا إلى بيان حكمه بالنظر والقياس، فنقى: المني حدث؛ لأنه خارج من سبيل، وكل خارج من سبيل نجس؛ فالمني نجس. قوله: "غير أنا اتبعنا ... " إلى آخره. جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إذا ثبت كون المني نجسا كان الواجب غسله مطلقا، رطبا كان أو يابسا كسائر النجاسات. فأجاب عنه: بأن القياس كان يقتضي ما ذكرتم، ولكنا تركناه بالأحاديث الواردة بالفرك في يابسه. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" أي: كون المني نجسا، قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول مالك أيضًا كما ذكرنا، وفي "الجواهر" للمالكية: المني نجس، وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس هل هو رَدُّه إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وعلى تحقيقه يخرج حكم طهارة مني ما يؤكل من الحيوان. والله أعلم.

ص: باب: الرجل الذي يجامع ولا ينزل

ص: باب: الرجل الذي يجامع ولا ينزل ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل يجامع ولا يُنْزِل من المني، كيف يكون حكمه؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفي. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد الجُهني: "أنه سأل عثمان - رضي الله عنه - عن الرجل يجامع فلا ينزل، قال: ليس عليه إلَّا الطهور، ثم قال: سمعته من النبي - عليه السلام -قال: وسألت علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - فقالوا ذلك". قال: وأخبرني أبو سلمة، قال حدثني عروة، أنه سأل أبا أيوب فقال ذلك". ش: إسناده صحيح، ورجالُه رجال الصحيحين ما خلا يزيد، وهو أيضًا ثقة، وروى عنه النسائي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو نُعَيم، قال: ثنا عبد الوارث، عن الحسين المعلم، قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عطاء بن يسَار أخبره، أن زيد بن خالد الجهني أخبره، أنه سأل عثمان بن عفان فقال: "أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ فقال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. وقال عثمان - رضي الله عنه - سمعته من رسول الله - عليه السلام - فسألت [عن] (¬2) ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب، فأمروه بذلك" وأخبرني أبو سلمة أن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 111 رقم 288). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد الوارث بن عبد الصمد، عن أبيه، عن جده، عن الحسن ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن لفظه: "قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره". قوله: "ليس عليه إلَّا الطهور" أراد به: الوضوء، كما جاء مفسرا في رواية الشيخين. ص: حدثنا يزيدُ، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا عبد الوارث ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر عليّا، ولا سؤال عروة أبا أيوب. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن يزيد بن سنان، عن موسى بن إسماعيل التَبُوذكي البصري، شيخ البخاري. وأخرجه البزار في "سننه" (¬2) وقال: ثنا محمَّد بن عثمان بن كرامة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد الجهني: "أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع ولا يُنْزِل، فقال: ليس عليه إلَّا الوضوء. وقال عثمان أشْهَدُ أني سمعتُ ذلك من رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الوارث، عن حُسَين المعلم، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يَسار، عن زيد بن خالد، قال: "سألت عثمان عن الرجل يُجامعُ أهله ثم يكسل، قال: ليْس عليه غُسْل. فأتيتُ الزبير بن العوام وأبي بن كعب، فقالا مثل ذلك، عن النبي - عليه السلام -". ش: هذا طريق آخر عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحمّاني ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 270 رقم 347). (¬2) كذا في "الأصل، ك": "سننه"، والصواب: "مسنده"، فإنه مرتب على مسانيد الصحابة ومن هنا سُمي "مسندا" وليس "سننًا" كما هو معلوم من علم أصول الحديث. والحديث في "مسند البزار" (2/ 13، 14 رقم 351).

وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث حسين المعلم، عن يحيى، أن أبا سلمة حدثه، أن عطاء بن يسَار حدثه، أن زيد بن خالد الجهني حدثه: "أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع فلا ينزل، فقال: ليس عليه غسل، ثم قال: سمعته من رسول الله - عليه السلام - فسألت بعد ذلك عليَّا والزبيرَ وطلحةَ وأُبَيّا، فقالوا مثل ذلك، عن النبي - عليه السلام -". قوله: "يكسل" من الإكسال؛ يُقال: أكسل الرجل في الجماع، إذا خالط أهله ولم يُنْزل، وأصله من الكَسَلِ، وهو التثاقلُ عن الأمْر، وقد كَسِلَ -بالكسر- فهو كسلان، وقوم كسالى، وإن شئت كسرت اللام. ص: حدثنا يزيد، قال ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة. قال: وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي أيوب الأنصاري، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في الإكسال إلَّا الطُهُور". ش: هذان طريقان صحيحان من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - الأول: عن يزيد بن سنان، عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا سُوَيْد بن عَمْرو، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن هشام بن عروة، ونا أبو كريب -واللفظ له - قال ثنا: أبو معاوية، قال: ثنا هشام، عن أبيه، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 164 رقم 748). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 87 رقم 964). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 270 رقم 346).

أبي أيوب، عن أبي بن كعب، قال: "سألت رسول الله - عليه السلام - عن الرجل يُصيب من المرأة ثم يكْسل، فقال: يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ ويصل". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا نعيم، قال: أنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري، عن أبي بن كعب، قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع فيكسل، قال: يغسل ما أصابه، ويتوضأ وضوءه للصلاة". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، ونعيم هو ابن حماد الأعْوَر، نزيل مصر، روى له البخاريّ. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، أنا هشام بن عروة، أخبرني أَبي، أخبرني أبو أيوب، أن أُبَيّا حدّثه قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: الرجل يجامع أهله فلا ينزل. قال: يَغْسل ما مسّ المرأة منه، ويتوضأ ويصلي". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بَشّار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن عُروة بن عياض، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: "قلت لإخواني من الأنصار: اتركوا الأمر كما تقولون: الماء من الماء؛ أرأيتم إن أَغْتَسِلُ؟ فقالوا: لا والله، حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله". ش: إسناده صحيح، وعروة بن عياض بن عمرو بن عبد القاري، روى له مسلم. وأبو سعيد الخدري: اسمه سعد بن مالك، مشهور باسمه وكنيته. وأخرجه أبو العباس السراج في "مسنده": ثنا روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن ابن عياض أخبره، أن أبا سعيد كان ينزل في دارهم، وأن أبا سعيد أخبره: "أنه كان يقول لأصحابه: أرأيتم لو اغتسلتُ وأنا ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 113 رقم 21125).

أعرف أنه كما تقولون؟ قالوا: لا حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله، في الرجل يأتي امرأته ولا يُنزل". قوله: "اتركوا الأمر كما تقولون: الماء من الماء" أي: اتركوا العمل بهذا القول، أو اتركوا أمركم للناس، بألَّا تغتسلوا إلَّا من الإنزال. قوله: "أرأيتم" معناه أخبروني. قوله: "إن أَغْتسل" خبر إن محذوف، يعني: إن أغتسل أنا من الاكسال، ماذا يترتب عليَّ؟ فقالوا- أي الأنصار: لا، والله ما نترك قولنا بهذا، ولا نأمرك بالاغتسال، حتى لا يكون في نفسك حرج -أي ضيق- مما قضى الله ورسوله- أي مما حكم الله ورسوله. ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - عليه السلام - مرَّ على رجل من الأنصار، فدعاه؛ فخرج إليه ورأسه يقطرُ ماء، فقال: لعلَّنَا أعجلناك؟ قال: نعم. قال: فإذا أُعجلت أو قُحِطْتَ فعليك الوضوء". ش: إسناده صحيح، والحكم: هو ابن عُتَيْبَة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا غُنْدر، عن شعبة. ونا محمَّد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ذكوان، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - عليه السلام - مرّ على رجل من الأنصار، فأرسل إليه، فخرج ورأسه يقطر ماء، فقال: لعلنا أعجلناك؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: إذا أُعْجلْت أو (قُحِطت) (¬2) فلا غسل عليك، وعليك الوضوء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 269 رقم 345). (¬2) في "صحيح مسلم": أقحطت.

وأخرجه البخاري (¬1): عن إسحاق بن منصور، عن النضر، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. قوله: "ورأسه يقطر" جملة إسمية وقعت حالا. قوله: "فإذا أُعْجلْت" بضم الهمزة وكسر الجيم، يقال: أعجله وتَعَجَّله وعَجَّله، تعجيلا: إذا استحثَّه. قوله: "أو قُحِطْتَ" بدون الألف، وكذا في رواية الشيخين؛ قاله ابن بطال، ويقال بالألف، وذكر صاحب "الأفعال": أنه يقال: أُقْحِط الرجل: إذا أَكْسَلَ في الجماع عن الإنزال، ولم يذكر قُحِطَ. وقال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون: قَحِطْتَ بفتح القاف. وقال عبد الله بن أحمد النحوي: أصحابي يقولون: بضم القاف. وفي "المطالع": ورُوي "أُقحطت" بضم الهمزة، يقال: قَحَطَ وقُحِطَ، كل ذلك إذا لم ينزل، وقَحِطت السماء، وقُحِطَت وقَحَطَت إذا لم تمطر. وقال أبو علي: قَحِط المطرُ وقُحِط الناسُ والأرض، وأُقْحِطوا وقُحِطوا وأَقْحَطوا. انتهى. ومعنى الإقحاط: عدم الإنزال، وهو استعارة من قحوط المطر: وهو انحباسُه، وقحوط الأرض: وهو عدم إخراجها النبات. ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد، [أن] (¬2) رسول الله - عليه السلام - قال: "الماء من الماء". ش: إسناده صحيح، وابن شهاب: هو محمَّد بن مسلم، وأبو سلمة: عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 77 رقم 178). (¬2) في "الأصل، ك": عن، والمثبت من "شرح المعاني".

وأخرجه مسلم (¬1) وقال: ثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ... إلى آخره نحوه. قوله: "الماء من الماء" يعني وجوب الغسل من إنزال المني، وقد استدل أبو بكر الدقاق وبعض الحنابلة بهذا الحديث أن التخصيص باسم العَلَم يوجب نفي الحكم عما عداه؛ وذلك لأن الأنصار فهموا عدم وجوب الاغتسال بالإكسال -وهو أن يفتر الذكر بعد الإيلاج قبل الإنزال- من قوله - علية السلام -: "الماء من الماء" أي الاغتسال واجب من المني، فالماء الأول هو المُطَهر، والثاني هو المني، "ومن" للسببية، والأنصار كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب، وقد فهموا التخصيص منه، حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالأكسال؛ لعدم الماء، ولو لم يكن التنصيص باسم الماء موجبا للنفي عما عداه؛ لما صح استدلالهم على ذلك، والجواب عن ذلك: أنه ليس ذلك من دلالة التنصيص على التخصيص، بل إنما هو من اللام المعرّفة الموجبة للاستغراق عند عدم المعهود، ونحن نقول هذا الكلام للاستغراق والانحصار كما فهمها الأنصار، لكن لما دل الدليل -وهو الإجماع- على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس، أيضًا نفي الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمَني، وصار المعنى: جميع الاغتسالات المتعلقة بالمني تنحصر فيه لا تثبت لغيره. فإن قيل: فعل هذا ينبغي ألَّا يجب الغسل بالإكسال لعدم الماء. قلت: الماء فيه ثابت تقديرا؛ لأنه تارة يثبت عيانا كما في حقيقة الإنزال، ومرة دلالة كما في التقاء الختانين؛ فإنه سبب لنزول الماء، فأقيم مقامه؛ لكونه أمرا خفيّا كالنوم أقيم مقام الحدث، لتعذر الوقوف عليه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال ثنا سفيان بن عُيينة، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن السائب، عن عبد الرحمن بن سُعاد، عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 269 رقم 343).

ش: رجاله ثقات وعبد الرحمن بن السائب، ويقال: ابن السائبة، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي (¬1) وابن ماجه هذا الحديث. وأبو أيوب الأنصاري: اسمه خالد بن يزيد. وأخرجه ابن ماجه (¬2)، عن محمَّد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن ابن السائب، عن عبد الرحمن بن سعاد، عن أبي أيوب قال: قال النبي - عليه السلام -: "الماء من الماء". ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا العلاء بن محمد بن سنان، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "بعث رسول الله - عليه السلام - إلى رجل من الأنصار، فأبطأ، فقال: ما حبسك؟ قال: كنت أصيب من أهلي فلما جاء رسولك اغتسلت من غير أن أحدث شيئًا. فقال رسول الله - عليه السلام -: الماء من الماء، والغسل على من أنزله. ش: العلاء بن سنان المازني ضعفه يحيى وغيره. ومحمد بن يحيى بن علقمة فيه مقال. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن. وقد رأيت أن الطحاوي أخرج حديث: "الماء من الماء" عن ثلاثة من الصحابة وهم: أبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة. وفي الباب عن: عتبان الأنصاري، وحديثه عند أحمد (¬3): رواه بإسناده عن عتبان أو ابن عتبان الأنصاري قال: "قلت: يا نبي الله؛ إني كنت مع أهلي، فلما سمعت صوتك، أقلعتُ، فاغتسلت. فقال رسول الله - عليه السلام -: الماء من الماء". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 115 رقم 199). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 199 رقم 607). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 342 رقم 19035).

وعن رافع بن خديج، وحديثه عند الطبراني (¬1) وأحمد (¬2) عنه، قال: "ناداني رسول الله - عليه السلام - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أُنْزِل، فاغتسلت، فأخبرته: إنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم (أُمْنِ) (¬3) فاغتسلت. فقال رسول الله - عليه السلام -: لا عليك، الماء من الماء" (¬4). وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وحديثه عند أبي يعلي (¬5) بإسناده عنه قال: "انطلق رسول الله - عليه السلام - في طلب رجل من الأنصار، فدعاه، فخرج الأنصاري ورأسه يقطر ماء، فقال رسول الله - عليه السلام - ما لرأسك؟ قال: دعوتني وأنا مع أهلي، فخفت أن أحتبس عليك، فعجلت، فقمت وَصَبَبتُ عليَّ الماء، ثم خرجت. فقال: هل كنتَ أنزلتَ؟ قال: لا. قال: إذا فعلت ذلك فلا تغتسلن؛ اغسل ما مسّ المرأة منك، وتوضأ وضؤك للصلاة، فإن الماء من الماء" وأخرجه البزار أيضًا. وعن عبد الله بن عباس، وحديثه عند البزار: بإسناده عنه قال: "أرسل رسول الله - عليه السلام - إلى رجل من الأنصار، فأبطأ عليه، فقال: ما حبسك؟ قال: كنتُ حين أتاني رسولك على المرأة، فقمت، فاغتسلت. فقال: وما كان عليك ألَّا تغتسل ما لم تنزل؟ قال: فكان الأنصار يفعلون ذلك". وأخرجه أبو يعلى (¬6) أيضًا وفي إسناده أبو سعيد وهو ضعيف. وعن عبد الله بن عبد الله بن عقيل وحديثه عند معمر بن راشد في "جامعه" (¬7): عنه قال: "سلم النبي - عليه السلام - على سَعد بن عبادة ثلاثا فلم يأذن له؛ كان على حاجته، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 267 رقم 4374) بنحوه، و"المعجم الأوسط" (6/ 318 رقم 6213) بنحوه أيضًا. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 143 رقم 17327). (¬3) في "مسند أحمد": أنزل. (¬4) وقال رافع بن خديج في آخر الحديث: "ثم أمرنا بعد ذلك بالغسل". (¬5) "مسند أبي يعلى" (2/ 163 رقم 857). (¬6) "مسند أبي يعلى" (5/ 62 رقم 2654). (¬7) "جامع معمر بن راشد" (10/ 382 رقم 19426).

فرجع النبي - عليه السلام -، فقام سَعد سريعا، فاغتسل، ثم تبعه فقال: يا رسول الله، إني كنت على حاجة، فقمت فاغتسلت. فقال - صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن من وطئ في الفرج ولم يُنزل فليس عليه غسل، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وأبا سلمة وهشام بن عروة وسليمان الأعمش وداود. وفي "المحلى": وممن رأى ألَّا غسل في الإيلاج في الفرج إن لم يكن إنزال عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبو سعيد الخدري، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشر، وزيد بن ثابت، وجمهرة الأنصار - رضي الله عنهم - وعطاء بن أبي رباح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والأعمش، وبعض أصحاب الظاهر. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي في عدم وجوب الغسل بالايلاج بلا إنزال. ص: وخالفهم ذلك آخرون، فقالوا: عليه الغسل وإن لم يُنزل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي، والثوري، وأبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، وبعض أصحاب الظاهر. وقال ابن حزم (¬1): ورُوي إيجاب الغسل عن عائشة أم المؤمنين، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والمهاجرين - رضي الله عنهم -. وقال أيضًا: الأشياء الموجبة غسل البدن كله إيلاج الحشفة، أو إيلاج مقدارها من الذكر الذاهب الحشفة أو الذاهب أكثر الحشفة في فرج امرأة الذي هو مخرج الولد منها بحرام أو حلال، إذا كان بعمد، أنزل أو لم ينزل، فإن عمدت هي أيضًا كذلك ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (2/ 2 - 5).

فكذلك، أنزلت أو لم تُنزل، فإن كان أحدهما مجنونا، أو سكرانا، أو نائما أو مغمي عليه، أو مكرها، فليس على من هذه صفته منهما إلَّا الوضوء فقط إذا أفاق أو استيقظ، إلَّا أَنْ يُنزل، فإن كان أحدهما غير بالغ فلا غسل عليه ولا وضوء، فإذا بَلَغَ؛ لزمه الغسل فيما يحدث لا فيما سلف له من ذلك والوضوء. وفي "المغني" (¬1) لابن قدامة: تغييب الحشفة في الفرج هو الموجب للغسل، سواء كانا مُخْتَتَنَيْن أو لا، وسواء أصاب موضع الختان منه ختانها أو لم يُصبه، ولو ألصق الختان بالختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق. ويجب الغسل سواء كان الفرج قبلا أو دبرا، من كل حيوان آدمي أو بهيم حيّا أو ميتا، طائعا أو مُكْرَها، نائما أو مستيقظا، وقال أبو حنيفة: لا يجب الغسل بوطء البهيمة والميتة. وقال أيضًا: فإن أولج بعض الحشفة، أو وطئ دون الفَرْج أو في السرة، لم يجب الغسل؛ لأنه لم يوجد إلتقاء الختانين، فإن انقطعت الحشفة فكان الباقي من ذكره قدر الحشفة فأولج؛ وجب الغسل، وتعلقت به أحكام الوطء من المهر وغيره. فإن أولج في قبل خنثى مشكل، أو أولج الخنثى ذكره في فرج، أو وطئ أحدهما الآخر في قبله فلا غسل على واحد منهما؛ لأنه يحتمل أن تكون خلقة زائدة، فلا نزول عن يقين الطهارة بالشك. وإذا كان الواطيء صغيرا، أو الموطوءة صغيرة، فقال أحمد: يجب عليهما الغسل. وقال: إذا (أتى) (¬2) على الصبية تسع سنين ومثلها يوطأ، وجب عليها الغسل. وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ، فجامع المرأة يكون عليهما جميعًا الغسل؟ قال: نعم. قيل له: أنزل أو لم يُنزل؟ قال: نعم. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 131) بتصرف. (¬2) ليست في "الأصل" وكتبت في حاشية "الأصل" وكتب فوقها لعله، وهي هكذا في "المغني" (1/ 132).

وحَمَل القاضي كلام أحمد على الاستحباب، وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور. انتهى. وقال أصحابنا: والتقاء الختانين يوجب الغسل، أي مع تواري الحشفة فإن نفس ملاقاة الفرج، الفرج من غير التواري لا يوجب الغسل، ولكن يوجب الوضوء عندهما، خلافا لمحمد، والختان موضع القطع من الذكر والأنثى. وفي "المحيط": ولو أتى امرأته وهي بكر فلا غسل ما لم ينزل؛ لأن ببقاء البكارة يعلم أنه لم يوجد الإيلاج، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت، فعليهما الغسل؛ لوجود الإنزال؛ لأنه لا حَبَل بدونه. ص: واحتجوا في ذلك بما: حدثنا محمَّد بن الحجّاج وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا بشْر بن بكر، قال: نا الأوزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنها سُئلتْ عن الرجل يجامع فلا يُنْزل. فقالت: فعلته أنا ورسول الله - عليه السلام - فاغتسلنا منه جميعًا". ش: إسناده صحيح، والأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو. وأخرجه الترمذي (¬1): عن محمَّد بن المثنى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "إذا جاوز الختان الختان؛ وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - عليه السلام -، فاغتسلنا". وقال (¬2): هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن علي بن محمَّد وعبد الرحمن بن إبراهيم، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ... إلى آخره نحو رواية الترمذي. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 180 رقم 108). (¬2) قول الترمذي هذا ذكره بعد الحديث رقم (109) وهو من طريق سفيان بن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة ولفظه: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 199 رقم 608).

واحتج به جماعة المهاجرين على وجوب الغسل بالإيلاج وإن لم يُنزل، وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة ومن بعدهم، وهم الذين ذكرناهم، ثم انعقد الإجماع على الوجوب مطلقا، وكان ما ذكروه في أى الإسلام رخصة لقلة ثياب الناس، ثم نسخ ذلك وأمر بالغسل بالإكسال، ولكن بقي على المذهب الأول جماعة من الصحابة؛ لم يبلغهم خبر التقاء الختانين، منهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وزيد ابن خالد الجهني. وقد خالف بعض الظاهرية لداود ووافق الجماعة. ومستند داود: "إنما الماء من الماء" (¬1). وقد جاء في الحديث: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أى الإسلام ثم نسخ" (¬2). رواه الترمذي (¬3) وصححه، فزال ما استندوا إليه. وذهب ابن عباس وغيره إلى أنه ليس منسوخ، بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم يُنزل. وقال ابن العربي: وقد روى جماعة من الصحابة المنع ثم رجعوا، حتى روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "مَنْ خالف في ذلك جعلته نكالا"، وانعقد الإجماع على ذلك، ولا يُعبأ بخلاف داود في ذلك؛ فإنه لولا خلافه ما عرف، وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه بأن الغسل أحوط، وهو أحد حكماء الدين، والعجب منه أنه يُساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بإلتقاء الختانين، وبين حديث عثمان وأبي في نفيه إلَّا بإنزال، وحديث عثمان ضعيف وكذلك حديث أُبَيّ؛ لأنه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم ما كان أقوى منه، وقد ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 183 رقم 110). (¬3) كذا في "الأصل، ك" وهو من كلام الترمذي بعد الحديث، ولفظ الحديث: "ثم نهى عنها" راجع "جامع الترمذي".

قيل: يحتمل قول البخاري: "الغسل أحوط" يعني في الدين وهو باب مشهور في الأصول، وهو الأشبه بإمامة الرجل وعلمه. وروى مالك (¬1)، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة أم المؤمنين، كانوا يقولون: "إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل". وقال ابن بطال: وقد رُوي عن عثمان وعلي وأبي بأسانيد حسان أنهم أفتوا بخلافه، والله أعلم. ص: حدثنا محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال ثنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن عبد العزيز بن النعمان، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا التقى الختانان اغتسل". ش: هذان طريقان آخران، رجالهما ثقات. الأول: عن محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي أبي بكر البزّاز، عن سليمان بن حرب البصري، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الله بن رباح - بالباء الموحدة - عن عبد العزيز بن النعمان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن عفان، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره، نحوه سواء. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد، عن ثابت ... إلى آخره (¬3). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 45 رقم 102). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 123 رقم 24958). (¬3) أخرجه أحمد أيضًا (6/ 227 رقم 25944) عن أبي كامل، عن حماد، عن ثابت به.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: "ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ألتقى الختانان أيوجب الغسل؟ فقال أبو موسى: أنا آتيكم بعلم ذلك، فنهض وَتَبِعْتُه حتى أَتَى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، إني أُريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحي أن أسألك. قالت: فإنما أنا أمك. قال: إذا ألتقى الختانان أيجب الغسلُ؟ فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - إذا التقى الختانان اغتسل". ش: إسناده صحيح، وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬1): أنا أبو عبد الله، وأبو زكريا، وأبو بكر، قالوا: أنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين فقال: لقد شق عليّ اختلاف أصحاب رسول الله - عليه السلام - في أمر إني لأُعظم أن أستقبلك به. فقالت: ما هو؟ ما كنت سائلا عنه أمك فَسَلْني عنه. فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا يُنزل. قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال أبو موسى: لا أسأل أحدا عن هذا بعدكِ أبدا". قال الإِمام أحمد (¬2): هذا إسناد صحيح إلَّا أنه موقوف على عائشة. وقال أبو عُمر (¬3): هذا الحديث موقوف في "الموطأ" (¬4) عند جماعة من رواته. وروى موسى بن طارق وأبو قرة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 259 رقم 250). (¬2) هذا ليس الإمام أحمد بن حنبل، وإنما هو أحمد بن الحسين البيهقي صاحب "معرفة السنن والآثار" ولعله اشتبه على المؤلف: راجع "معرفة السنن والآثار". (¬3) "التمهيد" (23/ 100). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 46 رقم 104) وعنه الشافعي في "مسنده" (1/ 158) وفي اختلاف الحديث له (1/ 90).

ابن المسيب، عن أبي موسى، عن عائشة أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل". ولم يتابع على رفعه عن مالك. قوله: "فنهض" أي أبو موسى، أي قام، يقال: نهض ينهض نهضا ونهوضا إذا قام، وأَنْهَضته أنا فانتهَضَ. قوله: "أستحي" بياء واحدة، ويجوز فيه: "استحيي" بيائين. قوله: "سَلْ" أمر، من سأل يسأل، وأصله: اسأل، فخففت الهمزة بالحذف بعد أن أعطيت حركتها للسين، واستغني عن همزة الوصل فحذفت، فصار: سَلْ، على وزن فَلْ؛ لأن المحذوف منه: عين الفعل. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: "كان أصحاب رسول الله - عليه السلام - يختلفون في الرجل يطأ امرأته، ثم ينصرف عنها قبل أن يُنزل، فذكر أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة فقال: لقد شق عليّ اختلاف أصحاب النبي - عليه السلام - في أمر، إني لأعظمك أن أستقبلك به. قالت: ما هو [مرارا] (¬2) فقال: الرجل يصيب أهله، ثم ينصرف ولم ينزل، قال: فقالت لي: إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل. قال أبو موسى: لا أسأل عن هذا أحدا بعدك أبدا". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله القرشي وابن لهيعة، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد اللهَ، قال: أخبرتني أم كلثوم، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رجلًا سأل رسول الله - عليه السلام - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليه من غسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - عليه السلام - إني لافْعلُ ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 248 رقم 954). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، ولا يضره عبد الله بن لهيعة؛ لأنه متَابَع، وأبو الزُبير اسمه محمَّد بن مسلم بن تَدْرس المكي، وأم كلثوم: بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهي تابعية، روى لها مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي، كلاهما عن ابن وهب ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "وعائشة جالسة" جملة وقعت حالا. قوله: "وهذه" إشارة إلى عائشة، وهو عطف على الضمير الذي في "لأَفعل". وقال القاضي عياض: وفيه غاية في البيان للسائل، بإخباره عن فعل نفسه، وأنه مما لا يرخص فيه. وفيه حجة على أن أفعاله - علية السلام - على الوجوب، ولولا ذلك لم يكن فيه حجة ولا بيان للسائل، وفيه أن ذكر مثل هذا على جهة الفائدة غير منكر من القول، وإنما ينكر عنه الإخبار عنه بصورة الفعل، وكشف ما يُستر به من ذلك ويحتشم من ذكره. ص: قالوا: فهذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم يُنزل، فقيل لهم: هذه الآثار إنما تُخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - وقد يجوز أن يَفْعَل ما ليس عليه، والآثار الأول تُخْبُر عما يجبُ وما لا يجب؛ فهي أولى، فكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأول أن الآثار التي رويناها في الفصل الأول من هذا الباب على ضربين: فضرب منهما "الماء من الماء" لا غير. وضرب منهما: أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا غسل على من أكسل حتى يُنْزِل" فأما ما كان من ذلك فيه ذكر "الماء من الماء" فإن ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روي عنه في ذلك: أن مراد رسول الله - عليه السلام -[به قد] (¬2) كان غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 273 رقم 350). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني".

حدثنا فهد قال: ثنا أبو غسّان، قال: ثنا شريك، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: "الماء من الماء؛ إنما ذلك في الاحتلام إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل؛ فلا غسل عليه". فهذا ابن عباس قد أخْبر أن وجهه غير الوجه الذي حمله عليه أهل المقالة الأولى؛ فضاد قوله قولهم. وأما ما روي فيما بيّن فيه الأمر (¬1)، وأخْبَر فيه بالقصد وأنه لا غُسل [عليه] (¬2) في ذلك حتى يكون الماء، فإنه قد روي عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا قعدَ بين شُعَبها الأربع ثم اجتهد، فقد وجب الغسل". ش: أي قالت الآخرون القائلون بوجوب الغسل بالايلاج مطلقا. "فهذه الآثار" أرادَ بها التي رُويت عن عائشة - رضي الله عنها - تخبر صريحا عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، فثبت أن بمجرد الإيلاج يجب الغسل. قوله: "فقيل لهم ... " إلى آخره، اعتراض على أهل المقالة الثانية، تحريره أن يقال: ما ذكرتم من الآثار إنما تخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - وقد يجوز أن يكون - عليه السلام - إنما كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب، فلا يتم الاستدلال بها على ما ادعيتم، وأما الآثار الأولى فإنها تخبر صريحا عما يجب وعما لا يجب، فتكون هذه أولى. ¬

_ (¬1) كُتب في الحاشية بعد قوله بَيَّنَ: "النبي - عليه السلام -" ولم يكتب فوقها "صح" علامة أنها من "الأصل"، وإنما كتب فوقها: "ح" أي إنها حاشية، ولم يعلم كاتبها، وليست في "شرح المعاني". ولعلها حاشية توضيحية من بعض من اطلع على الكتاب والله أعلم. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح المعاني".

قوله: "فكان من الحجة" ... إلى آخره، جواب عن الاعتراض المذكور، ملخصه: أن آثاركم على قسمين: أحدهما: المذكور فيه: "الماء من الماء" فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روي عنه أن مراد رسول الله - عليه السلام - من هذا هو أن يكون في الاحتلام، فهذا القول منه يُضادّ قولهم فلا تبقى لهم حجة. والآخر: ما بُيِّن فيه الأمر، وأنه لا يجب الغسل في ذلك إلا بالإنزال، فهذا أيضًا يخالفه ما روي عن النبي - عليه السلام - من قوله: "إذا قعد بين شعبها الأربع، وجهدها؛ فقد وجب الغسل". فلا تبقى لهم حجة، فالقسم الأول ليس فيه النسخ، والثاني فيه النسخ، ومنهم من أثبت النسخ في القسمين جميعًا. ثم إسناد الحديث الأول جيّد حسن؛ لأن رجاله ثقات. وأبو غسّان اسمه مالك بن إسماعيل الكوفي، شيخ البخاري. وداود هو ابن أبي عوف أبو الجحّاف، وثقه ابن معين. وأخرجه الترمذي (¬1): عن علي بن حجر، عن شريك، عن أبي الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "إنما الماء من الماء في الاحتلام". وإسناد الحديث الثاني صحيح، وأبو رافع اسمه نفيع الصائغ. وأخرجه النسائي (¬2): عن إبراهيم بن يعقوب، عن عبد الله بن يوسف، عن عيسى بن يونس، عن أشعث بن عبد الملك، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬3): عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن قتادة، عن الحسن، ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 186 رقم 112). (¬2) "المجتبى" (1/ 111 رقم 192). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 110 رقم 287).

عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهّدها؛ فقد وجب الغسل". وأخرجه مسلم (¬1): عن زهير بن حرب (وآخرين) (¬2) عن معاذ بن هشْام، عن أبيه، عن قتادة إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬3) عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام وشعبة، عن قتادة ... إلى آخره، ولفظه: "إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل". وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن ابن أبي شيبة، عن الفضل بن دكين، عن هشام الدستوائي، عن قتادة ... إلى آخره نحوه. قوله: "بين شُعَبها" بضم الشين: النواحي، جمع شعبة، ويروى أشعبها جمع شعب. وقال ابن الأثير: الشعبة الطائفة من كل شيء والقطعة منه. واختلفوا في المراد بالشُعب الأربع، فقيل: هي اليدان والرجلان. وقيل: الرجلان والفخذان. وقيل: الرجلان والشفران. واختار القاضي عياض أن المراد: شعب الفرج الأربع، أي نواحيه الأربع، وكأنه يحوم على طلبه الحقيقة الموجبة للغسل. والأقرب أن يكون المراد: اليدين والرجلن، أو الرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنَّيا عنه بذلك، يكتفي بما ذكر عن التصريح، وإنما رجح هذا لأنه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينها، والضمير يرجع إلى المرأة وإن لم يمض ذكرها لدلالة السياق عليه كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬5). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 271 رقم 348). (¬2) هم: أبو غسان المسمعي، ومحمد بن المثنى، وابن بشار، كما في "صحيح مسلم". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 56 رقم 216). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 200 رقم 610). (¬5) سورة ص، آية: [32].

قوله: "ثم جَهَدها" بفتح الهاء، أي بلغ جهده فيها. وقيل: بلغ مشقتها. وقيل: كدها بحركته. قوله: "وألزق الختان" أي: موضع الختان؛ لأن الختان اسم للفعل، أي ألزق موضع الختان بموضع الختان منها. ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود البغدادي، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام وأبان، عن قتادة، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا همام وأبان، قالا: ثنا قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "إذا جلس بين شعبها الأربع وأجْهد نفسه؛ فقد وجب الغسل أَنْزَلَ أو لم يُنزِلْ". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر أيضًا، وهو أيضًا صحيح. عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): حدثني عمرو بن الهيثم أبو قطن، ثنا هشام، عن قتادة [عن الحسن] (¬3) عن أبي رافع، عن أبي هريرة -قال أبو قطن: في الكتاب مرفوع-: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جَهَدها؛ فقد وجب الغسل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 347 رقم 8557) من طريق عفان، عن همام وأبان به. (¬2) "مسند أحمد" (2/ 234 رقم 7197). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم ألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل". ش: إسناده حسَن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن إسماعيل بن عُلَيّةَ، عن علي بن زيد بن جدعان ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال: ثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن حبان بن واسع، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل". ش: أحمد بن عبد الرحمن: المعروف ببَحْشَل، وعمّه: عبد الله بن وهب، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال، وحَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- وقد روي هذا الحديث عن عائشة من وجوه كثيرة. ص: قال أبو جعفر: فهذه الآثار تُضَاد الآثار الأول، وليس في شيء من ذلك دليل على: الناسخ في ذلك ما هو؟ فنظرنا في ذلك؛ فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا الحِماني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب قال: "إنما كان الماء من الماء في أول الإِسلام، فلما أحكم الله الأمور نهي عنه". ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رُويت عن أبي هريرة وعائشة المذكورة آنفا، ومضاددتها الآثار الأول ظاهرة؛ لأن فيها عدم الغُسل بلا إنزال، وها هنا وجوبه مطلقا، ولكن ليس في هذه الآثار شيء صريح يدل على النسخ؛ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ فنظرنا، فوجدنا حديث أبي بن كعب يصرح بانتساخ أحاديث "الماء من الماء" وهو الذي رواه الطحاوي عن علي بن شيبة، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 84 رقم 929).

عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سهل بن سعد الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬1): عن أحمد بن منيع، عن عبد الله بن المبارك ... إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث صحيح (¬2). ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال أخبرني عمرو بن الحارث، قال: قال ابن شهاب: حدثني بعض مَنْ أرضى، عن سهل بن سعد، أن أبي بن كعب الأنصاري أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - جعل الماء من الماء رخْصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل". ش: عمه هو عبد الله بن وهب، وعمرو بن الحارث روى له الجماعة، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. قلت: "بعض من أرضى" مجهول، والظاهر أنه أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج. لأن البيهقي روى هذا الحديث (¬3) ثم قال: ورويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم، عن سهل بن سعد. ويشبه أن يكون الزهري أخذه عن أبي حازم. ورواه معمر عن الزهري موقوفا على سهل، والحديث محفوظ عن سهل، عن أبي بن كعب. أخرجه أبو داود في كتاب "السنن" انتهى كلامه. وقال بعض شراح البخاري: فهذا كما ترى ابن شهاب قد صرح بعدم سماعه من سهل، وإن كان معروفا بالسماع منه. وقال البَيهقي: وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سعد. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 183 رقم 110). (¬2) في النسخة المطبوعة من "الجامع": حسن صحيح. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 165 رقم 752).

وقال الحازمي: وقفه بعضهم على سهل، وروي بإسناد آخر موصى عن أبي حازم عن سهل. ولم يجر فيه الحازمي على الاصطلاح الحديثي، فإن قول سَهْل: "كان القول في الماء من الماء رخصة" داخل في المرفوع، وقول الزهري: "من أرضى"، ليس تعديلا للمحدث المبهم عند الجُمهور، ولسنا من تقليد الزهري في إيراد ولا صدر، الفهم إذا بَيَّين اسمه وعَدَّله. وقال: ابن حزم: هذا الرجل الذي لم يسمّه عمرو بن الحارث يُشبه أن يكون سلمة بن دينارة لأن مبشر بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسّان محمدْ بن طريف، عن أبي حازم عن سهل. وقال ابن حبان في "صحيحه" (¬1) يشبه أن يكون الزهري سمع الخبر من سَهْلٍ -كما قاله غُنْدُر- وسمعه عن بعض منْ يَرْضاه عن سهل، فرواه مرة عن سهل ومرة عن الذي رضيه عنه، وقد تتبّعتُ طرق هذا الحديث على أن أَجد أحدا رواه عن سهل؛ فلم أجد أحدا في الدنيا رواه إلَّا أبا حَازم، فيُشْبه أن يكون المُبْهَم هُو، والله أعلم. وقال موسى بن هارون (¬2): وقد روى أبو حازم هذا الخبر عن سَهْل، وأظن ابن شهاب سمعه منه؛ لأنه لم يسمعه من سهل، وقد سمع من سهل أحاديث، فإن سمعه من أبي حازم؛ فإنه رَضِيٌّ كما قال. وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (¬3): إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عَمرو- ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (3/ 447). (¬2) انظر "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 84، 85). (¬3) "الاستذكار" (3/ 94). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 55 رقم 214).

يَعْني ابن الحارث- عن ابن شهاب، قال: حدثني بعض مَنْ أرضى، أن سهل بن سعد الساعديّ أخبره، أن أبي بن كعب أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإِسلام؛ لقلة الثياب، ثم أمر بالغُسْل، ونهى عن ذلك". قال أبو داود: يَعني "الماء من الماء". ص: حدثنا يّزيد بن سنان وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: قال سهل بن سَعْد الساعدي، قال: حدثني أبي بن كعب، ثم ذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وعبد الله بن صالح: كاتب الليث بن سعد، وعُقيل -بضم العين وفتح القاف-: هو ابن خالد الأيلي، وابن شهاب: هو محمَّد بن مسلم الزهريّ. ولم يصرح ابن شهاب في هذا بالسماع عن سهل بن سَعْدٍ، وإنما علّقه حيث قال: قال ابن سعد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): مُعَنْعَنا، ولكنه موقوف على سهل، فقال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، عن سهل بن سَعد قال: "إنما كان قول الأنصار: الماء من الماء، رخصة في أول الإسلام، ثم كان الغُسل بَعْدُ". وكذا أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) وقال: نا معمر، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي -وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -- قال: "إنما كان قول الأنصار: الماء من الماء؛ رخصه في أول الإِسلام، ثم أخذنا بالغسل بعد ذلك إذا مسّ الختان الختان". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا هو أبي يُخبر أن هذا هو الناسخ لقوله: الماء من الماء". وقد رُوي عنه بعد ذلك من قوله: ما يَدُل على هذا أيضًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 86 رقم 952). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 248 رقم 951).

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب. (ح). وحدثنا يونس، أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن محمود بن لبيد: "أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكْسِل ولا يُنْزل؛ فقال زيد - رضي الله عنه -: يَغْتسلُ. فقلت له: إن أبي بن كعب كان لا يرى فيه الغسل. فقال زيد: إن أُبَيّا قد نزع عن ذلك قبل أن يموت". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا أبي - رضي الله عنه - قد قال هذا، وقد رَوى عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك؛ فلا يجوز (هذا) (¬1) إلَّا وقد ثبت نسخ ذلك عنده من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ش: أي هذا أبي بن كعب يُخْبر في حديثه الذي روى عنه سهل بن سعد: أن حديث "الماء من الماء" منسوخ؛ لأنه صرح فيه أنه كان رخصة في أول الإسلام. قوله: "وقد روي عنه بعد ذلك من قوله: ما يدل على هذا أيضًا" أي قد روي عن أبي بن كعب بعد هذا الحديث المرفوع من قول نفسه ما يدل على أن حديث "الماء من الماء" منسوخ؛ وذلك لأن أُبَيّا كان ممن روى هذا الحديث عن النبي - عليه السلام -. ثم قوله بعد هذا ما يخالف ما رواه يدلّ على أن النسخ قد ثبت عنده من رسول الله - عليه السلام -. إذ لو لم يثبت عنده هذا؛ لما وسعه أن يخالف ما رواه. ثم إنه أخرج حديث أبي من طريقين صحيحين: أحدهما: عن علي بن شيبة بن الصلت البصري، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الله بن كعب الحميري مولى عثمان بن عفان، عن محمود بن لبيد بن عقبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن محمود بن لبيد قال: "سألت زيد بن ثابت عن الرجل ¬

_ (¬1) في "شرح معاني الآثار": هذا عندنا. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 86 رقم 949).

يجامع ثم لا ينزل؛ قال: عليه الغسل. قال: قلت له: إن أُبَيّا كان لا يرى ذلك. فقال: إن أُبَيّا نزع عن ذلك قبل أن يموت". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن محمود بن لبيد، قال: "قلت لزيد بن ثابت: إن أبي بن كعب كان يفتي بذلك. فقال زيد: إن أُبَيّا قد نزع عن ذلك قبل أن يموت". والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): أنا أبو أحمد عبد الله بن محمَّد بن الحسن العدل، أنا أبو بكر محمَّد بن جعفر المزكي، نا محمَّد بن إبراهيم العبدي، ثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك ... إلى آخره نحوه. قوله: "قد نزع [عن] (¬3) ذلك" أبي قد أَقلع وأمسك عن عدم الغسل من الإكسال. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة زوج النبي - عليه السلام - كانوا يقولون: إذا مَسَّ الختان الختان فقد وجب الغسل". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا عثمان أيضًا يقول هذا، وقد رَوَى عن رسول الله - عليه السلام - خلافه، فلا يجوز هذا إلَّا وقد ثبت النسخ عنده. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 250 رقم 960). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 166 رقم 754). (¬3) في "الأصل، ك": من، والصواب ما أثبتناه كما في متن الحديث.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: "كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون، يقولون: إذا مَسَّ الختان الختان وجب الغسل". وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث مالك نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حميد الصائغ، قال: ثنا حبيب بن شهاب، عن أبيه، قال: "سألت أبا هريرة - رضي الله عنه -: ما يوجب الغسل؟ فقال: إذا غابت المُدَوَّرة". وعنه في هذا الباب ما يخالف ذلك. ش: إسناده صحيح، وحميد بن أبي زياد، وحبيب بن شهاب بن مُدْلج العنبري التميمي البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا ابن علية، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه قال: قال أبو هريرة: "إذا غابت المدورة فقد وجب الغسل". قوله: "المُدَّورة" بضم الميم: حشفة الذكر. قوله: "وعنه في هذا الباب ما يخالف ذلك" أي: وعن أبي هريرة في باب الغسل ما يخالف هذه الرواية، وذلك أنه قد روى فيما مضى عن النبي - عليه السلام - حديث: "الماء من الماء". فقوله هذا بعد روايته ما يخالفها يدل على ثبوت النسخ عنده، وفي بعض النُّسَخ: "وقد رَوَي عن رسول الله - عليه السلام - ما قد ذكرنا، فهذا أيضًا دليل على نسخ ذلك". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، وعن زيد بن أنيسة، عن عمرو بن مرة الجملي، عن سعيد بن المسيب قال: "كان ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 245 رقم 936). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 166 رقم 755). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 84 رقم 937).

رجال من الأنصار يفتون أن الرجل إذا جامع المرأة ولم ينزل فلا غسل عليه، وكان المهاجرون لا يتابعونهم على ذلك. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا يدل على نسخ ذلك أيضًا؛ لأن عثمان والزبير من المهاجرين، وقد سمعا من رسول الله - عليه السلام - ما قد روينا عنهما في أول هذا الباب، ثم قد قالا بخلاف ذلك، فلا يجوز ذلك منهما إلا وقد ثبت النسخ عندهما، ثم قد كشف ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحضرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، فلم يثبت ذلك عنده، فحمل الناس على غيره، وأمرهم بالغسل، ولم يعترض عليه في ذلك أحد، وسلموا ذلك له، فذلك دليل على رجوعهم أيضًا إلى قوله. ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح؛ ما خلا فهذا وعلي بن معبد. وأكَّدَ ما ذكره من النسخ بشيئين آخرين أيضًا؛ أحدهما: بعدم متابعة المهاجرين لإفتاء الأنصار. والثاني: بكشف عمر عن ذلك، وحمله الناس بعده على الغسل، وتسليم الصحابة له بذلك، فهذا كله مما يثبت النسخ. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حيَّة، قال: سمعت عبيد بن رفاعة الأنصاري يقول: "كنا في مجلس فيه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فتذاكروا الغسل من الإنزال، فقال زيد: ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة، فقام رجل من أهل المجلس فأتى عمر - رضي الله عنه - فأخبره بذلك، فقال عمر للرجل اذهب أنت بنفسك فأتني به حتى تكون أنت الشاهد عليه، فذهب فجاء به، وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله - عليه السلام - فيهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - فقال له عمر: كنت عُدَيُّ نفسه، تفتي الناس بهذا؟! فقال زيد أَمَ والله ما ابتدعته، ولكني سمعته من أعمامي: رفاعة بن رافع، ومن أبي أيوب الأنصاريَ،

فقال عمر: يا عباد الله، فمن أسأل بعدكم، وأنتم أهل بدرٍ الأخيار؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فأرسل إلى أزواج النبي - عليه السلام -؛ فإنه إن كان شيء من ذلك ظهرن عليه، فأرسل إلى حفصة فسألها، فقالت لا علم لي بذلك. ثم أرسل إلى عائشة - رضي الله عنها -، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر - رضي الله عنه - عند ذلك: لا أعلم أحدا فعله ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالا". ش: هذا بيان قوله: "وقد كشف ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -" فهذا عمر قد كشف ذلك [عند] (¬1) الصحابة بعد أن أنكر على زيد بن ثابت فتواه، ثم لما جاءه خبر عائشة - رضي الله عنها - حمل الناس على وجوب الغسل من الإكسال، وأوعد من لم يغتسل [منه] (¬2) بالنكال، ووافقته الصحابة على ذلك، فانعقد إجماعا على وجوب الغسل بالإيلج وإن لم ينزل. ثم رجال الأثر المذكور ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالا. وأبو عبد الرحمن المقرئ اسمه عبد الله بن يزيد. ومعمر بن أبي حَيَّةَ -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- ويقال: ابن أبي حُيَيَّة-بضم الحاء وفتح الياء الأولى، وعبيد بن رفاعة، ذكره عبد الغني في الصحابة، وذكره ابن حبان في التابعين الثقات، وقال ابن الأثير: قيل: إنه أدرك النبي - عليه السلام -، في صحبته خلاف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حُيَيَّة مولى ابنة صفوان، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: "بينا أنا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ دخل عليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا زيد بن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عن". (¬2) في "الأصل، ك": "عنه". (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 85 رقم 947).

ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عَلَيَّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر - رضي الله عنه - قال: أي عدوَّ نفسه، قد بلغت أن تفتي الناس برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، بالله ما فعلت، لكني سمعت من أعمامي حديثا، فحدثت به، من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع، فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل لم يغتسل؟ فقال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأتنا من الله فيه تحريم، ولم يكن من رسول الله - عليه السلام - فيه نهي، قال: رسول الله - عليه السلام - يعلم ذلك؟ قال لا أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا له، فشاورهم، فأشار الناس: ألَّا غسل في ذلك؛ إلَّا ما كان من معاذ وعلي، فإنهما قالا: إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، فقال عمر - رضي الله عنه -: هذا وأنتم أصحاب بدر وقد اختلفتم، فَمَنْ بعدكم أشدُّ اختلافا، قال: فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحدٌ أعلمَ بهذا من شأن رسول الله - عليه السلام - من أزواجه، فأرسل إلى حفصة - رضي الله عنها -؛ فقالت: لا علم لي بهذا، فأرسل إلى عائشة - رضي الله عنها -، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر - رضي الله عنه -: لا أسمع برجل فعل ذلك إلَّا أوجعته ضربا". قوله: "أنت عُدَيّ نفسه" بضم العين، وفتح الدال، مصغر عَدوّ؛ لأن العدو إذا صُغِّر يكون على عُدَيْو، على وزن فعيل ثم تقلب الواو ياء، وتدغم الياء في الياء، وقد جاء في رواية ابن أبي شيبة وغيره بالتكبير. قوله: "أَمَ والله" أصله "أمَاَ" بالفتح والتخفيف، وهو في كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن يكون حرف استفتاح، بمنزلة "ألا"، ويكثر قبل القسم، وقد يحذف الألف مع ترك الإبدال، وها هنا كذلك. والثاني: أن يكون بمعنى حقّا، وفيه خلاف. قوله: "ظهرن عليه" بمعنى أحطن به علمًا، من قولهم: ظهرنا عليهم. أي غلبناهم وأحطنا بهم، وأصل الظهور: التبيّن.

قوله: "نكالا" أي عبرة لغيره، بمعنى يوقع به نكالا حتى يصير عبرة لغيره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن نمير، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمَّد بن إسحاق ... (¬1) عن أبي جعفر محمَّد بن علي، قال: "أجمع المهاجرون أنه ما أوجب عليه الحدّ من الجلد والرجم؛ أوْجَب الغُسْلَ، أبو بكر، وعمر، وعثمان وعَليّ - رضي الله عنهم -. ش: رجاله ثقات، والحجاج هو ابن أرطاة الكوفي القاضي، روى له مسلم مقرونا بغيره (¬2). ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - المعروف بالباقر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) عن حفص، عن حجاج ... إلى آخره نحوه. قوله: "ما أوجب عليه الحدّ من الجلد والرجم" أي: كل شيء أوجب عليه الحد إما جلد وإما رجم فهو يوجب الغسل، ومجاوزة الختان الختان توجب الجلد في غير المحصن، والرجم في المحصن، فكذا توجب الاغتسال، وكذا يثبت بها التحليل للزوج الأول، والإنزال ليس بشرط؛ ولهذا يحصل التحليل بإدخال المراهق. ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله: "في الرجل يُجامع فلا ينزل، قال: إذا بلغتُ ذلك اغتسلت". ش: رجاله ثقات أَجِلَّاء، وهو من مراسيل إبراهيم النخعي؛ لأن إبراهيم لم يدرك عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" بمقدار ورقة. (¬2) في حديثه لين، وكان يدلس ولم يصرح بالتحديث في هذا الإسناد، وانظر ترجمته في "ميزان الاعتدال" (2/ 197، 198). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 85 رقم 941).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن منصور، عن إبراهيم قال: "سئل عبد الله عن الرجل يجامع (المرأة) (¬2) فلا يُمْنِي. قال: أما أنا فإذا بلغت ذلك من المرأة اغتسلت". قوله: "في الرجل" أي في حكم الرجل الذي يجامع من غير إنزال. قوله: "يجامع" جملة وقعت حالا عن الرجل، ويجوز أن تكون صفة، باعتبار زيادة الألف واللام، أو باعتبار أن الألف واللام إذا كان لتعريف الجنس يكون قريبا من النكرة. قوله: "إذا بلغتُ ذلك" بضم التاء، أي إذا بلغت أنا ذلك، أي الفعل المذكور في المرأة، يعني إذا جامعت أنا ولم أنزل؛ اغتسلت. فهذا عبد الله أيضًا يَرَى الاغتسالَ لمجرّد الإيلاج. ص: حدثنا يزيد، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، مثله. ش: هذا طريق آخر صحيح مسند؛ لأن إبراهيم في هذا روى عن علقمة، عن عبد الله، وسفيان: هو الثوري، والأعمش: سليمان. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "أما أنا فإذا بلغت ذلك منها اغتسلت". ص: حدثنا يونُسُ، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "إذا خلف الختان الختان؛ فقد وجب الغسل". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه مالك في "موطأه" (¬4). ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 253 رقم 9253). (¬2) في "المعجم الكبير": امرأته. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 84 رقم 938). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 47 رقم 106) بلفظ: "إذا جاوز الختان ... " إلخ.

قوله: "إذا خَلَفَ الختان الختان" معناه: إذا صار أحدهما موضع الآخر، وهو عبارة عن مجاوزة أحدهما الآخر بعد الملاقاة، كما يقال: خلافُ فلان فلانا إذا كان عوضه خليفة عنه، وهو بتخفيف اللام. وأما بالتشديد فمعناه التأخير، يقال: خَلَّفتُ فلانا ورائي فَتَخَلَّف عني، أي تأخر. فافهم. ص: حدثنا رَوْحٌ، قال: حدثنا ابن بُكير، قال: ثنا حماد بن زيد، عن الصَقْعَب، عن (عبد الرحمن) (¬1) بن الأسود، قال: "وكان أبي يَبْعثني إلى عائشة - رضي الله عنها - قبل أن احتلم، فلما احتلمت، جئت فناديتُ، فقلتُ: ما يوجَب الغسل؟ قالت: إذا التقت المواسي". ش: إسناده صحيح، وروح: هو ابن الفرج القطان. وابن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير. والصقعب بن زهير بن عبد الله، وثقة ابن حبان. وعبد الرحمن بن الأسود النخعي الكوفي، وقد رأيت في نسخ عديدة عبد الله ابن الأسود موضع عبد الرحمن، وهو غلط أو تحريف، وأبوه: الأسود بن زيد، صاحب عبد الله بن مسعود، تابعي مشهور. وأخرجه محمد بن سعد في "الطبقات" (¬2): أنا عارم بن الفضل، ثنا حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: "بعثني أبي إلى عائشة أسألها سنة احتلمت فأتيتها، فناديتها من وراء الحجاب، فقالت: أفعلتَها أَيْ لُكَعُ؟ قلت: قال لك أبي: ما يوجب الغسل؟ قالت إذا التقت المواسي". وأخرجه أيضًا الحافظ أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن زيد، ثنا الصقعب ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) في "شرح معاني الآثار": عبد الله، وهو تحريف، نبه عليه المؤلف في شرحه. (¬2) "الطبقات الكبرى" (6/ 289).

ورواه البخاريّ في "تاريخه" (¬1): من وجه آخر: عن أبي نعيم، عن العلاء بن زهير، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود، قال: "كنت أدخل على عائشة - رضي الله عنها - بغير إذن وأنا غلام، حتى إذا احتلمت استأذنت ... " الحديث (¬2). قوله: "إذا التقت المواسي" كناية عن التقاء الختانين؛ لأن الختان يكون بالمُوسَى، فذكرت المواسي وأرادت بها المواضع التي تختن بها، وهذه من أحسن الكلمات، حيث صدرت من امرأة عظيمة الشأن، لشاب أَوّل ما احتلم، وكلاهُما بصدد الحياء والخجل، فَخَاطَبَتْهُ بما يُفْهِمُه من غير ذكر لما يُسْتَحى منه، ونظير ذلك من الكناية: ما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - "أن يقتلوا من جرت عليه المواسي" (¬3) أراد به من نبتت عانته؛ لأن المواسي إنما تجري على مَنْ أَنْبتَ، والمواسي جمع مُوسَى. قال الجوهري: الموُسَى: ما يحلق به، ذكره في باب وَسَيَ؛ ليدل على أن ميمه زائدة، يقال: أوسى رأسه أي حَلقَ. ص: حدثنا يُونَس، قال: ثنا ابنُ وهب، أن مالكا حدثه، عن أبي النضر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - ما يوجب الغسل؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغُسل". ش: إسناده صحيح مصريّ ومدنيّ، وأبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- واسمه سالم بن أبي أمية القرشي المدني. وأبو سلمة: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (5/ 852). (¬2) وأخرجه الدارقطني في "سننه" من طريق أبي نعيم عن العلاء ... إلى آخره بنحوه (2/ 189 رقم 41). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 483 رقم 33119). وكذا في (6/ 484 رقم 33129). وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (9/ 198 رقم 18480). وغيرهم.

وأخرج ابن أبي شيبة (¬1): نحوه من حديث عطاء عن عائشة. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن عبد الكريم، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". ش: إسناده صحيح، وعبيد الله: هو ابن عَمروَ الرَّقي، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري الحراني. وأخرج العدني في "مسنده" نحوه موقوفا ومرفوعا. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا جُويرية بن أسماء، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "وإذا أخلف الختان الختان فقد وجب الغسل". ش: إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". قوله: "أخلف" لغة في خلف، والمعنى: إذا جاوز الختان الختان وقد ذكرنا تحقيقه عن قريب. ص: حدثنا أحمد، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن زرّ، عن علي - رضي الله عنه -، مثله. ش: إسناده صحيح، وأحمد: هو ابن داود المكي، شيخ الطبراني ثقة. ومُسَدد: هو ابن مُسرهد، شيخ البخاري وأبي داود. وعاصم: هو ابن بَهْدلة، وهو ابن أبي النجود الكوفي المقرئ، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة الشيخان مقرونا بغيره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 84 رقم 930). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة " (1/ 86 رقم 951).

وزِرّ -بكسر الزاي وتشديد الراء-: هو ابن حبيش الكوفي، مخضرم، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عيّاش، عن عاصم، عن زرّ، عن عليّ قال: "إذا التقى الختانان (وجب) (¬2) الغسل". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فثبت بهذه الآثار التي رويناها صحة قول من ذهب إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع في الفرج الذي لا إنزال معه حدث، فقال قوم: هو أَغْلظ الأحداث فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل. وقال قوم: هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه أخف الطهارات، وهو الوضوء، فأردنا أن ننظر إلى التقاء الختانين؛ هل هو أغلظ الأشياء فنُوجب فيه أغلظ ما يجب في ذلك؟ فوجدنا أشياء يُوجبها الجماع، وهي: فساد الصوم والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال، ويوجب ذلك في الحج الدم وقضاء الحج، ويوجب في الصيام القضاء والكفارة في قول مَنْ يوجبها. ولو كان جامع فيما دون الفرج؛ وجب عليه في الحج دم فقط، ولم يجب عليه في الصيام شيء إلَّا أن ينزل، وكلُ ذلك محرَّمٌ عليه في حجه وصيامه. وكان من زَنَى بامرأةٍ حُدَّ وإن لم يُنَزل، ولو فعل ذلك على وجه شبهة فسقط بها الحدّ عنه؛ وجب عليه المهر. وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب في ذلك عليه حَدٌّ ولا مهر، ولكنه يعزَّر إذا لم تكن هناك شُبهة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 84 رقم 933). (¬2) في "المصنف": فقد وجب.

وكان الرجل إذا تزوج امرأة فجامعها جماعا لا خلوة معه في الفرج، ثم طلقها، كان عليه المهر، أنزل أو لم يُنزل، ووجبت عليها العدة، وأحلّها ذلك لزوجها الأول، ولو جامعها فيما دون الفرج لم يجب [عليه] (¬1) في ذلك شيء، وكان عليه في الطلاق نصف المهر إن كان سمّى لها مهرا، أو المتعة إذا لم يكن سمّى لها مهرا، فكان يجب في هذه الأشياء التي وصفنا التي لا إنزال معها، أغلظ ما يجب في الجماع الذي معه الإنزال من الحدود والمهور وغير ذلك. فالنظر على ذلك، أن يكون كذلك هو في [حكم] (¬2) الأحداث، أغلظ الأحداث، ويجب فيه أغلظ ما يجب في الأحداث، وهو الغسل. ش: مُلَخّص وجه النظر والقياس: أنه مبني على مقدمة مُسلَّمَةٌ عند الكل، وهي أن الجماع في الفرج بلا إنزال حديث، ولكن الخلاف في صفته، فقال قومُ وهم الأئمة الأربعة ومن تبعهم: هو حدث غليظٌ؛ فَيجب فيه طهارة غليظة وهو الغسل. وقال قوم وهم عطاء، والأعمش، وهشام، وداودُ: هو حدث خفيف، فتجب فيه طهارة خفيفة، وهو الوضوء. ثم نظرنا فيه فوجَدْنا أشياء تتعلقٌ به كما تتعلق بالجماع في الفرج بالإنزال، وهي: فساد الصوم والحج، ووجوب الحدّ والمهر عند سقوطه بالشبهة، ووجوب العدة والتحليل للزوج الأول، فإذا تساويا في هذه الأشياء فالنظر عليه تساويهما في أغلظ الطهارات؛ وهي الغُسل. ويؤيد ذلك ما روي عن عكرمة: "توجب القتل والرجم، ولا توجب إناء من ماء؟ ". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "شيء عليم" ولعل "شيء عليه" هذه زائدة أو سبق قلم من المؤلف، أو تكون هذه من أصل الكلام وتحذف الأخيرة من الجملة ... (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن عُلَيّه عنه. وروى أيضًا (¬2): عن وكيع، عن ابن عون، عن الشعبي قال: قال شريح: "أتوجب أربعة آلاف، ولا توجب إناء من ماء؟ يعني في الذي يخالط ثم لا ينزل" وفي رواية عبد الرزاق (¬3): "ولا توجب قدحا من ماء؟ ". ص: وحجة أخرى في ذلك: أنا رأينا هذه الأشياء التي وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال، لم يجب بالإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى أن رجلًا لو جامع امرأة جماع زنا فالتقى ختاناهما وجب الحد عليهما بذلك؟ ولو أقام عليها حتى أنزل لم يجب عليه في ذلك الإنزال شيء بعدما وجب بالتقاء الختانين، وكان ما يحكم به في هذه الأشياء على من جامع فأنزل هو ما يحكم به عليه إذا جامع ولم يُنْزل، وكان الحكم في ذلك لالتقاء الختانين لا للإنزال الذي يكون بعده، فالنظر على ذلك أن يكون الغسل الذي يجب على من جامع وأنزل هو بالتقاء الختانين، لا بالأنزال الذي يكون بعده، فثبت بذلك قول الذين قالوا: إن الجماع يوجب الغسل كان معه إنزال أو لم يكن، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد، وعامّة العلماء - رحمهم الله. ش: مُلخَّص هذه الحجة: أن الأشياء التي ذكرناها في الحجة الأولى وجدناها متعلقة بمجرد التقاء الختانين، فالنظر عليه أن يكون الغسل الذي يجب على من جامع وأنزل بالتقاء الختانين لا بالإنزال الذي يكون بعده، وتعليق الأشياء المذكورة بالتقاء الختانين والغسل بالإنزال في محل واحد في حكم واحد خارج عن القياس والنظر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 85 رقم 944). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 85 رقم 943). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 246 رقم 944).

ص: وحجة أخرى في ذلك: أن فهذا حدثنا، قال: ثنا علي بن مَعبد، قال: ثنا عبيد الله، عن زيد، عن جابر -هو بن يزيد- عن أبي صالح قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فقال: "إن نساء الأنصار يُفْتَين أن الرجل إذا جامع فلم يُنْزل كان على المرأة الغسل، وأنه لا غسل عليه، وأنه ليس كما أُفْتَيْن؛ إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". قال أبو جعفر -رحمه الله-: معنى هذا أن الأنصار كانوا يَروْن أن الماء من الماء، إنما هو في الرجال المجامعين، لا في النساء المجامَعَات، وأن المخالطة توجب على النساء وإن لم يكن معها إنزال، وقد رأينا الإنزال يستوي فيه حكم النساء والرجال في وجوب الغسل عليهم، فالنظر على ذلك: أن يكون حكم المخالطة التي لا إنزال معها يستوي فيها حكم الرجال والنساء في وجوب الغسل عليهم. ش: تحرير هذه الحجة: أن الأنصار كانوا يفتون لنسائهم بوجوب الغسل عليهن عند الإكسال، ولا يَروْن ذلك على الرجال، والدليل على ذلك ما رواه أبو صالح عن عمر، وهو مولاه، ولا يعرف له اسم، وثقه ابن حبان. روى عنه جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال كثير، ومنهم من وثقه. وروي عنه عبيد الله بن عمرو الرقيّ. وقد وجدنا حكم الرجال والنساء سواء في الجماع الذي بالإنزال؛ فالنظر عليه: أن يكون حكمهما سواء في الأكسال. قوله: "يفْتَيْنَ" على صيغة المجهول من المضارع. قلت: "أُفْتَيْن" على صيغة المجهول في الماضي، فافهم.

حقوق الطبع محفوظة لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية إدارة الشئون الإسلامية دولة قطر الطبعة الأولى / 1429 هـ -2008 م قامت بعمليات الإخراج الفني والطباعة دار النوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا- دمشق -ص. ب: 24306 لبنان- بيروت- ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس 00963112227011 www.daralnawader.com

ص: باب: أكل ما غيرت النار هل يوجب الوضوء أم لا؟

ص: باب: أكل ما غيرت النار هل يوجب الوضوء أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل ما مسته النار، هل يوجب الوضوء أم لا؟ ولما فرغ عن بيان حكم الطهارتين شرع في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب، وما ينقضه وما لا ينقضه. ص: حدثنا ابن أبي داود، وأحمد بن داود، قالا: ثنا أبو عمر الحَوْضي، قال: نا همام، عن مطر الورّاق، قال: "قلت: عَمَّن أخذ الحسن الوضوء مما غيرت النار؟ قال: أخذه الحسن عن أنس، وأخذه أنس عن أبي طلحة، وأخذه أبو طلحة عن رسول الله - عليه السلام -". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو عمر اسمه حفص بن عمر، ونسبته إلى حوض داود مَحِلَّةٌ ببغداد. وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري، الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عفّان، عن همام ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، قال: حدثني أبي، عن أبيه -وهو محمَّد بن عبد الله القاري- عن أبي طلحة صاحب رسول الله - عليه السلام -: "أنه أكل ثَوْرَ أقطٍ، فتوضأ منه. قال عمرو: الثور: القطعة. ش: إسناده صحيح، والقاريّ -بتشديد الياء- نسبة إلى قارة وهم بنو الهُون ابن خريمة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 53 رقم 552). ولفظه: "قيل لمطر الوراق وأنا عنده: عمن ... " إلخ.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): عن علي بن عبد العزيز، عن سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أبي طلحة ... إلى آخره نحوه. قوله: "ثور أقط" بإضافة ثور إلى أقط، والثور -بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو-: هو القطعة من الأقط ويجمع على أثوار. وقال الجوهري: والجمع: ثِوَرَة وكذا يجيئ جمع الثور من البقر: ثِوَرَة. وقال المبرد: يقولون: ثمرة للفرق بين الجَمْعين. والأقِط -بفتح الهمزة وكسر القاف-: لبن جامد مستحجر، وربما تُسَكَّن القاف في الشعر وتُنقل حركتها إلى ما قبلها. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "توضئوا مما غَيَّرَتِ النار". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي. وأبو عامر: هو عبد الملك بن عمرو العقدي البصري. وابن أبي ذئب: هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. والزهري هو محمَّد بن مسلم. وأخرجه النسائي (¬2): أبنا هشام بن عبد الملك [حدثنا محمَّد] (¬3) ثنا الزبيدي أخبرني الزهري ... إلى آخره، نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (5/ 155 رقم 4734). (¬2) "المجتبى" (1/ 107 رقم 179). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي"، ومحمد هو ابن حرب الخولاني كما في الطريق الذي يليه في "سنن النسائي".

قوله: "مما غيرت النار" أي مما غيرته، والمفعول محذوف، وهو يتناول كل شيء تغيره النار من المأكولات. ص: حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب ... فذكر مثله بإسناده. ش: إسناده صحيح، وعبد الرحمن بن خالد كان أمير مصر لعبد الملك بن مروان، روى له البخاريّ. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، قال: قال محمَّد بن مسلم، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "توضئوا مما مَسَّتِ النار". ص: حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيْل، عن ابن شهاب ... فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول يقول: "توضئوا مما مَسَّت النار". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 128 رقم 4835). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 188 رقم 21685).

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، أنه سأل عروة بن الزبير عن ذلك، فقال عروة: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ... فذكر مثله. ش: إسناده صحيح، وسعيد بن خالد روى له مسلم (¬1) هذا الحديث فقط، وقال: ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن خالد ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى ابن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن أبا سفيان بن سعيد بن المغيرة أخبره: "أنه دخل على أم حبيبة زوج النبي - عليه السلام - فدعت له بسويق فشرب، ثم قالت: يا ابن أخي، توضأ. فقال: إني لم أُحْدِث شيئا! فقالت: إن رسول الله - عليه السلام - قال: توضئوا مما مست النار". ش: إسناده صحيح، وأبو سفيان بن سعيد وثقه ابن حبان. وأم حبيبة اسمها رَمْلَة بنت أبي سفيان، زوج النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس: "أنه دخل على أم حبيبة، فسقته سَوِيْقًا، ثم قام يصلي، فقالت له: توضأ يا ابن أخي، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: توضئوا مما مست النار". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان، عن يحيى - ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 272 رقم 351). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 327 رقم 26826). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 50 رقم 195).

يعني ابن أبي كثير- عن أبي سلمة، أن أبا سفيان بن سعيد بن المغيرة حدثه: "أنه دخل على أم حبيبة، فسقته قدحا من سويق، فدعى بماء فمضمض، قالت: يا ابن أخي، ألا تتوضأ؟ إن رسول الله - عليه السلام - قال: توضئوا مما غَيَّرَتِ النار -أو مست النار". قوله: "مما مست النار" أي: مما أصابته النار. ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا إسحاق بن بكر بن مضر، قال: ثنا أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سوادة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس، عن أم حبيبة، مثله، غير أنه قال: "يا ابن أختي". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأبو سفيان بن سعيد هو المذكور في الطريق الذي قبله، وهو ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هشام بن عبد الملك، ثنا ابن حرب، قال: ثنا الزُّبَيْدي، عن الزهري، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس بن شريق: "أنه دخل على أم حبيبة زوج النبي - عليه السلام - وهي خالته، فسقته سويقا، ثم قالت له: توضأ يا ابن أختي؛ فإن رسول الله - عليه السلام - قال: توضئوا مما مست النار". قوله: "غير أنه قال: يا ابن أختي" هكذا وقع في رواية أبي داود والنسائي كما ذكرنا، ووقع كلاهما في رواية الطحاوي، ووقع في رواية أحمد: "يا ابن أخي" كما ذكرنا، وفي رواية أخرى له: "يا ابن الأخ". ص: حدثنا ابنُ أبي داود وفهدٌ، قالا: أنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 107 رقم 180).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) مختصرا: أنا موسى بن عيسى، أنا أبو اليمان، نا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "توضئوا مما مسّت النار". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيدُ بن عامر، قال: حدثنا محمَّد بن عَمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "توضئوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط". ش: إسناده حسن جيد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، أنا [محمد] (¬3) عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحوه سواء. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "توضئوا من ثور أقط". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن جَيَّد. وأخرجه الحديث في "مسنده": ثنا الدراورديّ، عن محمَّد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضئوا مما مست النار ولو من أثوار أقط". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدَّمِيُّ، قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنها - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضؤوا مما مست النار ولو من ثور أقط، فقال ابن عباس: يا أبا هريرة، فإنا ندهن بالدهن وقد سخن بالنار! ونتوضأ بالماء وقد سخن بالنار! فقال: يا ابن أخي، إذا سمعت الحديث من رسول الله - عليه السلام - فلا تضرِبْ له الأمثال". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 239 رقم 467). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 503 رقم 10549). (¬3) في "الأصل، ك": محمَّد بن، ولفظة: "بن" مقحمة، وليست في "المسند".

ش: إسناده صحيح، والمُقدَّمي هو محمَّد بن أبي بكر بن عطاء بن مقَدَّم- بفتح الدال. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط. قال: فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة، (أتوضأ) (¬2) من الدهن، (أتوضأ) (¬3) من الحميم؟! قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا سمعت حديثا عن رسول الله - عليه السلام - فلا تضرب له مثلا". قوله: "وقد سخن" جملة فعلية وقعت حالا في الموضعين. قوله: "فلا تضرب له الأمثال" أي لا تصف له الأمثال، يقال: ضرب مثلا. أي وَصَفَ وَبَيَّنَ. إنما قال له هكذا لأنه فهم منه الإنكار عليه. "والحَميم" بفتح الحاء: الماء الحار. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر. قال: ثنا الحارث بن يعقوب، أن عراك بن مالك أخبره، قال: سمعت أبا هريرة يَقولُ: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "توضؤوا مما مسّت النار". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه السّراج في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز الجَرويُّ، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا بكر بن مضر ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي": (1/ 114 رقم 79). (¬2) كذا في "الأصل، ك" على الإفراد، وفي "جامع الترمذي": "أنتوضأ" بصيغة الجمع. (¬3) سبق تخريجه.

ص: حدثنا ربيع الجيزيّ، قال: ثنا إسحاق بن بكر بن مضر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سَوادة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: "رأيت أبا هريرة يتوضأ على ظهر المسجد، فقال: قلت أثوارَ أقطٍ فتوضأت؛ إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: توضئوا مما مست النار". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعمر بن عبد العزيز هو: الخليفة العادل والإمام الصالح. وأخرجه النسائي (¬1) وقال: أخبرنا الربيع بن سليمان بن داود، قال: ثنا إسحاق ابن بكر ... إلى آخره نحوه سواء. وهذا مما اشترك فيه الطحاوي والنسائي في تخريجه عن شيخ واحد. قوله: "أثوار أقط" بالإضافة، والأثوار جمع ثور وقد فسرناه. ص: حدثنا فهد وابن أبي داود، قالا: نا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن فهد بن سليمان وإبراهيم بن أبي داود البولّسي، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن قارظ، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): نا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عُقيل بن خالد، قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "الوضوء مما مسّت النار". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (01/ 105 رقم 173). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 272 رقم 351) وقد تقدم قريبًا.

قال ابن شهاب (¬1): أخبرني عمر بن عبد العزيز، أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أخبره، "أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط كلتها، سمعت رسول الله - عليه السلام -[يقول]، (¬2) توضئوا مما مست النار". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن المُطلب بن حنطب، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه النسائي (¬3)، أنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، عن حسين المعلم، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عَمرو الأوزاعي، أنه سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب يقول: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالا لأن النار مسته؟! فجمع أبو هريرة حصى فقال: أشهد عدد هذا الحصى أن رسول الله - عليه السلام - قال: توضئوا مما مست النار". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، عن حسين المعلم، عن يحيى فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المُقْعد البصري شيخ البخاريّ، عن عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن المطلب بن حنطب، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 272 رقم 352). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "المجتبى" (1/ 105 رقم 174).

وأخرجه السّراج في "مسنده" من حديث يحيى، عن الأوزاعي، عن المطلب بن حنطب، عن ابن عباس قال: "أتوضأ من طعام أجده حلالًا في كتاب الله -عز وجل- لأن النار محشته؟! فجمع أبو هريرة حصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى، سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: توضئوا مما غيرت النار". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ عن معاوية بن صالح، عن سليمان أبي الربيع، عن القاسم مولى معاوية، قال: "أتيت المسجد، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ يحدثهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سهل بن الحنظلية. فسمعته يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أكل لحما فليتوضأ". ش: إسناده جيد، ويحيى بن معين: الحجة الثبت في الحديث ورجاله. وسليمان: هو ابن موسى أبو الربيع، الدمشقي الأسدي الأشدق (¬1)، روى له الجماعة إلَّا البخاري. والقاسم بن عبد الرحمن الشامي مولى معاوية بن أبي سفيان، وثقه يحيى بن معين والعجلي والترمذي، وضعفه جماعة، وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) كذا قال، وهو احتمال بعيد، فلا يعلم أن سليمان بن موسى الأشدق يكنى أبا الربيع، ولما أخرج الإِمام أحمد هذا الحديث قال: هو سليمان بن عبد الرحمن الذي روى عنه شعبة وليث ابن سعد. كذا قال ويقصد به سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى المترجم في "تهذيب الكمال" (12/ 32) ولكنه يكنى أبا عمرو أو أبا عُمر. وكذا قال الخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 122) في ترجمة سليمان ابن عبد الرحمن الشامي، فقال وهو سليمان أبو الربيع الذي روى عنه معاوية بن صالح ... إلخ. وأما البخاري فقال في "تاريخه الكبير" (4/ 12): وقال بعضهم: هو ابن عبد الرحمن ولم يصح، ويقال لسليمان: أبو عمر الأسدي. وكأنه يشير إلى الاختلاف في كنية هذا مع صاحب الترجمة. وصنيع ابن أبي حاتم في "الجرح " (4/ 152) يوافق صنيع البخاري، وكأنهم ذهبوا إلى تجهيله، والله أعلم.

وسهل بن الحنظلية: هو سهل بن عَمرو -والحنظلية أمه- الأنصاري الصحابي. وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا عبد الرحمن بن مهدي ... إلى آخره ونحوه. ولفظه: "دخلت مسجد دمشق" والباقي نحو رواية الطحاوي. ص: حدثنا ابن خزيمة، ثنا حجاج، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام قال: "كنا نتوضأ مما غيرت النار، ونمضمض من اللبن، ولا نمضمض من التمر". ش: إسناده صحيح، وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة، وأيوب هو السختياني، وأبو قلابة: عبد الله بن زيد الجَرمي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مختصرًا: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من هذيل -أراه قد ذكر أن له صحبة- قال: "يتوضأ مما غيرت النار". ص: فذهب قوم إلى الوضوء مما غيرت النار، واحتجوا في ذلك بهذ الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، والزهري، وأبا قلابة، وأبا مجلز، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن يعمر. فإنهم ذهبوا إلى وجوب الوضوء مما غيرت النار، واحتجوا فيه بالآثار المذكورة، وهو قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي موسى، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة أم المؤمنين، وأم حبيبة أم المؤمنين، وأبي أيوب، وأبي موسى. وقال ابن حزم: والأحاديث في ذا ثابتة، ولولا أنها منسوخة لقلنا بها (¬2). وفي "المغني" لابن قدامة: وأكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيئا ومطبوخا ومشويّا، عالما كان أو جاهلا. وبهذا قال جابر بن سمرة، ومحمد بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 54 رقم 561). (¬2) انظر "المحلى" (1/ 243).

إسحاق (¬1)، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر (¬2). وقال الخطابي: ذهب إلى هذا عامَّه أصحاب الحديث، فإن شرب من ألبان الإبل فالظاهر عن أحمد أنه لا وضوء عليه. وعنه: عليه الوضوء. وفيما سوى اللحم من أجزاء البعير من كبده وطحاله وسنامه ودهنه ومرقه وجهان، أحدهما: لا ينقض كاللبن، والثاني: ينقض؛ لأنه من الجملة، وما عدا لحم الجزور من الأطعمة لا وضوء فيه لحما أو غير لحم، حلالا أو حراما، مسته النار أو لم تمسه (¬3). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا وضوء في شيء من ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، والأوزاعي، وأبا حنيفة، ومالكا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وأهل الشام، وأهل الكوفة، والحسن بن حيّ، والليث بن سعد، وأبا عبيد، وداود بن علي، وابن جرير الطبري؛ فإنهم قالوا: لا وضوء في شيء من ذلك، إلَّا أن أحمد يرى نقض الوضوء في لحم الجزور فقط كما ذكرناه. وقال ابن المنذر: وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، وأبي بنُ كعب، وأبو الدرداء، لا يرون الوضوء مما مسته النار. ص: وذهبوا في ذلك إلى ما روي عن رسول الله - عليه السلام -[من] (¬4) ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا بن وهب، أن مالكا حدثه. ح وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن زيد بن ¬

_ (¬1) زاد في "المغني" (1/ 121): وإسحاق. وهو ابن راهويه. (¬2) زاد في "المغني" (1/ 121): وهو أحد قولي الشافعي. (¬3) من "المغني" (1/ 123) بتصرف واختصار. (¬4) في "الأصل، ك": في، وما أثبتناه أليق بالسياق وتم الشرح عليه.

أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون في عدم وجوب الوضوء مما مسته النار إلى ما روي عن رسول الله - عليه السلام - من أحاديث تدل على ذلك، منها حديث ابن عباس أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح من وجهين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو المصري، عن القعنبي وهو: عبد الله ابن مسلمة بن قعنب، ونسبته إلى جده، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد الله بن مسلمة هذا، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬3) عن عبد الله، عن مالك كذلك. قوله: "كَتْفِ شاة" ذكر ابن سيدة في "المخصص" أنه هو العظم، وهي أنثى والجمع كتاف وفي "المحكم": الكَتِفُ والكِتْفُ كالكَذِبِ والكِذْب: عظم عريض خلف المنكب، وهي تكون للناس وغيرهم، والكتف في الإبل والبغال والحمير وغيرها: ما فوق العضد. وقيل: الكتفان أعلى اليدين، والجمع كتاف، وقال سيبويه: لم يجاوزوا به هذا البناء، وحكى اللحياني في جمعه: كَتِفَة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا رَوح بن القاسم، عن زيد بن أسلم ... فذكر نحوه بإسناده. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 86 رقم 204). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 273 رقم 354). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 48 رقم 187).

ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا محمَّد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - خرج إلى الصلاة، فأتي بكتف من لحم، فانتهسها، ثم مضى إلى الصلاة ولم يمضمض ولم يطَّهر". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمَّد بن الزبير الحنظلي، عن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ش: هذا طريق آخر، ومحمد بن الزبير فيه مقال، حتى قال يحيى: ضعيف لا شيء. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الوهاب الخفاف، أنا محمَّد بن الزبير، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عبد الله بن عباس: "أن النبي - عليه السلام - أتى بكتف مشوية فأكل منها نتفا، ثم صلى ولم يتوضأ". ص: حدثنا أحمد بن يحيى الصُوريّ، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا ابن ثوبان، عن داود بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله. ش: هذا طريق آخر، وابن ثوبان هو: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العَنْسي، فيه مقال كثير. وداود بن علي بن عبد الله بن عباس، وثقه ابن حبان وقال: يخطئ. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا موسى بن هارون، ثنا علي بن الجعد، ثنا ابن ثوبان، عن داود بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده قال: "أكل رسول الله - عليه السلام - لحما ثم صلى ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 311 رقم 10758). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 258 رقم 2339). (¬3) "المعجم الكبير" (10/ 280 رقم 10660).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحَوْضي، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن يحيى بن يَعْمُر، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلُّسي، عن [حفص بن عمر] (¬1) أبي عمر الحَوْضي، عن همام بن يحيى إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا بهز، ثنا همام، ثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر البصري، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - انتهس من كتف، ثم صلى ولم يتوضأ". وأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا بهذا الطريق. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبي نعيم -هو وهب بن كيسان- عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: "أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزا ولحما ... " ثم ذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬4): ثنا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، نا أبي، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيْسان، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أكل كتفا ثم صلى ولم يمسَّ ماء". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): نا ابن علية، عن أيوب، عن وهب بن كيسان، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أكل من عظم أو تَعَرَّقَ من ضلع ثم صلى ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عمر بن حفص"، وهو خطأ، والصواب حفص بن عمر كما أثبتناه وراجع ترجمته في "تهذيب الكمال". (¬2) "مسند أحمد" (1/ 361 رقم 3403). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 49 رقم 190) من طريق حفص بن عمر، عن همام به. (¬4) "المعجم الكبير" (10/ 323 رقم 10789). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة " (1/ 51 رقم 523).

قلت: "العَرْق" -بفتح العن وسكون الراء- وهو العظم عليه بقيّة اللحم، يقال: عَرَقْتَه وَاعْتَرقْتَه إذا أكلت ما عليه بأسنانك. وقال الخليل: العُراق عظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عَرْق. ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء: "أنه دخل عليَّ ابن عباس يومًا في بيت ميمونة، فضرب على يدي وقال: عجبت من ناس يتوضئون مما مست النار، والله لقد جمع رسول الله - عليه السلام - يوما ثيابه، ثم أُتي بثريد فأكل منها، ثم قام فخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". ش: أبو الأسود اسمه: النضر بن عبد الجبار المصري، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، حدثني أبي، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: "دخلت بيت ميمونة -زوج النبي - عليه السلام -- فوجدت فيه عبد الله بن عباس، فتذاكرنا الوضوء مما مست النار، فقال ابن عباس: كان رسول الله - عليه السلام - يأكل مما مست النار ثم يصلي ولا يتوضأ، فقلنا: أنت رأيته؟ فأشار إلى عينيه فقال: بصر عيني". وأخرج مسلم (¬2): حدثني علي بن حجر، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - جمع عليه ثيابه ثم خرج إلى الصلاة، فأُتيَ بهدية خبز ولحم، فأكل ثلاثة لقم ثم صلى بالناس وما مس ماء". قوله: "بثريد" الثريد من ثردت الخبز ثردا: كسرتُه، فهو ثريد ومثرود، والاسم: الثُردة -بالضم- وكذلك أثردت الخبز، ويقال: لا يكون ثريد حتى يكون فيه لحم. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 324 رقم 10792). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 275 رقم 359).

ص: حدثنا يونس والربيع المؤذنُ، قالا: ثنا أسد، ثنا شعبة. ح وحدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس. ح وحدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قالوا: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا عون محمَّد بن عبيد الله الثقفي، يقول: سمعت عبد الله بن شداد بن الهاد، يحدث عن أم سلمة: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج إلى الصلاة فنشلت له كَتِفا، فأكل منها، ثم خرج فصلى ولم يتوضأ". ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، وأم سلمة اسمها هند بنت أبي أمية. وأخرجه الطبراني (¬1): أيضًا من ثلاث طرق: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا مسلم بن إبراهيم ح ثنا أحمد بن عمرو القطراني، ثنا سليمان بن حرب ح ونا أبو خليفة، نا أبو الوليد، قالوا: نا شعبة، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد: "أن أم سلمة - رضي الله عنها - سئلت عما غيرت النار، فقالت: أكل النبي - عليه السلام - كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ". قوله: "فنشلت له كتفا" مِنْ نَشَلْتُ اللحم إذا جذبته من القِدْر، واللحم هو النَشِيل، من نَشَلَ يَنْشُل من باب نَصَر يَنْصُر، ومنه المِنْشَل والمِنْشال، وهو الحديدة التي يُنْشَل بها اللحم من القِدْر. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، عن أبي عون، قال: سمعت عبد اللهَ بن شداد يَقُولُ: "سأل مروان أبا هريرة عن الوضوء مما غيرت النار، فأمر به ثم قال: كيف تسأل أحدا وفينا أزواج النبي - عليه السلام -؟! فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - فسألوها ... " ثم ذكر مثل حديث شعبة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 286 رقم 630).

ش: رجاله ثقات، وأبو عون هو: محمَّد بن عبيد الله الثقفي، ومروان هو: ابن الحكم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا وكيع، نا سفيان، نا أبو عون محمَّد بن عبيد الله الثقفي، عن عبد الله بن شداد، قال: سمعت أبا هريرة يُحدّث مروان قال: "توضئوا مما مست النار، فأرسل مروان إلى أم سلمة فسألها، فقالت: نَهس رسُولُ الله - عليه السلام - عندي كتفا، ثم خرج إلى الصلاة ولم يَمسّ ماء". وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن الثوري ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا عثمان بن عمر، قال: أخبرني ابن جريج، عن محمَّد بن يوسف، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة قالت: "قربت إلى رسول الله - عليه السلام - جَنْبا مشويّا، فأكل منه ولم يتوضأ". ش: رجاله رجال الصحيحين ما خلا ابن مرزوق، وابن جريج هو عبد الملك، ومحمد بن يوسف الكندي المدني الأعرج ابن بنت السائب، وسليمان بن يسار -بالياء آخر الحروف- أبو أيوب المدني، مولى أم سلمة. وأخرجها "النسائي" (¬3): أنا محمَّد بن عبد الأعلى، نا خالد، قال: نا ابن جريج، عن محمَّد بن يوسف، عن سليمان بن يسار قال: "دخلت على أم سلمة فحدثتني: أن رسول الله - عليه السلام - كان يُصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم، وحدثنا (بهذا) (¬4) الحديث أنها حدثته: أنها قربت إلى النبي - عليه السلام - جَنْبا مشويّا فأكل مثله، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 306 رقم 26654). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 286 رقم 628). (¬3) "المجتبى" (1/ 108 رقم 183). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى": "مع هذا".

وأخرجه أحمد (¬1) والطبراني (¬2): وفي روايتهما: عطاء بن يَسَار موضع سليمان بن يَسَار، وهما أخوان. وأخرجه البيهقي (¬3): عن كليهما. قوله:" قَربتُ" بضم التاء من التقريب، على أنه اختبار عن النفس وفي رواية غيره: "قُربَتْ" على صيغة الغائب. قوله: "جَنْبا" بفتح الجميع وسكون النون ثم بالباء الموحدة، وجنب الشاة معروف، ويجمع على جنوب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود الطيالسيّ، قال: نا زائدة بن قدامة، قال: نا عبد الله بن محمَّد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله، قال: "أُتينا ومعنا رسولُ الله - عليه السلام - بطعام فأكلنا، ثم قمنا إلى الصلاة ولم يتوضأ أحد منا، ثم تعشينا ببقية الشاة، ثم قمنا إلى العصر ولم يَمّس أحد منا ماء". ش: أبو داود اسمه: سليمان بن داود، والطيالسي نسبة إلى بيع الطيالس جمع طيلسان. وعبد الله بن محمَّد بن عَقِيل -بفتح العين- فيه مقال مع كثرة علمه. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬4): نا زائدة، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، عن جابر قال: "مشيت مع رسول الله - عليه السلام - إلى امرأة من الأنصار، فذبحت لنا شاة، وأُتينا بالطعام، فأكل رسول الله - عليه السلام -وكلنا، ثم قمنا إلى الظُّهر لم يتوضأ أحد منها، ثم أُتينا ببقية الشاة فتعشَّينا منها، فحضرت صلاة العصر، فقام رسول الله - عليه السلام - وقمنا فصلينا، لم يمس أحدٌ منَّا مَاء". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 307 رقم 26664). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 285 رقم 626). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 154 رقم 695). (¬4) "مسند الطيالسي" (1/ 233 رقم 1670).

ص: حدثنا يونس، قال: نا علي بن معبد، قال: نا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمَّد ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، عن جابر. وأخرجه الحديث في "مسنده": نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، سمع جابر بن عبد الله. ونا سفيان، نا محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، ففرشت لنا تحت صَوْر لها -والصَوْر: النخل المجتمعات- وذبحت لنا شاة فأكل منها، وأتته بقناع رُطب فأكل منه، ثم توضأ للظهر فصلى، ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة، فأكل، ثم صلى العصر ولم يتوضأ". قلت: علالة كل شيء: بقيته، وهو بضم العين وتخفيف اللام. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: نا يزيد بن زريع، قال: نا روح بن القاسم، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر قال: "دعتنا أمرأة من الأنصار، فذبحت لنا شاة، ففرشت لنا تحت صَوْرٍ لها فدعى رسول الله - عليه السلام -، فأكلنا، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: هذا طريق آخر وهو صحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عبد الله بن عقيل، سمع جابر بن عبد الله. وقال سفيان: ونا محمَّد بن المنكدر، عن جابر قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة فأكل، وأتته بقناع من رُطَب، فأكل منه ثم توضأ للظهر وصلى، ثم انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشاة، فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 116 رقم 80).

وأخرج أبو داود (¬1): ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، قال: ثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني محمَّد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "قَرَّبْتُ للنبي - عليه السلام - خبزا ولحما، فأكل [ثم دعى] (¬2) بوَضُوء فتوضأ، ثم صلى الظهر، ثم دعى بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ". قوله: "دعتنا امرأة" قال عبد الغني: هذه المرأة: عمرة بنت حَزْم أخت عمرو بن حزم. قوله: "بقِنَاع" بكسر القاف، وهو طبق من عسب النخل، وكذا القِنع. ويستفاد منه: جواز الجمع بين الطعامين، والعود إلى فضلة الطعام، وترك الوضوء مما مسته النار، وسنيّة إجابة الدعوة. ص: حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن محمَّد بن المنكدر، قال: "دخلت على بعض أزواج النبي فقلتُ: حدثينى في شيء مما غيرت النار، فقالت: قلّ ما كانَ رسولُ اللهَ - عليه السلام - يأتينا إلَّا قَلَيْنا له حبَّةً تكونُ بالمدينة، فيأكل منها ويصلي ولا يتوضأ". ش: رجاله ثقات. قوله: "في شيء مما غيرت النار" أي في حكم أكل شيء من الأشياء التي غيّرتها النار، هل يجب فيه الوضوء أم لا؟. قوله: "تكون" صفة للحبة. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا عثمان بن زاذان، عن محمَّد بن المنكدر قال: "دخلت على فلانة -بعض أزواج النبي - عليه السلام - قد سمّاها ونسيت- قالت: دخل عليّ رسول الله - عليه السلام - وعندي بطن معلق، فقال: لو طبخت لنا من هذا البطن كذا وكذا، قالت: فصنعناه، فأكل ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" 1/ 49 رقم 191). (¬2) في "الأصل": ثم دعى فدعى. والمثبت من "سنن أبي داود".

ش: إسناده صحيح، ولعل المراد من "بعض أزواج النبي -عليه السلام" ها هنا أم سلمة؛ لأن لها روايات كثيرة في هذا الباب، وأراد "بالبطن" ما يحتوي عليه البطن من الأحشاء. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أم حكيم قالت: "دخل عليّ رسول الله - عليه السلام - فأكل كتفا، فآذنه بلال بالأذان فصلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح، وعمار بن أبي عمار: مولى، بني هاشم، روى له الجماعة إلَّا البخاري. وأم حكيم صَفية، ويقال: عاتكة، ويقال: ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابن هاشم القرشية بنت عم النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن صالحا أبا الخليل حدثه، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن أم حكيم ابنة الزبير حدثته: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل على ضباعة بنت الزبير، فنهس من كتف عندها، ثم صل ولم يتوضأ من ذلك"، وإسناده أيضًا صحيح. قوله: "فآذنه" أي: أعلمه. قوله: "فنهس" بالسين المهملة، النَّهْسُ: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، والنهش -بالمعجمة- الأخذ بجميعها، وقال الأصمعي: كلاهما واحد، وقيل: بالمهملة أبلغ منه بالمعجمة، وقيل: النهس سرعة الأكل. ص: حدثنا ابن مرزوق، وربيعٌ الجيزيُّ، وصالح بن عبد الرحمن قالوا: ثنا القَعْنَبيُّ قال: نا فائد مولى عبيد الله بن علي، عن عبيد الله، عن جده قال: طبُخت لرسول الله - عليه السلام - بطن شاة، فأكل منها، ثم صلى العشاء ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 371 رقم 27136)، (6/ 419 رقم 27394).

ش: ابن مرزوق: هو إبراهيم، والقَعْنبي: هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب، وفائد -بالفاء- وعبيد الله بن علي بن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام -، وجده: أبو رافع مولى النبي، ورواية عبيد الله هذا عن جَدّه مرسلة؛ لأنه لم يدرك جده أبا رافع مولى النبي - عليه السلام - وإنما روايته عن أبيه علي بن أبي رافع. وحديث أبي رافع أخرجه مسلم (¬1): من حديث سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي غطفان، عن أبي رافع قال: "أشهد: لكنتُ أشْوِي لرسول الله - عليه السلام - بطن الشاة، ثم صلى ولم يتوضأ". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا القعنبي، قال: نا عبد العزيز، عن عمرو ابن أبي عَمرو، عن المغيرة بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه، ولم يذكر العشاء. ش: هذا طريق آخر، وعبد العزيز: هو الدراوردي، والمغيرة بن أبي رافع يقال له: المعتمر أيضًا، وأبو رافع اسمه أسلم أو إبراهيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا خالد بن مخلد، نا سليمان بن بلال، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن حُنين بن أبي المغيرة، عن أبي رافع قال: "رأيت النبي - عليه السلام - أكل كتفا، ثم قام إلى الصلاة ولم يَمسَّ ماء". ص: حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: نا أسد، قال: نا سعيد بن سالم، عن محمَّد بن حميد، قال: حدثتني هند بنت سعيد بن أبي سعيد الخدري، عن عمتها قالت: "زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أكل عندنا كتف شاة، ثم قام فصلى ولم يتوضأ". ش: أسد: هو ابن موسى، ثقة. وسعيد بن سالم القَدَّاح أبو عمر المكي، قال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: محله الصدق. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 274 رقم 357). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 51 رقم 529).

ومحمد بن أبي حميد واسمُه إبراهيم الزّرقي الأنصاري، فيه مقال حتى قال يحيى: ضعيف ليس حديثه بشيء. روى له الترمذي وابن ماجه. وهند بنت سعيد بن أبي سعيد الخدري، وثقها ابن حبان. وعمة هند بنت سعيد تكنى أم عبد الرحمن، صحابية. وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (¬1): من حديث يعقوب بن حميد، عن عبد العزيز ابن محمَّد، عن محمَّد بن أبي حميد، عن هند بنت سعيد، عن عمتها: "أن النبي - عليه السلام - زارهم، فأكل كتف شاة، ثم صل ولم يتوضأ". وأخرجه الطبراني (¬2): من طرق عن هند بنت سعيد هذه تحدث عن عمّتها قالت: "جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائدا لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فقدمنا إليه ذراع شاة فأكل، وحضرت الصلاة، فتمضمض ثم صل ولم يتوضأ". ص: حدثنا ربيعٌ الجيزيّ، قال: نا نضر بن عبد الجبار، قال: نا ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد، عن عبد الله بن الحارث الأسديّ الزُبتدي قال: "أكلنا مع رسول الله - عليه السلام - طعاما في المسجد قد شُويَ، ثم أقيمت الصلاة، فمسحنا أيدينا بالحَصْباء، ثم قمنا نصلي ولم نتوضأ". ش: رجاله ثقات إلَّا أن في عبد الله بن لهيعة مقالا، والزُّبَيدي- بضم الزاي، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف. وأخرجه الطبراني (¬3): نا المقدامُ بن داود، نا أسد بن موسى. ح ¬

_ (¬1) "معرفة الصحابة" (6/ 3593 رقم 8096). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 445 رقم 1093 - 1095). (¬3) هذا الحديث في الجزء المفقود من "المعجم الكبير" للطبراني، وأخرجه الطبراني من طريق آخر بنحوه في "المعجم الأوسط" (6/ 250 رقم 6320). وأخرجه ابن ماجه في "سننه" (2/ 1097 رقم 3300) مختصرًا من طريق الحضرمي عنه. وكذا أخرجه الحافظ الضياء في "المختارة" (9/ 207 رقم 191 - 193) من طرق عنه.

ونا عبدان بن أحمد المروزي، نا قتيبة بن سَعيد، قالا: نا ابن لهيعة، نا سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي قال: "أُتينا ونحن مع رسول الله - عليه السلام - بشواء، وأقيمت الصلاة، فأدخلنا أيدينا في الحصباء ثم صلينا ولم نتوضأ"، وله في رواية أخرى: "كنا نأكل على عهد رسول الله - عليه السلام -في المسجد الخبزَ واللحمَ ثم نصلي ولا نتوضأ". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني للراهيم بن سَعْد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، أن أباه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يأكل ذراعا يَجْتَزُ منها، فدعي إلى الصلاة، فقام فطرح السكين، فصلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين (¬1)، والأوَيسي نسْبة إلى أحد أجداد أُوَيس، بضم الهمزة. وأخرجه البخاري (¬2): نا يحيى بن بكير، قال: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، أن أباه أخبره: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يَجْتَزُّ من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فألقى السكين، فصلى ولم يتوضأ". وأخرجه مسلم (¬3): نا محمد بن الصباح، قال: نا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني الزهري، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضّمْري، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يَجْتَزُّ من كتف يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ". قوله: "ذراعا" هو ذراع الشاة، يذكر ويؤنث. قوله: "يجتز" أي يقطع، وقيل: هو القطع من غير إبانة، يُقال: جززت العود جزّا. ¬

_ (¬1) قلت: عبد العزيز بن عبد الله الأويسي لم يخرج له مسلم. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 86 رقم 205). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 273 رقم 355).

قوله: "فطرح السكين" أي رماها، والسكين يذكر ويؤنث، سميت بذلك لتسكينها حركة المذبوح. ويستفاد منه: - جواز قطع اللحم بالسكين لدعاء الحاجة إليه، كصلابة اللحم وكبر القطعة. فإنْ قيل: قد جاء النهي عنه في بعض الحديث وأمر بالنَّهْش. قلت: المراد من ذلك كراهة زي العجم واستعمال عادتهم في الأكل بالأخلة والبارجين على مذهب النخوة والترفّه عن مسِّ الأصابع الشفتين والفم، وأما إذا كان اللحم طابقا، أو عضوًا كبيرا كالجنب ونحوه؛ لا يكره قطعه بالسكين، وإصلاحه به والحزّ منه، وإذا كان عراقا ونحوه؛ فنهسُه مستحب على مذهب التواضع وطرح الكبر. وقال ابن التين: وإنما نهي عن قطع الخبز بالسكين، قاله الخطابي. قلت: وقد نهي عن قطع اللحم أيضًا. رواه الطبراني (¬1) ولكن معناه على ما ذكرنا. - وألَّا وضوء مما مست النار. - واستحباب استدعاء الأئمة للصلاة إذا حانت. - واستحباب إجابة الداعي للصلاة إذا أقيمت وترك الاشتغال بغيرها. - وقبول الشهادة على النفي إذا كان المنفي محظورا مثل هذا، أعني قوله: "ولم يتوضأ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 285 رقم 624) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف. ورواه أبو داود في "سننه" (3/ 349 رقم 3778) وذكره النسائي في "الكبرى" (2/ 96 رقم 2551) وفي "المجتبى" (4/ 171 رقم 2243) وعده من منكرات أبي معشر نجيح، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 280 رقم 14403) كلهم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -، وقال أبو داود: ليس بالقوي.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن بشَيْر بن يَسار مولى بني حارثة، أن سُوَيد بن النعمان حدثه: "أنه خرج مع رسول الله - عليه السلام - عام خيبر، حتى إذا كان بالصهباء -وهي من أدنى خيبر- نزل فصلى العصر، ثم دعى بالأزواد، فلم يُؤت إلَّا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل وكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال مسلم، وبشُير -بضم الباء الموحدة، وفتح الشين المعجمة- ويسار بفتح الياء آخر الحروف، والسين المهملة. وأخرجه البخاريّ (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬2): عن محمَّد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه، عن ابن القاسم، عن مالك ... إلى آخره. قوله: "عام خَيْبر" قال ابن سعد: كانت في جمادى الأولى سنة سبع، وسمِّيت خيبر باسم رجل من العماليق نزلها، واسمه خيبر بن فانية بن مهلاييل، وبينها وبين المدينة ثمانية برد، واختلف في فتحها، فقيل: صلحا، وقيل: عنوة، وقيل: جلا أهلها عنها بغير قتال، وقيل: بعضها صلحا وبعضها عنوة، وبعضها جلا أهلها عنها بغير قتال، وعلى كل ذلك تدل الأحاديث الواردة. قوله: "بالصهباء" وهي موضع على روحة من خيبر. وقال البكري: على بريد، على لفظ تأنيث أصهب. قوله: "ثم دعى بالأزواد" أبي طلبها، وهي جمع زاد، وهو طعام يتخذ للسفر، تقول: زودت الرجل فتزود، والمِزود: ما يجعل فيه الزاد. قوله: "بالسويق" قال صاحب "المحكم": يقال فيه: السويق، والجمع أسوقة. قال الفارسي: سمّي به لانسياقه في الحلق، والقطعة منه سويقة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 86 رقم 206). (¬2) "المجتبى" (1/ 108 رقم 186).

وقال أبو حاتم: إن عملوا الغَريضَة -وهو ضرب من السويق- صرموا من الزرع ما يريدون حين يَسْتفرك، ثم يُسَهّمُونه -وتسهيمه أن يسخن على المِقْلى حتى يَيْبَس- وإن شاءوا جعلوا على المقلى النوذنج وهو أطيب لطعمه، وعاب رجلٌ السويقَ بحضرة أعرابي فقال: لا تعبه؛ فإنه عدة المسافر، وطعام العجلان، وغذاء المبكّر، وبلغة المريض، وهو يسر فؤاد الحزين، ويرد من نفس المحرور، وجيّد في التسمين، ومنعوت في الطب، وقفاره يحلق البلغم، ومَلتونه يصلي الدم، وإن شئت كان شرابا، وإن شئت كان طعاما، وإن شئت كان ثريدا، وإن شئت كان خبيصا (¬1). والسويق يتخذ من الشعير أو القمح، يُدقّ فيكون شبه الدقيق، إذا احتيج إلى أكله خلط بماء أو لبن أو رُبَّ ونحوه. وقال قوم: هو الكعك. قال السفاقسي: قال بعضهم كان ملتوتا بسمن، وقال الداودي: هو دقيق الشعير والسُلْت (المقلوّ) (¬2). ويّردّ على من قال: هو الكعك؛ قول ابن عمر: يا حبذا الكعك بلحم مَثرود وخُشْكُنَان (مع سويق) (¬3) مقنود. قوله: "فثُرِّيَ" من ثريت السويق: صبَبْت عليه ماء ثم لَتَتْتَّه، وفي "مجمع الغرائب": ثَرى تُثْرِي تَثْرِيَة: إذا بُلَّ التراب، ويقال: ثَرَّ المكان: أي رشَّشَهُ، وإنما بَلَّ السويق لما كان لحقه من اليُبْس والقدم. ويستنبط منه أحكام: - إباحة الزاد في السفر خلافا لمن يمنع ذلك. - وألَّا وضوء مما مست النار. - ونظر الإِمام لأهل العسكر عند قلة الأزواد وجمعها؛ ليقوت من لا زاد له. ¬

_ (¬1) انظر "لسان العرب" (مادة: غرض) و"عمدة القاري" (3/ 103). (¬2) المَقْل: الغمس، انظر "لسان العرب" (مادة: مقل). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب" (مادة: كعك): بسويق.

- وأن القوم إذا فَنِي زاد أكثرهم، فالواجب أن يتواسوا في زاد من بقي. - وأن المضمضة منه إنما كانت لاحتباس شيء منه بين الأسنان؛ فربما تشغل المصلي. واستدل أبو عمر وغيره على أن هذا الحديث ناسخ لما تقدم من الحظر، وفيه نظر؛ لأن من جملة رُواة الحظر أبا هريرة، وإسلامه بعد خيبر، وهذا الحديث عن مسيرهم إليها، فافهم. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن يحيى ... فذكر نحوه بإسناده، غير أنه لم يقل: "وهي من أدنى خيبر". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بشُير بن يَسار، أن سويد بن النعمان ... فذكر نحوه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا علي بن عبد العزيز، نا حماد بن زيد، نا يحيى بن سعيد، نا بشُير بن يَسار الأنصاري مولى الأنصار، أن سويد بن النعمان وهو من أصحاب النبي - عليه السلام - أخبره: "أنهم خرجوا مع رسول الله - عليه السلام - إلى خيبر، قال حتى إذا كنا بالصهباء -وهي على رَوْحة من خيبر- دعا رسول الله - عليه السلام - بطعام فلم يوجد غير سويق، فأكلنا ثم شربنا عليه من الماء، ثم مضمض رسول الله - عليه السلام - فقام فصلى". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا يحيى بن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، حدثني بشير بن يَسار، عن سويد بن النعمان: "أن رسول الله - عليه السلام - نزل بالصهباء عام خيبر، فلما صلى العصر دعا بالأطعمة، فلم يؤت إلَّا بسويق، قال: فلكنا -يعني أكلنا- منه، فلما كانت المغرب تمضمض وتمضمضنا معه". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 88 رقم 6458). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 488 رقم 16033).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: نا مَكِّيّ بن إبراهيم، قال: نا الجُعَيد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن عبد الله بن عبيد الله، أن عمرو بن عبيد الله حدثه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - أكل كَتِفا، ثم قام فصلى ولم يتوضأ". ش: مكي بن إبراهيم شيخ البخاري. والجُعيد بن عبد الرحمن المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. والحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد الطلب، أبو عبد الله المدني، ضعفّه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له الترمذي وابن ماجه. وعمرو بن عبيد الله الحضرمي، قال ابن الأثير: إنه رأى النبي - عليه السلام -. وقال أبو نعيم: لا تصح له رؤية. والأول أصح. وأخرجه أحمد (¬1): نا مكيّ بن إبراهيم ... إلى آخره نحوه، وفيه: "أن عمرو ابن عبيد الله صاحب النبي - عليه السلام -". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عُمر، قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن ثابت وغيره من مشيخة بني عبد الأشهل، عن أم عامر بنت يزيد (امرأة) (¬2) ممن بايعت رسول الله - عليه السلام -: "أنها جاءت إلى رسول الله - عليه السلام - بعَرْق في مسجد بني عبد الأشهل، فَعَرَقَهُ ثم قام فصلى ولم يتوضأ". ش: إبراهيم بن إسماعيل وثقه أحمد، وضعفه يحيى بن معين (¬3). ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 347 رقم 19075)، وليس في المطبوع: "صاحب رسول الله". (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) هو ابن أبي حبيبة، وقال مرة: صالح. كما في "الجرح" (2/ 83)، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث. وقال البخاري في "تاريخه الكبير" (1/ 271): منكر الحديث، وضعفه الدارقطني.

وعبد الرحمن بن عبد الرحمن بن ثابت بن صامت الأشهاري، ومنهم من يقول: عبد الرحمن بن ثابت بن صامت، قال أبو حاتم: ليس عندي منكر الحديث، وأدخله البخاري في الضعفاء (¬1). وأم عامر: بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا أبو عامر، نا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، نا عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأشهلي، عن أم عامر ابنة يزيد، امرأة من المبايعات: "أنها أتت النبي - عليه السلام - بعرق في مسجد بني فلان فتعرقه، ثم قام فصل ولم يتوضأ". وأخرجه الطبراني (¬3): أيضًا عن ابن المبارك (¬4)، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن ... إلى آخره. قوله: "من مشيخة" جمع شيخ، قال الجوهري: جمع الشيخ: شيوخ، وأَشْيَاخ، وشِيَخَة، وشيِخَان، ومَشْيَخَةٌ، ومشايخُ ومَشْيُوخَاء، والمرأة (شيخة) (¬5). وبنو عبد الأشهل بطن من الأنصار كبير، وعبد الأشهل بن جُشم بن الحارث ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. قوله: "بعَرقٍ" فتح العين وسكون الراء، وقد فسرناه في هذا الباب. ¬

_ (¬1) وقال أبو حاتم في "الجرح" (5/ 219): يحول حديثه من هناك. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والحديث في "مسند أحمد" (6/ 372 رقم 27144). (¬3) "المعجم الكبير" (25/ 148 رقم 357). (¬4) هو علي بن المبارك الصنعاني شيخ الطبراني. (¬5) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مختار الصحاح" (1/ 148): والمرأة شَيْخُوخَة، وَشَيَخًا أيضًا بفتح الياء. وانظر "لسان العرب"، (مادة: شيخ).

قوله: "فَعَرقَه" من عَرَقْتَ العظم، واعترقته وتعرقته: إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. فهذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث ترك الوضوء مما مست النار عن اثني عشر صحابيا وهم: ابن عباس، وأم سلمة، وجابر بن عبد الله، وبعض أزواج النبي - عليه السلام - وأم حكيم، وأبو رافع، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن الحارث، وعمرو بن أمية، وسويد بن النعمان، وعمرو بن عبيد الله، وأم عامر. وفي الباب عن عثمان، وابن مسعود، ومحمد بن سلمة، وعبد الله بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، ورافع بن خديج، وأبي هريرة. ص: ففي هذه الآثار ما يَنْفي أن يكون أكل ما مست النار حدثا؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتوضأ منه، وقد يجوز أن يكون ما أمر به من الوضوء في الآثار الأول هو وضوء الصلاة، ويجوز أن يكون غسل اليد لا وضوء الصلاة، إلَّا أنه قد ثبت عنه بما روينا أنه توضأ وأنه لم يتوضأ، فاردنا أن نعلم ما الآخر من ذلك؟ فإذا ابنُ أبي داود وأبو أمية وأبو زرعة الدمشقي قد حدثونا قالوا: نا علي بن عياش، قال: نا شعيب بن أب حمزة، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله - عليه السلام - هو ترك الوضوء مما مسّت النار". حدثنا محمد بن خزيمة، نا حجاج، نا عبد العزيز بن مسلم، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل ثوْرَ أقطٍ فتوضأ، ثم أكل بعده كتفا فصلى ولم يتوضأ". فثبت بما ذكرنا أن آخر الأمرين عن رسول الله - عليه السلام -: هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن ما خالف من ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني، هذا إذا كان ما أمر به من الوضوء يريد به وضوء الصلاة، وإن كان لا يريد وضوء الصلاة فلم

يثبت بالأحاديث الأُول أن أكل ما غيرت النار حدث، فثبت بما ذكرنا بتصحيح هذه الآثار أن أكل ما مسّت النار ليس بحدث. ش: أراد بهذه الآثار ما رواه عن اثني عشر صحابيا بنفي الوضوء مما مست النار. قوله: "وقد يجوز ... إلى أخره" تحريره: أن الوضوء المذكور في الأحاديث الأُول يحتمل الوضوء الشرعي الذي هو وضوء الصلاة، ويحتمل الوضوء اللغوي وهو أن يُريد به غسل اليد والفم من دسمه وزهومته، فإن كان المراد الثاني؛ لم يثبت بالأحاديث الأول كون كل ما غيرت النار حدثا؛ لأنه إنما يكون حدثا إن لو كان المراد بالوضوء الوضوء الشرعي. وقد روى الطبراني في "الكبير" (¬1) بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه قال: "إنما أمر النبي - عليه السلام - بالوضوء مما غيرت النار بغسل اليدين والفم للتنظيف، وليس بواجب". وفي إسناده مُطرف بن مازن وقد نُسب إلى الكذب. وقال أبو عمر: ذهب بعض من تكلم في تفسير حديث النبي - عليه السلام -: "توضؤوا مما مست النار" أنه عني به غسل اليد؛ لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة، فكأنه قال: نظفوا أيديكم من غَمر ما مسته النار، ومن دَسَم ما مسته النار، وهذا لا معنى له عند أهل العلم، ولو كان كما ظن هذا القائل؛ لكان دَسم ما لم تمسه النار وَوَدك ما لم تمسه النار لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد، وهذا لا يصح عند ذي لُبٍّ، بل المراد منه الوضوء المعهود للصلاة لمن أكل طعاما مسته النار، ولكن هو منسوخ على ما نبينه (¬2). وقيل: وضوءه - عليه السلام - من ذلك يحتمل أن يكون لشيء آخر اقتضاه، أو لنقض الطهارة أو تجديدها، وقيل: كان أمره بذلك أولًا لِمَا كانت عليه الجاهلية والأعراب من قلة التنظيف، فأراد النبي - عليه السلام - تغيير ذلك وعلّق لهم شريعة ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 71 رقم 134). (¬2) انظر "التمهيد" (3/ 330).

الوضوء، فلما رأى استقرار النظافة فيهم والتزامهم له؛ نسخ ذلك بتخفيف الحرج في لزومه لهم. انتهى. وإن كان المراد الأول -أعني الوضوء الشرعي- كما مال إلى هذا جمهور العلماء؛ يكون آخر الأمرين من فعله - عليه السلام - ناسخًا للأول كما يشهد له حديث جابر وأبي هريرة على ما نبينه عن قريب -إن شاء الله- فإن حديثهما يَشْهد أن آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن كل ما روي [مما] (¬1) يخالف ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني. وقال البيهقي في "المعرفة" (¬2): قال الشافعي: وإنما قلنا: لا يتوضأ منه؛ لأنه عندنا منسوخ، ألا ترى أن عبد الله بن عباس -وإنما صحبته بعد الفتح- روي عنه: "أنه رآه - عليه السلام - يأكل من كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ"؟ وهذا عندنا من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، وأن أمره بالوضوء منه للتنظيف، والثابت عنه أنه لم يتوضأ. انتهى. وفيه نظر؛ كيف لم يثبت عنه [أنه توضأ] (¬3) وقد روى عنه جماعة من الصحابة أنه توضأ من ذلك؟ ولهذا قال الطحاوي: إلَّا أنه قد ثبت عنه بما روينا أنه - عليه السلام - توضأ، وثبت عنه - عليه السلام - أنه لم يتوضأ، ففي مثل ذلك نحتاج إلى علم الآخر منهما، وقد دل حديث جابر وأبي هريرة أن آخر الأمْرَين تركُ الوضوء، فصار الأول منسوخا. وقال البغوي في "شرح السنة": هو منسوخ عند عامة أهل العلم. وقال الترمذي في "جامعه" بعد أن روى حديث جابر: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين ومن بعدهم مثل: سفيان، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ رأوا ترك الوضوء مما مست النار، وهذا آخر الأمرين ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": ما، وما أثبتناه أليق بالسياق. (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 250 - 251). (¬3) في "الأصل، ك": لم يتوضأ. وما أثبتناه هو أقرب إلى الصواب، والله أعلم.

من رسول الله - عليه السلام - وكان هذا الحديث ناسخا للحديث الأول -حديث الوضوء مما مست النار- انتهى. قلت: هذا بيان المخلص من المعارضة من حيث التاريخ، وهو أن يُعلم بالدليل التاريخ فيما بَين النصين، فيكون المتأخر منهما ناسخا للمتقدم. فإن قيل: الخبر المثبت أولى من النافي؛ لأن المثبت أقرب إلى الصدق من النافي، ولهذا قبلت الشهادة على الإثبات دون النفي، فلا يحتاج إلى طلب المخلص بالتاريخ؛ لعدم تحقق المعارضة. قلت: الخبر الموجب للنفي معمول به كالموجب للإثبات وما يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للإثبات فإنه يستدل بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي، فحينئذ تتحقق المعارضة؛ فإذا تحققت المعارضة يُحتاج إلى طلب المخلص، وقد علم من الأصول أن طلب المخلص أولا من نفس الحجة، فإن لم يكن فمن الحكم، فإن لم يكن فباعتبار الحال، فإن لم يوجد فبمعرفة التاريخ نصّا، فإن لم يوجد فبدلالة التاريخ. وقال أبو عمر: وأشكل ذلك على طائفة كثيرة من أهل العلم بالمدينة وبالبصرة، ولم يقفوا على الناسخ في ذلك من المنسوخ، ولم يعرفوا منه غير هذا الوجه الواحد، وكانوا يوجبون الوضوء مما مسّت النار، ويتوضؤن من ذلك، وممن رُوي عنه ذلك: زيد بن ثابت، وابن [عمرو] (¬1) وأبو موسى، وأبو هريرة، وعائشة، وأم حبيبة، واختلف فيه عن أبي طلحة الأنصاري، وعن ابن عمر وأنس بن مالك وقال به: خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن عبد الملك، ومحمد بن المنكدر، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب الزهري، فهؤلاء كلهم مدنيون. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عُمر، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر، وسيأتي ذكر الخلاف عن ابن عمر في هذه المسألة، انظر "التمهيد" (3/ 330، 331).

وقال به من أهل العراق: أبو قلابة، وأبو مجلز، والحسن البصري، ويحيى ابن يعمر، وهؤلاء كلهم بصريون، وكأن ابن شهاب قد علم الوجهين جميعًا في ذلك وروى الحديثين المتعارضين في هذا الباب، وكان يذهب إلى أن قوله: - عليه السلام -: "توضؤوا مما غيرت النار" ناسخ لفعله المذكور في حديث ابن عباس [هذا] (¬1) ومثله. وهذا مما غَلط فيه الزهري مع سعة عمله، وقد ناظره أصحابه في ذلك وقالوا: كيف يذهب الناسخ على أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعلي، وهم الخلفاء الراشدون؟! فأجابهم بأن قال: أعيى الفقهاء أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - عليه السلام - من منسوخه. وقال أبو عمر (¬2): أظن أن ابن شهاب كان يقول: إن أمهات المؤمنين لا يخفى عليهن الآخر من فعله - عليه السلام -؛ فبهذا استدل -والله أعلم- على أنه الناسخ، وعن عائشة: "كان آخر الأمرين من رسول الله - عليه السلام - الوضوء مما مسّت النار". ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - أيضًا. حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن جابر. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن بشار، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر. وحدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن عمرو، عن جابر. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (3/ 332). (¬2) "التمهيد" (3/ 334 - 337) نحوه باختصار وتصرف.

وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا زائدة، قال: نا عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر قال: "أكلنا مع أبي بكر - رضي الله عنه - خبزا ولحما، ثم صلى ولم يتوضأ". وفي حديث عبد الله بن محمَّد خاصّة: "وأكلنا مع عمر خبزا ولحما ثم قام إلى الصلاة ولم يمس ماء". ش: أي وقد روي ترك الوضوء عن أكل ما مسّته النار عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على ما روى جابر بن عبد الله عنه ذلك. وأخرجه الطحاوي من عشر طرق: [الأول] (¬1): عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن رباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "أكل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كتف لحم -أو ذراع- ثم قام فصلى لنا ولم يتوضأ". قال عطاء: وحسبت أن جابرا قال: "ولم يمضمض ولم يغسل يده" قال: حسبت أنه قال: "مسح بيده". الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل، ك". (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 167 رقم 647).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) في "مصنفه": نا هُشَيم، أنا عمرو بن دينار وأبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "أكلت مع أبي بكر خبزا ولحما، فصلى ولم يتوضأ". الثالث: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سليمان بن قيس اليشكري البصري، عن جابر. وهؤلاء ثقات، لكن قيل: إن سليمان بن قيس مات في حياة جابر، ولم يسمع منه أبو بشر. الرابع: عن أبي بكرة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن جابر. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقولُ: "أكل أبو بكر خبزا ولحما ثم صلى ولم يتوضأ". الخامس: عن يونس بن عبد الأعل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (¬3) عن مَعْمر والثوري، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: "أكلنا مع أبي بكر خبزا ولحما، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ". قال معمر: ثم أحسبه قال: "إلَّا أنه تمضمض". السادس: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب عن جابر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 532). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 167 رقم 648). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 167 رقم 649).

وفي عبد الله هذا مقال. قوله: "وفي حديث عبد الله بن محمَّد ... " إلى آخره: أشار به إلى أن ذكر عمر - رضي الله عنه - جاء في روايته خاصة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرا وظننته سمعه (من ابن عقيل) (¬2) عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل (لبنا) (¬3) فصلى ولم يتوضأ، وأن عمر - رضي الله عنه - أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: نا يزيد زريع، قال: نا رَوْح بن القاسم، عن محمَّد بن المنكدر عن جابر، عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنه - مثله. ش: هذا الطريق السابع، وهو صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن أبي داود إبراهيم. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): نا هشيم، أنا علي بن زيد، نا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "قلت مع رسول الله - عليه السلام - ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزا ولحما، فصلوا ولم يتوضئوا". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن أبي نُعَيْم وهب ابن كيسان، أنه سمع جابر بن عبد الله يَقُولُ: "رأيت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أكل لحما، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: هذا الطريق الثامن، ورجاله كلهم رجال مسلم وغيره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 307 رقم 14338). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": من ابن عقيل وابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل. (¬3) كذا في "الأصل، ك" وبعض نسخ "المسند"، وفي المطبوع من "المسند": لحمًا". (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 51 رقم 521).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن وهب بن كيْسان، عن جابر: "أن أبا بكر أكل خبزا ولحما فما زاد على أن مضمض فاه وغسل يديه ثم صلى". وأخرجه البيهقي (¬2): عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: نا همام، قال: نا قتادة، قال: قال لي سليمان بن هشام: وإن هذا لا يَدَعنا -يعني الزهري- أن نأكل شيئْا إلَّا أمَرنا أن نتوضأ منه، فقلت: سألت عنه سعيد بن المسيب، فقال: إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء. قال: ما أراكما إلَّا قد اختلفتما، فهل بالبلد من أحد؟ فقلت: نعم؛ أقدم رجل في جزيرة العرب. قال: مَنْ هو؟ قلت: عطاء. فأرسل، فجيء [به] (¬3) فقال: إن هذين قد اختلفا عليّ فما تقول؟ فقال: حدثنا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ... " ثم ذكر عن أبي بكر مثله. ش: هذا الطريق التاسع، وأبو عُمر الحوضي حفص بن عمر وقد تكرر ذكره، وهمام بن يحيى العوذي، وقتادة بن دعامة السَّدُوسي، وعطاء بن أبي رباح، وكلهم أئمة أجلاء ثقات. وسليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، وكان أميرا في عهد أبيه ولم يل الخلافة، قتله السفاح فيمن قَتَل من بني أمَيَّة، سنه ثلاث وثلاثين ومائة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا عفان وبهز، قالا: نا همام، قال بهز: نا قتادة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 534). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 157 رقم 705). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، و"مسند أحمد" كما سيأتي. (¬4) "مسند أحمد" (3/ 363 رقم 14962).

قال: قال لي سليمان ... إلى آخره نحوه، وفي آخره: "قال: قال لعطاء: ما تقول في العمرى؟ قال: حدثني جابر أن النبي - عليه السلام - قال: العمرى جائزة". قوله: "لا يدعنا" أي: لا يتركنا. قوله: "في جزيرة العرب" من جهة الغرب بحر القلزم من أطراف اليمن إلى أيلة، وأيلة من جزيرة العرب، ومن جهة الشرق إلى البصرة، ومن الجنوب بحر الهند إلى آخر اليمن من جهة الحجاز إلى حد الجهة الغربية، وفي الشمال بعض الشام إلى بَالِس على الفرات إلى الرحَبة وعَانة. ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: نا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، قال: حدثني جابر: "أنه رأى أبا بكر فعل ذلك". ش: هذا الطريق العاشر، عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون أبي بكر السكري الإسكندراني، وثقه ابن يونس، وروى عنه أبو داود والنسائي. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن يحيى بن ربيعة، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: أخبرني جابر بن عبد الله: "أن أبا بكر أكل كتف شاة -أو ذراع- ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقيل له: نأتيك بوَضوء؟ فقال: إني لم أحدث". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، عن حماد ومنصور وسليمان ومغيرة، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود وعلقمة خرجا من بيت عبد الله بن مسعود يُريدان الصلاة، فجيء بقصعة من بيت علقمة فيها ثريد ولحم فأكلا، فمضمض ابن مسعود وغسل أصابعه، ثم قام إلى الصلاة". ش: أبو الوليد: هشام بن عبد الملك، وحماد: هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، ومنصور: هو ابن المعتمر، وسليمان: هو الأعمش، ومغيرة: هو ابن مقسم الضبّي، ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 171 رقم 664).

وإبراهيم: هو ابن يزيد النخعي، وعلقمة: هو ابن قيس النخعي، وهؤلاء كلهم أئمة أجلاء أَثْبات. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة: "أُتِينا بجفنة ونحن مع ابن مسعود، فأمر بها فوضعت في الطريق، فأكل منها وأكلنا معه، وجعل يدعو مَنْ مَرَّ به، ثم مضينا إلى الصلاة، فما زاد على أن غسل أطراف أصابعه، ومضمض فاه، ثم صلّى". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن الحجاج، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إليّ من أتوضأ من اللقمة الطيبة". ش: رجاله ثقات، وحجاج الأول: هو ابن المنهال، والثاني: هو بن أرْطاة النخعي الكوفي، وحماد: هو ابن سلمة، والأعمش: هو سليمان، ووالد إبراهيم: هو يزيد بن شريك التيمي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا علي بن عبد العزيز، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه. "والخبيثة": الرديَّة، من خَبُثَ الشيء خباثة، وخَبُثَ الرجل خبثا فهو خبيث أي رديء، وأصل الخبيث خلاف الطيب. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب أن مالكا حدثه، عن محمَّد بن المنكدر وصفوان بن سليم، أنهما أخبراه عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 168 رقم 650). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 250 رقم 9234). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 248 رقم 9223).

التَيْمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير:"أنه تعشى مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم صلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح، وربيعة بن عبد الله: عم محمَّد بن المنكدر. وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه" (¬1): عن مالك ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن ضَمْرة بن سعيد المازني، عن أبان بن عثمان: "أن عثمان - رضي الله عنه - أكل خبزا ولحما، وغسل يديه ثم مسح بهما وجهه، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه" (¬2): عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): عن أبي علي الروذباري، عن أبي النضر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن يحيى بن بكير المصري، عن مالك ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أيوب بن سليمان بن بلال، قال: حدثني أبو بكر بن أبي أُوَيْس، عن سُليمان، عن عُتبة بن مسلم، عن عبيد بن حُنيْن، قال: "رأيت عثمان - رضي الله عنه - أُتي بثريد فأكل، ثم تمضمض، ثم غسَل يَديْه، ثم قام فصلى للناس (¬4) ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأيوب بن سليمان: شيخ البخاري، وأبو بكر اسمه: عبد الحميد بن عبد الله بن أَويس المدني، وسليمان هو: ابن بلال القرشي المدني، وعتبة بن مسلم: التيمي مولاهم المدني، وعبيد بن حنين: المدني مولى آل زيد بن الخطاب. وهؤلاء كلهم مدنيّون. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك": رواية محمد بن الحسن (1/ 38 رقم 31). (¬2) "موطأ مالك": رواية محمَّد بن الحسن (1/ 39 رقم 32). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 157 رقم 707). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": بالناس.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عَقْرب الكناني قال: "رأيت ابن عباس - رضي الله عنه - أكل خبزا رقيقا ولحما حتى سال الوّدك على أصابعه، فغسل يديه وصلى المغرب". ش: إسناده صحيح، وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسيّ، وأبو نوفل قيل: اسمه مسلم، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عقرب، وقيل: معاوية بن مسلم، والكناني: نسبة إلى كنانة بن خزيمة وهي عدة قبائل. قوله: "رقيقا" ضد الثخين، قال الجوهري: الخبز الرُّقاق -بالضم-: الخبز الرقيق، و"الوَدك" -بفتحتين-: دسم اللحم، يقال: دجاجة وديكة: أي سمينة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا عثمان بن عمر، قال: نا إسرائيل، عن طارق، عن سعيد بن جُبَير: "أن ابن عباس أُتي بجفنة من ثريدٍ ولحم عند العصر فأكل منها، فأُتي بماء فغسل أطراف أصابعه، ثم صلى ولم يتوضأ". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة، وإسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعي. قوله: "بجفنة" وهي كالقصعة، والجمع جفان وجفنات. "والثريد" خبز أو رقاق مُفتّت، مسقي بالودك، عليه لحم مقطع، وقيل: لا يكون الثريد حتى يكون فيه لحم، ولكن عطف اللحم هنا على الثريد يردّ هذا القول. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن جبير قال: "دخل قوم على ابن عباس فأطعمهم طعاما، ثم صلى بهم على طِنفسه، فوضعوا وجوههم وجباهم وما توضؤا". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله. قوله: "طِنْفَسة" -بكسر الطاء وفتحها وسكون النون وفتح الفاء-: وهي البساط الذي له خمل رقيق، وجمعه طنافس.

وقال ابن الأثير: الطنفسة بكسر الطاء والفاء وبضمهما، وبكسر الطاء وفتح الفاء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا المسعودي، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه قال: "قال ابن عمر لأبي هريرة: ما تقول في الوضوء مما غيرت النار؟ قال: توضأ منه، قال: ما تقول في الدهن والماء المسخن، نتوضأ منه؟ فقال: أنت رجل من قريش وأنا رجل من دوس، قال: يا أبا هريرة لعلك تلتجئ إلي هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬1). ش: إسناده صحيح، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وقد تكرر، والمسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وثقه أحمد ويحيى، واستشهد به البخاري، وروى له الأربعة. وسعيد بن أبي بردة، واسم أبي بردة: عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري. قوله: "قال: ما تقول" أي قال ابن عمر لأبي هريرة: ما تقول، وهذا القول منه إلزام لأبي هريرة، واعتراض عليه فيما ذهب إليه من إيجابه الوضوء مما غيرته النار. قوله: "أنت رجل من قريش" أراد به أبو هريرة: أنك رجل شريف لأنك قرشي وأنا رجل وضيع لأني دوسيّ، فكيف أقاومك في الجواب والمعارضة؟! ثم إن ابن عمر - رضي الله عنه - فهم من كلامه أنه ينسبه بهذا الكلام إلى اللجاجة والخصام، وقال له: لعلك تلتجئ إلى هذه الآية {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (1). ص: حدثنا روْح بن الفرج، قال: نا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حُصَين، عن مجاهد، قال ابن عمر: "لا نتوضأ من شيء تأكله". ش: إسناده صحيح، ويوسف بن عدي: شيخ البخاري. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، آية: [58].

وأبو الأحوص سلّام بن سُليم الكوفي، روى له الجماعة. وحُصين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُلمي الكوفي، روى له الجماعة. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: نا حماد، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: "أنه كل خبزا ولحما فصلى ولم يتوضأ، وقال: الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل". ش: حمّاد: هو ابن سلمة. وأبو غالب: البصري صاحب أبي أمامة، اختلف في اسمه فقيل: اسمه حَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحَزَوَّر، وقيل: نافع، ضعفه النسائي، ووثقه الدارقطني. وأبو أمامة صُدَيْ بن عَجْلان الباهلي الصحابي. قوله: "الوضوء مما يخرج" أي: يجب من أجل خروجه من السبيلن، أو من غيرهما إذا كان نجسا نحو: الدم والقيح، وليس مما يدخل أي: من أجل ما يدخل في باطن [ابن] (¬1) آدم من الأكل والشرب، وهذا كله خلاف حكم الصوم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهؤلاء الِجلَّة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - لا يَروْن في أكل ما غيرت النار وضوءا. ش: أشار بهؤلاء إلى الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة الباهلي، الذين روي عنهم أنهم لا يرون الوضوء مما مست النار. "والِجلّة" -بكسر الجميع وتشديد اللام-: جمع جَليل، كَصِبْية جمعُ صبي، والجليل بمعنى العظيم، وأراد هؤلاء الأكابر والأعاظم من الصحابة - رضي الله عنهم -. ص: وقد روي عن آخرين منهم مثل ذلك ممن قد رُوي عنه عن رسول الله - عليه السلام - أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ش: أي وقد رُوي عن جماعة آخرين من الصحابة مثل ما رُوي عن هؤلاء الِجلَّة من الذين قد رُوي عنهم عن رسول الله - عليه السلام - أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار، وأراد بهذا: تأكيد ما قاله فيما مضى من انتساخ الأمر بالوضوء مما غيرت النار؛ لأن رواية من رَوى ترك الوضوء منه بعد روايته أنه أمر بالوضوء منه أول دليل على نسخ الحكم الأول؛ لأن الصحابة محفوظون من أن يرووا شيئًا عن النبي - عليه السلام - ثم يقولون أو يفعلون بخلافه إلَّا بعد ثبوت النسخ عندهم. ص: فمن ذلك: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا بشْر بن بكر، قال: نا الأوزاعي، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، قال: حدثني أنس بن مالك، قال: "بينا أنا وأبو طلحة الأنصاري وأبي بن كعب أُتينا بطعام سخن فأكلنا، ثم قمت فتوضأت، فقال أحدهما لصاحبه: أَعِرَاقيةٌ؟! ثم انتهراني، فعلمتُ أنهما أفقه مني". ش: أي فمن هذا الذي ذكرنا من قولنا: "وقد روي عن آخرين منهم .... " إلى آخره. قوله: "ما حدثنا" مبتدأ، و"من ذلك" مقدما خبره و"ما" موصولة، و"حدثنا" صلتها. وإسناده حسن ورجاله ثقات، والأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا أبو أحمد عبد الله بن محمَّد، أنا أبو بكر محمَّد بن جعفر المزكي، نا محمَّد بن إبراهيم العبدي، نا بُكير، نا مالك، عن موسى بن عقبة، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري: "أن أنس بن مالك قَدِمَ من العراق، فدخل عليه أبو طلحة وأبي بن كعب، فقَرب إليهما طعاما قد مسّته النار، فأكلوا منه، فقام أنس فتوضأ، فقال له أبو طلحة وأبي بن كعب: ما هذا يا أنس، أعِراقية؟! فقال أنسٌ: ليتني لم أفعل. وقام أبو طلحة وأبي بن كعب فَصَلَّيَا ولم يتوضئا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 158 رقم 711).

قوله: "بينا" أصله: "بين" أشبعت فتحتها بالألف، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، وكذلك "بينما" ويضافان إلى جملة، ويحتاجان إلى جواب، والأفصح في جوابهما ألَّا يكون فيه "إذ" ولا "إذا". وقوله: "أنا" مبتدأ، وخبره محذوف و"أبو طلحة وأبي بن كعب" عطفا عليه، والتقدير: بينا أنا قاعد أو جالس، وأبو طلحة وأبي قاعدان. قوله: "أُتِينا" على صيغة المجهول، جواب "بينا" وقد وقع على شرط الفصاحة. قوله: "أعراقية" الهمزة للاستفهام على وجه الإنكار، والمعنى، هل هذه الفعلة التي فعلها أنس عراقية؟ يعني منسوبة إلى العراق، فكأنهما استغربا ذلك عن أنس ونسباه إلى العراق، فكأنه تعلّم هذا في العراق ثم أتى به إلينا. قوله: "ثم انتهراني" أي زجراني ومنعاني عن ذلك، يقال: نهرته، وأنتهرته، بمعنى. قوله: "فعلمت أنهما" أي أن أبا طلحة وأبي بن كعب "أفقه" أي أعلم بهذه المسألة مني، فهذا يدل على أن ما فعله أنس من قبل من الوضوء مما مسته النار لعدم وقوفه على النسخ، فلما علمه منهما؛ رجع عما كان يفعله، ولهذا قال في رواية البيهقي: "ليتني لم أفعل" وكذلك أبو طلحة هو الذي روى الوضوء مما مسته النار، ثم تركه؛ لما علم بانتساخه. ص: حدثنا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن موسى بن عقبة، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري: "أن أنس بن مالك قدم من العراق ... ، ثم ذكر مثله، وزاد: "فقام أبو طلحة وأبي فصليا ولم يتوضئا". ش: هذا طريق آخر وهو صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 27 رقم 56).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني إسماعيل بن رافع ومحمدُ بن النيل، عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، عن أنس بن مالك قال: "أكلت أنا وأبو طلحة وأبو أيوب الأنصاري طعاما قد مسته النار، فقمتُ لأن أتوضأ، فقالا لي: تتوضأ من الطيبات؟! لقد جئت بها عراقية". فهذا أبو طلحة وأبو أيوب قد صليا بعد أكلهما ما غيرت النار ولم يتوضئأ، وقد رويا عن رسول الله - عليه السلام - أنه أمر بالوضوء من ذلك فيما قد روينا عنهما في هذا الباب، فهذا لا يكون عندنا إلَّا وقد ثبت نسخ ما قد روَياه عن النبي - عليه السلام - من ذلك عندهما، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: هذا وجه آخر في الحديث المذكور، يَرْويه عن إبراهيم بن أبي في أوفى، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي، وهو ثقة، روى له الجماعة. وإسماعيل بن رافع بن عُوَيْمر المدني، قال يحيى: ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث. ومحمد بن النَيْل الفهري المصري، ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وقال الدارقطني: شيخ من أهل مصر، والنيل: بفتح النون وسكون الياء آخر الحروف كذا ضبطه الدارقطني، وقال الصاغاني في "العباب": وأبو النيل الشامي، ومحمد بن نيل الفهري من أصحاب الحديث يُقَالان بفتح النون وكسرها، ذكره في مادة النون والياء -آخر الحروف- واللام، ومَنْ ضَبطَه بالنون والباء الموحدة فقد صحّف. ويحيى بن أيوب الغافقي يَرْوي عن إسماعيل بن رافع ومحمد بن النيل هذا، وكلاهما يَرْويان عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري، قال أبو حاتم: ما بحديثه بأس.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن محمَّد بن راشد، قال: أخبرني عثمان بن عمرو التيمي، عن عقبة بن زيد، عن أنس بن مالك قال: "قدمت المدينة فتعشيتُ مع أبي طلحة قبل المغرب، وعنده نفر من أصحاب النبي - عليه السلام - منهم أبي بن كعب، فحضرت المغرب، فقمت أتوضأ، فقالوا: ما هذه العراقية التي أحدثتها؛ من الطيبات تتوضأ؟! فصلوا المغرب جميعًا ولم يتوضؤا". قوله: "أنتوضأ" الهمزة فيه للاستفهام "من الطيبات" أي: من المواكيل الطيّبات. قوله: "لقد جئت بها" أي بهذه الفَعْلة يعني الوضوء مما مسته النار. قوله: "عراقية" بالنصب على الحال، من الضمير الذي في "بها". قوله: "وقد رويا" جملة وقعت حالا، أي والحال أنهما -أي أبا طلحة وأبا أيوب- قد رَوَيَا عن رسول الله - عليه السلام - أنه أَمَر بالوضوء مما مَسّته النار، أما حديث أبي طلحة فهو ما رواه في أول الباب: "أنه - عليه السلام - أكل ثوْرَ أقطٍ فتوضأ منه" (¬2). وأما حديث أبي أيوب فهو ما رواه النسائي في "سننه" (¬3): وقال: أخبرنا عَمرو بن علي ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو، قال حدثني محمَّد القاري، عن أبي أيوب قال: قال النبي - عليه السلام -: "توضئوا مما غيرت النار". والطحاوي لم يَرو حديث أبي أيوب في هذا الكتاب، وإنما رواه في غيره، ولكن في هذا الباب -يعني باب حكم ما مّسته النار- فلذلك قال: فيما قد روينا عنهما في هذا الباب. قوله: "فهذا لا يكون عندنا ... " إلى آخره إشارة إلى بيان وجه النسخ، وذلك لأن الصحابي إذا روى شيئًا ثم عمل أو أفتى بخلافه يدلّ ذلك على أنه قد ثبت النسخ عنده فيما رواه لأنا لا نظن بالصحابة إلَّا كل خير. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 170 رقم 659). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "المجتبى" (1/ 106 رقم 176).

ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا هذه الأشياء التي قد اختلف في أكلها أنه ينقض الوضوء أم لا إذا مستها النار، فقد أجمع كلٌ أن أكلها قبل مُمَاسَّةِ النار إياها لا يَنقُض الوضوءَ، فأردنا أن نَنظُرَ، هل للنار حكمٌ يجب في الأشياء إذا ماستها فَيُنُقَل به حكمُها إليها؟ فرأينا الماء القَراح تُؤدَّى به الفروض، ثم رأيناه إذا سُخِّنَ فصار مما قد مَسّته النار أن حكمه في طهارته على ما كان عليه قبل مماسة النار إياه، وأنَّ النار لَمْ تُحْدِثُ فيه حكمًا يَنتقلُ به حكمُه إلى غير ما كان عليه في البدْء، فلما كان ما وصَفْنا كذلك كان في النظر أن الطعام الطاهرَ الذي لا يكون أكله قبل أن تمسه النار حدثا؛ إذا مسَّته النارُ لا تَنقله عن حاله فلا يُغيَّر حكمَه، ويكون حكمه بعد مَسِيس النار إياه كحكمه قبل ذلك، قياسا ونظرا على ما بَيّنا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله. ش: بَنَى هذا القياس على مقدمتين مُسلمتين: الأولى: أن كل الطعام قبل مماسة النار إياه لا ينقض الوضوء بلا خلاف. والثانية: أن الماء القراح الطاهر إذا سخن بالنار لا تُحدث فيه النار شيئا، ولا تُغير حكمه عما كان عليه، فالنظر عليه كون الطعام كذلك بعد مماسة النار إياه، أنها لم تُحدث فيه شيئًا ولم تغير حكمه عما كان عليه. فإن قلت: كيف تقول إن النار لم تحدث فيه شيئًا، فإنه قبل مماسة النار إياه يُسمّى: نيّا، وبعدها يسمى نضيجا، أليس هذا إحداث؟ قلت: هذا الإحداث لا يضرنا شيئا؛ لأن المراد إحداث أمر شرعيّ متعلق به الحكم، وهذا ليس بأمر شرعي؛ لأن الطعام يباح كله قبل مسّ النار وبعده، وإنما يمنع أكل بعض الطعام قبل مسّ النار من جهة الطب لا من جهة الشرع، والنار لا تحل شيئًا ولا تحرّمه، وإنما تأتي بلذة المطعوم وتزيده طيبا، ألا ترى إلى قول ابن عباس - رضي الله عنه -: "إنما النار بركة الله، وما تُحِلّ من شيء ولا تحرّمه، ولا وضوء مما مسّته النارُ، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان".

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، عن عطاء عنه. وأخرجه عنه أيضًا (¬2): أنه قال: "ما زاده النار إلَّا طيبا، ولو لم تمسّه النار لم تأكله". قوله: "الماء القراح" بفتح القاف، وهو الماء الخالص الذي لا يَشُوبه شيء، ومنه سُمّيت المزرعة التي ليس عليها بناء ولا شجر قراحا، والجمع أقرحة. قوله: "في البدءْ" أي في الابتداء. ص: وقد فرق قومٌ بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، فأوجبوا في أكل لحوم الإبل الوضوءَ ولم يوجبوا ذلك في لحوم الغنم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، ويحي بن يحيى وآخرين. وفي "المغني": أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيّا ومطبوخا و (مشويّا) (¬3) عالمًا كان أو جاهلا، وبهذا قال جابر بن سمرة، ومحمد بن إسحاق، وإسحاق بن راهوية، وأبو خيْثمة، ويحيى بن يحيى، وابن المنذر. وقال الخطابيّ: ذهب إلى هذا عامّة أصحاب الحديث. وقال ابن حزم فى "المحلى" (¬4): وكل لحوم الإبل عمدًا -يعني ينقض الوضوء- نيَّة ومطبوخة ومشويّة، وهو يدري أنه جمل أو ناقة. ولا يُنتَقض الوضوء بأكل شحومها محضة، ولا أكل شيء منها غير لحمها، فإن كان يقع على بطونها ورءوسها وأرجلها اسم لحم عند العرب؛ نقض أكلها الوضوء وإلَّا فلا، ولا ينقض الوضوءَ كل شيء مَسته النارُ غير ذلك، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة، ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 168 رقم 653). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 169 رقم 656). (¬3) ليست في "المغني" (1/ 121). (¬4) "المحلى" (1/ 241) بتصرف.

ومن الفقهاء: أبو خيْثمة زهير بن حرب، ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: نا مُؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان، قال: نا سماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة قال: "سئل رسول الله - عليه السلام -: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا". ش: أي احتج هؤلاء القوم في وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وعدمه من أكل لحم الغنم. بحديث جابر بن سمرة هذا، ورجاله ثقات، والحديث صحيح، وقال ابن مّندة: حديث جابر بن سمرة صحيح، وكذا قال البيهقي. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: نا أبو كامل الجحدري، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة: "أن رجلًا سأل رسول الله - عليه السلام - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم؛ فتوضَأْ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا". وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا محمَّد بن بشار، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا زائدة وإسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم". ص: حدثنا علي بن مَعبد، قال: نا معاوية أبي عَمرو، قال: نا زائدة، عن سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جده جابر، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 275 رقم 360). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 166 رقم 495).

قوله: "عن جدّه" قيل: من قبل أمّه، وقيل: من قبل أبيه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا يوسف القاضي، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور بن جابر بن سمرة، عن جده جابر بن سمرة: "أن رجلًا قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم (من لحوم) (¬2) الغنم؟ قال: إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبَات الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبَات الإبل؟ قال: لا". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا الحجاج، نا حماد، عن سماك بن حرب، عن جعفر، عن جده جابر بن سمرة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل. قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا بهز، نا حماد، عن سماك .... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موْهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وأبو عوانة الوضاح اليشكري. وأخرجه مسلم (¬4) من هذا الطريق كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 210 رقم 1860). (¬2) تكررت في "الأصل، ك". (¬3) "مسند أحمد" (5/ 92 رقم 20899). (¬4) تقدم تخريجه.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) أيضًا: نا معاذ بن المثنى، نا مسدد. ح ونا طالب بن قرة الأذني، نا محمَّد بن عيسى بن الطباع. ح ونا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، قالوا: نا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر قال: "كنت جالسا عند رسول الله - عليه السلام - فَسُئِل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: نعم، فتوضئوا من لحوم الإبل. فقالوا: نصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. [قالوا] (¬2): أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ. [قالوا]: نصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم". واحتج هؤلاء القوم بحديث جابر بن سمرة فيما ذهبوا إليه. وقال ابن قدامة في "المغني": ولنا في هذا الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء. وقد قال أحمد: فيه حديثان صحيحان عن النبي - عليه السلام - حديث البراء وحديث جابر بن سمرة. وكذلك قال إسحاق. وحديثهم لا أصل له إنما هو قول ابن عباس. قلت: أراد به ما استدل به الحنفية والشافعية والمالكية من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "الوضوء مما يخرج لا مما يدخل". ثم قال: فإن قيل: الوضوء ها هنا غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضي غسل اليد كما كان - عليه السلام - يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده. وخص ذلك بلحوم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في لحوم الغنم؛ قلنا: هذا فاسد؛ فإنه نوع تأويل يخالف الظاهر من وجوه أربعة: أحدها: أنهم حملوا الأمر على الاستحباب، ومقتضاه الوجوب. والثاني: أنهم حملوا الوضوء على غير موضوعه في الشرع، ولفظ الشارع عند الإطلاق إنما يحمل على الموضوعات الشرعية. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 212 رقم 1866). (¬2) في "الأصل، ك": قال، والمثبت من "معجم الطبراني الكبير" وهو الموافق للسياق.

الثالث: أنهم جمعوا بين ما نهى النبي - عليه السلام - عنه وبين ما أمر به، فإن النبي - عليه السلام - أمر بالوضوء من لحوم الإبل، ونهى عن الوضوء من لحوم الغنم، ومتى حُمل الأمر على استحباب غسل اليد فهي مستحبة فيهما جميعًا بدليل الحديث الذي رووه. الرابع: أن السائل سأل عن الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها، والوضوء المقرون بالصلاة لا يفهم منه غير المشروع لها، ومخالفة هذه الظواهر كلها لا يجوز بمثل هذا التأويل الضعيف الذي ليس له أصل، وَمِنَ العجب أن مخالفينا أوجبوا الوضوء فيما يخالف القياس بأحاديث ضعيفة، فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة، والخارج من غير السبيل، وبعضهم أوجبه من لمس الذكر بحديث مختلف فيه لا يقارب هذه الأحاديث في الصحة، والتأويل فيه أسهل من التأويل ها هنا، وقد عارضه حديث قيس بن طلق، وقد قال أحمد: ما أعلم به بأسا. وقال: الوضوء من أكل لحم الجزور أقوى من الوضوء من مس الفرج؛ لصحة الحديث فيه، ثم عدلوا عن هذا الحديث مع صحته وظهور دلالته لمخالفته القياس الطردي. انتهى (¬1). والجواب عن الحديث: أنه منسوخ بحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "كان آخر الأمرين من رسول الله - عليه السلام - ترك الوضوء مما مسته النار". ويتناول ذلك لحوم الإبل وغيرها، والجواب عن قوله: "وحديثهم لا أصل له إنما هو من قول ابن عباس": غير صحيح؛ لأن الحديث له أصل. وقد أخرجه الطبراني (¬2) بإسناده عن أبي أمامة قال: "دخل رسول الله - عليه السلام - على صفية بنت عبد المطلب فَغَرفَت له -أو فقربت له- عرْقا فوضعته بين يديه ثم غرفت -أو قربت- آخر فوضعته بين يديه فأكل ثم أتى المؤذن فقال: الوضوء الوضوء. فقال: إنما الوضوء علينا (مما) (¬3) خرج وليس علينا (مما) (3) دخل" ولئن ¬

_ (¬1) "المغني" لابن قدامة (1/ 122) بتصرف واختصار. (¬2) "المعجم الكبير" للطبراني (8/ 210 رقم 7848). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "معجم الطبراني": "فيما".

سلمنا ذلك، أو قلنا بضعف حديث الطبراني؛ لكون عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد في إسناده وهما ضعيفان، حتى قيل: لا يحل الاحتجاج بهما، فنقول: قول ابن عباس صحيح، قد روي عنه من وجوه كثيرة: منها ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل" وهذا إسناد صحيح. ومنها ما رواه أيضًا (¬2): نا هشيم، عن حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل ولا مما أوطي" وهذا أيضًا إسناد صحيح. ومنها ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول: "ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج" وهذا أيضًا إسناد صحيح. وقد روي هذا عن غير ابن عباس؛ فروى عبد الرزاق (¬4)، عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود قال: "إنما الوضوء مما خرج، والصوم مما دخل وليس مما خرج". عبد الرزاق (¬5): عن معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب قال: "إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل؛ لأنه يدخل وهو طيب، لا عليك منه، ويخرج وهو خبيث عليك منه الوضوء والطهور". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 35). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 38). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 168 رقم 653). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 170 رقم 658). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 171 رقم 663).

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا هشيم، عن حصين، عن عكرمة قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل". وقد عرف في علم الأصول أن قول الصحابي المجتهد حجة لاحتمال السماع وزيادة الإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي - عليه السلام - فابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - لا شك في اجتهادهما وكثرة علمهما واتساع فقههما، والخلاف في قول التابعي؛ لأنهم رجال ونحن أيضًا رجال، ومع هذا لا يتم الإجماع بخلاف التابعي عندنا؛ خلافا للشافعي. وأما قوله: "قلنا هذا فاسدة؛ فإنه نوع تأويل ... إلى آخره" ففاسد لأن هذا التأويل لا يخالف الظاهر؛ لأن الظاهر (أن) (¬2) الوضوء له سبب وهو إرادة الصلاة مع الحدث، ولم يوجد هذا السبب عند أكل لحم الإبل حتى نقول: إن الأمر بالوضوء منه هو الوضوء الشرعي، وإنما معنى الأمر فيه منصرف إلى غسل اليد لوجود سببه وهو الزهومة والغَمر، فمعنى الوضوء يتأول على الوضوء الذي هو النظافة ونقاء الزهومة، كما روي: "توضؤوا من اللبن فإن له دَسَما" (¬3). قلت: "فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة" غمز على الحنفية، وكذلك قوله: "والخارج من غير السبيل". قلت: "وبعضهم أوجبه من لمس الذكر" غمز على الشافعية، والجواب عن هذا: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 539). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) رواه ابن ماجه (1/ 167 رقم 500)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 59 - 60 رقم 628)، والروياني في "مسنده" (2/ 224 رقم 1086)، والطبراني في "الكبير" (6/ 125 رقم 5721)، كلهم من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -، ولكن بلفظ: "مضمضوا من اللبن فإن له دسمًا". ورواه ابن ماجه في "سننه" (1/ 167 رقم 498) من حديث ابن عباس مثله، وأصله في "الصحيحين" حكايته فعل: "أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنًا ثم دعا بماء فتمضمض، وقال: إن له دسمًا"، البخاري (1/ 87 رقم 208)، ومسلم (1/ 274 رقم 358)، وروي عن أم سلمة مرفوعًا مثله. أما لفظ الوضوء فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 60 رقم 637) عن أبي سعيد قال: "لا وضوء إلا من اللبن؛ لأنه يخرج من بين فرث ودم". وأخرجه أيضًا (1/ 60 رقم 638) من حديث أبي هريرة قال: "لا وضوء إلا من اللبن".

أن حديث القهقهة أخرجه الدارقطني (¬1): عن أبي العالية الرياحي: "أن أعمى تردّى في بئر، والنبي - عليه السلام - يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي - عليه السلام - فأمر النبي - عليه السلام - من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة جميعًا". فإن قيل: هذا الحديث مرسل أرسله أبو العالية الرياحي، وقد قيل: إنه كان لا يبالي من أين كان يأخذ الحديث. وقال ابن عدي: إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث، وإلَّا فسائر أحاديثه صالحة. قيل له: روى البيهقي (¬2): عن ابن شهاب: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة" قال الشافعي: لم نقبله لأنه مرسل. فلم يذكر فيه علة سوى الإرسال، فدل على صحة إرساله، وأما أبو العالية فهو عدل ثقة، وقد اتفق على إرسال هذا الحديث معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بَشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه ابن أبي الزيال وهؤلاء جميعهم ثقات، فإن صح عن أبي العالية أنه كان لا يبالي من أين أخذ الحديث، قلنا: لكنه إذا أرسل الحديث لا يُرسله إلَّا عمن يقبل روايته؛ لأن المقصود من رواية الحديث ليس إلَّا التبليغ عن رسول الله - عليه السلام - وخاصة إذا تضمن حكمًا شرعيّا، فإذا أرسل الحديث ولم يذكر من أرسله عنه مع علمه أو ظنه بعدم عدالته كان غاشّا، للمسلمين وتاركا لِنصيحتهم، فتسقط عدالته، ويدخل في قوله: - عليه السلام -: "مَن غش فليس منا" (¬3) وقد ثبتت عدالته ورواه الثقات عنه مرسلا؛ فدل على أنه أرسله عن عدل، ولأن المُرسِلُ شاهد على الرسول - عليه السلام - بإضافة الخبر إليه، فلو لم يكن ثابتا عنه بطريق تقارب العلم لما أرسله، ولكان أَسْنَدَهُ لتكون العهدة على غيره، وهذه عادة غير مدفوعة؛ أن من قوي ظنه بوجود شيء أعرض عن إسناده، فهذه مسألة تفرد بها أصحابنا اتباعا لهذا الحديث، وتركوا القياس من أجله، وهذه شهادة ظاهرة لهم أنهم يقدمون الحديث على القياس، وهم أتبع للحديث من سائر ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 163 رقم 5). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 146 رقم 663). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 99 رقم 102) من حديث أبي هريرة.

الناس (¬1)، وروى محمَّد في "آثاره" (¬2) وقال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا منصور ابن زاذان، عن الحسن البصريّ، عن معبد، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "بينما هو في الصلاة؛ إذْ أقبل رجل أعمى من قِبل القبلة يريد الصلاة، والقوم في صلاة الفجر فوقع في (زُبْيَة) (¬3) فاستضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان قهقه منكم فليعد الوضوء والصلام". محمَّد قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: "في الرجل يُقهقه في الصلاة قال: يعيد الوضوء والصلاة ويستغفر ربه؛ فإنه أشد الحدث" (¬4). قال محمَّد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة. وذكر هذا الحديث الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الأمالي" مسندا إلى معبد الحمْصي عن النبي - عليه السلام - في باب الميم. فإن قيل: قد قال الدارقطني: روى هذا الحديث أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد الجهني مرسلًا عن النبي - عليه السلام - وهم فيه أبو حنيفة على منصور، وإنما رواه منصور بن زاذان عن محمَّد بن سيرين عن معبد، ومعبد هذا لا صحبة له، ويقال: إنه أول من تكلم في القدر من التابعين، حدث به عن منصور، عن ابن سيرين، غيلان بن جامع وهشيم بن بشير، وهما أحفظ من أبي حنيفة للإسناد. قلت: هذا تحامل من الدارقطني على أبي حنيفة، وليس هو من أهل هذا الكلام في مثل أبي حنيفة الذي هو معظم أركان الدين، وأعظم أئمة المسلمين، وذكر ابن الأثير ¬

_ (¬1) هذا الكلام فيه نظر، والإجابة عنه مبسوطة في كتب مصطلح الحديث وكتب الأصول عند الكلام على المرسل والاحتجاج به، فليراجع هناك. (¬2) انظر كتاب "الآثار" لأبي يوسف (1/ 28 رقم 135). (¬3) الزبية: هي الحفرة التي لا يعلوها الماء، وتحتفر ليقع فيها الصيد من الذئاب والأسود وغيرها، وتحتفر للشواء أيضًا، انظر "لسان العرب" (مادة: زبي). (¬4) أخرجه أبو يوسف في "الآثار" (1/ 32 رقم 161) عن أبي حنيفة بنحوه.

معبدا في الصحابة وقال: مَعبد بن (صبح) (¬1) بصري روى عنه الحسن البصري، أخبرنا أبو موسى كتابَة، أنا أبو علي، أنا أبو نعيم، ثنا الحسن بن علان، نا عبد الله ابن [أبي] (¬2) داود، ثنا إسحاق بن إبراهيم، نا سعد بن الصلت، نا أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد: "أن النبي - عليه السلام - بينما هو في (الصلاة) (¬3) إذ أقبل أعمى فوقع في زُبْيَة، فضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما سلَّم النبي - عليه السلام - قال: من كان منكم قهقه فَلْيُعِدْ الوضوء والصلاة". وقال مكي: عن أبي حنيفة، عن معبد بن أبي معبد. أخرجه أبو عمر وأبو موسى، وقد أخرجه ابن منده وأبو نعيم فقالا: معبد بن أبي معبد الخزاعي، ورويا له هذا الحديث، (وأتى) (¬4) النبي - عليه السلام - وهو صغير لما هاجر، ورويا له أيضًا حديث جابر أنه قال: "لما هاجر رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر - رضي الله عنها - مرَّ بخباء أم معبد، فبعث النبي - عليه السلام - معبدا وكان صغيرا فقال: ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام، هات فَرقا. فأرسلت أن لا لبن فيها، فقال النبي - عليه السلام -: هات، فمسح ظهرها فَاجْرَت ودَرَّت، ثم حلب فشرب، وسقى أبا بكر وعامرا ومعبد بن أبي معبد، ثم رد الشاة". وقال أبو نعيم عقيب حديث الضحك في الصلاة: رواه أسد بن عمرو عن أبي حنيفة فقال معبد بن (صبح) (¬5). أخرجه الثلاثة وأبو موسى (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وهو صواب، ويقال له: ابن صبيح أيضًا. وفي المطبوع من "أسُد الغابة" (5/ 219): مَعْبد بن صبيح. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة" لأبي نعيم (5/ 2529). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة": صلاته. (¬4) كذا في "الأصل، ك "، وفي "أسد الغابة": رأى. (¬5) كذا في "الأصل، ك"، وفي "أسد الغابة"، و"معرفة الصحابة": صبيح. (¬6) كذا في "أسد الغابة"، ورمز له في أول الترجمة بـ (ب د ع س). أي أبو عمر بن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو موسى المديني، وكلهم أخرجه في كتابه في الصحابة.

فإن قيل: روى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "لا وضوء إلَّا من صوت أو ريح" (¬1) فدلّ أنه لا وضوء في القهقهة. قلت: ظاهر هذا الحديث متروك بالإجماع؛ لأنه في البول والغائط يجب الوضوء وإن لم يوجد الصوت أو الريح، وكذا في الدم والقيح إذا خرجا من المخرج المعتاد، ولا سيما على مذهب الشافعي فإن عنده يجب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة فلا صوت ثمة ولا ريح، فلما لم يدل هذا الحديث على نفي الوضوء في هذه الصور، فكذا لا يدل على نفيه في القهقهة أيضًا. قوله: "في زُبْية" بضم الزاي المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف: حفرة محفورة، وفي الأصل حفرة يحفرونها للأسد. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب الوضوء للصلاة بكل شيء من ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين، جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة والشافعي ومالكا وأصحابهم، وهو أيضًا مذهب الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبي الدرداء وأبي طلحة وعامر بن ربيعة وأبي أمامة - رضي الله عنهم - وجماهير التابعين، وقد ذكرناه مستقصى. قوله: "بأكل شيء من ذلك" أي من لحوم الإبل وغيرها. فإن قيل: ما حكم البقر في ذلك؛ لأنه لم يذكر في الحديث؟. قلت: روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "ليس في (لحوم) (¬3) الإبل والبقر والغنم وضوء". ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في "جامعه" (1/ 109 رقم 74) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1/ 172 رقم 515)، وأحمد في "مسنده" (2/ 471 رقم 10095) وغيرهم. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 51 رقم 520). (¬3) في "مصنف ابن أبي شيبة": لحم.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون الوضوء الذي أراده النبي - عليه السلام - هو غسل اليد، وفرق بين لحوم الإبل ولحوم الغنم في ذلك لما في لحوم الإبل من الغلظ ومن غلبة ودكها على يد آكلها، فلم يرخص في تركه على اليد وأباح ألَّا يتوضأ من لحوم الغنم لعدم ذلك منها، وقد روي في الباب الأول في حديث جابر - رضي الله عنه -: "إن آخر الأمرين من رسول الله - عليه السلام - ترك الوضوء مما غيرت النار" فإذا كان ما تقدم منه هو الوضوء مما مست النار ومن ذلك لحوم الإبل وغيرها، كان في تركه ذلك ترك الوضوء من لحوم الإبل وغيرها، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي وكان من الحجة والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه من عدم وجوب الوضوء مطلقا من أكل اللحوم، وقد حققنا الكلام فيه عن قريب. قوله: "وأباح" أي النبي - عليه السلام -. قوله: "في الباب الأول" أراد به الفصل الأول. وأراد بـ"جابر" جابر بن عبد الله لا جابر بن سمرة. ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنَّا قدر رأينا الإبل والغنم سواء في حلّ بيعهما وشرب لبنهما وطهارة لحمهما، وأنه لا تفترق أحكامهما في شيء من ذلك؛ فالنظر على ذلك أنهما في كل لحومهما سواء، فكما كان لا وضوء في كل لحوم الغنم فكذلك الوجوب في كل لحوم الإبل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: ملخصه: أن الإبل كالغنم في حِلِّ البيع، وشرب اللبن، وطهارة اللحم، والسؤر، وصفة النجاسة في البول والروث، وجواز التضحية، وحِلِّ ذبحهما للمحرم، ووجوب الزكاة فيهما، فأكل لحم الغنم لا يوجب الوضوء، فالنظر كذلك، أي لا يوجب أكل لحم الإبل قياسا عليه.

ص: باب: مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أم لا؟

ص: باب: مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان مس الفرج هل يوجب الوضوء أم لا؟ وهل ينقضه أم لا؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا الحسين بن مهدي، قال: نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري (عن) (¬1) عروة: "أنه تذاكر هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يأمر بالوضوء من مس الفرج، وكان عروة لم يرفع بحديثها رأسا، فأرسل مروان إليها شرطيّا فرجع فأخبرهم أنها قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يأمرنا بالوضوء من مس الفرج". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي، والحسين بن مهدي شيخ الترمذي وابن ماجه، وبقية الرواة روى لهم الجماعة. وأما مروان فهو ابن الحكم بن العاص بن أمية القرشي الأموي، أبو عبد الله المدني، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع، ولم يصح له سماع من النبي - عليه السلام - روى له الجماعة سوى مسلم. وأما بُسرة: فهي -بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة- بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية، بنت أخي ورقة بن نوفل، وأخت عقبة بن أبي مُعَيْط لأمه، وهي خالة مروان بن الحكم، وجدّه عبد الملك بن مروان، روى لها الجماعة. والحديث أخرجه الأربعة، فأبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه سمع عروة يقول: "دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 46 رقم 181).

يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر. فقال عروة: ما علمت ذاك. فقال مروان: أخبرتني بُسْرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من مس ذكره فليتوضأ". والترمذي (¬1): عن إسحاق بن منصور، أنا يحيى بن سعيد القطان، عن هشام ابن عروة، قال: أخبرني أبي، عن بسرة بنت صفوان، أن النبي - عليه السلام - قال: "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ". والنسائي (¬2): عن هارون بن عبد الله، حدثنا معن، أنبأنا مالك (ح). والحارث بن مسكين -قراءة عليه وأنا أسمع-[عن ابن القاسم] (¬3) عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: "دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: مِن مس الذكر الوضوء. فقال عروة: ما علمت ذلك، فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ". وابن ماجه (¬4): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن بسُرة بنت صفوان، قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬5): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬6): عن أبي زكرياء يحيى بن إبراهيم، عن أبي العباس ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 126 رقم 182)، وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬2) "المجتبى" (1/ 100 رقم 163). (¬3) ليس في "الأصل" ولعله انتقال نظر من المؤلف:، والمثبت من "سنن النسائي". (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 161 رقم 479). (¬5) "معجم الطبراني الكبير" (24/ 193 رقم 485). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 128 رقم 610).

محمَّد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، عن مالك ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. وقال عبد الله بن أحمد (¬1): وجدت في كتاب أبي بخط يده: نا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: "ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده، فأنكرت ذلك [عليه] (¬2) وقلت: لا وضوء على من مَسَّهُ. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يذكر ما يُتوَضَّا منه، قالت: فقال رسول الله - عليه السلام -: ويتوضأ من مس الذكر. قال عروة: فلم أزل أماري مروان حتى دعا رجلًا من حرسه، فأرسله إلى بسرة فسألها عما حدثت من ذلك، فأرسلت إليه بسرة مثل الذي حدثني عنها مروان". ولما أخرج الترمذي هذا الحديث قال: وفي الباب عن أم حبيبة وأبي أيوب وأبي هريرة وأروى ابنة أنيس وعائشة وجابر وزيد بن خالد وعبد الله بن عمرو. قلت: وفي الباب عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وطلق بن علي - رضي الله عنهم -. فحديث أم حبيبة عند ابن "ماجه" (¬3): نا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي، نا مروان بن محمَّد، نا الهيثم بن حميد، نا العلاء بن حارث، عن مكحول، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". وأخرجه الطبراني (¬4): عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن يوسف، عن الهيثم ابن حميد ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 407 رقم 27337). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 162 رقم 481). (¬4) "المعجم الكبير" (23/ 234 رقم 447).

وأخرجه الطحاوي (¬1): أيضًا، وأعلّه بأنه منقطع على ما يأتي. وحديث أبي أيوب عند ابن ماجه (¬2) أيضًا: نا سفيان بن وكيع، نا عبد السلام ابن حرب، عن إسحاق بن أبي فروة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري، عن أبي أيوب قال: سمعت النبي - عليه السلام - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". وإسحاق ابن أبي فروة متروك باتفاقهم وقد اتهمه بعضهم بالوضع. وحديث أبي هريرة عند ابن حبان في "صحيحه" (¬3): عن يزيد بن عبد الملك ونافع بن أبي نعيم القاري، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا (حائل) (¬4) فليتوضأ". ورواه الحاكم في "مستدركه" (¬5): وصححه، ورواه أحمد في "مسنده" (¬6): والدارقطني في "سننه" (¬7) والبيهقي (¬8) أيضًا ولفظه فيه: "من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة". وأخرجه الطحاوي (¬9): أيضًا وعلله بيزيد بن عبد الملك وقد أغلظ العلماء القول فيه، فقال أبو زرعة: واهي الحديث. وغلظ فيه القول جدّا، وقال النسائي: متروك الحديث وقال الساجي: ضعيف منكر الحديث واختلط بأخرة؛ فإذن عرفت تساهل ابن حبان والحاكم في الصحيح (¬10). ¬

_ (¬1) "شرح معاني الآثار" (1/ 75). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 162 رقم 482)، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 170 رقم 3928) من طريق إسحاق بن أبي فروة به. (¬3) "صحيح ابن حبان" (3/ 401 رقم 1118) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عنهما. (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح ابن حبان": حجاب. (¬5) "مستدرك الحاكم" (1/ 233). (¬6) "مسند أحمد" (2/ 333 رقم 8385). (¬7) "سنن الدارقطني" (1/ 147 رقم 6). (¬8) "السنن الكبرى" (1/ 133 رقم 630). (¬9) "شرح معاني الآثار" (1/ 74). (¬10) أما ابن حبان فقد أخرجه من طريق يزيد بن عبد الملك ونافع بن أبي نعيم، ثم قال عقب =

وحديث أروى عند ابن منده وأبي نعيم الأصبهاني (¬1): عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أروى بنت أنيس، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من مس فرجه فليتوضأ". وذكرها ابن الأثير (¬2): في الصحابيات وذكر هذا الحديث أيضًا ثم قال: وقيل: أبو أروى. وذكره في الكنى (¬3): أبو أروى الدوسي حجازي. وهذا كما ترى فيه خلاف. وحديث عائشة عند الدارقطني في "سننه" (¬4): نا الحسين بن إسماعيل، نا يحيى ابن معلى بن منصور، نا عتيق بن يعقوب، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ابن حفص العمري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون. قالت عائشة: بأبي وأمي، هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة" وهو معلول بعبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، قال أحمد: كان كذابا. وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زرعة: متروك. زاد أبو حاتم: وكان يكذب. ¬

_ = الحديث: احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ لأن يزيد تبرأنا من عهدته في كتاب "الضعفاء". وأما الحاكم فقد أخرجه من طريق نافع أيضًا وصححه، ثم قال: وشاهده الحديث المشهور عن يزيد بن عبد الملك ... إلخ. ونافع هو أحد القراء السبعة، وثقه ابن معين، وقال ابن المديني: هو عندنا لا بأس به. وقال ابن عدي: ولم أر في حديثه شيئًا منكرا وأرجو أنه لا بأس به. وأما أحمد فقال: ليس بشيء في الحديث. انظر "الميزان" (7/ 7). (¬1) "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (6/ 3270 رقم 7527) من طريق هشام بن زياد، عن هشام بن عروة به. (¬2) "أسد الغابة" (7/ 6 رقم 6696). (¬3) "أسد الغابة" (6/ 9 رقم 5668). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 147 رقم 9).

وقد روى أبو يعلى في "مسنده" (¬1) حديثا يعارض هذا وينافيه، فقال: نا الجراح ابن مخلد، نا عمر بن يونس اليمامي، ثنا المفضل بن أثواب، (¬2) حدثني حسين بن أوزع، عن أبيه، عن سيف بن عبد الله الحميري قال: "دخلت أنا ورجال معي على عائشة - رضي الله عنها - فسألناها عن الرجل يمس فرجه أو المرأة تمس فرجها، فقالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ما أبالي إياه مسست أو أنفي". وأخرج الطحاوي حديث عائشة في نقض مس الفرج الوضوء، وأجاب عنه كما يأتي إن شاء الله تعالى. وحديث جابر عند ابن ماجه (¬3): نا إبراهيم بن المنذر الحزامي، نا معن بن عيسى (ح). ونا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا عبد الله بن نافع، جميعًا عن ابن أبي [ذئب] (¬4) عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء". وأخرجه الطحاوي (¬5): أيضًا، وأعله بالإرسال، وقد قال الشافعي أيضًا: وسمعت جماعة من الحفاظ عن ابن نافع يروونه لا يذكرون فيه جابرا. وهم لا يحتجون بالمرسل. وحديث زيد بن خالد عند أحمد في "مسنده" (¬6): عن ابن إسحاق، حدثني ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (8/ 286 رقم 4875). (¬2) في "الأصل، ك": أيوب، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أبي يعلى"، وكذا ذكره الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 127)، وقال: إسناده مجهول. وذكره أيضًا على الصواب الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 60). وانظر "الإكمال" لابن ماكولا (1/ 562). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 162 رقم 480). (¬4) في "الأصل، ك": كرب، وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجه" وغيره. (¬5) "شرح معاني الآثار" (1/ 74). (¬6) "مسند أحمد" (5/ 194 رقم 21735).

محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن خالد الجهني، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". ورواه البزار (¬1) والطبراني (¬2) أيضًا. وأخرجه الطحاوي (¬3): أيضًا وأجاب عنه على ما يأتي. وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد (¬4) والبيهقي (¬5): عن بقية بن الوليد، عن محمَّد بن الوليد الزبيدي، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". وأخرجه الطحاوي (¬6): أيضًا على ما يأتي إن شاء الله. وحديث عبد الله بن عُمر عند الدارقطني في "سننه" (¬7): عن إسحاق بن محمَّد الفَرَوي، نا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة". ورواه الطبراني في "الكبير" (¬8) والبزار في "مسنده" (¬9): ولفظهما "من مس فرجه فليتوضأ". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (9/ 219 رقم 3762). (¬2) "المعجم الكبير" للطبراني (5/ 243 رقم 5221، 5222). (¬3) "شرح معاني الآثار" (1/ 73). (¬4) "مسند أحمد" (2/ 223 رقم 7076). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 132 رقم 626). (¬6) "شرح معاني الآثار" (1/ 75). (¬7) "سنن الدارقطني" (1/ 147 رقم 5). (¬8) "المعجم الكبير" (12/ 281 رقم 13118) من طريق العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ولفظه: "من مس ذكره فليتوضأ". وأعله الهيثمي في "المجمع" (1/ 245) بالعلاء بن سليمان. (¬9) عزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 245) للبزار والطبراني في "الكبير" وقد ذكرناه، وقال: وفي سند "الكبير" العلاء بن سليمان، وهو ضعيف جدًّا، وفي سند البزار هاشم بن زيد، وهو ضعيف جدًّا.

وأخرجه الطحاوي أيضًا وأعله بصدقة بن عبد الله على ما يأتي، وفي سند الطبراني العلاء بن سليمان، وفي سند البزار هاشم بن زيد، وكلاهما ضعيفان جدًّا. وحديث طلق بن علي عند الطبراني في "الكبير" (¬1): نا الحسن بن علي الفسوي، نا محمَّد بن حماد بن محمَّد الحنفي، نا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي -وكان من الوفد الذين وفدوا على رسول الله - عليه السلام -- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". وبه عن أبيه أن النبي - عليه السلام - قال: "من مس ذكره فليتوضأ" انتهى. قلت: ويعارضه حديثه الآخر وهو ما رواه الطحاوي وغيره على ما يأتي: "أنه سأل رسول الله - عليه السلام - أمن مس الذكر وضوء؟ قال: لا". والقياس يشهد لترجيح هذا؛ فيكون ناسخا للأول على تقدير صحته، والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الأثر، وأوجبوا الوضوء من مس الفرج. ش: أراد بهؤلاء القوم: الأوزاعي، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وأبان بن عثمان، وعروة، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وفي "المغني" (¬2) لابن قدامة: وقد روي أيضًا عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة، وهو المشهور عن مالك. وفي "الجواهر" للمالكية: النوع الثالث مس الذكر، وينقض الوضوء به في الرواية الأخيرة، ولكن اختلف فيه على صفة مخصوصة، فرأى العراقيون أنها اللذة، واعتبر أشهب مسه بباطن الكف، واعتبر في "اللباب" باطن الكف أو باطن الأصابع، قال ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 334 رقم 8252). (¬2) "المغني" (1/ 116 - 117) بتصرف واختصار.

الشيخ أبو طاهر: والكل على مراعاة وجود اللذة وفقدها، ولو مسَّه من فوق ثوب أو من تحته انتقضت طهارته، ولا حكم لمسّ الذكر المبان ولا لمسّ ذكر الغير إلَّا من باب الملامسة، ولا ينقض وضوء من مس ذكر غيره، وفي مس المرأة فرجها ثلاث روايات: النقض، ونفيه، والتفرقة بين أن تلطف فيجب الوضوء وبين ألَّا تلطف فلا يجب. وفي "المغني" (¬1): الفرج اسم لمخرج الحدث، فيتناول الذكر والدبر وقبل المرأة، وفي نقض الوضوء بجميع ذلك خلاف في المذهب وآكدها مس الذكر، وعن أحمد فيه روايتان: [إحداهما] (¬2) ينقض الوضوء وهي المشهورة من مذهبه، والرواية الثانية: لا وضوء فيه بحال. فعل رواية النقض: لا فرق بين العامد وغيره، وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو أيوب، وأبو خيثمة. وعن أحمد رواية أخرى: لا ينقض إلَّا بمسّه قاصدا مسَّه، قال أحمد بن الحسين: قيل لأحمد: الوضوء من مس الذكر؟ قال: أحب إليَّ أن أتوضأ. قلت: يا أبا عبد الله ربما مرت يده في إحليله فكيف يجب الوضوء من مس الذكر؟! فقال: هكذا -وقبض على يده يعني إذا قبض عليه- وهذا قول مكحول، وطاوس، وسعيد بن جبير، وحميد الطويل. قالوا: إن مسّه ولا يريد وضوءا فلا شيء عليه، ولا فرق بين رأس الذكر وأصله. وفيه رواية أخرى: لا ينقض إلَّا مسّ موضع الثقب، والأول هو الصحيح عملا بظاهر اللفظ. ولا فرق بين بطن الكف وظهره، وهو قول عطاء، والأوزاعي. وقال مالك والليث والشافعي وإسحاق: لا ينقض مسّه إلَّا بباطن الكف. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 116 - 117) بتصرف واختصار. (¬2) في "الأصل، ك": إحديهما، والمثبت من "المغني" لابن قدامة.

ولا ينقض مسّه بذراعه، وعن أحمد أنه ينقض؛ لأنه من يده، وهو قول عطاء والأوزاعي، والصحيح الأول. ولا فرق بين ذكره وذكر غيره، وقال داود: لا ينقض مسّ ذكر غيره؛ لأنه لا نص فيه. ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير وبه قال عطاء، والشافعي، وأبو ثور، وعن الزهري والأوزاعي ومالك: لا وضوء على [من] (¬1) مسّ ذكر الصغير؛ لأنه يجوز مسّه والنظر إليه. وقد روي عن النبي - عليه السلام - مسّ زبيبة - رضي الله عنه - ولم يتوضأ. وفرج الميت كفرج الحي. وهو قول الشافعي، وقال إسحاق: لا وضوء عليه. وفي الذكر المقطوع وجهان، ولو مسّ القلفة التي تقطع في الختان قبل قطعها نقض وضوءه، وإن مسّها بعد القطع فلا وضوء. فأما مسّ حلقة الدبر ففيه روايتان: إحداهما: ينقض، نقلها أبو داود، وهو مذهب عطاء والزهري والشافعي وإسحاق. والثانية: لا ينقض، وهو مذهب مالك. فأما مسّ المرأة فرجها ففيه أيضًا روايتان. وأما لمس فرج الخنثى المشكل فينقض إذا تيقنا أنه مسّ فرجا، أو كان لمسا بين رجل وامرأة لشهوة، ومتى جوزنا عدم ذلك لم ينقض وضوء، فعلى هذا إذا مسّ أحدَ فَرْجَيْ نفسه لم ينتقض وضوءه، لاحتمال أن يكون خلقة زائدة، وإن جمع بينهما انتقض وضوءه لأنه لا بد أن يكون أحدهما فرجا؛ إلَّا على الرواية التي لا تنقض وضوء المرأة مسّها لفرجها. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المغني".

وإن مس رجل ذكره لغير شهوة لم ينتقض وضوءه، وإن مسّه لشهوة انتقض؛ لأنه إن كان رجلا فقد مسّ وإن كان امرأة فقد مسّ امرأة لشهوة، وإن مسّه لغير شهوة لم ينتقض لاحتمال أن يكون الذي مسّه خلقة زائدة، وإن مسّ فرجه لم ينتقض بحال لشهوة كان أو لا، وإن جمع بين الفرجين انتقض. وإن كان اللامس امرأة، فلمست الفرج لشهوة أو جمعت بينهما في اللمس انتقض وضوءها. وإلَّا فلا، وإن كان اللامس خنثى مشكلا لم ينتقض وضوءه بحال إلَّا أن يجمع بين الفرجين في اللمس، ولو مسّ أحد الخنثيين ذكر الآخر ومسّ الآخر فرجه وكان اللمس منهما لشهوة فلا وضوء على واحد منهما. وقال أيضًا (¬1): ولا وضوء بمس ما عدا الفرجين من سائر البدن كالرفغ والأنثيين والإبط في قول عامة أهل العلم؛ إلَّا أن عروة قال: من مس أنثييه فليتوضأ. وقال الزهري: أحب إليّ أن يتوضأ. وقال عكرمة: من مس [ما] (¬2) بين الفرجين فليتوضأ. ولا ينتقض الوضوء بمس فرج البهيمة. وقال الليث بن سعد: عليه الوضوء. وقال عطاء: من مسّ قُنْبَ حمار عليه الوضوء، ومن مس ثيل جمل لا وضوء عليه، انتهى. قلت: "الرُّفغْ" بضم الراء، وسكون الفاء، وفي آخره غين معجمة: واحد الأرفاغ، وهي المغابن من الأباط وأصول الفخذين. و"القُنْب" -بضم القاف، وسكون النون، وفي آخره باء موحدة- وهي وعاء قضيب الفرس وغيره من ذوات الحوافر. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 119) بتصرف واختصار أيضًا. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المغني".

والثِيل -بكسر الثاء المثلثة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره لام- وهي وعاء قضيب البعير. وقال ابن حزم في "المحلى": وأما قول الأوزاعي والشافعي ومالك في مراعاة باطن الكف دون ظاهرها فقول لا دليل عليه لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قول صاحب، ولا قياس، ولا من رأي صحيح، وشغب بعضهم بأن قال: في بعض الآثار "من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ" قال علي: وهذا لا يصح أصلا، ولو صح لما كان فيه دليل على ما يقولون؛ لأن الإفضاء باليد يكون بظهر اليد كما يكون بباطنها، وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك. ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء، كيف والافضاء يكون بجميع الجسد، وقال تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (¬1). وأما [قول مالك في إيجاب الوضوء منه ثم لم ير الإعادة إلَّا في الوقت؛ فقول متناقض؛ لأنه لا يخلو أن يكون انتقض وضوءه أو لم ينتقض، فإن كان انتقض فعلى أصله يلزمه أن يعيد أبدا، وإن كان لم ينتقض فلا يجوز له أن يصلي صلاة فرض واحدة في يوم مرتين وكذلك] (¬2) فرق مالك بين مس الرجل فرجه وبين مس المرأة فرجها؛ فهو قول لا دليل عليه، فهو ساقط. وأما إيجاب الشافعي الوضوء من مس الدبر فخطأة؛ لأن الدُّبر لا يُسمى فرجا، فإن قال: قسته على الذكر. قيل له: القياس عند القائلين به لا يكون إلَّا على علة جامعة بين الحكمين، ولا علة جامعة بين مس الذكر ومس الدبر. فإن قال: كلاهما مخرج للنجاسة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية، [21]. (¬2) ليس في "الأصل، ك"، ولعله انتقال نظر من المؤلف، والمثبت من "المحلى" (1/ 238).

قيل: ليس كون الذكر مخرجا للنجاسة هو علة انتقاض الوضوء من مسّه، ومن قوله: إن مس النجاسات لا ينقض الوضوء فكيف مسّ مخرجها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لا وضوء فيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، والنخعي، وطاوس، وسعيد بن جبير، وأبا حنيفة، وأصحابه، وربيعة؛ فإنهم قالوا: لا وضوء في مس الفرج أصلا. وبه قال ابن المنذر، وأحمد في رواية، وروي أيضًا عن علي، وعَمَّار، وابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - وذكر ابن أبي شيبة أنه قول طلق بن علي وأبي أمامة الباهلي. ص: واحتجوا في ذلك على أهل المقالة الأول، فقالوا: في حديثكم هذا أن عروة لم يرفع بحديث بسرة رأسا، فإن كان ذلك لأنها عنده في حال من لا يؤخذ ذلك عنها، ففي تضعيف من هو أقل من عروة لِبُسْرة ما يسقط حديثها، وقد تابعه على ذلك غيره. حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد، عن ربيعة أنه قال: لو وضعت يدي في دم أو حيضة ما نقض وضوئي، فمسّ الذكر أيسر أم الدم أم الحيضة؟! قال: وكان ربيعة يقول لهم: ويحكم مثل هذا يأخذ به أحد ويعمل بحديث بسرة؟ والله لو أن بسرة شهدت على هذا الفعل لما أجزت شهادتها، إنما قوام الدين الصلاة، وإنما قوام الصلاة الطهور، فلم يكن في صحابة رسول الله - عليه السلام - من يقيم بهذا الدين إلَّا بسرة؟! قال ابن زيد: على هذا أدركنا مشيختنا، ما منهم أحد يرى في مسّ الذكر وضوءا، وإن كان إنما ترك أن يرفع بذلك رأسا؛ لأن مروان عنده ليس في حال من يجب القبول عن مثله، فإن خبر شرطي مروان عن بسرة دون خبره هو عنها، فإن كان مروان خبره في نفسه عند عروة غير مقبول، فخبر شرطيه إياه عنها بذلك أحرى ألَّا يكون مقبولا.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون على أهل المقالة الأولى. "في ذلك" أي في عدم انتقاض الوضوء من مس الفرج. "فقالوا: في حديثكم هذا" أشار به إلى حديث بسرة بنت صفوان الذي احتجوا به. "أن عروة بن الزبير لم يرفع بحديث بسرة رأسا" أراد أنه لم يعتبره ولم يلتفت إليه، ثم بين الطحاوي ذلك بأنه لا يخلو عن وجهين: الأول: أن يكون ذلك لكون بسرة بنت صفوان عنده ممن لا يؤخذ مثل ذلك الحكم عنهم؛ وذلك لكونها انفردت بهذه الرواية مع عموم الحاجة إلى معرفته، فصار ذلك كشهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علّة. وقال السرخسي في "المبسوط": وحديث بسرة لا يكاد يصح، وقد قال يحيى بن معين: ثلاث لا يصح منهن حديث عن رسول الله - عليه السلام - منها هذا، وما بال رسول الله - عليه السلام - لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم، إنما قاله بين يدي بسرة، وقد كان رسول الله - عليه السلام - أشد حياء من العذراء في خدرها، وتأويله على تسليم ثبوته: "من بال" فجعل مسّ الذكر كناية عن البول؛ لأن من يبول مس ذكره عادة كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (¬1) والغائط المطمئن من الأرض، وكَنَّى عن الحدث؛ لأنه يكون في مثل هذا الموضع عادة. فإن قيل: كيف تقول: لا يكاد يصح وقد قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح. وقال محمَّد بن إسماعيل: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب؟! قلت: محمَّد بن إسماعيل هو البخاري لو رضي به لأخرجه في "صحيحه" فلم ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6].

يخرجه هو ولا مسلم (¬1)، وقول البخاري هذا لا يدل على صحته، وإنما مراده هو على علاته أصح من غيره من أحاديث الباب، وقد اغترّ ابن العربي بهذه العبارة فحكى عن البخاري تصحيحه وليس كذلك، وأما قول الترمذي فيعارضه قول يحيى بن معين الذي هو العمدة في هذا الشأن وإليه المرجع في باب التصحيح والتضعيف. ومع هذا كله يخالف حديث بسرة ما روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وأبي الدرداء، وعمّار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أمامة، وسعيد بن المسيب، وسعيد ابن جبير، وإبراهيم النخعي، وربيعة بن عبد الرحمن، وسفيان الثوري، وجماعة أخرى، فهل يسع للمنصف في دينه أن يترك قول هؤلاء الأعلام من الصحابة الأجلاء ومن التابعين العظماء، ويعمل بحديث بسرة الذي لما جرى أمره في زمن مروان بن الحكم، وشاور من بقي من الصحابة في زمانه قالوا: لا ندع كتاب ربنا ولا سُنة نبيه بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟ ولهذا قال ربيعة: والله لو شهدت بُسرة على هذا الفعل لما أجزت شهادتها. ذكره الطحاوي بقوله: "وقد تابعه على ذلك غيره" أي قد تابع عروة في كونه لم يرفع بحديث بسرة رأسا غيره من العلماء وهو ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإِمام مالك بن أنس، وهو تابعي كبير، قال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت أحد مفتي المدينة، وروى له الجماعة. وقال أبو عمر بن عبد البر: كان أحد الفقهاء بالمدينة الذين كانت الفتوى تدور عليهم بها. ¬

_ (¬1) من المعلوم أن البخاري ومسلمًا لم يشترطا أن يخرجا في "صحيحيهما" كل ما صح عندهما من حديث؛ إنما أخرجا في "صحيحيهما" ما وافق شرطهما في كتابيهما، وقد اشترطا أعلى درجات الصحة، وإنما يسلم له قوله: إن قول البخاري: "أصح شيء في الباب" لا يلزم منه أن يكون صحيحًا، بل قد يكون ضعيفًا ضعفًا أخف مما ورد في هذا الباب، والله أعلم.

وروى الطحاوي ذلك عنه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم والنسائي وابن ماجه وبقي بن مخلد وأبي زرعة الرازي وأبي عوانة الإسفرايني، وهو يرويه عن عبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، وهو يرويه عن ابن زيد، وهو أسامة بن زيد الليثي أبو زيد المدني، روى له الجماعة -البخاري مستشهدا- وقال أحمد بن سعيد عن يحيى بن معين: هو ثقة حجة، وهو يرويه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن القرشي التيمي أبي عبد الرحمن المدني، المعروف بربيعة الرأي أنه قال: "لو وضعت يدي في دم أو حيضة ... " إلى آخره، فهذا دليل صريح على أنه قد حكم بسقوط هذا الحديث، ولقد بالغ في وجه تركه حيث أقسم وقال: "والله لو أن بسرة شهدت ... " إلى آخره، ولعمري إنه صادق في قوله: لأن هذا حكم يتعلق به الرجال، فكيف تختص به امرأة؟ وهذه تهمة توجب التوقف، وقبول الصحابة خبر عائشة - رضي الله عنها - في التقاء الختانين لا يناقض هذا؛ لأنه حكم مشترك بين الرجال والنساء، وحديث التقاء الختانين ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، وعكسه عن عثمان - رضي الله عنه - وحديث عائشة كان مرجِّحا مُثبِتا. ثم أشار الطحاوي أن عدم إلتفات عروة لحديث بسرة إن كان لأجل أنهما عنده في عداد من لا يؤخذ ذلك عنهم؛ ففي تضعيف من هو أقل من عروة إياها ما يَسقط به حديثها، فكيف في تضعيف مثل عروة وهو حجة متقن ثبت عالم أمين؟ وتضعيفه أولى وأجدر أن يسقط به حديثها، على أن بعضهم قالوا: إن بسرة غير مشهورة؛ لاختلاف الرواة في نسبها، لأن بعضهم يقول: هي كنانية، وبعضهم يقول: هي أسدية. قوله: "أو حيضة" بكسر الحاء، وهي الحالة التي هي عليها، والحيضة بالكسر أيضًا الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قوله: "الطهور" بفتح الطاء، اسم لما يتطهر به، ويجوز بالضم أيضًا وهو التطهر. قوله: "قال ابن زيد" أبي أسامة بن زيد.

قوله: "مشيختنا" أي مشايخنا، جمع شيخ، ومن جملة مشايخه: محمَّد بن مسلم الزهري ويعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن بن القاسم، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن حنين، وحفص بن عبيد الله بن أنس، وأبو عبد الله دينار القراظ، وأبو حازم سلمة بن دينار. الوجه الثاني لعدم رفع عروة رأسه لحديث بسرة هو ما أشار إليه بقوله: "وإن كان إنما ترك أن يرفع بذلك رأسا ... " إلى آخره، تحريره: أن الذي أخبر عن بُسرة هو شُرطي مروان، فإذا كان مروان عند عروة ممن لا يؤخذ عنهم؛ فخبر شرطيه أولى ألَّا يؤخذ؛ لأن خبره عن بسرة دون خبر مروان عنها، وأما مروان فإنما رد عروة خبره لعلّةٍ فيه قد ظهرت لعروة، ولا سيما حين خرج على عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ولهذا قال ابن حزم في "المحلى": مروان ما يعلم له جرح قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - ثم قال: ولم يلقه قط عروة إلَّا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه. قلت: فيه نظر؛ لعدم الدليل على هذ الدعوى، وأما شرطي مروان فإنه مجهول، وقول البيهقي في كتاب "المعرفة": ولولا ثقة الحَرَسِيِّ عنده -أبي عند عروة بن الزبير- لما صار إليه -أي إلى حديث بسرة- غير مُسَلَّم؛ لأن عروة لم يقنع بخبره، ولو كان ثقة عنده لاكتفى بمجرد خبره، ولا كان يسأل عن بسرة بنفسه، ثم هو لم يقنع بخبره مروان الذي هو أقوى من خبر شرطيه، فكيف يقنع بخبر وهو أدنى من خبر مروان؟! ثم الشرطي منسوب إلى الشَرَطِ -بفتح الشين والراء- وشَرَط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده، وأصل الشَرَط -بالتحريك-: العلَّامة. قال ابن الأثير: وبه سميت شرط السلطان؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها.

وقال ابن الأعرابي: هم الشَرَطُ والشُرَطة، فالنسبة إلى الأول: شَرَطي -بفتحتين- والنسبة إلى الثاني: شُرْطي -بضم الشين وسكون الراء-. وقال الأصمعي: واحد الشُرَط شُرْطة وشُرْطي. ص: وهذا الحديث أيضًا فلم يسمعه الزهري من عروة، إنما دلس به؛ وذلك أن يونس حدثنا قال: نا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم قال: "الوضوء من مس الذكر. قال مروان: أخبَرَتْنيه بسرة بنت صفوان. فأرسل إلى بسرة، فقالت: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يتوضأ منه فذكر مسّ الذكر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فصار هذا الأثر إنما هو عن الزهري عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، فقد حط بذلك درجة؛ لأن عبد الله بن أبي بكر ليس حديثه عن عروة كحديث الزهري عن عروة، ولا عبد الله بن أبي بكر في حديثه بالمتقن، ولقد حدثني يحيى بن عثمان قال: حدثنا ابن وزير قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت ابن عيينة يقول: كنا إذا رأينا الرجل يكتب الحديث عند واحد من نفر سماهم منهم: عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر، سخرنا منه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث، وأنتم فقد تُضَعِّفُون ما هو مثل هذا بأقل من كلام مثل ابن عيينة. ش: هذه إشارة إلى وجه آخر في سقوط العمل بحديث بسرة المذكور، وهو كونه مدلَّسا؛ وذلك لأن الزهري لم يسمعه من عروة، وإنما دلّس به، بيّن ذلك ما رواه يونس بن عبد الأعلى المصري، عن شعيب بن الليث ... إلى آخره، فصار هذا الحديث عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، وانحط بذلك درجة؛ وذلك لأن حديث عبد الله بن أبي بكر عن عروة ليس كحديث الزهري عن عروة في القوة، ولا عبد الله بن أبي بكر بالمتقن في حديثه. واستدل على ذلك بما رواه الشافعي، عن سفيان بن عُيينة.

رواه عن الشافعي محمَّد بن الوزير أحد مشايخ أبي داود، واحد من أخذ عن الشافعي، روى عنه يحيى بن عثمان بن صلاح بن صفوان القرشي أبو زكريا المصري أحد مشايخ الطبراني وابن ماجه. قال ابن يونس: كان حافظا للحديث عالما. فإن قيل: عبد الله بن أبي بكر قد أخرج له الجماعة حتى قال النسائي فيه: ثبت. قلت: لا يلزم من إخراج الجماعة له ولا من قول النسائي أنه ثبت أن ينفي عنه ما تكلم فيه غيره ممن هو كبر منهم، وكفى في ذلك قول الشافعي عن شيخه سفيان بن عيينة، ولا يعادل أحد منهم ابن عيينة، ولقد سقط بذلك أيضًا ما ذكره البيهقي من حطه على الطحاوي في تضعيفه هذا الحديث قلت أيضًا: ولم يخطر ببالي أن يكون إنسان يدعي معرفة الآثار والرواية ثم يطعن في أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم وابنه عبد الله. وليت شعري لِمَ لَمْ يخطر ببال البيهقي ما نقله إمامه الشافعي عن ابن عيينة؟ ثم اعلم أن التدليس على قسمين: الأول: تدليس الإسناد وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه لقيه وسمعه منه، ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر، ومن شأنه ألَّا يقول في ذلك: أخبرنا فلان ولا حدثنا وما أشبههما، وإنما يقول: قال فلان أو عن فلان، وهذا الحديث من هذا القبيل؛ لأن الزهري لم يسمعه من عروة وإنما سمعه من عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد عن عروة عن مروان، فبينهما واحد وأسقطه في تلك الرواية ودلّس به، وهذا القسم مكروه جدّا ذمّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذمّا له، وعن الشافعي أن التديس أخو الكذب (¬1). ¬

_ (¬1) هذا ليس كلام الشافعي، إنما هو كلام شعبة، رواه عنه الإِمام الشافعي كما نقله عنه الخطيب في "الكفاية" (1/ 35).

والقسم الثاني: تدليس الشيوخ وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يُعْرَف به؛ كي لا يعرف، وهذا القسم أخف من الأول. ثم هذا الطريق الذي فيه عبد الله بن أبي بكر أخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا أحمد بن محمَّد بن المغيرة، قال: نا عثمان بن سعيد، عن شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: "ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده، فأنكرت ذلك، فقلت: لا وضوء على من مسّه. فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - ذكر ما يتوضأ منه، فقال رسول الله - عليه السلام -: ويتوضأ من مس الذكر. قال عروة: فلم أزل أماري مروان حتى دعا رجلًا من حرسه فأرسله إلى بسرة، فسألها عما حدثت مروان، فأرسلت إليه بسرة بمثل الذي حدثني عنها مروان". قوله: "من نفر" قال الجوهري: النَّفَر -بالتحريك- عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة و [كذا] (¬2) النفير. قوله: "سماهم" جملة في محل الجَرِّر؛ لأنها وقعت صفة للنفر. قوله: "سخرنا منه" من سخرت منه أسخر، من باب عَلَمِ يَعْلَمُ، والمصدر: سَخَر بالتحريك، والاسم السُخرية، والسُخرى والسِخرى -بالضم والكسر- يقال: سخرت منه وبه، وضحكت منه وبه، وهزئت منه وبه، كل ذلك يقال. ص: وقال آخرون: إن الذي بين الزهري وعروة في هذا الحديث أبو بكر بن محمَّد، حدثنا سليمان بن شعيب قال: نا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب قال: حدثني أبو بكر محمَّد بن عمرو بن حزم، قال: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 100 رقم 164). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مختار الصحاح" (1/ 280).

حدثني عروة، عن بسرة بنت صفوان أنها سمعت النبي - عليه السلام - يقول: "يتوضأ الرجل من مسّ الذكر". ش: أي قال جماعة آخرون من أهل الحديث: إن الرجل الذي بين الزهري وعروة بن الزبير هو أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وبَيَّن ذلك الطحاوي بقوله: "حدثنا سليمان بن شعيب ... ". إلى آخره. وسليمان بن شعيب هذا من أصحاب محمَّد بن الحسن، وثقه السمعاني وغيره. وبشر بن بكر: التنيسي، روى له الجماعة. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، الإِمام المشهور. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وأبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي المدني، روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني، نا يحيى بن عبد الله البابلي، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، حدثني أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم ... إلى آخره نحوه. وأشار الطحاوي بذلك إلى اضطراب هذا الحديث؛ لأن الزهري تارة يروي عن عروة، وتارة عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة، وتارة عن أبي بكر بن محمَّد عن عروة، فهذه علة أخرى انضمت إلى غيرها من العلل. ص: فإن قالوا: فقد روى هذا الحديث أيضًا هشام بن عروة عن أبيه، وهشام فليس ممن يتكلم في روايته بشيء، ثم ذكروا في ذلك ما حدثنا ابن أبي عمران قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "سألني مروان عن مس الذكر، فقلت: لا وضوء فيه. فقال مروان: فيه الوضوء ... ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" للطبراني (24/ 193 رقم 487).

ثم ذكر مثل حديث أبي بكرة الذي في أول هذا الباب عن حسين بن مهدي، حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج بن المنهال، قال: نا حماد، عنه هشام ... فذكر بإسناده نحوه، غير أنه قال: "فأنكر ذلك عروة". حدثنا حسين بن نصر قال: نا يوسف بن عدي، قال: نا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا مس أحدكم ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ". حدثنا ابن أبي داود قال: نا يحيى بن صالح، قال: نا ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. قيل لهم: إن هشام بن عروة لم يسمع هذا من أبيه وإنما أخذه من أبي بكر أيضًا، فدلّس به عن أبيه. حدثنا سليمان بن شعيب قال: نا الخصيب بن ناصح، قال: نا همام، عن هشام بن عروة، قال: حدثني أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عروة: "أنه كان جالسا مع مروان ... " ثم ذكر الحديث على ما ذكره ابن أبي عمران ومحمد بن خزيمة. فرجع الحديث إلى أبي بكر أيضًا. ش: هذا إيراد من أهل المقالة الأولى، على ما ذكره أهل المقالة الثانية، بيانه: أنكم أثبتم الاضطراب في حديث الزهري عن عروة، وأن الزهري دلّس به، وادعيتم عدم إتقان عبد الله بن أبي بكر، فقد سلمنا لكم هذه، ولكن ما تقولون في رواية هشام بن عروة عن أبيه، فإنه روى هذا الحديث عن أبيه [عروة] (¬1) عن مروان، عن بسرة، وعن عروة عن بسرة، وهشام ليس ممن يتكلم في روايته بشيء. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عن عروة، ولفظة "عن" زائدة؛ فعروة هو والد هشام بن عروة.

ثم بيّن الطحاوي رواية هشام عن أبيه من خمس طرق: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله بن محمَّد ابن حفص التيمي أبي عبد الرحمن البصري، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... إلي آخره، وهؤلاء كلهم ثقات. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1) نحوه، نا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن مروان بن الحكم قال: "من مس فرجه فليتوضأ. فأنكر ذلك عليه عروة، فقال: يا شرطي، أثبت بسرة بنت صفوان فسلها (فأتاها فسألها, فقالت) (¬2): سمعت - عليه السلام - يقول: من مس ذكره فليتوضأ". الثالث: عن حسين بن نصر، عن يوسف بن عدي، عن علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... إلي آخره وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا علي عبد العزيز، نا محمد بن سعيد الأصبهاني، أنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرني مروان بن الحكم، عن بسرة بنت صفوان، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مس أحدكم فرجه فليتوضأ". قال: فأنكرت عليه، فأرسل إليها بحديثه عن رسول الله - عليه السلام - وأنا حاضر". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة ... إلي آخره، وهؤلاء أيضًا ثقات. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 199 رقم 509). (¬2) في "المعجم الكبير": (فإنها قالت). (¬3) "المعجم الكبير": (24/ 199 رقم 506).

وأخرجه الييهقي في "سننه الكبير" (¬1): أنا أبو زكريا و [أبو] (¬2) عبد الرحمن السلمي وغيرهما قالوا: أنا أبو العباس بن يعقوب، نا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب: أخبرك سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة بنت صفوان- قال: وكانت صحبت النبي - عليه السلام -- أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا مس أحدكم ذكره فلا يصلين حتى يتوضأ". الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- القرشي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، عن النبي - عليه السلام - وهؤلاء أيضًا ثقات. قوله: "قيل لهم ... " إلى آخره جواب عن الإيراد المذكور، بيانه: أن هشام بن عروة لم يسمع هذا الحديث من أبيه عروة وإنما أخذه من أبي بكر محمَّد بن عمرو بن حزم، فدلَّس به عن أبيه، فيكون هذا الطريق أيضًا مدلسًا، وقال يعقوب بن شيبة: هشام بن عروة ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلاَّ بعد ما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، وكان تَسَهُّله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه، وكان هشام صدوقا تدخل أخباره في الصحيح، بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق. ونقل البيهقي في كتابه "المعرفة" قول: الطحاوي: "فإن قالوا قد روى هذا الحديث ... إلى آخره" ثم قال: ونسبه في ذلك -أي نسب هشاما في ذلك- إلى التدليس، وأيش يكون إذا كان يرويه عن أبي بكر، وأبو بكر ثقة حجة عند كافة أهل العلم بالحديث؟! إنما يضعف الحديث بأن يُدخل الثقة بينه وبين من فوقه مجهولا أو ضعيفًا، فإذا أدخل ثقة معروفا قامت به الحجة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 128 رقم 611). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى"، وهو الصواب.

قلت: قد اعترف البيهقي بالتدليس في الحديث المذكور ولكن تحامله على الطحاوي الذي دعاه بأن قال: وأيش يكون إذا كان يرويه عن أبي بكر ... إلى آخره، وكيف يقول البيهقي هذا القول وهو لا يخلّصه عن القول بالتدليس، فإنك قد عرفت أن التدليس أن يكون بين الراوي وبين المروي عنه واحد أو أكثر، سواء كان الواسطة ثقة أو ضعيفًا، ألا ترى إلى ما مثَّل ابن الصلاح لصورة التدليس في الإسناد بقوله (¬1): مثال: ما روينا عن علي بن خشرم، قال: كنا عند ابن عيينة، فقال: الزهري. فقيل له: حدثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري. فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. فانظر الواسطة بين ابن عُيينة وبين الزهري، وهما إمامان ثقتان: عبد الرزاق، ومعمر بن راشد، ومع هذا فهو تدليس، وقد عرف أن المدلّس غير مقبول ولا محتج به إلاَّ إذا كان بلفظ مبين للاتصال، كما قد وقع في الصحيحين وغيرهما عن قتادة والأعمش والسفيانين وهشيم بن بشير وغيرهم، على أن البيهقي قد قال: أنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا منصور العتكي يقول: سمعت الفضل بن محمَّد الشعراني، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: حدثني يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: لم يسمع هشام بن عروة حديث أبيه في مس الذكر. قال: يحيى فسألت هشاما فقال: أخبرني أبي. فهذا شعبة صرح بأن هشاما ما لم يسمع هذا الحديث من أبيه عروة فيكون قول يحيى: "سمع من أبيه" معارضا لقول شعبة: "إنه لم يسمع أباه" ثم بيّن الطحاوي تدليس هشام أيضًا كتدليس الزهري بقوله: "حدثنا سليمان بن شعيب ... " إلى آخره، ورجاله ثقات. وسليمان هذا وثقه ابن يونس وغيره. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 34 - 35) النوع الثاني عشر.

والخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي نزيل مصر، وثقه ابن حبان. وهمام بن يحيى أبو بكر البصري، روى له الجماعة. ص: فإن قالوا: فقد رواه عن عروة أيضًا غير الزهري وغير هشام فذكروا في ذلك ما حدثنا محمَّد بن الحجاج وربيع المؤذن قالا: نا أسد قال: نا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود أنه سمع عروة يذكر عن بسرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. قيل لهم: كيف تحتجون في هذا بابن لهيعة وأنتم لا تجعلونه حجة لخصمكم فيما يحتج به عليكم؟! قال أبو جعفر رحمه الله: ولم أرد بشيء من ذلك الطعن على أبي عبد الله بن أبي بكر ولا على ابن لهيعة ولا على غيرهما ولكني أردت بيان ظلم الخصم، فثبت وهاء حديث الزهري بالذي دخل بينه وبين عروة، ووهاء حديث الزهري أيضًا وهشام بالذي بين عروة وبسرة، ولأن عروة لم يقل ذلك ولم يرفع به رأسا، وقد يسقط الحديث بأقل من هذا. ش: هذا إيراد آخر على أهل المقالة الثانية، بيانه: أنكم قد قلتم ما قلتم في الروايات المتقدمة، وها نحن وجدنا رواية أخرى سالمة مما ذكرتم، فذكروا في ذلك ما رواه الطحاوي عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي ورييع بن سليمان المؤذن كلاهما عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني، عن عروة ... إلى آخره، وأجاب عن ذلك بقوله: "قيل لهم ... " إلى آخره وهو ظاهر. ملخصه: أنكم متى احتججتم بابن لهيعة في هذا، يلزم قلب الموضوع، وهو احتجاجكم بمن كنتم تضعفونه عند كون الحجة عليكم، وهو طلق. فإن قلت: ابن لهيعة مرضيّ عند الطحاوي، ولهذا يحتج به في مواضع من كتابه فيكون الحديث صحيحا عنده من هذا الطريق، ويلزمه القول به.

قلت: لا نُسَلِّم أنه يحتج به، بل يذكره في المتابعات، ولئن سلمنا أنه يحتج به وأنه ثقة عنده؛ فالحديث ضعيف لا ضطرابه كما ذكرنا, ولكون المدار على عروة في طرق هذا الحديث، وهو لم يرفع به رأسا، وهو معنى قوله: "ولأن عروة لم يقل ذلك ولم يرفع به رأسا، وقد يسقط الحديث بأقل من هذا" بيانه أن هذا أحرى أن يسقط، وبعد التسليم بالكل فالحديث منقطع معنى بمعارضة دليل أقوى منه، فسقط به بيانه: أنه مخالف للكتاب وهو قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬1) فإن الآية نزلت في أهل قباء؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء بعد الاستنجاء بالأحجار فقال لهم النبي - عليه السلام -: إن الله قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون؟ فقالوا: نستنجي بالماء بعد الاستنجاء بالأحجار" فلو جعل المس حدثا لما مدحهم الله تعالى بالماء الذي لا يتصور إلاَّ بمس الفرجين جميعا, ولو كان التطهير الذي مدحهم عليه حدثا لا يكون الاستنجاء تطهيرا؛ إذ التطهير يحصل بزوال الحدث لا بإثباته، أو نقول: أنه محمول على غسل اليدين ليس إلاَّ، كإيراد ذلك في حديث بريدة بن الخصيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مس صنما فليتوضأ". رواه البزار (¬2): فإن أحدا ما أوجب الوضوء من مس الصنم. فإن قلت: قد قال ابن حبان (¬3): وليس المراد من الوضوء غسل اليد؛ وإن كان العرب تسمي غسل اليد وضوءا بدليل ما أخبرنا ... وأسند عن عروة، عن مروان، عن بسرة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "من مس فرجه فليتوضأ وضوءه للصلاة". وأسند أيضًا (¬4): عن عروة، عن بسرة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "من مس فرجه فليعد الوضوء". قال: والإعادة لا تكون إلَّا لوضوء للصلاة. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [108]. (¬2) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 246)، وقال: رواه البزار، وفيه صالح بن حبان وهو ضعيف. (¬3) "صحيح ابن حبان" (3/ 400 رقم 1116). (¬4) "صحيح ابن حبان" (3/ 399 رقم 1115).

قلت: أكثر الروايات "فليتوضأ" فقط كما في رواية أبي داود (¬1) وابن ماجه (1) وغيرهما، وفي رواية الترمذي "فلا يصلي حتى يتوضأ" (1) وكل ذلك يحتمل غسل اليدين كما ذكرناه، ورواية ابن حبان: "وضوءه للصلاة" قيل: إنه مدرج من بعض الرواة. ولئن سلمنا أنه غير مدرج، فالجواب عنه ما ذكرنا، وأما قوله: "والإعادة لا تكون إلاَّ لوضوء الصلاة" فغير مسلم؛ لأنه يجوز أن يكون المراد إعادة غسل اليدين للتنظيف طلبا للتنزه. قوله: "ولم أرد بشيء من ذلك ... " إلى آخره بسط للعذر بأنه إنما ذكر ما ذكره لعدم إنصاف الخصم وتماديه في العسف، لا لأجل الطعن على أحد، على عبد الله بن أبي بكر، ولا على عبد الله بن لهيعة، ولا على غيرهما من الأئمة، وهذا غاية الإنصاف منه؛ لشدة ورعه، وإظهار أنه بصدد طلب الحق لا لإظهار الهوى والتعصب. ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة [قال] (¬2): نا أبو داود، قال: نا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، أنه سمع رجلًا يحدّث في مسجد رسول الله - عليه السلام - عن عروة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - بذلك. قيل لهم: كفى بكم ظلما أن تحتجوا بمثل هذا. ش: أراد بذلك أن هذا الحديث عن عائشة غير صحيح؛ لأن فيه مجهولا، فلا يجوز الاحتجاج به، ولا يقال: حديث عائشة رواه الدارقطني من غير هذا الوجه؛ لأنا نقول: في إسناده كذاب، وقد بيناه فيما مضى. ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا عليّ بن معبد قال: نا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، قال: ثنا أبما، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم بن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

عبيد الله بن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن خالد، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من مس فرجه فليوضأ". حدثنا ابن أبي داود، قال: نا عياش الرقام، قال: نا عبد الأعلى، عن ابن إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. قيل لهم: أنتم لا تجعلون محمَّد بن إسحاق حجة في شيء إذا خالفه فيه مثل من خالفه في هذا الحديث، ولا إذا انفرد، ونفس هذا الحديث منكر، وأخلق به أن يكون غلطا؛ لأن عروة حين سأله مروان عن مس الفرج، فأجابه من رأيه ألاَّ وضوء فيه، فلما قال له مروان عن بسرة عن النبي - عليه السلام - ما قال، قال له عروة: ما سمعت به. وهذا بعد موت زيد بن خالد بما شاء الله، فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه إياه زيد بن خالد عن النبي - عليه السلام -؟! ش: أي إن احتج أهل المقالة الأولى في انتقاض الوضوء بمس الفرج بحديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - يقال: في جوابهم وجهان: الأول: أن يقال: إنكم لا تجعلون محمَّد بن إسحاق حجة في شيء؛ سواء خالفه أحد، أو انفرد بروايته، ثم كيف تحتجون به ها هنا وقد قال البيهقي في كتاب "المعرفة": وروى الطحاوي حديث زيد بن خالد الجهني من جهة محمَّد بن إسحاق بن يسار، ثم أخذ في الطعن علي ابن إسحاق وأنه ليس بحجة؛ ثم ذهب إلى أنه غلط وذكره إلى آخر ما ذكره الطحاوي، ثم قال: وددنا أن لو كان احتجاجه في مسائله بأمثال محمَّد بن إسحاق بن يسار، كيف وهو يحتج في كتابه بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على تضعيفه في الرواية؟ قلت: فيا للعجب من هذا البيهقي، كيف يفهم كلام المحققين؟ فمتى طعن الطحاوي على ابن إسحاق حتى يقول: ثم أخذ في الطعن علي ابن إسحاق؟ والذي ذكره الطحاوي ليس منه طعنا عليه، وإنما قال للخصم: أنتم لا تجعلون محمَّد بن إسحاق حجة.

وهذا القول لا يستلزم الطعن منه عليه؛ وإنما تبين بذلك عسف الخصم، حيث يجعل محمَّد بن إسحاق حجة عند كون الحديث له، ويتركه ويطعن فيه عند كون الحديث عليه، ولئن سلمنا أنه طعن عليه؛ فليس هو مختصا به، ولا بأول من تكلم به فيه، فإن بعض السلف قبله قد طعنوا فيه كالإمام مالك حيث قال فيه: دجال من الدجاجلة. وقد قال الخطيب: وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها: أنه كان يتشيع، وينسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه. وقال الحافظ ابن الذهبي: والذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئًا. قلت: ولهذا لم يُخرِّج له الشيخان، وإنما استشهد به البخاري، وروى له مسلم في المتابعات. وقول البيهقي: "كيف وهو يحتج بمن قد أجمع أهل العلم بالحديث على ضعفه في الرواية" تحامل منه وتعصب؛ حيث يقول قولًا مجملا من غير بيان، فهلا بَيَّنَهُ في صُوَرِهِ حتى ننظر فيها، ذلك ولئن سلمنا أنه احتج بمن هو ضعيف عند غيره فلا نسلم أن ذلك عيب منه أو تقصير؛ لأنه ربما كان ذاك ثقة عنده، ألا ترى إلى خلق كثير قد احتج بهم الشيخان مع أن غيرهما قد تكلموا فيهم، ولم يجعلوا مثل ذلك قادحا في الصحة، فكذلك الطحاوي؛ لأنه إمام في الحديث مثلهم، بل له زيادة فضيلة معرفة وجوه المناظرات وطرق استنباط الأحكام ونحوها. الوجه الثاني: أن هذا الحديث منكر بل الأجدر أن يكون غلطا، بيان ذلك: أن عروة أجاب مروان حين سأله عن مس الذكر بأنه لا وضوء فيه، فقال مروان: أخبرتني بسرة عن النبي - عليه السلام - أن فيه الوضوء. فقال له عروة: ما سمعت بهذا، حتى أرسل مروان إلى بسرة شرطيّا فأخبرته، وكان ذلك بعد موت زيد بن خالد بما

شاء الله، فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه به زيد بن خالد عن النبي - عليه السلام - هذا مما لا يستقيم ولا يصح. وقال البيهقي في كتابه "المعرفة": هذا منه توهم -أراد أن الطحاوي وهم فيه- فلا ينبغي لأهل العلم أن يطعنوا في الأخبار بالتوهم، فقد بقي زيد بن خالد إلى سنة ثمان وسبعين من الهجرة، ومات مروان بن الحكم سنة خمس وستين، فيجوز أن يكون عروة لم يسمعه من أحد حين سأله مروان، ثم سمعه من بسرة، ثم سمعه بعد ذلك من زيد بن خالد الجهني، فرجع إلى روايتهما وقلد حديثهما. قلت: ليس هذا وهما من الطحاوي، بل الذي ينسبه إلى الوهم هو الذي وهم فيه، وكيف وهو إمام في التاريخ أيضًا؟ إذا قالت حذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حذامِ. وقد اختلف العلماء من أهل التاريخ في وفاة زيد بن خالد الجهني، وفي مكان موته على ما نقله ابن الأثير في كتاب "معرفة الصحابة" فقال: توفي بالمدينة، وقيل: بمصر، وقيل: بالكوفة، وكانت وفاته سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمس وثمانين، وقيل: مات سنة خمسين وهو ابن ثمان وسبعن سنة، وقيل: توفي في آخر أيام معاوية، وقيل: سنة اثنتين وسبعين وهو ابن ثمانين سنة والله أعلم. ويمكن أن يكون الصحيح في تاريخ وفاته سنة خمسين، ويكون قد ثبت ذلك عند الطحاوي، فيكون تاريخ وفاته متقدما على تاريخ وفاة مروان بخمسة عشرة سنة، وإنما وقف البيهقي على قول من قال بأن وفاة زيد بن خالد سنة ثمان وسبعين؛ ليتوسل به إلى الطعن علي الطحاوي، وليس هذا دأب أهل الإنصاف، ولا من قَصْدُهُ إظهار الصواب. ثم إن الطحاوي أخرج حديث زيد بن خالد من طريقين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة ... إلى آخره.

وقد ذكرنا فيما مضى أن أحمد والبزار والطبراني قد أخرجوه (¬1). الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عَيَّاش -بتشديد الياء آخر الحروف وفيه آخره شين معجمة- بن الوليد الرقَّام القطان أحد مشايخ البخاري، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي القرشي البصري، عن محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة ... إلى آخره. قوله: "وأَخْلِق به أن يكون غلطا" من صيغ التعجب، وقد عرف أن الموضوع له صيغتان: ما أفعله، وأفعل به. فالصيغة الثانية لفظها لفظ الأمر، ومعناها خبر، كقوله: تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} (¬2) أي ما أسمعهم وأبصرهم، وحكي عن الزجاج أنه أمر حقيقة، وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشري وابن خروف (¬3)، ثم معنى "أَخْلِقْ به" أي أجعله جديرا بأن يكون غلطا، من قولهم: فلان خليق بكذا أي جدير به، وقد خَلُقَ لذلك -بالضم- أي لاق له. ص: فإن احتج في ذلك بما حدثنا ربيع الجيزي، قال: نا إسماعيل بن أبي أويس، قال: نا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي، عن عمر بن شريح، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. حدثنا ابن أبي داود قال: نا الفروي إسحاق بن محمَّد قال: نا إبراهيم ... فذكر مثله بإسناده. قيل له: أنتم لا تسوغون خصمكم أن يحتج عليكم بمثل عمر بن سريح، فكيف تحتجون به أنتم عليه؟ ثم ذلك أيضًا في نفسه منكر؛ لأن عروة لما أخبره مروان عن بسرة بما أخبره به من ذلك، لم يكن عرفه قبل ذلك لا عن عائشة ولا عن غيرها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سورة مريم، آية: [38]. (¬3) هو إمام النحو، أبو الحسن علي بن محمَّد بن علي بن خروف الإشبيلي مؤلف "شرح سيبويه" وغيره، مات سنة (610 هـ) وقيل: (609 هـ)، انظر "سير أعلام النبلاء" (22/ 26).

ش: أي فإن احتج الخصم في انتقاض الوضوء من مس الذكر بحديث عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - عليه السلام - يقال: في جوابه وجهان أيضًا: الأول: إنكم لا تسوّغون -أي لا تجوزون- لخصمكم أن يحتج عليكم بمثل (عمرو بن شريج) (¬1) الحضرمي فكيف أنتم تحتجون به على خصمكم وهو قلب الموضوع كما ذكرنا؟ فإن قلت: لِمَ عيّن الطحاوي (عمر بن سريج) (1) وفي إسناده غيره من الضعفاء كإسماعيل بن أبي أويس، فإن يحيى ضعفه وبالغ فيه النسائي وإن كان قد روى عنه الشيخان، وإبراهيم بن إسماعيل قال البخاري فيه: منكر الحديث. وإسحاق بن محمَّد الفروي، قال النسائي فيه: ليس بثقة. وضعفه أبو داود جدًّا وكذا الدارقطني؟ قلت: لأن الخصم معترف بضعف (عمر بن شريج) (1) فلذلك عينه. الثاني: أن هذا الحديث في نفسه منكر؛ لأن عروة بن الزبير لما أخبره مروان بن الحكم عن بسرة لم يكن عروة عرف هذا الحكم قبل هذا، لا عن عائشة ولا عن غيرها، فلو كان سمعه من عائشة قبل هذا لما أنكر على مروان خبره عن بسرة. ثم إنه أخرج هذا الحديث عن طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن إبراهيم ابن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني، عن (عمر بن شريج) (1) الحضرمي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي بعض الطبعات من "شرح معاني الآثار". ووقع في بعض الطرق "عُمر بن شريح" وكل ذلك خطأ، والصواب: "عمر بن سريج" بالسين المهملة وآخره جيم، كما صرح بذلك الذهبي في "الميزان" (5/ 246)، والحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (4/ 311) وقالا: هو عمر بن سعيد بن سريج -بسين مهملة لا بالشين المعجمة- نسبة إلى الجد، وكذا ضبطه ابن ماكولا في "الإكمال" (4/ 273).

والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن إسحاق بن محمَّد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة الفروي المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل ... إلى آخره. والإسنادان كلاهما ضعيف، والفَرَوي -بفتح الفاء وسكون الراء- نسبة إلى جده أبي فروة، لا يقال: إنه روي عن عائشة من غير هذا الطريق، رواه الدارقطني؛ لأنا قد قلنا: إن في سنده كذابا، مع أنه روي عنها ما يخالف هذه الرواية، وقد بيناه فيما مضى. ص: فإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان قال: نا دحيم بن اليتيم، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله، عن هاشم بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنها - عن رسول الله - عليه السلام - بذاك، قيل لهم: صدقة بن عبد الله هذا عندكم ضعيف فكيف تحتجون به؟! وهاشم بن زيد فليس من أهل العلم الذي يثبت بروايتهم مثل هذا. ش: أي فإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فجوابه أنه ضعيف، معلول بصدقة بن عبد الله السمين أبي معاوية الدمشقي، قال أحمد: ضعيف ليس حديثه يسوى شيئًا، أحاديثه مناكير. وكذا ضعفه ابن معين والبخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. ومعلول أيضًا بهاشم بن زيد الدمشقي، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. ودحيم -بضم الدال وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف- لقب عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي يعرف بدحيم بن اليتيم مولى آل عثمان بن عفان، قاضي الأردن وفلسطين، أحد مشايخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه. وعمرو بن أبي سلمة التنيسي، أبو حفص الدمشقي، روى له الجماعة.

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): بهذا الطريق وقال: نا عمر بن الخطاب، نا عمرو بن أبي سلمة، نا صدقة بن عبد الله، عن هاشم بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - عليه السلام - قال: "من مس فرجه فليتوضأ". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): وفي إسناده العلاء بن سليمان وهو أيضًا ضعيف جدًّا. ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: نا عمرو بن خالد، قال: نا العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من مس فرجه فليتوضأ". قيل لهم: كيف تحتجون بالعلاء هذا وهو عندكم ضعيف؟! ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبو إليه بحديث سالم عن أبيه، فجوابه أنه معلول بالعلاء بن سليمان الرقي، ذكره ابن الجوزي في الضعفاء وقال: قال الأسدي: ساقط لا تحل الرواية عنه. وعمرو بن خالد بن فروخ التميمي الحنظلي، أحد مشايخ البخاري وغيره، قال العجلي: مصري ثقة ثبت. وأخرجه الطبراني بهذا الطريق كما ذكرناه آنفا (¬3). ص: وإن احتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا يونس، قال: نا معن بن عيسى القزاز، عن يزيد بن عبد الملك، عن المقبري، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من أفضى بيده إلى ذكره ليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ". قيل له: يزيد هذا عندكم منكر الحديث، لا يسوى حديثه عندكم شيئًا، فكيف تحتجون به؟!. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في "مجمع "الزوائد" (1/ 245) وقال: رواه البزار، والطبراني في "الكبير"، وفي سند "الكبير" العلاء بن سليمان، وهو ضعيف جدًّا، وفي سند البزار هاشم بن زيد وهو ضعيف جدًا. (¬2) "المعجم الكبير" (12/ 281 رقم 13118) بلفظ: "من مس ذكره فليتوضأ". (¬3) سبق تخريجه.

ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة هذا فجوابه أنه ضعيف معلول بيزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي المدني، قال أحمد ويحيى: ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث ولم يخرج له غير ابن ماجه حديثا واحدا في السقط. والمقبري هو سعيد بن أبي سعيد، ونسبته إلى مقبرة وكان ساكنا فيها. وقد ذكرنا أن ابن حبان أخرجه في "صحيحه" (¬1): عن يزيد بن عبد الملك. والحاكم في "مستدركه" (1) وصححه، وأنهما قد تخارفا جدّا في تصحيحه (¬2). ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد، قال: نا دحيم، قال: نا عبد الله، عن النبي - عليه السلام - مثل حديث يونس، عن معن، قيل لهم: هذا الحديث كل من رواه عن ابن أبي ذئب من الحفاظ يقطعه ويوقفه على محمد بن عبد الرحمن، فمن ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر، قال: نا ابن أبي ذئب، عن عقبة، عن محمَّد ابن عبد الرحمن، عن النبي - عليه السلام - بذلك. فهؤلاء الحفاظ يوقفون هذا الحديث على محمَّد بن عبد الرحمن، ويخالفون فيه ابن نافع، وهو عندكم حجة عليه وليس هو بحجة عليهم، فكيف تحتجون بحديث منقطع في هذا وأنتم لا تثبتون الحديث المنقطع. ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث جابر بن عبد الله، فجوابه أنه منقطع موقوف على محمَّد بن عبد الرحمن، والمنقطع ليس بحجة عندهم، فكيف يحتجون به؟! والدليل على ذلك أن الحفاظ الثقات يوقفونه على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) قد بينا قبل ذلك عند تخريجه أن ابن حبان أخرجه من طريق نافع بن أبي نعيم مع يزيد بن عبد الملك، وقال: احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك ... إلخ، وكذا أخرجه الحاكم من طريق نافع وصححه واستشهد بحديث يزيد، فبان بذلك أنهما لم يتخارفا؛ فرحمهما الله.

محمَّد بن عبد الرحمن ويخالفون فيه عبد الله بن نافع الصائغ الذي يرفعه، وكذا قال الشافعي: سمعت جماعة من الحفاظ غير ابن نافع يروونه ولا يذكرون فيه جابرا. وقال البخاري (¬1): عقبة، عن ابن ثوبان، روى عنه ابن أبي ذئب مرسل عن النبي - عليه السلام - في مس الذكر. قلت: فعلى هذا يئول الحديث إلى الإرسال، وهم لا يحتجون بالمرسل؛ فإذن سقط احتجاجهم بحديث جابر - رضي الله عنه - وقد شنع [البيهقي] (¬2) في هذا المقام على هذا الطحاوي بقوله: "ثم أخذ الطحاوي في رواية أحاديث لم يعتمد عليها في الوضوء من مس الذكر، وجعل يضعفها مرة بضعف الرواة ومرة بالانقطاع، وأن من أوجب الوضوء منه لا يقول بالمنقطع، ونحن إنما لا نقول بالمنقطع إذا كان منفردا، فإذا انضم إليه غيره أو انضم إليه قول بعض الصحابة أو ما يتأكد به المراسيل، ولم يعارضه ما هو أقوى منه؛ فإنا نقول به. انتهى. قلت: هذا تشنيع من غير وجه؛ لأن الطحاوي ما ضعف حديثا قد صح فيه، ولا جعل الموصول منقطعا، وإنما ذكره على وجه يرضى به الخصم، وأراد بهذا أن هذه الأحاديث التي احتج بها الخصم لا تصلح للاحتجاج، والعجب من البيهقي أنه يصرح بأن هذه الأحاديث لا يعتمد عليها في الوضوء من مس الذكر ثم يرجع ويشنع على الطحاوي بأنه يضعفها مرة بضعف الرواية ومرة بالانقطاع! ورجال المرفوع ثقات كلهم، ودحيم قد مض ذكره آنفا. وعبد الله بن نافع الصائغ المخزومي القرشي أبو محمَّد المدني، روى له الجماعة إلاَّ البخاري. وابن أبي ذئب اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "تاريخ البخاري الكبير" (6/ 435) وزاد بعده: وقال بعضهم: عن جابر - رضي الله عنه -، ولا يصح. (¬2) في "الأصل، ك": الطحاوي، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب ما أثبتناه، كما سيتضح في آخر التعقيب من المؤلف بقوله: والعجب من البيهقي .. الخ.

وعقبة هو ابن عبد الرحمن بن أبي معمر، حجازي، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه (¬1). ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي أبو عبد الله المدني، روى له الجماعة. ورجال الموقوف أيضًا ثقات وأبو بكرة بكَّار القاضي. وأبو عامر: عبد الملك ابن عمرو العقدي، تكرر ذكره. ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ويونس وربيع الجيزي، قالوا: ثنا عبد الله بن يوسف، عن الهيثم بن حميد، قال: أخبرني العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة زوج النبي - عليه السلام - قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أبو مسهر، عن الهيثم ... فذكر بإسناده مثله. قيل لهم: هذا حديث منقطع أيضًا؛ لأن مكحولا لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان شيئا. حدثنا ابن أبي داود قال: سمعت أبا مسهر يقول ذلك، وأنتم تحتجون في مثل هذا بقول أبي مسهر. ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث أم حبيبة - رضي الله عنها - فجوابه: أنه أيضًا منقطع؛ وذلك لأن مكحولا لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان شيئًا، قاله أبو مسهر. روى الطحاوي عن ابن أبي داود، عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي أنه كان يقول ذلك، يعني بأن مكحولا لم يسمع من عنبسة، وهم يحتجون بأبي مسهر، وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين، قال أبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، ولا أدري أدركه أم لا. ¬

_ (¬1) الأولى أن يقال: سكت عليه، أو لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا؛ لأن "سكت عنه" من ألفاظ الجرح الشديد.

فإن قلت: قال البيهقي بعد أن ذكر هذا الحديث: بلغني عن الترمذي، سألت أبا زرعة عن هذا الحديث فاستحسنه ورأيته كأنه يعدّه محفوظا. قلت: وقال الترمذي في كتابه: قال محمَّد -يعني البخاري-: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، وروى مكحول عن رجل عن عنبسة غير هذا الحديث. وكأنه لم ير هذا الحديث صحيحا. وفي "الإِمام" عن ابن معين قال: هذا أضعف أحاديث هذا الباب. وأخرج النسائي (¬1): حديثا آخر من رواية مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، ثم قال: مكحول لم يسمع من عنبسة شيئًا. وأخرج الطحاوي حديث أم حبيبة هذا من طريقين: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو، ويونس بن عبد الأعلى، وربيع بن سليمان الجيزي كلهم عن عبد الله بن يوسف التنيسي -أحد مشايخ البخاري- عن الهيثم بن حميد الغساني الدمشقي، عن العلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي، عن مكحول الشامي، عن عنبسة بن أبي سفيان صخر ابن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي عن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان زوج النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن ماجه (¬2): نحوه، وقد ذكرناه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي مسهر، عن الهيثم بن [حميد] (¬3) إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬4) نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 265 رقم 1815) ولفظه "من ركع أربع ركعات قبل الظهر .. " الخ. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في "الأصل، ك" عدي، وهو سبق قلم من المؤلف: وما أثبتناه هو الصواب، كما في المتن، و"معجم الطبراني الكبير". (¬4) "المعجم الكبير" (23/ 234 رقم 447).

ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: نا معن بن عيسى، عن عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن بسرة سألت النبي - عليه السلام - فقالت: المرأة تضرب بيدها فتصيب فرجها. قال: تتوضأ يا بسرة". حدثنا ابن أبي داود، قال: نا الخطاب بن عثمان الفوزي، قال: نا بقية، عن الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". قيل لهم: أنتم تزعمون أن عمرو بن شعيب لم يسمع من أبيه شيئًا، وإنما حديثه عنه عن صحيفة، فهذا على قولكم منقطع، والمنقطع لا تجب به حجة عندكم. ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى، فيما ذهبوا إليه بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن بسرة، عن النبي - عليه السلام - وبحديثه عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام -؛ فجوابه أن يقال: إنكم تزعمون أن عمرو بن شعيب لم يسمع من أبيه شيئًا وإنما حديثه عنه عن صحيفة؛ فيكون منقطعا، والمنقطع لا تقوم به حجة عندكم، وقال ابن المديني: عن يحيى بن سعيد: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عندنا واهٍ. وقال عباس الدوري: عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده فهو كتاب، هو عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يقول: أي عن جدي، فمن ها هنا جاء ضعفه. أو نحو هذا من الكلام. وقال ابن عُدي: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة إلاَّ إذا روى عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - يكون مرسلًا. لأن جده عنده: محمَّد بن عبد الله بن عمرو لا صحبة له، وتردد ابن حبان في عمرو وذكره في الضعفاء فقال: إذا روى عن طاوس وابن المسيب وغيرهما من الثقات غير أبيه فهو ثقة يجوز الاحتجاج به، وإذا روى عن أبيه عن جده ففيه مناكير كثيرة فلا يجوز

الاحتجاج بذلك، قال: فإذا روى عن أبيه عن جده؛ فإن شعيبا لم يلق عبد الله، فيكون خبره منقطعا. وإن أراد بحده الأدنى فهو محمَّد لا صحبة له فيكون مرسلًا. وقال الحافظ المزِّي: عمرو بن شعيب على ثلاثة أوجه: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، فعمرو له ثلاثة أجداد: محمَّد، وعبد الله، وعمرو بن العاص. محمَّد تابعي، وعبد الله وعمرو صحابيان، فإن كان المراد بجده محمدا فالحديث مرسل لأنه تابعي، وإن كان المراد به عَمرا فالحديث منقطع؛ لأن شعيبا لم يدرك عمرا، وإن كان المراد به عبد الله فنحتاج إلى معرفة سماع شعيب من عبد الله. فإن قيل: قال البخاري في تاريخه: عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع أباه وسعيد بن المسيب وطاوسا. فكيف يقول الطحاوي وأنتم تزعمون أن عمرو بن شعيب لم يسمع من أبيه شيئًا؟ ولهذا شنع البيهقي في "المعرفة" على الطحاوي بسبب هذا الكلام. وقال: الخلاف في سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، ثم قال: وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه، وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. قلت: الطحاوي نفسه قائل بأن عمرو بن شعيب سمع من أبيه؛ ولهذا يحتج به في كثير من المواضع، وإنما ذكر ما ذكره ناقلا عن بعض طائفة من الخصوم أنهم قالوا: إنه لم يسمع من أبيه شيئًا، وأراد به إلزامهم بذلك؛ لأنه إذا لم يكن سمع من أبيه يكون حديثه منقطعا، فكيف يجوز الاحتجاج به مع دعواهم بذلك؟! فسقط بذلك تشنيع البيهقي أيضًا. فإن قلت: إذا كان الطحاوي يحتج بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده فما باله لم يعمل بحديثه هذا؟

قلت: لأنه قد عارضه حديث طلق بن علي، فلم يكن ليعمل به لتأخر حديث طلق عنه فيثبت بذلك انتساخ أحاديث انتقاض الوضوء من مس الفرج. فإن قيل: حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في هذا الباب ناسخ لحديث طلق بن علي؛ لأن طلقا قدم على النبي - عليه السلام - في ابتداء الهجرة والمسجد على عرش، وأبو هريرة أسلم سنة ست من الهجرة فكان حديثه متأخرا، والأخذ بآخر الأمرين واجب لأنه ناسخ، والطبراني أيضًا مال إلى أن حديث طلق منسوخ. قلت: روى أبو داود (¬1): عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "قدمنا على نبي الله - عليه السلام - فجاءه رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: هل [هو] (¬2) إلاَّ مضغة منه أو بضعة منه". ففي قوله: "ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ" دلالة على أنه كان بلغه أن النبي - عليه السلام - شَرَّعَ فيه الوضوء، فأراد أن يستيقن ذلك، وإلَّا فالمستقر عندهم أن الأحداث إنما كانت من الخارج النجس، وإلَّا فالعقل لا يهدي إلى أن مس الذكر يناسب نقض الوضوء، فعلى هذا يكون حديث طلق هو آخر الأمرين، ويكون أبو هريرة قد سمعه من بعض الصحابة ثم أرسله. وجواب آخر أن دعوى النسخ إنما تصح بعد ثبوت صحة الحديث، ونحن لا نُسَلِّم صحة حديث أبي هريرة؛ فافهم. ص: فقد ثبت فساد هذه الآثار كلها التي يحتج بها من يذهب إلى إيجاب الوضوء من مس الفرج. ش: أي إذا علم ما ذكرنا، فقد ثبت فساد هذا الأحاديث التي سلفت في هذا الباب التي يحتج بها من يذهب إلى إيجاب الوضوء من مس الفرج، وذلك لكون بعضها منكرا، وبعضها مضطربا، وبعضها ضعيفا معلولا، وبعضها منقطعا، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 46 رقم 182). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

وبعضها موقوفًا على ما بُيِّنَت مستقصاة مشروحة، وفي ذلك نقل شمس الأئمة السرخسي عن يحيى بن معين أنه قال: ثلاث لا يصح فيهن حديث، منها: انتقاض الوضوء من مس الفرج. ص: وقد رويت آثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخالف ذلك، فمنها: ما حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن محمَّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه: "أنه سأل النبي - عليه السلام - أفي مس الذكر وضوء؟ قال: لا". ش: أي قد رويت أحاديث عن رسول الله - عليه السلام - تخالف ما روي من إيجاب الوضوء من مس الفرج، ولما ذكر ما يحتج به أهل المقالة الأولى من الأحاديث وأجاب عنها، شرع يذكر ما يحتج به أهل المقالة الثانية، فمن جملة حججهم: حديث قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن جابر بن سيار اليمامي الأعمى -فيه مقال- عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي بن المنذر الحنفي اليمامي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا علي بن محمَّد، نا وكيع، نا محمد بن جابر، قال: سمعت قيس بن طلق الحنفي، عن أبيه قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - سئل عن مس الذكر، فقال: ليس فيه وضوء، إنما هو منك". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن موسى بن داود، عن محمَّد بن جابر ... إلى آخره نحوه. واعلم أن حديث طلق صحيح وإن كان هذا الطريق فيه مقال؛ لأنه روي من غير وجه، وقال أبو داود: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام - وبعض التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك، وهذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 163 رقم 483). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 23 رقم 16335).

وقال ابن حزم في "المحلى" بعد أن ذكر حديث طَلق بن علي قال عَليٌّ: وهذا خبر صحيح. ولكن ادعى أنه منسوخ كما ادعى الطبراني والبيهقي وصاحب "المغني" وهذه الدعوى غير صحيحة، وقد بينا فسادها عن قريب. فإن قيل: قد ذكر البيهقي عن ابن معين أنه قال: قد أكثر الناس في قيس بن طلق ولا يحتج بحديثه. قلت: قد ذكر البيهقي ذلك بسند فيه محمَّد بن الحسن النقاش المفسّر، وهو من المتهمين بالكذب. وقال البرقاني: كل حديثه مناكير، وليس في تفسيره حديث صحيح. وروى النقاش كلام ابن معين هذا عن عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، وعبد الله هذا قال فيه ابن عدي: كان متهما في روايته عن قوم أنه لم يلحقهم. وقد ذكر ابن أبي حاتم أن ابن معين وثق قيسا بخلاف ما ذُكِرَ عنه في هذا السند الساقط، وصحح حديثه هذا ابن حبان وابن حزم كما ذكرناه. وذكر ابن منده في كتابه: أن عمرو بن علي الفلّاس قال: حديث قيس عندنا أثبت من حديث بسرة. فإن قيل: ذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال: سألنا عن قيس فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا فيه قبول خبره. وقد حكى الدارقطني أيضًا في "سننه" (¬1): عن ابن أبي حاتم أنه سأل أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة. ووهياه ولم يثبتاه. قلت: هو معروف روى عنه تسعة أنفس ذكرهم صاحب الكمال وهم: عبد الله ابن بدر، ومحمد بن جابر اليمامي، وعبد الله بن النعيمان السحيمي، وعجيبة بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 149 رقم 15).

عبد الحميد بن طلق، وابنه هوذة بن قيس وأيوب بن عتبة اليمامي، وموسى بن عمير اليمامي، وسراج بن عقبة، وعيسى بن خثيم، ثم قال عبد الغني بعد ذكر هؤلاء: قال يحيى بن معين وأحمد بن عبد الله: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في "المستدرك" وروى له أصحاب السنن الأربعة، وأخرج الترمذي من طريق ملازم وقيس هذا حديث "لا وتران في ليلة" وحسنه، وقال عبد الحق: وغير الترمذي يصححه. فإن قيل: قد روى حديث بسرة جماعة من الصحابة وكثرة الرواية مؤثرة في الترجيح، وحديث طلق بن علي لا يحفظ من طريق يوازي هذه الطرق وهو حديث فرد في هذا الباب. قلت: كما وجد اختلاف الرواة في حديثها فكذلك وجد في حديث طلق نحو ذلك، ثم إذا وجد للحديث طريق واحد سالم من شوائب الطعن تعين المصير إليه، ولا عبرة باختلاف الباقين، وقد يقال: إن كثرة الرواة لا أثر لها في باب الترجيحات؛ لأن طريق كل واحد منها غلبة الظن؛ فصار كشهادة شاهدين مع شهادة أربعة. وقد يقال: إن بسرة غير مشهورة، لاختلاف الرواة في نسبها؛ لأن بعضهم يقول: هي كنانية، وبعضهم يقول: هي أسدية، ولو سلم عدم جهالتها فليست توازي طلقا في شهرته وكثرة روايته وطول صحبته، وبالجملة فحديث النساء لا يوازي حديث الرجال. فإن قيل: قد أسند البيهقي عن طلق أنه قدم على النبي - عليه السلام - وهو يبني المسجد قلت: استدل بذلك على أن حديثه متقدم ليثبت كونه منسوخا، وفي سنده هذا محمَّد بن جابر وهو ضعيف وقد ضعفه هو أيضًا في بابه، وأيضًا فقد اختلف عليه، فرواه البيهقي عنه عن قيس بن طلق عن أبيه، وأخرجه الحازمي في الناسخ والمنسوخ عنه عن عبد الله بن بدر عن طلق. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا مسدد، قال: نا محمَّد بن جابر ... فذكر بإسناده نحوه.

ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن محمَّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا إسحاق الدبري [عن عبد الرزاق] (¬2) عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أرأيت الرجل يتوضأ، ثم يهوي فيمس ذكره أو أَرْنَبَتَهُ؟ قال: هو منك". ص: حدثنا محمَّد بن العباس اللؤلؤي، قال: نا أسد، قال: نا أيوب بن عتبة (ح). وحدثنا أبو بشر الرقي، قال: نا حجاج بن محمَّد، قال: نا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذان طريقان آخران: أحدهما: عن محمَّد بن العباس اللؤلؤي أحد أصحاب أبي حنيفة، عن أسد بن موسى. عن أيوب بن عتبة اليمامي، فيه مقال كبير، وقال أبو زرعة: ما حدث باليمامة فهو مستقيم. وقال الدارقطني مرة: يعتبر به شيخ. وقال أبو داود: كان صحيح الكتاب تقادم موته. وقال العجلي: يكتب حديثه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا حماد بن خالد، نا أيوب بن عتبة، عن قيس ابن طلق، عن أبيه قال: "سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره؟ قال: إنما هو بضعة منك- أو من جسدك". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 330 رقم 8233). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "معجم الطبراني الكبير". (¬3) "مسند أحمد" (4/ 22 رقم 16329).

والآخر: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي -وثقه ابن يونس- عن حجاج بن محمَّد المصيصي، عن أيوب بن عتبة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا علي بن عبد العزيز، نا أحمد بن يونس، نا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "سأل رجل رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا مس أحدنا ذكره، يتوضأ؟ قال: لا، إنما هو بضعة منك". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا يوسف بن عدي، قال: نا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر السحيمي، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريق آخر وهو صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف ابن عدي بن زريق -أحد مشايخ البخاري- عن ملازم بن عمرو بن عبد الله الحنفي السُحَيْمي اليمامي، وثقه ابن حبان وغيره وروى له الأربعة، عن عبد الله بن بدر بن عميرة الحنفي السُحَيْمي اليمامي، جد ملازم بن عمرو لأبيه -وقيل: لأمه- وثقه ابن معين وابن حبان، وروى له الأربعة. والسحيمي نسبة إلى سُحيم -بضم السين وفتح الحاء المهملتين- بن مرة بن دول بن حنيفة بطن من بني حنيفة. وأخرجه الثلاثة. فأبو داود (¬2): عن مسدد، عن ملازم بن عمرو الحنفي، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "قدمنا على نبي الله - عليه السلام - فجاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: وهل هو [إلَّا] (¬3) مضغة منه- أو بضعة منه؟! ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 334 رقم 8249). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 46 رقم 182). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

والترمذي (¬1): عن هنّاد، عن ملازم بن عمرو ... وإلى آخره. والنسائي (¬2) أيضًا: عن هناد بن السري، عن ملازم بن عمرو ... إلى آخره، ولفظه: "خرجنا وفدا حتى قدمنا على نبي الله - عليه السلام - فبايعناه وصلينا معه، فلما قضى الصلاة، جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؟ قال: وهل هو إلاَّ مضغة منك- أو بضعة منك؟! ". ص: حدثنا أبو أميّة، قال: نا الأسود بن عامر وخلف بن الوليد وأحمد بن يونس وسعيد بن سليمان، عن أيوب، عن قيس، أنه حدثه عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذا طريق أخر رجاله كلهم ثقات ما خلا أيوب؛ فإن فيه مقالا مع أن بعضهم وثقوه. وأبو أُميَّة هو محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. وخلف بن الوليد الجوهري البغدادي نزيل مكة، وثقة أبو زرعة. وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس وينسب إلى جده، أحد مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود. وسعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بسعدويه. وأخرجه أحمد (¬3) وأبو يعلى في مسنديهما. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، نا ملازم، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أنه سأله رجل فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ فقال النبي - عليه السلام -: هل هو إلاَّ بضعة منك أو مضغة منك؟!. ش: هذا طريق أخر وهو صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 131 رقم 85). (¬2) "المجتبى" (1/ 101 رقم 165). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 22 رقم 16329) من طريق حماد بن خالد، عن أيوب.

ابن المنهال الأنماطي، عن ملازم ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا ابن قتيبة بعسقلان، قال: نا محمَّد بن أبي السري، نا ملازم بن عمرو، حدثني عبد الله بن بدر، قال: حدثني قيس بن طلق، قال: حدثني أبي قال: "كنا عند النبي - عليه السلام - فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يكون في الصلاة فيحتك فتصيب يده ذكره. فقال رسول الله - عليه السلام -: وهل هو إلاَّ بضعة أومضغة منك"؟! وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): نا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، نا محمَّد بن أزياد، (¬3) بن فروة البلدي أبو روح، نا ملازم بن عمرو ... إلى آخره. قوله: "بضعة" بفتح الباء وكسرها، وهي القطعة من اللحم، والمعنى أنه جزء منه كما في الحديث: "فاطمة بضعة مني" (¬4) أي جزء مني كما أن القطعة من اللحم. قوله: "أو مُضغة" شك من الراوي، وهي بضم الميم القطعة من اللحم قدر ما يمضغ، وجمعها مُضَغ. ص: فهذا حديث ملازم، مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا في متنه، فهو أولى عندنا مما رويناه أولا من الآثار المضطربة في أسانيدها، ولقد حدثني ابن أبي عمران، قال: سمعت عباس بن عبد العظيم العنبري، يقول: سمعت علي بن المديني، يقول: حديث ملازم هذا أحسن من حديث بسرة، فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق الإسناد واستقامته؛ فحديث ملازم هذا أحسن إسنادا، وإن كان يؤخذ من طريق النظر؛ فإنا رأيناهم لا يختلفون أنَّ من مس ذكره بظهر كفه أو بذراعه لم يجب في ذلك وضوء، فالنظر أن يكون مسه إياه ببطن كفه كذلك، ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (3/ 403 رقم 1120). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 149 رقم 17). (¬3) في "الأصل": زيادة، والمثبت من "سنن الدارقطني"، و"ثقات ابن حبان" (9/ 84). (¬4) متفق عليه من حديث المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - البخاري (3/ 1361 رقم 3510)، ومسلم (4/ 1902 رقم 2429).

وقد رأينا لو ماسه بفخذه لم يجب عليه بذلك وضوء، والفخذ عورة، فإذا كانت مماسته إياه بالعورة لا توجب عليه وضوءا، فمماسته إياه بغير العورة أحرى ألَّا توجب عليه وضوءا. ش: الذي قاله ظاهر، وبينته على دعواه صادقة [وهذا] (¬1) الإِمام المبّرز في هذا الشأن صاحب التصانيف الواسعة، الذي هو أكبر مشايخ البخاري وأبي داود وأحمد بن حنبل وأبي يعلى الموصلي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من أكابر أئمة الشأن، وهو الحافظ علي بن المديني، روى عنه مقالته هذه عباس بن عبد العظيم العنبري الحافظ شيخ الجماعة، وروى عنه شيخ الحنفية شيخ الطحاوي أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي. فإن قيل: قال البيهقي في "المعرفة" (¬2): ورواه عكرمة بن عمار عن قيس بن طلق مرسلًا. ورواه بإسناده إلى أن قال: نا عكرمة بن عمار اليمامي، عن قيس بن طلق: "أن طلقا سأل النبي - عليه السلام - عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة. فقال: لا بأس به، إنما هو كبعض جسده" وهذا منقطع لأن قيسا لم يشهد سؤال طلق، وعكرمة بن عمار أقوى مَنْ رواه عن قيس بن طلق، وإن كان هو أيضًا مختلف في عدالته، فاحتج به مسلم بن الحجاج في غير هذا الحديث، وتركه البخاري، وضعفه يحيى بن سعيد القطان في آخرين. وقال في "سننه الكبير" (¬3): بإسناده إلى رجاء بن مرجا الحافظ قال: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، فقال يحيى بن معين: يتوضأ منه. وتقلّد علي بن المديني قول الكوفيين وقال به، واحتج يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان، واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، وقال ليحيى: كيف تتقلد إسناد بسرة ومروان أرسل شرطيا ¬

_ (¬1) في "الأصل": وهو، وما أثبتناه هو لأليق بالسياق. (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 233). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 136 رقم 635).

حتى رد جوابها إليه؟! فقال يحيى: ثم لم يقنع ذلك عروة حتى أتى بسرة فسألها وشافهته بالحديث. ثم قال يحيى: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق وأنه لا يحتج بحديثه. فقال أحمد بن حنبل: كلا الأمرين على ما قلتما. فقال يحيى: مالك، عن نافع، عن ابن عمر "يتوضأ من مس الذكر" فقال علي: كان ابن مسعود يقول: "لا يتوضأ منه وإنما هو بضعة من جسدك". وقال يحيى: هذا عن من؟ فقال: عن سفيان، عن أبي قيس، عن هذيل، عن عبد الله، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر واختلفا فابن مسعود أولى بأن يتبع. فقال أحمد بن حنبل: نعم، ولكن أبو قيس الأودي لا يحتج بحديثه. فقال علي: حدثني أبو نعيم، نا مسعر، عن عمير بن سعيد، عن عمار قال: "ما أبالي مسسته أو أنفي". فقال يحيى: بين عمير بن سعيد وعمار بن ياسر مفازة. ثم أسند البيهقي (¬1): أن ابن جريج والثوري تذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه. وقال سفيان: لا يتوضأ منه. فقال سفيان: أرأيت لو أن رجلًا أمسك بيده منيّا ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده. فقال: أيهما أكثر المني أو مس الذكر؟ فقال: ما ألقاها عل لسانك إلاَّ الشيطان. قال: وإنما أراد ابن جريج أن السُّنة لا تعارض بالقياس، وذكر الشافعي في رواية الزعفراني عنه أن الذي قال من الصحابة لا وضوء فيه فإنما قال بالرأي، ومن أوجب الوضوء فيه فلا يوجبه إلاَّ بالاتباع. انتهى كلامه. قلت: لا يلزم من إرسال عكرمة بن عمار عدم صحة الحديث من غيره، وقوله: عكرمة (بن) (¬2) عمار أقوى مَنْ رواه عن قيس. غير صحيح؛ لأن عكرمة أيضًا مختلف فيه، ولهذا لم يخرج له البخاري إلاَّ مستشهدا، وضعفه يحيى القطان في أحاديث عن يحيى بن أبي كثير، وقَدَّم مُلازِمَ بن عمرو عليه وأما حكايته رجاء بن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) تكررت في "الأصل".

مرجا ففي إسناده عبد الله السرخسي وكان متهما. قوله: "ولكن أبو قيس الأودي لا يحتج بحدثيه" يعارضه قوله: في باب "لا نكاح إلَّا بولي": مختلف في عدالته. انتهى كلامه. وأبو قيس هذا وثقه ابن معين، وقال العجلي: ثقه ثبت. واحتج به البخاري، وأخرج له ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه". وقوله: "بين عمير وعمار مفازة" يعارضه ما ذكره ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا ابن فضيل ووكيع، عن مسعر، عن عمير بن سعيد، قال: "كنت جالسا في مجلس فيه عمار بن ياسر، فسئل عن مس الذكر في الصلاة، فقال: ما هو إلاَّ بضعة منك"، وهذا سند صحيح، وفيه تصريح بأنه لا مفازة بينهما. وقوله: "عمار وابن عمر استويا"، ليس كذلك؛ لأن مع عمار ابن مسعود وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - والأسانيد بذلك صحاح كما ذكر ابن عبد البر، وقد ذكر الطحاوي أنه لم يُفْتِ بالوضوء منه من الصحابة غير ابن عمر - رضي الله عنهما - فحينئذ لا نُسَلِّم الاستواء. وقوله: "فإنما قال بالرأي" غير مُسَلَّم؛ لأنه كيف يكون ذلك وقد صح الحديث فيه؟! فافهم. وأما قول الطحاوي: "فإن كان هذا الباب" أي: هذا النوع من الحكم يؤخذ من طريق إسناد الأحاديث من حيث الصحة والاستقامة، فحديث ملازم بن عمرو هذا الذي مضى أحسن إسنادا من أحاديث الخصم، فتكون أولى بالقبول وأحق بالعمل به. وإن كان يؤخذ من طريق النظر والقياس؛ فالقياس يقضي ألَّا ينتقض الوضوء بالمس بباطن الكف، كما لا ينتقض بالمس بظاهره أو بذراعه بالإجماع والجامع أن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1743).

كلا منهما مَسٌّ في موضع مخصوص. وكذا لو مسَّه بفخذه لا ينتقض الوضوء، مع أن الفخذ عورة، فبالأولى ألَّا ينتقض وضوءه بالمس بباطن كفه التي هي ليست بعورة. وتعليل بعض الشافعية المس بباطن الكف بأنه مظنة خروج شيءٌ تعليل فاسد؛ لأنه يلزم منه ألَّا ينتقض الوضوء عند تحققه بعدم الخروج، وكذا في مسّ الدبر، وكذا في مس المرأة فرجها، وكذا في مس ذكر غيره، والله أعلم. ص: فقال الذين ذهبوا إلى إيجاب الوضوء منه: فقد أوجب الوضوء في مماسته بالكف أصحاب النبي - عليه السلام - فذكروا في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، قال: أنبأني الحكم، قال: سمعت مصعب بن سعد بن أبي وقاص يقول: "كنت أمسك المصحف على أبي، فمسِستُ فرجي، فأمرني أن أتوضأ". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة، عن قتادة قال: "كان ابن عمر وابن عباس يقولان في الرجل يَمَسُّ ذكره، قالا: يتوضأ". قال شعبة، فقلت لقتادة: عمَّن هذا؟ فقال: عن عطاء بن أبي رباح. حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أنه رآه صلى صلاة لم يكن يصليها، قال: فقلت له: ما هذه الصلاة؟ قال: إني مسست فرجي، فنسيت أن أتوضأ". حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ... مثله. حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا أبو عوانة، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، قال: "صلينا مع ابن عمر -أو صلى بنا ابن عمر- ثم سار، ثم أناخ بجمله، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنا قد صلينا! فقال: إن أبا عبد الرحمن قد

عرف ذلك؛ ولكني مَسِسْتُ ذكري، قال: فتوضأ وأعاد الصلاة". ش: لما ذكر الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من انتقاض الوضوء بمس الفرج، وأجاب عنها؛ شرع يذكر الأخبار التي وردت من بعض الصحابة موافقة لما ذهبوا إليه ليجيب نهما، فذكر عن ثلاثة من الصحابة، وهم: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمر، - رضي الله عنهم -. أما خبر سعد فأخرجه عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبَة، عن مصعب بن سعد. وهؤلاء كلهم ثقات أئمة أجلاء. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب بن سعد، قال: "كنت أمسك على أبي (في) (¬2) المصحف، فأدخلت يدي هكذا -يعني مَسَّ ذكره- فقال له: توضأ". قوله: "فَمَسِسْتُ" من مَسِسْت الشيء -بالكسر- أَمَسُّه مَسًّا، فهذه اللغة الفصيحة. وحكى أبو عُبيدة: مَسَسْتُ الشيء -بالفتح- أَمُسُّه مَسًّا- فهذه بالضم. وربما قالوا: مِسْتُ الشيء يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها إلى الميم، ومنهم من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة (¬3). قوله: "أن أتوضأ": أي: بأن أتوضأ، "وأَنْ" مصدرية، والتقدير: أمرني بالوضوء. وأما خبر ابن عباس: وفيه ابن عمر أيضًا: فأخرجه عن سليمان بن شعيب، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1731). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "مصنف ابن أبي شيبة". (¬3) انظر "لسان العرب" (مادة: مسس).

عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا شبابة، نا شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن ابن عباس وابن عمر، قالا: "من مَسَّ ذكره توضأ". وأما خبر ابن عمر - رضي الله عنهما -: فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيَينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر ... إلى آخره، وهذا على شرط مسلم. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن شهاب، عن سالم: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - صلى بهم بطريق مكة العصر، ثم ركبنا فسرنا ما قُدِّر أن نسير، ثم أناخ ابن عمر فتوضأ، وصلى العصر وحده. قال سالم: فقلت له: إنك قد صليت لنا صلاة العصر، أفنسيت؟ قال: لم أنس ولكني مَسِسْت ذكري قبل أن أصلي، فلما ذكرت ذلك توضأت فعدت لصلاتي". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (¬3): نا ابن عُليَّة، عن ابن عون، عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا مسَّ فرجه؛ أعاد الوضوء". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح اليِشكري، عن إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي الكوفي، عن مجاهد بن جبر المكي، عن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1736). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 115 رقم 418). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1733).

وهذا أيضًا إسناد صحيح. ص: قيل لهم: أما ما رويتموه عن سعد بن مالك، فإنه قد روى عن مصعب بن سعد، عن أبيه، خلاف ما رواه عنه الحكم. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن مصعب بن سعد، قال: "كنت آخذا على أبي المصحف، فاحتككت فأصبت فرجي، فقال: أصبت فرجك؟ قلت: نعم. فقال: اغمس يدك في التراب. ولم يأمرني أن أتوضأ". وروي عن مصعب أيضًا، أن أباه أمره بغسل يده. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الزبير بن عديّ، عن مصعب بن سعد، مثله. غير أنه قال: "قم فاغسل يدك". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد يجوز أن يكون الوضوء الذي أراده الحكم في حديثه عن مصعب: هو غسل اليد، على ما ما بينه عنه الزبير بن عدي؛ حتى لا تتضاد الروايتان. وقد روي عن سعد من قوله: "إنه لا وضوء في ذلك". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: "سئل سعد عن مسِّ الذكر، فقال: إن كان نجسا فاقطعه، لا بأس به". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: أنا هُشَيم، قال: نا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: "قال رجل لسعد: إنه مسَّ ذكره وهو في الصلاة، فقال: اقطعه، إنما هو بضعة منك". فهذا سعد لما كُشِفَت الروايات عنه، ثبت عنه أنه لا وضوء في مس الذكر.

ش: هذا جواب عما روي عن سعد بن مالك -هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- في وجوب الوضوء من مس الفرج، على ما روى عنه ابنه مصعب بن سعد، وعن غيره: أنَّ سعدا - رضي الله عنه - روي عنه الأمر بالوضوء من ذلك، وروي عنه ترك الوضوء منه، وروي عنه الأمر بغمس اليد في التراب، وروي عنه الأمر بغسل اليد فقط. فمتى تكشف هذه الروايات يثبت عنه أنه لا وضوء في مس الذكر؛ فحينئذ يجوز أن يكون المراد في الوضوء الذي في رواية الحكَم: هو غسل اليد، كما صرح به في رواية الزبير بن عدي؛ فبهذا ينتفي التضاد الذي بين الروايتين، ثم الأخبار التي رويت عنه في ذلك أربعة: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن القرشي الزهري، عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد ابن أبي وقاص المدني، عن مصعب بن سعد ... إلي آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين ما خلا ابن مرزوق؛ فإنه أيضًا ثقة، وثقه الدارقطني وغيره. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني البصري، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز أبي عبد الله الكوفي، عن الزبير بن عدي الهمداني الكوفي قاضي الريّ، عن مصعب ابن سعد ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن زائدة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، واسم أبي حازم: حصين بن عوف البجلي الأحمسي الكوفي، قيل: له صحبة ولم يصح، وأبوه أبو حازم له صحبة، روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): نا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سأل رجل سعدا عن مس الذكر فقال: "إن علمت أن منك بضعة نجسة فاقطعها". الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث المصري، عن سعيد بن منصور -شيخ مسلم وأبي داود- عن هشيم بن بشير الواسطي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفة" (¬2): عن ابن عُيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: "سأل رجل سعد بن أبي وقاص عن مس الذكر، أَيُتوضأ منه؟ قال: إن كان منك شيء نجس فاقطعه". ص: وأما ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في إيجاب الوضوء فيه؛ فإنه قد روي عنه خلاف ذلك. حدثنا أبو بكرة، قال: نا يعقوب بن إسحاق، قال: نا عكرمة بن عمار، قال: ثنا عطاء، عن ابن عباس قال: "ما أبالي إياه مسست أو أنفي". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر، قال: نا ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه كان لا يرى في مسِّ الذكر وضوءا". فهذا ابن عباس قد روي عنه غير ما رواه قتادة عن عطاء عنه، فلم نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - أفتى بالوضوء منه، غير ابن عمر - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1739). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 119 رقم 434).

ش: هذا جواب عَمَّا رُوي عن ابن عباس من وجوب الوضوء من مَسِّ الذكر. بيانه: أن ابن عباس روى عنه عطاء بن أبي رباح وجوب الوضوء من مس الذكر، وروى عنه أيضًا عدم الوجوب، وكذا روى شعبة مولى ابن عباس عنه، وكذا روى سعيد بن جبير عنه، فهذه الرواية ترجح لموافقته الأصل والقياس؛ لأن الوضوء مما يخرج، ولأن بين روايتي عطاء تضاد؛ فتحمل روايته الأولى على غسل اليد لينتفي التضاد، والحامل عل هذا رواية شعبة مولاه، ورواية سعيد بن جبير ثم الأخبار التي رويت عنه ثلاثة: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن يعقوب بن إسحاق بن زيد البصري المقرئ، عن عكرمة بن عمار العجلي، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس. وهذا صحيح على شرط مسلم. وأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه" (¬1): أنا طلحة بن عمرو المكي، أنا عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس، قال في مس الذكر وأنت في الصلاة، قال: "ما أبالي مَسِسْتُه أو مَسِسْتُ أنفي". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج قال: أخبرني محمَّد بن يوسف، عن كثير من أهل المدينة، أن ابن عباس قال لابن عمر: "لو أعلم أن ما تقول في الذكر حقا لقطعته، ثم إذا لو أعلمه نجسا لقطعته، وما أبالي إياه مَسِسْتُ أو مَسِسْتُ أنفي". قوله: "ما أبالي إياه" الضمير فيه يرجع إلى الذكر؛ لأن الكلام خرج (سؤالا) (¬3) عن سؤال وجوب الوضوء من مس الذكر. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن ¬

_ (¬1) "موطأ محمَّد بن الحسن" (1/ 36 رقم 14). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 119 رقم 435). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، ولعله سبق قلم من المؤلف، والصواب: جوابًا.

محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن شعبة بن دينار القرشي مولى ابن عباس، عن ابن عباس. وفي شعبة مقال. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن سعيد بن جبير، وهذا إسناد صحيح. قوله: "فلم نعلم أحدا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. فإن قيل: كيف قال ذلك وقد روى هو نفسه عن سعد بن أبي وقاص وابن عباس وجوب الوضوء من مس الذكر؟! قلت: قد بَيَّن لك أنه روي عن كل منهما خلاف ذلك، وأن سعدا إنما أمر بغسل اليد فقط دون الوضوء الشرعي، وأن ابن عباس مذهبه أن الوضوء. مما يخرج رواه ابن أبي شيبة (¬1) عنه، ورواه الدارقطني (¬2) بإسناده عنه مرفوعًا. ص: وقد خالفه في ذلك أكثر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا محمَّد بن العباس، قال: نا عبد الله بن محمَّد بن المغيرة، قال: أنا مِسْعر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن علي - رضي الله عنه - قال: "ما أبالي أنفي مَسِسْتُ أو أُذني أو ذكري". حدثنا أبو بكرة، قال: نا يحيى بن حماد، قال: نا أبو عوانة، عن سليمان، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، قال: قال عبد الله بن مسعود: "ما أبالي ذكري مَسِسْتُ في الصلاة أم أُذني أم أنفي". حدثنا بكر بن إدريس، قال: نا آدم بن أبي إياس، قال: نا شعبة، قال: نا أبو قيس، قال: سمعت هُزَيْلا يحدث عن عبد الله ... نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 52 رقم 535). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 151 رقم 1) من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس، مرفوعًا.

حدثنا صالح، قال: نا سعيد، قال: أنا هشيم، قال: أنا الأعمش، عن المنهال ابن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله ... مثله. حدثنا صالح، قال: نا سعيد، قال: نا هشيم، قال [أنا] (¬1) سليمان الشيباني، عن أبي قيس ... فذكر بإسناده مثله. أخبرنا أبو بكرة، قال: نا أبو أحمد الزبيري، قال: نا مسعر، عن عمير بن سعيد. ح وحدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، قال: نا مسعر، عن عمير بن سعيد قال: "كنت في مجلس فيه عمار بن ياسر، فذكر مس الذكر، فقال: إنما هو بضعة منك مثل أنفي أو أنفك، وأَنَّى لكفك موضعا غيره". أخبرنا أبو بكرة، قال نا أبو عامر، قال: نا سفيان، عن إياد بن لقيط، عن البراء بن قيس (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال حدثنا أبو داود، قال: نا شعبة، عن منصور، قال: سمعت سدوسا يحدث عن البراء بن قيس (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه، عن البراء بن قيس، قال: سمعت حذيفة - رضي الله عنه - يقول: "ما أبالي إياه مسست أو أنفي". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن قتادة (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخَصِيبُ، قال نا همام، عن قتادة، عن المخارق بن أحمر، عن حذيفة نحوه. حدثنا ابن مرزوق، قال: نا عمرو بن أبي رُزين، قال: نا هشام بن حسان، عن الحسن، عن خمسة من أصحاب النبي - عليه السلام - منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن ¬

_ (¬1) سقطت صيغة التحديث من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ورجل أخر: "أنهم كانوا لا يرون في مس الذكر وضوءا". حدثنا ابن خزيمة قال: نا حجاج، قال: نا حماد (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا عبد الرحمن، قال: نا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، نحوه. حدثنا صالح، قال: نا سعيد، قال: نا هشيم، قال: أنا حميد الطويل، عن الحسن، عن عمران، مثله. قال أبو جعفر: فإن كان يجب في مثل هذا تقليد ابن عمر؛ فتقليد من ذكرنا أولى من تقليد ابن عمر - رضي الله عنهما -. ش: أي قد خالف عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في إيجاب الوضوء من مس الذكر أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - ولما قال: لم يُفْتِ أحد من الصحابة بالوضوء من مس الذكر غير ابن عمر، ولم يرو عن ابن عمر ما يخالف ما روي عنه. أجاب عنه بأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك، فإن كان تقليد ابن عمر في مثل هذا واجبا، فتقليد الجماعة منهم أولى؛ لأنه أقرب إلى الحق وأشبه بالقياس، ثم أخرج ذلك عن خمسة من الصحابة وهم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، - رضي الله عنهم -. أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - فأخرجه عن محمَّد بن العباس اللؤلؤي، عن عبد الله ابن محمَّد بن المغيرة الكوفي نزيل مصر -فيه مقال- عن مسعر بن كدام، عن قابوس بن أبي ظبيان الجَنبي -مختلف فيه- عن أبيه أبي ظبيان، واسمه حصُين بن جندب، روول له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال: "سئل علي - رضي الله عنه - عن الرجل يمس ذكره؟ قال: لا بأس". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1741).

وأما ما روي عن ابن مسعود فأخرجه من أربع طرق: الأول: عن أبي بكرة بكّار، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي، عن قيس بن السكن الأسدي الكوفي. وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن المنهال، عن قيس بن السكن، قال: قال عبد الله: "ما أبالي مَسِسْت ذكري أو أذني أو إبهامي أو أنفي". الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التيمي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قيس عبد الرحمن ابن ثروان الأودي الكوفي، عن هُزيل بن شرحبيل الأودي الكوفي الأعمى، وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬2): نا وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل: "أن أخاه أرقم بن شرحبيب سأل ابن مسعود فقال: إني أحتك فأفضي بيدي إلى فرجي. فقال ابن مسعود: إن علمت أن منك بضعة نجسة فاقطعها". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن سليمان الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن ابن مسعود. الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن سليمان بن أبي سليمان فيروز الشيباني، عن أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان، عن هذيل، عن عبد الله، وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1743). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1738).

وأما ما روي عن عمار بن ياسر، فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن عمير بن سعيد النخعي الكوفي. والثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نُعيم الفضل بن دكين، عن مسعر ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن فضيل ووكيع، عن مسعر، عن عمير بن سعد، قال: "كنت جالسا في مجلس فيه عمار بن ياسر، فسئل عن مس الذكر في الصلاة، فقال: ما هو إلاَّ بَضْعة منك وأَنَّى لكفك موضعا غيره". قوله: "بَضْعة" بفتح الباء، أي: قطعة منك، أراد أنه جزء منك مثل أنفك وأذنك. قوله: "وأنَّى" أي: ومن أين لكفك موضعا غيره؛ وذلك لأن الرجل إذا أدخل يده إلى داخل ثوبه لم يكن لكفه غير الاشتغال بذكره. وأما ما روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. فأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي، عن سفيان الثوري، عن إياد بن لقيط السدوسي، عن البراء بن قيس أبي كبشة السكوني، عن حذيفة بن اليمان. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن سدوس الثوري الكوفي، عن البراء بن قيس، عن حذيفة. وسَدُوس -بفتح السين المهملة وضم الدال وفي آخره سين أيضًا- وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1743).

الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود، عن عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه، عن البراء بن قيس، عن حذيفة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن حصين، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن حذيفة بن اليمان أنه قال: "ما أبالي مَسِسْت ذكري أو أذني". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): نا أبو محمَّد بن صاعد، ثنا أبو حصين عبد الله ابن أحمد بن يونس، ثنا عَبْثَر، عن حصين، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن قال: قال حذيفة: "ما أبالي مَسِسْت ذكري في الصلاة أو مَسِسْتُ أُذني". الرابع: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن المخارق بن أحمر، عن حذيفة. الخامس: عن سليمان بن شعيب، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح، عن همام بن يحيى بن دينار، عن قتادة، عن المخارق، عن حذيفة. والمُخَارق -بضم الميم- وثقه ابن حبان. وروى الطحاوي أيضًا بإسناد آخر عن الصحابة المذكورين وفيهم عمران بن حصين أيضًا ورجل آخر من الصحابة عن إبراهيم بن مرزوق، عن عمرو بن أبي رَزين -هو عمرو بن محمَّد بن أبي رزين الخزاعي البصري- عن هشام بن حسان الأزدي البصري، عن الحسن البصري. وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق؛ إلاَّ أن الحسن مدلس ولم يصرح بالسماع. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا محمَّد بن النضر الأزدي، نا معاوية بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 151 رقم 1740). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 150 رقم 21). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 247 رقم 9218).

عمرو، نا زائدة، عن هشام، عن الحسن: أن خمسة من أصحاب النبي - عليه السلام -: علي ابن أبي طالب، وابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ورجل آخر، قال بعضهم: "ما أبالي ذكري مَسِسْت أو أَرْنَبَتي. وقال الآخر: أذني [وقال الآخر فخذي] (¬1) وقال الآخر: ركبتي". وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن سليمان بن مهران الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن: "أن عليًّا وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبا هريرة، لا يرون من مس الذكر وضوءا، وقالوا: لا بأس به". قلت: يحتمل أن يكون الرجل الآخر في رواية الطحاوي والطبراني هو أبا هريرة، فحينئذ يكون مَنْ خالف عبد الله بن عمر من الصحابة في وجوب الوضوء من مس الذكر ثمانية من أعيان الصحابة وهم: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. وأما ما روي عن عمران بن الحصين، فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن عنه. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): أنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن الحصين قال: "ما أبالي إياه مَسِسْت أو فخذي". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "معجم الطبراني الكبير". (¬2) "مصنف عبد الرازق" (1/ 120 رقم 436). (¬3) "مصنف عبد الرازق" (1/ 119 رقم 433).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا محمَّد بن أبي عدي، عن حميد، عن الحسن، أن عمران بن الحصين قال: "ما أبالي إياه مَسِسْت أو بطن فخذي" يعني: ذكره. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن الحسن، عن عمران - رضي الله عنه -. وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي، وأبي الدرداء - رضي الله عنهما -. أما حديث أبي أمامة: فأخرجه ابن ماجه (¬2) مرفوعا: نا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، نا مروان بن معاوية، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن مس الذكر فقال: إنما هو حُذْوة منك". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا وكيع، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة ... إلى آخره نحوه. وأما حديث أبي الدرداء: فأخرجه محمَّد بن الحسن في "موطأه" (¬4) موقوفا: أخبرنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثني حَرِيزُ بن عثمان عن حبيب بن عُبيد، عن أبي الدرداء: "أنه سئل عن مس الذكر، فقال: إنما هو بَضْعَةٌ منك". قلت: "الحذْوة" بضم الحاء المهملة -وقيل: بكسرها- وسكون الذال المعجمة، قطعة من اللحم، وكذلك الحُذْية. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1744). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 163 رقم 484)، وقال البوصيري في "الزوائد": فيه جعفر بن الزبير، اتفقوا على تركه واتهموه. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1751). (¬4) "موطأ مالك": رواية محمَّد بن الحسن (1/ 38 رقم 28).

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيَّب، والحسن. حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشَيْش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيَّب: "أنه كان لا يرى في مس الذكر وضوءا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: نا هشام، عن قتادة، عن الحسن، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: نا عبد الله بن حُمران، قال: نا أشعث، عن الحسن: "أنه كان يكره مسَّ الفرج، فإن فعله لم ير عليه وضوءا". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: نا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن: "أنه كان لا يرى في مس الذكر وضوءا". فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أي: قد روي عدم انتقاض الوضوء من مس الذكر عن بعض التابعين أيضًا، منهم سعيد بن المسيَّب. أخرج عنه من طريقين صحيحين: الأول: عن عبد الله بن محمَّد بن خُشَيْش -بالمعجمات أولها مضموم- عن مسلم بن إبراهيم الأزدي أحد مشايخ البخاري، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن إبراهيم بن محمَّد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: "مَنْ مس ذكره فليس عليه وضوء". الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام ... إلى آخره. ومنهم الحسن البصري أخرج عنه من طريقين صحيحين أيضًا. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 120 رقم 437).

الأول: عن أبي بكرة، عن عبد الله بن حُمران بن عبد الله الأموي مولى عثمان ابن عفان، عن أشعث بن عبد الملك الحُمْراني، عن الحسن البصري ... إلى آخره. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الحسن البصري ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن الحسن ... نحوه. ومنهم طاوس وسعيد بن جبير، أخرج عنهما ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، قال: قال طاوس وسعيد بن جبير: "من مس ذكره وهو لا يريد فليس عليه وضوء". ومنهم إبراهيم، أخرج عنه ابن أبي شيبة (¬3) أيضًا: عن ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "لا بأس أن يمس الرجل ذكره في الصلاة". وأخرجه محمد بن الحسن في "موطأه" (¬4): أنا مُحِلّ الضبيِّ، عن إبراهيم النخعي، في مس الذكر في الصلاة، قال:"إنما هو بضعة منك". قوله: "فبهذا نأخذ" أي: فبعدم انتقاض الوضوء من مس الذكر نأخذ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 120 رقم 438)، ولفظه: "كان الحسن وقتادة لا يريان منه وضوءًا". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1750). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 152 رقم 1748). (¬4) "موطأ مالك": رواية محمَّد بن الحسن (1/ 37 رقم 20).

ص: باب: المسح على الخفين كم وقته للمقيم وللمسافر؟

ص: باب: المسح على الخفين كم وقته للمقيم وللمسافر؟ ش: أي: هذا باب بيان المسح على الخفين، كم وقته ومدته من الأيام؟ للمقيم والمسافر. وجه المناسبة بينه وبين ما قبله من الأبواب: أنه لما فرغ عن بيان الوضوء ونواقضه؛ شرع في بيان المسح على الخفين؛ لأنه خلف عن بعض الوضوء، والمناسبة بين الأصل والخلف ظاهرة، وقدمه على التيمم؛ لأنه خلف عن الكل، فالخلف عن البعض أقرب إلى الأصل من الخلف عن الكل، فبهذا الاعتبار قَدَّمه، وإن كان التيمم أقوى من المسح على الخفين؛ لأنه ثابت بالكتاب، والمسح بالسُّنة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: نا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عبد الرحمن بن رَزين، عن محمَّد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبي بن عمارة -وصلى مع رسول الله - عليه السلام - أبي بن عمارة القبلتين- أنه قال: "يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوما يا رسول الله؟ قال: نعم، ويومين. قال: ويومين يا رسول الله؟! قال: نعم، وثلاث. قال وثلاث يا رسول الله؟! قال: نعم. حتى بلغ سبعا، ثم قال: امسَحْ ما بدا لك". ش: ابن أبي داود وهو إبراهيم البرلسي. وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري. ويحيى بن أيوب الغافقي، روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن رزين -ويقال: ابن يزيد- الغافقي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود وابن ماجه هذا الحديث. ومحمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي الفلسطيني نزيل مصر مولى المغيرة بن شعبة، قال أبو حاتم: مجهول. روى له أبو داود والترمذي.

وعُبادة بن نُسَيّ -بالضم في أولها- الكندي أبو عمرو الشامي الأزدي قاضي طبريه، وثقه يحيى والعجلي والنسائي، وروى له الأربعة. وأُبي بن عمارة بكسر العين وقيل: بضمها، والأول أشهر. وهذا حديث ضعيف، وقال ابن حبان: ليس بالمعتمد عليه. وقال ابن الأثير: معلول، في إسناده اضطراب، وفي العلل "المتناهية": لا يصح. وقال أبو عمر: لا يثبت ولا له إسناد قائم. وقال ابن الحصار في "تقريب المدارك": في إسناده اختلاف واضطراب. وقال ابن عُقدة: تفرد به أهل مصر. وقال أحمد بن حنبل: ليس بمعروف الإسناد. وفي موضع آخر: رجاله لا يعرفون. وقال أبو الفتح الأزدي: ليس بالقائم، في متنه نظر، وفي إسناده نظر. وقال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي. قلت: أشار بذلك إلى أن يحيى بن أيوب رواه عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمَّد بن يزيد، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبي بن عمارة. هذا قول. ويروى عنه عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمَّد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة. فهذا قول ثان. ويروي عنه مرسلًا لا يذكر فيه أبي بن عمارة. فهذا قول ثالث. ورواه الدارقطني بسند أبي داود على ما نذكره. وقال: هذا إسناد لا يثبت، وعبد الرحمن ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن مجهولون.

وقال أبو حاتم: محمَّد بن يزيد مجهول. ويحيى بن أيوب مختلف فيه، وهو ممن عيب على مسلم في إخراج حديثه. وقال عبد الغني في "الكمال": لم يرو أبي بن عمارة إلاَّ حديثًا واحدًا وفي إسناده ضعف وجهالة واضطراب. وقال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف الإسناد. فقلت: فإلى أي شيء ذهب أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاثة أيام، ويوم وليلة؟ قال: لهم فيه أثر (¬1). قلت: الأثر الذي أشار إليه أحمد، الأقرب أنه أراد الرواية عن ابن عمر؛ فإنه صحيح عنه، من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان لا يؤقت في المسح على الخفن وقتا" (¬2). ويحتمل أن يريد غير ذلك من الآثار منها! رواية حماد بن زيد، عن كثير بن شِنْظير، عن الحسن، قال: "سافرنا مع أصحاب رسول الله - عليه السلام - فكانوا يَمْسحون خفافهم بغير وقت ولا عدد". رواه ابن الجهم في كتابه (¬3)، وعلله ابن حزم فقال: وكثير بن شِنظير ضعيف جدًّا. فإن قلت: ما تقول في حديث أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬4): عن عبد الغفار ابن داود الحراني، نا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت، عن أنس، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه، فليصل فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلَّا من جنابة". ¬

_ (¬1) انظر "نصب الراية" (1/ 178). (¬2) أخرجه الدارقطني (1/ 196 رقم 12)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 280 رقم 1247). (¬3) انظر "نصب الراية" (1/ 178). (¬4) "مستدرك الحاكم" (1/ 290 رقم 643).

قال الحكم: إسناده صحيح على شرط مسلم ورواته عن آخرهم ثقات. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): عن أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة ... به. قال صاحب "التنقيح": إسناده قوي، وأسد بن موسى صدوق، وثقه النسائي وغيره. قلت: قال ابن الجوزي: هو محمول على مدة الثلاث. وقال ابن حزم: هذا مما انفرد به أسد بن موسى عن حماد، وأسد منكر الحديث لا يحتج به. قوله: "أمسح": أصله أأمسح، بهمزة استفهام. قوله: "ما بدا لك" أي: ما ظهر لك. قوله: "ويومين" بالنصب عطفا على قوله: "يوما". قوله: "وثلاث" بالرفع في بعض النسخ، والصحيح: وثلاثا. بالنصب عطفا على يومين ويوما، وكذا وقع في رواية الدارقطني، وأما وجه الرفع -على تقدير ثبوته- فهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: قال: نعم، ومدته ثلاث. أي ثلاثة أيام، وتكون "ثلاث" الثاني عطف على الأول في الرفع والنصب. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا سعيد بن عفير، قال: أنا يحيى بن أيوب عن عبد الرحمن بن رزين، أنه أخبره عن محمَّد بن يزيد، عن أيوب ابن قطن، عن عبادة، عن أبي بن عمارة -قال: وكان ممن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلتين- عن رسول الله - عليه السلام -. ش: هذا طريق اخر، وأخرجه أبو داود (¬2): نا يحيى بن معين، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمَّد بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 203 رقم 1). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 40 رقم 158).

يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أبي بن عمارة- قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله - عليه السلام - القبلتين- أنه قال: "يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم. (يوما؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة؟ قال: نعم، ما شئت) (¬1) ". وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا حرملة بن يحيى وعمرو بن السوَّاد المصريَّان، قالا: نا عبد الله بن وهب، أنا يحيى بن أيوب ... إلى آخره نحوه. وفي آخره قال: "وثلاثا؟ حتى بلغ سبعا، قال له: وما بدا لك". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا الحسن بن غليب المصري، نا سعيد بن عفير ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا ابن عُفَيْر، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمَّد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسي، عن أبي بن عمارة، عن رسول الله - عليه السلام - ... نحوه. ش: هذا طريق آخر عن رَوْح بن الفرج القطان المصريّ. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬4): ثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمَّد بن إسحاق، نا سعيد بن عفير، قال: نا يحيى بن أيوب ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. ثم قال: هذا إسناد لا يثبت، وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافا كثيرا، وعبد الرحمن ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن مجهولون كلهم. ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا توقيت للمسح على الخفين في السفر ولا في الحضر. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي المطبوع من "السنن": "قال: يومًا؟ قال: يومًا. قال: ويومين؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت". (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 185 رقم 557). (¬3) "المعجم الكبير" (1/ 203 رقم 546). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 198 رقم 19).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري والليث بن سعد وأهل المدينة ومالكا؛ فإنهم قالوا: المسح على الخفين غير مؤقت؛ لحديث أبي بن عمارة. وقال الترمذي: وقد روي عن بعض أهل العلم أنهم لا يوقتوا في المسح على الخفين، وهو قول مالك بن أنس، والتوقيت أصح. وفي "المغني": وقال الليث بن سعد: يمسح ما بدا له. وكذلك قال مالك في المسافر، وله في المقيم روايتان: [إحدهما] (¬1): يمسح من غير توقيت، والثانية: لا يمسح. وفي "الجواهر" للمالكية: المشهور نفي التحديد، وألَّا يلزمه النزع إلي أن يجنب. وروي عن أشهب: أن المسافر يمسح ثلاثة أيام، ولم يذكر للمقيم وقتا. وروى ابن نافع، أن المقيم يمسح من جمعة إلى جمعة. وقال ابن حزم في "المحلى": والرواية عن مالك مختلفة، والأظهر كراهة المسح للمقيم، وقد روي عنه إجازة المسح للمقيم، وأنه لا يرى التوقيت لا للمقيم ولا للمسافر، وأنهما يمسحان أبدا ما لم يجنبا. وقال صاحب "البدائع": وعن أبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعد: أنه غير مؤقت. وذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): أنه مذهب سعد بن أبي وقاص، وأبي سلمة، وعروة بن الزبير، والحسن. ص: وقد شدَّ ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا، فذكروا ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا بشر بن بكر، قال: أنا موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، عن عقبة بن عامر قال: "أُبْرِدْتُ من الشام إلى عمر بن الخطاب، فخرجت من الشام يوم الجمعة ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر - رضي الله عنه - وعَلَيَّ خُفان لي ¬

_ (¬1) في "الأصل": إحديهما، والمثبت من "المغني" (1/ 177). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 168 رقم 1933 - 1937).

جُرْمُقَانِيَّانِ، فقال لي: متى عهدك يا عقبة بخلع خفيك؟ فقلت: لبستهما يوم الجمعة وهذه الجمعة. فقال لي: أصبت السُّنة". حدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: نا المفضَّل بن فضالة -قاضي أهل مصر- عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن عقبة بن عامر بمثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو وابن لهيعة والليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، أنه سمع علي بن رباح اللخمي، يخبر عن عقبة بن عامر ... فذكر مثله، غير أنه قال: "قد أصبت". ولم يقل: "السُّنة"، قالوا: فقول عمر - رضي الله عنه - هذا لعقبة: "أصبت السُّنة" يدل على أن ذلك عنده عن النبي - عليه السلام - لأن السُّنة لا تكون إلاَّ عنه. ش: أي: وقد قَوَّى وأكَّدَ ما ذهبوا إليه ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وفي بعض النسخ: "وقد شيَّد ذلك" من التَشْييد وهو الإحكام والإتقان، ثم إنه أخرج أثر عمر - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التِنِّيسي، عن موسى ابن عُلَيّ -بضم العن وفتح اللام- بن رباح اللخْمي- أمير مصر لأبي جعفر المنصور- عن أبيه عُلَيّ بن رباح بن قصير اللخْمي، عن عقبة بن عامر الجُهني الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا الحافظ أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، نا بشر بن بكر موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني، نا بشر بن بكر، نا موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: "خرجت من الشام إلى المدينة [يوم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 280 رقم 1244) من طريق أبي عبد الله الحافظ -وهو الحاكم- عن أبي العباس به.

الجمعة] (¬1) فدخلت على عمر بن الخطاب، فقال لي: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما؟ [قلت] (¬2) لا. قال: أصبت السُّنَّة". الثاني: رواه عن أبي بكرة بكَّار، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو إبراهيم بن عمر بن مطرت الهاشمي مولاهم المكي أبي عمرو، عن المفضَّل بن فضالة بن عبيد -قاضي مصر- عن يزيد بن أبي حبيب سُوَيد المصري، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي (¬3): أيضًا نا علي بن أحمد بن عبدان، نا أحمد بن عبيد، نا عبيد بن شريك، نا يحيى بن بُكَير، نا مُفضّل بن فضالة، إلى آخره نحوه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عمرو بن الحارث المصري وعبد الله بن لهيعة المصري والليث بن سعد المصري، ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوى ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سُننه" (¬4): نا أبو بكر النيسابوري، نا يونس بن عبد الأعلى، نا ابن وهب، أخبرني حيوة، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول: حدثني عبد الله بن الحكم، عن عُلَي بن رباح، أن عقبة بن عامر حدثه: "أنه قدم على عمر - رضي الله عنه - بفتح دمشق، قال: وعَليّ خفان، فقال لي عمر: كم لك ياعقبة منذ لم تنزع خفيك؟ فتذكرت من الجمعة إلى الجمعة، فقلت: منذ ثمانية أيام. قال: أحسنت، أو أصبت السُّنّة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬2) في "الأصل، ك": قال. والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 280 رقم 1246). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 199 رقم 20).

قوله: "أُبْرِدْتُ من الشام" على صيغة المجهول من الإبراد وهو إتيان الرسول، والمعنى: أُرسلت من الشام بريدا، والبريد هو الرسول، وهو في الأصل كلمة فارسية يراد بها في [الأصل] (¬1) البغل، وأصلا بُرَيْدَه دُمْ. أي: محذوف الذَّنَب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخُفِّفت، ثم سُمِّي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السِّكَّتَيْن بريدا. قوله: "وعَليَّ خُفَانِ" جملة وقعت حالًا. وقوله: "لي" جملة صفة للخفين، ومحلها من الإعراب الرفع. و"جرمقانيان" أيضًا صفة أخرى وهي نسبة إلى الجُرْمُقان -بضم الجيم، وسكون الراء، وضم الميم، بعدها قاف، وبعدها ألف، وآخره نون- اسم موضع، قال الجوهري: الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلاَّ أن يكون معربا أو حكايته صوت. قوله: "قالوا" أي القوم المذكورون. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يمسح المقيم على خفيه يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وفي أكثر النسخ "وخالفهم في ذلك مخالفون" والأول أصح، وأراد بهم: الثوري، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، وأبا حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد وأصحابهما، وداود، وإسحاق ابن راهويه، فإنهم قالوا: يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها. وقال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء. وفي "المغني": وبهذا قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو زيد، وشريح، وعطاء، وأصحاب الرأي. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث" (1/ 115) ..

وقال ابن حزم: وهو قول جملة أصحاب الحديث. ص: وقالوا: أما ما رويتموه عن عمر - رضي الله عنه - في قوله: "أصبت السُّنة"، فليس في ذلك دليل على أنه عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن السُّنة قد تكون منه وقد تكون من خلفائه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين". حدثنا به أبو أميَّة، قال: ثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلميّ، عن العرباض بن سارية، عن النبي - عليه السلام -. وقد قال سعيد بن المسيب لربيعة في أروش أصابع المرأة: "يا ابن أخي إنها السُّنة"، يريد قول زيد بن ثابت. فقد يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - قد رأى ما قال لعقبة وهو من الخلفاء الراشدين المهديين فسمى رأيه ذلك سنة، مع أنه قد جاءت الآثار المتواترة في ذلك بتوقيت المسح للمسافر والمقيم بخلاف ما جاءه حديث أبي بن عمارة - رضي الله عنه -. ش: أي: قال الآخرون في جواب ما احتج به هؤلاء القوم من قول عمر - رضي الله عنه -: "أصبت السُّنة". بيانه أنه ليس من دليل قطعي على أن ذلك عنده من النبي - عليه السلام - لأن السُّنة عند الإطلاق يحتمل أن تكون سُنَّة النبي - عليه السلام - ويحتمل أن تكون سُنَّة أحد من خلفائه، والدليل على ذلك حديث عرباض بن سارية - رضي الله عنه - فإنه يدل أن السُّنة أعم من أن تكون للنبي - عليه السلام - أو لأحد من خلفائه، وقد تطلق أيضًا على قول أحد من الصحابة، والدليل عليه أن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - قال لربيعة بن أبي عبد الرحمن، المعروف بربيعة الرأي، شيخ مالك، التابعي الكبير، في أروش أصابع المرأة: "إنها السُّنة" يريد قول زيد بن ثابت الأنصاري الصحابي فقد أطلق السُّنة على قول زيد، فإذا كان كذلك يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - قال ذلك لعقبة بن عامر من رأيه وسماه سنة، فلم تقم به حجة لما ذهبوا إليه.

قوله: "مع أنه قد جاءت الآثار المتواترة" أي: المتكاثرة وهذا جواب آخر، بيانه: أن حديث أبي بن عمار غريب، والأحاديث المشهورة قد جاءت بتوقيت المسح للمقيم والمسافر، فلا يعارضها الحديث الغريب، مع أن فيه عللا كثيرة قد (ذكرناه) (¬1). وقد قيل: إن حديث أبي بن عمارة محمول على أنه يمسح ما شاء إذا نزعهما عند انتهاء مدته ثم لبسهما. وقال شمس الأئمة: وتأويل الحديث أن مراده - عليه السلام - بيان أن المسح مؤبد غير منسوخ، ألَّا ينزع في هذه المدة، والأخبار المشهورة لا تترك بهذا الشاذ. ثم إسناد حديث عرباض بن سارية صحيح ورجاله ثقات. وأبو أميَّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. وأبو عاصم النبيل اسمه الضحاك بن مخلد. وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم. وخالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي الحمصي روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي الشامي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه هذا الحديث. وعرباض بن سارية السُلمي من أهل الصُفَّة، وأحد البكائين الذين نزل فيهم {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ} (¬2) الآية، نزل الشام وسكن حمص. وأخرجه أبو داود (¬3): مطولا بإسناده إلى عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر ابن حجر، قالا: "أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (2) فسلمنا وقلنا: أتيناك ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ولعل الصواب: قد ذكرناها .. (¬2) سورة التوبة، آية: [92]. (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 200 رقم 4607).

زائرين وعائدين ومقتبسين. فقال العرباض: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيّا؛ فإنه مَنْ يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وأخرجه الترمذي (¬1): ولم يذكر الصلاة، وفي آخره تقديم وتأخر. قوله: "مقتبسين" من الاقتباس وهو في الأصل: القَبَس من النار، وأراد به: الأخذ من العلم والأدب. قوله: "ذرفت" أي دمعت. قوله: "ووجلت" أي خافت وفزعت، من الوجل وهو الفزع. قوله: "فماذا تعهد إلينا" من عَهِدَ إليه بكذا يَعهد إذا أوصى إليه. قوله: "فعليكم بسنتي" أي: خذوا بها. و"السُنة" في اللغة: الطريقة والعادة، قال الله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (¬2). وفي الاصطلاح: ما صدر عن النبي - عليه السلام - غير القرآن من قول -ويسمى الحديث- أو فعل أو تقرير، وتطلق على سُنة غيره، كما ورد في قوله: "وسُنة الخلفاء الراشدين" من رَشَدَ يَرْشُدُ رُشْدا ورَشَدا، وهو خلاف الغَيّ، وأرشدته أنا إذا هديته، والمهدي الذي هداه الله إلى الحق، هداه يهديه فهو مهديّ، والله هاديه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 44 رقم 2676). (¬2) سورة فاطر، آية: [43].

فإن قلت: مَنْ الخلفاء الراشدون؟ قلت: لا شك أن المراد منهم ها هنا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن على - رضي الله عنهم - أجمعين؛ لقوله: - عليه السلام - "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير مُلْكًا عضوضًا". رواه سفينة مولى النبي - عليه السلام - وفي رواية: "ثم يؤتي الله ملكه من يشاء". رواه أحمد (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4). وبيان ذلك أن خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت سنتين وأربعة [أشهر] (¬5) إلاَّ عشر ليال، وخلافة عمر - رضي الله عنه - كانت عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان - رضي الله عنه - كانت ثنتي عشرة سنة إلاَّ اثني عشر يوما، وخلافة علي - رضي الله عنه - كانت خمس سنين إلاَّ شهرين، وتكميل الثلاثين بخلافة الحسن بن علي - رضي الله عنهما - نحو من ستة أشهر حتى نَزَلَ عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة. وروى يعقوب بن سفيان بإسناده (¬6) إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "خلافة نبوة ثلاثون عاما، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء. فقال معاوية: رضينا بالملك". وفيه رد صريح على الروافض المنكرين خلافة الثلاثة، وعلى النواصب من بني أمية ومَنْ تبعهم من أهل الشام في إنكار خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. فإن قلت ما الجمع بين حديث سفينة وبين حديث جابر بن سمرة الذي رواه مسلم في صحيحه (¬7): "لا يزال هذا الدين قائما ما كان اثنى عشر خليفة، كلهم من ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 221 رقم 21978) بنحوه. (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 211 رقم 4646، 4647) بنحوه. (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 503 رقم 2226) بنحوه. (¬4) "سنن النسائي الكبرى" (5/ 47 رقم 8155) بنحوه .. (¬5) "الأصل": عشر، وهو سبق قلم من المؤلف:. (¬6) "المعرفة والتاريخ" (3/ 458). (¬7) "صحيح مسلم" (3/ 1453 رقم 1822) بنحوه.

قريش، ثم يخرج كذابون بين يدي الساعة، ولتفتحن عصابة من المسلمين كنز القصر [الأبيض] (¬1) قصر كسرى، وأنا فرطكم على الحوض"؟. قلت: حديث جابر فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا من قريش وإن لم يوجدوا على الولاء، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة ثلاثين سنة، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي - رضي الله عنه - وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة، حتى قال أحمد بن حنبل: ليس قول أحد من التابعين صحيح إلاَّ قول عمر بن عبد العزيز. ومنهم من ذكر من هؤلاء: المهدي بأمر الله العباسي، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضًا بالنص على كونه من أهل البيت واسمه محمَّد بن عبد الله، وليس بالمنتظر في سرداب سامُرَّاء؛ فإن ذلك ليس بموجود بالكلية، وإنما سَطَرَهُ الجهلة من الرافضة (¬2). وقال البيهقي: المراد بالخلفاء الاثنى عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق. قلت: فيه نظرة لأنهم حينئذٍ يصيرون خمسة عشر، أو ستة عشر، ويدخل فيهم مثل يزيد بن معاوية، ويخرج منهم مثل عمر بن عبد العزيز الذي [أطبقت] (¬3) الأمة واتفق الأئمة على شكره ومدحه، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "إلا نبض"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) والرافضة الإمامية -الاثنا عشرية- يزعمون أنهم على الحق؛ لأن فيهم الإمام المعصوم، ويزعمون أنه دخل إلى سرداب سامراء بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري سنة ستين ومائتين، وهو الآن غائب لم يعرف له خبر ولا وقع له أحد على عين أو أثر، وأهل العلم بأنساب أهل البيت يقولون: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب، وهم يزعمون أنه عند موت أبيه كان عمره سنتين أو ثلاثًا أو خمسًا. (¬3) في "الأصل، ك": أطبق.

بيانه أن [خلافة] (¬1) الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - محققة بنص حديث سفينة، ثم بعدهم الحسن بن علي تكملة الثلاثين على ما بَيَّنَّا، ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن الملك، ثم هشام بن عبد الملك. فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية ابن الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، فإن قال: أنا لا أعتبر في هذا إلاَّ من اجتمعت عليه الأمة؛ لزمه على هذا ألَّا يَعدَّ علي بن أبي طالب ولا ابنه؛ لأن الناس لم يجتمعوا عليهما؛ وذلك لأن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعد حينئذٍ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتد بأيام مروان ولا ابن الزبير؛ لأن الأمة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا [يكون] (¬2) في مسلكه هذا عادَّا للخلفاء: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم معاوية بن يزيد ثم عبد الملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام، فهؤلاء اثني عشر، ثم بعدهم: الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولكن هذا لا يمكن أن يسلك لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر وهو خلاف ما نص عليه أئمة السُنَّه بل والشيعة، والأحسن في ذلك ما بَيَّنَّا أن الخلافة قد انقطعت بعد الثلاثين سنة؛ لا مطلقا بل انقطع تتابعها. ولا ننفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك كما دل عليه حديث جابر بن سمرة. قوله: "وعضوا عليها بالنواجذ": وهي الأضراس التي بعد الناب، وهي جمع ناجذ، وهذا مَثَلٌ في شدة الاستمساك بالأمر؛ لأن العض بالنواجذ عض بعظم الأسنان التي قبلها والتي بعدها. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) في "الأصل، ك": يقول، وما أثبتناه أليق بالسياق.

قوله: "وإياكم" أي: احذروا. "محدثات الأمور" وهي التي لم تكن معروفة في كتاب ولا في سُنَّةٍ ولا إجماع. قوله: "بدعة": وهي إحداث أمر لم يكن في زمن النبي - عليه السلام -. ثم الابتداع إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وهو تكوين الأشياء بعد أن لم تكن، وليس ذلك إلاَّ إلى الله تعالى. فأما من المخلوقين فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار، وإن كان واقعا تحت عموم ما نَدب الله إليه وحضَّ عليه أو رسوله فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا؛ كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهذا فعل من الأفعال المحمودة لم يكن الفاعل قد سُبِقَ إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد به الشرع؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: "من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضده: "من سنَّ سُنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" (¬1) وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله. ص: فمما روى عنه في ذلك ما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفِريابيّ، قال: نا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن القاسم بن مُخَيْمرة، عن شريح بن هانئ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "جعل رسول الله - عليه السلام - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". يعني المسح على الخفين. ش: أي: فمن الذي روي عنه في توقيت المسح، حديث علي - رضي الله عنه - والضمير في "عنه" يرجع إلى "ما" وإسناده صحيح. والفِريابيّ: هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري، والحكم ابن عُتَيْبَة بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/ 704 رقم 1017) من حديث جرير بن عبد الله.

وأخرجه النسائي (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أنا عبد الرزاق، أنا الثوري، عن عمرو بن قيس ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه مسلم (¬2): أيضًا عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق ... إلى آخره. ولفظه: "عن شريح بن هانئ أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فَسَلْه؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - عليه السلام - فسألناه فقال: جعل رسول الله - عليه السلام - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم". قال: وكان سفيان إذا ذكر عَمْرًا اثنى عليه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: نا يوسف بن عدي، قال: نا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ قال: "رأيت عليّا - رضي الله عنه - فسألته عن المسح على الخفين، قال: كنا نؤمر إذا كنا سَفْرا أن نمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وإذا كنا مقيمين فيوما وليلة". ش: هذا طريق اخر وهو أيضًا صحيح، وأبو الأحوص اسمه سلام بن سُلَيْم الكوفي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السَبيعي. قوله: "كنا نؤمر": يدل على أنه أمر لله ورسوله، وهذا قول أكثر أهل العلم، وكذا قول الصحابي: "أمرنا بكذا" ولا فرق بين أن يكون ذلك في زمن النبي - عليه السلام - أو بعده، قاله الخطيب في "الكفاية". قوله: "سَفْرا" بفتح السين وسكون الفاء جمع سافر، كركب جمع راكب. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا أسد، قال: نا محمَّد بن طلحة، عن زُبَيْد، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن شريح بن هانئ قال: "أتيت عائشة - رضي الله عنها - فقلت: يا أم المؤمنين ما ترين في المسح على الخفين؟ قالت: إئت عليّا فهو أعلم بذلك مني، كان يسافر مع ¬

_ (¬1) "المجتبى" (84/ 1 رقم 128). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 232 رقم 276).

رسول الله - عليه السلام -. فسألته، فقال: كنا إذا كنا سَفْرا مع رسول الله - عليه السلام - أُمرنا ألَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، وزُبَيْد -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- بن الحارث اليامي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن المسح على الخفين، قالت: سَلْ علي بن أبي طالب؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - عليه السلام - فسألته، فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". قال يحيى: وكان يرفعه -يعني شعبة- ثم تركه. ص: حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجَدَليّ، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام -: "أنه جعل المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة. قال: لو أطنب له السائل في مسألته لزاده". ش: إسناده صحيح، وأبو عبد الله [الجَدَليّ] (¬2) اسمه عبد بن عبد، ويقال: عبد الرحمن بن عبد، وثقه ابن معين، وروى له أبو داود والترمذي. وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، قتل بصفين، وكان مع علي - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬3): نا قتيبة، قال: نا أبوعوانة، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجَدَليّ، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام -: "أنه سُئل عن المسح على الخُفين، فقال: للمسافر ثلاثة ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 120 رقم 966) .. (¬2) في "الأصل، ك": البجلي، وهو سبق قلم من المؤلف:، والصواب ما أثبتناه كما في متن الحديث، و"تهذيب الكمال" (34/ 24)، و"جامع الترمذي". (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 158 رقم 95).

(أيام) (¬1) وللمقيم يوم (وليلة) " (¬2). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد ذُكر عن ابن معين أنه صحح حديث خزيمة بن ثابت في المسح. وقال الشيخ تقي الدين في "الإِمام": وحديث خزيمة فيه ثلاث علل: الأولى: الاختلاف في إسناده، وله ثلاث مخارج، رواية إبراهيم النخعي، ورواية إبراهيم التيمي، ورواية الشعبي، ثم ذكر في بعضها الزيادة -أعني: "لو استزدناه لزادنا"- وبعضها ليست فيه. الثانية: الانقطاع، قال البيهقي: قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث، فقال: لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح؛ لأنه لا يُعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة، وقال شعبة: لم يسمع إبراهيم النخعي حديث المسح على الخفين من أبي عبد الله الجدلي!. الثالثة: ذكر ابن حزم أن أبا عبد الله الجدلي لا يعتمد على روايته. قلت: كله لا يخلو عن نظر. قوله: "لو أطنب له" أي: لو بالغ السائل في سؤاله. قال الجوهري: طنَبَ الفرس أي: طال متنه، وأطنب في الكلام: بالغ فيه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا سفيان وجرير، عن منصور، فذكر بإسناده مثله إلاَّ أنه قال: "ولو استزدناه لزادنا". ش: هذا طريق آخر، وقد أخرجه الطحاوي عن عشر طرق كما تراها، وسفيان هو الثوري، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. وأخرجه أبو داود (¬3): نا حفص بن عمر، قال: نا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام -، قال: "المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة". ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وليست في النسخة المطبوعة من "جامع الترمذي". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 40 رقم 157).

وقال أبو داود: رواه منصور بن المعتمر، عن إبراهيم التيمي بإسناده [وقال فيه] (¬1) "ولو استزدناه لزادنا". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي - عليه السلام -، مثله. إلاَّ أنه لم يقل: "ولو استزدناه لزادنا". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة. وأخرجه الطبراني (¬2): عن أبي خليفة، عن الحسن بن علي الواسطي، عن يزيد ابن هارون، عن الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله، عن خزيمة، عن النبي - عليه السلام - قال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر، عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله، عن خزيمة. وأخرجه الطبراني (¬3): عن علي بن عبد العزيز، عن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله، عن خزيمة، عن النبي - عليه السلام - في المسح على الخفين-: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 155 رقم 3790). (¬3) "معجم الكبير" (4/ 95 رقم 3765).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا عفان، نا شعبة، أخبرني الحكم وحماد، سمعا إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام -: "أنه رخص ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". ص: حدثنا أبو بكرة قال: نا أبو داود، وأبو عامر، قالا: نا هشام، عن حماد، عن إبراهيم ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي داود الطيالسي وأبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي، كلاهما عن هشام الداستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي ... إلي آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا أبو مسلم الكشي، نا مسلم بن إبراهيم، نا هشام الدستوائي، نا حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام - قال: "يمسح المسافر على الخُفين ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة". ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخصيب، قال: نا همام (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: نا هُدْبَة، قال: نا همام، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة: "أنه شهد أن النبي - عليه السلام - قال ذلك". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 215 رقم 21924). (¬2) "معجم الكبير" للطبراني (4/ 95 رقم 3764).

ش: هذان طريقان آخران صحيحان أيضًا: أحدهما: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح، عن همام ابن يحيى، عن قتادة، عن أبي معشر زياد بن كليب الكوفي، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله، عن خزيمة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن قتادة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت الأنصاري، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم". والطريق الآخر: عن إبراهيم بن أبي داود، عن هُدْبَة بن خالد، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله، عن خزيمة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ونا موسى بن هارون، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، قالوا: نا هُدْبَة بن خالد، نا همام، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة ابن ثابت، أن النبي - عليه السلام - قال في المسح على الخفين: "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا مسلم، قال: نا هشام، عن حماد عن إبراهيم، عن أبي عبد الله، عن خزيمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة. وأخرجة الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا أبو مسلم الكشي، نا مسلم بن إبراهيم، نا ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 215 رقم 21930). (¬2) "معجم الكبير" (4/ 98 رقم 3781). (¬3) "معجم الكبير" (4/ 95 رقم 3764).

هشام الدستوائي، نا حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا شعبة، قال: ثنا الحكم وحماد، عن إبراهيم، بإسناده مثله. ش: هذا طريق عاشر، وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج ابن منهال، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة وحماد بن أبي سليمان، كلاهما عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت الأنصاري. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو زرعة، ثنا آدم بن أبي إياس (ح). ونا عمر بن حفص السدوسي، ثنا هشام بن علي. ونا أبو خليفة ثنا أبو الوليد. ونا محمَّد بن عبدوس بن كامل السراج، ثنا علي بن الجعد. ونا علي بن علي [البَرْبَهاري] (¬2) نا عفان، قالوا: نا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - عليه السلام - قال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا الصَعْق بن حَزَن، قال: ثنا علي بن الحكم، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حُبَيْش الأسدي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنت جالسا عند النبي - عليه السلام - فجاء رجل من مراد يقال له: صفوان بن عسال، فقال: يا رسول الله إني أسافر بين مكة والمدينة، فأفتني عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 95 رقم 3763). (¬2) في "الأصل، ك": البرفهاري، بفاء بعد الراء الأولى، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير" والبربهَاري بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الباء الثانية أيضًا والراء أيضًا بعد الهاء والألف، وهذه نسبة إلى بربهار، وهي الأدوية التي تجلب من الهند "الأنساب" (1/ 307).

ش: إسناده صحيح، وقال الترمذي: سألت محمدا -يعني البخاري- قلت: أيَّ حديث أصح عندك في التوقيت في المسح على الخفين؟ فقال: حديث صفوان بن علي، وحديث أبي بكرة حسن. وعبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله العيشي الطفاوي أبو بكر البصري الخُلْقاني، وثقه أبو حاتم وابن حبان، وروى عنه البخاري وأبو داود، وروى له النسائي. والصعق بن حزن بن قيس البكري ثم العيشي، روى له مسلم. وعلي بن الحكم البُناني، روى له الجماعة سوى مسلم. والمنهال بن عمرو الأسدي الكوفي، روى له الجماعة سوى مسلم. وزِرّ بن حبيش الأسدي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) بأتم منه: نا عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الله الحضرمي، نا شيبان بن فروخ، ثنا الصعق بن حزن، ثنا علي بن الحكم البناني، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: حدث صفوان بن عسال المرادي، قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - وهو في المسجد متكئ على بُرد له أحمر، فقلت: يا رسول الله، جئت أطلب العلم، فقال: مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة وتظله بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب، ما جئت تطلب؟ قال: قال صفوان: يا رسول الله، لا نزال نسافر بين مكة والمدينة، فأفتنا عن المسح على الخفين، فقال له رسول الله - عليه السلام -: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم". ص: حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن عاصم، عن زر، قال: "أتيت صفوان ابن عسال، فقلت: حَكَّ في نفسي -أو في صدري- المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فهل سمعت من رسول الله - عليه السلام - في ذلك شيئًا؟ قال: نعم، كنَّا إذا كنَّا سَفْرا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 54 رقم 7347).

أو مسافرين أمرنا ألَّا نُنزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلاَّ من جنابة ولكن من بول وغائط". ش: هذا طريق آخر من حديث صفوان -أخرجه من خمس طرق- وهو طريق صحيح عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن عاصم ابن أبي النَجُود، عن زر بن حبيش ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): نا هناد، قال: نا أبو الأحوص، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حُبَيْش، عن عاصم، عن صفوان بن عسال، قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلاَّ من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم". وأخرجه النسائي (¬2): أنا أحمد بن سليمان الراوي، قال: نا يحيى بن آدم، قال: نا سفيان الثوري ومالك بن مغول وزهير وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة، عن عاصم، عن زر قال: "سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم؛ إلاَّ من جنابة". وأخرجه الطبراني (¬3) بأتم منه: ثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: "أتيت صفوان بن عسال، فقال: ما جاء بك؟ قلت: ابتغاء العلم قال: فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب. قال: قلت: (حاك) (¬4) في صدري مسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرءا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت في ذلك شيئًا؟ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 159 رقم 96). (¬2) "المجتبى" (1/ 83 رقم 127). (¬3) "المعجم الكبير" (8/ 56 رقم 7353). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الكبير": حك.

قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرا -أو كنا مسافرين- ألَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن؛ إلاَّ من جنابة، ولكن من غائط وبول. قلت: (أسمعت) (¬1) يذكر الهوى؟ قال: نعم، بينا نحن معه في مسير، إذ ناداه أعرابيّ بصوت جهوريّ -أو قال: بصوت جوهري- بين عَيْنَيْه شَك، قال: يا محمَّد، فأجابه بنحو: من كلامه، فقال: مَهْ؟ فقال: أرأيت رجلًا أحبَّ قوما ولم يلحق بهم؟ قال: هو يوم القيامة مع مَنْ أحب. قال: فلم يَزَل يُحدثنا حتى قال: (إن بين قبل المغرب بابا عرضه) (¬2) سبعين سَنة، فتحه الله للتوبة يوم خلق السموات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس من نحوه". قوله: "حك في نفسي" قال ابن الأثير: يقال: حك الشيء في نفسي إذا لم يكن منشرح الصَّدْرَ به، وكان في قلبك منه شيء من الشك والرَّيب. وأوهمك أنه ذنب وخطيئة، ومنه الحديث: "الإثم ما حك في صدرك". والحديث الآخر: "إياكم والحكَّاكَات فإنها المآثم". وهو جمع حكاكة، وهي المؤثرة في القلب. وقال الجوهري: ما حاك منه في صدري شيء، أي: ما تخالج، ويقال: ما حاك في صدري كذا، إذا لم ينشرح له صدرك. وأما قوله: في رواية الطبراني: "حاك في صدري" من الحيك. وفي الحديث الآخر: "الإثم ما حال في نفسك" أي: أثر فيا ورسخ، وقال الجوهري: الحيك أخذ القول في القلب، يقال: ما يحيك فيه الملام، إذا لم يؤثر. قوله: "أو في صدري" شك من الراوي. قوله: "سَفْرا" جمع سافر كَرَكْب جمع راكب. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الكبير": سمعته. (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الكبير": إن من قبل المغرب بابًا مسيرة عرضه.

قوله: "كنَّا إذا كنَّا سَفْرا" فالاسم لـ"كان" في الموضعين "نون المتكلم" وخبر الأول قوله: "أُمرنا" على صيغة المجهول، وخبر الثاني قوله: "سفرا". قوله: "إلاَّ من جنابة" استثناء من قوله: "ألَّا ننزع خفافنا" والمعنى: عدم نزعنا عن الحدث الأصغر من البول والغائط والنوم لا عن الحدث الأكبر كالجنابة؛ ولهذا استدرك بعده بقوله: "ولكن من غائط وبول" أي: ولكنا لا ننزع من غائط وبول. ورواية النسائي كالتفسير لرواية غيره حيث قال: "ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلاَّ من جنابة" يعني: لكنا ننزعها من جنابة، وقد وقع في كتب الفقه بحرف النفي حيث يقال فيها: "ألَّا ننزع خفافنا لا من جنابة ولكن من بول وغائط". والظاهر أن هذا تصحيف، فإن صحت هذه الرواية، يكون المعنى أمرنا بالنزع من جنابة ولكن ما أمرنا به من بول وغائط. ويستفاد منه: أن المسح لا يجوز لمن وجب عليه الغسل، ولهذا قال صاحب "المبسوط"، "والهداية" وغيرهما: وإنما يجوز المسح في كل حدث موجب للوضوء دون الاغتسال؛ لحديث صفوان بن عسال المرادي؛ ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن، ومع الخف لا يتأتى ذلك. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا سليمان بن حرب، قال: نا حماد بن زيد، عن عاصم، فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا علي بن عبد العزيز، نا عارم أبو النعمان، نا حماد بن زيد، ثنا عاصم بن بَهْدلة، عن زر بن حبيش قال: "أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك يا صاح؟ فقلت: ابتغاء العلم، فقال: لقد بلغني أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع. فقلت له: حاك- أو حال- في ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 59 رقم 7360).

نفسي المسح على الخفين، فهل حفظت عن رسول الله - عليه السلام - فيه شيئًا؟ قال: نعم، كنا مع رسول الله في سفر كذا وكذا ... " الحديث. ص: حدثنا حجاج، قال: نا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدَلة، فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا علي بن عبد العزيز، نا حجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: "غدوت على صفوان بن عسال المرادي وأنا أريد أن أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم، فقال: ألا أبشرك؟ فقلت: بلى، فرفع الحديث، فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضَى بما يطلب. ثم سألت عن المسح على الخفين، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن من بول أو غائط أو نوم، لا من جنابة". الحديث. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا عفان، قال: نا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا أبو رَوْق عطية بن الحارث، قال: ثنا أبو الغَريف عبيد الله بن خليفة، عن صفوان بن عسال، "قال بعثني رسول الله - عليه السلام - في سرية، فقال: للمسافر ثلاث وللمقيم يوم وليلة مسحا على الخفين". ش: هذا هو الطريق الخامس، وهو جيّد لا بأس به، وعفان هو ابن مسلم البصري، روى له الجماعة. وعبد الواحد بن زياد أبو عُبيدة البصري روى له الجماعة. وأبو روق الهَمْداني اسمه عطية بن الحارث، قال أبو حاتم: صدوق، ووثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 58 رقم 7359).

وأبو الغَريف -بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وفي آخره فاء- اسمه عبيد الله بن خليفة، تكلموا فيه، ولكن ابن حبان وثقه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا يونس وعفان، قالا: ثنا عبد الواحد بن زياد ... إلى آخره نحوه، وفيه: "اغزوا بسم الله، لا تغلّو الأولى تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا علي بن عبد العزيز، نا محمَّد بن عبد الله الرقاشي، نا عبد الواحد بن زياد، نا أبو رَوْق ... إلى آخره. ولفظه: "بعثني رسول الله - عليه السلام - في سرّية فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة يمسح على الخفين". قوله: "في سرية" وهي قطعة من الجيش، يقال: خير السَّرايَا أربعمائة رجل، وأصله من سَرَا يَسْرُو، وسَرِيَ -بالكسر- يَسْرى سَرْوا فيهما.، وسَرُو يسرُو سراوة أي صار سريّا. قوله: "لا تَغُلُّوا" من غَلَّ في المغنم غلولا، أي: خان، وأَغَلَّ مثله. "ولا تغدروا" من الغدر وهو الخيانة، قال الجوهري: هو ترك الوفاء، وقد غَدَر به فهو غادرٌ، وغُدَر أيضًا. "ولا تمثلوا" من مثَّل بالقتيل جَدَعه، ومثل به يُمَثِّل مُثَلا أي: شكل به، والاسم: المُثْلة بالضم. و"الوليد": الصبي. قوله: "مسحا على الخفين" منصوب بفعل محذوف، أي: يمسح مسحا، هذا إذا قرئ "مسحا" على المصدر، وأما إذ قُرئت "مَسَحا" على لفظ التثنية في الماضي تكون ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 240 رقم 1822). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 70 رقم 7397).

حالًا بتقدير "قد" والتقدير: للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم، حال كونهما قد مسحا على خفيهما. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: نا عبد الوهاب الثقفي، عن مهاجر، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله، وزاد: "وإذا لبستهما على طهارة". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي. وإبراهيم بن أبي الوزير هو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، أبو عمرو ابن أبي الوزير، روى له الجماعة إلاَّ مسلما. وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وثقه ابن حبان. ومهاجر: هو ابن مخلد البصري مولى البكرات، قال يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: لين الحديث ليس بذاك أو ليس بالمتين، شيخ يكتب حديثه. وعبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي أبو بحر، روى له الجماعة. وأبوه أبو بكرة اسمه نُفَيع بن الحارث الثقفي الصحابي. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): نا ابن مبشر، نا أبو موسى محمَّد بن المثنى. ونا ابن مبشر، ثنا أبو الأشعث. ونا إبراهيم بن حماد نا العباس بن يزيد، قالوا: نا عبد الوهاب الثقفي، ثنا المهاجر أبو مخلد مولى البكرات، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة، إذا تطهر ولبس خُفَّيه أن يمسح عليهما". ويُستفاد منه اشتراط اللبس على طهارة كاملة، وهذا لا خلاف فيه، والخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث، فعندنا عند الحدث، وعند ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 194 رقم 1).

الشافعي عند اللبس، وتظهر ثمرته فيما إذا غسل رجليه أولا ولبس خفيه ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث ثم أحدث، صار له المسح عندنا خلافا له، وكذا لو توضأ فرتب لكن غسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم غسل الأخرى ولبس الآخر؛ يجوز عندنا خلافا له، وهذا مبني على أن الترتيب شرط عنده، وفي الصورة الثانية وإن وجد الترتيب عنده ولكنه لم يوجد اللبس على طهارة كاملة، ولو لبسهما وهو محدث ثم توضأ وخاض الماء حتى أصابَ الماءُ داخل الخفِّ رجليه، ثم أحدث؛ جاز له المسح عندنا خلافا له، ولو لبسهما وهو محدث ثم أحدث قبل أن يتم الوضوء ثم أتم الوضوء؛ لا يجوز له المسح إجماعا، ولو أراد الطاهر أن يبول فلبس خفيه ثم بال؛ جاز له المسح؛ لأنه على طهارة كاملة وقت الحدث بعد اللبس، وسئل أبو حنيفة عن هذا، فقال: لا يفعله إلاَّ فقيه. ولو لبسهما على طهارة التيمم ثم وجد الماء؛ نزع خفيه، لأنه صار محدثا بالحدث السابق على التيمم، ولو لبسهما على طهارة بنبيذ التمر ثم أحدث فإن لم يجد ماء مطلقا توضأ بنبيذ التمر ومسح على خفيه، لأنه طهور مطلق حال عدم الماء عند أبي حنيفة، وإن وجد ماء نزعهما وتوضأ وغسل قدميه، وكذا لو توضأ بسؤر الحمار ولبسهما ولم يتيمم حتى أحدث؛ صار له أن يتوضأ بسؤر الحمار ويمسح على خفيه ثم يتيمم ويصلي، ولو توضأ ومسح على جبائر قدميه ولبسهما ثم أحدث، أو كانت إحدى رجليه صحيحة فغسلها ومسح على جبائر الأخرى ولبسهما ثم أحدث، فإن لم يكن برئ الجرح مسح عليهما، ولو] (¬1) كان برئ نزعهما؛ لأنه صار محدثا بالحدث السابق. كل ذلك من الزيادات. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا سعيد بن منصور، قال: أنا هشيم، قال: أنا داود بن عمرو الحضرمي، عن بُسْر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني، قال: نا عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي - عليه السلام - ... مثله في التوقيت خاصة، وزاد أنه جعل ذلك في غزوة تبوك. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": إلا. وما أثبتناه أليق بالسياق.

ش: إسناده حسن جيد، وداود بن عمرو الأوْدي الشامي، وثقه ابن معين، وروى له أبو داود حديثين. وبُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن عبيد الله الحضرمي الشامي، روى له الجماعة. وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله بن عبد الله، روى له الجماعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): نا الحسن بن إسماعيل وعمر بن محمَّد بن المسيب والحسين بن يحيى بن عياش، قالوا: نا إبراهيم بن مجشر، نا هشيم، عن داود بن عُمرو، عن بُسْر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني، قال: نا عوف بن مالك الأشجعي: "أن رسول الله - عليه السلام - أمرنا بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وللمقيم قوما وليلة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا هُشيم بن بشر، قال: نا داود بن عَمرو ... إلى آخره نحوه. قوله: "في غزوة تبوك" وكانت في التاسعة من الهجرة في رجب منها، وكان مع رسول الله - عليه السلام - ثلاثون ألفا، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، واستخلف رسول الله - عليه السلام - على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري. وذكر الدراوردي أنه استخلف سباع بن عرفطة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا هشيم، عن داود ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق أخر مثل الأول في الحُسن. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 197 رقم 18). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 161 رقم 1853). (¬3) "المعجم الكبير" (18/ 45 رقم 69).

ونا علي بن عبد العزيز، نا سعيد بن منصور، قالا: نا هشيم، أنا داود بن عمرو، عن بُسْر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني، قال: نا عوف بن مالك الأشجعي، قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالمسح على الخفين في غزوة تبوك، للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ورواه البزار في "مسنده" (¬1) أيضًا بإسناد جيد. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا مكي بن إبراهيم، قال: نا داود بن يزيد، عن عامر بن عروة بن المغيرة، أنه سمع أباه يقول: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - فذهب لحاجته، فأتيته بماء -وعليه جُبَّة شامية- فتوضأ ومسح على الخفين، فكانت سُنّة للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ش: مكي بن إبراهيم البلخي أحد مشايخ البخاري. وداود بن يزيد بن عبد الرحمن الأوْدي الزَعافري، ضعفه أحمد ويحيى وغيرهما. وعن يحيى: ليس حديثه بشيء. وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة فهو ثقة. روى له الترمذي وابن ماجه. وعامر هو ابن شراحيل الشعبي. وعروة بن المغيرة بن شعبة أبو يعفور الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا عبد الله بن محمَّد بن شعيب [الرجاني] (¬3)، نا يحيى بن حكيم المقدَّم، نا مكي بن إبراهيم، نا داود بن يزيد الأودي، عن عامر ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (7/ 179 رقم 2757). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 374 رقم 873). (¬3) في "الأصل، ك": "المرجاني" بزيادة ميم في أوله، وهو تحريف، وفي "المعجم الكبير": "الرحابي" بحاء مهملة وباء موحدة، وهو تحريف أيضًا. وما أثبتناه هو الصواب، فقد ضبطه ابن ماكولا في "الإكمال" (4/ 127): بالجيم وبعد الألف نون، وتابعه ابن السمعاني في "الأنساب" (3/ 44).

الشعبي، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، أنه سمع أباه قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - فذهب لحاجته ثم أشار إليَّ، فأتيته بماء، وعليه جبَّة شامية ليس لها يدان فألقاها على عاتقه وقال: صُبَّ عليَّ، فصببته عليه، فتوضأ ... " إلى آخره نحوه. وحديث المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين رواه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عمرو بن خالد الحراني، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه المغيرة بن شعبة، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه خرج لحاجته، فأتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته، فتوضأ ومسح على الخفين". ومسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب -قال أبو بكر-: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة، قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - في سفر فقال: يا مغيرة، خذ الإداوة، فأخذتها ثم خرجت معه، فانطلق رسول الله - عليه السلام - حتى توارى عني، فقضى حاجته ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكفين، فذهب يخرج يده من كميها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة ثم مسح على خفيه، ثم صلى" وله روايات أخرى (¬3). وأبو داود (¬4): عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس ابن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني عباد بن زياد، أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره، أن أباه المغيرة بن شعبة يقول: "عدل رسول الله - عليه السلام - وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر ... " ... الحديث، وفيه: "ثم توضأ على خفيه". والترمذي (¬5): عن محمَّد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 85 رقم 200). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 229 رقم 274). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 37 رقم 149). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 170 رقم 100).

التيمي، عن بكر بن عبد الله المزني، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال: "توضأ النبي - عليه السلام - ومسح على الخفين والعمامة". والنسائي (¬1): عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، قال: سمعت إسماعيل بن محمَّد بن سعد، قال: سمعت حمزة بن المغيرة بن شعبة يحدث، عن أبيه قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - في سفر ... " الحديث. وفيه: "ومسح على خفيه". وابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن رمح، عن الليث بن سعد ... إلى آخره، نحو رواية البخاري. ص: حدثنا فهد، قال: نا أحمد بن يونس، قال: نا أبو شهاب، عن الحجاج ابن أرطاة، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - في المسح على الخفين: "للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن". ش: إسناده صحيح، وأحمد بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وأبو شهاب الحنَّاط -بالنون- واسمه عبد ربه بن نافع الكناني، روى له الجماعة إلَّا الترمذي. والحجاج بن أرطاة الكوفي، روى له مسلم مقرونا بغيره. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، روى له الجماعة. وعلي بن ربيعة الوالبي الأسدي، روى له الجماعة. وأخرجه أبو الفضل الجارودي بغير هذا الإسناد من طريق سلام بن أبي خَبْزَةَ (¬3) عن أبان، عن صلة، عن شُتَيْر بن شكل، عن علي بن أبي طالب، عن النبي - عليه السلام - قال: "المسافر يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة". ورواه أيضًا الحافظ تمام بن محمَّد الرازي، في "فوائده" من حديث بُسْرة بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 83 رقم 125). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 181 رقم 545). (¬3) كتب في حاشية "الأصل": أبو خَبزة، بفتح الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وبالزاي المعجمة.

صفوان اللخمي، عن أبي عمرو البزار حفص بن سليمان، عن أبي حصين، عن أبي ظبيان، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "المسح على الخفن للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". وهذا كما رأيت، أخرج الطحاوي في توقيت المسح عن ستة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وخزيمة بن ثابت، وصفوان بن عسال، وأبو بكرة الثقفي، وعوف بن مالك الأشجعي، والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم -. ص: فهذه الآثار قد تواترت عن رسول الله - عليه السلام - بالتوقيت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة؛ فليس ينبغي لأحد أن يترك مثل هذه الآثار إلى مثل حديث أبي بن عمارة. ش: أراد بها الأحاديث المذكورة، وأراد بالتواتر التكاثر والتتابع، ولم يرد به التواتر الاصطلاحي، وقد بينا علل حديث أبي بن عمارة وأن العمل ليس عليه. ص: وأما ما احتجوا به مما رواه عقبة بن عامر عن عمر - رضي الله عنهما - فإنه قد تواترت الآثار أيضًا عن عمر بخلاف ذلك. حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة قال: "قلنا لنُبَاتة الجعفي -وكان أجرأنا على عمر-: سَلْه عن المسح على الخفين، فسأله فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". حدثنا أبو بكرة، قال: نا مؤمل، قال: نا سفيان الثوري، قال: نا عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة: "أن نُبَاتة سأل عمر - رضي الله عنه - عن ذلك، فقال: امسح عليهما يوما وليلة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا سعيد، قال: نا هشيم، قال: أنا مالك ابن مغول، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة قال: "أتينا عمر - رضي الله عنه - فسأله نُبَاتَة عن المسح على الخفين، فقال عمر: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم

وليلة". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر ... مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر، قال: نا هشام، عن حماد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن خزيمة، قال: نا مسلم، قال: نا هشام، قال: نا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر ... مثله. حدثنا فهد، قال: نا محمد بن سعيد، قال: أنا حفص، عن عاصم، عن أبي عثمان، أن عمر - رضي الله عنه - قال: "مَنْ أدخل قدميه وهما طاهرتان؛ فليمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته". حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب، قال: "كتب إلينا عمر - رضي الله عنه - في المسح على الخفين: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". فهذا عمر - رضي الله عنه - قد جاء عنه في هذا ما يوافق ما روينا عن رسول الله - عليه السلام - في التوقيت للمسافر وللمقيم، وقد يحتمل حديث عقبة أيضًا أن يكون ذلك الكلام كان من عمر؛ لأنه علم أن طريق عقبة الذي جاء منه طريق لا ماء فيه، فكان حكمه أن يتيمم فسأله متى عهدك بخلع خفيك؟ إذ كان حكمك هو التيمم، فأخبره بما أخبره، وهذا الوجه أولى ما حُمِلَ عليه هذا الحديث؛ ليوافق ما روي عن عمر - رضي الله عنه - سواه ولا يضاده. ش: لما أقام الدليل لأهل المقالة الثانية من الأحاديث الصحيحة؛ أشار إلى الجواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من رواية عقبة بن عامر عن عمر - رضي الله عنه -. بيانه: أن الأخبار تواترت عن عمر - رضي الله عنه - بتوقيت المسح في حق المسافر: بثلاثة

أيام، وفي حق المقيم بيوم، وخبر عقبة لا يعارضها؛ لأنه بالنسبة إليها غريب، فلا يقاوم الأخبار المشهورة، ولئن سلمنا أنه مثلها ولكنه يُأَول؛ لأجل نفي التضاد ولتتوافق الأخبار عنه، وأشار إلى تأويله بقوله: "وقد يحتمل حديث عقبة ... " إلى آخره، وهو ظاهر، وأوَّله بعضهم بأن قول عمر - رضي الله عنه -: "متى عهدك يا عقبة بخلع خفيك؟ فقلت: لبستهما يوم الجمعة وهذه الجمعة" يكون سؤالا [من] (¬1) عمر - رضي الله عنه -[عن] (¬2) ابتداء الخلع، ويكون جواب عقبة بيانا عن ابتداء اللبس، وإن كان تخلل بين ذلك نزع الخف، ويكون معنى قول عمر - رضي الله عنه -: "أصبت السنة" أي: سُنة الرسول - عليه السلام - في المسح على الخفين، لا في المدة الزائدة على ثلاثة أيام، فافهم. ثم إنه أخرج ما روي عن عمر - رضي الله عنه - في توقيت المسح من ثمان طرق صحاح ورجالها كلهم ثقات: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن يحيى بن حسان، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن عمران بن مسلم المنقري أبي بكر [النَّصْري- بالنون] (¬3) عن سويد بن غفلة أبي أمية الكوفي، عن نُبَاتة -بضم النون- الجعفي الكوفي. قوله: "وكان أجرأنا" أي نُبَاتة وهو أفعل من الجراءة وهو الإقدام على الشيء من غير احتشام. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن عمران بن مسلم ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن الثوري، عن حماد، عن إبراهيم [عن ¬

_ (¬1) في "الأصل": عن. (¬2) في "الأصل": من. (¬3) كذا بـ"الأصل، ك" وكذا في "مغاني الأخيار" وهو وهم، والصواب فيه "البصري" بالباء الموحدة كما في جميع مصادر ترجمته، ولم أجد من نسبه بالنون كما قال المؤلف، وراجع ترجمته في "تهذيب الكمال" وفروعه. (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 205 رقم 794).

الأسود] (¬1) عن نباتة، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن مالك بن مغول النخعي الكوفي، عن عمران بن مسلم ... إلى آخره. الرابع: عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبرهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن نباتة. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬2): أنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني عبد الرحمن ابن الحسن، نا إبراهيم بن الحسن، نا آدم، نا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "المسح للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن". الخامس: عن أبي بكرة، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه محمد بن الحسن في "آثاره" (¬3): أنا أبو حنيفة، قال: نا حماد، عن إبراهيم، عن حنظلة، عن نباتة الجعفي، أن عمر بن الخطاب قال: "المسح على الخفين للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن؛ إذا لبستهما وأنت طاهر". السادس: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي، عن هشام الدستوائي، عن حماد بن سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر - رضي الله عنه -. السابع: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني، عن حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مَلّ، أن عمر ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 276 رقم 1228). (¬3) "الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 12 رقم 8).

وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬1): أنا أبو بكر محمَّد بن إبراهيم الحافظ، أنا أبو نصر أحمد بن عمرو، أنا سفيان بن محمَّد الجوهري، نا علي بن الحسن، نا عبد الله بن الوليد، نا سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "يمسح الرجل على خفيه إلى ساعتها من يومها وليلتها". الثامن: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يزيد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش، عن زيد بن وهب الجُهني التابعي الكبير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا هشيم، قال: أنا يزيد بن أبي زياد، قال: نا زيد بن وهب، قال: "كتب إلينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب الجهني، قال: "كنا بأذربيجان، فكتب إلينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يمسح على الخفين ثلاثا إذا سافرنا، وليلة إذا أقمنا". ص: وقد روي في ذلك عن غير عمر - رضي الله عنه - من أصحاب النبي - عليه السلام - ما يوافق ما روينا. ش: أي قد روي في توقيت المسح عن غير عمر من الصحابة والتابعين ما يوافق ما روي عن عمر - رضي الله عنه -. ص: حدثنا فهد، قال: نا أبو غسان، قال: نا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ قال: "أتيت عائشة - رضي الله عنها - فسألتها عن المسح على الخفين، فقالت: إيت عليّا؛ فإنه أعلمهم بوضوء رسول الله - عليه السلام -؛ كان يسافر معه. فأنهيته فسألته، فقال: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 276 رقم 1229). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 163 رقم 1879). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 206 رقم 796).

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو غسان: مالك بن إسماعيل بن درهم النهدي الكوفي، أحد مشايخ البخاري. وزهير هو ابن معاوية بن حديج. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأخرجه مسلم (¬1) من حديث القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، عن علي مرفوعا. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، قال: "جعل عبد الله المسح على الخفين ثلاثة أيام للمسافر، وللمقيم يوما وليلة". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأبو نعيم الفضل بن دكين، وسفيان هو الثوري، وإبراهيم هو ابن يزيد التيمي. وأخرجه ابن أي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن مهدي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله قال: "ثلاث للمسافر، وللمقيم يوم وليلة". وقال الحارث: "ما أخلع خفي حتى آتي فراشي". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن الثوري، عن سلمة بن كهيل ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم عن عمرو بن الحارث، قال: "سافرت مع عبد الله فكان لا ينزع خفيه ثلاثا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 232 رقم 276). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 167 رقم 1926). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 207 رقم 799).

ش: إسناده صحيح، أبو عوانة الوضاح، والمغيرة بن مقسم، وإبراهيم هو التيمي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق، قال: "سافرت مع عبد الله بن مسعود ثلاثا إلى المدينة لم ينزع خفيه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن أبي سعيد بن الأعرابي، عن سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن الحارث ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". ش: إسناده صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬3): أنا أبو نصر بن عبد العزيز، أنا أبو علي الرَّفاء، أنا علي بن عبد العزيز، نا خلف بن موسى بن خلف العمّي، نا أبي، عن قتادة، عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: "سألت ابن عباس ... " إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق أخر وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 207 رقم 800). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 277 رقم 1230). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 277 رقم 1232).

وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من حديث شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال: "سألت ابن عباس عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". ثم قال وهذا إسناد في غاية الصحة. ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: نا هشيم، قال: أخبرني غيلان بن عبد الله، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول ذلك. ش: إسناده حسن جيد، وسعيد هو ابن منصور، وهشيم هو ابن بشير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا هشيم، قال: أنا غيلان بن عبد الله مولى بني مخزوم، قال: "سمعت ابن عمر، سأله رجل من الأنصار عن المسح على الخفين قال: ثلاثة أيام للمسافر، وللمقيم يوم وليلة". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا هُذْبَةُ، قال: نا سلام بن مسكين، عن عبد العزيز، عن أنس، مثله. ش: إسناده صحيح، وهُدْبَة هو ابن خالد البصري أحد مشايخ البخاري. وعبد العزيز هو ابن صُهيب البناني البصري الأعمى. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: أنا حجاج، قال: أنا حماد، عن سعيد بن قطن، عن أبي زيد الأنصاري، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -، مثله. ش: حجاج هو [ابن] (¬3) المنهال، وحماد هو ابن سلمة. وسعيد بن قطن القطعي قال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن الجوزي: قال الرازي: مجهول (¬4). ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 88). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 164 رقم 1889). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والصواب إثباتها. (¬4) قال الحافظ في "لسان الميزان" (3/ 41): وما في كتاب ابن أبي حاتم مجهول بل فيه: إنه شيخ.

وأبو زيد الأنصاري (¬1). ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن يونس وقتادة، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس، مثله. ش: هذا طريق آخر في أثر ابن عباس، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة، عن موسى بن سلمة بن المحبق، عن ابن عباس، وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن عُليَّة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة الهذلي، عن ابن عباس قال: "يمسح المسافر على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذه أقوال أصحاب رسول الله - عليه السلام - فقد اتفقت على ما ذكرنا من التوقيت في المسح على الخفين للمسافر والمقيم، فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك، وهذا الذي ذكرناه أيضًا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أشار بهذه الأقوال إلى ما روي عن علي، وابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، ورجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام -. وقد روي عن غيرهم أيضًا من الصحابة والتابعين، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن سماك، قال: سمعت جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "ما أبالي لو لم أنزع خفي ثلاثا". ¬

_ (¬1) ترك له المصنف بياضًا في "الأصل، ك"، وهو عمرو بن أخطب بن رفاعة أبو زيد الأنصاري الأعرج الصحابي الجليل، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة غزوة، وروى له الجماعة سوى البخاري، روى عنه أنس بن سيرين، وسعيد بن قطن، وأبو قلابة الجرمي وغيرهم، انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" (6/ 220)، و "تهذيب الكمال" (21/ 542)، و"سير أعلام النبلاء" (3/ 473) وغير ذلك. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 166 رقم 1911). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 165 رقم 1899).

وقال (¬1): نا عائذ بن حبيب، عن طلحة بن يحيى، عن أبان بن عثمان، قال: "سألت سعد بن أبي وقاص عن المسح على الخفين، فقال: نعم، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم". نا (¬2) حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، قال: قال سعيد بن المسيب: "إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان وأنت مقيم كفاك إلى مثلها من الغد، وللمسافر ثلاث ليال". نا (¬3) يعلى، عن موسى الجهني، عن عمرو الجمال الأسود، قال: سألت عنه سالما فقال: "للمسافر ثلاثة أيام وثلاث ليال، وللمقيم يوم وليلة". عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن ابن جريج، قال: أخبرني أبان بن صالح، أن عمير بن شريح أخبره، أن شريحا كان يقول: "للمقيم يوم إلى الليل، وللمسافر إلى ثلاث ليال". ثم اعلم أنه قد وردت في المسح على الخفين عدة أحاديث تبلغ التواتر على رأي كثير من العلماء. قال الميموني عن أحمد: فيها سبعة وثلاثون صحابيا. وفي رواية الحسن بن محمَّد عنه: أربعون. وكذا قاله البزار في "مسنده"، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيا. وفي "الأشراف": عن الحسن: حدثني به سبعون صحابيا. وقال: ابن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين وعامة أهل العلم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 166 رقم 1909). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 166 رقم 1914). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 166 رقم 1915). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 258 رقم 803).

والأثر (¬1). (ولا ينكره إلاَّ مخذول مبتدع خارج عن جماعة المسلمين) (¬2). وقال صاحب "البدائع": المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلَّا شيئًا روي عن ابن عباس أنه لا يجوز، وهو قول "الرافضة" ثم قال: روي عن الحسن البصري أنه قال: "أدركت سبعين بدريّا من الصحابة كلهم يرون المسح على الخفين". ولهذا رآها أبو حنيفة من شرائط السنة والجماعة. فقال فيها: أن نفضل الشيخين، ونحب الختنين، ونرى المسح على الخفين، وألَّا نحرم نبيذ الجر -يعني المثلث (¬3). وروي عنه أنه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني في مثل ضوء النهار فكان الجحود ردّا على كبار الصحابة ونسبته إياهم إلى الخطأ فكان بدعة؛ ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين. والأُمة لم تختلف أن رسول الله - عليه السلام - مسح، وإنما اختلفوا أنه مسح قبل نزول المائدة أو بعدها. وروي (¬4) عن عائشة والبراء بن عازب: "أن النبي - عليه السلام - مسح بعد المائدة"، وروي عن جرير بن عبد الله البجلي: "أنه توضأ ومسح على الخفين، فقيل له في ذلك، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الخفين. فقيل له: أكان ذلك بعد نزول المائدة؟ فقال: هل أسلمت إلاَّ بعد نزولها؟! وما رأيت رسول الله - عليه السلام - مسح إلاَّ بعد ما نزلت"، ذكره ابن خزيمة في "صحيحه" (¬5). ¬

_ (¬1) إلى هنا بتصرف من كتاب "التمهيد" (11/ 137). (¬2) وهذا الكلام ليس تتمة الكلام السابق، وإنما ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 134). (¬3) والمثلث هو أن يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. انظر "لسان العرب" "مادة: ثلث". (¬4) أخرجه الدارقطني في "سننه" (1/ 194 رقم 6)، والطبراني في "مسند الشاميين" (2/ 364 رقم 1503، 1504). (¬5) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 94 رقم 187).

وعند "الطبراني" (¬1): "أنه كان مع النبي - عليه السلام - في حجة الوداع فمسح على خفيه"، وفي لفظ: "يوم نزول المائدة فرأيته يمسح" (¬2). وعند "الدارقطني" (¬3): "قدمت على النبي - عليه السلام - بعد نزول المائدة، فرأيته يمسح". وعند أبي علي الطوسي مصححا: "مسح على خفيه -أو قال-: جَوْرَبَيْه"، قال عيسى بن يونس: أنا أشك. وفي حديث أنس (من) (¬4) عند الطبراني في "الأوسط" (¬5) بسند جيد: "وضأت النبي - عليه السلام - قبل موته بشهر فمسح على الخفين والعمامة". وقال لم يروه عن سليمان التيمي عنه إلاَّ علي بن الفضل بن عبد العزيز. وعند "الميموني": "خدمت النبي - عليه السلام - تسع سنين وهو يفعل ذلك". وعند الطبراني (¬6): من حديث البراء وأبي أمامة: "لم يزل رسول الله - عليه السلام - يمسح قبل نزول المائدة وبعده حتى قبضه الله تعالى". وعن عائشة: "ما زال رسول الله - عليه السلام - يمسح منذ أنزلت عليه سورة المائدة حتى لحق بالله" (¬7). وقال البيهقي (¬8): وإنما نقلنا كراهة ذلك عن علي وابن عباس وعائشة. فأما الرواية عن علي: "سبق الكتاب المسح على الخفين". فلم يرو ذلك عنه بإسناد موصول يثبت مثله. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (7/ 155)، و"الكبير" (2/ 358 رقم 2506). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، ولم أجده، والذي ثبت عنه أنه ما أسلم إلا بعد نزول المائدة .. (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 193 رقم 4). (¬4) كذا في "الأصل". (¬5) "المعجم الأوسط" (5/ 59 رقم 4664). (¬6) "المعجم الأوسط" (5/ 355 رقم 5537). (¬7) أخرجه الدارقطني في "سننه" (1/ 194 رقم 6). (¬8) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 272 رقم 1206) بتصرف واختصار.

وأما عائشة فثبت عنها أنها أحالت بعلم ذلك على عليّ - رضي الله عنه -. وأما ابن عباس فإنما كرهه حين لم يثبت عنده مسح النبي - عليه السلام - بعد نزول المائدة، فلما ثبت له رجع إليه. وقال الجوزقاني في كتاب "الموضوعات": إنكار عائشة غير ثابت عنها. وقال الكاساني (¬1): وأما الرواية عن ابن عباس فلم تصح؛ لأن مداره على عكرمة. وروي أنه لما بلغ ذلك عطاء قال: كذب عكرمة. وروي عن عطاء أنه قال: "كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين، فلم يمت حتى تابعهم". وفي "المغني" (¬2) لابن قدامة: قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله - عليه السلام - ما رفعوا إلى رسول الله - عليه السلام - وما أوقفوا. وروي عنه أنه قال: المسح أفضل، يعني من الغسل؛ لأن النبي - عليه السلام - وأصحابه إنما طلبوا الفضل، وهذا مذهب الشعبي، والحكم، وإسحاق. انتهى. وفي "الهداية" (¬3): الأخبار فيه مستفيضة حتى قيل: إن مَنْ لم يره كان مبتدعا، لكن من رآه ثم لم يمسح أخذ بالعزيمة وكان مأجورا. وحكى القرطبي مثل هذا عن مالك أنه قاله عند موته، وعن مالك فيه أقوال: أحدها: أنه لا يجوز المسح أصلا. الثاني: أنه يجوز بُكْرَة. الثالث: وهو الأشهر: يجوز أبدا بغير توقيت. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 8). (¬2) "المغني" (1/ 174). (¬3) "الهداية" (1/ 28).

الرابع: يجوز بتوقيت. الخامس: يجوز للمسافر دون الحاضر. السادس: عكسه. وقال إسحاق والحكم وحماد: المسح أفضل من غسل الرجلين، وهو قول الشعبي وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال ابن المنذر: هما سواء، وهي رواية عن أحمد. وقال أصحاب الشافعي: الغسل أفضل من المسح بشرط ألَّا يترك المسح رغبة عن السنة ولا شك في جوازه. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلاَّ مالكا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك انتهى. قلت: فيه نظر؛ لما في "مصنف ابن أبي شيبة" من أن مجاهدا وسعيد بن جبير وعكرمة كرهوه، وكذا حكاه أبو الحسين عن محمَّد بن علي بن الحسن وأبي إسحاق السَّبِيعي وقيس بن الربيع. وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن أبي داود والخوارج والروافض. ثم اعلم أنا نشير إلى جماعة من الصحابة الذين رووا المسح على الخفين بإشارة لطيفة وهم سبعة وستون صحابيا. فحديث على - رضي الله عنه - عند مسلم (¬1). وحديث عمر بن الخطاب عند ابن أبي شيبة (¬2) بسند حسن. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 232 رقم 276). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 163 رقم 1872).

وحديث أنس بن مالك عند "النسائي" (¬1) بسند صحيح. وحديث جابر بن عبد الله عند الطبراني في "الأوسط" (¬2) بسند جيد. وحديث عبادة بن الصامت وأبي أمامة عند عبد الله بن وهب في "مسنده" (¬3) بسند ضعيف. وحديث أسامة بن شريك عند القاضي ابن طاهر الذهلي بسند لا بأس به (¬4). وحديث سَلْمان عند ابن حبان في "صحيحه" (¬5)، وحديث جرير عند الجماعة. وحديث أبي أيوب الأنصاري عند أبي بكر بن زياد النيسابوري في كتاب "الأبواب" بسند صحيح (¬6). وحديث سعيد بن أبي مريم عن رجل له صحبة عند البخاري (¬7): وأعلّه. وحديث أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن الحارث بن جزء عند البيهقي (¬8). ¬

_ (¬1) لم أجده عند النسائي، وإنما عزاه الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 167) لابن ماجه (1/ 182 رقم 548)، والطبراني في "الأوسط" (6/ 261 رقم 6356). (¬2) "المعجم الأوسط" (2/ 30 رقم 1135)، وانظر "نصب الراية" (1/ 169). (¬3) وعزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 260) للطبراني في "المعجم الكبير" من حديث أبي أمامة، وقال: وفيه مروان أبو سلمة، قال الذهبي: مجهول. وأما حديث عبادة بن الصامت، فقد عزاه الهيثمي أيضًا في "المجمع" (1/ 258) للطبراني في "الكبير" من رواية إسحاق بن يحيى، عن عبادة. قال: ولم يدركه. (¬4) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 187 رقم 492)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 260): وفيه عمر بن عبد الله بن يعلى وهو مجمع على ضعفه. (¬5) "صحيح ابن حبان" (4/ 175 رقم 1344). (¬6) أخرجه أحمد في "مسنده" (5/ 421 رقم 23621)، والطبراني في "الكبير" (4/ 170 رقم 439). (¬7) "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 512 رقم 1703). (¬8) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 271).

وحديث أبي مسعود الأنصاري (¬1) وبُدَيْل بن ورقاء (¬2) عند العسكري في كتاب "الصحابة". وحديث عثمان بن عفان، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وفضالة بن عُبَيد، عند أبي عمر ابن عبد البر بأسانيد حسان (¬3). وحديث الزبير بن العوام عند الطبراني في "الأوسط" (¬4). وحديث خالد بن سعيد بن العاص عند النيسابوري في "الأبواب". وحديث عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد عند ابن قانع (¬5) بسند لا بأس به. وحديث أسامة عن بلال عند ابن خزيمة في "صحيحه" (¬6). وحديث عوف بن مالك عند الترمذي محسنا في كتاب "العلل" (¬7). وحديث أبي برزة الأسلمي عند النيسابوري في "الأبواب" (¬8). وحديث ابن عباس عند النسائي (¬9): من طريق جيد، قال الميموني عن أحمد: ليس بصحيح. ¬

_ (¬1) أما حديث أبي مسعود الأنصاري فأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (1/ 167 رقم 1917). (¬2) وأما حديث بديل بن ورقاء فلم أجده، وإنما أخرجوا حديث بديل آخر غير منسوب، وهو حليف بني لخم، كما في "الإصابة" (1/ 275)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 151)، و"معجم الصحابة" لابن قانع (1/ 101)، و"تاريخ بغداد" (10/ 448)، وهو غير بديل بن ورقاء. (¬3) "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 137، 138). (¬4) لم أجده. (¬5) "معجم الصحابة" لابن قانع (2/ 128 رقم 592). (¬6) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 93 رقم 185). (¬7) وأخرجه أحمد في "مسنده" (6/ 27 رقم 24041)، والطبراني في "الكبير" (18/ 40 رقم 69)، وفي "الأوسط" (2/ 33 رقم 1145)، والدارقطني في "سننه" (1/ 197 رقم 18) وغيرهم. (¬8) أخرجه البزار في "مسنده" (9/ 310 رقم 3855). (¬9) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 165 رقم 1893)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 277 رقم 1232).

وحديث أبي عوسجة مسلم عند البزار وأعله (¬1). وحديث أبي هريرة عند مسلم في كتاب "التمييز" (¬2). وحسنه ابن عبد البر. وحديث شبيب بن غالب الكندي عند أبي نعيم في "معرفة الصحابة" (¬3). وحديث ابن أبي العشراء الدارمي عند ابن عسكر في ترجمة علي بن أحمد (¬4). وحديث خزيمة بن ثابت عند ابن حبان في "صحيحه" (¬5). وحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث عند ابن حبان أيضًا (¬6). وحديث صفوان بن عسال عنده أيضًا (¬7). وحديث يعلى بن مرة في "الأبواب" (¬8). وحديث البراء بن عازب عند الطبراني (¬9). وحديث أبي مريم عند أبي نعيم في كتاب "الصحابة" (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 436 رقم 1057)، وذكره الحافظ ابن حجر في "زوائد البزار" (1/ 173 رقم 189). ونقل عن البزار قوله: إنما يروى عن عوسجة، عن أبيه، عن علي، وأخطأ فيه مهدي. قال الحافظ: قلت: تابعه الوَرِكاني- أي عند الطبراني. وانظر "نصب الراية" (1/ 170). (¬2) "التمييز" (1/ 209) وأعله الإِمام مسلم. (¬3) "معرفة الصحابة" (3/ 1483 رقم 3760). (¬4) "تاريخ دمشق" (41/ 205). (¬5) "صحيح ابن حبان" (4/ 158 رقم 1329، 1330). (¬6) "صحيح ابن حبان" (4/ 157 رقم 1328). (¬7) "صحيح ابن حبان" (4/ 147 - 149 رقم 1319، 1320). (¬8) وأخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 262 رقم 673). (¬9) "المعجم الكبير" (2/ 25 رقم 1174). (¬10) "معرفة الصحابة" (6/ 3013 رقم 6991).

وحديث مالك بن سعد عنده أيضًا (¬1). وحديث يَسَار جد عبد الله بن مسلم عند ابن أبي حاتم وأعله (¬2). وحديث عبد الله بن مسعود عند البزار بسند ضعيف (¬3) وابن أبي شيبة (¬4) موقوفا بسند صحيح. وحديث أبي زيد رجل من الصحابة عند أبي مسلم الكَجِّي في "السير الكبير". وحديث جابر بن سمرة عند البيهقي (¬5) مرفوعًا، وابن أبي شيبة (¬6) موقوفا. وحديث أبي بن عمارة عند الحكم (¬7) وصححه وأعله جماعة. وحديث عقبة بن عامر عند صاحب الأبواب واستغربه (¬8). وحديث سهل بن سعد عند القاضي أبي أحمد بسند جيد (¬9). وحديث بُريدة عند الترمذي (¬10) مُحَسَّنا. وحديث ميمونة زوج النبي - عليه السلام - عند الدارقطني (¬11) بسند صحيح. ¬

_ (¬1) "معرفة الصحابة" (5/ 2477 - 2478 رقم 6033). (¬2) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 30 رقم 55). (¬3) "مسند البزار" (5/ 21 - 22 رقم 1578). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 164 رقم 1888). (¬5) وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2/ 244 رقم 2023)، وانظر "سنن البيهقي" (1/ 271). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 67 رقم 720). (¬7) "مستدرك الحاكم" (1/ 276). (¬8) وأخرجه ابن ماجه (1/ 185 رقم 558)، والدارقطني في "سننه" (1/ 199 رقم 20)، والحاكم (1/ 289)، وصححه على شرط مسلم. (¬9) وأخرجه الروياني في "مسنده" (2/ 194 رقم 1025)، والطبراني في "الكبير" (6/ 152 رقم 5817)، و (6/ 171 رقم 5895). (¬10) "جامع الترمذي" (5/ 124 رقم 2820)، وروى مسلم وغيره عن بريدة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ يوم الفتح ومسح على خفيه" (1/ 232 رقم 227). (¬11) "سنن الدارقطني" (1/ 199 رقم 22)، وفي إسناده عمر بن إسحاق، قال الدارقطني: ليس بالقوي، انظر "ميزان الاعتدال" (5/ 219).

وحديث ثوبان مولى رسول الله - عليه السلام - عند الحاكم (¬1) وصححه. وحديث أبي ذر وكعب بن عجرة عند ابن حزم (¬2) وصححهما. وحديث أبي طلحة عند الطبراني في الصغير (¬3). وحديث سعد بن أبي وقاص عند ابن الجهم في كتابه (¬4). وحديث المغيرة بن شعبة عند مسلم (¬5). وحديث أبي سعيد الخدري عند البيهقي (¬6). وحديث أوس الثقفي عند ابن أبي شيبة في "مسنده" (¬7). وحديث ربيعة بن كعب عند الطبراني (¬8). وحديث خالد بن عرفطة عند بحشل في كتابه "تاريخ واسط" (¬9). وحديث عبد الرحمن بن بلال عند الطبراني (¬10). وحديث عمرو بن حزم عند الطبراني أيضًا (¬11). وحديث عائشة في "الأبواب" بسند صحيح، وعند الدارقطني بسند جيد. وحديث أم سعد بنت زيد بن ثابت عند النيسابوري. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 275 رقم 602). وعند أحمد حديث آخر عن ثوبان أيضًا (5/ 281) والطبراني في "الكبير" (2/ 91 رقم 1409). (¬2) "المحلى" (2/ 59 - 60). (¬3) "المعجم الصغير" (2/ 204 رقم 1031). (¬4) عزاه له الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 178). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 228 رقم 274). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 271 بعد رقم 1205). (¬7) ليس في النسخة المطبوعة لدينا، وانظر "نصب الراية" (1/ 171). (¬8) "المعجم الكبير" (5/ 60 رقم 4579)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 257): وإسناده حسن. (¬9) انظر "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (1/ 76)، و"نصب الراية" (1/ 172). (¬10) انظر "نصب الراية" (1/ 172). (¬11) عزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 257)، للطبراني في "الكبير"، وقال: وفيه الواقدي وهو ضعيف جدًّا، وانظر "نصب الراية" (1/ 172).

ص: باب: ذكر الجنب والحائض والذي ليس على وضوء وقراءتهم القرآن

ص: باب: ذكر الجُنُب والحائض والذي ليس على وضوء وقراءتهم القرآن ش: أي هذا باب في بيان حكم الجنب، والرجل الذي ليس على الوضوء، والحائض؛ إذا ذكروا الله تعالى أو قرءوا القرآن، كيف يكون حكمهم؟ وجه المناسبة بين البابين من حيث التضاد؛ لأن ما قبل هذا الباب في أحكام المبُيح وهو المسح على الخفين، وهذا الباب في أحكام المانع والمحرم. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: نا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حُصَيْن أبي سَاسَان، عن المهاجر بن قنُفذ: "أنه سَلَّم على رسول الله - عليه السلام - وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ من وضوءه، قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلاَّ أني كرهت أن أذكر الله تعالى إلاَّ على طهارة". ش: ذكر هذا الحديث بعينه بهذا الإسناد والمتن في باب التسمية على الوضوء، فليراجع هناك. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: أنا حميد وغيره، عن الحسن، عن المهاجر: "أن النبي - عليه السلام - كان يبول -أو قال: مررت به وقد بال- فسلمت عليه فلم يرد عليَّ حتى فرغ من وضوءه ثم رَدَّ عليَّ". ش: هذا طريق آخر صحيح أيضًا، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج ابن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل وغيره، عن الحسن البصري، عن المهاجر. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬1): نا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال. وحدثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 329 رقم 779).

قالا: نا حماد بن سلمة، أنا حميد وغيره، عن الحسن، عن مهاجر بن قنفذ: "أن النبي - عليه السلام - كان يبول -أو قال: مررت به وقد بال- فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ حتى فرغ من وضوئه، ثم ردَّ عَلَيَّ". ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا ينبغي لأحد أن يذكر الله بشيء إلاَّ وهو على حال يجوز له أن يصلي عليها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وأبا العالية، وعكرمة؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الرجل لا ينبغي له أن يذكر الله إلاَّ وهو طاهر، واستدلوا على ذلك بهذا الحديث، ويُروى ذلك عن عبد الله بن عمر. وُوري عن ابن عباس: "أنه كره أن يذكر الله على حالين: على الخلاء، والرجل [يواقع] (¬1) أهله". وهو قول عطاء ومجاهد. وقال مجاهد: "يجتنب المَلَكُ الإنسان عند جماعه وعند غائطه" (¬2). وقال ابن حزم في "المحلى" (¬3): نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يقرأ القرآن، ولا يرد السلام، ولا يذكر الله إلاَّ وهو طاهر". ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: من سُلِّم عليه وهو على حال حدث؛ تَيَمَّمَ ورد السلام، وإن كان في العصر. وقالوا فيما سوى السلام مثل قول أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) تحرفت في "الأصل، ك " وكتبت: (على قع) كذا، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 108 رقم 1220). (¬2) انظر "الأوسط" لابن المنذر (1/ 241). (¬3) المحلى (1/ 88).

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم طائفة من أهل الحديث منهم حميد وغيره، فإنهم قالوا: المُحْدِث إذا سُلِّم عليه ينبغي له أن يتيمم ويرد السلام وإن كان في المصر. وفيما سوى السلام ينبغي له ألَّا يذكر الله إلاَّ على حالة يجوز له أن يصلي عليها، كما هو مذهب أهل المقالة الأولى. ص: وكان مما احتجوا به في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: نا محمَّد بن ثابت العبدي. وحدثنا حسين بن نصر، وسليمان بن شعيب، قالا: نا يحيى بن حسان، قال: نا محمَّد بن ثابت، قال: نا نافع، قال: "انطلقت مع ابن عمر - رضي الله عنه - إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - في حاجة لابن عمر، فقضى حاجته، فكان من حديثه يومئذ أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله - عليه السلام - في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يَرُدَّ عليه السلام، حتى كاد الرجل أن يتوارى في السكة، فضرب بيديه على الحائط فتيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه، قال: ثم رَدَّ عليه السلام، وقال: أما إنه لم يمنعني أن أَرُدَّ عليك السلام إلاَّ أني كنت لست بطاهر". ش: أي كان من الذي احتج به هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه: بحديث ابن عباس الذي يأتي الآن، وأخرجه من طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن ثابت العبدي، عن نافع. والثاني: عن حسين بن نصر بن انمعارك وسليمان بن شعيب، كلاهما عن يحيى بن حسان التنيسي، عن محمَّد بن ثابت، عن نافع. وهؤلاء كلهم ثقات. فإن قيل: ابن حزم ضعف هذا الحديث، وقال: محمَّد بن ثابت العبدي ضعيف لا يحتج بحديثه.

قلت: لا يلتفت إلى ما قاله؛ لأن النسائي وابن حبان وغيرهما وثقوه (¬1)، وروى له أبو داود والنسائي، وإنما ضعفه ابن حزم؛ لأن الحديث حجة عليه؛ لأنه لا يرى إلَّا أن التيمم ضربة واحدة إلى الكوعين. والحديث أخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): وقال: نا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز إملاء، نا أبو الربيع الزهراني، نا محمَّد بن ثابت العبدي، نا نافع، قال: "انطلقت مع ابن عمر ... " إلى آخره نحوه سواء. قوله: "في سكة" بكسر السين، وهي الزقاق، وجمعها سكك، والسكة: الطريقة المصطفة من النخل، والسكة: الحديدة التي يحرث بها، وسكة الدراهم: هي المنقوشة. قوله: "وقد خرج من غائط" جملة فعلية وقعت حالا والغائط اسم للمكان المطمئن من الأرض الواسع، ثم يكنى به عن الحدث. والجمع: غوط، وأغواط، وغيطان. قوله: "أن يتوارى" أي: أن يغيب. قوله: "أمَا إنَّه" بفتح الهمزة والتخفيف، وهي حرف استفتاح بمنزلة: "ألا" هنا، وتكون بمعنى "حقًّا" وقيل: اسم بمعنرل "حقًّا" والضمير في "إنه" للشأن. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن مَنْ سُلِّم عليه وهو مُحْدِثْ ينبغي له ألَّا يرد السلام إلاَّ بعد التيمم وإن كان في المصر، على ما ذهب إليه هؤلاء الطائفة، والجواب عنه للجمهور أنه كان من ¬

_ (¬1) أما النسائي فقال في "الضعفاء والمتروكين" (1/ 91 رقم 519): ليس بالقوي. ونقل المزي عنه في "تهذيب الكمال" أنه قال في موضع آخر: ليس به بأس، وأما ابن حبان فقال في "المجروحين" (2/ 251): يرفع المراسيل، ويسند الموقوفات توهمًا من سوء حفظه، فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به. وراجع من وثقه وضعفه في "تهذيب الكمال" (24/ 556 - 557). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 177 رقم 7).

النبي - عليه السلام - للفضيلة والاستحباب، وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى كما جاء في حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم" (¬1). ولم يرَ - عليه السلام - أن يذكر الله في تلك الحالة وهذا هو اللائق بحاله وفعله - عليه السلام -. والثاني: أن فيه تعليما للأمة ألَّا يسلموا على الرجل وهو يبول أو يتغوط كما ورد في حديث آخر عن ابن عمر أنه قال: "مرَّ رجل على النبي - عليه السلام - وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه (¬2) ". الثالث: يفهم منه أنه رد السلام واجب، وأنه لا يسقط بالتأخير، ولا يأثم به الرجل إذا كان عن عذر. الرابع: فيه استحباب استعطاف خاطر الرجل إذا توهم منه أنه قد قصر في حقه؛ تطبيبا لخاطره وإبداء عذره إياه. الخامس: فيه بيان أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين. السادس: فيه بيان أن التيمم يجوز بالحجر والمدر وما كان من أجزاء الأرض. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن بشار، قال: ناأبو أحمد الزبيري، قال: نا سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا سلم على النبي - عليه السلام - وهو يبول فلم يَردُ عليه حتى أتى حائطا فتيمم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬3): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي، نا سفيان، عن الضحاك بن عثمان ... إلى آخره نحوه، وليس فيه: "حتى أتى حائطا فتيمم". ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3/ 231 رقم 3008) والبيهقي في "الشعب" (6/ 433 رقم 87840) وغيرهم وفي إسناده بشر بن رافع وهو ضعيف! (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" بنحوه (1/ 281 رقم 370) وسيأتي في الحديث الآتي. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 281 رقم 370).

وأبو داود (¬1): عن عثمان وأبي بكر ابني أبي شيبة، كلاهما عن عمر بن سعد، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬2): عن نصر بن علي ومحمد بن بشار، كلاهما عن أبي أحمد، عن سفيان ... إلى آخره. والنسائي (¬3): عن محمود بن غيلان، عن زيد بن الحباب وقبيصة، كلاهما عن سفيان ... إلى آخره. وابن ماجه (¬4): عن عبد الله بن سعيد والحسن بن أبي السري العسقلاني، كلاهما عن أبي داود، عن سفيان ... إلى آخره. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا شعيب بن الليث، قال: نا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عمير مولى ابن عباس، أنه سمعه يقول: "أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام - حتى دخلنا على أبي الجُهيمْ بن الحارث بن الصمَّة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل رسول الله - عليه السلام - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسَّلم عليه، فلم يرد رسول الله - عليه السلام - عليه حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه وبيديه، ثم رد عليه السلام". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ربيعا، وعمير هو مولى عبيد الله بن عباس بتصغير العبد، وكذا صُرِّح به في رواية الدارقطني على ما يجيء، ويقال له: مولى أم الفضل. وأخرجه البخاري (¬5): عن يحيى بن بكبير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 5 رقم 16). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 150 رقم 90). (¬3) "المجتبى" (1/ 35 رقم 37). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 127 رقم 353). (¬5) "صحيح البخاري" (1/ 129 رقم 330).

وأخرجه مسلم (¬1) مقطوعا وقال: وروى الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عمير مولى ابن عباس، أنه سمعه يقول: "أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة زوجة النبي - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه. قلت: ذكروا أن فيه ثلاثة أنظار: الأول: قوله: "عبد الرحمن بن يسار" وهم، والصواب: "عبد الله بن يسار" كما في رواية البخاري والطحاوي. الثاني: قوله: "أبو الجهم" مكبرا، غير جيد، إنما هو مصغر. الثالث: ذكره مسلم منقطعا وهو موصول على شرطه. كما أخرجه البخاري موصولا كما ذكرناه. وكذا أخرجه أبو داود (¬2): عن عبد الملك بن شعيب بن الليث قال: حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن الربيع بن سليمان مثل الطحاوي. ولكن قال القاضي عياض في شرح مسلم: روايتنا فيه عبد الله بن يسار، وكذا قاله النسائي وأبو داود وغيرهما من الحفاظ، وقالوا أيضًا: إن أبا الجهم بن الحارث يقال له: أبو جهيم أيضًا، وفيه وجهان، ولذلك ذكره مسلم مُكبَّرا ها هنا، وذكره في حديث المرور بين يدي المصلي مصغرا (¬4)، وسماه أبو نعيم وابن منده: عبد الله بن جُهيم وجعلاهما واحدا، ورجح ابن الأثير كونهما اثنين، وقاله أيضًا أبو علي الجياني وغيره، وهو ابن أخت أبي بن كعب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 281 رقم 369). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 89 رقم 329). (¬3) "المجتبى" (1/ 165 رقم 311). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 363 رقم 507).

قوله: "بئر جَمل" بجيم مفتوحة، وعند النسائي بئر الجمل، وهو موضع بغرب المدينة فيه مال من أموالها، ذكره أبو عُبيد. ويستفاد منه ما ذكرنا من الأحكام في الحديث الماضي، ويستفاد أيضًا: جواز التيمم بالجدار سواء كان عليه غبار أو لم يكن؛ لإطلاق الحديث، وهو حجة لأبي حنيفة على مخالفيه. وفيه دليل أيضًا على جواز التيمم للنوافل، والفضائل كسجدة التلاوة، والشكر، ومس المصحف، ونحوها كما يجوز للفرض، وهذا بالإجماع إلاَّ وجه شاذ منكر للشافعية أنه لا يجوز إلاَّ للفرض، وقد رأى الأوزاعي أن الجنب إذا خاف إن اشتغل بالغسل طلعت الشمس يتيمم ويصلي قبل فوت الوقت. قال الخطابي: وبه قال مالك في بعض الروايات، وعند أصحابنا إذا [خاف] (¬1) فوت الصلاة على الجنازة والعيدين يتمم. وحكى البغوي في "التهذيب": إذا خاف فوت الفريضة لضيق الوقت صلاها بالتيمم، ثم توضأ وقضاها. وقال النووي في "شرح مسلم": هذا الحديث محمول على أنه كان - عليه السلام - عادما للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله، ولا فرق بين أن يضيق الوقت، وبين أن يتسع، ولا فرق بين صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما. قلت: الحديث مطلق يستفاد منه: جواز التيمم لرد السلام ونحوه، وفي معناه صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما سواء وجد الماء أو لا، ولا ضرورة إلى حمله على أنه كان عادما للماء؛ لأنه تخصيص بلا مخصص. فإن قيل: كيف يتيمم - عليه السلام - بالجدار بغير إذن مالكه؟ ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

قلت: هو محمول على أنه كان مباحا أو مملوكا لإنسان يعرفه فتأول - عليه السلام -، وتيمم به لعلمه بأنه لا يكره ذلك بل كان يفرح به، ومثل: هذا يجوز لآحاد الناس، فالنبي - عليه السلام - أولى وأجدر. ص: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا عمرو بن محمَّد الناقد، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عمير مولى ابن عباس ... فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر صحيح أيضًا، وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1)، نا إسماعيل الصفار، ثنا عباس الدوري، ثنا عمرو الناقد، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى عبيد الله بن عباس- قال: وكان عمير مولى عبيد الله ثقة- بلغني عن أبي جُهَيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - ليقضي حاجته نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلّم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضع يده على الجدار، ومسح بها وجهه ويديه، ثم قال: وعليك السلام". ص: قالوا فبهذه الآثار رخصنا للذي يُسَلم عليه وهو غير طاهر أنه يتيمم ويردَّ السلام، ليكون ذلك جوابا للسلام، وهذا كما رخَّص قوم في التيمم للجنازة، والعيدين إذا خيف على فوت ذلك إذا تشوغل بطلب الماء لوضوء الصلاة. ش: أي قال هؤلاء الآخرون الذين ذهبوا إلى أنه ينبغي لمن يُسَلَّم عليه وهو على حدث أن يتيمم ويرد السلام، وإن كان في العصر "رخصنا بهذه الآثار" وأراد بها آثار ابن عمر، وآثار أبي الجهم المذكورة آنفا. قوله: "ليكون ذلك" أي ردَّه السلام بعد التيمم، جوابا لسلام المسلم وإن كان قد تأخر ساعة من الزمان، لأجل التيمم. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 176 رقم 5).

قوله: "وهذا" أي الحكم المذكور نظير ما رخص قوم في التيمم لأجل الصلاة على الجنازة، ولأجل صلاة العيدين إذا خاف أن تفوته إن اشتغل بطلب الماء لأجل الوضوء، وأراد بهؤلاء القوم: أبا حنيفة وأصحابه، والنخعي، والزهري، والحسن، ويحيى الأنصاري، وربيعة، وسعد بن إبراهيم، والثوري، والليث؛ فإنهم ذهبوا إلى أنه يتيمم عند خوف فوت الجنازة لأنه لا يمكن استدراكها بالوضوء فهو كالعادم، وبه قال أحمد في رواية، وكذا مذهب أبي حنيفة عند خوف فوت صلاة العيد، وبه قال الأوزاعي. وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر: لا يجوز ذلك. وعن الأوزاعي، والثوري: يتمم إذا خاف فوت الوقت أيضًا. وعن الشعبي: يُصلي على الجنازة من غير وضوء؛ لأنه لا ركوع فيها ولا سجود. وهلا ليس بصحيح؛ لأنها صلاة، فتدخل في عموم قوله - عليه السلام -: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬1). ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا يحيى بن حسان، قال: ثنا عمر بن أيوب الموصلي، عن المغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس: "في الرجل تفجأه الجنازة وهو على غير وضوء قال: يتيمم ويصلي عليها". ش: أي ذكر هؤلاء القوم في جواز التيمم لأجل صلاة الجنازة عند خوف فوتها ما حدثنا ... إلى آخره، وهو خبر ابن عباس. أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن عمر بن أيوب العبدي الموصلي. عن المغيرة بن زياد البجلي الموصلي، فيه مقال، وعن أبي حاتم: صالح صدوق، ليس بذاك القوي، وأدخله البخاري في كتاب "الضعفاء" يُحَوَّل اسمه من هناك. وعن عباس الدوري، عن يحيى: ثقة. وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 204 رقم 224).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عمر بن أيوب الموصلي، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "إذا خفت أن تفوتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم وصَلّ". فإن قيل: قد قال البيهقي: الذي روى مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس في ذلك لا يصح عنه إنما هو قول عطاء، كذلك رواه ابن جريج عن عطاء، وهذا أحد ما أنكر ابن حنبل وابن معين على المغيرة. قلت: المغيرة أخرج له الحاكم في المستدرك، وأصحاب السنن الأربعة، ووثقه وكيع، وابن معين، وعنه قال: ليس به بأس ثقة، وعنه له حديث واحد منكر. ووثقه أحمد بن عبد الله ويعقوب بن سفيان وابن عمار. وقال ابن عدي: عامه ما يرويه مستقيم إلاَّ أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث من ليس به بأس من الغلط. ثم رواية ابن جريج لا تعارض روايته؛ لأن عطاء كان فقيها، فيجوز أن يكون أفتى بذلك فسمعه ابن جريج، ورواه مرة أخرى فسمعه المغيرة، وهذا أولى من تغليط المغيرة والإنكار عليه، فافهم. قوله: "تفجأه الجنازة" من فجِئه الأمر وفجَأهُ -بالكسر والفتح- إذا جاءه الأمر بغتة، قال الجوهرىِ: فاجَأَه الأمر، مُفَاجَأةَ وفِجَاء، وكذلك فَجِئَه الأمر وفَجَأه فُجاءَة -بالضم والمدّ: وهذا الخبر حجة على الشافعي ومن تبعه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وعبد الملك، عن عطاء وزكرياء، عن عامر ويونس، عن الحسن مثله. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وهشيم هو ابن بشير، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم هو النخعي وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وعطاء ابن أبي رباح، وزكرياء: ابن أبي زائدة، وعامر: ابن شراحيل الشعبي، ويونس ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 497 رقم 11467).

ابن أبي إسحاق السبيعي، والحسن هو البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم قال: "إذا خاف أن تفوته الصلاة على الجنازة يتيمم". وعن عبدة (¬2) بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: "إذا خفت أن تفوتك الجنازة فتيمم وصل". وعن وكيع (¬3)، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال: "يتيمم إذا خشي الفوت". وعن يزيد (¬4) بن هارون، عن هشام، عن الحسن قال: "يتيمم ويصلي عليها". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم ... مثله. ش: إسناده صحيح، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وإبراهيم: النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم قال: "إذا فَجئتك الجنازة ولست على وضوء، فإن كان عندك ماء فتوضأ وصلَّ، وإن لم يكن عندك ماء فتيمم وصلَّ". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ... مثله. ش: هذا طريق اخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكَّار، عن مؤمل بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11469، 11475) بنحوه من طرق أخرى عن إبراهيم، ولم أجد هذا الطريق في النسخة التي لديَّ. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11471). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11472). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11476). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11469).

إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم ... مثله. ش: هذا طريق أخر، وهو أيضًا صحيح، عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن سفيان، عن حماد ومنصور، عن إبراهيم قال: "يتيمم إذا خشي الفوت". ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن. ومغيرة عن إبراهيم. وعبد الملك، عن عطاء نحوه. ش: إسناده صحيح، هذه ثلاثة أسانيد. الأول: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن. والثاني: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي. والثالث: صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) نا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن قال: "يتيمم ويصلي عليها". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 114693). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11470).

ونا (¬1) عبدة بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء قال: "إذا خفت أن تفوتك الجنازة فتيمم وصل". ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: نا أبو داود، عن عباد بن راشد، قال: "سمعت الحسن يقول ذلك". ش: إسناده صحيح، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب ... مثله. قال: وقال لي الليث مثله. ش: إسناده صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... مثله، أي مثل قول الحسن: "يتيمم إذا خشي الفوت". قوله: "قال" أي قال يونس: "وقال لي الليث ابن سعد" مثل ما قال ابن شهاب، والحسن. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن عبد الملك بن أبي غَنيَّة، عن الحكم ... مثله. ش: إسناده صحيح، عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع ابن الوليد بن قيس السكوني، عن عبد الملك بن أبي غنية الخزاعي الكوفي، عن الحكم ابن عُتَيبة. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم قال: "إذا خفت أن تفوتك الصلاة وأنت على غير وضوء فتيمم". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 498 رقم 11473).

وقد عُلِمَ بهذه الآثار أن مذهب إبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وعامر الشعبي، والحسن البصري، والزهري، والليث بن سعد، والحكم بن عُتيبة؛ مثل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في جواز التيمم لصلاة الجنازة عند خوف فوتها مع وجود الماء. ص: فلما كان قد رُخص في التيمم في الأمصار خوف فوت الصلاة على الجنازة، وفي صلاة العيدين؛ لأن ذلك إذا فات لم يقض، قالوا: فكذلك رُخِّصنا في التيمم في الأمصار لرد السلام؛ ليكون ذلك جوابا للمُسَلِّم؛ لأنه إذا رد في الحال الثاني لم يكن جوابا للسلام له، وأما ما سوى ذلك مما لا يخاف فوته من الذكر، وقراءة القرآن فإنه لا يخاف فوته، فإنه لا يجوز فيه التيمم، ولا ينبغي أن يفعل ذلك أحد إلا على طهارة. ش: هذا من جملة مقالة أهل المقالة الثانية بطريق القياس، وهو أن التيمم لما كان جائزا في الأمصار لأجل الجنازة، فكذلك ينبغي أن يتيمم لأجل رد السلام قياسا عليه، والجامع وجود خوف الفوات فيهما، بخلاف ما سوى ذلك من قراءة القرآن والذكر ونحوهما، حيث لا يقاس على ذلك لانتفاء الجامع؛ فحينئذ لا يجوز التيمم فيه، ولا ينبغي أن يقرأ أحد، أو يذكر الله إلاَّ على حالة يجوز له أن يصلي على تلك الحالة. فإن قيل: ما حكم التيمم الواقع للجنازة أو لرد السلام، هل يصلي به الفرض أم لا؟ قلت: العمدة في ذلك اعتبار كيفية النية، فإن نوى به استباحة الصلاة يجوز به أداء ما شاء من الصلوات، وإن عَيَّنَ به أداء جواب السلام فقط لا يجوز به بعده أداء الصلوات، كما إذا تيمم لدخول المسجد أو مس المصحف. ثم اعلم أن أصحابنا اختلفوا في كيفية النية فيه، فقال القدوري: الصحيح في المذهب أنه إذا نوى الطهارة، أو نوى استباحة الصلاة أجزأه.

وقال الجصاص: لا تجب في التيمم نية التطهر، وإنما يجب فيه التمييز وهو أن ينوي [رفع] (¬1) الحدث أو الجنابة. والصحيح أن ذلك ليس بشرط، فإن ابن سماعة روى عن محمَّد: أن الجنب إذا تيمم يريد به الوضوء أجزأه عن الجنابة، ولو تيمم ونوى مطلق الطهارة أو نوى استباحة الصلاة فله أن يفعل كل ما لا يجوز بدون الطهارة كصلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، ومس المصحف، ونحوها، لأنه لما أبيح له أداء الصلاة فلأن يباح له ما دونها وما هو جزء من أجزائها أولى، وكذا لو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أو لقراءة القرآن بأن كان جنبا فجاز له أن يصلي سائر الصلوات؛ لأن كل واحد من ذلك عبادة مقصودة بنفسها، وهو من جنس أجزاء الصلاة فكان نيتها عند التيمم كنية الصلاة، فأما إذا تيمم لدخول المسجد أو لمس المصحف، لا يجوز له أن يصلي به، ولا هو من أجزاء الصلاة؛ لأن دخول المسجد، ومس المصحف ليس بعبادة مقصودة، ولا من جنس أجزاء الصلاة، فيقع طهورا لما أوقعه لا غير. وفي "المغني" (¬2): وينوي بالتيمم المكتوبة، لا نعلم خلافا في أن التيمم لا يصح إلاَّ بنية، غير ما حكي عن الأوزاعي، والحسن بن صالح أنه يصح بغير نيَّة، وسائر أهل العلم على إيجاب النيَّة فيه، وممن قال ذلك: ربيعة، ومالك، والليث، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وينوي استباحة الصلاة، فإن نوى رفع الحدث لم يصح، هذا مذهب مالك، والشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أنه يرفع الحدث، ولا يصح التيمم للفرض إلاَّ بنية الفرض، فإن نوى فريضة معينة فله أن يصلي غيرها، وإن نوى فريضة مطلقة فله أن يصلي به فريضة معينة، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة لم يجز أن يصلي إلاَّ نافلة، وهذا مذهب الشافعي، وأباح له أبو حنيفة صلاة الفرض به كطهارة الماء، وإذا نوى الفرض استباح كل ما يباح بالتيمم من التنقل قبل الصلاة وبعدها، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬2) "المغني" (1/ 158).

وقال مالك: لا يتطوع قبل الفريضة بصلاة غير راتبة، وحكي نحوه عن أحمد، وإن نوى نافلة أبيحت له، وأبيح له قراءة القرآن، ومس المصحف، والطواف (¬1). ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس أن يذكر الله في الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك إلاَّ في الجنابة والحيض؛ فإنه لا ينبغي لصاحبهما أن يقرأ القرآن. ش: أي خالف أهل المقالتين جميعًا جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، والنخعي، وأبا حنيفة، والشافعي، ومالكا، وأحمد، وإسحاق، وأصحابهم، فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يذكر الله في كل الأحوال سواء كان طاهرا، أو محدثا، أو جُنبا، أو حائضا، أو نفساء، وكذا قراءة القرآن إلَّا في حالة الجنابة والحيض، وستجيء الدلائل على ذلك كله. ثم اعلم أن هذا الحكم فيما يرجع إلى حال الرجل، وأما الحكم فيما يرجع إلى المكان فعلى أنواع: الأول: بيت الخلاء، فعن ابن عباس كراهة الذكر فيه، وهو قول عطاء ومجاهد أيضًا، وقال ابن سيرين والنخعي: لا بأس به. وفي "المغني" (¬2): إذا عطس حمد الله بقلبه، وقال ابن عقيل: هل يحمد الله بلسانه أم بقلبه؟ روايتان. وعن الشعبي يحمد الله. قال ابن أبي شيبة (¬3): نا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي: "في الرجل يعطس على الخلاء، قال: يحمد الله". ¬

_ (¬1) انتهى من "المغني" بتصرف واختصار من المؤلف. (¬2) "المغني" (1/ 109) بتصرف واختصار. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 108 رقم 1225).

نا (¬1) ابن إدريس، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم قال: "يحمد الله فإنه يصعد". نا (¬2) ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: "يحمد الله في نفسه". نا (¬3) ابن عُلية، عن ابن عون، عن محمَّد: "سئل عن الرجل يعطس في الخلاء، قال: لا أعلم بأسا بذكر الله". نا ابن علية، عن شعبة، عن أبي إسحاق: "في الرجل يعطس في الخلاء" (¬4) قال: قال أبو ميسرة: ما أحب أن أذكر الله إلا في مكان طيب قال: قال منصور: قال إبراهيم: يحمد الله". وأما إذا. دخل الخلاء ومعه الدراهم، فعن مجاهد أنه مكروه، وعن الحسن لا بأس به. وقال ابن أبي شيبة (¬5): نا ابن عُلية قال: "سألت ابن أبي نجيح عن الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم البيض، فقال: كان مجاهد يكرهه". نا (¬6) ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: "كان لا يرى بأسا أن يدخل الرجل الخلاء ومعه الدراهم البيض، قال: وكان القاسم بن محمَّد يكرهه، ولا يرى بالبيع والشراء بها بأسا". وأما إذا دخل الخلاء وعليه الخاتم، فعن عطاء أنه لا بأس به، وعن ابن عباس ينزعه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 108 رقم 1226). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 108 رقم 1227). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 108 رقم 1228). (¬4) سقط من "الأصل، ك" ولعله انتقال نظر من المؤلف، والمثبت من "المصنف" لابن أبي شيبة (1/ 108 رقم 1229). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1209). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1210).

وقال ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا ابن إدريس، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء: "أنه كان لا يرى بأسا أن يلبس الرجل الخاتم ويدخل به الخلاء، ويجامع فيه، ويكون فيه اسم". نا (¬2) عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن سلمة [بن] (¬3) وهرام، عن عكرمة قال: "كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه". نا (¬4) يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين: "في الرجل يدخل المخرج وفي يده خاتم فيه اسم الله، قالا: لا بأس به". نا (¬5) حفص، عن ابن أبي رواد (¬6) عن عكرمة قال: "كان يقول إذا دخل الرجل الخلاء وعليه خاتم فيه ذكر الله تعالى جعل الخاتم مما يلي بطن كفه، ثم عقد عليه بإصبعه". نا (¬7) أبو معاوية، قال: نا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا دخل الخلاء نزع خاتمه فأعطاه امرأته". نا (¬8) يحيى بن أبي كثير، قال: نا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أنه كان يكره للإنسان أن يدخل الكنيف وعليه خاتم فيه اسم الله". وأما المُحدِث إذا مسَّ الدراهم فعن إبراهيم أنه مكروه، وعن الحسن لا بأس به. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1203). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1204). (¬3) سقط من "الأصل، ك" والمثبت عن المصدر السابق. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1205). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1206). (¬6) في "الأصل، ك": ورَّاد، وهو تحريف، والمثبت من "المصنف". (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1207). (¬8) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106 رقم 1208).

وقال ابن أبي شيبة (¬1): نا أبو أسامة، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أنه كان يكره الدرهم الأبيض وهو على غير وضوء". نا (¬2) أبو أسامة، عن هشام، عن القاسم: "أنه كان لا يرى بأسا بمس الدرهم الأبيض وهو على غير وضوء". نا (¬3) وكيع، قال: نا سفيان، عن هشام، عن الحسن قال: "لا بأس أن يمسها على غير وضوء". نا (¬4) وكيع، عن ربيع قال: "كرهه ابن سيرين". النوع الثاني: الحمام، وفي "المغني": ولا بأس بذكر الله في الحمام، وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يذكر الله على كل أحيانه". فأما قراءة القرآن، فقال أحمد: لم يُبْن لهذا، وكره قراءة القرآن فيه أبو وائل، والشعبي، والحسن، ومكحول، وقبيصة بن ذؤيب، ولم يكرهه النخعي، ومالك. وأما التسليم فيه فقال أحمد: لا أعلم أني سمعت فيه [شيئا] (¬5) والأولى جوازه لدخوله في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفشوا السلام بينكم". النوع الثالث: المقبرة، وكره بعض الناس القراءة فيها، وكذا الصلاة لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد إلَّا الحمَّام، والمقبرة". رواه أبو داود (¬6)، والترمذي (¬7)، وابن ماجه (¬8). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1214). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1215). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1216). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 107 رقم 1218). (¬5) في "الأصل، ك": شيء، والمثبت من "المغني" (1/ 147). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 132 رقم 492). (¬7) "جامع الترمذي" (2/ 131 رقم 317). (¬8) "سنن ابن ماجه" (1/ 246 رقم 745).

والأصح أنه لا تكره القراءة فيها ولا الصلاة، وعن الشافعي: إذا كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى، وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها؛ للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته، وكذلك الحمام إذا صل في موضع نظيف منه فلا إعادة عليه، وهذا أيضًا قول أصحابنا، ورخص عبد الله بن عمر في الصلاة في المقبرة، وحكي عن الحسن البصري أنه صلى في المقابر، وعن مالك: لا بأس بالصلاة في المقبرة، وقال أبو ثور: لا يُصلى في حمام ولا مقبرة لظاهر الحديث، وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: "دخلت على علي - رضي الله عنه - أنا ورجل منا ورجل من بني أسد، فبعثهما في وجه، ثم قال: إنكما علجان فعالجا عن دينكما. قال: ثم دخل المخرج، ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها، وجعل يقرأ القرآن، فرآنا كأنَّا أنكرنا ذلك، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القران، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجره عن ذلك شئ، ليس الجنابة". ش: أي احتج الآخرون الذين خالفوا أهل المقالتين في ذلك، أي في قولهم: لا بأس أن يذكر الله في كل الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك إلَّا في الجنابة والحيض. قوله: "بما حدثنا" يتعلق بقوله احتجوا، وإسناد الحديث صحيح. وعبد الله بن سَلِمَة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له الأربعة. وأخرجه أبو داود (¬1): نا حفص بن عمر، قال شعبة .. إلى آخره نحوه. والترمذي مختصرا (¬2): نا أبو سعيد الأشج، نا حفص بن غياث وعقبة بن خالد ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 59 رقم 229). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 274 رقم 146).

قالا: نا الأعمش وابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جُنُبا". والنسائي (¬1): أنا علي بن حُجْر، أنا إسماعيل بن إبراهيم، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: "أتيت عليّا أنا ورجلان، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة". وابن ماجه (¬2): نا محمَّد بن بشار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: "دخلت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي الخلاء فيقض الحاجة، ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم، ويقرأ القرآن، ولا يحجبه -وربما قال: ولا يحجره- عن القرآن شيء إلَّا الجنابة". وأخرجه ابن حبان (¬3) أيضًا، وصححه ابن خزيمة (¬4)، وأبو علي الطوسي، والحكم (¬5)، والبغوي في "شرح السُّنَّة"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي سؤالات الميموني: قال شعبة: ليس أحد يحدث بحديث أجود من ذا. وفي كتاب ابن عدي عنه: لم يرو عمرو أحسن من هذا، وكان شعبة يقول: هو ثلث رأس مالي. وخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (¬6)، وذكر البزار (¬7) أنه لا يُروى عن علي إلَّا من حديث عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، وحكى البخاري، عن عمرو بن مرة كان عبد الله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حدثه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 144 رقم 265). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 195 رقم 594). (¬3) "صحيح ابن حبان" (3/ 79 رقم 799). (¬4) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 104 رقم 208). (¬5) "المستدرك" (1/ 253 رقم 541). (¬6) "المنتقى" (1/ 34 رقم 94). (¬7) "مسند البزار" (2/ 287 رقم 708).

وذكر الشافعي هذا الحديث، وقال: وإن لم يكن أهل الحديث بثبوته. وقال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت الحديث؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي، وكان قد كبر وأنكر من حديثه، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة. وذكر الخطابي أن الإِمام أحمد بن حنبل كان يوهنُ حديث علي - رضي الله عنه - هذا، وُيضَعِّفُ أمر عبد الله بن سلمة. قلت: وقد ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" (¬1)، وقال: قال النسائي تعرف وتنكر. ولكن قال الحاكم: إنه غير مطعون فيه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. قوله: "ورجل منا" عطف على الضمير المرفوع المنفصل الذي أوتي به ليصح العطف على ما قبله حتى لا يكون عطف الاسم على الفعل. قوله: "في وجه" أي جهة من الجهات، وهو النحو والقصد الذي تستقبله. قوله: "علجان" تثنيه عَلِجْ بفتح العين، وكسر اللام، وهو الضخم القويُّ، وقال الخطابي: يُريد الشدة والقوة على العمل، يقال: رجل عَلِج، وعُلَّج -بتشديد اللام- إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية. قوله: "فعالجا" أي جاهدا، وجالدا لأجل دينكما، وكلمة "عن" للتعليل نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} (¬2) وتجوز أن تكون حالًا، والمعنى عَالِجا مقيمين دينكما، أي مقيمين أموره، ومحصلين ما ينبغي له. ¬

_ (¬1) "الضعفاء والمتروكين" (2/ 125 رقم 2038). (¬2) سورة التوبة، آية: [114].

قوله: "المخرج" بفتح الجيم، وهو الخلاء، سُمِّي به لأنه موضع خروج البول، والغائط. قوله: "فتمسح بها" أي توضأ بها أي غسل يديه، وقال ابن الأثير: يقال للرجل إذا توضأ: تمسح. قوله: "فرآنا كأنا أنكرنا ذلك" أي كونه قرأ القرآن بلا وضوء كامل، فلما أنكروا على عليّ - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن" أي يُعلمنا القرآن عقيب خروجه، من غير اشتغال بالوضوء. قوله: "كأنا أنكرنا" جملة وقعت مفعولا ثانيا للرؤية، والتقدير: رآنا كالمنكرين في ذلك. قوله: "ويأكل معنا اللحم" أشار به إلى أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء لقراءة القرآن ولا للصلاة أيضًا، لأجل هذا قال: "ولم يكن يحجره" أي يمنعه "من القرآن"، أي عن قراءة القرآن "شيء ليس الجنابة" أي غيرها. وقوله: "يحجره" من حجره إذا منعه، وحَجَرَ عليه أي منعه من التصرف، وفي بعض الرواية "يحجزه" بالزاي المعجمة، من حجزه يحجزه حجزا بمعنى منعه أيضًا، وكلاهما من باب نصر ينصر، وفي بعض الرواية "يحجبه" من حجب إذا منع أيضًا، ومنه قيل للبواب: حاجبا؛ لأنه يمنع الناس عن الدخول. قوله: "ليس الجنابة" أي غير الجنابة، "وليس" له ثلاث مواضع: أحدها: أن تكون بمعنى الفعل، وهو يرفع الاسم، وينصب الخبر كقولك: ليس عبد الله جاهلا. وتكون بمعنى "لا" كقولك: رأيت عبد الله ليس زيدا، تنصب به زيدا كما تنصب بلا. وتكون بمعنى "غير" كقولك: ما رأيت أكرم من عمر، وليس زيد. أي غير زيد، وهو يجر ما بعده.

وتُستنبط منه أحكام: الأول: جواز قراءة القرآن للمُحْدِث. الثاني: جواز ذكر الله تعالى بأي ذكر كان في أي حال كان؛ لأن قراءة القرآن إذا كانت جائزة للمُحْدِث فالذكر بالطريق الأولى. الثالث: فيه دليل على حرمة قراءته على الجنب، وكذلك الحائض؛ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، وكان أحمد يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحوها، وكذلك قال مالك، وقد حُكي عنه أنه قال: تقرأ الحائض ولا يقرأ الجنب؛ لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن؛ لأن أيام الحيض تتطاول؛ ومدة الجنابة لا تتطاول، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة القرآن للجُنب، والجمهور على تحريمه. وفي "المغني" (¬1): لا يقرأ القرآن جنب، ولا حائض، ولا نفساء، رويت الكراهة لذلك عن عمر، وعلي، والحسن، والنخعي، والزهري، وقتادة، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلاَّ آية الركوب، والنزول {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (¬2)، {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬3)، وقال ابن عباس: يقرأ ورده، وقال سعيد بن المسيَّب: يقرأ، أليس هو في جوفه؟ والذي يحرم عليه قراءة آية، فأما ما دون الآية ففيه روايتان: إحداهما: لا تجوز قراءته، وهو مذهب الشافعي. والثانية: تجوز، وهو قول أبي حنيفة. وقال صاحب "البدائع"، ويستوي في الكراهة الآية التامة وما دونها عند عامَّة مشايخنا، وقال الطحاوي: لا بأس بقراءة ما دون الآية. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 96). (¬2) سورة الزخرف، آية: [13]. (¬3) سورة المؤمنون، آية: [29].

والصحيح قول العامة، هذا إذا قصد التلاوة، فأما إذا لم يقصد بأن قال: بسم الله. لافتتاح الأشياء تبركا، أو قال: الحمد لله فلا بأس؛ لأنه من باب الذكر. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وقراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله جائز كل ذلك بوضوء، وبلا وضوء، وللجنب والحائض. وقالت طائفة لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن، وهو قول رُوي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وغيرهم. وقالت طائفة: أما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن، وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما، وهو قول مالك، وقال بعضهم: يُتم الآية، وهو قول أبي حنيفة، ثم رُوي عن ربيعة أنه قال: لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن، وعن سعيد بن جبير: يقرأ الجنب؟ فلم ير بأسا، وقال: أليس في جوفه القرآن، ثم قال: وهو قول داود، وجميع أصحابنا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، قال: أنا عمرو ابن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة .. فذكر مثله، غير أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فيقرأ القرآن". حدثنا حسين بن نصر وسليمان بن شعيب، قالا: نا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة .. فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: نا عمر بن حفص، قال: نا أبي، قال: نا الأعمش، قال: قال عمرو بن مرة: عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن على كل حال إلَّا الجنابة". ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 77) بتصرف واختصار.

حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي التغلبي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا القرآن على كل حال إلا الجنابة". ش: هذه خمس طرق رجالها كلهم ثقات، غير أن ابن أبي ليلى فيه مقال، وهو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وعبد الرحمن بن زياد هو الرصاصي الثقفي، والأعمش هو سليمان. ويحيى بن عيسى بن عبد الرحمن التميمي النهشلي مختلف فيه، ولكن مسلما روى له، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وكان يتشيع، فبالطريق الأول أخرجه البيهقي (¬1) من حديث شعبة، نا عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: "دخلت على عليّ - رضي الله عنه - أنا ورجلان من قومي، و [رجل] (¬2) أحسبه من بني أسد، فبعثهما وجها وقال: إنكما علجان فعالجا عن دينكما، ثم دخل المخرج فقضى حاجته، ثم خرج فأخذ حفنة من ماء فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن فكأنه رأى أنَّا أنكرنا ذلك، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه -وربما قال: يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة". وبالطريق الثاني: أخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا يحيى، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: "أتيت على عليّ - رضي الله عنه - أنا ورجلان، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولا يحجره -وربما قال: لا يحجبه- من القرآن شيء ليس الجنابة". والطريق الرابع: مقطوع؛ لأن الأعمش أخبر عن عمرو بن مرة حيث قال: قال عمرو، ولم يذكر فيه شيئًا يدل على السماع. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 88 رقم 418). (¬2) في "الأصل، ك" رجال، والمثبت من المصدر السابق. (¬3) "المسند" (1/ 84 رقم 639).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) موصولا: نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال إلاَّ الجنابة". وبالطريق الخامس: أخرجه أبو عبد الله الحديث في "مسنده"، نا محمَّد، نا وكيع، ثنا ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2)، نا أبو معاوية، نا ابن أبي ليلى ... إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر - عليه السلام -: ففيما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إباحة ذكر الله -عز وجل- على غير وضوء، وقراءة القرآن كذلك، ومنعُ للجنب من قراءة القرآن خاصة. ش: "إباحة ذكر الله" كلام إضافي مرفوع بالابتداء، وخبره قوله: "ففيما روينا". قوله: "وقراءة القران" عطف عليه، وكذا قوله: "ومنعٌ" ويجوز أن يكون "وقراءة القرآن" بالجرِّ عطفا على المضاف إليه في قوله: "إباحة ذكر الله" بل هذا أصوب على ما لا يخفى. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا فيما يدل على إباحة ذكر الله -عز وجل- على غير طهارة ما حدثنا فهدٌ، قال: نا الحسن بن الربيع، قال: نا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، قال: ثنا أبو ظبية، قال: سمعت عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرئ مسلم يبيت طاهرا على ذكر الله، فيتعار من الليل يسأل الله شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلَّا أعطاه إياه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 97 رقم 1078). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 134 رقم 1123).

ش: لما كانت الآثار المذكورة تدل على إباحة ذكر الله على غير وضوء بطريق التضمن أورد أحاديث تدل على ذلك بطريق المطابقة. وقوله: "روي" مسند إلى قوله: "ما حدثنا فهدٌ". ورجال هذا الحديث ثقات، والحسن بن ربيع: ابن سليمان البجلي القسري الكوفي شيخ مسلم وأبي داود والنسائي. وأبو الأحوص: سلام بن سليم الكوفي. والأعمش هو سليمان. وشمر بن عطية: الأسدي الكاهلي، وثقه ابن حبان. وأبو ظبية بالظاء المعجمة، وقال ابن منده: بالطاء المهملة أيضًا. وقال أبو زرعة: لا نعرف أحدا يسميه. وقال العسكري: لا يعرف اسمه، ويقال: اسمه كنيته. وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال ابن معين: ثقة روى له أبو داود وابن ماجه. وعمرو بن عَبَسَة بفتحات-: ابن عامر السُلَميَّ. وأبو نجيح الصحابي، وهو أخو أبي ذرَّ الغفاري لأمَّه، وأمهما رملة بنت الوقيعة بن حَرام بن غفار، مات بحمص -رحمه الله-. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحسن بن الربيع الكوفي، ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فيتعار" من تعار الرجل من الليل، إذا هبَّ من نومه مع صوتَ، وأصله من عار الظليم تعار عِرارا، وهو صوته، وبعضهم يقول: عر الظليم يعِرُّ عرارا، كما قالوا: زمر النعام يزمر زمارا. قلت: أصله يتعارَرُ، ادغمت إحدى الرائين في الأخرى؛ لموجب الإدغام وهو اجتماع المثلين من الحرف. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 124 رقم 7564).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفَّان، قال: ثنا حماد، قال: كنت أنا وعاصم ابن بهدلة وثابت، فحدث عاصم، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله غير أنه لم يذكر قوله: "على ذكر الله"، قال ثابت: قدم علينا فحدثنا هذا الحديث ولا أعلمه إلاَّ عنه، يعنيم أبا ظبية، قلت لحماد: عن معاذ؟ قال: عن معاذ. ش: أشار بهذا إلى أن هذا الحديث المذكور قد رُوي أيضًا عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورجاله ثقات، وحماد هو ابن سلمة، وثابت هو ابن أسلم البناني. وأخرجه أحمد في "مسنده" من ثلاث وجوه: الأول (¬1): عن عفان، عن حماد .. إلى آخره نحو طريق أبي جعفر سواء. الثاني (¬2): عن روح وحسن بن موسى، قالا: نا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهرا، فيتعار من الليل، فيسأل الله -عز وجل- خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه". قال: حسن في حديثه قال: ثابت البناني: فقدم علينا ها هنا فحدثنا بهذا الحديث عن معاذ، قال أبو سلمة: أظنه عنِي أبا ظبية. الثالث (¬3): عن أبي كامل: ثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يبيت على ذكر الله [طاهرًا]، (¬4) فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 241 رقم 22145). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 234 رقم 22101). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 244 رقم 22167). (¬4) تكررت في "الأصل، ك".

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال ناعلي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شمر بن عطية ... فذكر بإسناده. ش: هذا طريق أخر وهو أيضًا صحيح، وعاصم بن أبي النجود هو عاصم ابن بهدلة المزني. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا المقدام بن داود، ثنا علي بن معبد، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عاصم بن أي النجود، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من بات طاهرا على ذكر، ثم تعار من الليل ساعة يسأل الله تعالى فيها شيئًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أتاه الله إياها". ص: وهذا أيضًا بعد النوم، ففلى ذلك إباحة ذكر الله تعالى بعد الحدث، وقد رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - من ذلك شيء. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مُعلَّى بن منصور، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه، وحتى الجنابة". ففي هذا إباحة ذكر الله -عز وجل- وليس فيه ولا في حديث أي ظبية من قراءة القرآن شيء، وفي حديث علي - رضي الله عنه - بيان فرق ما بين قراءة القرآن، وذكر الله في حال الجنابة. ش: أشار بهذا إلى ما رُوي عن عمرو بن عبسة، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنهما - ¬

_ (¬1) في الجزء المفقود من الطبعة الحالية للمعجم وهو في "المعجم الأوسط" (4/ 361 رقم 4439) بنحوه، ورواه النسائي في الكبرى (6/ 202 رقم 10644) من طريق الأعمش، عن شمر ابن عطية به، نحوه. وهو كذلك من طريق الأعمش عند الخطيب في "تاريخه" (8/ 60).

قوله: "وقد رُوي عن عائشة من ذلك شيء" أي من إباحة ذكر الله في حالة الحدث، وإسناد حديثها صحيح. وابن أبي زائدة هو يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الكوفي، روى له الجماعة، وأبوه: زكرياء، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، قالا: نا ابن أبي زائدة ... إلى آخره نحوه سواء. وأحْرجه أبو داود (¬2): عن أبي كريب أيضًا نحوه. وأخرجه الترمذي (¬3)، وابن ماجه (¬4) أيضًا. ولكن في رواية الكل بين خالد بن سلمة وبن عروة، عبد الله البهي، ولم يقع كذا في رواية الطحاوي، وخالد بن سلمة روى عن عروة أيضًا، ولو لم تصح روايته عنه لقلنا: إن البهي ساقط في رواية الطحاوي من النساخ. قوله: "يذكر الله" عام يشمل جميع أنواع الذكر من التهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، وأشباه ذلك. "والأحيان" جمع حين، وهو الوقت، وهو أيضًا يتناول جميع أحيان الأحوال ولكن يستثنى منه قراءة القرآن حين الجنابة، وحين الحيض؛ لأنه قد ثبت بدلائل أخرى عدم جواز قراءة القرآن للجُنب، والحائض. قوله: "ففي هذا" أي في حديث عائشة. قوله: "وليس فيه" أي في حديث عائشة، ولا في حديث أبي ظبية الذي رواه عن عمرو بن عبسة ومعاذ في قراءة القرآن شيء، أما حديث أبي ظبية فإنه لم يذكر فيه إلَّا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 282 رقم 373). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 5 رقم 18). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 364 رقم 3384). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 110 رقم 302).

لفظ السؤال، ولا يفهم منه إلَّا ذكر الله تعالى دون قراءة القرآن، وأما حديث عائشة فإنه لم يذكر فيه إلَّا لفظ الذكر، وهو عند الإطلاق لا يتناول القرآن باعتبار العرف، وإنما فرق بينهما في حديث علي - رضي الله عنه - حيث قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا القرآن على كل حال إلاَّ الجنابة" (¬1) فإنه يدل على جواز الذكر حال الجنابة دون القراءة. ص: وقد رُوي أيضًا في النهي عن قراءة القرآن حال الجنابة ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن". ش: عبد الله بن يوسف هو "التنيسي" (¬2) شيخ البخاري، وإسماعيل بن عيَّاش -بتشديد الياء آخر الحروف، والشين المعجمة- بن سُليم الشامي الحمصي العنسي -بالنون- وثقه يحيى بن معين في روايته عن الشاميين خاصة، وقال أبو حاتم: هو لين يكتب حديثه، لا أعلم أحدا كف عنه إلاَّ أبو إسحاق الفزاري، وقال أبو زرعة: صدوق إلاَّ أنه غلط في حديث الحجازيين والعراقيين، وروى له الأربعة. قلت: ولهذا لما أخرجه الترمذي (¬3) سكت عنه وقال: ثنا علي بن حجر والحسين ابن عرفه، قالا: نا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقرأ الحائض ولا الجنُب شيئًا من القرآن". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬4): عن عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، عن داود بن رُشَيد، عن إسماعيل بن عياش .. إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في "الأصل، ك" الفريابي، وهو سبق قلم من المصنف، والصواب أنه التنيسي شيخ البخاري، وأما الفريابي فهو محمَّد بن يوسف الفريابي وهو شيخ البخاري أيضًا. (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 236 رقم 131). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 117 رقم 1).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): موقوفا، وقال: أخبرنا محمَّد بن يزيد البزار، ثنا شريك، عن فراس، عن عامر: "الجنب والحائض لا يقرآن القرآن". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد ح وحدثنا روح بن الفرج قال: ثنا ابن بكير، قالا: أنا عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنُود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: "أكل رسول الله - عليه السلام - وهو جُنب، فأخبرت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجرّني إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم، إذا توضأت أكلت وشربت ولكن لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل". ش: أخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني، نزيل مصر، شيخ البخاري وغيره، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان بن زرعة أبي حمزة الطويل المصري، عن ثعلبة بن أبي الكنود الحمراوي وثقه ابن حبان، عن مالك بن عبادة الغافقي، ويقال: مالك بن عبد الله، ويقال له: عبد الله بن مالك الغافقي، وقال ابن الأثير: عبد الله بن مالك الغافقي أبو موسى، وقيل: مالك بن عبد الله، مصري ذكره في العبادلة، ثم قال في باب مالك: ابن عبد الله الغافقي يقال له: مالك بن عبادة، وقيل: شاميُّ، والطبراني ذكره في الحديث المذكور (¬2): مالك بن عبد الله حيث قال: نا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، نا ابن لهيعة (¬3)، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبد الله الغافقي، قال: "أكل رسول الله - عليه السلام - يوما طعاما، ثم قال: أستر عليَّ حتى أغتسل، فقلت: كنت جنبا يا رسول الله؟ قال: نعم، فأخبرت ذلك عمر بن الخطاب، فجاء إلى رسول الله - عليه السلام - فقال له: هذا يزعم أنك ¬

_ (¬1) "سنن الدرامي" (1/ 252 رقم 991). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 295 رقم 656). (¬3) وقع ها هنا في "الأصل، ك"، عن عبد الله بن يوسف بين ابن لهيعة وعن ثعلبة، وهو انتقال نظر من المؤلف.

أكلت وأنت جُنُب، فقال: نعم، إذا توضأت أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل". الطريق الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن بكير المصري، عن عبد الله بن لهيعة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬1): من حديث ابن وهب، أنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن عبد الله بن مالك الغافقي، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول لعمر - رضي الله عنه -: "إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل"، ثم قال ابن وهب: قال لي مالك والليث مثله يعني من قولهما انتهى، وهذا في رواية البيهقي: عبد الله بن مالك. فإن قلت: من أين عرف مالك بن عبادة أن رسول الله - عليه السلام - كان جنبا حين أكل حتى أخبر بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ قلت: رواية الطبراني تجيبك عن هذا، فافهم. ص: ففي هذين الأثرين منع الجنب من قراءة القرآن، وفي أحدهما منع الحائض من ذلك، فثبت بما ذكرنا في هذين الحديثين مع ما في حديث عليَّ - رضي الله عنه - أنه لا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن في حال الحدث غير الجنابة، وأن قراءة القرآن خاصة مكروهة في حال الجنابة والحيض، فأردنا أن ننظر أي هذه الآثار بأخرة فنجعله ناسخا لما تقدم، فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا قال: ثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أجُنُب أو اهراق الماء إنما نكلمه فلا يكلمنا، ونُسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (¬2) ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر علقمة في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حكم الجنب ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 89 رقم 419). (¬2) سورة المائدة، آية: [6].

كان عنده قبل نزول هذه الآية ألَّا يتكلم، وألَّا يرد السلام، حتى نسخ الله -عز وجل- ذلك بهذه الآية، فأوجب بها الطهارة على من أراد الصلاة خاصة، فثبت بذلك أن حديث أبي الجُهيم، وحديث ابن عمر، وابن عباس، والمهاجر منسوخة كلها، وأن الحكم الذي في حديث علي - رضي الله عنه - متأخر عن الحكم الذي فيها. ش: أراد بهذين الأثرين: أثر عبد الله بن عمر، وأثر مالك بن عبادة الغافقي. قوله: "فأردنا ... " إلى آخره، إشارة إلى وجه التوفيق بين هذه الآثار المذكورة في هذا الباب؛ لأن بعضها يضاد بعضا، وذلك لأن حديث أبي الجهيم بن الحارث، وحديث عبد الله بن عمر: "أن رجلا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، وحديث ابن عباس مثله، وحديث المهاجر بن قنفذ الذي في أول الباب؛ كلها تدل على أن ذكر الله وغيره نحو القراءة لا تكون إلَّا على طهر، وأحاديث غير هؤلاء التي ذكرت هنا تدل على إباحة ذكر الله تعالى على أي حالة كانت، وأن قراءة القرآن تجوز على حال الحدث الأصغر، وتمنع على حال الحدث الأكبر والحيض والنفاس، فلما كان الأمر كذلك؛ وجب المصير إلى التوفيق، ووجهه: أن ننظر أي من هذه الآثار جاء آخرا، وأيها جاء أولا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث علقمة بن الفغواء دل على أن آثار أبي الجهم وابن عمر وابن عباس والمهاجر بن قنفذ كانت متقدمة، وأن الحكم الذي في حديث علي - رضي الله عنه - متأخر عن الحكم الذي فيها؛ فثبت بها انتساخ أحاديث هؤلاء كما هو الأصل عند تعارض النصوص. فإن قلت: حديث جابر الجعفي غير ثابت فلا يتم به الاستدلال. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن سفيان يقول: كان جابر ورعا في الحديث ما رأيت أورع في الحديث منه، وعن شعبة: وهو صدوق في الحديث، وعن وكيع: ثقة، ولئن سلمنا ذلك فنقول آثار هؤلاء محمولة على الفضيلة والاستحباب، وقد يقال: إنها منسوخة بحديث عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه".

وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره (¬1) كما ذكرناه، ثم رجال حديث عبد الله بن علقمة كلهم ثقات. وأبو كريب اسمه محمَّد بن العلاء، شيخ الجماعة، ومعاوية بن هشام: أبو الحسن القصار الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري، وسفيان هو الثوري، وجابر هو ابن يزيد الجعفي وقد ذكرناه الآن، وعبد الله بن أبي بكر روى له الجماعة، وعبد الله بن علقمة بن الفغواء -بالفاء، والغين المعجمة الساكنة-، ذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه علقمة بن الفغواء أخو عمرو بن الفغواء الخزاعي، يقال: له صحبة، سكن المدينة، وأخرج ابن الأثير هذا الحديث في ترجمة علقمة بن الفغواء، وأخرجه أيضًا أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن"، والطبراني في "الكبير" (¬2). قوله: "إذا أجنب" أي إذا صار جُنبا، مثل: أغد البعير، إذا صار ذا غدة. قوله: "أو أهراق" أي أراق، والهاء زائدة. ويستفاد منه: أن الوضوء كان لا بد منه لرد السلام ونحوه في صدر الإسلام، ولهذا كان رسول الله - عليه السلام - لا يرد السلام في الجنابة، ولا بعد إراقة الماء قبل الغسل والوضوء، فلما نزلت آية الوضوء نَسَخَتْ هذا الحكم لأنه لم يوجب الطهارة إلا على من أراد الصلاة وهو محدث، فبقي غيرها على أصل الإباحة. ثم اعلم أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت في قصة عائشة - رضي الله عنها -، ولا خلاف أن الوضوء كان بمكة سنة، معناه أنه كان مفعولا بالسنة، فأما حكمه فلم يكن قط إلَّا فرضا، كذا قاله أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، وقال: وقد روى ابن إسحاق وغيره: "أن النبي - عليه السلام - لما فرض الله عليه الصلاة ليلة الإسراء، ونزل جبريل - عليه السلام - ظهر ذلك اليوم ليصلي به، همز بعقبة فانبجثت ماء، فتوضأ معلما له، وتوضأ هو معه وصلى، وصلى رسول الله - عليه السلام -" وقال في تفسير قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "المعجم الكبير" (18/ 6 رقم 3).

عَلَى} (¬1)، رُوي أن أصحاب رسول الله - عليه السلام - أصابتهم جراحة ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك فنزلت هذه الآية. وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "كنت في مسير مع رسول الله - عليه السلام - حتى إذا كنت بذات الجيش؛ ضلَّ عقد لي ... " الحديث، قال: فنزلت آية التيمم، وهي مُعضلةٌ ما وجدت لدائها من دواء عند أحد، هما آيتان فيهما ذكر التيمم، إحداهما في النساء، والأخرى في المائدة، فلا نعلم أَيَّةُ آيةٍ عنت عائشة، وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة المريسيع، قال خليفة بن خياط: في سَنة ست من الهجرة، وقال غيره: سنة خمس؛ وليس بصحيح، وحديثهما يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم، والله أعلم كيف كان حال من عدم الماء ثم جاءت عليه الصلاة؟ فإحدى الآيتين سفرية والأخرى حضرية، ولما كان أمر لا يتعلق به خبأه الله تعالى ولم ينشر بيانه على يد أحد، ولقد عجبت من البخاري بوب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم فقال (¬2): باب "وإن كنتم مرضى أو على سفر" وأدخل فيه حديث عائشة، وبوب في سورة النساء، باب (¬3) "فلم تجدوا ماء"، وأدخل حديث عائشة بعينه، وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة، وأراد فائدة أشار إليها، أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬4) إلى هذا الحد نزل في قصة، على أن ما وراءها قصة أخرى، وحكم آخر يتعلق به شيء، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها، والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء التي يذكر التيمم فيها في المائدة هي النازلة في قصة عائشة، وكان الوضوء مفعولا غير متلو فكمل ذكره، وعقب بذكر بدله، واستوفيت النواقص فيه، ثم أعيدت من قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ} هو إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [6]. (¬2) تكررت في "الأصل، ك". (¬3) "صحيح البخاري" (4/ 1673 رقم 89). (¬4) "صحيح البخاري" (4/ 1673 رقم 110).

تعالى: {جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1) حتى يكمل تلك الآية في سورة النساء، والذي يدل على أن قصة عائشة هي آية المائدة؛ إن المفسرين بالمدينة اتفقوا أن المراد بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬2) يعني من النوم، وكان ذلك في قصة عائشة - رضي الله عنها -، وقال الصفاقسي كلاما طويلًا ملخصه: أن الوضوء كان لازما لهم، وآية التيمم إما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلاَّ بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء لكونه متقدما متلوّا؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء. وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} (2)، أو يحتمل أن يكون الوضوء كان بالسُّنة لا بالقرآن، ثم أُنزلا معا، فعبَّرت بالتيمم إذ كان هو المقصود، وقال القرطبي وغيره أرادَتْ آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء. ص: وقد دلّ على ذلك أيضًا: ما: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، قال: سمعت سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير قال: "كان ابن عباس وابن عمر يقرآن القرآن، وهما على غير وضوء". حدثنا سليمان بن شعب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة، عن سلمة بن كهيل .. فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، عن حماد بن سلمة. وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس .. مثله. حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: نا همام، قال: نا قتادة، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن ابن عباس: "أنه كان يقرأ حِزبه وهو محدث". ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [43]. (¬2) سورة المائدة، آية: [6].

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أخبرني الأزرق بن قيس، عن رجل يقال له: أبان، قال: "قلت لابن عمر: إذا هرقت الماء، أأذكر الله؟ قال: أيْ شيء إذا هَرقت الماء؟ قال: إذا بُلْتُ. قال: نعم، أذكر الله". فهذا ابن عباس وابن عمر قد رويا عن النبي - عليه السلام - أنه لم يَرُدّ السَّلام في حال الحدث حتى تيمّم، وقد ذكرنا عنهما ذلك فيما تقدّم هنا في هذا الكتاب، وهنا فقد قرءا القرآن في حال الحدث، فلا يجوز ذلك عندنا، إلَّا وقد ثبت النسخ أيضًا عندهما. ش: أي وقد دّل على النسخ الذي ذكرناه ما روي عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -، بيانه: أنهما قد رويا فيما مضى أن النبي - عليه السلام - لم يرد السلام في حال الحدث حتى تيمم، فدل هذا على أن ذكر الله من غير طهر لا ينبغي أن يفعل، ثم إنه قد روي عنهما أنهما قرءا القرآن وهما محدثان فلا يجوز ذلك عنهما إلاَّ بعد ثبوت النسخ عندهما؛ تحسينا بالظن في حقهما، وقد تقرر أن الصحابي إذا فعل أو أفتى بخلاف ما روى؛ دَلَّ ذلك على ثبوت النسخ عنده؛ لأنهم محفوظون عن المخالفة، ثم إنه أخرج ما روي عن ابن عباس وابن عمر معا من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم هو الفضل بن دكين، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي العابد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير: "أن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -[كانا] (¬2) يقرءان القرآن بعد ما يخرجان من الحدث قبل أن يتوضئا". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 99 رقم 1117). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬1): قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سلمة ابن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وابن عمر "كانا يقرءان أحزابهما من القرآن بعد ما يخرجان من الخلاء قبل أن يتوضئا". وأخرج ما روي عن ابن عباس وحده من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل. الثالث: عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصريّ، وثقه ابن حبان، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وغيره، عن همام بن يحيى ... آخره. قوله: "حزبه" الحزب: ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد، والحزبْ: النوبة في ورود الماء. وأخرج ما روي عن ابن عمر وحده، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، روى له البخاري وأبو داود والنسائي، عن أبان شيخ بصري تابعي ذكره ابن حبان في التابعين الثقات. قوله: "هرقت" أصله أرقت، والهاء تبدل من الهمزة. قوله: "أأذكر" بهمزتين أولاهما استفهامية. ص: وقد تابعهما على ما ذهبا إليه من هذا قوم. حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن حماد الكوفي، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يُقْرِئْ رجلًا، فلما انتهى إلى شاطئ الفرات كفَّ عنه الرجلُ، فقال له: مالك؟ قال: أحدثت. قال: اقرأ فجعل يقرأ، وجعل يفتح عليه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 98 رقم 1102).

حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم الأحول، عن عروة، عن سلمان: "أنه أحدث، فجعل يقرأ، فقيل له: أتقرأ وقد أحدثت؟ قال: نعم إني لست بجُنب". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا عبد الرحمن بن زياد، قال: نا شعبة، قال: "سألت قتادة عن الرجل يقرأ القرآن وهو غير طاهر. فقال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: كان أبو هريرة ربما قرأ السورة وهو غير طاهر". حدثنا مرزوق، قال: نا وهب، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد، عن أبي هريرة ... مثله. حدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا همام، عن قتادة .. فذكر بإسناده مثله. فقد ثبت بتصحيح ما روينا نَسْخُ حديث ابن عباس ومن تابعه، وثبوت حديث عليّ - رضي الله عنه - على ما قد شدَّه من أقوال الصحابة، فبذلك نأخذ، فَنَكْرَهُ للجنب والحائض قراءة الآية تامة، ولا نرى بذلك بأسا للذي على غير وضوء، ولا نرى لهم جميعًا بأسا بذكر الله -عز وجل-. ش: أي وقد تابع ابن عباس وابن عمر على ما ذهبا إليه من إباحة ذكر الله من غير طهر قوم من الصحابة، وهم: عبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة. وأخرج أثر ابن مسعود بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان الكوفي، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مختصرا، عن وكيع، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله: "أنه كان معه رجل، فبال ثم جاء، فقال له ابن مسعود: اقرأه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 99 رقم 1116).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن عطاء الخراساني، قال: "كان ابن مسعود يفتح على الرجل وهو يقرأ، ثم قام فبال فأمسك الرجل عن القراءة، فقال له ابن مسعود: ما لك؟! اقرأ، وكان يفتح عليه فقرأ". قوله: "إلى شاطئ الفرات" أي إلى جنبه. قال الجوهري: شاطئ الوادي وشطّه: جانبه، والفرات نهر مشهور أوله من شمالي أرمينية الروم آخر بلاد الروم، وآخره يصبّ في بطائح كبار في فضاء العراق بعد الكوفة. قوله: "فجعل" معناه: شرع، وتستعمل استعمال "كاد"، تقول: جعل زيد يفعل كذا، وكذلك "أخذ"، وقد يجيئ جملة إسمية، وفعلا ماضيا، وهما نادران. قوله: "يفتح عليه" يعني يرد عليه إذا توقف في القراءة، ويلقنه، ويأخذ منه. وأخرج أثر سلمان أيضًا من طريق صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج ابن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عروة بن الزبير بن العوام. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): من وجه آخر، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية، عن علقمة والأسود: "أن سلمان قرأ عليهما بعد الحدث". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن ابن عيينة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت علقمة بن قيس يقول: "دخلنا على سلمان، فقرأ علينا آيات من القرآن على غير وضوء". وأخرج أثر أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن. سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 339 رقم 1319). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 98 رقم 1101). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 340 رقم 1324).

وأخرجه عبد الرازق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب قال: "ربما سمعت أبا هريرة يقرأ ويحدر السورة وإنه لغير متوضئ". قوله: "وهو غير طاهر" أي غير متوضئ، وتشهد لذلك رواية عبد الرزاق. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير .. إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن نمير، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن أبا هريرة كان يخرج من المخرج ثم يحدر السورة". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن همام بن يحيى، عن قتادة. قوله: "نسخ حديث ابن عباس" وهو الحديث الذي مر ذكره في أوائل الباب، الذي تمسك به أهل المقالة الثانية. وأراد بمن تابعه: ابن عمر، والمهاجر بن قنفذ، وأبا الجهم بن الحارث. وأراد بحديث علي - رضي الله عنه - قوله: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ القرآن على كل حال إلا الجنابة". قوله: "على ما قد شده" أي حديث علي "من أقوال الصحابة" وكلمة "من" زائدة، وهي تراد في الإثبات والنفي جميعًا؛ فافهم. قوله: "فبذلك نأخذ" أي بحديث علي نأخذ، وهو إباحة الذكر والقراءة للمحدث بالحدث الأصغر. قوله: "فنكره" أي إذا كان الأمر كذلك؛ نكره للجنب والحائض "قراءة الآية تامة"، أي حال كونها تامة، والمراد كراهة التحريم، وفهم منه أن لهما قراءة ما دون الآية، وعامة المشايخ على أنه تستوي في الكراهة الآية التامة وما دونها، وعلّله صاحب "البدائع" بإطلاق الحديث، وبأن المانع تعظيم القرآن، ومحافظة حرمته، وهذا لا يوجب الفصل بين القليل والكثير. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 338 رقم 1317). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 98 رقم 1103).

قلت: نظر الطحاوي في أن المتعلق بالقرآن حكمان: جواز الصلاة، ومنع الجنب والحائض عن قراءته، ثم في حق أحد الحكمين تفصيل بين الآية وما دونها، فكذلك في الحكم الآخر. وفي "المبسوط": قول أبي سماعة مثل قول الطحاوي، وفي "الجامع" لنجم الدين الزاهدي: وأطلق الطحاوي ما دون الآية للحائض والنفساء والجنب، وهو رواية أبي سماعة عن أبي حنيفة، وعليه الأكثرون، وفي "التجنيس": ويستوي في القراءة الآية وما دونها، وهو الصحيح يعني في الحرمة، وقال أيضًا: إذا حاضت المعلّمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة، وتقطع بين الكلمتين، على قول الكرخي، وعلى قول الطحاوي: تُعلم نصف آية، ثم تقطع، ثم تعلم نصف آية، ولا يكره لها التهجي بالقرآن، وكذا لا يكره دعاء القنوت، كذا في "المحيط". وذكر الحلواني، عن أبي حنيفة: لا بأس للجنب أن يقرأ الفاتحة على وجه الدعاء. قال الهندواني: لا أفتي بهذا، وإن روي عنه. وفي "العيون": لا بأس للجنب أن يقرأ الفاتحة على وجه الدعاء، أو شيئًا من الآيات التي فيها معنى الدعاء. قوله: "ولا يرى لهم" أي للجنب، والحائض، والذي على غير وضوء. ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في منع الجنب أيضًا من قراءة القرآن ما يوافق ما قلنا. حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: نا زائدة، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبيدة قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يكره أن يقرأ القرآن وهو جُنب". حدثنا فهد، قال: نا عمر بن حفص، قال: نا أبي، قال: ثنا الأعمش ... فذكر بإسناده مثله.

فهذا عندنا أولى من قول ابن عباس؛ لما قد وافقه مما رويناه عن رسول الله - عليه السلام - في حديث علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي موسى مالك بن عبادة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: "روي" مستند إلى قوله: "ما يُوافقُ"، وقوله: "ما قلنا" مفعول قوله يُوافقُ. وإسناد أثر عمر صحيح من الطريقين على شرط الشيخين، وزائدة هو ابن قدامة، والأعمش هو سليمان، وشقيق -بن سلمة، وعَبِيدة -بفتح العين، وكسر الباء-: ابن عمرو السَّلْماني بسكون اللام. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عَبِيدة السَلْماني قال: "كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جُنُب". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن حفص وأبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عَبيدة، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "لا يقرأ الجنب القرآن". وأخرج الدارمي في "سننه" (¬3): أنا أبو الوليد، نا شعبة، أنا الحكم، عن إبراهيم قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يكره أو ينهى أن يقرأ الجنب"، قال شعبة: وجدت في الكتاب: "والحائض". قوله: "وأبي موسى" هو كنية مالك بن عبادة الغافقي، ولهذا قال: "مالك بن عبادة" بعده بطريق عطف البيان. ص: وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا ما يدل على خلاف ما رواه نافع في حديث محمَّد بن ثابت الذي ذكرناه فيما تقدم في كتابنا هذا. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 337 رقم 1307). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 97 رقم 1080). (¬3) سنن الدارمي (1/ 252 رقم 992).

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء، فطعم، فقيل له: ألا توضأ؟ فقال: "إني لا أريد أن أصلي فأتوضأ". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عاصم، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني سعيد بن الحويرث .. فذكر مثله بإسناده. حدثنا ابن أبي داود، قال: نا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: نا رَوْح بن القاسم، عن عمرو بن دينار .. فذكره بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: نا خالد بن عبد الرحمن، قال: نا حماد بن سلمة، عن عمرو ... مثله بإسناده. أفلا ترى أن رسول الله لما قيل له: "ألا توضأ؟ " قال: "أَأُريد الصلاة فأتوضا؟! ". فأخبر أن الوضوء إنما يُراد للصلاة لا للذكر، فهذا معارض لما رويناه عن ابن عباس في أول هذا الباب، وهذا أولى؛ لأن ابن عباس عمل به بعد رسول الله - عليه السلام - فدلّ عملهُ به على أنه هو الناسخ. ش: أشار بهذا إلى أن ما روي عن ابن عباس من حديث محمَّد بن ثابت العبدي عن نافع، عنه، الذي مضى ذكره في صدر هذا الباب قد نسخ بما رواه عن سعيد بن الحويرث مخالفا له في حُكمه؛ لأن في حديث محمَّد بن ثابت ذكر أنه - عليه السلام - لم يَرُدّ السلام على ذاك الرجل، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلاَّ أني كنت لست بطاهر"، وفي حديث سعيد بن الحويرث لما قيل له: "ألا توضأ؟ " قال: "أَأُريد الصلاة". وبينهما تعارض ظاهر، ولكن حديث محمَّد بن ثابت منسوخ، والدليل عليه أن ابن عباس عمل بحديث سعيد بن الحويرث بعد النبي - عليه السلام -، وهذا دليل علي أن النسخ ثبت عنده؛ لأن الراوي إذا روى حديثين متعارضين ثم عمل بأحدهما أو أفتى به، يدل على ثبوت نسخ

الآخر عنده، ثم إنه أخرج حديث ابن عباس هذا من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وهذا على شرط مسلم؛ لأن رجاله كلهم رجاله. وأخرجه مسلم (¬1): أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة .. إلى آخره نحوه. غير أن في لفظه: "فجاء من الغائط فأُتي بطعام"، والباقي مثله سواء. وأخرجه الدارمي أيضًا في "سننه" (¬2): عن أبي نعيم، عن سفيان بن عيينة .. إلى آخره نحو رواية مسلم. قوله: "فطعم" أي أكل، يقال: طَعِمَ يَطْعَمُ طُعْما فهو طَاعِمٌ: إذا أكل أو ذاق، مثل: غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْما فهو غَانِمٌ، قال الله تعالى،: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬4) أي من لم يذقه. قوله: "ألا توضأ" أصله تتوضأ، فحذفت إحدى التائين للتخفيف. قوله: "فأتوضأ" بالنصب عطفا على قوله: "أن أصلي"، والمعنى لا أريد الصلاة حتى أتوضأ. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 283 رقم 374). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 216 رقم 767). (¬3) سورة الأحزاب، آية: [53]. (¬4) سورة البقرة، آية: [249].

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمَّد بن عمرو بن عباد بن جبلة، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: نا سعيد بن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: "إن النبي - عليه السلام - فقضى حاجته من الخلاء، فُقرّب إليه طعام فأكل؛ ولم يمسّ ماء" فقال: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث: "أن النبي - عليه السلام - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ" وزعم عمرو أنه سمعه من سعيد بن الحويرث. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود، عن محمَّد بن المنهال .. إلى آخره. وأخرجه الكِسِّي في "مسنده" (¬2): أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة. وعن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج من الغائط، ثم أراد أن يَطْعَم، فقيل: ألا توضأ؟ فقال إنما أمرتم بالوضوء للصلاة". الرابع: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (¬3): نا حماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن عمر وبن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس، قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - من الخلاء، فقالوا: نأتيك بوضوء؟ فقال: أأصلي فأتوضا؟! ". وأخرجه الطبراني بإسناده (¬4): عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "خرج النبي - عليه السلام - من الغائط، ثم قعد فَطَعِمَ، فقالوا: يا رسول الله، ألا تتوضأ؟ قال: إنما أمرت بالوضوء للصلاة، فأما للطعام فلا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 283 رقم 374). (¬2) الكسّي هو عبد بن حميد بن نصر أبو محمَّد الكسّي، والحديث في مسنده (1/ 230 رقم 690). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 361 رقم 765). (¬4) "المعجم الكبير" (12/ 82 رقم 12547).

وأخرجه أيضًا (¬1): من حديث ابن أبي مليكة، عن ابن عباس نحوه. ص: فإن عارض في ذلك معارض بما حدثنا فهد، قال: نا أحمد بن يونس، قال: أنا زهير، قال: نا جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ما أتى رسولُ الله - عليه السلام - الخلاءَ إلا توضأ حين يخرج وضوءه للصلاة". قالوا: فهذا يدلّ على فساد ما رويتموه عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يذكر الله على كل أحيانه". قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون كان يتوضأ إذا خرج من الخلاء، ولا يتوضأ إذا بال، فيكون ذلك الحين حين حدث قد كان يذكر الله فيه، فيكون معنى قولها: "كان يذكر الله في كل أحيانه" أي في حين طهارته وحدثه، حتى لا تتضاد الآثار، مع أنه قد خالف ذلك حديث ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - لما قال: "أأرُيد الصلاة فأتوضأ"، فَدلّ ذلك على أنه لم يكن يتوضأ إلَّا وهو يريد الصلاة، فقد يحتمل أن يكون ما حضرت منه عائشة من الوضوء عند خروجه إنما هو لإرادته الصلاة لا للخروج من الخلاء، ويحتمل أيضًا أن يكون ذلك إخبارا منها عما كان يفعل قبل نزول الآية، وما في حديث خالد بن سلمة إخبارا منهما ما كان يفعل بعد نزول الآية، حتى يتفق ما روي عنها وما روي عن غيرها، ولا يتضاد من ذلك شيئًا. ش: بيان المعارضة: أن حديث الأسود، عن عائشة يدلّ على أن الذكر وقراءة القرآن لا بد لهما من الطهر، وأنه أيضًا يدل على فساد ما روي عنها: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يذكر الله على كل أحيانه" وذلك للتعارض بينهما ظاهرا، والعمل بحديث الأسود أولى، حملا لحال الرسول - عليه السلام - على أكمل الأحوال، والجواب عنها ظاهر. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 122 رقم 11241).

قوله: "مع أنه قد خالف ذلك" أي مع أن الشأن: قد خالف حديث الأسود حديث ابن عباس. قوله: "قبل نزول الاية" أي آية الوضوء، وأراد بحديث خالد بن سلمة هو الحديث الذي رواه عن عروة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يذكر الله على كل أحيانه" ورجال حديث الأسود عن عائشة ثقات إلاَّ أن في جابر بن يزيد الجعفي مقالا وأحمد بن يونس: الضبي، قال الدارقطني: صدوق ثقة. وزهير: ابن معاوية، والأسود: ابن يزيد بن قيس.

ص: باب: حكم بول الغلام والجارية قبل أتى يأكلا الطعام

ص: باب: حكم بول الغلام والجارية قبل أتى يأكلا الطعام ش: أي هذا باب في بيان حكم بول الصغير والصغيرة قبل أن يأكلا الطعام، وجه المناسبة بين البابين: أن الأول يشتمل على أحكام النجس الحكمي، وهذا على أحكام النجس الحقيقي. "الغلام" هو من حين يُولد إلى أن يَشِبَّ، وقيل: هو الذي طَرّ شاربُه، وفي "المخصّص": هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين. وعن أبي عُبَيد: هو المترعرع. وفي "أساس البلاغة" للزمخشري: الغلام هو الصغير إلى حدَّ الالتحاء، فإن أجرى عليه بعد ما صار مُلتحيا اسم الغلام فهو مجاز (¬1). ويروى عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - في بعض أراجيزه. أنا الغلام الهاشمي المؤتمن (¬2). وقالت ليلى الأخيلية في الحجاج: غلام إذا هزَّ القناة ثَناها (¬3). وقال بعضهم: يستحق هذا الاسم إذا ترعرع وبلغ الاحتلام بشهوة النكاح؛ كأنه يشتهي النكاح ذلك الوقت، ويُسمى قبل ذلك: الغلام، تفاؤلا، وبعد ذلك مجازا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في النسخة المطبوعة من أساس البلاغة. (¬2) المؤتمن تحرفت في "الأصل، ك"، فلم تَظهر، وفرأها بعض الباحثين: "المكي"، كما في رسالة "بدر الدين العيني، وأثره في علم الحديث" (ص 207)، وهو غلط وزنًا ومعنى. والصواب ما أثبتناه، وعجزُه: أبو حسين، فاعلمنَّ. انظر "نيل الأوطار" (1/ 57). (¬3) صَدْرُ البيت: شفاهًا من الداء العُقام الذي بها. انظر: "الكامل للمبرد" (1/ 306)، "زهرالآداب" للحُصْري (2/ 935) وغيرهما.

وفي "الموعب" لأبي غالب بن التياني: لا يقال للأنثى: غلامة إلَّا في كلام قد ذهب في ألسنة الناس. وفي "الجمهرة": غلام رَعرعٌ، ورعراع، ولا يكون ذلك إلاَّ مع حسن الشباب، ويجمع على أَغْلِمة، وغِلْمة، وغِلْمان. وفي "الصحاح": استغنوا بغلمة عن أغلمة، وتصغير الغلمة: أُغَيْلِمَة على غير مُكَبَّره؛ كأنهم صغروا أغلمة، وإن كانوا لم يقولوا. وفي كتاب "خلق الإنسان": قال الأصمعي: يقال: غلام طفل، وجارية طِفْلة، وفيه: قال بعضهم: ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، فإذا ولدته سمى صبيّا ما دام رضيعا، فإذا فُطِمَ سُمِّي غلاما إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج، ثم يصير حَزَوّرا إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قُمُدا إلى خمس وعشرين سنة، ثم يصير عَنَطْنَطا إلى ثلاثين سنة، ثم يصير صُمّلا إلى أربعين سنة، ثم يصير كهلا إلى خمسين سنة، ثم يصير شيخا إلى ثمانين سنة، ثم يصير هِمَّا بعد ذلك فانيا كبيرا (¬1). ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: نا بكر بن خلف، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: أخبرني أبي، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الرضيع: "يُغْسل بول الجارية، وينضح بول الغلام". ش: بكر بن خلف البصري شيخ البخاري وأبي داود وابن ماجه. وأبو حرب روى له مسلم، وأبوه: أبو الأسود اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، روى له الجماعة، وهو أول من تكلم في النحو. وأخرجه أبو داود (¬2)، نا مُسدد، قال: نا يحيى، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - قال: "يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام ما لم يطعم". ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 698). (¬2) "سنن أبو داود" (1/ 103 رقم 377).

نا (¬1) ابن المثنى، نا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن علي بن أبي طالب: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال .. " فذكر معناه، لم يذكر: "ما لم يطعم". زاد: قال قتادة: "هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعًا". وأخرجه ابن ماجه (¬2)، والترمذي (¬3)، وقال: حديث حسن، وذكر أن هشاما الدستوائي رفعه عن قتادة، وأن سعيد بن أبي عروبة وقفه عنه ولم يرفعه، وقال البخاري: وسعيد بن أبي عروبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي يرفعه وهو حافظ. وأخرجه الدارقطني (¬4): عن أحمد بن محمَّد بن إسماعيل الآدمي، عن الهيثم العبدي، عن معاذ بن هشام ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وفي آخره: قال قتادة: "هذا ما لم يطعما فإذا طعما الطعام غسلا جميعا". قوله: "في الرضيع" وهو اسم للمولود الذي يرضع، يقال: رَضِعَ الصبيّ أمّه يَرْضَعُها رضاعا مثل سَمِع يسْمَع سماعا، وأهل نجد يقولون: رَضَع يرضِع رَضْعا مثل: ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبا، وأرْضَعَتْه أمّه، وامرأة مُرضع أي لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد، قلت: مرضعة. قوله: "ويُنضح" من نَضَحَ الماء عليه يَنْضَحُهُ نَضْحا إذا ضربه بشيء فأصابه منه رشاش، ونَضَحَ عليه الماءُ رَش، قاله ابن سيدة. وقال الأصمعي: نَضَحْتُ عليه الماء نَضْحا، وأصابه نَضَحٌ من كذا. ¬

_ (¬1) "سنن أبو داود" (1/ 103 رقم 378). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 525). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 509 رقم 610). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 129 رقم 2).

وقال ابن الأعرابي: النضح ما كان على اعتماد (¬1)، والنضخ ما كان على غير اعتماد، وقيل: هما لغتان بمعنى، وكله رَشٌّ. وقال أبو علي: النضح ما كان من علو إلى سفل، ونضح البيت يَنْضِحُه نضحا، رشه رشا خفيفا، وفي "الجامع للقزاز": نضحت الشيء بالماء إذا رششته، والنضح أكثر من النضخ في رش الماء، ومنه قول قتادة: النَّضْحُ من النضح (¬2)، وقالوا: النضح ما بقي له أثر، وقيل: النضخ بما غلظ كالدم والطيب، والنضح بالحاء المهملة بما رق، وفي "المنتهى" لأبي المعالي: النضح الرش، وأصابنا نضح من مطر، ونضْحُه، أي: مطر خفيف، وفي "الواعي" لأبي محمَّد، و"الصحاح" لأبي نصر، و"المجمل" لابن فارس، و"الجمهرة" لابن دريد، وابن القوطية، وابن القطاع، وابن طريف في "الأفعال"، والفارابي في "ديوان الأدب"، ويعقوب في "الألفاظ"، وكراع في "المنتخب"، وغيرهم: النضح: الرش. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن قابوس بن المخارق، عن لُبَابة بنت الحارث: "أن الحسين بن عليّ - رضي الله عنهما - بال على النبي - عليه السلام -، فقلت: أعطني أغسله. فقال: إنما يغسل من الأنثى وينضح من بول الذكر". ش: إسناده صحيح، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي. وقابوس بن المخارق الكوفي ثقة. ¬

_ (¬1) جاء بَعْده -كما في "اللسان"-: "وهو ما نضحته بيدك مُعْتَمِدًا" وفي "النهاية" (5/ 70): "وقيل: هو -بالمعجمة- ما فُعل تَعَمُّدًا، وبالمهملة: من غير تعمد وهو قريب مما في اللسان (نضخ) -بالمعجمة- عن الأصمعي. (¬2) النضخ كذا هنا بالخاء المعجمة، وهذا الأثر في النهاية (5/ 70) -وعنه: اللسان-: بالحاء المهملة في الكلمتين.

ولُبَابَة بنت الحارث بن حزن أم الفضل الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي - عليه السلام - وهي زوجة العباس بن عبد المطلب. وأخرجه أبو داود (¬1): نا مسدد والربيع بن نافع أبو توبة، قالا: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن قابوس، عن لُبَابَة بنت الحارث قالت: "كان الحسن بن علي في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبال عليه، فقلت: الْبس ثوبا، وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من وجوه، وفي أحدها: "جاءت أم الفضل -يعني لُبَابَة- إلى النبي - عليه السلام -. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو الأحوص ... فذكره مثله بإسناده. ش: هذا طريق اخر، وهو أيضًا صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة صاحب "المصنف" و"المسند"، عن أبي الأحوص سلام ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن قابوس بن أبي المخارق، عن لُبَابَة بنت الحارث، قالت: "بال الحسين بن علي في حجر النبي - عليه السلام - فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبَسْ ثوبا غيره، فقال: إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى". وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4) والكجي في "سننه". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابنُ وَهْب، قال: أخبرني مالكٌ والليث وعمرو ويونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس ابنة محصن: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 102 رقم 375). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 414 رقم 3957). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 522). (¬4) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 143 رقم 282) من طريق أبي الأحوص به.

"أنها أتت بابن لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - عليه السلام - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، وثم يغسله". ش: هؤلاء كلهم رجال الصحيح، ويونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب عبد الله، وعمرو هو ابن الحارث المصري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الفقيه الأعمى المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2) عن محمَّد بن عبيد الله بن المهاجر، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أم قيس بنت محصن: "أنها أتت رسول الله - عليه السلام - بابن لها لم يأكل الطعام، فوضعته في حجره فبال، قال: فلم يزد على أن نضح بالماء". وفي رواية لمسلم (¬3): "فدعا بماء فرشه". وأبو داود (¬4)، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. والترمذي (¬5): عن قتيبة وابن منيع، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن، قالت: "دخلت بابن لي على النبي - عليه السلام - لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء فرشه عليه". والنسائي (¬6): عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 90 رقم 221). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 238 رقم 287). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "سنن أبو داود" (1/ 102 رقم 274). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 104 رقم 71). (¬6) "المجتبى" (1/ 157 رقم 302).

وابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، كلاهما عن سفيان ابن عيينة، عن الزهري .. إلى آخره، نحو رواية الترمذي. وأخرجه الطبراني (¬2): بأتم منه، نا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر وابن جريج وابن عيينة، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة: "أن أم قيس بنت محصن، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله - عليه السلام - فأخبرتني أنها أتت رسول الله - عليه السلام - بابن لها لما يبلغ أن يأكل الطعام، وقد أغلَقَت عليه من العُذرة رفعتها بيدها فقال رسول الله - عليه السلام -: عَلامَ تذعرن أولادكن بهذه العلائق، عليكم بهذا العود الهذي يعني القُسط، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنُب. قال عبيد الله: فأخبرتني أم قيس أن ابنها بال في حجر النبي - عليه السلام -، فدعا رسول الله - عليه السلام - بماء، فصبه على بوله ولم يغسله". قوله: "أم قيس" قال السهيلي: اسمها آمنة بنت وهب بن مِحْصن، وقال أبو عمر: اسمها جُذامة، وهي أخت عكاشة بن محصن. قوله: "في حجره" بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان. قوله: "فبال على ثوبه" الظاهر أن الضمير في "ثوبه" يرجع إلى النبي - عليه السلام -، وقد قيل: إنه يرجع إلى الابن، أي بال الابن على ثوب نفسه، وهو في حجره - عليه السلام -، فنضح عليه الماء خوفا أن يكون طار على ثوبه منه شيء. قلت: وهذا تأييد لقول الحنفية، فافهم. قوله: "أعلقت عليه" رفعتها بيدها. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 524). (¬2) "المعجم الكبير" (25/ 177 رقم 435).

"والعذرة" بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة: وجع الحلق من الدم، وذلك الموضع أيضًا سمي عذرة، وهو قريب من اللَّهاة. قوله: "تذعرن" من ذَعَرْتُه أَذْعَره ذَعْرا: أفزعته، والاسم الذُّعر بالضم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري ... فذكر مثله بإسناده. ش: هذا طريق آخر عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد ابن مسلم الزهري .... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس بنت محصن قالت: "دخلتُ على النبي - عليه السلام - بابن لي لم يطعم فبال عليه، فدعا بماء، فرشه عليه". وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا عثمان بن عمر، أنا مالك بن أنس، وحدثناه عن يونس أيضًا، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن: "أنها أتت النبي - عليه السلام - بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، فأجلسته في حجره، فبال عليه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله". ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: نا عبد الله بن رجاء، قال: نا زائدة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أتى النبي - عليه السلام - بصبي يحنكه، ويدعو له، فبال عليه، فدعى بماء فنضحه، ولم يغسله". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البخاري (¬3): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "أتى النبي - عليه السلام - بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد (6/ 355 رقم 27041). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 206 رقم 741). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 89 رقم 220).

ومسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، قالا: نا عبد الله بن نُمَيْر، قال: نا هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يؤتى بالصبيان فيُبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتى بصبي فبال عليه، فدعاء بماء فأتبعه بوله ولم يغسله" وفي رواية: "فصبَّه عليه". والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحو رواية البخاري. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمَّد، قالا: ثنا وكيع، نا هشام بن عروة .. إلى آخره نحو رواية مسلم. قوله: "بصبي" ذكر الدارقطني (¬4): من حديث الحجاج بن أرطاة أن هذا الصبي هو عبد الله بن الزبير، وأنها قالت: "فأخذته أخذا عنيفا، فقال - عليه السلام -: إنه لم يأكل الطعام فلا يضر بوله" وفي لفظ: "فإنه لم يطعم الطعام فلا يقذر بوله". وقد قيل: إنه الحسن. وقيل: إنه الحسين. قلت: كل ذلك يحتمل، لروايات جاءت في ذلك. الصبيُّ اسم لمن يولد إلى أن يبلغ، وذكر ابن سيدة في "المخصص"، عن ثابت: يكون صبيا ما دام رضيعا، وقال كراع في "المنتخب": أول ما يولد الولد يقال له: وليد، وطفل، وصبي، وعن الأصمعي: أول ما يولدُ: صبيُّ، ثم طفل. وقال ابن دريد: جمعه صبيان، وصبوان وهذه أضعفها بناء مُكبَّره. وقال ابن السكيت: صبية، وصبوة. وقال سيبويه: ومما حقر على غير بناء مُكبره قولهم في صِبْيَة: أُصَيبية. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 237 رقم 286). (¬2) "المجتبى" (1/ 157 رقم 303). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 523). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 129 رقم 1).

وفي "المحكم": صبية، وصُبية، وصبوان، وصُبْوان، وأما قول بعضهم: صُبْيان بضم الصاد، والياء (¬1)، ففيه من النظر (¬2) وفي "الجامع": صبي بين الصباء ممدودا، وفي "الصحاح" إذا مددت فتَحَت، وإذا كسرت قصرت، ولم يقولوا: أصبية استغناء بصِبْيَة، وجمع الصَّبيَّة صَبَايَا. قوله: "يحنكه" من حَنَكَ الصَّبي، وحنَّكه بالتخفيف، والتشديد، وهو أن يمضغ التمر ونحوه، وذلك به حنكه. وهذا كما رأيت أخرج الطحاوي في هذا الباب، عن علي، ولبابة بنت الحارث، وأم قيس، وعائشة، وابن أبي ليلى، وقال الترمذي: وفي الباب، عن علي، وعائشة، وزينب، وأبي السمح، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبي ليلى. قلت: وفي الباب، عن أنس، وأبي أمامة، وأم سلمة، وأمر كرز - رضي الله عنهم -. فحديث زينب بنت جحش عند الطبراني في "الكبير" (¬3): نا علي بن عبد العزيز، نا أبو نعيم، نا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن ابن القاسم مولى زينب، عن زينب بنت جحش: "أن النبي - عليه السلام - كان نائما عندها، وحسين يحبو في البيت، فغفلت عنه، فحبا حتل بلغ النبي - عليه السلام - فصعد على بطنه ثم وضع ذكره في سرته، قالت: واستيقظ النبي - عليه السلام -، فقمت إليه فحططته عن بطنه، فقال النبي - عليه السلام -: دعي ابني، فلما قضى بوله أخذ كوزا من ماء فصبه عليه، ثم قال: إنه يُصَبُّ من الغلام ويُغْسل من الجارية. قالت: ثم توضأ، ثم قام يصلي واحتضنه، فكان إذا ركع وسجد وضعه، وإذا قام حمله، فلما جلس جعل يدعو، ويرفع يديه، ويقول، فلما ¬

_ (¬1) قوله: والياء، ليس يعني: وضم الياء، كما قد يُتَوَهَّم، فهذا مُتَعذَّر، وإنما مراده أنه بالياء، وليس بالواو. (¬2) وفي "اللسان" (مادة: صبا) أنه ضم الصاد بعد أن قُلبت الواو ياءً في لغة من كسر فقال: صِبْيان، فلما قلبت الواو ياءً للكسرة، ضُمت الصاد بعد ذلك، وأُقرت الياء بحالها التي هي عليها في لغة من كسر. (¬3) "المعجم الكبير" (24/ 54 رقم 141).

قضى الصلاة قلت: يا رسول الله، لقد رأيتك تصنع اليوم شيئًا من رأيتك تصنعه! قال: إن جبريل - عليه السلام - أتاني، وأخبرني أن ابني يقتل، قلت: فأرني إذا فأتاني تربة حمراء". قلت: وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وحديث أبي السمح عند أبي داود (¬1): نا مجاهد بن موسى وعباس بن عبد العظيم العنبري، قالا: نا عبد الرحمن بن مهدي، قال: نا يحيى بن الوليد، قال: حدثني مُحِلّ بن خليفة، قال: حدثني أبو السَمْح، قال: "كنت أخدم النبي - عليه السلام - فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولِّني قفاك، فأوليه قفاي فأستره به، فأتى بحسن أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام". وأخرجه النسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3). وأبو السمح لا يعرف له اسم، ولا يعرف له غير هذا الحديث، كذا قال أبو زرعة الرازي، وقال غيره، اسمه إيادُ، والله أعلم. وحديث عبد الله بن عمرو وعند الطبراني في "الأوسط" (¬4) بإسناد حسن عنه: "أن رسول الله - عليه السلام - أتي بصبي فبال عليه فنضحه، وأتى بجارية فبالت عليه فغسله". وحديث ابن عباس عند الدارقطني (¬5): نا محمَّد بن عمرو بن البختري، نا أحمد بن الخليل، نا الواقدي، نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "أصاب النبي - عليه السلام - أو جلده بول صبي وهو صغير، فصب عليه من الماء بقدر البول". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 102 رقم 376). (¬2) "المجتبى" (1/ 158 رقم 304). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 175 رقم 526). (¬4) "المعجم الأوسط" (1/ 251 رقم 824). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 130 رقم 5).

وحديث أنس بن مالك عند الطبراني في "الكبير" (¬1): بإسناده عنه، قال: "بينا رسول الله - عليه السلام - راقد في بعض بيوته على قفاه، إذ جاء الحسن بدرج حتى قعد على صدر النبي - عليه السلام - ثم بال على صدره، فجئت أميُطه عنه، فانتبه رسول الله - عليه السلام - فقال لي: ويحك يا أنس، دع ابني وثمرة فؤادي، فإنه من آذى هذا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ثم دعا رسول الله - عليه السلام - بماء فصبه على البول صبَّا، فقال: يُصَبُّ على بول الغلام، ويغسل بول الجارية". قلت: وفي إسناده نافع أبو هرمز، وقد أجمعوا على ضعفه. وحديث أبي أمامة عند الطبراني أيضًا في "الكبير" (¬2) عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بالحسين فجعل يقبله، فبال، فذهبوا ليتناولوه، فقال: ذروه، فتركه حتى فرغ من بوله" وفي إسناده [عفير] (¬3) بن معان، وقد أجمعوا على ضعفه. وحديث أم سلمة عند الطبراني أيضًا في "الأوسط" (¬4)، عنها: "أن الحسن أو الحسين بال على بطن النبي - عليه السلام - فقال النبي - عليه السلام - لا تُزرموا ابني أو لا تستعجلوه، فتركه حتى قضى بوله، فدعى بماء فصبه عليه" وإسناده حسن. وحديث أم كرز عند ابن ماجه (¬5): نا محمَّد بن بشار، نا أبو بكر الحنفي، نا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أم كرز، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬6). ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 42 رقم 2627). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 167 رقم 7699). (¬3) في "الأصل، ك": عمرو، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير" ومصادر ترجمته، وانظر "تهذيب الكمال" (20/ 176). (¬4) "المعجم الأوسط" (6/ 204 رقم 6197). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 175 رقم 527). (¬6) "المعجم الكبير" (25/ 168 رقم 408).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى التفريق بين حكم بول الغلام، وبول الجارية قبل أن يأكلا الطعام، فقالوا: بول الغلام طاهر، وبول الجارية نجس. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن، والأوزاعي، وابن وهب، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور؛ فإنهم فرقوا بين حكم بول الصغير، وبول الصغيرة. وأعلم أنه أجمع المسلمون أن بول كل آدمي يأكل الطعام نجس، واختلفوا في بول الصبي والصبيَّة إذا كانا رضيعين لا يأكلان الطعام. فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: بول الصبي والصبية كبول الرجل. وبه قال الثوري، والحسن بن حيّ. وقال الأوزاعي: لا بأس ببول الصبي مادام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام. وهو قول ابن وهب. وقال الشافعي: بول الصبي ليس بنجس، ولا يبين لي فرق ما بين الصبي والصبية، ولو غُسل كان أحبَّ إلي. وقال الطيبي: بول الصبية يغسل غسلا، وبول الصبي يتبع بماء، وهو قول الحسن البصري. وقال النووي: الخلاف في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلَّا داود الظاهري، وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال ثم القاضي عياض، عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر وينضح فحكاية باطلة قطعا. قلت: هذا إنكار من غير برهان، ولم يُنْقَل هذا عن الشافعي وحده، بل نُقِل عن مالك أيضًا، أن بول الصغير الذي لا يطعم طاهر، وكذا نُقِلَ عن الأوزاعي وداود الظاهري.

ثم قال النووي (¬1): وكيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح المشهور المختار: أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية بل لا بد من غسله كغيره من النجاسات. والثاني: أنه يكفي النضح فيهما. والثالث: لا يكفي النضح فيهما، وهما شاذان ضعيفان. وممن قال بالفرق: علي بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن وهب من أصحاب مالك، ورُوي عن أبي حنيفة. وأما حقيقة النضح هنا فقد اختلف أصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمَّد الجويني والقاضي حسين والبغوي إلى أن معناه: أن الشيء الذي أصابه البول يغمر بالماء كسائر النجاسات، بحيث لو عصر لا يعصر، وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح: أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء [وتَردُّده] (¬2) وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط فيها أن تكون بحيث يجري بعض الماء ويتقاطر في المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار. ثم إن النضح إنما يجزئ ما دام الصبي يُقْتَصَر به على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف. وقال ابن حزم في "المحلى": وممن فرق بين بول الغلام وبول الجارية أم سلمة: -أم المؤمنين- وعلي بن أبي طالب ولا مخالف لهما من الصحابة، وبه يقول قتادة، والزهري وقال: مضت السُّنة بذلك، وعطاء بن أبي رباح والحسن والأوزاعي ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": وترده، والمثبت من "شرح مسلم" للنووي (3/ 257). (¬2) سبق تخريجه.

والشافعي وأحمد إلَّا أنه قد رُوي عن الحسن: التسوية بين بول الغلام والجارية في الرش عليهما جميعا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فسووا بين بولهما جميعا وجعلوهما نجسين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، والحسن بن حي، والثوري، وأبا حنيفة وأصحابه، ومالكا وأكثر أصحابه، فإنهم لم يفرقوا بين بولي الصغير والصغيرة في نجاسته، وجعلوهما سواء في وجوب غسله منهما. وقال القاضي عياض: في مذهبنا ثلاثة أقوال: - قول بنجاسة بولهما وغسلهما، وهو المشهور عن مالك وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة والكوفيين. - وقول بطهارة بول الصبي وحدة ونضحه، ونجاسة بول الجارية، وهو قول الشافعي وأحمد وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحابنا. - والقول الثالث: رواه الوليد بن مسلم عن مالك، وهو قول الحسن البصري، وقد ذكرنا قوله عن قريب. ص: وقالوا: قد يحتمل قول النبي - عليه السلام -: "بول الغلام ينضح" إنما أراد بالنضح صب الماء عليه؛ فقد تُسمي العرب ذلك نضحا، ومنه قول النبي - عليه السلام -: "إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبه" فلم يعن بذلك النضح الرش، ولكنه أراد: يلزق بجانبها. قالوا: وإنما فوق بينهما لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لضيق مخرجه، وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه، فأمر في بول الغلام بالنضح، ويريد: صب الماء في موضع واحد، وأراد بغسل بول الجارية أن يتتبع بالماء؛ لأنه يقع في مواضع متفرقة، وهذا محتمل لما ذكرناه.

ش: أي قال هؤلاء الآخرون: وأشار به إلى الجواب عن ما قاله أهل المقالة الأولى من تعين النضح لبول الغلام؛ محتجين بحديث علي - رضي الله عنه - وغيره. تحريره: أن يقال: يحتمل أن يراد من النضح صب الماء عليه؛ لأن العرب تُسمي ذلك نضحا، كما في قوله - عليه السلام - "إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها" فإنه - عليه السلام - لم يرد بذلك النضح الرش، ولكنه أراد أنه يلزق بجانبها ويضربه. وهذا الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا يزيد، أنا جرير، أنا الزبير بن خرِّيت، عن أبي لبيد قال: "خرج رجل من ضاحية مهاجرا -يقال له: بَيْرَح بن أسد- فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيام، فرآه عمر - رضي الله عنه - فعلم أنه غريب، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من أهل عمان. قال: من أهل عمان؟ قال: نعم. قال: فأخذ بيده فأدخله على أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إني لأعلم أرضا يقال لها: عمان، ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسول (¬2) ما رموه بسهم ولا حجر". قلت: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده" (¬3): وفيه لمازة بن زبار وهو ثقة. ومن الدليل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك: قول العرب: [غسلتني] (¬4) السماء، وإنما يقولون ذلك عند إنصباب المطر عليهم. وكذلك يقال: غسلني التراب إذا انصب عليه. وقال أبو عمر: الظاهر من معنى النضح صب الماء دون الرش؛ لأن الرش لا يزيد النجاسة إلَّا نثرا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 44 رقم 358). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": "بها حيّ من العرب، لو أتاهم رسولي .. ". (¬3) "مسند أبي يعلى" (1/ 101 رقم 106). (¬4) في "الأصل، ك" غسلني.

وقد قال بعض من ينصر قول أهل المقالة الثانية: إن النضح قد يذكر ويراد به الغسل، وكذلك الرش يذكر ويراد به الغسل. أما الأول: فيدل عليه ما رواه أبو داود (¬1) وغيره: عن المقداد بن الأسود: "أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أمره أن يسأل رسول الله - عليه السلام - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي، ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنته وأنا استحي أن أسأله. قال المقداد: فسألت رسول - عليه السلام - عن ذلك فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة". ثم الذي يدل على أنه أريد بالنضح ها هنا الغسل ما رواه مسلم (¬2): وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلًا مذاءا، فاستحييت أن أسأل رسول الله - عليه السلام - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن أسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ". والقضية واحدة، والراوي عن رسول الله - عليه السلام - واحد. ومما يدل على أن النضح يذكر ويراد به الغسل: ما رواه الترمذي (¬3): وغيره عن سهل بن حنيف قال: "كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الاغتسال، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما يجزئك ذلك الوضوء. قلت: يا رسول الله، فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال: يكفيك أن تأخذ كفّا من ماء فتنضح به من ثوبك حيث ترى أنه أصابه" وأراد بالنضح ها هنا الغسل، فافهم. وأما الثاني: وهو أن الرش يذكر ويراد به الغسل فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه لما حكى وضوء رسول الله - عليه السلام - أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، وأراد بالرش ها هنا: صب الماء قليلا قليلا، وهو الغسل بعينه. ¬

_ (¬1) "سنن أبو داود" (1/ 53 رقم 207). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 247 رقم 303). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 197 رقم 115).

ومما يدل على أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل: قوله - عليه السلام - في حديث أسماء - رضي الله عنها -: "تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" معناه تغسله، هذا في رواية الشيخين (¬1)، وفي رواية الترمذي (¬2): "حُتيَّه، ثم اقرصيه، ثم رشِّيه وصلي فيه" أراد اغسليه، قاله البغوي. فلما ثبت أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل، وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل، بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك؛ لأنه متى صب الماء عليه قليلا قليلا حتى تقاطر وسال، حصل الغسل؛ لأن الغسل هو الإساله، فافهم. فإن قيل: قد صرح في رواية مسلم وغيره: "فأتبعه بوله، ولم يغسله"، فكيف تحمل النضح والرش على الغسل؟ قلت: معناه: ولم يغسله بالعرك كما يغسل سائر الثياب إذا أصابتها النجاسة، ونحن نقول به. قوله: "قالوا: وإنما فرق بينهما .. الخ" أي قال أهل المقالة الأولى: إنما فرق في الحديث بين الصغير والصغيرة؛ "لأن بول الغلام ... إلى آخره"، إنما ذكر هذا تأكيدا لما قاله، إنما أراد بالنضح صب الماء عليه؛ لأنهم قالوا في هذه التفرقة: إن المراد بالنضح في بول الغلام صب الماء في موضع واحد، ومن الغسل في بول الجارية أن يتتبع بالماء لأنه يقع في مواضع متفرقة. وهذا بعينه يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بالنضح صب الماء، فلذلك قال: "وهذا محتمل لما ذكرنا"، أي هذا الذي ذكروه من الصب في بول الغلام، وتتابع الماء في بول الجارية مُحْتَمَلُ لما ذكرناه، وهو بفتح الميم، فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 91 رقم 225)، ومسلم (1/ 240 رقم 291). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 254 - 255 رقم 138).

ثم وجه التفرقة بينهما: هو ما ذكروه من أن بول الغلام يقع في موضع واحد لضيق مخرجه وهو الإحليل، وبول الجارية يقع في مواضع لسعة مخرجه، وهو ما بين "اسكتي" (¬1) الفرج، فأمر في بول الغلام بالنضح، أي الصب في موضع واحد، وبالغسل في بول الجارية لتفرقه. وقد يقال: إن بول الغلام مثل الماء، وبول الجارية ثخين أصفر يلتصق بالمحل، فقال: "ينضح بول الغلام" أي يسال عليه الماء من غير عرك؛ لسرعة زواله، كما أمر بالنضح على الثوب الذي أصابه المذي، وقال: "يغسل بول الجارية"، أي يصب الماء عليه ويعرك لبُطْء زواله، كما أمر به في غسل الثوب من دم الحيض بقوله - عليه السلام -: "حُتيَّه ثم اقرصيه بالماء". وقال القاضي عياض: وجه التفرقة بين الغلام والجارية: اتباع ما وقع في الحديث، فلا يعلى به ما ورد به، وهذا أحسن من التوجيه بغير هذا المعنى مما ذكروه. وقال أبو عمر بن عبد البر: حجة من قال بالتفرقة قوله - عليه السلام -: "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام" وهذا عند جميعهم ما لم يأكل الطعام. قال: والقياس أنه لا فرق بين بول الغلام والجارية، كما أنه لا فرق بين بول الرجل والمرأة، إلاَّ أن هذه الآثار -إن صحت ولم يعارضها مثلها- وجب القول بها إلَّا أن رواية من روى الصب على بول الصبي واتباعه الماء أصح وأولى. وأحسن شيء في هذا الباب ما قالته أم سلمة قالت: "يغسل بول الغلام، يصب عليه الماء صبّا، وبول الجارية يغسل طَعِمَت أو لم تطعم" ذكره البغوي وهو حديث مفسر للأحاديث كلها، مستعمل لما حاشا حديث المُحِل بن خليفة الذي ذكر فيه الرش، وهو حديث لا تقوم به حجة، والمُحِلُّ: ضعيف، انتهى. ¬

_ (¬1) قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ 8): هما بكسر الهمزة وفتح الكاف، هكذا ذكره الجوهري في صحاحه، وأهل اللغة مطلقًا، قال الأزهري: هما حرفًا فرجها، قال وتفترق الإسكتان والشفران بأن الإسكتين ناحيتا الفرج، والشفرين طرفا الناحيتين.

قلت: في كلامه نظر من وجوه: الأول: أن قوله: "إن الذي ذكر فيه الرش ضعيف" غير جيد؛ لأن ابن خزيمة خرجه في "صحيحه" (¬1) من حديث المحل، وابن حزم (¬2) والحاكم (¬3)، ورواه ابن ماجه أيضًا (¬4) بسند صحيح من غير حديث المحل وفيه: "فدعا بماء فرش عليه"، وكذا في رواية أحمد على ما ذكرناها عن قريب. الثاني: تضعيفه المحل بن خليفة غير جيد؛ لأنه ممن احتج به البخاري في "صحيحه" في غير موضع، وقال فيه يحيى (وأبو زرعة) (¬5) والنسائي والدارقطني، ثقة. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات. الثالث: ذكره قول أم سلمة موقوفا عليها غير جيد؛ لأن الطبراني في "الأوسط" (¬6): رواه من حديث عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أمه، عنها مرفوعا: "إذا كان الغلام لم يطعم الطعام صب على بوله، وإذا كانت الجارية غسل". ورواه أيضًا (¬7): من حديث هشيم، عن يونس، عن الحسن، عن أمه، عنها: "أن الحسن -أو الحسين- بال على النبي - عليه السلام - فذهبوا ليأخذوه، فقال: لا تزرموا ابني أو (لا تعجلوه، فتركه) (¬8) حتى قضى بوله، فدعا بماء ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 143 رقم 283). (¬2) "المحلى" (1/ 101). (¬3) "المستدرك" (1/ 271 رقم 589). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 524) من حديث أم قيس بنت محصن وهو عند البخاري أيضًا في "صحيحه" (5/ 2155 رقم 5368) من طريقها. (¬5) لعل الصواب: أبو حاتم، فقال في "الجرح" (8/ 413): صدوق ثقة، وانظر "تهذيب التهذيب" (10/ 54) وقال الحافظ: ولم يتابع ابن عبد البر على ذلك، أي تضعيفه. (¬6) "المعجم الأوسط" (3/ 143 رقم 2742). (¬7) "المعجم الأوسط" (6/ 204 رقم 6197). (¬8) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الأوسط": "لا تستعجلوه، فتركوه".

ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (¬1) من حديث المبارك بن فضالة عن الحسن بلفظ: "يصب عليه الماء صبّا ما لم يطعم، وبول الجارية يغسل غسلا طعمت أو لم تطعم". قلت: وبهذا يُرَدُّ ما نقله القاضي عياض أيضًا من قوله: قال بعض علمائنا: ليس قوله في الحديث: "لم يأكل الطعام" لا علة للحكم، وإنما هو وصف حال وحكاية قصة، كما قال في الحديث: "صغير"، وفي الحديث الآخر: "رضيع"، واللبن طعام وحكمه حكمه في كل حال، فأي فرق بينه وبين الطعام؟ والنبي - عليه السلام - لم يعلل بهذا ولا أشار إليه فنكل الحكم فيه إليه. ويقال: احتمل قوله: "لم يأكل الطعام" أي لم يرضع بعد، وأن المسلمين كانوا يوجهون أبناءهم للنبي - عليه السلام - ليدعو لهم ويتفل في أفواههم؛ ليكون أول ما يدخل في أفواههم ريق النبي - عليه السلام - فيكون قوله - عليه السلام -، على هذا: "أجلسه في حجره"، مجازا لوضعه فيه ويحتمل أن يكون الصبي بلغ حد الجلوس وأحضر ليدعو له النبي - عليه السلام - ولكنه بعد لم يفصل عن الرضاع، ولا أكل الطعام انتهى. فإن قيل: قد قال الكرخي عكس ما نقل الطحاوي عنهم؛ من أن بول الغلام يكون في موضع واحد وبول الجارية متفرق، وهو أن بول الصبي يقع في مواضع وبول الجارية يقع في موضع واحد، فأمر بالرش في بول الصبي والغسل في بول الجارية. قلت: الذي نقله الطحاوي أقرب إلى الحكمة؛ لأن فم الرحم منكوس، فيخرج منه بالبول متفرقا لسعة المحل، بخلاف إحليل الذكر، فإن مسلك البول فيه مستقيم، فإذا خرج يخرج مجتمعا. فإن قيل: قول من قال: إن بول الغلام مثل الماء وبول الجارية ثخين، ويؤيد قول الكرخي؛ لأنه وصف بول الجارية بالثخانة، ولا يكون ذلك إلَّا في موضع واحد، ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (12/ 355 رقم 6923).

ووصف بول الغلام بأنه كالماء، فإنه يتفرق في مواضع، ولأن الذكر يتحرك، فبالضرورة يتفرق ما يخرج منه، بخلاف الفرج. ويؤيد هذا أيضًا ما رواه ابن ماجه (¬1): ثنا أحمد بن موسى بن معقل، نا أبو اليمان المصري، قال: سألت الشافعي، عن حديث النبي - عليه السلام -: "يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية" والماءان جميعا واحد، قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم. ثم قال لي: فهمت؟ قلت: لا. قال: إن الله لما خلق آدم خلق حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال: قال لي: فهمت؟ قلت: نعم. قال: نفعك الله به. قلت: لا يضرنا ذلك؛ لأن النظر فيما نقله الطحاوي إلى مخرجي بولهما، ولا شك أن مخرج بول الغلام ضيق، فبالضرورة الذي يخرج منه ينزل في موضع واحد، وإن كان في نفسه مائعا كالماء، ومخرج بول الجارية واسع، فبالضرورة الذي يخرج منه يتفرق وينتشر وإن كان في نفسه ثخينا. ص: وقد روي عن بعض المتقدمين ما يدل على ذلك؛ فمن ذلك ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: "الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن حميد، عن الحسن أنه قال: "بول الجارية يغسل غسلا، وبول الغلام يتتبع بالماء". أفلا ترى أن سعيدا قد سوى بين حكم الأبوال كلها من الصبيان وغيرهم، فجعل ما كان منه رشا يطهر بالرش، وما كان منه صبّا يطهر بالصب، ليس لأن بعضها عنده طاهر وبعضها غير طاهر، ولكنها كلها عنده نجسه، وفرق بين التطهير من نجاستها عنده بضيق مخرجها وسعته. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 174 رقم 525) وفيه: "قال أبو الحسن بن سلمة، حدثنا أحمد بن موسى بن معقل .. ".

ش: أي قد روي عن بعض المتقدمين من التابعين ما يدل على أن الأبوال كلها سواء في النجاسة، وأنه لا فرق بين بول الذكر والأنثى، فمن ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب. أخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن قتادة عنه. ومنه ما رُوي عن الحسن البصري، أخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن ابن خزيمة، عن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل. وذلك أن سعيد بن المسيب قد سوى بين حكم الأبوال كلها، سواء كانت من الصغار أو من الكبار، من الذكور والإناث؛ فَحَكَم بأن الذي يرش منه يطهر بالرش، والذي يصب منه يطهر بالصب، وهو معنى قوله: "الرش بالرش" أي الرش من البول يطهر بالرش من الماء، والصب منه يطهر بالصب من الماء، وقوله: "من الأبوال كلها" بيان لهذا. ثم إنه لم يقل هكذا لكون بعض الأبوال عنده طاهرا وبعضها نجسا، بل الكل عنده نجسة، ولكن الفرق بين التطهير من نجاستها عنده لأجل ضيق مخرج الأبوال وسعته، فإن مخرج بول الصبي ضيق كما قلنا فيرش البول، ومخرج بول الجارية واسع فيصب البول صبّا، فيقابل الرش بالرش، والصب بالصب. ومن ذلك قال الحسن البصري أيضًا: بول الجارية يغسل غسلا؛ لأنه ينصب فيحتاج إلى صب الماء عليه، وبول الغلام يتتبع بالماء؛ لأنه يرتش، ولا فرق عنده أيضًا في الأبوال، فقال أبو داود: قال هارون بن تميم الراسبي، عن الحسن قال: "الأبوال كلها سواء". ص: ثم أردنا بعد ذلك أن ننظر في الآثار المأثورة عن رسول الله - عليه السلام -: هل فيها ما يدل على شيء مما ذكرنا؟ فنظرنا في ذلك، فإذا محمَّد بن عمرو بن يونس قد حدثنا قال: أنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان

رسول الله - عليه السلام - يؤتى بالصييان فيدعو لهم، فأتي بصبي مرة فبال عليه، فقال: صُبُّوا عليه ماء صبّا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن خازم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا أسد، قال: نا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - أتُي بصبي فبال عليه، فأتبعه الماء ولم يغسله". حدثنا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكا حدثه عن هشام ... فذكر بإسناده مثله غير أنه لم يقل: "ولم يغسله". واتباع الماء حكمه حكم الغسل؛ ألا ترى أن رجلًا لو أصاب ثوبه عذرة فاتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه قد طهر. وقد روى هذا الحديث زائدة، عن هشام بن عروة، قال فيه: "فدعا بماء فنضحه عليه". وقال مالك وأبو معاوية وعَبْدَة، عن هشام بن عروة: "فدعا بماء فصبه عليه" فدل ذلك أن النضح عندهم هو الصب. ش: "هل فيها" أي في الآثار المذكورة "ما يدل على شيء مما ذكرنا"، من أن النضح في هذه الآثار بمعنى الصب، فوجدنا ذلك في الحديث الذي رواه عروة عن عائشة، حيث صرح فيه بقوله: "صبوا عليه ماء صبا". وقد مضى في روايتها الأخرى: "فدعا بماء فنضحه عليه" فعلم أن الراد من النضح هو الصب؛ لأن هذا الحديث قد روي بألفاظ مختلفة كما قد ذكرت، ولكن كلها ترجع إلى معنى واحد وهو الصب؛ لأن بعضها يفسر بعضا، ولأن ما قلنا أقرب إلى المعقول وللمنقول. وكذلك معنى اتباع الماء في روايتها الأخرى هو معنى الغسل، والدليل عليه: أن رجلًا إذا أصاب ثوبه شيء من النجاسة ثم أتبعه الماء حتى أذهبه، فإن ثوبه قد تطهر بلا خلاف. فعُلم أن معنى هذا أيضًا يرجع إلى الغسل والصب.

قوله: "وقد روى هذا الحديث" أي حديث عائشة الذي رواه عروة عنها: زائدة ابن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وقال فيه "فدعا بماء فنضحه عليه". وقد مر هذا فيما مضى في هذا الباب، رواه الطحاوي عن ابن خزيمة، عن عبد الله ابن رجاء، عن زائدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقال مالك في روايته: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "فصبه عليه". وكذا روى أبو معاوية محمَّد بن خازم الضرير في روايته عن هشام، عن أبيه، عن عنها. وكذا روى عَبْدَة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عنها. فهذه ألفاظ مختلفة والمعنى واحد. ومن هذا قال أبو عمر في "التمهيد": هذه الآثار المرفوعة في هذا الباب غير متدافعة ولا متضادة. يشير به إلى أن حاصل الجميع يرجع إلي معنى واحد وهو الصب. ويؤيد ذلك أيضًا ما روي عن بعض الصحابة ومن بعدهم، فقد روي عن أم سلمة قالت: "بول الغلام يصب عليه الماء صبّا، وبول الجارية يغسل، طعمت أو لم تطعم" (¬1) ذكره البغوي والقرطبي في "مختصر التمهيد". وذكره الطبراني في "الأوسط" مرفوعا (1)، وقد ذكرناه عن قريب. وروى أبو داود في "سننه" (¬2): ثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، عن يونس، عن الحسن، عن أمه: "أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 103 رقم 379).

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن معن، عن منصور، عن إبراهيم قال: "إن كان طَعِمَ غُسِل، وإن لم يكن طَعِمَ صُبَّ عليه الماء". ثنا وكيع، عن واقد، عن عطاء قال: "قال له رجل: يحمل أحدنا الصبي فيصيبه من أذاه، قال: إن كان طَعِمَ غُسل، وإن لم يكن طَعِمَ صُبَّ عليه الماء". ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: "يُصَّبُّ الماء على بول الصبي". ثنا محمَّد بن بكر، عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: الصبي ما لم يأكل الطعام تغسل ثوبك من بوله وسَلْحِه (¬2) أيضًا؟ قال: اَرشش عليه الماء، أو أصبب عليه قال: قلت: فالصبي يلعق قبل أن يأكل الطعام من السمن والعسل وذاك طعام؟ قال: اَرْشُش عليه أو أَصبب عليه". ثم إنه أخرج حديث عائشة - رضي الله عنها - هذا من أربع طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي المعروف بالسُّوسي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم -بالمعجمتين- الضرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "أتي رسول الله - عليه السلام - بصبي يرضع، فبال في حجره، فدعا بماء فصبه عليه". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن خازم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. الثالث: عن ربيع، عن أسد، عن عبدة بن سليمان الكلابي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه العدني في "مسنده" (¬3): ثنا محمَّد، ثنا ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يؤتى بالصبيان يدعو لهم، فأتي بصبي فبال عليه، فأتبع النبي - عليه السلام - الماء بوله". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 114 رقم 1296 - 1299). (¬2) السَّلْحُ: الغائط. انظر: "اللسان" و"المصباح" سلح. (¬3) وأخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 237 رقم 286) من طريق ابن نمير عن هشام به.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو، ثنا يحيى بن سعيد، نا هشام بن عروة، حدثني أبي، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - أتي بصبي فبال في حجره، فأتبع النبي - عليه السلام - الماء بوله". وأخرجه أحمد (¬1): أيضًا عن يحيى عن هشام إلى آخره. قوله: "ولم يغسله" أراد أنه لم يغسله بالعرك والعصر، كما في سائر النجاسات، والغرض هو الإزالة، فقد حصلت به. الرابع: عن يونس بن عبد الأعل، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه في "موطئه" (¬2)، وكذا أخرجه النسائي (¬3)، وليس فيه "ولم يغسله". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا ابن شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ليلى قال: "كنت عند رسول الله - عليه السلام - فجيء بالحسن - رضي الله عنه - فبال عليه، فأراد القوم أن يُعْجِلُوه، فقال: ابني ابني. فلما فرغ من بوله صب عليه الماء". حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد قال: أنا وكيع، عن ابن أي ليلى ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن عبد الله بن عيسى، عن جده عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: "كنت جالسا عند رسول الله - عليه السلام - وعلى بطنه أو على صدره حسن أو حسين، فبال عليه حتى رأيت بوله أساريع، فقمنا إليهن، فقال: دعوه. فدعا بماء فصبه عليه". ¬

_ (¬1) "مسندأحمد" (6/ 52 رقم 24301). (¬2) "الموطأ" (1/ 63 رقم 111). (¬3) "المجتبى" (1/ 157 رقم 303).

ش: حديث أبي ليلى هذا أيضًا قد دل على أن المراد من النضح الصب؛ لأنه صرح فيه بالصب كما صرح في غيره بالنضح، فمعناهما واحد لأن الحكم واحد، والقضية واحدة. وأخرجه من ثلاثة طرق: الأول: عن فهد بن سليمان. عن أحمد بن عبد الله بن يونس، شيخ البخاري ومسلم، وينسب إلي جده غالبا. عن محمد بن مسلم بن أبي ليلى الفقيه الكوفي قاضيها، فيه مقال، وروى له الأربعة. عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أخو محمَّد المذكور، وثقه ابن معين، وروى له الترمذي وأبو داود وابن ماجه. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، والد عيسى المذكور. عن أبي ليلى، واسمه يسار ويقال: بلال، ويقال: داود بن بلال بن بُلَيْل بن أحيحة الأنصاري من الأوس قتل بصفين مع علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده أبي ليلى قال: "كنا جلوسا عند النبي - عليه السلام - فجاء الحسين بن علي - رضي الله عنهما - يحبو حتى جلس على صدره فبال عليه، قال فابتدرناه لنأخذه، فقال: ابني ابني، ثم دعا بماء فصبه عليه". قوله: "ابني ابني" كرر للتأكيد في محل النصب؛ معناه: دعوا ابني، دعوا ابني، ولا تتعرضوا له. وإنما قال ذلك لغاية شفقته وحبه له، ولأن فيه قطع بوله وذلك مما يضره، كما قد نهى [عنه] (¬2) أم الفضل في حديث آخر بقوله: "لا تزرمي ابني ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 113 رقم 1290). (¬2) في "الأصل، ك": عن، والمثبت هو الذي يقتضيه السياق.

لا تُزْرِمي ابني" (¬1) أي لا تقطعي عليه البول، وكما قد نهى عن قطع بول الأعرابي لما بال في مسجده. الثاني: عن فهد، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن وكيع، عن محمد بن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ليلى. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا وكيع، ثنا ابن أبي ليلى ... إلى آخره نحو رواية ابن أبي شيبة [المذكورة] (¬3) آنفا. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. عن يحيى بن صالح الوحاظي روى له الجماعة. عن زهير بن معاوية بن حُدَيْج الكوفي، روى له الجماعة. عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، روى له الجماعة. عن جده عبد الرحمن بن أبي ليلى، روى له الجماعة. عن أبي ليلى. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه أحمد "مسنده" (¬4): ثنا حسن بن موسول، نا زهير، عن عبد الله بن عيسى ... إلى آخره نحوه، غير أن روايته: "دعوا ابني، لا تُفْزِعُوه حتى يقضي بوله، ثم أتبعه الماء، ثم قام فدخل بيت تمر الصدقة ودخل معه الغلام، فأخذ تمرة فجعلها في فيه، فاستخرجها النبي - عليه السلام - وقال: إن الصدقة لا تحل لنا". ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "مستدركه " (3/ 197 رقم 4829)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 114 رقم 1291). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 347 رقم 19079). (¬3) في "الأصل، ك": المذكور. (¬4) "مسند أحمد" (4/ 348 رقم 19082).

قوله "أساريع" أي طرائق، واحدها أُسروع ويسروع (¬1) قاله في "النهاية"، وقال الجوهري: الأسروع واحد أساريع القوس، وهي خطوط فيها وطرائق. قلت: المعنى رأيت بوله ذا طرائق وخطوط. وانتصابه على الحال؛ لأن "رأيت" بمعنى أبصرت فلا تقتضي إلَّا مفعولا واحدا، ولكنه بتأويل مخططا كما تقول رأيت زيدا أسدا، أي: شجاعا، وبعت البُرَّ قفيزا بدرهم، أي: مسعرا وبعته يدا بيدٍ، أي متناجزين. ومنه قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (¬2) و {نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} (¬3) ونظائره كثيرة. ص: حدثنا فهد قال: ثنا أبو غسان: قال: ثنا شريك، عن سماك، عن قابوس، عن أم الفضل قالت: "لما ولد الحسين - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله، أعطنيه -أو ادفعه إليَّ- فلأكفله، أو أرضعه بلبني، ففعل، فأتيته به، فوضعه على صدره، فبال عليه فأصاب إزاره، فقلت له: يا رسول الله، أعطني إزارك أغسله. قال: إنما يصب على بول الغلام ويغسل بول الجاريه. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذه أم الفضل في حديثها هذا: "إنما يصب بول الغلام" وفي حديثها الذي ذكرناه في الفصل الأول: "إنما يُنْضح من بول الغلام، فلما ذكرنا كذلك ثبت أن النضح الذي "أراد به" (¬4) في الحديث الأول، هو الصب المذكور ها هنا؟ حتى لا يتضاد الأثران. وهذا أبو ليلى - رضي الله عنه - فلم يختلف عنه أنه رأى النبي - عليه السلام - صب على البول الماء. ¬

_ (¬1) يَسروع: كذا ضبطها في الأصل، ك بفتح الياء، والذي في "النهاية" (2/ 361) بضمها بضبط القلم، وفتح الياء هو الأصل، إلا أنهم ضموها هنا اتباعًا لضمة الراء، وانظر "اللسان"، و"القاموس" (سرع). (¬2) سورة النساء، آية: [88]. (¬3) سورة الأعراف، آية: [73]، وسورة هود، آية: [64]. (¬4) كذا في "الأصل، ك"، و"شرح معاني الآثار" (1/ 94).

فثبت بهذه الآثار أن حكم بول الغلام هو الغسل؛ إلا أن ذلك الغسل يجزئ منه الصب، وأن حكم بول الجارية هو الغسل أيضًا، وفرق في اللفظ بينهما وإن كانا مستويين في المعنى التي ذكرنا: من ضيق المخرج وسعته، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأينا الغلام والجارية حكم أبوالهما سواء بعدما يأكلان الطعام، فالنظر في ذلك أن يكونا أيضا سواء قبل أن يأكلا الطعام، فإذا كان بول الجارية نجسا، فبول الغلام أيضا نجس وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا إلى تأكيد ما ادعى من أن النضح في هذا الباب بمعنى الصب والبرهان عليه: أن أم الفضل لبابة بنت الحارث قد روي عنها حديثان: أحدهما فيه النضح وهو الذي مر في أول هذا الباب، والثاني فيه الصب، فحمل النضح على الصب الذي في هذا الحديث؛ دفعا لتضاد الأثرين كما هو الأصل في باب التعارض، وعملا بالحديثين. وإسناد هذا حسن جيد. وأبو غسان اسمه مالك بن إسماعيل النهدي، شيخ البخاري. وشريك هو ابن عبد الله النخعي، روى له مسلم في المتابعات واحتج به الأربعة. وسماك -بكسر السين- هو ابن حرب، روى له الجماعة إلَّا البخاري، وقابوس ابن المخارق الكوفي، وثقه ابن حبان. وأم الفضل هي لبابة بنت الحارث، أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا وهيب، ثنا أيوب، عن صالح أبي الحليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل قالت: "أتيت النبي - عليه السلام - فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي -أو في حجرتي- عضوا من ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 339 رقم 26921).

أعضائك. قال: تلد فاطمة -إن شاء الله- غلاما فتكفلينه، فولدت فاطمة - رضي الله عنها - حسينا، فدفعه إليها، فأرضعتُهُ بلبن قثم، وأتيت به النبي - عليه السلام - يوما أزوره، فأخذه النبي - عليه السلام - فوضعه على صدره فبال، فأصاب إزاره [فزخخت] (¬1) بيدي بين كتفيه، فقال: أوجعت ابني أصلحك الله- أو قال: -رحمك الله- فقلت: أعطني إزارك أغسله. قال: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام". وأخرجه الطبراني (¬2): أيضا نحوه، وفي آخره: "دعي ابني، فإن ابني ليس بنجس، ثم دعا بماء فصبه عليه". قلت: ميلاد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - في السنة الثالثة من الهجرة في رمضان. قوله: "وهذا أبو ليلى ... إلى آخره" كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: ما وجه ترجيح معنى الصب على معنى النضح، فلم لا يجعل الأمر بالعكس؟ فأجاب عنه بأن أبا ليلى - رضي الله عنه - لم يُختلف عنه فمرة روى بالصب، ومرة بالنضح، فعلم من ذلك أن الصب هو الأصل وأن ما ورد في لفظ النضح وغيره ففي الحقيقة يرجع إلى معنى الصب. قوله: "وفرق في اللفظ بينهما" أي بين الغلام والجارية. وهذا أيضًا كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إذا كان حكم بول الغلام الغسل كبول الجارية، فما الفائدة في أنه - عليه السلام - فرق بينهما حيث قال في الغلام بالنضح أو الرش أو الصب أو الاتباع بالماء، وقال في حق بول الجارية بالغسل؟ فأجاب عنه بقوله: وقد فرق رسول الله - عليه السلام - بينهما وإن كانا مستويين في المعنى للعلة التي ذكرنا فيما مضى، أن مخرج بول الغلام ضيق فيخرج بوله مستقيما ويقع مجتمعا، وأن مخرج بول الجارية واسع فيخرج بولها مترششا، فيقع متفرقا، كما قد قررناه فيما مضى، والباقي ظاهر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "فدححت"، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أحمد"، والزَّخ: هو الدفع. انظر "النهاية" (2/ 298). (¬2) "المعجم الكبير" (25/ 27 رقم 42).

ص: باب: الرجل لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم؟

ص: باب: الرجل لا يجد إلَّا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم؟ ش: أي هذا باب في بيان حال الرجل الذي لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به لأجل الصلاة، أو يتركه ويتيمم بالصعيد؟ والنبيذ فَعِيل بمعنى مفعول، من نَبَذْتُ الشيء إذا طرحته، وهو الماء الذي تُنبذ فيه تمرات لتخرج حلاوتها إلى الماء. وفي "النهاية" لابن الأثير: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا، فصرف من مفعول إلى فعيل، وانتبذته اتخذته نبيذا، وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ: خمر. وقال ابن فارس في "المجمل": نبذت الشيء أنبذه، إذا ألقيته من يدك، والنبيذ التمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء. قلت: هو من باب فَعَلَ يَفْعلُ بالفتح في الماضي والكسر (في) (¬1) المضارع، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وكذا ذكره صاحب "الدستور" في هذا الباب. وقال ابن سيده: النبذ طرحك الشيء، وكل طرح نبذ، والنبيذ الشيء المنبوذ، والنبيذ ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نَبَذَ وانْتَبَذَ ونَبَّذَ. وفي "الصحاح": العامة تقول: أنبذت وكذا ذُكر في كتاب "الشرح" لابن درستويه، وذكر اللحياني في "نوادره": ومن حط الحامض: أنبذت، لغة ولكنها قليلة. وذكره أيضًا ثعلب في كتاب "فعلت وأفعلت". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وفي "الجامع" للقزاز: أكثر الناس يقولون: نبذت النبيذ. بغير ألف. وحكى الفراء عن الرؤاسي: أنبذت النبيذ، قال ولم أسمعها أنا من العرب. وفي "العُبَاب": وأنبذت النبيذ، لغة عامية، ونَبَّذْتَ الشيء تنبيذا، شُدِّد للمبالغة، ثم المناسبة بين البابين من حيث إن كُلا منهما يشتمل على حكم يرجع إلي حال المكلف من الصحة والفساد. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: أخبرنا أسد، قال: أنا ابن لهيعة، قال: أنا قيس ابن الحجاج عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن ابن مسعود - رضي الله عنه - خرج مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمعك يا ابن مسعود ماء؟ قال: معي نبيذ في إداوتي: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعال، أصْبُب عليّ. فتوضأ به وقال: شراب وطهور". ش: رجاله ثقات ما خلا عبد الله بن لهيعة، فإن فيه مقالا. وحنش -بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة- ابن عبد الله الصنعاني، من صنعاء دمشق، والنون في النسبة زائدة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن العباس بن الوليد الدمشقي، عن مروان بن محمَّد، عن ابن لهيعة ... إلى آخره، ولفظه: "قال لابن مسعود: معك ماء؟ قال: لا، إلَّا نبيذ في سَطِيحة. فقال رسول الله - عليه السلام - تمرة طيبة وماء طهور، صُبَّ عليّ. قال: فصببت عليه فتوضأ به". قوله "ليلة الجن" أي في ليلة حضرت فيها الجن عند رسول الله - عليه السلام - وكانوا من جن نُصَيبين، قيل: كانوا بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: كانوا من الشَّيْصيان وهم أكثر الجن عددا، وعامّة جنود إبليس منهم. ويقال: إن الجن كانت تسترق السمع، فلما حُرِست السماء ورُجِمُوا بالشهب، قالوا: ما هذا إلَّا لنبأ حدث، فنهض سبعةُ نفر -أو ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 135 رقم 385) ..

تسعة- من أشرف جن نصيبين، أو نَيْنَوي منهم زَوْبَعَةُ، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة، فوافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قائم في جوف الليل يصلي -أو في صلاة الفجر- فاستمعوا القرآن، وذلك حين مُنْصَرَفِهِ من الطائف، حين خرج إليهم يستنصرهم، وفي رواية أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود لما خرج معه، فقال: "أولئك جن نصيبين"، وكانوا اثني عشر ألفا، وكانت السورة التي قرأها رسول الله - عليه السلام -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬1). قوله: "أمعك ماء" الهمزة فيه للاستفهام، وليست في رواية ابن ماجه. قوله: "في إداوتي" الإداوة -بكسر الهمزة- إناء صغير من جلد يتخذ للماء، كالسطيحة ونحوها، وجمعها أَدَواي على وزن فَعَالي بالفتح. قوله: "أصبُب" أمرٌ من: صَبَّ يَصُبُّ، خرج على الأصل، ويجوز فيه صُبّ، بالإدغام مع الحركات الثلاث في الباء، كما في قولك مدّ وامددُ. قوله: "شراب" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا شراب أو هو شراب. و"طهور" بفتح الطاء بمعنى مطهر، والمعنى أنه جامع للصفتين، الأولى: كونه مشروبا حلوا، والثانية: كونه مطهرا للحديث. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع مولى آل عمر، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أنه كان مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، وأن رسول الله - عليه السلام - احتاج إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلَّا النبيذ، فقال النبي - عليه السلام -: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ش: أبو بكرة: بكَّار القاضي. وأبو عمر -بضم العين وفتح الميم- هو حفص بن عمر الضرير، مشهور باسمه وكنيته، روى عنه أبو داود وابن ماجه وأحمد. ¬

_ (¬1) سورة العلق، آية: [1].

وعلي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان أبو الحسن البصري المكفوف، فيه اختلاف، روى له الأربعة، ومسلم مقرونا بثابت البناني. وأبو رافع: نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، مولى ابن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1)، والدارقطني في "سننه" (¬2): عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود: "أن النبي - عليه السلام - قال له ليلة الجن: أمعك ماء؟ قال: لا. قال: أمعك نبيذ؟ -قال: أحسبه- قال: نعم. فتوضأ به" (¬3). قوله: "وأن رسول الهَ - عليه السلام -" عطف على "أنه كان". قوله: "يتوضأ به" جملة في محل الجر لأنها صفة لقوله: "ماء". قوله: "تمرة" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، أو: الذي، معك تمرة و"طيبة" صفتها، والطيب خلاف الخبيث، والمعنى: لم يخرج الماء عن طهوريته لوقوع التمرة الطيبة فيه. ص: فذهب قوم إلى أن من لم يجد إلا نبيذ التمر في سَفَرِه توضأ به، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة والأوزاعي وحميدا صاحب الحسن بن حي وإسحاق، فإنهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر عند عدم الماء المطلق، وإليه ذهب أيضًا أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 449 رقم 4296) من طريق أبي زيد مولى عمرو بن حريث. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 77 رقم 14). (¬3) وقال الدارقطني: علي بن زيد ضعيف، وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة.

وفي "المغني" لابن قدامة: وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بنبيذ التمر وبه قال الحسن والأوزاعي. وقال عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء. وقال إسحاق: النبيذ الحلو أحب إليَّ من التيمم، وجمعهما أحب إليَّ. وعن أبي حنيفة كقول عكرمة، وقيل عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد، عند عدم الماء في السفر؛ لحديث ابن مسعود. وفي "أحكام القرآن" لأبي بكر الرازي: عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات. أحدها: يتوضأ به، ويشترط فيه النيّة ولا يتيمم، قال: وهذه هي المشهورة. وقال قاضي خان: وهو قوله الأول، وبها قال زفر. والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم وأسد بن عمرو والحسن بن زياد، قال قاضي خان: هو الصحيح عنه، وقوله الآخِر، والذي رجع إليها، وبها قال أبو يوسف وأكثر العلماء واختيار الطحاوي. والثالثة: روى عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمَّد، وقال صاحب "المحيط": صفة هذا النبيذ أن يلقى في الماء تمرات حتى يأخذ الماء حلاوتها، ولا يشتد ولا يسكر، فإن اشتد حرم شربه، فكيف الوضوء وإن كان مطبوخا؟! فالصحيح أنه لا يتوضأ به. وقال في "المفيد": إذا أُلقي فيه تمرات فحلا، ولم يزل عنه اسم الماء، وهو رقيق، فيجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يجوز الاغتسال به، خلاف ما قاله في "المبسوط" من أنه يجوز الاغتسال به. وقال الكرخي: المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به، إلَّا عند محمَّد. وقال الدباس: لا يجوز.

وفي "البدائع": واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل أبي حنيفة، فقال بعضهم: يجوز لاستوائهما في المعنى. ثم لا بد من تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف؛ وهو أن يُلْقَى في الماء شيء من التمر فتخرج حلاوته إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود - رضي الله عنه - في تصير النبيذ الذي توضأ به النبي - عليه السلام - فقال: "تميرات ألقيتها في الماء"، لأن من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء الملح ليحلو. فمادام رقيقا، حلوا أو قارصا، يُتَوَضأ به عند أبي حنيفة، وإن كان غليظا كالرُب، لا يجوز التوضؤ به، وكذا إذا كان رقيقا لكنه علا واشتد وقذف بالزبد؛ لأنه صار مسكرا، والمسكر حرام، فلا يجوز التوضؤ به؛ لأن النبيذ الذي توضأ به رسول الله - عليه السلام - كان رقيقا حلوا، فلا يلحق به الغليظ. والنبيذ إذا كان نِيَّا (¬1) أو كان مطبوخا أدنى طبخة، فما دام قارصا أو حلوا، فهو على الخلاف. وإن علا واشتد وقذف بالزبد، ذكر القدوري في شرحه "مختصر الكرخي" الاختلاف فيه بين الكرخي وأبي طاهر الدباس: على قول الكرخي يجوز، وعلى قول أبي طاهر لا يجوز. وذكر القاضي في شرحه "مختصر الطحاوي" وجعله على الاختلاف في شربه، فقال: على قول أبي حنيفة يجوز التوضؤ به كما يجوز شربه، وعند محمَّد لا يجوز كما لا يجوز شربه، وأبو يوسف فرق بين الوضوء والشرب فقال: يجوز شربه ولا يجوز التوضؤ به؛ لأنه لا يرى التوضؤ بالنبيذ الحلو، فبالمرّ المطبوخ أولى، وأما نبيذ الزبيب وسائر الأنبذة فلا يجوز الوضوء بها عند عامّة العلماء، وقال الأوزاعي: يجوز التوضؤ بالأنبذة كلها، نيَّا كان النبيذ أو مطبوخا، حلوا كان أو مرّا، قياسا على نبيذ التمر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يتوضأ بنبيذ التمر، ومن لم يجد غيره تيمم ولم يتوضأ به، وممن ذهب إلى هذا القول أبو يوسف -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) نيًّا: -بكسر النون وتشديد الياء- أصلها: نيء، ومعنها -كما في "المصباح"- كل شيء شأنه أن يعالج بطبخ أو شيء، ولم ينضج، وانظر: "اللسان" أيضًا.

ش: أي وخالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والثوري والحسن البصري ومالك والشافعي وأحمد وأبا عبيد وأبا ثور وداود، فانهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر، سواء كان في الحضر أو في السفر، وممن ذهب إلى ذلك الإِمام أبو يوسف. وفي "مصنف" (¬1) ابن أبي شيبة: نا وكيع، قال: نا سفيان، عمن سمع الحسن يقول: "لا يتوضأ بنبيذ ولا لبن". ص: وكان من الحُجّة لأهل هذا القول على أهل القول الأول: أن عبد الله بن مسعود إنما رُوي عنه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الطرق التي وصفنا، وليست هذه الطرق طرقا تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضًا المجيء الظاهر، فيجب العمل على من يستعمل الخبر إذا تواترت الروايات به. فهذا مما لا يجب استعماله له لما ذكرناه على مذهب الفرقتين اللتين ذكرنا. ش: أشار بهذا إلى أن الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الأولى آثار ضعيفة؛ لأن في طرقها ضعفاء، وفي طرق بعضها مما رواه غير الطحاوي من لا يعرف ومن لا خير فيه، ألا ترى إلى الحديث الذي رواه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) وابن ماجه (¬4): عن شريك، عن أبي فزارة، عن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود: "أن النبي - عليه السلام - قال في ليلة الجن: ماذا في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تمرة طيبة وماء طهور" فذكروا فيه ثلاث علل. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 61 رقم 650). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 21 رقم 84). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 147 رقم 88). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 135 رقم 384).

الأولى: جهالة أبي زيد؛ لقد قال الترمذي (¬1): أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث. وقال ابن حبان في كتاب "الضعفاء" (¬2): أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود، وليس يُدرى من هو، ولا يعرف أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلَّا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، استحق مجانبته. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬3): سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول. وذكر ابن عدي عن البخاري قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - وهو خلاف القرآن. العلة الثانية: هي التردد في أبي فزارة؛ فقيل: هو راشد بن كيسان، وهو ثقة أخرج له مسلم، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد بن كيسان، وإنما هو رجل مجهول. وقد نقل عن الإِمام أحمد أنه قال: أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول. وذكر البخاري أن أبا فزارة العبسي غير مسمى، فجعلهما اثنين. العلة الثالثة: هي إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن؛ وذلك لما روى مسلم (¬4): من حديث الشعبي، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود: هل شهد منكم أحد مع رسول الله - عليه السلام -[ليلة الجن] (¬5)؟ قال: لا .. " الحديث. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 147 رقم 88). (¬2) "المجروحين" (3/ 158). (¬3) "العلل" (1/ 17). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 332 رقم 450). (¬5) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم".

وفي لفظ له (¬1) قال: "لم أكن مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، وودت أني كنت معه". وما روى أبو داود (¬2): عن علقمة قال: "قلت لابن مسعود: من كان منكم مع النبي - عليه السلام -[ليلة الجن] (¬3)؟ قال: ما كان معه منا أحد". ورواه الترمذي (¬4): أيضا في تفسير سورة الأحقاف، ورواه الطحاوي أيضا، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قلت: هذا الحديث رواه جماعة عن أبي فزارة؛ فرواه عنه شريك كما أخرجه الترمذي (¬5) وأبو داود (¬6). ورواه عنه سفيان والجراح بن مليح كما أخرجه ابن ماجه (¬7). ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬8)، ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجه عبد الرزاق أيضًا (¬9). والجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعدا، فأين الجهالة بعد ذلك؟! إلَّا أن يراد جهالة الحال؛ هذا وقد صرح ابن عدي بأنه راشد بن كيسان فقال: مدار هذا الحديث على أبي فزارة عن أبي زيد، وأبو فزارة اسمه راشد بن كيسان وهو مشهور، وأبو زيد عمرو بن حريث مجهول. وحُكي عن الدارقطني أنه قال: أبو فزارة، في حديث النبيذ، اسمه راشد بن كيسان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 33 رقم 450). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 21 رقم 85). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) "جامع الترمذي" (5/ 382 رقم 3258). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 147 رقم 88). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 21 رقم 84). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 135 رقم 384). (¬8) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 179 رقم 693) من طريق الثوري وإسرائيل عنه. (¬9) ومن طريقه رواه الطبراني في "الكبير" (10/ 63 رقم 9962).

وقال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب": أبو فزارة العبسي راشد بن كيسان ثقة عندهم. وقولهم أيضًا "أبو زيد مجهول" فيه نظر من حيث أن أربعة عشر رجلا رووه عن عبد الله بن مسعود كما رواه أبو زيد (¬1) مع النبي - عليه السلام - في خبر أجمع الفقهاء على العمل به، وهو "أنه طلب منه ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثه ... " الحديث، وقال ابن العربي: في البعض صحبه، واستوقفه وبَعُد عنه - عليه السلام -، ثم عاد إليه فصح أنه لم يكن معه غير الجن، لا نفس الخروج. وفي "البدائع" (¬2): ولأبي حنيفة ما روى ابن مسعود أنه قال: "كنا أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسا في بيته، فدخل علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: ليقم منكم من ليس في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقمت -وفي رواية: فلم يقم منا أحد، فأشار إليَّ بالقيام، فقمت- ودخلت البيت فتَزَوَّدت إداوة من نبيذ، فخرجت معه، فخط لي خطّا، فقال: إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة، فقمت قائما حتى انفجر الصبح، فإذا أنا برسول الله - عليه السلام - وقد عرق جبينه كأنه [حارب جنّا] (¬3)، فقال لي: يا ابن مسعود، هل معك ما أتوضأ به؟ فقلت: لا إلَّا نبيذ تمر في إداوة، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. فأخذ ذلك وتوضأ وصلى الفجر". وكذا جماعة من الصحابة منهم: علي وابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - كانوا يجوزون التوضؤ بنبيذ التمر. ورُوي عن النبي - عليه السلام -: "توضئوا بنبيذ التمر، ولا توضئوا باللبن". وروي عن أبي العالية أنه [قال] (¬4): "كنت في جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) هذا السياق يشعر أن ها هنا سقط، والله أعلم. (¬2) "بدائع الصنائع" (1/ 16). (¬3) في "الأصل، ك": حاد رحبًا، والمثبت من البدائع. (¬4) في "الأصل، ك": قالت، وهو تحريف، والمثبت من "بدائع الصنائع".

في سفينة في البحر، فحفرت الصلاة فَفَنِيَ ماؤهم، ومعهم نبيذ التمر، فتوضأ بعضهم بماء البحر وكره الوضوء بنبيذ التمر، وتوضأ بعضهم بنبيذ التمر وكره الوضوء بماء البحر" وهذا حكايته لا إجماع، فإن من كان يتوضأ بماء البحر كان يعتقد [جواز] (¬1) التوضؤ بماء البحر، فلم يتوضأ بالنبيذ لكونه واجدا للماء المطلق، ومن كان يتوضأ بالنبيذ كان لا يرى ماء البحر طهورا وكان يقول هو سخطة ونقمة، كأنه لم يبلغه قوله - عليه السلام - في صفة البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته" فيتوضأ بنبيذ التمر لكونه عادِما للماء الطاهر. وبه تبين أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة، حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار مُوجبا علمًا استدلاليا، كخبر المعراج، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأخبار الرؤية والشفاعة، وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ثم اشتهر وتلقته العلماء بالقبول، ومثله مما ينسخ به الكتاب، انتهى. قلت: قد عملت الصحابة بهذا الحديث على ما في "سنن الدارقطني" (¬2): عن عبد الله بن [محرر] (¬3)، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "النبيذ وضوء من لم يجد الماء". وأخرج أيضا (¬4): عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ". وروى أيضا في "سننه" (¬5): من حديث مجاعة، عن أبان، عن عكرمة، عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "بدائع الصنائع". (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 76 رقم 8) وقال: ابن محرر متروك الحديث. (¬3) في "الأصل، ك" محرز، بزاي في آخره، وهو تصحيف، والصواب محرر، آخره راء، كما في "سنن الدارقطني"، ومصادر ترجمته. (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 78 رقم 20) وقال: تفرد به حجاج بن أرطاة، لا يحتج بحديثه. (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 76 رقم 9) وقال: أبان هو ابن أبي عياش، متروك الحديث، ومجاعة ضعيف.

ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد النبيذ فليتوضأ به" قال: المحفوظ من قول عكرمة، غير مرفوع إلى النبي - عليه السلام - ولا إلى ابن عباس. وقال البيهقي: هذا حديث واهٍ. قلت: (هذا) (¬1) مجرد دعوى منه فلا تقبل. وقال أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن": رَوَى الوضوء بالنبيذ عن النبي - عليه السلام - أبو مامة - رضي الله عنه - أيضا. فإن قيل: هذا الحديث من أخبار الآحاد، ورَدَ على مخالفه الكتاب، ومن شرط ثبوت خبر الآحاد ألَّا يخالف الكتاب، فإذا خالف لا يثبت، أو يثبت لكنه نُسِخَ؛ لأنه كان بمكة، وهذه الآية -أعني قوله تعالى: {تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (¬2) نزلت بالمدينة، وقال ابن القصار من المالكية، وابن حزم: من ذهب إلى أنه وإن صح يكون منسوخا؛ لأنه كان بمكة، ونزول قوله تعالى: {تَجِدُوا مَاءً} (¬3) كان بالمدينة. وقال ابن حزم (¬4): "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة". قلت: قد ذكر لك أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار موجبا علمًا استدلاليّا، ومثله مما ينسخ به الكتاب. مع أنه لا حجة لهم في الكتاب؛ لأن عدم نبيذ التمر في الأسفار، يسبق عدم الماء عادة؛ لأنه أعسر وجودا من الماء، وتعليق جواز التيمم بعدم الماء تعليق بعدم النبيذ دلالة. فكأنه قال: فلم تجدوا ماء، ولا نبيذ تمر، فتيمموا، إلا أنه لم ينص عليه لثبوته عادة. يؤيد هذا ما ذكرنا من فتاوى نجباء الصحابة - رضي الله عنهم - في زمان استدَّ فيه باب الوحي، وأنهم كانوا أعرف الناس بالناسخ والمنسوخ، فتبطل دعوى النسخ. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك". (¬2) سورة المائدة، آية: [6]. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "المحلى" (1/ 204).

وقول ابن حزم (¬1): "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة"، يرده ما ذكره الطبراني في "الكبير" (¬2) والدارقطني (¬3) "أن جبريل - عليه السلام - نزل على رسول الله - عليه السلام - بأعلى مكة، فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء". وقال السهيلي: الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "آية التيمم"، ولم تقل "الوضوء"؛ لأن الوضوء كان مفروضا قبل، غير أنه لم يكن قرآنا يُتْلى حتى نزلت آية التيمم. وقال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستدل بقوله تعالى: {قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (¬4) الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين. أحدهما: قوله تعالى: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} عموم في جميع المائعات؛ لأنه يسمى غاسلا بها، إلا ما قام الدليل فيه، ونبيذ التمر مما قد شمله العموم. الثاني: قوله: {تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} (¬5) فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء؛ لأنه لفظ مُنَكَّرٌ يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا بغيره، أو منفردا بنفسه، ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر: ماء، فلما كان كذلك وجب ألَّا يجوز التيمم مع وجوده، بالظاهر. ويدل على ذلك أن النبي - عليه السلام - توضأ بمكة قبل نزول الآية في التيمم، وقبل أن نُقِلَ من الماء إلى بدل، فدل على أنه توضأ به، على أنه بقي حكم الماء الذي فيه، لا على وجه البدل عن الماء؛ إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة مقصورة على الماء بدون غيره، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 85 رقم 4657) بنحوه من حديث أسامة بن زيد، عن أبيه. (¬3) سنن الدراقطني (1/ 111 رقم 1، 2) بنحوه أيضًا مثل رواية الطبراني. (¬4) سورة المائدة، آية: [6]. (¬5) سبق تخريجه.

ص: فإن قال قائل: الآثار الأُول أولى من هذا؛ لأنها متصلة وهذا منقطع, لأن أبا عُبَيدة لم يسمع من أبيه شيئا. قيل له: ليس من هذه الجهة احتججنا بكلام أبي عُييدة، إنما احتججنا به لأن مثله، على تقدمه في العلم، وموضعه من عبد الله، وخِلْطَتِه بخاصته من بعده، لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله ذلك حجة فيما ذكرنا، لا من طريق الذي وصفت. ش: السؤال والجواب ظاهران، وأراد بالاتصال اتصال الإسناد، وبالانقطاع انقطاعه. وقال الترمذي: لا يعرف اسم أبي عُبَيدة، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وقال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين. قوله: "وخِلْطَتُه بخاصته من بعده" أي وخلطة أبي عبيدة بخواص أبيه عبد الله، وهم أصحابه الذين كانوا يلازمونه ويأخذون منه، والجواب لا يتمم به التقريب على ما لا يخفى. ص: وقد روينا عن عبيد الله من كلامه بالإسناد المتصل ما قد وافق ما قال أبو عُبَيدة، وحدثناه ابن أبي داود، قال: نا عمرو بن عون، قال: نا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لم أكن مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، ولوددت أني كنت". ش: أكد بهذا ما رُوي عن أبي عبيدة من عدم كون أبيه عبد الله مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن. قوله: "ما قد وافق" مفعول "روينا". وقوله: "ما قال" مفعول "وافق". وقوله: "حدثناه ابن أبي داود" بيان لقوله: "روينا". وإسناد هذا صحيح على شرط مسلم.

وخالد الأول هو الطحان الواسطي، والثاني هو خالد بن مهران الحذَّاء -بفتح الحاء المهملة وتشديد الذال المعجمة- ولم يكن حذَّاء، وإنما كان ملازما القعود عند حذَّاء، فنسب إليه. وأبو مِعْشَر اسمه زياد بن كُلَيْب الكوفي. وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث الشعبي، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود هل شهد منكم أحد مع رسول الله - عليه السلام -؟ قال: لا ... " الحديث. وفي لفظ (¬2): له أخرجه عن خالد الحذاء عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: "لم أكن مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، ولوددت أني كنت معه" فبهذا استدلوا على أن ابن مسعود - رضي الله عنه -لم يكن مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، فيبطل بذلك العمل بالآثار الأُول. وللمناقش أن يقول: إنه لم يكن معه - عليه السلام - في الحالة التي خاطب فيها الجن، ومعنى قوله: "ولوددت أني كنت" أي أحببت أني كنت مع النبي - عليه السلام - وقت الخطاب وعدم كونه معه في هذه الحالة؛ لا ينافي كونه معه في غير هذه الحالة في تلك الليلة، وقد قلنا: إن الوضوء بالنبيذ إنما كان بعد الانصراف من عند الجن. ورُوي عنه: "أنه مر بقوم يلعبون بالكوفة، فقال: ما رأيت أحدا أشبه بهؤلاء من الجن الذين رأيتهم مع النبي - عليه السلام - (¬3) وفي رواية: "رأى قوما من (الزُّطِّ) (¬4) بالعراق، فقال: ما أشبه هؤلاء بالجن الذين رأيتهم ليلة الجن (¬5) ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 332 رقم 450). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 333 رقم 450). (¬3) انظر "مختلف الحديث" لابن قتيبة (1/ 22). (¬4) الزُّط: جنس من السودان والهنود، انظر "النهاية" (2/ 302). (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 455 رقم 4353) بنحوه، والبزار في "مسنده" (5/ 266 رقم 1880) وقال: وهذا اللفظ لا نعلمه يروى إلَّا عن أبي عثمان عن عبد الله ..

على أنه قد ذكر بعضهم أن غير عبد الله حضر الليلة أيضا، وهو الزبير بن العوام. ذكره الإسماعيلي (¬1): عن موسى بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، ثنا سليمان بن سلمة، ثنا أبو [يحمد] (¬2) بقية بن الوليد، حدثني نمير بن يزيد الحمصي -معروف حسن الحديث- عن أبيه، عن عمه قحافة بن ربيعة، ثنا الزبير بن العوام قال: "صلى بنا النبي - عليه السلام - صلاة الصبح في مسجد المدينة ثم قال: أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ... " الحديث. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: أنا أسد، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود هل كان مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه منا أحد، ولكن فقدناه ذات ليلة فقلنا: استُطير أم اغتيل؟ فتفرقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فبتنا بشَرِّ ليلة بات بها قوم، نقول: استطير أم اغتيل؟ فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن، فأرانا آثارهم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعامر هو الشَّعبي. وأخرجه مسلم (¬3): عن محمَّد بن المثني، عن عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: "سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - عليه السلام - ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، هل صحب النبي - عليه السلام - ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ... " إلى آخره نحوه، وفيه: "فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء" وفي آخره: "فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بَعْرةٍ علفٌ لدوابكم. وقال رسول الله - عليه السلام -: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم". ¬

_ (¬1) معجم شيوخ الإسماعيلي (3/ 781 رقم 391). (¬2) في "الأصل، ك": محمَّد، وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه كما في المصدر السابق ومصادر الترجمة. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 332 رقم 450).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن داود، عن الشعبي ... إلى آخره نحوه، وفيه الزيادة: "وكانوا من جن الجزيرة". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "فقدناه ذات ليلة" يقال: ذات يوم وذا يوم، وذات ليلة وذا ليلة، وهو كناية عن يوم وليلة، والمعنى: فقدناه مدة التي هي الليلة، والمعنى في التذكير: وقتا وزمانا الذي هو يوم. قوله: "استطير" على صيغة المجهول، أي ذُهِبَ به بسرعة، كأن الطير حملته، أو اغتاله أحد. والاستطارة والتطاير: التفرق والذهاب. وقال الجوهري: استطير الشيء أي: طُيَّر. قوله: "أم اغتيل" على صيغة المجهول أيضا، من: اغتال يغتال، من الغَوْل -بالفتح - وهو البعد في السير، وكذلك المغَاوَلة هي المبادرة في السَّيْر، والمعنى ها هنا: أم أُخِذ غيلة، والاغتيال: الاحتيال. قوله: "في الشِّعاب" -بكسر الشين- جمع شِعب -بكسر الشين- وهو الطريق في الجبل. قوله: "نلتمسه" أي نطلبه، وهي جملة في موضع النصب على الحال عن الضمير الذي في "تفرقنا". قوله: "فقال إنه" أي: الشأن. ص: فهذا عبد الله قد أنكر أن يكون مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، فهذا الباب إن كان يؤخذ من طريق صحة الإسناد، فهذا الحديث الذي فيه الإنكار أولى؛ لاستقامة طريقه وثبت رواته، وإن كان من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا بالخل، فكان النظر على ذلك أن يكون نبيذ التمر أيضا كذلك. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 382 رقم 3258).

وقد أجمع العلماء أن نييذ التمر إذا كان موجودا في الحال وجودَ الماء، أنه لا يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء، فلما كان خارجا من حكم المياه في حال وجود الماء، كان كذلك هو في حال عدم الماء. وحديث ابن مسعود الذي فيه التوضؤ بنبيذ التمر إنما فيه: أن النبي - عليه السلام - توضأ به وهو غير مسافر, لأنه إنما خرج من مكة يريدهم، فقيل: إنه توضأ بنبيذ التمر في ذلك المكان، وهو في حكم من هو بمكة, لأنه يتم الصلاة فهو أيضًا في حكم استعمال ذلك النبيذ هنالك، في حكم استعماله إياه في مكة، فلو ثبت بهذا الأثر أن النبيذ مما يجوز التوضؤ به في الأمصار والبوادي ثبت أنه يجوز التوضؤ به في حال وجود الماء وفي حال عدمه. فلما أجمعوا على ترك ذلك والعمل بضده، فلم يجيزوا التوضؤ به في [الأمصار] (¬1)، ولا فيما حكمه حكم الأمصار؛ ثبت بذلك تركهم لذلك الحديث، وخرج حكم ذلك النبيذ من حكم سائر المياه. فثبت بذلك أنه لا يجوز التوضؤ به في حال من الأحوال، وهذا هو قول أبي يوسف رحمه الله وهو النظر عندنا، والله أعلم. شْ: هذا كله ظاهر، ولكنه لا يخلو عن مناقشة ونظر؛ لأنا قد ذكرنا أن الخبر الذي فيه الوضوء بالنبيذ، وكون ابن مسعود - رضي الله عنه - مع النبي - عليه السلام - ليلتئذ، قد ورد من طرق متعددة. وأن خبر "مسلم" ونحوه محمول على أنه ما كان معه وقت خطاب الجن، وكيف وقد عمل به نجباء الصحابة من بعده؟! ولئن سلمنا أن القياس يقتضي ما ذكره، ولكنه ورد [الخبر] (¬2) على خلافه فنعمل به. ولو قيل: هذا خبر آحاد قد ورد على مخالفة الكتاب، فلا يثبت ولا يعمل به، فالجواب عنه ما قدمناه. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

قوله: "فإذا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب" فيه نظر لأن؛ الأوزاعي يرى الوضوء بسائر الأنبيذة مطلقا، على أي وجه كان. قوله: "فلما كان خارجا" أي فلما كان نبيذ التمر خارجا "عن حكم المياه ... " إلى آخره، فيه نظر لأنه ليس بخارج عن حد المياه عند عدم الماء المطلق، لقوله - عليه السلام - "تمرة طيبة وماء طهور". أطلق عليه عند عدم الماء المطلق أنه ماء، وأنه طهور، فكيف يستوي حكمه في الحالتين؟!

ص: باب: المسح على النعلين

ص: باب: المسح على النعلين ص: (¬1) حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرْزوق، قالا: نا أبو داود، قال: أنا حماد بن سلمة. وحدثنا ابن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس قال: "رأيت أبي توضأ ومسح على نعلين له، فقلت له: أتمسح على النعلين؟ فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على النعلين". ش: هذان طريقان رجالهما ثقات. وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي. وأوس بن أبي أوس الثقفي الصحابي. وأبوه، أبو أوس الثقفي، اسمه حذيفة والد أوس، وقال ابن أبي حاتم: أوس ابن أوس الثقفي له صحبه .. ويقال: أوس بن أبي أوس، قال الدُّوري: سمعت يحيى بن معين يقول: أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس واحد. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكشي، كلاهما عن حجاج بن المنهال إلى ... آخره نحوه سواء. وأخرجه أبو داود (¬3): عن أوس نفسه: ثنا مسدد وعباد بن موسى، قالا: نا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أنه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - أتى كظامة قوم يعني الميضأة [ولم يذكر مسدد ¬

_ (¬1) سقط شرح ترجمة الباب من "الأصل، ك"، وكذا ذكر المناسبة بينه وبين الباب الماضي كعادة المؤلف -رحمه الله- والله أعلم. (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 222 رقم 605). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 41 رقم 160).

الكظامة ثم اتفقا- فتوضأ] (¬1)، ومسح على نعليه وقدميه". ص: حدثنا فهد، قال: نا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس قال: "كنت مع أبي في سفر، فنزلنا بماء من مياه الأعراب، فبال، فتوضأ ومسح على نعليه، فقلت له: أتفعل هذا؟! فقال: ما أزيدك على ما رأيت رسول الله - عليه السلام - فعل". ش: هذا طريق آخر بإسناد جيد. وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي قاضيها. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن عبيد بن غنام، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك ... إلى آخره، نحوه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن شريك، عن يعلى بن عطاء .. إلى آخره، نحوه سواء. ص: فذهب قوم في المسح على النعلين كما يمسح على الخفين. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، والوليد بن مسلم، ونفرا من الظاهرية؛ فإنهم قالوا بجواز المسح على النعلين، وادعوا أنه مذهب عليّ وأوس بن أبي أوس. ص: فقالوا قد شد ذلك ما قد رُوي عن علي - رضي الله عنه -؛ فذكروا في ذلك ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود ووهب، قالا: نا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي ظبيان: "أنه رأى عليّا - رضي الله عنه - بال قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه، ثم صلى". ش: أي قال هؤلاء القوم "قد شد" أي: قوَّى وأحكم "ذلك" أي: ما ذهبنا إليه ¬

_ (¬1) عبارة "الأصل، ك": "ثم اتفقا، فتوضأ، ولم يذكر مسدد الكاظمة، فتوضأ" وهي مضطربة، والمثبت من "سنن أبي داود"، وانظر عون المعبود (1/ 277). (¬2) "المعجم الكبير للطبراني" (1/ 222 رقم 606). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 10 رقم 16226).

من جواز المسح على النعلين لحديث أوس "ما قد رُوِيَ عن علي - رضي الله عنه - فذكروا في ذلك" أي فيما ذهبوا إليه، ما قد حدثنا أبو بكرة: بكَّار القاضي، قال: نا أبو داود سليمان بن داود الطيالسي ووهب بن جرير، قالا: نا شعبة بن الحجاج، عن سلمة بن كهيل الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، الثقة الثبت، عن أبي ظَبْيان -بفتح الظاء المعجمة وسكون الباء الموحدة- واسمه حُصَيْن بن جُنْدب الجنَبِي الكوفي، روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظَبْيان الجنبي قال: "رأيت عليّا - رضي الله عنه - بال قائما حتى أرغى، ثم توضأ ومسح على نعليه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه فجعلهما في كمه ثم صلى". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: "رأيت عليًّا بال قائما ثم توضأ ومسح على نعليه". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا نرى المسح على النعلين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم وجمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم؛ فإنهم لا يجوزون المسح على النعلين. ص: وكان من الحجة في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - مسح على نعلين تحتهما جوربان وكان قاصدا بمسحه ذلك إلى جوربيه لا إلى نعليه، وجورباه مما لو كانا عليه بلا نعلين جاز له أن يمسح عليهما، فكان مسحه ذلك مسحا أراد به الجوربين، فأتى ذلك على الجوربين والنعلين، فكان مسحه على الجوربين هو الذي يطهر به، ومسحه على النعلين فضل. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 201 رقم 783). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 173 رقم 1998).

ش: هذا جواب عما تمسك به هؤلاء القوم، وهو ظاهر. فإن قيل: من أين هذا الاحتمال؟ قلت: الحديث الذي يأتي يدل على ذلك، وهو قول أبي موسى - رضي الله عنه -: "إن النبي - عليه السلام - مسح على جوربيه ونعليه" (¬1)، فهذا صريح، وذاك محتمل، فيحمل المحتمل على الصريح. وجواب آخر: أن معنى ما ورد من المسح على النعلين: الغسل؛ لأن المسح قد يجيء بمعنى الغسل، وعن أبي زيد الأنصاري: المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك. أي أذهبه عنك وطهرك من الذنوب. وجواب آخر: أن الذي نقل عن النبي - عليه السلام - أنه غسل رجله جمُّ غفير وعدد كثير، والذي نقل عنه أنه مسح نعليه عدد قليل، والقضية واحدة، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير، مع فضل من حفظ على من [لم] (¬2) يحفظ. وقد يقال: إن ذلك كان منه - عليه السلام - في الوضوء التطوع، لا في الوضوء من حدث؛ يؤيده ما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3): وترجم عليه: باب ذكر الدليل على أن مسح النبي - عليه السلام - على النعلين كان في وضوء تطوع، لا من حدث: عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه دعا بكوز من ماء، ثم توضأ وضوءا خفيفا ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا وضوء رسول الله - عليه السلام - للطاهر ما لم يحدث". قال في "الإمام": وهذا الحديث أخرجه أحمد بن عبيد الصفار في "مسند" بزيادة لفظ، وفيه: "قال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام - ما لم يحدث". ¬

_ (¬1) يأتي في نص الطحاوي التالي، وشرحه. (¬2) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 100 رقم 200).

وقال ابن حبان في "صحيحه" (¬1): هذا إنما كان في الوضوء للنفل، ثم استدل عليه بحديث أخرجه عن النَّزَّال بن سَبرة، عن عَلي - رضي الله عنه -: "أنه توضأ ومسح برجليه وقال: رأيت رسول الله - عليه السلام - فعل كما فعلت، وهذا وضوء من لم يحدث". وكذا ذكر البزار في "مسنده" (¬2). ص: وقد بيّن ذلك ما حدثنا علي بن معبد، قال: نا المعلى بن منصور، قال: نا عيسى بن يونس، عن أبي سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: "أن النبي - عليه السلام - مسح على جوربيه ونعليه". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: نا أبو عاصم، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. فأخبر أبو موسى والمغيرة عن مسح النبي - عليه السلام - على نعليه كيف كان منه. ش: أي قد بيَّنَ ما ذكرنا من التوجيه، وهو أنه يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - مسح على نعلين تحتهما جوربان ... إلى آخره، وهو (¬3) على صيغة المعلوم. وقوله: "ما حدثنا" في محل الرفع، فاعله. وأخرج فيه حديثين: أحدهما: عن أبي موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس، ورجاله ثقات. وأبو سِنَان -بكسر السين المهملة وبالنون المخففة- اسمه عيسى بن سنان الحنفي الفلسطيني. فإن قيل: قال أبو داود: هذا الحديث ليس بالمتصل ولا بالقوي. وقال البيهقي: الضخاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه عن أبي موسى الأشعري، وعيسى بن سنان لا يحتج به. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 170 رقم 1340). (¬2) "مسند البزار" (3/ 30 - 32 رقم 780 - 782). (¬3) أي الفعل "بَيَّن".

قلت: قال عبد الغني في "الكمال": الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، ويقال: عرزم، سمع أباه وأبا موسى الأشعري وأبا هريرة (¬1). وقال في ترجمة عيسى بن سنان: قال يحيى بن معين: ثقة. ووثقه ابن حبان أيضًا (¬2). وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا أحمد بن يحيى الحلواني، نا سعيد بن سليمان، عن عيسى بن يونس، عن أبي سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى قال: "دعا النبي - عليه السلام - بوضوء فتوضأ ومسح على الجوربين والعمامة والنعلين". والآخر: عن [المغيرة - رضي الله عنه -] (¬4) ورجال حديثه ثقات أيضًا، وأبو عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد. وأبو قيس اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي الكوفي. وأخرجه أبو داود (¬5): نا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان الثوري .. إلى آخره ولفظه: "أن رسول الله - عليه السلام - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين". والترمذي (¬6): عن هناد ومحمود بن غيلان، كلاهما عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) وأثبت البخاري له السماع من أبي موسى كما في "تاريخه الكبير" (4/ 333). (¬2) قال الذهبي في "الميزان" (5/ 377) ضعفه أحمد وابن معين، وهو ممن يكتب حديثه على لينه، وقواه بعضهم يسيرًا، وقال العجلي لا بأس به، وقال أبو حاتم ليس بالقوي. (¬3) مسند أبي موسى لم يطبع من "المعجم الكبير"، والحديث أخرجه الطبراني أيضًا في "المعجم الأوسط" (2/ 24 رقم 1108) من طريق عيسى بن يونس بنحوه، وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلَّا بهذا الإسناد، تفرد به عيسى. (¬4) في "الأصل، ك" ابن عمر، وهو سبق قلم من المؤلف، والمثبت من نص الطحاوي ومصادر تخريج الحديث. (¬5) "سنن أبي داود" (1/ 41 رقم 159). (¬6) "جامع الترمذي" (1/ 167 رقم 99).

وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. واحتج [به] (¬2) الجمهور من العلماء على جواز المسح على الجوربين. قال الترمذي (¬3): وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يمسح على الجوربين، وإن لم يكونا منعلين، إذا كانا ثخينين. قال أبو عيسى: سمعت صالح بن محمَّد الترمذي قال: سمعت أبا مقاتل السمرقندي يقول: "دخلت على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه، فدعا بماء فتوضأ، وعليه جوربان فمسح عليهما، ثم قال: فعلت اليوم شيئا لم أكن أفعله، مسحت على الجوربين وهما غير منعلين". وفي "البدائع" (¬4): وأما المسح على الجوربين فإن كانا مجلدين أو منعلين يجوز بلا خلاف بين أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين أو منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز، ورُوي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وعند الشافعي لا يجوز المسح على الجوارب وإن كانت منعلة، إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين، واحتج أبو يوسف ومحمد بحديث المغيرة، ولأبي حنيفة أن جواز المسح على الخفين ثبت نصّا، بخلاف القياس، فكان كل ما في معنى الخف في إدمان (¬5) المشي عليه، وإمكان قطع السفر به يُلْحَق به، وما لا فلا. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 185 رقم 559). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 168 - 169). (¬4) "بدائع الصنائع" (1/ 10) مع بعض الاختصار. (¬5) أدمن الشيء: أدامه "القاموس المحيط" (دمن).

ومعلوم أن غير المجلد والمنعل من الجوارب لا يشارك الخف في هذا المعنى، فتعذر الإلحاق. وأما الحديث فيحتمل أنهما كانا مجلدين أو منعلين، وبه نقول، ولا عموم له لأنه حكاية حال؛ ألا ترى أنه لا يتناول الرقيق من الجوارب؟ انتهى. وفي "المغني" (¬1): قال أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي - عليه السلام - وقال ابن المنذر: يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -: علي، وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وبه قال عطاء، والحسن، وسعيد بن المسيب، والنخعي، وسعيد بن جبير، والأعمش، والثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد. وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن بن مسلم، والشافعي: لا يجوز المسح عليهما إلا أن يُنْعلا. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2): نا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام: "أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين". نا (¬3) وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن عقبة بن عمرو: "أنه مسح على الجوربين من شعر". نا (¬4) وكيع، عن أبي جناب، عن أبيه، عن خلاس أبي عمرو: "أن عمر - رضي الله عنه - توضأ ومسح على جوربيه ونعليه". ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 181). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 171 رقم 1971). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 171 رقم 1972). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 171 رقم 1974).

نا أبو بكر (¬1) بن عياش، عن حصين، عن إبراهيم قال: "الجوربان والنعلان بمنزلة الخفين". نا (¬2) وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس: "أنه كان يمسح على الجوربين". نا (¬3) أبو بكر بن عياش، عن عبد الله بن سعد، عن [خلاس] (¬4)، قال: "رأيت عليا - رضي الله عنه - بال، ثم مسح على جوربيه ونعليه". نا (¬5) إسحاق الأزرق، عن جويبر، عن الضحاك: "أنه كان يقول في المسح على الجوربين: لا بأس به". نا (¬6) الثقفي، عن إسماعيل بن أمية قال: "بلغني أن البراء بن عازب كان لا يرى بالمسح على الجوربين بأسا وبلغني عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب: "أنهما كانا لا يريان بأسا بالمسح على الجوربين". نا (¬7) زيد بن حباب، عن هشام بن سعد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: "أنه مسح على الجوربين". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬8): والعجب من الحنفيين والشافعيين والمالكيين يشنعون ويعظمون مخالفة الصاحب إذا وافق تقليدهم، وهم قد خالفوا ها هنا أحد عشر صحابيّا لا مخالف لهم من الصحابة، ممن يجيز المسح، منهم: عمر، وابنه، وعلي، وابن مسعود؛ فخالفوا السنة الثابتة عن رسول الله - عليه السلام - والقياس بلا معنى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 171 رقم 1975). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 172 رقم 1978). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 172 رقم 1980). (¬4) في "الأصل، ك": خيرة، وهو تحريف، والمثبت من "المصنف". (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 172 رقم 1981). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 172 رقم 1983). (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 173 رقم 1990). (¬8) "المحلى" (2/ 87).

قلت: هذا تشنيع ساقط وكلام واهٍ؛ فالحنفيون ما خالفوا ها هنا أحدا من الصحابة، بل مذهبهم جميعا جواز المسح على الجوربين، وما رُوي عن أبي حنيفة في المنع فقد صح رجوعه عنه كما صرح به الترمذي في جامعه (¬1). والشافعيون فقد ذكر الترمذي قول الشافعي مع قول من يجيز، غاية ما في الباب: اشترط الشافعي عدم نفوذ الماء من الجورب، وإمكان متابعة المشي. ولم يُنقل عن أحد عدم اشتراط هذين الشرطين. والمالكيون فأكثرهم على الجواز. ص: وقد رُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في ذلك وجه آخر. حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أحمد الحسين اللَّهَبِيّ، قال: نا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان النبي - عليه السلام - يصنع هكذا". ش: أي قد رُوي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في معنى المسح على النعلين وجه آخر، ثم بيَّن ذلك بقوله: "حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي" .... إلى آخره، وقد ذكر هذا الحديث بعينه بهذا الإسناد في باب فرض الرجلين في الوضوء، وإسناده صحيح. واللَّهبي نسبه إلى أبي لهب بن عبد المطلب، وأحمد بن الحسن من ذريته، ثقة مشهور. وابن أبي فديك هو محمَّد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك. وابن أبي ذئب هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب أبو الحارث المدني. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا إبراهيم بن سعيد، نا روح بن عبادة، عن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) عزاه له الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 188) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الدراية".

ابن أبي ذئب، عن نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله - عليه السلام - يفعل" وهذا الحديث لا يعلم رواه عن نافع إلا ابن أبي ذئب، ولا يعلم رواه عنه إلا روح، وإنما كان يمسح عليهما لأنه توضأ من غير حدث، وكان يتوضأ لكل صلاة من غير حدث، فهذا معناه عندنا. انتهى. قلت: قوله: "ولا نعلم رواه عنه إلا روح" تعارضه رواية الطحاوي؛ فإن الراوي عنه روايته ابن أبي فديك. ص: فأخبر ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه السلام - قد كان في وقتِ ما كان يمسح على نعليه ويمسح على قدميه، فقد يحتمل عندنا أن يكون ما مسح على قدميه هو الفرض، وما مسح على نعليه كان فضلا؛ فحديث أبي أوس يحتمل ما ذكر فيه عن النبي - عليه السلام - من مسحه على نعليه، أن يكون كما قال أبو موسى والمغيرة، أو كما قال ابن عمر، فإن كان كما قال أبو موسى والمغيرة فإنا نقول بذلك؛ لأنا لا نرى بأسا بالمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين، قد قال ذلك أبو يوسف ومحمد. وأما أبو حنيفة فإنه كان لا يرى ذلك حتى يكونا صفيقين ويكونا مجلدين، فيكونان كالخفين. وإن كان كما قال ابن عمر فإن في ذلك إثبات المسح على القدمين، فقد بينا ذلك، وما عارضه وما نسخه، في باب فرض القدمين. فعلى أي المعنيين كان وجه حديث أوس بن أبي أوس: من معنى حديث أبي موسى والمغيرة، ومن معني حديث ابن عمر، فليس في ذلك ما يدل على جواز المسح على النعلين، فلما احتمل حديث أوس ما ذكرنا ولم يكن فيه حجة في جواز المسح على النعلين؛ التمسنا ذلك من طريق النظر لنعلم كيف حكمه، فرأينا الخفين اللذين جوز المسح عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما، أو أكثر القدمين، فكلُّ قد أجمع أنه لا يمسح عليهما، فلما كان المسح على الخفين إنما يجوز إذا غيبا القدمين، ويبطل إذا لم

يُغِيبا القدمين، وكانت النعلان غير مغيبتين للقدمين، ثبت أنهما كالخفين اللذين لا يغيبان القدمين. ش: ملخص هذا أن حديث ابن عمر بخبر أنه - عليه السلام - حين كان يمسح على نعليه يمسح على قدميه، فيحتمل أن يكون مسحه على قدميه فرضا، وعلى نعليه إصابة الفضيلة، وحديث أوس، إن كان معناه كمعنى حديث ابن عمر هذا، فإن فيه إثبات المسح على القدمين، ولكن قد ثبت ما عارضه وما نسخه في باب فرض القدمين. وإن كان معناه كمعنى حديث أبي موسى والمغيرة، فإنا نقول بذلك؛ لأنا نُجَوِّز المسح على الخفين إذا كانا ثخينين لا يشفَّان، وأيّا ما كان، فلا يبقي في حديث أوس ما يدل على جواز المسح على النعلين، فلا يبقى حُجَّة لمن يرى [ذلك] (¬1). قوله "وأما أبو حنيفة ... " إلى آخره قد ذكرنا التحقيق فيه عن قريب .. قوله: "إذا غييا" على صيغة المعلوم أي إذا غيب الخفان القدمين بأن [ستراهما] (¬2). قوله "غير مُغَيِّبتَيْن" على صيغة الفاعل، تثنية مُغَيَّبَة، فافهم. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": بذلك. (¬2) في "الأصل، ك": سترهما.

ص: باب: المستحاضة كيف تتطهر للصلاة؟

ص: باب: المستحاضة كيف تتطهر للصلاة؟ ش: أي هذا باب في بيان أن المستحاضة كيف [تتطهر] (¬1) لإقامة الصلاة، و"المستحاضة": من ترى الدم في غير أوانها. وفي "العُباب": المستحاضة المرأة التي يسيل منها الدم ولا يرقأ، ولا يسيل من المحيض ولكن يسيل من عِرقٍ يقال له: العاذل. والمناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله: أن كلا منها مشتمل على أحكام الوضوء. ص: حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: نا الحميدي، قال: نا عبد العزيز ابن أبي حازم، قال: نا ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف وأنها استحيضت حتى لا تَطْهُر، فذُكِرَ شأنُها لرسول الله - عليه السلام - فقال: ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، لتَنْظُر قذر قرئها الذي تحيض له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي". ش: رجاله رجال الصحيحين ما خلا محمَّد بن النعمان بن بشير النيسابوري السقطي نزيل بيت المقدس، وهو أيضا ثقة مشهور. والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن أسامة بن عبد الله بن حميد القرشي الأسدي. وعبد العزيز بن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه سلمة بن دينار المدني. وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني. وعَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدينة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك" تتطر، سقطت الهاء من وسطها.

وأم حبيبة بنت جحش هي حمنة بنت جحش الأسدية، وهي أخت زينب بنت جحش زوج النبي - عليه السلام - ولها صحبة. وأخرجه النسائي (¬1): عن الربيع بن سليمان بن داود بن إبراهيم، عن إسحاق ابن بكر، قال: حدثني أبي: عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمَّد .. إلى آخره، نحوه سواء. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2)، و"المعرفة" (¬3): عن أبي سعيد الإسفرايني، عن أبي بحر البربهاري، عن بشر بن موسى، عن الحميدي ... إلى آخره نحوه سواء، وقال في "المعرفة": قال أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، فيما قرأنا على محمَّد بن عبد الله الحافظ، عنه، قال بعض مشايخنا: خبر ابن الهاد غير محفوظ. قال البيهقي: وقد رواه محمَّد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - قال فيه: "فأمرها بالغسل لكل صلاة" وكذلك رواه سليمان بن كثير عن الزهري -في إحدى الروايات عنه- والصحيح رواية الجمهور عن الزهري، وليس فيه الأمر بالغسل إلا مرة واحدة، ثم كانت تغتسل عند كل صلاة من عند نفسها، وكيف يكون الأمر بالغسل صحيحا عن عروة عن عائشة، وصح عن كل واحد منهما أنه كان يرى عليها الوضوء لكل صلاة؟! وقد رُوي الأمر بالغسل لكل صلاة من أوجه كلها ضعيفة. قلت: الطريق المذكور صحيح لا يمكن رميه بالضعف، ولكن الجمهور ما عملوا به؛ لكونه منسوخا على ما يأتي إن شاء الله. قوله: "وأنها استحيضت" عطف على قوله: "أن أم حبيبة". قوله: "حتى لا تَطُهُر" بالرفع. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 120 رقم 209). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 327 - 328 رقم 1454). (¬3) "المعرفة" (1/ 377 رقم 484).

قوله: "فَذُكرَ شأنُها" أي حالها. "ذُكِرَ" على صيغة المجهول، وفي رواية البيهقي "فَذَكَرَت" أي أم حبيبة. قوله: "ليست بالحيضة" -بفتح الحاء- المرة الواحدة من دُفع الحيض ونُوبِهِ، والحيضة -بكسر- الاسم من الحيض، والفرق بينهما بالقرينة من مساق الحديث، وها هنا يحتمل الوجهين، والفتح أظهر. وفي كتاب "الواعي": الحيض اجتماع دم المرأة، والحَيضة والحِيضة بفتح الحاء وكسرها، أصلها عند قوم من حُضتُ الماءَ، أحُوضهُ، حَوْضا، إذا جمعته، وأحيضه حيضا، فيصبح فيه الواو والياء. وجمع الحِيضة -بالكسر- حِيَض، وجمع الحيضة -بالفتح- حَيضات، والمحيض اسم للحيض. وقال ابن سيده: حاضت المرأة حيضا ومحيضا وهن حائض وحُيَّض وحَوَائض، والحَيضة: المرَّة الواحدة، والحيضة: الاسم، وقيل: الحيضة الدم نفسه، والحياض دم الحيضة، قال الفرزدق: خَواقُ حياضهن يسيل سيلا ... على الأعقاب تحسبه خضابا (¬1) وفي "العباب": حاضت المرأة تحيض حَيضا ومَحِيضا ومَحَاضا، فهي حائض وحائضة أيضا، والحَيضَةُ: المرَّة الواحدة، والحِيضة -بالكسر-: الاسم. وكذا قال في "الصحاح" و"الغريب"، عن الفراء، وأنشد: كحائضة يُزْنى بها [غير] (¬2) طاهرٍ ¬

_ (¬1) البيت في "اللسان" (مادة: حيض)، وقال: أراد خواقّ، فخفف. (¬2) في "الأصل، ك": وهي، وهو خطأ وصدره: رأيتُ خُتُون العام والعام قبله، وقد ورد البيت غير منسوب في "اللسان" (حيض) لكن بلفظ: "حُيون" وفي (ختن): كالمثبت هنا, وشرحه هناك، وورد أيضًا غير منسوب في تصحيح الفصيح لابن درستويه (414) و"شرح الفصيح" للزمخشري (2/ 589).

وفي "شرح الفصيح" للتدميري: سمي حيضا على التشبيه بالحيض، وهو ماء أحمر يخرج من شجر السَّمر فيقال في ذلك: حاضت السمرة، وفي شرحه (¬1) للهروي: حاضت المرأة وتحيضت، ودرَسَت، وعركت، وطَمِثَت. وقال الأزهري [دم] (¬2) يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها يخرج من قعره، يقال: حاضت محاضا. وفي "الغريبين" عن ابن عرفة: هو اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض، لاجتماع الماء فيه. وقال صاحب "مجمع الغرائب" هذا زلل ظاهر؛ لأن الحوض من الواو، والحيض من الياء، وأيضا فالحائض تسمى حائضا عند سيلان الدم، لا عند اجتماع الدم في رحمها، فإذا أخذُ الحوض من الحيض خطأ لفظا، فلست أدري كيف وقع. قلت: قال الأزهري: ومن هذا قيل للحوض حوض لأن الماء يحيضُ إليه، أي: يسيل: والعرب تُدخِل الواو على الياء، والياء على الواو؛ لأنهما من حيِّزٍ واحد، وهو الهواء. فعَرْفتَ من هذا أن نسبة صاحب "مجمع الغرائب" ابن عرفة إلى الخطأ غير صحيح، غير أنه كان ينبغي أن يقول: وبه سُمِّي الحوض؛ لأن الماء يحيض إليه، كما قاله الأزهري. وفي "العباب": قال الفراء: حاضت السَّمرةُ، إذا سال منها الدُّودِمَ، وهو شيء كالدم يسيل منها، وحاض وجاض وحاص وحاد بمعنى. وقال القاضي عياض: أصل الحيض السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال. وقال ابن حزم: الحيض هو الدم الأسود الخاثر الكريه الرائحة، وقيل: هو الدم الخارج بنفسه من فرج الممكن حملها، عادة". ¬

_ (¬1) يعني: شرح الفصيح وانظر: "شرح الفصيح" للزمخشري مقدمة المحقق (1/ 19). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من المجموع (2/ 342) نقلًا عن الأزهري.

قوله: "ولكنها ركضة" أي ولكن تلك الحيضة ركضة من الرحم؛ وأصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها، كما تُركض الدابةُ وتصاب بالرجل، والمعنى ها هنا: أن الرحم لما دفعت تلك الحيضة لبست بها على صاحبتها في أمر دينها وطهرها، حتى أنستها عادتها، وصار في التقدير كأنها ركضة من الشيطان، فكأنه قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك عادتها، فصار في التقدير كأنه ركضة. قوله: "لتنظر" بالجزم. قوله: "قدر قرئها" أي قدر حيضها الذي كانت تحيض. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: نا الوهبي، قال: نا محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن أم حبيبة بنت جحش كانت استحيضت في عهد النبي - عليه السلام - فأمرها النبي - عليه السلام - بالغُسل لكل صلاة، فإن كانت لتغتمس في المركن وهو مملوء ماء، ثم تخرج منه وإن الدم لعاليه، ثم تصلي". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى -ويقال: ابن محمَّد- الوهبي، ونسبته إلى وهب والد عبد الله بن وهب عن محمَّد بن إسحاق بن يسار المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه أبو داود (¬1): عن هناد بن السري، عن عبدة، عن ابن إسحاق ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن يزيد، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في روايته: "زينب بنت جحش"، موضع "أم حبيبة بنت جحش". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 78 رقم 292). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 237 رقم 26047).

واعلم أن المستحاضات على عهد رسول الله - عليه السلام - خمس: حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأختها أم حبيبة- وقيل: أم حبيب بغير هاء، وفاطمة بنت أبي حُبيش القرشية الأسدية، وسهلة بنت سهيل القرشية العامرية، وسَوْدَة بنت زمعة، زوج رسول الله - عليه السلام - وقد ذكر بعضهم أن زينب بنت جحش استحيضت، كما وقع في رواية أحمد، والمشهور خلافه، وإنما المستحاضتان أختاها. فإن قيل: كيف قلت: إن اسم أم حبيبة حمنة، ثم جعلت حمنة غير أم حبيبة؟! قلت: الأصح أن حمنة غير أم حبيبة: وأنهما أختان لزينب بنت جحش، قال ابن الأثير في باب كني النساء الصحابيات: أم حبيبة، وقيل: أم حبيب، والأول أكثر، وهي بنت جحش بن رئاب الأسدية، أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين. وكانت تستحاض. وأهل السِّير يقولون: إن المستحاضة حمنة. قال أبو عمر: الصحيح أنهما كانتا تستحاضان، وكانت حمنة زوج مصعب بن عمير، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له محمدا وعمران، ابنا طلحة، وأمها أُمَيْمَةُ بنت عبد المطلب، عمة رسول الله - عليه السلام -. وجعل ابن مندة حَمْنَةَ غير أم حبيبة، وقال: حمنة بنت جحش، ويقال: حبيبة بنت جحش، وجعل أبو نعيم أم حبيبة كنية حمنة، وجعلهما أبو عمر اثنتين، كما ذكرناه. وفي بعض شروح البخاري (¬1): وكان في زمنه - عليه السلام - جماعة من النساء مستحاضات، منهن أم حبيبة بنت جحش، وحمنة بنت جحش، ذكرها أبو داود، وسهلة بنت سهيل ذكرها أيضًا، وزينب بنت جحش ذكرها أيضا، وسودة بنت زمعة، ذكرها العلاء بن مسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، وزينب بنت أم سلمة ذكرها الإسماعيلي في جمعه لحديث يحيى بن أبي كثير، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (1/ 490 - 491) شرح الحديث رقم (311).

وأسماء بنت [مرثد] (¬1) الحارثية ذكرها البيهقي، وبادية بنت غيلان، ذكرها (ابن الأثير) (¬2). قوله: "فإن كانت" إن مخففة من المثقلة، أصلها فإنها كانت، واللام في "لتغتمس" للتأكيد. "والمركن" -بكسر الميم- الإجَّانة التي تُغسل فيها الثياب، والميم زائدة وهي التي تخص الآلات (¬3). قوله: "وهو مملوء" جملة اسمية حالية. و"ماء" نصب على التمييز. قوله: "لعاليه" اللام للتأكيد، وهو من علا الشيء يعلوه، والمعنى أن الدم قد علا الماء أي ركبه وغشيه، وضبطه بعضهم "لغالبه" بالغين المعجمة من الغَلَبة، يقال: غلبه غَلَبا وغَلَبَة، وفي لفظ: "كانت تجلس في المركن ثم تخرج وهي عالية الدم"، أي يعلو دمها الماء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بقول النبي - عليه السلام - المروي في هذه الآثار, وبفعل أم حبيبة بنت جحش ذلك على عهد النبي - عليه السلام -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جير، وقتادة؛ فإنهم قالوا: المستحاضة تغتسل لكل صلاة. ورُوي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأم حبيبة - رضي الله عنهم - وإليه ذهبت الظاهرية. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": مرشد -بالشين المعجمة بدلًا من الثاء- وهو تحريف، انظر "الاستيعاب" (4/ 1785)، و"الإصابة" (7/ 493). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "فتح الباري" (1/ 412) و"الإصابة" (7/ 529): ابن مندة. (¬3) راجع "لسان العرب": (ركن).

وقد روى ابن حزم الآثار المذكورة في "المحلى" (¬1): ثم قال: فهذه آثار في غاية الصحة، وقال بهذا جماعة من الصحابة، ورُوي عن ابن عمر في المستحاضة قال: "تغتسل لكل صلاة". وقد رواه أيضا: عكرمة ومجاهد عن ابن عباس، قال مجاهد عنه: "تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتغتسل للفجر غسلا". وقال أيضًا: وروينا من طريق ابن جريج، عن عطاء "تنتظر المستحاضة أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلا واحدا للظهر والعصر، تؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر قليلا، وكذلك المغرب والعشاء، وتغتسل للصبح غسلا". وروينا من طريق سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي مثل قول عطاء سواء بسواء، وروينا من طريق معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: "المستحاضة تغتسل لكل صلاة وتصلي". ص: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: أخبرنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان والأوزاعي وأبو مُعَيْد حفص بن غيلان، عن الزهري، قال: أخبرني عروة، عن عمرة، عن عائشة قالت: "استحيضت أم حبيبة ابنة جحش، فاستفتت النبي - عليه السلام - فقال لها رسول الله - عليه السلام -: إن هذه ليست بحيضة، ولكنه عِرْق فتقه إبليس، فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي، وإذا أقبلت فاتركي لها الصلاة. قالت عائشة - رضي الله عنها -: فكانت أم حبيبة تغتسل لكل صلاة، وكانت تغتسل أحيانا في مِرْكنٍ في حجرة أختها زينب وهي عند النبي - عليه السلام - حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء، فتصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما يمنعها ذلك من الصلاة". ش: هذا الحديث بطرقه واختلاف متنه بيان لقوله: "وبفعل أم حبيبة بنت جحش ذلك"، أي الاغتسال لكل صلاة "على عهد النبي - عليه السلام -" أي في زمنه وأيامه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 214) بتصرف واختصار.

والربيع بن سليمان بن داود الأعرج المصري، نسبته إلى جيزة مصر، بكسر الجيم وفتح الزاي المعجمة. وعبد الله بن يوسف التِّنيسي أحد مشايخ البخاري. والهيثم بن حُمَيْد -بضم الحاء- الغساني، أبو أحمد الدمشقي، وثَّقه ابن حبان وغيره، وروى له الأربعة. والنعمان بن المنذر الغساني أبو الوزير الدمشقي، ثقة لكنه يُرْمى بالقدر، روى له أبو داود والنسائي. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو. وأبو مُعَيْد -بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف- اسمه حفص بن غيلان الهَمْداني الدمشقي، وثقه ابن حبان وتكلم فيه غيره، وروى له النسائي وابن ماجه. والزهري محمَّد بن مسلم. وأخرجه النسائي (¬1): عن الربيع بن سليمان مثل الطحاوي ... إلي آخره، ولكن في رواية النسائي: أخبرني عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، بواو العطف بين عروة وعمرة، وفي رواية الطحاوي: أخبرني عروة عن عمرة بحرف "عن" بينهما، قال القاضي عياض: قال الأوزاعي: عن عروة، عن عمرة بغير واو، وقد رواه يحيى بن سعيد عن عروة وعمرة، وكذا قال ابن أبي ذئب. قلت: وتأتي الآن رواية الطحاوي أيضا من طريق ابن أبي ذئب عن عروة وعمرة، بواو العطف كما في رواية النسائي. قوله: "ليست بحيضة" بكسر الحاء كذا قال بعض الأساتذة الكبار، وقالوا: كل موضع فيه "أقبلت الحيضة" بفتح الحاء، وكل موضع فيه "ليست بالحيضة" بكسر الحاء. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 118 رقم 204).

قلت: قد وقع في كثير من النسخ المعتمدة كلاهما بالفتح. قوله "فتقه إبليس" من فتقت الشيء فتقا: شققته، وفتَّقته تفتيقا مثله، فتفتق وانفتق. ثم إن إسناد الفتق إلى إبليس يجوز أن يكون على وجه الحقيقة على معنى أن يشق موضع الدم من الرحم لتبتلي بكثرة الدم، ليلتبس عليها أمر دينها، ويجوز أن يكون على وجه المجاز على معنى أن الشيطان بذلك يجد طريقا إلى التلبيس عليها في أمر في دينها وطهرها وصلاتها، فيصير كأنه هو الذي أسال هذا الدم. قوله: "فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي" المراد من الإدبار: انقطاع الحيض، وقد وقع في رواية أبي داود: "وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" ولكنه مشكل في ظاهره؛ لأنه لم يذكر الغسل، ولابد بعد انقضاء الحيض من الغسل. والجواب عنه: أنه وإن لم يذكره في هذه الرواية فقد ذكر في رواية غيره. وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار وانقضاء أيام الحيض والاغتسال، وجعل قوله: "واغسلي عنك الدم" محمولا على دم يأتي بعد الغسل، والجواب الأول أصح. فإن قيل: ما علامة إدبار الحيض وانقطاعه والدخول في الطهر؟ قلت: أما عند أبي حنيفة وأصحابه: الزمان والعادة هو الفيصل بينهما، فإذا أضَّلت عادتها تَحرّت، وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل. وأما عند الشافعي وأصحابه اختلاف الألوان هو الفيصل، فالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر إذا جعلناهما حيضا؛ فتكون حائضا في أيام القوي، مستحاضة في أيام الضعيف، والتمييز عنده بثلاثة شروط: أحدها: أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يوما. والثاني: أن لا ينقص عن يوم وليلة ليمكن جعله حيضا.

والثالث: أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوما ليمكن جعله طهرا بين الحيضتين. وبه قال مالك وأحمد. وقال النووي: علامة انقطاع الحيض والحصول في الطهر: أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة، وسواء خرجت رطوبة بيضاء، أم لم يخرج شيء أصلا. قال البيهقي وابن الصَّبَاغ: التَرِيَّةُ رطوبة خَفيَّة (¬1) لا صفرة فيها ولا كدرة، تكون على القطنة أثر لا لون، وهذا يكون بعد انقطاع الحيض، والتَّرِيّة بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الراء وبعدها ياء آخر الحروف مشددة. ثم اعلم أنها إذا مضى زمن حيضها وجب عليها أن تغتسل في الحال لأول صلاة تدركها, ولا يجوز لها أن تترك صلاة أو صومًا، ويكون حكمها حكم الطاهرات ولا تستظهر بشيء أصلا، وبه قال الشافعي. وعن مالك ثلاث روايات: الأولى: تستظهر ثلاثة أيام، وما بعد ذلك استحاضة. والثانية: تترك الصلاة إلى انتهاء خمسة عشر يوما، وهي أكثر مدة الحيض عنده. والثالثة: كمذهبنا. ومن فوائد هذا الحديث: جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة وأحداث النساء. وجواز استماع صوتها عند الحاجة. ومنها: نهيُ المستحاضة عن الصلاة في زمن الحيض، وهو نهي تحريم ويقتضي فساد الصلاة هنا بإجماع المسلمين، ويستوي فيها الفرض والنفل، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وسجدة الشكر. ومنها: أنها بعد غُسْلِهَا تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، وفي وجه للشافعية أنها لا تصلي النافلة أصلا. ¬

_ (¬1) قال صاحب "الصحاح": التَّريَّة: الشيء الخفي اليسير من الصفرة والكدرة، وانظر "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 22).

وقال النووي: والمذهب أنها لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية، وحُكي ذلك عن عروة والثوري وأحمد وأبي ثور. وقال أبو حنيفة: طهارتها مقدرة بالوقت فتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت. وقال مالك وربيعة وداود: الاستحاضة لا تنقض الوضوء، فإذا تطهرت فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل إلا أن تُحْدث بغير الاستحاضة. ولا يصح وضوءها الفريضة قبل دخول وقتها عند الشافعي، ويصح عند أبي حنيفة. ووطء المستحاضة جائز في حال جريان الدم عند جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر المزني، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وعن عائشة: أنه لا يأتيها زوجها، وبه قال النخعي، والحكم، وسليمان بن يسار، والزهري، والشعبي، وابن علية، وكرهه ابن سيرين. وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها. وفي رواية: لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف زوجها العنت. وعن منصور: تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمس المصحف. ومنها: أن فيه دليلا على نجاسة الدم، وأن الصلاة تجب بمجرد الانقطاع. ص: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: أنا أسد، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة: "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت النبي - عليه السلام - عن ذلك فأمرها أن تغتسل، وقال: إن هذه عرق وليست بحيضة. فكانت هي تغتسل لكل صلاة".

ش: هذا طريق آخر عن الربيع، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري .. إلى آخره، وهذا فيه عن عروة وعمرة بواو العطف. وكذا رواه أحمد في مسنده (¬1): عن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة وعمرة بنة عبد الرحمن، عن عائشة ... إلى آخره نحوه سواء، وفيه: "وكانت امرأة عبد الرحمن بن عوف". وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن إسحاق المسيِّبي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة: "أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فأمرها رسول الله - عليه السلام - أن تغتسل، وكانت تغتسل لكل صلاة". وهذا كما ترى بكلمة "عن" بين عروة وعمرة دون حرف العطف. قوله: "إنما هذا عرق" أي دم عرق لأن الدم ليس بعرق، فحذف المضاف توسعا؛ يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العرق، فاتصل الدم، وليس بدم الحيض، الذي يدفعه الرحم لميقات معلوم. وقد قلنا: إن الاستحاضة جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه، ولكنه يخرج من عِرْق يقال له العَاذِل -بالعين المهملة والذال المعجمة المكسورة- بخلاف دم الحيض فإنه يخرج من قعر الرحم. وقال ابن سيده: في بعض الحديث "تلك" (¬3) عاذل [تغذو] (¬4) يعني: تسيل وربما سُمي ذلك العرق عاذرا بفتح الراء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 141 رقم 25138). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 78 رقم 291). (¬3) أنث اسم الإشارة، والفعل "تسيل" على معنى: العِرْقةُ، بمعنى: العرق، انظر: "لسان العرب" (عزل). (¬4) في "الأصل، ك": تغدر، والتصويب من "اللسان" (عزل) وانظر "النهاية" (3/ 200).

وفي "المغيث": العاذر عرق الاستحاضة والعاذرة المستحاضة، قاله اللحياني، وقيل: إنها أقيمت مقام المفعول؛ لأنها معذورة في ترك الصلاة، وفي رواية عن ابن عباس (¬1) وسئل عن الاستحاضة: "إنه عرق عاند"، أراد أنه كالإنسان يعاند عن القصد. قوله: "فكانت تغتسل لكل صلاة" من كلام عائشة - رضي الله عنها - وبهذا احتج أهل المقالة الأولى على وجوب الاغتسال على المستحاضة عند كل صلاة؛ وذلك لأنها قد فعلت ذلك، ولم ينكر عليها النبي - عليه السلام -. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة .. مثله. قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله - عليه السلام - أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة. ش: هذا طريق آخر على شرط مسلم، وليس فيه "عمرة" بين عروة وعائشة. وأخرجه مسلم (¬2): عن قتيبة بن سعيد، عن ليث، وعن محمد بن رمح، عن ليث ... إلى آخره نحوه. وقال ابن عينية: قوله "وكانت تغتسل عند كل صلاة" كان تطوعا منها غير ما أمرت به، وذلك واسع لها. وقال الشافعي: ما أمرها رسول الله - عليه السلام - إلا أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 159 رقم 51) ورى من حديث عائشة أيضًا كما عند النسائي في "المجتبى" (1/ 122 رقم 213)، (1/ 184 رقم 360) وأحمد في "مسنده" (6/ 172 رقم 25430). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 263 رقم 334).

ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: أنا محمَّد بن إدريس الشافعي، قال: أنا إبراهيم بن سعد، سمع ابن هشام، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة مثله، ولم يذكر قول الليث. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، وليس فيه ذكر عروة بن الزبير. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬1): عن أبي إسحاق الفقيه، عن أبي شافع بن محمَّد، عن الطحاوي، عن المزني، عن الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، أنه سمع ابن شهاب يحدث، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنهما -: "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستفتته فيه، فقالت عائشة: فقال لها رسول الله - عليه السلام -: ليست تلك بالحيضة، وإنما ذلك عرق، فاغتسلي وصلي، قالت عائشة: فكانت تغتسل لكل صلاة، وكانت تجلس في مركن فتعلو الماء حمرةُ الدم، ثم تخرج وتصلي". رواه مسلم في الصحيح (¬2): عن محمَّد بن جعفر بن زياد، عن إبراهيم بن سعد. وأخرجه (¬3) من حديث عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬4): من حديث ابن أبي ذئب، عن الزهري عنهما جميعا. وأخرجه مسلم (¬5): من حديث الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة. وقال القاضي عياض: "فكانت تغتسل لكل صلاة" عند مسلم وفي حديث قتيبة، عن الليث، عن الزهري. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 376 رقم 481). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 364 رقم 334). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 363 رقم 334). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 124 رقم 321). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 363 رقم 334).

وفي "الموطأ" (¬1): "فكانت تغتسل وتصلي". قال الليث في كتاب مسلم: لم يقل ابن شهاب: إن النبي - عليه السلام - وما في الموطأ يحتمل أنها تغتسل عند انقطاع الدم، أو عند إدبار دم الحيضة، وتقادم الاستحاضة، أو لكل صلاة كما قال في كتاب مسلم. وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث عن الزهري فيه: "فأمرها رسول الله - عليه السلام - أن تغتسل لكل صلاة" ولم يُتَّابع ابن إسحاق أصحابُ الزهري على هذا، وحكى الطحاوي أنه منسوخ بحديث فاطمة، على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا إسماعيل، قال: أنا الشافعي، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة مثله. ش: هذا طريق آخر عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام الشافعي، عن سفيان بن عُيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمرة، عن عائشة. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬2): أنا أبو زكريا وأبو بكر، قالا: أنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا ابن عيينة، قال: أخبرني الزهري، عن عمرة، عن عائشة: "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - عليه السلام - فقال: إنما هو عرق وليست بالحيضة، فأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة، وتجلس في المركن فيعلو الدم". رواه مسلم في الصحيح (¬3): عن محمَّد بن المثنى، عن سفيان بن عيينة. وأعلم أن المراد من قول الشافعي: أنا سفيان هو ابن عيينة كما صرحنا به، وليس هو الثوري، ولهذا صرح به البيهقي في روايته، والشافعي لم يأخذ من الثوري شيئا ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 62 رقم 137) من حديث عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن زينب بنت جحش. (¬2) "المعرفة" (1/ 375 رقم 480). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 263 رقم 334).

لأنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمر الشافعي حينئذ إحدى عشرة سنة، وتوفي سفيان بن عيينة بمكة يوم السبت غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة وكان عمر الشافعي حينئذ ثمانية وأربعين سنة. ص: قالوا فهذه أم حبيبة قد كانت تفعل هذا في عهد رسول الله - عليه السلام - لأمر النبي - عليه السلام - إياها بالغسل، فكان ذلك عندها على الغسل لكل صلاة. ش: أي قال هؤلاء القوم المذكورون: فهذه أم حبيبة - رضي الله عنها - قد كانت تغتسل لكل صلاة في زمن رسول الله - عليه السلام - وذلك لأن النبي - عليه السلام - أمرها بالغسل، ففهمت من ذلك الغسل لكل صلاة، وأنها كانت تغتسل لكل صلاة، ولم ينكر عليها النبي - عليه السلام - فعلم أن الفرض على المستحاضة أن تغتسل عند كل صلاة. ص: وقد قال ذلك علي وابن عباس - رضي الله عنهم - من بعد رسول الله - عليه السلام - وأفتيا بذلك: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخصيب بن ناصح، قال: أنا همام، عن قتادة، عن أبي حسان، عن سعيد بن جبير: "أن امرأة أتت ابن عباس بكتاب بعد ما ذهب بصرة، فدفعه إلي ابنه فتَرْترَ فيه، فدفعه إليَّ فقرأته، فقال لابنه: ألا هَذْرَمْتَه كما هَذْرمَه الغلام المصري. فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من امرأة من المسلمين، أنها استحيضت فاستفتت عليّا - رضي الله عنه - فأمرها أن تغتسل وتصلي، فقال: اللهم لا أعلم القول إلا قول علي- ثلاث مرات". قال قتادة: وأخبرني عزرةُ، عن سعيد: "أنه قيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق علينا الغسل لكل صلاة. فقال: لو شاء الله لابتلاها بما هو أشد منه". ش: أي وقد قال بوجوب الاغتسال عليها عند كل صلاة: علي بن أبي طالب وعبد الله ابن عباس من بعد رسول الله - عليه السلام - وأفتيا بذلك، ولو لم يعلما بذلك في زمن النبي - عليه السلام - لما كانا أفتيا بعده، ثم بين الطحاوي فتواهما بقوله: حدثنا سليمان بن شعيب .. إلى آخره.

ورجاله ثقات تكرر ذكرهم. وأبو حسان: الأعرج، وقيل: الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله البصري، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: "أن امرأة من أهل الكوفة كتبت إلى ابن عباس بكتاب، فدفعه إلى ابنه ليقرأه فتتعتع فيه، فدفعه إليَّ فقرأته، فقال ابن عباس لابنه: أمَا لو هَذْرَمْتَها كما هَذْرمها الغلام المصري. فإذا في الكتاب: إني امرأة مستحاضة أصابني بلاء وضُر، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سئل عن ذلك فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر. قال: فقيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق عليها. قال: لو شاء الله لابتلاها بأشد من ذلك". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) مختصرًا: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءت امرأة بكتاب فَقَرَأْتُهُ، فإذا فيه: إني امرأة مستحاضة، وإن عليّا قال: تغتسل لكل صلاة. فقال ابن عباس: ما أجد ما أجد إلا ما قال علي - رضي الله عنه -". قوله "فَتْرتَر" من التَرْتَرة وهي التحريك، والمعنى أنه حرك لسانه ولم يُفْهم شيئا، وكذلك معنى التلتلة، وفي حديث ابن مسعود (¬3) "تَرْتِرُوه ومَزْمِزُوه"، أي: حركوه ليُسْتَنكه، وفي رواية "تلتلوه" ومعنى الكل التحريك (¬4)، ومعنى "فتعتع" في رواية عبد الرزاق: تردد في قراءته، وتبلد فيها لسانه، ومعناه قريب من الأول. قوله: "ألا هَذرَمْته" من الهذرمة، وهي السرعة في الكلام والمشي أيضًا، والمعنى: هلا أسرعت في قراءتك كما أسرع الغلام المصري، أراد به سعيد بن جبير، وأراد ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 305 رقم 1173). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 119 رقم 1361). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 109 رقم 8572). (¬4) انظر: "النهاية" (1/ 186).

بالمصري: الكوفي, لأن كوفة وبصرة يقال لهما المصران، ولأن مصرا في أصل الوضع واحد الأمصار، و"إلا" كلمة تحضيض تختص بالجمل الفعلية الخبرية، كسائر أدوات التحضيض. قوله: "فقال: اللهم لا أعلم القول إلا ما قال عليّ" اعلم أن هذه الكلمة تستعمل على ثلاثة أنحاء: أحدها: للنداء المحض، وهو ظاهر. والثاني: للإيذان بندرة المستثنى، كقول الحريري: اللهم إلا أن [تِقِدَ نار] (¬1) الجوع، كأنه يناديه مستيقنا دفعه أو [حصوله] (¬2). الثالث: ليدل على تيقن المجيب [في الجواب] (¬3) المقترن هو به، كقولك لمن قال: أزيد قائم؟ اللهم نعم، أولًا، كأنه يناديه مستشهدا على ما قال من الجواب، وها هنا من القبيل الثالث. قوله: "ثلاث مرات" أي قال ابن عباس قوله ذلك ثلاث مرات. قوله: "وأخبرني عزرة" هو عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي الكوفي الأعور، وهو من رجال صحيح مسلم. قوله: "وإنه يشق" أي وإن الشأن يُثقل علينا الغسل. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا الخصيب، قال: أخبرني يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير: "أن امرأة من أهل الكوفة استُحيضت، فكتبت إلى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - تناشدهم الله، وتقول: ¬

_ (¬1) تقد نار: رسمت في "الأصل": تعد واو، والمثبت من "مقامات الحريري"، المقامة الخامسة: ص (34) ط الحلبي. (¬2) تكررت اللام والهاء (له) في "الأصل، ك". (¬3) في "الأصل، ك": في جواب، والمثبت من "عمدة القاري" (2/ 21) وقد ذكر الأشموني المعاني الثلاثة في "شرح الألفية" (3/ 147) وعزاها إلى "النهاية"، لكن لم أجدها في النسخة المطبوعة، فليحرر.

إني امرأة مسلمة أصابني بلاء، وإنما استُحِضْتُ منذ سنين فما [ترون] (¬1) ذلك؟ فكان أول من وقع الكتاب في يده ابن الزبير فقال: ما أعلم لها إلا أن تدع قرأها وتغتسل عند كل صلاة وتصلي، فتتابعوا على ذلك". ش: الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- هو ابن ناصح. ويزيد بن إبراهيم التُسْتُري، أبو سعيد البصري، روى له الجماعة. وأبو الزبير هو محمَّد بن مسلم بن تَدْرَس المكي، روى له الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): مقتصرا على ابن الزبير، فقال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أن سعيد بن جبير أخبره قال: "أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير غلاما لها -أو مولى لها-: إني مبتلاة، لم أصل منذ كذا وكذا -قال: حسبت أنه قال سنتين- وإني أنشدك الله ألا ما بَيَّنْتَ لي في ديني. قال: وكتبت إليه: إني أُفتِيتُ أن أغتسل لكل صلاة، فقال ابن الزبير: لا أجد لها إلا ذلك". قوله "تناشدهم الله" بنصب لفظة "الله" معناه تسألهم بالله وتقسم عليهم، يقال: نَشَدتُك اللهَ، وأنَشَدُك اللهَ، وباللهِ، وناشدتك الله وبالله، أي سألتك وأقسمت عليك. ونشدتُه نِشْدة ونُشدانا ومنشَادة. وتعديته إلى مفعولين؛ إما لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما قالوا: دعوت زيدا وبزيد، وإما لأنهم ضَمَّنُوه معنى ذكرت. فأما أنشدتك بالله فخطأ. قوله "ابن الزبير" مرفوع لأنه اسم كان في قوله: "فكان أول من وقع" و"أول من وقع" منصوب على أنه خبر [مقدم] (¬3). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "تروا من"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (1/ 100)، "والتمهيد" لابن عبد البر (16/ 91). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 308 رقم 1179). (¬3) في "الأصل، ك": مقدما, ولعل المثبت هو الصواب.

قوله "إلا أن تدع قرأها" أي إلا أن تترك أيام قرئها، أي حيضها. قوله: [فتتابعوا] (¬1) أي [فتعاقبوا] في الجواب (¬2). "على ذلك" أي كل وجوب الاغتسال عليها عند كل صلاة. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: نا حماد، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس خاصة، مثله. غير أنه قال: "تدع الصلاة أيام حيضها" فجعل أهل هذه المقالة على المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة، لما ذكرنا من هذه الآثار. ش: هذا طريق آخر وهو أيضا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن سعيد بن جبير. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع سعيد بن جبير يقول: "كتبت مستحاضة إلى ابن عباس: أن قلت إني أدع الصلاة قدر أقرائي، وأن أغتسل لكل صلاة. قال ابن عباس: ما أجد لها إلا ما في كتابها". قوله: "فجعل أهل هذه المقالة" أشار به إلى قوله: "فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل لك صلاة". وأشار بقوله: "من هذه الآثار" إلى الآثار المذكورة من أول الباب إلى هنا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الذي يجب عليها: أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، فتصلي به الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك" بالياء المثناة من تحتها: فتتايعوا, ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في المتن؛ فالتتايع لا يكون إلا في الشر، كما قال الأزهري وغيره انظر "لسان العرب". (¬2) في "الأصل، ك" فتعاقدوا, ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 308 رقم 1178).

وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا تصليهما به , فتؤخر الأولى منهما وتُقدِّم الآخرة، كما فعلت في الظهر والعصر، وتغتسل للصبح غسلا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومنصور بن المعتمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -، فإنهم ذهبوا إلى ما ذكره الطحاوي عنهم، ورُوِي ذلك أيضًا عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم -. ص: وذهبوا في ذلك إلى ما حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا نعيم بن حماد، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمَّد، عن زينب بنت جحش قالت: "سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها مستحاضة، فقال: لتجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل فتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصلي، وتغتسل للفجر". ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون في ذلك، أي فيما ذهبوا إليه من الذي بيَّنه الطحاوي، إلى ما حدثنا .. وهو حديث زينب بنت جحش. وإسناده منقطع؛ لأن القاسم لم يدرك زينب أصلا، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. ونعيم بن حماد المروزي الأعور مختلف فيه، وإن كان قد أخرج له الجماعة غير النسائي، فإنه كان يضعفه جدّا وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك، وزينب بنت جحش الأسدية أم المؤمنين - رضي الله عنها - وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) عن محمَّد بن حاتم المروزي، عن حسان بن موسى وسويد بن نصر. وعن يحيى بن عثمان، عن نعيم بن حماد، قالوا: أنا ابن المبارك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 56 رقم 145).

قوله: "سألت امرأة" قيل: إنها سهلة بنت سُهَيل، وقيل: هي بادنة بنت غيلان، وقيل: هي أم حبيبة. قوله: "أيام أقرائها" أي أيام حيضها وهو جمع قرء، وقال ابن سيده: هو الحيض، والطهر ضِدُّ، وذلك أن القرء: الوقت، فقد يكون للحيض والطهر، والجمع أقراء وقروء وأَقْرُؤ، الأخيرة عن اللحياني، ولم يعرف سيبويه أقراء ولا أُقْرُءا (¬1)، استغنوا عنه بفُعول، وفي التنزيل: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) أراد ثلاثة قروء من قروء (¬3): وأقرأت المرأة، وهي مقرئ، حاضت وطهرت، وقرأت إذا رأت الدم، والمُقرَّأَة التي يُنْظَر بها انقضاء أقرائها. وفي "المنتهى" لأبي المعالي: قال تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) وهي أوقات الحيض أو الطهر؛ أراد به الوقت لأن الحيض مؤنثه، ويجوز أنه أراد الطهر، والوقت أصح، قال أهل العراق: هي الحيض. وقال أهل المدينة: هي الطهر، والأصل فيه الوقت على ما بَيَّنَّا، وأقرأت المرأة: حاضت، قيل: قَرَتْ -بلا ألف- يقال: قرت حيضة أو حيضتين، وقيل: أقرأت: انتقلت من وقت إلى وقت، أي من وقت الحيض إلى وقت الطهر، ومن وقت الطهر إلى وقت الحيض. وقال بعضهم: القرء انفصال الطهر أو الحيض. وقيل: ما بين الحيضتين. قلت: وفيه حُجة لأبي حنيفة على الشافعي؛ حيث حمل القَرْء على الحيض في باب العِدَّة، والشافعيُّ على الطهر؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يكون معنى قوله: "تجلس أيام أقرائها" أيام طهرها، وإنما المعنى أيام حيضها. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": أَقْرءةً، وهو تحريف، والتصويب من كتاب سيبويه (3/ 575)، و"اللسان" (قرأ). (¬2) سورة البقرة، آية: [228]. (¬3) في "الأصل، ك": من قُرْء، والتصويب من "اللسان" وانظر: "الكتاب" (3/ 569، 575) و"المقتضب" للمبرد (2/ 156 - 157).

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت من المسلمين، فسألوا النبي - عليه السلام - ... " ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: "نحو أيامها". ش: إسناده منقطع, لأن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - لم يدرك النبي - عليه السلام -. وأخرجه أبو داود تعليقا (¬1): وقال: رواه ابن عُيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت، فسألت النبي - عليه السلام -، فأمرها ... "، بمعناه. قلت: يعني بمعنى الحديث الذي قبله، وهو حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن سهلة بنت سهيل استُحيضت، فأتت النبي - عليه السلام - فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح". وأخرجه أبو داود (¬2): عن عبد العزيز بن يحيى، عن محمد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. ويستفاد من هذا الحديث: أن هذه المرأة كانت مُعْتَادة مُمَيِّزة؛ لأنه قال: فيه "قدر أيامها" أي لتجلس قدر أيامها المعتادة في الحيض، لا تصوم ولا تصلي. ثم إذا خرجت أيامها تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر، كما مر بيانه آنفا. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: أنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن امرأة استحيضت على عهد النبي - عليه السلام - فأمرت .. " ثم ذكره نحوه، غير أنه لم يذكر تركها الصلاة أيام أقرائها ولا أيام حيضها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 79) عقب الحديث رقم (295). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 79 رقم 295).

ش: إسناده صحيح، وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "استحيضت امرأة على عهد رسول الله - عليه السلام - فأمرت أن تُعَجِّل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة الصبح. فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي - عليه السلام -؟ فقال: لا أحدثك عن النبي - عليه السلام - بشيء". وأخرجه النسائي (¬2): وقال: أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله - عليه السلام - قيل لها: إنه عرق عاند، وأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا واحدا". وذكر الدارمي في "سننه" (¬3): أن المرأة المذكورة هي بادية بنت غيلان الثقفية، وقال: أخبرنا أحمد بن خالد، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم: "أنها كانت بادية بنت غيلان الثقفية" وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إنما هي سهلة بنت سهيل بن عمرو، واستحيضت، وأن رسول الله - عليه السلام - كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما (¬4) جهدها ذلك، أمر أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح". أخبرنا أحمد بن خالد، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن سعد بن إبراهيم، قال إنما جاء اختلافهن, لأنهن كنا عند عبد الرحمن بن عوف، فقال بعضهم: هي أم حبيبة، وقال بعضهم: هي بادنة، وقال بعضهم: هي سهلة بنت سهل. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 79 رقم 294). (¬2) "المجتبى" (1/ 122 رقم 213). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 222 رقم 784). (¬4) سقطت ورقة من ها هنا ووضعت خطأ برقم 175 من المخطوط، فأعدتها إلى موضعها، وتكررت كلمة "فلما" في أول الصفحة.

وقال ابن الأثير: في كتاب "الصحابة" في حرف الباء الموحدة: بادنة (¬1) بنت غيلان الثقفية، روى القاسم بن محمَّد، عن عائشة: "أن بادنة بنت غيلان أتت النبي - عليه السلام - فقالت: إني لا أقدر على الطهر، أفأترك الصلاة؟ فقال: ليست تلك بالحيضة، إنما ذلك عرق، فإذا ذهب قرء الحيض فارتفعي عن الدم، ثم اغتسلي وصلي". و [بادنة هذه] (¬2) هي التي قال عنها: هيت المخنث: "تقبل بأربع وتدبر بثمان"، أخرجها ابن منده وأبو نعيم (¬3). قوله: "أُستُحيضت" بضم الهمزة والتاء، معناه: استمر بها الدم. قوله: "عرق عاند"، بالنون: من العِناد، شُبِّه به لكثرة ما يخرج منه على خلاف عادته، وقيل: العاند الذي لا يرقأ، وقيل: العاند السائر. ومما يستفاد منه: وجوب الغسل ثلاث مرات في كل يوم وليلة، ثم إن النبي - عليه السلام - إنما أمرها بتعجيل العصر وتأخير الظهر، والاغتسال لهما غسلا واحدا، لما رأى أن الأمر قد طال عليها، وقد جَهَدَها الاغتسال لكل صلاة، ورخص لها في الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، كالمسافر الذي رخص له الجمع بين الصلاتين، على مذهب من يرى ذلك. وفيه حجة لمن رأى للمتيمم أن يجمع بين صلاتي فرضٍ بتيمم واحد؛ لأن علتهما واحدة، وهي الضرورة. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحِمَّانيُّ، قال: نا خالد بن عبد الله، عن سهيل، عن الزهري، عن عروة، عن أسماء بنت عُمَيْس، قالت: "قلت: يا رسول الله، إن فاطمة ابنة أبي حُبَيش أُستُحِيضَتْ منذ كذا وكذا فلم تُصلِّ، فقال: ¬

_ (¬1) الذي في "أسد الغابة" لابن الأثير: بادية، بالياء، آخر الحروف. (¬2) في "الأصل، ك": "هذه بادنة". (¬3) أي في الصحابة، وانظر "الإصابة": (7/ 529).

سبحان الله، هذا من الشيطان، لتَجْلِس في مِرْكَنٍ، فإذا رأت صُفْرَة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، ثم تغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتتوضأ فيما بين ذلك". فقوله: "فيما بين ذلك" يحتمل: تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يُوجَبُ بها نقضُ الطهارات، ويحتمل: تتوضأ للصبح، فليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة وسفيان. قالوا: فهذه الآثار قد رويت عن النبي - عليه السلام - كما ذكرنا في جمع الظهر والعصر بغسل واحد، فبهذا نأخذ، وهي أولى من الآثار الأُوَل التي فيها ذكر الأمر بالغسل لكل صلاة؛ لأنه قد رُوي ما يدل على أن هذا هو ناسخ لذلك، فذكروا ما: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت، وإن النبي - عليه السلام - كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح". قالوا: فدلَّ ذلك على أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي في الآثار الأُوَل, لأنه إنما أمر به بعد ذلك، فصار القول به أولى من القول بالآثار الأُوَل. ش: حديث أسماء بنت عُمَيْس من جملة ما احتجت به أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من ثلاث اغتسالات: غسل للظهر والعصر، وغسل للمغرب والعشاء، وغسل للصبح. ورجال إسناده ثقات، إلا أن يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحِمّاني فيه كلام كثير؛ ضعفه ناس ووثقه آخرون، ونسبته إلى حمان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم- قبيلة من تميم.

وأخرجه أبو داود (¬1): نا وهب بن بقية، قال: نا خالد، عن سهيل بن أبي صالح، عن الزهري ... إلى آخره نحوه سواء، إلا أن في لفظه: "فإذا رأت صَفَارة" وزيادة قوله: "وتغتسل للفجر غسلا"، وبعده قوله: "وتتوضأ فيما بين ذلك" كما في رواية الطحاوي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن محمود بن محمَّد الواسطي، عن وهب بن بقية، قال: نا خالد ... والباقي مثل رواية أبي داود سواء. وأخرجه [الدارقطني] (¬3) في "سننه": نا محمَّد بن مخلد، نا محمَّد بن عبد الواحد ابن مسلم الصيرفي، ثنا علي بن عاصم، عن سهيل بن أبي صالح، أخبرني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس، قالت: "قلت: يا رسول الله، فاطمة بنت أبي حبيش لم تصل منذ كذا وكذا، قال: سبحان الله، إنما ذلك عرق -فذكر كلمة بعدها -أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، وتؤخر من الظهر وتعجل من العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا، وتؤخر من المغرب وتعجل من العشاء وتغتسل لهما غسلا وتصلي" وهذا ليس في روايته: "وتغتسل للفجر" مثل رواية الطحاوي، ولا فيها: "وتتوضأ فيما بين ذلك" كما هو في رواية الطحاوي، وأبي داود. قوله: "منذ كذا وكذا" منذُ: مبني على الضم، كما أن "منذ" مبني على السكون، وكل منهما يكون حرف جر فيجر ما بعده، ويجري مجرى "في" ولا يدخل -حينئذ- إلا على زمان أنت فيه تقول: "ما رأيته منذ الليلة" وتكون اسما فترفع ما بعده على التاريخ أو على التوقيت، فنقول في التاريخ: "ما رأيته منذ يوم الجمعة" أي أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وفي التوقيت: "ما رأيته منذ سنة" أي أمَدُ ذلك سنة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 79 رقم 296). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 139 رقم 370). (¬3) في "الأصل، ك": البيهقي، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب الدارقطني في "السنن" (1/ 216 رقم 54) عن محمَّد بن مخلد به.

و"كذا" عبارة عن العهد المبهم. قوله: "سبحان الله" تعجب واستبعاد لفعلها ذلك. قوله: "هذا من الشيطان" له معنياه: الأول: مجازي، وهو أنه أنساها أيام حيضها حتى حصل لها تَلَبُّس في أمر دينها ووقت طهرها وصلاتها. والثاني: حقيقي بمعنى أنه ضَرَبها حتى فتق منها عرق الاستحاضة. قوله: "في مِرْكَنٍ" بكسر الميم وهي الإجانة. ويُستفاد منه حكمان: الأول: وجوب تكرار الغسل كما تقدم، قبل هذا. والثاني: فيه حجة من اعتبر التمييز باللون؛ لأن رؤيتها الصفرة دليل على انقطاع دم الحيض. قوله: "فقوله له فيما بين ذلك ... " إلى آخره كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقريره، أن يقال: إن حديث أسماء بنت عميس الذي احتججتم به مخالف لأحاديث شعبة والثوري وابن عيينة التي احتججتم بها أولا من وجهين: الأول: أنه ليس فيها "وتتوضأ فيما بين ذلك". والثاني: فيها "وتغتسل للفجر"، وليس هذا في حديث أسماء بنت عميس. فأجاب عنه بقوله: "وتتوضأ فيما بين ذلك، يحتمل أن يكون المراد أنها تتوضأ لما يكون بها من الأحداث التي يُوجب بها نقض الطهارات" يعني: إذا أرادت أن تصلي فيما بين الصلوات صلاة أخرى تتوضأ ولا تكتفي بالاغتسال؛ لأنه للفرائض المختصة بالأوقات الخمس، ويحتمل أن يكون المراد: أنها تتوضأ لصلاة الصبح، فعلى كلا التقديرين، ليس فيه دليل على خلاف ما تقدمه من حديث شعبة الذي رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن امرأة استحيضت". ولا من

حديث سفيان وسفيان، وأراد بالأول: سفيان الثوري، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمَّد، عن زينب ابنة جحش. وبالثاني: سفيان بن عُيينة، وحديثه: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن امرأة استحيضت ... " الحديث. قوله: "فهذه الآثار" أراد بها الآثار التي رواها شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عُيينة والزهري، عن عروة. قوله: "فبهذا نأخذ" أي: "بما في هذه الآثار, وهذا حكايته عن أهل المقالة الثانية، ثم بيَّنَ وجه الأخذ بهذه الآثار بقوله: "وهي أولى من الآثار الأُوَلِ" وهي التي احتجت بها أهل المقالة الأولى التي فيها وجوب الغسل لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ وذلك لأنه قد رُوي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على أن هذا ناسخ لتلك الآثار. ثم أشار إلى الحديث الناسخ لتلك الأحاديث بقوله: "فذكروا ما حدثنا ابن أبي داود .. " إلى آخره، وهو حديث سهلة بنت سهيل. ثم بين وجه النسخ بقوله: "لأنه إنما أمر به بعد ذلك" أي: لأن النبي - عليه السلام - أمر بما في حديث سهلة بنت سهيل بعد أن أمر بما في الأحاديث الأوُل، ولاشك أن مثل هذا نسخ؛ لأن النسخ هو رفع الحكم الأول، فلما أمر أولا بالاغتسال لكل صلاة من الصلوات الخمس، ثم أمر بعد ذلك أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، وبين المغرب والعشاء بغسل واحد، وتصلي الصبح بغسل واحد؛ دل أن هذا رَفعَ حكم الأول. ورجال هذا الحديث ثقات. والوهبي هو أحمد بن خالد بن محمَّد، أحد مشايخ البخاري، نسبه إلى والد عبد الله بن وهب.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي - عليه السلام - فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصُّبح". قوله "فلما جَهِدَهَا" بكسر الهاء، أي فلما شق عليها الاغتسال، من: جَهِده الشيء -بكسر الهاء- جَهدا -بالفتح- والجُهد -بالضم- الطاقة، وقيل: هما لغتان في الوِسْع والطاقة. ص: وقالوا: وقد رُوي ذلك أيضا عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم - فذكروا ما حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أبو معمر، قال: نا عبد الوارث، قال: نا محمَّد بن جحادة، عن إسماعيل بن رجاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "جاءته امرأة مستحاضة تسأله، لم يفتها وقال لها: سلي [غيري] (¬2) قال: فأتت ابن عمر - رضي الله عنهما - فسألته، فقال لها: لا تصلي ما رأيت الدم. فرجعت إلى ابن عباس فأخبرته، فقال رحمه الله: إن كاد ليُكفِرْك، قال: ثم سألت علي بن أبي طالب فقال: تلك ركزة من الشيطان -أو قرحة في الرحم- اغتسلي عند كل صلاتين مرَّة وصلي. قال: فَلَقِيَت ابن عباس بعد فسَألتْه، فقال: ما أجد لك إلا ما قال علي - رضي الله عنه -. حدثنا ابن خزيمة، قال: أنا الحجاج، قال: أنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: "قيل لابن عباس: إن أرضنا أرض باردة. قال: تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل للفجر غسلا". فذهب هؤلاء إلى الآثار التي ذكرنا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 79 رقم 295). (¬2) سقطت من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (1/ 101).

ش: أي قال أهل المقالة الثانية أيضا: روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس مثل ما ذهبنا إليه، فذكروا ما رواه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المقعد البصري، شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن محمد بن جُحَادة -بضم الجيم وفتح الحاء المهملة- الأودي الكوفي، عن إسماعيل بن رجاء الكوفي، عن سعيد بن جبير. وهذا على شرط مسلم. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن الحكم، عن علي - رضي الله عنه -: "في المستحاضة تؤخر من الظهر وتعجل من العصر، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء -قال: وأظنه قال: وتغتسل للفجر- قال: فذكرت ذلك لابن الزبير وابن عباس، فقالا: ما نجد لها إلا ما قال علي - رضي الله عنه -". وإسناد الأثر الثاني أيضا صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد أبي عبد الملك المكي، عن مجاهد ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا الحسن بن ربيع، نا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء، قال: "كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول في المستحاضة: تغتسل غُسلا للظهر والعصر، وغُسلا للمغرب والعشاء، وكان يقول: تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء". قوله: "إن كاد ليُكَفِرُك" أي إنه كاد، و"اللام" في "ليكفرك" للتأكيد، ومعناه أنه قارب أن يكفرك، بأمره لها بترك الصلاة، وهي من أفعال المقاربة، ولا يستعمل منه إلا الماضي والمضارع؛ إلا ما سمع نادرا، وحكمه حكم سائر الأفعال في أن معناه منفي إذا صحبها حرف نفي، فإذا قال القائل: كاد زيد يبكي، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 120 رقم 1362). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 225 رقم 804).

فمعناه: قارب زيد البكاء، فالمقاربة ثابتة، ونفس البكاء منتف، وكذلك المعنى ها هنا: المقاربة ثابتة، ونفس التكفير منتف. قوله "تلك ركزة من الشيطان" بفتح الراء من ركزت الرمح أَرْكُزُهُ رَكْزا، إذا غرزته في الأرض، وهو يحتمل الحقيقة بأن يركز الشيطان في فرجها، ويفتق عرق الاستحاضة، ويحتمل المجاز بأن يكون المعنى أنه وَجَدَ بذلك طريقا إلى أن يُلبِّس عليها أمر دينها، بأن أنساها أيام عادتها وأقرائها. قوله: "أو قرحه في الرحم" أي جراحة وانكشاف لعرق في الرحم. قوله: "اغتسلي عند كل صلاتين" أراد بهما: الظُّهرين والعشاءين. ويستفاد منه: أن الواجب على المستحاضة أن تجمع بين كل صلاتين بغسل واحد، بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر كما مرَّ بيانه. وأن ترك الصلاة قريب من الكفر. وأن لعلي بن أبي طالب مزية فضيلة على غيره في العلم، وجلالة قدر. قوله: "إن أرضنا" أراد بها أرض الكوفة لأن المستفتية كانت منها. قوله: "فذهب هؤلاء" أي أهل المقالة الثانية. "إلى هذه الآثار" وهي الأحاديث المذكورة عن شعبة والثوري وابن عيينة والزهري، عن عروة والقاسم بن محمَّد، عن عائشة، والأثر الذي روي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: تدع المستحاضة الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي. ش: أي خالف أهل المقالة الأولى وأهل المقالة الثانية؛ جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، وعبد الله بن المبارك، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة بن عبد الرحمن،

وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم، "فإنهم قالوا: تدع"، أي: تترك، "المستحاضة الصلاة أيام أقرائها"، أي: حيضها. "ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي". وقال ابن حزم: وممن قال بإيجاب الوضوء على المستحاضة: عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسن. و [عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري] (¬1) وهو قول سفيان الثوري [وأبي حنيفة] (1) والشافعي وأحمد وأبي عبيد [وغيرهم] (1). ص: وذهبوا في ذلك إلى ما حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي، قال: نا يحيى بن عيسى، قال: نا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة: "أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله، إنني أستحاض فلا ينقطع عني الدم. فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي؛ وإن قطر الدم على الحصير قطرا". ش: أي ذهب هؤلاء الآخرون، فيما ذهبوا إليه من ترك الصلاة أيام الأقراء والاغتسال والتوضؤ لكل صلاة، إلى حديث عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - وإسناده على شرط مسلم. وأخرجه وابن ماجه (¬2): ثنا علي بن محمَّد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - عليه السلام -[فقالت] (¬3): يا رسول الله، ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفات لم يظهر في المصورة واستدركته من "المُحَلَّى" (1/ 252). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 204 رقم 624). (¬3) في "الأصل، ك": فقال، وهي على الصواب عند ابن ماجه.

إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وإن قطَر الدم على الحصير". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا محمَّد بن موسى بن سهل البربهاري، ثنا محمَّد بن معاوية بن صالح، ثنا علي بن هاشم، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة قالت: "أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبي - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله، إني استُحِضْتُ فما أطهر فقال: ذري الصلاة أيام حيضتك، ثم اغتسلي، وتوضئي عند كل صلاة؛ وإن قطر الدم على الحصير". ثم قال الدارقطني: [تابعه] (¬2) وكيع الخُرَيبي وقرة بن موسى ومحمد بن ربيعة وسعيد بن محمَّد الوراق وابن نمير، عن الأعمش فرفعوه، ووقفه حفص بن غياث وأبو أسامة وأسباط بن محمَّد، وهم أثبات. ثم سرد الدارقطني سند المتابعين، وسند الواقفين. قلت: هذا الحديث صحيح عند الطحاوي؛ لأن رواته من رجال صحيح مسلم، ماخلا شيخه. وقال البيهقي (¬3): وأشهر حديث روى فيه العراقيون -يعني في حكم المستحاضة- ما أخبرنا أبو علي الرُّوذَبَارِي، قال: أنا أبو بكر بن داسة، قال: ثنا أبو داود، قال: نا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - عليه السلام -" فذكر خبرها، قال: "ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة، وصلِّي" [قال الإِمام أحمد] (¬4): وزاد فيه ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 211 رقم 33). (¬2) في "الأصل، ك": تابع، والمثبت من "سنن الدارقطني". (¬3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 379). (¬4) كذا في "الأصل، ك" والمتبادر إلى الذهن أنه الإِمام أحمد بن حنبل، وهو خطأ وإنما هو أحمد بن =

غيره عن وكيع: "وإن قطر الدم على الحصير" وهذا حديث ضعيف، ضعفه يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وقال سفيان الثوري: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا. وقال أبو داود: حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت ضعيف، ورواه حفص بن غياث عن الأعمش فوقفه على عائشة، وأنكر أن يكون مرفوعا، ووقفه أيضا أسباط عن الأعمش، ورواه أيوب أبو العلاء، عن الحجاج بن أرطأة، عن أم كلثوم، عن عائشة، وعن ابن شُبْرُمة، عن امرأة مسروق، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - قال أبو داود: حديث أيوب أبي العلاء ضعيف لا يصح. انتهى. قلت: حاصل الكلام أنهم علّلوا الحديث من جهة المتن ومن جهة الإسناد، أما من جهة المتن فإنهم أنكروا أن يكون فيه الوضوء لكل صلاة، وأما من جهة الإسناد فإنهم أنكروا أن يكون هذا الحديث مرفوعا. والجواب عن ذلك: أنه إن كان حفص بن غياث وأسباط روياه موقوفا على عائشة، فكذلك رواه وكيع وسعيد بن محمَّد الوراق وعبد الله بن نمير والجُرَيْرِي مرفوعا، فترجح رواياتهم؛ لأنها زيادة ثقة، ولأنهم أكثر عددا، وتحمل رواية من وقفه على عائشة أنها سمعته من النبي - عليه السلام - فروته مرة، وأفتت به مرة أخرى. فإن قيل: قال أبو داود: ودلّ على ضعف [حديث] (¬1) حبيب هذا أن رواية الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: "فكانت تغتسل لكل صلاة" في حديث المستحاضة. ¬

_ الحسين، أي البيهقي، راجع "المعرفة" المصدر السابق. (¬1) سقط من "الأصل، ك"، واستدركتها من "سنن أبي داود" (1/ 80 رقم 300).

و (لذا علل البيهقي في تضعيف حديث حبيب) (¬1). قلت: هذا لا يدل على ضعف حديث حبيب؛ لأن الاغتسال لكل صلاة في رواية الزهري مضاف إلى فعلها، ويحتمل أن يكون اختيارا منها، بل الظاهر أنها فعلته تطوعا كما ذكرنا تحقيقه، والوضوء لكل صلاة في حديث حبيب مروي عنه - عليه السلام -، ومضاف إليه وإلى أمره، فافهم. فإن قلت: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة؛ لأن سفيان الثوري وغيره قالوا: لم يسمع حبيب من عروة شيئا. قلت: ادعى مسلم الاتفاق على أنه يكفي إمكان اللُّقيا في ثبوت السماع، وحبيب لا ينكر لقاؤه عروة؛ لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتا، وقال أبو عمر: لا نشك أنه أدرك عروة. وقال أبو داود في كتاب "السنن" (¬2) وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثا صحيحا انتهى كلامه. وهذا يدل ظاهرا على أن حبيبا سمع من عروة، وهو مثبت، فيقدم على ما زعمه الثوري لكونه نافيا. والحديث الذي أشار إليه أبو داود هو أنه - عليه السلام - كان يقول: "اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري" الحديث، ورواه الترمذي قال: حسن غريب (¬3). ثم اعلم أنه قد روى هذا الحديث -أعني حديث فاطمة بنت حبيش- غير حبيب عن عروة، ورواه غير عروة عن عائشة، خرّجه الطحاوي على ما يأتي، وغيره أيضًا من المصنفين. ¬

_ (¬1) كذا وردت العبارة في "الأصل"، ولعل الأقرب: وكذا .. ، على أنها -أيضًا- لا تكاد تستقيم. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 46) عقب الحديث رقم (180). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 518 رقم 3480) وزاد: سمعت محمدًا -أي البخاري- يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا، والله أعلم.

وذكر ابن رشد في "قواعده" حديث عائشة: "جاءت فاطمة ... " إلى آخره، ثم قال: وفي بعض رواياته: "وتوضئي لكل صلاة"، وصحح قوم من أهل الحديث هذه الزيادة. وقال في موضع آخر: صححها أبو عمر بن عبد البر، وجاء أيضا في حديث عثمان الكاتب، عن ابن أبي مليكة، في قصة فاطمة بنت أبي حبيش: "لتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها, ولتغتسل لكل يوم غسلا واحدا، ثم الطهور عند كل صلاة" (¬1). فإن قيل: قال البيهقي في "السنن" (¬2): وعثمان ليس بالقوي، وتابعه الحجاج ابن أرطاة وليس بالقوي. وقال في باب المعتادة لا تميز بين الدمين (¬3): حديث عثمان الكاتب ضعيف. قلت: خالف في ذلك شيخه الحاكم؛ فإنه أخرج حديث عثمان هذا في المستدرك (¬4) وقال: صحيح لم يخرجاه بهذا اللفظ، وعثمان الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث (¬5). ثم اعلم أن الأئمة الأربعة ومن تابعهم استدلوا بهذا الحديث على أن المستحاضة تترك الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، ولكن اختلفوا [في] (¬6) أن وضوءها للصلاة أو لوقت الصلاة؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 283 رقم 623) والدارقطني في "سننه" (1/ 217 رقم 56) والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 354 رقم 1548). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 355 رقم 1551). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 331). (¬4) "المستدرك" (1/ 283 رقم 623). (¬5) أكثر العلماء على تضعيف عثمان، وانظر ترجمته في "التهذيب" (4/ 77) وغيره. (¬6) ليست في "الأصل، ك".

فعند أبي حنيفة وأصحابه: لوقت الصلاة، حتى لو توضأت في أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل، ما لم يخرج الوقت؛ وإن دام السيلان. وعند الشافعي: إن كان العذر من أحد السبيلين، كالاستحاضة وسلس البول وخروج الريح، تتوضأ لكل فرض وتصلي ما شاءت من النوافل. وقال مالك، في أحد قوليه: تتوضأ لكل صلاة. كذا في "البدائع" (¬1). وفي "المغني" (¬2) لابن قدامة: وأكثر أهل العلم على أن الغسل عند انقضاء الحيض، ثم الوضوء لكل صلاة يُجْزِئْهَا، وقد قيل: لا يجب عليها الوضوء لكل صلاة، وهو قول مالك وربيعة وعكرمة؛ لأن ظاهر حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قصة فاطمة بنت أبي حُبيش، الغسل فقط؛ فإنه قال: "فاغتسلي وصلي", ولم يقل: "وتوضئي لكل صلاة"، وحديث الترمذي فيه: "وتوضئي لكل صلاة"، وهذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة. ثم قال: وحكم طهارة المستحاضة حكم التيمم، في أنها إذا توضأت في الوقت صلَّتْ صلاة الوقت، وقضت الفوائت، وتطوعت، حتى يخرج الوقت، نص أحمد على هذا. ومذهب الشافعي أنها لا تجمع بطهارتها بين فرضين؛ فلا تقضي فائتة، ولا تجمع بين صلاتين، كقولهم في التيمم وحجته. قوله - عليه السلام -: "توضئي لكل صلاة" ولنا أنه رُوي في بعض ألفاظ حديث بنت أبي حبيش: "توضئي لوقت كل صلاة". رُوي "التمهيد" (¬3): كان عروة يفتي بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وذلك عند مالك على الاستحباب لا على الإيجاب، وروى مالك في موطئه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا، ثم تتوضأ ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 27). (¬2) "المغني" (1/ 221) بتصرف واختصار. (¬3) "التمهيد" (22/ 109 - 110) باختصار وتصرف.

بعد ذلك لكل صلاة"، قال مالك: الأمر عندنا على حديث هشام بن عروة عن أبيه، وهو أحب ما سمعت إليّ في ذلك، وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة. وقال البيهقي في "المعرفة" (¬1): قال الشافعي في كتاب الحيض: قال يعني بعض العراقيين: أمَا إنَّا روينا أن النبي - عليه السلام - أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة قال الشافعي: نعم قد رويتم ذلك، وبه نقول، قياسا على سنة رسول الله - عليه السلام - في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج، ولو كان هذا محفوظا كان أحب إلينا من القياس. فأشار الشافعي إلى أن الحديث الذي رُوي فيه غير محفوظ. قلت: يلزم على قياس الشافعي أن لا تختص المستحاضة بفرض واحد كالوضوء مما يخرج من أحد السبيلين. فإن قال: الفرق أن حدث المستحاضة بعد الفرض موجود قائم. قلنا: فوجب أن لا [تصلي] (¬2) بعد ذلك نافلة. وفي كون الشافعي لم يجوِّز لها أن تصلي فرضين بطهارة واحدة؛ دليل على أنه عمل بحديث المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، لا بالقياس على ما ذكر، ثم إنه خصص العموم وجوز من النوافل ما شاءت، وجعل التقدير: لكل صلاة فرض، فلما أضمر ذلك، فلخصمه أن يُضْمر الوقت، ويقول: التقدير لوقت كل صلاة، كقوله - عليه السلام - "إن للصلاة أولا وآخرا، وأينما أدركتني الصلاة تيممت" وذلك لأن ذهاب الوقت عُهِدَ مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح. والخروج من الصلاة لم يعهد مبطلا للطهارة، وكذا الحدث يعم الفريضة والنافلة، وكذا القياس الذي ذكره الشافعي، فَعُلِمَ أنه لم يطرد القياس. وقال ابن حزم (¬3): قول مالك في هذا الباب خطأ لأنه خلاف للحديث الوارد في ¬

_ (¬1) "معرفة السنن" (1/ 379). (¬2) في "الأصل، ك": يُصلي وهو تصحيف. (¬3) "المحلى" (1/ 254).

ذلك، وقول الشافعي وأحمد كذلك خطأ؛ لأن من المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا، ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، فإن كانت طاهرة فلها أن تصلي، ما شاءت من الفرائض والنوافل، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا نافلة ولا فريضة. وقول أبي حنيفة فاسد أيضا؛ لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف للمعقول والقياس، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت، وتصح يكون الوقت قائما. قلت: تشنيعه على أبي حنيفة باطل؛ لأن قوله غير مخالف للخبر الذي تعلق به، فإن في بعض ألفاظه: "توضئي لوقت كل صلاة". على ما ذكره صاحب "المغني" (¬1). وكذا قوله: مخالف للمعقول والقياس باطل أيضا؛ لأن ذهاب الوقت قد عُهِدَ مبطلا للطهارة، كذهاب مدة المسح، فكيف يشنع ويقول: وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت (¬2)؟! ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا عبد الله بن يزيد المقرى، قال: ثنا أبو حنيفة. وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: نا أبو حنيفة، عن هشام بن عروة، عن ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 221). (¬2) قد أجاب ابن حزم على هذه المسألة في نفس الموضع فقال: وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور، بل هو طاهر كما هو ما لم ينتقض وضوؤه يحدث من الأحداث، وإنما جاءت السُّنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط لا بانتقاض طهارته. اهـ (1/ 254).

أبيه، عن عائشة: "أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي - عليه السلام - فقالت: إنني أحيض الشهر والشهرين، فقال - عليه السلام -: إن ذلك ليس بحيض، وإنما ذلك عرق من دمك، فإذا أقبل فدعى الصلاة، وإذا أدبر فاغتسلي لطهرك، ثم توضئي عند كل صلاة". ش: هذان طريقان صحيحان. الأول: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد القرشي المقرئ القصير، عن الإِمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه البيهقي (¬1) أيضا من حديث أبي حنيفة. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن أبي حنيفة ... إلى آخره. وأخرج السراج في "مسنده" عن هناد بن السري، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، نحو رواية أبي حنيفة. فإن قيل: قال البيهقي في هذا الحديث: ورواه أبو حنيفة، عن هشام، وفيه: "توضئي لكل صلاة" الصحيح أن هذا من قول عروة. قلت: قد وصلها الحمادان وغيرهما بكلامه - عليه السلام -، أما حماد بن زيد فقد قال النسائي (¬2): أخبرنا يحيى بن حبيب، قال: ثنا حماد -وهو ابن زيد- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش، فسألت النبي - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال رسول الله - عليه السلام -: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي، فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة. قيل له: فالغسل؟ قال: ذلك لا يشك فيه أحد". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 344 رقم 1516). (¬2) "المجتبى" (1/ 123 رقم 217).

قال أبو عبد الرحمن (¬1): لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: "وتوضئي" غير حماد بن زيد، وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه: "وتوضئي". وأما حماد بن سلمة فقد قال الدارمي في "سننه" (¬2): أنا حجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض أفأترك الصلاة؟ قال [لا] (¬3) إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي". وأخرجه الترمذي (¬4): وصححه من طريق وكيع وعَبدة وأبي معاوية، عن هشام ... وقال في آخره: وقال أبو معاوية في حديثه: "وقال: توضئي لكل صلاة". ورواه أبو عوانة أيضًا: عن هشام، أخرجه الطحاوي في كتاب "الرد على الكرابيسي" من طريقه بسند جيد، على أن حماد بن زيد لو انفرد بذلك لكان كافيا؛ لثقته وحفظه لا سيما في هشام، فإن صح السند الذي جعل فيه من كلام عروة، يحمل على أنه سمعها، فرواها مرة كذلك، ومرة أخرى أفتى بهذا، وهذا أولى من تخطئة من وصلها بكلامه - عليه السلام - كيف وقد روي ذلك مرفوعا في رواية هشام عن عروة كما مرّ. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على شريك، عن أبي اليقظان. وحدثنا فهد، قال: نا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - قال: ¬

_ (¬1) هو الإِمام النسائي. (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 220 رقم 779). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن الدارمي". (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 217 رقم 125).

"المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصوم وتصلي". ش: هذان طريقان: أحدهما: عن علي بن شيبة بن الصلت الكوفي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم. قال: قرأت على شريك بن عبد الله النخعي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدا، ومسلم في المتابعات. عن أبي اليقظان عثمان بن عمير البجلي الكوفي الأعمى، فيه كلام كثير، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، وثقه أبو حاتم وأحمد، وقال أبو حاتم أيضا: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاضيهم. وأبوه ثابت: وثقه ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم فيمن اسمه ثابت ولم يُنْسَب، وقال: ثابت الأنصاري، والد عدي بن ثابت، روى عنه ابنه عدي بن ثابت، وجده -أبو أمه- عبد الله بن يزيد. كذا قال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل". وقال الترمذي (¬1): سألت محمدا عن هذا الحديث فقلت له: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي ما اسمه؟ فلم يعرف محمَّد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: إن اسمه دينار، فلم يعبأ به. وقال الدارقطني: لا يصح من هذا كله شيء. وذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" أن ثابتا هذا هو ابن عبيد بن عازب، ابن أخي البراء بن عازب الصحابي. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 220 رقم 127).

وقال أبو عمر: شهد عبيد وأخوه البراء مع علي - رضي الله عنه - مشاهده كلها، وهو جد عدي بن ثابت، روى في الوضوء والحيض. والترمذي أخرجه من (¬1): هذا الطريق وقال: نا قتيبة، قال: نا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - أنه قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي". قال أبو عيسى: هذا حديث قد تفرد به شريك عن أبي اليقظان. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن سليمان الكوفي أبي جعفر الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمَّد بن جعفر بن زياد، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة" وزاد عثمان: "وتصوم وتصلي". وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسماعيل بن موسى، قالا: ثنا شريك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬4): عن محمَّد بن عيسى، عن شريك .. إلى آخره نحوه. وهذا الحديث من قبيل رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد، نحو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وطلحة بن مصرف عن أبيه عن جده، وهذا النوع مما يحتج به أهل العلم. ولكنهم اختلفوا في عمرو بن ¬

_ (¬1) جامع الترمذي (1/ 220 رقم 126). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 80 رقم 297). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 204 رقم 625). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 223 رقم 793).

شعيب عن أبيه عن جده، وأكثرهم على الاحتجاج بحديثه، حملا لمطلق الجد فيه على الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، دون ابنه محمَّد والد شعيب؛ لما ظهر من إطلاقه ذلك. وجدّ بهز: معاوية بن حَيْدَة القُشَيري. وجد طلحة: عمرو بن كعب اليامي. وجد عُدي: عبيد بن عازب، أو عبد الله بن يزيد على ما ذكرنا. وفيه حجة لأبي حنيفة في حمله القُرء على الحيض، خلافا للشافعي. ص: قالوا: وقد روي عن علي - رضي الله عنه -، ذلك فذكروا ما: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي ابن ثابت، عن أبيه عن علي مثله، يعني مثل حديثه عن أبيه عن جده عن النبي - عليه السلام - الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، قالوا: فبما رويناه عن رسول الله - عليه السلام - وعن علي - رضي الله عنه - نقول. ش: أشار بهذا إلى أن الحديث المذكور كما روي مرفوعا، رُوي أيضا موقوفا على علي بن أبي طالب - عليه السلام -، برجال الطريق الثاني من الطريقين المذكورين آنفا. وقال أبو داود بعد أن أخرج حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده: ورواه أبو اليقظان عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن علي - عليه السلام -، وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": صوابه: عدي بن أبان بن ثابت بن قيس الظفري، فنسب إلى جده: وأبان لا يعرف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - مثله. قوله: "قالوا" أي أهل المقالة الثالثة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 120 رقم 1365).

قوله: "نقول" مقول "قالوا"، والباء في "فبما" تتعلق به، أي نقول بالذي رويناه عن رسول الله - عليه السلام - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ص: فعارضهم معارض فقال: أما حديث أبي حنيفة الذي رواه عن هشام بن عروة فخطأ؛ وذلك لأن الحفاظ عن هشام رووه على غير ذلك، فذكروا ما: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث، عن هشام بن عروة، أنه أخبرهم عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت النبي - عليه السلام - وكانت تستحاض- فقالت: يا رسول الله، إني والله ما أطهر أفأدع الصلاة أبدا؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم ثم صلي". حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: نا سليمان بن داود الهاشمي، قال: أنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام كلاهما، عن عروة، عن عائشة مثله. قالوا: فهكذا روى الحفاظ هذا الحديث عن هشام بن عروة، لا كما رواه أبو حنيفة - رضي الله عنه -. فكان من الحجة عليهم في ذلك أن حماد بن سلمة قد روى هذا الحديث عن هشام فزاد حرفا يدل على موافقته لأبي حنيفة: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج ابن المنهال، قال: نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - بمثل حديث يونس عن ابن وهب، وحديث محمَّد بن علي عن سليمان ابن داود، غير أنه قال: "فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي". ففي هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - أمرها بالوضوء مع أمره إياها بالغسل، فذلك الوضوء هو الوضوء لكل صلاة، فهذا معنى حديث أبي حنيفة، وليس حماد بن سلمة عندكم في هشام بن عروة، بدون مالك والليث وعمرو بن الحارث.

ش: أي عارض أهل المقالة الثالثة معارضٌ، بيان المعارضة: أن هذا الحديث رواه الحفاظ عن هشام بن عروة على غير الوجه الذي رواه أبو حنيفة؛ لأنهم رووه عن هشام بن عروة، وليس فيه الأمر بالوضوء عند كل صلاة، وإنما أبو حنيفة روى هذا عنه وتفرد به، ولم يتابعه عليه أحد، فلا يحتج به، وأراد بالحفاظ مثل عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث بن سعد. وأجاب عن هذا بقوله: "فكان من الحجة عليهم في ذلك" أي على المعارضين الطاعنين في حديث أبي حنيفة، أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن هشام بن عروة فزاد فيه حرفا، فوافق بذلك أبا حنيفة، وليس حماد بن سلمة في روايته عن هشام، بدون هؤلاء الحفاظ المذكورين. فإن قلت: كيف يساوي حماد بن سلمة هؤلاء الحفاظ، أو يدانيهم، ولم يخرج له البخاري إلا مستشهدا؟ قلت: لا يلزم من ذلك ما ذكرتم، فإن مسلما احتج به، وكذلك الأربعة، وكيف وقد قال شعبة: حماد بن سلمة يفيدني. وعن وهيب: كان حماد بن سلمة سيدنا وكان أعلمنا. ذكره ابن أبي حاتم في كتابه على أنا نقول: ليس هذا بمخالفة من أبي حنيفة لرواية الحفاظ بل زيادة ثقة، وهي مقبولة ولا سيما من مثله. وخصوصا تابعه على ذلك حماد بن سلمة على ما ذكره الطحاوي، وتابعه أيضًا حماد بن زيد كما ذكرنا في حديث النسائي، وتابعه أيضا أبو عوانة الوضاح عن هشام، ذكره الطحاوي بسند جيد في كتاب "الرد على الكرابيسي" على ما ذكره عن قريب، وتابعه أبو حمزة السكري أيضا على ما قال ابن حبان في "صحيحه" (¬1): ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذه اللفظة تفرد بها أبو حمزة وأبو حنيفة. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 189 رقم 1355).

أخبرنا محمد بن أحمد بن النضر قال: ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عوانة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن المستحاضة، فقال: تدع الصلاة أيامها، ثم تغتسل غسلا واحدا، ثم تتوضأ عند كل صلاة". أخبرنا (¬1) محمَّد بن أحمد بن النضر الخلقاني، قال: نا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: ثنا أبو حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله، إني استحاض الشهر والشهرين. قال: ليس ذاك بحيض ولكنه عرق، فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيه، فإذا أدبرت فاغتسلي، وتوضئي لكل صلاة لما انتهى. فهذا أبو حنيفة قد تابعه في ذلك حماد بن سلمة وحماد بن زيد وأبو عوانة وأبو حمزة، أربعة من الحفاظ الأجلاء، مع أن تفرد أبي حنيفة كاف لجلالة قدره وتعين إمامته. وأبو حمزة اسمه محمَّد بن ميمون المروزي السكري، روى له الجماعة، ولم يكن سُكَّريّا، وإنما قيل له: السُّكَّري لحلاوة كلامه، قاله عباس الدوري. ثم إن الطحاوي أخرج الحديث الذي عارضه به ذلك المعارض من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله المدني قاضي بغداد في عسكر المهدي زمن الرشيد، ومالك بن أنس المدني، والليث بن سعد المصري، كلهم عن هشام بن عروة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 188 رقم 1354).

وأخرجه الجماعة؛ فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك .. إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن أحمد بن يونس وعبد الله بن محمَّد النفيلي، كلاهما عن زهير، عن هشام ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬4): عن هناد، عن وكيع وعَبدة وأبي معاوية، ثلاثتهم عن هشام ... إلى آخره نحوه، وقال في آخره: قال أبو معاوية في حديثه: "وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". والنسائي (¬5): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة ووكيع وأبي معاوية، قالوا: ثنا هشام بن عروة .. إلى آخره، نحو رواية أبي داود. وابن ماجه (¬6): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمَّد، قالا: ثنا وكيع، عن هشام ... إلى آخره نحوه. والثاني: عن محمَّد بن علي بن داود أبي بكر البغدادي، عن سليمان بن داود ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو أيوب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد الله بن ذكوان، عن أبيه عبد الله وعن هشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة، مثله. أي مثل الحديث المذكور. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 117 رقم 300). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 262 رقم 333). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 74 رقم 282). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 217 رقم 125). (¬5) "المجتبى" (1/ 122 رقم 212). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 203 رقم 621).

قوله: "وإذا ذهب قدرها" بالدال المهملة أي قدر وقتها، ومنهم من صحف هذا وقال: "قَذرَهَا" بالذال المعجمة، وهو غلط. وهذا الحديث يدل على أن هذه المرأة كانت معتادة كما جاء في رواية أخرى: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي". واستدل به أبو حنيفة في أن الرد إلى الأيام التي هي عادتها سواء كانت مميزة أو غير مميزة، وبه قال الشافعي في قول. وأما إذا لم يكن لها عادة تعتمد عليها تجعل لها من كل شهر عشرة أيام حيضا والباقي استحاضة كما عرف ذلك في الفروع. وفيه ردّ لمن رأى الغسل لكل صلاة، ولمن رأى عليها الجمع بين الظهرين بغسل، والعشاءين بغسل. ولمن قال: بالاستظهار بيومين أو ثلاث، أو أقل أو أكثر. ولمن رأى عليها الغسل في كل يوم من ظهر إلى ظهر. وقال أبو عمر في "التمهيد" (¬1): وفيه ردّ على من أوجب الوضوء على المستحاضة، فإذا أحدثت المستحاضة حدثا معروفا معتادا، لزمها الوضوء لأجل ذلك، وأما دَمُ استحاضتها فلا يوجب وضوءا؛ لأنه كدم الجرح السائل، وكيف يجب من أجله وضوء وهو لا ينقطع، ومن كان مثل هذه، من سلس البول والمذي، لا يرتفع [بوضوئه حدثا] (¬2) لأنه لا يتمه إلا وقد حصل ذلك الحدث في الأغلب، انتهى. وفيه تناقض لِمَا أنه قال: إن الوضوء في حديث عائشة صحيح. وهذا من أطراف حديثها المذكور، فلا رد حينئذ على من قال به، فافهم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (22/ 109). (¬2) في "الأصل، ك": وضوؤه، والمثبت من "التمهيد".

وأما حديث حماد الذي زاد فيه حرفا، فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الدارمي (¬1): عنَ حجاج، عن حماد، عن هشام .. إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي: كما ذكرنا عن قريب، وفيه: "قال أبو معاوية في حديثه: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك والشافعي وابن المبارك: أن المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها، اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة. قوله: "بمثل حديث يونس عن ابن وهب" أي بمثل حديث يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن ومالك بن أنس والليث بن سعد، عن هشام بن عروة، أنه أخبرهم عن أبيه، عن عائشة. . . الحديث. قوله: "وحديث محمَّد بن علي" أراد به شيخه محمَّد بن علي بن داود البغدادي، عن سليمان بن داود الهاشمي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام، كلاهما عن عروة، عن عائشة. قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث حماد بن سلمة. قوله: "أمرها" أي أمر فاطمة بنت أبي حبيش بالوضوء مع أمره إياها بالغسل، فذلك الوضوء الذي أمرها به هو الوضوء لكل صلاة. فإن قلت: من أين يُعلم أن الوضوء لكل صلاة؟ ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 220 رقم 779).

قلت: الحالة تدل على هذا, ولا سيما ورد في رواية أبي معاوية، في تخريج الترمذي: "توضئي لكل صلاة" وفي رواية أبي حنيفة ومن تابعه أيضًا: "ثم توضئي عند كل صلاة"، وفي حديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده: "وتتوضأ لكل صلاة". ص: فقد ثبت بما ذكرنا صحة الرواية عن النبي - عليه السلام - في المستحاضة أنها تتوضأ في حال استحاضتها لكل صلاة، إلا أنه قد رُوي عن النبي - عليه السلام - ما قد تقدم ذكرنا في هذا الباب، فأردنا أن ننظر في ذلك لنعلم ما الذي ينبغي أن نعمل به من ذلك؟ فكان ما رُوي عن النبي - عليه السلام - مما رويناه في أول هذا الباب: "أنه أمر أم حبيبة بنت جحش بالغسل عند كل صلاة" فقد ثبت نسخ ذلك بما قد رويناه عن النبي - عليه السلام - في الفصل الثاني من هذا الباب في حديث ابن أبي داود عن الوهبي في أمر سهلة بنت سهيل؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمرها بالغسل لكل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، وبين المغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح غسلا، فكان ما أمرها به من ذلك ناسخا لما كان أمرها به قبل ذلك من الغسل لكل صلاة، فأرنا أن ننظر فيما رُوي في ذلك، كيف معناه؟ فإذا عبد الرحمن بن القاسم قد روى عن أبيه في المستحاضة التي استحيضت في عهد النبي - عليه السلام - فاختلف عن عبد الرحمن في ذلك؛ فروى الثوري عنه، عن أبيه، عن زينب بنت جحش: "أن النبي - عليه السلام - أمرها بذلك، وأن تدع الصلاة أيام أقرائها" ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن أيضا، عن أبيه، ولم يذكر زينب، إلا أنه وافق الثوري في معنى متن الحديث، فكان ذلك على الجمع بين كل صلاتين بغسل في أيام المستحاضة خاصة. فثبت بذلك أن أيام الحيض كان موضعها معروفا، ثم جاء شعبة فرواه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، كما رواه الثوري وابن عيينة، غير أنه لم يذكر أيام الأقراء، وتابعه على ذلك محمَّد بن إسحاق.

فلما رُوِي هذا الحديث كما ذكرنا، واختلفوا فيه، [كشفناه] (¬1) لنعلم من أين جاء الاختلاف، فكان ذكر أيام الأقراء في حديث القاسم عن زينب وليس ذلك في [حديثه عن عائشة - رضي الله عنها - فوجب أن يجعل روايته عن زينب غير روايته عن عائشة - رضي الله عنها - فكان]، (¬2) حديث زينب الذي فيه ذكر الأقراء حديثا منقطعا لا [يثبته] (¬3) أهل الخبر؛ لأنهم لا يحتجون بالمنقطع، وإنما جاء انقطاعه؛ لأن زينب لم يدركها القاسم، ولم يُولد في زمنها؛ لأنها تُوفيت في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهي أول أزواج النبي - عليه السلام - وفاة بعده، وكان حديث عائشة هو الذي ليس فيه ذكر الأقراء، وإنما فيه: أن النبي - عليه السلام - أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل، على ما في ذلك الحديث، ولم يُبيِّن أي مستحاضة هي؛ فقد وجدنا المستحاضة قد تكون على معان مختلفة: فمنها: أن تكون مستحاضة قد استمر بها الدم، وأيام حيضها معروفة، فسبيلها أن تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل، وتتوضأ بعد ذلك. ومنها: أن تكون مستحاضة؛ لأن دمها قد استمر بها فلا ينقطع عنها، وأيام حيضها قد خَفِيَتْ عليها، فسبيلُها أن تغتسل لكل صلاة؛ لأنه لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا، أو طاهرا من حيض، أو مستحاضة، فيحتاط (¬4) لها، فتؤمر بالغسل. ومنها: أن تكون مستحاضة قد خفيت عنها أيام حيضها، ودمها غير مستمر بها، ينقطع ساعة ويعود بعد ذلك، هكذا هي في أيامها كلها، فيكون قد أحاط علمها أنها في وقت انقطاع دمها، إذا اغتسلت حينئذ غير طاهر من حيض طهرا ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": كشفنا، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (1/ 104). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) في "الأصل، ك" يثبتونه، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) فيُحتاط: غير منقوطة "بالأصل"، ويمكن قراءتها، فنحتاط -بالنون- أو: فتحتاط يعني: هي، والمثبت أنسب للفعل بعده.

يُوجب عليها غسلا، فلها أن تصلي في حالها تلك ما أرادت من الصلوات بذلك الغسل إن أمكنها ذلك. فلما وجدنا المرأة قد تكون مستحاضة بكل وجه من هذه الوجوه التي معانيها مختلفة، وأحكامها مختلفة، واسم المستحاضة يجمعها, ولم نجد في حديث عائشة - رضي الله عنها - ذلك تِبْيَانَ استحاضة تلك المرأة التي أمرها النبي - عليه السلام - بما ذكرنا أيُّ استحاضة هي، لم يجز لنا أن نحمل ذلك على وجه من هذه الوجوه دون غيره إلا بدليل على ذلك. فنظرنا في ذلك، هل نجد فيه دليلا؟ فإذا بكر بن إدريس قد حدثنا، قال: أنا آدم، قال: نا شعبة، قال: نا عبد الملك بن ميسرة والمجالد بن سعيد وبيان، قالوا: سمعنا عامرا الشعبي يحدث عن قَمير -امرأة مسروق- عن عائشة: "أنها قالت في المستحاضة: تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل غسلا واحدا، وتتوضأ عند كل صلاة". حدثنا حسين بن نصر وعلي بن شيبة، قالا: حدثنا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن فراس وبيان، عن الشعبي بإسناده. فلما رُوي عن عائشة ما ذكرنا من قولها الذي أفتت به بعد النبي - عليه السلام -، وكان ما ذكرنا من حكم المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما ذكرنا أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما ذكرنا أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، وقد روي ذلك كله عنها، ثبت بجوابها ذلك أن ذلك الحكم هو الناسخ للحكمين الآخرين؛ لأنه لا يجوز عندنا عليها أن تدع الناسخ وتفتي بالمنسوخ، ولولا ذلك لسقطت روايتها. فلما ثبت أن هذا هو الناسخ؛ لما ذكرنا، وجب القول به، ولم يجز خلافها، هذا وجه قد يجوز أن يكون معاني هذه الآثار عليه.

ش: ملخص هذا: أن النبي - عليه السلام - رُوي عنه في المستحاضة ثلاثة أحكام، وقد ذهب إلى كل واحد منها طائفة من أهل العلم، كما ذُكِر مستقصى، وكل ذلك قد ورد بطرق مختلفة صحيحة وغير صحيحة، والسبيل في مثل هذا أن يُوَفَّق بينهما؛ دفعا للتضاد والاختلاف، وقد بيَّن فيما مضى أن حديث الغسل عند كل صلاة، الذي هو الحكم [الأول] (¬1) قد نسخه الحكم الثاني، وهو الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وبقي التوفيق بينه وبين الثالث الذي فيه الأمر بالاغتسال مرة والوضوء عند كل صلاة، ووجهه: أن كلا منهما قد رُوي عن عائشة بطرق صحيحة، ورُوي عنها أيضا أنها أفتت بعد النبي - عليه السلام - في المستحاضة أن تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة، كما في حديث قَمير امرأة مسروق، عنها، على ما يجيء الآن. فدل ذلك أنه ناسخ للحكم الأول والثاني، وذلك لأنه لا يجوز على مثل عائشة أن تترك الناسخ وتفتي بالمنسوخ، وإلا سقطت روايتها، فعلم أن حديث الأمر بالاغتسال مرة والوضوء عند كل صلاة هو الناسخ لجميع ما روي من الآثار في هذا الباب، وأن العمل عليه، كما ذهب إليه جمهور العلماء، ومعظم الفقهاء، والأئمة الأربعة. قوله: "فقد ثبت بما ذكرنا" أراد به ما ذكره من حديث محمَّد بن عمرو بن يونس السوسي، عن يحيى بن عيسى. ومن حديث علي ابن شيبة بن الصلت السَّدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري. ومن حديث محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج ابن، (¬2) منهال الأنماطي. قوله: "إلا أنه قد رُوي" أي: غير أن الشأن: قد رُوي عن النبي - عليه السلام - ما قد تقدم ذكرنا له، يعني: في أول الباب، وأراد به أن تلك الأحاديث معارضة لما قد ثبت بما ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) ليست في "الأصل، ك".

ذكرنا، ثم بيَّن أن هذه منسوخة بقوله: "فأردنا أن ننظر في ذلك ... " إلي آخره: وهو طاهر بُيِّن فيما تقدم. قوله: "فأردنا أن ننظر فيما روى في ذلك" أي: في أمره - عليه السلام - إياها بالجمع بين الظهرين بغسل، وبين العشائين بغسل، والصبح بغسل، كيف معناه؟ وكيف حال هذه المستحاضة. قوله: "فإذا عبد الرحمن" كلمة "إذا" ها هنا للمفاجأة، كما في قولك: "خرجت فإذا السبع واقف"، ولا يليها إلا الجملة الاسمية، فقوله: "عبد الرحمن" مبتدأ، وقوله: "قد روى" خبره. قوله: "فاختُلِفَ عن عبد الرحمن في ذلك"، أي فيما روى عن أبيه عن عائشة، فروى الثوري عنه عن أبيه عن زينب ابنة جحش ... إلي آخره. ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن أيضا عن أبيه، ولم يذكر "زينب" وخالفه فيه، ولكنهما متفقان في معنى متن الحديث، فثبت بذلك -أي باتفاقهما على متن الحديث- أن أيام حيضها كان موضعها معروفا؛ إذ لو لم يكن معروفا لما كانت تتمكن من ذلك على الحقيقة. ويدل على ذلك ما جاء في حديث آخر: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها". فإن قيل: من أين كانت تحفظ هذه المرأة عدد أيامها التي كانت تحيض فيها أيام الصحة؟ قلت: لو لم تكن تحفظ ذلك لم يكن لقوله - عليه السلام -: "تدع الصلاة أيام أقرائها" معنى؛ إذ لا يجوز. أن يردها إلى رأيها ونظرها في أمر هي غير عارفة بكنهه. قوله: "ثم جاء شعبة فرواه عن عبد الرحمن" أي: روى الحديث المذكور الذي رواه سفيانان (¬1)، غير أنه لم يذكر فيه أيام الأقراء. ¬

_ (¬1) يعني الثوري وابن عُيينة، فقد رويا الحديث كما سبق.

"وتابعه على ذلك"، أي: تابع شعبة على مثل ما روى محمدُ بن إسحاق المدني، فحصل فيه الاختلاف حينئذ، فيحتاج إلى الكشف حتى يُعْلم من أين جاء الاختلاف؟ فكُشِفَ عن ذلك، فوُجدَ ذكر أيام الأقراء في حديث القاسم عن زينب، وهو الحديث الذي رواه الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن زينب، وليس في حديثه عن عائشة، أي: ليس ذكر أيام الإقراء في حديث القاسم عن عائشة الذي رواه شعبة ووافقه محمَّد بن إسحاق، فتباينت الروايتان، ولكن حديث زينب الذي فيه الأقراء حديث مئقطع؛ وذلك لأن القاسم لم يدرك زينب ولم يُولد في حياتها. بيان ذلك: أن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، مات في ولاية يزيد بن عبد الملك، بعد عمر بن عبد العزيز، سنة إحدى أو اثنتين ومائة. وقال خليفة بن خياط توفي سنة ستٍّ ومائة. وقال يحيى بن بكير: سنة سبع ومائة بقديد. وقال ابن المديني وابن معين: مات سنة ثمان ومائة. قال الواقدي: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. فيكون تاريخ ميلاده على القول الأول: سنة ثلاثين من الهجرة، وسنة أربع وثلاثين على قول خليفة، وسنة سبع وثلاثين على قول يحيى بن بكير، وسنة ثمان وثلاثين على قول ابن المديني وابن معين، وعلى كل [التقدير] (¬1) لم يدرك القاسم زينت بنت جحش، أم المؤمنين - رضي الله عنها -؛ لأنها توفيت سنة عشرين من الهجرة، وصل عليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكانت أول نساء النبي - عليه السلام - لحوقا به. فكان حديث القاسم، عن زينب منقطعا، فلا يحتج به. ¬

_ (¬1) التقدير: "كذا بالأصل، ك"، مُعَرَّفة، والنكرة: تقدير، أنسب.

فيكون العمل على حديث عائشة الذي ليس فيه الأقراء، وإنما فيه: "أنه - عليه السلام - أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل"، ولكنه لم يبين أي مستحاضة هي؛ لأن المستحاضات كثيرة (¬1) على أنواع، كما بينها الطحاوي. ولم نعلم في حديث عائشة بيان تلك المستحاضة أيتها هي، فلم يجز حيئنذ أن نحمل ذلك على نوع من الأنواع؛ لبطلان الترجيح بلا مرجح، وهو الدليل يدل على خصوصية المراد فوجدنا ذلك في حديث قَمِير عن عائشة، وتبيَّن أن المراد من تلك المستحاضة هي التي لها أيام معتادة، لأنها أفتت بذلك حيث قالت: "تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة", ولما روي هذا عن عائشة من قولها الذي أفتت به بعد النبي - عليه السلام -، والحال أنه قد روي عنها من أنها تغتسل لكل صلاة، ومن أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، ثبت بفتواها هذه أن ما روي عنها من الحكمين الآخرين قد نسخ، إذ لا يجوز أن تفتي بالمنسوخ وتترك الناسخ كما ذكرنا. فلما ثبت أن هذا هو الناسخ، تعين المصير إليه، ووجب القول به، ولم يجز تركه إلى حكم من الحكمين الآخرين. ثم إنه أخرج حديث قمير عن عائشة من طريقين حسنين صحيحين: الأول: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، ذكره ابن يونس وأثنى عليه، عن آدم بن أبي إياس التميمي، أحد مشايخ البخاري في الصحيح، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبي زيد الكوفي؛ روى له الجماعة، وعن المجالد بن سعيد بن عمير الكوفي، روى له مسلم -مقرونا بغيره- والأربعة. وعن بيان بن بشر الأحمسي البجلي الكوفي المعلم، روى له الجماعة، ثلاثتهم عن عامر الشعبي، عن قَمير -بفتح القاف وكسر الميم- بنت عمرو الكوفية، امرأة مسروق ابن الأجدع، قال العِجْلي: تابعية ثقة. روى لها أبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) كذا "بالأصل، ك" ولعل الصواب: كثيرات.

وأخرجه أبو داود (¬1): مُعَلَّقا، قال: روى عبد الملك بن ميسرة وبيان والمغيرة وفراس ومجالد، عن الشعبي حديث قمير، عن عائشة: "توضئي لكل صلاة". وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬2): أنا جعفر بن عون، أنا إسماعيل، عن عامر، عن قمير، عن عائشة، في المستحاضة: "تنتظر أيامها التي كانت تترك الصلاة فيها، فإذا كان يوم طهرها [الذي] (¬3) كانت تَطَهَّر فيه، اغتسلت ثم توضأت عند كل صلاة، وصلت". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك وعلي بن شيبة، كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن فِراسٍ -بكسر الفاء- بن يحيى الهمداني الخَارفي الكوفي، وعن بيان بن بشر، كلاهما عن عامر الشعبي، بإسناده نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): نا أبو خالد الأحمر، عن المجالد وداود، عن الشعبي، قال: "أرسلت امرأتي إلى امرأة مسروق فسألتها عن المستحاضة، فذكرت عن عائشة أنها قالت: تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة". وأخرجه البيهقي (¬5): من حديث شعبة، عن بيان، سمعت الشعبي يحدث، عن قمير، عن عائشة، قالت: "المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، وتغتسل وتستذفر وتتوضأ عند كل صلاة". ثم قال: ورواه زائدة، عن بيان، وفيه: "ثم تتوضأ لكل صلاة" وهكذا رواه عبد الملك بن ميسرة ومغيرة ومجالد وغيرهم عن الشعبي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 80) عقب الحديث رقم (300). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 223 رقم 792). (¬3) في "الأصل، ك": التي، والمثبت من "سنن الدارمي". (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 119 رقم 1351). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 346 رقم 1524).

وروى داود بن أبي هند وعاصم، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة: "تغتسل كل يوم مرة". قوله: "فلما" بتشديد الميم. وقوله: "ثبت بجوابها ذلك" جواب "لمَّا". قوله: "وقد رُوي ذلك كله عنها، جملة وقعت حالا، أي: عن عائشة. قوله: "الحكمين الآخرين" بفتح الخاء، وأراد بهما حكم وجوب الغسل عند كل صلاة، وحكم وجوب الجمع بين الصلاتين بغسل. ص: وقد يجوز في هذا وجه آخر: يجوز أن يكون ما رُوي عن النبي - عليه السلام -، في فاطمة بنت أبي حُبَيْش، لا يُخالف ما رُوي عنه في أمر سهلة بنت سُهَيل؛ لأن فاطمة بنت أبي حبيش كانت أيامها معروفة، وسهلة كانت أيامها مجهولة، إلا أن دمها ينقطع في أوقات ويعود بعدها، وهي قد أحاط علمها أنها لم تخرج من الحيض بعد غسلها إلى أن صلت الصلاتين جميعا. فإن كان ذلك كذلك، فإنا نقول بالحديثين جميعًا، فنجعل حكم حديث فاطمة على ما صرفناه إليه، وحكم حديث سهلة على ما صرفناه إليه. وأما حديث أم حبيبة فقد رُوي مختلفا؛ فبعضهم يذكر عن عائشة أن رسول الله - عليه السلام - أمرها بالغسل عند كل صلاة ولم يذكر أقرائها، فقد يجوز أن يكون أمرها بذلك ليكون ذلك الماء علاجا لها, لأنه يُقلِّصُ الدمَ في الرحم فلا يسيل، وبعضهم يرويه عن عائشة: أن النبي - عليه السلام - أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل لكل صلاة. فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن يكون أراد به ما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا؛ لأن دمها سائل دائم السيلان، وليست صلاة إلا تحتمل أن تكون عندها طاهرا من حيض، ليس لها أن تصليها إلا بعد الاغتسال، فأمرها بالغسل لذلك، فإن كان

هذا هو معنى حديثها، فإنَّا كذلك نقول أيضًا فيمَنْ استمر بها الدم ولم تعرف أيامها، فلما احتملت هذه الآثارُ ما ذكرنا، وروينا عن عائشة من قولها بعد رسول الله - عليه السلام - ما وصفنا، ثبت أن ذلك هو حكم المستحاضة التي تعرف أيامها، وثبت أن ما خالف ذلك مما رُوي عنها عن رسول الله - عليه السلام - في مستحاضةٍ استحاضتُهَا غير استحاضة هذه، أو في مستحاضة استحاضتها مثل استحاضة هذه، إلا أن ذلك على أيَّ المعاني كان، كان فيما رُوي في أمر فاطمة بنت أبي حييش أولى؛ لأن معه الاختيار من عائشة - رضي الله عنها - له بعد النبي - عليه السلام -، وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله - عليه السلام -. وكذلك أيضا ما رويناه عن علي - رضي الله عنه -[أنها تغتسل لكل صلاة، وما رويناه عنه أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما رويناه عنه] (¬1) أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، إنما اختلفت أقواله في ذلك لاختلاف الاستحاضات التي أفتئ فيها بذلك. وأما ما رُوي عن أم حبيبة في اغتسالها لكل صلاة، فوجه ذلك عندنا -والله أعلم-: أنها كانت تتعالج به، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار وهي التي يحتج بها فيه. ش: ملخص هذا الوجه أن يحمل كل حديث ورد في هذا الباب على وجه من الوجوه، فلا يبقى بينها لا تعارض ولا اختلاف، وهذا هو التوفيق فيما بينها, وليس فيه لا نسخ ولانظر إلى التقديم والتأخير. وبيان ذلك كله ظاهر من كلام الشيخ. قوله: "لأنه يقلص الدم" أي: لأن الماء يُجمِّد الدم في الرحم، فلا يُخَلِّيه يسيل، يقال: قَلَصَ الشيء يَقْلِصُ قلوصا: ارتفع، وقلَص وقلَّص، بالتخفيف والتشديد، وتقلَّص، كله بمعنى انضمَّ وانزوى. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (1/ 106).

قوله: "فإنا كذلك نقول أيضا فيمن استمر بها الدم ولم تعرف أيامها" يعني: نقول بأن تغتسل عند كل صلاة, لأنه لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا من حيض أو استحاضة، فتؤمر بالغسل عند كل صلاة؛ احتياطا. قوله: "فأمرها بالغسل لذلك" أي: أمرها بالغسل عند كل صلاة لكون استمرار الدم بها مع الجهل بأيامها. قوله: "فلما احتملت هذه الآثار" أراد بها الآثار التي رُويت في فاطمة بنت أبي حبيش، وسهلة بنت سهيل، وأم حبيبة. قوله: "وروينا عن عائشة من قولها بعد رسول الله - عليه السلام -" أراد به ما روته قَمِير امرأة مسروق عنها، الذي مضى ذكره. قوله: "ثبت ذلك" أي الذي روينا عن عائشة من قولها. قوله: "وأما ما رُوي عن أم حبيبة ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: سلمنا ما قلتم من وجه النظر بين هذه الأحاديث، وما حملتم كل حديث على معنى يليق لحال تلك المستحاضة، فما تقولون في اغتسال أم حبيبة عند كل صلاة في عهد النبي - عليه السلام - كما ورد في رواية عائشة: فكانت هي تغتسل لكل صلاة؟ وتقرير الجواب: أنها إنما كانت تغتسل لكل صلاة تعالُجا به ليتقلص دم رحمها، أو لأنها كان استمر بها الدم، وخفيت عليها أيام قَرْئِها، فحكم مثل هذه المستحاضة أن تغتسل عندكم صلاة. ص: ثم اختلف الذين قالوا: إنها تتوضأ لكل صلاة؛ فقال بعضهم، تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو قول أبي حنيفة وزُفَر وأبى يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. وقال آخرون بل تتوضأ لكل صلاة، ولا يعرفون ذكر الوقت في ذلك.

فأردنا نحن أن نستخرج من القولين قولا صحيحا، فرأيناهم قد أجمعوا أنها إذا توضأت في وقت صلاة فلم تصل حتى خرج الوقت، فأرادت أن تصلي بذلك الوضوء، أنه ليس لها ذلك حتى تتوضأ وضوءا جديدا، ورأيناها لو توضأت في وقت صلاة فصَلَّت، ثم أرادت أن تتطوع بذلك الوضوء، كان ذلك لها مادامت في الوقت. فدل ما ذكرنا أن الذي ينقض طُهْرها هو خروجُ الوقت، وأن وضوءها يُوجبُه الوقت، لا الصلاة. وقد رأيناها لو فاتتها صلوات فأرادت أن تقضيهن، كان لها أن تجمعهن في وقت صلاة واحدة، بوضوء واحد، فلو كان الوضوء يجب عليها لكل صلاة، لكان يجب أن تتوضأ لكل صلاة من الصلوات الفائتات، فلما كانت تصليهن جميعها بوضوء واحد، ثبت بذلك أن الوضوء الذي يجب عليها هو لغير الصلاة، وهو الوقت. ش: أراد "بالذين قالوا": أهل المقالة الثالثة، وهم الأئمة الأربعة ومن تبعهم. قوله: "فقال بعضهم" أراد به: أبا حنيفة وأصحابه؛ فلذلك أوضحه بقوله: "وهو قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-" وهو قول أحمد أيضا في الأصح عنه. قوله: "وقال أخرون" أي: جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعية ومن تبعهم. وأما مذهب مالك، فقد قال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وقال مالك: لا وضوء عليها -أي على المستحاضة- في هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا، وهي طاهر ما لم تُحْدِث حدثا آخر. قوله: "من القولين" أراد بهما: قول الحنفية، وقول الشافعية، ثم ذكر ثلاث مسائل متفقا عليها، وقاس عليها مسائل المستحاضة المتنازع فيها، والجامع: كون وجوب الوضوء عليها للوقت لا للصلاة، فافهم. ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 253).

ص: وحجة أخرى، وهي أَنَّا قد رأينا الطهارات تنتقض بأحداث: منها الغائط، والبول، وطهارات تنتقض بخروج أوقات وهي الطهارة بالمسح على الخفين ينقضها خروج وقت المسافر، وخروج وقت المقيم، وهذه الطهارات المتفق عليها لم نجد فيها ما تنقضها صلاة، وإنما ينقضها حدث، أو خروج وقت، وقد ثبت أن طهارة المستحاضة ينقضها الحدث وغير الحدث، فقال قوم: هذا الذي هو غير الحدث هو خروج وقت. وقال آخرون: هو فراغ من صلاة، ولم نجد الفراغ من الصلاة حدثا في شيء غير ذلك، وقد وجدنا خروج الوقت حدثا في غيره، فأولى الأشياء أن نرجع في هذا الحدث المختلف فيه، فنجعله كالحدث الذي قد أجمع عليه ووجد له أصل، ولا نجعله كما لم يُجمع عليه ولم نجد له أصلا. فثبت بذلك قول مَنْ ذهب إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: ملخص هذه الحجة: أنَّ جَعْلَ الفراغ من الصلاة حدثا غيرُ واقع، وجعل خروج الوقت حدثا واقعٌ موجود متفق عليه، فقياس انتقاض وضوء المستحاضة على الأصل الموجود المتفق عليه، أصلى من قياسه على شيء غير واقع، فافهم. قوله: "فقال قوم" أراد بهم: الحنفية. وقوله: "وقال آخرون" أراد بهم: الشافعية. هذا الذي ذكره كله بطريق النظر والقياس، وأما إذا ثبت في الحديث: المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، كان هذا (¬1) مزيدة توكيد للمذهب. وقد قال صاحب "المغني": روي في بعض ألفاظ حديث بنت أبي حبيش: "توضئي لوقت كل صلاة" ثم قال: وحديثهم محمول على الوقت كما قال ¬

_ (¬1) يعني: النظر والقياس الذي ذكره.

النبي - عليه السلام -: "أينما أدركتني الصلاة" أي: وقتها دون فحلها، وحديث حمنة ظاهر في الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد، ألا ترى أنه لم يأمرها بالوضوء بينهما؟ وقال الكاساني (¬1): روى أبو حنيفة بإسناده عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة"، وهذا نص في الباب، وهذا محكم، وقوله - عليه السلام -: "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة" محتمل، فيحمل المحتمل على المحكم، توفيقا بين الدليلين، صيانة لهما عن التناقض. ثم إن المستحاضة إذا سأل منها الدم بعد الوضوء فذلك لا يمنع من أداء الصلاة ما بقي الوقت لقوله - عليه السلام -: "وإن قطر الدم على الحصير" وأما إذا سأل من موضع آخر أعاد الوضوء، وإن كان الوضوء باقيا؛ لأن هذا حدث جديد، وإذا أصاب ثوبها من دم الاستحاضة فعليها أن تغسله، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 28).

ص: باب: حكم بول ما يؤكل لحمه

ص: باب: حكم بول ما يؤكل لحمه ش: أي هذا باب بيان حكم بول مأكول اللحم من الحيوان، وجه المناسبة بين البابين: اشتمال كل منهما على حكم التطهير، على ما لا يخفى. ص: حدثنا أبو بكرة بكَّار بن قتيية، قال: نا عبد الله بن بكر، قال: نا حميد، عن أنس قال: "قدم ناس من عُرَيْنةَ على النبي - عليه السلام - المدينة فاجْتَوَوْها، فقال: لو خرجتم إلى ذوْدٍ لنا فشرِبتم من ألبانها"، قال: وذكر قتادة أنه قد حفظ عنه: "أبوالها". ش: إسناده صحيح، وأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، مطولة ومختصرة، فالبخاري (¬1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "قدم ناس من عُكل أو عُرَيْنَةَ فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي - عليه السلام - بلقاحٍ وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبي - عليه السلام -، واستاقوا النَّعم، فجاء الخبر [أول النهار] (¬2) فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّرَتْ أعيُنُهم، وألقوا في الحَرَّة يستسقون فلا يُسقون. قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هُشيم واللفظ ليحيى، قال: أنا هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس بن مالك: "أن ناسا من عُرَيْنَه قدموا على رسول الله - عليه السلام - المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 92 رقم 231). (¬2) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1296 رقم 1671).

فَصَحُّوا، ثم مالوا على الرِّعاء فقتلوهم، وارتدُّوا عن الإِسلام، وساقوا زَوْدَ رسول الله - عليه السلام - فبلغ ذلك النبي - عليه السلام - فبعث في إثرهم، فأُتِيَ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَلَ أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا". وأبو داود (¬1): عن سليمان بن حرب .. إلى آخره، نحو رواية البخاري سواء. والترمذى (¬2): عن الحسن بن محمَّد الزعفراني، عن [عفان] (¬3) بن مسلم، عن حماد بن سملة، قال: أنا حميد وثابت وقتادة، عن أنس: "أن ناسا من عُرَينة قدموا المدينة فاجتووْها، فبعثهم النبي - عليه السلام - في إبل الصدقة، وقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. والنسائي (¬4): عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن يزيد بن زُريع، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، أن أنس بن مالك حدثهم: "أن أناسا -أو رجالا- من عُكَل قدِموا على رسول الله - عليه السلام - فتكلموا بالإِسلام، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله - عليه السلام - بذودٍ [وراع،] (¬5)، وأمرهم أن يخرجوا فيها [فيشربوا] (¬6) من ألبانها وأبوالها، فلما صَحُّوا وكانوا بناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعِيَ رسول الله - عليه السلام - واستاقوا الذَّوْد، فبلغ النبي - عليه السلام - فبعث الطلب في آثارهم، فأتي بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، ثم تُركوا في الحرة على حالهم حتى ماتوا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 130 رقم 4364). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 106 رقم 72). (¬3) في "الأصل": عثمان، وهو تحريف، والمثبت من "جامع الترمذي". (¬4) "المجتبى" (1/ 158 رقم 305). (¬5) في "الأصل": وراعي، بإثبات الياء، وهي لغة، والمثبت من "المجتبى" وهي اللغة الفاشية. (¬6) في "الأصل، ك": فيشربون، وهي لغة -أيضًا- والمثبت من "المجتبى".

وابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة ... إلى آخره، نحو مسلم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، نحو رواية النسائي .. وفي آخره: قال قتادة: "فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬3). قوله: "من عُرَيْنَهَ" بضم العين، وفتح الراء، وسكون الياء آخر الحروف، بعدها نون مفتوحة، وهو ابن نذير بن قَسْر بن عَبْقَر بن أَنْمار بن أراش بن عمرو ابن الغوث بن طيئ بن أُدَدَ، وزعم السكريّ أنه عرينة بن عَرِين بن يزيد. وأما عكل فهم خمس قبائل، وذلك أن عوف بن عبد مناة ولد قيسا، فولد قيسُ ابن عوف وائلا وعوانة، فولد وائلٌ عوفا وثعلبة، ويقال لثعلبة: ركبة القلوص، فولد عوف بن وائل الحارث وجُشَما وسعدا وعليّا وقيسا وأمهم بنت ذي اللحية، لأنه كان ثَطا (¬4) بلا لحية، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها: عكل -قاله الكلبي- فغلبت عليهم وهم جملة الرباب الذين تحالفوا على بني تميم. قوله: "فاجتووها" أي كرهوها للمرض الذي أصابهم بها، وأصله من الجَوى -بالجيم- وهو داء الجوف إذا تطاول، وقيل: اجتووها: استوْبلوها، ومنهم من فرق بين اجتووا واستوبلوا؛ فجعل استوبلوا: إذا لم يوافقهم وإن أحَبُّوا، واجتووا: كرهوا الوضع وإن وافق. وقال ابن الأثير (¬5): فاجتوو المدينة أي أصابهم الجوى وهو المرض، وداء الجوف ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 861 رقم 2578) و (2/ 1158 رقم 3503) كلاهما عن نصر بن علي الجهضمي وليس عن أبي بكر بن أبي شيبة، ولعله انتقال نظر من المؤلف. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 163 رقم 12690). (¬3) سورة المائدة، آية: [33]. (¬4) الثط: هو القليل شعر اللحية، وقيل: هو الخفيف اللحية والعارضين وقيل: هو أيضًا القليل شعر الحاجبين، انظر "اللسان" (ثط). (¬5) "النهاية": (1/ 318).

إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواها واستوخموها، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة. قوله: "إلى ذَوْدٍ": بفتح الذال المعجمة وسكون الواو، وفي آخره: دال مهملة، وهي: الإبل ما بين الثِّنْتَيْنِ إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة (¬1)، ولا واحد لها من لفظها كالنَّعم. وقال أبو عُبَيد: الذَّود من الإناث دون الذكور. فإن قيل: كم كان عدد الإبل التي أرسلهم - عليه السلام - إليها ليشربوا ألبانها وأبوالها؟ قلت: جاء في رواية ابن سعد مُصرَّحا أنها خمسة عشر لِقْحَة، على ما ذكره في الطبقات (¬2): وقال: أرسل رسول الله - عليه السلام - في إثرهم كُرْزَ بن جابر الفهري، وعشرون فارسا، وكان العُرَنِيُّون ثمانية، وكانت اللقاح ترعى بذي الجَدْر، ناحيةَ قُبَاء، قريبا من عَيْر، على ستة أميال من المدينة، فلما عَرَوْا على اللِّقاح، أدركهم يَسار مولى النبي - عليه السلام - وكان نُوبِيَّا أصابه رسول الله - عليه السلام - في غزوة محارب، فلما رآه يحسن الصلاة أعتقه - ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجْله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبي - عليه السلام - كذلك، وأُنْزِلَ عليه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬3) الآية فلم يَسْمُل بعد ذلك عينا. وكانت اللِّقاح خمس عشرة (¬4) لِقْحَة غِزَارا، ففقد منها لقحة تُسَمَّى الحناء، فسأل عنها فقيل نحروها، وحُمِل يسارُ مَيْتا، ودفنوه بقباء. وقال ابن عقبة: كان أمير السرية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. فإن قيل: قد جاء في رواية: قال لهم النبي - عليه السلام - "هذه نعم لنا"، وفي رواية: "أنها ¬

_ (¬1) وقد تُذَكَّر، انظر: "الفرق بين المذكر والمؤنث"، لابن الأنباري (72). (¬2) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 93). (¬3) سورة المائدة، آية: [33]. (¬4) في "الأصل، ك" خمسة عشر، تحريف.

لقاح النبي - عليه السلام -" وفي رواية: "أنها إبل الصدقة"، وفي رواية: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل النبي - عليه السلام -", فكيف وجه هذه الروايات؟ قلت: طريق الجمع: أن النبي - عليه السلام - كانت له إبل من نصيبه من الغُنْم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترص مع إبل الصدقة، فأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة لاجتماعهما في موضع واحد. فإن قيل: ما وجه الترديد في رواية البخاري وغيره: "من عُكْل، أو عُرَيْنَة"، فهل هم كانوا من عكل كما صرح به الطحاوي في روايته، أو كانوا من عرينة، أو كانوا منهم ومنهم؟ قلت: قالوا: إنهم كانوا سبعة: أربعة من عرينة، وقيل: كانوا ثمانية، على ما صرح به ابن سعد في روايته على ما ذكرناه أيضا، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وجاء في رواية عبد الرزاق: "كانوا من بني فزارة" وفي كتاب ابن الطلاع (¬1): أنهم كانوا من بني سُليم. وفيه نظر؛ لأن هؤلاء القبيلتين لا يجتمعان مع عرينة. فإن قيل: متى كانت قضية العرنيين؟ قلت: كانت في شوال سنة ست من الهجرة. فإن قيل: قال الطبري (¬2): نا محمَّد بن خلف، نا إسحاق بن حماد، عن عمير ابن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمَّد بن إبراهيم، عن جرير، قال: "قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صَحُّوا واشتدوا، قتلوا رعاة اللقاح، ثم خرجوا باللقاح، فبعثني رسول الله - عليه السلام - فلما أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلادهم -إلى أن قال-: فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله - عليه السلام - يقول: النار النار". ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله محمَّد بن الفرج القرطبي المالكي مولى محمَّد بن يحيى بن الطلاع، له كتاب في أحكام النبي، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء " (19/ 199). (¬2) "تفسير الطبري" (6/ 207).

قلت: هذا مشكل على تقدير صحته؛ لأن إسلام جرير كان في السنة العاشرة، وقضية العرنيين كانت في سنة ست على ما ذكرنا, ولكن ذكر الطبراني في "الأوسط" وابن قانع أن جريرا أسلم قديما، فإن صح ما قالاه فلا إشكال. قوله "سمرت أعينهم" وفي رواية: "سملت" قيل: هما معنى واحد، والراء بدلت من اللام، وقيل اللام للشوك وغيره، وقد تكون بحديدة محماة تُدني من العين. وقد تكون مسمارا لتتفق الروايتان. قوله: "وألقوا في الحرَّة" بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي الأرض ذات الحجارة السود، وتجمع علي حَرّ، وحِرَار (¬1) حرّات وحَرين وإحرين، وهو من المجموع النادرة كثُبِين، وقلين في جمع ثبة وقلة، وزيادة الهمزة في أوله بمنزلة الحركة في أرضين وتغيير أول سنين، وقيل: إن واحد إحرين: إحرة (¬2). والحرة هذه أرض بظاهر المدينة، بها حجارة سود كثيرة، وكان بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية. قوله: "أهل ضْرع" الضَّرْع لكل ذات ظلف أو خُفّ، أراد به أنهم كانوا أهل إبل وغنم. قوله: "ولم نكن أهل ريف" الريف كل أرض فيها زرع ونخل، أرادوا أنهم كانوا من أهل البادية، لا من أهل المدن. ص: حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا حماد بن سلمة، عن ثابت وقتادة وحميد، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله وقال: "من أبوالها وألبانها". ش: هذا طريق أخر، وهو أيضا صحيح. وأخرجه الترمذي (¬3) نحوه، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) حِرَار: ضبطت في "الأصل، ك" بفتح الحاء، وهو تحريف، والتصويب من المعاجم. (¬2) انظر "النهاية في غريب الحديث" (1/ 365). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 281 رقم 1845).

ص: فذهب قوم إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهرٌ وأن حكم ذلك حكم لحمه، وممن ذهب إلى ذلك محمَّد بن الحسن، وقالوا لما جعل ذلك النبي - عليه السلام - دواء لما بهم، ثبت أنه حلال؛ لأنه لو كان حراما لم يُدَاوِهم به؛ لأنه داء وليس شفاء. ش: أراد بالقوم المذكورين: الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والحكَم بن عتيبة والثوري، فإنهم استدلوا بالحديث المذكور على طهارة بول ما يؤكل لحمه وممن ذهب إلى ذلك محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، والإصطخري والرُّويَانيُّ من أصحاب الشافعي، وإليه ذهب مالك وأحمد. وقال في داود وابن عُليَّة: بول كل حيوان ونَجْوه -وإن كان لا يؤكل- طاهر غير بول الآدمي. ص: كما قال في حديث علقمة بن وائل بن جُحْر؛ حدثنا ربيع المؤذن، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن طارق بن سُوَيد الحضرمي، قال: "قلت: يا رسول الله، إن بأرضنا أعنابا نعتصرها أفنشرب منها؟ فقال: لا. فراجعته، فقال: لا. فقلت: يا رسول الله إنا نستشفي بها للمريض، قال: ذاك داء وليس شفاء". ش: إشار به إلى الاستدلال بأن الحرام لا يجوز أن يداوى به، ولو كانت أبوال الإبل ونحوها حراما، لَمَا أمرهم - عليه السلام - أن يتداوو به، والدليل عليه حديث طارق بن سويد، فإنه يدل على أن التداوي بالحرام غير جائز، ألا ترى كيف قال رسول الله - عليه السلام -: "ذاك داء وليس شفاء" حتى قال له طارق: "أنا نستشفي بها للمريض"؟ فلو كانت أبوال الإبل ونحوها حراما؛ لما أمر النبي - عليه السلام - بالتداوي به، فأَمْرُه بذلك دَلَّ على أنه حلال، فيكون طاهرا.

ثم إنه أخرج حديث طارق من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل بن حجر الكوفي، عن طارق بن سويد -ويقال: سويد بن طارق- الحضرمي، ويقال: الجُعْفي الصحابي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا بهز وأبو كامل، قالا: ثنا حماد بن سلمة .. إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): ولفظه: "أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - عليه السلام - عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها [قال إنما أصنعها] (¬3) للدواء- فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء". وأخرجه أبو داود (¬4): ولفظه: "أنه سأل النبي - عليه السلام - عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال: يا نبي الله، إنها دواء. فقال النبي - عليه السلام -: "لا, ولكنها داء". وأخرجه الترمذي (¬5): ولفظه: "أنه شهد النبي - عليه السلام - وسأله سويد بن طارق -أو طارق بن سويد- عن الخمر، فنهاه، فقال: إنا نتداوى بها، فقال رسول الله - عليه السلام - إنها ليست بدواء ولكنها داء". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البُرُلُّسِي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬6): عن زكريا بن يحيى الساجي، عن هُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره نحو رواية أحمد سواء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 311 رقم 18809). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1573 رقم 1984). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم". (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 7 رقم 3873). (¬5) "جامع الترمذي" (4/ 378 رقم 2046). (¬6) "المعجم الكبير" (8/ 323 رقم 8212).

قوله: "أفنشرب منها" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "فراجعته" وفي رواية: "فعادوته" وكذا في رواية أحمد. "نستشفي "أي: نطلب الشفاء بها. ص: وكما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من أصحاب النبي - عليه السلام -: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا وهب، قال: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: قال عبد الله: "ما كان الله ليجعل في رجس -أو فيما حرم- شفاء". حدثنا حسين بن نصر، قال: نا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: "اشتكى رجل مِنَّا، فَنُعِتَ له السَّكَرُ، فأتينا عبد الله فسألناه، فقال: إن الله -عز وجل- لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود، عن عطاء، قال: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "اللهم لا تشف مَنْ استَشْفى بالخمر". قالوا: فلما ثبت بهذه الآثار أن الشفاء لا يكون فيما حُرِّم على العباد، ثبت بالأثر الأول الذي جعل النبي - عليه السلام - بول الإبل فيه دواء أنه طاهر غير حرام، وقد روي عن النبي - عليه السلام - في ذلك أيضا ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: نا أسد، قال: نا ابن لهيعة، قال: نا ابن هُبَيرة، عن حنش بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذَّرِبة بطونهم". قالوا: ففي ذلك أيضا تثبيت ما وصفناه، أيضا. ش: هذا عطف على قوله: "كما قال في حديث علقمة" أي وكقول عبد الله ابن مسعود وغيره من الصحابة في حرمة الاستشفاء بالحرام. وأخرج في هذا عن ابن مسعود من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الكوفي، عن عبد الله.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): بأتم منه: ثنا أبو خليفة، نا أبو الوليد الطيالسي ومحمد بن كثير، قالا: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص: "أن رجلا أتى عبد الله، فقال: إن أخي مريض، اشتكى بطنه، وإنه نُعِتَ له الخمر، أفأسقيه؟ قال عبد الله: سبحان الله! ما جعل الله شفاء في رجس، إنما الشفاء في شيئين: العسل شفاء للناس، والقرآن شفاء لما في الصدور". قوله: "في رجس" بكسر الراء أي: في نجس، قال ابن الأثير: الرجس القذر، وقد يُعَبَّر به عن الحرام، والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والكفر، والمراد ها هنا: القذر والحرام. والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا جرير، عن منصور، عن أبي وائل: "أن رجلا أصابه الصَّفَرُ، فَنُعِتَ له السَّكَرُ، فسُئِل عبد الله عن ذلك، فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". قوله: "فنُعتَ له" أي وصف له "السَّكَرُ"، وهو بفتح السين والكاف، وهو الخمر المعتصر من العنب -قاله ابن الأثير- وقال الجوهري: السَكَرُ: نبيذ التمر. وفي التنزيل {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} (¬3) والسَكَّارُ: النَبَّاذ. قوله: "الصَّفَر" بفتح الصاد والفاء، قال الجوهري: الصَفَّر فيما يزعم العرب: حَيّة في البطن تعض الإنسان إذا جاع، واللدغ الذي يجده عند الجوع من لدغه، ولكن المراد ها هنا ما ذكره ابن الأثير، وهو اجتماع الماء في البطن كما يَعْرِضُ للمُسْتَسْقَى، يقال: ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 184 رقم 8910). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 38 رقم 23492). (¬3) سورة النحل، آية: [67].

صُفِرَ فهو مصفور وصفِر صَفَرا فهو صَفِرٌ، والصَّفَر أيضا، دود [يقع] (¬1) في الكبد وشراسيف الأضلاع، فيصفرُّ عنه الإنسان جدّا، وربما قتله. وأخرج في هذا عن عائشة - رضي الله عنها -، عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عاصم النبيل، الضحاك بن مخلد، عن عثمان بن الأسود بن موسى المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة. وهذا أيضا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن معاوية بن هشام عن أبي ذئب، عن الزهري، أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول: "مَنْ تداوى بالخمر فلا شَفَاه الله". وأخرج عن ابن عباس مرفوعا، عن الربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن عبد الله بن هُبَيرة الشيباني، عن حنش بن عبد الله أبي رِشْدين الصنعاني، عن عبد الله بن العباس. ورجاله ثقات إلَّا أن في ابن لهيعة مقالا. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): نا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، نا ابن لهيعة .. إلى آخره، نحوه. قوله: "للذرِبَة بطونهم" من الذَّرَب بالتحريك، وهو الداء الذي يعرض للمعدة فلا تهضم الطعام، ويَفْسُد فيها فلا تمسكه، يتهال: ذَرِبت معدته، تَذْرَبُ، ذَرَبا: فسدت. قوله: "بطونهم" مرفوع بإسناد الذربة إليه، والذَّرِبَة ها هنا صفة مشبهة، بفتح الذال المعجمة وكسر الراء، تقول: رجل ذَرِبٌ، ومَعِدة ذَرِبَة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "النهاية" (3/ 36). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 38 رقم 23498). (¬3) "المعجم الكبير" (12/ 238 رقم 12986).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أبوال الإبل نجسة وحكمها حكم دمائها, لا حكم لحومها. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف والشافعي وأبا ثور وآخرين كثيرين؛ فإنهم قالوا: أبوال الإبل نجسة وحكمها حكم دمائها في النجاسة، لا حكم لحومها. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): والبول كله من كل حيوان، إنسان أو غير إنسان، مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، [ونَجْو كل ما ذكرنا] (¬2) كذلك، أو من طائر، يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه، فكل ذلك حرام كله وشربه، إلَّا لضرورة تداوي أو إكراه، أو جوع أو عطش فقط، وفرضٌ اجتنابه في الطهارة والصلاة، إلَّا ما لا يمكن التحفظ منه إلَّا بحَرَجٍ (¬3)، فهو معفو عنه كونيم الذباب، ونَجْو البراغيث. وقال داود (¬4): بول كل حيوان ونَجْوُه، أكل لحمه أو لم يؤكل فهو طاهر، حاشي بول الإنسان ونجْوه فقط؛ فهما نجسان. ص: وقالوا: أما ما رويتموه من حديث العرنيين فذلك إنما كان للضرورة، فليس في ذلك دليل أنه مباح في غير حال الضرورة؛ لأَنَّا قد رأينا أشياء أُبيحت في الضرورات، ولم تُبَح في غير الضرورات. ش: أي: قال أهل المقالة الثانية مجيبين عما احتج به أهل المقالة الأولى. بيانه: أن ما رويتم من حديث العرنيين كان ذلك لأجل الضرورة، فما أبيح في الضرورة لا يباح في غيرها، كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال، وقد ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 168). (¬2) "ونجو كل ما ذكرنا": كذا بالجيم المعجمة في "الأصل، ك"، وفي "المُحلَّى" (1/ 168): "نحو ما ذكرنا" بالحاء المهملة وهو تحريف. (¬3) في "الأصل، ك"؛ أن لا يخرج، والتصويب من "المحلى". (¬4) "المحلى" (1/ 169).

أبيح لبسه في الجرب، أو للحكة، أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع. والجواب المقنع في ذلك: أنه - عليه السلام - عرف بطريق الوحي شفاءَهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن بحصول الشفاء؛ كتناول الميتة عند المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح مالا يسْتيقن حصول الشفاء فيه. وقال ابن حزم (¬1): صح يقينا أن رسول الله - عليه السلام - إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي كان أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة؛ وقد قال -عز وجل-: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬2)؛ فما اضطُّر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب. وقال شمس الأئمة: حديث أنس - رضي الله عنه - قد رواه قتادة عنه: أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية, حميد الطويل عنه، والحديث حكايته حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، سقط الاحتجاج به. ثم نقول: خصَّهم رسول الله - عليه السلام - بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير - رضي الله عنه - بلبس الحرير لحكة كانت به، وهي القمل، فإنه كان كثير القمل. أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى، ورسوله - عليه السلام - علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الرِّدَّة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس, انتهى. فإن قيل: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم - عليه السلام - بذلك؟ قلت: قد كانت إبله - عليه السلام - ترعى الشِّيحَ والقَيْصَوم، وأبوال الإبل التي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك كان ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 175). (¬2) سورة الأنعام، آية: [119].

الأمر في هذا أنه - عليه السلام - عرف بطريق الوحي كون هذه شفاء، وعرف أيضا مرضهم الذي تُزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا، حتى إذا فرضنا أن أحدا عرف مرض شخص بقوة العلم، وعرف أنه لا يزيله إلَّا تناول المحرم، يباح له حينئذ أن يتناوله، كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة. ص: ورُوِيَت فيها الآثار عن النبي - عليه السلام -: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا همام. (ح). وحدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشيش، قال: حدثنا الحجاج ابن منهال، قال: نا همام، قال: نا قتادة، عن أنس: "أن الزبير وعبد الرحمن ابن عوف - رضي الله عنهما - شَكَوَا إلى النبي - عليه السلام - القمل، فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما، قال أنس: فرأيت على كل واحد منهما قميصا من حرير". ش: أي: رُويت في إباحة الأشياء في الضرورات الآثار عن النبي - عليه السلام - ثم بين ذلك بقوله: حدثنا .. إلى آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي أحد مشايخ أحمد، واحد أصحاب أبي حنيفة، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. والثاني: عن عبد الله بن محمَّد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن الحجاج بن منهال، عن همام ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن محمَّد، عن وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: "رخص النبي - عليه السلام - للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2196 رقم 5501).

ومسلم (¬1): عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة؛ أن أنس بن مالك أنبأهم: "أن رسول الله - عليه السلام - رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القُمُص الحرير في السفر، في حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما". وأبو داود (¬2): عن النفيلي، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة .. إلى آخره نحوه، وليس في لفظه: "أو وجع كان بهما". والترمذي (¬3): عن محمود بن غيلان، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله - عليه السلام - في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، قال: ورأيته عليهما". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن سعيد .. إلى آخره، نحو رواية أبي داود. وابن ماجه (¬5): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن سعيد .. إلى آخره، نحو رواية مسلم. قوله: "شَكَوَا" تثنية شكى مثل غَزَوَا في تثنية غزا، ووقع في رواية الترمذي: "شَكَيَا" مثل رَميَا في تثنية رمى، والأصل أن يقال بالواو؛ لأنه من النواقص الواوية تقول: شكوت فلانا، أشكوه شَكْوا وشكاية، وشَكِيَّة وشَكَاة، إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مَشْكُوُّ ومَشْكِيُّ، والاسم: الشَّكْوى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1646 رقم 2076). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 50 رقم 4056). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 218 رقم 1722). (¬4) "المجتبى" (8/ 202 رقم 5310). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1188 رقم 3592).

قوله: "في قميص الحرير" وفي رواية غيره: "في قُمُص الحرير" على لفظ الجمع. قوله: "في غزاة لهما" وفي رواية أبي داود ومسلم: "في السفر"، وهذا أعم؛ لتناوله الغَزَاة وغيرهَا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح الحريرَ لمن أباح له لبسه من الرجال للحكة التي كانت، فكان ذلك من علاجها, ولم يكن في إباحته ذلك لهم للعلل التي كانت بهم ما يدل على أن ذلك كان مباحا في غير تلك العلل، فكذلك أيضا ما أباحه رسول الله - عليه السلام - للعُرَنِيِّين للعلل التي كانت بهم، فليس في إباحته ذلك لهم دليل على أن ذلك مباح في غير تلك العلل، ولم يكن في تحريم لبس الحرير ما ينفي أن يكون حلالا في حال الضرورة، فكذلك حُرْمة البول في غير حال الضرورة ليس فيه دليل أنه حرام في حال الضرورة، فثبت بذلك أن قول النبي - عليه السلام - في الخمر: "إنها داء وليس شفاء"، إنما هو لأنهم كانوا يتشفون بها لأنها خمرٌ؛ فذلك حرام، وكذلك قول عبد الله -عندنا-: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" إنما هو لما كانوا يفعلون بالخمر، لأعظامهم إياها, ولأنهم كانوا يعدونها شفاء في نفسها، فقال لهم: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". فهذه وجوه هذه الآثار, فلما احتملت ما ذكرنا ولم يكن فيها دليل على طهارة الأبوال، احتجنا أن نُراجع، فنلتمس ذلك من طريق النظر، فنعلم كيف حكمه؟ فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم كلُّ قد أجمع أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسه، فكانت أبوالهم باتفاقهم محكوما لها بحكم دمائهم، لا بحكم لحومهم، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك أبوال الإبل يُحكم لها بحكم دمائها لا بحكم لحومها. فثبت بما ذكرنا أن أبوال الإبل نجسة، فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة: ش: النُّسَخ في هذا الموضع مختلفة، وأحسنها ما كتبناه، وهو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

قوله: "فثبت بذلك أن قول النبي - عليه السلام -، في الخمر: إنها داء وليس بشفاء"، جواب عن حديث طارق بن سويد الحضرمي. وقد طغى ابن حزم فيه (¬1)، قال: إنما جاء من طريق سماك بن حرب، وهو يَقْبلُ التلقين، شهد بذلك شعبة وغيره (¬2)، ثم لو صحَّ لم يكن فيه حجة؛ لأن فيه أن الخمر ليست دواء. ولا خلاف بيننا أن ما ليس دواء، فلا يحل تناوله إذا كان حراما] (¬3) وإنما خالفناهم في الدواء، وجميع الحاضرين لا يقولون بهذا، بل أصحابنا والمالكيون يُبيحون للمختنق شربَ الخمر إذا لم يجد ما يُسيغ أكلته به غيرها، والحنفيون والشافعيون يُبيحونها عند شدة العطش. قوله: "وكذلك قول عبد الله"، جواب عن أثر عبد الله بن مسعود، وهو ظاهر. وذكر ابن حزم في "المحلى" قول ابن مسعود، وجعله حديثا عن النبي - عليه السلام -، فقال: رُوِيَ من طريق جرير، عن [سليمان] (¬4) الشيباني، عن حسان بن المخارق، عن أم سلمة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" ثم قال: هذا حديث باطل؛ لأن [سليمان] (¬5) الشيباني مجهول (¬6). ¬

_ (¬1) نقل ابن حزم عن شعبة وغيره ثابت: انظر "الميزان" (2/ 423)، فينظر في قول المؤلف: (طغى). (¬2) "المحلى" (1/ 175). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) في "الأصل، ك": سَلْمَان، وهو في "المحلى" على الصواب. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) لم يعلق المصنف على تجهيل ابن حزم للشيباني، وهو من مفاريده في الرجال؛ فالشيباني ثقة حجة، روى له الجماعة، قال ابن عبد البر وهو من شيوخ ابن حزم: "هو ثقة حجة عند جميعهم" انظر: "التهذيب" (2/ 408) وتعليق الشيخ شاكر على كلام ابن حزم في "المحلى" (2/ 176) هـ (2): وإنما المجهول سليمان ابن أبي سليمان الهاشمي، مولى ابن عباس، فكأن ابن حزم خلط بينهما، لما قيل في الشيباني الثقة إنه مولى ابن عباس أيضًا، والصواب كما قال ابن حجر: الأول شيباني الولاء.

قلت: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1) وصححه، قال: أنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: نا أبو خيثمة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن حسان بن المخارق قال: "قالت أم سلمة: اشتكت ابنة لي، فنبذت لها في كوز، فدخل النبي - عليه السلام - وهو يغل، فقال: ما هذا؟ فقلت: إن ابنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال - عليه السلام -: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام". قوله: "كل قد أجمع" أي: كل واحد من أهل المقالتين. ص: وقد اختلف المتقدمون في ذلك، فمما روي عنهم في ذلك: ما حدثنا حسين بن نصر قال: نا الفِريابيُّ، قال: نا إسرائيل، قال: نا جابر، عن محمَّد بن علي، قال: "لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، أن يتداوى بها". قال أبو جعفر: فقد يجوز أن يكون ذهب إلى ذلك؛ لأنها عنده طاهرة في الأحوال كلها، كما قال محمَّد بن الحسن، وقد يجوز أن يكون أباح العلاج بها للضرورة إليها، لا لأنها طاهرة في نفسها, ولا مباحة في غير حال الضرورة إليها. حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفِرْيابيُّ، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: "كانوا يستشفون بأبوال الإبل، لا يرون بها بأسا". فقد يحتمل هذا أيضا ما احتمله قول محمَّد بن علي - رضي الله عنه -. حدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفريابي، قال: أنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال: "كل ما أكل لحمه فلا بأس ببوله". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا مكشوف المعنى. حدثنا بكر بن إدريس، قال: نا آدم، قال: نا شعبة، عن يونس، عن الحسن: "أنه كره أبوال الإبل والبقر والغنم، أو كلاما هذا معناه". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 233 رقم 1391).

ش: أراد بالمتقدمين التابعين؛ فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، أي في حكم بول الإبل ونحوه، هل يجوز به التداوي أم لا؟ وأخرج في ذلك عن أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - القرشي الهاشمي، المدعو بالباقر، وهو أحد الأئمة الاثنى عشر في اعتقاد الإمامية، سمي باقرا لأنه تَبَقَّر في العلم، أي توسمع، والتَّبَقُّر: التوسع، وهو ممن روى له الجماعة. وإبراهيم النخعيِّ، وعطاءٍ، والحسن البصريِّ. فالأول: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي (¬1) شيخ البخاري، عن إسماعيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي. عن جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال كثير ة فعن أبي حنيفة: ما لقيت -فيمن لقيت- أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأي، إلَّا جاء فيه بأثر. وعن جرير بن عبد الحميد: كان يؤمن بالرجعة. وقال عباس الدُّوري: كان كذابا، ليس بشيء. وعن زائدة: رافضِيّ يشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ووثقه آخرون. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: "لا بأس بأبوال الإبل أن يتداوى بها". والثاني: عن حسين بن نصر، عن الفِرْيابيّ أيضا، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عبد الله بن يوسف الفريابي، وهذا خطأ فالفريابي هو محمَّد بن يوسف بن واقد أبو عبد الله الفريابي شيخ البخاري، وليس عبد الله بن يوسف انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" وفروعه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 56 رقم 23651).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: "لا بأس أن يستنشق [من] (¬2) أبوال الإبل". والثالث: عن حسين أيضا، عن الفِرْيابى، عن سفيان، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال: "ما أكل لحمه فلا بأس ببوله". والرابع: عن بكر بن إدريس، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن يونس ابن أبي إسحاق، عن الحسن. وأخرجه محمَّد بن الحسن في "آثاره" (¬4): أنا أبو حنيفة، نا رجل من أهل البصرة، عن الحسن البصري، أنه قال: "لا بأس ببول كل ذات كرش". قال محمَّد: وكان أبو حنيفة يكرهه ويقول: إذا وقع في وَضُوءٍ أفسدهُ، وإن أصاب الثوب منه شيء ثم صل فيه، أعاد الصلاة. قال محمَّد: ولا أرى به بأسا؛ لا يفسد ماء ولا وضوءا ولا ثوبا. قوله: "أو كلاما هذا معناه" أشار به إلى أن هذا الأثر قد روي عن الحسن بغير هذا اللفظ، على ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5) قال: نا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن، قال: "كان يرى أن تغسل الأبوال كلها". نا (¬6) فضيل عن أشعث، عن الحسن: "أنه كان يغسل البول كله، وكان يرخص في أبوال ذات الكروش" -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 56 رقم 23654). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المصنف". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 109 رقم 1241). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 259) عن الثوري، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن. (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 109 رقم 1237). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 109 رقم 1238).

ص: باب: صفة التيمم كيف هي؟

ص: باب: صفة التيمم كيف هي؟ ش: أي هذا في بيان صفة التيمم كيف هي؛ هل هي ضربة واحدة، أو ضربتان، أو أكثر؟ وكيف ماهية الضرب؟ وأصل التيمم من الأَمِّ، وهو القصد، تقول: أَمَّةُ يَؤُمه أَمّا إذا قصده، ويقال: أَمَّ، وتَأمّم، ويَمّم، وتَيْمّم، بمعنى واحد. ذكره أبو محمَّد في "الكتاب الواعي" وفي "المحكم": وايتمّه. والتيمم أصله من ذلك؛ لأنه يقصد التراب فيتمسح به. وفي "الجامع" عن الخليل: التيمم يجري مجرى التوخي، تقول: تيَمَّمْ أطيبَ ما عندك فأطْعِمْنَا منه، أي: توخَّاه (¬1) وقال الفراء: ولم أسمع: "يَمَمْتُ" بالتخفف، وفي "التهذيب" لأبي منصور: التعمد. قلت: التيمم في اللغة مطلق القصد. قال الشاعر (¬2): ولا أَدْرِي إذا يَمَّمْتُ أَرْضا ... أُريِدُ الْخيرَ أَيُّهُمَا يَلِيني أَأَلْخيرُ الذي أَنَا أَبْتَغِيه ... أَمِ الشَّرُّ الّذي هو يَبتَغِيني وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة الخبر (¬3). وإنما لم يقل: كتاب صفة التيمم؛ لأن كتاب الطهارة يشمله، فلا يحتاج إلى ذكر الكتاب، وهو نوع من الطهارة فلا يُذكر إلا بالباب. ¬

_ (¬1) توخاه: كذا في "الأصل، ك"، وهي كذلك أيضًا في "عمدة القاري" (2/ 2) ولعل الأظهر: تَوَخَّهُ؛ لأن الفعل المُفسَّر (تيممْ) فعلُ أمرٍ. (¬2) هو المُثَقِّب العبدي، آخر بيتين له من قصيدة من "المفضليات"، رقم (76) و"الحماسة البصرية" رقم (89) وفي المصدرين تخريج الأبيات مفصلًا وقوله: (يممت أرضًا) موافق لرواية "الحماسة"، وفي "المفضليات": (أمرًا). (¬3) في "عمدة القاري": "لاستباحة الصلاة، وإقامة الأمر" وهي أوضح.

ولما فرغ من أحكام الوضوء الذي هو طهارة صغرى، وما يتعلق به، شرع يذكر التيمم الذي هو خَلَفٌ عنه، والخلف أبدا يلي الأصل. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا الوهبي، قال: نا ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، قال: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت آية التيمم، فضربنا ضربة واحدة للوجه، ثم ضربنا ضربة لليدين إلى المنكبين، ظهرا وبطنا". ش: الوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي، ونسبته إلى وهب والد عبد الله بن وهب. وابن إسحاق: هو محمَّد بن إسحاق بن يَسار المدني. والزهري: هو محمَّد بن مسلم الزهري. وعُبَيد الله: هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، الفقيه الأعمى المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكلهم ثقات أئمة أجلاء. وأخرجه أبو داود منقطعا وموصولا: أما المنقطع (¬1): فقد قال: نا أحمد بن صالح، نا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، حدثه عن عمار بن ياسر: "أنه كان يحدث أنهم تمسحوا، وهم مع رسول الله - عليه السلام - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط، من بطون أيديهم". وإنما قلنا: إنه منقطع؛ لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك عمارا، قاله الشيخ زكي الدين المنذري. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 86 رقم 318).

وأما الموصول (¬1): فقد قال: نا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري -في آخرين- قالوا: نا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهم -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَرّس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عِقْد لها من جزع ظفار، فحبس الناسَ ابتغاءُ عقدِها ذلك، حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله - عليه السلام -، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط. وأخرجه النسائي (¬2): أيضا موصولا هكذا. وأخرجه ابن ماجه (¬3): منقطعا وليس فيه: "المناكب". قوله: "للوجه" أي لأجل مسح الوجه. قوله: "إلى المنكبين" تثنية مَنْكِب بفتح الميم وكسر الكاف وهو مجمع عظم العضد والكتف. قوله: "ظهرا وبطنا" منصوبان على التمييز، يعني من حيث الظهر ومن حيث البطن؛ لأن قوله: "لليدين إلى المنكبين" يحتمل أن يكون في ظاهر اليدين إلى المنكبين بدون باطنهما، ويحتمل أن يكون في باطنهما دون ظاهرهما، فلما قال: ظهرا وبطنا زال ذلك الاحتمال. ص: حدثنا ابن أبي داود ومحمد بن النعمان، قالا: نا عبد العزيز بن عبد الله الأوَيْسي، قال، نا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب ... فروي بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 86 رقم 320). (¬2) "المجتبى" (1/ 167 رقم 314). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 189 رقم 571).

ش: هذا طريق آخر ورجاله ثقات، عن إبراهيم بن أبي داود البُرُلُّسي ومحمد بن النعمان السقطي، كلاهما عن عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أُوَيْس، القرشي العامري الأُوَيْسي، أبي القاسم المدني، أحد مشايخ البخاري في الصحيح. عن إبراهيم بن سعد الزهري أبي إسحاق المدني. عن صالح بن كيسان أبي محمَّد المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله .. إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري .. إلى آخره. كما أخرجه أبو داود، وقد ذكرناه الآن (¬2). ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: أنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، أنه أخبره عن أبيه، عن عمار، قال: "تمسحنا مع النبي - عليه السلام - بالتراب، فمسحنا وجوهنا وأيدينا إلى المناكب". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد الله بن مخارق البصري، ابن أخي جويرية بن أسماء شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن جويرية بن أسماء بن عبيد، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عتبة ابن مسعود، عن عمار بن ياسر. ورجاله رجال الصحيح، ما خلا إبراهيم. وأخرجه النسائي (¬3): أنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن ¬

_ (¬1) "مسندأحمد" (4/ 263). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "المجتبى" (1/ 168 رقم 315).

أسماء، قال: نا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه أخبره عن أبيه، عن عمار، قال: "تيممنا مع رسول الله - عليه السلام -[بالتراب] (¬1) فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب". قوله: "تمسحنا" أي: تيممنا كما جاء في قوله: "تمسحوا بالأرض" أراد به التيمم، وكما وقع في رواية النسائي: "تيممنا". ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: نا سعيد بن داود، قال: نا مالك، أن ابن شهاب حدثه، أن عبيد الله -هو ابن عبد الله-[أخبره] (¬2) عن أبيه عن عمار مثله. ش: هذا طريق آخر عن محمَّد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، وثقه ابن يونس. عن سعيد بن داود بن سعيد بن أبي زَنْبَر، عن [أبي] (¬3) عثمان المدني، روى عنه البخاري في الصحيح، وضعفه ابن حبان وغيره. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن بشار، قال: حدثني سفيان بن عُيينة، قال: نا عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمار، قال: "تيممنا مع النبي - عليه السلام - إلى المناكب". ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي أحد مشايخ أبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه عبد الله بن عتبة، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن النسائي". (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من شرح "معاني الآثار" (1/ 110). (¬3) في "الأصل، ك": "ابن أبي" وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب حذف "ابن" فإن أبا عثمان: هي كنية سعيد نفسه، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال".

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن عمرو بن العباس الناجي، ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار، قال: "تيممنا مع رسول الله - عليه السلام - إلى المناكب والآباط". ولا تعلم [روى] (¬2) عبد الله بن عتبة، عن عمار إلَّا هذا الحديث. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار بن ياسر، قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - في سفر، فهلك عقد لعائشة - رضي الله عنها - فطلبوه حتى أصبحوا, وليس مع القوم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم بالصُّعُدَات، فقام المسلمون فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وظاهر أيديهم إلى المنكب، وباطنها إلى الآباط. ش: رجاله ثقات وإسناده منقطع؛ لأن عبيد الله لم يدرك عمارا كما ذكرناه. وأخرجه أبو داود نحوه وقد ذكرناه (¬3)، وابن أبي ذئب: هو محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب. وأخرج البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، والنسائي (¬6): حديث عائشة في انقطاع العقد، وليس فيه كيفية التيمم. قوله: "في سفر" أراد سفر الحج أو الغزاة، ولكن جاء في بعض ألفاظ الصحيح أنه ضاع عقدها في غزوة المُرَيْسِيع التي كانت فيها قصة الإفك، قال أبو عُبَيد البكري في حديث الإفك: فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاؤه. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (4/ 239 رقم 1403). (¬2) في "الأصل، ك": "روى عن" وحرف "عن" ليس عند البزار والصواب حذفه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 127 رقم 327). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 279 رقم 367). (¬6) "المجتبى" (1/ 163 رقم 310).

وقال ابن سعد: خرج رسول الله - عليه السلام - إلى المُرَيْسيع يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس. ورجحه أبو عبد الله في "الإكليل" وقال البخاري: عن أبي إسحاق سنة ست، قال البخاري: قال موسى بن عقبة: سنة أربع. واختلفوا متى نزلت آية التيمم؟ فزعم ابن التين أنها نزلت في المريسيع سنة ست، وكذا قاله الإِمام عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بَزِيزَة في شرح كتاب "الأحكام الصغرى" لأبي محمَّد الإشبيلي وزعم ابن الجوزي أن ابن حبيب قال: سقط عقدها في السنة الرابعة في عزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق سنة ست قصةُ الإفك. قلت: يعارض هذا ما رواه الطبراني (¬1): من أن الإفك قبل التيمم فقال: نا القاسم بن حماد، نا محمد بن حميد الرازي، نا سلمة بن الفضل وإبراهيم بن المختار، عن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: "لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي، حتى حبس الناس على التماسه وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال: يا بنية: في كل سفر تكونين عناء وبلاء؟! ليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك ما [علمتٌ] (¬2) لمباركه. قلت: إسناده جيد حسن. وزعم البكري أن سقوطه كان بمكان يقال له: "الصُّلْصُل" بالمهملتين، قيل: وهو الصحيح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 121 رقم 159). (¬2) في "الأصل، ك": عمدت وهو تحريف، والمثبت من "معجم الطبراني" ..

وأما الجوهري فكذلك ذكره بالمهملتين، وفي "العباب"، الصُّلْصُل موضع على طريق المدينة، وصُلْصُل ماء قرب اليمامة لبني العجلان، وصلصل ماء في جوف هضبة حمراء، ودَارَةُ صُلْصُل لبني عمرو بن كلاب، وهي بأعلى دارها، ذكر كل ذلك في المهملة (¬1). قوله: "فهلك عقد" أي: ضاع وسقط، وهو من الهلك بالتحريك، وهو الشيء الذي يهوي ويسقط، ولهذا جاءت في رواية أخروى: قالت عائشة: "سقط قلادة لي بالبيداء" وفي رواية: "انقطع عقد لي"، والعِقْدُ بكسر العين وسكون القاف: القلادة، وذكر السفاقسي أن ثمنه كان يسيرا، وقيل: كان ثمنُه اثني عشر درهما، وفيه دلالة على حرمة الأموال الحلال، [وأَلَّا تضاع] (¬2). وذكر ابن مسلمة المالكي في مبسوطه: فيه (جواز) (¬3) حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت، وعلى هذا يجوز للإنسان سلوك طريق يتيقين فيه عدم الماء طلبا للمال. قوله: "وليس مع القوم ماء" جملة خبرية وقعت حالا. قوله: "فنزلت الرخصة" أراد آية التيمم، وقال أبو بكر بن العربي: هذه مُعْضِلة ما وجدت لدائها من دواء؛ [هما] (¬4) آيتان فيهما ذكر التيمم: في النساء والمائدة فلا نعلم أيتها عنت عائشة - رضي الله عنها - بقولها: "فأنزلت آية التيمم". ¬

_ (¬1) وانظر "معجم البلدان" (2/ 421). (¬2) في "الأصل، ك": الأبضاع، بالباء الموحدة، وقد تقرأ: وألا يُضاع، يعني: المال، وما أثبتنا أظهر. وفي "العمدة" (2/ 7): "ولا يضيعُها" .. (¬3) تكررت في "الأصل، ك". (¬4) ليست في "الأصل، ك"، وأثبتها من "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 441) والعبارة فيه بنحو مما هنا وفي هذا الموضع من "الأصل" غبش في مصورتنا، وانظر "عمدة القاري" (2/ 5).

وقال السفاقسي كلاما طويلا ملخصه: [أن الوضوء] (¬1) كان لازما لهم، وآية التيمم إما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلَّا بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يُذكر الوضوء لكونه متقدما متلوّا؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزل عقب هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية وهو: {كُنْتُمْ مَرْضَى أَو} أو: يحتمل أن يكون كان بالسُّنَّة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا فعبرت عائشة بالتيمم؛ إذ كان هو المقصود. وقال القرطبي أرادت به آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء. قلت: لو رأى هؤلاء ما ذكره أبو بكر الحميدي في "جَمْعِه" في حديث عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ... فذكر الحديث، وفيه فتزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى} الآية إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) لما احتاجوا إلى الترخص والله أعلم. قوله: "بالصُّعُدات" بضم الصاد والعين جمع: صُعُد وهو جمع صعيد، كطريق وطرق وطرقات، وقيل: هي جمع صُعْدَة، كظُلْمة تجمع على ظلمات. قوله: "إلى الآباط" بمد الهمزة المفتوحة جمع إبط بكسر الهمزة والباء، ويجوز فيه تسكين الباء (¬3). ص: حدثنا ابن أبي داود ومحمد بن النعمان، قالا: ثنا الأُوَيْسيُّ، قال: نا إبراهيم ابن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس - رضي الله عنهم - عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل، ك"، والعبارة في "عمدة القاري" (2/ 5) على الصواب، بدون تكرار. (¬2) سورة المائدة، آية: [6]. (¬3) الوجْه أن يُقال هنا: بسكون الباء، ويجوز فيه كسر الباء، كما هو صنيع "القاموس" و"المعجم الكبير" فسكون الباء هو الأصل، حتى إن "اللسان" أهمل ذكر الكسر، "والمصباح" أنكره.

ش: هذا طريق أخر وهو متصل صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ونسبته إلى جدِّه أُوَيْس بضم الهمزة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: قد ذهب قوم إلى هذا، فقالوا: هكذا التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المناكب والآباط. ش: أراد بالقوم: محمَّد بن مسلم الزهري ومن تبعه، وقد قيل: إن هذا المذهب، وهو مذهب الزهري فقط ولم يقل غيره. قلت: نقل ابن بزيزة أن هذا مذهب ابن مسلمة والزهري أيضا، وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وقد ذهب قوم إلى أن التيمم إلى المناكب، ثم قال: وبه كان يقول عمار والزهري. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافترقوا فرقتين. فقالت فرقة منهم: التيمم للوجه واليدين إلى المرفقين. وقالت فرقة: التيمم للوجه والكفين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم جماهير العلماء، والأئمة الأربعة وأصحابهم فإن أحدا منهم لم يقل إن التيمم إلى الآباط. ثم افترق هؤلاء فرقتين: فقالت فرقة منهم: التيمم للوجه واليدين إلى المرفقين؛ وهو مذهب الأكثرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول الشافعي ومالك -في رواية- والثوري والشعبي والحسن. وإليه ذهب علي بن أبي طالب وعبد الله بن عُمَرَ، وابنه سالم بن عبد الله. وقالت فرقة: التيمم للوجه والكفين، وهو مذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث. ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 153).

وعن ابن سيرين: لا يجزئه أقل من ثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة ثانية لكفيه، وثالثة لذراعيه، وعنه: ثلاث ضربات؛ الثالثة لهما جميعا. وفي "القواعد" لابن رشد: روي عن مالك الاستحباب إلى ثلاث، والفرض اثنتان وفي "شرح الأحكام" لابن بزيزة: قالت طائفة من العلماء: يضرب أربع ضربات، ضربتان للوجه، وضربتان لليدين، قال ابن بزيزة وليس له أصل من السنة. وقال أبو عمر (¬1): اختلف العلماء في كيفية التيمم، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وابن أبي سلمة والليث: إلى المرفقين. وقال الأوزاعي: التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين وهما الرُّسْغان، والفرض عند مالك إلى الكوعين، الاختيار إلى المرفقين، وروى عن الأوزاعي -وهو أشهر قوليه-: التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين، وهو قول عطاء والشعبي في رواية, وبه قال أحمد وإسحاق والطبري، وهو أثبت ما روي في ذلك عن عمار، رواه شقيق، عن أبي موسى، عن عمار ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها. وحكاه الخطابي عن عامة أصحاب الحديث. وقال الحسن بن حَيّ وابن أبي ليلى: التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومِرفقيه (¬2)، ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم غيرهما في علمي. وفي "المغني" (¬3) لابن قدامة: المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة، فإن تيمم بضربتين جاز، وقال القاضي: الإجزاء يحصل بضربة، والكمال بضربتين انتهى. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (19/ 282) بتصرف واختصار. (¬2) في "الأصل، ك": ورفقيه، خطأ. (¬3) "المغني" (1/ 154).

ويدخل المرفقان في التيمم عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وهو قول ابن عمر وابنه سالم والحسن والشعبي. وعن مالك: التيمم إلى الكوعين: وهو قول الشافعي في القديم، وأحمد في رواية. وعن مالك: أنه في الجنابة إلى الكوعين، وفي الحدث الأصغر إلى المنكبين. ص: فكان من الحجة لهاتين الفرقتيق على الفرقة الأولى: أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - لم يذكر أن النبي - عليه السلام - أمرهم أن يتيمموا كذلك، وإنما أنزل منها {صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (¬1) ولم يبين لهم كيف يتيمموا، فكان ذلك عندهم على كل ما فعلوا في التيمم، لا وقَّت في ذلك وقتا, ولا عضوا مقصودا به إليه بعينه، حتى نزلت بعد ذلك {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا} (¬2). ش: هذا جواب عن حديث عمار الذي احتج به الزهري ومن تابعه فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر، وهذا يُشعر باعتراف الطحاوي بصحة حديث عمار، فلذلك حمله على هذا المحمل، وصححه أيضا ابن حزم. وقال الترمذي: وضعّف بعض أهل العلم حديث عمار. وفي "التمهيد" (¬3): كُلُّ ما يروى عن عمار في هذا مضطرب مختلف فيه، وأكثر الآثار المرفوعة عنه ضربة واحدة للوجه واليدين خلافه، وإن كان عن أمر فهو منسوخ، وناسخه حديث عمار أيضا: "إنما يكفيك أن تفعل هكذا". فإن قيل: فلو كان عمار حفظ التيمم في أول الأمر، وكان الثاني بعد الأول، كما زعمتم، لما اضطر عمار إلى التمرغ. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [43]، والمائدة، آية: [6]. (¬2) سورة المائدة، آية: [6]. (¬3) "التمهيد" (19/ 287) بنحوه.

قلت: إنما أشكل على عمر وعمار لحصول الجنابة، فاعتزل عمر - رضي الله عنه - وتمعك عمار؛ ظنّا منه أن حالة الجنابة تخالف حالة الحدث الأصغر. وعندي جواب حسن عن هذا الحديث، وهو أنهم أجروا اسم اليد على ظاهر الاسم؛ لأن اليد لغة: من رؤوس الأنامل إلى الآباط، ولم يكن عندهم دليل الخصوص، فأجروا الحكم على ظاهره، ولكن قام دليل الإجماع في إسقاط ما وراء المرفقين، فسقط، وما دونهما بقي على الأصل؛ لاقتضاء الاسم إياه، ويؤيده أن التيمم بدل عن الوضوء والبدل لا يخالف المبدل. وقال الكاساني في "البدائع" (¬1): وحديث عمار معارض، والمعارض لا يصلح حجة. وقد قال إسحاق بن إبراهيم قريبا من كلام الطحاوي، وهو أن حديثه "تيممنا مع النبي - عليه السلام - إلى المناكب والآباط" ليس بمخالف لحديث الوجه والكفين؛ لأن عمارا لم يذكر أن النبي - عليه السلام - أمرهم بذلك، وإنما قال: فعلنا كذا وكذا، فلما سأل النبي - عليه السلام - أمره بالوجه والكفين، فانتهى إلى ما عَلَّمه رسول الله - عليه السلام -، والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - عليه السلام - في التيمم أنه قال: الوجه والكفين. وقال الشافعي: ذكر عمار تيممهم مع النبي - عليه السلام - إلى المناكب منسوخ عنده؛ لأنه رَوى عنه - عليه السلام - أنه أمر بالتيمم على الوجه والكفين، فإن لم يرو عنه إلَّا تيمما واحدا فاختلف رواته عنه، فتكون رواية ابن الصمَّة التي لم تختلف أثبت، وإذا لم تختلف فأولى أن يؤخذ بها؛ لأنها أوفق لكتاب الله من الروايتين اللتين رويتا مختلفتين، أو يكون إنما سمعوا آية التيمم عند حضور الصلاة، فتيمموا واحتاطوا وأتوا على غاية ما يقع عليه اسم اليد؛ لأن ذلك لا يضرهم، كما لا يضرهم لو فعلوه في الوضوء، فلما صاروا إلى سؤاله - عليه السلام - أخبرهم أنه يجزئهم أقل مما فعلوا. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 46) بنحوه.

ص: ومما يدل على ما قلنا من ذلك ما: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، حدثه أنه سمع عروة يخبر، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أقبلنا مع النبي - عليه السلام - في غزوة [له] (¬1) حتى إذا كنا بالمعرَّس، قريبا من المدينة، نَعَسْتُ من الليل، وكانت عليَّ قلادة تدعي السِمْط، تبلغ السُّرّةَ، فجعلت أَنْعُسُ، فخرجتْ من عنقي، فلما نزلتُ مع النبي - عليه السلام - لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرَّت قلادتي. فقال للناس: إن أمكم قد ضلّت قلادتها فابتغوها، فابتغاها الناس، ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرتهم الصلاة، ووجدوا القلادة، ولم يقدروا على ماء، فمنهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، وبعضهم تيمم على (جلده) (¬2) فبلغ ذلك رسول الله - عليه السلام - فأنزلت آية التيمم. ففي هذا الحديث: أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلِف، الذي بعضه إلى المناكب، فعلمنا بتيممهم أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلمنا بقولها: "فأنزل الله -عز وجل- آية التيمم" الذي نزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، فهذا وجه حديث عمار عندنا. ش: أي: من الذي يدل على ما قلنا من ذلك، أي: من قولنا، فقد يحتمل أن تكون الآية لما أنزلت لم تنزل بتمامها .. إلى آخره. وجه دلالة هذا الحديث على ما قاله، أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا تيمما مختلفا في نفسه، من غير أن يحيطوا علما بصفته وكيفيته، ثم لما نزلت آية التيمم علموا صفة التيمم ما هي، وحديث عمار الذي فيه ذكر الآباط والمناكب محمول على هذا المعنى؛ لأنه أخبر عن التيمم الذي وقع منهم قبل نزول آية التيمم، ولهذا روى عمار بعد هذا أن التيمم للوجه والكفين، على ما يجيء إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كذا"، وهو تحريف، وستأتي في الشرح على الصواب، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (1/ 111). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار" (1/ 111) جسده.

وجواب آخر عن حديث عمار: أنه لما اختلفت أحاديثه في هذا الباب، واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم مع ذلك، على أن عمارا لم يَعْزُ ذلك إلى النبي - عليه السلام - وإنما حكى فعل نفسه، فلم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال، وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غَسْلِه ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه، على وجه المبالغة فيه، لقول النبي - عليه السلام -: "إنكم الغُرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن أراد منكم أن تطول غرته فليفعل. فقال أبو هريرة: إني أحب أن أطيل غُرَّتي" (¬1). ثم بقي من أخبار عمار ما عزاه إلى النبي - عليه السلام - الوجه والكفان، ونصف الذراع إلى المرفقين، فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى؛ لوجوه: إحداها: أنه زائد على روايات الآخرين، وخبر الزائد أولى. والثاني: أن آية الوضوء تقتضي اليدين إلى المنكبين، لدخولهما تحت الاسم، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل، وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين، فبقي حكمه إلى المرفقين. والثالث: أن في حديث أبي عامر وجابر والأسلع: التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهم في رواياتهم. ثم رجال حديث عائشة - رضي الله عنها - ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالا. وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبو عبد الله المصري، بَحْشَل، ابن أخي عبد الله ابن وهب، روى عنه مسلم وابن جرير الطبري وابن خزيمة. وعمه عبد الله بن وهب. وأبو الأسود عبد الرحمن المدني. وحديث انقطاع العقد حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، وليس في حديثهم ذكر صفة التيمم. ¬

_ (¬1) "أخرجه مسلم" (1/ 216 رقم 246) بنحوه.

فقال البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء -أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - عليه السلام - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟! أقامت بالناس والنبي - عليه السلام - وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله - عليه السلام - واضع رأسه على فخذي، فدنا ثم قال: أحبست رسول الله - عليه السلام -، والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يَطْعَنُنِي بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - عليه السلام - على فخذي. [فقام رسول الله - عليه السلام -] (¬2) حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله -عز وجل- آية التيمم، فتيمموا فقال أُسَيْد بن حُضَير: مَا هي بأول بركتكم، يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعيرَ، فأصبنا العقد تحته". وفي لفظ: (¬3) استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله - عليه السلام - رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله - عليه السلام - فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد لعائشة: جزاك الله خيرا، والله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلَّا جعل الله تعالى ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا". وأخرج مسلم الروايتين: الأولى: (¬4) عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره. والثانية: (¬5) عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: نا أبو أسامة، وعن أبي كريب، قال: نا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 127 رقم 327). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 128 رقم 329). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 279 رقم 367). (¬5) سبق تخريجه.

أبو أسامة وابن بشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت .. إلى، آخره نحوه". وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن مالك .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن النفيلي، عن أبي معاوية. وعن عثمان بن أبي شيبة، قال: أنا عبدة -المعنى واحد- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "بَعَثَ رسول الله - عليه السلام - أسيد بن حضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي - عليه السلام - فذكروا ذلك له، فأُنزلت آية التيمم" زاد ابن نفيل: "فقال لها أسيد: رحمك الله، ما نزل بك أمر تكرهينه إلَّا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجا". قوله: "في غزوة له" هي غزوة المُرَيْسيع، وقد مَرَّ الكلام فيه مستوفي عن قريب. قوله: "حتى إذا كنا بالمُعَرَّس" بضم الميم وفتح العين والراء المشددة، وهو موضع التعريس، وبه سُمِّيَ مُعَرَّس ذي الحليفة، عرَّس به النبي - عليه السلام - وصلى فيه الصبح، ثم رحل. والتعريس هو النزول في آخر الليل، نزل للنوم والاستراحة، يقال فيه: عَرَّس يُعِّرس تَعْريسا، ويقال فيه: أعرس. فعلى هذا يجوز أن يقال في قوله: "حتى إذا كنا بالمُعْرَس" بضم الميم وسكون العين وفتح الراء المخففة. قوله: "قريبا من المدينه" بيان لقوله "بالمعرس"، وانتصابه على أنه حال منه. قوله: "نَعَسْت" من: نَعَسَ، يَنْعُسُ -من باب نَصَرَ يَنْصُر (¬3) - نُعاسا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 163 رقم 310). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 86 رقم 317). (¬3) كما في "المصباح"، وهي في "لسان"، بضبط القلم، و"فصيح ثعلب" (1/ 21) شرح الزمخشري و"أدب الكاتب" (625) وغيرها. وفي "القاموس": أنه "كمنع"، وذكر الزمخشري في "شرح الفصيح" أنها لغة بني عامر.

ونعسة، فهو ناعس، ولا يقال: نعسان (¬1)، و [النُّعَاس]، (¬2) الوسن، وأول النوم. قوله: "يدعى السِمْط" بكسر السين وسكون الميم، وهو الخيط ما دام فيه خرز، وإلَّا فهو سلك، وأصله من التسميط وهو التعليق: يقال: سمطت الشيء: علقته على السُّموط، تسميطا، والسُّمُوط: السير الذي يعلق من السرج، وجمعه سماط. قوله: "تبلغ السرة" في محل الرفع على أنه صفة للسمط. قوله: "خرت" أي سقطت، من الخرور، وهو السقوط. قوله: "قد ضلَّت قلادتُها" برفع قلادة، يعني ضاعت، يقال: ضَلَّ الشيء يضل ضلالا، إذا ضاع وهلك، والاسم الضُّلُّ، بالضم. ويجوز نصب القلادة، من قولهم: ضَلَلْتُ الشيءَ، وضَلِلْتُه، إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو، قال الجوهري: وقد ضَلَلْتُ أَضِلّ، قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} (¬3) فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضَلِلْتُ بالكسر أَضِل، وقال: ابن السَّكَيت: أضللت بعيري: إذا ذهب منك، وضللت المسجد والدار، إذا لم تعرف موضعهما. قوله: "فابتغوها" أي: اطلبوها، والابتغاء: الطلب. قوله: "إلى أن حضرتهم الصلاة" أي صلاة الصبح، والألف واللام فيه للعهد، أي: زمن؛ لأن صلاة الصبح قد ذكرت قبلها. ¬

_ (¬1) إلا في كلام العامّة كما في "شرح الفصيح" (1/ 21) وغيره، أو هي لغة قليلة كما في "القاموس" و"المصباح"، وفي "اللسان" عن الفراء: "لا أشتهيها" اهـ وانظر أيضًا: "شرح الفصيح" السابق حاشية المحقق. (¬2) في "الأصل، ك" النعْسان، والصواب المثبت. (¬3) سورة سبأ، آية: [43]، وسورة المائدة، آية: [6].

وها هنا أسئلة: الأول: اختلاف لفظ العِقْد والقلادة، ففي رواية البخاري: "انقطع عقد لي" وكذا في رواية عمار: "فهلك عقد لعائشة"، وهي الرواية التي أخرجها الطحاوي وأبو داود، وكذا في بعض ألفاظ الصحيح: "أنه ضاع عقدها في غزوة المريسيع" وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: "استعارت من أسماء قلادة"، وفي رواية الطحاوي ها هنا: "وكانت عليّ قلادة"، وهذه كما ترى متضادة. وأجيب بأن القصة واحدة وإنما الرواة تخالف بين العبارات، والقلادة كانت لأسماء، واستعارتها (¬1) منها عائشة فأضفتها إلى نفسها بقولها: "انقطع عقد لي" قاله ابن الجوزي. قلت: والأحسن أن يقال: إن سقوط العقد كان مرتين على ما صرح به الطحاوي في روايته التي ذكرناها في هذا الباب، فكانت قضيتان، فعبرت في الأولى بالعقد، وفي الثانية بالقلادة، وكان أمر العقد في قضية الإفك، وأمر القلادة في قضية التيمم، تشهد عليه بذلك رواية الطبراني. فإن قلت: إذا كان أمر القلادة في قضية التيمم، فكيف عبرت عائشة - رضي الله عنها - بالعقد في قضية التيمم في رواية البخاري وغيره؟ قلت: أطلقت على القلادة عقدا، فتارة عبرت بالعقد، وتارة بالقلادة. الثاني: أن بين قولها "فبعث رسول الله - عليه السلام - رجلا" فوجدها، وبين قوله "فبعثنا البعير فأصبنا العقد تحته"، تناقض حتى قال الداودي: هذا مما لا شك في تضاده، ولا أرى الوهم في ذلك إلَّا في رواية عبد الله بن نمير عن هشام: "فبعث رجلا فوجدها" قال: وحمل إسماعيل بن إسحاق على رواية ابن نمير وجعله تناقضا لحديث مالك. ¬

_ (¬1) في "الأصل": استعادها.

وأجيب بأن الدعوى أنهما قضيتان، فلا تناقض حينئذ على ما لا يخفي. أو يكون المراد من قولها: "بعث رجلا"، يعني أميرا على جماعة، كعادته، فعبر بعض الرواة بأُنَاس، يعني: أسيدا وأصحابه، وبعضهم برجل، يعني: المشار إليه. وقال المهلب بن أبي صفرة: ليس بينهما تناقض؛ لأنه يحتمل أن يكون المبعوث أسيدا فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - وجدها عند إثارة البعير، بعد انصراف المبعوثين إليها، فلا يكون بينهما تعارض. الثالث: أن بين رواية الطحاوي هذه وبين رواية مسلم وغيره تناقضا؛ لأن المفهوم من رواية الطحاوي أنهم حين لم يقدروا على الماء تيمموا، منهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، ومنهم من تيمم على جلده، ثم بلغ ذلك رسول الله - عليه السلام - فأنزلت آية التيمم. فهذا يدل على أن نزول آية التيمم كان بعد ما تيمموا هذا التيمم المختلف، فَعُلم من هذا أنهم لم يفعلوا ذلك إلَّا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلم من قول عائشة: "فأنزل الله آية التيمم"، (أنه هو الذي) (¬1) أنزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، على ما ذكره الطحاوي. والمفهوم من رواية مسلم وغيره أنهم صلوا بغير وضوء، وأنهم لما أتوا النبي - عليه السلام - شكوْا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فهذه تدل على أنهم لو كان لهم علم متقدم من أصل التيمم ما كانوا صلوا الآن. وأجيب: أن قوله: "صلوا بغير وضوء" لا يستلزم نفي صلاتهم بذاك التيمم المختلف، الذي تقدم علمهم به؛ لأن الوضوء غير التيمم. فإن قيل: يرد هذا ما رواه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا يوسف القاضي، نا محمَّد بن ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" ولعل الصواب: "أن الذي" يحذف: "هو". (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 50 رقم 131).

أبي بكر المقدمي، نا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أنها استعارت قلادة من أسماء، فسقطت من عنقها، فذكَرَت ذلك لرسول الله - عليه السلام - فأرسل رجالا يبتغونها، فابتغوها فوجدوها، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير طهور، ثم رجعوا إلى رسول الله - عليه السلام - فذكروا ذلك له، فأنزل الله الرخصة. فقال أُسيد بن حضير: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمؤمنين خيرا". فإن قوله: "بغير طهور" يتناول الماء والتراب. قلت: قوله: "بغير طهور" لا ينافي أصل علمهم بأصل التيمم، ولما كان هذا التيمم المختلف عندهم كلا تيمم؛ لعدم نزول النص حينئذٍ، صاروا كأنهم صلوا بغير طهور، ولما أنزلت آية التيمم، وعرفوا صفته، عرفوا بعد ذلك أنه طهور كالماء عند عدمه، ألا ترى أن تيممهم ذلك لو كان معتبرا معتدّا به قبل نزول الآية، لما سأل عمار - رضي الله عنه - الذي هو أحد من تيمم ذلك التيمم المختلف- رسول الله - عليه السلام - عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنما كان بعد تيممه بذلك التيمم. فإن قلت: هذا التيمم المختلف، هل عملوه باجتهادٍ ورأي من عندهم، أم بالسُّنة؟ قلت: الظاهر أنه كان باجتهاد منهم، فيرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره - عليه السلام - هل يجوز أم لا؟ فمنهم من جوزه مطلقا، وهو المختار عند الأكثرين، منهم الإِمام. ومنهم من منعه مطلقا. وقالت طائفة: يجوز للغائبين عن الرسول - عليه السلام - وعن نوابه من القضاة والولاة، دون الحاضرين. وجوزه الآخرون للغائبين مطلقا، دون الحاضرين. ومنهم من قال: يجوز إذا لم يوجد من ذلك منع.

الرابع: أن قوله: "فأنزلت آية التيمم" إن كان المراد منه آية الوضوء التي في سورة المائدة، يلزم من ذلك أن يكون الوضوء فُرِضَ حين شُرع التيمم، وليس كذلك، بل الوضوء كان فرضا قبل ذلك، ومنذ افترضت الصلاة بمكة لم تصل صلاة إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم، وهذا ما لا يجهله أحد. وأجيب بأن القرطبي وغيره ذكروا أنها أرادت آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء. وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو {كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ} (¬1) أو يْحتمل أن يكون الوضوء كان بالسُّنة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا، فعبرت عائشة بالتيمم؛ إِذْ كان هو المقصود. الخامس: أن الجاحظ عمرو بن بحر، ذكر في كتاب "البرهان" أن الأسلع الأعرجي الذي كان يرحل للنبي - عليه السلام - قال للنبي - عليه السلام - يوما: "إني أجنبت وليس عندي ماء، فأنزل الله آية التيمم" على ما يجيء. وأجيب: بأنه ضعيف، ولئن صح فجوابه أنه يحتمل أن تكون قضية الأعرجي (¬2) واقعة في قضية سقوط العقد؛ لأنه كان يخدم النبي - عليه السلام - وكان صاحب راحلته، فاتفق له هذا الأمر عند وقوع قضية سقوط العقد. فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه" (¬3): عن عبّاد بن العوام، عن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن أبي هريرة: "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، فأتيت ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [43]،، وسورة المائدة، آية: [6]. (¬2) في "الأصل، ك": الأعرج، والمثبت الصواب، نسبة إلى بني الأعرج بن كعب، وانظر: "الإصابة" لابن حجر (1/ 52). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 147 رقم 1689).

النبي - عليه السلام -[فلم أجده، فانطلقت أطلبه، فاستقبلته، فلما رآني عرف الذي جئت له] (¬1) فضرب بيديه ضربة إلى الأرض، فمسح وجهه وكفيه" انتهى. وهذا مشكل لأن إسلام أبي هريرة بعد نزول آية التيمم بزمان؛ لأنه أسلم عام خيبر، وكانت في سبع من الهجرة، ونزول آية التيمم كان في سنة خمس أو ست، على ما بَيَّنَّا من الاختلاف فيه. قلت: استشكلوا هذا، ولم يُجبْ أحد عنه، وقد وقع في خاطري من الأنوار الربانية: أنه لما أسلم، وبلغه آية التيمم وتعلمها، لم يدر كيف التيمم، فسأل النبي - عليه السلام - عنه، فَعَلَّمه إياه، ثم إنه لا أَخْبر به قال: "لما نزلت آية التيمم"، بناء على نزولها فيما مضى، لا في تلك الحالة، فيكون التقدير: لا نزلت آية التيمم وتعلمتها بعد إسلامي، لم أدر كيف أصنع، فسألته - عليه السلام -، فضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه وكفيه (¬2). ثم إنه يستفاد من الحديث المذكور أحكام: الأول: خروج النساء مع الرجال في الأسفار والغزوات، إذا كان العسكر كثيرا يؤمن عليهن، فإذا كانت له نساء فله أن يُخرج أيتها شاء، ويستحب أن يُقرع بينهن، فمن خرجت قرعتها أخرجها معه، وعند الأئمة الثلاثة القرعة واجبة. الثاني: جواز التيمم بالصعيد الطاهر لكل مسلم، مريض أو مسافر، محدث أو جنب، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب. وقد كان عمر بن الخطاب وابن مسعود - رضي الله عنهم - يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء؛ لقوله -عز وجل- {كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ} (¬3)، وقوله: {جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ} (¬4) وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة". (¬2) قارن: "فتح الباري" (1/ 518). (¬3) سورة المائدة، آية: [6]. (¬4) سورة النساء، آية: [43].

مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (¬1) ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء؛ للأحاديث الثابتة في تيمم الجنب. الثالث: استدل بقوله: "فصلوا بغير وضوء" في رواية مسلم وغيره طائفة أن من لم يجد ماء ولا ترابا لا يترك الصلاة إذا حضر وقتها على كل حال، وعن الشافعي أربعة أقوال: أصحها: يجب عليه أن يصلي، ويجب عليه أن يعيد إذا زالت الضرورة. الثاني: لا تجب عليه الصلاة ولكن تستحب، ويجب القضاء سواء صلى أو لم يصل. الثالث: تجب الصلاة ولا تجب عليه الإعادة، وبه قال المزني. والرابع: تحرم عليه الصلاة؛ لكونه محدثا، وتجب عليه الإعادة، وهو قول أصحابنا الحنفية؛ لقوله - عليه السلام -: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬2). والجواب عن هذا: أنهم صلوا صلاتهم تلك اجتهادا، والمجتهد يخطئ ويصيب. وقال أبو عمر (¬3): قال ابن خواز منداد: الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد حتى خرج الوقت، أنه لا يصلي ولا شيء عليه. ورواه المدنيون عن مالك، وهو الصحيح. قال أبو عمر: كيف أقدم على أن جعل هذا صحيحا، وعلى خلافه جمهور السلف، وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين؟! فكأنه قاسه على ما روي عن مالك فيمن كتَّفه الوالي وحبسه، فمنعه من الصلاة حتى خرج وقتها، أنه لا إعادة عليه. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [43]، والمائدة، آية: [6]. (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (1/ 204 رقم 224) من حديث ابن عمر. (¬3) "التمهيد" (19/ 275).

ثم قال: والأسير المغلول، والمريض الذي لا يجد من يناوله الماء، ولا يستطيع التيمم، لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد إلى الوضوء أو التيمم سبيلا. وعن الشافعي روايتان: إحدهما هكذا، والأخرى يصلي، (وأعاد) (¬1) إذا قدر، وهو المشهور عنه، وقال أبو حنيفة في المحبوس في العصر: إذا لم يجد ماء، ولا ترابا نظيفا لم يصل، وإذا وجده صلى. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي والثوري والطبري: يصلي ويعيد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي: إن وجد المحبوس في العصر ترابا نظيفا صلى وأعاد. وقال زفر: لا يتيمم ولا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا؛ بناء على [أصله في] (¬2) أنه لا تيمم عنده في الحضر. وقال ابن القاسم: لو تيمم على التراب النظيف، أو على وجه الأرض، لم يكن عليه إعادة إذا صلى ثم وجد الماء. وقال أبو عمر: أما الذين قالوا: إن من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الطهارة [فإنهم احتاطوا للصلاة] (2). الرابع: يستفاد منه التيمم في السفر وهو أمر مجمع عليه. واختلفوا في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء، إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد، أو خوف خروج الوقت. قال أبو عمر: وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد. ¬

_ (¬1) كذا "بالأصل، ك" وفي "التمهيد" (19/ 276): يعيد. (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد" (19/ 277).

وقال الشافعي لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم، إلَّا أن يخاف التلف. وبه قال الطبري. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف خروج الوقت. وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت، الصحيح والسقيم يتيمم ويصلي ويعيد. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، ولا غير المريض. قلت: قوله وهذا كله قول أبي حنيفة؛ غير صحيح، فإن عنده لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت، كما هو مقرر في كتب أصحابه. الخامس: فيه دليل على أنه ليس للمرء أن ينصرف عن سفر لا يجد فيه ماء، ولا يترك سلوك طريق لذلك، وخشية سلوك ما أباح الله له. السادس: فيه دليل على حرمة الأموال الحلال. السابع: فيه دليل على جواز حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت. ص: ومما يدل أيضا على أن هذه الآية تنفي ما فعلوا من ذلك، أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وهو الذي روى ذلك عن النبي - عليه السلام - قد روي عنه في التيمم الذي عمله بعد ذلك خلاف ذلك، فمنه: ما حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزى، عن أبيه: "أن عمار بن ياسر سأل النبي - عليه السلام - عن التيمم، فأمره بالوجه والكفين". ش: أي: ومن جملة الدليل الذي يدل على أن آية التيمم تنفي وترد ما كان الصحابة قد فعلوا من ذلك، أي: من تيممهم إلى الآباط والمناكب، أن عمار بن ياسر وهو الذي روى ذلك الفعل عن النبي - عليه السلام - قد روي عنه أيضا في صفة التيمم الذي عمله بعد ذلك، خلاف ذلك، فدل أن المتأخر ناسخ لما قد كان أولا، كما قد ذكرناه.

وقوله: "أن عمار بن ياسر" في محل الرفع على أنه فاعل "يَدُلّ"، والواو في قوله: "وهو الذي روى" للحال. قوله: "فمنه ما حدثنا" أي فمن الذي دل على نفي ما فعلوا أو لا: حديث عبد الرحمن بن أَبْزى. أخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عَزْرة -بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الراء- ابن عبد الرحمن الكوفي الأعور، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى -بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة بعد الزاي المعجمة- عن أبيه، عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، مختلف في صحبته. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن المنهال نا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر قال: "سألت النبي - عليه السلام - عن التيمم، فأمرني ضربة واحدة (بالوجه) (¬2) والكفين". وأخرجه الترمذي (¬3): عن عمرو بن علي الفلاس، عن يزيد بن زيع .. إلى آخره نحوه، وقال: حديث عمار حديث حسن صحيح. فهذا يدل على أن ما كان من رواية عمار التي [فيها] (¬4): "إلى الآباط والمناكب" قد نسخ بهذه الرواية. فإن قيل: كيف تستدلون بهذا على مذهبكم، وهو لا يقتضي إلا أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين؟ ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 89 رقم 327). (¬2) "كذا بالأصل، ك"، وفي "السنن": "للوجه". (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 268 رقم 144). (¬4) في "الأصل، ك": فيه، والصواب المثبت.

قلت: نحن لا نستدل بهذا إلَّا على انتساخ ما كان روى عمار من أن التيمم إلى الآباط والمناكب، وأما كون التيمم بضربتين: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين، فبأحاديث غير ذلك على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ذر بن عبد اللهَ يحدث، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رجلًا أتي عمر - رضي الله عنه - فقال: إني كنت في سفر، فأجْنَبْتُ، فلم أجد الماء، فقال عمر: لا تصل. فقال عمار: يا أمير المؤمنين أما تذكر أني كنت أنا وإياك في سرية، فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الزاب، فأتينا النبي - عليه السلام - فأخبرناه، فقال: أما أنت فكان يكفيك، وقال بيديه وضرب بهما، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففعل عمار إذ تمرغ يريد بذلك التيمم، وإن كان ذلك بعد نزول الآية، فإنما كان ذلك منه -عندنا والله أعلم- لأنه عمل على أن التيمم للجنابة غير التيمم للحديث، حتى علمه النبي - عليه السلام - أنهما سواء. ش: أورد هذا الحديث لمعنيين: الأول: أنه ناسخ لما تقدم من التيمم إلى المناكب والآباط. والثانى: أن فعل عمار - رضي الله عنه - أعني: تمرغه لأجل التيمم- إنما كان ذلك منه ظنّا منه أن هذا هو تيمم الجنابة، وأن تيمم الجنابة غير تيمم الحدث، حتى علمه النبي أنهما سواء. وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، والحكم هو ابن عتيبة، وذرّ -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- بن عبد الله بن زُرارة المُرْهِبِىّ الهمدني، روى له الجماعة.

وأخرجه الجماعة: فقال البخاري (¬1): نا آدم، نا شعبة، ثنا الحكم، عن ذرّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنَبْتُ فلم أصب الماء، فقال لا تصل. فقال عمار بن ياسر لعمر: أما تذكر أنّا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرتُ ذلك النبي - عليه السلام -، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بههما وجهه وكفيه". وقال مسلم (¬2): حدثني عبد الله بن هاشم العبدي، قال: نا يحيى -يعني: ابن سعيد القطان- عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه: "أن رجلا أتى - رضي الله عنه - فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. قال: لا تصل. فقال عمار: أتذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، وقال النبي - عليه السلام -: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بههما وجهك وكفيك. فقال عمر: أتق الله يا عمار، قال: إن شئت لم أحدث به". قال الحكم: وحدثنيه ابنُ عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، مثل حديث ذر، قال: وحدثني سلمة، عن ذر، في هذا الإسناد، والذي ذكره الحكم، فقال عمر: "نُوليك ما توليت". وقال أبو داود (¬3): حدثنا محمَّد بن كثير العبدي، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: "كنت عند عمر، فجاءه رجل فقال: إنا نكون بالمكان [الشهر] (¬4) أو الشهرين، فقال عمر: أما أنا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 129 رقم 331). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 280 رقم 368). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 88 رقم 322). (¬4) في "الأصل، ك": المشهور، والمثبت من "السنن".

فلم أكن أصلي حتى أجد الماء. قال: فقال عمار: يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة؟ فأما أنا فتمعكت، فأتينا النبي - عليه السلام - فذكرت ذلك له، فقال إنما كان [يكفيك] (¬1) أن تقول هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع، فقال عمر: يا عمار، اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت -والله- لم أذكره أبدا، فقال عمر: كلَّا والله، لَنُوَليَنَّكَ من ذلك ما توليت". وأخرجه من طرق كثيرة، وفي بعض طرقه: "ومسح بها وجهه وكفيه إلى المرفقين أو الذراعين". وأخرجه الترمذي (¬2): مختصرا وقال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحمصي: حديث عمار في التيمم للوجه والكفين حديث صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أيضا بطرق متعددة، مطولة ومختصرة منها ما قال: أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: ثنا بهزٌ، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن التيمم فلم يَدْر ما يقول، فقال عمار: أتذكر حيث كنا في سرية، فأجنبت، فتمعكت في التراب، فأتيت النبي - عليه السلام - قال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب شعبة يديه على ركبتيه ومسح في يديه، ومسح بهما وجهه وكفيه مرة واحدة". وأخرجه ابن ماجه (¬4): فقال: نا محمَّد بن بشار، نا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم ... إلى آخره نحو رواية مسلم، وليس فيه: "فقال عمر: اتق الله ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك ": يفكيك، وهو سبق قلم، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 268 رقم 144). (¬3) "المجتبى" (1/ 169 رقم 317). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 188 رقم 2569).

قوله: "أَمَا تذكر" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، تستعمل في الكلام على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" وتكثر قبل القسم. الثاني: أن تكون بمعنى "حقّا". قوله: "في سرية" وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تُبعثُ إلى العدو، وجمعها: السرايا، سموا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم؛ من الشيء السَّريِّ: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم يبعثون سرّا وخفية، وليس بالوجه؛ لأن لام السِرِّ: راء، وهذه ياء، فافهم (¬1). قوله: "فأجنبنا" أي صرنا جُنُبا، والجنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والمؤنث، وقد فسرناه فيما مضى مستقصى. قوله: "فتمرغت" أي: تمعكت. قوله: "قال بيديه هكذا" من العرب (¬2) من يجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، ويطلقه على غير الكلام واللسان، فيقول: قال بيده: أي أخذ (¬3)، وقال برجله: أي مشي، وقالت العينان: سمعا وطاعة، أي: أومأت، وقال بالماء على يده: أي قلَّب، وقال بثوبه: أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع. ويقال: "قال" ها هنا بمعنى: ضرب، ولهذا فسره بقوله: "وضرب بهما". وتجيء "قال" بمعنى "أقبل" وبمعنى "مال" و"استراح" و"ضرب" و"غلب" وغير ذلك. قوله: "اتق الله" أي: خَفِ الله فيما ترويه، وتَثَبَّتْ، لعلك نسيت، أو اشتبه عليك الأمر. ¬

_ (¬1) انظر "النهاية" لابن الأثير (2/ 363). (¬2) في "النهاية" لابن الأثير (4/ 124) "العرب تجعل" فعَمَّم، وباقي البحث مأخوذ عنه، وانظر "اللسان" و"القاموس" في نفس المادة. (¬3) في "الأصل، ك": أخذه، والصواب المثبت كما في أصله.

قوله: "إن شئت لم أحدث به" أراد إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحدث به راجحة على مصلحة تحديثي أمسكت، فإن طاعتك واجبة علىَّ في غير معصية. قوله: "كلا والله" كلا ردع وزجر وتنبيه على الخطأ، ومنه قوله تعالى: في {كَلاَّ} بعد قوله: {إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (¬1) وتجيء بمعنى "حقّا" ومنه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (¬2). ويستفاد منه أحكام: الأول: استدل به من ذهب إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين جميعا. والجواب: أن المراد ها هنا صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وقد أوجب الله غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، ثم قال في التيمم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬3) والظاهر أن اليد المطلقة ها هنا هي المقيدة في الوضوء في أول الآية، فلا يترك هذا الصريح إلا بدلالة [صريحة] (¬4). الثانى: استدل به أبو حنيفة على جواز التيمم من الصخرة التي لا غبار عليها؛ لأنه لو كان معتبرا لم ينفخ في يديه. الثالث: فيه حجة لما كان يذهب إليه عُمَر وعبد الله بن مسعود من أن الجنب لا يطهره إلا الماء، ولكن الأصح أنهما رجعا عن ذلك فإن قيل: إن عمر لم يقنع بقول عمار، حيث قال: "اتق الله يا عمار" فكيف يكون ذلك؟ ¬

_ (¬1) سورة الفجر، آية: [16]. (¬2) سورة العلق، آية: [6]. (¬3) سورة النساء، آية: [43]. (¬4) في "الأصل، ك": صريح.

قلت: لما أخبره عمار عن النبي - عليه السلام - أن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه وقع في قلبه تصديق عمار؛ لأن عمارا قال له: "إن شئت لم أذكره" ولو وقع بقلبه تكذيب عمار لنهاه؛ لما كان الله -عز وجل- قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم على عمر أن يَسْكت على صلاة تصلى عنده من غير طهارة، وهو الخليفة المسئول عن الأمور، وكان أتقى الناس لربه وأنصحهم له في دينه في ذلك الوقت. الرابع: فيه جواز الاجتهاد في زمن النبي - عليه السلام - فإن عمارا - رضي الله عنه - اجتهد في صفة التيمم، وقد اختلف أهل الأصول فيه، وقد ذكرناه مستوفي. الخامس: في قوله: "إلى نصف الذراع"، في رواية أبي داود، حجة لمالك، حيث يقول: إن التيمم إلى الكوعين. والجواب عنه ما ذكرناه في الوجه الأول. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنامبو داود، قال: نا زائدة وشعبة، عن حصين عن أبى مالك، عن عمار، أنه قال: "إلى المفصل" ولم يرفعه. ش: هذا طريق أخر، وهو موقوف، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، وعن شعبة بن الحجاج، كلاهما عن حُصَيْن -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُلَمي الكوفي، عن أبي مالك، حَبيب بن صُهْبان، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أنه قال: "إلى المفصل"، يعني في قوله: "بالوجه والكفين". قوله: "ولم يرفعه" أي: الحديث إلى النبي - عليه السلام -. وقال الدارقطني: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان، وأوقفه شعبة وزائدة وغيرهما. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث حصين، عن أبي مالك، قال: "سمعت عمارا يخطب، فذكر التيمم، فضرب بكفيه الأرض، فمسح بهما وجهه وكفيه" ورواه إبراهيم بن طهمان، عن حصين فرفعه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 209 رقم 950).

وأخرجه ابن أبى شيبة؛ في "مصنفه" (¬1): وقال: نا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار: "أنه تيمم فمسح بيديه التراب، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه، ولم يمسح ذراعيه". وفيه حجة لمالك إلى الكوعين. ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: نا علي بن مَعبد، قال: نا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن رسول الله - عليه السلام - قال له: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب الأعمشُ بيديه الأرض ثم نفخهما ومسح بهما وجهه وكفيه". ش: هذا طريق آخر من حديث عبد الرحمن بن أبزى، عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن علي بن معبد بن شداد العَبدي البَصْري نزيل مصر، عن عيسى ابن يونس بن أبي إسحاق السَبيعي، عن سليمان الأعمش، عن سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن ابن أبزى، عن أبيه: "قال عمار لعمر: أما تذكر [يوم]، (¬3) كنا في كذا وكذا، فأجنبنا، فلم نجد الماء، فتمعكنا في التراب، فلما قدمنا على النبي - عليه السلام - ذكرنا له ذلك، فقال: إنما كان [ويكفيكما]، (¬4) هذا؛ ثم ضرب الأعمشُ بيديه ضربة، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 147 رقم 1685). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة " (7/ 302 رقم 3692). (¬3) في "الأصل، ك": يوما، والمثبت من "المصنف". (¬4) في "الأصل، ك": يكفيك، والمثبت من "المصنف".

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن العلاء، قال: نا حفص، قال: نا الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن ابن أبزى، عن عمار بن ياسر .. بهذا الحديث فقال: "يا عمار إنما كان يكفيك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعد، ولم يبلغ المرفقين، ضربة واحدة". قوله: "أن تقول هكذا" معناه: أن تضرب بيديك كهذا، وقد مرَّ أن القول يستعمل في جميع معاني الأفعال. وفيه: حجة لأبي حنيفة في عدم اشتراط الاستيعاب، ولمالك في رؤيته إلى الكوعين، ولمن رأى أن التيمم ضربة واحدة. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن ذر، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن رسول الله - عليه السلام - قال له: "إنما كان يكفيك هكذا، وضرب شعبة بكفيه إلى الأرض وأدناهما من فيه، فنفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه". قال أبو جعفر -رحمه الله-: هكذا قال محمَّد بن خزيمة في إسناد هذا الحديث: عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه. وإنما هو عن ذر، عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه. ش: هذا الطريق آخرجه النسائي (¬2): ولكن في روايته: عن ذر عن ابن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، عن عمار، وكما أشار إليه الطحاوي بقوله: وإنما هو عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، وابن عبد الرحمن هو سعيد وقد مَرَّ في الروايات المتقدمة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 88 رقم 323). (¬2) "المجتبى" (1/ 165 رقم 312).

وأما رواية محمَّد بن خزيمة شيخ الطحاوي التي فيها عن ذر، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، بدون ذكر "ابن" فَتُبْتَنَى على صحة قول مَنْ يقول: إن أبزى والد عبد الرحمن صحابي، وهو قول ابن مندة، فإنه جعله من الصحابة، وروى بإسناده عن هشام بن عبيد الله الرازي، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام - "أنه خطب الناس قائما، ثم قال: ما بال أقوام لا يُعَلِّمون جيرانهم، ولا يفقهونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم" ... الحديث. ورواه إسحاق بن راهويه في "المسند": عن محمَّد بن أبي سهل، عن بكير ابن معروف، عن مقاتل، عن علقمة بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - بهذا وقد رده أبو نعيم عليه وقال: ذكر ابن مندة أن البخاري ذكره في كتاب "الوحدان", وأخرج له حديث أبي سلمة -عن ابن أبزى- عن النبي - عليه السلام - ولم يقل فيه: عن أبيه. وقال ابن الأثير: أبزى والد عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، ذكره البخاري في"الوحدان"، ولا تصح له صحبة ولا رؤية، ولابنه عبد الرحمن صحبة ورؤية. قلت: وكذا أبو عمر لم يذكر أبزى، وإنما ذكر عبد الرحمن؛ لأنه لم تصح عنده صحبة أبزى، والله أعلم. ومع هذا، ومع الاختلاف في صحبة عبد الرحمن أيضا، ذكره ابن حبان في التابعين، وقال أبو بكر بن أبي داود: لم يحدث ابن أبي ليلى عن التابعين إلَّا عن ابن أبزى، وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي - عليه السلام - وصلى خلفه، روى عنه ابناه عبد الله وسعيد. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: أنا شعبة، عن سلمة، قال: سمعت ذرّا يحدث، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، نحوه. قال سلمة: لا أدري بلغ الذراعين أم لا؟.

ش: أشار بهذا إلى بيان قوله: "وإنما هو عن ذر عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه". وأخرجه عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن بشار، قال: نا محمَّد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن سلمة، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بهذه القصة، فقال: "إنما كان يكفيك، وضرب النبي - عليه السلام -[بيده]، (¬2) ثم نفخ فيهما ومسح بها وجهه وكفيه" شك سلمة فقال: لا أدري فيه: "إلى المرفقين"، أو "إلى الكفين". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا محمَّد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، مثله وزاد: "فمسح بهما يديه إلى أنصاف الذراع". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار البصري، عن محمَّد بن كثير العبدي البصري، أحد مشايخ البخاري في الصحيح، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك حبيب بن صُهْبان، عن عبد الرحمن بن أبزى، مثله. وأخرجه أبو داود (¬3): عن محمَّد بن كثير العبدي، عن سفيان .. إلى آخره، بأتم منه. وقد ذكرناه عن قريب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنا مؤمل بن إسماعيل، قال: أنا سفيان .. فذكره بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمَّل بن إسماعيل القرشي العدوي البصري، عن سفيان الثوري .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 88 رقم 324). (¬2) ليست في "الأصل، ك". واستدركتها من "سنن أبي داود". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 88 رقم 322).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد اضطرب علينا حديث عمار هذا، غير أنهم جميعا قد نَفَوا أن يكون بلغ المنكين والإبطين، فثبت بذلك انتفاء ما روي عنه في حديث عبيد الله، عن أبيه، أو ابن عباس، وثبت أحد القولين الآخرين، فنظرنا في ذلك فإنا أبو جُهَيْم قد روى عن رسول الله - عليه السلام - أنه يَمَّم وجهه وكفيه، فذلك حجة لمن ذهب إلى أن التيمم إلى الكفين. روى نافع، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "أنه تيمم إلى مرفقيه" وقد ذكرتُ هذين الحديثين جميعا في باب: "قراءة الجُنُب والحائض". وقد حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: أنا علي بن معبد، قال: أنا أبو يوسف، عن الربيع بن بدر، قال: حدثني أبي، عن جَدّي، عن أَسْلع التميمي، قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - في سفر، فقال لي: يا أَسْلع، قم فأرحل لنا، قلت: يا رسول الله - عليه السلام - أصابتني جنابة بعدك، قال: فسكت عني حتى جبريل - عليه السلام - بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيدا طيبا، ضربتين: ضربة لوجهك، وضربة لذرعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال لي: يا أُسَيْلعُ قُم فاغتسل". فلما اختلفوا في التيمم كيف هو، واختلفت هذه الروايات فيه، رجعنا إلى النظر في ذلك؛ لنستخرج به من هذه الأقاويل قولا صحيحا، فاعتبرنا ذلك فوجدنا الوضوء على الأعضاء التي قد ذكرناها في كتابه، وكان التيمم قد أسقط عن بعضها؛ فأسقط عن الرأس والرجلين، فكان التيمم هو على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول مَنْ قال: إنه إلى المنكب؛ لأنه لما بطل عن الرأس والرجلين، وهما مما يُوضَّآن، كان أَحْرى أن لا يجب على ما لا يُوَضَّأ. ثم اختُلِف في الذراعين، هل يُؤَمّمان أم لا؟ فرأينا الوجه الذي يُؤَمّم بالصعيد كما يغسل بالماء، ورأينا الرأس والرجلين لا يؤمم منهما شيء، فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم، كان كالوضوء سواء؛ لأنه جعل بدلا منه.

فلما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين في حال وجود الماء تيمم في حال عدمه؛ ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على ما بَيَّنَّا من ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وفي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ملخص هذا الكلام، أن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم إلى المرفقين أو الكوعين أو الكفين، كما ذهبت إلى كل واحد طائفة من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما قد رأيت، ولذلك قال الترمذي: وقد ضعف بعض أهل العلم حديث عمار - رضي الله عنه - في التيمم للوجه والكفين، لما رُوِي عنه حديثُ المناكب والآباط. ولكنه يندفع به ما روي عنه في حديث عبيد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، عن عمار. وفي حديث عبيد الله أيضا، عن ابن عباس، عن عمار، المذكورين في أول الباب، اللذين فيهما: "فمسحنا وجوهنا وأيدينا إلى المناكب". وذلك لأنه قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه أمر بالتيمم للوجه والكفين، فلا يجوز ذلك إلَّا بعد أن ثبت انتساخ حكم الأول، كما قد ذكرنا، أو ثبت بعد ذلك أحد القولين الآخَرين -بفتح الخاء- وهما قول مَنْ يرى التيمم إلى الكفين، وقول مَنْ يراه إلى المرفقين، ولكن من غير ترجيح أحدهما على الآخر، فلا يتمُّ به الاستدلال أيضا لواحد من الفريقين. فوجدنا حديث أبي الجُهَيْم بن الحارث بن الصمة الأنصاري يُرجّح قول مَنْ يقول التيمم إلى الكفين؛ لأنه ذكر في حديثه أنه - عليه السلام - مسح بوجهه وبيديه، ووجدنا حديث نافع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يُرجّحُ قول من يقول التيمم إلى المرفقين؟ لأنه ذكر في حديثه أنه تيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه، وقد ذكرهما الطحاوي في باب: قراءة الجنب والحائض. وتكلمنا فيهما بما فيه الكفاية هناك.

وحديث الأسلع أيضا يرجح قول مَنْ يقول إلى المرفقين؛ لأنه ذكر: فيه "ضربة لوجهك وضربة لذراعيك ظاهرهما وباطنهما". فلما وقع هذا الاختلاف باختلاف الروايات، وأخذت كل طائفة برواية، (نحتاج) (¬1) في ذلك إلى النظر ليُسْتَخرج من هذه الأقاويل قولٌ صحيح يوافق القياس والنظر، كما هو الأصل والقاعدة. وفي ذلك قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت، كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، واتباعا لفعل ابن عمر - رضي الله عنه -. وأشار إلى وجه النظر بقوله: فاعتبرنا ذلك، فوجدنا الوضوء .. إلى آخره. تحريره: أن الوضوء يكون على الأعضاء الأربعة غسلا ومسحا، ثم إن الشارع جعل التيمم بدلا منه عند عدم الماء، وأسقط منه بعض الأعضاء، (الذي أمر به في الأصل، وهو) (¬2) الرأس الرجلان، تيسيرا على عباده، ولئلا يتساوى البدل والمبدل منه، فيكون التيمم على بعض ما عليه الوضوء وهو الوجه واليدان، فيجب أن يكون البدل ها هنا مثل الأصل؛ لئلا يلزم مزية الفرع على الأصل، فبطل حينئذ قول من قال: إن التيمم إلى الآباط والمناكب، وذلك لأنه لما بطل التيمم عن الرأس والرجلين، والحال أنهما مما يجب غسلهما ومسحهما، كان بطريق الأولى أن لا يجب التيمم على ما لا يُوضَّأ، وهو ما وراء المرفقين. ثم بقي الكلام في الذراعين اللذين وقع فيهما الخلاف؛ هل يدخلان تحت التيمم أم لا؟ فرأينا الرأس والرجلين لا يقع عليهما التيمم، فكان ما سقط التيمم عن بعضه ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وهي غير منقوطة، كما يفعل كثيرًا ولعل الصواب: احتجنا .. ، وقد مر في كلام الطحاوي -المشروح- رجعنا، وهو يرجح ما استظهرنا. (¬2) كذا العبارة في "الأصل، ك"، بضمير المفرد المذكر، والمناسب: التي أمر بها ... وهي.

سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء؛ لأنه جُعِلَ بدلا منه. ولما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين، في حال وجود الماء، يقع عليه التيمم في حال عدم الماء، ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على الأصل. قوله: "الأقاويل" جمع: أقوال، جمع: قول، ويجوز أن يكون جمع أُقْووله؟ كأغاليط جمع أغُلوطة. قوله: "مما يُوضَّآن" على صيغة المجهول، أي: مما يدخلان في الوضوء، تحت الغسل والمسح. قوله: "هل يُؤَممان" على صيغة المجهول أيضا، أي: مما يدخلان في التيمم؛ هو من يَمَّمَ يُيَمِّم -بيائين- ويجوز يؤمم بإبدال الثانية همزة، يقال: أمّ وتأمّم ويمّم وتيمّم، كلها بمعنى واحد. قوله: "سواء" بالنصب لأنه حال، معناه: متساويا، أو متساوية، بحسب ما يقتضيه المقام. ثم إنه أخرج حديث الأسلع بن شريك الأعرجي التميمي، خادم النبي - عليه السلام - وصاحب راحلته. عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي. عن علي بن معبد بن شداد الرقي، أحد أصحاب محمَّد بن الحسن، وثقه أبو حاتم. عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، الإِمام المشهور القاضي، أكبر أصحاب أبي حنيفة. عن الربيع بن بدر التميمي السعدي الأعرج، المعروف بعُلَيْلة، قال أبو حاتم: ضعيف ذاهب الحديث، وأبوه بَدْر بن عمرو التميمي السَعْدي قال في "الميزان": لا يدرى حاله وفيه جهالة، وجده هو عمرو بن جراد التميمي، لم أعرف حاله.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا محمَّد بن عبد الله الحضرمي والحسن بن إسحاق التستري قالا: ثنا يحيى الحماني، نا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع -رجل من بني الأعرج بن كعب- قال: "كنت أخذم النبي - عليه السلام -فقال لي: يا أسلع، قم أرني كذا وكذا، قلت: يا رسول الله - عليه السلام - أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاءه جبريل - عليه السلام - بالصعيد التيمم، قال: قم يا أسلع فتيمم، قال: ثم [أراني] (¬2) الأسلع كيف علمه رسول الله - عليه السلام - التيمم، قال: ضرب رسول الله - عليه السلام - بكفيه الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه حتى أمرّ على لحيته، ثم أعادهما إلى الأرض، فمسح بكفيه فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما، ثم مسح ذراعيه [ظاهرهما وباطنهما] (¬3). وأخرجه الدارقطني (¬4)، وليس فيه ذكر جبريل ولا نزول آية التيمم. وكذلك البيهقي في "سننه" (¬5): وأبو بكر الرقي في "معرفة الصحابة" والجاحظ في كتاب "البرهان". وابن الأثير في كتاب "الصحابة" (¬6)، وابن حزم في "المحلى" (¬7)، ثم قال: رويناه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عُلَيلة وهو الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع [وكل] (¬8) من ذكرنا فليسوا بشيء، انتهى. وما قيل: إن بين هذا وبين حديث العِقْد تناقضا، فقد مرَّ جوابه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 298 رقم 876). (¬2) في "الأصل، ك": رآني، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير". (¬3) في "الأصل، ك": ظهرهما وبطنهما، والمثبت من "المعجم الكبير". (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 179 رقم 14). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 208 رقم 944). (¬6) "أسد الغابة" (1/ 91). (¬7) "المحلى" (2/ 149). (¬8) في "الأصل، ك": فكل، والمثبت من "المحلى" (2/ 150).

فإن قلت: هذا الحديث ضعفه في "النهاية"، فما بال الطحاوي احتج به؟ قلت: الطحاوي إمام، فيمكن أن يكون قد ثبت عنده، ووثَّقَ مَنْ ضَعَّفَهُ غيره. ولئن سلمنا ذلك فليس الاحتجاج بانفراده هو، وإنما أخرجه في معرض شاهد وتابع لغيره طلبا للتأكيد، فافهم. قوله: "فأرحل لنا" من قولهم: رحلتُ البعيرَ أرحُله رَحْلا إذا شددت على ظهره الرحْل من باب: نصح ينصح. قوله: "صعيدا طييا" أي أرضا طاهرة. قال الأصمعي: الصعيد وجه الأرض. فقيل: بمعنى مفعول، أي مصعود عليه، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل وثعلب. وفي "الجمهرة": وهو التراب الذي لا يخالطه رمل ولا سبخ، هذا قول أبي عبيدة. وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض. وقال الزجاج في "المعاني": الصعيد وجه الأرض ولا يبالى، كان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأن الصعيد ليس إسما للتراب، إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه، أو غيره، قال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} (¬1) فأعلمك أن الصعيد يكون زلقا. وعن قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر. وقال أبو إسحاق: الطيب: النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر، وقيل: الحلال، وقيل: الطيب: ما تستطيبه النفس. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: [40].

قوله: "يا أسلع، قم فاغتسل" وقع في بعض النسخ بالتصغير. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن التيمم كما يجوز عند الحدث الأصغر، فكذلك يجوز عند الحدث الأكبر. الثاني: عدم جوازه بغير ما كان من جنس الأرض، ويجوز بكل ما كان من جنس الأرض حتى بالغبار. وقال أبو عمر (¬1): أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز. وعند مالك يجوز بالتراب، والرمل، وبالحشيش، والشجر، والثلج (¬2)، والمطبوخ كالجَصّ والآجر. وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج والجلد. ونقل النقاش عن ابن عُليَّة وابن كيسان جوازه بالمسك والزّعفران. وعن إسحاق: منعه بالسباخ. ويجوز عند أبي حنيفة بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول، والجصّ والنُّورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا، والطين الأحمر والأسود والأبيض، والحائط المطين والمجصَّص، والياقوت والزبرجد والزمرد والفيروزج والمرجان والأرض النديّة والطين الرطب. وفي "البدائع": يجوز بالملح الجبلي. وفي "قاضي خان": لا يجوز على الأصح، ولا يجوز بالزجاج، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية. وشرط الكرخي أن يكون مدقوقًا. وفي "المحيط": لا يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب، إذا كان التراب غالبًا، وبالخزف، إذا كان من ¬

_ (¬1) "التمهيد" (19/ 290). (¬2) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/ 289): واختلفت الرواية عنه -أي مالك- في التيمم على الثلج، فأجازه مرة، ومنع منه أخرى.

طين خالص. وفي المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد والنحاس وشبهها ما دام على الأرض. وذكر الشاشي في "الحلية": لا يجوز التيمم بتراب خالطه دقيق، أو (جص) (¬1) وحكى وجه آخر أنه يجوز إذا كان التراب غالبًا. ولا يصح التيمم بتراب استعمل في التيمم، وعند أبي حنيفة يجوز، وهو وجه لبعض أصحابنا. ومذهب الشافعي وأحمد: لا يجوز إلا بالتراب الذي له غبار. في "المغني" لابن قدامة (¬2): قال الأوزاعي: الرمل من الصعيد، وقال حماد بن أبي سليمان: لا بأس أن يتيمم بالرخام. وعن أحمد في رواية في السَّبَخَة والرمل: أنه يجوز التيمم به. فإن دق الخزف والطين المحترق لم يجز التيمم به، فإن ضرب بيده على لِبْد أو ثوب أو الجوالق أو البرذعة، أو في الشعير، فعَلِق بيديه غبار فتيمم به جاز. نص أحمد على ذلك كله. وإذا خالط التراب ما لا يجوز التيمم به كالنُّورة والزرنيخ والجص، قال القاضي: حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، إن كانت الغلبة للتراب جاز، وإن كانت الغلبة للمخالط لم يَجُزْ (¬3). وقال ابن عقيل: يُمْنع وإن كان قليلًا. وهو مذهب الشافعي. وإذا كان في طين لا يجد ترابا، فحكى (¬4) عن ابن عباس أنه قال: يأخذ الطين فيطلي به جسده، فإذا جف تيمم به. وإن خاف ذوات الوقت قبل جفافه فهو كالعادم. وإن لطخ وجهه بطين لم يجز (¬5)؛ لأنه لا يقع عليه اسم الصعيد. الثالث: أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": جبص. (¬2) "المغني" (1/ 326). (¬3) في "الأصل، ك": لم يجزه، والمثبت من "المغني" (1/ 327)، وهو المناسب لقوله أولًا: "جاز". (¬4) في "الأصل، ك": يُحكى، والمثبت من "المغني". (¬5) لم يجز: كذا في الأصل، وفي "المغني": لم يُجْزِه.

الرابع: دخول المرفقين فيه، من قوله: "ظاهرهما وباطنهما"؛ لأن المرفق داخل في حكم الذراع. الخامس: أن الجنب إذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء يغتسل، فإن ذلك يرفع تيممه. ص: وقد روي في ذلك عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهم -. حدثنا يونس، قال: أنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن نافع، قال: "سألت ابن عمر عن التيمم، فضرب بيديه إلى الأرض ومسح بهما يديه ووجهه وضرب ضربة أخرى فمسح بهما ذراعيه". حدثنا علي بن شيبة، قال: أنا محمَّد بن عبد الله الكُنَاسِي، قال: نا عبد العزيز ابن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر مثله. حدثنا رَوح بن الفرج، قال: نا سعيد بن كثير بن عُفَيْر، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، عن نافع، عن ابن عمر، مثله. حدثنا يونس قال: نا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر أقبل من الجرف، حتى إذا كان بالمزبد تيمم صعيدًا طييًا، فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى". ش: أي قد روي في أن التيمم في اليدين إلى المرفقين عن عبد الله ابن عمر وجابر - رضي الله عنهم -، فأخرج عن ابن عمر من أربع طرق صحاح كلها موقوفة. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن نافع. وأخرج البيهقي (¬1) من حديث عبيد الله وغيره، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول: التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 207 رقم 941).

الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي الكوفي الكُنَاسِي، بضم الكاف وفتح النون - نسبة إلى كُنَاسة- وهو لقب أبيه عبد الله، ويقال لابنه: أبي كناسة أيضًا، عن عبد العزيز بن أبي رَواد ميمون بن بدر المكي، عن نافع. الثالث: عن روح بن الفرج القطان، عن سعيد بن كثير بن عُفَير بن مسلم بن عمار المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن هشام بن عروة، عن نافع. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1) عن نافع: أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف، حتى إذا كانا بالمِرْبد، نزل عبد الله فتيمم صعيدًا طيبًا، فمسح بوجهه ويديه إلى المرفقين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن عُليَّة، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر تيمم في مربد الغنم، فقال بيديه على الأرض فمسح بهما [وجهه]، (¬3)، ثم ضرب بهما على الأرض ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين". ورواه الدارقطني (¬4) مرفوعًا أيضًا، وقال: نا أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل الفارسي، نا عبد الله بن الحسين بن جابر، ثنا عبد الرحيم بن مطرف، ثنا علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين". كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا، ووقفه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما، وهو الصواب. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 56 رقم 121) (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 146 رقم 1673). (¬3) في "الأصل، ك": وجه، والمثبت من "المصنف". (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 180 رقم 16)

قوله: "من الجُرُف" بضم الجيم والراء، وهو اسم موضع قريب من المدينة، وأصله ما تجرفه السيول من الأودية و"الجَرْف" بفتح الجيم وسكون الراء: أخذك الشيء عن وجه الأرض بالمجرفة. وزعم الزبير أن الجُرُف على ميل من المدينة، وقال ابن إسحاق على فرسخ، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو. وزعم ابن قرقول أنه على ثلاثة أميال إلى جهة الشام، به مال عمر وأموال أهل المدينة، وتعرف ببئر جُشم وبئر الجمل (¬1). قوله: "بالمِرْبَد" بكسر الميم وفتح الباء، من ربد بالمكان إذا أقام فيه، وربده إذا حبسه، وأراد به الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، وبه سمى مِرْبَد البصرة والمدينة. والمربد أيضًا الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف، كالْبَيْدَر للحِنطة. وزعم ابن قرقول: أن المربد على ميلين من المدينة، وقال السفاقسي: رويناه بفتح الميم، وهي في اللغة بكسرها. وفي "المحكم": المربد: مَحْبس الإبل، وقيل: هي خشبة أو عصًا تعترض صدور الإبل فتمنعها من الخروج. ومربد البصرة من ذلك؛ لأنهم يحبسون فيه الإبل. والمربد: فضاء وراء البيوت [يُرْتَفَقُ] (¬2) به، والمربد كالحجرة في الدار، ومربد التمر: جَرِينة الذي يوضع فيه بعد الِجذاذ ليَيْبَس، قال سيبويه: هو اسم كالمطبخ، وإنما مثل به لأن الطبخ [يُيبِّسُ] (¬3)، وقال السهيلي: المربد والجَرِين والمِسْطح والبَيْدر والأَنْدَر والجرجاذ لغات بمعنى واحد. ¬

_ (¬1) انظر معجم البلدان (2/ 128). (¬2) في "الأصل، ك": برهق، والمثبت من "اللسان"، وفي "العمدة" (2/ 14): ترتفق، وطبعته -تصوير بيروت عن المنيرية- كثيرة التحريف، لا يوثق بها. (¬3) في "الأصل، ك": يُيَبَّسُ، غير مستقيمة اللفظ، وفي "اللسان": " .. لأن الطبخ تَيْبِيس"، والكلام في "عمدة القاري" -أيضًا- لكنه محرف تحريفًا فاحشًا!!

وقال محمَّد بن سلمة: إنما تيمم ابن عمر بالمربد؛ لأنه خاف فوت الوقت. لعله يريد فوات الوقت المستحب، وهو أن تصفَرَّ الشمس. فإن قيل: قال البخاري في "جامعه" وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمِرْبَد الغنم، فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يُعِدْ. قلت: قوله: "والشمس مرتفعه" يحتمل أن تكون مرتفعة عن الأفق، والصفرة دخلتها. ويحتمل أن يكون ظَنَّ أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت، فتيمم على ذلك الاجتهاد. وعن ابن القاسم: "من رجا إدراك الماء في آخر الوقت، فتيمم في أوله وصلى أجزأه، ويُعيد في الوقت استحبابًّا". فيحتمل أن يكون ابن عمر كان يرى هذا. وقال سحنون في شرح "الموطأ": كان ابن عمر على وضوء؛ لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عوضًا من الوضوء. وقيل: كان ابن عمر يرى أن الوقت إذا دخل حل التيمم، وليس عليه أن يؤخر لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وقال عبد العزيز ابن بُزيزة: الحاضر الصحيح يَعْدِم الماء، هل يتيمم أم لا؟ قالت طائفة: يتيمم، وهو مذهب ابن عمر وعطاء والحسن، وجمهور العلماء. وقال قوم من العلماء: لا يتيمم. وعن أبي حنيفة: يُستحب لعادم الماء، وهو يرجوه، أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، ليقع الأداء بأكمل الطهارتين. وعن محمَّد: إن خاف فوت الوقت يتيمم. وفي شرح الأقطع: التأخير، عن أبي حنيفة ويعقوب حَتْم. كأنه يشُير إلى ما رواه الدارقطني (¬2) من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: "إذا أجنب الرجل في السفر تَلَوَّمَ ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء، تيمم وصلى". ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [43]، وسورة المائدة، آية: [6]. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 186 رقم 5).

ولفظ البيهقي (¬1): "اطلب الماء حتى يكون آخر الوقت، فإن لم تجد الماء تَيَمَّمْ، ثم صَلِّ". قال ابن حزم (¬2): وبه قال سفيان بن سعيد وأحمد بن حنبل وعطاء. وقال مالك: لا يعجل ولا يؤخر، ولكن في وسط الوقت. وقال مرة: إن أيقن بوجود الماء قبل خروج الوقت آخَّره إلى وسط الوقت، وإن كان موقنًا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فليتيمم في أول الوقت ويصلي، وعن الأوزاعي: كل ذلك سواء. وعند مالك إذا وجد الحاضر الماء في الوقت هل يعيد أم لا؟ فيه قولان في "المدونة"، وقيل: إنه يعيد أبدًا. قلت: مَنْ صلى بالتيمم، ثم وجد الماء قبل خروج الوقت، لا إعادة عليه؛ لما روى أبو داود في "سننه" (¬3): نا محمَّد بن إسحاق المُسَيَّبيِّ، قال: نا عبد الله بن نافع، عن الليث بن سَعْد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: "خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء. فتيمما صعيدًا طيبًا، فصليا. ثم وَجَدَا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - عليه السلام -[فذكرا] (¬4) ذلك له فقال للذي لم يُعِد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين". وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان وإسحاق والشعبي، وقال عطاء وطاوس وابن سيرين ومكحول والزهري: يعيد الصلاة. واستحبه الأوزاعي ولم يوجبه. فإن قيل: قال أبو داود: ذكرُ أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ، هو مرسل. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 233 رقم 1041). (¬2) "المحلى" (2/ 120). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 93 رقم 338). (¬4) في "الأصل، ك": "فذكروا"، والمثبت من "السنن".

قلت: أسنده أبو الوليد الطيالسي، عن الليث، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وقال أبو علي بن السكن: تفرد به أبو الوليد ولم يُسْنِد عميرة غير هذا الحديث. وأخرجه الحكم (¬1) مسندًا وقال: صحيح على شرطهما، فإن ابن نافع ثقة، وقد وصل هذا الإسناد عن الليث، وقد أرسله غيره. وقال الطبراني في "الأوسط" (¬2): لم يروه متصلًا إلا ابن نافع، تفرد به المسيَّبي. وقال الدارقطني (¬3): تفرد به ابن نافع عن الليث بهذا الإسناد متصلًا، وخالفه ابن المبارك وغيره، فلم يذكروا أبا سعيد. فإن قيل: قال ابن القطان: عميرة مجهول الحال. قلت: ليس كذلك؛ لأن النسائي لما ذكره في التمييز، قال: ثقة، وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل، وقال ابن بكير: هو ثقة. وسئل أحمد بن صالح عنه وعن ابن شريح، فقال: هما متقاربان في الفضل، وذكره ابن حبان في الثقات. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: نا أبو نعيم، قال: نا عَزْرَة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "أتاه رجل فقال أصابتني جنابة، وإنني تمعكت في التراب، فقال: أَصرْتَ حمارًا؟! فضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب بيده إلى الأرض فمسح بيديه إلى المرفقين، وقال: هكذا التيمم". ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعَزْرَةَ -بفتح العين المهملة، وسكون الزاي المعجمة وفتح الراء- وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدْرُس المكي. وأخرجه الدارقطني (¬4): عن محمَّد بن مخلد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي بن ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 286 رقم 632). (¬2) "المعجم الأوسط" (2/ 235 رقم 1842) (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 188 رقم 1). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 182 رقم 23).

قانع، كلهم عن إبراهيم الحربي، عن أبي نعيم، عن عزرة ... إلى آخره نحوه، وليس في روايته: "أصرت حمارًا". وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن عَزْرَة ... إلى آخره. ورواه الدارقطني (¬2) مرفوعًا أيضًا: نا محمَّد بن مخلد وإسماعيل بن علي وعبد الباقي ابن قانع، قالوا: نا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عثمان بن محمَّد الأنماطي، نا حرميُّ بن عمارة، عن عَزْرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -، قال: "التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين". وأخرجه البيهقي (¬3) مرفوعًا أيضًا. وأخرجه الحكم (¬4): من حديث [إبراهيم بن] (¬5) إسحاق الحربي نحوه، وقال هذا إسناد صحيح، وقال الذهبي أيضًا: إسناده صحيح، ولا يلتفت إلى قول من يمنع صحته. قوله: "تمعكت" أي تمرغت. ص: وقد روي مثل ذلك عن الحسن: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن قَتَادة، عن الحسن، أنه قال: "ضربة للوجه والكفين، وضربة للذراعين إلى المرفقين". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا حجاج بن المنهال، قال: أنا أبو الأشهب، عن الحسن، مثله، ولم يَقُل: "إلي المرفقين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 147 رقم 1688). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 181 رقم 21). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 207 رقم 943). (¬4) "مستدرك الحاكم" (1/ 288 رقم 638). (¬5) سقط من "الأصل"، والمثبت من "المستدرك".

ش: أي: قد روي عن الحسن البصري مثل ما روي عن ابن عمر وجابر. وأخرجه بطريقين صحيحين: أولهما: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن قَتَادَة. الثاني: عن محمَّد، عن حجاج، عن أبي الأَشْهب جَعْفر بن حَيَّان الأسدي السَعْدي العُطاردي البصري الخزَّاز الأعمى، عن الحسن. وروى الدارقطنى (¬1): ثنا القاضيان الحسن بن إسماعيل وأبو عمر محمَّد بن يوسف، قالا: نا إبراهيم بن هانئ، نا موسى بن إسماعيل، نا أبان، قال: "سئل قَتَادَةُ عن التيمم في السفر، فقال: كان ابن عمر يقول: إلى المرفقين، وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان: إلى المرفقين". وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن يونس، عن الحسن، وقاله: عن معمر عن الحسن أيضًا، قال: "مرة للوجه، ومرة لليدين إلى المرفقين" انتهى. قلت: وروي عن إبراهيم وطاوس وسالم والشعبي وسعيد ابن المسيب نحوه. فروى محمَّد عن أبي حنيفة، قال: نا حماد، عن إبراهيم، في التيمم قال: "تضع راحتيك في الصعيد فتمسح وجهك، ثم تضعهما الثانية فتمسح يديك وذراعيك إلى المرفقين" قال محمَّد وبه نأخذ. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا ابن مهدي، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 182 رقم 24). (¬2) مصنف عبد الرزاق (1/ 212 رقم 820). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 146 رقم 1681).

نا ابن عُلَية (¬1) عن أيوب، قال: "سألت سالمًا عن التيمم، قال: فضرب بيديه على الأرض (¬2) ضربة أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين". نا ابن عُليَّة، عن داود، عن الشعبي، قال: "التيمم ضربة للوجه ولليدين إلى المرفقين". نا أبو داود الطيالسي (¬3)، عن حماد، عن قَتَادةَ، عن ابن سيرين وصالح أبي الخليل أنهما قالا: "التيمم الوجه والكفان". وقال سعيد بن المسيب وابن عمر: "الوجه والذراعان". وروي عن أبي أمامة وعائشة مرفوعًا. أما حديث أبي أمامة: فأخرجه الطبراني (¬4) بإسناده إليه، عن النبي - عليه السلام -، قال: "التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". وفي إسناده جعفر بن الزبير، قال شعبة: وضع أربع مائة حديث. وأما حديث عائشة فأخرجه البزار (¬5) بإسناده عنها، عن النبي - عليه السلام -، قال في التيمم: "ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"، وفي إسناده الحَرِيشُ بن حُرَيْث، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 146 رقم 1674). (¬2) كذا في "الأصل، ك" و"المصنف"، ولعله قد وقع ها هنا سقط ولعل موضعه: "ضربة فمسح بهما وجهه ثم ضرب". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 47 رقم 1672). (¬4) "المعجم الكبير" (8/ 245 رقم 7959). (¬5) عزاه له الهيثمي في "المجمع" (1/ 263)، وانظر "نصب الراية" (1/ 151).

ص: باب: غسل يوم الجمعة

ص: باب: غسل يوم الجمعة ش: أي: هذا باب في بيان حكم الغسل يوم الجمعة. والمناسبة بين البابين أن ما قبله طهارة صغرى وهذا طهارة كبرى. و"الجُمُعة" بضم الجيم والميم، وسكون الميم أيضًا، مشتقة من اجتماع الناس للصلاة، قاله ابن دُرَيْد. وقال غيره: بل لاجتماع الخليقة فيه وكمالها. وفي "المطالع": وروي عن النبي - عليه السلام - أنها إنما سميت بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء، يعني في الأرض. ص: حدثنا محمَّد بن علي بن محرز، قال: نا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: "ذكروا أن النبي - عليه السلام - قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنُبَا، وأصيبوا من الطيب. فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أعلمه". حدثنا ابن أبى داود، قال: نا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبى حمزة، عن الزهري، قال: قال طاوس، قلت لابن عباس ... ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: أنا ابن جريج، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن طاوس، عن ابن عباس ... مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن علي بن محرز البغدادي، وثقه ابن يونس وابن الجوزي. عن يعقوب بن إبراهيم المدني. عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. عن محمَّد بن إسحاق المدني.

عن محمَّد بن مسلم الزهري. عن طاوس بن كيسان اليماني. وأخرجه البزار في "مسنده": عن الفضل بن سهل، عن يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق ... إلى آخره نحوه. الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البَهْراني، عن شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي، عن الزهري عن طاوس ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): عن أبي اليمان ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم النَّبِيل، بفتح النون وكسر الباءالموحدة، من النبالة، وهي الفضل، من: نَبُل -بضم عين الفعل- فهو نَبيل، واسمه: الضحاك بن مَخْلَد. عن عبد الملك ابن جريج، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس. وأخرجه مسلم (¬2): عن محمَّد بن رافع، عن عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس: "أنه ذكر قول النبي - عليه السلام - في الغسل يوم الجمعة، قال طاوس: فقلت لابن عباس: ويَمسّ طيبًا أو دهنًا إن كان عند أهله؟ قال: لا أعلمه". قوله: "جُنبًا" منصوب على أنه خبر "إن لم تكونوا" وقد ذكرنا أن الجنب يطلق على الواحد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث. قوله: "وأصيبوا" أي: مِن: أَصَاب يُصِيب. [إصابة] (¬3) وكلمة "مِن" في: "مِن الطيب" للتبعيض، والطِيب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 302 رقم 844). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 582 رقم 848). (¬3) تكررت في "الأصل".

اسم لما يُتَطَيَّب به حتى الماء فإنه يطلق عليه الطيب كما ورد في الحديث: "فإن الماء طيب" (¬1)، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى. وذلك لأن الطَيِّب في اللغة خلاف الخبيث، يُقال: طاب الشيء يطيب طِيبه وتَطيابَّاَ. وفي العُباب: وطِيبًا أيضًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: أنا عفان بن مسلم، قال: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب، قال: "سمعت رجلًا سأل ابن عمر عن الغسل يوم الجمعة، فقال: أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، قال: نا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن نافع وعن يحيى بن وثاب، قالا: سمعنا ابن عمر يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول ذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، عن الحكم أنه سمع نافعًا يحدث، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - بذلك. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن الزهري عن حديث سالم بن عبد الله، عن عبد الله، عن حديث رسول الله - عليه السلام - بذلك. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -، بذلك. حدثنا ابن أبي داود، قال: نا سليمان بن حرب، قال: أنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - بذلك. حدثنا أبو بكرة، قال: نا إبراهيم بن أبي الوزير، قال نا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - بذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 116)، والروياني في "مسنده" (1/ 241 رقم 350)، وأبو يعلى في "مسنده" (3/ 221 رقم 1659) كلهم من حديث البراء بن عازب، وسيأتي في هذا الكتاب قريبًا.

حدثنا عبد الرحمن بن الجارود أبو بشر البغدادي، قال: نا ابن أبي مريم، قال: نا الليث بن سعد، قال: حدثني ابن شهاب، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام - بذلك. ش: أخرج حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من ثمان طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن يحيى بن وثاب الأسدي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حجاج، أنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت يحيي بن وثاب: "سألت ابن عمر عن الغسل يوم الجمعة، قال: أمرنا به رسول الله - عليه السلام -". الثانى: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي، عن نافع، وعن يحيى بن وثاب، كلاهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا شريك وأبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَنْ أتى الجمعة فليغتسل". نا (¬3) ابن عياش، عن أبي إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -، بمثله. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن نافع. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 47 رقم 5078). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 433 رقم 4991). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 433 رقم 4992).

وأخرجه البزار في "مسنده": نا عمرو بن علي، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من أتى الجمعة فليغتسل". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسند" (¬1): نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - وهو على المنبر يقول: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2): عن نافع، عن عبد الله ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -: "إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". السابع: عن أبي بكرة بكار، عن إبراهيم بن أبي الوزير، هو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، المعروف بابن أبي الوزير، عن سفيان الثوري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 35 رقم 4920). (¬2) "الموطأ" (1/ 102 رقم 231). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 78 رقم 5488).

وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": نا سفيان عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه سمع النبي - عليه السلام -، وهو على المنبر يقول: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". الثامن: عن عبد الرحمن بن الجارود أبي بشر البغدادي، عن سعيد ابن الحكم بن سالم، المعروف بابن أبي مريم الجمحي المصري، شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم (¬1): نا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث. ونا ابن رمح، نا ليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال وهو قائم على المنبر: "مَنْ جاء منكم الجمعة فليغتسل". ص: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: أنا الوليد بن مسلم، قال: أنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على المنبر يقول: "ألم تسمعوا النبي - عليه السلام - يقول: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل؟ ". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه البخاري (¬2): نا أبو نعيم، نا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن عمر - رضي الله عنه - بينما يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل، فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة؟ فقال الرجل: ما هو إلا سمعت النداء فتوضأت، فقال: ألم تسمعوا النبي - عليه السلام - قال: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل؟ ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 579 رقم 844). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 301 رقم 842).

وأخرجه مسلم (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال حدثني يحيى بن أبي كثير، قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة قال: "بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت. فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! ألم تسمعوا رسول الله - عليه السلام -، يقول: إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". وأخرجه أبو داود (¬2): عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية، عن يحيى، عن أبي سلمة ... إلي آخره، نحو رواية البخاري، وفيه: "والوضوء أيضًا" بدل قوله: "أو لم تسمعوا". وأخرجه الترمذي من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه: "بينما عمر ... " الحديث. ص: حدثنا محمَّد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، قال: ثنا المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن حفصة زوج النبي - عليه السلام -، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "على كل محتلم الرَّواح إلى الجمعة، وعلى من راح الجمعة الغسل". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وعياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القِتْبَانيّ. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 580 رقم 845). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 94 رقم 340).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أيزيد، (¬2) بن خالد الرملي، ثنا المفضل -يعني: ابن فضالة- عن عياش ... إلى آخره، نحوه سواء. قوله: "الرواح" أصل الرواح أن يكون بعد الزوال، ولكن المراد منه ها هنا الذهاب مطلقًا، يقال: راح القوم وتروّحوا، إذا ساروا أيَّ وقت كان. وقال الأزهري: لغة العرب أن الرواح الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره، أو في الليل. والمراد من "المحتلم" البالغ المدرك، وأصله من الحُلُم بضم الحاء وهو العقل، وأراد به من بلغ العقل، وجرى عليه حكم الرجال، سواء احتلم أو لم يحتلم. ص: حدثنا روح بن الفرج القطان، قال: أنا يحيى بن عبد الله ويزيد بن مَوْهب وعبد الله بن عباد البصري، قالوا: نا المفضل فذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر، عن روح بن الفرج القطان أبي الزنباع المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير المصري، وعن يزيد بن مَوْهب الشامي، وثقه ابن حبان. وعن عبد الله بن عباد البصري، قال في الميزان: ضعيف، ثلاثتهم قالوا: حدثنا المفضل بن فضالة فذكر روح الحديث بإسناده مثل المذكور. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3)، وقال: ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، ثنا يحين بن بكير، حدثني مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس القِتْبَانيّ، عن بُكَيْر بن عبد الله بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "الرواح يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والغسل كاغتساله من الجنابة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 94 رقم 342). (¬2) في "الأصل، ك": زيد، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود" ومصادر ترجمته. (¬3) "المعجم الكبير" (23/ 195 رقم 334).

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا أبو غسان، قال: أنا محمَّد بن بِشْر، قال: نا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طَلْق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنهم -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمرنا بالغسل يوم الجمعة". ش: إسناده صحيح، وأبو غسان مالك بن إسماعيل الكوفي شيخ البخاري في "الصحيح"، وطلق بن حبيب العنزي البصري روى له الجماعة؛ البخاري في الأدب. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: نا محمَّد بن بشر، قال: نا زكريا بن أبي زائدة، ثنا مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب العنزيّ، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أنها حدثته: "أن النبي - عليه السلام - كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت". ثم أخرجه في باب "الجنائز"، وقال: هذا منسوخ. قوله: "كان يأمرنا" أرادت به أمر استحباب، لأجل التنظيف؛ لأن يوم الجمعة يوم ازدحام، فأمرهم بالغسل لئلا يتأذى بعضهم برائحة البعض، وليس المراد منه أمر الوجوب؛ لأن الأحاديث التي وردت بخلافه تدل على ذلك، على ما يجيء. ص: حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، قال: أنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من أصحابي النبي - عليه السلام - من الأنصار قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "حق على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة ويتطيب من طيب، إن كان عنده". ش: إسناده صحيح، وأبو نُعيم الفضل بن دكين، وسفيان هو الثوري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن شيخ من الأنصار، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 96 رقم 348). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 363 رقم 23126).

وتعلقت الظاهرية به، فقالوا: هذه الثلاثة فرض يوم الجمعة. والجواب عنه أنه منسوخ كما يأتي. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: نا مُسدد، قال: نا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، ح. وحدثنا فهد قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -، قال: "الغسل واجب على كل مسلم، في كل أسبوع يومًا، وهو يوم الجمعة". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن مُسدد بن مُسَرْهَد، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان الواسطي، عن داود بن أبي هند البصري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، عن جابر. والثانى: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد سليمان ابن حَيان -بالياء آخر الحروف- الكوفي المعروف بأبي خالد الأحمر ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي خالد، إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: فيه: "في كل سبع". قوله: "أُسبوع" بضم الهمزة، ويقال: سُبُوع بلا ألف، وهي لغة قليلة، وهو اسم للأيام السبعة. ص: حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن صفوان بن سُلَيم، عن عطاء بن يَسار، عن أبي سعيد الخدري، يبلغ به النبي - عليه السلام -: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 433 رقم 4993).

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدَّثه، عن صفوان ... فذكر بإسناده، مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيَيْنة، عن صفوان بن سُلَيم المدني، عن عطاء بن يسار الهلالي المدني، عن أبي سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك. وأخرجه البزار في "مسنده": نا أحمد بن إياس القرشي، نا عبد العزيز بن محمَّد وعبد الله بن محمَّد بن أبي فروة، أبو علقمة الفروي، قالا: نا صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الغسل واجب على كل محتلم يوم الجمعة"، وهذا الحديث قد رواه مالك وابن عيينة. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن صفوان ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، قال: نا سعيد بن منصور، قال: نا هشيم، قال: نا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الحق على المسلم أن يغتسل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 300 رقم 839). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 580 رقم 846). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 94 رقم 341). (¬4) "المجتبى" (2/ 93 رقم 1377).

يوم الجمعة، وأن يمس من طيب، إن كان عند أهله، فإن لم يكن عندهم طيب، فإن الماء طيب". ش: إسناده حسن، ورجاله ثقات. وأخرجه الترمذي (¬1): نا علي بن الحسن الكوفي، قال: نا أبو يحيي إسماعيل بن إبراهيم التيمي، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "حق على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب". وقال: حديث البراء حديث حسن. قوله: "إن من الحق" أي: من بَعْضه، وكلمة "من" للتبعيض. قوله: "أن يغتسل" في محل النصب بتأويل المصدر على أنه اسم "إن"، والتقدير: أن غسل يوم الجمعة من الحق. قوله: "وأن يمس" بالمصدر عطفا على "أن يغتسل"، من: مَسِسْتُ الشيء أَمَسُّه مسًّا: إذا لَمَسْتَه بيدك. قوله: "إن كان عند أهله": أي: زوجته، ومنه يقال للمتزوج: الآهِل، وشرط فيه التمكن من وجوده، والتأكيد أيضًا، فإن طيب المرأة مكروه للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه فأباحه ها هنا للرجل للضرورة لعدم غيره حتى لو كان عنده من طيب الرجال، وهو ما ظهر ريحه وخفي لونه لا يعدل عنه إلى طيب النساء. قوله: "فإن الماء طيب" معناه: أنه مُطهر مُزيل للروائح الكريهة، وأيّ طيب يكون أشد إزالة للروائح الكريهة منه، والقصد منه أنه إن لم يظفر بطيب، لا يترك الاغتسال بالماء، ليكون ذلك أقوى في النظافة والطهارة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 407 رقم 528).

وهذا كما رأيت، أخرج الطحاوي هذه الأحاديث عن تسعة من الصحابة، وهم: ابن عباس، وابن عمر، وعمر بن الخطاب، وحفصة، وعائشة، ورجل من الأنصار، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب. ولما أخرج الترمذي حديث ابن عمر في باب "ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة" قال: وفي الباب عن عمر، وأبي سعيد، وجابر، والبراء، وعائشة، وأبي الدرداء. قلت: وفي الباب عن أنس، وبريدة بن الحُصَيْب، وثوبان، وسهل بن حبيب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مسعود، وأبي أمامة - رضي الله عنه -. فحديث ابي الدرداء عند الطبراني في "الكبير" (¬1)، وأحمد في "مسنده" (¬2): من رواية حرب بن قيس، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اغتسل يوم الجمعة ثم لبس ثيابه ومَسَّ طيبًا إن كان عنده، ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة، ولم يتخط أحدًا, ولم يؤذ، وركع ما قضى له، ثم انتظر حتى ينصرف الإِمام، غفر له ما بين الجمعتين". وحرب بن قيس عن أبي الدرداء: مرسل، قاله أبو حاتم. وحديث أنس عند ابن عدي في "الكامل" في ترجمة الفضل بن المختار (¬3)، عن أبان، عن أنس، ويْ ترجمة أبان أيضًا (¬4)، وفي ترجمة الفضل أيضًا عن تمام بن حسان، عن الحسن، عن أنس بلفظ: "من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل". وأبان بن أبي عياش متروك، والفضل بن المختار لا يتابع على حديثه. ¬

_ (¬1) عزاه له الهيثمي في "المجمع" (2/ 171)، وقال: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن حرب بن قيس عن أبي الدرداء، وحرب لم يسمع من أبي الدرداء. (¬2) "مسند أحمد" (5/ 198 رقم 21777). (¬3) "الكامل" لابن عدي (6/ 15). (¬4) "الكامل" لابن عدي (1/ 385).

وحديث بُريدة عند البزار (¬1): من رواية أبي هلال، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -، قال: "مَنْ أتى الجمعة فليغتسل". وحديث ثوبان عند البزار (¬2) أيضًا: من رواية يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث، عن أبي عثمان، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "حق على كل مسلم السواك، وغسل الجمعة، وأن يمس من طيب أهله إن كان". ويزيد بن ربيعة الرحبي: ضعيف، وأبو الأشعث اسمه: شراحيل بن آدَة، وأبو عثمان اسمه: شراحيل بن مرثد. وحديث سهل بن حنيف عند الطبراني في "الكبير" (¬3): من رواية يزيد بن عياض، عن أشعث بن مالك، عن عثمان بن أبي أمامة، عن سهل بن حنيف، عن رسول الله - عليه السلام -: "من حق الجمعة: السواك والغسل، ومَنْ وجد طيبًا فليس منه". ويزيد بن عياض بن جُعْدُبة: ضعيف، قاله ابن المديني وابن معين وغيرهما. وحديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - عند الطبراني أيضًا في "الكبير" (¬4): من رواية إبراهيم بن يزيد، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من أتى الجمعة فليغتسل"، وإبراهيم بن يزيد -الظاهر أنه الخوزي- وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) عزاه له الهيثمي في "المجمع" (2/ 173)، وللطبراني في "الأوسط" بنحوه وقال: وفي إسنادهما زكريا بن يحيى قال العقيلي: لا يتابع على حديثه، قال الذهبي: وروى له حديثًا جيدًا وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. (¬2) عزاه الهيثمي له في "المجمع" (2/ 172)، وقال: رواه البزار وفيه يزيد بن ربيعة، ضعفه البخاري، والنسائي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. (¬3) "المعجم الكبير" (6/ 88 رقم 5596). (¬4) عزاه الهيثمي له في "المجمع" (2/ 173)، وقال: رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه إبراهيم بن يزيد -وأظنه الخوزي- فإنه في طبقته، روى عن التابعين، وهو متروك.

وحديث عبد الله بن مسعود عند البزَّار (¬1) من رواية وبرة، عن همام، عن عبد الله، قال: "من السنة الغسل يوم الجمعة". وحديث أبي أمامة عند الطبراني في "الأوسط" (¬2): من رواية يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة: "أن رسول الله - عليه السلام - قام في أصحابه، قال: "اغتسلوا يوم الجمعة""،الحديث. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى إيجاب الغسل يوم الجمعة واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والمسيب بن رافع، ومالكًا -في رواية- وجماعة الظاهرية، فإنهم قالوا بوجوب الغسل يوم الجمعة بالأحاديث المذكورة. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬3): وممن قال بوجوب الغسل يوم الجمعة: عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة، لم يخالفه فيه أحد منهم، وأبو هريرة، وابن عباس وأبو سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمرو بن سليم [وعطاء] (¬4)، وكعب، والمسيب بن رافع. قال: ولا نعلم أنه يصح عن أحد من الصحابة إسقاط فرض الغسل يوم الجمعة. وقال القاضي عياض: اختلف السلف والعلماء في غسل الجمعة؛ فروي عن بعض الصحابة وجوبه، وبه قال أهل الظاهر، وتأول ابن المنذر أنه مذهب مالك، وحكاه الخطابي عنه وعن الحسن. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 315 رقم 1932). (¬2) "المعجم الأوسط" (7/ 135 رقم 7087). (¬3) "المحلى" (2/ 9 - 10). (¬4) ليس في "الأصل، ك" والمثبت من "المحلى".

وعامَّة فقهاء الأمصار على أنه سُنّة، وهو حقيقة مذهب مالك، والمعروف من قوله، ومعظم قول أصحابه وجاء عنه ما دل أنه مستحب، وقال به طائفة من العلماء. وقال بعضهم: الطيب يجزئ عنه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: ليس الغسل يوم الجمعة بواجب، ولكنه مما قد أمر به رسول الله - عليه السلام - لمعان قد كانت فمنها: ما رُوي عن ابن عباس في ذلك: حدثنا فهد بن سليمان، قال: نا ابن أبي مريم، قال: أنا الدراورديُّ ح. وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا القعنبيُّ، قال: نا الدراوردي، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، قال: "سئل ابن عباس - رضي الله عنه - عن الغسل يوم الجمعة؛ أواجب هو؟ قال: لا, ولكنه طهور وخير، فمن اغتسل فحسنٌ، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب. وسأخبركم (كيف) (¬1) بَدْءُ الغُسْل: كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقًا مُقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - عليه السلام - في يوم حرٍّ وقد عَرِقَ الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت رياح، حتى آذى بعضُهم بعضًا، فوجد رسول الله - عليه السلام - تلك الرياح، فقال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا, وليمس أحدكم أمثل ما يجد من دُهْنه وطيبه، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكُفُوا العملَ وَوُسِّع مسجدُهم". فهذا ابن عباس يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله - عليه السلام - بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهو أحد من روي عنه عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه كان يأمر بالغسل". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم جمهور العلماء من التابعين وغيرهم، والأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: الغسل يوم الجمعة ليس بواجب، وإنما كان النبي - عليه السلام - أمر به لعلة، وقد زالت، فزال وجوب الغسل معها. وقد بيَّنها ابن عباس - رضي الله عنهما - في حديثه المذكور، وقد علم أن الحكم ينتهي بانتهاء علته. قوله: "لمعان" أي لعلل، واختار لفظ المعاني كراهة لذكر اصطلاح الفلاسفة. قوله: "فمنها" أي فمن تلك المعاني، ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان النحاس، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري في "الصحيح"، عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي نسبته إلى درَاوَرْد، بفتح الدال، قرية بخراسان، عن عمرو بن أبي عمرو مَيْسرة، ابن عمار المدني. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن الدراوردي ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، عن الدراوردي، عن عمرو -يعني ابن أبي عمرو- عن عكرمة: "أن ناسًا من أهل العراق جائوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجبًا؟ قال: لا, ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم" ... إلى آخره نحوه. قوله: "طهور" أي: مطهر للبدن، وخير لمن اغتسل في الثواب. قوله: "كيف بَدْء الغسل" أي: كيف كان ابتداؤه. قوله: "مجهودين" من قولهم جُهِدَ الرجل فهو مجهودٌ، إذا وجد مشقةً. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 97 رقم 353).

قوله: "إنما هو عريش" العريش: كُلُّ ما يُستظل به، والمراد أن سقفه كان من الجريد، والسَعَف. قوله: "حتى ثارت" أي هاجت، من: ثار يثور ثَوْرًا، وثَوَرانًا، إذا سطع. قوله: "أمثل ما يجد" أي: أفضل ما يجده. قوله: "من دهنه" يتناول الزيت، ودهن السمسم، وغيرهما من الأدهان الطيبة، وكذلك الطيب: يتناول سائر أنواع الطيب، مثل المسك والعنبر، والعالية ونحوها. قوله: "ثم جاء اللهَ بالخير" إشارة إلى أن الله تعالى فتح الشام ومصر وعراق على أيدي الصحابة - رضي الله عنهم -، وكثرت أموالهم وخدمهم و [حشمهم] (¬1)، فغيروا اللَّبِنَ، والبناء وغير ذلك. وقد خبَّط ابن حزم هنا تخبيطًا عظيمًا لترويج مذهبه، فقال (¬2): وأما حديث ابن عباس فقد روي من طريقين: أحدهما: من طريق محمَّد بن معاوية النَيْسابوري، وهو معروف بوضع الأحاديث والكذب. والثاني: من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، وهو ضعيف لا يحتج به. ثم لو صح من حديث عمرو بن أبي عمرو فليس فيه حجة لهم بل حجة لنا عليهم؛ لأنه ليس فيه من كلام النبي - عليه السلام - إلا الأمر بالغسل وإيجابه، وكل ما تعلقوا به في إسقاط وجوب الغسل فليس من كلامه - عليه السلام -، وإنما هو من كلام ابن عباس وظنِّه، ولا حجة في أحدٍ دونه - عليه السلام -. قلت: الطريق الذي أخرجه الطحاوي وأبو داود صحيح، وعمرو بن أبي عمرو احتجت به الجماعة، فلا التفات إلى تضعيف ابن حزم إياه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": ومماشهم، وهو تحريف، والحَشَم: جماعة الإنسان اللائذون به لخدمته، انظر "النهاية " (1/ 391). (¬2) "المحلى" (2/ 12).

وقوله: "فليس فيه حجة لهم" كلام ساقط؛ لأن ابن عباس - رضي الله عنهما - لو لم يدر عدم وجوب الغسل يوم الجمعة لما قال: "لا"، حين سئل عنه. وكيف وقد رَوَى عنه - عليه السلام -: أنه كان يأمر به، ولو لم يثبت عنده أن هذا الأمر كان لعلة، وأنها قد زالت فزال الوجوب، لما علَّل عدم الوجوب بما ذكره، ولا يُظَن في حق ابن عباس أنه عرف وجوب الغسل وحقيقته، ثم ترك وذهب! إلى عدم الوجوب. وكيف وهو أعلم الناس بمواقف النصوص، وعللها ومواردها، وما يتعلق بأحكامها؟!. ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك شيء: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا أنس بن عياض، عن يحيي بن سعيد ح. وحدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: أنا علي بن معبد، قال: أنا عبيد الله -يعني ابن عمرو الجزري- عن يحيي بن سعيد قال: "سألت عمرة عن غسل يوم الجمعة، فذكرت أنها سمعت عائشة تقول كان الناس عُمَّال أنفسهم، فيروحون بهيئتهم، فقال: لو اغتسلتم". فهذه عائشة - رضي الله عنها - تخبر أن رسول الله - عليه السلام - إنما كان ندبهم إلى الغسل للعلة التي أخبر بها ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأنه يجعل ذلك عليهم حتمَا. وهي أحد مَنْ روينا عنه في الفصل الأول أن النبي - عليه السلام - كان يأمر بالغسل في ذلك اليوم. ش: أي قد روي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في المعنى الذي ذكره ابن عباس شيء؛ حيث قالت: "كان الناس عمال أنفسهم ... " إلى آخره، أرادت: إنما أمرهم رسول الله - عليه السلام - بالغسل للمعنى الذي ذكره ابن عباس، وذلك المعنى قد زال، فزال الوجوب؛ على أن عائشة - رضي الله عنها - هي أحد من روى عنه أنه - عليه السلام - كان يأمر بالغسل يوم الجمعة. ثم إنه أخرج حديث عائشة من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: "سألت عَمْرَة ... ".

وأخرجه البخاري (¬1): نا عبدان قال: أنا عبد الله، قال: أنا يحيى بن سعيد: "أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم". الثانى: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن عبيد الله بن عمرو أبي الوليد الجزري الرقيّ، [عن يحيى بن سعيد الأنصاري] (¬2)، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية. وأخرجه مسلم (¬3): نا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالت: "كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كُفاة، فكانوا يكون لهم التَّفَلُ، فقيل لهم: لو اغتسلتم". وأخرجه أبو داود (¬4): نا مسدد، قال: نا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "كان [الناس] (¬5) مُهَّان أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم". قوله: "عُمَّال أنفسهم" بضم العين وتشديد الميم، جمع عامل، وأراد أنهم كانوا يخدمون أنفسهم ويعملون أعمالهم بأنفسهم، لم يكن لهم مَنْ يخدمهم. والإنسان إذا باشر العمل الشاق بنفسه حَمِيَ بدنه وعَرِق، ولا سيما في البلاد الحارة، فربما يكون منه الرائحة الكريهة، فأمروا بالاغتسال تنظيفًا للبدن، وقطعًا للرائحة. و"المَهَنة" بالفتحات -جمع ماهِن، وهو الخادم، كالكتبة جمع كاتب، وكذلك المهَّان -بضم الميم وتشديد الهاء- جمع ماهِن، ككُتَّاب جمع كاتب، وقال الحافظ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 307 رقم 861). (¬2) ليس في "الأصل، ك" وهو موجود في إسناد الطحاوي كما سبق. (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 581 رقم 847). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 97 رقم 352). (¬5) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن أبي داود".

أبو موسى: "مِهَان" بكسر الميم والتخفيف: جمع [ماهِن] (¬1) كصِيَام جمع صائِم، وقِيَام جمع قائِم. قوله: "راحوا في هيئتهم" أي: في صفتهم التي كانوا عليها، والعرق والغبار والرائحة الكريهة. قوله: "لو اغتسلتم" جوابه محذوف، أي: لو اغتسلتم لكان زال منكم ما يُكره ويؤذي جاره، أو لكان أحب. قوله: "ولم يكن لهم كُفاة" بضم الكاف، جمع كافي، كقضاة جمع قاضي، وأراد بهم العبيد والخدم الذين يكفونهم الخدمة والعمل. قوله: "فكانوا يكون لهم التَّفَل" بفتح التاء المثناة من فوق، وفتح الفاء، وأراد به: الرائحة الكريهة. قوله: "يكون لهم التفل" جملة في محل النصب على أنها خبر قوله: "فكانوا". ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما يدل على أن ذلك لم يقع عِنْدَهُ موقع الفرض. حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يزيد بن هارون، قال: أنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن ابن عباس: "أن عمر ابن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ أقبل رجل فدخل المسجد فقال له عمر الآن توضأت، قال: ما زدت حين سمعت الأذان على أن توضأت ثم جئت. فلما دخل أمير المؤمنين ذكَّرته، فقلت: يا أمير المؤمنين أما سمعمت ما قال؟ قال: وما قال؟ قلت: قال: ما زدت على أن توضأت حين سمعت النداء، ثم أقبلت. فقال: أما إنه قد علم أنَّا أمرنا بغير ذلك. قلت: وما هو؟ قال: الغسل، قلت: أنتم أيها المهاجرون الأولون أم الناس جميعًا. قال: لا أدري". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": مهان، وهو تحريف أو سبق قلم من المؤلف وانظر "النهاية في غريب الحديث" (4/ 376) و"لسان العرب": (مهن).

ش: أي قد روي عن عمر- رضي الله عنه - ما يدل على أن الأمر بالغسل يوم الجمعة لم يقع موقع الفرض عنده بل وقع موقع الاستحباب؛ وذلك لأن قوله: "لا أدري"، يدل على ذلك، حين قال له ابن عباس "أنتم أيها المهاجرون الأولون أم الناس جميعًا". ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا علي بن شيبة. وأخرجه ابن أبي شيبةَ في "مصنفه" (¬1): نا يزيد بن هارون، عن هشام ... إلى آخره نحوه. ونا هشيم (¬2)، عن منصور، عن ابن سيرين، قال: "أقبل رجل من المهاجرين يوم الجمعة، فقال له عمر: هل اغتسلت؟ قال: لا، قال: لقد علمت أنا أُمِرْنَا بغير ذلك، قال الرجل بم أمرتم؟ قال: بالغسل، قال: أنتم معشر المهاجرين أم الناس؟ قال: لا أدري". قوله: "بينما" ظرف زمان، يعني المفاجأة، وأصله "بين" زيدت فيه الألف والميم. قوله: "إذْ أقبل" جوابه: قوله "ذكّرته"، بالتشديد، وفاعله ابن عباس، أي: ذكرت عمر ما قاله ذلك الرجل. قوله: "أما سمعت ما قال"، أي: ما قال ذلك الرجل. قوله: "قال: قال: وما قال" أي: قال ابن عباس: قال عمر: ما قال ذلك الرجل؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، قال: "دخل رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - المسجد يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب، فقال عمر: أيَّة ساعةٍ هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: الوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بالغسل؟ ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 434 رقم 5000). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 434 رقم 4999).

قال مالك: والرجل عثمان - رضي الله عنه -. ش: هذا مرسل، وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) مرسلًا أيضًا، هكذا أكثر الرواة. ووصله رَوْح بن عبادة، وإبراهيم بن طهْمان، والقعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق عنه، فجعلوه عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهم -. قال الترمذي (¬2): وسألت محمدًا عن هذا فقال: الصحيح حديث الزهري عن سالم عن أبيه، أراد أن المسند هو الصحيح. قوله: "آية ساعة هذه" على طريق التقريع والبيان والتعريف للداخل. ويستفاد منه أحكام: الأول: جواز أمر الإِمام في خطبته بالمعروف ونهيه عن المنكر، وسؤاله من يحتاج سؤاله في أمور الناس، وجواب الآخر له، وأنه ليس أحد منهم لاغيًا، وإنما اللاغي من أعرض عن استماع الخطبة، وشغل نفسه عنها بكلام أو غيره مما يمنعه من السماع. الثانى: فيه جواز العمل يوم الجمعة قبل النداء، والتجارة والمبايعات. وقد كان أصحاب النبي - عليه السلام - يكرهون ترك العمل يوم الجمعة كي لا يُتَشَبه باليهود. الثالث: فيه حجة لمن لا يرى الأوامر على الوجوب إلا بقرينة، بدليل فعل عثمان، وإقرار عمر، وترك إنكار الصحابة - رضي الله عنهم - ترك الغسل مع اعترافهم بالأمر به. الرابع: فيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكونا بالتلطف، وترك المواجهة بخشن القول وصريح الإنكار، ألا ترى كيف قال عمر- رضي الله عنه - في الحديث الآخر: "ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ " وكثيرًا ما كان النبي - عليه السلام - يفعل مثل هذا, ولا سيما لأهل الفضل ولمن لا يظُن به إلا الخير، ومَنْ له عذر. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 101 رقم 229). (¬2) جامع الترمذي (2/ 366 رقم 495).

الخامس: فيه دليل أن السعي إنما يجب بالنداء وبسماعه؛ حيث قال عثمان - رضي الله عنه -: "سمعت النداء"، وأن شهود الخطبة ليس بواجب. قال القاضي: هذا على مقتضى قول أكثر أصحابنا, ولا يشترط في صحة صلاة الجمعة، على قول آخرين. السادس: فيه دليل على جواز شهود الأخيار والفضلاء السوق، ومعاناة التَجْر (¬1) فيه، وهكذا كان المهاجرون يعانون المتاجر؛ لأنهم لم تكن لهم حيطان ولا غلات يعتمرونها إلا بعد حين، وكانت الأنصار ينظرون في أموالهم ويعتمرونها. السابع: فيه دليل على طلب الرزق والتعرض له والتحرف. الثامن: هو المقصود منه ها هنا: أن فيه دليلًا على أن أمره - عليه السلام - بالغسل ليوم الجمعة ليس بفرض؛ لأن عمر- رضي الله عنه - في هذا الحديث لم يأمر عثمان بالانصراف للغسل، ولا انصرف عثمان حين ذكره عمر بذلك، ولو كان الغسل واجبًا للجمعة ما أجزأت الجمعة إلا به، ما لا تجزئ الصلاة إلا بالوضوء للحديث، أو بالغسل للجنب. وفي هذا ما يوضح (أن) قوله - عليه السلام - في حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم، كغسل الجنابة"، أنه وجوب سنة واستحباب وفضيلة، وأن قوله: "كغسل الجنابة"؛ أراد به الهيئة والحال، والكيفية، فمن هذا الوجه وقع التشبيه له بغسل الجنابة، لا من جهة الوجوب. وقد أجمع علماء المسلمين قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويفي عن الإكثار، ولا يجوز على الأمة بأسرها جهل معنى السنة ومعنى الكتاب (¬2). والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) التَّجْر: التِّجارة، مصدر: تجر، يَتْجُر، تجرًا، من باب: قتل، انظر "القاموس"، و"المصباح". (¬2) قارن -حول دعوى الإجماع هنا-: "المحلى" (2/ 9)، "المغني" (3/ 225)، "فتح الباري" (2/ 420).

فائدة: قال أبو عمر- رضي الله عنه -: أول من دُعِيَ بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -وإنما، كان يقال لأبي بكر- رضي الله عنه -: خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان السبب في ذلك أنه كتب إلى عامل العراق: أن أبعث إلى برجلن "جَلِيدَيْن" (¬1) نبيلين نَسْأَلُهما عن العراق وأهله، فبعث إليه عاملُ العراق بلبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم. فلما قدما المدينة أناخا راحلتَيْهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا له: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين. فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، نحن المؤمنون وهو الأمير. فوثب عمرو فدخل، فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عمر- رضي الله عنه -: ما بدا لك يا ابن العاص في هذا الاسم؟ قال: إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما، فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين، فهما والله أصابا اسمك؛ أنت الأمير ونحن المؤمنون. قال: فجرى الكتاب من يومئذ (¬2)، وقد روي أن عمر- رضي الله عنه - هو الذي [سمي]، (¬3) نفسه أمير المؤمنين. والله أعلم. ص: حدثنا ابن أب داود، قال: أنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء جويرية، عن مالك، عن الزهري عن سالم عن أبيه مثله، غير أنه لم يذكر قول مالك: إنه عثمان - رضي الله عنه -. ش: هذا طريق آخر وهو مسند صحيح. وأخرجه البخاري (¬4): نا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: أنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه -، عن ابن عمر- رضي الله عنه -: "أن ¬

_ (¬1) جَلِيدين: في "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 458) بها مش الإصابة: جَلْدين، وهما بمعى. (¬2) فجرى الكتاب من يومئذ: يعني على ذلك، والعبارة في "الاستيعاب" كما هنا، وفي "أُسْد الغابة" (4/ 170): فجرى الكتاب "من عمر أمير المؤمنين"، من ذلك اليوم، اهـ وهي أوضح. (¬3) في "الأصل": سمه، والمثبت من "ك". (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 300 رقم 383).

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين، من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فناداه عمر: أيَّه ساعة هذه؟ قال: إني شُغِلْت فلم أَنْقِلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بالغسل؟! ". وأخرجه مسلم (¬1): عن حرملة بن يحيي، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة دخل رجل ... الحديث". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا حُسَين بن مهدي، قال: نا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، مثله. ش: هذا طريق أخر، وهو أيضًا صحيح عن أبي بكرة بكار. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الرزاق، نا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -، فناداه عمر: أيَّة ساعة هذه ... " إلى آخره نحو رواية البخاري. ص: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: نا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ح. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا حرب بن شداد، قال: حدثني يحيى -يعني ابن أبي كثير- قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة، قال: "بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب الناس إذ دخل عثمان بن عفان فعرّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ... " ثم ذكر مثله. ش: هذا وجه آخر من حديث أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 580 رقم 845). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 29 رقم 202).

وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قالك أنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة، قال: "بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل عثمان بن عفان، فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! ألم تسمعوا رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل؟ ". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسند" (¬2): نا عبد الصمد، نا حرب بن شداد، نا يحيي، نا أبو سلمة، نا أبو هريرة، قال: "بينا عمر بن الخطاب (يخطب) (¬3) إذْ جاء رجل فجلس، فقال عمر: لم تحتبسون عن (الصلاة) (¬4)؟ فقال الرجل يا أمير المؤمنين، ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ثم أقبلت. فقال عمر: والوضوء أيضًا؟ ألم تسمعوا رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل؟ ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 580 رقم 845). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 46 رقم 319). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬4) كذا في "الأصل، ك": وفي "المسند": الجمعة.

ص: حدثنا فهد، قال: نا أبو غسان، قال: نا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا من المهاجرين الأولين دخل المسجد وعمر - رضي الله عنه - يخطب، فناداه عمرك أيَّة ساعة هذه؟ فقال: ما كان إلا الوضوء ثم الإقبال. فقال عمر: والوضوء أيضًا؟ لقد علمت أنا كنا نؤمر بالغسل". ش: هذا وجه آخر صحيح من حديث ابن عمر، عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، إلى آخره. قوله: "ثم الإقبال" أي: التوجه إلى الصلاة. ص: ففي هذه الآثار غيرُ معنى يَنْفِي وجوب الغسل: أما أحدها: فإن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لم يغتسل، واكتفى بالوضوء، ولم يأمره عمر أيضًا بالرجوع لأمر رسول الله - عليه السلام - إياه بالغسل، ففي ذلك دليل على أن الغسل الذي كان أمره به لم يكن عندهما على الوجوب، وإنما كان لِعِلَّةِ ما قال ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -، أو لغير ذلك، ولولا ذلك لما تركه عثمان ولا سكت عمر عن أمره إياه بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب النبي - عليه السلام - الذين قد سمعوا ذلك من النبي - عليه السلام - كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذي أراده، فلم ينكروا من ذلك شيئًا، ولم يأمروا بخلافة، ففي هذا إجماع منهم على نفي وجوب الغسل. ش: أي: الآثار المروية عن عمر - رضي الله عنه -. قوله: "غير معنى" كلام إضافي، مبتدأ وخبره. قوله: "ففي هذه الآثار" والمعنى: أن في هذه الآثار معانٍ كثيرةٌ تدل على نفي وجوب الغسل يوم الجمعة. "أما أحدها" أي: أما أحد المعاني التي تدل على نفي وجوب الغسل، "فإن عثمان ... " إلى آخره، وهذا المعنى ظاهر.

فإن قيل: من أين لكم أن عثمان لم يغتسل في صدر يومه ذلك؟ ومن أين لكم أن عمر - رضي الله عنه - لم يأمر بالرجوع للغسل؟ قلت: من أين لكم أنه اغتسل في صدر يومه؟ ومن أين لكم أن عمر أمره بالرجوع؟ بل القرائن دلّت على ما ادّعينا، والأصل عدم الغسل من عثمان، وعدم الأمر بالرجوع له من عمر، فمن ادعى خلافة فعليه البيان. فإن قيل: قطع عمر الخطبة منكرًا على عثمان أن لم يوصل الغُسْلَ بالرواح، دليل على أن ذلك واجب عنده، وموافقة الصحابة أيضًا عمر - رضي الله عنه - على قوله ذلك، حيث لم ينكروا عليه قطع خطبته، فهذا أيضًا يدل على أنه واجب عندهم. قلت: قَطْعُ عمر خطبته إنما كان للتعريف لعثمان بما فاته من فضل التهجير، وأنه وقت طيِّ الصحف، ولهذا قال: "أيَّة ساعةٍ هذه؟ " على طريق التوبيخ والتقريع؛ ليسمع الحاضرون ذلك ويبكروا إلى الجمعة، ولم يكن ذلك لأجل الأمر بالغسل ولا بغيره. فإن قيل: أليس هذا لغوًا، واللغو قد نهي عنه في الخطبة؟ قلت: ليس الأمر كذلك بل إنما هو أمر بالمعروف، وترغيب بالمبادرة إلى النداء، واللاغي مَنْ أعرض عن استماع الخطبة، وشغل نفسه عنها بكلام أو غيره مما يمنعه من السماع. ومن المعاني التي تدل على نفي وجوب الغسل: ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: "وسأخْبركم كيف كان بَدْءُ الغسل: كان الناس مجهودين ... " إلى آخره. ومنها: ما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان الناس عُمَّال أنفسهم ... " إلى آخره أشار إلى ذلك بقوله: "وإنما لعلة ما قال ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -". ومنها: أن يكون ذلك لزيادة التنظيف والمبالغة في الطهارة. ومنها: تعظيم يوم الجمعة بمباشرة الطهارة الكبرى.

ومنها: تفضيل صلاة الجمعة على غيرها من الصلوات حيث يبُاشرها بالغسل. أشار إلى هذه المعاني بقوله: "أو لغير ذلك". ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - ما يدل على أن ذلك كان من طريق الاختيار، وإصابة الفضل. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أنا يعقوب الحضرمى، قال: أنا الربيع بن صَبيح، عن الحسن، وعن يزيد الرقاشى، عن أنس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَنْ توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فحسن". ش: أي: ما يدل على أن أمره - عليه السلام - بالغسل يوم الجمعة، في الآثار المذكورة، كان أمر استحباب وفضيلة؛ وهو حديث أنس - رضي الله عنه - فإنه صريح، بأن الغسل يوم الجمعة ليس بواجب، وإنما هو فضيلة وحسن. لا يقال: إنه حديث ضعيف، وأحاديث الأمر بالغسل صحاح؛ لأنا نقول فيما يُخَرِّجُه أيضًا أحاديث صحاح؛ كحديث سَمُرة، على ما يأتي، وغيره. على أنا لا نسلم أن يكون حديث أنس ضعيفًا لأجل يزيد بن أبان الرقاشي؛ فإن ابن عدي قال: أرجو أنه لا بأس به؛ لرواية الثقات عنه. وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله البكائين بالليل. أو لأجل الربيع بن صبيح، فإن أبا زرعة قال: شيخ صالح صدوق، وقال ابن عدي: له أحاديث مستقيمة صالحة، ولم أر له حديثا منكرًا جدًّا، وأرجو أنه لا بأس به، وصَبِيح بفتح الصاد. وأما يعقوب بن إسحاق الحضرمي أبو محمَّد البصري المقرئ النحوي فإنه من رجال صحيح مسلم. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): نا نصر بن علي الجهضمي، نا يزيد بن هارون، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 347 رقم 1091).

أنا إسماعيل بن مسلم المكي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي - عليه السلام - قال: "مَنْ توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، يجزئ عنه الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل". قوله: "فبها" أي: فبهذه الفعلة أو الخصلة أخذ. وقال الأصمعي: معناه فبالسنة أخذ. و"نِعْمت" أي: نعمت الخصلة، والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: هي. قوله: "فحسن" أي: فهو حسنٌ، والجملة جواب الشرط. فإن قيل: إلام يرجع الضمير؟ قلت: إلى الغسل الذي دل عليه. قوله: "ومن اغتسل" كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬1). أي: العدل أقرب للتقوى. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال أنا عفان، قال: أنا همام ح. وحدثنا فهد، قال: نا أبو الوليد، حدثنا همام، عن قَتَادَةَ، عن الحسن، عن سَمُرة عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "ومن اغتسل فالغسل أفضل". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه من طريقين. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم البصري، عن همام بن يحيى البصري، عن قَتَادَةَ بن دعامة، عن الحسن البصري، عن سَمُرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبى شيبة؛ في "مصنفه" (¬2) قال: نا عفان، قال: ثنا همام، عن قَتَادَةَ، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية (8). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 436 رقم 5026).

عن الحسن، عن سَمُرة، أن النبي - عليه السلام -، قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل". وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1) عن عفان ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن همام ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا أبو الوليد الطيالسي ... إلي آخره نحوه. والترمذي (¬3): عن ابن المثنى، عن سعيد بن سفيان الجَحْدري، عن شعبة، عن قَتَادَة، عن الحسن ... إلى آخره نحوه، وقال: حديث سَمُرة حديث (حسن صحيح) (¬4). والنسائي (¬5): عن ابن الأشعث، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن قَتَادَة؛ ... إلى آخره نحوه، قال أبو عبد الرحمن: الحسن عن سَمُرة (كتاب (¬6)) ولم يسمعِ الحسنُ من سَمُرة إلا حديث العقيقة. قلت: في سماع الحسن من سَمُرة ثلاثة مذاهب: الأول: أنه سمع منه مطلقًا، وهو قول ابن المدينى، ذكره عنه البخارى في أول تاريخه "الوسط" (¬7)، فقال: نا الحميدي، ثنا سفيان، عن إسرائيل قال: سمعت الحسن يقول: "وُلِدْتُ لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -" قال علىٌّ: سماع الحسن من سَمُرة صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 434 رقم 1540). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 97 رقم 354). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 369 رقم 497). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، والذي في نسختي من "الجامع": حسن. فقط. (¬5) "المجتبى" (3/ 94 رقم 1380). (¬6) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن النسائي": كتابا. بالنصب. (¬7) وكذا في "التاريخ الصغير" (1/ 247 رقم 1199 - 1200).

ونقله الترمذي في "كتابه"، قال في باب: الصلاة الوسطي (¬1): قال محمَّد بن إسماعيل يعني البخاري، قال عليٌّ -يعني ابن المديني- سماع الحسن من سَمُرة صحيح. وقال الترمذي: سماع الحسن من سَمُرة صحيح عندي. واختار الحاكم هذا القول، وأخرج في كتابه عدَّة أحاديث من رواية الحسن عن سَمُرة، وقال في بعضها: على شرط البخاري. الثاني: أنه لم يسمع منه شيئًا، واختاره ابن حبان في "صحيحه"، فقال في النوع الرابع من القسم الخامس (¬2)، بعد أن روى حديث الحسن عن سَمُرة: "إن النبي - عليه السلام - كانت له سكتتان": والحسن لم يسمع من سَمُرة شيئًا، وقال صاحب التنقيح: قال ابن معين: الحسن لم يلق سَمُرة. وقال شعبة: لم يسمع من سَمُرة. وقال البَرْديجي: أحاديث الحسن عن سَمُرة كتاب، ولا يثبت عنه حديث قال فيه: سمعت سَمُرة. الثالث: أنه سمع منه حديث العقيقة فقط، قاله النسائي كما ذكرنا، وإليه مال الدارقطنى في "سننه"، فقال في حديث السكتتين: والحسن اختلف في سماعه من سَمُرة، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة، فيما قاله قريش بن أنس. واختاره عبد الحق في أحكامه، واختاره البزار في "مسنده"، وكذا قال ابن حزم في "المحلى": إنه ما سمع من سَمُرة إلا حديث العقيقة، والله أعلم (¬3). ص: حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: نا علي بن الجعد، قال: أنا الربيع بن صبيح، وسفيان الثوري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي - عليه السلام -، مثله. ش: هذا طريق آخر في حديث أنس وكان الأنسب أن يذكر عقيبه، فوق حديث سَمُرة، ولعل ذاك من النُّسَّاخ. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 342 عقب الحديث رقم 1807). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 132 عقب الحديث رقم 182). (¬3) راجع "نصب الراية" (1/ 89).

وأخرجه عن أحمد بن خالد البغدادي المعروف بابن خَالوَيْه، عن علي بن الجعد ابن عبيد الجوهري، أحد مشايخ البخاري وأبي داود، واحد أصحاب أبي حنيفة، عن الربيع بن صبيح السَعْدي، وعن سفيان الثوري، كلاهما عن يزيد بن أبان الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البزار، وقال: هذا الحديث إنما يعرف من حديث يزيد الرقاشي عن أنس، رواه غير واحد عنه. ص: حدثنا أحمد بن خالد، قال: نا عُبيد بن إسحاق العطار، قال: أنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: سنده ضعيف جدًّا؟ لأن عبيد بن إسحاق ضعفه يحيى والدارقطني، وقال الأزدي: متروك الحديث، وأبو حاتم رضيه. وقيس بن الربيع الأسدي، أبو محمَّد الكوفي فيه مقال كثير وأكثرهم أسقطوه. والأعمش هو سليمان، وأبو سفيان هو طلحة بن نافع. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (¬1) في ترجمة عبيد بن إسحاق العطار من روايته، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -، قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، وقال: لا أعلمه رواه عنه غير عبيد وهو ضعيف. قلت: لم يتفرد به عنه بل تابعه عليه محمَّد بن الصلت وهي رواية البزار وقال: حدثني ابن الصلت، قال: حدثني عمي محمَّد بن الصلت، نا قيس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". ¬

_ (¬1) "الكامل لابن عدي" (5/ 347).

ص: حدثنا ابن أبى داود، قال: نا خالد بن خَلِيّ الحمصي، قال: نا محمَّد بن حَرْب، قال: حدثني الضحاك بن حُمزة الأملوكي، عن الحجاج بن أرطاة، عن إبراهيم بن المهاجر، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أنس بن مالك، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، وقد أدى الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل". فبيَّن رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث أن الفرض هو الوضوء، وأن الغسل أفضل؛ لما ينال به من الفضل لا على أنه فرض. ش: إسناده لا بأس به، وخالد بن خَلِىّ الكلاعي الحمصي القاضي، وثقه ابن حبان، وقال البخاري: صدوق. ومحمد بن حرب الخولاني المعروف بالأَبرْش، روى له الجماعة. والضحاك بن حُمْرة -بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، بعدها راء مهملة- الأَمْلوكيِ، فيه اختلاف، ووثقه ابن حبان، والأُملوكي -بضم الهمزة- نسبة إلى أملوك بطن من رَدْمان، وردمان قبيلة من رعين. والحجاج بن أرطاة النخعي، روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره. وإبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي أبو إسحاق الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري. وذكر ابن حزم هذا في "المحلى"، وقال: هو من رواية الضحاك بن حُمْرة، وهو هالك، عن الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، عن إبراهيم بن المهاجر، وهو ضعيف. قلت: قد تعسَّف ذلك لأجل مذهبه، ولقد بينت لك ما قالت الجماعة فيهم. وهذا الباب كما قد رأيت قد أخرج فيه الطحاوي عن ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: أنس، وسمرة، وجابر - رضي الله عنهم -. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وابن عباس.

فحديث الخدري عند البيهقي (¬1) والبزار: عن أَسِيد بن زيد الجمال، عن شريك، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". قلت: أَسِيد بن زيد شيعيّ يبُالغ ولكن احتمله الناس (¬2)، وأبو نَضْرة، بالنون والضاد المعجمة، اسمه: المنذر بن مالك. وحديث أيضًا هريرة عند البزار (¬3) أيضًا عن أبي بكر الهُذلي عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه. ورواه ابن عدي في "الكامل" (¬4) وأعله بأبي بكر الهذلي، واسمه سُلْمَى بن عبد الله. وحديث عبد الرحمن بن سَمُرة عند الطبراني في "الأوسط" (¬5) من حديث حفص بن عمر الرازي ثنا أبو حرة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سَمُرة مرفوعًا، نحوه. وحديث ابن عباس عند البيهقي (¬6): أنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو أحمد بن محمَّد بن إسحاق الصفار، ثنا أحمد بن نصر، نا عمرو بن طلحة [القنّاد] (¬7)، نا أسباط بن نصر، عن السديّ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - عليه السلام - ... فذكر نحوه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 296 رقم 1316). (¬2) الجمهور على تضعيفه وتوهينه، واتهمه ابن معين، انظر "تهذيب التهذيب". (¬3) انظر "نصب الراية" (1/ 92). (¬4) "الكامل لابن عدي" (3/ 323). (¬5) "المعجم الأوسط" (7/ 374 رقم 7765). (¬6) "السنن الكبرى" (1/ 295 رقم 1310). (¬7) في "الأصل، ك": العباد، بالعين المهملة والباء الموحدة، وهو تحريف والمثبت من "سنن البيهقي"، ومصادر ترجمته.

ص: فإن احتج محتج في وجوب ذلك بما روي عن علي وسعد وأبي قَتَادَة؛ وأبي هريرة - رضي الله عنهم -: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، قال: نا شعبة، عن يزيد بن أبى زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: "كنت قاعدًا مع سَعْدٍ، فذكر الغسل يوم الجمعة، فقال ابنه: لم اغتسل، فقال سعد: ما كنت أرى مسلمًا يدع الغسل يوم الجمعة". حدثنا ابن مرزوق، قال: نا يعقوب بن إسحاق، قال: نا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن مرة، عن زاذان قال: "سألت عليًّا - رضي الله عنه - عن الغسل، فقال: اغتسل إذا شئت، قلت: إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل، قال: غسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر". حدثنا يونس، قال: نا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "حقٌّ الله واجب على كل مسلم في كل سبعة أيام يغتسل، ويُغسِّل منه كل شيء، ويمس طيبا إن كان لأهله". حدثنا ربيع المؤذن، قال: أنا شعيب بن الليث، قال: نا الليث، عن يزيد بن أي حبيب، أن مصعب بن ثابت حدثه، أن ثابت ابن أبي قَتَادَة؛ حدثه، أن أبا قَتَادَة قال له: "اغتسل للجمعة فقال: لقد اغتسلت من جنابة، قال اغتسل للجمعة فإنك إنما اغتسلت للجنابة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا سعيد بن منصور، قال: نا سفيان عن عَبْدة بن أي لُبَابَة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى: "أن أباه كان يُحدِثُ بعد ما يغتسل يوم الجمعة فيتوضأ ولا يعيد". ش: أي: فإن استدل أحد ممن يدعي وجوب الاغتسال يوم الجمعة بما روي عن هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - الأربعة وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو قَتَادَة الحارث بن ربعي الأنصاري، وأبو هريرة عبد الرحمن -على اختلاف في اسمه على ما ينيف على عشرة أسماء- فهذا كأنه اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى أورده حتى يجيب عنه.

وقد أخرج عن كل واحد منهم خبرًا. أما خبر سعد: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن يزيد بن أبي زياد القرشي، فيه اختلاف كثير، روى له مسلم مقرونًا بغيره، والأربعة. وأخرجه ابن أبى شيبة في "مصنفة" (¬1): نا هشيم، قال: نا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: "كنت مع سعد، فجاء ابن له، فقال له: هل اغتسلت؟ قال: لا، توضأت ثم جئت، فقال له سعد: ما أحب أن أحدًا يدع الغسل يوم الجمعة". واسم ابن سعد: إبراهيم. فقدله: "ما كنت أرى مسلمًا يدع الغسل يوم الجمعة" أي: يتركه، يدل على أنه واجب، إذْ لو لم يكن واجبًا لما شدد هذا التشديد على تاركه. وأما خبر علي - رضي الله عنه -: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن يعقوب بن إسحاق المقرئ النحوي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة الجملي الأعمى، أحد مشايخ أبي حنيفة، عن زاذان الكوفي الضرير البزاز. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا حفص، عن حجاج، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، قال:"سألت عليًّا عن الغسل يوم الجمعة، فقال: الغسل يوم الجمعة وفي العيدين ويوم عرفة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 434 رقم 4998). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 500 رقم 5772) من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة عن زاذان: "أن رجلًا سأل عليًّا عن الغسل، فقال: الغسل يوم الأضحى ويوم الفطر". هكذا جاء في المصنف ولم أجد الرواية المذكورة في نسختي، والأثر أخرجه البيهقي في "سننه الكبري" (3/ 378) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة.

قوله: "إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل" أي: الغسل الذي لا بد منه ولا ينبغي تركه قال: "غسل يوم الجمعة ... " إلى آخره. وأما خبر أبي هريرة: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن طاوس، وهذا صحيح على شرط مسلم، ورواه ابن حزم في "المحلى" (¬1). قوله: "حق" مرفوع بالابتداء، وهو نكرة، ولكنه تخصص بالصفة وهو قوله: "واجب"، وخبره قوله: "يغتسل" والأصوب أن يكون "يغتسل" مبتدءًا بتقدير "أن" ويكون قوله "حق" خبره. أي أن يغتسل حق، أي: غسله حق واجب لله تعالى. كما في قوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه (¬2). قوله: "ويغسل منه" أي: من جسده كل شيء، ووقع في رواية ذكرها ابن الأثير في "جامعه": "ويغسل رأسه وجسده"، وأراد به الغسل الكامل كغسل الجنابة. قوله: "ويمس" بالرفع عطفًا على قوله: "يغتسل" وفي بعض النسخ: "وليمس" بلام الغائب، والأول: أصح. وأما خبر أبي قَتَادَةَ: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد الأزدي المصري، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني، فيه مقال ووثقه ابن حبان، عن ثابت بن أبي قَتَادَة؛ الحارث بن ربعي ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬3): من رواية يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله ابن أبي قَتَادَة؛، قال: "دخل عليَّ أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة، فقال: غسلك هذا من ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 20). (¬2) قال في "كشف الخفا" (1/ 559 رقم 1509): مثلٌ وليس بحديث. (¬3) "المعجم الأوسط" (8/ 130).

جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة، قال: أعد غسلًا آخر؛ إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". وأما خبر عبد الرحمن بن أبزى فإنه خلاف خبر أبي قَتَادَة على ما نذكره عن قريب وكان ينبغي أن يذكره في الجواب عن أخبار هؤلاء، على أنه قال: وقد روينا عن عبد الرحمن بن أبزى خلاف ذلك. ويستفاد منه شيئان: الأول: عدم وجوب الغسل يوم الجمعة؛ لأنه لو كان واجبًا عنده لأعاده بعد الحدث، لأجل الصلاة به. والثاني: فيه حجة لمن يرى أن غسل يوم الجمعة لليوم لا للصلاة؛ إذْ لو كان للصلاة لكان عبد الرحمن بن أبزى يعيد غسله إذا أحدث، وإليه ذهب الحسن بن زياد من أصحابنا، وقال أبو يوسف: للصلاة، وهو قول طاوس وإبراهيم التيمي ومحمد بن سيرين. وقال ابن حزم في "المحلى": وغسل يوم الجمعة إنما هو لليوم لا للصلاة، فإن صلى الجمعة والعصر ولم يغتسل أجزأه ذلك، وأول وقته إثْر طلوع الفجر من يوم الجمعة إلى أن يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله كله قبل غروب آخره، وأفضله أن يكون متصلًا بالرواح إلى الجمعة. وقال أبو حنيفة والليث وسفيان وعبد العزيز بن أبي سلمة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وداود كقولنا، وقال طاوس والزهري وقَتَادَة ويحيي بن أبي كثير: من اغتسل للجمعة ثم أحدث، يستحب أن يعيد غسله. وقال مالك والأوزاعي: لا يجزئ غسله يوم الجمعة إلا متصلًا بالرواح، إلا أن الأوزاعي، قال: إن اغتسل قبل الفجر ونهض (إلى الجمعة) (¬1) أجزأه. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى" (2/ 22).

وقال مالك: إن بال أو أحدث بعد الغسل لم ينتقض غسله ويتوضأ فقط، فإن أكل أو نام انتقض غسله. وقال علي (¬1): ما نعلم مثل قول مالك عن أحد من الصحابة والتابعين ولا له حجة من قرآن أو سنة، ولا قياس ولا قول صاحب. ثم إسناد خبر عبد الرحمن بن أبزى صحيح ورجاله من رجال الصحيح ما خلا صالحًا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا سفيان بن عيينة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أنه كان يغتسل يوم الجمعة، ثم يحدث بعد الغسل ثم لا يعيد غسلًا". ص: قيل له: أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - فلا دلالة فيه على الفرض؛ لأنه لما قال له زاذان إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل، أي: الذي في إصابته الفضل، قال: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة. فقرن بعض ذلك ببعض فكما كان ما ذكر مع غسل يوم الجمعة ليس على الفرض فكذلك غسل يوم الجمعة. وأما ما روي عن سعد - رضي الله عنه - من قوله: "ما كنت أرى مسلمًا يدع الغسل يوم الجمعة" أي لما فيه من الفضل الكبير مع خفة مؤنته. وأما ما روي عن أبي هريرة من قوله: "حق الله واجب على كل مسلم يغتسل في كل سبعة أيام" فقد قرن ذلك بقوله: "ويمس طيبًا إن كان لأهله" فلم يكن مسيس الطيب على الفرض، فكذلك الغسل. وهو فقد سمع عمر يقول لعثمان ما ذكرنا, ولم يأمره بالرجوع بحضرته، فلم ينكر ذلك عليه؛ فذلك أيضًا دليل على أنه عنده كذلك. ¬

_ (¬1) أي ابن حزم. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 438 رقم 5048).

وأما ما روي عن أبي قَتَادَة، مما ذكرنا عنه من ذلك، فهو إرادة منه للقصد بالغسل إلى الجمعة لإصابة الفضل في ذلك. وقد روينا عن عبد الرحمن بن أبزى خلاف ذلك. وجميع ما بيناه في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. ش: هذا جواب عما احتج به ذاك المحتج بأخبار هؤلاء المذكورين؛ أي: قيل للمحتج المذكور: أما ما روي عن علي ... إلى آخره. وهو ظاهر. فإن قيل: قد يجمع النظم قرائن الألفاظ والأسماء المختلفة الأحكام، والمعاني تنزلها منازلها وترتبها كما في قول عائشة - رضي الله عنها -: "إن النبي - عليه السلام - كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت". فأما الغسل من الجنابة فواجب بالاتفاق. وأما الاغتسال من الحجامة إنما هو لإماطة الأذى؛ لأنه لا يؤمن أن يكون قد أصاب المحتجمَ رشاشٌ من الدم، فالاغتسال منها استظهار بالطهارة، استحباب للنظافة. وأما الاغتسال من غَسْل الميت فقد اتفق الجمهور على أنه على غير الوجوب. فيبقى الكلام في غسل يوم الجمعة، فلم لا يجوز أن يكون كغسل الجنابة بقرينة الأوامر الواردة فيه، وكذلك في قول علي - رضي الله عنه -، يكون غسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة مستحبًّا؛ لأن المراد منه الاستظهار بالنظافة في تلك الأيام، ويكون غسل يوم الجمعة فرضًا بقرنية الأوامر الدالة عليه في هذا الباب؟ قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الدليل قد قام أنه - رضي الله عنه - كان يفعله ويأمر به استحبابًا، فسقط الوجوب حينئذٍ، فيكون كلام علي - رضي الله عنه - على نسق واحدٍ في الدلالة على الاستحباب في الجميع.

فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون الكل على نسقٍ واحدٍ في الوجوب؟ قلت: لا؛ لعدم قيام الدليل عليه؛ لأنه لم ينقل عنه - عليه السلام - أنه أوجب غسل يوم عرفة، أو يوم العيدين. قوله: "لما فيه من الفضل الكبير" أي: في الاغتسال للجمعة لما روي عن أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله - عليه السلام -، قال: "من اغتسل يوم الجمعة واستاك ولبس أحسن ثيابه وتطيب بطيب -إن وجده- ثم جاء ولم يتخط الناس، فصلى ما شاء الله أن يصلي، فإذا خرج الإِمام سكت، فذلك كفارة إلى الجمعة الأخرى". رواه البيهقي (¬1) بإسناد صالح. قوله: "مع خفة مؤنته" أي: مع [خفه] (¬2) مؤنة الغسل لعدم التكلف في تحصيل الماء؛ لأنه مبذول عادة. قوله: "فقد قرن ذلك بقوله ويمس طيبًا" والقران في النظم يوجب القران في الحكم، على اختلاف فيه، فكما أن مس الطيب ليس بفرض، فكذلك الغسل يوم الجمعة. قوله: "وهو فقد سمع": أي والحال أن أبا هريرة قد سمع عمر - رضي الله عنه - حين قال لعثمان ما ذكر فيما مضى، ولم يأمره بالرجوع إلى الغسل، ولم ينكر أبو هريرة ولا غيره ذلك عليه، فدل ذلك أنه أيضًا لا يرى بوجوب الغسل. قوله: "فهو إرادة منه للقصد بالغسل إلى الجمعة لإصابة الفضل" كما روي عن أبي هريرة أنه قال: "لأغتسلن يوم الجمعة، ولو كأسٌ بدينار". رواه ابن أبي شيبة (¬3): عن وكيع، عن ثور، عن زياد النميري ... عنه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 192 رقم 5474). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 434 رقم 5004).

قوله: "وقد روينا عن عبد الرحمن بن أبزى خلاف ذلك". أي: خلاف ما روي عن أبي قَتَادَة، فإن أبا قَتَادَة أمر ابنه بإعادة الغسل لأجل الجمعة بعد أن اغتسل للجنابة وعبد الرحمن بن أبزى كان لا يعيده إذا أحدث، وهو خلاف ذاك. وكأنه أشار بذلك إلى أن خبر أبي قَتَادَةَ مُعَارَض بخبر عبد الرحمن بن أبزى، والمعارَض لا يصلح حجة.

ص: باب: الاستجمار

ص: باب: الاستجمار ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستجمار؛ وهو التمسح بالجمار. وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج؛ للحصى التي يرمى بها، وأما موضع الجمار بمنى فسمي جمرة لأنها بالجمار. وقيل: لأنها مجمع الحصى التي ترمى بها من الجمرة. وقيل سميت به من قولهم: أجمر، إذا أسرع. وإنما سمي الاستنجاء استجمارًا؛ لأنه ينظف المحل، كما يطيبه الاستجمار بالبخور. وقد قيل في قوله: "من استجمر فليوتر": إنه البخور، من التجمير الذي يُوقد به. والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن الاستجمار لا بد منه للطهارة سواء كانت صغرى أو كبرى. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا عبد الله بن وهب، أن مالكًا حدثه، ح. وحدثنا حسين بن نصر، قال: نا عبد الرحمن بن زياد، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من استجمر فليوتر". حدثنا يونس، قالك أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - ... مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: نا الوَهْبيُّ، قال: أنا ابن إسحاق، قال: حدثنا الزهري، عن عائذ الله، قال سمعت أبا هريرة يقول ... مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس، عن أبى هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - ... مثله.

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: نا سعيد بن أبى مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: حدثني ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا إذا أتى أحدنا الغائط، بثلاثة أحجار". ش: هذه ستة طرق صحاح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه الماء ثم لينتثر، ومن استجمر فليوتر ... ". الثاني: عن حسين بن نصر، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن مالك ... إلى آخره، وعبد الرحمن هذا وثقه أبو حاتم. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة: أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر". وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 72 رقم 160). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 212 رقم 237). (¬3) "المجتبى" (1/ 66 رقم 88).

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود، عن أحمد بن خالد الكندي الوَهبي، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبى شيبة (¬1): من حديث الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "منْ توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا زيد بن الحباب وداود بن عبد الله، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَنْ توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن القَعْقاع بن حكيم الكناني، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3) بأتم منه، عن ابن عُيَيْنة، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم، إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرَّمة -يعني العظام- ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 33 رقم 279). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 143 رقم 409). (¬3) لم أجده في "مصنف عبد الرزاق " النسخة المتداولة، ولم يعزه له الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 14) وإنما عزاه للبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 91 رقم 437) من نفس الطريق.

وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3). قوله: "فليوتر" أمر من الإيتار، ومعناه: اجعل الأحجار التي تستنجي بها فردًا، إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا، وأصله من الوتر وهو الفرد. قوله: "إذا أتى أحدنا الغائط" أي: موضع قضاء الحاجة، وفي الأصل هو اسم للمطمئن من الأرض. ص: حدثنا محمَّد بن حميد، قال: حدثني عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني هشام بن سعد، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، سمع عروة يقول: حدثتني عائشة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا خرج أحدكم إلى الغائط فليذهب بثلاثة أحجار ليستنظف بها، فإنها ستكفيه". ش: إسناده حسن جيد، وأبو حازم اسمه سلمة بن دينار المدني الأعرج. وأخرجه أبو داود (¬4): نا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد، قالا: نا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه". وأخرجه النسائي (¬5): عن قتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن مسلم بن قُرط ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الدارقطني (¬6) أيضًا. قوله: "ليستنظف بها" أي: بالأحجار الثلاثة، الاستنظاف من النظافة، وأراد به الاستنجاء؛ لأنه ينظفه ويُطيبه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود (1/ 3 رقم 8) ". (¬2) "المجتبى" (1/ 38 رقم 40). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 114 رقم 313). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 10 رقم 40). (¬5) "المجتبى" (1/ 41 رقم 44). (¬6) "سنن الدارقطني" (1/ 54 رقم 4) وقال الدارقطني: إسناد صحيح.

قوله: "فإنها" أي: فإن الأحجار الثلاثة ستكفيه في النظافة. قوله: "فليذهب بثلاثة أحجار" وفي رواية أبي داود "فليذهب معه بثلاثة أحجار" أي مصاحبة معه، وهيِ حال. ص: حدثنا: ابن أبي داود، قال: أنا سليمان بن حرب، قال: نا شعبة، عن منصور، ح. وحدثنا أبو بكرة، قال: أنا أبو الوليد، قال: نا شعبة، قال: قرأت على منصور، ح. وحدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، نا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا استجمرت فأوتر". ش: أخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سليمان بن حرب، عن شعبة، عن منصور ابن المعتمر، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس الأشجعي الغطفاني الصحابي، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا أبو مسلم الكشيّ، ثنا سليمان بن حرب ... إلى آخره. ولفظه: "إذا توضأت فانتثر، هذا استجمرت فأوتر". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن هلال ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: نا أبو مسلم الكشيّ، ثنا أبو الوليد الطيالسي ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 37 رقم 6308). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 37 رقم 6309).

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن هلال ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا استجمرت فأوتر". ص: حدثنا: أبو بكرة، قال: نا صفوان بن عيسى، قال: نا محمَّد بن عجلان، ح. وحدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي، قال: نا عفان، قال: نا وُهَيْب، عن ابن عجلان، قال: أنا القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا بثلاثة أحجار، يعني في الاستحجار". ش: هذان طريقان صحيحان. الأول: عن أبي بكرة بكار، عن صفوان بن عيسى القرشي الزهري البصري، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬2) بأتم منه: نا عبد الله بن محمَّد النُفَيلي، قال: ثنا ابن المبارك، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يتطيب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرِمّة". الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي، عن عفان بن مسلم، عن وُهَيْب -بالتصغير- بن خالد البصري، عن ابن عجلان ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 41 رقم 43). (¬2) سنن أبي داود (1/ 3 رقم 8) وقد تقدم.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا يحيي -يعني ابن سعيد- عن محمَّد بن عجلان، قال: أخبرني القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم؛ إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستنجي بيمينة. وكان يأمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة". وأخرجه ابن ماجه (¬2) والدارمي (¬3) أيضًا في "سننيهما". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: نا عبد الرحيم ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة،. عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "في الاستجمار ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع". ش: إسناده حسن جيد، وعمرو بن خزيمة المزني وثقه ابن حبان. وعمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري، وثقه النسائي وغيره. وخزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري، ذو الشهادتين. وأخرجه أبو داود (¬4): نا عبد الله بن محمَّد النُفيْلي، قال: نا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن الاستطابة، فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع". وأخرجه ابن ماجه (¬5) أيضًا: عن محمَّد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة. وعن علي بن محمَّد، عن وكيع، جميعًا عن هشام بن عروة ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي، غير أن لفظه: "في الاستنجاء". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 38 رقم 40). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 114 رقم 313). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 182 رقم 674). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 11 رقم 41). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 114 رقم 315).

و"الرجيع" هو العذِرة والروث، سمي رجيعًا؛ لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا أو علفًا. ص: حدثنا فهد، قال: نا جَنْدَلُ بن وَالِقِ، قال: نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان - رضي الله عنه -، قال: "نُهينا أن نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار". ش: إسناده حسن، وجندل بن والق التغلبي أبو علي الكوفي، قال أبو حاتم: صدوق. وحفص هو ابن غياث النخعي الكوفي، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. والأعمش هو سليمان، وإبراهيم هو النخعي. وعبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أخو الأسود. والحديث أخرجه الجماعة (¬1) غير البخاري. ورواه ابن أبى شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان: "قال له بعض المشركين -وهم يستهزئون-: أرى صاحبكم وهو يعلمكم، حتى الخراءة! فقال سلمان: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار". ورواه مسلم (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) ذكر المصنف رواية مسلم عن ابن أبي شيبة بعد ذلك وسنذكر الباقي هناك. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 143 رقم 164). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 223 رقم 262). ورواه أبو داود في "سننه" (1/ 3 رقم 7)، والترمذي في "جامعه" (1/ 24 رقم 16) والنسائي في "المجتبى" (1/ 38 رقم 41) من طريق أبي معاوية عن الأعمش به، ورواه ابن ماجه أيضًا (1/ 115 رقم 316) من طريق وكيع وسفيان عن الأعمش به.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الاستجمار لا يجزئ بأقل من ثلاثة أحجار، واحتجوا في ذلك بهذا الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا بد من ثلاث مَسَحَات بثلاثة أحجار، حتى لو مسح مرة أو مرتين فزالت النجاسة، وجبت مسحة ثالثة، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وتطهير القبل والدبر من البول والغائط والدم، من الرجل والمرأة، لا يكون إلا بالماء حتى يزول الأثر، وبثلاثة أحجار متغايرة؛ فإن لم تُنْقِ فعلى الوتر أبدًا يزيد كذلك، حتى تُنْقِى، لا أقل من ذلك، أو بالتراب أو الرمل بلا عدد، لكن ما أزال الأثر فقط على الوتر. وفي "المغني" (¬2): وإن أنقى بدون الثلاثة لم يُجْزه حتى يأتي بالعدد، وإن لم يُنْق بثلاثة زاد حتى ينقي. ويشترط الأمران جميعًا: الإنقاء وإكمال الثلاثة، أيهما وجد دون صاحبه لا يكفي، وإذا زاد ذلك على الثلاثة استحب أن لا يقطع إلا على وتر؛ للحديث الوارد فيه. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: ما استجمر به منها فأنقى به الأذى، ثلاثة كانت أو أكثر منها أو أقل، وترًا كانت أو غير وتر، فإن ذلك قد طهره. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا أو مالكا وداود والظاهرية؛ فإنهم قالوا: الشرطُ الإنقاء، دون العدد؛ حتى لو حصل الإنقاء بحجر واحدٍ أجزأه. وهو وجه للشافعية. قوله: "ما استجمر به" "ما" موصولة مبتدأ، واستجمر به صلتها. وقوله: "فأنقى" عطف عليه، "والأذى" مفعوله. ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 95). (¬2) "المغني" (1/ 101) بتصرف واختصار.

قوله: "فإن ذلك قد طهره" جملة من المبتدأ والخبر مؤكدة بـ"إن" في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ؛ أعني قوله: "ما" في "ما استجمر"، ودخلت فيه الفاء لِتُضَمِّن المبتدأ معنى الشرط. قوله: "ثلاثةً" نصب، على أنها خبر كان؛ أي: سواء كانت الأحجار ثلاثة أو أكثر أو أقل، وكذا الكلام في انتصاب "وترًا". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن أمر النبي - عليه السلام - في هذا بالوتر يحتمل أن يكون ذلك على الاستحباب منه للوتر، لا على أن ما كان غير وتر لا يُطّهر، ويحتمل أن يكون أراد به التوقيت الذي لا يطهر ما هو أقل منه. فنظرنا في ذلك هل نجد فيه شيئًا مما يدل على ذلك؟ فإذا يونس بن عبد الأعلى قد حدثنا، قال: أنا يحيى بن حسان، قال: نا عيسى بن يونس، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحُمْراني، عن أبي سعيد الخَيْر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من اكتحل فليوتر من فَعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن تخلل فليلفظ، ومن لاك بلسانه فليبلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا كثيبًا يجمعه فليستدبره؛ فإن الشيطان [يتلاعب]، (¬1) بمقاعد بني آدم". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أخبرنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: نا حصين الحِميْري، قال: حدثني أبو سعيد الخير، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - ... مثله، وزاد: "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج". فدل ذلك أن رسول الله - عليه السلام - إنما أمر بالوتر في الآثار الأُوَل استحبابًا منه للوتر لا أن ذلك من طريق الفَرض الذي لا يجزئ إلا هو. ¬

_ (¬1) في "الأصل": يلاعب، والمثبت من شرح معاني الآثار، ومصادر التخريج.

ش: أي: وكان من البرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه؛ تقريره: أن أمر النبي - عليه السلام - بالوتر في الآثار المذكورة يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب كما يقوله أهل المقالة الثانية ويحتمل أن يكون على وجه التنصيص عليه. بحيث إنه إذا أحل لا يجوز، كما يقوله أهل المقالة الأولى فالمحتمل لا يصلح حجة إلا بمرجح لأحد المعنيين، فرأينا حديث أبي هريرة قد دل على الاحتمال الأول، فسقط الوجه الثاني. ففي هذا أيضًا إعمال الحديثين، وفيما قالوه إهمال لأحدهما، والعمل بالحديثين أصلى من إهمال أحدهما. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن يحيى بن حسان التنّيسي، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن ثور بن يزيد أبي خالد الشامي الحمصي، عن حُصَيْن الحمراني -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- والحمراني -بضم الحاء وسكون الميم- نسبة إلي حُمران بطن من حمير، وربما يقال له الحُبْراني بـ"الباء" موضع "الميم" ويقال له: الحميري أيضًا كما في الطريق الثاني، وهو يروي عن أبي سعيد الخير، وفي التهذيب: أبو سَعْد الخير، ويقال أبو سعيد الخير، ويقال: إنهما اثنان. يقال: اسمه زياد، ويقال: عامر بن سعد، ويقال: عمرو بن سعد. ذكره أبو عمر وأبو نعيم الأصبهاني وابن مندة وابن الأثير في "الصحابة" فتكون رواية صحابي عن صحابي. وأخرجه أبو داود في "سننه" (¬1): نا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: أنا عيسى بن يونس ... إلى آخره نحوه، مع اختلاف يسير. الثانى: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 9 رقم 35).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سريج، نا عيسى بن يونس، عن ثور، عن الحصين -كذا قال-: عن أبي سعيد الخير -وكان من أصحاب عمر- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره، نحوه. فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: رجاله ثقات، وهو صحيح. فإن قلت: قد قال أبو عمر وابن حزم والبيهقي: ليس إسناده بالقائم، فيه مجهولان، يَعْنون حصينًا الحُمْراني وأبا سعيد الخير. قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن أبا زرعة الدمشقي قال في حصين هذا: شيخ معروف. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": لا أعلم إلا خيرًا، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات". وأما أبو سعيد الخير فإنه صحابي. والحديث أخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (¬2) وأحمد في "مسنده" (¬3) كما ذكرنا. قوله: "من اكتحل فيوتر" أي: فليجعل الاكتحال فردًا، إما واحدة أو ثلاثا أو خمسًا، وإنما أُمِرنا بالوتر لقوله - عليه السلام -: "إن الله وتر يحب الوتر" (¬4) وهذا الأمر من الأمور النَدْبية، كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} (¬5)، والأولى أن يكون للإرشاد، والفرق بينهما أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، غير مشتمل على ثواب الآخرة، وقد علم في موضعه أن الأمر يستعمل في قريب من عشرين معنى. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 371 رقم 8825). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 257 رقم 1410). (¬3) تقدم قريبًا. (¬4) "متفق عليه"، أخرجه البخاري (5/ 2354 رقم 6047)، ومسلم (4/ 2062 رقم 2677). (¬5) سورة النور، آية: (33).

قوله: "من فعل فقد أحسن" أي: من فعل الإيتار فقد أحسن في فعله، أي أتى بالفعل الحسن. ولتضمن "مَن" معنى الشرط دخل في جوابه "الفاء". قوله: "ومن لا فلا حرج" أي: ومن لم يفعل الإيتار فلا حرج عليه أيِ: لا إثم عليه. وقد دل نفي الحرج على أن الإيتار ليس بواجب، وإنما هو مندوب كما ذكرناه. قوله: "ومن استجمر" أي: ومن تمسح بالحجارة فليوتر، أي: فليجعل الحجارة التي يستنجى بها فردًا، إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا. وهذا حجة قوية لأبي حنيفة ومن تبعه في هذه المسألة؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث. وقد قيل في قوله: "من استجمر فليوتر" إنه البخور، مأخوذ من الجَمْر الذي يُوقد به، وقد كان الإِمام مالك يقوله، ثم رجع عنه. قوله: "ومن تخلل فليلفظ" أي: من تخلل بالخِلال فيما بين أسنانه بعد الأكل، فليلفظ الذي يخرج منه، أي: فليرم؛ لأن اللفظ في اللغة من الرمي، يقال: أكلت التمرة ولفظت نواها، أي: رميتها. وهذا أيضًا من الأمور الإرشادية. قوله: "ومن لاك" من اللوك، يقال: لكت الشيء في فمي ألوكهُ، إذا علكته، وقد لاك الفرسُ اللجامَ. قوله: "فليبتلع" أمر من الابتلاع، البلع والابتلاع بمعنى. وإنما أمر في التخلل بالرمي -يعني رميِ الخُلالة- لأنها تُنْتن بين الأسنان فتصير مستقذرة. وروي عن ابن عمر أن تركها يُوهن الأضراس. وفي اللوك بالابتلاع (¬1)؛ لأن رميِ اللقمة بعد لوكها إسراف وبشاعة للحاضرين. ¬

_ (¬1) "وفي اللوك بالابتلاع" يعني: وأمر في اللوك بالابتلاع، وهو تتمة لقوله السابق: "وإنما أمر في التخلل ... " إلخ.

قوله: "إلا كثيبًا": الكثيب من الرمل المستطيل المحُدَودب. قوله: "يجمعه" جملة وقعت صفة للكثيب. قوله: "فليستدبره" أي: فليستدبر الكثيب، أي: يجعله عند دبره. قوله: "فإن الشيطان [يتلاعب]، (¬1) بمقاعد بني أدم" أراد: أن الشياطين أن تحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد؛ لأنها [مواضع] (¬2) يهجر فيها ذكر الله تعالى، وتكشف فيها العورات. وهو معنى قوله: "إن هذه الحشوش محتضرة" (¬3) فأمره بالتستر مهما أمكن، وألا يكون قعوده في براح من الأرض، تقع عليه أبصار الناظرين، أو تهب الريح عليه فيصيبه نشر البول، فيلوث بدنه أو ثيابه، وكل ذلك من لعب الشيطان به. و"المقاعد" مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها, ولعب الشيطان بمقاعد بني آدم كناية عن إيصاله الأذى والفساد. وقد استفيد منه أحكام كثيرة على ما لا يخفى: منها: جواز الاكتحال للرجال والنساء جميعًا، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وزعم "أن النبي - عليه السلام - كانت له مِكْحَلة يكتحل منها كل ليلة، ثلاثةً في هذه، وثلاثةً في هذه". أخرجه الترمذي (¬4). ومنها: أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": يلاعب، كما تقدم في متن الحديث، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، ومصادر تخريج الحديث. (¬2) في "الأصل، ك": موضع، وما أثبته أليق بالسياق. (¬3) رواه أبو داود في "سننه" (1/ 2 رقم 6)، والنسائي في "الكبرى" (6/ 23 رقم 9903)، وابن ماجة في "سننه" (1/ 108 رقم 296) وأحمد في "مسنده" (4/ 369) وغيرهم من حديث زيد بن الأرقم. (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 234 رقم 1757).

ومنها: أن الاستنجاء ليس بفرض كما ذهبت إليه الحنفية؛ لأن قوله: "من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج"، لا يقال مثل هذا في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، إلا أنه إذا ترك الاستنجاء أصلًا وصلى يكره؛ لأن قليل النجاسة جعل عفوًا في حق جواز الصلاة دون الكراهة، وإذا استنجى زالت الكراهية. وقد قيل: إن نفي الحرج في تركه (¬1)، ولو كان فرضًا لكان في تركه حرج، فالحديث حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم بفرضية الاستنجاء. قلت: فيه نظر؛ لأن نفي الحرج في ترك الإيتار لا في ترك أصل الاستنجاء. وقال الخطابي: معنى الحديث التخيير بين الماء الذي هو الأصل، وبين الأحجار التي هي للترخيص. لكنه إذا استجمر بالحجارة فليجعل [وترًا ثلاثا] (¬2) وإلا فلا حرج إن تركه إلى غيره. وليس معناه ترك التعبد أصلًا بدليل حديث سلمان "نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار". قلت: قال الأستاذ فخر الدين: في التمسك بالحديث نفي الحرج عن تارك الاستنجاء، فدلّ أنه ليس بواجب، وكذلك ترك الإيتار لا يضر؛ لأن ترك أصله لما لم يكن مانعًا فما ظنك في ترك وصفه فدل الحديث على انتفاء المجموع. قلت: فيه النظر المذكور بعينه. وقال الخطابيّ: وفيه آخر، وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث، وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان، وترك للسنة، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان، وإن صارت شفعًا. قلت: هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام، على ما لا يخفى على [الفطن] ومجاوزة الثلاث في الماء كيف يكون عدوانًا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث؟! والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعًا، كيف لا يصيرُ عدوانا، وقد نص على الإيتار؟! ¬

_ (¬1) يعني الحرج الكائن في تركه، لو كان واجبًا. (¬2) في "الأصل": وثرانلا. والتصويب من "معالم السنن"- بها مش المنذري (1/ 35).

ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - ما قد بين ذلك أيضًا: حدثنا أحمد بن داود، قال: نا مُسدّد، قال: أنا يحيي بن سعيد، عن زهير، قال: أخبرني أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - فأتى الغائط فقال: ائتني بثلاتة أحجار فالتمست فلم أجد إلا حجرين وروثةً، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس". حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا زهير بن عباد، قال: نا يزيد بن عطاء، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: قال ابن مسعود ... فذكر نحوه. ففى هذا الحديث ما يَدلُّ أنَّ النبي - عليه السلام - قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجارٌ؛ لقوله لعبد الله ناوِلنيِ ثلاثة أحجار، ولو كان بحضرته شيء من ذلك لما احتاج إلى أن يناوله من غير ذلك امان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وأخذ الحجرين، دلّ ذلك على استعماله الحجرين، وعلى أنه قد رأى أن الاستحجار لهما يجزى مما يجزى منه الاستجمار بالثلاث؛ لأنه لو كان لا يجزى للاستحجار بما دون الثلاث لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يَبْغِيه ثالثًا. ففي ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين. ش: أي قد رُوِيَ عن ابن مسعود، عن النبي - عليه السلام - ما قد بَيَّن ما قلنا من أن الأمر بالإيتار في الآثار المذكورة أمر ندب لا أمر وجوب، وذلك ظاهر لا يخفى. حاصلة أن العَدَد لو كان شرطًا، لسأل النبي - عليه السلام - ابنَ مسعود ثالثًا؛ فحين اكتفى بالاثنين, ولم يسأل الثالث، علمنا أن المعتبى في هذا الباب الإنقاء دون العدد، ولا ينكر هذا إلا معاند. ثم إنه أخرج حديث ابن مسعود من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود، عن مُسدّد، أحد مشايخ البخاري وغيره، عن يحيي بن سعيد القطان، عن زهُير بن معاوية بن حُديج الكوفي، أحد أصحاب

أبي حنيفة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود بن [يزيد]، (¬1) بن قيس النخعي، عن أبيه الأسود بن يزيد، وكلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد بن داود. وأخرجه البخاري (¬2)، نا أبو نعيم، نا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، سمع عبد الله يقول: "أتى رسول الله - عليه السلام - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال. هذا ركس". وأخرجه النسائي (¬3)، نا أحمد بن سليمان، نا أبو نعيم، عن زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ... إلى آخره، نحو رواية البخاري، وفي آخره قال أبو عبد الرحمن: "الركس طعام الجن". وأخرجه ابن ماجه (¬4)، نا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا يحيي بن سعيد القطان، عن زهير، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬5) من حديث أبي عبيدة: نا هناد وقتيبة، قالا: نا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "خرج النبي لحاجته، فقال: التمس لي ثلاثة أحجار، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: إنها ركس". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": زيد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 70 رقم 155). (¬3) "المجتبى" (1/ 39 رقم 42). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 114 رقم 314). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 25 رقم 17).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود، عن زهير بن عباد الرُؤاسي، ابن عم وكيع بن الجراح، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الكندي، فيه مقال، عن أبي إسحاق عَمرو السَبيعي، عن علقمة بن قيس النخعي، وعن الأسود بن يزيد النخعي، عن ابن مسعود. وأخرجه الدارقطني (¬1): نا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بول، حدثني جدّي، ثنا أبي، عن أبي شيبة، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله قال: "خرجت يومًا مع رسول الله - عليه السلام - قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، قال: فأتيتهُ بحجرين وروثة، قال: فألقى الروثة وقال: إنها ركس فأتني بغيرها". وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2) من حديث علقمة بإسناد صحيح، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا زياد بن الحسن بن فرات عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، قال: "أراد النبي - عليه السلام - أن يتبرز، فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين، وطرح الروثة، وقال: هي رجس". فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟ قلت: صحيح كما ترى. فإن قلت: قال ابن الشاذكوني: هذا الحديث مردود؛ لأنه مُدلَّس؛ لأن السبيعي لم يصرّح فيه بسماع، ولم يأت بصيغة معتبرة، وما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا, ولا أخفي قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن، عن فلان، ولم يقل: حدثني، فجاز الحديث وسار. قلت: أبو إسحاق سمعه من جماعة، ولكنه كان غالبًا إنما يحدث به عن أبي عبيدة، فلما نشط يومًا قال: ليس أبو عبيدة الذي هو في ذهنكم أني حدثتكم ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 55 رقم 5). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 39 رقم 70).

عنه حدثني وحده، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، ولعل البخاري لم ير ذلك متعارضًا وجعلهما إسنادين، أو أسانيد. وذكر الكرابيسي في كتاب "المدلسين": أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرةً: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، ومرةً حدثني علقمة، عن عبد الله، ومرة حدثني أبو عبيدة، عن عبد الله، ومرةً يقول: ليس أبو عبيدة حدثنيه، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن عبد الله، وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعًا فافهم. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: اختلفوا في هذا الحديث، والصحيح عندي حديث أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه. وزعم الترمذي أن أصح الروايات عنده حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس، وزهير [في] (¬1) أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بأخرة، سمعت أحمد بن الحسن، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة، وزهير فلا تبالِ أن لا تسمعه من غيرهما، إلا حديث أبي إسحاق. ورواه زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، وهذا حديث فيه إضطراب، قال: وسألت الدارمّي أي الروايات في هذا أصح عن أبي إسحاق؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدًا عن هذا فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير أشبه، ووضعه في جامعه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، ولا نعرف اسمه. انتهى كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عن، والمثبت من "جامع الترمذي" (1/ 28). (¬2) هذا النقل فيه تقديم وتأخير عن كلام الترمذي الذي في نسختي، يراجع له جامع الترمذي (1/ 25 - 29).

قلت: في كلامه نظر من وجوه: الأول: ترجيحه حديث إسرائيل على حديث زهير، وهو معارض بما حكاه الإسماعيلي في صحيحه؛ إذ رواه من حديث يحيى بن سعيد، ويحيي بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير، عن أبي إسحاق، ما ليس بسماع لأبي إسحاق. وكذلك رواية أبي جعفر الطحاوي حيث رواه من حديث يحيي بن سعيد، عن زهير، عن أبي إسحاق. وقال الآجُرّيّ: سألت أبا داود، عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق؟ فقال: زهير فوق إسرائيل بكثير. وتابعه إبراهيم بن يوسف، عن أبيه كما قال البخاري في آخر الحديث المذكور، وقال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن، وتابعه أبو حماد الحنفي، وأبو مريم، وشريك وزكرياء بن أبي زائدة، كذا قاله الدارقطني. الثاني: إسرائيل اختلف عليه؛ فرواه كرواية زهير، ورواه عباد القطواني، وخالد العبدي، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله. وروى الحميدي، عن ابن عيينة عنه، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، ذكره الدارقطني والعدني في "مسنده"، وزهير لم يختلف عليه. الثالث: اعتماده على متابعة قيس بن الربيع، وهي لا شيء لشدة ما رُمِيَ به من نكارة الحديث والضعف، وإضرابه عن متابعة يونس والثوري، وهما هما. الرابع: قوله: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه مردود، وقال أبو بكر بن أبي داود: قلت لأبي: أبو عبيدة سمع من أبيه، قال: يُقال: إنه لم يسمع منه قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يروي عن أبي مالك الأشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيد قال: "خرجت مع أبي لصلاة الصبح" فقال لي: ما أدري ما هذا، وما أدري ابن أبي هند من هو.

وفي "المعجم الأوسط" (¬1) للطبراني: من حديث زياد بن سعد، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن [خباب] (¬2) الكوفي، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول: "كنت مع النبي - عليه السلام - في سفر ... " الحديث. وأخرج الحاكم في "مستدركه" (¬3) حديث أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه في ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم صححّه. وكذلك الترمذيُّ حَسّنَ عِدّة أحاديث رواها أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله، منها: "كان في الركعتين الأولين كأنه على الرَضْف" (¬4)، ومن شرط الحديث أن يكون متصلًا عن المحدثين (¬5). الخامس: قوله: "وأبو عبيدة لم يُعرف اسمه"، يرّده ما ذكره مسلم في كتاب "الكنى"، وابن حبان في كتاب "الثقات"، وأبو أحمد في "الكنى"، وغيرهم أن اسمه عامر. السادس: أنه أضرب عن الحديث المتصل الصحيح إلى منقطع -على زعمه- وهو قول الدارقطني: ثنا عمر بن أحمد الدقاق، نا محمَّد بن عيسى بن حبان، ثنا الحسن بن قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، وأبي الأحوص، عن ابن مسعود فذكره. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (9/ 81 رقم 9189). (¬2) في "الأصل، ك" عتاب، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الأوسط" ومصادر ترجمته يونس، وهو من رجال التهذيب. (¬3) "مستدرك الحاكم" (3/ 96 رقم 4509). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 202 رقم 366). (¬5) قلت: قال الترمذي بعد الحديث المذكور: هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.

السابع: قوله: "ورواه زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن ابن يزيد، عن عبد الله"، ولم يزد على ذلك شيئًا, وليس كذلك فإن زكرياء روي عنه هذا على وجوه (¬1): منها رواية عبد الرحيم، والأزرق، وإسماعيل بن أبان. ومنها رواية سهل، عن يحيي، عنه، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، وقيل: عن منجاب، عن يحيي، عنه، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الأسود، لم يذكر بين أبي إسحاق والأسود أحدًا، فيما ذكره الدارقطني (¬2). قال: ورواه عمار بن رزيق، وورقاء، ومعتمر، وسليمان بن قَرْم، وإبراهيم الصائغ، وعبد الكبير بن دينار، وأبو شيبة، ومحمد بن جابر، وشعبة بن الحجاج، وصباح بن يحيى المزني، وروح بن مسافر، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله، وكذلك قال إسحاق الأزرق، عن شريك، وروي عن علي بن صالح بن حيّ، ومالك بن مِغول، ويوسف بن أبي إسحاق، وحُدَيج بن معاوية، وشريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأسود، عن عبد الله، ورواه أبو سنان، عن أبي إسحاق، عن هُبَيرة بن يريم، عن عبد الله وقفه شعبة، وسفيان، ورفعه عنه الثوري، وغيره، قال الدارقطني: قد اختلف فيه على أبي إسحاق اختلافًا شديدًا، والله أعلم (¬3). وتعلقت الظاهرية بنص هذا الحديث أن الأحجار متعينة في الاستنجاء، لا يجزئ غيرها. والإجماع على أن الحجر ليس بمتعين، بل يقوم الخزف، والخشب، والمدر، والتراب، ونحوها مقامه؛ لأن المعنى فيه كونه مُزيلًا، وقد يحصل ذلك بغير الحجر، وإنما نص - عليه السلام - على الحجر لكونه الغالب المتَيسِّر. ¬

_ (¬1) راجع "علل الدارقطني" (5/ 27). (¬2) "علل الدارقطني" (5/ 27). (¬3) وانظر "العلل" (5/ 18 - 29) تحت الحديث رقم (686).

ويدلّ على عدم تعيّنه أيضًا نهيهُ - عليه السلام - عن العظم، والبعر، والرجيع؛ فلو كان معينًا لنهى عما سواه مطلقًا. ص: فهذا وجه الباب من طريق تصحيح معاني الآثار، وأما من طريق النظر فإنا رأينا الغائط والبول إذا غُسلا بالماء مرةً، فذهب بذلك أثرهما وريحهما حتى لم يبق شيء من ذلك، أن مكانهما قد طهر بذلك، ولو لم يذهب بذلك لونهما ولا ريحهما احتيج إلى غسله ثانيًا، فإن غسلا ثانيًا فذهب لونهما وريحهما طهر بذلك كما يطهر بالواحدة ولو لم يذهب لويهما ولا ريحهما بِغُسْل مرتين احتيج إلى أن يُغْسَلا بعد ذلك حتى يذهب لونهما وريحهما. فكان ما يراه في غسلهما معلومًا لا يُجزئِ ما هو أقل منه، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الاستجمار بالحجارة، لا يراد من الحجارة في ذلك مقدار معلومٌ لا يجزئ الاستجمار بأقل منه، ولكن يُجْزئ من ذلك ما أذهب النجاسة، مما قل أو أكُثر فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بهذا إلى ما قاله، من قوله: "ففي هذا الحديث ما يدُلّ أن النبي - عليه السلام - قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار"، إلى قوله: "ففي تركه ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين"، وإنما ذكر قوله للغائط في مكان إلى قوله من غير ذلك المكان تمهيدًا، وبسطًا لجواب سؤال يأتي من قبل الخصم، وهو أن يقول: يحتمل أن يكون اكتفاء النبي - عليه السلام - بالحجرين، وعدم طلبه الثالث لكون الثالث موجودًا عنده، فلذلك لم يطلب منه الثالث، فقال: لا نُسَلِّم ذلك؛ لأن قعوده - عليه السلام - للغائط كان في مكان ليس فيه أحجار، إذ لو كانت هناك أحجار لما قال له: ائتني بثلاثة أحجار؛ لأنه لا فائدة لطلب أحجار وهي حاصلة عنده وهذا معلوم بالضرورة. فإن قيل: لو لم يكن تعيين الثلاث مفيدًا، لما قال: ائتني بثلاثة أحجار.

قلت: كان ذلك للاحتياط؛ لأن التطهير بواحد أو اثنين لم يكن محققًا، فلذلك نصّ على الثلاث، وبالثلاث يحصل التطهير غالبًا. ونحن أيضًا نقول: إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث، تَعيَّن عليه الثلاث، والتعيّن ليس لأجل التوقيت فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل منه، حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلمَّ جرّا، يتعين عليه ذلك. قوله: "وأما من طريق النظر" أي القياس الصحيح، وهو ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وبالله المستعان في كل شأن.

ص: باب: الاستنجاء بالعظام

ص: باب: الاستنجاء بالعظام ش: أي هذا باب في بيان أحكام الاستنجاء بالعظام، وفي بعض النسخ: باب الاستجمار بالعظام، وكلاهما بمعنى واحد. وفي "المطالع": الاستنجاء إزالة النجو، وهو الأذى الباقي في فم المخرج، وأكثر ما يُستعمل في الماء، وقد يستعمل في الأحجار. وأصله من النجو، وهو القَشْر والإزالة، وقيل: من النجوة، وهو: ما ارتفع من الأرض لاستتارهم به، وقيل: لارتفاعهم وتجانبهم عن الأرض عند ذلك، وقال الأزهري عن شمر: الاستنجاء بالحجارة بالحجارة مأخوذ من نجوت الشجرة وأنجيِتها، واستنجيتها، إذا قطعتها؛ كأنه يقطع الأذى عنه بالماء أو بحجر يتمسح به، قال: ويقال استنجيت العقب إذا أخلصته من اللحم ونقيته منه، وأنشد ابن الأعرابي: فتبازَتْ فَتَبازَخْتُ لها ... جِلْسةَ الأَعْسر يَسْتَنجي الوتَرْ قلت: ذكر الجوهري هذا الشعر ونسَبه إلى عبد الرحمن بن حسّان (¬1)، والظاهر أنه لغيره، حكي في "العباب": قال أبو عمر الزاهد: كان شاعرا يلزم باب معاوية - رضي الله عنه - وهو خليفة، فأبطأت عليه الجائزة، وكانت له جارية يقال لها: صولة يعني لهذا الشاعر، قال: فدفع إليها الشاعر يومًا رقعة، فقال: توصِلِينَها إليه. قال: فجاءت فدفعت إليه، فأخذها فقرأها، وهي قائمة، ثم قال لها معاوية: إن كان مثله إلا كاذبًا، فقالت: حاشاه مثله لا يكذبُ، فقال لها معاوية: إن كان مثله لا يكذب، فقد هتك الله سترك، قالت: وأيّ شيءٌ فيها، فأنشدها: سَائلُوا صولَة هَل نَبَّهْتُها ... بَعْد ما نامَتْ بعَرْد ذي عُجَر ¬

_ (¬1) وكذا هو في "اللسان": مادة (بَزَخ)، (نجا).

فتبازَتْ فتبازختُ لها ... جلسْةَ الأعَسْر يَسْتنجِي الوتر (¬1) وقال الجوهري: استنجى مسح موضع النجو أو غسله، واستنجى الوتر: أي مَدّ القوس، وقال الشاعر ... ، ثم أنشد هذا البيت، ثم قال: وأصله الذي يتخذ الأوتار للقيسيّ؛ لأنه يخرج ما في المصارين من النَجْو، وهو ما يخرج من البطن. قلت: العَرْدُ، بفتح العن وسكون الراء المهملتين، الذكر إذا انتشر وانتصب، والعُجَر -بضم العن المهملة وفتح الجيم-: جمع عجُرة، وهي العُقدة في الخشب، وأراد به ها هنا الذكر الذي له طيات كالعقد. قوله: "فتبازت" أي رفعت مؤخرتها لإتيان الرجل إليها، وأصله من البَزي، بالزاي المعجمة، وهو أن يستأخر العجز ويستقدم الصدر. قوله: "فتبازخت" أي تطامنت، وأصله من البزخ بالمعجمتين، وهو خروج الصدر ودخول الظهر، ومنه رجل أبزخ. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن سَنّة الخزاعي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن يَستطيب أحدٌ بعظم أو رَوث". ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو [عبد الله]، (¬2)، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأبو عثمان بن سَنّة الخزاعي لا يدرى اسمه، وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عنه، وقال: سئل أبو زرعة عن اسمه، فقال: لا أعرفه. ¬

_ (¬1) البيتان في "اللسان" أيضًا (بزا) لعبد الرحمن، مع بعض اختلاف في الرواية البيت الأول، وسمي الجارية مية. (¬2) في "الأصل، ك": ابن عبد الله، وكلمة "ابن" زائدة، ولعله سبق قلم من المؤلف، وعبد الله هو ابن وهب الفهري عالم مصر.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن عمرو بن السَرْحِ، قال: أنا ابن وهب ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "أحدكم". ص: حدثنا فهد، قال: أنا جندل بن والق، قال: نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سَلمان - رضي الله عنه - قال: "نُهينا أن نستنجي بعظم أو رجيع". ش: هذا الإسناد بعينه، بهؤلاء الرواة، قد مر في الباب الذي قبله. ولكن أخرج هناك عن سلمان: "نهينا أن نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار" وأصل الحديث واحد؛ وإنّما قَطَّعه للتبويب. وقد أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4) بتمامه، وقد ذكرنا بعضه هنالك. ص: حدثنا يونس، قال: أخبرني ابنُ وهب، قال: أخبرني عَمرو بن الحارث، عن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، عن النبي - عليه السلام - "أنه نهى أن يَسْتطيب أحد بعظم أو روثة أو جلد". ش: موسى بن أبي إسحاق وثقه بن حبان، وليس له رواية عند الجماعة (¬5). وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول، قاله الدارقطني، وأخرج الحديث في "سننه" (¬6): حدثني جعفر بن محمَّد بن نصير، نا الحسن بن علي، ثنا أبو طاهر وعمرو بن سَوَّاد، قالا: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن موسى بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 37 رقم 39). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 224 رقم 262). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 37 رقم 7). (¬4) "المجتبى" (1/ 37 رقم 41). (¬5) ترجمه الذهبي في "الميزان" والحافظ في "اللسان" ونقلا عن ابن القطان أنه قال: مجهول الحال. (¬6) "سنن الدارقطني" (1/ 56 رقم 8).

أبي إسحاق الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام - أخبره، عن رسول الله - عليه السلام - أنه نهى أن يستطيب أحدٌ بعظم أو روث أو جلد"، وهذا إسناد غير ثابت. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: أنا يحيي بن حسان، قال: نا سفيان بن عُيَينة، عن محمَّد بن عجلان، ح. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا صفوان، قال: أنا ابن عجلان، ح. وحدثنا على بن عبد الرحمن، قال: نا عثمان، قال: أنا وُهَيب بن خالد، قال: أنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - "نهى أن يستنجى بالروثة أو رمّة، والرّمة العظم". ش: هذه ثلاث طرق، قد مر منها الطريق الثاني، والثالث بعَينهما في الباب السابق فالكل حديثٌ واحد، وإنما قطعّة للتبويب، وقد ذكرنا هناك أن النسائي (¬1) أخرجه، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه أيضًا. وأما الطريق الأول، فعَن حُسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان التنِّيسي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح ذكوان الزيات إلى آخره. وأخرجه الحديث في "مسنده"، نا سفيان، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما أنا لكم مثل الوالد للولد أعلمكم؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول، وأمر أن نستنجي بثلاثة أحجار، ونهى أن يستنجي الرجل بيمينه، ونهى عن الروث، والرمّة"، قال سفيان: الرمّة العظام. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا.

ص: حدثنا محمَّد بن حُميد بن هشام الرُعَيني، قال: نا أصبغ بن الفرج، قال: نا ابنَ وَهب، قال: أخبرني حَيْوَةُ بن شُرَيح، عن عَيَّاش بن عباس، أن شُيَيْم بن بَيْتانَ أخبره، أنه سمع رُوَيفِعَ بن ثابت الأنصاريَ، أن رسول الله - عليه السلام -، قال له: "يا رويفع بن ثابت لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناسَ أنه من استنجى برجيع دابّة أو عظم، فإن محمدًا منه بريء". ش: إسناده حسن جَيّد، ورجاله ثقات، وحيوة بن شريح التُجِيبي، أبو زرعة المصري الفقيه الزاهد العابد. وعّياش بتشديد الياء آخر الحروف، والشين المعجمة ابن عباس، بتشديد الباء الموحدة والسين المهملة، القِتْباَني. وشِيَيْم بكسر الشين المعجمة، ويقال: بضمها، وبفتح الياء آخر الحروف، وياء أخرى مثلها ساكنة، ابن بَيْتان بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح التاء المثناة من فوق القِتْباني المصري. ورويفع بن ثابت بن سكن الأنصاري. وأخرجه النسائى في كتاب "الزينة" (¬1): أنا محمَّد بن سلمة، نا ابن وهب، عن حيوة بن شريح -وذكر آخر قبله- عن عياش بن عباس القِتْباني، أن شييم بن بيتان حدثه أنه سمع رويفع بن ثابت يقول: إن رسول الله - عليه السلام - قال: "يا رويفع، لعل الحياة تطول بك بعدي؛ فأخْبِر الناس أنه مَن عَقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أوعظَم، فإن محمدًا بريء منه". وأخرجه أبو داود (¬2): نا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمْدانيِ، قال: ثنا المفضل -يعني بن فضالة المصري- عن عياش بن عباس القِتْبانيِ أن شييم بن بَيْتان أخبره، عن شيبان القِتْبَاني، "أن مسلمة بن مُخَلَّد استعمل رُويفع بن ثابت على أسفل ¬

_ (¬1) من "المجتبى" (8/ 135 رقم 5067). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 9 رقم 36).

الأرض، قال شيبان: فسرنا معه من كوم شريك إلى عَلقما -أو من علقما إلى كوم شريك- يُريد علقام، فقال رويفع: إن كان أحدنا في زمن رسول الله - عليه السلام - ليأخذ نِضْوَ أخيه، على أن له النصف مما يغنم و [لنا]، (¬1) النصف وإن كان أحدنا ليَطيرُ له النَّصْلُ والرِّيش، وللآخر القِدْح. ثم قال لي رسول الله - عليه السلام -: يا رويفع، لعل الحياة ... " إلى آخره، مثل ما ذكره النسائي. قوله: "برجيع دابه": قد ذكرنا أنه العذِرة. قوله: "أو عظم": عطف عليه، والتقدير: أو بعظم. قوله: "فإن محمدًا": جواب قَوله: مَنْ، ودخلت فيه الفاء لتضمن "مَنْ" معنى الشرط. فانظر إلى هذه التأكيدات: الجملة الاسمية التي تدلّ على الثبات والاستمرار، ودخول "إن" التي للتأكيد، وتقديم الشأن على الخبر. فإن قلت: ما الحكمة في هذا الوعيد الشديد؟ قلت: الذي ظهر لي من الأسرار الربانية أن النبي - عليه السلام - وعد الِجنّ ليلَة لُقِيِّهِم إياه في بعض شعاب مكة، حين سألوه الزاد أن يكون العظم زادًا لهم، والروث علفًا لدوابهم، وقبلوا ذلك من النبي - عليه السلام -، ثم إن أحدًا إذا استنجى بعظم أو روث، يتأذى منه الجن؛ فلذلك أكَّد الوعيد فيه حتى يجانبوا ذلك ولا يفعلوه (¬2). ولنتكلم في لغات رواية أبي داود تكثيرًا للفائدة. فقوله: "على أسفل الأرض" أراد به الوجه البحري من مصر. قوله: "من كوم شريك" هي بلد في طريق إسكندرّية، وشريك هذا هو ابن سُمّي المرادي الغُطَيْفي، وفد على رسول الله - عليه السلام -، وشهد فتح مصر. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": له، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬2) انظر حول هذا المعنى: "سنن أبي داود"، عقب حديث ابن مسعود المذكور بعد حديث رويفع بحديثين، رقم (39).

قوله: "إلى علقما" بفتح العين المهملة، وسكون اللام، وفتح القاف، والميم المقصورة، وهي بلدة في طريق إسكندرية، وهي خراب اليوم، وعلقام مثله، إلا أنه بالألف قبل الميم، وهي أيضًا بلدة وهي خراب. قوله: "إن كان أحدنا" أصله إنه كان، وتُسمّى هذه "إنْ" المخففة من المثقلة؛ فتدخل على الجملتين، والأكثر كون الفعل ماضيًا (¬1) ناسخًا نحو: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} (¬2) وأمثال ذلك كثيرة في القرآن. قوله: "ليأخذ نِضْو أخيه" النِضو بكسر النون، وسكون الضاد المعجمة البعير المهزول، يقال: بعير نضو، وناقة نضو، ونضوة. وقال ابن الأثير: النضر الدابة التي أهزلتها الأسفار، وأنهبت لحمها. وفي هذا حجة لمن أجاز أن يعطي الرجل فرسَه أو بعيره على شطر ما يُصيبه المستأجر من الغنيمة، وهو قول أحمد والأوزاعي، ولم يجوّز ذلك أكثر العلماء، وأوجبوا في مثل هذا أجرة المثل. قوله: "إن كان أحدنا" أي: وإنه كان. "ليطير له" أي يصيبه في القسمة، يقال: طار لفلان النصف ولفلان الثلث؛ إذا وقع في القسمة ذلك. و"النصل": نصل السهم والسيف والسكين والرمح، والجمع نُصول ونِصال. و"الريش": للطائر جمع ريشة (¬3). و"القِدْح": بكسر القاف وسكون الدال، خشبة السهم، ويقال للسهم أَوّلَ ما يقطع: قِطع بكسر القاف، ثم يُنْحت، ويُبْهرى، فيُسَمّي بَريًّا، ثم يُقَّوَّم ¬

_ (¬1) قوله: كون الفعل ماضيًا: كذا، ومراده: كون الفعل بعدها. (¬2) سورة البقرة: آية [143]. (¬3) وزاد في "الصحاح": وراش السهم ألزق عليه الريش، فهو مريش.

فيسمّى قِدحًا، ثم يُرَاش ويركب نصله فيسمى سهمًا (¬1). قوله: "من عقد لحيته": قيل: كانوا يفعلونه في الحرب، وهو من زيّ الأعاجم. وقيل: معالجة الشعر لينعقد ويتجعّد، وذلك من قبل التوضيع والتأنيث، فلأجل ذلك نهاه - عليه السلام -. قوله: "أو تقلد وترًا" قيل: هي التمائم التي يشدونها بالأوتار، وكانوا يرَوْنها تعْصِمهم من الآفات وتدفع عنهم المكاره، فأبطل النبي - عليه السلام - ذلك، وقيل: هي الأجراس التي يُعلّقونها بها. والله أعلم. ص: فذهب قوم إلى أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظام، وجعلوا المستنجى بها في حكم من لم يَسْتنج، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، والظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا يجوز الاستنجاء بالعظام، واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث المذكورة. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬2): والخشب والخِرق وكل ما أُنْقِيَ به كالأحجار إلا الروث والعظام، والطعام مقتاتا أو غيرُه مقتات، ولا يجوز الإستنجاء به، ولا بالروث، والعظام، طاهرا كان أو غير طاهر. وبه قال الثوري، والشافعي، وإسحاق. وأباح أبو حنيفة الاستنجاء بالروث والعظام؛ لأنه يجفف النجاسة ويُنقيها، وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما (¬3). ¬

_ (¬1) راجع: "النهاية في غريب الحديث" (4/ 20). (¬2) "المغني" (1/ 103). (¬3) المصنف -رحمه الله- أدخل كلام الخرقي في كلام ابن قدامة، وتصرف -كعادته في نقله- كثيرًا في العبارة، وقدم وأخّر، واختصر، ولذا لم نقابل نصوصه التي وقفنا عليها بأصولها، إلا حيث احتجنا إلى التصحيح.

وقال ابن حزم في "المحلى": وممن قال: لا يجزئ بالعظام، ولا باليمين. الشافعي، وأبو سليمان، وغيرهما. وفي "البدائع": فإن فعل ذلك، يعني الاستنجاء بالعظم أو الروث، يُعتدّ به عندنا، فيكون مقيما سنةً، ومرتكبًا كراهية. وعند الشافعي: لا يُعْتدُّ به حتى لا تجوزُ صلاته إذا لم يستنج بعد ذلك بالأحجار. ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: لم ينه عن الاستنجاء بالعظم؛ لأن الاستنجاء به ليس كالاستنجاء بالحجر وغيره، ولكنه نُهِيَ عن ذلك لأنه جُعِلَ زادًا للجن، فأمر بني آدم أن لا يُقذّروه عليهم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه، ومالكًا، وابن جرير الطبري. قال القاضي: واختلفت الرواية عن مالك في كراهية هذا، يعني الاستنجاء بالعظم، والمشهور عنه النهي عن الاستنجاء به، على ما جاء في الحديث، وعنه أيضًا: إجازة ذلك، وقال: ما سمعت في ذلك بنهي عام. وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك إذا وقع بما كان، وهو قول أبي حنيفة، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز، وإليه نحا ابن القصَّار، وهو قول الشافعي. وقال بعضهم: لا يجوز بما كان نجس العين، إليه نحا القاضي ابن نصر، وذكر في فروع الحنفيّة: قال أبو حنيفة: يجوز الاستنجاء بالمدر، والتراب، والعود، والخزف، والقطن، والجلد، وبكل طاهر غير منقوم. وكره بعض العلماء الاستنجاء بعشرة أشياء: العظم، والرجيع، والروث، والطعام، والفحم، والزجاج، والورق، والخزف، وورق الشجر، والسَّعْتر، ولو استنجى بها أجزأه مع الكراهة؛ لما رُوي: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان له عظم يستنجى به، ثم يتوضأ ويصلي." وقال عياض: وقد شذّ بعض الفقهاء، ولم ير الاستنجاء بالماء العذب، بِناءً على أنه طعام عنده، والاستنجاء بالطعام ممنوع.

وفي بعض شروح البخاري: وشذَّ ابن جرير الطبري فأجاز الاستنجاء بكل طاهر ونجس (¬1). ويكره بالذهب والفضة عند أبي حنيفة، وعن الشافعي في قول: لا يكره. قوله: "أن لا يقذوره" أي لا يلوثوه بالقذر وهو النجاسة. ص: وقد بين ذلك وكشفه ما حدثنا حسين بن نصر، قال: نا يوسف بن عدي، قال: نا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تستنجوا بعظم ولا روث، فإنه زاد إخوانكم من الجن". ش: أي وقد أظهر ما قلنا من أنه نهى عن ذلك لأنه جُعِل زادًا للجن، ما حدثنا. وقوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على أنه فاعل "بيّن"، وإسنادُ هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرجه الترمذي (¬2): نا هناد، نا حفص بن غياث ... إلى آخره نحوه ولفظه: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام ... ". ويستفاد منه: أن النهي عن ذلك إنما هو لكونه زادًا للجن لا لأنه لا يطهر؛ لأنه علله بقوله: "فإنه زاد إخوانكم من الجن"؛ فحينئذ إذا استنجى به جاز بالنظر إلى كونه مطهرًا صورة، ولكنه يأثم لارتكاب النهي. ويستفاد أيضًا: وجود الجن، خلافًا لمن أنكر ذلك، وأن من الجن مسلمين؛ بدليل قوله: إخوانكم؛ لأن إخواننا لا يكونون (¬3) إلا مسلمين. فإن قيل: ما حقيقة الجن؟ ¬

_ (¬1) وانظر "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 71). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 29 رقم 18). (¬3) في "الأصل، ك": لا يكونوا، وهو خلاف الجادّة.

قلت: قال الجاحظ: الجن، والملائكة واحد؛ فمن طهر منهم فهو ملك، ومن خبث منهم فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جن. وقال الشريف السمرقندي: قال المِلِّيون (¬1): الروحانيات السماوية والأرضية أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، وسَمُّوا السماوية بالملائكة، والأرضية بالجن إن كانت غير شريرة، وبالشياطين إن كانت شريرة، وأنكرت الفلاسفة وأوائل المعتزلة كونها كذلك؛ أرادوا أنها ليست بأجسام، ولهم مناقشات كثيرة، وقال الرازي: قالت الفلاسفة: إنها جواهر قائمة بنفسها ليست بمتحيزة البتة، فمنهم من هي مستغرقة في معرفة الله فهم الملائكة المقربون، ومنهم مدبرات هذا العالم إن كانت خيّرات فهم الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهم الشياطين. ص: حدثنا عليّ بن مَعْبد، قال: نا عبد الوهاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "سألت الجنُّ رسول الله - عليه السلام - في آخر ليلة لُقِيِّهم في بعض شعاب مكّة الزاد، فقال: كل عظم يقعُ في أيديكم قد ذكر اسم الله عليه تجدونه أَوْفَر ما يكون لحمًا، والبعرُ علفًا لدوابكم، فقالوا: إن بني آدم ينجسونه علينا فعند ذلك قال: لا تستنجوا بروث دابّة، ولا بعظمٍ، إنه زادُ إخوانكم من الجن". ش: إسناده صحيحٌ على شرط مسلم، والشَعْبيّ هو عامرُ. وأخرجه مسلم (¬2)، والترمذي (1) بأتمّ منه، وقد ذكرناه في باب الوضوء بنبيذ التمر. قوله: "شعاب مكة" جمع شِعب بكسر الشين، وهو الطريق في الجبل، وأما الشَّعب بالفتح فهو ما يشعب من قبائل العرب والعجم. ¬

_ (¬1) الملِّيون: جمع مِلِّيّ، نسبة إلى المِلة، وهي الدين، يعني: المنتسبين إلى الأديان. (¬2) سبق تخريجه.

قوله: "الزاد" منصوب؛ لأنه مفعول "سألت الجن". قوله: "كل عظم" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: زادكم كل عظم. وقوله: "يقع في أيديكم" صفة للعظم. وقوله: "قد ذكر اسم الله" جملة وقعت حالًا، وكذا قوله "يَجدونه" حال أخرى، ويجوز أن يكون كل عظم مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: لكم كل عظم يقع في أيديكم، كما في رواية مسلم (¬1): "وسألوه الزادَ، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم". قوله: "والبعرُ" بالرفع عطفًا على "كل عظم"، أي: ولكم البعرُ أيضًا حال كونه علَفًا لدوابكم، بمعنى: طعامًا لها، وفي رواية النسائي: وكلُ بعر علف لدوابكم، ويجوز: "والبعرَ" بالنصب، على تقدير: وجعلْتُ البَعْرَ علفًا لدوابكم. ويستفاد منه: أن كراهة الاستنجاء بالعظم لكونه زاد الجنّ، لا لكونه لا يطهّره، وكراهة الاستنجاء به، وأن العظم الذي هو زادهم ذلك العظم الذي سُمّيَ عليه، حتى إن العظم الذي لا يذكر عليه اسم الله لا يكون لهم زادًا؛ لأن في المسمى عليه يجدون لحمًا يكتفون به، وذلك ببركة اسم الله تعالى وغير المسمّى عليه ليس عليه شيءِ يتناولونه، وأن البعر علف لدوابهم، وأن لهم دواب يركبونها، وأن في الجن مسلمين؛ بدلالة قوله: "إخوانكم من الجن"، وأن رسول الله - عليه السلام - مرسل إلى الإنس والجن، وأن لهم قدرة على الكلام والخطاب مع الإنس، وأنهم يُروْن ويَرَوْن. ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: نا أحمد بن محمَّد الأَزْرقي، قال: نا عَمرو بن يحيى بن سعيد، عن جدّه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: "اتبعت النبي - عليه السلام - وخرج في حاجة له، وكان لا يَلتفت، فدنوتُ، فاستأنستُ وتنحنحتُ، فقال: مَنْ هذا، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 332 رقم 450) وتقدم.

فقلتُ: أبو هريرة، فقال: يا أبا هريرة، أبغني أحجارًا أستَطيب بهنّ، ولا تأتني بعظم ولا رَوث، قال: فأتَيْتُه بأحجارٍ أحملها في مُلاءتي، فوضعتها إلى جنبه، ثم أعرضت عنه، فلما قضى حاجته، اتبعتُه فسألته عن الأحجار، والعظم، والروثة، فقال: إنه جاءني وَفْدُ جن نَصِيبيبن -ونعم الجنّ هم- فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمرّوا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليه طعامًا". ش: إسناده صحيح على شرط البخاريّ، وأحمد بن محمَّد بن الوليد، وأبو محمَّد المكي الأزرقي أحد مشايخ البخاريّ، وعمر بن يحيى بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص (¬1) بن أمّية القرشي الأموي المكي. وأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث عمرو، عن جده، عن أبي هريرة ... إلى آخره، نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬2) مختصرًا: نا أحمد بن [محمد]، (¬3) المكي، نا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي، عن جده، عن أبي هريرة قال: "اتبعت النبي -عليه السلام، وخرج لحاجته، فكان لا يلتفتُ، فدنوت منه، فقال: أبغني أحجارًا أستنفضُ بها -أو نحوه- ولا تأتني بعظم ولا بروث فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه، وأعرضت عنه، فلما قض حاجته أتبعه بهن". قوله: "اتبعت النبي - عليه السلام -" قال ابن سيده: تبع الشيء تبعًا، وتباعًا، واتَّبعه، وأتْبَعَه، وتتبعّه: قَفَّاه، وقيل: اتبع الرجل سبقه فلحقه، وتبعه تبعًا، واتّبعه مرّ به فمضى معه، وفي التنزيل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} (¬4)، ومعناه: تبع، وقرأ أبو عَمرو "ثم اتبع سببًا" أي لحق وأدرك، واستتبعه طلب إليه أن يتبعه، والجمع تُبَّع، وتُبَّاع، ¬

_ (¬1) ابن سعيد بن العاص: وضع عليه في "الأصل" علامة "صح" لرفع توهم التكرار. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 70 رقم 154). (¬3) في "الأصل، ك": أحمد بن موسى، والتصويب من "صحيح البخاري". (¬4) سورة الكهف، آية: [89].

وتَبعه، وتَبع، وفي "الأفعال" لأبن طريف: المشهور: تبعتُه: سرتُ في أثره، واتبعته لحقتُه، ولذلك فسّر في التنزيل {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} (¬1) أي: لحقوهم. وفي "الصحاح" تبعت القوم تبعًا، وتباعًا وتَبَاعةً -بالفتح- إذا مشَيْتَ، أو مرّوا إلى فمضيت معهم، قال الأخفش: تبعتُه، واتبعته بمعنى، مثل: رَدِفَه، وأَرْدَفَه. قوله: "وخرج في حاجة له" جملة وقعت حالًا. قوله: "أبغني أحجارًا"، قال أبو علي الهجري في "أماليه": بغيتُ الخير بغاءً، وقال أبو الحسن اللحياني في "نوادره": يقال: بغى الرجل الحاجَة والعلم والخيرَ وكل شيء يُطلبُ، يبغى بُغاء، وبِغْيَة و (بِغى) (¬2) وبُغْية وبُغي واستبغى القوم يبغَوْه، وبغَوْا له أي طلبوا له، وفي الحكم المعروف بُغَاءٍ -يعني بالضم- والاسم البُغْية، والبَغْية ما ابتُغي، وأبغاه الشيء طلب له أو أعانه على طلبه، والجمع بغاة، وبغيان، وابتغى الشيء تَيَسر، وتسَهّل، وبغى الشيء بُغوا وانظر إليه كيف هو، وفي "الجامع" للقزاز: ابغني كذا أي أعنّي عليه، واطلبه معي، وقيل: بغيتك الشيء طلبته لك، وأبغيتك أعنتك على بغيتك، وفي كتاب "الداعي" لعبد الحق الأشبيلي، والبغاء الطلب، وفي "الصحاح" كل طلبة بُغاء بالضم، والمدِّ، وبُغاية أيضًا، وأبغَيْتُك الشيء جعلتك طالبًا له، وأبْتغيت الشيء، وتَبَغَّيْتُه إذا طلبته، قال ساعدةُ بن جُوَية الهُذلي: سباغٌ تَبغّي الناسَ مثنى ومَوْحد. قوله: "استطيبُ بهن" صفة للأحجار أراد استنجي بهن، من الإستطابة، وهي طلب النظافة، والطهارة، وكذلك الإصابة. قوله: "أحملها في مُلاءتي" جملة حالية والمُلاءة بضم الميم الإزار، وذكره الجوهري في باب المهموز، وقال الملاءة بالضم ممدود: الرَّيْطَة، والجمع: مُلاء. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [60]. (¬2) في "الأصل، ك": بغيّا، والمثبت من "لسان العرب" نقلًا عن اللحياني وقال بعدها: مقصورًا.

قوله: "وفد جن نصيبين" الوفد القومُ يجتمعون ويَرِدون البلاد، وواحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد، وانتجاع وغير ذلك، تقول: وَفَدَ، يَفِدُ فهو وافد، وأوفدته يوفَد، وأوفد على الشيء فهو مُوفد إذا أشرف. و"نَصِيبين" بفتح النون، وكسر الصاد المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ثم باء موحدة مكسورة، وياء ثانية ساكنة، ونون، وهي قاعدة ديار ربيعة، مخصوصة بالورد الأبيض، ولا يوجد فيها وردة حمراء، وفي شماليها جبل كبير منه ينزل نهرها، ويمر على سورها، والبساتين عليه، وهي شمال سنجار، وجبل نصيبين هو الجودي، وهو الذي استوت سفينة نوح - عليه السلام - عليه، ويقال يسمّى نهرها الهرماس، وبها عقارب قاتلة. قوله: "إلا وجدوا عليه": على كل واحد من العظم والروث، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون طعامهم من العظم والروث، كما جاء في حديث آخر أخرجه أبو داود (¬1)، عن حيوة بن شريح، عن ابن عياش، عن يحيى بن [أبي] (¬2) عمرو السَّيْبَانيِ، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال: "قدم وفد الجن على رسول الله - عليه السلام -، فقالوا: يا محمَّد، انْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حمَمة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقًا، قال فنهى النبي - عليه السلام -[عن ذلك] (¬3) ". وظاهر هذا الحديث أيضًا أن رزقهم من هذه الأشياء؛ فلذلك منع النبي عن الاستنجاء بها، وكذلك حديث ابن مسعود الذي مرّ ذكره عن قريب: "لا تستنجوا بعظم ولا روث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن"، يقتضي ما ذكرنا، والدليل القاطع على ذلك ما جاء في رواية مسلم: "فلا تَسْتنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم" والضمير يرجع إلى العظم، والبعرة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 10 رقم 39). (¬2) من "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود"، ومصادر ترجمته. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود".

فإن قيل: كيف يكون التوفيق بين هذا، وبين قوله في رواية الترمذي: "وكل بَعرة أو روثة علف لدوابكم"، وكذا في رواية الطحاوي، و"البعر علفًا لدوابكم"؟ قلت: التوفيق بين الكلامين: أن العظم زادهم خاصة، وأن الروث، والبعر مشتركان بينهم وبين دوابهم، يدلّ على ذلك قرائن الكلام والحال، فافهم. قوله: "استنفض بها" في رواية البخاري أي: استنجي بها، وهو من نفض الثوب لأن المستنجي ينفض عن نفسه الأذى بالحجر أي: يزيله ويدفعه، وجاء في السنن العشر انتقاص الماء بالقاف والصاد المهملة يُريد إنتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به. وقيل: هو الانتضاح بالماء، ويروى بالفاء والمعجمة (¬1). ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: نا سويد بن سعيد، قال: أنا عمرو بن يحيى ... ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذا طريق آخر في الحديث المذكور، عن أحمد بن داود المكي، عن سويد بن سعيد بن سهل الأنباري أحد مشايخ مسلم في الصحيح، عن عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة نحوه وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث سويد بن سعيد، نا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده سعيد بن عمرو قال: "كان أبو هريرة يتبع رسول الله - عليه السلام - بإداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يومًا، فقال: مَنْ هذا؟ قال: أنا أبو هريرة، قال: إبغني أحجارًا استنفض بها, ولا تأتني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه، حتى إذا فرغ وقام تبعتُه، فقلت: يا رسول الله، ما بال العظم، والروث؟ فقال: أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروّا بروثة ولا عظم إلا وجدوا عليه طعامًا". ¬

_ (¬1) راجع "فتح الباري" (1/ 256). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 107 رقم 524).

ص: فثبت بهذا الآثار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لمكان الجن لا لأنها لا تُطهّر كما يطهر الحجر، وجميع ما ذهبنا إليه من الاستجمار بالعظام أنه يطهّر قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي بالأحاديث المروية عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة، والباقي ظاهر. وقد غمز البيهقي على الطحاوي ها هنا حيث يقول -بعد أن روى حديث سلمان، وجابر، وابن مسعود، وأبي هريرة عن النبي - عليه السلام - "أنه نهى عن الاستنجاء بالعظم"، وحديث رويفع بن ثابت قال: "قال لي رسول الله - عليه السلام -: أخبر الناس أن من استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا منه بريء"-: وهذا كله يدل على أنه إذا استنجى بالعظم لم يقع موقعه، وكما جعل العلة في العظم أنه زاد الجن، جعل العلة في الرجيع أنه علف دواب الجن، وإن كان في الرجيع أنه نجس ففي العظم أنه لا ينظف لما فيه من الدسومة، وهذا جواب عمّا زعم الطحاوي في الفرق بينهما. قلت: كلام البيهقي عَيْنه يُشْعِرُ بالفرق الذي ذكره الطحاوي، ولكنه غفل عنه ذريعة للغمز عليه بأن قوله: "كما جعل العلة في العظم أنه زاد الجن ... " إلى آخره، يُشْعِر أن المنع عن الاستنجاء به هو كونه زادًا للجن لا لكونه لا يُطهّر الحجر فإذا كان كذلك يقع الاستنجاء به، ولكنه يأثم لارتكابه النهي، وأما الروث فإنه نجس، والنجس لا يزيل النجس، ولا سيما إذا كان رطبًا، فلذلك لا يقع به الاستنجاء موقعه، وهذا الفرق واضح كعين الشمس، فكيف يرده البيهقي على الطحاويّ؟! على أن ابن حزم قد روى في "المحلى" (¬1) أن عمر - رضي الله عنه - كان له عظم يستنجى به ثم ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 97)، ولم يروه ابن حزم إنما ذكره في أثناء سرد أدلة المخالفين له بدون إسناد فقال: وما نعلم لهم متعلقًا إلا أنهم ذكروا أثرًا فيه: "أن عمر - رضي الله عنه - كان له عظم أو حجر يستنجي به" ثم قال: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه شك: إما حجر وإما عظم اهـ. ورواه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 346 رقم 299) من طريق ابن أبي ليلى، قال: "كان لعمر مكان قد اعتاده يبول فيه، وكان له حجر أو عظم في حجر، فكان إذا بال مسح به ذكره ثلاثًا ولم يمسه ماء" فتأمل احتجاج المؤلف به واعتراضه على البيهقي.

يتوضأ، ويصلي" ولو لم يقع الاستنجاء بالعظم لما فعله عمر - رضي الله عنه -، ورأي عمر - رضي الله عنه - أقوى من رأي البيهقي، ومن رأي من هو أكبر منه، ولقد صدق القائل: فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا حسدوا الفتى إذْ لم ينَالوُا ثناؤه ... والقومُ أعداءٌ له وخصوم

ص: باب: الجنب يريد النوم أو الأكل أو الشرب أو الجماع

ص: باب: الجنب يريد النوم أو الأكل أو الشرب أو الجماع ش: أي هذا باب في بيان الجنب إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب كيف يكون حكمه. قوله: "يريد النوم": جملة وقعت حالًا لأن الجملة بعد المعرفة حال، وبعد النكرة صفة على ما عُرف في موضعه، ووجه المناسبة بين الناس غير خفي. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أنا أبو عامر، قال: نا سفيان ح. وحدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عاصم، قال: نا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام - "أنه كان ينام وهو جنب لا يَمسّ الماء". حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا مسدد، قال: نا أبو الأحوص، قال: نا أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا رجع من المسجد صلى ما شاء الله، ثم مال إلى فراشه، وإلى أهله فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام كهيئته، ولا يمسُّ طيبًا". حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف، قال: أنا عليُّ بن مَعْبد، قال: نا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - يجنب ثم ينام، ولا يمس ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: نا الحجاج بن إبراهيم، قال: نا أبو بكر بن عياش فذكر مثله بإسناده. حدثنا صالح، قال: نا سعيد بن منصور، قال: أنا هُشَيم، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق فذكر مثله بإسناده. حدثنا صالح، قال: أنا علي بن مَعْبد، قال: نا عبيد الله بن عَمرو، عن الأعمش، عن أبي إسحاق فذكر مثله بإسناده.

ش: هذه سبعة طرق رجالهم كلهم ثقات، ولكن في الحديث مقال كثير نذكره عن قريب إن شاء الله. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو السَّبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): [ثنا على بن محمَّد]، (¬2)، نا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يجنُب ثم ينام كهيئته لا يمسّ ماءً". الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - ينام جنبًا, ولا يمس ماءً". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود، عن مُسدّد بن مسرهد، عن أبي الأحوص سلام بن سُليم الحنفي، عن أبي إسحاق عمرو، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): نا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة قالت: "إن رسول الله - عليه السلام - إن كانت له إلى أهله حاجة قضاها ثم ينام كهيئته لا يمس ماء". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 192 رقم 583). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه". (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 280 رقم 1082). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 64 رقم 682) بنحوه.

وأخرجه ابن ماجه (¬1)، عن أبي بكر بن أبي شيبة. قوله: "إن كانت له حاجة" أرادت بها الجماع. قوله: "كهيئته" أي على حالته وهو جنب. قوله: "ولا يمس طيبًا" أرادت به الماء كما قد وقع في رواية ابن أبي شيبة، وذلك أن الماء يطلق عليه الطيب، كما ورد في الحديث "فإن الماء طيب" (¬2) لأنه يطيب، ويطهر، وأيّ طيب أقوى فعلًا في التطهير من الماء؟. الرابع: عن مالك بن عبد الله بن سيف، عن عبد الله بن شهاب التجيبي، عن علي بن معبد بن شداد العبدي. عن أبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف، والشين المعجمة- بن سالم الأسدي الكوفي الحفاط -بالنون- المقرئ، قيل: إسمه محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل: شعبة، وقيل: رُؤْبَة، وقيل: مسلم، وقيل: خداش، وقيل: حماد، وقيل: حَبيب، والصحيح أن اسمه كنيته. عن الأعمش وهو سليمان، عن أبي إسحاق عمرو، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا محمد بن الصباح، ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يجنب ثم ينام، ولا يمسّ ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل". الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن الحضرمي، عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 192 رقم 582). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 192 رقم 581).

وأخرجه الترمذى (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "كان النبي - عليه السلام - ينام وهو جنب، ولا يمس ماء". السادس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور المروزيّ، عن هشيم بن بشير، عن إسماعيل بن أبي خالد أبي عبد الله البجلي الكوفي، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. السابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو الأسدي الرَّقي، عن سليمان الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه أحمد (¬2) أيضًا: من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يجنب، ثم ينام، ولا يمسّ ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل". ص: فذهب قوم إلى هذا، وممن ذهب إليه أبو يوسف:، فقالوا: لا نرى بأسًا أن ينامَ الجنب من غير أن يتوضأ؛ لأن التوضأ لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة. شَ: أي إلى هذا الحديث المذكور، وهو حديث عائشة، وأراد بالقوم هؤلاء: الثوري، والحسن بن حيّ، وابن المسيب، وأبا يوسف من أصحاب أبي حنيفة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ينبغي له أن يتوضأ للصلاة قبل أن ينام. شَ: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون في هذا الحكم، وأراد بهم: الأوزاعي، والليث، وأبا حنيفة، ومحمدًا، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك، وآخرين. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 202 رقم 118). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 43 رقم 24207).

ولكنهم اختلفوا في صفة هذا الوضوء وحكمه، فقال أحمد: يستحب للجنب إذا أراد أن ينام أو يطأ ثانيًا أو يأكل أن يغسل فرجه ويتوضأ، روي ذلك عن علي، وعبد الله بن عمر. وقال سعيد بن المسيب: إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه، ويتمضمض، وحكي نحوه عن أحمد، وإسحاق، وابن الحنفية، وقال مجاهد: يغسل كفيه، وقال مالك: يغسل يديه إن كان أصابهما أذى. وقال أبو عمر في "التمهيد": وقد اختلف العلماء في إيجاب الوضوء عن النوم على الجنب فذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك على الندب والاستحسان لا على الوجوب، وذهبت طائفة إلى أن الوضوء المأمور به الجنب هو غسل الأذى منه، وغسل ذكره، ويديه، وهو التنظيف، وذلك عند العرب يسمى وضوءًا، قالوا: وقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يتوضأ عند النوم الوضوء الكامل للصلاة، وهو روى الحديث، وعلم مخرجه. وقال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، قال: وله أن يعاود أهله، ويأكل قبل أن يتوضأ، إلا أن يكون في يديه قذر فيغسلهما، قال: والحائض تنام قبل أن تتوضأ، وقال الشافعي في هذا كله: نحو قول مالك. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء، وأحب إلينا أن يتوضأ، قالوا: فإذا أراد أن يأكل مضمض، وغسل يَديْه، وهو قول الحسن بن حيّ، وقال الأوزاعي: الحائض والجنب إذا أرادا أن يطعما غسلا أيديهما، وقال الليث بن سعد: لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلًا كان أو امرأة. انتهى. وقال القاضي عياض: ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب، وإنما هو مُرغّب فيه، وابن حبيب يرى وجوبَه، وهو مذهب داود. وقال ابن حزم في "المحلى": ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل أو النوم، ولرّد السلام، ولذكر الله تعالى وليس ذلك بواجب.

قلت: قد خالف ابن حزم داود في هذا الحكم. وفي "البدائع": ولا بأس للجنب أن ينام، ويعاود أهله قبل أن يتوضأ، وإن أراد أن يأكل أو يشرب يتمضمض ويغسل يديه، ثم يأكل ويشرب؛ لأن الجنابة حلّت الفم فلو شربَ قبل أن يتمضمض صار الماء مستعملًا فيصير شاربًا الماء المستعمل، ويده لا تخلو عن نجاسة فينبغي أن يغسلها ثم يأكل. قلت: فيه نظر من وجوه لا تخفى: الأول: أن هذا ليس مذهب أبي حنيفة، وإنما هو مذهب أبي يوسف على ما صّرح به الطحاوي، وكل من ذكر أبا حنيفة ومحمدًا مع من لا يرى بأسًا للجنب إذا أراد النوم، فقد ذكر عن غير علم بمذهب أبي حنيفة، وإنما مذهبه أنه يرى باستحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم للأحاديث الصحيحة الواردة فيه، ألا ترى كيف صرح الطحاوي بذكر أبي يوسف مع الطائفة الأولى وسكت عن ذكر أبي حنيفة ومحمد، وهو أعلم الناس باختلاف العلماء من غير منازعة فيه: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام والثاني: لا نسلم صيرورة الماء مستعملا للشرب، لعدم النية، وإزالة الحدث بالكلية. والثالث: يفهم من كلامه أن شرب الماء المستعمل ممنوع، وليس كذلك؛ لأنه ماء طاهر بالإجماع، بل طهور أيضًا عند البعض حتى قالوا: إنه يجوز الطبخ والعَجْنُ بالماء المستعمل، فإذا كان هذا جائزًا فالشرب كذلك. ص: وقالوا: هذا الحديث غلط؛ لأنه حديث مختصر، اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك أن فهدًا حدثنا، قال: أنا أبو غسّان، قال: أنا زهيرٌ، قال: نا أبو إسحاق، قال: أتيتُ الأسود بن يزيد، وكان لي أخًا وصديقًا، فقلت له: يا أبا عُمر، حدثني ما حدّثتك عائشةُ أم المؤمنين عن صلاة النبي - عليه السلام -، فقال: قالت: "كان النبي - عليه السلام - ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له

حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يَمسّ ماءً، فإذا كان عند النداء الأول وثبَ -وما قالت: قامَ- فأفاض عليه الماء -وما قالت: اغتسل وأنا أُعلَمُ ما تُريد- وإن نام جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة". فهذا الأسود بن يزيد قد بان في حديثه لمَّا ذُكِرَ -بطوله- أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأما قولُها: "فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام قبل أن يمس ماء" فيحتمل أن يكون ذلك على الماء الذي يغتسل به لا على الوضوء. ش: أي قال الجماعة الآخرون -في جواب الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى-: هذا الحديث غلط؛ لأن أبا إسحاق عمرو بن عبد الله اختصر هذا الحديث من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه، وقال الترمذي، وأبو علي الطوسي: روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة: "أنه كان يتوضأ قبل أن ينام"، وهذا أصح أن حديث أبي إسحاق، قال: وكانوا يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق. وبين الطحاوي ذلك بقوله: "وذلك أن فهدًا ... " إلى آخره، فإن هذا الحديث لما ذكر بطُوله من غير اختصار ظهر أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوء الصلاة، فيكون معنى قولها في الحديث المختصر: "ثم نام قبل أن يمسّ ماء" أي الماء الذي يغتسل به لا الماء الذي يتوضأ به. واعلم أن الأئمة اختلفوا في حديث أبي إسحاق عن الأسود، فصححه قوم، وضعفه آخرون، فقال أبو داود: حدثنا الحسين الواسطي: سمعت يزيد بن هارون يقول: هذا الحديث وهم، يعني حديث أبي إسحاق، وفي رواية ابن العبد عنه: ليس بالصحيح، وفي موضع آخر: وهم أبو إسحاق في هذا الحديث. وفي كتاب "العلل" (¬1) لأبي حاتم: قال شعبة: سمعت حديث أبي إسحاق أن النبي - عليه السلام - كان ينام جنبًا, ولكني أتقيه. ¬

_ (¬1) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 49 رقم 115).

وقال مُهنّى: سألت أبا عبد الله عنه، فقال: ليس صحيحًا. قلت: ثم قال لأن شعبة روى عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة". قلت: من قِبَل مَنْ جاء هذا الاختلاف؟ قال: من قِبل أبي إسحاق، قال مُهنّى: وسمعت يزيد بن هارون يقول: [جَرْمَزَ] (¬1) أبو إسحاق في هذا الحديث. قال: وسألت أحمد بن صالح عن هذا الحديث فقال: لا يحل أن يروى. قال أبو عبد الله: الحكم يرويه مثل قصة أبي إسحاق ليس عن الأسود "الجنب يأكل". وفي كتاب الأثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكان يكفي وإبراهيم كان أثبت وأعلم بالأسود، ثم وافق إبراهيم عبد الرحمن، ووافقهما أبو سلمة، وعروة عن عائشة، ثم وافق ما صح من ذلك عن عائشة رواية عمر، وما روي عن أبي سعيد، وعمار فتبين أن حديث أبي إسحاق إنما هو وهم، قيل: رَوى هشيم، عن عبد الله، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام -، مثل ما رواه أبو إسحاق عن الأسود، قال: ورواية عطاء عن عائشة مما لا يحتج به إلا أن يقول: سمعت، ولو قال في هذا: سمعت كانت تلك الأحاديث أقوول، ولقائل أن يقول: قد صرّح جماعة من العلماء بسماعه من عائشة، وخرّج له الشيخان في صحيحها أحاديث صرح في بعضها بسماعه منها, ولم يَرمه أحد بالتدليس فيما علمنا حتى يتوقف في روايته إذا لم يبيّن سماعه، فلا يقدح هذا في حديثه، ويكون سنده على هذا صحيحًا، لاسيّما مع ما يذكر له من الشواهد. وفي "المغني" لابن قدامة: قال أحمد: خالف أبو إسحاق الناسَ فلم يقل أحد: عن الأسود مثل ما قال، فلو أحاله على غير الأسود. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي لسان العرب (جرمز): جرمز الرجل: نكص، وقيل: أخطأ.

وقال مسلم في كتاب: "التمييز" (¬1): ذكر الأحاديث التي نقلت على الغلط في متونها، ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا أبو إسحاق ... فذكره، قال: فهذه الرواية عن أبي إسحاق [خَاطئة] (¬2)، وقد جاء النخعي وعبد الرحمن بخلاف ذلك. فيه نظر، من حيث أنه روى في "صحيحه" عن يحيى بن يحيى وأحمد بن يونس، قالا: ثنا زهير فذكر حديث أبي إسحاق دون قوله: "قبل أن يَمسّ ماء"، وقال ابن ماجه عقب روايته هذا الحديث: قال سفيان: ذكرت الحديث -يعني هذا- يومًا فقال لي إسماعيل: شُدَّ هذا الحديث يا فتى بشيءٍ. وأما المصححون فقد قال الدارقطني: يشبه أن يكون الخبران صحيحين؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ربما قدّم الغسل، وربما آخره كما حكى ذلك غُضَيف، وعبد الله بن أبي قيس، وغيرهما عن عائشة، وأن الأسود حفظ ذلك عنها فحفظ أبو إسحاق عنه تأخير الوضوء والغسل، وحفظ إبراهيم وعبد الرحمن تقديم الوضوء على الغسل. وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه اللفظة، يعني: "قبل أن يَمسّ ماء" وتوهموها مأخوذة عن غير الأسود، وأن أبا إسحاق ربما دلس، فرأوها من تدليساته، واحتجوا على ذلك برواية النخعي وعبد الرحمن بن الأسود بخلاف رواية أبي إسحاق، قال أبو بكر: وحديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية وذلك أنه بيّن فيه سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، والمدلّس إذا بيّن سماعه ممن روى عنه، وكان ثقة فلا وجه لردّه، ووجهُ الجمع بين الروايتين على وجه يحتمل، وقد جمع بينهما أبو العباس بن سريج فأحسن الجمع، وسئل عنه، وعن حديث عمر: "ينامُ أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ"، فقال: الحكم لهما جميعًا؛ أما حديث عائشة فإنما أرادت أنه كان لا يمسّ ماءً للغسل، وأما حديث عمر: "أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا ¬

_ (¬1) "التمييز" (1/ 181 رقم 40). (¬2) في "الأصل، ك": خاصة، وهو تحريف، والمثبت من كتاب "التمييز".

توضأ أحدكم فليرقد" مفسّر ذكر فيه الوضوء، وبه نأخذ. انتهى. ولو حمل على الاستحباب، والفعل على الجواز لكان حسنًا إذ الفعل لا يدل على الوجوب بمجرده، ويمكن أن يكون الأمران جميعًا وقعا، فالفعل لبيان الاستحباب، والترك لبيان الجواز، وقد أشار إلى هذا ابن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث"، ولما ذكره ابن حزم مصححًا له من حديث سفيان عن أبي إسحاق قال: هذا لفظ يدل على مداومته - عليه السلام - لذلك، وهي أحدث الناس عهدًا بمبيته ونومه، جنبًا وطاهرًا. فإن قيل: إن هذا الحديث أخطأ فيه سفيان؛ لأن زهيرا خالفه. قلنا: بل أخطأ بلا شك من خَطَّأَ سفيان بلا دليل، وسفيان أحفظ من زهير بلا شك. انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث أن زهيرًا رواه كما رواه سفيان عن أبي إسحاق فيما ذكره مسلم في "التمييز"، ومن حيث أن سفيان لم يتفرد بل قد تابعه غير واحد، منهم شعبة بن الحجاج -ذكره الترمذي- وأبو حنيفة، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أبي خالد -عند الطحاوي- وسليمان بن مهران، وأبو الأحوص -عند ابن ماجه- وحمزة الزيّات -ذكره الطبراني في "الأوْسط"- ثم قالوا: إنا وجدنا لحديث أبي إسحاق شواهد ومتابعين، فممن تابعه: عطاء، والقاسم، وكريب، فيما ذكره أبو إسحاق الحربيّ في كتاب "العلل"، قال: وأحسن الوجوه في ذلك -إن صح حديث أبي إسحاق فيما رواه ووافقه هؤلاء-: أن تكون عائشة أخبرت الأسود أنه كان ربما توضأ، وربما أخر الوضوء والغسل حتى يصبح، فأخبر الأسود إبراهيم أنه كان يتوضأ، وأخبر أبا إسحاق أنه كان يؤخر الغسل، وقد حكى مثل ذلك غضيف، وعبد الله بن أبي قيس، ويحيي بن يَعُمر الصنابحي، عن عائشة، وهذا أحسن وجوهه، قال: ولم يزل المتفقهة من أصحاب الحديث تكلّم في حديث أبي إسحاق، يقولون: إنه حكى عن عائشة ما خالف ما حكاه إبراهيم وعبد الرحمن، وقد وافق إبراهيم

وعبد الرحمن على روايتهما: أبو سلمة، وعروة، وأبو عمر، وذكوان، وقوّى هذا القول رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما سأل، وأبي سعيد، وعمار، وابن عباس، وجابر، وأم سلمة. انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث أن ابن عباس وعمار وأم سلمة حديثهم موافق لما رواه أبو إسحاق. أما حديث [أم]، (¬1) سلمة فرواه أحمد (¬2) بسند جيّد "كان النبي - عليه السلام - يجنب، ثم ينام، ثم ينتبه، ثم ينام". وحديث ابن عباس "خرج النبي - عليه السلام - من الخلاء فأتى بطعام فقالوا: ألا نأتيك بطهُر، فقال: أأصلي فأتطهر؟! ثم تناول عَزقًا فأكل ولم يمسّ ماء" (¬3). قال أبو عمر: صحيح، وفيه دلالة أن الوضوء لا يكون إلا لمن أراد الصلاة. وحديث عمار صححه الترمذي (¬4): "أن النبي - عليه السلام - رخص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ". قال أبو عمر: احتج به أهل الكوفة على أن الجنب لا بأس أن ينام قبل أن يتوضأ، قالوا: معناه: أي لا يتوضأ؛ لأنه في ذلك وردت الرخصة. وقال ابن أبي شيبة (¬5): ثنا شريك، عن إبراهيم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إذا جامع الرجل ثم أراد أن يعود فلا بأس أن يؤخر الغسل". وقال ابن الحصّار في كتابه "تقريب المدارك على موطأ مالك": رواه عن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": أبي، وهو وهم أو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله- وجاء على الصواب في "مسند أحمد". وانظر الكلام قبله. (¬2) "مسند أحمد" (6/ 298 رقم 26594). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 283 رقم 374)، وانظر "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 43). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 511 رقم 613). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 64 رقم 683).

أبي إسحاق أئمة عدول، وهذه رخصة، ورفق من الله تعالى لا ينبغي أن يُطرح مثل هذا لأجل انفراد رَاويةِ العدل برواية لا تعارض رواية من روى عن الأسود ذكر الوضوء، إذ قد يصح أن يفعل الأمرين في وَقتين، والله أعلم. ثم رجال حديث فهد رجال الصحيح، وأبو غسّان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، وزهير هو ابن معاوية بن [حديج] (¬1)، وأبو إسحاق عمرو. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: نا أبو إسحاق. وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو خثيمة، عن أبي إسحاق، قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، قالت: "كان ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب -ولا والله ما قالت: قام- فأفاض عليه الماء -ولا والله ما قالت: اغتسل- وأنا أعلم ما تريد -وإن لم يكن جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلّى" وليس في روايته: "قبل أن يَمسّ ماء". ورواية البيهقي (¬3) نحو رواية الطحاوي، وقال الذهبي: إنما ترك مسلم لمس الماء لأن الحفاظ طعنوا في هذه اللفظة، وتوهموها مأخوذة من غير الأسود، وأن أبا إسحاق ربما دلّس فرأوها من تدليساته. قوله: "كان ينام أول الليل، ويحيى آخره" لما جاء في إحياء آخر الليل من الآثار والفضل، وأنه أسمع وأقرب للإجابة، ثم نومه بعد ذلك ليستريح من تعب القيام، وينشط لصلاة الصبح، والنوم بعد القيام آخر الليل مستحسن مُذهِب لكلل السّهر، وذبول الجسم، وصفرة اللون بسببه، بخلاف إيصال السهر بالصباح، وقد يكون ¬

_ (¬1) "في الأصل، ك": حرب، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال". (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 510 رقم 739). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 201 رقم 922).

فعل النبي - عليه السلام - هذا في الليالي الطوال. قوله: "ثم إن كانت له حاجة" أرادت عائشة بهذا الكلام الجماع، ولكنها ذكرته بالكناية للأدب. قوله: "ثم ينام قبل أن يمسّ ماء" أرادت به الماء الذي يغتسل به لا الماء الذي يتوضأ. فإن قيل: من أين قلت: إنها أرادت به الماء الذي يغتسل به؟ ولم لا يجوز أن تكون أرادت الماء الذي يتوضأ به؟ قلت: قالوا هذا حتى لا تتضادّ الآثار؛ لأنه قد أخبر في هذا الحديث نفسه أنه إذا كان جنبًا توضأ ثم نام، وكذلك الأحاديث الصحاح عن عائشة وغيرها أنه كان لا ينام إذا كان جنبًا حتى يتوضأ وضوئه للصلاة. فإن قيل: كيف يجوز النوم على الجنابة وقد جاء في حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب". أخرجه أبو داود (¬1)، والنسائي (¬2)، فما وجه التوفيق بين الحديثين؟. قلت: المراد بالجنب الذي لا تدخل الملائكة بيتًا هو فيه هو الذي يجنب فلا يغتسل، ويتهاون به، ويتخذه عادةً، وأما الجنب الذي لا يتخذ هذا عادة، ولا يترك الاغتسال إلى أن تفوته الصلاة لا يضرّ دخول الملائكة البيت؛ فإنه - عليه السلام - كان ينام وهو جنب، وقال الخطابي: قوله: ولا جنب، ولا جِبْت بكسر الجيم وسكون الباء الموحدة، وبالتاء المثناة من فوق، وجُنب تصحيف. فإن كان هذا صحيحًا فلا اعتراض حينئذ. وقال الصغاني في "العباب": الجبت كلمة تقع على الصنم، والكاهن، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 58 رقم 227). (¬2) "المجتبى" (1/ 141 رقم 261).

والساحر، ونحو ذلك. وقال ابن عرفة: كل ما عبد من دون الله فهو جبت، وقيل: الجبت والطاغوت: الكهنة والشياطين. وقال سعيد بن جبير: هي كلمة حبشية، وليست من محض العربيّة لاجتماع الجيم والتاء. فإن قيل: فلم تمتنع الملائكة من البيت الذي فيه الجنب؟ قلت: لكون الجنب بعيدًا عن التلاوة والعبادة، وهو متصف بالنجاسة الحكمية، والملائكة يكرهون ذلك، وأيضًا المراد منه الملائكة غير الحفظة؛ لأن الحفظة لا يفارقون بني آدم جنبًا وغيره، والله أعلم. ص: وقد روى ذلك غير أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يتوضأ وضوئه للصلاة". حدثنا ابن مرزوق، قال: أنا بشر بن عُمر، قال: أنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا أراد أن ينام أو يأكل وهو جنب يتوضأ". ش: أي قد روى الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام أو يأكل غير أبي إسحاق عمرو السَّبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة. ثم بَيَّن ذلك بقوله: "حدثنا ابن مرزوق ... " إلى آخره. وإسناده صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن عُليّة ووكيع وغندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 248 رقم 305).

إذا كان جنبًا وأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه" (¬1). فإن قيل: كيف قال الطحاوي: يتوضأ وضوءه للصلاة، وليس في الحديث الذي خرجه إلَّا يتوضأ فقط، وكذا في رواية غيره: "توضأ وضوءه للصلاة". أخرجه النسائي (¬2): أنا حُميد بن مسعده، عن سفيان بن حبيب، عن شعبة ح. وأنا عَمْرو بن علي، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - وقال عَمر وكان رسول الله - عليه السلام - إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ" زاد عمرو في حديثه: "وضوءه للصلاة". ص: ثم روي عن الأسود -عن رأيه- مثل ذلك، حدثنا روح بن الفرج، قال: أنا يوسف بن عدي، قال: نا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال الأسود: "إذا أجنب الرجل فأراد أن ينام فليتوضأ". فاستحال عندنا -والله أعلم- أن تكون عائشة - رضي الله عنها - قد حدّثته عن النبي - عليه السلام - أنه كان ينام ولا يمسّ ماء، ثم يأمر هو بعد ذلك بالوضوء، ولكن الحديث في ذلك ما رواه إبراهيم. ش: أي روي عن الأسود بن يزيد، عن اجتهاده ورأيه مثل ما روى عنه إبراهيم، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة" فهذا يدل على أن الصحيح ما رواه إبراهيم عنه لا ما رواه أبو إسحاق عنه؛ لأنه من المحال أن يروي عن عائشة عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان ينام ولا يمسّ ماء" ثم يأمر هو بعد ذلك بالوضوء، وذلك أن. الراوي إذا أفتى أو عمل بخلاف ما روى -في غير باب النسخ- يدل ذلك على قلة المبالاة والتهاون بالحديث؛ فيصير به ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل, ك"، والذي في صحيح مسلم -النسخة التي عندي- "وضوءه للصلاة"، وأنكر المؤلف بعد قليل وقوع لفظة وضوءه للصلاة في "صحيح مسلم"!. (¬2) "المجتبى" (1/ 138 رقم 255).

فاسقًا، فلا تقبل روايته أصلًا، وحاشى الأسود عن مثل ذلك، فإنه إمام جليل الشأن كثير العبادة، حتى قيل أنه حج ثمانين حجة، وكان ابنه عبد الرحمن يصلي كل يوم سبعمائة ركعة، وكانوا يستقلون ذلك بالنسبة إلى عبادة والده فإذا كان الأمر كذلك صار الحديث ما رواه إبراهيم النخعي عن الأسود لا ما رواه أبو إسحاق عنه، وهو معنى قوله: "ولكن الحديث من ذلك ما رواه إبراهيم". وإسناد هذا الخبر صحيح، ويوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، وأبو الأحوص سلاّم بن سليم الحنفي، ومغيرة بن مقسم الضبيّ الفقيه الأعمى. ص: وقد روى غير الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - ما يوافق ذلك: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس والليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا أراد أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوءه للصلاة". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: أنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: أنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى ... فذكر يإسناده مثله. حدثنا ربيعُ المؤذن، قال: نا بشر بن بكر، قال: أخبرني الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا عليُّ بن شيبة، قال: أنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - ... مثله، وزاد: "ويغسل فرجه". حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: نا أسد، قال: أنا ابن لهيعة، قال: أنا أبو الزبير، عن جابر، أن أبا عمرو مولى عائشة أخبره، عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - ... مثل حديث الزهري عن أبي سلمة.

فهذا غير الأسود قد روى عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - ما يُوافق ما روى إبراهيم، عن الأسود, عن عائشة، عن النبى - عليه السلام -. ش: أي قد روى غير الأسود بن يزيد، عن عائشة ما يوافق ما رواه الأسود عنها من أنه - عليه السلام - إذا أراد أن ينام وهو جنب كان يتوضأ وضوءه للصلاة، فهذا مما يقويّ رواية غير أبي إسحاق عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - أنه كان يتوضأ إذا أراد أن ينام وهو جنب، ثم إنه أخرج ذلك من ستة طرق صحاح، غير أن الطريق السادس فيه عبد الله بن لهيعة؛ فإن فيه مقالًا. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي والليث بن سعيد كلاهما، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، ومحمد بن رمح، قالا: نا الليث. ونا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام". وأخرجه النسائي (¬2) نحوه سواء: عن قتيبة بن سعيد. وابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن رمح، عن الليث. والحكمة في وضوئه - عليه السلام - تخفيف بعض الحدث. قال ابن أبي شيبة (¬4): نا ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن شداد بن أوس قال: "إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام فليتوضأ؛ فإنه نصف الجنابة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 248 رقم 305). (¬2) "المجتبى" (1/ 139 رقم 258). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 193 رقم 584). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 62 رقم 663).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي أبي نصر اليمامي ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، قال: نا هشام وشيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة أكان النبي - عليه السلام - يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم ويتوضأ". الثالث: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة. وأخرجه أحمد (¬2): من حديث يحيى، عن أبي سلمة، قال: "سألتُ عائشة هل كان النبي - عليه السلام - يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم، ويتوضأ وضوءه للصلاة". الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن بشر بن بكر التِّنِّيسي، عن عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - ... مثل الحديث المذكور. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا بهلول بن حكيم القرقساني، ثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا أراد أن ينام توضأ وضوءه للصلاة". الخامس: عن علي بن شيبة بن الصلت السَدُوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، وزاد في روايته: "ويغسل فرجَه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 109 رقم 282). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 128 رقم 25013). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 85 رقم 24599).

السادس: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله، عن أبي عَمرو ذكوان مولى عائشة، أخبره عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - ... مثل حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - من قولها مثل ذلك أيضًا: حدثنا يونس، قاله: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تقول: "إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام، فلا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة". حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا يحيي بن سعيد القطان، قال: أنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن عائشة - رضي الله عنها - مثله، وزاد: "فإنه لا يدري لعل نفسه تُصابُ في نومه". فمحال أن يكونَ عندَها من رسول الله - عليه السلام - خلافُ هذا، ثم تفتي بهذا، فثبت بما ذكرنا فساد ما روي عن الأسود مما ذكرنا، وثبت ما روي عن إبراهيم، عن الأسود. ش: أي قد روي عن عائشة من قولها عن نفسها وفتواها مثل ما روي عنها عن النبي - عليه السلام - أنه كان يتوضأ إذا أراد أن ينام وهو جنب. وأخرج ذلك عن طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام ابن عروة، عن أبيه عروة، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عثام بن علي، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "في الرجل تصيبه جنابة من الليل فيريد أن ينام، قالت: يتوضأ أو يتيمم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 63 رقم 676).

الثاني: عن يزيد بن سنان القزّاز البصري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إذا أراد أحدكم أن يرقد وهو جنب فليتوضأ؛ فإنه لا يدري لعله يُصابُ في منامه". قوله: "فإنه تعليل لقولها فليتوضأ" وأرادت بقولها "لعل نفسه تصاب" أنه يموت فجأة، أو يقع عليه هدم فيموت، أو يلذعه حيوان، ونحو ذلك من أسباب الموت، وهي كثيرة. قوله: "فمحال" مرفوع على أنه خبر لقوله: "أن يكون" لأن "أن" مصدرية في محل الرفع على الابتداء، والتقدير: كون حدوث هذا عندها محالٌ، فافهم. قوله: "فثبت بما ذكرنا" أي إذا كان الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا فساد حديث أبي إسحاق، عن الأسود، وثبت حديث إبراهيم النخعي عن الأسود، عن عائشة. ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون ما أراده أبو إسحاق في قوله: ولا يمسّ ماء يعني الغسل، فإن أبا حنيفة قد روي عنه من هذا شيء: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا معاذ بن فضالة، قال: نا يحيى بن أيوب، عن أبي حنيفة وموسى بن عقبة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، أنها قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُجامعُ، ثم يَعُود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل" فكان ما ذُكِر أنه - عليه السلام - لم يكن يفعله إذا جامع قبل نومه هو الغسل، فذلك لا ينفي الوضوء. ش: إلى هنا حكم بضعف حديث أبي إسحاق عن الأسود، وبَيَّنَ ذلك بوجوه كثيرة، ثم أشار إلى تأويل حديثه -على تقدير تسليم صحته-: تحريره أن يقال: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 62 رقم 661).

سلمنا أن ما رواه أبو إسحاق عن الأسود صحيح، ولكن تأويل قوله: "ولا يمسّ ماء" يعني لأجل الغسل لا لأجل الوضوء، وعدم مسّ الماء لأجل الغسل لا ينفي مسه لأجل الوضوء، وقد روي عن أبي حنيفة ما يقوي هذا التأويل، فعل كلا التقديرين يثبت المدعى وهو أن الجنب لا ينبغي له أن ينام إلا بعد أن يتوضأ. وقد قيل: إن المراد به أنه كان في بعض الأوقات لا يَمسّ ماءً أصلًا؛ لبيان الجواز، إذْ لو واظب عليه لَتُوهِّم الوجوبُ. ثم إسناد حديث أبي حنيفة صحيح؛ لأن رجاله ثقات يحتج بهم، ولا يلتفت إلى كلام ابن حزم في تضعيفه هذا الخبر. قوله: "يجامع" مفعوله محذوف، أي يجامع أهله، وأراد بالمجامعة الوطء، على سبيل الكناية. قوله: "ثم يعود" أي إلى الجماع مرة أخرى من غير تخلل بين الجماعين بوضوء، وهو معنى قوله ولا يتوضأ أي بين الجماعين. قوله: " وينام ولا يغتسل" أي على الفور، ولكن نومه قبل الاغتسال لا ينافي وضوءه قبل النوم، فيحمل على هذا حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة في قوله: "لا يمسّ ماء" يعني الغسل، وهو لا ينافي الوضوء. فإن قيل: روى مسلم (¬1) من حديث أبي سعيد: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ". ورواه الأربعة (¬2) أيضًا ورواه ابن خزيمة (¬3) بزيادة: "وضوءه للصلاة"، ثم قال: هذه لفظة تفرد بها شعبة، عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عندهما، وهذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 249 رقم 308). (¬2) أبو داود (1/ 56 رقم 220)، والترمذي (1/ 261 رقم 141)، والنسائي في "المجتبى" (1/ 142 رقم 262)، وابن ماجه (1/ 193 رقم 587). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 109 رقم 220).

يدل على أنه لا بد من الوضوء بين الجماعين، وحديث أبي حنيفة لا يدل على هذا. قلت: هذا الأمر للندب عند الجمهور، والدليل عليه حديث الطواف على ما نذكره، فإذن لا تعارض بين الحديثين؛ لأن حديث أبي حنيفة يبيِّن الجواز، وحديث غيره يبين استحباب الوضوء بين الجماعين، وتعلقت الظاهرية بظاهر الأمر، وقالوا: إنه واجب، وبه قال ابن حبيب المالكي. وقال ابن حزم في "المحلى": والوضوء فرض بين الجماعين، ثم قال: وبإيجاب الوضوء في ذلك قال عمر بن الخطاب، وعطاء، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وابن سيرين. وقال أبو عمر بن عبد البر: ما أعلم أحدًا من أهل العلم أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر، وأما سائر الفقهاء بالأمصار فلا يوجبونه، وأكثرهم يأمرون به، ويستحبونه. قلت: في كلام كل واحد من ابن حزم، وأبي عمر نظر، أما كلام ابن حزم فيعارضه ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، قال: وكان ابن سيرين يقول: لا أعلم بذلك بأسًا". وأما كلام أبي عمر فيرده ما حكاه النووي من أن ابن حبيب المالكي يرى بوجوب الوضوء بين الجماعين، على ما ذكرناه. فإن قيل: يعارض ما رواه مسلم وغيره ما رواه ابن عباس أنه - عليه السلام -[قال] (¬2) "إنما أمُرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 79 رقم 873). (¬2) ليست في "الأصل، ك".

أخرجه أبو عوانة في"صحيحه" (¬1). قلت: أجاب بعضهم بأن هذا كله مشروع جائز، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بالآخر، وأجاب بعضهم بأن المراد من قوله في رواية مسلم: "فليتوضأ" هو الوضوء اللغوي، والدليل عليه حديث [ابن عمر] (¬2) قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أقول أحدكم أهله فأراد أن يعود فليغسل فرجه". وقال ابن أبي شيبة (¬3)، ثنا عبدة بن سليمان، عن يحيي بن سعيد، عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا أتى أهله ثم أراد أن يعود غسل وجهه وذراعيه". قلت: فيه نظر لأن زيادة ابن خزيمة "وضوءه للصلاة" تنافي هذا الكلام، وأيضًا معنى قوله: "فليتوضأ" الوضوء المعهود؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، وحديث ابن عمر الصحيح أنه موقوف عليه، قاله الترمذي عن البخاري (¬4). أما حديث الطواف فما أخرجه البخاري وغيره، فقال البخاري (¬5): حدثنا محمَّد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، ثنا أنس - رضي الله عنه -: "كان النبي - عليه السلام - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: أَوَ كان يُطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطيَ قوة ثلاثين". وقال سعيد، عن قتادة، أن أنسًا حدثهم: "تسع نسوة". ¬

_ (¬1) "مسند أبي عوانة" (1/ 236 رقم 799)، وأخرجه أبو داود (345/ 3 رقم 3760)، الترمذي (4/ 282 رقم 1847)، والنسائي (1/ 85 رقم 132) و"أحمد في مسنده" (1/ 282 رقم 2549) و (1/ 359 رقم 3381) وغيرهم من حديث ابن عباس. (¬2) كذا في "الأصل، ك": والصواب أن هذا الحديث حديث عمر وليس ابنه كما في "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 192 رقم 1847)، والترمذي في "العلل" (1/ 61)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/ 34 رقم 67)، و"علل الدارقطني" (2/ 240 رقم 242). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 79 رقم 871). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، والذي في "علل الترمذي" للقاضي أبي طالب: (1/ 61) قال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال هو خطأ، ولا أدري من أبي المستهل، وإنما روى عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان بن ربيعة عن عمر قوله، وهو الصحيح. (¬5) "صحيح البخاري" (1/ 105 رقم 265).

وجاء في صحيح الإسماعيلي: من حديث أبي يعلى، عن أبي موسى، عن معاذ: "قوة أربعين" وفي "الحلية" (¬1) لأبي نعيم، عن مجاهد: "أعطي قوة أربعين رجلًا كل رجل من رجال أهل الجنة". وزعم المهلب أن دورانه - عليه السلام - هذا يحتمل أن يكون في يوم من القسمة ينتهي فيقرع في هذا اليوم لهن كلهن يجمعهّن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك عند إقباله من سفر حيث لا قسمة تلزم، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك بإذنهن أو بإذن صاحبة النوبة، هذا على قول مَن يرى أن القسم كان عليه واجبًا، وأما من لا يُوجبه فلا يحتاج إلى تأويل. وذكر ابن العربيّ: أن الله خصّ نبيّه - عليه السلام - في النكاح بأشياء، منها أنه أعطاه ساعةً لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميع أزواجه فيفعل ما يُريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدور لها. وفي "مسلم": عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر فلو اشتغل عنها لكانت بعد المغرب وغيره، والله أعلم. ص: وقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - مثل ذلك أيضًا. حدثنا علي بن زيد الفرائضي، قال: أنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر: "أن عُمر قال: يا رسول الله، أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم ويتوضأ". ش: أي قد روي عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثل ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وعلي بن زيد الفرائضي أبو الحسن الطرسوسي. ومحمد بن كثير أبو يوسف المِصيصي، فيه مقال لكن ابن مَعين صدّقه، وابن حبان وثقه. ¬

_ (¬1) لم أجده في "الحلية"، وعزاه الحافظ في "الفتح" (1/ 378) لأبي نعيم في "صفة الجنة" وهو أشبه بالصواب.

والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، والزهري محمَّد بن مسلم. وهذا الحديث أخرجه الجماعة على مما يأتي. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: أنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله، وزاد: "وضوئه للصلاة". ش: إسناده حسن جيّد. وأخرجه النسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: "يا رسول الله، أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: إذا توضأ". وأخرجه عبد الرزاق (¬2) بهذا الزيادة، ولكن بغير هذا الإسناد عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر سأل النبي - عليه السلام -: "أنامُ وأنا جُنب؟ فقال: توضأ وضوءك للصلاة". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: أنا سعيدُ بن سفيان الجحدري، قال: أنا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: إسناده حسن، وابن عون اسمه عبد الله بن عون بن أرطبان البصري. أخرجه ابن ماجه (¬3): نا نصر بن علي الجهضميّ، نا عبد الأعلى، نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله - عليه السلام -: "أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: أنا وهب بن جرير، قال: أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثله، وزادَ: "واغسل ذكرك". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 139 رقم 259). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 282 - رقم 1088). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 193 رقم 585).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): نا شعبة، عن عبد الله بن دينار، سمع ابن عمر، "أن عمر - رضي الله عنه -: سأل النبي - عليه السلام - عن الجنب ينام، فقال: اغسل ذكرك وتوضأ، ثم ارقد". وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "ذكر عمر لرسول الله - عليه السلام - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال رسول الله - عليه السلام -: توضأ واغسل ذكرك، ثم نم". وكذا أخرجه أبو داود (¬3): عن عبد الله بن مسلمة عن مالك ... إلى آخره. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أنا أبو حذيفة ح. وحدثنا علي بن شيبة، قال: نا أبو نعيم ح. وحدثنا حسين بن نصر، قال: نا الفريايّ. ثم أجمعوا جميعًا فقالوا: عن سفيان، عن عبد الله بن دينار ... فذكروا مثله بإسناده. ش: هذه ثلاث طرق صحاح. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النَهْدي أحد مشايخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر "أن عمر سأل النبي - عليه السلام - أيرقُد أحدنا وهو جنب؟ قال: إذا أراد أن ينام فليتوضأ، ويطعم إن شاء". ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 256 رقم 1878). (¬2) "المجتبى" (1/ 140 رقم 260). (¬3) "سنن أبي دود" (1/ 57 رقم 221).

الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا الفضل بن دكين، نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر قال: "سأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله - عليه السلام - وقال: تصيبني الجنابة من الليل، فأمره أن يغسل ذكره ويتوضأ ويرقد". الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬2): أنا عبد الله بن موسى، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: "سأل عمر النبي - عليه السلام - فقال: تصيبني الجنابة من الليل فأمره أن يغسل ذكره ويتوضأ ثم يرقد". قوله: "ثم أجمعوا" أي أبو حذيفة، وأبو نعيم، والفريابي، و"جميعًا" نصب على الحال، أي مجتمعين. ص: حدثنا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله. ش: إسناده على شرط الشيخين. وأخرجه البخاري (¬3): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أنه قال: "ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله - عليه السلام - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - عليه السلام -: توضأ واغسل ذكرك ثم نَمْ". وأخرجه مسلم (¬4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 116 رقم 5967). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 212 رقم 756). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 110 رقم 286). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 249 رقم 306).

وأبو داود (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن مالك ونحوه. ص: وقد روي عن عمّار بن ياسر، وأبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - أيضًا مثل ذلك. حدثنا أبو بكرة، قال: نا مؤملٌ، قال: نا حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن يحيي بن يعمر، عن عمار بن ياسر، قال: "رخصّ رسول الله - عليه السلام - للجنب إذا أراد أن ينام أو يشرب أو يأكل أن يتوضأ وضوءه للصلاة". حدثنا ربيعُ الجيزي، قال: أنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب ونافعُ بن يزيد -نحو ذلك- عن ابن الهَاد، عن عبد الله بن خَبّاب، عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: "قلت: يا رسول الله - عليه السلام -، أصيب أهلي وأريد النومَ، قال: توضأ وارقد". فقد تواترت الآثار عن النبي - عليه السلام - في الجنب إذا أراد النوم بما ذكرنا، وقد قال بذلك نفر من الصحابة من بعده، منهم عائشة - رضي الله عنها -، قد ذكرنا ذلك عنها من رأيها فيما تقدم من هذا الباب. ش: أي قد روي عن عمار، وأبي سعيد الخدري مرفوعًا مثل ما روي عن ابن عمر في وضوء الجنب إذا أراد النوم. وإسناد الحديثين صحيح، ومؤمل بن إسماعيل القرشي. وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم شيخ البخاريّ. وابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال ولكنه ذكر متابَعًا. ويحيي بن أيوب الغافقي المصريّ. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 57 رقم 221). (¬2) "المجتبى" (1/ 140 رقم 260).

ونافع بن يزيد الكلاعي المصري روى له الجماعة سوى الترمذي، البخاري مستشهدًا. وابنُ الهاد هو يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد المدني، روى له المجماعة. وعبد الله بن خباب الأنصاري، روى له الجماعة، وخَبّاب بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة، وفي آخره باء أخرى. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك، مشهور باسمه وكنيته. وحديث عمار أخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، قال: أنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - رخّص للجنب إذا أكل أو شرب أو نام أن يتوضأ". قال أبو داود: بين يحيى وعمار رجل. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة ... " إلى آخره نحوه، وفي آخره: "أن يتوضأ وضوءه للصلاة" كرواية الطحاوي. وحديث الخدريّ أخرجه ابن ماجه (¬3): نا أبو مروان الدمشقي محمَّد بن عثمان، نا عبد العزيز بن محمَّد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن عبد الله بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ: "أنه كان تصيبه الجنابة بالليل، فيريد أن ينام: فأمره رسول الله - عليه السلام - أن يتوضأ ثم ينام". قوله: "فقد تواترت الآثار" أي تكاثرت وتتابعت عن النبي - عليه السلام - ولم يرد به التواتر المصطلح عليه. قوله: "نفر" أي جماعة من الصحابة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 57 رقم 225). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 63 رقم 678). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 193 رقم 586).

قوله: "قد ذكرنا عنها من رأيها" أي عن عائشة، وهو الذي أخرجه عن يونس بن الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، وقد ذكره فيما مضى في هذا الباب. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن زَيْد بن ثابت: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابنُ لهيعة، عن ابن هُبَيْرة، عن قييصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: "إذا توضأ الجنب قبل أن ينام باتَ طاهرًا". فهذا زَيدُ بن ثابت يُخبر أنه إذا توضأ قبل أن ينام، ثم نام كان كمن اغتسل قبل أن ينام في الثواب الذي يكتب كمن بات على طهر. وقد ذكرنا في حديث الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة "أن النبى - عليه السلام - كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب توضأ"، وعن عمار بن ياسر ما يُوافق ذلك. ش: أي قد روي الوضوء للجنب الذي يريد النوم أيضًا، عن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -. ويونس هو ابن عبد الأعلى. وابن وهب هو عبد الله. وكذلك ابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال، وابن هبيرة أيضًا اسمه عبد الله، روى له الجماعة سوى البخاري، وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي أبو إسحاق المدني، قال البخاريّ: في حديثه نظر (¬1)، ووثقه ابن حبان. قوله: "بات طاهرًا" أي بات كالطاهر في حصول الثواب بالوضوء الذي توضأ، ¬

_ (¬1) هذا خطأ من المؤلف -رحمه الله-، فإن الذي قال فيه البخاري: "في حديثه نظر" هو قبيصة بن حريث وهو مذكور قبل هذا في كتاب "الكمال" لعبد الغني المقدسي وهو عمدة المؤلف في نقل تراجم أصحاب الكتب الستة كما تبين لي بالاستقراء من عملي في هذا الكتاب، وكتاب "شرح سنن أبي داود" للمؤلف أيضًا. أما قبيصة بن ذؤيب فهو عالم فقيه مشهور قال مكحول: ما رأيت أعلم من قبيصة بن ذؤيب، وقال ابن حبان: كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم. وقال ابن عبد البر: وكان له فقه وعلم، وله ترجمة حافلة في "تهذيب الكمال" (23/ 487).

وليس المراد أنه يبيت طاهرًا حقيقةً، ولا يطهر حقيقة إلا بالاغتسال، وفيه ترغيب عظيم للجنب الذي يريد النوم أن لا ينام إلا بعد الوضوء. قوله: "وقد ذكرنا في حديث الحكم" أشار بهذا الكلام إلى أنه كما بيّن حكم الجنب إذا أراد النوم هل يتوضأ أم لا، يُريدُ أن يُبيّن حكمه أيضًا إذا أرادَ أن يأكل، وقد كان ذكرَ الأكل في الحديث الذي رواه عن ابن مرزوق، عن بشر بن عمر، عن شعبة، عن الحكم بن عُتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا أرادَ أن ينامَ أو يأكل وهو جنب توضأ"، ومَهّد هذا الكلام حتى يُوطئ عليه الخلاف المذكور فيه بين العلماء. قوله: "وعن عمار بن ياسر ما يوافق ذلك" أي وقد ذكرنا أيضًا عن عمار بن ياسر ما يوافق حديث الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وهو الذي رواه الآن عن يحيى بن يعمر، عن عمار بن ياسر، قال: "رخّص رسول الله - عليه السلام - للجنب إذا أراد أن ينام أو يشرب أو يأكل أن يتوضأ". روى الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار بن ياسر، قال: "قدمت على أهلي من سفر، فضمخوني بالزعفران، فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله - عليه السلام -، فسلمت عليه فلم يُرحّب بي ولم يَبُش بي، وقال: أذهَبْ فاغِسلْ هذا عنك، فغسلتُه عني فجئته وقد بقي علي منه شيء، فسلمت عليه فلم يُرحّب بي، ولم يَبُشّ بي، وقال: اذهب فاغسل هذا عنك، فغسلته ثم أتيتُ رسول الله - عليه السلام - فسَلّمتُ عليه، فَردّ عليّ السلام ورحّبَ بي، فقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمّخَ بالزعفران، ولا الجنب، ورخّصَ للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أن يتوضأ". ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 90 رقم 646).

وأخرجه البيهقي (¬1) من طريق الطيالسي، وأخرج أبو داود (¬2) منه ترخيص الجنب فقط (¬3)، وقد ذكرناه، وكذا الطحاوي كما ذكر. ص: فذهب إلى هذا قومٌ فقالوا: لا ينبغي للجنب أن يطعم حتى يتوضأ. ش: أي إلى ما في حديث الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة من الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل، وأراد بالقوم هؤلاء: داود من الظاهرية، وأحمد بن حنبل، وبعض المالكيّة؛ فإنهم قالوا: لا ينبغي للجنب أن يأكل حتى يتوضأ. قوله: "أن يطعم" من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، ومعناه أكل، ومصدره طُعْم بالضم، وأما الطعم بالفتح فهو ما يؤديه الشيء من حلاوة ومرارة وغيرهما. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يطعم وإن لم يتوضأ. ش: أي وخالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيّب، ومجاهدًا، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا بأس للجنب أن يأكل وإن لم يتوضأ، وقد بَسطنا الكلام فيه في هذا الباب عند قوله: "فذهب قوم إلى هذا". ص: وكان لهم من الحجة في ذلك: أن فهدًا قد حدثنا، قال: حدثنا سُحَيم الحراني -وهو محمَّد بن القاسم- قال: أخبرنا عيسى بن يونس، قال: نا يونس بن يزيد الأيليّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل كفيّه". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 203 رقم 928). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 57 رقم 225). (¬3) بل أخرجه كاملًا كرواية الطيالسي مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه، انظر "سنن أبي داود" (4/ 79 رقم 4176).

وقد روى عن عائشة - رضي الله عنها - ما ذكرنا، ورَوي عنها خلافُ ذلك أيضًا مما روَينا عنها أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة، فلما تضادّ ذلك عنها احتمل ذلك عندنا -والله أعلم- أن يكون وضوءه حين كان يتوضأ في الوقت الذى ذكرنا في غير هذا الباب أنّه كان إذا رأى الماء يتكلّم، وكان يتوضأ ليتكلم، فيُسمي ويأكل، ثم نُسِخَ ذلك بغسل كفيه للتنظيف وتركَ الوضوءَ، وكذلك وضوءه - عليه السلام - عند النوم يحتملُ أن يكون كان يَفعلهُ أيضًا لينام على ذكر، ثم نُسِخَ ذلك، فأبيح للجنبُ ذكر الله -عز وجل- فارتفع المعنى الذي له تَوضّأ، وقد روينا في غير هذا الموضع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي - عليه السلام - خرج من الخلاء، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: أأريد الصلاة فأتوضأ؟! ". فأخبر أنه لا يتوضأ إلا للصلاة، ففى ذلك أيضًا نفي الوضوء عن الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو الشرب. ش: أي كان للآخرين من الحجة والبرهان فيما ذهبوا إليه حديث فهد الذي رواه عن عائشة، وقوله: "أن فهدًا" في تأويل المصدر في محل الرفع على أنه اسم "كان" وخبره مقدم، والتقدير: وكان تحديثُ فهدٍ إيانا بإسناده عن عائشة ثبت لهم من الحجة. وإسنادُه حسن، ورجاله ثقات. وسُحَيْم بضم السين وفتح الحاء المهملتين، وسكون الياء آخر الحروف، وهو لقب محمَّد بن القاسم، قال أبو حاتم: صدوق. وأخرجه أبو داود (¬1) ولكن عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة وقال: ثنا محمَّد بن الصباح البَزَّاز، قال: نا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوء الصلاة، وإذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 57 رقم 223).

وقال أبو داود: رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري كما قال ابن المبارك إلا أنه قال: عن عروة أو عن أبي سلمة. وأخرجه النسائي (¬1)، وابن ماجه (¬2) أيضًا كرواية أبى داود، وليس في روايتهما ذكر الوضوء للجنب إذا أراد النوم. قوله: "وقد روي عن عائشة ما ذكرنا وروي عنها خلاف ذلك أيضًا" أشار بذلك إلى أن الحديث الذي رواه هنا يُضَادِدُ الحديث الذي رواه عنها فيما سلف من أنه - عليه السلام - كان يتوضأ وضوءه للصلاة. ثم أشار إلى وجه التوفيق بينهما بقوله: "فلما تضاد ذلك عنها ... " إلى آخره، وتحريره: أن عائشة - رضي الله عنها - رَوَت عن النبي - عليه السلام - فعلين متضادين، حيث أخبرت في أحدهما: الوضوء كوضوء الصلاة، وفي الآخر الاقتصار على غسل الكفين، وهو وضوء غير تام، فإخبارها، بغسل الكفين بعد أن كانت علمت أنه - عليه السلام - أمر بالوضوء التامّ يدلّ على ثبوت النسخ عندها؛ لأن وضوءه - عليه السلام - كان فيما إذا كان رأى الماء لم يتكلّم، فيتوضأ ليتكلّم، فيسمِّي ويأكل، وغَسْلُ كفيه كان بعدَ ذلك، فاكتفاؤه - عليه السلام - بذلك بعد ذلك يَدلُّ على ثُبوت نسخ الأول. وكذلك وضوءه - عليه السلام - عند النوم كان لينام على ذكر، وذلك حين كانَ ذكر الله مُحرَّمًا على الجنب، ثم نُسخ بحديث عائشة: "كان رسول الله - عليه السلام - يذكر الله على كل أحيانه". أخرجه مسلم (¬3)، وغيره فأبيح للجنب أن يذكر الله تعالى. قوله: "وقد روينا في غير هذا الموضع عن ابن عباس إلى آخره" تأييد لما ذكره من ثبوت النسخ في وضوء الجنب للأكل، بيانُه: "أنه - عليه السلام - لما خرج من الخلاء، فقيل ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 139 رقم 256، 257). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 193 رقم 584). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 282 رقم 373).

له: ألا تتوضأ؟ فقال: أأريد الصلاة فأتوضأ؟! " فأخبر أنه لا يتوضأ إلا لأجل الصلاة، ففيه نفي الوضوء عن الجنب مطلقًا، سواء أراد النومَ أو الأكل أو الشرب، فإذا ارتفع الوجوب، يبقى الندب والاستحباب. ص: ومما يدل على نسخ ذلك أيضًا أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد روى ما ذكرنا "عن النبي - عليه السلام - في جوابه لعمر - رضي الله عنه -، ثم جاء عنه أنه قال بعد النبي - عليه السلام - ما حدثنا به محمد بن خزيمة، قال: أنا حجاج، قال: أنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "إذا أجنب الرجل، وأراد أن يأكل أو يشرب أو ينَام غسل كفَّيه، وتمضمض، واستنشق، وغسل وَجْهه، وذراعيه، وغسل فرجه، ولم يغسل قدميه". فهذا وضوء غير تامّ، وقد عَلِمَ أن النبي - عليه السلام - أمر في ذلك بوضوء تامّ، ولا يكون هذا إلا وقد ثبت النسخ كذلك عنده. ش: أي من جملة ما يدل على نسخ الوضوء التام للجنب إذا أراد أن يأكل: ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا أجنب الرجل ... إلي آخره"، فإن قوله هذا بعد علمه أن النبي - عليه السلام - أمَر بالوضوء التامّ للجنب وذلك في جواب النبي - عليه السلام - لعمر بن الخطاب لما سأله - عليه السلام - "أيرقد أحدنا وهو جنب، قال: نعم؛ إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب" وفي رواية: "وضوءه للصلاة" على ما مَرَّ عن قريب في هذا الباب يدل على ثبوت النسخ عنده؛ لأن الراوي إذا روى شيئًا عن النبي - عليه السلام - أو علمه منه، ثم فعل أو أفتى بخلافه يَدُلّ على أن ذلك قد أنتسخ، إذْ لو لم يثبتا ذلك لما كان له الإقدام على خلافه. ثم إسنادُ ما روي عن ابن عمر صحيح، وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة، وأيّوب السختياني. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) [عن] (¬2) إسماعيل بن عليّة، عن أيوب، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 62 رقم 660). (¬2) تكررت في "الأصل".

نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب، غسل وجهَه ويديه، ومسح برأسها". وروى مالك (¬1) عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا أراد أن يطعم أو ينام وهو جنب، غسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم طعم أو نام". ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - في الرجل يجامعُ أهله ثم يريد المعاودة، ما قد حدثنا حسين بن نصر، قال: نا يحيى بن حسان، قال: نا أبو الأحوص، عن عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أرادَ أن يعود فلا يعود حتى يتوضأ". حدثنا يزيد بن سنان، قال: نا يوسف بن يعقوب، قال: نا شعبة، عن عاصم ... ثم ذكر مثله بإسناده. فقد يجوز أن يكون أمر: بهذا في حال ما كان الجنب لا يستطيع ذكر الله حتى يتوضأ، فأمر بالوضوء ليُسَمّي عند جماعه كما أمرهم النبي - عليه السلام - في غير هذا الحديث، ثم رخص لهم أن يتكلموا بذكر الله وهم جنب، فارتفع ذلك وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنه كان يجامع ثم يعود ولا يتوضأ" وقد ذكرنا ذلك في هذا الباب فهذا عندنا نسخ لذلك. ش: ذكر هذا جوابًا عن سؤال مقدَّر تقريره: أن يُقال: إنكم قلتم: إن الجنب ليس عليه وضوء إلى أن يغتسل، وهذا حديث أبي سعيد يخبر أن الجنب إذا أراد أن يعود إلى أهله فلا يعود حتى يتوضأ، فأجاب عنه بقوله فقد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - أمر بالوضوء للجنب إذا أراد العود حين كان ذكر الله محرمًا عليه بلا وضوء، فأمره بالوضوء لأنه يُسمّي عند جماعه، كما أمر للجنب في غير هذا الحديث أن يتوضأ عند الأكل أو الشرب أو النوم، ثم لَمَّا رخصّ لهم بذكر الله وهم جنب، ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 48 رقم 109).

عُلِمَ أن ما كان من ذلك أولًا قد انتسخ وارتفع؛ لأن الحكم المتأخر ينسخ الحكم المتقدم بلا شك في قضيتين متنافيتين. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين ورجاله رجال الصحيح ما خلا حسين بن نصر ويزيد بن سنان. وأبو الأحوص سلاّم بن سُليم الحنفي الكوفي. وعاصم هو ابن سليمان الأحول. وأبو المتوكل الناجي اسمه علي بن داود، وقيل دُؤاد. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا حفص بن غياث. ونا أبو كريب، قال: أنا ابن أبي زائدة. وحدثني عَمرو الناقد وابن نمير، قالا: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، كلهم عن عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ". زاد أبو بكر في حديثه: "بينهما وضوءًا"، وقال: "ثم أراد أن [يُعاود] (¬2) ". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا عمرو بن عون، قال: نا حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم بدا له أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا". وأخرجه الترمذي (¬4): عن هناد، عن حفص ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 249 رقم 308). (¬2) في "الأصل، ك": يعاوده، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 56 رقم 220). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 261 رقم 141).

والنسائي (¬1): عن الحسين بن حريث، عن سفيان، عن عاصم ... إلى آخره. وابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن عبد الملك، عن عبد الواحد بن زياد، عن عاصم ... إلى آخره. قوله: "ثم بدا له" أي ثم ظهر له أن يعاود في الجماع. ص: فإن قال قائل: فقد روي عنه أنه كان يطوف على نسائه، فيغتسل كلما جامع واحدةً منهن، وذكر في ذلك ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أنا عفان وأبو الوليد، قالا: ثنا حماد بن سلمة ح. وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: أنا يحيى بن حسان، قال: نا حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا طاف على نسائه في يوم، فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه، فقيل: يا رسول الله، لو جعلته غسلًا واحدًا، فقال: هذا أزكى وأطهر وأطيب". قيل له: في هذا ما يدلّ على أن ذلك لم يكن على الوجوب لقوله - عليه السلام -: "هذا أزكى وأطهر وأطيب". ش: تحرير السؤال أن يقال: إنكم نفيتم وجوب الوضوء بين الجماعين وادعيتم أن ما كان منه قد انتسخ حكمه فهذا عندنا ما ينافي كلامكم، وهو أن النبي - عليه السلام - كان يطوف على نسائه كلهن في يوم واحد يغتسل عقيب كل جماع، ولا يعاود إلى الأخرى إلا بالطهارة، فهذا يدل على أن الوضوء واجب؛ لأنه - عليه السلام - لما لم يترك في هذه الحالة الطهارة الكبرى فبالطريق الأولى أن لا يترك الطهارة الصغرى. والجواب: أنه - عليه السلام - ما كان إلى هذا على أنه واجب، بل لكونه أزكى أي أمدح إلى الله تعالى وأطهر للبدن، وأطيب للقلب، وليس فيه ما يدل على الوجوب، ويؤيد ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 142 رقم 262). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 193 رقم 587).

ذلك ما روي أنه - عليه السلام - كان يطوف على نسائه بغسل واحد على ما يجيء الآن، ثم إنه أخرج حديث أبي رافع من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى أخت أبي رافع، عن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام -، واسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، القبطي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع: "أن النبي - عليه السلام - طاف ذات ليلة على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، فقلت: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر". والثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن حماد ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي لي "سُننه" (¬2): من حديث حماد بن سلمة ... إلى آخره نحوه. فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟ قلت: صححه ابن حزم، ويفهم من كلام أبي داود أيضًا أنه صحيح عنده؛ لأنه لما روى حديث أنس الذي رواه مسلم عن مسكين بن بكير، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس: "أن- النبي - عليه السلام - كان يَطوفُ على نسائه بغسل واحد"، قال: حديث أنس أصح؛ فيفهم منه أن حديث أبي رافع صحيح، ولكن حديث أنس أصح منه (¬3)، فلا يلتفت إلى تضعيف ابن القطان إياه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 56 رقم 219). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 204 رقم 933). (¬3) في هذا الكلام نظر، فقد يكون حديث أبي رافع ضعيف عنده ولذلك قال؛ حديث أنس أصح منه، وقد يكون الحديثان ضعيفان عنده أيضًا ولكن حديث أنس أخف ضعفًا؛ فقال: =

ص: وقد روي أنه - عليه السلام - طاف على نسائه في غسل واحد: حدثنا يونس بن عبد الأعلى وبحرٌ، قالا: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عيسى بن يونس ح. وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا عيسى، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - طاف على نسائه بغسل واحدٍ". حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا قييصة بن عقبة، قال: أنا سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. وحدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، نا هُشَيْم، عن حميد، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. وحدثنا أحمد بن داود، قال: نا سُليْمان بن حَربْ، قال: نا حماد بن سلمة ح. وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس, النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: ذكر هذا الحديث تأييدًا لقوله: إن غُسله - عليه السلام - عند جماع كل امرأة في طوافه في يوم واحد كان على طريق الاستحباب لا الوجوب، إذا لو كان ذاك واجبًا لفعله دائمًا، وحديث أنس أنه كان يطوف على نسائه بغسل واحد صريح على أن الغسل عند كل جماع ليس بواجب. ¬

_ = حديث أنس أصح منه ومن المعلوم في علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل أن قول العالم: هذا الحديث أصح من هذا، ليس معناه أنه صحيح بل قد يكون الحديثان ضعيفين ولذلك فهم الحافظ ابن حجر أن قول أبي داود هذا طعن في حديث أبي رافع فقال في "تلخيص الحبير" (1/ 141): وهذا الحديث طعن فيه أبو داود فقال حديث أنس أصح منه. وهذا أيضًا غير مسلم.

ثم إنه أخرج حديث أنس من ثمان طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني، كلاهما عن يحيى بن حسان التنيسي. عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. عن صالح بن أبي الأخضر اليمامي مولى هشام ابن عبد الملك، ضعّفه ابن معين وأبو زرعة، وعن البخاريّ: لين، وعنه: ليس بشيء. عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أنس بن مالك. وأخرجه أبو داود (¬1): من طريق صالح بن أبي الأخضر معلقًا. الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود البرلُّسي. عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري. عن عيسى بن يونس. عن صالح ... إلى آخره. الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت. عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري. عن سفيان الثوري. عن معمر بن راشد. عن قتادة بن دعامة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - طاف على نسائه في غسل واحد". الرابع: عن فهد بن سليمان. عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 56 رقم 218). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 185 رقم 12948).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمَّد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يطوف على نسائه في غسل واحد". الخامس: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبى شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم وابنُ علية، عن حميد، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد". السادس: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬3): أنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس "أن رسول الله - عليه السلام - طاف على نسائه في يوم واحد". السابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد. عن عبيد الله بن محمَّد بن حفص بن عمر القرشي التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بالعيشي، وبالعايشي، وبابن عائشة. عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4)، ثنا أبو كامل، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - طاف على نسائه جمع في يوم واحد". الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود، عن حيوة بن شريح، عن بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي، عن شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك، عن جده أنس. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 194 رقم 588). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 136 رقم 1561). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 211 رقم 753). (¬4) "مسند أحمد" (3/ 160 رقم 12653).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، قال: نا مسكين -يعني ابن بكير الحذّاء- عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس "أن النبي - عليه السلام - كان يطوف على نسائه بغسل واحد". وهذه الطرق كلها صحاح، غير أن في الطريق الأول صالح بن أبي الأخضر فإن فيه مقالا، وقد ذكرناه. قوله: "طاف على نسائه" من طاف حول الشيء إذا دار، وأراد بنسائه جميع نسائه، وهن إحدى عشرة على ما صرّح به البخاري في روايته، وعن سعيد، عن قتادة: "تسع نسوة"، وعن ابن خزيمة: لم يقل أحد من أصحاب قتادة: "إحدى عشرة" إلا معاذ عن أبيه. قلت: الروايتان ليس بينهما خلاف؛ لأن نسوته - عليه السلام - كنّ تسعًا، وريحانة، ومارية سريتان، فسعيد لمح إلى المدخول بهن من الحرائر، وهشام أراد الموطوءات مطلقًا. وقال أبو عبيدة: إن فاطمة بنت شريح، وريحانه زوجتان؛ فحينئذ يصرن إحدى عشرة. وقال ابن حبان: حكى أنس - رضي الله عنه - هذا الفعل منه - عليه السلام - في أول قدومه المدينة، حيث كان تحته تسع نسوة؛ لأن هذا الفعل كان منه مرارًا لا مرةً واحدةً، ولا نعلم أنه كان تزوّج نسائه كلهن في وقت واحد، ولا يستقيم هذا إلا في آخر أمره، حيث اجتمع عنده تسع نسوة، وجاريتان، ولا نعلم أنه اجتمع عنده إحدى عشرة امرأةً بالتزويج، فإنه تزوج بإحدى عشرة أولهن خديجة، ولم يتزوج بعدها حتى ماتت. قلت: لا خلاف أنه - عليه السلام - توفي عن تسع نسوة، وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق التَيْميّة، وحفصةُ بنت عمر بن الخطاب العَدوّية، وأم حبيبة رَملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأُمَوّية، وزينب بنت جحش الأسدية، وأم سلَمة هِند بنت أبي أمية المخزومية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وسَوَدةُ بنت زمعة ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 249 رقم 309).

العامِرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصَفِيَّةُ بنت حييّ بن أخطب النضريّة الإسرائيلية الهارُونيّة رضي الله عنهن. وقد اختلفوا في عِدّة أزواج النبي - عليه السلام -، وفي ترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن دخل بها، ومَنْ لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومَنْ عرضت نفسها عليه. فقالوا: أول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم جويرية، ثم زينب [بنت] (¬1) جحش، ثم زينب بنت خزيمة، ثم ريحانة بنت زيد، ثم أم حبيبة، ثم صفية، ثم ميمونة، وتزوج فاطمة بنت الضحاك، وأسماء بنت النعمان. وفيه اختلاف كثير، إلا أن المتفق عليه: أنهن إحدى عشرة امرأةً: خديجة، وسودة، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة، وجويرية، وميمونة، وصفيّة. مات منهن في حياته - عليه السلام - خديجة، وزينب بنت خزيمة، ومات رسول الله - عليه السلام - عن الباقيات، وهن تسع كما ذكرنا. ماتت خديجة بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع، وقيل: بثلاث، وهو الصحيح، وكان لها من العمر خمس وستون سنة، وكانت مدة مقامها مع رسول الله - عليه السلام - خمسًا وعشرين سنة، ودفنت بالحَجُون. وماتت سودة بنت زمعة بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. وماتت عائشة بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلًا فدفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية بن أبي سفيان. وماتت حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان سنة خمس وأربعين، وهي ابنة ستين سنة. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل".

وماتت زينب بنت خزيمة في ربيع الآخر سنة أربع، ودفنت بالبقيع. وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، وكان عمرها أربعًا وثمانين سنة. وماتت زينب بنت جحش بالمدينة سنة عشرين، ولها ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وماتت أم حبيبة بنت أبي سفيان بالمدينة سنة أربع وأربعين. وماتت جويرية بنت الحارث في ربيع الأول سنة ست وخمسين ولها خمس وستون سنة. وماتت ميمونة بنت الحارث بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة ست وخمسين، ولها خمس وستون سنة. وماتت صفية بنت حُييّ بالمدينة سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين والله أعلم. ثم يستفاد من هذا الحديث: أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة، وهذا بالإجماع. فإن قيل: ما يثبت وجوب الغسل؟ قلت: الجنابة مع إرادة القيام إلى الصلاة كما أنه سبب الوضوء الحدث مع إرادة القيام إلى الصلاة، وليست الجنابة وحدها كما هو مذهب بعض الشافعية، وإِلَّا يلزم أن يجب الغسل عقيب الجماع، والحديث ينافي هذا, ولا مجرد إرادة الصلاة وإِلَّا يلزم أن يجب الغسل بدون الجنابة. ويستفاد أيضًا: عدم كراهة كثرة الجماع عند القدرة، وجواز الاكتفاء بغسل واحد عقيب جماع متعدد، وفيه تلويح إلى أن الوضوء بين الجماعين ليس بواجب، وما روي [من] (¬1) الأمر به فمنسوخ، كما قد بيناه مستقصىً. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عن.

ص: كتاب الصلاة

ص: كتاب الصلاة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة، شرع في بيان الصلاة بأنواعها التي هي المشروطة، والشرط مقدم على المشروط، وقدمها على الزكاة، والصوم، وغيرهما لما أنها تالية الإيمان وثانيته في الكتاب والسنة، ولشدة الاحتياج وعمومه إلى تعلمها؛ لكثرة وقوعها ودورانها، بخلاف غيرها من العبادات. وهي في اللغة: من تحريك الصلوين، وهما العظمان الناتئان عند العجيزة، وقيل: من الدعاء. فإن كانت من الأول تكون من الأسماء المغيّرة شرعا المقررة لغةً. وإن كانت من الثاني تكون من الأسماء المنقولة. وفي الشرع: عبارة عن الأركان المعلومة، والأفعال المخصوصة. وقال ابن الأثير: وأصلها في اللغة الدعاء، فسمّيت ببعض أجزائها، وقيل: إن أصلها في اللغة التعظيم، وسمّيت العبادة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الربّ انتهى. وقيل: إن أصلها من الاستقامة، تقول: صلّيت العُود إذا قومته، وقيل: من الرحمة، وقيل: من التقرب، من شاة مصلية وهي التي قربّت إلى النار، وقيل: من اللزوم، قال الزجاج: يقال صَلى، واصطلى إذا لزم. وأنكر غير واحدٍ بعض هذه الاشتقاقات؛ لأن "لام" الكلمة في الصلاة "واو"، وفي بعض هذه الأقوال لامها "ياء"؛ فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف. قلت: إن أراد به الاشتقاق الصغير فمسلّم، وإن أراد به الاشتقاق الكبير أو الأكثر، فلا يمتنع ذلك، فافهم. فإن قيل: متى فرضت الصلاة؟ وكيف فرضت؟ ومتى فرض الوضوء؟ وكيف فرض؟

قلت: جاء في "مسند الحارث بن أبي أسامة" (¬1) من حديث أسامة بن زيد "أن جبريل - عليه السلام - أتاه في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء، والصلاة". ورواه ابن ماجه (¬2) بلفظ "علمني جبريل الوضوء، وذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاةً قبل غروب الشمس، وصلاةً قبل طلوعها، قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬3). وذكر الحكيم أبو عبد الله الترمذي في كتاب الصلاة: إن أول فرض كتب على هذه إلامة: الصلاة، وأهلها مسئولون عنها يوم القيامة في أول جسر من الجسور السبعة، وقال مقاتل: كان فرضها ركعتين ركعتين، وقال القزاز: فرضت الصلاة أولًا ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وهما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى البردين دخل الجنة" (¬4)، إلى ليلة الإسراء فرضت على الخمس بغير أوقات فكان الرجل يصليها في وقت واحد إن شاء، وإن شاء فرقها، ثم لما هاجر صلاها ركعتين ركعتين بأوقات، ثم زيد في صلاة الحضر، وفرض الوضوء والغسل. انتهى كلامه. وقال أبو عمر: روي عن ابن عباس أن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وكذلك قال نافع بن جُبير، والحسنُ، وهو قول ابن جريج. وقال ابن حزم: لم يأت قط أثر -يعني صحيحًا- أن الوضوء كان فرضًا بمكة شرفها الله تعالى. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في "زوائد مسند الحارث" (1/ 120 رقم 72). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 157 رقم 462). (¬3) في "الأصل": وسبح بحمد ربك، وهو خطأ، ونص الآية في سورة آل عمران، آية (41): {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. (¬4) متفق عليه من حديث أبي موسى، رواه البخاري (1/ 210 رقم 548)، ومسلم (1/ 440 رقم 635).

قلت: روى الطبراني في "الكبير" (¬1)، والدراقطني (¬2): "أن جبريل - عليه السلام - نزل على رسول الله - عليه السلام - بأعلى مكة فهمز له بعقبه فأنبع الماء، وعلّمه الوضوء". وقال السُّهيلي: الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة. وفي بعض شروح البخاريّ: وفي بعض الأحاديث أنه - عليه السلام - صلى في أول النبوة عند زوال الشمس. وقال القرطبي وعياض: لا خلاف أن خديجة - رضي الله عنها - صلت مع النبي - عليه السلام - بعد فرض الصلاة، وأنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، والعلماء مجمعون أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، وفي كتاب الزبير بن بكار عن عائشة - رضي الله عنها -: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. انتهى. قلت: لعلها أرادت فرضها ليلة الإسراء. وقيل: إنها توفيت في شوال سنة عشر بعد أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة، وقيل: في رمضان قبل الهجرة بأربع سنين. وفي الصحيح (¬3): "فرضت الصلاة بمكة ركعتين ركعتين، فلما هاجر فرضت أربعًا وأقرت صلاة السفر"، وفي رواية: "بعد الهجرة بسنة"، وفي مسند أحمد (¬4): "فرضت ركعتان ركعتان، إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا". وزعم ابن عبد البر أن قول عائشة - رضي الله عنها -: "فرضت" أي قدرت، والفرض في اللّغة التقدير. وزعم السهيلي أن الزيادة تسمّى نسخًا؛ لأن النسخ رفع الحكم، فقد ارتفع حكم ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 85 رقم 34657). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 111 رقم 1). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 137 رقم 343) بنحوه من حديث عائشة. وكذا رواه مسلم في "صحيحه" (1/ 487 رقم 685). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 272 رقم 26381).

الإجزاء بالركعتين، وأما الزيادة في عدد الصلوات حين أكملت خمسًا بعد أن كانت اثنتن اثنتين فكذلك ارتفع حكم الصلاتين يعني صلاة العشى، وصلاة الإبكار. وفي صحيح البخاري (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها -: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر". وذكر أن الصلوات زيدت فيها ركعتان ركعتان، وزيد في المغرب ركعة. فإن قيل: هذا يعارض قوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2) فيدل أن صلاة السفر كانت كاملة؛ إذْ لا يجوز أن يؤمروا بالقصر إلا من شيء تامّ قبل القصر، والدليل على ذلك أنه - عليه السلام - صلى بالناس يوم أنزلت صلاة الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين. قلت: قال الطحاوي -رحمه الله-: لا تعارض بينهما؛ لجواز أن يكون فرض الصلاة كان ركعتين في الحضر والسفر فلما زيد في صلاة الحضر قيل لهم إذا ضربتم في الأرض فصلوا ركعتين مثل الفريضة الأولى. وقال ابن بطال: قال جماعة من العلماء لم يكن على نبينا صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أُمِرَ به من قيام الليل من غير تحديد ركعات معلومة ولا وقت محصور، وقام المسلمون معه نحو حَوْل حتى شق عليهم، فأنزل الله التخفيف عنهم، قال ابن عباس: لما نزلتَ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (¬3) كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في رمضان حتى نزل آخرها بعد حول. وزعم ابن عباس، ونافع بن جبير بن مُطعم، وابن جريج: أن الصلاة فرضت أولًا أربعًا أربعًا، وفي السفر ركعتين ركعتين. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 137 رقم 343) بنحوه من حديث عائشة. وكذا رواه مسلم في "صحيحه" (1/ 487 رقم 685). (¬2) سورة النساء، آية رقم [101]. (¬3) سورة المزمل، آية: [1].

وذكر عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": ثنا أسد بن موسى، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: "أن رسول الله - عليه السلام - لما جاء بالخمس صلوات إلى قومه خلّى عنهم حتى إذا زالت الشمس عن بطن السماء نُودي فيهم: الصلاة جامعة. ففزعوا لذلك، فاجتمعوا فصلى بهم الظهر أربع ركعات لا يُعلن فيها بالقراءة، أطال الأولتين، وخفف الأخُرتين، جبريل - عليه السلام - بين يدي النبي - عليه السلام -، ونبي الله بين أيدي الناس يقتدي الناس به، ويقتدي نبيّ الله بجبريل - عليه السلام -، ثم خلّى عنهم حتى إذا تصوبت الشمس وهي بيضاء نقية نودي فيهم: الصلاة جامعة، فاجتمعوا لذلك فصل بعهم العصر أربع ركعات ... " الحديث، وفي المغرب ثلاثًا، وفي العشاء أربعًا كصلاة اليوم، وفي الصبح ركعتين. ثم اعلم أنه لا خلاف أنّ الصلوات الخمس فرضت ليلة المعراج، روى البيهقي من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: "أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه إلى المدينة بسنة". وعن السدي: فرض رسول الله - عليه السلام - الخمس ببيت المقدس ليلة أُسريَ به قبل مهاجره بستة عشر شهرًا، فعلى قوله يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري يكون في ربيع الأول، وعن جابر وابن عباس - رضي الله عنهم -، قالا: وُلِدَ رسول الله - عليه السلام - عامَ الفِيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه هاجر، وفيه مات" رواه ابن أبي شيبة، قيل: كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته. ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهي ليلة الرغائب التي أُحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك. ثم اختلفوا في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حِدَةٍ، منهم من زعم أن الإسراء في اليقظة، والمعراج في المنام، وقيل كان الإسراء مرتين مرةً بروحه منامًا، ومرةً بروحه وبَدنه يَقظةً، ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضًا حتى قال: إنها أربع إسراءات، وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة.

ووفق أبو شامة بين هذه الروايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعل ثلاث إسراءات مرةً من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضًا، ومرةً من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات. والله أعلم.

ص: باب: الأذان كيف هو

ص: باب: الأذان كيف هو ش: أي هذا باب في بيان كيفية الأذان، وقدّمه على الأوقات لأنه إعلام، وتلك أَعلام؛ فقدم الإِعلام لِتلك الأَعلام، وهو اسم للتأذين، من آَذَنَ يُؤْذِنُ إيذانًا، وأَذَّنَ يؤذِّن تأذينًا، والمشدد مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة. ومعناه الشرعي: إعلام مخصوص في أوقات مخصوصة، وسببه دخول وقت المكتوبة، وفي السنة الأولى من الهجرة شُرع الأذان، ويقال: وفي السنة الثانية من الهجرة، رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاريّ صورة الأذان في النوم، وورد الوحي به، وروى السهيلي بسنده من طريق البزار، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فذكر حديث الإسراء، وفيه: "فخرج ملك من وراء الحجاب، فَأّذَّن بهذا الأذان، وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى ثم أخذ الملك بيد محمد - عليه السلام - فقدّمه فأمّ بأهل السماء وفيهم آدم ونوح - عليهم السلام -" ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحًا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء. وقال ابن كثير: فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفّرد به زيادُ بن المنذر أبو الجارود، الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله - عليه السلام - ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة. ص: حدثنا عليّ بن معبد بن نوح وعلي بن شيبة بن الصلت، قالا: ثنا روح ابن عُبادة القيسي (ح). وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة، قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عثمان بن السائب. قال: أبو عاصم في حديثه: أخبرني أبي وأم عبد الملك [بن أبي محذورة -يعني عن أبي محذورة- قال روح في حديثه: عن أم عبد الملك بن أبي محذورة] (¬1) عن أبي محذورة قال: "علّمني ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

رسول الله - عليه السلام - الأذان كما تؤذنون الآن: الله كبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن لا إله الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله كبر، الله كبر، لا إله إلا الله". قال روح في حديثه: أخبرني عثمان هذا الخبر كله عن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنها سمعت ذلك من أبي محذورة. وقال أبو عاصم في حديثه: وأخبرني هذا الخبر كله عثمان بن السائب عن أبيه، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنهما سمعا ذلك من أبي محذورة. حدثنا عليُّ وعليُّ قالا: ثنا روح، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة، أن عبد الله بن مُحيْريز حدثه -وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة- قال: أخبرني أبو محذورة: "أن رسول الله - عليه السلام - قال له: قم فأذِن بالصلاة، فقمت بين يَدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألْقيَ عَليّ التأذين هو بنفسه ... " ثم ذكر مثل التأذين الأول في الحديث الأول. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن علي بن مَعبد بن نوح المصري الصغير، وثقه العجلي وابن حبان. وعلي بن شيبة الصلت السدُوسي المصري وكلاهما نزيلان في العصر، بغداديان في الأصل، يَرْويان عن رَوْح بن عبادة بن العلاء القيسي البصري، روى له الجماعة. وهو يروي عن عبد الملك بن جريج المكي، روى له الجماعة. عن عثمان بن السائب الجمحي المكي مولى أبي محذورة، وثقه ابن حبان. عن أم عبد الملك، ذكرها في "الميزان" فيمن لم تُسمّ، وقال: تفردّ عنها عثمان ابن السائب.

وهي تروي عن أبي محذورة القرشي المكي المؤذن الصحابي، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فقيل اسمه أوس. وقيل: سمرة. وقيل: سلمة. وقيل: سلمان. واسم أبيه مِعْيَر -بكسر الميم وسكون العن وفتح الياء آخر الحروف وفي آخره راء- وقال أبو عمر: قد ضبطه بعضهم مُعَيَّن -بضم الميم وتشديد الياء وفي آخره نون-. وقيل: عمير بن لَوْدان بن وهب بن سَعْد بن جمح، وقيل غير ذلك. وأخرجه البيهقي (¬1) بأتم منه من حديث روح بن عبادة قال: قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة قال: "لما رجع رسول الله - عليه السلام - من حنين، خرجتُ عاشر عشرة من مكة أَطْلُبهم، فسمعتهم يؤذنون [للصلاة] (¬2) فقمنا نؤذن ونستهزئ بهم، فقام النبي - عليه السلام - فقال: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذَّنَّا رجالًا رجالًا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: تعال، فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي وبارك عليّ ثلاث مرات، ثم قال: اذهب فأَذِّن عند البيت الحرام. قلت: كيف يا رسول الله - عليه السلام -؟ فعلّمني الأذان كما يؤذن الآن بها: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم -في الأولى من الصبح- الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وعلمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". قال ابن جريج: أخبرني هذا كله عثمان عن أم عبد الملك أنها سمعت ذلك من أبي محذورة، كذا رواه رَوْحٌ. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 417 رقم 1824). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

الطريق الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عثمان بن السائب. عن أبيه السائب، وثقه ابن حبان وذكره ابن أبي حاتم فقال: سائب والد عثمان غير منسوب، روى عنه ابنه عثمان، وسكت عنه. وعثمان هذا روى هذا الحديث في رواية أبي عاصم النبيل عن أبيه السائب وعن أم عبد الملك، كلاهما يَرويان عن أبي محذورة. الطريق الثالث: عن علي بن معبد وعلي بن شيبة، وكلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن عبد الله بن محيريز المكي يتيم أبي محذورة، عن أبي محذورة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا ابن جريج، أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذورة -يعني عبد العزيز- عن ابن محيريز، عن أبي محذورة قال: "ألقي عليَّ رسول الله - عليه السلام - التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر (¬2)، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". وأخرج مسلم (¬3) أيضًا: عن ابن محيريز وفيه التكبير مرتان في أوله والترجيع أيضًا، وقال: حدثني أبو غسان المِسْمَعي مالك بن عبد الواحد وإسحاق بن إبراهيم -قال أبو غسان: ثنا معاذ، وقال إسحاق: أنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي- قال: حدثني أبي، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة: "أن نبي الله - عليه السلام - علمه هذا الأذان: الله أكبر الله أكبر، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 137 رقم 503). (¬2) كذا "بالأصل، ك" مرتين، وفي "سنن أبي داود" النسخة المطبوعة بتكرار التكبير أربع مرات. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 287 رقم 379).

أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة -مرتين- حي على الفلاح -مرتين-" زاد إسحاق: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". قوله: "الله أكبر" أي أكبر من كل شيء، وقد عرف أن أفعل التفضيل لا تستعمل إلا بأحد الأشياء الثلاثة: الألف واللام، والإضافة، ومن. وقد يُستعمل مجردًا عنها إذا قامت القرينة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (¬1) أي أخفى من السر، ومنه قوله: الله أكبر. قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله " أصله "أنه" فـ"أن" مخففة من المثقلة و"إِلَّا" بمعنى غير، وأشهد من الشهود وهو الحضور في اللغة، ومعناه هنا من الشهادة، وهي خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، أي قولهم: أَشْهد بكذا، أي أحلف، والمعنى أخبر قطعًا وجزمًا بأنه لا إله في الوجود غير الله. وكذا معنى قوله: "أشهد أن محمدًا رسول الله" أخبر قطعًا وجزمًا بأن محمدًا رسول الله مرسل من عند الله تعالى. قوله: "حي على الصلاة" أي أسرعوا إليها وهلمّوا وأقبلوا وتَعَالَوا، وهو اسم لفعل الأمر، وفتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، كما قيل: ليتَ ولعلَّ، والعرب تقول: حي على الثريد، و"الفلاح" النجاة. ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا ينبغى أن يؤذن. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن سيرين، والحسن البصري، ومالكًا، وأهل المدينة؛ فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور وقالوا: ينبغي أن يؤذن هكذا يعني التكبير في أوله مرتين. ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [7]، ووقع في "الأصل، ك": الله يعلم ...

ص: وخالفهم في ذلك آخرون في موضعين من ذلك: أحدهما ابتداء الأذان، فقالوا: ينبغي أن يقال في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير الفقهاء، وأبا حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم خالفوا هؤلاء في موضعين: الأول: في ابتداء الأذان، فإن عندهم ابتداء الأذان: الله أكبر، أربع مرات. قال أبو عمر: علّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا محذورة الأذان بمكة عام حنين، فروي عنه فيه تربيع التكبير في أوله، ورُوي عنه فيه تثنيته، والتربيع فيه من رواية الثقات الحفاظ، وهي زيادة يجب قبولها، والعمل عندهم بمكة في آل محذورة بذلك إلى زماننا، وهو في حديث عبد الله بن زيد في قصة المنام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد. وقال ابن حزم في "المحلى": وأحب الأذان إلينا أذان أهل مكة وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أربع مرات ... إلى آخره، وذكر فيه الترجيح. وأذان المدينة كما وصفنا إلا أنه لا يقول في أول أذانه: الله أكبر الله أكبر إلا مرتين فقط، وأذان أهل الكوفة كأذان أهل مكة إلا أنهم لا يرجعون، وإن أذن مؤذن أذان أهل المدينة أو بأذان أهل الكوفة فحسن. وأما الموضع الثانى: فإن الآخرين افترقوا فرقتين: فرقة خالفوا القوم الأولين، وقالوا: لا ترجيع فيه. وهم أبو حنيفة وأصحابه. وفرقة وافقوهم في الترجيح فقط، وهم الشافعي وأحمد وأصحابهم، على ما يأتي إن شاء الله. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة وعلي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة -واللفظ لأبي بكرة- قالا: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: ثنا عامر الأحول، قال: ثنا مكحول، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن النبي - عليه السلام - علمه الأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ... " ثم ذكر بقية الأذان على ما في الحديث الأول.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: نا همام (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا محمَّد بن سنان العَوَقي، قال: نا همام (ح). وحدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: نا أبو الوليد الطيالسي وأبو عمر الحَوْضِي، قالا: نا همام ... ثم ذكروا مثله بإسناده. ش: أي احتج الآخرون في قولهم إن التكبير في أول الأذان أربع مرات بحديث أبي محذورة أيضًا. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، وعلي بن عبد الرحمن المعروف بِعَلَّان، كلاهما عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى البصريّ، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري، عن مكحول بن زيد الدمشقي، عن عبد الله بن محيريز ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن [علي] (¬2)، نا عفان وسعيد بن عامر والحجاج -والمعنى واحد- قال عفان: نا همام، نا عامر الأحول، حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسعة عشرة كلمة، والإقامة سبعة عشرة كلمة". الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 137 رقم 502). (¬2) في "الأصل، ك": مسلم، وهو خطأ أو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود"، و"تحفة الأشراف" (9/ 285 رقم 12169).

والإقامة: الله كبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدَّاَ رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". كذا في كتابه في حديث أبي محذورة، ويستفاد منه ثلاثة أحكام: الأول: أن التكبير في أول الأذان أربع مرات وهو حجة للجمهور، خلافًا لمالك وأهل المدينة. والثاني: فيه الترجيع، وهو حجة للشافعي ومالك وأحمد. والثالث: فيه الإقامة مثنى مثنى، وهو حجة أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله. الثانى: عن علي بن معبد، عن موسى بن داود بن عبد الله الضبيّ قاضي طرسوس ومصيصة الثقة المصنف، عن همام بن يحيى، عن عامر الأحول، عن مكحول عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا سُوَيْد بن نَصْر، قال: أنا عبد الله، عن همام بن يحيى، عن عمار بن عبد الواحد، قال: ثنا مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، ثم عَدَّها أبو محذورة تسع عشرة، وسَبع عشرة". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري، عن محمَّد بن سنان العَوَقي -بفتح العين والواو، وبالقاف- أحد مشايخ البخاري، عن همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عفان، نا همام بن يحيى، عن عامر الأحول، أن مكحولًا حدثه، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 4 رقم 630). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 235 رقم 709).

حدثه، قال: "علمني رسول الله - عليه السلام - الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، الأذان: الله أكبر الله أكبر ... إلى آخره". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وعن أبي عمر حفص بن عمر بن الحارث النَّمُري الحَوْضي، أحد مشايخ البخاري، كلاهما عن همام، عن عامر، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة ... نحوه. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1) وقال: أنا أبو الوليد الطيالسي وحجاج بن المنهال، قالا: نا حماد، نا همام، نا عامر الأحول- قال حجاج في حديثه: عامر بن عبد الواحد- قال: حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة، حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - علمه الأذان تسعة عشر كلمة، والإقامة سبعة عشر كلمة". ص: قال أبو جعفر: ففيم هذا الأثر أنه يقول في أول الأذان: الله أكبر -أربع مرات- وكان هذا القول عندنا هو أصح القولين في النظر؛ لأنَّا رأينا الأذان منه ما يُردّد في موضعين، ومنه ما لا يُردّد إنما يذكر في موضع واحد، فأما ما يذكر في موضع واحد ولا يردد فالصلاة والفلاح، فذلك يُنادَى بكل واحد منه مرتين. والشهادة تُذكر في موضعين في أول الأذان وفي آخره، فتُثَنّى في أوله، فيقال: أشهد أن لا إله إلا الله -مرتين- ثم تفرد في آخره فيقال: لا إله إلا الله ولا يثنى ذلك. فكان ما يُثنى من الأذان إنما هو على نصف ما هو عليه في الأول منه، وكان التكبير في موضعين في أول الأذان وبعد الفلاح فاجمَعُوا أنه بعد الفلاح يقول: الله أكبر الله أكبر، فبالنظر على ما وصفنا أن يكون ما اختلف فيه مما يُبتدأ [به] (¬2) الأذان ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 292 رقم 1197). (¬2) من "شرح معاني الآثار" (1/ 131).

من التكبير أن يكون مِثْلَي ما يثنى به؛ قياسًا ونظرًا على ما [بَيَّنَّا] (¬1) من الشهادة أن لا إله إلا الله، فيكون ما يُبْتَدأ به الأذان من التكبير على ضِعْف ما يثنى به من التكبير، فإذا كان الذي يثنى هو: الله كبر، كان الذي يبتدأ به هو ضعفه الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، فهذا هو النظر الصحيح عندنا، والله أعلم. وهو قول أبي حنيفة وأي يوسف ومحمد رحمهم الله، غير أن أبا يوسف قد روي عنه أيضًا في ذلك مثل القول الأول. ش: أي ففي الأثر الذي رواه عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة أن المؤذن يقول في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر -أربع مرات- وهذا القول هو أصح من القول الذي يقول فيه المؤذن: الله أكبر الله أكبر -مرتين- في النظر والقياس، وهذا كما رأيت ترجيع الطحاوي الرواية التي فيها التكبير من أول الأذان أربع مرات، على الرواية التي فيها التكبير مرتين، بما يقتضيه وجه النظر والقياس، وغيره رجح بأن هذه زيادة من الحفاظ الثقات (فيجب بها العمل) (¬2) وأما بيان وجه النظر فنقول: إن ألفاظ الأذان على أنواع: الأول: يذكر في موضع واحد ويكرر فيه ثم لا يردد، نحو لفظه الصلاة والفلاح، فإن كلا منهما يذكر مرتين في موضع واحد، فهذا في نفسه متكرر ولكن موضعه متحد. الثاني: ما يذكر في موضعين فيُكررّ في موضع ويردد في موضع، نحو لفظ الشهادة، فإن يُكرر في أول الأذان حيث يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله -مرتين- ويفرد في آخره حيث يقال: لا إله إلا الله -مرة واحد-. الثالث: ما يذكر في موضعين أيضًا ولكن يُكرر فيهما جميعًا نحو لفظ التكبير، فإنه يذكر في أول الأذان مكررًا، وبعد قوله: حي على الفلاح مكررًا، وهذا القسم ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": بنينا، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) كذا في "الأصل، ك".

هو المتنازع فيه ولكنهم أجمعوا على أنه بعد الفلاح مكرر يقال مرتين: الله أكبر الله أكبر، فبالنظر والقياس ينبغي أن يقال في أول الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر -أربع مرات- وذلك لأن ما كُرر منه في موضع نحو لفظ الشهادة؛ الذي يُكرر في أول الأذان يكون في الأخير على نصف ما هو عليه في الأول، حيث يقال: لا إله إلا الله مرةً واحدةً، فبالنظر على ذلك ينبغي أن يكون التكبير الذي في الأذان الذي اختلف فيه مثلي ما يثنى به في الأخير على نصف ما هو عليه في الأول كما في لفظ الشهادة، ولو لم يجعل لفظ التكبير في الأول أربع مرات لم يكن التكبير الذي في آخره على النصف منه، فحيمئذ يكون التكبير الذي يُبتدأ به الأذان على ضِعْف ما يُثنَّى به من التكبير في الأخير. فإذا كان الذي يثنى في الأخير: الله أكبر الله أكبر مَرّتين كان الذي يبُدأ به ضِعفه الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر -أربع مرات- فهذا هو النظر الصحيح، فافهم فإنه دقيق. ص: والموضع الذي اختلفوا فيه منه هو التَرْجيع، فذهب قوم إلى الترجيع. ش: هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين ذكرهما فيما سلَف بقوله: "وخالفهم في ذلك آخرون في موضعين". وقد قلنا: إن الذين خالفوا أهل المقالة الأولى افترقوا فرقتين: فرقة ذهبت إلى الترجيع بظاهر الأحاديث المذكورة، وأشار إلى، ذلك بقوله: "فذهب قوم إلى الترجيع" وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وآخرون؛ فإنهم قالوا: لا بد من الترجيع وهو أن يرجّع فيرفع صوته بالشهادتين بعد أن خفض بهما. ص: وتركه آخرون. ش: أي وترك الترجيح جماعة آخرون وأراد بهم: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وزفر، وأهل الكوفة؛ فإنهم قالوا: ليس في الأذان ترجيع.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا عبد الله بن داود الخرَيبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن عبد الله بن زيد الأنصاريّ - رضي الله عنه - رأى رجلًا نزل من السماء عليه ثوبان أخضران -أو بُرْدان أخضران- فقامَ على جِذْمِ حائط، فنادى: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ... " - فذكر الأذان على ما في حديث أبي محذورة، غير أنه لم يذكر الترجيح، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال له: "نِعْمَ ما رأيتَ، عَلِّمْها بلالًا". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من ترك الترجيح، بحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -. ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق، ولكن الحديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يَسْمع من عبد الله بن زيد الأنصاري قاله الترمذي وغيره. والخُرَيْبيِ -بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف بعدها باء موحدة-: نسْبة إلى الخَرَيْبَة محلة بالبصرة، كان عبد الله بن داود يسكن فيها، وهو أحد الأئمة الحنفية، وكان ثقة عابدًا ناسكًا، روى له الجماعة. والأعمش هو سليمان بن مهران. وأخرجه أبو داود (¬1) بأتمّ منه، نا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى. ونا ابن المثنى، نا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: "أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال: قال: ونا أصحابنا، أن رسول الله - عليه السلام - قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة، حتى لقد هممت أن أبت رجالًا في الدور يُنادون الناس بحين الصلاة وحتى هممت أن آمُر رجالًا يقومون على الآطام يُنادون المسلمين بحين الصلاة، حتى نقسوا أو كادَوا أن يَنقسوا، قال: فجاء رجال من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إني لما رجعت -لما ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 138 رقم 506).

رأيت من اهتمامك- رأيتُ رجلًا" كأن عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذن، ثم قَعَد قعدةً ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول الناس- قال ابن المثنى أن تقولوا- لقلت: إني كنت يقظانًا غير نائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وقال ابن المثنى-: لقد أراك الله خيرًا- ولم يَقل عمروٌ: لقدْ- فَمُرْ بلالًا فليؤذن، قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: أما إني قد رأيت مثل الذي رأى، ولكني لما سُبِقْتُ استَحْسَنْتُ الحديث". وأخرجه الطبراني في "الكبير" نا عيسى بن محمَّد السمسار الواسطي، نا وهب ابن بقية، نا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال: "اهتمّ رسول الله - عليه السلام - بالأذان حتى همّ أن يَنْقُس، فبينما هو كذلك إذْ جاءه عبد الله بن زيد، قال: يا رسول الله، لولا أني أتهم نفسي لحدثتك أني كنت مستيقظا رأيت رجلًا عليه ثوبان أخضران، قائم على سقف المسجد، ثم نادى بالصلاة الله أكبر الله أكبر، مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم قعد قعدة، ثم قال مثل ما قال، غير أنه قال في آخر ذلك: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال: قم فادْع إليك بلالًا فليرفع بها صوته، فألقاها عليه، ثم رفع بها بلالًا صوتَه، فجاء المسلمون سراعًا لا يَروْن إلا أنه فزعًا، ثم جاء عمر - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، والله لولا أن عبد الله بن زيد سبقني لحدثتك أنه طاف بي ما طاف به". قوله: "بُرْدان" تثنية برد، وهو نوع من الثياب معروف، والجمع أبراد وبُرُود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صغر تلبَسه الأعراب، وجمعها بُرُد. قوله: "حِذْم حائط" بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة، وهو أصل الحائط، وأراد به بقية حائط أو قطعة حائط.

قوله: "لقد هممت" من هممت بالشيء أهِمُّه همًّا إذا أردته. ومعنى "أبث" أُفَرِّق، من البَثّ، وهو النشْر. قوله: "في الدور" أي في القبائل. قوله: "بحين الصلاة" أي بوقتها. قوله: "على الآطام" جمع أُطُم -بضم الهمزة والطاء-: وهو بناء مرتفع، وآطام المدينة: أبنيتها المرتفعة، وفي الصحاح: الأُطُم مثل الأجُمُ يخفف ويثقل، والجمع آطام، وهي حصون لأهل المدينة، والواحدة: أَطَمَة، مثل: أَكَمَة. انتهى. ويقال: الآطام جمع إِطام -بكسر الهمزة-: وهو ما ارتفع من البناء. قوله: "حتى نقَسوا" -فتح القاف- من النَقْس: وهو الضرب بالناقوس، وهي خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، والنصاري يُعلمُون بها أوقات صلواتهم. وقال ابن الأعرابيّ: الناقوس يُنظر فيه، أعربيٌّ أم لا؟ قلت: النَقْس هو الضرب بالناقوس يدل على أنه عربي، وزنه فاعول كقَابُوس البَحر، فيكون الألف والواو فيه زائدين. قوله: "أو كادوا أن يَنْقُسوا" بضم القاف لأنه من نقس يَنْقُس، من باب نَصَرَ يَنْصُر. وهو شك من الراوي، والمعنى: أو قَرُبوا من نَقْس الناقوس؛ لأن "كاد" من أفعال المقاربة. قوله: "كان عليه ثوبين أخضرين" وقع كذا في رواية أبي داود، ووقع في رواية غيره: "كان عليه ثوبان أخضران" وهو القياس؛ لأن ثوبان فاعل "كان" وهو اسمه، فيكون مرفوعًا وخبره قوله: "عليه" ووجه رواية أبي داود -إن صحت-: أن تكون "كان" زائدة، وهي التي لا تخل بالمعنى الأصلي، ولا تعمل في شيء أصلًا، ويكون نصب "ثوبين" بالفعل المقدر، والتقدير، رأيت رجلًا، ورأيت عليه ثوبين أخضرين، فقوله: "رأيت" يكون دَالًّا على "رأيت" الثاني المقدر.

قوله: "ثم قعد قعدة" بفتح القاف. قوله: "أما إني"، بفتح الهمزة في "أما" وكسرها في "إني". قوله: "لما سُبقت" على صيغة المجهول، فافهم. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يحيى بن يحيى النيسابوري، قال: نا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثني أصحاب محمَّد: "أن عبد الله بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه - رأى الأذان في المنام، فأتى النبي - عليه السلام - فأخبره، فقال: علّمه بلالًا، فأذن مثنى مثنى". ش: هذا طريق آخر، وهو متصل صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثني وكيع، قال: نا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا أصحاب محمَّد - عليه السلام -: "أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي - عليه السلام - فقال: يا رسول الله - عليه السلام - رأيت في المنام كأن رجلًا قام وعليه بردان أخضران على خذْمة حائط، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى، وقعد قعدة. قال: فسمع ذلك بلال - رضي الله عنه -، فأذن مثنى، وأقام مثنى، وقعد قعدة". ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الأذان ليس فيه ترجيع، وهو حجة على مَنْ رآه. الثاني: أن الإقامة مثنى مثنى وهو حجة على من يقول الإقامة فرادى. والثالث: استحباب الفصل بين الإقامة والشروع في الصلاة، وكذا بين الأذان والإقامة. الرابع: استحباب اتخاذ المؤذن الذي صوته طيب عالي؛ لأنه - عليه السلام - إنما قال لعبد الله: "علمه بلالًا"؛ لكونه حسن الصوت وعَالِيَه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 185 رقم 2118).

ص: قال أبو جعفر: فهذا عبد الله بن زيد لم يذكر في حديثه الترجيع، فقد خالف أبا محذورة في الترجيع في الأذان، فاحتمل أن يكون الترجيع الذي حكاه أبو محذورة إنما كان لأن أبا محذورة لم يَمدّ بذلك صوته على ما أراد النبى - عليه السلام - منه، فقال له النبي - عليه السلام -: ارجعْ وامدُده صوتك، وهكذا اللفظ بهذا الحديث الذي ذكر فيه، فلما احتمل ذلك وجب النظر؛ لنستخرج من القولين قولًا صحيحًا، فرأينا ما سوى ما اختلفوا فيه من الشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا ترجيعَ فيه، فالنظر على ذلك أن يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه منه، ويكون إجماعهم أن لا ترجيع في سائر الأذان غير الشهادة يَقْضِي على اختلافهم في الترجيع في الشهادة، وهذا الذي وصفنا وما بيّناه من نفي الترجيع؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: لما لم يُذكَر الترجيع في حديث عبد الله بن زيد، خالف ذلك حديث أبي محذورة المذكور فيه الترجيع، والأصل في مثل هذا التوفيق بينهما، وأشار إلى التوفيق بقوله: "فاحتمل أن يكون ... " إلى آخره، وهو ظاهر. وقوله: "وهكذا اللفظ بهذا الحديث الذي ذكر فيه" أراد أن لفظ الحديث الذي فيه الترجيع: "ارجع وامدُد صوتك" على ما رواه أبو داود، وقال: نا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا ابن جريج، أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذور -يعني عبد العزيز- عن ابن محيريز، عن أبي محذورة، قال: "ألقي عليّ رسول الله - عليه السلام - التأذين هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: ارجعْ فمُدْ من صَوْتك: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" انتهى.

وقال صاحب "البدائع" (¬1): الترجيع كان في ابتداء الإِسلام، فإنه روي أنه لما أذّن وكان حديث العهد بالإِسلام قال: الله أكبر الله أكبر أربع مرات بصوتين ومَدّ صوته، فلما بلغ إلى الشهادتين خفض بهما صوته، فقال بعضهم: إنما فعل ذلك مخافة الكفار، وبعضهم قال: إنه جهوريّ الصوت وكان في الجاهلية يجهر بسَبِّ رسول الله - عليه السلام -، فلما بلغ إلى الشهادتين استحيى، وخفض بهما صوته، فدعاه رسول الله - عليه السلام - وعرك أذنه، وقال: ارجع وقل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله ومُدّ بهما صوتك غيظًا للكفار. وقال شمس الأئمة في "مبسوطه" (¬2): وأما حديث أبي محذورة فإنه - عليه السلام - أمر بالتكرار حالة التعليم ليحسن تعلمه، وهو كان عادته فيما يُعلّم أصحابَه، فظنّ أنه أمر بالترجيع وحديث عبد الله بن زيد هو الأصل وليس فيه ترجيع، ولأن المقصود من الأذان قوله: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، ولا ترجيع في هاتين الكلمتين، ففيما سواهما أولى. قلت: أخذ هذا من قول الطحاوي "فرأينا ما سوى ما اختلفوا فيه من الشهادة ... " إلى آخره. قوله: "معطوفًا على ما أجمعوا" أي مصروفًا عليه موجهًا إليه. قوله: "منه" أي من الأذان. قوله: "يقضي" خبر لقوله: "ويكون إجماعهم" فافهم. فإن قيل: كيف يقال: حديث عبد الله بن زيد هو الأصل؛ بل الأصل حديث أبي محذورة؛ فإن فيه تعليم النبي - عليه السلام - بنفسه وفيه الترجيح؟ ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 148). (¬2) "المبسوط" (1/ 128).

قلت: قد روي عن أبي محذورة أيضًا ما ليس فيه الترجيح وهو ما رواه الطبراني فى "الأوسط" (¬1) قال: نا أحمد بن عبد الرحمن، ثنا أبو جعفر النفيلي ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة، قال: سمعت جدّي عبد الملك بن أبي محذورة، أنه سمع أبا محذورة يقول: "ألقي عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان حرفًا حرفًا: الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر، الله أكبر] (¬2) أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله ... " إلى، آخره ولم يذكر فيه ترجيعًا. فهذا يعارض سائر الروايات التي فيها الترجيح ويوافق حديث عبد الله بن زيد، فالرجوع إلى المتفق عليه أولى بلا خلاف. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (2/ 23 رقم 1106). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الأوسط".

ص: باب: الإقامة، كيف هي؟

ص: باب: الإقامة، كيف هي؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية الإقامة للصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة جدًّا، وهي إعلام مخصوص للحاضرين، كما أن الأذان إعلام مخصوص للغائبين. ص: حدثنا مُبَشِّرَ بن الحسن بن مُبَشِّر بن مُكَسِّر، قال: نا أبو عامر العقدي، قال: نا شعبة، عن خالد الحذَّاء، عن أي قلابة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". ش: إسناده صحيح، ومبشر بن الحسن أبو بشر البصري، وثقه ابن يونس. وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو، ونسبته إلى عَقَد -فتح العين والقاف- قوم من قيس، وهم صنف من أزد. وأبو قلابة اسمه عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام. وأخرجه البخاري (¬1): نا علي بن عبد الله، نا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا خالد، عن أبي قلابة عن أنس قال: "أُمِرَ بلالٌ أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة". قوله: "أن يشفع الأذان" يعني يأتي به مثنًى، وهذا مجمع عليه اليوم، وحكي في إفراده خلاف عن بعض السلف. قوله: "ويوتر الإقامة" يعني يأتي بها وترًا ولا يثنيها، بخلاف الأذان. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حَرْب، قال: نا شعبة وحماد بن زيد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا خالد بن عبد الرحمن الخراساني، قال: نا سفيان، عن خالد ... ، ذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج بن منهال، قال: نا حماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن خالد ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 220 رقم 582).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الله الهرويَّ، قال: نا محمَّد بن دينار الطاحي، قال: ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: "كانوا أرادوا أن يضربوا بالناقوس وأن يرفعوا نارًا لإعلام الصلاة، حتى رأى ذلك الرجل تلك الرؤيا، فَأْمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". حدثنا نَصْر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو الجزري، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمِرَ بلالٌ أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". ش: هذه ستة طرق أخرى في الحديث المذكور، وهي صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُّسي، عن سليمان بن حرب الواشحي أحد مشايخ البخاري، عن شعبة وحماد بن زيد، كلاهما عن خالد الحَذَّاء، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1) وقال: أنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". الثاني: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمِر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". الثالث: عن محمَّد خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد، كلاهما عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 291 رقم 1195). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 464 رقم 1795).

وأخرجه مسلم (¬1) وقال: نا خلف بن هشام، قال: ثنا حماد بن زيد. ونا يحيى بن يحيى، قال: أنا إسماعيل بن عَلية، جميعًا عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". الرابع: عن محمَّد بن عيسى بن فليح بن سليمان الخزاعي، عن سعيد بن منصور الخراساني أحد مشايخ مسلم، عن هُشَيْم بن بَشير، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2) وقال: ثنا أحمد بن عبد الله الوكيل، ثنا الحسن ابن عرفة، ثنا هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمر بلال أَن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُّسي، عن إبراهيم بن عبد الله الهروي، أحد مشايخ الترمذي وابن ماجه. عن محمَّد بن دينار الأزدي الطَّاحِي -بالطاء والحاء المهملتين- نسبة إلى طاحية قبيلة من الأزد. عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬3) وقال: ثنا محمَّد، قال: أنا عبد الوهاب، قال: أنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: "لما كثر الناس قال: ذكروا أنْ يُعْلِموا وقت الصلاة بشيء يَعْرفونه، فذكورا أن يُورَوْا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأُمر بلال أن يشفع [الأذان] (¬4) وأن يوتر الإقامة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 286 رقم 378). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 240 رقم 17). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 220 رقم 581). (¬4) تكررت في "الأصل".

وأخرجه مسلم أيضًا: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا خالدٌ الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: "ذكروا أن يُعلموا وقتَ الصلاة بشيء يَعْرفونه، فذكروا أن يُنوّروا نارًا، ويضربوا ناقوسًا، فأُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". قوله: "حتى رأى ذلك الرجل" أراد به عبد الله بن زيد الأنصاري. قوله: "أن يُوروا" من أورى النار إذا أوقدها وثلاثيَّه: وَرَى. يقال: وَرَى الزند يَرِي: إذا أخرجت نارُه، وأوْرَاه غيره إذا استخرج نارَه. قوله: "ينوّروا" في رواية مسلم: من التنوير. السادس: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن مَعبد بن شداد العَبدي، عن عَبَيْد الله عَمرو الجزريّ، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه أبو داود (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فقالوا هكذا الإقامة تفرد مرة مرة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ربيعة، ومالكًا، وأهل المدينة؛ فإنهم قالوا: الإقامة فُرادى كلّها. وقال القاضي عياض: المشهور عن مالك إفراد الإقامة؛ لأنه المعمول به بالمدينة. وقال أبو عمر: قال مالك -في المشهور-: إن الإقامة عشر كلمات، فلا يثني لفظ الإقامة. وهو قول قديم للشافعي، واحتجوا في ذلك بما روي عن أنس، المذكور آنفًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 141 رقم 508).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون في حرْف من ذلك، فقالوا: إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإنه ينبغي أن يثني ذلك مرتين. ش: أي خالف القوم المذكورين فيما قالوا من إفراد كلمات الإقامة جميعها جماعة آخرون، وأراد بهم: مكحولًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عُبَيْد؛ فإنهم وافقوا القوم المذكورين في إفراد الإقامة، ولكن خالفوهم في حَرْف منه؛ أي: في طرف منه وهو أن لفظ "قد قامت الصلاة" عندهم مرتين، وعند أولئك القوم مرة واحد كغيرها من ألفاظ الإقامة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حَرْب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، عن أيوب، عن أن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلَّا الإقامة". وحدثنا محمَّد بن حزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان العَوَقي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس. وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان، قال: ثنا إسماعيل -يعني ابن عُلَيَّة- قال: ثنا خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة". قال إسماعيل: فحدثت به أيوب فقلت له: "وأن يوتر الإقامة" فقال: "إِلَّا الإقامة". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من إِفراد ألفاظ الإقامة إلا لفظ الإقامة، بحديث أنس - رضي الله عنه - أيضًا. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم ابن أبي داود البُرُلُّسي، عن سليمان بن حَرْب الواشحي، عن حماد بن زَيْد، عن سماك بن عطية البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرْمي، عن أنس.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: نا حماد بن زيد ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "إلا الإقامه" استثناء من قوله: "ويوتر الإقامة"، والمعنى: ويفرد ألفاظ الإقامة للصلاة إلا لفظ الإقامة وهي "قد قامت الصلاة" فإنها تثنى. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن محمَّد بن سنان العَوَقي نِسبة إلى عَوَقة -بفتح العين المهملة والواو والقاف- من عبد القيس، عن حماد بن سلمة، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة أيضًا، عن محمَّد بن سنان أيضًا، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن خالد ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2) وقال: نا علي بن عبد الله، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، نا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة" قال إسماعيل: فذكرت لأيوب، فقال: "إلا الإقامة". وأخرجه مسلم (¬3) وقال: ثنا خلف بن هشام، قال: ثنا حماد بن زيد. وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا إسماعيل بن عُليَّة، جميعًا عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "أُمِر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة" زاد يحيى في حديثه عن ابن علية: فحدثت به أيوب فقال: "إلا الإقامة". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير قال: ثنا شعبة، عن أبي جَعْفر الفرّاء، عن مسلم -مؤذنٍ كان لأهل الكوفة- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين والإقامة مرةً مرةً، غير أنه إذا قال: قد قامت الصلاة قالها مَرّتين، فعرفنا أنها الإقامة، فيتوضأ أحدُنا ثم يخرجُ". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 220 رقم 580). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 220 رقم 582). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 286 رقم 378).

ش: إسناده حسن، وأبو جعفر الفراء الكوفي والد عبد الحميد بن أبي جعفر، قيل: اسمه كيْسان، وقيل: سَلْمان، وقيل: زياد وثقه ابن حبان، وأبو داود وروي له. ومسلم مؤذن أهل الكوفة هو مسلم بن المثنى، ويقال: ابن مهران بن المثنى القرشي الكوفي، وثقه أبو زرعة وابن حبان. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، نا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، قال: سمعتُ أبا جعفر يُحدّث، عن مسلم بن المثنى، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "إنما كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين، والإقامة مرةً مرةً، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فإذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة" قال شعبة: لم أسمع من أبي جعفر غير هذا الحديث. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا من النظر، فقالوا: قد رأينا الأذان ما كان منه مكررًا لم يثنّ في المرة الثانية، وجعل على النصف مما هو عليه في الابتداء، وكانت الإقامة لا يبتدأ بها، إنما تكون بعد الأذان، فكان النظر على ذلك أن يكون ما فيها مما هو في الأذان غير مثنى، وما فيها مما ليس في الأذان مثنى، فكل الإقامة في الأذان غير "قد قامت الصلاة" فتفرد الإقامة كلها ولا تُثَنّى غير "قد قامت الصلاة" فإنها تكررّ لأنها ليست من الأذان. ش: أي واحتج الآخرون الذين خالفوا القوم المذكورين في حرف من ذلك فيما ذهبوا إليه من وجه النظر والقياس أيضًا، بيانه: أن الإقامة تكون بعد الأذان متابعة له، وفيها شيء من ألفاظ الأذان وشيء من غيرها، وكان ما يكرر في الأذان أولًا يُجَعلُ على النصف آخرًا، فالنظر على ذلك: ينبغيِ أن يكون ما في الإقامة مما هو في الأذان غير مثنى ليجعل على النصف من ذلك، وما فيها مما ليس في الأذان كلفظ: "قد قامت الصلاة" لا يجعل على النصف نحو ذلك؛ لأنها ليست من الأذان حتى تجعل على النصف، فحيئذ تثنى؛ فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 141 رقم 510).

ص: وخالفهم آخرون في ذلك كله. فقالوا: الإقامة كلها مثنى مثنى مثل الأذان سواء، غير أنه يقال في آخرها: "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة". ش: أي خالف الطائفتن المذكُورِين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه من إفراد ألفاظ الإقامة كلها، أو إفرادها غير "قد قامت الصلاة" وهم سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومن ذهب إلى مذهبهم من أهل الكوفة، فإنهم قالوا: الإقامة كلها مثنى مثنى مثل الأذان سوء بسواء، غير أنه تزاد في الإقامة بعد الفلاح: "قد قامت الصلاة" مرتين. ص: وقالوا ما ذكرتم عن بلال - رضي الله عنه -، فقد روي عنه خلاف ذلك مما سنذكره إن شاء الله بعد. ش: أي قال هؤلاء الآخرون لأهل المقالتين المذكورتين: ما ذكرتم عن بلال - رضي الله عنه - من أنه أُمر بأن يشُفع الأذان ويوتر الإقامة، فإنه وإن كان قد روي عنه ذلك فقد روي عنه أيضًا خلافه على ما يجيء بيانه، فحينئذ يتعارض خبراه فيرجع حينئذ إلى الأصول وهو على وجوه: الأول: أن مدَّعَانَا يُرجَّح بكثرة الدلائل من الأخبار والآثار الدالة على أن الإقامة مثنى مثنى مثل الأذان. والثاني: أن قوله: "أُمر بلال" قد يقال فيه: إن الأمر مُبْهم، يحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون غيره، وقد قيل: إن الآمر بذلك أبو بكر - رضي الله عنه -، وقيل: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فحصل فيه احتمالات تدفع الاحتجاج به، مع وجود الآثار الدالة على خلافه. وقال الشيخ محيي الدين النوويّ: إطلاق ذلك ينصرف إلى صاحب الأمر والنهي، وهو رسول الله - عليه السلام -، ومثل هذه اللفظة قول الصحابي: "أمرنا بكذا"، أو "نهينا عن كذا" وأُمر الناس بكذا فكله مرفوع سواء قال الصحابيّ ذلك في حياة رسول الله - عليه السلام - أم بعد وفاته.

قلت: فيه مناقشة؛ لأن من الإطلاق تنشأ الاحتمالات، وقوله: "سواء ... " إلى آخره غير مُسَلَّم؛ لجواز أن يقول الصحابيّ بعد الرسول: "أمرنا بكذا" أو "نهينا عن كذا" ويكون الآمر أو الناهي أحد الخلفاء الراشدين. والثالث: أن بعضهم ادعوا أن حديث أبي محذورة ناسخ لحديث أنسِ - رضي الله عنه - هذا، قالوا: وحديث بلال - رضي الله عنه - إنما كان أول ما شرع الأذان كما دلّ عليه حديث أنس، وحديث أبي محذورة كان عام حنين وبينهما مدّة مديدة، فإن قيل: شرط الناسخ أن يكون أصح سندًا وأقوى في جميع جهات الترجح، وحديث أبي محذورة لا يساوي حديث أنس من جهة واحدة فضلًا عن الجهات كلها. قلت: لا نسلم أن من شرط الناسخ ذلك، بل يكفي فيه أن يكون صحيحًا متأخرًا معارضًا غير ممكن الجمع بينه وبين معارضه، فلو فرضناهما متساويين في الصحة، ووجد ما ذكر من الشرط لثبت النسخ، وأما أنه يشترط أن يكون أرجح من المعارض في الصحة فلا نُسَلِّم، نعم لو كان دونه في الصحة ففيه نظر. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن داود الخريبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن عبد الله بن زيد رأى رجلًا نزل من السماء عليه ثوبان أخضران أو بردان أخضران فقام على جِذْم حائط، فأذن: الله أكبر الله أكبر، على ما ذكرنا في الباب الأول، "ثم قعد، ثم قام فأقام مثل ذلك، فأتى النبي - عليه السلام - فأخبره، فقال: نِعْمَ ما رأيتَ عَلِّمها بلالًا". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوريُّ، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثَنى أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: "بأن عبد الله بن زيد الأنصاريّ - رضي الله عنه - رأى في المنام الأذان، فأتى النبي - عليه السلام - فأخبره، فقال: علمه بلالًا، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، وقعد قعدة".

حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحابنا ... فذكر نحوه. قال: وقال عبد الله: لولا أني أتهم نفسي لظننت أني رأيت ذلك وأنا يقظان غير نائم، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وأنا والله لقد طاف بى الذي طاف بعبد الله، فلما رأيته قد سبقني سكَتُّ". ففيِ هذه الآثار: أن بلالًا أذَّنَ بتعليم عبد الله بن زيد بأمر النبي - عليه السلام - إياه بذلك وأقام مثنى بخلاف الحديث الأول. ش: هذا الحديث بثلاث طرقه الصحاح بيان لقوله: "فقد روي عنه خلاف ذلك"؛ لأن فيه أنه أذن بإلقاء عبد الله بن زيد عليه بأمر النبي - عليه السلام - إياه بذلك، وفيه "وأقام مثنى" وهذا يخالف ما رواه أنس من أن بلالًا أُمِر أن يشفع بالأذان ويوتر بالإقامة، فحينئذ لا يتم احتجاج أهل المقالتين بحديث أنس كما ذكرناه عن قريب. ثم إن الطحاوي: أخرج هذا الحديث بعينه بالإسنادين الأولين في باب "الأذان" في بحث الترجيع ولكن في السند الأول زيادة ها هنا، وهي قوله: "ثم قعد ثم قام فأقام مثل ذلك" وفي هذه الزيادة الاحتجاج على الخصم في إفراد الإقامة، فلذلك كرره ها هنا مع ذكر هذه الزيادة. وكذلك في السند الثاني زيادة وهي قوله: "وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة" وفيهما دلالة صريحة على أن الإقامة مثل الأذان. وأخرجه ابن حزم (¬1) وقال: ثنا محمَّد بن سعيد بن نُبات، نا عبد الله بن نصر، نا قاسم بن الأصبغ، نا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمَّد - عليه السلام -: "أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام فأتى النبي - عليه السلام - فأخبره، قال: "علمه بلالًا"، فقام بلالًا فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى" ثم قال: هذا إسناد في غاية الصحة ¬

_ (¬1) "المحلى" (1/ 157 - 158).

من إسناد الكوفيين ثم قال: إنما صح أَنَّ تثنية الإقامة قد نُسخت وإنما هي كانت أول الأمر، والأفضل ما صح من أمر رسول الله - عليه السلام - بلالًا بأن يوترها إلا الإقامة، والصحيح الآخِر أولى بالأخذ مما لا يبلغ درجته. قلت: لو كان حديث بلال ناسخًا لهذا الحديث لما روي عن بلال بعده: "أنه كان يثني الأذان ويثني الإقامة". كما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1) والدارقطنى في "سننه" (1) على ما يجيء إن شاء الله تعالى، وكيف يُظن ببلال أنه يترك الناسخ ويأتي بالمنسوخ، ولئن سلمنا أن حديثه ناسخ لحديث ابن أبي ليلى ولكن لا نسلم أن حكمه باقٍ؛ لأنه منسوخ أيضًا بحديث أبي محذورة لما أن حديثه كان في أول الأمر، وحديث أبي محذورة كان عام حنين كما ذكرناه آنفًا. قوله: "لولا أنهم نفسي" من الاتهام، وهو الريبة، والمعنى: لولا أني أشك في نفسي، وأصل هذا من الوهم وهو الغلط والسهو ومنه التُهَمَة، وأصلها وَهَمَة، فأبدلت الواو تاءً. قوله: "يقظان" بفتح القاف وكسرها. قوله: "غير نائم" حال أيضًا، تأكيد للحالة الأولى. قوله: "لقد طاف بي" من طاف بالشيء إذا دار حوله. يقال: طُفْتُ أَطُوفُ طَوْفًا وطَوَافًا. ص: ثم قد روي عن بلال - رضي الله عنه - أنه كان بعد النبي - عليه السلام - يؤذن مثنى مثنى ويقيم مثنى مثنى، فدلّ ذلك أيضًا على انتفاء ما روى أنس - رضي الله عنه -. حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن بلال: "أنه كان يثني الأذان، ويُثني الإقامة". ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان، قال: نا شريك (ح). وحدثنا روح بن الفرح، قال: ثنا محمَّد بن سليمان لوين، قال: ثنا شريك، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: "سمعت بلالًا يؤذن مثنى، ويقيم مثنى" فهذا بلال قد روي عنه في الإقامة ما يخالف ما ذكره أنس - رضي الله عنه -. ش: لما بَيَّن ما روي عن بلال من تثنية الإقامة في حياة النبي - عليه السلام - الذي يخالف ما رواه أنس عنه من أنه أُمر بأن يوتر الإقامة، أكدَّ ذلك بما روي عنه أيضًا من أنه كان يثني الإقامة بعد النبي - عليه السلام - أيضًا، مثل ذلك يدلّ على انتفاء ما رواه أنس، وأن العمل على حديث عبد الله بن زيد؛ لأنه هو أصل الأذان والإقامة في تثنية ألفاظهما. فإن قيل: قال ابن حزم: لم يؤذن بلال لأحد بعد رسول الله إلا مرة واحدة بالشام للظهر أو العصر ولم يستتم الأذان فيها. قلت: لا نسلم ذلك؛ لعدم الدليل الصحيح عليه، ولئن سلمنا ذلك فلا يضرّنا؛ لأن النزاع في الإقامة، ولا شك أن بلالًا إذا صلى كان يقيم، وكان يقيم مثنى مثنى وإن كان لا يقيم بنفسه بعد كان يسمع من يقيم، ولو أمر من يقيم بالإفراد أو منع من يقيم مثنى لنُقِل عنه ذلك، فحيث لم ينقل دلّ على أن الإقامة عنده مثنى مثنى، ولم يتغير حكمها عما كان عليه في حديث عبد الله بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه -. ثم إنه أخرج ما روي عن بلال -من تثنية الإقامة- من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أحمد بن داود المكي، وثقه ابن يونس. عن يعقوب بن حميد شيخ البخاريّ في كتاب "الأفعال" ووثقه يحيى وابن حبان. عن عبد الرزاق بن همام صاحب "المصنف". عن معمر بن راشد. عن حماد بن أبي سليمان الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة. عن إبراهيم النخعي.

عن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي. عن بلال ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): أنا معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: "أن بلالًا كان يثني الأذان، ويثني الإقامة، وإن كان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا محمَّد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق ابن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر ... إلى آخره نحوه. فإن قيل: قال ابن الجوزي في "التحقيق": والأسود لم يدرك بلالًا. قلت: قال صاحب "التنقيح": وفيما قاله نظر؛ وقد روى النسائي للأسود عن بلال - رضي الله عنه - حديثا (¬3). الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد. عن محمَّد بن سنان العَوَقيِ. عن شريك بن عبد الله النخعي. عن عمران بن مسلم المنْقري البصْري القَصِير. عن سويد بن غَفَلة بن عوسجة أبي أمية الكوفي. وأخرجه الحكم (¬4) ثم البيهقي في "الخلافيات" وعلله الحاكم بأنه مرسل، وأن سويدًا لم يدرك أذان بلال، وإقامته في عهد النبي - عليه السلام - وأن شريكا وعمران غير محتج بهما في "الصحيح". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 462 رقم 790). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 242 رقم 34). (¬3) انظر "المجتبى" (2/ 14 رقم 649 - 652) ولفظه: عن الأسود قال: "كان آخر آذان بلال: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". (¬4) انظر: "نصب الراية" (1/ 249).

قلت: سويد أدرك الجاهلية ولم يَر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدى الزكاة لمصدق رسول الله - عليه السلام -، فهو وإن لم يدرك آذان بلال وإقامته في عهد النبي - عليه السلام - فلا مانع من إدراكه لهما في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -؛ فقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره (¬1): "أن بلالًا أذن حياة النبي - عليه السلام -، ثم أذن لأبي بكر - رضي الله عنه - حياته ولم يؤذن لعمر - رضي الله عنه -، فقال له عمر: ما يمنعك أن تؤذن؟ فقال: إني أذنت لرسول الله - عليه السلام - ثم قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: يا بلال، ليس عمل أفضل من [عملك هذا إلا] (¬2) الجهاد في سبيل الله، فخرج وجاهد". وفى "الخلافيات" للييهقي أيضًا؛ أنه أذن لأبي بكر - رضي الله عنه -. ورواية الطحاوي تصح بالسماع. وأما شريك فإن الحاكم صحح روايته في المستدرك، وأخرج له مسلم متابعة. وعمران بن مسلم وثقه يحيى وأبو حاتم وغيرهما، فلا يعارض ذلك بعدم الاحتجاج بهما في الصحيح. الثالث: عن روح بن الفرح القطان المصري. عن محمَّد بن سليمان بن حبيب المصيصي العلاف، المعروف بلُوَيْن -بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون- شيخ أبي داود والنسائي، ووثقه ابن حبان وغيره. عن شريك النخعي ... إلى آخره. وقد روى الطبراني (¬3) أيضًا بإسناده إلى بلال: "أنه كان يجعل الأذان والإقامة سواء مثنى مثنى، وكان يجعل إصبعيه في أذنيه". ¬

_ (¬1) أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" كما في "المنتخب من مسند عبد بن حميد" (1/ 141 رقم 361) عن ابن أبي شيبة ولم أجده في المصنف، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (1/ 180 - 181). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المنتخب من مسند عبد بن حميد". (¬3) "المعجم الصغير" (2/ 282 رقم 1171).

وأخرجه الدارقطنى في "سننه" (¬1) بإسناده إلى بلال: "أنه كان يؤذن للنبي - عليه السلام - مثنى مثنى، ويقيم مثنى مثنى". فإن قيل: ضعّف ابن حبان هذا الحديث بزياد البكائي. قلت: لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن أحمد وثقه، وقال أبو زرعة: صدوق، واحتج به مسلم. ص: في حديث أبي محذورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الإقامة مثنى مثنى. حدثنا علي بن معبد وعلي بن شيبة، قالا: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، قالت: سمعت أبا محذورة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عثمان بن السائب، عن أبيه وأم عبد الملك بن أبي محذورة، أنهما سمعا أبا محذورة يقول: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإقامة مثنى مثنى: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". غير أن أبا بكرة يذكر في حديثه "قد قامت الصلاة". حدثنا أبو بكرة وعليّ بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عثمان، قال: ثنا همام، قال: حدثني عامر الأحول، قال: أخبرني مكحول، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - علمه الإقامة سبع عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر ... " ثم ذكر مثل حديث روح بن عبادة. حدثنا عليّ بن معبد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام (ح). ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 242 رقم 33).

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن سنان، قال: ثنا همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أي محذورة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد وأبو عمر الحوضيّ، قالا: ثنا همام (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا همام، قال: ثنا عامر الأحول، قال: ثنا مكحول. أن ابن محيريز حدثه أنه سمع أبا محذورة يقول: "علمني رسول الله - عليه السلام - الإقامة سبع عشرة كلمة". ش: أخرج حديث أبي محذورة هذا ها هنا من سبع طرق فيها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الإقامة مثنى مثنى. وهذا أيضًا مما يؤيد أن الأصل الذي يرجع إليه: حديث عبد الله بن زيد الأنصاري الذي فيه: الإقامة مثل الأذان مثنى مثنى. الأول: عن علي بن معبد بن نوح وعلي بن شيبة بن الصَلْت، كلاهما عن رَوح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، قالت: سمعت أبا محذورة يقول: "علمني رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره". وهذا الإسناد بعينه قد ذكره في أول باب الأذان ولكن فيه: "علّمني رسول الله - عليه السلام - الأذان كما تؤذنون الآذان الله أكبر ... إلى آخره" وها هنا: "علّمني رسول الله - عليه السلام - الإقامة مثنى مثنى ... إلى آخره". وأخرجه النسائي (¬1): عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أبيه وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة وفيه: "وعلّمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 7 رقم 633).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النَّبِيل الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أبيه، وعن أم عبد الملك كلاهما عن أبي محذورة ... إلى آخره. وهذا أيضًا بعينه قد ذكره في أول باب الأذان. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أبيه وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة وفيه: "علّمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". الثالث: عن أبي بكرة بكار وعلي بن عبد الرحمن، كلاهما عن عفان بن مسلم، عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد الأحول، عن مكحول الدمشقي، أن عبد الله بن محيريز حدثه إلى آخره. وهذا أيضًا بعينه قد ذكره في باب الأذان، ولكن لفظه هناك: "علّمه الأذان تسع عشرة كلمة" وها هنا: "علمه الإقامة سبع عشرة كلمة". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا الحسن بن علي، ثنا عفان وسعيد بن عامر والحجاج -والمعنى واحد- قال عفان: نا همام، نا عامر الأحول، حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علّمه الأذان تسعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشرة كلمة ... " الحديث، وقد ذكرناه بتمامه في باب "الأذان". وأخرجه الترمذى (¬3): نا أبو موسى محمَّد بن المثنى، قال: نا عفان، قال: نا همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 136 رقم 501). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 137 رقم 502). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 367 رقم 192).

"أن رسول الله - عليه السلام - علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وأبو محذورة اسمُه سَمرة بن مِعْيَره. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1) ولفظه: "فعلّمه الأذان والإقامة مثنى مثنى. وكذلك رواه ابن حبان في "صحيحه" (¬2)، واعترض البيهقي وقال: هذا الحديث عندي غير محفوظ الوجوه: أحدها: أن مسلمًا لم يخرّجه ولو كان محفوظًا لم يتركه مسلم لأن هذا الحديث قد رواه هشام الدستوائي، عن عامر الأحول دون ذكر الإقامة كما أخرجه مسلم في "صحيحه". والثاني: أن أبا محذورة قد روي عنه خلافه. والثالث: أن هذا الخبر لم يَدُم عليه أبو محذورة ولا أولاده، ولو كان هذا حكمًا ثابتًا لمَا فعلوا بخلافه. وأجاب الشيخ في "الإِمام" بأن عدم تخريج مسلم إياه لا يدلّ على عدم صحته؛ لأن لم يلتزم إخراج كل الصحيح. وعن الثاني: أن تعيين العدد "تسعة عشر وسبعة عشر" ينفي الغلط في العدد، بخلاف غيره من الروايات؛ لأنه قد يقع فيها اختلاف وإسقاط، وأيضًا قد وجدت متابعة لهمام في روايته عن عامر. كما أخرجه الطبراني (¬3): عن سعيد بن أبي عروبة، عن عامر بن عبد الواحد، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة: قال: "عَلَّمني رسول الله - عليه السلام - الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 195 رقم 377). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 577 رقم 1681). (¬3) "المعجم الكبير" (1/ 170 رقم 6728).

وعن الثالث: أن هذا داخل في باب الترجيح لا في باب التضعيف؛ لأن عمدة التصحيح عدالة الراوي، وترك العمل بالحديث لوجود مأثور أرجح منه لا يلزم منه ضعفه؛ ألا ترى أن الأحاديث المنسوخة يحكم بصحتها إذا كانت روُاتها عدولًا, ولا يعمل بها لوجود الناسخ، وإذا آل الأمرُ إلى الترجيح فقد يختلف الناس. قلت: وله طريق أخر عند أبي داود (¬1) أخرجه: عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب وفيه: "وعلّمني الإقامة مرتين مرتين" ثم ذكرها مفسرا وقد مرّ بيانه. وله طريق عند الطحاوي (¬2) أخرجه: عن شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: "سمعت أبا محذورة يؤذن مثنى مثنى ويقيم مثنى مثنى". قال في "الإِمام": قال ابن معين: عبد العزيز بن رفيع ثقة. الرابع: عن علي بن معبد بن نوح، عن موسى بن داود الضبّي، عن همام بن يحيى، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه الدارقطني (¬3): ثنا أبو هاشم عبد الغافر بن سلامة الحمصي، ثنا محمَّد ابن عون الحمصي، ثنا موسى بن داود، عن همام، عن عامر الأحول، أن مكحولًا حدّثه، أن ابن محيريز حدّثه، أن أبا محذورة حدّثه، قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان تسعة عشر كلمةً بعد فتح مكة، والإقامة سبعة عشر كلمة". الخامس: عن محمَّد بن راشد، عن محمَّد بن سنان العَوَقي، عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 136 رقم 501). (¬2) شرح "معاني الآثار" (1/ 136). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 238 رقم 7).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا سُويد بن نَصْر، قال: أنا عبد الله، عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد، قال: ثنا مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، ثم عدّها أبو محذورة تسع عشرة وسبع عشر كلمة". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُّسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي وأبي عمر حفص بن عُمر الحَوضْي، كلاهما عن همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة يقول: "علّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإقامة سبع عشرة كلمة". وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال (ح). وثنا محمَّد بن يحيى بن المنذر القزاز، ثنا حفص بن عمر الحوضي (ح). وثنا معاذ بن المثنى، ثنا أبو الوليد الطيالسي (ح). وثنا زكرياء بن حمدويه الصفَّار، ثنا عفان، قالوا: ثنا همام، ثنا عامر الأحول، حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - علَّمه الأذان تسعة عشر كلمة، والإقامة سبعة عشر كلمة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والإقامة مثنى مثنى". السابع: عن محمَّد بن خزيمة البصري، عن الحجاج بن منهال الأنْماطي، عن همام، عن عامر، عن مكحول، أن ابن مُحيريز حدثه، أنه سمع أبا محذورة يقول: "علّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإقامة سبع عشرة كلمةً". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 4 رقم 630). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 170 رقم 6728).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا أبو الوليد الطيالسي وحجاج بن المنهال، قالا: نا حماد، قال: نا همام، نا عامر الأحول- قال حجاج في حديثه: عامر بن عبد الواحد- قال: حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - علمه الأذان تسعة عشر كلمة، والإقامة سبعة عشر كلمة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فتصحيح معاني هذه الآثار يُوجبُ أن تكون الإقامة مثل الأذان سواءً، على ما ذكرنا؛ لأن بلالًا اختلف عنه فيما أُمِر به من ذلك، ثم ثبت هو من بعد على التثنية في الإقامة بتواتر الآثار في ذلك. ش: أراد بها الآثار المروية عن أبي محذورة فإنها صريحة في أن الإقامة والأذان متساويان. قوله: "لأن بلالًا اختلف عنه فيما أُمِرَ به من ذلك" أي: من أَمر الإقامة، فروي عنه أنه أُمِر بأن يوتر الإقامة، وروى أنه - عليه السلام - علّمه ما رآه عبد الله بن زيد في منامه، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم بعد ذلك ثبت هو على تثنية الإقامة كما روى عنه الأسود النخعي وسُويد بن غفلة، على مَا مَرَّ مستقصىً. قوله: "بتواتر الآثار" أي بتكاثر الأخبار والروايات فيها على ما ذكر. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإن قومًا احتجوا في ذلك ممن يقول الإقامة تُفرَدُ مرةً مرةً بالحجة التي ذكرناها لهم في هذا الباب مما يكرر في الأذان ومما لا يكرر، فكانت الحجة عليهم في ذلك: أن الأذان كما ذكروا ما كان منه مما يذكر في موضعين مرّ ثُنِّي في الموضع الأول وأفْرِد في الموضع الآخر، وما كان منه غير مُثنى أفْرِد، وأما الإقامةُ فإنَّها تُفْعلُ بعد انقطاع الأذان، فلها حكم مستقِلٌّ، وقد رأينا ما تُختمُ به الإقامة من قول لا إله إلا الله هو ما يُختْمُ به الأذان من ذلك، فالنظر على ذلك: أن تكون بقية الإقامة على مثل بقية الأذان أيضًا، فكان مما يدخل على هذه الحجة: أنَّا رأينا ما تُخْتَمُ به الإقامةُ لا نِصْفَ له، فيجوز أن يكون المقصود إليه منه هو نصفه إلا ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 292 رقم 1197).

أنه لما لم يكن له نصفٌ كان حكمه كحكم سائر الأشياء التي لا تنقسمُ مما إذا وجَب بعضها؛ وجَب بوجُوبه كلُها، فلهذا صَارَ ما يُختم به الأذان والإقامة من قول لا إله إلا الله سواءً، فلم يكن في ذلك دليلٌ لأحَد المعنيين على الآخر، ثم نظرنا في ذلك، فرأيناهم لم يَخْتلفوا أنه في الإقامة بعد الصلاة والفلاح يقولُ: الله أكبر الله أكبر، فيجيء به ها هنا على مثل ما يجيء به في الأذان في هذا الموضع أيضًا, ولا يجيء به على نصف ما هو عليه في الأذان، فلما كان هذا من الإقامة مما له نصفٌ على مثل ما هو عليه في الأذان أيضًا سواء؛ كان ما بقي من الإقامة أيضًا هو على مثل ما هو عليه في الأذان أيضًا، لا يُحذَف من ذلك شيء، فثبتَ بذلك أن الإقامة مثنى مثنى، وهذا قول أبي حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: لما قال الخصم فيما مضى: إن الأذان ما كان منه مكررًا لم يثنى في المرة الثانية وجعل على النصف مما هو عليه في الابتداء، وكانت الإقامة لا يبتدأ بها وإنما هي تفعل بعد انقطاع الأذان، وكان النظر على ذلك: أن يكون ما فيها مما هو في الأذان غير مثنى وما فيها مما ليس في الأذان مثنى، فكل الإقامة في الأذان غير "قد قامت الصلاة" فتفرد الإقامة كلها ولا تكرر غير "قد قامت الصلاة" فإنها تكرر لأنها ليست في الأذان. شرع الطحاوي في الجواب عنه بقوله: "إن الأذان كما ذكروا ... " إلى آخره. تحريره: سلَّمنا أن الأذان ما كان منه يذكر في موضعين يثنى في الموضع الأول ويفرد في الموضع الآخر، وما كان فيه غير مثنى أفرد ولكن رأينا ما يختم به الإقامة من قول: "لا إله إلا الله" هو ما يختم به الأذان في ذلك، فالنظر والقياس على ذلك: أن تكون بقية الإقامة مثل بقية الأذان أيضًا، وبقية الأذان مثنى مثنى، فتكون بقية الإقامة مثنى مثنى كذلك. حاصل هذا الكلام: أن الخصم لما نظر في إفراد الإقامة إلى كون ألفاظها على النصف مما كان عليه ألفاظ الأذان، بناء على أن ما يكرر في ألفاظ الأذان يجعل على النصف مما هو عليه في الابتداء، نظرنا نحن في كونها مثنى مثنى مثل

الأذان، إلى كون مساواة آخرها بما كان يختم به الأذان، فإذا ساوت الأذان في إفراد اللفظ فيما يختتم به كل منهما؛ كان النظر والقياس أن تساوي بقيتها بقية الأذان، فثني حينئذ، وفيه نظر من جهة الخصم، أشار إليه بقول: فكان مما يدخل على هذه الحجة، وجه النظر: أن ما تختم به الإقامة هو قول لا إله إلا الله لا نصف له؛ لأنه لا يتجزأ، ويجوز أن يكون المقصود إليه منه أي مما يختم به الأذان هو نصفه؛ لأن النظر أن يكون ما في الإقامة نصف ما في الأذان -على ما تقرر- ولكن لما لم يكن له نصف لعدم التجزء كان حكمه كحكم الأشياء التي لا تتجزأ مما إذا وجبت بعضها وجبت به كلها لعدم التجزأ، فحينئذ تكون مساواة اختتام الإقامة والأذان بقول لا إله إلا الله من أجل هذا المعنى، وهو كونه مما إذا وجب بعضه وجب كله لعدم التجزأة لا لأجل ما ذكرتم من كونها تُختم بما يختم به الأذان، وهو معنى قوله: "فلهذا صار ... " إلى آخره. فحينئذ لم يكن لأحد المعنيين دليل على الآخر؛ فنحتاج حينئذ إلى نظر صحيح في كون الإقامة مثل الأذان، فأشار إليه بقوله: "ثم نظرنا في ذلك ... " إلى آخره، تحريره: أنا رأيناهم أي الأخصام كلهم لا يختلفون أن المُقيمُ يقول في الإقامة بعد الصلاة والفلاح: الله أكبر الله أكبر، مرتين فيجيء به ها هنا -أي في الإقامة- مثل ما يجيء في الأذان، حيث لم يجعله على النصف مما كان هو عليه في الأذان، والحال: أن هذا ما له نصف لأنه لا يتجزأ، ولما جاء على مثل ما هو عليه في الأذان سواء من غير تنصيف كان النظر على ذلك: أن يكون ما بقي من الإقامة من سائر ألفاظها أيضًا على مثل ما هو عليه في الأذان، ولا يحذف من ذلك شيء ولا ينصِّف، فحينئذ ثبت بذلك أن الإقامة مثنى مثنى كما أن الأذان مثنى مثنى. قوله: "سواءً" نصبَ على أنه خبر "كان" الذي في قوله: "فلما كان هذا من الإقامة". وقوله: "كان ما بقي من الإقامة" جواب قوله: "فلما كان" فافهم.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن نفرٍ من أصحاب- عليه السلام -: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمِّع بن جارية، عن عبيد موك سلمة بن الأكوع: "أن سلمة بن الأكوع كان يثني الإقامة". ش: أي قد رُوي ما ذكرنا من تثنية الإقامة أيضًا عن جماعة من الصحابة منهم سلمة بن الأكوع، أخرج عنه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الحميد ابن صالح بن عجلان البرُجمي الكوفي -وثقه ابن حبان وغيره- عن وكيع بن الجراح الكوفي، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجمَّع -بتشديد الميم- ابن جارية -بالجيم- وقيل: إبراهيم بن إسماعيل بن يزيد بن مجمِّع بن جارية الأنصاري، أبي إسحاق المدني، فيه مقال: قال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه. واستشهد به البخاري. عن عبيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن عبيد الله مولى سلمة بن الأكوع: "أن سلمة بن الأكوع كان يثني الإقامة". وأخرجه الدارقطني (¬2) ولكن عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع. قال: ثنا أبو عمر القاضي، ثنا ابن الجنيد، ثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع: "أنه كان إذا لم يدرك الصلاة مع القوم أذَّن وأقام وثنى الإقامة". ويستفاد منه: أنه لو لم يثبت عنده استقرار الأمر بعد النبي - عليه السلام - على شبه الإقامة لم يأت بها مثنى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 187 رقم 2178). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 241 رقم 26).

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان العَوَقِي، قال: نا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، قال: "كان ثوبان - رضي الله عنه - يؤذن مثنى مثنى، ويقيم مثنى مثنى". ش: رجاله ثقات، وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان، ولكنه منقطع لأن العجلي قال: إبراهيم النخعي لم يحدث عن أحد من أصحاب النبي - عليه السلام - وقد أدرك منهم جماعةً. قلت: إبراهيم ثقة ثبت لو لم يثبت عنده أن ثوبان كان يثني الإقامة لما أخبر به عنه. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان، قال: ثنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: "سمعت أبا محذورة يؤذن مثنى، ويقيم مثنى". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، أما ابن خزيمة فإن ابن يونس وغيره وثقوه. ومحمد بن سنان العوقي روى عنه البخاري، وقال ابن معين: ثقة مأمون. وشريك النخعي وثقه ابن معين فقال: صدوق ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان حسن الحديث. وعبد العزيز بن رفيع روى له الجماعة، وهو أحد مشايخ أبي حنيفة - رضي الله عنه -. وهذا دليل قاطع على أنه ثبت عند أبي محذورة انتساخ حكم إفراد الإقامة، إذ لو كان ثابتا لما كان وسعه أن يأتي إلا بالإفراد، فلما أتى بها مثنى دلّ على أن التثنية هي الأصل فيها، كما كان في أذان عبد الله بن زيد وإقامته. فهذا كما رأيت قد أُخْرج عن ثلاثة من الصحابة أنهم كانوا يثنون الإقامة، وهم: سلمة بن الأكوع، وثوبان، وأبو محذورة. وفي الباب عن عبد الله بن زيد الأنصاري، وعلي بن أبي طالب.

أخرج خبرهما ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان عبد الله بن زيد الأنصاري مؤذن النبي - عليه السلام - يشفع الأذان والإقامة". نا هشيم (¬2)، عن عبد الرحمن بن يحيى، عن الهجيع بن قيس: أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يقول: [الأذان مثنى والإقامة] (¬3)، وأتى على مؤذن يقيم مرة مرة فقال: ألا جعلتها مثنى، لا أم لك". وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬4) وقال: ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا زكريا ابن يحيى، ثنا زياد بن عبد الله، عن إدريس الأودي، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: "أذن بلال لرسول الله - عليه السلام - بمنى مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى". وأخرجه الدارقطني (¬5): ثنا محمَّد بن مخلد، ثنا أبو عون محمَّد بن عمرو بن عون ومحمد بن عيسى الواسطيان، قالا: ثنا يحيى بن زكرياء، ثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل، عن إدريس الأودي، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: "أن بلالًا كان يؤذن للنبي مثنى مثنى، ويقيم مثنى مثنى، وقال ابن عون: بصوتين صوتين، وأقام مثل ذلك". فهذا دليل صريح على أن أذان النبي - عليه السلام - وإقامته: مثنى مثنى على الدوام؛ لأن قوله: "كان يؤذن" يدل على ذلك لأن "كان" للاستمرار والدوام، فافهم. ص: وقد روي عن مجاهد في ذلك ما قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن مجاهد: "في الإقامة مرة مرة: إنما هو شيء استخفه الأمراء" فأخبر مجاهد أن ذلك محدث وأن الأصل هو التثنية. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 187 رقم 2139). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 187 رقم 2137). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المصنف": الأذان والإقامة مثنى. (¬4) "المعجم الكبير" (22/ 101 رقم 246). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 242 رقم 33).

ش: أي قد روي عن مجاهد بن جبر المكي في إفراد الإقامة أنه ليس له أصل، وأنه مُحْدَث أحدثه الأمراء لأجل الاستخفاف، فهذا مجاهد ينادي بأعلى صوته أن أصل الإقامة التثنية، وأن إفرادها مُحْدَث. ورجال هذا ثقات. وفِطر بكسر الفاء.

ص: باب: قول المؤذن في أذان الصبح الصلاة خير من النوم

ص: باب: قول المؤذن في أذان الصبح الصلاة خير من النوم ش: أي هذا باب في بيان قول المؤذن في أذان الصبح: "الصلاة خير من النوم " بعد "الفلاح" وفي بيان أصله ومشروعيته وحكمه. ص: قال أبو جعفر: كره قوم أن يقال في أذان الصبح: "الصلاةَ خير من النوم" واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن زيد في الأذان الذي أمره النبي - عليه السلام - بتعليمه إياه بلالًا فأمر بلالًا بالتأذين به. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، وطاوسًا، والأسود بن يزيد؛ فإنهم كرهوا أن يقال في أذان الصبح: "الصلاة خير من النوم" وهو قول عن الشافعي وإسحاق وقالوا: لم يكن هذا في الأذان الذي أمر به النبي - عليه السلام - لعبد الله بن زيد أن يعلم بلالًا. وقال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، قال: أخبرني حسن بن مسلم: "أن رجلًا [سأل] (¬2) طاوسًا وحسن جالس مع القوم، فقال: يا أبا عبد الرحمن، متى قيل: "الصلاة خير من النوم"؟ فقال طاوس: أما إنها لم تُقَلْ على عهد رسُول الله - عليه السلام - ولكن بلالًا سمعها في زمان أبي بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - عليه السلام - يقولها رجل غير مؤذن، فأخذها منه فأذن بها، فلم يمكث أبو بكر إلا قليلًا، حتى إذا كان عمر - رضي الله عنه - قال: لو نهينا بلالًا عن هذا (الذي) (¬3) أحدث وكأنه نسيه، فأذن به الناس حتى اليوم". عبد الرزاق (¬4): عن ابن جريج، قال: "سألت عطاءً: متى قيل: الصلاة خير من النوم؟ قال: لا أدري". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 474 رقم 1827). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من مصنف عبد الرزاق. (¬3) في "الأصل، ك": الحديث، وهو تحريف، والمثبت من المصنف. (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 474 رقم 1828).

عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن حفص: "أن سعدًا أول من قال: الصلاةُ خير من النوم. في خلافة عمر - رضي الله عنه - , فقال عمر: بدعة. ثم تركه، وإن بلالًا لم يؤذن لعمر - رضي الله عنه -". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن عمران بن أبي الجعد، عن الأسود بن يزيدٌ أنه سمع مؤذنًا يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم فقال: لا تَزِيدَنَّ في الأذان ما ليس منه". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فاستحبوا أن يقال ذلك في التأذين للصبح بعد "الفلاح"، وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه وإن لم يكن ذلك في تأذين عبد الله بن زيد فقد علمه النبي - عليه السلام - أبا محذورة بعد ذلك، وأمره أن يجعله في الأذان للصبح. حدثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة: "أن النبي - عليه السلام - علمه في الأذان الأول من الصبح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، وأبا حنيفة، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وأصحابهم، وجماهير العلماء؛ فإنهم استحسنوا أن يقال ذلك أي قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" في أذان صلاة الصبح، وقالوا: إن لم يكن هذا القول في أذان عبد الله بن زيد فإن النبي - عليه السلام - عَلَّم أبا محذورة أن يقول ذلك في أذان الصبح، وأخرج ذلك عن علي بن معبد ... إلى آخره، وكلهم قد ذُكِرُوا في باب الأذان غير مرة. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا الحسن بن علي، نا أبو عاصم وعبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة نحوه، وفيه: "الصلاة خير من النوم" في الأول من الصبح مرتين. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 474 رقم 1829). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 189 رقم 2166). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 136 رقم 501).

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬1)، وابن حزم (¬2) بإسناده إلى أبي محذورة قال: "كنت أؤذن لرسول الله - عليه السلام - في صلاة الفجر فأقول في الأذان الأول: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم" وصححه. وأخرج الدارقطني (¬3): عن ابن جريج، عن عثمان بن السائب، عن أبيه وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة، قضية الأذان مطولة، وفيه: "فإذا أذَّنْت بالأولى من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم. مرتين". ص: حدثنا عليّ بن معبد، قال: ثنا الهيثم بن خالد بن يزيد، قال: ثنا أبو بكر ابن عياش، عن عبد العزيز رفيع، قال: سمعت أبا محذورة قال: "كنت غلامًا صيِّتًا، فقال لي رسُول الله - عليه السلام - ... ، قل: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم". فلما عَلَّم رسُول الله - عليه السلام - ذلك أبا محذورة كان ذلك زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد، ووجب استعمالها. ش: إسناده صحيح. وأخرجه الدارقطني (¬4): ثنا أحمد بن العباس البغوي، ثنا عباد بن الوليد أبو بدر، حدثني الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عبد العزيز بن رفيع، قال: سمعت أبا محذورة يقول: "كنت غلامًا صيِّتًا، فأذنت بين يدي رسُول الله - عليه السلام - الفجر يوم حنين، فلما بلغت حي على الصلاة حي على الفلاح، قال رسُول الله - عليه السلام -: ألحق فيها: الصلاة خير من النوم". قوله: "صيِّتًا" على وزن ضيّق، صفة مشبهة؛ وأراد به شديد الصوت عالية، يقال: هو صيِّتٌ وصائت، مثل مَيِّت ومائت، وأصله صَيْوت؛ لأنه من الأجوف ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 422 رقم 1832). (¬2) "المحلى" (3/ 151). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 235 رقم 4). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 237 رقم 4).

الواوي، اجتمعت الواو والياء وسُبِقَت [إحداهما] (¬1) بالسكون، فأبدلت "الواو" "ياء" وأدغمت "الياء" في "الياء". وفي الباب عن بلال وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم -. أما حديث بلال فعند ابن ماجه (¬2): ثنا (عَمْرو) (¬3) بن رافع، نا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن بلال: "أنه أتى النبي - عليه السلام - يُؤْذنه بصلاة الفجر، فقيل: هو نائم. فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فأُقِرَّت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك". وأخرجه الدارمي أيضًا في "سننه" (¬4). وأما حديث أبي هريرة فعند الطبراني في "الأوسط" (¬5) بإسناده عنه: "أن بلالًا أتى النبي - عليه السلام - عند الأذان في الصبح فوجده نائمًا فناداه: الصلاة خير من النوم. فلم ينكره رسُول الله - عليه السلام -، وأدخله في الأذان، فلا يؤذن لصلاة قبل وقتها غير صلاة الفجر". وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فعند الطبراني أيضًا في "الأوسط" (¬6) بإسناده عنها قالت: "جاء بلال إلى النبي - عليه السلام - يُؤذِنه بصلاة الصبح، فوجده نائمًا، فقال: الصلاة خير من النوم، فأقرت في أذان الصبح". ص: وقد استعمل ذلك أصحاب النبي - عليه السلام - مِنْ بعده. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن العجلان، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم". ¬

_ (¬1) في "الأصل": إحديهما، وهو خلاف الجادة. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 237 رقم 716). (¬3) في "سنن ابن ماجه" عُمَر، هو تحريف. (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 289 رقم 1192). (¬5) "المعجم الأوسط" (4/ 267 رقم 4158). (¬6) "المعجم الأوسط" (7/ 309 رقم 7583).

ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دُكَيْن. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) بإسناده إلى الثوري، عن ابن عجلان ... إلى آخره نحوه. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن محمَّد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول في الفجر إذا قال حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم". ص: حدثنا علي بن شيبه، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هُشَيْم (ح). وثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عوْن، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، عن محمَّد بن سيرين، عن أنس قال: "ما كان التثويب إلا في صلاة الغداة، إذا قال المؤذن: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم مرتين". قال أبو جعفر: فهذا ابن عمر وأنس - رضي الله عنهم -، يخبران أن ذلك مما كان المؤذن يؤذن به في أذان الصبح، فثبت بذلك ما ذكرناه، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: هذان إسنادان: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يحيى بن يحيى النيسابوري، عن هُشْيم بن بَشير، عن عبد الله بن عون، عن محمَّد بن سيرين، عن أنس. وأخرجه الدارقطني (¬3): ثنا أحمد بن عبد الله الوكيل، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين عن أنس قال: "كان التثويب في صلاة الغداة، إذا قال المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح؛ أن يقول: الصلاة خير من النوم". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 423 رقم 1837). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 473 رقم 1822). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 243 رقم 39).

الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُسي، عن عمرو بن عَوْن، عن هُشيم بن بشير، عن عبد الله بن عون، عن محمَّد بن سيرين، عن أنس نحوه. وأخرج البيهقي في "سننه" (¬1) بإسناده إلى أبي أسامة: ثنا ابن عون، عن محمَّد ابن سيرين، عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". قال الذهبي في مختصر السنن: إسناده صحيح. قوله: "مكان التثويب" الأصل في التثويب أن يجيء الرجل مُسْتَصْرِخًا فَيُلوِّح بثوبه لِيُرى ويشتهر، فسمِّي الدعاء تثويبًا لذلك، وكل داع مُثوِّبٌ، وقيل: إنما سمّي تثويبًا من ثاب يثوب إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعاهم إليها، فإذا قال بعد: الصلاة خير من النوم فقد رجع إلى كلامٍ معناه المبادرة إليها (¬2)، ومن ذلك تسمّى الثَّيِّب؛ مُصِيبَهَا عائد إليها. وهذا أنس - رضي الله عنه - قد فَسَّر التثويب بقوله: "الصلاة خير من النوم". وقال الترمذي: واختلف أهل العلم في تفسير التثويب فقال بعضهم: أن يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، وهو قول ابن المبارك وأحمد، وقال إسحاق في التثويب غير هذا، قال: التثويب شيء أحدثه الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - , إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح. قال: وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي كرهه أهل العلم، والذي أحدثوه بعد النبي - عليه السلام -، والذي فسّر ابن المبارك وأحمد أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم هو قول صحيح، وهو الذي اختاره أهل العلم. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 423 رقم 1835). (¬2) انظر "النهاية في غريب الحديث" (1/ 226).

وفي "البدائع" (¬1) ذكر محمَّد في كتاب الصلاة: قلت: أرأيت كيف التثويب في صلاة الفجر؟ قال: كان التثويب الأول بعد الأذان: الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن فسّر التثويب وبيّن وقته، ولم يُبيّن التثويب المحدث ولم يبُين وقته، وفسر ذلك في "الجامع الصغير" وبيّن وقته، فقال: التثويب الذي يَصْنعه الناس بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين حسَنٌ، وإنما سماه مُحْدث؛ لأنه حدث في زمان التابعين، ووصفه بالحُسْن لأنهم استحسنوه. وأما محل التثويب: فمحل الأول: هو صلاة الفجر عند عامة العلماء، وقال الناس بالتثويب في صلاة العشاء أيضًا، وهو أحد قولي الشافعي في القديم، وأنكر التثويب في الحديث. وأما التثويب المحدث فمحله صلاة الفجر أيضًا ووقته بين الأذان والإقامة، وتفسيره أن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح غير أن مشايخنا قالوا: لا بأس بالتثويب المحدث في سائر الصلوات؛ لفرط غلبة الغفلة عَلى الناس في زماننا، وشدة ركونهم إلى الدنيا، وتهاونهم بأمور الدين، فصار سائر الصلوات في زماننا مثل الفجر في زمانهم، فكانت زيادة الإعلام من باب التعاون على البر فكان مستحسنًا, ولهذا قال أبو يوسف: لا أري بأسًا أن يقول المؤذن: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله لاختصاصهم بزيادة شغْل بسبب النظر في أمور الرعية فاحتاجوا إلى زيادة إعلام نظرًا لهم، ثم التثويب في كل بلدة على ما يتعارفونه إما بالتنحنح أو بقوله: الصلاة الصلاة، أو قامت قامت، ونحو ذلك. انتهى. وعند الشافعي ومالك وأحمد: لا تثويب في الفجر يعني التثويب المحدث كما في سائر الصلوات، وقد عرف هذا في الفروع. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (1/ 148).

ص: باب: التأذين للفجر أي وقت هو بعد طلوع الفجر أو قبل ذلك

ص: باب: التأذين للفجر أي وقت هو بعد طلوع الفجر أو قبل ذلك ش: أي: هذا باب في بيان حكم التأذين للفجر هل يكون بعد طلوع الفجر أو قبله؟ ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا يُنادِي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أم مكتوم". قال ابن شهاب: وكان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحْتَ أصبحتَ. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن الزهري، عن سالم، عن النبي - عليه السلام - مثله. ولم يذكر ابن عمر - رضي الله عنهما -. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا يزيد قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن الزهري فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، قال: قال سالم بن عبد الله: سمعت عبد الله يقول: إن النبي - عليه السلام - قال: "أن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أم مكتوم". حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالِسيُّ، قال: ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا إبرهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن شَيْبة، قال: ثنا روح بن عُبادة، قال: ثنا مالكُ وشعبة، عن عبد الله بن دينار، فذكر بإسناد مثله، غير أنه قال: "حتي ينادي بلال أو ابنُ أم مكتوم" شك شعبة. ش: هذه تسع طرق صحاح مَرفوعة غير الطريق الثاني فإنه موقوفٌ على ما نذكره الآن. الأول: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي -شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، عن النبي - عليه السلام -. وهذا على شرط الشيخين. وأخرجه البخاري (¬1) عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "إن بلالًا يؤذن بليل". قوله: "ينادي" أي يؤذن، و"الباء" في "بليل" للظرف، واسم ابن أم مكتوم: عبد الله ويقال: عَمرو -وهو الأكثر- ابن قيس بن زائدة القرشي العامريّ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم، وهو ابن خال خديجة بنت خويل - رضي الله عنها -، وابن أم مكتوم هاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي - عليه السلام -، واستخلفه النبي - عليه السلام - على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد فتح القادسية وقتل شهيدًا بها وكان معه اللواء يومئذٍ. وفي صحيح مسلم (¬2): "وكان لرسول الله - عليه السلام - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم" يعني في وقت واحد وإلا فقد كان له - عليه السلام - غيرهما، أذن له أبو محذورة بمكة ورتّبه لأذانها وسعد القرظ أذّن للنبي - عليه السلام - بقباء ثلاث مرات. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 223 رقم 592). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 287 رقم 380).

قوله: "أَصبَحْتَ" أي قاربت الصباح؛ لأن قرب الشيء قد يُعبَّر به عنه. ويستفاد منه أحكام: الأول: استدل به قوم على جواز الأذان في الفجر قبل طلوعه على ما يجيء. الثاني: فيه جواز أذان الأعمى بلا كراهة، وقالت الشافعية: يكره أن يكون الأعمى مؤذنًا وحده، وعند مالك لا يكره، وقال أبو عمر: وفيه جواز أذان الأعمى وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه إلى الأوقات. وفي "البدائع": البصير أولى من الضرير لأنه لا علم له بدخول الوقت، ومع هذا لو أذّن يجوز؛ لحصول الإعلام بصوته، وإمكان الوقوف على المواقيت من غيره في الجملة. الثالث: فيه جواز اتخاذ المُؤَذِّنَين وإذا جاز اتخاذ اثنين منهم جاز أكثر من ذلك. وقال عياض: يؤذنان مجتمعين أو مفترقين إلا في ضيق الوقت فلا بأس بأذانهم مجتمعين. الرابع: فيه دليل على أن السحور لا يكون إلا قبل الفجر، لقوله - عليه السلام -: "إن بلالًا ينادي بليل فكلوا" ثم منعهم ذلك عند أذان ابن أم مكتوم، وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذَّ ولم يُعَّرج على قوله، والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لا خلاف في ذلك، وعليه إجماع علماء المسلمين. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) عن ابن شهاب، عن سالم، أن رسُول الله - عليه السلام - قال: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وكان ابن أم مكتوم رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ. قال أبو عمر (¬2) هكذا رواه ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 74 رقم 162). (¬2) "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 55) مع تقديم وتأخير.

يحيى مرسلًا عن سالم لم يقل فيه: عن أبيه، وتابعه على ذلك أكثر رواة الموطأ، وممن تابعه على ذلك ابن القاسم والشافعي وابن بكير وأبو المصعب وعبد الله بن يوسف التِنِّيْسي ومُصعب الزُبَيْري ومحمد بن الحسن ومحمد بن المبارك الصوري وسَعيد بن عُفير ومَعْن بن عيسى، ووصله جماعة عن مالك فقالوا فيه: عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. وممن رواه هكذا مسندًا: القعنبي وعبد الرزاق وأبو قرة موسى بن طارق ورَوح بن عبادة وعبد الله بن نافع ومطرف وابن أبي أُويس وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن إبراهيم الحُنَيْني ومحمد بن عمر الواقدي وأبو قتادة الحرّاني ومحمد بن حَرْب الأبرش وزهير بن عبَّاد وكامل بن طلحة وابنُ وهب في رواية أحمد بن صالح عنه. وأما أصحاب ابن شهاب فرووه متصلًا مسندًا عن ابن شهاب. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الله بن صالح -كاتب الليث- عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه النسائي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يُؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم". الرابع: عن يزيد بن سنان أيضًا عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2): ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال: وكان ضريرًا فكان يقال له: أذّنْ فقد أَصْبَحْت". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 10 رقم 638). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 250 رقم 1819).

الخامس: عن إبراهيم ابن أبي داود البرُلُّسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي، عن محمَّد ابن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه العدني في "مسنده" عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". السادس: عن الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب بن إبراهيم الأنطاكي المعروف بالبالِسي، عن محمَّد بن كثير الثقفي الصنعاني، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عن النبي - عليه السلام -. السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا شعبة، قال: عبد الله بن دينار أخبرني، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2) وقال: أنا قتيبةُ، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". التاسع: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن رَوْح بن عُبادة القَيْسي، عن مالك ابن أنس وشعبة بن الحجاج إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 73 رقم 5424). (¬2) "المجتبى" (2/ 10 رقم 637).

وأخرج أحمد في "مسنده" (¬1): عن عفان، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلال ينادي بليل -أو ابن أم مكتوم ينادي بليل- فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام - مثله، ولم يشك قالت: "ولم يكن بينهما إلا مقدار ما ينزلُ هذا ويَصْعد هذا". ش: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُسَدّد -شيخ البخاري- عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن عائشة الصديقة - رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام - مثله. وأخرجه النسائي (¬2): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا حفصٌ، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويَصْعد هذا". وقد وقع في بعض نسخ النسائي (¬3) "إذا أذن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". وكذا وقع في مسند "الدارمي" (¬4) وقال: أنا إسحاق، أنا عبدة، أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وعن القاسم، عن عائشة قالت: "كان للنبي - عليه السلام - مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 73 رقم 5424) وقد تقدم. (¬2) "المجتبى" (2/ 10 رقم 639). (¬3) كذا هو في نسختي كما في العزو السابق، وكذا هو في "السنن الكبرى" للنسائي (1/ 501 رقم 1603). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 288 رقم 1191).

حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، قال القاسم: وما كان بينهما إلا أن ينزل هذا ويَرْقى هذا". وكذا في "الصحيحين" (¬1) من حديث عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة. وعن نافع، عن ابن عمر قالا: "كان للنبي - عليه السلام - مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم فقال رسُول الله - عليه السلام -: إن بلالًا يَؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال القاسم: لم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويَرْقي هذا" وقد وفق بعض المحدثين بين الروايتين فقال: لعلَّ بين بلال وبين ابن أم مكتوم مناوبة بالتقديم والتأخير، يعني بأن يتقدم ابن أم مكتوم على بلال وتارة يتقدم بلال على ابن أم مكتوم وما ذكر في الصحيحين هو الأصح. وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: مجموع ما ورد في تقديم الأذان قبل الفجر إنما ذلك بزمن يسير لعله لا يبلغ مقدار قراءة الواقعة بل أقل، فبهذا المقدار تحصل فضيلة التقديم لا بأكثر، أما ما يُفْعل في زماننا من أنه يؤذن للفجر أولًا من الثلث الأخير؛ فخلاف السنة لو سُلِّم جوازه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة, قال: سمعت خُبَيْب بن عبد الرحمن، يحدث عن عمته أَنَيْسة، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا -أو ابن أم مكتوم- ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال -أو ابن أم مكتوم- وكان إذا نزل هذا وأراد هذا أن يصعد تعلقوا به وقالوا: كما أنت حتى نتسحَّر". ش: إسناده صحيح وخُبَيْب -بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- ابن عبد الرحمن بن خُبَيْب ابن يَسَاف -بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة- الأنصاري الخزرجي، أبو الحارث المدني روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 224 رقم 597)، و "صحيح مسلم" (2/ 768 رقم 1092).

وأَنيْسة -بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف- بنت خُبَيْب بن يَسَاف الأنصارية الصحابية. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أُنيْسَةَ -وكانت مُصَلِّيةً- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن ابن أم مكتوم -أو بلالًا- يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال -أو ابن أم مكتوم- وما كان إلا أن يؤذن أحدهما حتى يَصْعد الآخر [فنأخذ] (¬2) بيديه فنقول: كما أنت حتى نتسحر". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) من حديث الطيالسي وجماعة، عن شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، حدثتني عمتي أُنَيْسة قالت: كان بلال وابن أم مكتوم يؤذنان للنبي - عليه السلام -، فقال: إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. فكنا نحتبس ابن أم مكتوم عن الأذان فنقول: كما أنت حتى نتسحر، ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا". وأخرجه (¬4) عن أبي الوليد والحوضيّ أيضًا: قالا: ثنا شعبة، عن خُبَيْب، سمعت عمتي أُنَيْسة، أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن ابن أم مكتوم ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال". ثم قال البيهقي: كذا رواه محمَّد بن أيوب، وقد رواه الكديمي، عن أبي الوليد كالأول. ورواه سليمان بن حرب وجماعة عن شعبة بالشك، فقال سليمان: نا شعبة، حدثني خُبَيْب، سمعت عمتي -وكانت قد حجَّت مع رسُول الله - عليه السلام -- قالت: قال رسُول الله - عليه السلام -: "إن بلالًا يؤذن بليل -أو قال: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل- ... " الحديث، وفيه: "فكنا نتعلق به، نقول: كما أنت حتى نتسحر". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 191 رقم 481). (¬2) في "الأصل": "فيأخذ"، والمثبت من "المعجم الكبير". (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 382 رقم 1666). (¬4) "السنن الكبرى" (1/ 382 رقم 1667).

قال أبو بكر الضُبَعي: فإن صح رواية أبي عمر الحوضيّ وغيره فيجوز أن يكون بين ابن أم مكتوم وبين بلال نُوَبٌ، وإن لم يصح فقد صح من وجوه أن الذي كان يؤذن أولًا بلال - رضي الله عنه -. قوله: "ينادي" أي يؤذن؛ لأن النداء بالصلاة هو الأذان. قوله: "تعلقوا به" أي تعلقت الناسُ به. قوله: "كما أنت" "الكاف" فيه يجوز أن تكون للتعليل ويكون خبر "أنت" محذوفًا والتقدير: تعلقنا بك لأنك لا تصبر حتى نتسحر، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (¬1) أي: لهدايتكم. ويجوز أن تكون على حالها للتشبيه كما هو الأصل في معناها. والمعنى: اصبر لا تؤذن كحالك الآن حتى نتسحر. فإن قيل: كيف يجوز لهم التسحر بإمساك بلال أو ابن أم مكتوم عن الأذان إذا كان الفجر طالعًا؟! قلت: ما كان تعلقهم بأحدهما ليؤخر الأذان حتى يتسحروا وإن كان الفجر طالعًا، بل المراد أن لا يستعجل أحدهما في الصعود عقيب أذان الآخر لأن أحدهما كان يؤذن بليل والآخر يصعد، ولهذا قال في رواية الطحاوي: "كان إذا نزل هذا وأراد هذا أن يصعد تعلقوا به ... ". وفي رواية الطبراني: "وما كان إلى [أن] (¬2) إلى يؤذن أحدهما حتى يصعد الآخر". فحينئذ كان تعلقهم به؛ لأجل استعجاله في الصعود لا لأجل أن يؤخر الأذان عن وقته المستحق حتى يتسحروا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [198]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير"، وقد تقدم.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة ... فذكر مثله بإسناده، وزاد: "وكانت قد حَجَّتْ مع النبي - عليه السلام -"، "ولم يكن بينهما إلا مقدار ما يَصعْد هذا وينزل هذا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون الواسطي، قال: ثنا هُشَيم، عن منصور بن زاذان، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن، عن عمته أُنَيْسة قالت: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا نداء بلال". ش: هذان طريقان آخران صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حفص بن عمرو الحوضيّ (ح). وثنا أبو مسلم الكَشِّي، ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمتي -وكانت قد حجّت مع النبي - عليه السلام -- قالت: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. وكان يصعد هذا وينزل هذا، فكنا نتعلق به نقول: كما أنت حتى نتسحّر". والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البُرلُّسي، عن عمرو بن عون ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا يعقوب بن إبراهيم، عن هُشَيم، قال: أبنا منصور، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة قالت: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أذان ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا، وإذا أذَّن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا" وفي بعض النسخ له: "إذا أذن بلال ... إلى آخره". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 191 رقم 480). (¬2) "المجتبى" (2/ 10 رقم 639).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عُبَادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت سوادة القشَيْري -وكان إمامهم- قال: سمعت سمرة بن جُنْدب أن رسُول الله - عليه السلام - قال: "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا اليياض حتى يَبدوُا الفجر أو ينفجر الفجر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: نا شعبة، عن سوادة القشيري، عن سمرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: [هذان] (¬1) إسنادان صحيحان حَسَنَان ورجالهما ثقات، وسوادة هو ابن حنظلة القُشَيْري البصري إمامُ مسجد بني قشُيْر، والد عبد الله بن سوادة قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له مسلم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) ثنا محمَّد بن جعفر ورَوْح، قالا: ثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير- قال روح: سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر [الفجر] (¬3) أو يطلع الفجر". وأخرجه مسلم (¬4): من حديث حماد بن زيد، ثنا عبد الله بن سوادة القشيري، عن أبيه، عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير هكذا- وحكاه حماد بيده يعني معترضًا". وأخرجه الطبراني (¬5): ثنا يوسف القاضي، نا عمرو بن مرزوق، نا شعبة، عن سوادة بن حنظلة القشيري، قال سمعت سمرة بن جندب أن رسُول الله - عليه السلام - قال: "لا يغرنكم نداء بلال؛ فإن في بصره سوءًا , ولا بياض يُرى بأعلى الشجر" وفي ¬

_ (¬1) في "الأصل": "هذا". (¬2) "مسند أحمد" (5/ 7 رقم 20091). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 770 رقم 1094). (¬5) "المعجم الكبير" (7/ 236 رقم 6981).

رواية أخرى له (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا شعبة، سمعت سوادة القشيري، يحدث عن سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير وأومأ بيده (هكذا) (¬2) وأشار يزيد بيده اليمنى". قوله: "ولا يغرنكم نداء بلال" أي أذانه. قوله: "ولا هذا البياض" أي ولا يغرنكم أيضًا هذا البياض، وأراد به: الفجر الكاذب؛ لأنه يبدوا أولًا كذنب السرحان ثم تعقبه الظلمة وهذا لا يخرج به الليل، ولا تحل به الصلاة، فيجوز للصائم حينئذ الأكل والشرب والجماع، وإذا صلى العشاء تكون أداءً. قوله: "حتى يبدوا الفجر" أي: يظهر الفجر وأراد به الفجر الصادق وهو الذي يَبدوا في الأفق وينتشر ضياؤه في العالم، فهذا يدخل به وقت الصبح، ويخرج به حكم الليل. قوله: "أو ينفجر" شكٌ من الراوي أي أو ينشق. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الفجر يؤذن لها قبل دخول وقتها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف: ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير الطبريَّ وعبد الله بن المبارك؛ فإنهم قالوا: يجوز أن يُؤَذن للفجر قبل دخول وقتها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار المذكورة، وممن ذهب إلى قولهم هذا: أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يُؤذن للفجر أيضًا إلا بعد دخول وقتها كما لا يُؤَذنُ لسائر الصلوات إلا بعد دخول وقتها. ¬

_ (¬1) لم أجده في كتب الطبراني، ولكنها بالإسناد عند أحمد في "مسنده" (5/ 18 رقم 20216). (¬2) تكررت في "الأصل".

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة ومحمدًا وزفر بن الهزيل؛ فإنهم قالوا: لا يجوز أن يؤذن للفجر أيضًا إلا بعد دخول وقتها كما لا يجوز ذلك في غيرها من الصلوات إلا بعد دخول وقتها، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن ذلك جائزًا إذا كان للمسجد مؤذنان كما كان لرسول الله - عليه السلام -، فأما إذا لم يكن فيه إلا واحد فإنه لا يجوز أن يفعله إلا بعد دخول الوقت، فيحتمل على هذا أنه لم يكن لمسجد رسُول الله - عليه السلام - في الوقت الذي نهى بلالًا حين أذن قبل طلوع الفجر، وأمره أن يعود فينادي: "أَلَا إِن العبد نام"؛ إلا مؤذن واحد وهو بلال، ثم أجازه حين أقام ابن أم مكتوم مؤذنا؛ لأن الحديث في تأذين بلال قبل طلوع الفجر ثابت كما ذكرناه. ص: واحتجوا في ذلك فقالوا: إنما كان أذان بلال الذي كان يؤذن بليل لغير الصلاة، وذكروا ما. حدثنا علي بن معبد وأبو بشر الرَّقيَّ، جميعًا قالا: ثنا شجاع بن الوليد -واللفظ لابن مَعْبدَ- (ح). حدثنا محمَّد بن عمرو بن موسى، قال: حدثني أسباط بن محمَّد (ح). وبما حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا ابن المبارك (ح). وبما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، ثم اجتمعوا جميعًا فقالوا: عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النَهْدي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَمنعنَّ أَحدَكم أذان بلال من سَحوُره؛ فإنه ينادي -أو يؤذن- ليرجع غائبكم، ولينبه نائمكم، وقال: ليس الفجر -أو الصبح- هكذا وهكذا وجمع إصبعيه وفرقهما" وفي حديث زهير خاصةً: "ورفع زهير يده وخفضها حتى يقول هكذا ومدَّ زهيرٌ يدَيْه عرضًا". فقد أخبر النبي - عليه السلام - أن ذلك النداء كان من بلال لينتبه النائم وليرجع الغائب لا للصلاة.

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه، وقالوا: الأصل في الأذان أن يكون بعد دخول الوقت لأنه للإعلام به، وقبل دخوله تجهيل وليس بإعلام، فلا يجوز كما في غير الفجر من الصلوات، وأما أذان بلال الذي كان يؤذن بالليل قبل دخول الوقت فلم يكن ذلك لأجل الصلاة، بل إنما كان ذلك لينتبه النائم وليتسحر الصائم وليرجع الغائب، والدليل حديث ابن مسعود، فلم يصح استدلالًا لهم به. وأخرجه عن أربع طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح وأبي بشر عبد الملك بن مروان الرَّقي، كلاهما عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سليمان بن بلال القرشي التَيمي، عن أبي عثمان النَهْدي واسمه عبد الرحمن بن ملّ -بفتح الميم وكسرها- الكوفي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسماعيل، عن سليمان، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود قال: قال رسُول الله: "لا يمنعن أحدَكم أذانُ بلال -أو قال: نداء بلال- من سحوره فإنه يؤذن -أو قال: ينادي- ليرجع غائبكم ولينتبه نائمكم ثم ليس أن يقول هكذا أو قال هكذا حتى يقول هكذا". الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس بن عمران المعروف بالسوسيّ، عن أسباط بن محمَّد بن عبد الرحمن الكوفي، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، عن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم وليرجع قائمكم، وليس أن يقول هكذا -يعني في الصبح". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 435 رقم 4147). (¬2) "المجتبى" (2/ 11 رقم 641).

الثالث: عن نصر بن مرزوق العُتَيقي، عن نُعَيْم بن حماد المروزي، عن عبد الله ابن المبارك، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا سليمان بن المعافى بن سليمان، ثنا أبي، ثنا القاسم بن مَعْن، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمْنعنّ أحدَكم من السَحُور أذان بلال فإنه إنما يؤذن لينتبه نائمكم، ويرجع قائمكم، ويَقوُل الفجر هكذا". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النَهْدي، عن زهير بن معاوية، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهيرٌ، قال: ثنا سُليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النَهْدي، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يمنعن أحدَكم -أو أحدًا منكم- أذانُ بلال من سَحُورِه؛ فإنه يؤذن -أو ينادي- بليل؛ ليرجع قائَمكم، ولينبّه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر -أو الصبح- وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق، وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا". وقال زهير "بِسَبَّابَتَيْه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله". وأخرجه البخاري (2) في كتاب الصلاة في باب الأذان. وأخرجه مسلم (¬3) في كتاب الصيام في باب صفة الفجر الذي يُحرِّم الأكل على الصائم، وقال: ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعن أحدًا منكم أذان بلال -أو قال: نداء بلال- من سَحُوره؛ فإنه يؤذن -أو قال: يُنادي- ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 230 رقم 10558). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 24 رقم 596). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 768 رقم 1093).

[بليل] (¬1)، ليرجعَ قائمكم، ويوقظ نائمكم، وقال: ليس بأن يقول هكذا وهكذا، و [ضرب] (¬2) يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين إصبَعَيْه". قوله: "أذان بلال" برفع أذانُ لأنه فاعل "لا يمنعن" و"أحَدَكم" منصوب لأنه مفعول. قوله: "من سَحُوره" بفتح السين: اسم ما يُتَسَحّر به من الطعام والشراب، وبالضم المصدر، والفعل نفسه، وأكثر ما يروي بالفتح وقيل: إن الصواب بالضم لأنه بالفتح الطعام، وعدم منع أذان بلال عن الفعل لا عن الطعام، وكذلك الكلام في قوله: "تسحروا فإن في السحور بركة" (¬3) والبركة والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام. قوله: "ليرجع غائبكم" كذا في رواية الطحاوي، وهو من الغَيْبة وفي رواية غيره وهي المشهورة: "ليرجع قائمَكم" بنصب الميم من قائمَكم لأنه مفعول "يرجع"، لأن رجع الذي هو ثلاثي متعدي بنفسه ولا يتعدّى، يقال: رجع بنفسه رجوعًا ورجعه غيره، وهذَيل تقول: أرجعه غيرُه، ومعناه: يرده إلى راحته وجمام نفسِه بإعلامه بأذانه السَّحر وقرب الصَباح، وينام غفوة السحر، ونَوْمهْ الفجر المستلذّة المستعان بها على النشاط، وذهاب كسل السهر، وتغيّر اللون، كما كان يفعل النبي - عليه السلام - من نومه بعد صلاته من الليل إذا أذن المؤذن، وقد يكون معنى ذلك ليُكمل ويَسْتعجلَ بقيّة ورْدِه، ويأتي بوتره قبل الفجر. قوله: "ولينتبه نائمكم" أي النائم آخر الليل أو لصلاة الوتر لمن غلبه النوم على ذلك أو معقد الصوم للسحور. قوله: "وجمع إصبعَيْه" يرجع إلى قوله: "هكذا" الأول. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم": "صوب". (¬3) متفق عليه من حديث أنس، البخاري (2/ 678 رقم 1823)، ومسلم (2/ 770 رقم 1095).

وقوله: "وفرقهما"إلى هكذا الثاني. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن فيه أن أذان بلال بالليل إنما كان لتنبيه النائم وإرجاع القائم، لا لأجل الصلاة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر هكذا وعَلله بقوله: "فإنه ينادي". وقال القاضي عياض في شرح مسلم: وقد تعلْق أصحاب أبي حنيفة بقوله: "ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" وقالوا: إنما كان يؤذن للسحور لا للصلاة. وهذا بعيد؛ إذْ لم يختص هذا بشهر رمضان، وإنما أخبر عن عادته في أذانه ولأنه العمل المنقول في سائر الحول بالمدينة، وإليه رجع أبو يوسف حين تحققه، ولأنه لو كان للسَحُور لم يختص بصورة أذان الصلاة. انتهى. قلت: الذي قاله القاضي بعيد؛ لأنهم لم يقولوا بأنه يختص بشهر رمضان، والصوم غير مخصوص برمضان، وكما أن الصائم في رمضان يحتاج إلى الإيقاظ لأجل السحور، فكذلك الصائم في غير رمضان، بل هذا أشد؛ لأن من يُحيي ليالي رمضان أكثر ممن يُحيي ليالي غيره، فعل ما قال إذا كان أذان بلال للصلاة ينبغي أن يجوز أداء صلاة الفجر بذلك الأذان، بل الخصم أيضًا يقول بعدم جوازه، فَعُلِم أن أذان بلال إنما كان لأجل إيقاظ النائم ولإرجاع القائم، فلا يجوز الأذان للصلاة قبل دخول وقتها سواء كان في الفجر أو غيره، فافهم. الثانى: أن فيه حجةً على الاقتداء بثقات المؤذنين وتقليدهم في الوقت والعمل بخبر الواحد في العبادات. الثالث: أن في قوله: "فإن بلالًا يُنادي" وفي رواية غيره "ينادي بليل" دليل على أن ما بعد الفجر ليس من الليل. قال القاضي: وقد يتعلّق بهذه الألفاظ مَن يَرى رأي بعض متقدمي الصحابة في أن تَبَيّين الخيط بعد الفجر ويحتج به مَنْ يَرى إباحة الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر،

وإن كان شاكًّا في طلوعه، وهو قول الكوفيين والأوزاعي وابن حنبل وأبي ثور والشافعي. وقال مالك: لا يأكل، وإن أكل فعليه القضاء. وجملة أصحابنا على الاستحباب، واختلفوا في ذلك إلى طلوع الشمس، وإن كان أجمع أئمة الفتوى بعدهم على أنه لا يجوز الأكل بعد طلوع الفجر، واختلفوا بعد ذلك فيمن طلع عليه الفجر وهو على يقين أنه من الليل وهو يأكل أو يَطأْ فكفّ عنها، هل يُجزئه؟ فقال ابن القاسم: يجزئه في الأكل والجماع. وقال عبد الملك: يجزئه في الأكل ولا يجزئه في الجماع ويقضي فيه، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. الرابع: أن بعضهم استدل بقوله: "ولينبّه نائمكم" على منع الوتر بعد الفجر ولا حجة له فيه، قاله عياض. ص: وقد روي عن عبد الله بن عمر في ذلك أيضًا ما قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا موسى بن إسماعيل المِنْقَري قال: ثنا حماد بن سلمة (ح). وما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن بلالًا أذّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي - عليه السلام - أن يَرْجعَ فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام". فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - يروي عن النبي - عليه السلام - ما ذكرناه وهو قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". فثبت بذلك أن ما كان من ندائه قبيل طلوع الفجر -مما كان له مباحًا- هو لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذْ فعله قبل الفجر للصلاة. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كما ذكرنا: أن أذان بلال لم يكن لأجل الصلاة.

وأراد الطحاوي بهذا تأييد ما ذكره من ذلك؛ لأن أمره - عليه السلام - لبلال بالرجوع والمناداة: "ألا إن العبد نامَ"، أراد به أنه غفل عن الوقت، دليل على [أن] (¬1) أذانه لم يكن واقعًا في محله؛ لكونه قد قصد [به] (¬2) الأذان للصلاة، وأما فيما مضى فلم يكن أذانه للصلاة، وإنما كان لإيقاظ النائم، وإرجاع القائم، فلهذا لم يأمره بالعَوْد والمناداة: "ألا إن العبدَ نام". قوله: "وهو قد روى" أي: والحال أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد روى عن النبي ... إلى آخره. قوله: "فثبت بذلك" أي: بما ذكرنا. قوله: "أن ما كان من ندائه" أي من نداء بلال -أي أذانه- قبل طلوع الفجر. قوله: "مما كان أَبيح له" أي يؤذن؛ إنما كان لغير الصلاة، وأن الذي أنكره النبي - عليه السلام - عليه" أي: على بلال "إذْ فعله" أيْ: حين فعله "قبل طلوع الفجر إنما كان لأجل الصلاة"؛ لأن الأذان للصلاة قبل دخول الوقت لا يجوز. ثم رجال حديث ابن عمر ثقات. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا موسى بن إسماعيل، وداود بن سبيب -المعني- قالا: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي - عليه السلام - أن يَرجع فيُنادي: أَلَا إنَّ العبد نام -زادَ موسى- فرجع فنادىَ: أَلَا إنَّ العبدَ نام". قال أبو داود: هذا الحديث لم يَرْوه عن أيّوب، عن نافع إلا حماد بن سلمة. وقال الترمذي (¬4): وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 146 رقم 532). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 394).

"أن بلالًا أذن بليل فأمره النبي - عليه السلام - أن يُناديَ: ألا إن العبدَ نام". هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى عبيد الله بن عُمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أم مكتوم"، وروى عبد العزيز بن أبي روَّاد، عن نافع "أن مؤذنًا لعمر - رضي الله عنه - أذّن بليل، فأمر عمر أن يُعيد الأذان" وهذا لا يصح أيضًا؛ لأنه عن نافع عن عمر منقطع، ولعل حمادَ بن سلمة أراد هذا الحديث، والصحيح روايةُ عبيد الله بن عمر وغير واحدٍ، عن نافع، عن ابن عمر، والزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل" قال أبو عيسى: ولو كان حديث حمّاد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنًى، إذْ قال رسُول الله - عليه السلام -: "إن بلالًا يؤذن بليل" فإنما أمرهم فيما يُستقبل فقال: "إن بلالًا يؤذن بليل" ولو أنه أمره بإعادة الأذان حين أذن قبل طلوع الفجر لم يَقُل: "إن بلالًا يؤذن بليل". قال علي بن المدينيّ: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - هو خَبرٌ محفوظ وأخطأ فيه حماد بن سلمة. انتهى. وقال البيهقي: وقد تابعه سَعيدُ بن زَرْبي، عن أيوب، ثم أخرجه كذلك، ثم قال: وسعيد بن زَرْبي ضعيف. وقال ابن الجوزي في "التحقيق": وقد تابع حماد بن سلمة عليه سعيد بن زربي، عن أيوب -وكان ضعيفًا-، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: عنده عجائب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال الحاكم: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الثقة، سمعت أبا بكر المطرز يقول: سمعت محمَّد بن يحيى يقول: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر" شاذٌ غير واقع على القلب وهو خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر - رضي الله عنه -. قلت: العجب من الترمذي وغيره ممن تبعه في هذا الكلام كيف يقول: ولو كان حديث حماد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى؟ فهذا الكلام يشُعر

أن ضعف حديث حماد بن سلمة لمخالفة معنى حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر لا لكون وجود ضعيف أو مُتّهم في رَواته، وهذا الذي ذكره ليس بقادح لصحة الحديث، ومثل هذا واقع جدًّا بين الأحاديث، فيؤدي هذا الكلام إلى تضعيف أكثر الأحاديث "الصحيحة" بل الصواب أن حديث حماد صحيح وليس هو بمخالف لحديث سالم؛ لأن حديث سالم قد قلنا: لأجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، ولم يكن لأجل الصلاة، فلذلك لم يأمره - عليه السلام - بأن يرجع ويُنادي: "ألا إن العبدَ نام". وأما حديث نافع، عن ابن عمر الذي رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عنه، كان لأجل الصلاة، ولم يقع محله، فلذلك أمره بأن يَعوُد ويُنادي: "ألا إن العبد نام". ومما يُقوي صحة حديث حماد بن سلمة: ما رواه سعيد بن أبي عَرَوبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن بلالًا أذن قبل الفجر، فأمره النبي - عليه السلام - أن يَصْعد فينادي: إن العبدَ نام". رواه الدارقطني (¬1) وقال: تفرّد به أبو يوسف، عن سَعيد، وغيرُه يُرْسله، ثم أخرج من طريق عبد الوهاب -يعني الخفاف- عن سعيد، عن قتادة: "أن بلالًا أذن ... " ولم يذكر أنَسًا، ثم قال الدارقطني: والمَرسل أصح. قلت: أبو يوسف وثقه ابن حبان وغيره، وكذلك وثقه البيهقي في باب المستحاضة يغسل عنها أثر الدم، وقد زاد الرفع، فوجب قبول زيادته (¬2)، ومما يقوّي حديث حماد أيضًا حديث حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ص: وروي عن ابن عمر أيضًا، عن حفصة بنت عمر - رضي الله عنهم - ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا على بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عَمرو، عن عبد الكريم ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 245 رقم 53). (¬2) في اعتبار العلة في الأحاديث المختلف في رفعها ووقفها، أو إرسالها ووصلها خلاف كبير معروف بين المحدثين والفقهاء. وفي اعتبار زيادة الوصل زيادة ثقة وهي مقبولة نظر ليس هذا محله.

الجزريّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة بنت عَمر: "أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أذن المؤذن بالفجر قام فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد وحرّم الطعام، وكان لا يؤذن حتى يصبح". فهذا ابن عمر يُخبر عن حفصة، أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد طلوع الفجر، وأَمْرُ النبي - عليه السلام - "أيضًا بلالًا أن يَرْجع فينادي: "ألا إن العبد نام" يدل على أن عادتهم أنهم كانوا لا يَعْرفون أذانًا قبل الفجر، ولو كانوا يعرفون ذلك إذا لما احتاجوا إلى هذا النداء، وأراد به عندنا -والله أعلم بذلك- النداء، إنما هو ليعلمهم أنه في ليل بَعدُ، حتى يُصلّي من آثر منهم أن يُصلّي ولا يُمْسِك عما يُمْسِكُ الصائم عنه. ش: أشار بهذا إلى تأييد ما قاله من أن إنكاره - عليه السلام - على بلال في الحديث الماضي، لكونه قد فعله قبل طلوع الفجر لأجل الصلاة، ألا ترى أن ابن عمر يُخبر عن حفصة كانوا لا يؤذنون لأجل الصلاة إلا بعد طلوع الفجر؟ وأنهم كانوا لا يعرفون أذانًا قبل الفجر لأجل الصلاة؛ إذ لو عرفوا لما احتاجوا إلى النداء في حديث بلال، ويكون أمْرُ النبي - عليه السلام - بلالًا أن يَرجعَ فيُنادي، لأجل أن يُعلمهم أنه في الليل بَعْدُ، وأن الفجر لم يطلع، حتى إن مَن أراد أن يُصلي يصلي، ومن أراد أن يفعل شيئًا مما هو محرّم على الصائم، يَفْعَل ولا يعْدِل عنه. وإسنادُ حديث حفصة صحيح. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عبد الكريم الجزري، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - "أن رسُول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه سواء. ثم قال البيهقي: هذا محمول- إن صح- على الأذان الثاني. وقال الأثرم: رواه الناس عن نافع فلم يذكروا فيه ما ذكره عبد الكريم. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 471 رقم 4258).

قلت: هو ثقة ثَبْت، كذا قال أحمد وابن مَعين، وأخرج له الجماعة، ومن كان بهذه المثابة لا يُنكر عليه إذا ذكر ما لم يذكره غيره، وإشكال ينتهي بتأويله، يَدلّ ظاهرًا على جَوْدة سنده. وروى الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام وركع ركعتين". قال الأثرم: ورواه الناس، عن الزهري فلم يذكروا فيه ما ما ذكره الأوزاعي. وأجبت عن ذلك: بأن الأوزاعي من أئمة المسلمين فلا يُعلّل ما ذكره بعدم ذكر غيره. ص: وقد يحتمل أن يكون بلال كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر طلع فيه، ولا يتحقق ذلك لضعف نظره، والدليل على ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن إشكاب (ح). وثنا فهد، قال: ثنا شهاب بن عباد العبدي، قالا: ثنا محمد بن بشْر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغرنكم أذان بلال؛ فإن في بصره شيئًا" فدلّ ذلك على أن بلال كان يريد الفجر فيُخطئه لضَعْف بصره، فأمرهم رسُول الله - عليه السلام - أن لا يعملوا على أذانه؛ إذْ كان من عادته الخطأ، لضَعَف بصره. ش: هذا وجه آخر في أذان بلال بالليل قبل طلوع الفجر، وهو الذي احتجت به أهل المقالة الأولى في جواز أذان الفجر قبل طلوع الفجر، وهذا ظاهر. وأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلّسي، عن أحمد بن إشكاب -بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وفي آخره باء موحدة شيخ البخاري- عن محمَّد بن بشر الأسلمي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا محمَّد بن بشر، سعيدٌ، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعنكم أذان بلال من السَّحُور؛ فإن في بصره شيئًا". الثانى: عن فهد بن سليمان البصري، عن شهاب بن عبّاد -بتشديد الباء الموحدة- العبدي شيخ البخاري ومسلم، عن محمَّد بن بشر الأسلمي ... إلي آخره. ص: وقد حدثنا الربيع بن سليمان الجيزيّ، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن سالم، عن سليمان بن أبي عثمان، أنه حدّثه عن حاتِم بن عَدِيُّ، عن أبي ذرّ، قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: "إنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعًا, وليس ذلك الصبح؛ إنما الصبح هكذا مُعْترضًا". قال أبو جعفر: فأخبر في هذا الأثر أنه كان يؤذن بطلوع ما يرى أنه الفجر وليس هو في الحقيقة بفجر. ش: ذكر هذا تأييدًا للاحتمال المذكور آنفًا، وهو أنه كان يؤذن على ظنّ أنه الصبح الصادق، وليس بصبح صادق، لكونه يخطئ فيه لضعف بصره، وذلك لأنه أَخْبرَ في هذا الحديث أنه كان يؤذن بطلوع ما يرى -أي يظنّ- أنه الفجر، والحال أنه ليس هو في الحقيقة بفجر. وأبو الأسْوَد اسمه النَضر بن عبد الجبار المصري وثقه ابن حبان وغيره. وابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال، وسالم هو ابن غيلان التجيبي المصري، قال النسائي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان. وسليمان بن أبي عثمان التجيبي المصري، قال في الميزان: مجهول. وحاتم بن عدي الحمْصي وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: سليمان بن أبي عثمان التجيبي روى عن حاتم بن عدي وروى عنه سالم بن غيلان سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: هؤلاء مجهولون. ¬

_ (¬1) "مسندأحمد" (3/ 140 رقم 1251).

قلت: قال العجلي: حاتم بن عديّ تابعي حمصيّ شامي ثقة. وأبو ذر الغفاريّ اسمه جندب بن جُنادة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: نا موسى بن داود، نا ابنُ لهيعة، عن سالم ابن غيلان، عن سليمان بن أبي عثمان، عن حاتم بن عدي الحمصي، عن أبي ذر، أن النبي - عليه السلام - قال لبلال: "أنت يا بلال تؤذن إذا كان الصبح ساطعًا في السماء، فليس ذلك بالصبح؛ إنما الصبح هكذا معترضًا، ثم دعى بسحَوْره فتسحر، وكان يقول: لا تزال أمتي بخير ما أخّروا السحور وعَجّلوا الفطر". قوله: "إذا كان الفجر ساطعًا" أي ظاهرًا كذنب السرحان، وأراد به الفجر الكاذب الذي لا يخرج به حكم الليل ولا تحلّ به صلاة الصبح. قوله: "الصبح" منصوب لأنه خبر "ليس"، وفي رواية: "بالصبح" كما في رواية أحمد. قوله: "معترضًا" حال من قوله: "إنما الصبح" والمعنى: إنما الصبح يحصل حال كونه معترضًا في الأفق، والأولى أن يكون خبر "كان" المحذوف، تقديره: "إنما الصبح يكون معترضًا في الأفق" وأرا به: الصبح الصادق، وهو المنتشر في الآفاق. ص: وقد روينا عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا يُنادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم. قالت: ولم يكن بينهما إلا مقدار ما يَصْعد هذا وينزلُ هذا" فلما كان بين أذانَيْهما من القرب ما ذكرنا؛ ثبتَ أنهما كانا يقصدان وقتًّا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلال لما ببصره، ويُصيبُه ابن أم مكتوم، لأنه لم يكن يفعله حتى تقول له الجماعة: أصبحتَ، أصبحت. ش: ذكر هذا تأييدًا أيضًا لما قاله من أنَّ بلالًا إنما كان يريد الفجر من أذانه، ولكنه كان يخطئه؛ لما في بصره من الضعف، وذلك لأن قول عائشة - رضي الله عنها -: "ولم يكن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 172 رقم 21546).

بينهما إلا مقدار ما يَصْعد هذا وينزل هذا" يدلّ على أن المسافة كانت قريبةً جدًّا بين أذانيهما، وأن كلاًّ منهما كان يقصد طلوع الفجر الصادق، إلا أن بلال كان يخطئه لما ببصره من الضعف، وابن مكتوم كان يُصيبُه -وإن كان ضريرًا- لأنه لم يكن يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحتَ، أصبحتَ. واختلف في معنى قوله: "أصْبَحتٌ، أَصْبَحتَ". فقيل: معناهُ قاربت الصباح وتلبست به، فأذن، فإنه وقته، وكان يؤذن فيقع أذانه عند طلوع الفجر الصادق. وقيل: هو على ظاهره من ظهور الصباح. والدليل عليه ما جاء في صحيح البخاري (¬1): "لا يؤذن حتى يطلع الفجر". ص: ثم قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - من بعد النبي - عليه السلام - ما قد حَدثَنا ابنُ مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: "قلت: يا أمَّ المؤمنين، متى تُوتِرينَ؟ قالَتْ: إذا أذن المؤذن. قال الأسود: وإنما كان يؤذن بعد الصبح". قال أبو جعفر: وهذا تأذينهم في مسجدِ رسُول الله - عليه السلام -؛ لأن الأسود إنما كان سماعه من عائشة بالمدينة، وهي قد سمعت من النبي - عليه السلام - ما قد رويناه عنها، فلم تُنكر عليهم التأذين قبل الفجر، ولا أنكر ذلك غيرُها من أصحاب النبي - عليه السلام -، فدل ذلك على أن مراد بلال بأذانه ذلك الفجر، وأن قول النبي - عليه السلام -: "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" إنما هو لإصابته طلوع الفجر، فلما رُويت هذه الآثار "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" فلما كان ذلك كذلك؛ بطل المعنى الذي ذهب إليه أبو سيف، وإن كان المعنى غير ذلك، وكانوا يؤذنون قبل الفجر على القصد منهم لذلك، فإن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن أن ذلك التأذين كان لغير الصلاة، وفي تأذِين ابن أم مكتوم بعد طلوع الفجر دليلٌ على ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 677 رقم 1891) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

أن ذلك موضع أذان لتلك الصلاة، ولو لم يكن ذلك موضع أذان لها لما أُبيحَ الأذانُ فيها، فلما أبيح ذلك؛ ثبت أن ذلك الوقت وقتُ الأذان لها، واحتمل تَقديمُهم أذانَ بلالٍ قبل ذلك ما ذكرنا. ش: هذا الكلام أيضًا يَنْصَبُّ على قوله: "وقد يحتمل أن يكون بلال قد كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه" تقريره: أن الأسود بن يزيد لما سأل عائشة - رضي الله عنها - عن وقت إيتارها قالت: إذا أذن المؤذن، وأخبر الأسود: أنهم كانوا يؤذنون بعد الصبح، وهكذا كان تأذينهم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن سماع الأسود من عائشة - رضي الله عنها - كان بالمدينة، وعائشة قد سمعت (من) (¬1) النبي - عليه السلام - يقول: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" ومع هذا لم تنكر عائشة عليهم التأذين قبل الفجر، ولا أنكر غيرها أيضًا من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فدلّ ذلك أن مراد بلال من أذانه ذلك الذي وقع قبل الفجر هو الفجر، فإذا كان مراده هو الفجر؛ لم يصح الاستدلال بحديثه على جواز الأذان قبل الفجر؛ لأن بلالًا ما قصد أن يؤذن قبل الفحر؛ وإنما كان قصده الفجر، ولكن وقع قبل الفجر لسوء ببصره كما ذكرنا. وأما قول النبي - عليه السلام - "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" فإنما هو لإصابته طلوع الفجر بإخبار الناس له بقولهم: "أصبحت، أصبحت". بخلاف بلال لخطئه فيه كما ذكرناه. قوله: "فلما رويت هله الآثار" أي الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب على ما ذكره، وكان في حديث حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" بطل المعنى الذي ذكره أبو يوسف في تجويزه الأذان قبل طلوع الفجر؛ استدلالًا بحديث بلال الذي مضى ذكره بطرق مختلفة. ¬

_ (¬1) كذا "بالأصل، ك"، ولعلها زائدة على السياق.

وجه بطلان استدلاله: أنه لا يخلوا إما أن يقول: المراد من أذان بلال أنه كان صلاة، فإذا كان للصلاة، يجوز الاستدلال به على جواز تقديم الأذان قبل الوقت في الفجر. فنقول: وإن سلمنا ذلك، ولكن لن نُسلم أنه كان مصيبًا في قصده، ألا ترى كيف ردّه - عليه السلام - بقوله: "لا يغرنكم أذان بلال؛ فإن في بصره شيئًا". وإما أن يقول: إنه كان يؤذن قبل الفجر عمدًا. فنقول: وإن سلمنا أنه كان يؤذن عمدًا قبل الفجر، ولكن لا نسلم إنه كان لأجل الصلاة، بل كان لإيقاظ النائم وإرجاع القائم، بدليل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: "فإنه ينادي ليُوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم". قوله: "فلما كان ذلك" عطف على "لمَّا" الأولى، وهو قوله: "لما رويت هذه الآثار" وقوله: "فقد بطل المعنى" جواب "لمّا" في الموضعين، وفي بعض النسخ "فإن كان كذلك" موضع "فلما كان كذلك" فعلى هذه النسخة تكون الجملة خبر "فلمّا رويت" فافهم. ورجال حديث الأسود ثقات، وأبو إسحاق اسمه عَمرو بن عبد الله السبَيِعي. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود: "سألتُ عائشةَ متى توترين؟ قالت: بين الأذان والإقامة، وما يؤذنون حتى يُصْبحوا" ثم قال البيهقي: وقول الأسود وغيره: "وما يؤذنون حتى يُصْبحوا" فيه نظر؛ فقد روينا أن الأذان الأول كان بالحجاز قبل الصبح، وكأنَّ عائشة - رضي الله عنها - كانت تصليها قبل طلوع الفجر، أو أراد به الأذان الثاني. وعلى ذلك تدل رواية ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق قال: "كانت عائشة - رضي الله عنها - توتر فيما بين التثويب والإقامة" فيرجع مذهبها في ذلك كقول عليّ وعبد الله. قلت: مذهب علي وابن عباس - رضي الله عنهم -: أن وقت الوتر يمتدّ إلى بعد طلوع الفجر. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 480 رقم 4308).

وروى البيهقي (¬1) بإسناده عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة: "أن قومًا أتوا عليًّا - رضي الله عنه -، فسألوه عن الوتر. فقال: سألتم عنه أحدًا؟ فقالوا: سألنا أبا موسى، فقال: لا وِتْر بعدَ الأذان. فقال: لقد أَغْرَقَ النزع فأَفْرَط في الفَتْوى، كل شيء ما بينك وبين صلاة الغداة وتر، متى أوترت فحسن". وقال مالك في "موطإه" (¬2): بلغني أن عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، والقاسم بن محمَّد، وعبد الله بن عامر بن ربيعة قد أوتروا بعد الفجر. ثم قال (¬3): وإنما يُوتِرُ بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر. وقال القاضي عياض: وَقت الوتر المتفق عليه عند كافة العلماء ما لم يطلع الفجر، واختلفوا؛ هل يصلي بعد طلوع الفجر إلى أن يُصلي الصبحُ؟ وهل ذاك وقت ضرورة لمن تركها، أو نام عنها، أو نِسيها؟ فذهب جمهورُهم -وهو مشهور قول مالك والشافعي- جواز ذلك مع كراهة تعمده، وأنه وقت ضرورة لها -وحُكيَ عن ابن مسعود وغيره أن وقتها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح- وذهب الكوفيون إلى منع صلاته بعد طلوع الفجر، وقاله جماعة من السلف، وأبو مُصْعب وبعض أصحابنا، وحكاه الخطابي عن مالك، وسيجئ الكلام فيه مستقصًى في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ص: ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر؟ لنَسْتَخرجَ من ذلك القولين قولًا صحيحًا، فرأينا سائر الصلوات غير الفجر لا يؤذن لها إلا بعد دخول أوقاتها، واختلفوا في الفجر، فقال قومٌ: التأذين لها قبل الفجر، لا يؤذن لها بعد دخول وقتها. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 479 رقم 4305). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 126 رقم 278). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 127 رقم 282).

وقال آخرون: بل هو بعد دخول وقتها. فالنظر على ما وصفنا أن يكون الأذان لها كالأذان لغيرها من الصلوات، فلما كان ذلك بعد دخول أوقاتها؛ كان أيضًا في الفجر كذلك، فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثوري رحمهم الله. ش: أي ثم اعتبرنا حكم الأذان قبل الفجر من طريق القياس، وهو ظاهر. قوله: "فقال قوم" أراد بهم الشافعي، ومالكًا، وأحمد، وأبا يوسف، ومن تبعهم في ذلك كما ذكرنا. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم الثوري، وأبا حنيفة، ومحمدًا، وزفر. قوله: "التأذين لها قبل الفجر" أي التأذين لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر، لا يؤذن لها بعد دخول وقتها وهذا لا يخلو عن النظر؛ لأنهم لم يقولوا: بأن الأذان في الفجر لا بد أن يكون قبل الفجر؛ بل قالوا: إنه إذا أذن قبل الفجر جاز ذلك وأغنى عن الإعادة. ص: حدثني ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن الجَعْد، قال: ثنا سفيان بن سعيد -وقال له رجل: إني أؤذن قبل طلوع الفجر؛ لأكون أول مَنْ يقرع باب السماء بالنداء- فقال سفيان: "لا حتى ينفجر الفجر". ش: أشار بهذا وبما بعده من تقوية وجه النظر من أنه لا يجوز الأذان في الفجر قبل طلوع الفجر الصادق، ألا ترى كيف منع سفيان الثوري هذا الرجل عن الأذان حتى يَنفجر الفجر -أي ينشق الفجر الصادق- وابن أبي عمران هو أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الثقة البغدادي، وثقه ابن يونس وغيرُه. وعليّ بن الجَعْد بن عبيد الجوهري من أصحاب أبي يوسف وأحد مشايخ البخاري وأبي داود. ص: وقد رُوي عن علقمة من هذا شيءٍ؛ حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم قال: "شيّعنا علقمة إلى مكة، فخر بليل، فسمع مؤذنًا يؤذنُ بليل فقال: أما هذا فقد خالف سنة أصحاب

محمَّد - عليه السلام -، لو كان نائمًا لكان خيرًا له، فإذا طلع الفجر أذن" فأخبر علقمةُ أن التأذين قبل طلوع الفجر خلاف لسنة أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -". ش: أي قد روي عن علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي أبي شبل الكوفي في هذا -أي في منع الأذان قبل طلوع الفجر- شيء، وبين ذلك بقوله: حدثنا فهدٌ ... إلى آخره، ورجاله كلهم ثقات، وعلي بن علي بن نجاد اليشكريّ أبو إسماعيل البصري وثقه يحيى وأبو زرعة، وروى له الأربعة، وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم إلى آخره نحوه سواء، غير أن لفظه: "فخرجنا بليل". ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (1/ 194 رقم 2224).

ص: باب: الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر

ص: باب: الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجلين اللَذيْن يؤذن أحدُهما ويقيم الآخر هل يجوز أم لا؟ وإذا جاز هل يكره أم لا؟ ص: حدثنا يونُس، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصُدائيّ قال: قال: "أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان أذان الصبح، أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال ليُقيم فقال رسُول الله - عليه السلام -: إن أخا صُدَاء أذن، ومَن أذن فهو يقيم". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصَم، عن سفيان، قال: أخبرني عبد الرحمن ابن زياد، زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: أخرج هذا من طريقين، أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى -شيخ مسلم-، عن عبد الله بن وهب المصري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الأفريقي -وثقه أحمد بن صالح، وضعّفه آخرون-، عن زياد بن نعيم هو زياد بن ربيعة بن نُعيم يُنسب أول جدّه الحضرمي المصري وثقه العجلي وابن حبان، عن زياد بن الحارث الصدائي الصحابي، ونسبته إلى صُداء -بضم الصاد- باليمن حي من اليمن وهو يزيد بن حَرْب بن عُلَة بن خالد بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن مشجب بن غَرِيب بن رند بن كهلان بن سبأ بن مشجُب بن يَعرُب بن قحطان. وأخرجه أبو داود (¬1) ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عبد الله بن عمر بن غانم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نعيم الحَضْرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي قال: "لما كان أول أذان الصبح أمَرني -يعني النبي - عليه السلام -- فأذنتُ، فجعلتُ أقول: أقيم يا رسُول الله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 142 رقم 514).

فجعل ينظر في ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: لا. حتى إذا طلع الفجر نزل، فبرز، ثم انصرف إليَّ وقد تلاحق أصحابُه -يعني فتوضأ- فأراد بلالٌ أن يقيم، فقال له نبي الله: إن أخا صُداء هو أذّن، ومن أذّن فهو يُقيم قال: فأقمت". وأخرجه الترمذي (¬1) نا هنّاد، قال: نا عبدة ويعلى بن عُبَيد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الأفريقي، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث الصُدائي قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنتُ فأراد بلال أن يقيم فقال رسُول الله: إن أَخَاصُداء قد أذّن، ومَنْ أذّن فهو يُقيم". والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النَبِيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبريّ، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نُعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي قال: "كنت مع رسُول الله - عليه السلام -، فأمرني فأذنت للفجر، فجاء بلال ليقيم فقال النبي - عليه السلام -: يا بلال إن أخا صداء أذّن، ومن أذن فهو يقيم". قوله:"إن أخا صداء" أراد به زياد بن الحارث. قوله: "أول أذان الصبح" في رواية أبي داود أراد به الأذان الذي يؤذن ليقوم النائم، ويتسحر الصائم. قوله: "فبرز" أي: خرج لقضاء حاجته والوضوء؛ من برز الرجل يَبْرُز بروزًا ولهذا فسّر بقوله: "يعني فتوضأ" ومنه البراز وهو كناية عن قضاء الحاجة وأصله الفضاء المتسع ثم استعير للحدث. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا ينبغي أن يقيم الصلاة غير الذي أذّن لها. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 384 رقم 199). (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 263 رقم 5286).

ش: أراد بالقوم هؤلاء الأوزاعي والزهري والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم ذهبوا إلي هذا الحديث وقالوا: لا ينبغي أن يقيم الصلاة إلا الذي أذن لها، وفي فروع الحنابلة: إذا كان في موضع مؤذنان أو أكثر فيُقيم مَن يؤذن أولًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس أن يقيم الصلاة غير الذي أذن لها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم الحسن البصري، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأصحابهم، فإنهم قالو ا: لا بأس أن يقيم الصلاة غير الذي أذن لها. وإليه ذهب الظاهرية، وقال ابن حزم في المحلى: وجائز أن يقيم غير الذي أذّن؛ لأنه لم يأت عن ذلك نهي يصح، والأثر المروي في "إنما يقيم من أذن" إنما جاء من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو هالك. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو أُمّية، قال: ثنا المُعلي بن منصور، قال: أخبرني عبد السلام بن حَرْب، عن أبي العُمَيْس، عن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله ابن زيد، عن أبيه، عن جَده "أنه حين أذِن الأذان أَمَرَ النبي - عليه السلام - بلالًا فأذن ثم أمَر عبد الله فأنام". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري. وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو أمية الطرسُوسي محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الخزاعي، وثقه أبو داود وغيره، وأبو العُمَيس -بضم العين وبالسين المهملتين- اسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، روي له الجماعة، وعبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري الخزرجي. وثقه ابن حبان، وأبوه محمَّد بن عبد الله روى له الجماعة غير البخاري، وجدّه عبد الله بن زيد بن عبد الله الأنصاري الصحابيّ.

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1) ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو يحيى بن عبد الرحيم، ثنا معلي بن منصور، قال: أنا عبد السلام بن حرب إلى آخره نحوه، وهذا فيه صريح دلالة على أن الإقامة من غير المؤذن لا تكره والعمل به أولى لأنه صحيح، وحديث الصدائي ضعيف، وقال الترمذي: حديث زياد إنما نعرفه من حديث الأفريقي، والأفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الأفريقي. ص: وبما قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن أبي العُمَيْس، عن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - فأخبرتُه كيف رأيت الأذان، فقال: ألقِهنّ على بلال فإنه أنْدى صوتًا منك فلما أذن بلال ندم عبد الله، فأمره النبي - عليه السلام - أن يقيم". ش: أي واحتجوا أيضًا بما قد حدثنا فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬2) من حديث عبد السلام بن حرب، عن أبي العُمَيْس إلي آخره نحوه. ثم قال: ويروى عن زيد بن محمَّد بن عبد الله، عن أبيه، عن جده. قوله: "ألقهن": أي: كلمات الأذان. قوله: "أَنْدى صوتًا": أي: أرفع وأعلى. وقيل: أحسن وأعذب، وقيل: أبْعَد، وقيل: هو أفعل من النَدَى -بفتح النون وبالقصر -وهو بمعنى الغاية مثل المدى، والندى أيضًا بعد ذهاب الصوت، و"صوتًا" نصب على التمييز، وفيه أن كان أرفع صوتا وأحسن؛ كان أولى بالأذان لأنه إعلام، فكل من كان الإعلام بصوته أوقع؛ كان به أحق وأخدَر. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 242 رقم 37). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 399 رقم 1739).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما تضادّ هذان الحديثان؛ أردنا أن نلتمس حكم هذا الباب من طريق النظر، لنستخرج به من هذين القولين قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الأصل المتفق عليه أنه لا ينبغي أن يؤذن رجلين أذانًا واحدًا، يؤذن كل واحد منهما بعضه، فاحتمل أن يكون الأذان والإقامة كذلك؛ لا يَفْعلهما إلا رجل واحد، واحتمل أن يكونا كالشيئين المقترنين فلا بأس بأن يتولى كل واحد منهما رجلٌ على حدةٍ، فنظرنا في ذلك؛ فرأينا الصلاة لها أسباب تتقدّمها من الدعاء إليها بالأذان، ومن الإقامة لها، هذا في سائر الصلوات، ورأينا الجمعة تتقدمها خطبة لا بدّ منها، فكانت الصلاة متضمنة بالخطبة، وكان مَنْ صلى الجمعة بغير خطبة فصلاته باطلة حتى تكون الخطبة قد تقدمت الصلاة، ورأينا الإِمام لا ينبغي أن يكون هو غير الخطيب؛ لأن كل واحد منهما مضمّن بصاحبه، فكما كان لابدّ منهما؛ لا ينبغي أن يكون القائم بهما إلا رجلًا واحدًا، ورأينا الإقامة جُعلت من أسباب الصلاة أيضًا، وأجمعوا أنه لا بأس أن يتولاها غير الإمام فكما قد كان يتولاها غير الإِمام وهي في الصلاة أقرب منها في الأذن؛ كان لا بأس أنْ يتولاها غير الذي تولى الأذن، فهذا هو النظر وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: أراد بقوله: "هذان الحديثان": حديث زياد بن الحارث الصدائي، وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري. وجه التضاد بينهما ظاهر لأن حديث الصدائي يقتضي أن لا يقيم الصلاة إلا مَنْ يؤذن لها، وحديث عبد الله بن زيد يقتضي العموم، وهذا إنما يكون على تقدير تسليم صحة حديث الصُدائي، وقد قلنا إنه ضعيف، فلا يساوي حديث عبد الله بن زيد فلا يثبت التعارض؛ لأن من شرط التعارض بين الحديثين أن يكونا متساويَيْن في القوة والضَعْف، ثم إن الذي ذكره الطحاوي ليس يُدفع به التضاد بين المتضادّيَن وإنما هو بيان أن النظر والقياس أيضًا يقتضي بأن لا بأس بإقامة غير المؤذن ووجه ذلك ظاهر.

وأراد من قوله: "لها أسباب" وقوله: "جعلت من أسباب الصلاة" العلامات لا الأسباب المصطلح عليها على ما لا يخفى. قوله: "مُضمّن" بتشديد الميم المفتوحة. قوله: "وهي من الصلاة" أي الإقامة من الصلاة أقرب منها من الأذان أي من قرب الأذان وهو ظاهر، فإن قيل: ينبغي أن يكون خبر الصدائي أصلى بالأخذ والعمل لأنه متأخر عن خبر عبد الله بن زيد بلا شك، وكذا قال البيهقي: وإذا صحّ الخبران فخبر الصُدائي أصلى لأنه متأخر. قلت: نسلّم ذلك إذا استوى الخبران، وخبر الصدائي ضعيف فلا يعارض خبر الأنصاري على أنه - عليه السلام - إنما قال: "من أذن فهو يقيم"، تطييبًا لقلب الصدائي؛ لأنه كان حديث عهد بالإسلام؛ لأن قدوم وفد صداء وفيهم زياد بن الحارث الصدائي كان في حجة الوداع، وكان بعثه - عليه السلام - ابن عبادة إلى ناحية اليمن، وأمره أن يطأ صداء كان حين انصرف - عليه السلام - من الجعرانة سنة ثمان، والله أعلم.

ص: باب: ما يستحب للرجل أن يقوله إذا سمع الأذان.

ص: باب: ما يستحب للرجل أن يقوله إذا سمع الأذان. ش: أي هذا باب في بيان ما يستحب للرجل أن يقول عند سماعه الأذان من الألفاظ المأثورة. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن -وفي حديث مالك النداء- فقولوا ما يقول- في حديث مالك ما يقول المؤذن ... ". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح، ويونس الأول هو: ابن عبد الأعلى المصري، والثانى هو: ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهريّ، وأبو سعيد الخدري اسمه سَعد بن مالك، والحديث أخرجه الجماعة. فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء ابن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري أن رسُول الله قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن عبد الله بن مَسلمة القَعْنبي، عن مالك. والترمذي (¬4): عن قتيبة، عن مالك، عن الزهري إلى آخره نحوه. والنسائي (¬5): عن قتيبة، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 221 رقم 586). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 288 رقم 383). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 199 رقم 522). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 407 رقم 208). (¬5) "المجتبى" (2/ 23 رقم 673).

وابن ماجه (¬1): عن أبي كُريْب وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن زيد بن الحبُاب، عن مالك، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن". قولوا: "النداء" أي الأذان، والفرق بينهما أن لفظ الأذان أو التأذين أخصّ من لفظ النداء لغة وشرعًا، والفرق بين الأذان والتأذين: أن التأذين يتناول جميع ما يَصدُر من المؤذن من قول وفعل وهيئة ونية، وأما الأذان فهو حقيقة تعقل بدون ذلك. قوله: "مثل ما يقول" أي مثل قوله، وكلمة ما مَصْدرية، والمثل هو: النظير، يقال: مِثل ومَثل ومَتيل كشِبْه وشَبه وشبيه، فإن قيل ما معنى المماثلة بين الشيئين؟ قلت: أفيدك ها هنا فائدة تنتفع بها في سائر المواضع، واعلم أن معنى مماثلة بين الشيئين ومجانسة ومشابهة ومساواة ومناسبة ومشاكلة ومطابقة وموازاةٍ، أما المماثلة فهي اتحاد الاثنين في النوع كريد وعمرو في الإنسانية، والمجانسة اتحادهما في الجنس كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية، والمشابهة في الكيف كاتحاد الزنجي والهندي في السواد، والمساواة في الكم كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، والمناسبة في الإضافة كاتحاد شخص مع آخر في أنهما ابنا شخص أو عبداه، والمشاكلة كاتحاد زيد وعَمرو في أنهما كاتب، والمطابقة في الأطراف كاتحاد جسم مع آخر في النهايات، والموازاة في وضع الأجزاء كاتحاد خطين أو جسّمين في وضع الأجزاء. فإن قيل: ما حكم هذا الأمر؟ قلت: اختلفوا فيه هل هو على الوجوب أو على النَدْب؟ فقال الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله-: يستحب إجابة المؤذن بالقول مثل قوله لكل من سمعه من متطهر ومحدث وجنب وحائض وغيرهم ممن لا مانع له من الإجابة، فمن أسباب المنع أن يكون في الخلاء، أو جماع أهله، أو نحوهما، ومنها أن يكون في صلاة، فمن كان في ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 238 رقم 720).

صلاة فريضة أو نافلة وسمع المؤذن لم يوافقه في الصلاة فإذا سلم أتى بمثله، فلو فعله في الصلاة فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي، أظهرهما يكره لكن لا تبطل صلاته، فلو قال: حي على الصلاة، أو الصلاة خير من النوم بطلت صلاته إن كان عالمًا بتحريمه لأنه كلام آدمي، ولو سمع الأذان وهو في قراءة وتسبيح ونحوهما قطع ما هو فيه وأتى بمتابعة المؤذن ويتابعه في الإقامة كالأذان إلا أنه يقول في لفظ الإقامة أقامها الله وأدامها، وإذا ثوّب المؤذن في صلاة الصبح فقال: الصلاة خير من النوم، قال سامعه: صدقت وبَرَرْتَ. انتهى. وقال أصحابنا: الإجابة واجبة على السامعين؛ لأن الأمر يدلّ على الوجوب؛ والإجابة أن يقول مثل ما قاله المؤذن إلا قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول مكان قوله "حي على الصلاة": لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومكان قوله "حي على الفلاح": ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ لأن إعادة ذلك تشبه المحاكاة والاستهزاء، وكذا إذا قال المؤذن: "الصلاة خير من النوم". لا يقول السامع مثله ولكن يقول: صدقت وبَرَرْت. وينبغي أن لا يتكلم السامع في حال الأذان والإقامة، ولا يقرأ القرآن ولا يُسلّم، ولا يردّ السلامَ، ولا يشتغل بشيء من الأعمال سوى الإجابة، ولو كان في قراءة القرآن ينبغي أن يقطع القراءة، ويسمع الأذان، ويجيب. وفي "فوائد الرُسْتغفني": لو سمع وهو في المسجد يمضي في قرائته، وإن كان في بيته فكذلك إن لم يكن أذان مسجده. وعن الحلواني: لو أجاب باللسان ولم يمش إلى المسجد لا يكون مجيبًا، ولو كان في المسجد ولم يُجب لا يكون آثمًا ولا تجب الإجابة على مَنْ لا تجب عليه الصلاة، ولا يجيب أيضًا وهو في الصلاة سواء كانت فرضًا أو نفلًا. وقال القاضي عياض: اختلف أصحابنا: هل يحكي المصلي لفظ المؤذن في حالة الفريضة أو النافلة أم لا يحكيه فيهما؟ أم يحكيه في النافلة دون الفريضة؟ على ثلاثة أقوال. انتهى. ثم اختلف أصحابنا هل يقوله عند سماع كل مؤذن أم لأول مؤذن فقط؟ وسئل ظهير الدين عن هذه المسألة فقال: تجب عليه إجابة أذان مسجده بالفعل.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن يونس، فذكر مثل حديث يونس هذا. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس أبي عبد الله البصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد. فذكر ابن مرزوق مثل حديث يونس بن عبد الأعلى. وأخرجه الدارميّ في "سننه" (¬1) ثنا عثمان بن عمر، أنا يونس، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدريّ أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول". ص: حدثنا ربيع الجيزيَّ، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أخبرني حَيْوة بن شريح، قال. أخبرنا كعب بن علقمة، أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَير مولى نافع بن عمرو القرشي، يقول: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: أنه سمع رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يَقُول، ثم صلوا عليّ، فإن مَنْ صلّى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عَشْرًا، ثم سلوا الله ليَ الوسيلة، فإنها منزل في الجنة لا تنبغي لأحد إلا لعَبْدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله ليَ الوسيلة؛ حَلّت له الشفاعة". ش: إسناده صحيح، وأبو زرعة اسمه وَهْبُ الله بن راشد الحَجري المصري المؤذن، وحَيوةُ بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن [سلمة] (¬3) المرادي ثنا عبد الله بن وهب، عن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 293 رقم 1201). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 288 رقم 384). (¬3) في "الأصل، ك": "مسلمة"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود".

ابن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن [سلمة] (¬2)، أنا ابن وهب، عن ابن لهيعة وحَيْوة وسعيد بن أبي أيوب، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): أنا سُوَيْد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن حيوة بن شريح، أن كعب بن علقمة سمع عبد الرحمن بن جبير مولى نافع بن عمرو القرشي يُحدث أنه سمع عبد الله بن عمرو يَقولُ: سمعْتُ رسُول الله - عليه السلام - إلى آخره نحوه. قوله: "فقولوا مِثْلَ ما يقول" يَقْتَضِي أن نقول مثل ما يقول المؤذن إلي آخره، ولكنه مخصوص بحديث ابن عمرُ - رضي الله عنهما - على ما يأتي إن شاء الله. و"مثل" منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: فقولوا قولًا مثل قول المؤذن، وما مصدريه. قوله: "ثم صلوا علي" أي بعد الفراغ من الإجابة صلَوا عليّ. قوله: "فإنه" أي فإن الشأن، و"الفاء" فيه للتعليل. قوله: "صلاة" أي صلاةً واحدة، ونصبها على الإطلاق. قوله: "بها" أي بمقابلة صلاته الواحدة والباء تجيىء للمقابلة كقولك: أخذت هذا بهذا. قوله: "عشرًا" أي عشر صلوات، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬4) وصلاة الله على عبده رحمته عليه؛ لأن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 199 رقم 523). (¬2) في "الأصل، ك": "مسلمة"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود". (¬3) "المجتبى" (2/ 25 رقم 678). (¬4) سورة الأنعام، آية: [160].

قوله: "ثم سَلُوا لي الوسيلة" أي: بعد الفراغ من الإجابة والصلاة على النبي - عليه السلام - سلوا الله لأجلي الوسيلة، وهي فعيلة، وتجمع على وسائل ووُسُل وهي في اللغة ما يتقرب به إلى الغير، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، وتوسل إليه توسيلة إذا تقرب إليه بعمل، وفسّرها في الحديث بأنها منزل في الجنة، والفاء في قوله: "فإنها منزل" فاء تفسيرية، والمنزل والمنزلة واحد، وهي المنهل والدار. وقوله: "لا ينبغي" من بغَيْته فانبغى أي طلبته، ويقال: انبغى لك أن تفعل كذا أي: طاوعك وانقاد لك فعل كذا. وقوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ} (¬1) أي لا يحصل ولا يتأتى، ولا يُستعمل فيه غير هذين اللفظين، ويقال معنى لا ينبغي: لا يَسهُل ولا يكون. قال ابن أحمر: في رأس خَلقاءَ عنقاء مشرفة ... لا يُبْتَغى دُونها سَهْلٌ ولا جَبَلُ قوله: "أن كون أنا هو" أن مَصدرية ومحله النصب على المفعولية والتقدير: أرجو كوني إياه، أي ذلك العبد. وأنا إما اسم أكون، وليس في أكون شيء، وإما تأكيد لأنا المستكن فيه. وقوله: "هو" ضمير مرفوع وقع موقع الضمير المنصوب، وتقديره أن أكون إياه. قوله: "حلت له الشفاعة" أي: شفاعتي، الألف واللام بدل من المضاف إليه و"حلّت" من حلّ يَحِل بالكسر إذا وجب، ويُحلّ -بالضم- أي ينزل، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (¬2) واللام في "له" بمعنى على كما وقع في رواية غيره "حلت عليه" لأن الأصل أن يقال: حلّ عليه. ويَستفادُ منه أحكامٌ: وجوب إجابة المؤذن، ووجوب الصلاة على النبي - عليه السلام - بعد الإجابة، ولاسيما قد ذكر النبي - عليه السلام - في الأذان؛ قال الطحاوي أوجب الصلاة عليه - عليه السلام - كلما سمع ¬

_ (¬1) سورة ص، آية: [35]. (¬2) سورة طه، آية: [81].

ذكره وهو المختار عندي أيضًا، والسؤال من الله الوسيلة لأجله - عليه السلام - وإثباتُ الشفاعة ردًّا على المعتزلة، واختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بالوسيلة يوم القيامة، وجواز الاستعانة بدعاء الصالحين ولاسيّما في مظانّ الإجابة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهبُ بن جرير، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا ابن أبي داود وأحمد بن داود قالا: ثنا أبو الوليد قال: ثنا شعبة، عن ابن بشر، عن أبي المليح، عن عبد الله بن عُتْبةَ، عن أم حبيية - رضي الله عنها - "أن رسُول الله - عليه السلام - كان إذا سمع المؤذن يقول مثل ما يقولُ حتى يُسكُت". ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدُهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي بشْر بيان بن بشر الأحمسي البجلي الكوفي، عن أبي المليح بن أسامة الهُذَلي، قيل: اسمُه عامر وقيل: زيد بن أسامة، عن عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان الأموي، عن أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، واسمها رملة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بشير، عن أبي المليح، عن أم حبيبة، عن النبي - عليه السلام -[كان] (¬2) إذا سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول حتى يَسكت. والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلُسي وأحمد بن داود المكي -أحد مشايخ الطبراني أيضًا- كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل، نا [هشيم] (¬4)، أنا أبو بشر، عن أبي المليح بن أسامة، عن عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، حدثتني ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 326 رقم 26810). (¬2) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "المسند". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 238 رقم 719). (¬4) في "الأصل": "هشام"، والمثبت من "سنن ابن ماجه"، و"تحفة الأشراف" (11/ 108).

عمتي أم حبيبة "أنها سمعت رسُول الله - عليه السلام - في يومها وليلتها فسمع المؤذن يؤذن قال كما يقول المؤذن". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريّ، قال: ثنا محمَّد بن عَمرو الليثي، عن أبيه، عن جده قال: نا عند معاوية فأذّن المؤذن فقال: معاويةُ - رضي الله عنه -: سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل مقالته" أو كما قال. ش: محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصري القاضي شيخ البخاري. ومحمد بن عَمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو عيد الله المدني وثقه النسائي وابن حبان واحتج به الأربعة. وأبوه عمرو بن علقمة وثقه ابن حبان. وجده علقمة بن وقاص الليثي المدني روى له الجماعة. وحديث معاوية هذا روي بألفاظ مختلفة، ولهذا قال أبو عمر: حديث معاوية في هذا الباب مضطرب الألفاظ، بيان ذلك أنه روى مثل ما تقول طائفة، وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن من أول الأذان إلى آخره، وهو رواية الطحاويّ، وروي عنه مثل ما تقول طائفة أخرى وهو أن يقول مثل المؤذن في كل شيء إلى قوله: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يُتم الأذان. وهو رواية الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده قال: "أذن المؤذن عند معاوية فقال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله فقال: ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 322 رقم 731).

حيّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال حيّ على الفلاح، قال: لا حَوْل ولا قوة إلا بالله، قال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: هكذا سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول". وروي عنه مثل ما تَقُول طائفة أخرى، وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد والتكبير دون سائر الألفاظ. وهو رواية عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن عُيَيْنة، عن مجمع الأنصاري، أنه سمع أبا أمامة بن سهل بن حنيف حين سمع المؤذن كبّر وتشّهد بما تشهّد به، ثم قال: هكذا حدثنا معاوية " أنه سمع رسُول الله - عليه السلام - يَقولُ كما يقول المؤذنُ، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسُول الله قال: وأنا أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم سكت". وروي عنه مثل ما تقول طائفة أخرى؛ وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يبلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ بدل كل كلمة منها حاصرتين على حسب ما يقول المؤذن، ثم لا يزيد على ذلك، وليس عليه أن يختم الأذان. وهي رواية البخاري (¬2): ثنا معاذ بن فضالة، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن طلحة أنه سمع معاوية يومًا فقال مثله. إلى قوله: "وأشهد أن محمدًا رسول الله". حدثنا (¬3) إسحاق بن راهويه، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام، عن يحيى نحوه. قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا أنه قال: "حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: هكذا أسمعنا نبيكم - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 479 رقم 1845). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 222 رقم 587). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 222 رقم 588).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: ينبغي لمن سمع الأذان أن يَقُولَ كما يقولُ المؤذن حتى يفرغ من أذانه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: النخعي والشافعي وأحمد في رواية ومالكًا في أخرى؛ فإنهم قالوا ينبغي لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه واستدلوا على ذلك بالأحاديث المذكور؛، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال ابن حزم في "المحلّى": ومن سمع المؤذن فليقل كما يقول المؤذن سواء بسواء من أول الأذان إلى آخره، وسواء كان في غير صلاة أو في صلاة فرض أو نافلة حاش قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح لا يقولها في الصلاة ويقولها في غير الصلاة، فإذا أتم الصلاة فليقل ذلك، ثم قال: فإذا قال سامع الأذان لا حول ولا قوة إلا بالله مكان حي على الصلاة حي على الفلاح فحسن. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ليس لقوله حي على الصلاة وحي على الفلاح معنى؛ لأن ذلك إنما يقوله المؤذن ليَدْعو به الناس إلي الصلاة وإلى الفلاح والسامع لا يقول من ذلك على جهة دعاء الناس إلى ذلك، إنما يقوله على جهة الذكر، وليس هذا أمن الذكر فينبغي له أن يجعل فكان ذلك ما قد روي في الآثار الأُخَر وهو: لا حول ولا قوة إلا بالله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد في الأصح، ومالكًا في رواية، فإنهم قالوا: يقول سامع الأذان مثل ما يقول المؤذن إلا في الحَيْعلتين فإنه يقول فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي "الجواهر" للمالكية ويؤمر سامع الأذان وينتهي إلى آخر التشهدين في ظاهر المذهب. وقيل: يتمادى إلى آخره ويعوْض عن الحيعلتين بالحوقلة ويحكي التشهد مرةً واحدة في رواية ابن القاسم. وقال الداودي: يعاود التشهد إذا عاوده المؤذن أو قبله بأن كان السامع في صلاة، فروى ابن القاسم أنه يحي في النافلة دون الفريضة.

وروى أبو مصعب أنه يحكي فيهما، وقال ابن وهب: لا بأس فيهما واستحسنه ابن حبيب، وقال سحنون: لا يحكي في واحدة منهما ثم حيث قلنا يحكي فلا يجاوز التشهدين، ولو قال في الصلاة حي على الصلاة فقال أبو محمَّد الأصلي: لا تبطل صلاته لأنه متأول وحكى عبد عن بعض القرويين أن صلاته تبطل وأنه كالمتكلم وحكي ذلك عن القاضي أبي الحسن، ولو أبطأ المؤذن فقال مثل ما يقول أو عجل قبل المؤذن أجزأه ذلك وهو واسع، وفي "حاوي" الحنابلة: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثله إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي كلمة الإقامة أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض ويقوله التالي ويقضيه المُصلي ويقول المؤذن كسامعه خفية، وقال القاضي عياض في شرح مسلم: واختلف في الحد الذي يحي فيه المؤذن هل إلى التشهدين الأولين أم الآخرين أم إلي آخر الأذان؟ ونقل القولان عن مالك ولكنه في القول الآخر إذا حيعل المؤذن فيقول السامع لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال الشافعي بحكايته في الجميع. وقال بعض أصحابنا بل الترجيع التشهدين وقيل بل لا تلزمه الحكاية إلا في التشهدين أولًا فقط. قلت ما قاله أصحابنا أول، وأقرب إلى العقل لأن قول السامع عند الحيعلتين مثل قول المؤذن يشبه المحاكاة والاستهزاء لأنه ليس معهما على قصد الذكر والثناء وأما قول المؤذن فإنه يدعو بهما الناس إلى الصلاة وإلى الفلاح فحينئذ يقول السامع لا حول ولا قوة إلا بالله كما ورد به في الأحاديث الآخر على ما يجيئ الآن إن شاء الله تعالى. ص: فكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون قوله "فقولوا مثل ما يقول حتى يَسكن" أي فقولوا مثل ما ابتدأ به الأذان من التكبير وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسُول الله حتى يَسكُت فيكون التكبير والشهادة هما المقصود إليها بقوله: "فقولوا مثل ما يقول" وقد قَصِد إلى ذلك في حديث أبي هريرة. حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا إبراهيم بن محمَّد الشافعي قال: ثنا عبد الله بن رجاء عن عباد بن إسحاق عن ابن شهاب (ح).

وحدثنا أحمد قال: ثنا مُسّدد قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا تشهد المؤذن فقولوا مثل ما يقول". ش: أشار أولًا إلى الجواب عما تمسكت به أهل المقالة الأولى في وجوب قول السامع مثل قول المؤذن حتى يَسكت، ثم ذكر الأحاديث التي يتمسك بها أهل المقالة الثانية. تحرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون معنى قوله: "فقولوا مثل ما يقول حتى يسكت" فقولوا مثل ما ابتد به من التكبير والشهادتين حتى يسكت فيكون المقصود في قوله: "فقولوا مثل ما يقول" هو التكبير والشهادتين، والدليل على صحة هذا التأويل حديث أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا تشهد المؤذن فقولوا مثل ما يقول" فإنه اقتصر ها هنا على القول بمثل ما يقول المؤذن في الشهادتين. وجواب آخر عن أحاديثهم: أنها مخصوصة بأحاديث عمر بن الخطاب وأبي رافع ومعاوية - رضي الله عنهم - على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين صحيحين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن محمَّد بن العباس الشافعي المكي ابن عم الإِمام الشافعي وثقه الدارقطني وغيره، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبّاد بن إسحاق وهو عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني ويسمّى باسمين: عَبَّاد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن إسحاق، وكلاهما واحد، روى له البخاري مستشهدًا. وهو يروي عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو حمد العدنى في "مسنده": ثنا عبد الله بن رجاء، عن عباد بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي - عليه السلام -: "إذا

قال المؤذن: الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. فقال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. ثم قال: حي على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر، الله أكبر. فقال: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله. فقال: لا إله إلا الله من قلبهِ؛ دخل الجنة". هذا بيان ما احتجت به أهل المقالة الثانية فيما ذَهبُوا إليه، وقد احتجوا في ذلك بأحاديث منها حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُّسِي، عن إسحاق بن محمَّد بن إسماعيل الفَرْوي المدني، فيه مقال كثير، والفَرْوي -فتح الفاء وسكون الراء- نسبة إلى الجدّ وهو فَروْة جَدّ جدّ إسحاق المذكور، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني روى له الجماعة، عن عمارة بن غزية بن الحارث المازني المدني روى له الجماعة، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن أبيه عاصم بن عمر روى له الجماعة، عن جدّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني إسحاق بن منصور، قال: أنا أبو جعفر محمَّد بن جهضم الثقفي، قال: نا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن بن إساف، عن جعفر بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن جدّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، نا محمَّد بن جهضم، نا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن حفص بن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن جدّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 289 رقم 385). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 200 رقم 527).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا نحوه. قوله: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله ... " إلى آخره. كل نوع من هذا مثنى كما هو المشروع فاختصر - عليه السلام - من كل نوع على شطره تنبيهًا على باقية قوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" يجوز فيه خمسة أوجه: الأول: فتحهما بلا تنوين. والثانى: فتح الأول ونصب الثاني منونًا. والثالث: رفعهما منونين. والرابع: فتح الأول وترفع الثاني منونًا. والخامس عكسه. "الحول" الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى قاله ثعلب وغيره، وقال بعضهم: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكي هذا عن ابن مسعود، وحكى الجوهري: لغةً غربية ضعيفة أن يقال: لا حيل ولا قوة إلا بالله -بالياء- قال: والحول والحيل بمعنى. ويقال في التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، قاله الأزهري. وقال الجوهري: الحولقة. فعلى الأول -وهو المشهور- الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله. وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، ومثلها الحَيْعلة والبسملة والحمدلة والهَيْللة والسَبحلة في حي على الصلاة، وحي على الفلاح، وبسم الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وسبحان الله. وقال في كتاب "اليواقيت" وفي غيره: إن الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة وهي: بَسْمَل الرجل إذا قال: بسم الله، وسَبحَل إذا قال: سبحان الله، وحَوْقَل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحَيْعَل ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (6/ 15 رقم 9868).

إذا قال: حي على الفلاح ويجيء على القياس الحَيْصلة إذا قال: حي على الصلاة ولم يذكر، وحَمْدل: إذا قال الحمد لله، وهَيلل إذا قال: لا إله إلا الله، وجَعْفَل إذا قال: جُعِلْتُ فداك، زاد الثعالبي الطَيْقلة إذا قال: أطال الله والدَمْعزة إذا قال: أدام الله عزك. وقال عياض: قوله الحيصلة على قياس الحيعلة غير صحيح بل الحيعلة تُطلق على حيّ على الفلاح وحيّ على الصلاة كلها حَيْعلة، ولو كان على قياسه في الحيصلة لكان الذي يقال في حي على الفلاح الحَيْفلة -بالفاء- وهذا لم يُقل، وإنما الحيعلة من قولهم حيّ على كذا، فكيف وهو باب مسموع لا يقاس عليه، وانظر إلى قوله: جَعْفَل في جُعِلت فداك لو كان على قياس الحيعلة لقال جَعْلفَ إذ اللام مقدمة على الفاء وكذلك الطيْقلة تكون اللام على القياس قبل الفاء والقاف. قوله: "من قلبه" يتعلق بقوله: "فقال أحدكم" أي قال ذلك خالصًا مخلصًا من قلبه لأن الأصل في القول والفعل الإخلاص. قوله: "دخل الجنة" جواب قوله: "فقال أحدكم" في المعنى، وجزاء ذلك القائل. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا سَعيدُ بن سليمان، عن شريك، عن عاصم بن عبيد الله، عن علي بن حُسين، عن أبي رافع قال: "كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع المؤذن قال مثل ما قال، وإذا قال: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرُلُسي وسعيد بن سليمان الضَبيّ أبو عثمان الواسطي المعروف بسَعْدوَيْه أحد مشايخ البخاري وأبي داود، وشريك هو ابن عبد الله النخعي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، ضعّفه يحيى والجوزجاني، وقال الدارقطني: متروك. وقال العجلي: لا بأس به. وروى له الأربعة.

وعلي بن حُسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - روى له الجماعة. وأبو رافع مولى النبي - عليه السلام - القبطي قيل: اسمُه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت. وأخرجه النسائي (¬1): عن أبي رافع نحوه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن إبراهيم القرشي، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله قال: "كنا عند معاوية بن أبي سفيان فأذن المؤذن، فقال: الله أكبر، الله أكبر فقال معاوية: الله أكبر، الله أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسُول الله. حتى بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله". قال يحيى: وحدثني رجل: "أن معاوية لما قال ذلك قال: هكذا سمعنا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي. وأخرجه البخاري (¬2): عن معاذ بن فَضالة، عن هشام، عن يحيى إلى آخره. وقد ذكرنا في الفصل الأول عند حديث معاوية وقد قلنا: إن حديث معاوية روي من وجوه كثيرة. ص: حدثنا أبو بكرة قال: ثنا سعيد بن عامر قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده. أن معاوية قال مثل ذلك ثم قال: "هكذا قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (6/ 15 رقم 9869). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 222 رقم 587).

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أيضًا -يعني داود بن عبد الرحمن- عن عمرو بن يحيى، عن عبد الله بن علقمة قال: "كنت جالسًا إلى جنب معاوية ... " فذكر مثله، ثم قال معاوية: "هكذا سمعت رسُول الله - عليه السلام - يقول". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، قال: حدثني عمرو بن يحيى الأنصاريّ، أن عيسى بن محمَّد أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ... فذكره نحوه. ش: هذه ثلاث طرق أخرى ورجالها ثقات: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضُبَعي البصري، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبيه عمرو، عن جده علقمة بن وقاص: "أن معاوية ... ". وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا سعيد بن عامر، نا محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده: "أن معاوية سمع المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر. فقال معاوية: الله الله أكبر، الله أكبر. فقال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال المؤذن حيّ على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال المؤذن: حيّ على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم قال: هكذا فعل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن يحيى بن سعيد المكي، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص الليثي ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 294 رقم 1203).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو حبيب يحيى بن نافع المصري، نا سعيد بن أبي مريم، أنا داود بن عبد الرحمن العطار، حدثني عمرو بن يحيى، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه قال: "كنت جالسًا مع معاوية، فلما أذن المؤذن فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم قال المؤذن: حي على الصلاة. فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر الله أكبر. فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله. فقال معاوية: لا إله إلا الله، ثم قال معاوية: هكذا سمعت رسُول الله - عليه السلام -". الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمَّد المِصّيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن يحيى الأنصاري، أن عيسى بن محمَّد أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ... فذكر نحو المذكور، وقد وقع في النسخ كلها: عيسى بن محمد وهو غلط، والصواب: عيسى بن عمرو، وفي "التكميل" عيسى بن عمرو، ويقال: ابن عُمير حجازي روى عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، عن معاوية في القول كما يقول المؤذن، وعن عمرو ابن يحيى بن عمارة روى له النسائي. وكذا أخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬2) وقال: أنا أبو زكريا، وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع قال: أنا الشافعي، قال: أنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أنا يحيى المازني أن عيسى بن عَمرو أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص قال: "إني لعِنْدَ معاوية؛ إذ أذن مؤذنٌ، فقال معاوية كما قال مؤذنه، حترل إذا قال: حيّ على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 321 رقم 730). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 436 رقم 575).

ولما قال: حيّ على الفلاح. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسُول الله - عليه السلام - يقول ذلك". وكذا أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1). ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - أيضًا أنه كان يقول عند الأذان ويأمر به ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن الحكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد بن أي وقاص، عن سَعْد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا؛ غُفِر له ذنبه". حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفَيْر، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد اللهَ بن المغيرة، عن الحُكَيْم بن عبد الله بن قيس ... فذكر مثله بإسناده وزاد فيه أنه قال: "من قال حين يسمع المؤذن يتشهد". ش: أشار بهذا الحديث وبالذي بعده أن الذي ينبغي أن يقال عند الأذان ينبغي أن يكون ثناءً وذكرا كما أمر به النبي - عليه السلام - في الأحاديث الآتية، وقول السامع: حي على الصلاة، حي على الفلاح ليس بثناء ولا ذكر ولا دعاء، فينبغي أن لا يقول ذلك، بل يقول عوضه: لا حول ولا قوة إلا بالله كما ذكرنا. ثم إنه أخرج حديث سَعْد بن أبي وقاص -أحد العشرة المبشرة واسم أبي وقاص مالك بن أهيب- من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سَعْد، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 321 رقم 730).

عن الحُكَيْم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف- ابن عبد الله المصري، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتُيبة، نا ليث، عن الحُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد بن أبي قاص، عن سعد بن أبي وقاص، عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال حين يسمعُ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولًا وبالإِسلام دينًا؛ غفر له ذنبه". قال ابن رمح في روايته: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد" ولم يذكر قتيبة: "وأنا". وأخرجه أبو داود (¬2): عن قتيبة بن سعيد نحوه، وفي آخره: "غفر له" فقط، وليس فيه: "ذنبه". وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة كذلك. وأخرجه الترمذي (¬4) أيضًا: عن قتيبة، عن الليث كذلك. وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن محمد بن رمح المصري، عن الليث كذلك. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن الحُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن سعد، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه عبدبن حميد في "مسنده" (¬6): ثنا وهب بن جرير، ثنا ليث بن سعد، عن حُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 290 رقم 386). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 199 رقم 525). (¬3) "المجتببى" (2/ 26 رقم 679). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 411 رقم 210). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 238 رقم 721). (¬6) "المنتخب من مسند عبد بن حميد" (1/ 78 رقم 142).

لا شريك له وأن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمدٍ نبيًّا غفر له ذنبه. فقلت: ما تقدم من ذنبه. فقال: ليس هكذا قال سعد، قال: غُفر له ذنبه". الثالث: عن رَوْح بن الفرج القطان، عن سعيد بن كثير بن عفير أبي عثمان المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي أبي العباس المصري، عن عبيد الله بن المغيرة ابن مُعَقبة، المصري عن الحكيم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص ... إلى آخره، وزاد فيه روح بن الفرج أنه قال: "من قال حين يَسمع المؤذن يتشهد: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده ... " إلى آخره. قوله: "ورضيت بالله ربًا" أي قنعتُ به واكتفيتُ به ولم أطلب معه غيره. قوله: "وبالإسلام دينًا" أي رضيت بالإِسلام دينًا بمعنى: لم أسَعْ في غير طريق الإِسلام، ولم أسلك إلا ما يوافق شرع محمد - عليه السلام -، أو لم أتبع غير الإِسلام دينًا. فإني قيل: بماذا انتصب ربًّا ورسولًا ودينًا؟ قلت: يجوز أن يُنصبْن على التمييز، وهو وإن كان الأصل فيه أن يكون فاعلًا في المعنى يجوز أن يكون مفعولًا أيضًا نحو {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} (¬1) ويجوز أن ينصبن علي المفعولية لأن "رضي" إذا عُدي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر. فإن قيل: ما المراد من قوله: "دينًا"؟ قلت: المراد من الدين ها هنا التوحيد، وبذلك فسر صاحب "الكشاف" في قوله: تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (¬2) بمعنى التوحيد. وأما في الحديث الصحيح عن عمر - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن عند رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ... إلى آخره" (¬3). فقد أطلق رسُول الله - عليه السلام - الدين على الإِسلام والإيمان والإحسان بقوله: "إنه جبريل أتاكم ¬

_ (¬1) سورة القمر، آية: [12]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [85]. (¬3) أخرجه مسلم (1/ 36 رقم 8)، وأخرجه البخاري (1/ 27 رقم 50) من حديث أبي هريرة.

ليعلمكم دينكم" وإنما علمهم هذه الثلاثة، والحاصل في هذا أن الدين تارةً يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل - عليه السلام -، وتارةً يطلق على الإِسلام كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) وبهذا يمنع قول من يقول: بين الآية والحديث معارضة؛ حيث أطلق الدين في الحديث على ثلاثة أشياء، وفي الآية على شيء واحد، واختلاف الإطلاق إما بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز، أو بالتواطئ ففي الحديث أطلق على مجموع الثلاثة؛ وهو أحد مدلولَيْه، وفي الآية أطلق على الإِسلام وحده؛ وهو مسماه الآخر. فإن قيل: لم قال: بالإِسلام ولم يقل: بالإيمان؟ قلت: الإِسلام والإيمان واحد فلا يرد السؤال، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (¬2) والمراد بهما آل لوط - عليه السلام -، فوصفهم تارة بأنهم مؤمنون، وتارة بأنهم مسلمون، فدل على أن الإيمان والإِسلام شيء واحد. قوله: "غفر له ذنبه" جواب قوله: "مَن قال" أي غُفِرَ له ذنوبه ما دون الكبائر، هكذا قالوا، ولكن اللفظ بعمومه يتناول الصغائر والكبائر، نعم يخرج عنه حق العباد لدلائل أخرى، فافهم. ص: حدثنا محمد بن النعمان السَقَطي، قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوريّ، قال: ثنا أبو عمر البزار. عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يقول إذا سمع النداء فيكبر المنادي فيكبر، ثم يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمدًا رسول الله، فيشهد على ذلك ثم يقول: اللهم أعط محمدًا الوسيلة واجعله في الأَعْلين درجته، وفي المصطفين محبته، وفي المقربين ذكره. إلا وجبتْ له شفاعة مني يوم القيامة". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [3]. (¬2) سورة الذاريات، آية: [35، 36].

ش: يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، وأبو عمر البزار. اسمه حفص ابن سليمان الأسدي ويعرف بحَفَيْص، ضعيف جدًّا حتى كذبه بعضهم، ولكن كان ثبتًا في القراءة، والبَزَّار -بالباء الموحدة المفتوحة وتشديد الزاي المعجمة وفي آخره زاي معجمة- وقيس بن مسلم الجَدَلي العَدْواني أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، وطارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أبو كريب نا عثمان بن سعيد نا أبو عمر حفص، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يقول حين يسمع النداء بالصلاة فكبّر، فيكبّر ويَشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمد رسُول الله، ثم يقول: اللهم أعط محمدًا الوسيلة والفضيلة، واجعله في الأعلين درجته وفي المَصْطفين محَبتَه وفي المقربين ذكره إلا وجبت له الشفاعة يوم القيامة". قوله: "إذا سمع النداء" أي الأذان. قوله: "الوسيلة" قد فسرها في الحديث أنها منزلة في الجنة، وقد مَرَّ الكلام فيه عن قريب. قوله: "واجعله في الأعلين درجته" أي اجعل له في الأعلين درجته، وهو جمع أعلى وقد علم أن الجمع بالواو والنون، يكون في الصفات والأعلام التي للعقلاء، ولا شك أن "أعلى" ها هنا صفة من يَعقل لأن المراد منهم الأنبياء المقربون والملائكة المقربون - عليه السلام -، فجمع بالواو والنون، تقول: أعلون. كما في قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (¬2) ثم يكون إعرابه كإعراب سائر المجموع المصحّحة، وهو أن يكون بالواو حالة الرفع، وبالياء حالة النصب والجر. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 14 رقم 979). (¬2) سورة آل عمران، آية: [139].

فإن قيل: فعلى ما ذكرت تكون درجة النبي - عليه السلام - في جملة درجات الأعلَين فلا يحصل له مزية على غيره. قلت: كلمة "في" ها هنا بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬1) أي على جذوع النخل والمضاف محذوف، وتقدير الكلام: واجعل له درجته على درجات الأعلين. ويمكن أن يكون هذا جمع أعلى الذي هو المكان الأعلى من غيره، ويكون جمعه كجمع أدْنَون ونحوه، ويكون المعنى حينئذ: اجعل له درجته على الأماكن العالية التي ليس عليها مكان لأحدٍ. فإن قيل: شرط هذا الجمع أن يكون فيه ضمة قبل الواو في حالة الرفع، وكسرة قبل الياء في حالة الجرِّ والنصب، وها هنا ليس كذلك؛ لأن "اللام" من الأعلين مفتوحة، والحال أنه مجرور. قلت: هذا مكسور وحكمه أن تكون الضمة والكسرة مقدرتين في حالتي الجر والنصب في الألف المحذوفة لألتقاء الساكنين، فافهم. قوله: "وفي المصطفين" بفتح الفاء وهو جمع مصطفى فهو أيضًا يكون بالواو حالة الرفع وبالياء حالتي النصب والجر، تقول: جاءني المصطفون، ورأيت المصطفين ومررت بالمصطفين. فالكسرة التي يجب أن تكون قبل الياء في الحالتين مقدرة ها هنا أيضًا كما في الأعلين، والمصطفى المختار، من الصفوة، وأصله مُصْتفى بالتاء ولكنها قلبت طاء لأن "الصاد" من المجهورة و"التاء" من المهموسة فلا يتفقان. وفيه: استحباب هذا الدعاء عند تشهد المؤذن في أذانه، وإثبات الشفاعة ردًّا على من أنكرها، وجواز دعاء أحد لأحد والطلب له من الله تعالى ما يليق له من الفضائل والفواضل. ص: حدثنا عبد الرحمن بن عَمرو الدمشقي، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "كان ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [71].

رسُول الله - عليه السلام - إذا سمع المؤذن قال: اللهم رَبّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة أَعْط محمدًا الوسيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته". ش: إسناده صحيح وعلي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة ابن مسلم الأَلْهاني الحمصي شيخ البخاري. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عياش، ثنا بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة". وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن علي بن عياش نحو رواية البخاري، غير أن في روايته "إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة". وأخرجه الترمذي (¬3): عن محمد سهل وإبراهيم بن يعقوب، كلاهما عن علي بن عياش نحو رواية أبي داود. وأخرجه النسائي (¬4): عن عمرو بن منصور، عن علي بن عياش نحوه إلا أنه ليس في روايته: "يوم القيامة". وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن محمد يحيى والعباس بن الوليد الدمشقي ومحمد بن أبي الحسين، كلهم عن علي بن عياش نحو رواية النسائي. قوله: "اللهم" معناه: يا الله و"الميم" فيه عوض من "يا" ولذلك لا يجتمعان، فلا يقال: يا اللهم. وهذا بعض خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 222 رقم 589). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 201 رقم 529). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 413 رقم 411). (¬4) "المجتبى" (2/ 62 رقم 680). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 239 رقم 722).

وبدخول حرف النداء عليه وفيه "لام" التعريف، وبقطع همزته في يا ألله، وبغير ذلك، قاله الزمخشري. قوله: "ربّ" منصوب على النداء، ويجوز رفعه علي أنه خبر مبتدأ محذوف أي: أنت ربُّ هذه الدعوة، والربّ المربّي المصلح للشأن، واشتقاقه من الربّة وهي نبت يصلح عليه المال يقال: ربّ يَرُبُّ ربّا ورَبَّى يربّي تربية، وأصله رَبَبٌ وهو قول زيد بن علي وسعيد بن أوس. وقال الحسين بن الفضل: هو الثابت لم يزل، مِنْ ربّ بالمكان إذا أقام، وأرض مُربٌ ومِرباب دام بها المطر، وفي اللغة الربُّ: المالك والسيد والصاحب. وقال الواسطي: هو الخالق ابتداء، والمربي غدا والغافر انتهى. وقال الزمخشري: ربّه يربَه فهو رب كما تقول نمّ عليه ينمّ فهو نم، ويجوز أن يكون وصفًا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلَّا في اللهَ وحده وفي غيره على التقيد بالإضافة كقولهم: ربّ الدار ورب الناقة، ومعنى "رب هذه الدعوة التامة" أي صاحب هذه الدعوة، و"الدَّعوة" بفتح الدال وكذلك كل شيء دعوته، ويريد بالدعوة التامة التوحيد، وقيل لها: تامة؛ لأنه لا نقص فيها ولا عيب، وقيل: وصفها بالتمام لأنها ذكر للهَ ويُدعى بها إلى عبادته وذلك الذي يستحق التمام، وقيل: التامة: الكاملة وكمالها أن لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل في كلام الناس، وقيل: معنى التمام: كونها محمية عن النسخ وإلا بدال، باقية إلى يوم القيامة، وقد بسطت الكلام فيه في شرحي للكلم الطيب لابن تيمية -رحمه الله-. قوله: "والصلاة القائمة" أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة، وأنها قائمة ما دامت السموات والأرض. قوله: "الوسيلة" منصوب على المفعولية، وقد مر معناها عن قريب أنها منزلة في الجنة، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي القرب من اللهَ تعالى.

قوله: "المقام المحمود" أي الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. وقيل: المراد الشفاعة وهي نوع مما يتناوله، وعن ابن عباس: مقامًا يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق؛ تسأل فتُعْطى، وتَشْفَع فَتُشَفَّع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "هو المقام الذي اشفع فيه لأمتي". فإن قيل: قد وعده الله تعالى بالمقام المحمود، وهو لا يخلف الميعاد، فما الفائدة في دعاء الأمُة بذلك؟ قلت: إما لطلب الدوام والثبات، وإما للإشارة إلى جواز دعاء الشخص لغيره والاستعانة بدعائه في حوائجه ولا سيما من الصالحين. قوله: "الذي وعدته" بدل من المقام المحمود، أو منصوب بأعني، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأراد به حكايته لفظ القرآن في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬1). ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نُعَيْم الطحان، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة ابنة أبي كثير عن أمها قالت: علمتني أم سلمة - رضي الله عنها - وقالت: علمني رسُول الله - عليه السلام - قال: "يا أم سلمة إذا كان عند أذان المغرب فقولي: اللهم عند استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دُعاتك وحضور صلواتك؛ اغفر لي". ش: أبو نعيم اسمه ضرار بن صُرَد التيمي الطحان الكوفي، فيه مقال كثير حتى كذبه يحيى بن معين وتركه النسائي. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [79].

ومحمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي روى له البخاري والنسائي وابن ماجه. وعبد الرحمن بن إسحاق بن الحارث أبو شيبة الواسطي فيه مقال كثير، روى له أبو داود والترمذي. وحفصة ابنة أبي كثير مولى أم سلمة ويقال لها: خُميصة، وكذا وقع في رواية للطبراني على ما نذكره، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وأم حفصة لم أدر من هي ولا وقفت على اسمها، ولعل هذا تصحيف، والصحيح عن حفصة بنت أبي كثير، عن أبيها كما وقع هكذا في رواية الترمذي (¬1) حيث قال: ثنا حسين بن علي بن الأسود البغدادي، قال: نا محمد بن فُضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنة أبي كثير، عن أبيها أبي كثير، عن أم سلمة قالت: "علمني رسُول الله - عليه السلام - قال: قولي عند أذان المغرب: اللهم عند استقبال ليلك، وإدبار النهار، وأصوات دُعاتك، وحضور صلواتك، أسألك أن تغفر لي" هذا حديث غريبٌ إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت أبي كثير لا نَعْرفها ولا أباها. ذكره في الدعوات. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة، فقال: ثنا في مُؤملَ ابن إهاب، ثنا عبد اللهَ بن الوليد العَدَني، ثنا القاسم بن مَعْن، نا المسعودي، عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة قال: "علمني رسُول الله - عليه السلام - أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي". وكذا أخرجه الطبراني (¬3) فقال: ثنا الحسن بن إسحاق، ثنا عثمان بن أبي شيبة، وثنا عبيد بن أبي غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا إسحاق بن منصور، نا هريم بن سفيان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قال لي رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قولي عند أذان المغرب: اللهم عند إقبال ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 574 رقم 3589). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 201 رقم 530). (¬3) "المعجم الكبير" (23/ 303 رقم 680).

ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لي. وكانت إذا تعارت من الليل تقول: ربّ اغفر وارحم واهد السبيل الأقوم". وله (¬1) من طريق آخر عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خميصة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. قلت: خُميصة -بضم الخاء المعجمة وبالصاد المهملة (¬2). قوله: "عند استقبال" ظرف، والعامل فيه قوله: "اغفر لي". قوله: "دعاتك" جمع دل، كقضاة جمع قاضٍ، وإنما أضاف هذه الأشياء إلى الله تعالى وإن كانت جميع الأشياء للهَ تعالى؛ لإظهار فضيلة هذه الأشياء لأن المضاف يكتسي الفضيلة والشرف من المضاف إليه كما في ناقة الله، وإنما حث بالدعاء في هذا الوقت لأنه وقت شريف باعتبار أنه آخر النهار -وهو وقت ارتفاع الأعمال- وأول الليل اللذين هما اثنان من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وبقائه وَقِدَمِه، وأنه وقت حضور العبادة فيكون أقرب للإجابة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذه الآثار تدل على أنه إنما أراد بما يقال عند الأذان الذكر، فكل الأذان ذكرٌ غير حي على الصلاة، حي على الفلاح فإنهما دعاء، فما كان من الأذان ذكرًا فينبغي للسامع أن يقوله، وما كان منه دعاء إلى الصلاة فالذكر الذي هو غيره أفضل منه وأولى أن يقال. ش: أراد به الأحاديث التي رواها عن سَعْد وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأم سلمة - رضي الله عنهم -، والباقي واضح. ص: وقد قال قوم: قولُ النبي - عليه السلام -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" على الوجوب. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 303 رقم 681). (¬2) كذا بالأصل- والصواب- حميضة -بالحاء المهملة والضاد المعجمة- انظر "الإكمال" (2/ 537).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وابن وهب من أصحاب مالك والظاهرية، فإنهم قالوا: الأمر ها هنا على الوجوب؛ لأن الأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، ألا ترى أنه يجب عليه قطع القراءة وترك الكلام والسلام ورده وكل عمل غير الإجابة، فهذا أمارة الوجوب، وقد مر التحقيق فيه في هذا الباب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ذلك على الاستحباب لا على الوجوب. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الشافعي ومالكًا وأحمد وجمهور الفقهاء، فإنهم قالوا: الأمر في هذا الباب على الاستحباب دون الوجوب، وهو اختيار الطحاوي أيضًا، فلذلك أقام الحجة لهؤلاء ولم يقل عند انتهاء الباب: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد كما هو عادته في أكثر المواضع. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد اللهَ بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن علقمة، عن عبد اللهَ قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - في بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقولُ: الله أكبر، الله أكبر. فقال النبي - عليه السلام -: على الفطرة: فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسُول الله - عليه السلام -: خرج من النار. قال: فابتدرناه؛ فإذا صاحب ماشية أدركته الصلاة فنادى بها". قال أبو جعفر: فهذا رسُول الله - عليه السلام - قد سمع المنادي ينادي فقال غير ما قال، فدل ذلك أن قوله: "إذا سمعتم المنادي فقولوا مثل الذي يقول" ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب والنَدْبة إلى الخير وإصابة الفضل، كما قد علم من الدعاء الذي أمرهم أن يقولوه في دُبُر الصلوت وما أشبه ذلك، والله أعلم. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما قالوه: حديث ابن مسعود؛ فإنه يدل على أن إجابة المؤذن غير واجبة؛ لأنه - عليه السلام - قد سمع ذلك المنادي ولم يقل مثل ما قال المنادي بل قال غير ما قاله، فلو كانت الإجابة واجبة لكان - عليه السلام -

أجابه بمثل ما قال فدل ذلك على أن الأمر في قوله - عليه السلام -: "فقولوا مثل الذي يقول" ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب وإصابة الفضل كما في سائر الأدعية التي عَلَّمها رسُول الله - عليه السلام - أمته أن يقولوها في أدبار الصلوات وما أشبه ذلك. قلت: فيه نظر لأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الوجوب ولا سيما قد تأيد ذلك بما روي من الآثار والأخبار في الحث على الإجابة. وقد روي ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن عبد اللهَ قال: "من الجفاء أن تسمع المؤذن ثم لا تقول مثل ما يقول". ولا يكون من الجفاء إلا ترك الواجب، وترك المستحب ليس من الجفاء ولا تاركه جافٍ. وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي إجابة الرسول - عليه السلام - لذلك المنادي بمثل ما قال، وترك الراوي ذكره لأنه يمكن أن يكون قد قال مثل ما قال ذلك المنادي ثم قال ما قال، أو قال ما قال ثم أجاب، فتقدمُ ما قال على الإجابة يكون لمصلحة ظهرت له في ذلك الوقت، أو يكون الأمر بالإجابة بعد هذه القضية. قوله: "والنَدبة" بفتح النون: الدعوة، من ندبه الأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب، وأما النُدبة -بضم النون- فهو اسم للنْدب من ندب على الميت إذا بكى عليه وعدّد محاسنه، والنَّدَب -بالتحريك- الخطر والندَبُ أيضًا: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد. قوله: "في دبر الصلوات" أي عقيبها وأدبارها، ودبر كل شىء عقيبه. قوله: "وما أشبه ذلك" أي: من الأدعية التي علمهم النبي - عليه السلام - أن يقولوها عند الصباح والمساء ونزول المطر وهبوب الريح وركوب الدابة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 116 رقم 1326).

ثم إسناد حديث عبد الله بن مسعود صحيح على شرط مسلم، وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الوهاب بن عطاء، أنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن علقمة، عن ابن مسعود: "بينما نحن مع رسول الله - عليه السلام - في بعض أسفاره إذ سمعنا منادِيًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسُول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه. وأخرج مسلم (¬2): من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: حدثني زُهيْر بن حَرْب، قال: ثنا يحيى -يعني ابن سعيد- عن حماد بن سلمة، قال: نا ثابت، عن أنس بن مالك قال: "كان رسُول الله - عليه السلام - يُغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار. قال: فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسُول الله - عليه السلام -: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسُول الله - عليه السلام -: حرمتَ من النار. فنظروا فإذا هو راعي معزَى". قوله: "على الفطرة" أي على الإسلام إذ كان الأذان شعارهم، ولهذا كان - عليه السلام - إذا سمع أذانًا أمسك وإلا أغار؛ لأنه كان فرقُ ما بين بلد الكفر وبلد الإسلام. قوله: "خرج من النار" أراد بتوحيده وصحة إيمانه؛ لأن ذلك منج من النار. فإن قيل: كيف يكون مجرد القول بلا إله إلا الله إيمانًا؟ قلت: هو إيمان ثابت في حق المشرك وحق من لم يكن بين المسلمين، أو يخالط المسلمين لا يصير مؤمنًا إلا بالتلفظ بكلمتي الشهادة بل شرط بعضهم التبرئ مما كان عليه من الدين الذي يعتقده. قوله: "فابتدرناه" أي تسارعنا إلى أخذه، وأصله: من بدرتُ إلى الشيء أبْدُر بُدورًا إذا أسرعت إليه، وكذلك بادرتُ، وتبادر القوم: سارعوا، وابتدروا السلاح: تسارعوا إلى أخذه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 405 رقم 1763) بدون ذكر علقمة. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 288 رقم 382).

قوله: "فإذا" كلمة مفاجأة تدخل على الجملة وهي ها هنا. قوله: "صاحب ماشية أدركته الصلاة" وهي جملة أسمية، والماشية اسم يقع على الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يستعمل في الغنم. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الأذان شعار الإِسلام، وقال عياض: فرض على الكفاية واختلف لفظ مالك وبعض أصحابه في إطلاق الوجوب عليه، فقيل: معناه وجوب السنن المؤكدة كما جاء في الجمعة والوتر وغيرهما، وقيل: هو على ظاهره من الوجوب على الكفاية، إذ معرفة الأوقات فرض وليس كل أحد يقدر على مراعاتها، فقام به بعض الناس عن بعض. وقيل: "سنة" يعني ليس من شرط صحة الصلاة. واختلف المذهب في أذان الجمعة أهو فرض أم سنة، فظاهر قول مالك في "الموطإ" أنه على الوجوب في الجماعات والمساجد. وقال به بعض أصحابنا وأنه فرض على الكفاية وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال الأوزاعي وداود في آخرين: فرض، ولم يفصِّلوا وروى الطبري عن مالك: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة، وذهب بعضهم ومعظمهم أصحابنا أنه سنة. والأول هو الصحيح. انتهى. وقال أحمد: الأذان فرض للصلوات الخمس. وهو قول الإصطخري أيضًا في فروع الحنابلة: الأذان والإقامة فرض كفاية حضرًا لكل صلاة، فرض عين يقاتل أهل البلد على تركهما ويُسنان سفرًا، هذا اختيار أبي بكر والقاضي في "المجرد"، والصحيح: أن لا فرق بين الحاضر والمسافر، والقرية والواحد والجماعة، وعنه يُسنان إلا الأذان المحرِّم للبيع يوم الجمعة. وقال صاحب "البدائع": قد ذكر محمد ما يدل على وجوب الأذان فإنه قال: لو أن أهل بلدة اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم عليه ولو تركه واحدٌ ضربته

وحبسته، وإنما يقاتل ويضرب ويحبس على ترك الواجب، وعامة مشايخنا قالوا: إنهما سنتان مؤكدتان. قلت: القولان يتنافيان؛ لأن السنة المؤكدة والواجب سواء، خصوصًا السنة التي هي من شعار الإِسلام فهذا أولى فافهم. الثاني: فيه حجة في استحباب الأذان للمفرد البادي؛ لأن الأذان والإقامة من لوازم الجماعة المسلمة والسفر لم يسقط الجماعة فلا يُسقط ما هو من لوازمها، فإن صلوا بجماعة فأقاموا وتركوا الأذان أجزأهم ولا يكره، ويكره لهم ترك الإقامة بخلاف أهل العصر إذا تركوا الأذان، وذلك لأن السفر سبب الرخصة وقد أثر في سقوط شطر الصلاة، فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين إلا أن الإقامة أكثر ثبوتًا من الأذان فيسقط الأذان دون الإقامة. الثالث: فيه دليل على أن من يقول: لا إله إلا الله لا يُؤَبد في النار، وأن من لا يقوله لا يخرج من النار. الرابع: أن الحكم بحسب الظاهر ولا يكلف إلى معرفة الباطن، ألا ترى أنه - عليه السلام - قال: "على الفطرة" حين سمع المنادي يقول: "الله أكبر، الله أكبر" -أي على الإِسلام كما قلنا- ولم يقل شيئًا غير ذلك. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) كتب المؤلف -رحمه الله- هنا: فرغت يمين مؤلفه من تبييضه وتنقيحه ليلة الاثنين الرابع من شهر صفر عام تسعة عشر وثمانمئة بحارة كتامة بمدرسته التي أنشأها فيها، عمرها الله تعالى بذكره، فنسأل اللهَ العظيم أن يرزقنا إتمامه بحرمة محمد - عليه السلام -

ص: باب: مواقيت الصلاة

[(¬1) بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين ص: باب: مواقيت الصلاة ش: أي هذا باب في بيان أحكام مواقيت الصلاة. والمواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت، ويقال: المواقيت جمع وقت على غير القياس، والمناسبة بين الأذان وهذا الباب ظاهرة، وقدمه على أحكام الصلاة لأنه سبب لها، فقدمه عليها لتوقف صحتها على معرفة المواقيت. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن سهل بن حنيف، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّني جبريل - عليه السلام - مرتين عند باب البيت، فصلى بي الظهر حين مالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى ¬

_ (¬1) وقع هنا سقط من "الأصل، ك" بمقدار ورقة واستدركتها من "ح" وهي نسخة "أحمد الثالث".

بين المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين مضى ثلث الليل، وصلى بي الغداة عندما أسفر، ثم التفت إليّ فقال: يا محمد، الوقت فيما بين هذين الوقتين، هذا وقت الأنبياء من قبلك". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي البصري احتج به الأربعة، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد اللهَ بن عياش بن أبي ربيعة، واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد اللهَ بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني والد المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، روى له الأربعة ووثقه ابن حبان، وقال النسائي: ليس بالقوي. وعن يحيى بن معين: صالح. ولما ذكره أبو داود في روايته قال: عن سفيان، حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة. وهو يروي عن حَكيم بن حَكيم -بفتح الحاء فيهما- بن عباد بن سهل بن حنيف الأنصاري المدني، قال ابن سعد: لا يحتجون بحديثه. ووثقه ابن حبان وروى له الأربعة. عن نافع بن جبير بن مطعم المدني، روى له الجماعة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني عبد الرحمن ابن فلان بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [أمَّني جبريل - عليه السلام -]، (¬2) عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 160 رقم 393). (¬2) سقط من "ح"، والمثبت من "سنن أبي داود".

صلى بي الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليّ فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد اللهَ بن وهب المصري، عن يحيى بن عبد اللهَ بن سالم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن الحارث -وهو عبد الرحمن بن عبد اللهَ بن أبي ربيعة المدني، تقدم، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1): أنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، ثنا جدي، ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، نا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن ابن الحارث، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. الثالث: عن ربيع بن سليمان المصري المؤذن صاحب الشافعي وثقه ابن يونس والخطيب، عن أسد بن موسى بن إبراهيم المصري وثقه النسائي وابن يونس، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد اللهَ بن ذكوان، احتج به الأربعة، عن عبد الرحمن بن الحارث ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد بن السري، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، قال: أنا نافع بن جبير بن مطعم، قال: أخبرني ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمَّني جبريل - عليه السلام -[عند البيت] (¬3) مرتين وصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 307 رقم 694). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 278 رقم 149). (¬3) ليست في "ح"، والمثبت من "جامع الترمذي".

مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليَّ جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: قال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن. ورواه ابن حبان في "صحيحه" (¬1) والحكم في "مستدركه" (¬2) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه أبو بكر بن أبي خزيمة في "صحيحه" (¬3). وقال ابن عبد البر في "التمهيد": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم. وقد أخرجه عبد الرزاق (¬4): عن الثوري وابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده. وقد أخرجه أيضًا (¬5): عن العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (14/ 112 رقم 6223). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 306 رقم 693). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 168 رقم 325). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 531 رقم 2028). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 531 رقم 2029).

قوله: "أمّني جبريل - عليه السلام -" من أممت القوم في الصلاة إمامةً، وائتم به أي اقتدى به. وجبريل - عليه السلام - مَلَكٌ ينزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وأكثر نزوله كان على نبينا محمد - عليه السلام -، وذكر ابن عديس أن أجود اللغات: جَبْرَئيل مثال جَبْرعِيل، ويقال: جِبْريل، بكسر الجيم والراء من غير همز. قيل: وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر وأبو عمرو، وجَبْرِيل -بفتح الجيم وكسر الراء- وذكر الزجاج أن بها قرأ أهل الكوفة، وهي لغة تميم وقيس. قال الزجاج: وهو أجود اللغات. ويقال أيضًا: جَبْرَئل -بحذف الياء وإثبات الهمزة وتشديد اللام- بها قرأ يحيى بن يَعْمر، ويقال: جبرين بالنون. وقال الجوهري: ويقال جَبْرئِل مثال جَبْرعِل. وقال ابن جنِّي: وزنه فَعْلِيل والهمزة فيه زائدة. وفي "الروض": وهو اسم سرياني ومعناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز. كذا جاء عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا، والوقف أصح، وفي "تفسير عبد بن حميد" الكشِّي الكبير، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: اسم جبريل بالعربية عبد اللهَ، ويقال: عبيد اللهَ، وقال السهيلي، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله -عز وجل- وهو: إِيل، وقال بعضهم: هذا من الأسماء التي إضافتها مقلوبة كما في الإضافة في كلام العجم يقدمون المضاف إليه على المضاف، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء اللهَ تعالى، وقال: اتفق في اسم جبريل أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميًا فإن الجبر هو إصلاح ما وَهِيَ، وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجَبْرُ ما وَهِيَ من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفًا بمكة شرفها اللهَ تعالى ولا بأرض العرب، ولهذا فإن النبي - عليه السلام - لما ذكره لخديجة - رضي الله عنها - انطلقت لتسأل مَن عنده

علم من الكتاب كعدَّاس ونسطور الراهب، فقالا: ندري ندري، ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد؟ وذكر أبو موسى المديني في "المغيث" أن في الحديث: يوسف بن إسرائيل اللهَ يعقوب بن إسحاق ذبيح اللهَ بن إبراهيم خليل اللهَ، فأضاف إسرائيل جملةً إلى الله عز وجل، وهذا ينقض الأقوال المتقدمة كلها. وجاء أيضًا جَئِرين بجيم مفتوحة بعدها همزة مكسورة ثم ياء ونون، وجَبرائل بفتح الجيم وهمزة مكسورة وتشديد اللام، وجبرائيل بألف وهمزة بعدها ياء وجبراييل بياءين بعد الألف، وجبريل بهمزة بعد الراء وياء وجبريل بكسر الهمزة وتخفيف اللام مع فتح الجيم والراء، وجبرين بفتح الجيم وكسرها وبدل اللام نون. قوله: "عند باب البيت" أي بحضرة الكعبة، وأطلق البيت على الكعبة لغلبة الاستعمال كما أطلق النجم على الثريا. والصَّعِق على خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب. قوله: "حين مالت الشمس" وميلانها زوالها وانحطاطها عن كبد السماء يسيرًا، وفي رواية غيره: "حين زالت الشمس". قوله: "حين غاب الشفق" وهو البياض المعترض في الأفق عند أبي حنيفة؛ لأنه من أثر النهار، وبه قال زفر وداود والمزني، وهو قول المبرد والفراء، ونقل عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ وأبي وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي. وقال أبو يوسف ومحمد: هو الحمرة، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وشداد ابن أوس وعبادة بن الصامت، وحكي عن مكحول وطاوس. وحكي عن أحمد: أنه البياض في البنيان والحمرة في الصحاري.

وقال بعضهم: اسم الحمرة والبياض جميعًا، إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقانٍ وأبيض ليس بناصع. قوله: "حين حرم الطعام والشراب على الصائم" وهو أول طلوع الفجر الثاني الصادق. قوله: "وصلى في المغرب حين أفطر الصائم" يعني حين غابت الشمس. قوله: "عندما أسفرَ" أي نوَّر. قوله: "الوقتُ" مبتدأ وخبره قوله: "فيما بين هذين الوقتين"، والإشارة إلى وقتي اليوم الأول واليوم الثاني اللذين أمَّ فيهما جبريل النبي - عليه السلام -. ويستنبط منه أحكام: الأول: يستفاد منه أن أول وقت الظهر حين تزول الشمس عن كبد السماء يسيرًا، وهذا لا خلاف فيه لأحد من الأئمة وإنما الخلاف في آخر وقته، فعند أبي حنيفة آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهو أول وقت العصر. وقال صاحب "البدائع": أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، روى محمد عنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والمذكور في الأصل: ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين، ولم يتعرض لآخر وقت العصر. وروى الحسن عنه أن آخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والشافعي والحسن. وروى أسد بن عمرو البجلي: إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال خرج وقت الظهر؛ ولا يدخل وقت العصر ما لم يصر ظل كل شيء مثليه. فعلى هذه الرواية يكون بين وقت الظهر والعصر وقت مهمل كما بين الفجر والظهر.

وقال أبو عمر (¬1): واختلفوا في آخر وقت الظهر؛ فقال مالك وأصحابه: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وبذلك قال ابن المبارك وجماعة. وقال الثوري (¬2) والحسن بن حَيّ وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ومحمد بن جرير الطبري: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر، ولم يذكروا فاصلة؛ إلا أن قولهم: ثم يدخل وقت العصر. يدل على فاصلة. وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه. انتهى. واستدل هؤلاء بقوله: "فصلى في العصر حين صار ظل كل شي مثله" فدل هذا أن أول وقت العصر هذا، فكان هو آخر وقت الظهر ضرورةً، وقالوا: إن قوله: "وصلى في العصر حين صار ظل كل شيء مثليه" لبيان آخر الوقت، ولم يؤخر الظهر في اليوم الثاني إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، فدل أن آخر وقت الظهر ما ذكرنا. واستدل أبو حنيفة بما أخرجه البخاري (¬3) من حديث ابن عمر قال: قال النبي - عليه السلام -: "مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملًا وأقل عطاء؟! قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه مَنْ أشاء". ¬

_ (¬1) "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 73). (¬2) "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 75). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 791 رقم 2148).

فدل الحديث على أن مدة العصر أقصر من مدة الظهر، وأن ما يكون أقصر أن لو كان الأمر على ما قال أبو حنيفة -رحمه الله-. وقال شمس الأئمة في معنى الحديث: وإنما يكون ذلك أقصر إذا امتدّ وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين، وقال - عليه السلام -: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدّة الحر من فيح جهنم" وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل شيء مثله، ولأنَّا عرفنا دخول وقت الظهر بتيقن، ووقع الشك في خروجه إذا صار الظل مثله أو مثليه؟ واليقين لا يزول بالشك، والأوقات ما استقرت على حديث إمامة جبريل - عليه السلام -، ففيه أنه صلى الفجر من اليوم الثاني حين أسفر، والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وفيه أيضًا أنه صلى العشاء في اليوم الثاني حين مضى ثلث الليل والوقت يبقى بعده (¬1)، وأما تأويل إمامة جبريل - عليه السلام -: "صلى الظهر من الغد حتى صار كل شيء مثله" أي قرب منه، وصلى في العصر -في اليوم الأول- حين صار ظل كل شيء مثله أي زاد عليه وهو نظير قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} (¬2). أي قارب بلوغ أجلهن وقال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (¬3). أي تم انقضاء عدتهن. وقال صاحب "البدائع" (¬4): وخبر إمامة جبريل - عليه السلام - منسوخ في الفراغ، فإن المروي أنه - عليه السلام - صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، والإجماع منعقد على تغاير وقتي الظهر والعصر، فكان الحديث منسوخًا في الفراغ. انتهى. ونقل صاحب "المبسوط" (1) عن مالك أنه قال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى بقدر ما يصل فيه أربع ركعات دخل وقت العصر، فكان الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر إلى أن يصير الظل قامتين؛ لظاهر حديث إمامة ¬

_ (¬1) انظر "المبسوط" للسرخسي (1/ 143). (¬2) سورة الطلاق، آية: [2]. (¬3) سورة البقرة، آية: [232]. (¬4) "بدائع الصنائع" (1/ 123).

جبريل - عليه السلام - فإنه [ذكر أنه] (¬1) صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى العصر في اليوم الأول، ويرد هذا قوله - عليه السلام -: "لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى" وتأويل حديث إمامة جبريل - عليه السلام - ما ذكرناه آنفًا. الثاني: يستفاد منه [أن] (¬2) آخر العصر إلى، غروب الشمس. وعن الشافعي: إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقت العصر، ولا يدخل وقت المغرب حتى تغرب الشمس، فيكون بينهما وقت مهمل. وعنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقته المستحب، ويبقى أصل الوقت إلى غروب الشمس. وقال أبو عمر (¬3): اختلفوا في أول وقت العصر وآخره؛ فقال مالك: أول وقت العصر إذا كان الظل قامة بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، ويستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا ذلك قليلًا. قال: وآخر وقتها أن يكون ظل كل شيء مثليه، هكذا حكايته ابن عبد الحكم وابن القاسم عنه، وهذا عندنا على وقت الاختيار، وذكر ابن وهب عن مالك: أن آخر وقت العصر: غروب الشمس. وقد قال ابن وهب أيضًا عن مالك: وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضًا على أصحاب الضرورات. وقال الشافعي: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله، ومن أَخَّر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته [وقت] (¬4) ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "المبسوط". (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 791 رقم 2148). (¬4) ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "التمهيد" (3/ 278).

الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته وقت العصر مطلقًا، كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله. قال: وإنما قلت ذلك؛ لحديث أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها". قال أبو عمر: قول الشافعي ها هنا في وقت الظهر يمنع الاشتراك بينها وبين العصر في ظاهر كلامه، وهو شيء ينقضه ما بنى عليه مذهبه في الحائض تطهر، والمغمى عليه يُفيق، والكافر يسلم، والصبي يحتلم؛ لأنه يوجب على كل واحد منهم إذا أدرك ركعة واحدة قبل الغروب؛ الظهر والعصر جميعًا، وفي بعض أقاويله: إذا أدرك هؤلاء مقدار تكبيرة واحدة قبل الغروب لزمهم الظهر والعصر جميعًا، وكيف يَسوغ لمن هذا مذهبه أن يقول: الظهر يفوت فواتًا صحيحًا بمجاوزة ظل كل شيء مثله أكثر من ذوات العصر بمجاوزة ظل كل شيء مثليه؟! وأما قوله في وقت العصر: إذا جاوز ظل كل شيء مثليه فقد جاوز وقت الاختيار؛ (فهذا أيضًا شيء لا هو ولا غيره من العلماء) (¬1) يقولون: من صلى العصر والشمس بيضاء نَقِيَّة؛ فقد صلاها في وقتها المختار، لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وقول أبي ثور في أول وقت العصر كقول الشافعي، وهو قول داود. وقال أبو عمر: وأما قول الشافعي وأبي ثور في أن وقت العصر لا يدخل إلا أن يزيد الظل على القامة زيادة تظهر فمخالف لحديث إمامة جبريل - عليه السلام -؛ لأن حديث إمامة جبريل - عليه السلام - يقتضي أن يكون آخر وقت الظهر وهو أول وقت العصر بلا فصل، ولكنه مأخوذ من حديث أبي قتادة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إنما التفريط على مَنْ لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" وقال أحمد بن حنبل في هذه المسألة مثل قول الشافعي أيضًا فيما حكاه الخرقي عنه، وأما الأثرم فقال: سمعت ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك، ح"، والذي في "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 278): "فهذا أيضًا فيه شيء؛ لأن هو وغيره من العلماء".

أبا عبد الله يقول: آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر. قال لي ذلك غير مرة، وسمعته يقول: آخر وقت العصر تغير الشمس. قيل له: ولا تقول بالمثل والمثلين؟ قال: لا؛ هذا أكثر عندي. وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب -وهو قول داود- لكل الناس، معذور وغير معذور، والأفضل عندهما أول الوقت. الثالث: يستفاد منه أن أول وقت المغرب غروب الشمس، وهذا لا خلاف فيه، وأما آخره فقد اختلفوا فيه؛ فقال أصحابنا: حتى يغيب الشفق، وقال الشافعي: وقتها ما يتطهر الإنسان ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات، حتى لو صلاها بعد ذلك تكون قضاء لا أداءً؛ لحديث إمامة جبريل - عليه السلام - أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد. وقال أبو عمر: الظاهر في قول مالك أن وقت المغرب وقت واحد عند مغيب الشمس، وبهذا تواترت الروايات عنه، إلا أنه قال في "الموطأ": إذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن حَيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وداود، واحتجوا بحديث أبي موسى وغيره: "أن النبي - عليه السلام - صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخّر حتى إذا كان عند سقوط الشفق" قالوا: وهذه الآثار أولى من أخبار إمامة جبريل - عليه السلام -؛ لأنها متأخرة بالمدينة، وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره - عليه السلام -؛ لأنه ناسخ لما قبله. قلت: أجاب صاحب "البدائع" عن حديث إمامة جبريل - عليه السلام - أنه إنما لم يؤخر المغرب عن أول الغروب في اليومين لأن التأخير عن أول الغروب مكروه إلا لعذر، وإنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات، ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب مع بقاء

الوقت إليه؟! وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما بعد ثلث الليل وإن كان ما بعده وقت العشاء بالإجماع. انتهى. وقال أبو عمر: قال الشافعي: في وقت المغرب قولين: أحدهما: إلى آخر الشفق. والآخر: -وهو المشهور عنه-: أن وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تجب الشمس. وقال الثوري: وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر [فأخّرتها] (¬1) إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس، وكانوا يكرهون تأخيرها. الرابع: يُستفادُ منه أن أول وقت العشاء من حين مغيب الشفق، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا، وآخره إلى أن يطلع الفجر الصادق. وقال أبو عمر: أجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيّب الشفق، واختلفوا في آخر وقتها، فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات: ثلث الليل الأول، ويستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلًا أفضل، وروى ابن وهب عن مالك: أن وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر. وهو قول داود. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى نصف الليل، ولا تفوت إلا بطلوع الفجر. وقال الشافعي: آخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى الليل فقد فاتت. ¬

_ (¬1) في "الأصل": فأخرها، والمثبت من "التمهيد" (8/ 84).

وقال أبو ثور: وقتها من مغيب الشفق إلى نصف الليل. وفي "الحاوي في فروع الحنابلة": وقت العشاء -وهي أربع ركعات- إلى الفجر الثاني، والمستحب تأخيرها إلى الثلث الأول، وعنه -أي عن أحمد-: إلى نصفه -إن سهل على المأمومين- ويحرم بعده بلا عذر في أحد الوجهين، ويكره في الآخر. الخامس: يستفاد منه أن أول وقت الفجر عند طلوع الفجر الصادق؛ لأنه في هذا الوقت يحرم الطعام والشراب على الصائم، وآخره عند طلوع الشمس. وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تيقن طلوعه وهو البياض المنتشر في أفق المشرق الذي لا ظلمة بعده. واختلفوا في آخر وقتها، فذكر ابن وهب عن مالك قال: وقت الصبح من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وكذلك قال الشافعي: آخر وقتها طلوع الشمس لضرورة وغير ضرورة، وهو قول داود وإسحاق. وأما سائر العلماء فجعلوا هذا وقتًا لأصحاب العذر والضرورات، وممن ذهب إلى هذا مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد. وقال ابن القاسم عن مالك: وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة، وآخر وقتها إذا أسفر. السادس: فيه دليل على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يصلون في هذه الأوقات، ولكن لا يلزم أن يكون قد صلى كل منهم في جميع هذه الأوقات والمعنى: أن صلاتهم كانت في هذه الأوقات. السابع: فيه دليل على أن أوقات الصلوات الخمس فيما بين الوقتين اللذين صلى جبريل - عليه السلام - إمامًا بالنبي - عليه السلام - في أولها وآخرها. فإن قيل: فعل هذا ينبغي أن لا يكون الأول والآخر منها وقتًا لها.

قلت: لما صلى في أول الوقت وآخره وُجِدَ بيان منه فعلًا وبقي الاحتياج إلى بيان ما بين الأول والآخر ة فبيَّن بالقول. وجواب آخر: أن هذا بيان للوقت المستحب؛ إذ الأداء في أول الوقت مما يتعسر على الناس ويؤدي أيضًا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما مع قوله - عليه السلام - "خير الأمور أوساطها". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد اللهَ بن يوسف، قال: ثنا عبد اللهَ بن لهيعة، قال: ثنا بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الساعدي، سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمني جبريل - عليه السلام - في الصلاة، فصلى الظهر بي حين زاغت الشمس، وصلى العصر حين فاءت قامة، وصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء حين غاب الشفق، وصلى الصبح حين طلع الفجر. ثم أمَّني في اليوم الثاني، فصلى الظهر وفيء كل شيء مثله، وصلى العصر والفيء قامتان، وصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء إلى ثلث الليل الأول، وصلى الصبح حين كادت الشمس أن تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين". ش: رجاله ثقات، إلا أن ابن لهيعة فيه مقال. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا عبد اللهَ بن الحكم، أنا ابن لهيعة، عن بُكير بن عبد اللهَ بن الأشج ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "زاغت" أي مالت، وأصل الزيني العدول، يقال: زَاغَ عن الطريق يَزِيغُ: إذا عدل عنه، ومعنى قوله تعالى: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (¬2) أي لا تمله عن الإيمان. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 37 رقم 5443). (¬2) سورة آل عمران، آية: [8].

قوله: "فاءت قامة" أراد به حين صار ظل كل شيء مثله. قوله: "وفيء كل شيء" جملة حالية، والفيء: الظل الذي يكون بعد الزوال، وأصل الفيء الرجوع، يقال: فاء يفيء فيئةً إذا رجع، ومنه سُمي الظل؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. قوله: "والفيء قامتان" أراد به ظل كل شيء مثليه. قوله: "وصلى العشاء إلى ثلث الليل، يجوز أن يكون "إلى" ها هنا بمعنى "في"، أي: صلى في ثلث الليل، ومنه قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬1) أي في يوم القيامة، ويجوز أن يكون على بابها، ومحلها النصب على الحال، أي: وصلى العشاء حال كونه مؤخرًا إلى ثلث الليل، وهذا وقت استحباب، أما وقت الجواز ما لم يطلع الفجر، وهو قول عطاء وطاوس أيضًا، وهو مروي عن ابن عباس. وقال الشافعي ومالك وأحمد: هو وقت الضرورة، والوقت المختار إلى ثلث الليل. ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى السيناني، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا جبريل يعلمكم أمر دينكم ... " ثم ذكر مثله، غير أن قال في العشاء الآخرة: "وصلاها في اليوم الثاني حين ذهبت ساعة من الليل". ش: إسناده صحيح. والسيناني نسبة إلى سينان -بكسر السين المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون بعدها ألف ثم نون أخرى- قرية من قرى مرو. وأبو سلمة عبد اللهَ بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على اختلاف كثير في اسمه. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [87]، وسورة الأنعام، آية: [12].

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو حامد محمد بن هارون، ثنا أبو عثمان الحسين بن حريث المروزي، ثنا الفضل بن موسى السيناني، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا جبريل يعلمكم دينكم فصلى ... " ثم ذكر حديث المواقيت، وقال فيه: "ثم صلى المغرب حين غربت الشمس"، وقال في اليوم الثاني: "ثم جاءه من الغد فصلى، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس في وقت واحد". وفي طريق آخر له (¬2): "ثم جاءه الغد فصلى له المغرب لوقت واحد حين غربت الشمس وحلّ فطر الصائم". وفي طريق أخر له (¬3): "أن رسول الله - عليه السلام - حدثهم أن جبريل - عليه السلام - أتاه فصلى الصلوات وقتين وقتين إلا المغرب، قال: فجاءني في المغرب فصل بي ساعة غابت الشمس، ثم جاءني -يعني- من الغد في المغرب فصلى بي ساعة غابت الشمس ولم يغيِّره". قوله: "حين ذهبت ساعة من الليل" معناه: بعد ساعة مضت من غروب الشمس، ولا يجوز أن يكون معناه بعد ساعة من غروب الشمس؛ لأن بعد الغروب إلى وقت العشاء أكثر من ساعة، فافهم. ثم اختلفت الألفاظ في هذا الموضع، ففي رواية ابن عباس وجابر: "ثلث الليل"، وفي حديث أبي هريرة هذا: "ساعة من الليل"، وفي حديث عبد اللهَ بن عمرو: "نصف الليل"، وفي حديث عائشة: "حتى ذهب عامة الليل" أرادات أكثر الليل، والكل بيان وقت الاستحباب، أما وقت الجواز إلى طلوع الفجر. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا عبد اللهَ بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 261 رقم 18). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 261 رقم 19). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 261 رقم 20).

الحارث، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "سأل رجل نبي الله هو عن وقت الصلاة، فقال: صلِّ معي، فصلى رسول الله - عليه السلام - الصبح حين طلع الفجر، ثم صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى الصبح فأسفر، ثم صلى الظهر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه، ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى العشاء، فقال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل". ش: حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان وغيره، وعبد اللهَ بن الحارث بن عبد الملك القرشي روى له مسلم، وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي أبو خالد الشامي الحمصي روى له الجماعة سوى مسلم، وسليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأسدي روى له الأربعة، قال البخاري: عنده المناكير. وقال النسائي: أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وهذا الحديث أخرجه خلق كثير بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة. ولكن أحمد بن حنبل أخرجه في "مسنده" (¬1) نحو رواية الطحاوي: ثنا عبد الله ابن الحارث، حدثني ثور ابن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد اللهَ قال: "سأل رجل رسول الله - عليه السلام - عن وقت الصلاة ... " إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "ثم صلى العشاء حين غيبوبة الشفق، ثم صلى الصبح فأسفر". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أحمد بن محمد بن موسى، قال: أنا عبد اللهَ بن المبارك، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 351 رقم 14832). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 281 رقم 150).

قال: أنا حسين بن علي بن حسين، قال: أخبرني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "أمَّني جبريل - عليه السلام - ... " فذكر نحو حديث ابن عباس بمعناه، ولم يذكر فيه: "لوقت العصر بالأمس". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وحديث ابن عباس حسن. وقال محمد -يعني البخاري-: أصح شي في المواقيت حديث جابر عن النبي - عليه السلام -. وقال ابن القطان في كتابه: هذا الحديث يجب أن يكون مرسلًا؛ لأن جابرًا لم يذكر من حدَّثه بذلك وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء؛ لِمَا عُلِمَ أنه أنصاريّ، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل - عليه السلام - من قول النبي - عليه السلام -. وقال في "الإِمام": هذا إرسالٌ غير ضارّ فيبعد أن يكون جابر - رضي الله عنه - قد سمعه من تابعي غير صحابي. وأخرجه النسائي أيضًا (¬1): ثنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد اللهَ، عن حسين بن علي بن حسين، قال: أخبرني وهب بن كيسان، قال: ثنا جابر بن عبد اللهَ قال: "جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين زالت الشمس فقال: قم يا محمد فصلّ الظهر -حين مالت الشمس- ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه العصر فقال: قم يا محمد فصلِّ العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم يا محمد فصلِّ المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء، ثم مكث حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال: قم فصلِّ العشاء، فقام فصلاها، ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح فقال: قم يا محمد فصلِّ، فقام فصلى الصبح، ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثله فقال: قم يا محمد فصلِّ، فقام فصلى الظهر، ثم جاءه جبريل - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 263 رقم 526).

حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يا محمد فصلِّ العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتًا واحدًا لم يزل عنه، فقال: قم فصلِّ، فصلى المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول فقال: قم فصلِّ، فصلى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا فقال: قم فصلِّ، فصلى الصبح، فقال: ما بين هذين وقتٌ كله". وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا يوسف بن ناصح، نا قدامة بن شهاب، نا برد، عن عطاء، عن جابر. ونا إسحاق بن إبراهيم الصوَّاف، نا عمرو بن بشر، نا بردٌ، عن عطاء، عن جابر. ونا محمد بن إسماعيل البخاري، نا أيوب بن سليمان، قال: نا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن جابر -واللفظ لفظ برد- عن عطاء، عن جابر: "أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - عليه السلام - حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أتاه حين صار الظل قامة شخص الرجل، فتقدم جبريل - عليه السلام - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله - عليه السلام - خلفه والناس خلف رسول اللهَ - عليه السلام -، وصلى العشاء الآخرة، وأتاه حين سطع الفجر فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى الغداة. وأتاه من اليوم الثاني حين صار الظل مثل قامة شخص الرجل، فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى الظهر، ثم أتاه حين صار الظل مثلي شخص الرجل فتقدم جبريل - عليه السلام - ورسول الله - عليه السلام - خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - وصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس -لوقت واحد- فتقدم جبريل - عليه السلام - ورسول الله - عليه السلام - خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى المغرب، ثم نمنا وقمنا إلى نحو ثلث الليل فتقدم جبريل - عليه السلام - ورسول الله

- عليه السلام - خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى العشاء الآخرة، ثم أتاه حين أضاء الفجر -أو الصبح- فتقدم جبريل - عليه السلام - ورسول الله - عليه السلام - خلفه والناس خلف رسول الله - عليه السلام - فصلى الصبح ثم قال: ما بين الصلاتين وقت. فسأل رجل رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة كما سألتني، فصلى بهم كما صلى بهم جبريل - عليه السلام - ثم قال: أين السائل عن الصلاة؟ ما بين الصلاتين وقت". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن جابر بهذا اللفظ إلا من هذه الوجوه التي ذكرناها، وقد روي عن جابر في ذكر المواقيت وبعض المواقيت بغير هذا اللفظ. ورواه الحكم أيضًا في "مستدركه" (¬1) وابن حبان في "صحيحه" (¬2). قوله: "حين زاغت الشمس" أي: حين مالت عن كبد السماء شيئًا يسيرًا. قوله: "حين كان فيء الإنسان" أي ظله. قوله: "حين وجبت الشمس" أي حين سقطت للغروب، من الوجوب وهو السقوط والوقوع. قوله: "قبل غيبوبة الشفق" أي قبل غيابه، وهي كالديمومة، وسيجيء الكلام في قوله: "قبل غيبوبة الشفق" فإنه معارض لرواية غيره؛ لأن غيره روى: "بعد غيبوبة الشفق". قوله: "شطر الليل" أي نصفه، واستدل الشافعي بأحاديث جابر على أن وقت المغرب وقت واحد، وهو عقيب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم، فإن أخَّر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاءً. والمحققون من أصحابه رجَّحوا قول الحنفية. وقال النووي: وهو الصحيح. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 310 رقم 704). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 335 رقم 1472).

الأول: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر. والثاني: أن هذا متقدم في أول الأمر بمكة والأحاديث التي رويت بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها. والثالث: أن الأحاديث التي وردت بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشمس أصح إسنادًا من هذه الأحاديث فوجب تقديمها، وتلك الأحاديث هي قوله - عليه السلام -: "فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق"، وفي رواية: "وقت المغرب ما يسقط نور الشفق"، وفي رواية: "ما لم يغب الشفق"، وفي رواية: "ما لم يسقط الشفق". وكل هذه في "صحيح مسلم" (¬1). ومما يستفاد منه: أن آخر الأمرين من صلاته - عليه السلام - في الصبح هو الإسفار، فيكون مستحبًّا كما ذهبت إليه أئمتنا. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح، قال: أخبرني رجل منهم: "أن رجلًا أتى النبي - عليه السلام - فسأله عن مواقيت الصلاة فأمره أن يشهد الصلاة معه، فصلى الصبح فعجَّل، ثم صلى الظهر فعجَّل، ثم صلى المغرب فعجَّل، ثم صلى العشاء فعجَّل، ثم صلى الصلوات كلها من الغد فأخَّر، ثم قال للرجل: ما بين صلاتين في هذين اليومين وقتٌ كله". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. والظاهر من قوله: "أخبرني رجل منهم" -أي من الصحابة- جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 426 رقم 612).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "مواقيت الصلاة؟ قال: جاء رجل إلى النبي - عليه السلام - فقال: مواقيت الصلاة يا رسول الله؟ قال: احضر في الصلاة اليوم وغدًا، فصلى الظهر حين زاغت الشمس، قال: ثم صلى العصر فعجّلها، ثم صلى المغرب حين دخل الليل حين أفطر الصائم، وأما العتمة فلا أدري متى صلاها. قال غير عطاء: حين غاب الشفق. قال عطاء: ثم صلى الصبح حين طلع الفجر، قال: ثم صلى الظهر من الغد فلم يصلها حتى أبرد. قلت: الإبراد الأول؟ قال: بعد، وبعد ممسيًا، قال: ثم صلى العصر بعد ذلك يؤخرها. قلت: فأي تأخير؟ قال: ممسيًا قبل أن تدخل الشمس صفرة. قال: ثم صلى المغرب حين غاب الشفق. قال: ولا أدري أي وقت صلى العتمة. قال غيره: صلى لثلث الليل. قال عطاء: ثم صلى الصبح حين أسفر، فأسفر بها جدًّا. قلت: أيّ حين؟ قال: قبل حين تفريطها قبل أن يحين طلوع الشمس، ثم قال النبي - عليه السلام -: أين الذي سألني عن وقت الصلاة -يعني- فأتي به فقال - عليه السلام -: أحضرت معي الصلاة اليوم وأمس؟ قال: نعم. قال: فصلها ما بين ذلك. قال: ثم أقبل عليَّ فقال: إني لأظنه كان يصليها فيما بين ذلك -يعني النبي - عليه السلام -". قوله: "أن يشهد الصلاة" أي أن يحضرها؛ لأن معنى الشهود الحضور. قوله: "فصلى الصبح فعجَّل ... " إلى آخره، أراد أنه - عليه السلام - صلى في اليوم الأول الصلوات كلها في أول أوقاتها من غير تأخير، وصلى في اليوم الثاني في آخر وقتها من غير تفريط، وبيَّن فعله - عليه السلام - أول الأوقات وآخرها وبقوله: "ما بين ذلك" حيث قال: "ما بين صلاتيَّ في هذين اليومين وقت كله"، فقوله: "ما بين" مبتدأ وخبره قوله: "وقتٌ كله". ص: حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: ثنا بدر بن عثمان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "أتاه سائل فسأله عن مواقيت ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 533 رقم 231).

الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا، فأمر بلالًا فأقام الفجر حين انبثق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول: انتصف النهار أو لم، وكان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، ثم أخّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر، ثم أخّر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: احمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: الوقت فيما بين هذين". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري وغيره، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري اسمه عمرو ويقال: عامر، واسم أبي موسى عبد اللهَ بن قيس الأشعري. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن عبد اللهَ بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا بدر ابن عثمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا، قال: فأقام الفجر ... " إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه النسائي أيضًا (¬2): ثنا عبدة بن عبد الله وأحمد بن سليمان، قالا: ثنا أبو داود، عن بدر بن عثمان، قال: أملى عليّ أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: "أتى النبي - عليه السلام - سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا، فأمر بلالًا فأقام بالفجر حين انشق، ثم أمره بالظهر ... " إلى آخره نحوه. قوله: "فأقام بالفجر" أي بصلاة الفجر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 429 رقم 1614). (¬2) "المجتبى" (1/ 260 رقم 523).

"حين انشق الفجر" أي حين طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق. قوله: "والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا" جملة اسمية وقعت حالًا. قوله: "فأقام الظهر" أي صلاة الظهر. قوله: "والقائل يقول" أيضًا جملة حالية. قوله: "أو لم" أي: أو لم ينتصف، وقد ذكر النحاة أن لم لا يحذف الفعل منها إلا للضرورة كما قال ابن عمر -وهو ابن هرمة-: احفظ وديعتك التي استودعتها ... يوم الأعارب إن وصلت وإن لم أي: وإن لم توصل، ولكن الحديث يرده؛ لأنه جاء الحذف فيه من غير ضرورة. قوله: "والشمس مرتفعة" جملة حالية أيضًا. قوله: "حين وقعت الشمس" أي: حين سقطت للغروب. قوله: "أو كادت" أي: وكادت تطلع الشمس. قوله: "والقائل يقول" جملة حالية أيضًا. قوله: "حتى كان عند سقوط الشفق" أراد به قريبًا من غروب الشفق؛ لأن عند سقوط الشفق حقيقة يخرج وقت المغرب. قوله: "حتى كان ثلث الليل الأول" برفع الأول؛ لأنه صفة للثلث لا لليل، فافهم. قوله: "فيما بين هذين" أي هذين الوقتين اللذين صلى فيهما في اليومين. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال: صلِّ معنا. قال: فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس بيضاء نقية مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء

حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان في اليوم الثاني أمره فأذن للظهر فابرد بها فأنعم أن نبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: وقت صلاتكم فيما بين ما رأيتم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وإسماعيل بن سالم الصائغ شيخ مسلم وغيره، وبريدة بن الحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين بن عبد اللهَ الأسلمي الصحابي. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب وعبد الله بن سعيد، كلاهما عن الأزرق -قال زهير: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق- قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: صلِّ معنا هذين -يعني اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالًا ... " إلى آخره نحوه رواية الطحاوي سواء. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أحمد بن منيع والحسن بن الصباح البزار وأحمد بن محمد ابن موسى -المعنى واحد- قالوا: أنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "أتى النبي - عليه السلام - رجل فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: أقم معنا إن شاء الله، فأمر بلالًا فأقام حين طلع الفجر، ثم أمره فأقام حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة، ثم أمره بالمغرب حين وقع حاجب الشمس، ثم أمره بالعشاء فأقام حين غاب الشفق، ثم أمره من الغد فنوَّر بالفجر، ثم أمره بالظهر فأبرد وأنهم أن يبرد، ثم أمره بالعصر فأقام والشمس آخر وقتها فوق ما كانت، ثم أمره فأخّر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق، ثم أمره بالعشاء فأقام حين ذهب ثلث ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 428 رقم 613). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 286 رقم 152).

الليل، ثم قال: أين السائل عن مواقيت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا، فقال: مواقيت الصلاة كما بين هذين". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال: وقد رواه شعبة، عن علقمة ابن مرثد أيضًا. وأخرجه النسائي: أنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: "جاء رجل إلى النبي - عليه السلام - فسأله عن وقت الصلاة فقال: قم معنا هذين اليومين فأمر بلالًا فأقام عند الفجر فصلى الفجر، ثم أمره حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أمره حين رأى الشمس بيضاء فأقام العصر، ثم أمره حين وقع حاجب الشمس فأقام المغرب، ثم أمره حين غاب الشمس فأقام العشاء، ثم أمره من الغد فنوّر بالفجر، ثم أبرد بالظهر وأنعم أن يبرد، ثم صلى العصر والشمس بيضاء وأخَّر عن ذلك، ثم صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، ثم أمره فأقام العشاء حين ذهب ثلث الليل فصلاها ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم". قوله: "والشمس بيضاء" جملة حالية، وأراد ببياضها ونقاوتها: قوة نورها، وذلك إنما يكون قبل الاصفرار. قوله: "فأنعم أن يبرد بها" أراد به أنه أطال الإبراد بها وأخّر الصلاة، من قولهم: أنعم النظر في الشيء إذا أطال التفكر فيه. قوله: "والشمس مرتفعة" جملة حالية أيضًا، أراد به قبل الاصفرار أيضًا، ولكن أخّرها فوق الذي كان في اليوم الأول. قوله: "وقت صلاتكم" كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: "فيما بين ما رأيتم"، وإنما قال هذا القول لأنه - عليه السلام - بيَّن بفعله أول الأوقات وآخرها، وبيَّن بقوله: "ما بينهما" ليكون بيانًا للجميع بالفعل والقول.

ويستفاد منه أحكام: الأول: علم منه جميع الأوقات أولها وآخرها. الثاني: ذكر بعضهم أن فيه دليلًا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة؛ لأنه - عليه السلام - أحال ذلك على أن يصلي معه، وقال الباجي: ليس هذا من تأخير البيان الذي يتكلم شيوخنا في جواز تأخيره عن وقت الخطاب بالعبادة إلى وقت الحاجة وهو مذهب الباقلاني والجمهور، ومنعه الأبهري وغيره؛ لأن الخطاب هنا بالصلاة وبيان أحكامها قد تقدم قبل هذا السائل، فلم يسأل إلا عما ثبت بيانه وعرف حكمه، ولا خلاف أن للنبي - عليه السلام - أن يؤخر جواب السائل له عن وقت سؤاله وأن لا يجبه أصلًا، وقد فعل ذلك في مسائل كثيرة، ولا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولم يتكلم الشيوخ في وجه تأخيره - عليه السلام - مع جواز موته قبل التعليم، فقيل: يحتمل أنه أوحي إليه بأن ذلك لا يكون قبل الإعلام؛ لأن العادة غالبًا في مثل هذا، وظاهر الأمر حياته هذين اليومن، واستصحاب حال السلامة وفيه حجة على الشافعي في جعله وقت المغرب وقتًا واحدًا ضيقًا مقدار ما يسع فيه أداء ثلاث ركعات؛ لأنه - عليه السلام - صلى المغرب في اليوم الأول حين غابت الشمس، ثم صلاها في اليوم الثاني قبل أن تغيب فالوقت من غروب الشمس إلى غروب الشفق وقت مديد يسع فيه صلوات كثيرة. ثم اعلم أن الطحاوي أخرج أحاديث هذا الباب عن ستة من الصحابة وهم: ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر بن عبد اللهَ وأبو موسى الأشعري وبريدة ابن الحُصَيْب - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي حديث ابن عباس قال: وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو بن حزم والبراء وأنس. قلت: وفي الباب عن عبد الله بن عمر أيضًا.

فحديث أبي مسعود - رضي الله عنه - عند الطبراني في "الكبير" (¬1) بإسناد لا بأس به: "أن جبريل - عليه السلام - جاء إلى النبي - عليه السلام - حين دلكت الشمس فقال: يا محمَّد صلِّ العصر، فقام وصلى، ثم أتاه جبريل حين غربت الشمس فقال: يا محمد صلِّ المغرب، فصل، ثم أتاه جبريل حين غاب الشفق وقال: يا محمد قم فصلِّ العشاء، فقام فصلى، ثم أتاه حين انشق الفجر فقال: يا محمد قم فصلِّ الصبح فقام فصلى ثم أتاه الغد وظل كل شيء مثله فقال: يا محمد قم فصلِّ الظهر، فقام فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال: يا محمد صلِّ العصر، فقام فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس وقتًا واحدًا فقال: يا محمد صلِّ المغرب، فقام وصلى، ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل فقال: يا محمد قم فصلِّ، ثم أتاه حين أسفر فقال: يا محمد صلِّ الصبح فقام فصلى ثم قال: ما بين هذين وقت". وأخرجه إسحاق بن راهويه أيضًا في "مسنده". وحديث عمرو بن حزم عند عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه: "أن جبريل - عليه السلام - نزل فصلى بالنبي - عليه السلام - صلاة الظهر- وصلى النبي - عليه السلام - بالناس -حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس، ثم صلى العشاء بعد ذلك كأنه يريد ذهاب الشفق، ثم صلى الفجر بغلس حين فجر الفجر. قال: ثم نزل جبريل - عليه السلام - الغد فصلى بالنبي - عليه السلام - وصلى النبي - عليه السلام - بالناس الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس لوقتٍ واحد، ثم صلى العشاء بعد ما ذهب ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 260 رقم 718). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 534).

هوي من الليل، ثم صلى الفجر بعد ما أسفر بها جدًّا، ثم قال: فيما بين هذين [الوقتين وقت] (¬1) ". وحديث البراء عند أبي يعلى الموصلي في "مسنده" (¬2) بإسناده عن البراء بن عازب قال: "جاء رجل إلى النبي - عليه السلام - يسأله عن مواقيت الصلاة فأمر بلالًا فقدَّم وأخَّر، وقال: الوقت ما بينهما". وحديث أنس - رضي الله عنه - عند الدارقطني في "سننه" (¬3): ثنا أبو طالب أحمد بن نصر ابن طالب، ثنا أبو حمزة إدريس بن يونس بن يناق الفراء، ثنا محمد بن سعيد بن جدار، ثنا جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - عليه السلام - بمكة حين زالت الشمس فأمره أن يؤذن للناس بالصلاة حين فرضت عليهم، فقام جبريل أمام النبي - عليه السلام - وقام الناس خلف رسول الله - عليه السلام - قال: فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بقراءة، يأتم الناس برسول الله - عليه السلام - ويأتم رسول الله - عليه السلام - بجبريل، ثم أمهل حتى إذا دخل وقت العصر صلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيهما بالقراءة، يأتم المسلمون برسول الله - عليه السلام - ويأتم رسول الله - عليه السلام - بجبريل - عليه السلام -، ثم أمهل حتى إذا وجبت الشمس صلى بهم ثلاث ركعات يجهر في ركعتين بالقراءة ولا يجهر في الثالثة، ثم أمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل صلى بهم أربع ركعات يجهر في الأوليين بالقراءة ولا يجهر في الآخرين بالقراءة، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة". وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عند الدارقطني أيضًا (¬4): ثنا ابن الصواف، نا الحسين بن فهو بن حماد البزاز، ثنا الحسن بن حماد سجادة، ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن عتبة بن مسلم، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لما فرضت ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق". (¬2) "مسند أبي يعلى" (3/ 241 رقم 1679). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 260 رقم 14). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 261 رقم 21).

الصلاة نزل جبريل - عليه السلام - على النبي - عليه السلام - فصلى به الظهر -وذكر المواقيت وقال-: فصلى به المغرب حين غابت الشمس، وقال في اليوم الثاني: فصلى به المغرب حين غابت الشمس". ص: فأما ما روي عن رسول الله - عليه السلام - في هذه الآثار في صلاة الفجر فلم يحتلفوا عنه فيه أنه صلاها في اليوم الأول حين طلع الفجر وهو أول وقتها، وصلاها في اليوم الثاني حين كادت الشمس أن تطلع، وهذا اتفاق المسلمين أن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وآخر وقتها حين تطلع الشمس. ش: لما فرغ عن سوق أحاديث هذا الباب شرع يتكلم فيها مما وقع عليه الاتفاق والاختلاف وفي بيان معاني الأحاديث المذكورة وكيفية استنباط الأحكام منها فقدم الكلام أولًا في الفجر؛ لأنه حكم اتفاقي ليس فيه خلاف ولهذا قال: وهذا اتفاق المسلمين: أن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر أي أول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، وقد تكلمنا في هذا الموضع بما فيه الكفاية في معنى حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في أول الباب. ص: وأما ما ذكر عنه في صلاة الظهر فإنه ذكر عنه أنه صلاها حين زالت الشمس، وعلى ذلك اتفاق المسلمين أن ذلك هو أول وقتها، وأما آخر وقتها فإن ابن عباس وأبا سعيد وجابرًا وأبا هريرة - رضي الله عنهم - رووا أنه صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، فاحتمل ذلك على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، وهذا جائز في اللغة، قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1) فلم يكن ذلك الإمساك والتسريح مقصودًا به أن يفعل بعد بلوغ الأجل؛ لأنها بعد بلوغ الأجل قد بانت وحرم عليه أن يمسكها، وقد بيَّن الله -عز وجل- في موضع آخر فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬2)، فأخبر الله -عز وجل- أن لهن بعد بلوغ أجلهن أن ينكحن، فثبت بذلك أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [231]. (¬2) سورة البقرة، آية: [232].

ما جعل للأزواج عليهن في الآية الأخرى إنما هو في قرب بلوغ الأجل لا بعد بلوغ الأجل، فكذلك ما روي عمن ذكرنا عن رسول الله - عليه السلام - أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله يحتمل أن يكون على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، فيكون الظل إذا صار مثله قد خرج وقت الظهر، والدليل على ما ذكرنا من ذلك: أن الذين ذكروا هذا عن النبي - عليه السلام - قد ذكروا عنه في هذه الآثار أيضًا أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم قال: "ما بين هذين وقت" فاستحال أن يكون بينهما وقت وقد جمعهما في وقت واحد، ولكن معنى ذلك عندنا -واللهَ أعلم- على ما ذكرنا، وقد دلّ على هذا أيضًا ما في حديث أبي موسى، وذلك أنه قال فيما أخبر عن صلاته - عليه السلام - في اليوم الثاني: "ثم أخَّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر، فأخبر أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر. فثبت بذلك إذْ أجمعوا في هذه الروايات أن بعد ما يصير ظل كل شيء مثله وقتٌ للعصر؛ أنه محال أن يكون وقتًا للظهر؛ لإخباره أن الوقت الذي لكل صلاة فيما بين صلاتيه في اليومين. وقد دلّ على ذلك أيضًا ما قد حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر". فثبت بذلك أن دخول وقت العصر بعد خروج وقت الظهر. ش: حاصل هذا الكلام: أنه بيَّن أنه اختار أن وقت الظهر يمتد إلى صيرورة ظل كل شي مثله كما قال به الجمهور خلافًا لأبي حنيفة فيما روى محمد بن الحسن عنه: أنه يمتد إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه. بيان ذلك: أن قول ابن عباس وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة أنه - عليه السلام - صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شي مثله يحتمل أمرين:

الأول: أن يكون قد صلاها بعد إنتهاء ظل كل شيء مثله؛ فيكون وقت صيرورة ظل كل شيء مثله وقتًا للظهر بعد. والثاني: يحتمل أن يكون المراد أنه صلاها على قرب صيرورة ظل كل شيء مثله، فحينئذٍ يخرج وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهذا ظاهر. ثم أيَّد صحة هذا الاحتمال بقوله: "وهذا جائز في اللغة" يعني ذكر الشيء، والمراد منه: ما يقرب منه لا حقيقة ذلك الشيء، وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1) فإن المراد منه: إذا قربن بلوغ أجلهن وشارفن منتهى عدتهن، وليس المراد حقيقة بلوغ الأجل الذي هو العدة؛ لأن بعد إنتهاء العدة تَبِينُ المرأة عنه ويحرم عليه بعد ذلك إمساكها؛ لأنها غير زوجة له حينئذٍ، وفي غير عدة منه، فلا يبقى له سبيل عليها، فَعُلِمَ أن المراد: إذا شارفن وقربن بلوغ العدة أمسكوهن بمعروف بأن يُرَاجَعْن من غير طلب ضرار بالمراجعة، أو سرحوهن حتى تنقضي عدتهن، وبيَّن من غير ضرار. ثم أكثر ما ذكره من التأويل والتوجيه بثلاثة أشياء: الأول: أن الصحابة - رضي الله عنهم - الذين ذكروا عن النبي - عليه السلام - أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال - عليه السلام -: "ما بين هذين وقت"، فمن المحال والمستبعد أن يكون ما بينهما وقت والحال أنه جمعهما في وقت واحد، فَعُلم أن المراد: أنه صلى الظهر في اليوم الثاني على شرف صيرورة ظل كل شيء مثله، وعلى قرب منها. الثاني: أن حديث أبي موسى لا يصح دليلًا على ذلك؛ لأنه أخبر عن صلاته - عليه السلام - في اليوم الثاني بقوله: "ثم أخّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر" أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر، فثبت بذلك أن ما بعد ذلك صيرورة ظل كل شيء مثله وقت للعصرة فمحال ومستبعد أن يكون ذلك وقتًا للظهر. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [231].

الثالث: أن حديث أبي هريرة يدل على أن وقت العصر بعد خروج وقت الظهر، وقد ثبت في الآثار المذكورة أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، فيكون انتهاء هذا ابتداء وقت العصر، وهذا واضح لمن له فطانة، واللهَ أعلم. ثم إسناد حديث أبي هريرة صحيح. والأعمش هو سليمان، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وان أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وان أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس". وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام - ... إلى، آخره نحوه. قوله: "إن للصلاة أولًا وآخرًا" معناه أن الصلاة المفروضة تكون في وقت محدد له ابتداء وانتهاء، ولقد بيَّن في هذا الحديث أوائل الصلوات الخمس وأواخرها، غير أنه قال: "وآخر وقتها" أي وقت صلاة الظهر "حين يدخل وقت العصر، وأن أول وقت العصر حين يدخل وقتها"، ولم يبيِّن في ذلك انتهاء وقت الظهر ما هو حتى نعلم ابتداء وقت العصر؛ وذلك لما سبق بيانه. وتقريره عندهم: أنه - عليه السلام - بيَّن ذلك قولًا وفعلًا كما في الآثار المذكورة. قوله: "حين تصفرّ الشمس" أراد به وقت الجواز والضرورة، وإلا فالوقت المستحب في العصر إلى ما قبل اصفرار الشمس. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 283 رقم 151). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 281 رقم 3222).

قوله: "حين يغيب الأفق" أي الشفق، وقد جاء في رواية "حين يغيب الشفق". قوله: "وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل" أراد وقت القضاء والاستحباب وإلا فقد ثبت بالآثار المذكورة أن آخر وقت العشاء إلى أن يطلع الفجر. قوله: "حين يطلع الفجر" أراد به الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، والله أعلم. ص: وأما ما ذُكر عنه في صلاة العصر فلم يختلف عنه أنه صلاها في أول يوم في الوقت الذي ذكرنا عنه، فثبت أن ذلك هو أول وقتها، وذكر عنه أنه صلاها في اليوم الثاثي حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم قال: "إن الوقت فيما بين هذين" فاحتمل أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج فأتت. واحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة حتى يخرج، وأن من صلاها بعده -وإن كان قد صلاها في وقتها- مفرط؛ لأنه قد فاته في وقتها ما فيه الفضل، وإن كانت لم تفت بعد، وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته، وَلَمَا فاته من وقتها خيرٌ له من أهله وماله". فثبت بذلك أن الصلاة في خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت الذي صلاها رسول الله - عليه السلام - في اليوم الثاني، وقد دل على ما ذكرنا ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس". ش: أي لم يختلف عن النبي - عليه السلام - أنه صلى صلاة العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله كما مرّ في الآثار المذكورة، فثبت بذلك أن ذلك هو أول وقت العصر، وبقي الكلام في أنه - عليه السلام - صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، فهذا يحتمل أمرين:

الأول: أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج هذا فأتت العصر. والثاني: يحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة إلى حين خروج ذلك الوقت، وأن الذي يصليها بعد ذلك الوقت وإن كان قد صلاها في وقتها مفرط مقصر لما فاته من فضيلة ذلك الوقت وإن كانت لم تفت بعد، ألا ترى إلى ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته ... " الحديث، يدل على أن الصلاة في خاص من الوقت أي في جزء معين منه أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت؟! فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت هو الذي صلاها رسول الله - عليه السلام - فيه في اليوم الثاني، وإلى هذا ذهبت طائفة فقالوا: لا ينبغي أن يؤخر العصر إلى ما بعد صيرورة ظل كل شي مثليه، وحكى ابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك: أن آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شي مثليه، فكأنه لاحظ ما ذكرنا من الاحتمال الأول. وقال أبو عمر: هذا عندنا وقت الاختيار، وقد ذكر ابن وهب عن مالك أنه قال: آخر وقتها غروب الشمس. وقد قال أيضًا ابن وهب عن مالك: وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضًا على أصحاب الضرورات. وقال الشافعي: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شي مثله بشيء ما كان، ومن أخَّر العصر حتى يجاوز ظل كل شي مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته العصر مطلقًا كما جاز على الذي أخّر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شي مثله. قال: وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها" (¬1). قوله: "هذا الوقت الذي صلاها رسول الله - عليه السلام -" خبر لقوله: "فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر". قوله: "وقد دلّ على ما ذكرنا" أراد به ما ذكره من قوله: "فثبت أن ذلك أول وقتها"، وما ذكره من قوله: "وأن من صلاها بعده وإن كان قد صلاها في وقتها". ¬

_ (¬1) تقدم.

والحديث الذي ذكره معلقًا أخرجه مالك في "الموطإ" (¬1) موقوفًا: عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: "إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله". قال أبو عمر: هذا موقوف في "الموطأ"، ويستحيل أن يكون مثله رأيًا فكيف وقد روي مرفوعًا بإسناد حسن! رواه ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، كذا قال في "التمهيد" (¬2)، وقد نقل بعضهم عن أبي عمر أنه قال: قد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة عن النبي - عليه السلام - منها عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم، عن طلق بن حبيب، عن النبي - عليه السلام - مرسل. وطلق ثقة إلا أنه مرجئ، ومالك لا يرضى مذهبه، قال: وقد روي مسندًا إلا انه يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث، فتأمل ما بين الكلامين من التفاوت. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3) مرسلًا، وقال عبد الرزاق: عن ابن أبي سبرة، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم، عن طلق بن حبيب، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن أحدكم -أو إن الرجل منكم- ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها خير له من مثل أهله وماله". قوله: "لم تفته" يعني لم تكن صلاته فائتة؛ لأنه أداها في وقتها، ولكن ما أداها في وقتها الذي فيه الفضيلة والاستحباب، وهو معنى قوله: "ولما فاته من وقتها" أي: وللذي فاته من فضيلة وقتها هو خير له من أهله وماله. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 12 رقم 23). والحديث أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" مرفوعًا من حديث أبي هريرة (1/ 415 رقم 2835)، وكذا أخرجه أبو الشيخ في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 961 رقم 1043) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ومن حديث طلق بن حبيب (1/ 960 رقم 1041). (¬2) "التمهيد" (24/ 75). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 584 رقم 2225).

قال أبو عمر: هذا يدل على أن أول الوقت أفضل. وقال أيضًا: كان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا، وأظن ذلك -والله أعلم- من أجل قوله - عليه السلام -: "ما بين هذين وقت" فجعل أول الوقت وآخره وقتًا، ولم يقل: أوله أفضل، وكان مالك لا يرول بين أول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يشبه مصيبة من فاته ذلك بمصيبة من ذهب أهله وماله؛ لأن ذلك إنما ورد في ذهاب الوقت كله، هذا معنى قول مالك، والله أعلم؛ لأن في هذا الحديث أن فوات بعض الوقت كفوات الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء لا من فضَّل أول الوقت على آخره ولا مَنْ سوَّى بينهما؛ لأن فوات بعض الوقت مباح وفوات كل الوقت لا يجوز ففاعله عاصٍ لله تعالى إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وإن كان من صلى في أول الوقت أفضل، وتدبر هذا تجده كذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقد دلّ على ما ذكرنا" أي على ما ذكرنا من قولنا: فثبت بذلك أن الصلاة خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، بيان ذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو قوله - عليه السلام -: "وإن أخّر وقتها حين تصفر الشمس" فإنه يدل على أن الصلاة قبل اصفرار الشمس أفضل من الصلاة في حالة الاصفرار؛ وإن كان كل ذلك وقت العصر، ويدل على أن الذي يصلي في حالة الاصفرار مقصِّرٌ لما فاته من فضيلة الوقت المستحب حين تصفر الشمس. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة هذا عن قريب بهذا الإسناد بعينه، ولكنه قطَّعه لأجل تطبيق الاستدلال على المدعى، وقد ذكرنا أن الترمذي أخرجه بأتم منه فليراجع هناك. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - عليه السلام - قال: "وقت العصر ما لم تصفر الشمس".

ش: إسناده صحيح. والخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- وأبو أيوب اسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك العتكي. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬1): حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبد الصمد، قال: أنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان". واعلم أن ألفاظ هذا الحديث مختلفة، ففي رواية عبد الله بن عَمرو بن العاص هذا "ما لم تصفر الشمس"، وفي رواية أبي هريرة: "حين تصفر الشمس"، وفي "الأم": "إلى أن تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول"، وفي حديث بريدة في الوقتين "أنه صلاها في اليوم الثاني والشمس مرتفعة"، وفي الرواية الأخرى "بيضاء نقية لم تخالطها صفرة"، وفي حديث أبي موسى: "وانصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس"، ومثله في حديث جبريل - عليه السلام -، وفي الأحاديث الأُخر: "مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها". وبحسب هذا الاختلاف اختلف العلماء فيه كما قد ذكرناه، والتحقيق فيه: أن الكل يدل على وقت الاختيار غير قوله: "من أدرك ركعة من العصر ... " الحديث، فإنه محمول على وقت الضرورة. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 426 رقم 612).

عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال شعبة: حدثنيه ثلاث مرار، رفعه مرة ولم يرفعه مرتين، فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح: عن ابن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك ابن عمرو البصري العقدي -بفتح العين المهملة وفتح القاف- نسبة إلى عقد بطن من بجيلة، وقد تكرر ذكره. وأخرجه مسلم أيضًا (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: حدثني أبي، قال: نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب واسمه يحمل بن مالك الأزدي ويقال: المراغي، والمراغ حي من الأزد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - قال: "وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم يطلع الفجر". ثنا زهير بن حرب، قال: نا أبو عامر العقدي. وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديثهما قال شعبة: رفعه مرةً ولم يرفعه مرتين. ص: ففي هذا الأثر أن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وذلك بعد ما يصير الظل قامتين، فدل ذلك أن الوقت الذي قصده النبي - عليه السلام - في الآثار الأُوَل من وقتها هو وقت الفضل لا الوقت الذي إذا خرج فأتت الصلاة بخروجه؛ حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. ش: أي ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هذا: أن آخر وقت العصر حين تصفر الشمس، وذلك لا يكون إلا بعد ما يصير ظل كل شي مثليه، فدلّ ذلك أن الوقت الذي قصده النبي - عليه السلام - في الأحاديث الأوُل التي تدل ظاهرًا على انتهاء وقت العصر عند إنتهاء صيرورة ظل كل شي مثليه؛ هو وقت الفضيلة والاستحباب لا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الوقت الذي إذا خرج تقع الصلاة بخروجه فائتة، وإنما قلنا ذلك حتى تتفق تلك الأحاديث مع حديث عبد الله بن عمرو ولا تتضادّ؛ لأن بينهما تضادًّ ظاهرًا لا يخفى، فدفعه بما قلنا يفيد العمل بالأحاديث كلها؛ لأنا حملنا الأحاديث الأول على وقت الفضل والاستحباب لا الوقت الذي إذا خرج فأتت الصلاة بخروجه، وحملنا حديث عبد الله بن عمرو وأمثاله على وقت التفريط الذي إذا صلى فيه يكون أداءً، ولكنه يكون مفرطًا حيث فوّت ما فيه من الفضل والاستحباب. ص: غير أن قومًا ذهبوا إلى أن آخر وقتها غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: [ثنا] (¬1) سعيد، أخبرنا [عن] (1) معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وبسر بن سعيد وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "شرح معاني الآثار".

قالوا: فلما كان من أدرك من العصر ما ذكر في هذه الآثار صار مدركًا لها؛ ثبت أن أخر وقتها هو غروب الشمس، وممن قال ذلك: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا الإسناد إلى أن مذهب طائفة من الفقهاء أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس، وأن الذي يؤخر صلاة العصر عن صيرورة ظل كل شي مثليه غير مفرط. وأراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر بن الهذيل ومالكًا في رواية ابن وهب؛ فإنهم قالوا: آخر وقت العصر هو غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما -؛ لأنه - عليه السلام - قال: "من أدرك ركعة من العصر أو ركعتين قبل أن تغرب الشمس، صار مدركًا لها". فثبت بذلك أن آخر وقتها هو غروب الشمس؛ لأن معنى قوله - عليه السلام -: "فقد أدرك" أي وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي أو أسلم الكافر أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض، تجب عليه صلاة العصر ولو كان الوقت الذي أدركه جزءًا يسيرًا لا يتسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس. فإن قلت: قيد في الحديث ركعة فينبغي أن لا يعتبر أقل منها. قلتُ: قيد الركعة في الحديث خرج مخرج الغالب؛ فإن غالب ما يمكن معرفة الإدراك به ركعة ونحوها، حتى قال بعضهم من الشافعية: إنما أراد رسول الله - عليه السلام - بذكر الركعة البعض من الصلاة؛ لأنه قد روي عنه: "من أدرك ركعة من العصر"، و"من أدرك ركعتين من العصر"، و"ومن أدرك سجدة من العصر"، فأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة، ومرة بركعتين، ومرة بسجدة، والتكبيرة في حكم الركعة؛ لأنها بعض الصلاة، فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة. فإن قيل: المراد من السجدة: الركعة.

على ما روى مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة، كلاهما عن ابن وهب -والسياق لحرملة- قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال: رسول الله [- عليه السلام -] (¬2): "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها". والسجدة إنما هي الركعة. قلت: قد فسر السجدة بالركعة حرملة، وكذا فسر في "الأم" لأنه يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، وأيًّا ما كان فالمراد بعض الصلاة وإدراك شيء منها، وهو يطلق على الركعة والسجدة وما دونها مثل تكييرة الإحرام. وحديث: "من أدرك سجدة" رواه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا معاوية، ثنا زائدة، نا عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "من أدرك قبل طلوع الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة ومن أدرك قبل غروب الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة". ثم إن الطحاوي -رحمه الله-: أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬4): ثنا وهب، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من العصر ركعتين أو ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 424 رقم 609). (¬2) في "الأصل": "صلى الله عليه السلام"، وهو سبق قلم من المصنف -رحمه الله-. (¬3) "مسند أحمد" (2/ 399 رقم 9172). (¬4) "مسند الطيالسي" (1/ 318 رقم 2431).

وأخرجه أحمد (¬1): عن محمد بن جعفر، [عن شعبة] (¬2)، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة أو ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك". الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها". وأخرجه مسلم (¬3): عن عبدبن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر -بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة- بن عمر بن الحكم الزهراني، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم القرشي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن عطاء بن يسار الهلالي مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام -. وعن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 348 رقم 8569). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 424 رقم 608).

وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (1): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬2): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك ... إلى آخره. وابن ماجه (¬3): عن محمد بن الصباح، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬4) من حديث ابن عباس عن أبي هريرة: ثنا الحسن بن الربيع، حدثني ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك". وأما حديث عائشة ل فقد أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن يونس ابن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه النسائي (¬5): أنا محمد بن رافع، قال: ثنا زكريا بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - قال: "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 211 رقم 554). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 353 رقم 186). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 229 رقم 699). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 112 رقم 412). (¬5) "المجتبى" (1/ 273 رقم 551).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح وحرملة بن يحيى، قالا: نا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدركها". ويستنبط منه أحكام: الأول: استدل به أبو حنيفة ومن تبعه ممن ذكرناهم أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس؛ لأن من أدرك منه ركعة أو ركعتين مدرك له، فإذا كان مدركًا يكون ذلك الوقت من وقت العصر؛ لأن معنى قوله: "فقد أدرك" أدرك وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي قبل غروب الشمس، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض؛ تجب عليه صلاة العصر، ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرًا لا يسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس. وقال زفر: لا تجب ما لم يجد وقتًا يسع فيه الأداء حقيقة. وعن الشافعي قولان فيما إذا أدرك دون ركعة كتكبيرة مثلًا: أحدهما: لا بد منه. والآخر: يلزمه، وهو أصحهما. وقال أبو عمر: قال مالك: إذا طهرت المرأة قبل الغروب فإن كان بقي عليها من النهار قدر ما تصلي فيه خمس ركعات صلت العصر، وإذا طهرت قبل الفجر وكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات -ثلاثًا للمغرب وركعة من العشاء- صلت المغرب والعشاء، وإن لم يبق عليها إلا ما تصلي فيه ثلاث ركعات صلت العشاء، ذكره أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب عن مالك، وقال ابن وهب: سالت مالكًا عن المرأة تنسى -أو تغفل عن- صلاة الظهر فلا تصليها ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 229 رقم 700).

حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس. فقال مالك: لا أرى عليها قضاء للظهر والعصر إلا أن تحيض بعد غروب الشمس. وقال الشافعي وابن عُلية: لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما يمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلّت؛ لزمها قضاء صلاة الظهر؛ لأن الصلاة تجب بأول الوقت. وقال الشافعي: وإن حاضت وقد مضى من الوقت قدر ما لا يمكنها فيه الصلاة بتمامها لم يجب عليها قضاؤها، كما لو حاضت وهي في الصلاة في أول وقتها لم يكن عليها إعادتها. وقال مالك: من أغمي عليه في وقت صلاة حتى ذهب وقتها، ظهرًا كانت أو عصرًا -فقال: الظهر والعصر وقتها في هذا إلى مغيب الشمس- فلا إعادة عليه، وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله. وقول الليث في المغمى عليه والحائض كقول مالك سواء. وقال مالك: إذا طهرت قبل غروب الشمس فاشتغلت [بالغسل] (¬1) فلم تزل مجتهدة حتى غربت الشمس، لا أرى أن تصلي شيئًا من صلاة النهار. وقالت طائفة من أهل العلم منهم ابن عُلية وهو أحد أقوال الشافعي وهو المشهور عنه [في البويطي] (¬2) وغيره: إذا طهرت الحائض في وقت صلاة [وأخذت] (2) في غسلها فلم تفرغ حتى [خرج] (2) وقت تلك الصلاة وجب عليها قضاء تلك الصلاة؛ لأنها في وقتها غير حائض، وليس فوت، الوقت على الرجل يسقط عنه الصلاة إن اشتغل بوضوء أو غسل حتى فاته الوقت، وكذلك الحائض إذا طهرت. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد" (3/ 284). (¬2) طمس في "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد" (3/ 291).

قال الشافعي: وكذلك المغمى عليه يفيق، والنصراني يسلم، قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر أو قبل طلوع الشمس. وسئل الأوزاعي عن الحائض تصلي ركعتين ثم تحيض، وكيف إن كانت أخرت الصلاة؟ قال: إن أدركها المحيض في صلاة انصرفت عنها ولا شيء عليها، وإن كانت أخرت الصلاة حتى جاز الوقت فعليها قضاؤها، وإن كانت أخرت الصلاة ولم يذهب الوقت فلا شيء عليها. قال: وإذا طهرت المرأة بعد العصر فأخذت في غسلها فلم تفرغ منه حتى غابت الشمس فلا شيء عليها. ذكره الوليد بن يزيد عن الأوزاعي، وقد ذكرنا عن الشافعي أنه إذا طهرت المرأة قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر، وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء، واحتج بقوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ... " الحديث. وقال الشافعي في هذه المسألة قولان آخران: أحدهما: مثل قول مالك سواء. والقول الآخر قاله في "الكتاب المصري" فقال في المغمى عليه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه تكبيرة الإحرام، أعاد الظهر والعصر ولم يعد ما قبلها لا صبحًا ولا مغربًا ولا عشاءً، قال: فإذا أفاق وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة؛ قضى المغرب والعشاء، فإذا أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة قضى الصبح، وإذا طلعت الشمس قبل أن يفيق لم يقضها، قال: وكذلك الحائض تطهر، والرجل يسلم، وقال فيمن جُنَّ بأمر لا يكون به عاصيًا فذهب عقله: لا قضاء عليه ومن كان زوال عقله بما يكون به عاصيًا قضى صلاة فاتته في حال زوال عقله، وذلك مثل السكران وشارب السُّمِّ والشيركران عامدَّا لإذهاب عقله.

وقال أبو حنيفة وأصحابه -وهو قول ابن علية-: من طهر من الحُيَّضِ أو بلغ من الصبيان أو أسلم من الكفار؛ لم يكن عليه أن يصلي شيئًا مما فات وقته، وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد، وهم لا يقولون باشتراك الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار، ولا يرون لأحد الجمع بين الصلاتين لا لمسافر ولا لمريض في وقت إحداهما، ولا يجوز ذلك عندهم بغير عرفة والمزدلفة، وهو قول حماد بن أبي سليمان في هذه المسألة كقول أبي حنيفة، ذكر غندر، عن شعبة قال: سالت حمادًا عن المرأة تطهر في وقت العصر؟ قال تصلي العصر فقط. وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل منها ثم أفاق: إنه يقضيها، ومن أُغمي عليه كثر من ذلك ثم أفاق لم يقضه. وهو قول الثوري إلا أنه قال: أحب إليَّ أن يقضي، وقال زفر في المغمى عليه يفيق، والحائض تطهير، والنصراني يسلم، والصبي يحتلم: إنه لا يجب على واحد منهم قضاء صلاة إلا بأن يدركوا من وقتها مقدار الصلاة كلها بكمالها، كما لا يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله. قال أبو عمر (¬1): قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة ... " الحديث يرد قول زفر. وقال أحمد بن حنبل: إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس؛ صلوا الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل أن يطلع الفجر؛ صلوا المغرب والعشاء. وقال أحمد في المغمى عليه: يقضي الصلوات كلها التي كانت عليه في إغمائه، وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ولا فرق عندهم بين النائم والمغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي ما فاته وإن كثر، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ورُوي ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين، وروى ابن رستم عن محمد بن الحسن: أن النائم إذا نام كثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (3/ 288).

قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا [قال] (¬1) هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن، فإن صح عنه هذا فهو خلاف السنة، لأنه قد ثبت عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها، فكذلك في القياس ما زاد عليها. قال أبو عمر: وأصح ما في هذا الباب في المغمى عليه يفيق: أنه لا قضاء عليه لما فاته من وقته، وبه قال ابن شهاب والحسن وابن سيرين وربيعة [و] (¬2) مالك والشافعي [وأبو ثور] (2) وهو مذهب عبد الله بن عمر: من أغمي عليه لم يقض شيئًا مما فات وقته، وهذا القياس عندي، والله أعلم. الثاني: فيه دليل صريح في أن من صلى ركعة من العصر ثم دخل الوقت قبل سلامه لا يُبطل صلاته بل يتمها، وهذا بالإجماع، وأما في الصبح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد، إلا عند أبي حنيفة فإنه قال: يبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالت الشافعية: الحديث حجة على أبي حنيفة. ثم نقول: من وقف على ما استند عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه، وعرف أن غير هذا الحديث من الأحاديث حجة عليهم؛ فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وطرف لها، ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببًا؛ لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن دخول بعض الوقت سببًا وهو الجزء الأول لسلامته عن المزاحم، فإن اتصل به الأداء تقررت السببية، وإلا ينتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى أن يتمكن فيه من عقد التجزئة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحًا بحيث لم ينسب إلى النقصان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر وجب عليه كاملًا حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في صلاة الفجر؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدى بالناقض؛ كالصوم المنذور المطلق أو صوم القضاء، لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "التمهيد" (3/ 289). (¬2) في "الأصل": "بن"، وهو خطأ، والمثبت من "التمهيد" (3/ 290).

كان هذا الجزء ناقصًا بأن صار منسوبًا إلى النقصان كالعصر وقت الإحمرار وجب ناقصًا؛ لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب فيتأدى بصفة النقصان؛ لأنه أُدي كما لزم، كما إذا نذر صوم يوم النحر وأداه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم تفسد العصر؛ لأن ما بعد الغروب كامل فيتأدى فيه؛ لأن ما وجب ناقصًا يتأدى كاملًا بالطريق الأولى. فإن قيل: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت. قلت: لما كان الوقت متسعًا جاز له شغل كل الوقت، فبعض الفساد الذي يتصل فيه بالعشاء؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر، والجواب عن الحديث ما ذكره الطحاوي: أن وروده كان قبل نهيه - عليه السلام - عن الصلاة في الأوقات المكروهة. الثالث: أن المراد من الإدراك: إدراك الوقت، لا أن ركعة من الصلاة من أدركها ذلك الوقت أجزأته من تمام صلاته. قال أبو عمر: هذا إجماع من المسلمين، لا يختلفون في أن هذا المصلي فرضٌ عليه واجب أن يأتي بتمام صلاة الصبح وتمام صلاة العصر. وقال القاضي عياض: لا خلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزئه من الصلاة دون غيرها، وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة، فقيل: معناه: فضل الجماعة، وهو ظاهر حديث أبي هريرة هذا في رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وزيادته قوله: "مع الإِمام" وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبد الله بن عمر ومعمر، واختلف فيه عن يونس عنه، ويدل عليه إفراد مالك في التبويب في "الموطإ"، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرًا "فقد أدرك الفضل"، ورواه بعضهم أيضًا عن ابن شهاب، وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال، وفي مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم

تتحصل له الركعة، وذهب داود وأصحابه في أخرى: أن الحديث في إدراك الوقت؛ فجعلوه بمعنى الحديث الآخر: "من أدرك ركعة من الوقت قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". وهما حديثان في شيئين لهما حكمان، وفيهما دليل على أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك لفضل تلك الصلاة ولا حكمها مما لزم إمامه من سجود سهو أو انتقال فرضه من اثنتين إلى أربع في الجمعة، أو انتقاله إلى حكم نفسه إن اختلف حالهما من السفر والإقامة، وهذا قول مالك والشافعي -في أحد قوليه- وعامة فقهاء الفتيا وأئمة الحديث. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وأصحابهما والشافعي أيضًا: أنه بالإحرام يكون مدركًا حكم الصلاة، واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرة قبل غروب الشمس، واختلفوا في الظهر، فعند الشافعي -في أحد قوليه-: هو مدرك بالتكبيرة لهما لاشتراكهما في الوقت، وعنه: أنه بتمام القائمة للظهر يكون قاضيًا لها، وهذا الإدراك يكون لمعنيين: أحدهما: أن يكون لمن أخر الصلاة وهو مدرك للأداء بإدراك ركعة، وليس يكون قاضيًا بصلاته بعضها بعد وقتها كمدرك ركعة في صلاة الإِمام، فله في جميعها حكم الإتمام، وقد يحمل الحديث على من كان بصفة المكلفين في هذا الحين فأدرك وجوب الصلاة أو حكمًا من أحكامها في هذا الوقت، فهو مدرك له، وهذا قول مالك وأصحابه في معنى الحديث، وهو الذي عبروا عنهم بأصحاب الأعذار، وذلك: الكافر يسلم، والصغير يبلغ، والحائض تطهير، والمغمى عليه يفيق، والمسافر يقدم ويرحل. وهذه الركعة التي يكون بها مدركًا للأداء والوجوب في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للإحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ويفصل بينهما، ويطمئن في كل ذلك على من أوجب الطمأنينة، فهذا أقل ما يكون به مدركًا.

وعلى من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة: يكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها، وأشهب لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة؛ أخذًا بظاهر الحديث. وأما الركعة التي تدرك بها فضيلة الجماعة: فأن يُكبر لإحرام قائمًا، ثم يركع ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه، هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأي وجماعة من الصحابة والسلف، ورُوي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة ما لم يدرك الإِمام قائمًا قبل أن يركعها معه، ورُوي معناه عن أشهب من أصحابنا، ورُوي عن جماعة من السلف: أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه، وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام -كالناعس- اعتد بالركعة، وقيل: تجزئه وإن رفع الإمام ما لم يرفع الناس، وقيل: تجزئه إن أحرم قبل سجود الإِمام. ص: وكان من حجة من ذهب إلى أن آخر وقتها بلى أن تتغير الشمس: ما قد رُوي عن النبي - عليه السلام - من نهيه عن الصلاة عند غروب الشمس، فمن ذلك: ما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر قال: قال لي عبد الله - رضي الله عنه -: "كنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ونصف النهار". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حبَّان بن هلال، قال ثنا همام، عن قتادة، عن محمد -قال أبو جعفر -رحمه الله-: محمد هو ابن سعد بن أي وقاص- عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إذا طلع قرن الشمس، أو غاب قرن الشمس". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا موسى بن عُلي بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: "ثلاث ساعات كان النبي - عليه السلام - ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع

الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا الدراوردي، عن هشام ابن عروة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، وإذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". حدثنا محمد بن عمر بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر- رضي الله عنهم -، عن رسول الله - عليه السلام - ... مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله ابن طاوس، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "وهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، إنما نهى رسول الله - عليه السلام - أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها". حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو يحيى وضمرة بن حبيب وأبو طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طلعت الشمس فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وهم ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع ويذهب شعاعها، ثم الصلاة محضورة مشهودة إلى أن ينتصف النهار، فإنها ساعة تفتح أبواب جهنم وتسجر، فدع الصلاة حتى يفيء الفيء، ثم الصلاة محضورة مشهودة إلى غروب الشمس فصحها تغرب بين قرني الشيطان، وهم ساعة صلاة الكفار". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن

حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يحدث، عن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلوا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان -أو على قرني شيطان- وتغرب بين قرني شيطان- أو على قرني شيطان". قالوا: فلما نهى النبي - عليه السلام - عن الصلاة عند غروب الشمس؛ ثبت أنه ليس بوقت صلاة، وأن وقت العصر يخرج بدخولها. ش: أراد بقوله: "من ذهب ... ". إلى آخره: الشافعي -في قول- وأحمد -في الصحيح عنه- ومالكًا -في المشهور عنه- وجمهور أصحابه، والحسن بن زياد -من أصحاب أبي حنيفة- وإسحاق وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى أن آخر وقت العصر إلى تغير الشمس، واختاره الطحاوي أيضًا على ما يفهم من كلامه، واحتجوا في ذلك بما رُوي عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وعمرو بن عبسة وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم - فإنهم رووا عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، فدل ذلك أن وقت التغير ليس بوقت للعصر، وأن آخر وقته إلى أن تتغير الشمس. أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه بإسناد جيد حسن: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- عن عاصم بن بهدلة أبي بكر المقرئ، عن زر بن حبيش الأسدي الكوفي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: "إن الشمس تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، قال: فكنا نُنْهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها". قوله: "كنا نُنْهى" على صيغة المجهول، وهو محمول عند أكثر أهل العلم على أنه ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 134 رقم 7358).

نهي الرسول - عليه السلام - فكذا قول الصحابي: "أمرنا بكذا" محمول على أنه أمر لله ورسوله، وقال قوم: يجب فيه الوقف؛ لأنه لا يؤمن أن يعني بذلك أمر الأئمة والعلماء، والأول أقرب إلى الصواب، وفيه دليل على أن وقت الغروب ووقت الطلوع ليسا بأوقات للصلاة؛ إذ لو كانت أوقاتًا لما نهى النبي - عليه السلام - عن الصلاة فيها. وأما حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن حبان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي البصري، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني، وقد بَيَّن الطحاوي أن المراد من محمد الذي يروي عنه قتادة هو ابن سعد بن أبي وقاص، وقد وقع في بعض النسخ: عن قتادة، عن محمد، عن زيد بن ثابت، فإن صح هذا يكون المراد منه محمد بن سيرين. كما هو كذلك في "مسند أحمد بن حنبل" (¬1): حيث قال: حدثنا عفان، نا همام، نا قتادة، عن ابن سيرين، عن زيد بن ثابت: "أن النبي - عليه السلام - نهى أن يصل إذا طلع قرن الشمس أو غاب قرنها وقال: إنها تطلع بين قرني شيطان أو من بين قرني الشيطان". قوله: "إذا طلع قرن الشمس" أي جانبها وطرفها، وقرن الشيء: ناحيته. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن ابن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن موسى بن عُلي -بضم العين وفتح اللام- بن رباح اللخمي، عن أبيه عُلي بن رباح بن قصير اللخمي، عن عقبة بن عامر الجهني. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، ثنا عبد الله بن وهب، عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - يقول: "ثلاث ساعات ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 190 رقم 21704). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 568 رقم 831).

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن تقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحن يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب". وأخرجه الأربعة (¬1) أيضًا. قوله: "أن نصلي فيها" عامٌّ يتناول جميع الصلوات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قوله: (وأن نقبر فيها موتانا" أي وأن ندفن فيها موتانا، هذا ظاهر المعنى ولكنه ليس بمراد؛ إذْ المراد: وأن نصلي عليها للإقبار، على ما يجيء، وهو من قَبَرَ يَقْبُر من باب نَصَرَ يَنْصُر، تقول: قبرته إذا دفنته وأقبرته إذا جعلت له قبرًا. قوله: "بازغة" نصب على الحال عن الشمس، من بزغت الشمس وبزغ القمر وغيرهما إذا طلع، من باب نَصَرَ ينصر. قوله: "قائم الظهيرة" ظهيرة الشمس شدة حرها نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة وتجمع على الظهائر ومراده: حين يقف الظل، وهو القائم بالظهيرة ولا يظهر له زيادة ولا نقص؛ لأنه قد انتهى نقصه. و"حين تضيف" أي تميل وتجنح للغروب، يقال: ضاف الشيء يضيف بمعنى مال، ومنه اشتق اسم الضيف، ويقال: ضفت الرجل إذا ملت نحوه وكنت له ضيفًا، وأضفته إذا أملته إلى رحلك وقربته. قوله: "تضيف" أصله تتضيف بتائين، فحذفت إحداهما للتخفيف كما في قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} (¬2) أصله تتلظى. ¬

_ (¬1) أبو داود (3/ 208 رقم 3192)، والترمذي (3/ 348 رقم 1030)، والنسائي (1/ 275 رقم 560) وابن ماجه (1/ 486 رقم 1519). (¬2) سورة الليل، آية: [14].

ويستفاد منه أحكام: الأول: استدل به أصحابنا أن جميع الصلوات فرضها قضاء وأداء نفلها يكره في هذه الأوقات الثلاثة؛ لعموم قوله - عليه السلام - "أن نصلي فيها" وهو بإطلاقه حجة على الشافعي في تخصيص الفرائض وبمكة وحجة على أبي يوسف في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال. وفي "الروضة" للنووي: يجوز في هذه الأوقات قضاء الفرائض والسنن والنوافل التي اتخذها الإنسان وردًا له، وتجوز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وركعتا الطواف، وصلاة الكسوف، ولا يكره فيها صلاة الاستسقاء على الأصح، وعلى الثاني تكره كصلاة الاستخارة وتكره ركعتا الإحرام على الصحيح، فأما تحية المسجد فإن اتفق دخوله لغرض كدرس علم أو اعتكاف أو انتظار صلاة ونحو ذلك لم تكره، وإن دخل لا لحاجة بل ليصلي التحية فوجهان أقيسهما الكراهة انتهى. وبقوله قال أحمد وبقولهما قال مالك، وقال القاضي عياض: وأما الفرائض فلا خلاف في قضاء فرض يومه ومنسيته في هذين الوقتين مالم تطلع الشمس [أو] (¬1) تغرب، فإذا طلعت أو غربت فلا خلاف في قضاء فرض يومه مع طلوعها وغروبها إلا شيء روي عن أبي حنيفة؛ أنه لا يقضي صلاة صبح يومه مع طلوعها وأنها إن طلعت وقد عقد ركعة فسدت عليه، ولا نقوله في الغروب؛ لجواز الصلاة بعد الغروب، وأما منسي غير يومه فجمهور العلماء على صلاتها حينئذ، إلا أن أبا حنيفة لا يجيز قضاءها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وحمل اللفظ على العموم انتهى. ثم إنه إذا صلى النوافل في هذه الأوقات تجوز؛ لأنه أدى كما وجبت؛ لأن النفل يجب بالشروع، وشروعه حصل في الوقت المكروه. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "و".

وقال الكرخي: يجوز وأحب إلينا أن يعيده. وقال: الأفضل له أن يقطع ويقضيها في الوقت المباح. فإن قيل: ما الفرق أن الفرائض لا تجوز فيها أصلًا والنوافل تجوز بالكراهة؟ قلت: لأن الصلاة مشروعة بأصلها؛ لوجود أركانها وشرائطا، ولا قبح في أصلها لأنها تعظيم محض لله تعالى والأوقات أيضًا صحيحة بأصلها كسائر الأوقات، ولكن من حيث إنها أوقات فاسدة بوصفها؛ لانتسابها إلى الشيطان صارت الصلاة فلم يسقط فيها ومنها الكامل وهو الفرض بخلاف النفل؛ لأنه أداه كما شُرع لكن مع الكراهة لورود النهي. الثاني: يستفاد منه كراهة الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات؛ لأن المراد من قوله "وأن نقبر فيها موتانا" أن يصلي عليهم لأجل الإقبار في هذه الأوقات لأن الدفن فيها غير مكروهة. واختلف العلماء فيه وفي الصلاة على الجنازة، فذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة الصلاة على الجنازة في الأوقات المكروهة، وروي ذلك عن ابن عمر، وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي والثوري، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق ومالك، وفي "الجواهر" للمالكية: ولا يجوز فعلها أي فعل الصلاة على الجنازة في وقتي الإسفار والاصفرار، هذا ما لم يُخشى تغيير الميت، فإذا خشي يصلي عليه في جميع الأوقات انتهى. وعند الشافعي لا تكره الصلاة على الجنازة أي ساعة شاء من ليل أو نهار، وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار، وقول الجماعة أولى؛ لموافقة الحديث. وقال عياض في قوله "فيها موتانا": يحتمل أن المراد بذلك الصلاة عليها حينئذ، ويحتمل أن يكون على ظاهره من الدفن انتهى. فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: "وأن نقبر فيها موتانا": أن نصلي عليها في هذه الأوقات، فمن أي قبيل يكون هذا الكلام؟

قلت: هو كناية؛ لأنه ذكر الرديف وأريد المردوف، وقال ابن حزم: ولا يحل دفن الموتى في هذه الساعات، وأما الصلاة عليهم فجائزة فيها للأثر بذلك عمومًا. الثالث: أن قوله - عليه السلام -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" يعارض هذا الحديث، بيانه: أن هذا نقيض أن تكون هذه الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها وقتًا للقضاء حين ذكر الغاية بقوله: "فإن ذلك وقتها" ويعارضه أيضًا قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر" بيانه: أن هذا يقتضي أنه لو شرع في صلاة الفجر وطلعت الشمس في خلالها أن لا تفسد صلاته كما ذهب إليه الشافعي. الجواب عن الأول: أنه مخصوص بحديث عقبة، والدليل عليه ما روى أبو هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - حين قفل من غزوة حنين فسار ليلة ... " الحديث وفيه: "فناموا فما أيقظهم إلا حر الشمس". وفي رواية: "انتبهوا وقد بدا حاجب الشمس فاقتادوا رواحلهم شيئًا ثم نزلوا للصلاة". وإنما فعل ذلك لترتفع الشمس، فلو جاز قضاء المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخرها رسول الله - عليه السلام - بعد الانتباه. والجواب عن الثاني: أنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت -قل أو كثر- كما ذكرنا فيما مضى. الرابع: أن حد الارتفاع الذي تباح فيه الصلاة قدر رمح أو رمحين، وقال أبو بكر محمد بن الفضل: مادام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر يباح. وقال الفقيه أبو حفص: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية فما دامت الشمس تقع في حيطانه فهي في الطلوع فلا تحل الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت صلاته. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني قاضي مدينة رسول الله - عليه السلام - شيخ الجماعة سوى النسائي. عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي منسوب إلى دراورد -بفتح الدال- قرية بخراسان. عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. عن سالم بن عبد الله. عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه قال: أخبرني ابن عمر- رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها". وقال: حدثني ابن عمر قال: قال: رسول الله - عليه السلام -: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". تابعَهَ عَبْدة. الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي السوسي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، وثنا ابن نمير، قال: ثنا أبي، وثنا ابن بشر قالوا جميعًا: ثنا هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 212 رقم 558). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 568 رقم 829).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن يحيى بن سعيد، عن هشام، نحوه. وأخرج (¬2): عن وكيع، نا هشام، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك نحوه. ومسلم (¬4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك نحوه. وأحمد في "مسنده" (¬5): عن عبد الرزاق، عن مالك، عن نافع، نحوه. قوله: "لا تحروا" أي لا توخوا أو لا تعمدوا ولا تطلبوا، من التحري في الأشياء وهو القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. وقال الجوهري: التحري في الأشياء: طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن، وفلان يتحرى الأمر أي يتوخاه ويقصده، وتحرى فلانًا بالمكان: أي تَمَكَّث وقوله: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (¬6) أي توخوا وعمدوا. قوله: "طلوع الشمس" مفعول "لا تحروا" والمعنى لا تتحروا وقت طلوع الشمس بسبب صلاتكم، أي لأجلها، و"الباء" فيها كالباء في قوله: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا} (¬7) وقوله: وليست هي صلة "لا تحروا" لأنها تحتاج إلى فافهم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 19 رقم 4695). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 24 رقم 4772). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 212 رقم 560). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 567 رقم 828). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 33 رقم 4885). (¬6) سورة الجن، آية: [14]. (¬7) سورة البقرة، آية: [554].

قوله: "وإذا بدا" أي ظهر "حاجب الشمس" أي ناحيتها. قوله: "حتى تبرز" أي تظهر، من البروز وهو الظهور، ومعناه حتى ترتفع كما قد وقع هكذا في رواية البخاري. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة ابن راشد، عن معلى بن أسد العمي أحد مشايخ البخاري، عن وهيب بن خالد العجلاني البصري، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس بن كيسان اليماني، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز بن راشد، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "وهم عمر - رضي الله عنه - إنما نهى رسول الله - عليه السلام - أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها". وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: ثنا الفضل بن عنبسة، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قالت عائشة: "أوهم عمر - رضي الله عنه - إنما نهى رسول الله - عليه السلام - (قال: لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان) (¬3) ". قولها: "وهم عمر" من الوهم وهو الغلط، من وَهِمْتُ في الحساب -بالكسر- أَوْهَمُ وَهَمًا إذا غلطت فيه وسهوت ووَهَمْت في الشيء -بالفتح- أَهِمُ وَهْمًا إذا يقال أوهم من وأهم في وتوهمت: أي ظننت، وأوهمت الشيء: إذا تركته كله. يقال أوهم من الحساب مائة أي أسقط، وأوهم من صلاته ركعة ثم قول عائشة من الوَهَم الذي يعني الغلط وَهِم بالكسر يُوهَمُ كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 571 رقم 833). (¬2) "المجتبى" (1/ 279 رقم 570). (¬3) كذا في "الأصل"، والذي في "سنن النسائي": "أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها".

وفي رواية النسائي: "أوهم عمر" كما ذكرناها إما من أوهمت الشيء أو من وَهِمتُ، وإنما قالت عائشة ذلك لما روته من صلاة النبي - عليه السلام - الركعتين بعد العصر، وقد أخبرت بعلة ذلك وردت الأمر فيها أيضًا إلى أم سلمة وهي التي سألت عن القصة والعلة في صلاتها على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى". فإن قيل ما قال عمر - رضي الله عنه - حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: وهم عمر؟ قلت: قال: "إن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس -أو تطلع- وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فلما سمعت عائشة بذلك قالت: وهم عمر - رضي الله عنه - إنما نهى رسول الله - عليه السلام - أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها" إنما قالت ذلك لما روته هي من صلاة النبي - عليه السلام - الركعتين بعد العصر كما ذكرنا، وبهذا تمسكت الشافعية أن الصلاة التي لها سبب لا تكره بعد العصر، وكذا يقتضي السنة التي بعد الظهر إذا فأتت تُقضى بعد العصر. والجواب عن ذلك أن صلاته - عليه السلام - الركعتين بعد العصر كان خاصًّا بالنبي - عليه السلام - على ما يجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى. وأما حديث عمرو بن عبسة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورواة ثقات: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، عن أبي يحيى سليم بن عامر الكلاعي الحمصي، وعن ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الشامي الحمصي، وعن أبي طلحة نعيم بن زياد الشامي، ثلاثتهم عن أبي أمامة الباهلي الصحابي واسمه صُدَي بن عجلان، عن عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي الصحابي، وعَبَسة بفتح العين والباء الموحدة والسين المهملة. وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا الربيع بن نافع، نا محمد بن مهاجر، عن العباس بن سالم، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي؟ أنه ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 25 رقم 1277).

قال: "قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح، ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيْس رمح أو رمحين؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان وتصلي لها الكفار، ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله، ثم أقصر؛ فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها، فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتصلي لها الكفار". وقص حديثًا طويلًا قال العباس: "هكذا حدثني أبو سلام عن أبي أمامة إلا أن أخطئ شيئًا لا أريده فاستغفر الله وأتوب إليه". وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني الحسن بن إسماعيل بن سليمان وأيوب بن محمد، قالا: ثنا حجاج بن محمد -قال أيوب: حدثنا، وقال حسين-: أخبرني شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق، عن عبد الرحمن البيلماني، عن عمرو بن عبسة قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فقلت: يا رسول الله، من أسلم معك؟ قال: حُرٌّ وعبد، قلت: هل من ساعة أقرب إلى الله -عز وجل - من أخرى؟ قال: نعم، جوف الليل الآخر، فصلِّ ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس وما دامت -وقال أيوب: فما دامت- كأنها جحفة حتى تنتشر، ثم صلِّ ما بدا لك حتى [يقوم العمود على ظله، ثم انته حتى تنعقد الشمس؛ فإن جهنم تسجر نصف النهار صلِّ ما بدا لك حتى] (¬2) تصلي العصر، ثم انته حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتطلع بين قرني شيطان". قوله: "فإنها تطلع بين قرني شيطان" اختلفوا فيه على وجوه، فقيل: معناه مقارنة الشيطان الشمس عند دنوها للطلوع والغروب، على معنىل ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها، وإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها، فإذا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 283 رقم 584). (¬2) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "المجتبى".

دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك. وقيل: قرنه: قوته، من قولك: أنا مقرن لهذا الأمر أي مطيق له قوى عليه، وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات؛ لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات. وقيل: قرنه: حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرن: أي نشؤٌ جاءوا بعد قرن مضى، وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتشويقه وتزيينه ذلك في قلوبهم وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، فكأنهم لما دافعوها وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس؛ صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها ويدفعه (بأرواقها) (¬1). وفيه وجه آخر: وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه وهما جانبًا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، وقرنًا الرأس فَوْدَاه وجانباه، ومنه سُمي ذو القرنين؛ وذلك لأنه ضرب على جانبي رأسه فلقب به والله أعلم. قلت: يمكن حمل الكلام على حقيقته ويكون المراد: أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه وأعوانه إنما يسجدون له فيكون له ولشيعته تسلط. قوله: "وهي ساعة صلاة الكفار" أي ساعة طلوع الشمس هي الساعة التي يصلي الكفار فيها نحو الشمس. ¬

_ (¬1) الأرواق جمع روق، والروق: القرن من كل ذي قرن. انظر: "لسان العرب" (مادة: روق).

قوله: "فدع" أي أترك الصلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحن كما حدُّوا الارتفاع به في رواية أبي داود. قوله: "ويذهب شعاعها" شعاع الشمس: ما يُرى من ضوئها عند ذرورها كالقضبان. قوله: "ثم الصلاة محضورة" يعني تحضرها الملائكة وتشهدها. قوله: "وتسجر" أي توقد، واختلف في جهنم، إنه اسم عربي أم أعجمي؟ فقيل: عربي مشتق من الجهومة وهي كراهة المنظر، وقيل: من قولهم بئر جهنام أي عميقة، فعلى هذا لم تصرف؛ للعلمية والتأنيث وقال الأكثرون: هي عجمية معربة، وامتنع صرفها للعلمية والعجمة. قوله: "حتى يفيء الفيء" أي حتى يرجع الظل، أراد حتى يقع الظل الذي يكون بعد الزوال، وسُمي الظل فيئًا لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق، وفي حالة استواء الشمس في كبد السماء لا يتحقق ظل الأشياء، فإذا زالت يظهر. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه حجة على الشافعي في أنه لا يكره النفل الذي له سبب؛ لما في رواية أبي داود: "حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس" وذلك لأنه يتناول ماله سبب وما لا سبب له. الثاني: فيه حجة على أبي يوسف والشافعي أيضًا في أنهما لا يكرهان النفل يوم الجمعة حالة الزوال؛ لأن قوله: "فدع الصلاة حتى يفيء الفيء". يتناول كل الصلوات. الثالث: فيه أن الملائكة يحضرون صلاة المؤمنين إذا كانت في غير الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.

الرابع: فيه دليل على أن جهنم مخلوقة؛ خلافًا لمن يقول من المعتزلة إنها لم تخلق بعد. الخامس: فيه دليل على أن وقت الغروب ليس بوقت للعصر؛ إذ لو كان وقتًا لها لما ورد النهي عن الصلاة. وأما حديث سمرة بن جندب فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن سماك بن حرب الكوفي، عن المهلب بن أبي صفرة الأزدي البصري واسم أبي صفرة: ظالم بن سارق، ويقال غير ذلك. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا الحجاج، ثنا شعبة، عن سماك، سمعت المهلب بن أبي صفرة قال: قال سمرة بن جندب: عن النبي - عليه السلام -: "لا تصلوا حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ولا حين تغيب؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو داود الطيالسي، نا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يحدث، عن سمرة بن جندب قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن يصلى بعد الصبح حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع على قرني الشيطان". وقال (¬3): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يخطب يقول: قال سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تصلوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط؛ فإنها تسقط بين قرني شيطان، وتغيب بين قرني شيطان". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 20 رقم 20239). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 234 رقم 6974). (¬3) "المعجم الكبير" (7/ 234 رقم 6976).

ص: فكان من حجة الآخرين عليهم أنه قد روي في هذا الحديث النهي عن الصلاة عند غروب الشمس وروى في غيره: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فكان في ذلك إباحة الدخول في العصر في ذلك الوقت، فجعل النهي في الحديث الأول على غير الذي أبيح في الحديث الآخر حتى لا يتضاد الحديثان، فهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار حتى لا تتضاد. ش: هذا جواب من قبل أبي حنيفة ومن معه عما قال أولئك القوم من الاستدلال بالآثار المذكورة على أن وقت الغروب ليس بوقت للعصر، أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخر -وهم أبو حنيفة ومن تبعه- عليهم أي على القوم الذين ذهبوا إلى أن آخر وقت العصر إلى تغير الشمس، بيان ذلك: أن هذه الآثار تقتضي النهي عن الصلاة عند غروب الشمس الذي يلزم منه أن لا يكون هذا الوقت صالحًا للعصر كما ذكرتم، ولكن روي في غيرها ما يدل على أن وقت الغروب وقت للعصر وهو قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" فإنه يقتضي أن يكون وقت الغروب وقتًا لصلاة العصر. فهذا كما ترى بينهما تضاد، فإذا حملنا النهي في الآثار الأول على غير الذي أبيح في هذا الحديث، أعني قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر" يندفع التضاد. حاصله: أن تلك الأحاديث تكون مخصوصة بهذا الحديث، فيكون وقت الغروب وقتًا للعصر فقط دون غيره من الصلوات. ص: وأما وجه النظر عندنا في ذلك -والله أعلم- فإنا رأينا وقت الظهر الصلوات كلها فيه مباحة، التطوع كله، وقضاء كل صلاة فائته وكذلك ما اتفق عليه أنه وقت العصر ووقت الصبح مباح قضاء الصلوات الفائتات فيه، وإنما نهي عن التطوع خاصة فيه، فكان كل وقت قد اتفق عليه أنه وقت الصلاة من هذه الصلوات كل قد أجمع أن الصلاة الفائتة تقضي فيه، فلما ثبت أن هذه صفة أوقات الصلوات المجمع عليها، وثبت أن غروب الشمس لا تقضى فيه صلاة

فائتة باتفاقهم؛ خرجت بللك صفته من صفة أوقات الصلوات المكتوبات وثبت أن لا يصلى فيه صلاة أصلًا كنصف النهار وطلوع الشمس، وأن نهي النبي - عليه السلام - عند غروب الشمس ناسخ لقوله - عليه السلام - "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر"؛ للدلائل التي شرحناها وبيناها، فهذا هو النظر عندنا، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن وجه النظر والقياس هو ما ذهب إليه الشافعي ومن تبعه من أن وقت العصر إلى أن تتغير الشمس، وأن وقت الغروب ليس بوقت للعصر، وأن هذا اختياره لنفسه، وقد خالف فيه أبا حنيفة أصحابه، ولذلك قال: فهذا هو النظر عندنا وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ووجه ما ذكره ظاهر، ولكن قوله: وأن نهي النبي - عليه السلام - عند غروب الشمس ناسخ لقوله - عليه السلام -: "من أدرك من العصر ... " الحديث كيف هذا النسخ؛ بل الذي ذكر غيره أن قوله - عليه السلام -: "من أدرك من العصر ... " الحديث هو الناسخ لأحاديث النهي؛ وذلك لأن هذا متأخر عن أخبار النهي؛ وذلك لأن أبا هريرة هو الذي روى: "من أدرك ركعة من العصر" وهو متأخر وأخبار النهي عن: عمر بن الخطاب، وعمرو بن عبسة، وغيرهما، وإسلامهما قديم، وقد أجيب عن هذا بأن حديث أبي هريرة روي أيضًا عن عائشة وهي متقدمة الإِسلام فحينئذ يندفع الإشكال. قلت: هذا غير مقنع، فلا يتم به التقريب. فإن قيل: على ما ذكره الطحاوي ينبغي أن لا يجوز في حالة الغروب عصر يومه كما لا يجوز عصر أمسه بلا خلاف. قلت: المفهوم من ظاهر كلامه أنه لا يجوز؛ لأنه قال: وثبت أن لا تصلَّ فيه صلاة أصلًا أي في حالة الغروب، وقوله هذا بعمومه يتناول سائر الصلوات، ولكن المذهب جواز عصر يومه؛ لأنه شرع فيه ناقصًا فيجوز له أن يؤدى كاملًا بخلاف عصر أمسه، وأنه حين فات ثبت في ذمته كاملًا، فلا يجوز أن يؤديه ناقصًا.

ص: وأما وقت المغرب فإن في الآثار الأُوَل كلها أنه صلاها عند غروب الشمس، وقد ذهب قوم إلى خلاف ذلك، فقالوا: أول وقت المغرب حين يطلع النجم، واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، عن خير بن نعيم، عن ابن هبيرة الشيباني، عن أبي تميم الجيشاني، عن أي بصرة الغفاري قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة العصر بالمحمض فقال: إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها؛ فمن حافظ منكم أوتي أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أي حبيب، عن خير بن نعيم الحضرمي ... ثم ذكر مثله بإسناده غير أنه لم يقل: بالمحمض وقال: "لا صلاة بعدها حتى يُرى الشاهد والشاهد: النجم". فقالوا: طلوع النجم هو أول وقتها. ش: أراد بالآثار الأُول: الأحاديث التي سبق ذكرها في أول الباب، وأراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح ووهب بن منبه؛ فإنهم قالوا: أول وقت المغرب حين طلوع النجم، واحتجوا في ذلك بحديث أبي بصرة الغفاري -بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة- واسمه حميل -بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف- وقيل: جميل -بالجيم- والأول هو الصحيح وحميل بن بصرة -بالباء أيضًا- بن وقاص بن حاجب بن غفار الغفاري الصحابي. وأخرج الطحاوي حديث أبي بصرة من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن خير بن نعيم بن مرة أبي نعيم المصري قاضي مصر وَبَرقة، عن عبد الله بن هبيرة بن أسعد السبائي المصري، نسبته إلى سباء -بفتح السين مقصور مهموز مصروف وغير مصروف- وهو أبو اليمن واسمه عامر ويقال عبد شمس

وكان أول من سَبَا في العرب سباءً والهمزة فيه على هذا ملحقة، وزيدت المدة في النسبة كما يقال في النسبة إلى طيء: طائي، وهو يروي عن أبي تميم واسمه عبد الله ابن مالك الرعيني المصري، ونسبته إلى جيشان -بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- بن عبدان بن حجر بن ذي وعن الحميري. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن يعقوب بن إبراهيم المدني، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، عن محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب سويد الأزدي المصري، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم، عن أبي بصرة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا من طريقين: الأول: عن قتيبة، قال: نا الليث، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - العصر بالمحمض فقال: إن هذه الصلاة عُرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم". وأخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة أيضًا نحوه إسنادًا ومتنًا. والثاني: عن زهير بن حرب (1)، عن يعقوب بن إبراهيم إلى آخره. قوله: "بالمحمض" بفتح الميمن وسكون الحاء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الموضع الذي ترعى فيه الإبل الحمض، والحمَض في النبات كالرمث والأثل والطرفاء ونحوها والخلة من النبت ما كان حلوًا: تقول العرب: الخلة: خبز الإبل، والحمَض فاكهتها، ويقال: لحمها، والجمع الحموض، والرمث -بكسر الراء وسكون الميم وفي آخره شاء مثلثة- مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحمض. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 568 رقم 829). (¬2) "المجتبى" (1/ 259 رقم 521).

قوله: "أوتي "أي أعطي. قوله: "حتى يطلع الشاهد" قد فسر في الحديث أنه النجم؛ سمى به لأنه يشهد بالليل: أي يحضر ويظهر، ومنه قيل لصلاة المغرب: صلاة الشاهد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله -: وكان قوله عندنا والله أعلم: "ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد" قد يحتمل أن يكون هذا هو آخر قول النبي - عليه السلام - كما ذكره الليث، ويكون الشاهد هو الليل، ولكن الذي رواه غير الليث تأول أن الشاهد هو النجم، فقال ذلك برأيه لا عن النبي - عليه السلام -، وقد تواترت الآثار عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمسي بالحجاب. ش: أشار بهذا الجواب عما قال هؤلاء: إن قوله: "ولا صلاة بعدها حتى يُرى الشاهد". لا يخلو إما أن يكون من كلام النبي - عليه السلام - في آخر قوله، أو لم يكن، فإن كان من كلامه كما هو في رواية الليث بن سعد يكون المراد من الشاهد هو الليل، فنحن أيضًا نقول: لا صلاة بعد العصر حتى يدخل الليل؛ لأن دخول الليل بغروب الشمس، وإن لم يكن من كلام النبي - عليه السلام - كما رواه غير الليث، وأول الشاهد بالنجم، فلا يعمل به؛ لأنه ليس من النبي - عليه السلام -، على أن الآثار قد تواترت وتكاثرت أن النبي - عليه السلام - كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب أي إذا غابت. فإن قيل: إذا كانت الزيادة عن ثقة؛ يعمل بها. قلت: نعم يعمل بها حينئذ إذا لم تخالفها الآثار الصحيحة، وقد تكاثرت الآثار الصحيحة أنه - عليه السلام - كان يصلي المغرب عقيب غروب الشمس وحث أمته على العجيلة حيث قال: "لا تزال أمتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم".

أخرجه أبو داود (¬1)، والحاكم في "مستدركه" (¬2) وقال: صحيح على شرط مسلم. ص: حدثنا فهد، قال ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية قال: "دخلت أنا ومسروق على عائشة - رضي الله عنها - فقال مسروق: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد - عليه السلام - كلاهما لا يألو عن الخير، أما أحدهما فيعجل المغرب ويعجل الأفطار، والآخر يؤخر المغرب حتى تبدو النجوم ويؤخر الإفطار -يعني- فقالت. أيهما كان يعجل الصلاة والإفطار؟ قال: عبد الله، قالت عائشة - رضي الله عنها -: كذلك كان يفعل رسول الله - عليه السلام -". ش: هذا وما بعده من الآثار بيان لقوله: "وقد تواترت الآثار عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب". وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. والأعمش هو سليمان، وعمارة هو ابن عمير التيمي الكوفي، وأبو عطية الوداعي الهمداني الكوفي اسمه مالك بن أبي حُمْرة -وقيل: مالك بن عامر، وقيل: عمرو- ابن جندب وقيل: غير ذلك والله أعلم. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى وأبو كريب محمد بن العلاء، [قالا] (¬4): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية قال: "دخلت أنا ومسروق على عائشة - رضي الله عنها - فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد - عليه السلام - أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله -يعني ابن مسعود- قالت: كذلك كان يصنع رسول الله - عليه السلام -". زاد أبو كريب: "والآخر أبو موسى". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 113 رقم 418). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 303 رقم 685). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 771 رقم 1098). (¬4) في "الأصل، ك،: "قال"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وأخرجه الترمذي (¬2): عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) من طرق متعددة. قوله: "رجلان" مبتدأ تخ - صلى الله عليه وسلم - بالصفة؛ لأن التقدير: رجلان كانا من أصحاب محمد - عليه السلام -. وقوله: "كلاهما" مبتدأ ثان، وخبره قوله: "لا يألو" والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعنى لا يألو: لا يقصر من أَلى يألو: إذا قَصَّر وأبطأ. قوله: "حتى تبدو النجوم" أي حتى تظهر. قوله: "يعني: أبا موسى" بيان لقوله: "والآخر يؤخر المغرب" وهو أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس. قوله: "قال: عبد الله" أي قال مسروق: الذي يعجل الصلاة والإفطار هو عبد الله بن مسعود. وفيه: دلالة على أن وقت المغرب عقب غروب الشمس، واستحباب تعجيل الإفطار. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: أخبرني بشير بن أي مسعود، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 305 رقم 2354). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 83 رقم 702). (¬3) "المجتبى" (4/ 143 - 144 رقم 2158 - 2161).

ش: إسناده صحيح ورواته ثقات، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وبشير -بفتح الباء الموحدة وكسر السنن المعجمة- بن أبي مسعود الأنصاري المدني قيل: إنه له صحبة، وذكره في "الكمال" من التابعين، قال: وقيل: إن له صحبة، ولكن لم يثبت سماعه من النبي - عليه السلام -. وأبوه أبو مسعود البدري اسمه عقبة بن عمرو الصحابي من أهل العقبة. وأخرجه الطبراني (¬1) مطولًا: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح (ح). وثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي، نا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب: "أنهم كانوا على كراسي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ومعهم عروة بن الزبير، فدعاه المؤذن لصلاة العصر فأمسى قبل أن يصليها، فلما رجعوا قال عروة بن الزبير: هل شعرت أن جبريل - عليه السلام - نزل على رسول الله - عليه السلام - فصلى معه وأخبره بوقت الصلاة؟ فقال عمر: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال عروة عند ذلك: أخبرني بشر بن أبي مسعود الأنصاري، عن أبي مسعود، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: نزل عليَّ جبريل - عليه السلام - فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، فرأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي الهاجرة حين تزيغ الشمس وربما أخرها في شدة الحر، والعصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب إذا وجبت الشمس، ويصلي العشاء إذا اسود الأفق، ويصلي الصبح بغلس ثم صلاها يومًا فأسفر بها، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله". قوله: "إذا وجبت الشمس" أي إذا سقطت للغروب، من الوجوب وهو السقوط. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 259 رقم 716).

سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس". ش: إسناده صحيح ورواته رواة الصحيح ما خلا ابن مرزوق، ومحمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن يقول: "لما قدم الحجاج بن يوسف كان يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن وقت الصلاة، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر بالهجير أو حين تزول، ويصلي العصر والشمس مرتفعة، ويصلي المغرب حين تغرب الشمس، ويصلي العشاء يؤخر أحيانًا ويعجل أحيانًا، إذا اجتمع الناس عَجَّل، وإذا تأخروا أَخَّر، وكان يصلي الصبح بغلس أو قال: كانوا يصلونها بغلس" قال أبو داود: هكذا قال شعبة. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: "كنا نصلي المغرب مع رسول الله - عليه السلام - إذا توارت بالحجاب". ش: إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة قال: "كنا نصلي مع النبي - عليه السلام - المغرب إذا توارت بالحجاب". ومسلم (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا حاتم -وهو ابن أبي إسماعيل- عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب". ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 238 رقم 1722). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 205 رقم 536). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 441 رقم 636).

وأبو داود (¬1): ثنا عمرو بن علي، ثنا صفوان بن عيسى، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها". والترمذي (¬2): عن قتيبة ... نحو مسلم. وابن ماجه (¬3): نا يعقوب بن حميد بن كاسب، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع: "أنه كان يصلي مع النبي - عليه السلام - المغرب إذا توارت بالحجاب". قوله: "إذا توارت بالحجاب" أي استترت، من التواري وهو الاستتار، والحجاب: الأفق، أي إذا غابت الشمس في الأفق واستترت به، ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر، لقيام القرائن على أن المراد بما يوسف بالتواري بالحجاب هو الشمس كما في قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬4) ". إذْ قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} (¬5) قرينة على أن المراد من قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (1) هو الشمس، مع وجود القرينة الحالية أيضًا. ص: وقد روي ذلك أيضًا عمن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة قال: "قال عمر - رضي الله عنه -: صلوا هذه الصلاة -يعني المغرب- والفجاج مسفرة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 113 رقم 417). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 304 رقم 164). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 225 رقم 688). (¬4) سورة ص، آية: [32]. (¬5) سورة ص، آية: [31].

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمران ... بإسناده مثله. وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن عمران ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن المهاجر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى أن صلِّ المغرب حين تغرب الشمس". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أهل الجابية أن صلوا المغرب قبل أن تبدو النجوم". حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: ثنا إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صلى عبد الله بأصحابه صلاة المغرب فقام أصحابه يتراءون الشمس، فقال: ما تنظرون؟ فقالوا: ننظر أغابت الشمس، فقال عبد الله: هذا والله الذي لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، ثم قرأ عبد الله {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬1) وأشار بيده إلى المغرب فقال: هذا غسق الليل، وأشار بيده إلى المطلع فقال: هذا دلوك الشمس" قيل: حدثكم عمارة أيضًا قال: نعم. حدثنا روح بن الفرح، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الرحمن بن يزيد: "صلى ابن مسعود - رضي الله عنه - بأصحابه المغرب حين غربت الشمس، ثم قال: هذا -والله الذي لا إله إلا هو- وقت هذه الصلاة". ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [78].

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله مثله. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال حين غربت الشمس: "والذي لا إله إلا هو إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ثم قرأ عبد الله تصديق ذلك من كتاب الله -عز وجل-: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) قال: ودلوكها حين تغيب، وغسق الليل: حين تظلم، والصلاة بينهما". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن لبيبة، قال: قال لى أبو هريرة - رضي الله عنه -: "متى غسق الليل؟ قلت: إذا غربت الشمس، قال: فأحدر المغرب في إثرها ثم أحدرها في إثرها". حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: "رأيت عمر وعثمان - رضي الله عنهما - يصليان المغرب في رمضان إذا أبصر إلى الليل الأسود، ثم يفطران بعد". قال أبو جعفر -رحمه الله -: فهؤلاء أصحاب النبي - عليه السلام - لم يختلفوا أن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وهذا هو النظر أيضًا؛ لأنا قد رأينا دخول النهار وقت لصلاة الصبح، فكذلك دخول الليل وقت لصلاة المغرب، وهو قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد وعامة الفقهاء -رحمه الله -. ش: أي قد روي ما ذكرنا من أن وقت المغرب عقب غروب الشمس أيضًا عن الصحابة، فأخرج ذلك عن أربعة منهم، وهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن عفان - رضي الله عنهم -. أما أثر عمرا فقد أخرجه من خمس طرق حسان جياد:

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي نزيل مصر وثقه ابن يونس، عن زهير بن معاوية بن حديج الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة من رجال الجماعة، عن عمران بن مسلم المنقري البَّصري -بالنون- القصير من رجال الجماعة غير ابن ماجه، عن سويد بن غفلة بن عوسجة الكوفي أدرك الجاهلية وقدم المدينة حين فرغت الأيدي من دفن رسول الله - عليه السلام -. وقد روي أنه صلى مع النبي - عليه السلام - والأول أثبت، وهو من رجال الجماعة. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، يعني المغرب". قوله: "الفجاج مسفرة" جملة اسمية وقعت حالًا، والفجاج جمع فج، وهي الطريق الواسع منه: "كل فجاج مكة منحر" (¬2). قوله: "مسفرة" أي مضيئة، من أسفر: إذا أضاء وانكشف، وأراد به تعجيل المغرب قبل وقوعه في الغلس. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن الثوري، عن عمران بن مسلم الجعفي، عن سويد بن غفلة قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: "صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، للمغرب". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 289 رقم 3321). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" (2/ 193 رقم 1937)، و (2/ 297 رقم 2324). وابن ماجه في "سننه" (2/ 1013 رقم 3048) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 553 رقم 2092).

الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عمران بن مسلم، عن سويد، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر الحوضي واسمه حفص بن عمر وقد تكرر ذكره، عن يزيد بن إبراهيم التستري البصري، عن محمَّد بن سيرين، عن المهاجر -غير منسوب- ذكره ابن أبي حاتم وقال: المهاجر بصري روى عن عمر بن الخطاب، روى عنه محمد بن سيرين سمعت أبي يقول ذلك، وسكت عنه. قوله: "كتب إلى أبي موسى" وهو عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمله على الكوفة والبصرة. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار المصري، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الأحمسي الكوفي من رجال الجماعة، عن سعيد بن المسيب، أن عمر - رضي الله عنه - إلى آخره. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": رأى سعيد بن المسيب عمر - رضي الله عنه - وسمع منه، وهو من سادات التابعين. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن طارق، عن سعيد بن المسيب قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يكتب إلى أمراء الأمصار: أن لا تنتظروا بصلاتكم إلى اشتباك النجوم". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن ابن المسيب قال: "كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الأمصار: أن لا تكونوا من المسوفين بفطركم، ولا المنتظرين بصلاتكم إلى اشتباك النجوم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 289 رقم 3322). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 552 رقم 2093).

قوله: "إلى أهل الجابيه" وهي مدينة بالشام، وإليها ينسب باب من أبواب دمشق فيقال: باب الجابية. قدم إليها عمر بن الخطاب، بعد أن فتحها الصحابة أيامه. وأما أثر عبد الله بن مسعود فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص أحد مشايخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) بإسناده: عن الأعمش، عن إبراهيم وعمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان ابن مسعود يصلي المغرب ونحن نرى أن الشمس طالعة، قال: فنظرنا يومًا إلى ذلك، فقال: ما تنظرون؟ قالوا: إلى الشمس، فقال عبد الله: هذا والله الذي لا إله إلا هو ميقات هذه الصلاة، ثم قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬2) فهذا دلوك الشمس". قوله: "هل حدثكم عمارة أيضًا؟ قال: نعم" أراد أنهم سألوا الأعمش أن أثر ابن مسعود هذا حدثكم به عمارة أيضًا؟ قال: نعم. وأخرجه الطبراني (¬3) بهذا الإسناد: ثنا محمد بن علي الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صلى عبد الله ذات يوم، فجعل رجل ينظر، هل غابت الشمس؟ فقال: ما تنتظرون؟! هذا والذي لا إلى غيره ميقات هذه الصلاة، فيقول الله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) فهذا دلوك الشمس، وهذا غسق الليل". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 370 رقم 1608). (¬2) سورة الإسراء، آية: [78]. (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 231 رقم 9132).

قوله: "يتراءون الشمس" أراد أنهم نظروا إلى الشمس هل غابت أم لا؟ وفسر غيره الدلوك بزوال الشمس، وقال الزمخشري: دلكت الشمس: غربت، وقيل: زالت، وروي عن النبي - عليه السلام -: "أتاني جبريل - عليه السلام - لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر واشتقاقه من الدلك؛ لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك: الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء. الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. وأخرج الطبراني (¬1): ثنا محمد بن علي الصائغ، نا سعيد بن منصور، ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن قال: "كنا مع عبد الله بن مسعود، فلما غربت الشمس قال: هذا والذي لا إله غيره حيث دلكت وحل وقت الصلاة". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق [بن] (¬2) الأجدع، عن عبد الله بن مسعود. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى الوهبي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود. قوله: "لميقات هذه الصلاة" أي لوقت هذه الصلاة، وهي صلاة المغرب، و"اللام" فيه للتأكيد، وهي مفتوحة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 231 رقم 9133). (¬2) سقط من "الأصل، ك".

قوله: "تصديق ذلك" أي تصديق ما قاله ابن مسعود. قوله: "والصلاة بينهما" أي وقت الصلاة، أي وقت صلاة المغرب بين الدلوك والغسق، أراد: وقت المغرب بين غروب الشمس إلى ظلمة الليل وهي غروب الشفق. وأما أثر أبي هريرة: فأخرجه عن إبراهيم بن داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبي عمرو الحمصي أحد مشايخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- بن سليم الشامي الحمصي العنسي -بالنون- فيه خلاف، فضعفه النسائي وابن حبان، ووثقه الفسوي، ولينه أبو حاتم. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاريّ -بتشديد الياء- المكي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. عن عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي الحجازي، وثقه ابن حبان. قوله: "متى غسق الليل" أراد متى يكون الليل في الغسوق؟ يعني في الظلمة من غَسَقَ يَغْسق غسوقًا فهو غاسق إذا أظلم، وأغسق مثله، وأجاب بأن الغسوق يكون بغروب الشمس. قوله: "فأحدر المغرب" أي أسرعها، من حدر إذا أسرع يقال: حدر في قراءته وأذانه يحدر حدرًا، وهو من الحدور ضد الصعود، يتعدى ولا يتعدى. قوله: "في إثرها" أي في عقب غروب الشمس، أراد لا تؤخر صلاة المغرب عن عقب غروب الشمس، وإنما أيد الضمير في "إثرها" وإن كان يرجع إلى الغروب الذي يدل عليه قوله: "إذا غربت الشمس" باعتباره ملاحظة الشمس، أو باعتبار معنى الرؤية فافهم. وأما أثر عثمان - رضي الله عنه - الذي فيه عمر أيضًا، فأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أسد بن موسى أسد السنة، وثقه ابن يونس.

عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب من رجال الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن سعد في ترجمة حميد بن عبد الرحمن (¬1) وقال: روى عن مالك، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن: "أن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - كانا يصليان المغرب في رمضان ثم يفطران". ورواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد قال: "رأيت عمر وعثمان يصليان" قال محمد بن عمر: وأثبتها عندنا حديث مالك وأن حميد لم يَرَ عمر - رضي الله عنه - ولم يسمع منه شيئًا، وسنُّه وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله، وكان يدخل عليه كما يدخل ولده صغيرًا أو كبيرًا. قوله: "وهذا هو النظر أيضًا" أي كون وقت المغرب عقب الغروب هو النظر والقياس، وهو ظاهر. قوله: "وعامة الفقهاء" نحو الثوري والنخعي والأوزاعي والشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وجماهير الفقهاء من بعدهم -رحمهم الله-. ص: واختلف الناس في خروج وقت المغرب، فقال قوم: إذا غاب الشفق -وهو العمرة- خرج وقتها، وممن قال ذلك: أبو يوسف ومحمد. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري وابن أبي ليلى وطاوسًا ومكحولًا والحسن بن حيّ والأوزاعي والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وداود بن علي، فإنهم قالوا: الشفق هو الحمرة، ولا يخرج وقت المغرب إلا بخروج الحمرة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن أحمد: أنه البياض في البنيان، والحمرة في ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (5/ 154).

الصحاري. وعن بعضهم: الشفق اسم للحمرة والبياض معًا إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقاني، وأبيض ليس بناصع. ص: وقال آخرون: إذا غاب الشفق -وهو البياض الذي بعد الحمرة- خرج وقتها، وممن قال ذلك: أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن المبارك والأوزاعي -في رواية- ومالكًا -في رواية- وزفر بن الهذيل وأبا ثور والمبرد والفراء؛ فإنهم قالوا: لا يخرج وقت المغرب حتى يغيب الشفق الأبيض، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - وإليه ذهب أبو حنيفة. ص: وكان النظر عندنا في ذلك: أنهم قد أجمعوا أن العمرة التي قبل البياض من وقتها وإنما اختلافهم في البياض الذي بعده، فقال بعضهم: حكمه خلاف حكم العمرة، فنظرنا في ذلك فرأينا الفجر تكون قبله حمرة، ثم يتلوها بياض الفجر، فكانت العمرة والبياض في ذلك وقتًا لصلاة واحدة وهو الفجر، فإذا خرجا خرج وقتها، فالنظر على ذلك: أن يكون البياض والحمرة في المغرب أيضًا وقتًا لصلاة واحدة وحكمهما حكم واحد إذا خرجا خرج وقتا الصلاة اللذان هما وقت لها. ش: ملخص هذا: أن الشفق يطلق على العمرة والبياض كما قال بعض أهل اللغة، فلا يخرج وقت المغرب إلا بذهاب الحمرة والبياض جميعًا، ودل كلامه أيضًا أنه اختار أن يكون خروج المغرب بذهاب العمرة والبياض جميعًا، قياسًا على حمرة الفجر وبياضه، والله أعلم. ص: وأما العشاء الآخرة فإن تلك الآثار كلها فيها أن رسول الله - عليه السلام - صلاها في أول يوم بعد ما غاب الشفق إلا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فإنه ذكر أنه صلاها قبل أن يغيب الشفق فيحتمل ذلك عندنا -والله أعلم- أن يكون جابر عني الشفق الذي هو البياض، وعني الآخرون الشفق الذي هو الحمرة، فيكون قد صلاها بعد غيبوبة

الحمرة وقبل غيبوبة البياض حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد [و] (¬1) في ثبوت ما ذكرنا ما يدل على ما قال من قال: إن بعد غيبوبة العمرة وقت للمغرب إلى أن يغيب البياض. ش: هذا عطف على قوله: "وأما وقت المغرب" وأراد بتلك الآثار التي رواها عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وبريدة بن الحصيب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم - رضي الله عنهم - فإنهم كلهم رووا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء الآخرة بعد ما غاب الشفق، إلا جابر بن عبد الله فإنه ذكر أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق، فبين الروايتين تعارض وتضاد ظاهرًا، ودفع ذلك أن نقول: إنه يحتمل أن يكون جابر - رضي الله عنه - أراد من الشفق الذي هو البياض، ويكون معنى كلامه أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق الأبيض بعد غيبوبة الشفق الأحمر، ويكون غيره أراد من الشفق هو الحمرة، ويكون معنى كلامهم أنه صلاها بعد غيبوبة الشفق الأحمر وقبل غيبوبة الشفق الأبيض، فحينئذ تتفق الروايتان ويرتفع التعارض. قوله: "وفي ثبوت ما ذكرنا ... " إلى آخره إشارة إلى تقوية قول أبي حنيفة أن الشفق هو البياض، وذلك لأنه قد ثبت أنه - عليه السلام - قد صلى العشاء الآخرة في اليوم الأول في كلتا الروايتين بعد غيبوبة الشفق الأحمر، فدل ذلك على أن ما بعد غيبوبة الأحمر وقت للمغرب إلى غيبوبة الأبيض. قوله: "ما يدل" محله الرفع بالابتداء، وخبره قوله "وفي ثبوت ما ذكرنا". قوله: "على ما قال" يتعلق بقوله: "يدل" وقوله: "من قال" في محل الرفع لأنه فاعل "قال" الذي في قوله: "ما قال" فافهم. ص: وأما آخر وقت العشاء الآخرة ة فإن ابن عباس وأبا سعيد وأبا موسى - رضي الله عنهم - ذكروا أن النبي - عليه السلام - أخرها إلى ثلث الليل ثم صلاها، وقال جابر بن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

عبد الله: صلاها في وقت قال بعضهم: هو ثلث الليل، وقال بعضهم: هو نصف الليل، فأحتمل أن يكون صلاها قبل مضي الليلة فيكون مضي الثلث هو آخر وقتها واحتمل أن يكون صلاها بعد الثلث فيكون قد بقيت بقية من وقتها بعد خروج الثلث، فلما احتمل ذلك نظرنا فيما روي في ذلك. فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: أنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت العشاء حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس". حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا، الخصيب بن ناصح، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - قال: "وقت العشاء إلى نصف الليل". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو -قال شعبة: حدثنيه ثلاث مرار رفعه مرة ولم يرفعه مرتين- ثم ذكر مثله. فثبت بهذه الآثار أن ما بعد ثلث الليل أيضًا هو وقت من وقت العشاء الآخرة. ش: تحرير هذا أن ابن عباس وأبا سعيد الخدري وأبا موسى الأشعري ذكروا في أحاديثهم أن النبي - عليه السلام - أخر العشاء الآخرة إلى ثلث الليل ثم صلاها، وأن جابر بن عبد الله قال: إنه صلاها في وقت فاختلفوا فيه، فقيل: هو ثلث الليل، وقيل: هو نصف الليل، فاحتمل أن يكون - عليه السلام - صلاها قبل مُضي الثلث فيكون مُضي ثلث الليل هو آخر وقت العشاء، واحتمل أن يكون صلاها بعد الثلث فيكون قد بقيت بقية من ذلك العشاء الآخرة بعد خروج الثلث، فلما احتمل؛ نظرنا، فوجدنا حديث

أبي هريرة: "وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل". يدل على أن ما بعد ثلث الليل أيضًا وقت من وقت العشاء الآخرة وكذلك حديث عبد الله بن عمرو: "وقت العشاء إلى نصف الليل" يدل على ذلك كذلك. هذا حاصل كلامه. قلت: اختلفت الرواية في آخر وقت العشاء الآخرة، ففي حديث عمرو بن العاص: وقتها إلى نصف الليل الأوسط، وفي رواية بريدة: "أنه صلى في اليوم الثاني بعد ما ذهب ثلث الليل". وفي رواية: "عندما ذهب ثلث الليل". ومثله في حديث أبي موسى: "حين كان ثلث الليل". وفي حديث جبريل - عليه السلام -: "حين ذهب ساعة من الليل" وفي رواية ابن عباس: "إلى ثلث الليل". وفي حديث أبي برزة: "بعد هذا إلى نصف الليل أو ثلثه". وقال مرة: "إلى نصف الليل". ومرة: "إلى ثلث الليل". وفي حديث أنس: "بعد هذا شطره". وفي حديث ابن عمر: "حتى ذهب ثلثه". واختلف في الحديث عن جابر، فقيل: إلى شطره، وقيل: إلى ثلثه. وجاء في "الأم": بعد هذا عنه: "إذا اجتمعوا عَجَّلَ وإذا أبطأوا آخَّرَ". وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: "حتى ذهب عامة الليل". واختلف العلماء بحسب هذا فقال عياض: وبالثلث قال مالك والشافعي في قول، وبالنصف قال أصحاب الرأي وأصحاب الحديث والشافعي في قول، وابن حبيب من أصحابنا، وعن النخعي الربع، وهو نحو من قوله في الحديث: "بعد ساعة من الليل" وقيل: وقتها إلى طلوع الفجر، وهو قول داود، وهذا عند مالك وقت الضرورة لها، واختلف في وقت الوجوب وتعيين الخطاب على المصلي في أوقات هذه الصلوات، مذهب المالكية: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وأن الجميع وقت موسع للوجوب، وحكى ابن القصار هذا عن الشافعي، واختار بعض أصحابنا أن وقت الوجوب منه متعين، وإنما يعينه المكلف بفعله، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التأخير عن أول الوقت لا يبدل وهو العزم، وأجاز غيره تركها بغير بدل -لتوسعه وقتها- إلى أن يبقى من الوقت مقدار ما تفعل فيه فيتعين، وذهب

الشافعي إلى أن وقت الوجوب أوله، وإنما ضرب آخره فصلًا بين الأداء والقضاء، ويُعَارَض هؤلاء بأن التأثيم يتعلق بترك الواجب، ولا يؤثم أحد تارك الصلاة لأول الوقت، وذهب الحنفية إلى أن الوجوب متعلق بآخره، ويُعارَض هؤلاء بالإجماع إلى جواز الصلاة لأول الوقت. وسقوطها عمن صلاها حينئذ ولو كانت لم تجب؛ لم تجزئ كما لا تجزئ قبل الوقت انتهى. قلت: مذهب الحنفية ليس كما ذكره، وإنما عندهم أن الوجوب يتعلق بكل الوقت، ولكن لا يتعين منه إلا الجزء الذي يتصل به الأداء، فإن اتصل الأداء بالجزء الأول كان هو السبب، وإلا تنتقل السببية إلى الجزء الثاني، ثم إلى الثالث، ثم ... وثم ... إلى آخر جزء من أجزاء الوقت بحيث يتمكن من عقد التجزئة فتتعين السببية فيه ضرورة أنه لم يبق من الأجزاء ما يحتمل انتقال السببية إليه فيعتبر حال المكلف في الإسلام والبلوغ والعقل والجنون والسفر والإقامة والطهر والحيض عند ذلك الجزء في حدوث العوارض المذكورة، حتى لو أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض في آخر الجزء تكره الصلاة عندنا خلافًا لزفر فإن عنده تنتقل السببية من جزء إلى جزء إلى أن يتضيق الوقت بحيث يتمكن المكلف من الأداء، حتى لا يجب على هؤلاء شيء عنده ما لم يجدوا وقتًا تسع فيه حقيقة الأداء. ثم حديث أبي هريرة قد ذكره الطحاوي في هذا الباب مرتين غير هذا بهذا الإسناد بعينه، ولكنه قَطَّع حديثه؛ تطبيقًا للدليل على المدعى واقتصارًا عليه، وكذلك ذكر حديث عبد الله بن عمرو في هذا الباب بعينه بهذا الإسناد، وقد بينا رجالهما ومن أخرجهما من أصحاب السنن هناك. ص: وقد روى في ذلك أيضًا ما يدل على ذلك. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا الحسن بن عمر بن شقيق، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "مكثنا ذات ليلة ننتظر النبي - عليه السلام - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل -أو

بعده- فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي؛ لصليت بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلاها". ش: أي قد روي أيضًا في كون ما بعد الليل وقتًا من وقت العشاء الآخرة ما يدل عليه، وهو حديث ابن عمر. قوله: "حدثنا" بيان لذلك، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ومنصور هو ابن المعتمر الكوفي، والحكم هو ابن عتيبة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -قال إسحاق: أخبرنا، وقال زهير-: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: "مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - عليه السلام - لصلاة العشاء الآخرة؛ فخرج حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور ... " إلى آخره نحوه. والنسائي (¬3): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور ... إلى آخره نحوه. وقال البخاري (¬4): ثنا محمود، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني نافع،: قال ثنا عبد الله بن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا، ثم رقدنا ثم استيقظنا، ثم خرج علينا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 442 رقم 639). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 51 رقم 199). (¬3) "المجتبى" (2/ 267 رقم 537). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 208 رقم 545).

النبي - عليه السلام - ثم قال: ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم. وكان ابن عمر لا يبالي أقدمها أم أخرها إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها وكان يرقد قبلها". قوله: "لصلاة العشاء" أي لأجل إقامة صلاة العشاء الآخرة. قوله: "أو بعده" أي أو بعد الثلث وأراد به الثلث الأول منه. قوله: "أشيء شغله" أي منعه عن الخروج في أول وقتها، والهمزة فيه للاستفهام. قوله: "هذه الساعة" إشارة إلى الساعة التي تلي الثلث الأول من الليل. ويستفاد منه: أن ما بعد ثلث الليل الأول وقت من وقت العشاء الآخرة، وأن فيه حجة على من فضل التقديم؛ وذلك لأنه نبه على فضل التأخير بقوله: "لولا أن يثقل" وصرح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، وأنه - عليه السلام - خشى أن يواظب عليه فتفرض عليهم، أو يتوهموا إيجابه؛ فلهذا تركه، كما ترك صلاة التراويح وعلل تركها بخشية إفتراضها والعجز عنها. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا الحسين بن علي، عن زائدة عن سليمان، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "جهز رسول الله - عليه السلام - جيشًا، حتى إذا انتصف الليل أو بلغ ذلك خرج إلينا، فقال: صلى الناس ورقدوا وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا، واسم أبي بكر بن أبي شيبة عبد الله، واسم أبي شيبة محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي الحافظ، شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه. وزائدة هو ابن قدامة، وسليمان هو الأعمش، وأبو سفيان اسمه طلحة بن نافع القرشي الواسطي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حسين بن علي ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 353 رقم 4069).

وفيه دلالة صريحة على أن ما بعد ثلث الليل وقت من وقت العشاء الآخرة، وفيه حجة لمن يرى تأخير العشاء عن أول وقتها. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أعتم رسول الله - عليه السلام - ليلة بالعتمة حتى ناداه عمر - رضي الله عنه - فقال: نام النساء والصبيان، فخرج النبي - عليه السلام - فقال: ما ينتظرنا أحد من أهل الأرض غيركم، ولا يُصلَّى يومئذ إلا بالمدينة، ثم قال: وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب غسق الليل إلى ثلث الليل". - صلى الله عليه وسلم - ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأبو اليمان اسمه الحكم بن نافع شيخ البخاري، والزهري هو محمد بن مسلم. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أيوب بن سليمان، قال: حدثني أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: أخبرني ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أعتم رسول الله - عليه السلام - بالعشاء حتى ناداه عمر - رضي الله عنه -: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، قال: ولا يُصلَّى يومئذ إلا بالمدينة، قال: وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو بن سواد العامري وحرملة بن يحيى، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، أن ابن شهاب أخبره، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "أعتم رسول الله - عليه السلام - ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله - عليه السلام - حتى قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - عليه السلام -، فقال لأهل المسجد حين ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 208 رقم 544). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 441 رقم 638).

خرج عليهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس". زاد حرملة في روايته: قال ابن شهاب: وذُكر لي أن رسول لله - عليه السلام - قال: "وما كان لكم أن تُبْرِزوا رسول الله - عليه السلام - للصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني عمرو بن عثمان، قال: ثنا ابن حِمْير، قال: ثنا ابن أبي عَبْدة، عن الزهري. قال: وأخبرني عمرو بن عثمان، قال: حدثني أبي، عن شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "أعتم رسول الله - عليه السلام - ليلة بالعتمة، فناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - عليه السلام - فقال: ما ينتظرها غيركم، ولم يُصَلِّ يومئذ إلا بالمدينة- ثم قال: صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل" واللفظ لابن حِمْير. قوله: "أعتم" أي دخل الأول في العتمة، وهي وقت صلاة العشاء، قال الخليل: العتمة هو الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وقد عَتَمَ الليل يَعتم، وعَتْمَتُه: ظلامه. قوله: "غسق الليل" أراد به الشفق، ولهذا جاء في رواية البخاري: "وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول". وكذا في رواية النسائي. وفيه: دلالة على أن ما بعد ثلث الليل وقت من وقت العشاء. وفيه حجة لأبي حنيفة في استحباب التأخير. فإن قيل: هذا لا يدل على أفضلية التأخير لأنه - عليه السلام - أخرها في بعض الأوقات كما في حديث ابن عمر: "مكثنا ذات ليلة" فهذا يدل على أنه لم يكن له عادة، أو يكون لأجل شغل شغله كما في الحديث الآخر: "فلا أدري أشيء شغله في أهله أو غير ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 267 رقم 535).

ذلك". وكما جاء في حديث جابر: "أنه جهز جيشًا". وكما جاء في رواية أخرى: "فخرج ورأسه يقطر ماء". أو يكون إنما أخرها لنوم عليه، أو لشغل آخر من شغل المسلمين. قلت: قوله: "وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها" دليل صريح على أن التأخير أفضل، ولا يبعد أن يكون النبي - عليه السلام - أخرها لأجل الفضيلة، وقد اتفق له ما اتفق مما ذكر، فافهم. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس قال: "أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العتمة إلى قريب من شطر الليل، فلما صلى أقبل علينا بوجهه فقال: إن الناس قد صلوا وناموا ورقدوا، ولم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: ثنا ثابت: "أنهم سألوا أنس بن مالك، كان لرسول الله - عليه السلام - خاتم فضة؟ فقال: نعم، ثم قال: أخر العشاء ذات ليلة حتى كاد يذهب شطر الليل، أو إلى شطر الليل ... ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: أخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الرحيم المحاربي، قال: ثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس قال: "أخر النبي - عليه السلام - صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها". الثاني: أخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو بكر بن نافع العبدي، قال: ثنا بهز بن أسد العمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت: "أنهم سألوا أنسًا عن خاتم رسول الله - عليه السلام -، فقال: أخر رسول الله - عليه السلام - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل أو كاد يذهب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 209 رقم 546). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 443 رقم 640).

شطر الليل، ثم جاء فقال: إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، قال أنس: كأني انظر إلى وبيص خاتمة من فضة ورفع اصبعه اليسرى بالخنصر". قوله: "إلى وبيص" بفتح الواو وكسر الياء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره صاد مهملة، أراد: لمعانه وبريقه. ص: ففي هذه الآثار أنه صلى العشاء بعد ما مضى ثلث الليل؛ فثبت بذلك أن بمضي ثلث الليل لا يخرج به وقتها، ولكن معنى ذلك عندنا -والله أعلم-: أن أفضل وقت العشاء الآخرة التي تُصَلَّى فيه هو من حين يغيب الشفق إلى ثلث الليل، وهو الوقت الذي كان النبي - عليه السلام - يصليها فيه، على ما ذكرنا في حديث عائشة - رضي الله عنها - ثم ما بعد ذلك إلى أن ما يمضي نصف الليل في الفضل دون ذلك؛ حتى لا تتضاد هذه الآثار. ش: أراد بهذه الآثار: التي رواها عن ابن عمر وجابر وعائشة وأنس - رضي الله عنهم - والباقي ظاهر. ص: ثم أردنا أن ننظر، هل بعد خروج نصف الليل من وقتها شيء؟ فنظرنا في ذلك فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب وعبد الله بن عمر وأنس بن عياض، عن حميد الطويل، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "أخرّ النبي - عليه السلام - الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم انصرف فأقبل [علينا] (¬1) بوجهه بعد ما صلى بنا، فقال: قد صلى الناس ورقدوا، ولم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس مثله. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "إلينا"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ففي هذه الآثار أنه صلاها بعد مضي نصف الليل، فذلك دليل أنه قد كانت بقيت من وقتها بقية بعد مضي نصف الليل. ش: لما بيَّن فيما مضى أن بمضي ثلث الليل لا يخرج وقت العشاء ثم ذكر أن ثلث الليل هو الوقت الأفضل، وأن ما بعد ذلك إلى أن يمضي نصف الليل أدنى منه في الفضل؛ شرع يبين ها هنا أن بعد ذهاب نصف الليل أيضًا وقت من وقت العشاء؛ إذ حديث أنس يدل على ذلك صريحًا، وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، وعن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، وعن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، ثلاثتهم عن حميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -. وقد مر أن البخاري (¬1): أخرجه من حديث حميد عن أنس، وفي روايته: "أخر النبي صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه النسائي (¬2): عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن حميد، عن أنس "أنه - عليه السلام - أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ... ". الحديث. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن حميد الطويل، عن أنس. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "المجتبى" (1/ 268 رقم 539).

وأخرجه أحمد (¬1): من حديث حميد، عن أنس: "أنه - عليه السلام - أخر ليلةً العشاء إلى شطر الليل ... " الحديث. ص: وقد روي عنه - عليه السلام - في ذلك أيضًا ما هو أولى من هذا. حدثنا علي بن معبد وأبو بشر الرقي، قالا: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنهما أخبرته عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنهما قالت: "أعتم النبي - عليه السلام - ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، وقال: إنه لولا أن أشق على أمتي". ففي هذا أنه صلاها بعد مضي أكثر الليل، وأخبر أن ذلك وقت لها، فثبت بتصحيح هذه الآثار أن أول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق إلى أن يمضي الليل كله، ولكنه على أوقات ثلاثة: فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صليت فيه، وأما من بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل دون ذلك، وأما بعد نصف الليل دون كل ما قبله. ش: أي قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كون ما بعد نصف الليل وقتًا من وقت العشاء ما هو أولى وأقرب، من حديث أنس - رضي الله عنه - الذي فيه ذكر شطر الليل، وهو حديث عائشة - رضي الله عنها - فإنه يدل على أنس - رضي الله عنه - صلاها بعد ذهاب أكثر الليل؛ لأنها قالت: "حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى". فإن عامة الليل: معظمه وأكثره، ثم إن النبي - عليه السلام - أخبر أن ذلك وقت لها. وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن علي بن معبد بن نوح، وعن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، كلاهما عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن المغيرة بن حكيم الصنعاني، عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 183 رقم 12903).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم، كلاهما عن محمد بن بكر. وحدثني هارون بن عبد الله، قال: ثنا حجاج بن محمد. وحدثني حجاج بن الشاعر ومحمد بن نافع، قالا: ثنا عبد الرزاق -وألفاظهم متقاربة- قالوا جميعًا: عن ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته، عن عائشة قالت: "أعتم رسول الله - عليه السلام - ذات ليلة ... " إلى آخره نحوه سواء، وفي حديث عبد الرزاق: "لولا أن يشق على أمتي ... ". قوله: "أعتم" أي دخل في العتمة، وقد ذكرنا معناه مستوفى عن قريب. قوله: "ذات ليلة" هذا اللفظ وقولهم "ذات يوم" و"ذا يوم" و"ذا ليلة" كلها كناية عن يوم وليلة، والمعنى: أعتم رسول الله - عليه السلام - مدة التي هي ليلة. قوله: "إنه لوقتها" أي إن هذا الوقت لوقت العشاء الآخرة، و"اللام" في "لوقتها" للتأكيد، وهي مفتوحة. قوله: "لولا أن أشق" أي أثقل وأحرج، وجواب "لولا" محذوف يدل عليه: "إنه لوقتها" والتقدير: لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقتها هذا الوقت كل وقت، ولكن تركه لوجود المشقة وإنما قلنا كذا لأن "لولا" لانتقاء الثاني لوجود الأول، نحو لولا زيد لهلك عمرو؛ فإن هلاك عمرو منتفٍ لوجود زيد، وكذلك ها هنا وجوب التأخير إلى هذا الوقت منتفٍ لوجود المشقة، وأما "لو" فإنه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول، نحو لو جئتني لأكرمتك؛ فإن الإكرام منتفٍ لانتفاء المجيء. فإن قيل: كان ينبغي أن تكون سنية التأخير كنية السواك حيث قال - عليه السلام -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 442 رقم 638).

رواه الترمذي (¬1)، والنسائي (¬2): وذلك لأن الأمر بالسواك وتأخير العشاء كلاهما منتفيان لوجود المشقة، ومع هذا السواك سنه وتأخير العشاء وكلاهما لوجود المشقة ومع هذا السواك سنة وتأخير العشاء مستحب. قلت: لم تثبت سنية السواك بعد هذا إلا بمواظبته - عليه السلام -، ولولاها لقلنا باستحبابه أيضًا، ولم توجد المواظبة في تأخير العشاء، فلم تثبت السنية فبقي مستحبًا. وجواب آخر: أنه قال في السواك: "لأمرتهم". وهو للوجوب، ولكن امتنع الوجوب لعارض المشقة فيكون سنة، وأما في التأخير فقد قال: "لأخرت" وفعله مطلقًا يدل على الاستحباب أو الوجوب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 35 رقم 23). (¬2) "المجتبى" (1/ 266).

ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو؟

ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم كيفية الجمع بين الصلاتين، وهل يجوز ذلك أم لا؟ فإذا جاز كيف يجمع ومتى الجمع؟ ولما كان متعلقًا بالأوقات؛ ذكره عقيب باب الأوقات. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شُرحبيل، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يجمع بين الصلاتين في السفر". ش: محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي وثقه ابن حبان وروى له الترمذي. وأبوه عمران بن محمد بن أبي ليلى الأنصاري ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه. وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري أبو عبد الرحمن الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، وكان يحيى بن سعيد يُضعفه، وعن يحيى: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بقوي. وروى له الأربعة. وأبو قيس اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي -بفتح الهمزة وسكون الواو- نسبة إلى أود بن صعب قبيلة، الكوفي الأعمى روى له الجماعة سوى مسلم. وهُزيل بن شرحبيل -بضم الهاء والشين المعجمة- الأودي الكوفي الأعمى روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، نا بكر بن عبد الرحمن، قال: نا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن أبي قيس، على الهذيل، عن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - جمع بين الصلاتين في السفر". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 414 رقم 2046).

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد، واحتج به الشافعي وآخرون على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر على ما يجيء بيانه إن شاء الله بعد. والجواب عنه: أن هذا حديث ضعيف، والصحيح عن عبد الله بن مسعود -ما أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) - قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بجمعٍ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها". أو المراد منه: الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، على ما يجيء إن شاء الله. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل، أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أخبره: "أنهم خرجوا مع النبى - عليه السلام - عام تبوك، فكان رسول الله - عليه السلام - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". ش: إسناده صحيح، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي، وأخرجه الجماعة ما خلا البخاري. فمسلم (¬5): عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر، عن معاذ قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا". وأبو داود (¬6): عن القعنبي، عن مالك، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبرهم: "أنهم خرجوا مع رسول الله - عليه السلام - في ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 406 رقم 1598). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 938 رقم 1289). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 193 رقم 1934). (¬4) "المجتبى" (5/ 260 رقم 3027). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 490 رقم 706). (¬6) "سنن أبي داود" (2/ 4 رقم 126).

غزوة تبوك، فكان رسول الله - عليه السلام - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يومًا ثم خرج وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج وصلى المغرب والعشاء جميعًا". والترمليى (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن معاذ بن جبل: "أن النبي - عليه السلام - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخرّ المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب". والنسائي (¬2): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وهو يسمع واللفظ له، عن ابن القاسم، قال: حدثني مالك، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبره: "أنهم خرجوا مع رسول الله - عليه السلام - عام تبوك، فكان رسول الله - عليه السلام - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الظهر يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء". وابن ماجه (¬3): عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل: "أن النبي - عليه السلام - جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غزوة تبوك في السفر". قوله: "عام تبوك" أراد به غزوة تبوك، وكانت في سنة تسع من الهجرة، وتبوك -بفتح التاء المثناة، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف- بليدة بين الحجر والشام، وبها عين ونخيل، وقيل: كان أصحاب الأيكة بها. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 438 رقم 553). (¬2) "المجتبى" (1/ 285 رقم 587). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 340 رقم 1070).

قوله: "كان رسول الله يجمع بين الظهر والعصر" يعني كان يؤخر الظهر إلى آخر وقته فيصليها فيه، ثم يصلي العصر في أول وقته، فيكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا، وسيجيء مزيد الكلام فيه مستفيض إن شاء الله. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا قرة بن خالد، عن أبي الزبير، قال: حدثنا أبو الطفيل، قال: ثنا معاذ بن جبل ... فذكر مثله قال: "قلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته". ش: هذا طريق أخر وهو أيضًا صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن حبيب، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا قرة بن خالد، قال: ثنا أبو الزبير، قال: ثنا عامر بن واثلة أبو الطفيل، قال: ثنا معاذ بن جبل قال: "جمع رسول الله - عليه السلام - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته". لوله: "أراد أن لا يحرج" أي أراد النبي - عليه السلام - أن لا يوقع أمته في الحرج، وهو الضيق، وهو من الإحراج. و"أمته" نُصب على المفعولية. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد يحدث، عن ابن عباس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا". حدثنا إسماعيل، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: أنا جابر بن زيد، أنه سمع ابن عباس يقول: "صليت مع النبي - عليه السلام - بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا". قلت لأبي الشعثاء: أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 490 رقم 706).

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس أنه قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر". حدثنا يزيد بن سفيان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا قرة بن خالد، عن أبي الزبير ... فذكر بإسناده مثله. قلت: "وما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا داود بن قيس الفراء، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس ... مثله، غير أنه قال: "في غير سفر ولا مطر". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، على عمران بن حدير، عن عبد الله بن شقيق: "أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخَّر صلاة المغرب ذات ليلة، فقال رجل: الصلاة، الصلاة، فقال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة، وقد كان النبي - عليه السلام - ربما جمع بينهما بالمدينة". ش: هذه سبع طرق عن ابن عباس إلى - رضي الله عنهما - وهي صحاح، ورجالها كلهم ثقات: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أسد بن موسى أسد السنة، على شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء الجوفي -بالجيم- عن عبد الله بن عباس. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو النعمان، قال: ثنا حماد -هو ابن زيد- على عمرو بن دينار، عن جابر، عن زيد، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - صلى بالمدينة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 201 رقم 518).

سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى". وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب ومسدّد، قالا: ثنا حماد، ثنا عمرو بن عون، أنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - بالمدينة ثمانيًا وسبعًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". قوله: "صلى رسول الله - عليه السلام - ثمانيًا جميعًا" أي ثماني ركعات، وأراد بها الظهر والعصر، فإنه جمع بينهما في الحضر، تفسره الرواية الأخرى وهي قوله: "بالمدينة". قوله: "سبعًا جميعًا" أي سبع ركعات، وأراد بها المغرب والعشاء، فإنه جمع بينهما في الحضر أيضًا، والمراد منه أنه جمع بينهما فعلًا لا وقتًا؛ على ما يجيء إن شاء الله. الثاني: عن إسماعيل بن يحيى المزني خال الطحاوي وأكبر أصحاب الشافعي، عن محمد بن إرديس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن زيد الأزدي، أنه سمع ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ... نحو رواية الطحاوي وليس في لفظه: "بالمدينة". قوله: "قلت لأبي الشعثاء" القائل هو عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء كنية جابر ابن زيد، وهذا الكلام يؤيد تأويل الحنفية في قولهم: إنه - عليه السلام - جمع بين الظهرين والعشاءين فعلًا لا وقتًا. فائدة: كل ما قال الشافعي: حدثنا سفيان، المراد منه: هو سفيان بن عيينة؛ لأن الشافعي لم يدرك سفيان الثوري؛ لأن وفاته في سنة خمس وخمسين ومائة، والشافعي مولده في خمسين ومائة، وأما سفيان بن عيينة فإن وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائة بمكة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 6 رقم 1214). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 491 رقم 705).

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، في غير خوف ولا سفر". ورواه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك ... نحوه، وفي آخره: "قال مالك: أرى ذلك كان في مطر". الرابع: عن يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن قرة بن خالد، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعًا، عن زهير -قال ابن يونس: ثنا زهير- قال: ثنا أبو الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "صلى لنا رسول الله - عليه السلام - الظهر والعصر جميعًا بالمدينة، في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا، لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته". وأخرجه أبو داود (¬4) وقال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا أبو معاوية، نا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله - عليه السلام - الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 489 رقم 705). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 6 رقم 1210). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 490 رقم 705). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 6 رقم 1211).

وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. وقال الخطابي: هذا الحديث لا يقول به أكثر العلماء، وإسناده جيد إلا ما تكلموا فيه من أمر حبيب، وكان ابن المنذر يقول به ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث، وسمعت أبا بكر القفال يحكيه عن أبي إسحاق المروزي، قال ابن المنذر: ولا معنى يحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن بن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: "أراد أن لا يحرج أمته". وحكي عن ابن سيرين: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شتاء ما لم يتخذه عادة". وتأوله بعضهم على أن يكون ذلك في حال المرض؛ وذلك لما فيه من إرفاق المريض ودفع المشقة، عنه فحمله على ذلك أولى من صرفه إلى من لا عذر له ولا مشقة عليه من الصحيح البدن المنقطع العذر، وقد اختلف الناس في ذلك فرخص عطاء بن أبي رباح للمريض في الجمع بين الصلاتين، وهو قول مالك وأحمد بن حنبل. وقال أصحاب الرأي: يجمع المريض بين الصلاتين، إلا أنهم أباحوا ذلك على شرطهم في جمع المسافر بينهما، ومنع الشافعي من ذلك في الحضر إلا للمطر. قلت: كل تأويل أَوَّلوه في هذا الحديث يرده قول ابن عباس: "أراد أن لا يحرج أمته". ما خلا التأويل الذي أوله الطحاوي على تأخير الأولى آخر وقتها وتقديم الأخرى لأول وقتها على ما تأوله أبو الشعثاء جابر بن زيد وعمرو بن دينار في صحيح مسلم، وقال الترمذي في كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمم على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. قلت: هذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو منسوخ دلّ الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، فإن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 355 رقم 187). (¬2) "المجتبى" (1/ 290 رقم 601 - 602).

جماعة ذهبوا إلى العمل بظاهره، وآخرين أوَّلوه كما ذكرنا، والصواب ما قاله الطحاوي -رحمه الله-. الخامس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد الأعور، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله - عليه السلام - بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف، قال: قلت لابن عباس: وَلمَ تراه فعل ذلك؟ قال: أراد ألا يُحْرَجَ أحدٌ من أمته". السادس: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن داود بن قيس الفراء، عن صالح بن نبهان مولى التوأمة، عن ابن عباس. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا داود بن قيس الفراء، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله - عليه السلام - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد التوسعة على أمته". وأخرجه عبد الرزاق (¬3) أيضًا: عن داود بن قيس ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "قال: قلت لابن عباس: لم تراه فعل ذلك؟ " والباقي مثله. السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد ابن سلمة، عن عمران بن حُدير السدوسي، عن عبد الله بن شقيق العقيلي أبي عبد الرحمن البصري، أن ابن عباس ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 555 رقم 4435). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 210 رقم 8230). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 555 رقم 4434).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا وكيع، ثنا عمران بن حُدَير، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال: "قال رجل لابن عباس: الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: لا أمَّ لك أتُعلمنا بالصلاة؟! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع ... إلى آخره نحوه، وفي آخره: "يعني في السفر". قوله: "لا أم لك" ذم وسب أي أنه لقيط لا تعرف له أم، وقيل: قد تقع مدحًا بمعنى التعجب منه وفيه بعد، وخبر "لا" محذوف، تقديره: لا أم معروفة لك. قوله: "أتعلمنا" والهمزة فيه للاستفهام، وهو من الإعلام ومراده من هذا: نسبته إلى جهله عن سبب تأخيره الصلاة، و"الواو" في قوله: "وقد كان النبي - عليه السلام -" للحال. وهذا أيضًا محمول على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الصلاة الأخرى في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا. ص: حدثنا يزيد بن سنان وفهد قالا: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني نافع: "أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عجّل السيرَ ذات ليلة، وكان قد اسْتُصْرخ على بعض أهله ابنة أبي عبيد فسار حتى هم الشفق أن يغيب، وأصحابه ينادونه بالصلاة فأبى عليهم، حتى إذا أكثروا عليه قال: إني رأيت رسول الله - عليه السلام - يجمع بين هاتين الصلاتين: المغرب والعشاء، وأنا أجمع بينهما". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا عجل به السفر يجمع بين المغرب والعشاء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 492 رقم 705). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 210 رقم 8231) ولفظه: "لا أبا لك".

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السيرُ". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبي عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن أبي ذؤيب قال: "كنت مع ابن عمر، فلما غربت الشمس هِبنا أن نقول: الصلاة، فسار حتى ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق، فنزل وصلى ثلاثا المغرب، واثنتين العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعل". ش: هذه أربع طرق رجالها كلهم ثقات: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز وفهد بن سليمان النحاس، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): عن سليمان بن داود العتكي، عن حماد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر استصرخ على صفية وهو بمكة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال: إن النبي - عليه السلام - كان إذا عجّل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما". وأخرجه الترمذي (¬2): من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): من حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، بمعناه أتم منه. وكذا أخرجه البخاري (¬4): عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 5 رقم 1207). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 441 رقم 555). (¬3) "المجتبى" (1/ 289 رقم 600). (¬4) "البخاري" (1/ 370 رقم 1041).

قوله: "استصرخ" على بناء المجهول يقال: أستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو المُصَوِّت يُعْلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتًا والاستصراخ: الاستغاثة. قوله: "ابنة أبي عبيد" بيان لقوله: "على بعض أهله" واسمها صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية، أخت المختار بن أبي عبيد الكذاب، رأت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وروت عن عائشة - رضي الله عنها -، روى عنها نافع مولى ابن عمر، وعبد الله ابن دينار، قال أحمد: هي مدنية ثقفية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود وابن ماجه وعمرت أزيد من ستين عامًا. قوله: "حتى همَّ الشفق أن يغيب" أي حتى قصد الغيبوبة، أراد به كاد أن يغيب الشفق. وهو أيضًا محمول على أنه أخّر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الصلاة الأخرى في أول وقتها ة فيكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا. فإن قيل: كيف تقول: يكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا؛ ورواية أبي داود تصرح أنه جمع بينهما بعد غياب الشمس، حيث قال: "فسار حتى غاب الشفق، فنزل" وهذا صريح على أنه جمع بينهما وقتًا لا فعلًا؟! قلت: قد فتح لي جواب من الفيض الإلاهي، وهو أن الشفق لونه أحمر وأبيض كما اختلف الفقهاء فيه والعلماء من الصحابة - رضي الله عنهم - ويحتمل أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق الأحمر، فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيطلق عليه أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق. فإن قيل: قد ذكر البيهقي (¬1) في باب الجمع بين الصلاتين في السفر: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه سار حتى غاب ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 159 رقم 5303).

الشفق". ثم قال: ورواه معمر، عن أيوب وموسى بن عقبة، عن نافع، وقال في الحديث: "أخّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هَوِيّ من الليل، ثم نزل وصلى المغرب والعشاء ... " الحديث. قلت: لم يذكر سنده لينظر فيه، وقد أخرجه النسائي (¬1) بخلاف هذا، فقال: أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، نا معمر، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "كان - عليه السلام - إذا جد به أمر -أو جد به السير- جمع بين المغرب والعشاء". وأخرج الدارقطني في "سننه" (¬2): من حديث الثوري، عن عبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: "كان - عليه السلام - إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء". فإن قيل: قد قال البيهقي: ورواه يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، فذكر أنه سار قريبًا من ربع الليل ثم نزل وصلى. قلت: أسنده في "الخلافيات" من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور، ولفظه: "فسرنا أميالًا ثم نزل فصلى قال يحيى: فحدثني نافع مرة أخرى فقال: "سرنا حتى إذا كان قريبًا من ربع الليل نزل فصلى". فلفظه مضطرب كما ترى، قد روي على وجهين، فاقتصر البيهقي في "السنن" على ما يوافق مقصوده فأفهم. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا عجّل به السير جمع بين المغرب والعشاء". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 289 رقم 599). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 391 رقم 11). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 488 رقم 703).

وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا جَدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني -بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام- وقد تكرر ذكره، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن منصور، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري، قال: أخبرني سالم، عن أبيه قال: "رأيت النبي - عليه السلام - إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء". الرابع: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن يحيى بن عبد الحميد أيضًا، عن سفيان ابن عيينة أيضًا، عن عبد الله بن أبي نجيح واسمه يسار المكي، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وقيل: ذؤيب ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ من قريش قال: "صحبت ابن عمر إلى الحمى، فلما غربت الشمس هِبْتُ أن أقول له: الصلاة، فسار حتى ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم نزل فصلى المغرب ثلاث ركعات، ثم صلى ركعتين على إثرهما، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعل". قوله: "هبنا" من هاب يَهِيبُ هَيْبَةً. قوله: "فَحْمَة العشاء" أي إقباله وأول سواده، يقال للظلمة التي بين صلاتي العشاء: الفحمة، وللظلمة التي بين العتمة والغداة: العسعسة. قوله: "بياض الأفق" يدل على ما قلنا أنه أخر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقته، فجمع بينهما فعلًا لا وقتًا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 289 رقم 598). (¬2) "المجتبى" (1/ 289 رقم 600). (¬3) "المجتبى" (1/ 286 رقم 591).

ص: حدثنا محمد بن خزيمة وابن أبي داود وعمران بن موسى، قالوا: نا الربيع بن يحيى الأُشْنَاني، قال: ثنا سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "جمع النبي - عليه السلام - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرُّخص في غير خوف ولا علّة". ش: إسناده صحيح. والربيع بن يحيى أبو الفضل البصري أحد مشايخ البخاري -رحمه الله-. والأُشْناني نسبته إلى بيع الأُشْنان وشرائه، قيل: نسبته إلى قرية أُشنة على غير [القياس] (¬1). وأخرجه ابن جُميع في "معجمه" (¬2): عن أحمد بن زكريا، ثنا هشام بن علي، ثنا الربيع بن يحيى، ثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - جمع بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، جمع بينهم في غير علّة ولا سفر للرُّخَص". واحتج به قوم على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر، وأولوه على أنه كان في غير فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم وبأن أن أول وقت العصر دخل فصلاها وهذا باطل؛ لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء، والصواب أنه محمول على أنه أخَّر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه، فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها، فصارت صورة جمع، ولا وجه له غير ذلك. على أن الحديث قد ضعفه قوم؛ قال الحاكم: سألت الدارقطني عن الربيع بن يحيى الأشناني، قال: ليس بالقوي يروي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث. ¬

_ (¬1) حيث إن القياس أن تكون النسبة إلى أُشْنة: أُشْنِي. (¬2) معجم شيوخ ابن جميع (1/ 295 رقم 143).

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة، قال: ثنا نُعيم بن حماد، قال: ثنا عبد العزيز بق محمد الدراوردي، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غربت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف، يعني الصلاة". ش: إسناده صحيح، وعلي بن عبد الرحمن المعروف بعلان، قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بمصر وهو صدوق. ونعيم بن حماد بن معاوية الفارض الأعور المروزي روى عنه البخاري مقرونًا بغيره، وروى له مسلم في مقدمة كتابه. والدراوردي- بفتح الدال نسبة إلى دراورد قرية بخراسان. وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، ثنا يحيى بن محمد البخاري، نا عبد العزيز بن محمد، عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله - عليه السلام - غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسَرِف". وأخرجه النسائي (¬2): أنا المؤمل بن إهاب قال: حدثني يحيى بن محمد الجاري، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "غابت الشمس ورسول الله - عليه السلام - بمكة، فجمع بين الصلاتين بسَرِف". قوله: "بسرف" بفتح السين وكسر الراء المهملتين وبعدها فاء لا تنصرف؛ للعلمية والتأنيث. وهي موضع من مكة على عشرة أميال وقيل: أقل وأكثر، ووقع في بعض النسخ الصحيحة للنسائي: "بسرق" بالقاف، قال الجوهري: سرق اسم للموضع. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 7 رقم 1215). (¬2) "المجتبى" (1/ 287 رقم 593).

قوله: "فجمع بينهما" أي بين المغرب والعشاء، دلّ عليه قوله: "غابت الشمس" وهو أيضًا محمول على أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الأخرى في أول وقتها. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر". ش: إسناده صحيح، ومسلم بن إبراهيم القصاب البصري أحد مشايخ البخاري وأبي داود. وحفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك. وأخرجه البخاري (¬1): عن حسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك قال: "كان النبي - عليه السلام - يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر". ثم قال البخاري: وتابعه علي بن المبارك وحربٌ، عن يحيى، عن حفص، عن أنس: "جمع النبي - عليه السلام -". قلت: أما حديث علي بن المبارك فأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه": أخبرني الحسن بن سفيان، نا محمد بن مثنى، نا عثمان بن عمر، ثنا عليّ يعني -ابن المبارك- عن يحيى، عن حفص، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يجمع بين المغرب والعشاء في سفره". وقال أبو نعيم في "المستخرج": ثنا أبو أحمد، ثنا الحسن بن سفيان ... فذكره. وأما حديث حرب فأخرجه البخاري (1) في كتابه مسندًا، وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده" من حديث معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبد الله، عن أنس: "كان رسول الله - عليه السلام - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 373 رقم 1057).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الظهر والعصر وقتهما واحد، قالوا: ولذلك جمع النبي - عليه السلام - بينهما في وقت إحداهما، وكذلك المغرب والعشاء في قولهم، وقتهما وقت واحد، لا يفوت إحداهما حتى يفوت وقت الأخرى منهما. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوسًا ومجاهدًا وسالم بن عبد الله وإسحاق بن راهويه والشافعي ومالكًا وأحمد وداود وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: وقت الظهر والعصر وقت واحد ولأجل ذلك جمع النبي - عليه السلام - بينهما في وقت إحداهما، وكذلك المغرب والعشاء. وقال أبو عمر (¬1): اختلف الفقهاء في هذا الباب، فروى ابن القاسم عن مالك -وهو رأيه-: لا يجمع المسافر في حج أو عمرة إلا أن يجد به السير أو يخاف فوات أمر فيجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، وكذلك في المغرب والعشاء إلا أن يرتحل عند الزوال فليجمع حينئذ في الرحلة بين الظهر والعصر، ولم يذكر في العشائين الجمع عند الرحيل أول الوقت، وقال سحنون: وهما كالظهر والعصر يجمع بينهما عند الرحيل، قال أبو الفرج: وأصل هذا الباب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر وقصر وجمع بينهما كذلك، والجمع أيسر من التقصير، فوجب الجمع بينهما في الوقت الذي جمع بينهما رسول الله - عليه السلام -، وهو قول الشافعي وأصحابه وعطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله بن عمر وجمهور علماء أهل المدينة وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود في أن يجمع المسافر بين الصلاتين إن شاء في وقت الأولى، وإن شاء في وقت الآخرة، وقال الشافعي وداود وأصحابهما: ليس للمسافر أن يجمع بين الصلاتين ولا يؤخر صلاة عن وقتها إلا بنية الجمع. وقال الطبري: للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر ما بين الزوال إلى أن تغيب الشمس، وبين المغرب والعشاء ما بين مغيب الشمس إلى طلوع الفجر، وقال أحمد بن حنبل: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ¬

_ (¬1) "التمهيد" (12/ 196 - 201).

ثم ينزل فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بين المغرب والعشاء، قال: فإن قدّم العصر إلى الظهر والعشاء إلى المغرب فأرجو أن لا يكون به بأس. وقال إسحاق: لا بأس بذلك بلا رجاء. وقال عياض: الجمع بين الصلوات المشتركة في الأوقات يكون تارة سنة وتارة رخصة، فالسنة الجمع بعرفة والمزدلفة، وأما الرخصة فالجمع في المرض والسفر والمطر، فمن تمسك بحديث صلاة النبي - عليه السلام - مع جبريل - عليه السلام -[وقدَّمه] (¬1) ولم ير الجمع في ذلك، ومن خصَّه أثبت جواز الجمع في السفر بالأحاديث الواردة فيه وقاس المرض عليه، فنقول: إذا أُبيح للمسافر الجمع لمشقة السفر فأخرى أن يباح للمريض، وقد قرن الله -تعالى- المريض بالمسافر في الترخيص له في الفطر والتيمم، وأما الجمع في المطر فالمشهور من مذهب مالك إثباته في المغرب والعشاء، وعنه مقولة شاذة: أنه لا يجمع إلا في مسجد رسول الله - عليه السلام - ومذهب المخالف: جواز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المطر. وقال أيضًا: وقد اختلف العلماء في الجمع للمسافر مع اتفاقهم على الجمع بعرفة والمزدلفة واتفاقهم على منع الجمع بين الصلوات التي لا اشتراك فيها من العصر والمغرب، والعشاء والصبح والظهر، فرأى الجمع للمسافر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء جماعة السلف والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وهو معروف مذهب مالك، واختلف عنه مع القول هل ذلك لمجرد السفر أو حتى يجد به السير أو يخاف فوات أمر، وباشتراط جدّ السير قال الليث والثوري، وباشتراط العدو قال الأوزاعي، وبمجرد السفر قال جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث وأهل الظاهر، وأنه يجمع أي وقت شاء من الأولى والآخرة، وأما في غير السفر فقال مالك بالجمع في المطر بين العشائين ولم يَرَ ذلك مالك في الظهر والعصر، وقال الشافعي بالجمع بينهما في المطر الوابل، وبه قال أبو ثور والطبري، ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وهو الأصح، وفي "عمدة القاري": (5/ 54): وقد أَمَّه.

وهو ظاهر قول مالك في "الموطإ"، والطين والظلمة عند مالك كالمطر، وقد جاء عنه ذكر الطين مجردًا. والمرض عند مالك كالسفر وقال ابن قانع: لا يجمع المريض. وقال مالك أيضًا: يجوز الجمع لأجل الخوف، وعن ابن القاسم فيه روايتان، وفي "الحاوي" في فروع الحنابلة: ويجوز الجمع ليلًا لأجل المطر الذي يبل الثياب أو نعله أو بدنه، ولثلج بَرَدٍ وفي الجمع نهارًا روايتان: فإن قدمه لعذر اعتبر وجوده في طرفي الأولى وأول الثانية، وقيل: بل في أولها فقط، وإن أخرّ جمع، ولو انقطع في وقت للثانية صح، وإن زال قبله فلا، وهل يجوز الجمع لِوَحْلٍ وريحٍ شديدة باردة مع ظلمة؟ وقيل بدونهما، ولمن يُصلي وحده أو في المسجد يخرج إليه تحت ساباط أو في كنّ على وجهين، ولمن لا يناله مطر ولا وَحْل الجمع؛ خوف فوت الجماعة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل كل واحدة من هذه الصلوات وقتها مفرد من وقت غيرها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحولًا ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد وعمرو بن دينار والثوري والأسود وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والليث بن سعد ومالكًا -في رواية المدونة قاله ابن بطال- فإنهم قالوا: كل صلاة لها وقت مخصوص لا يشترك بالأخرى، فلا يجوز الجمع إلا في موضعين: عرفة، ومزدلفة وهو قول ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص فيما ذكره ابن شداد في كتابه "دلائل الأحكام" وقول ابن عمر في رواية أبي داود، وأما قول النووي: إن أبا يوسف ومحمدًا خالفا شيخيهما، وأن قولهما كقول الشافعي وأحمد؛ فقد ردّه عليه صاحب "الغاية في شرح الهداية" بأن هذا لا أصل له عنهما وقال عياض: أَبَى أبو حنيفة وحده الجمع للمسافر وحكى كراهته عن ابن سيرين والحسن البصري، وروي عن مالك مثله، وروي عنه كراهيته للرجال دون النساء.

قلت: يرد قوله: "أَبَى أبو حنيفة وحده" مَنْ ذكرنا من الصحابة والتابعين وغيرهم، أن قولهم مثل قوله. ص: وقالوا أمَّا ما رويتموه عن النبي - عليه السلام - من جمعه بين الصلاتين فقد روي عنه كما ذكرتم وليس في ذلك دليل أنه جمع بينهما في وقت إحداهما، فقد يحتمل أن يكون جمعه بينهما كان كما ذكرتم، ويحتمل أن يكون صلى كل واحدة منهما في وقتها كما ظنَّ جابر بن زيد، وقد روي ذلك عن ابن عباس وعمرو بن دينار من بعده. ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الآثار التي فيها الجمع بين الصلاتين، تحريره: أن أهل المقالة الثانية قالوا: أما ما رويتموه عن النبي - عليه السلام - من جمعه بين الصلاتين فإنا نسلم أنه روي عنه - عليه السلام - كما ذكرتم، ولكن ليس فيها دليل قاطع على أنه جمع بينهما في وقت واحدة منهما؛ لأنه يحتمل أن يكون جمعه بينهما كما ذكرتم، ويحتمل أن يكون أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الأخرى في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، ويُرَجِّحُ الاحتمال الثاني ظن جابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء حيث ذكره في حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (¬1) والطحاوي (¬2) أيضًا: "قلت لأبي الشعثاء: أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء، قال: وأنا أظن ذلك" وكل واحد من جابر بن زيد وعمرو بن دينار قد سبق ظنه إلى ما ذكرنا؛ لأن القائل في هذا الحديث لأبي الشعثاء هو عمرو بن دينار كما مضى بيانه فيما قبل، وإليه أشار الطحاوي بقوله: "وقد روي ذلك عن ابن عباس وعمرو بن دينار من بعده". أي: وقد روى عمرو بن دينار من بعد جابر بن زيد مثلما روى جابر بالظن المذكور. وقد روى النسائي (¬3): عن قتيبة، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي - عليه السلام - بالمدينة ثمانيًا جميعًا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 491 رقم 705). (¬2) "شرح معاني الآثار" (1/ 160). (¬3) "المجتبى" (1/ 286 رقم 589).

وسبعًا جميعًا؛ أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء". فهذا ابن عباس صرح بما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من أن المراد من جمعه - عليه السلام - بين الصلاتين: أنه أخّر الأول وقدم الثانية، وهذا مما يُؤيد ويُرجح الاحتمال الثاني الذي ذكرناه؛ فحينئذ لم تبق لهم حجة في الآثار المذكورة إلا إذا التزموا بمثل ما التزمنا. وأما الذي رواه أبو داود أنه جمع بينهما بعد غياب الشمس، والذي رواه البيهقي أنه أخّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هُوِيّ من الليل، ونحو ذلك فقد مر الجواب عن ذلك مستقصى عن قريب. ص: فقال أهل المقالة الأولى: قد وجدنا في بعض الآثار ما يدل على أن صفة الجمع الذي فعله النبي - عليه السلام - كما قلنا. فذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم بن الفضل، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - استُصرخ على صفية ابنة أبي عبيد وهو بمكة فانسل إلى المدينة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وكان رجل يصحبه يقول: الصلاة الصلاة. قال: وقال له سالم: الصلاة. فقال: إن رسول الله - عليه السلام - كان إذا عجل به السير في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، وإني أريد أن أجمع بينهما، فسار حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما". وما حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد ما يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله - عليه السلام - كان إذا جدّ به السير جمع بينهما". قالوا: ففي هذا دليل على صفة جمعه - عليه السلام - كيف كان. ش: هذه إشارة إلى معارضه من جهة أهل المقالة الأولى، بيانها: أنكم وإن رجحتم صفة جمع النبي - عليه السلام - بين الصلاتين بما ذكرتم، فعندنا أثار تبين صفة الجمع على ما ذكرنا وتمنع ما ذكرتم من الهيئة المذكورة، وهي الآثار التي رويت عن ابن عمر حيث يذكر فيها: فسار حتى غاب الشفق، أو بعد ما يغيب الشفق، أو بعد

غيوب الشفق كما في رواية أبي داود، ففي هذه كلها دليل على أن صفة الجمع على ما قلنا، وأنه جمع فعلًا ووقتًا. ثم إسناد حديث ابن عمر صحيح من الوجهين كليهما، ورجالهما رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي، والعارم لقب، واسمه محمد بن الفضل السدوسي، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وقد أخرج الطحاوي الحديث عن قريب من غير هذا الوجه. وأخرجه أبو داود (¬1): عن سليمان بن داود العتكي، عن حماد، عن أيوب، عن نافع ... إلى آخره، وقد ذكرناه هناك. وأخرجه الترمذي (¬2): عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير، فأخّر المغرب حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله - عليه السلام - كان يفعل ذلك إذا جدّ به السير". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ص: فكان من الحجة عليهم لمخالفيهم أن حديث أيوب الذي قال فيه: "فسار حتى غاب الشفق ثم نزل" كل أصحاب نافع لم يذكروا ذلك لا عبيد الله ولا مالك ولا الليث ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر بذلك من فعل ابن عمر، وذكر عن النبي - عليه السلام - الجمع ولم يذكر كيف جمع، فأما حديث عبيد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - جمع بينهما". ثم ذكر جمع ابن عمر كيف كان وأنه كان بعد ما غاب الشفق، فقد يجوز أن يكون أراد أن صلاة العشاء الآخرة التي بها كان جامعًا بين الصلاتين بعد ما غاب الشفق، وإن كان قد صلى المغرب قبل غييوبة الشفق؛ لأنه لم يكن قط جامعًا بينهما، حتى صلى العشاء الآخرة، فصار بذلك جامعًا بين المغرب والعشاء، وقد روى ذلك غير أيوب مفسرًا على ما قلنا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 5 رقم 1207). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 441 رقم 555).

كما حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - جدّ به السير، فلا روحةً لم ينزل إلا لظهر أو لعصر، وأخّر المغرب حتى صرخ به سالم فقال: الصلاة، وصمت ابن عمر حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل فجمع بينهما، وقال: رأيت النبي - عليه السلام - يصنع هكذا إذا جدّ به السير". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق فاحتمل أن يكون قول نافع: "بعد ما غاب الشفق" في حديث أيوب إنما أراد به قربه من غيبوبة الشفق لئلا يتضاد ما روى عنه في ذلك. ش: هذا جواب عن المعارضة المذكورة أي فكان من الحجة على أهل المقالة الأولى للذين خالفوهم فيما ذهبوا إليه؛ وهم أهل المقالة الثانية، بيان ذلك: أن أصحاب نافع مثل عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس والليث بن سعد الذين رووا هذا الحديث عنه لم يذكروا في حديثهم ما ذكره أيوب السختياني عنه من قوله: "فسار حتى غاب الشفق" ولا ذكر ذلك أيضًا من روى هنا غير نافع عن ابن عمر في هذا الباب مثل سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله، ومثل إسماعيل بن أبي ذئب عن عبد الله، وهو معنى قوله: ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر نافع بذلك عن فعل ابن عمر لا عن فعل النبي - عليه السلام -، وإنما الذي ذكر عن النبي - عليه السلام - أنه جمع بينهما، ولم يذكر كيف جمع، ولو كان ما فعله ابن عمر منقولًا عن فعله النبي - عليه السلام - لكان يتم استدلال الخصم به، فحيث لم يكن منقولًا عن فعله - عليه السلام - لم يتم استدلالهم به، على أن غير أيوب قد روى ذلك مفسرًا، وهو رواية أسامة بن زيد، عن نافع: "أن ابن عمر جد به السير ... " الحديث، وفيه أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق، وهو يخالف رواية أيوب عنه. وبينهما تضاد ظاهرًا، فيتعين التوفيق بينهما؛ دفعًا للتضاد، ووجهه أن تحمل رواية أيوب عن نافع: "بعد ما غاب الشفق" على أن المراد به قربه من غيبوبة

الشفق، ومثل هذا يقع في الكلام كثيرًا حتى في كلام الله -عز وجل- كما في قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1) فبعد بلوغ الأجل الذي هو العدّة لا يتصور الإمساك؛ لأنها تبين من زوجها حينئذ، وإنما معناه: فإذا شارفن على بلوغ الأجل وقربت منه، وها هنا كذلك بعد ما قرب غياب الشفق، هذا الذي قاله الطحاوي، والذي قلته أنا أيضًا له وجه حسن، وهو أن المراد من قوله: "بعد ما غاب الشفق" هو الشفق الأحمر الذي يكون قبل الأبيض؛ وذلك لأن الشفق نوعان: أحمر، وأبيض، كما هو معروف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وكان نزول ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد غياب الشفق الأحمر، ووقت المغرب حينئذ باقٍ، على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، فيكون قد صلى المغرب في وقتها، ثم صلى العشاء في أول وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيكون جامعًا بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا؛ فافهم. فبهذين الجوابين يسقط جميع ما وجَّهه البيهقي في كتبه من أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق؛ لأن الروايات متعارضة ظاهرًا، فلا يرتفع التعارض إلا بما ذكرنا، ومن جملة ما أورد: حديث جابر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه مضى حتى إذا كان من آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق". ثم قال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن خالد، عن نافع، وهذا لا يتم به مُدَّعَاه؛ لأنه قال: "حتى إذا كان من آخر الشفق". فالمفهوم منه أنه صلى المغرب قبل غياب الشفق، ثم صلى العشاء وقد توارى الشفق، وهذا بعينه ما ذهبنا إليه من أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الآخرة في أول وقتها. والذي يؤيد هذا ما رواه أبو داود في "سننه" (¬2): من حديث محمد بن فضيل، عن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [231]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 6 رقم 1212).

أبيه، عن نافع وعبد الله بن واقد، وفيه أنه قبل غروب الشفق صلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق وصلى العشاء، وهذا من مما نحتج به عليهم. وقال أبو داود (¬1): حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن نافع، عن أبي مودود، عن سليمان ابن أبي يحيى، عن ابن عمر قال: "ما جمع رسول الله - عليه السلام - بين المغرب والعشاء قط في سفر إلا مرةً". قال أبو داود: وهذا يروى عن أيوب عن نافع موقوفًا على ابن عمر أنه لم ير ابن عمر جمع بينهما قط إلا بتلك الليلة، يعني ليلة استصرخ على صفية، وروى من حديث مكحول عن نافع: "أنه رأى ابن عمر قبل ذلك مرةً أو مرتين". ومن جملة ما أورد أيضًا: أن عاصم بن محمد رواه عن أخيه عمر بن محمد، عن سالم، عن ابن عمر كرواية الذين رووا عن نافع عن ابن عمر: "أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق". وهذا أيضًا لا يتم به مُدّعاه؛ لما ذكرنا. على أن النسائي (¬2) روى هذا الحديث: عن سالم، عن ابن عمر، من وجه آخر بخلاف هذا، وقال: أنا عبدة بن عبد الرحيم، قال: أنا ابن شميل، قال: ثنا كثير بن قاروندا قال: "سألنا سالم بن عبد الله عن الصلاة في السفر، فقلنا: أكان عبد الله يجمع بين شيء من الصلوات في السفر؟ قال: لا إلا بجمع، ثم أتيته فقال: كانت عنده صفية، فأرسلت إليه: إني في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فركب وأنا معه، فأسرع السير، حتى حانت الصلاة فقال له المؤذن: الصلاة، يا أبا عبد الرحمن، فسار حتى إذا كان بين (الصلاتين) (¬3) فزل، فقال للمؤذن: أقم، فإذا سلمت من الظهر، فأقم مكانك، فأقام فصلى الظهر ركعتين، ثم سلّم، ثم أقام مكانه فصلى العصر ركعتين، ثم ركب فأسرع السير حتى غابت الشمس، فقال له المؤذن: الصلاة يا أبا عبد الرحمن، فقال: كفعلك الأول، فسار حتى إذا اشتبكت ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 5 رقم 1209). (¬2) "المجتبى" (1/ 288 رقم 597). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى": الوقوف.

النجوم نزل، فقال: أقم، فإذا سلمتُ فأقم، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أقام مكانه فصلى العشاء الآخرة، ثم سلم واحدة تلقاء وجه ثم قال: قال رسول الله - عليه السلام -: إذا حضر أحدكم أمر يخشى فوته فليصل هذه الصلاة". وهذا سند جيد ورجاله ثقات، وإسناد حديث فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة. ص: وقد روى هذا الحديث غير أسامة عن نافع كما رواه أسامة، كما حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني ابن جابر، قال: ثنا نافع، قال: "خرجت مع عبد الله بن عمر وهو يريد أرضًا له، قال: فنزلنا منزلًا، فأتاه رجل فقال له: إن صفية ابنة أبي عبيد لما بها ولا أظن أن تدركها، فخرج مسرعًا ومعه رجل من قريش، فسرنا حتى إذا غابت الشمس لم نصل الصلاة، وكان عهدي بصاحبي وهو محافظ على الصلاة، فلما أبطأ قلت: الصلاة رحمك الله فما التفت إليَّ ومضى كما هو، حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم العشاء وقد توارت، ثم أقبل علينا فقال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا عجل به أمر صنع هكذا". أو كما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا العطاف بن خالد المخزومي، عن نافع قال: "أقبلنا مع ابن عمر حتى إذا كنا ببعض الطرق استصرخ على زوجته ابنة أبي عبيد، فراح مسرعًا حتى غابت الشمس فنودي بالصلاة، فلم ينزل، حتى إذا أمسى ظننت أنه قد نسي فقلت: الصلاة، فسكت حتى إذا كاد الشفق أن يغيب نزل، فصلى المغرب، وغاب الشفق وصلى العشاء، وقال: هكذا كنا نفعل مع النبي - عليه السلام - إذا جدّ بنا السير". ش: أشار بهذا إلى أن اثنان من الثقات تابعا أسامة فيما رواه عن نافع: أحدهما: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي أبو عتبة الشامي الدمشقي الداراني ممن روى لهم الجماعة، أخرج الطحاوي حديثه بإسناد صحيح.

وأخرجه النسائي (¬1) أخبرني محمود بن خالد، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا ابن جابر، قال: حدثني نافع، قال: "خرجت مع عبد الله بن عمر في سفر نريد أرضًا له، فأتاه آت فقال: إن صفية بنت أبي عبيد لما بها فانظر أن تدركها، فخرج مسرعًا ومعه رجل من قريش يسايره، وغابت الشمس فلم يصل الصلاة، وكان عهدي به وهو محافظ على الصلاة، فلما أبطأ قلت: الصلاة يرحمك الله، فالتفت إليَّ ومضى، حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب، ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق فصلى بنا، ثم أقبل علينا فقال: إن رسول الله - عليه السلام - كان إذا عجّل به السير صنع هكذا". قوله: "وهو يريد" جملة حالية. قوله: "لِمَا بِهَا" بكسر اللام وتخفيف الميم، في محل الرفع على أنها خبر لـ"إن" في قوله: "إن صفية ابنة أبي عبيد" والمعنى أن صفية هالكة؛ لما بها من الضعف الشديد، ولا أظن أن تدركها وهي بالحياة. قوله: "وقد توارت" أي غاب الشفق. والآخر: العطاف بن خالد بن عبد الله القرشي أبو صفوان المدني، قال يحيى بن معين: ليس به بأس ثقة صالح الحديث. وعن أبي داود: ثقة. روى له الترمذي والنسائي. أخرج الطحاوي حديثه عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عنه. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا أحمد بن منصور، ثنا ابن أبي مريم، ثنا عطاف بن خالد، حدثني نافع قال: "أقبلنا مع ابن عمر صادرين من مكة، حتى إذا كنا ببعض الطريق استصرخ على زوجته صفية، فأسرع ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 287 رقم 595). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 393 رقم 21).

السير، فكان إذا غابت الشمس نزل فصلى المغرب، فلما كان تلك الليلة ظننا أنه نسي الصلاة، فقلنا له: الصلاة، فسار حتى إذا كاد أن يغيب الشفق نزل فصلى، وغاب الشفق ثم قام فصلى العتمة، ثم أقبل علينا فقال: هكذا كنا نصنع مع رسول الله - عليه السلام -". قوله: "استصرخ" على بناء المجهول، وقد فسرناه. قوله: "إذا جدّ بنا السير" من جدّ يَجِدُّ ويَجُدّ بالضم والكسر، وجدّ به الشيء وأجد، والمعنى: إذا أسرع بنا السير، يقال: جدّ في السير إذا اهتم به وأسرع. والمفهوم من الحديثين: أنه صلى المغرب في آخر وقتها، وصلى العشاء في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكل هؤلاء يروي عن نافع أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، فقد ذكرنا احتمال قول أيوب عن نافع: "حتى إذا غاب الشفق" أنه يحتمل قرب غيبوبة الشفق، فأولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الروايات كلها على الاتفاق لا على التضاد، فنجعل ما روي عن ابن عمر أن نزوله للمغرب كان بعد ما غاب الشفق، على قرب غيبوبة الشفق إذْ كان قد روي عنه أن نزوله ذلك كان قبل غيبوبة الشفق، ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولاهما؛ لأن حديث أيوب إنما فيه أنّ رسول الله - عليه السلام - كان يجمع بين الصلاتين، ثم ذكر فعل ابن عمر كيف كان، وفي حديث ابن جابر صفة جمع رسول الله - عليه السلام - كيف كان؛ فهو أولى. ش: أشار بهؤلاء إلى أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر والعطاف بن خالد؛ فإنهم كلهم رووا عن نافع: أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، وأما أيوب السختياني فإنه روى عنه: "فسار حتى غاب الشفق" وقد قال فيما مضى آنفًا: إنه يحتمل أن يكون معناه: فسار حتى قرب غيبوبة الشفق، فبهذا التأويل يندفع التضاد بين الروايات، وهذا أولى؛ لأن حمل الروايات كلها على الاتفاق خير من أن تبقى على التضاد.

فإن قيل: قد روى عن نافع مثل ما روى أيوب عنه: عبيد الله بن عمر العمري وحماد بن زيد وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعمر بن محمد بن زيد؛ فإن هؤلاء حفاظ ثقات ولا يقاربهم أسامة بن زيد وابن جابر والعطاف، ورواية الحفاظ أولى بالصواب، وكذا قال البيهقي في "المعرفة" إن محمد بن فضيل عن أبيه وابن جابر وعطاف بن خالد، رووه عن نافع: "صلى قبل غروب الشفق المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق فصلى العشاء" وهؤلاء خالفوا الأئمة الحفاظ من أصحاب نافع في هذه الرواية، ولا يمكن الجمع بينهما؛ فتترك روايتهم وتؤخذ رواية الحفاظ. قلت: إن كان روى هؤلاء الحفاظ عن نافع أنه سار حتى غاب الشفق؛ فقد روى حفاظ آخرون عن نافع وعن ابن عمر نفسه بخلاف هذا فإن الليث بن سعد روى عن نافع: "فسار حتى همَّ الشفق أن يغيب" وقد مضت روايته فيما مضى. وكذا روى فضيل بن غزوان، عن جرير الضبي، عن نافع: "فسار حتى إذا كاد أن يغيب الشفق". وروايته عند الدارقطني (¬1). وكذا روى إسماعيل بن أبي ذئب: "أنه كان مع ابن عمر، فسار حتى ذهبت فحمة السماء ورأينا بياض الأفق، فنزل يصلي ثلاثًا المغرب، واثنتين العشاء". فهؤلاء حفاظ أيضًا قد رووا أن نزوله لم يكن بعد غياب الشفق، على أن جماعة أخرى من الثقات قد تابعهم في ذلك، مثل: أسامة بن زيد وعطاف بن خالد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، على مما ذكرناهم، على أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يُرَ جَمَعَ بين الصلاتين قط إلا ليلة استصرخ على زوجته صفية، كذا قال أبو داود، وفي رواية: فعل ذلك مرة أو مرتين، وزعم عبد الحق الإشبيلي أن فيه وهمًا. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 393 رقم 21).

والصحيح من هذه الروايات رواية النسائي (¬1): عن محمود بن خالد، حدثني الوليد، ثنا ابن جابر -وهو عبد الرحمن بن يزيد- قال: حدثني نافع، قال: خرجت مع عبد الله، فذكر قوله: "حتى إذا كان في آخر الشفق". قال: ويقوي هذه الرواية حديث أنس من عند مسلم (¬2): أن النبي - عليه السلام - إذا عجل به سفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" انتهى. قلت: حينئذ تُرجح رواية من روى أن نزوله لم يكن إلا قبل غروب الشفق، فسقط كلام البيهقي: "فتترك روايتهم" فَلِمَ تترك روايتهم مع كونها موافقة للأصول ومؤيدة بصفة جمع النبي - عليه السلام -؟! والعمل بروايتهم ورواية وغيرهم بالتأويل المذكور أولى من أن تترك رواية بعضهم ويعمل برواية بعضهم. فإن قيل: تأويل الطحاوي يمشي في رواية من يقول: "فسار حتى نزل بعد غياب الشفق" وكيف يمشي ذلك في رواية من قال: "فسار قريبًا من ربع الليل" وهو رواية يحيى بن سعيد، عن نافع، ورواية موسى بن عقبة عنه: "حتى ذهب هُوِيٌّ من الليل" ورواية عمر بن محمد بن زيد: "فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل" وكذا رواية عبيد الله العمري عن نافع، كل هذه عند البيهقي، وعند ابن خزيمة: "فسرنا حتى كان نصف الليل أو قريبًا من نصفه نزل فصلى". قلت: وإن لم يمش ذلك التأويل في هذه الروايات؛ فالعمل برواية [ابن] (¬3) جابر أولى؛ لأن فيه صفة جمع رسول الله - عليه السلام - كيف كان، وفي رواية هؤلاء صفة جمع ابن عمر غير منقول عن النبي - عليه السلام - فيكون هذا أولى، على أن فيما ذكرتم وهما كما قاله عبد الحق الإشبيلي وأنه نَصَّ على أن الصحيح من الروايات رواية النسائي، وهي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 287 رقم 595). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 489 رقم 704). (¬3) ليست في "الأصل، ك". وما أثبتناه هو الصواب.

رواية ابن جابر، وإلى ذلك أشار الطحاوي بقوله: "ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولى". والله أعلم. ص: فإن قالوا: فقد روي عن أنس بن مالك ما قد فسر الجمع كيف كان، فذكروا في ذلك ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني جابر بن إسماعيل، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ... مثله. يعني "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا عجل به السير يومًا جمع بين الظهر والعصر، وإذا أراد السفر ليلة؛ جمع بين المغرب والعشاء، يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق". قالوا: ففي هذا الحديث أنه صلى الظهر والعصر في وقت العصر، وأنَّ جمعه بينهما كان كذلك. ش: هذا إيراد من أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، بيانه أن يقال: إنكم قلتم: إن صفة الجمع كانت من فعل ابن عمر، وأن صفة جمع النبي - عليه السلام - كانت بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الأخرى في أول وقتها، وأنكم أولتم ما روي: "حين غاب الشفق" بالقرب من غيابه. فهذا حديث أنس يبطل تأويلكم، ويبين أن جمع النبي - عليه السلام - بين الظهر والعصر كان في وقت العصر، وأن جمعه بين المغرب والعشاء كان حين يغيب الشفق. وإسناد حديث أنس صحيح على شرط مسلم، وعُقيل -بضم العين وفتح الألف- ابن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأيلي أبو خالد الأموي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وعمرو بن سوَّاد، قالا: أنا ابن وهب، قال: حدثني جابر بن إسماعيل، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 489 رقم 704).

النبي - عليه السلام -: "إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق". وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة وابن موهب -المعنى- قالا: ثنا المفضل، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخّر الصلاة إول وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب". نا (¬2) سليمان بن داود المهري، نا ابن وهب، أخبرني جابر بن إسماعيل، عن عقيل ... بهذا الحديث بإسناده، قال: "ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق". ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأصل: أن هذا الحديث قد يحتمل ما ذكروا، وقد يحتمل أن تكون صفة الجمع من كلام الزهري لا عن أنس فإنه قد كان كثيرًا ما يفعل هذا؛ يصل الحديث بكلامه حتى يتوهم أن ذلك في الحديث، وقد يحتمل أن يكون قوله: "إلى أول وقت العصر". إلى قرب أول وقت العصر، فإن كان معناه يقتضي ما صرفناه إليه مما لا يجب أن يكون في وقت العصر، فلا حجة في هذا الحديث للذي تقول: إنه صلاهما في وقت العصر، وإن كان أصل الحديث على أنه صلاهما في وقت العصر، فكان ذلك هو جمعه بينهما، فإنه قد خالفه في ذلك عبد الله بن عمر فيما رويناه عنه عن النبي - عليه السلام -. وخالفته في ذلك عائشة - رضي الله عنها - كما حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - في السفر يؤخر الظهر ويقدم العصر، ويؤخر المغرب ويقدم العشاء". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 7 رقم 1218). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 7 رقم 219).

ش: هذا جواب عن الإيراد المذكور، تقريره: أن حديث أنس يحتمل ثلاث وجوه: الأول: أنه يحتمل المعنى الذي ذكره الخصم؛ لأن باب الاحتمال مفتوح. الثاني: يحتمل أن تكون صفة الجمع التي ذكرت فيه من كلام محمد بن مسلم الزهري وليس من كلام أنس؛ فإن من عادة الزهري أنه كثيرًا ما كان يصل الحديث بكلامه حتى يتوهم المتوهم أنه من الحديث، والحال أنه من كلام نفسه. الثالث: أنه يحتمل أن يكون معنى قوله: "إلى أول وقت العصر". إلى قرب أول وقت العصر؛ لأن مثل هذا كثير في الكلام شائع ذائع كما قد ذكرناه. ثم إنا إذا سلمنا أنه من كلام أنس وليس هو من كلام الزهري؛ يبقى معنا الاحتمالان المذكوران، فإن كان المعنى في نفس الأمر على الاحتمال الذي ذكرناه، وهو أن يكون المراد منه قرب أول وقت العصر فلم يبق حينئذ حجة للخصم، ولا اعتراض به على غيره، وإن كان المعنى في نفس الأمر على ما ذكره الخصم، وهو أن يكون - عليه السلام - صلاها في وقت العصر، وأن هذا هو جمعه - عليه السلام - فيعارضه حينئذ حديث عبد الله بن عمر الذي رواه الطحاوي فيما مضى، عن فهد، عن الحماني، عن ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن نافع ... فذكر الحديث، وفيه: "حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل فجمع بينهما، وقال: رأيت النبي - عليه السلام - يصنع هكذا". فإنه يدل على أنه - عليه السلام - أخّر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقتها. وكذلك يعارضه حديث عائشة، فإنه أيضًا يدل على أنه - عليه السلام - أخّر الظهر إلى آخر وقته، وقدم العصر في أول وقته، وأخّر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقته، فإذا تعارض الخبران فالمصير إلى خبر ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - أولى؛ لموافقة الأصول، ولاحتمال حديث أنس ما ذكرنا من الوجهين. وإسناد حديث عائشة حسن جيد، والحسن بن بشر البجلي الكوفي أحد مشايخ البخاري، والمعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي، روى له البخاري وأبو داود والنسائي.

والمغيرة بن زياد أبو هشام البجلي الموصلي، قال وكيع: كان ثقة. وعن أحمد: مضطرب الحديث. وعن ابن معين: ليس به بأس، وعنه: ثقة. وروى له الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء". وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (¬2): أنا وكيع، أنا المغيرة بن زياد ... إلى آخره نحوه، وفي آخره: "في السفر". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ثم هذا عبد الله بن مسعود أيضًا قد روينا عنه، عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر، ثم قد روي عنه عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا قييصة بن عقبة والفريابي، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة قط في غير وقتها إلاأنه جمع بين الصلاتين بِجَمْعٍ، وصلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها". فثبت بما ذكرنا أن ما عاين من جمع رسول الله - عليه السلام - بين الصلاتين هو بخلاف ما تأوله المخالف لنا؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار المروية في جمع رسول الله - عليه السلام -. ش: أشار بهذا الكلام إلى تأكيد ما قال أهل المقالة الثانية من أن المراد من الجمع بين الصلاتين: أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، ويجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، ألا ترى أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يجمع بين الصلاتين، ثم روى أنه ما رأى أنه - عليه السلام - قط صلى صلاة في غير وقتها، إلا في موضعين؛ فعلم من ذلك أن معنى قوله: إنه كان يجمع بين الصلاتين؛ مثل ما قال أهل المقالة الثانية، وهو أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ويقدم الثانية في أول ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 210 رقم 8238). (¬2) "مسند إسحاق بن راهويه" (1 - 3) (3/ 632 رقم 1213).

وقتها إذ لو كان معنى كلامه مثل ما قال أهل المقالة الأولى لكان كلامه متناقضًا؛ لأن بين قوله: كان يجمع بين الصلاتين، وبين قوله: ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة قط في غير وقتها؛ منافاة ظاهرة وهنا حوار آخر ذكرناه في أول الباب عند الحديث المذكور. وإسناد حديث ابن مسعود هذا صحيح على شرط البخاري ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا الحسن بن نصر، والفريابي هو محمد بن يوسف شيخ البخاري ونسبته إلى فارياب بليدة بنواحي بلخ ينسب إليها الفريابي والفاريابي، والفيريابي بزيادة الياء. وسفيان هو الثوري، والأعمش هو سليمان. وأخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي. فلفظ البخاري (¬1)، "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين، صلاة المغرب والعشاء بجَمْع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها". ولفظ مسلم (¬2) نحوه. ولفظ أبي داود (¬3): "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة إلا لميقاتها إلا بجَمْع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمْع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها". ولفظ النسائي (¬4): "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي الصلاة لوقتها إلا بجَمْع وعرفات". قوله: "بجَمْع" بفتح الجيم وسكون الميم، علم للمزدلفة، سميت به؛ لأن آدم وحواء عليهما السلام لما أُهبطا من الجنة اجتمعا بها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1598). ولفظه: "بغير ميقياتها إلا صلاتين جمع بين". (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 938 رقم 1289). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 193 رقم 1934). (¬4) "المجتبى" (5/ 254 رقم 3010). وأخرجه أيضًا بلفظ مسلم (5/ 262 - رقم 3038).

قوله: "لغير ميقاتها" أي في غير وقتها، وأراد أنه صلى الفجر بغلس، أول طلوع الفجر؛ لأجل الوقوف بمزدلفة. والدليل عليه ما رواه مسلم (¬1): من حديث جابر - رضي الله عنه -: "أنه - عليه السلام - أتى المزدلفة فصل بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه، فحمد الله وكبره وهلله، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، ثم وقع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل". ص: وقد ذكر فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف كما جمع بينهما في السفر أفيجوز لأحد في الحضر لا في حال خوف ولا علّة أن يؤخر الظهر إلى قرب تغير الشمس ثم يصلي؟ وقد قال رسول الله - عليه السلام - في التفريط في الصلاة ما قد حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، بأن يؤخر الصلاة إلى وقت أخرى". قال أبو جعفر: فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن تأخير الصلاة إلى وقت التي بعدها تفريط، وقد كان قوله ذلك وهو مسافر، فدل ذلك أنه أراد به المسافر والمقيم، فلما كان مُؤَخِّر الصلاة إلى وقت التي بعدها مفرطًا؛ استحال أن يكون النبي - عليه السلام - جمع بين الصلاتين بما كان به مفرطًا، ولكنه جمع بينهما بخلاف ذلك، فصلى كل واحدة منهما في وقتها. ش: هذا أيضًا إشارة إلى تأييد صحّة تأويل أهل المقالة الثانية في صورة الجمع، أي قد ذكر في الآثار المذكورة أنه - عليه السلام - جمع بين الصلاتين في الحضر وليس في خوف ولا علة، كما مرّ في حديث جابر - رضي الله عنه -، ثم إنه هل يجوز لأحد في الحضر وليس في خوف ولا علة أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر ثم يجمع بينهما عند تغير الشمس؟ فهذا لم يقل به الخصم أيضًا، فدل ذلك على أن المراد ¬

_ (¬1) تقدم.

من جمع رسول الله - عليه السلام - بين الصلاتين هو الذي ذكره أهل المقالة الثانية، وكيف وقد أطلق - صلى الله عليه وسلم - على من يؤخر صلاة إلى وقت صلاة أخرى مفرّطًا ومقصرًا وإذا كان هذا مفرطًا فمن المحال أن يكون النبي - عليه السلام - جمع بين الصلاتين بصورة يكون فيها مفرطًا، لزم من ذلك أنه - عليه السلام - جمع بينهما بصورة ليس فيها تفريط، وهي الصورة التي ذكرها أهل المقالة الثانية، وهي أن يكون قد صلى كل واحدة منهما في وقتها، غير أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدّم الثانية في أول وقتها، فيكون جامعًا بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا، من غير تفريط ولا تقصير. قوله: "أفيجوز لأحد" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: "وقد قال" جملة وقعت حالًا. وإسناد حديث أبي قتادة صحيح على شرط مسلم، وأبو بكرة: بكار القاضي، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وثابت: هو البناني أبو محمد البصري، وأبو قتادة: الأنصاري، اسمه الحارث بن ربعي. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا: ثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة- قال: نا ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "خطبنا رسول الله - عليه السلام - فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدًا، فانطلق الناس لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، قال أبو قتادة: فبينما رسول الله - عليه السلام - يسير حتى إبهار الليل وأنا إلى جانبه، قال: فنعس رسول الله - عليه السلام -، فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان في آخر الليل مال ميلة هي أشد من الميلتين الأولتين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قال: قلت: مازال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله بما حفظت به ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 472 رقم 681).

نبيه، ثم قال: هل ترانا نخفي عن الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحدٍ؟ قلت: هذا ركب، ثم قلت: هذا ركب آخر، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب، قال: فمال رسول الله - عليه السلام - عن الطريق، فوضع رأسه ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من استيقظ رسول الله - عليه السلام - والشمس في ظهره، قال: فقمنا فزعين، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، قال: فتتوضأ ووضوء دون وضوء قال: وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، وصلى رسول الله - عليه السلام - ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، وركب رسول الله - عليه السلام - وركبنا معه، قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: أما لكم فيّ أسوةٌ؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصليها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ قال: ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدكم لم يكن ليخَلِّفكم، وقال الناس: إن رسول الله - عليه السلام - بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشًا، فقال: لا هلك عليكم، ثم قال: اطلقوا لي غمري، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله - عليه السلام - يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله - عليه السلام -: أحسنوا الملأ، كلكم سيروى. قال: ففعلوا، فجعل رسول الله - عليه السلام - يصب وأبو قتادة يسقيهم، حتى ما بقى غيري وغير رسول الله - عليه السلام -، قال: ثم صَبّ رسول الله - عليه السلام -، فقال لي: اشرب، قلت: لا أشرب حتى! تشرب أنت يا رسول الله. قال: إن ساقي القوم آخرهم شربًا، قال: فشربت وشرب رسول الله - عليه السلام -. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء، قال: فقال عبد الله ابن أبي رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع؛ إذ قال عمران بن

حصين - رضي الله عنه -: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قال: فقلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدث [فأنتم] (¬1) أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم، فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدًا حفظه كما حفظته". وأخرجه أبو داود (¬2): نا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري، قال: نا أبو قتادة: "أن النبي - عليه السلام - كان في سفر له، فمال رسول الله - عليه السلام - فملت معه، فقال: انظر، قلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة، حتى صرنا سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا -يعني صلاة الفجر- فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حَرُّ الشمس، فقاموا فساروا هنية، ثم نزلوا فتوضئوا، وأذن بلال، فصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر، وركبوا، [فقال] (¬3) بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا فقال: رسول الله - عليه السلام -: إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت". وأخرجه النسائي (¬4): أنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط فيمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى حين ينتبه لها". وأخرجه ابن ماجه (¬5): ثنا أحمد بن عبدة، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "ذكروا تفريطهم في النوم، فقال: ناموا حتى ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": فأنت، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 119 رقم 437). (¬3) في "الأصل، ك": قال. والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) "المجتبى" (1/ 294 رقم 616). (¬5) ابن ماجه (1/ 228 رقم 698).

طلعت الشمس، فقال رسول الله - عليه السلام -: ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسى أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد، قال عبد الله بن رباح: فسمعني عمران بن الحصين وأنا أُحّدث بالحديث، فقال: يا فتى انظر كيف تحدث، فإني شاهد هذا الحديث مع رسول الله - عليه السلام -، قال: فما أنكر من حديثه شيئًا". قوله: "ليس في النوم تفريط" أي تقصير؛ لأن النوم سبب من أسباب العجز، ورُفِعَ القلم عن النائم حتى يستيقظ. فإن قيل: إذا أتلف النائم برجله أو بيده أو غير ذلك من أعضائه شيئًا يجب ضمانه، فكيف لا يكون مكلفًا؟ قلت: غرامة المتلفات لا يشترط لها التكليف بالإجماع حتى لو أتلف الصبي أو المجنون شيئًا يجب ضمانه في حالهما. قوله: "إنما التفريط في اليقظة" لوجود التقصير من غير عذر، ثم لنشرح مشكلات ما في رواية مسلم لكثير الفائدة: فقوله: "لا يلوي أحد على أحد" أي لا يعطف عليه ولا بقطرة. قوله: "حتى ابهار الليل" أي انتصف، وبهرة كل شيء وسطه، وقيل: ابهار الليل إذا طلعت نجومه واستنارات، والأول أكثر. قوله: "فدعمته" أي أقمت ميله من النوم بأن صرت تحته كالدعامة لما فوقها، حتى اعتدل. قوله: "حتى تهور الليل" يعني ذهب أكثره، قاله الهروي، يقال: تهور الليل وتَوَهَّر إذا ذهب أكثره، كما يتهور البناء. قوله: "حتى كاد ينجفل" أي ينقلب عن دابته ويسقط، يقال: ضربه فجفله، أي ألقاه على الأرض.

قوله: "بميضأة" بكسر الميم، وهي المطهرة الكبيرة يتوضأ فيها، قال ابن الأثير: هي بالقصر، وكسر الميم، وقد تمد، ووزنها مِفْعلة ومِفْعالة، والميم زائدة. قوله: "وضوءًا دون وضوء" أراد به: تخفيف الوضوء، وقيل: معناه وضوءًا دون استنجاء. قوله: "نبأ" أي خبرٌ وشأنٌ. قوله: "يهمس" من الهمس، وهو الكلام الخفي. قوله: "فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها" وفي رواية أبي داود: "فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بهذه اللفظة وجوبًا أي قوله: "من الغد للوقت"، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابًا ليحوز فضيلة الوقت في القضاء. قوله: "اطلقوا لي غُمَري" قال أبو عبيد: يقال للقعب الصغير: غمر وتَغَمَّرت: أي شربت قليلًا قليلًا، وقال ابن الأثير: "الغمر" بضم الغين المعجمة، وفتح الميم: القدح الصغير "ومعنى" أطلقوا لي غمري": ائتوني به. قوله: "تكابُّوا" أي ازدحموا عليها، وهي تفاعلوا من الكُبَّة بالضم، وهي الجماعة من الناس وغيرهم. قوله: "أحسنوا الملأ" بفتح الميم واللام والهمزة، أي: أحسنوا الخلق، وقال ابن الأثير: وأكثر قراء الحديث يقرءونها: أحسنوا المِلْء: بكسر الميم وسكون اللام، من مَلْءِ الإناء، وليس بشيء. قوله: "جامين" بالجيم، نصب على الحال من الناس، ومعناه مجتمعين، وأصله من الجموم والجمة، هو الاجتماع والكثرة. قوله: "رواء" نصب على الحال أيضًا، ومعناه: ضد العطش، وهو جمع ريان، كما أن العطاش جمع عطشان.

قوله: "فَضُرب على آذانهم" كلمة فصيحة من كلام العرب، معناه أنه حجب الصوت والحسّ عن أن يلجأ آذانهم فينتبهوا، ومن هذا قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (¬1). فكأنها قد ضرب عليها حجاب. قوله: "هُنَيَّة" أي قليلًا من الزمان، وهي تصغير هنة. قوله: "فرطنا" أي قصرنا. ص: وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - مقد روي عنه، عن رسول الله - عليه السلام - أنه جمع بين الصلاتين، ثم قال ما حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى". فأخبر ابن عباس أن مجيء وقت الصلاة بعد الصلاة التي قبلها فوتٌ لها، فثبت بذلك أن ما علمه من جمع النبي - عليه السلام - بين الصلاتين كان بخلاف صلاته إحداهما في وقت الأخرى. ش: هذا أيضًا إشارة إلى تأييد صحة تأويل أهل المقالة الثانية من صورة جمع المسافر بين الصلاتين، بيانه: أن عبد الله بن عباس روى عن النبي - عليه السلام - أنه جمع بين الصلاتين -كما مرَّ في أول الباب- ثم قال هو: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى". فأخبر أن مجيء وقت الصلاة بعد الصلاة التي قبلها فوت للصلاة الأولى، فدل ذلك أن ما علمه من جمع النبي - عليه السلام - بين الصلاتين كان بخلاف صلاته إحداهما في وقت الأخرى، إذْ لو لم يكن كذلك لكان بين روايته عنه - عليه السلام - وبين قوله تضادًّا، فعلمنا أن معنى جمعه - عليه السلام - بين الصلاتين هو: أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، فيكون جمعه بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا. وإسناد أثر ابن عباس صحيح، ورجاله أئمة كبار ثقات، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وليث هو ابن أبي سليم. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: [11].

قوله: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى" قيل: معناه أن بين الصلاتين وقتًا، فإذا لم يخرج ذلك الوقت لا يجيء وقت الصلاة الأخرى، ولا يخرج وقت الصلاة الأولى إلا بخروج ذلك اوقت. وقد صُرِّح بذلك في رواية أخرجها ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "بين كل صلاتن وقت". ص: وقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه - مثل ذلك، كما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قيس وشريك، أنهما سمعا عثمان بن عبد الله بن موهب قال: "سئل أبو هريرة ما التفريط في الصلاة؟ فقال: أن تؤخر حتى يجيء وقت الأخرى". ش: أي: مثل ما قال ابن عباس، وقال أيضًا: إن تأخير الصلاة إلى وصول وقت الأخرى تفريط. وهو أيضًا قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك. أخرجه في "الموطإ" (¬2) فدل ذلك أنه قد علم من النبي - عليه السلام - أن جمعه كان على الصفة التي ذكرها أهل المقالة الثانية، إذ لو لم يكن كذلك لكان بين روايته عنه - عليه السلام - وبين قوله هذا تضادًا، فعلم أن جمعه - عليه السلام - بين الصلاتين هو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، فيكون جمعًا بينهما فعلًا لا وقتًا، كما بيناه. وإسناد أثر أبي هريرة صحيح. وقيس بن الربيع الأسدي وإن كان يحيى قد ضعفه، والجوزجاني أسقطه والنسائي تركه؛ ولكنه ذُكِرَ متابعة لشريك بن عبد الله النخعي، على أن ابن عدي قال: قيس بن الربيع لا بأس به. وقال عفان: ثقة. واحتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 294 رقم 3366). (¬2) "الموطأ" (1/ 143 رقم 327).

وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن عثمان بن موهب قال: "سمعت أبا هريرة يُسأل عن التفريط في الصلاة، قال: "أن تأخرها حتى يدخل وقت التي بعدها". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن عثمان بن موهب قال: "سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - وسأله رجل عن التفريط في الصلاة، فقال: أن تؤخرها إلى وقت التي بعدها، فمن فعل ذلك فقد فرّط". ص: قالوا: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد روي عن النبي - عليه السلام - لما سُئل عن مواقيت الصلاة، فصلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى الظهر في اليوم الثاني في ذلك الوقت بعينه، فدل ذلك على أنه وقت لهما جميعًا. قال أبو جعفر: فيقال لهم: ما في هذا حجة توجب ما ذكرتم؛ لأن هذا قد يحتمل أن يكون أريد به أنه - عليه السلام - صلى الظهر في اليوم الثاني في قرب الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، وقد ذكرنا ذلك والحجة فيه في باب مواقيت الصلاة، والدليل على ذلك: قوله - عليه السلام -: "الوقت فيما بين هذين الوقتين". فلو كان كما قاله المخالف لنا إذن لما كان بينهما وقت، أو كان ما قبلهما وما بعدهما وقت كله، ولكن ذلك دليل على أن كل صلاة من تلك الصلوات منفردة بوقت غير وقت غيرها من سائر الصلوات. ش: أي قال أهل المقالة الأولى، وهم الشافعي ومالك وأحمد ومن قال بقولهم: قد دل على ما قلنا من أن وقتي الظهر والعصر واحد ما قد روي عن النبي - عليه السلام - ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "فيقال لهم" أي: أهل المقالة الأولى "ما في ما ذكرتم حجة" وبرهان، "توجب" أي تقتضي "ما ذكرتم ... " إلى آخره، وهو أيضًا ظاهر، وقد مرَّ تحقيقه في باب مواقيت الصلاة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 294 رقم 3370). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 582 رقم 2216).

قوله: "الحجة فيه" بالنصب إما بفعل محذوف أي وذكرنا أيضًا الحجة فيه، وإما على أنه مفعول لقوله: "وقد ذكرنا ذلك" أي وقد ذكر ذلك مع الحجة فيه. قوله: "والدليل على ذلك" أي على ما ذهبنا إليه من أنه - عليه السلام - قد صلى الصلاتين فيما بين هذين الوقتين، بيانه: أن قوله - عليه السلام -: "الوقت فيما بين هذين الوقتين" يقتضي أن يكون ما بين الوقتين اللذين صلى فيهما - عليه السلام - في اليومين المتوالين وقتًا معلومًا متميزًا إذ لو كان كما قال هؤلاء؛ لما كان بين هذين الوقتين وقت، بل وذلك دليل على أن كل صلاة من الصلوات منفردة بوقت، مخصوصة به، لا تشارك غيرها من الصلوات، ويؤيد ذلك أيضًا حديث أبي هريرة: "إن للصلاة أولًا وآخرًا" أراد أن الصلاة محدودة بوقت معين، وأن كل واحدة من الصلوات الخمس تمتاز عن غيرها بوقتها الخاص لها، ولا تشارك صلاة أخرى في وقتها، وحديث ابن عباس أيضًا: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى". ص: وحجة أخرى: أن عبد الله بن عباس وأبا هريرة قد رويا ذلك عن النبي - عليه السلام - في مواقيت الصلاة، ثم قالا هما في التفريط في الصلاة: إنه تركها حتى يدخل وقت التي بعدها. فثبت بذلك أن وقت كل صلاة من الصلوات خلاف وقت الصلاة التي بعدها، فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنَّا قد رأيناهم أجمعوا أن صلاة الصبح لا ينبغي أن تقدم على وقتها ولا تؤخر عنه، وأن وقتها وقت لها خاصة دون غيرها من الصلوات، والنظر على ذلك أن يكون كذلك سائر الصلوات، كل واحدة منهن منفردة بوقتها دون غيرها؛ فلا ينبغي أن تؤخر عن وقتها، ولا تقدم قبله. ش: أي جواب آخر عما احتجوا به آنفًا: "أن ابن عباس وأبا هريرة - رضي الله عنهم - قد رويا ذلك" أي ما ذكر أنه - عليه السلام - صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، "ثم قالا هما" ابن عباس وأبو هريرة "في التفريط في الصلاة"

حين سُئلا عنه: "إنه تركها" أي أن التفريط: "ترك الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة التي بعدها"، فدل ذلك أن المراد: أنه - عليه السلام - صلى الظهر في اليوم الثاني في قرب الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، وثبت بذلك أيضًا أن وقت كل صلاة من الصلوات خلاف وقت الصلاة التي بعدها، وأن كل واحدة منهما متميزة عن غيرها بوقت محدود ومعين، وباقي كلامه غني عن الشرح. ص: فإن اعتل معتل بالصلاة بعرفة وبِجَمْع؛ قيل له: قد رأيناهم قد أجمعوا أن الإمام بعرفة لو صلى الظهر في وقتها كما في سائر الأيام وصلى العصر في وقتها كما في سائر الأيام، وفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة، فصلى كل واحدة منهما في وقتها كما يصلي في سائر الأيام كان مسيئًا، ولو فعل ذلك وهو مقيم، أو فعله وهو مسافر في غير عرفة وجمع؛ لم يكن مسيئًا، فثبت بذلك أن عرفة وجَمْع مخصوصتان بهذا الحكم، وأن حكم ما سواهما في ذلك بخلاف حكمهما فيه، فثبت بما ذكرناه أن ما روينا عن رسول الله - عليه السلام - من الجمع بين الصلاتين أنه تأخير الأولى وتعجيل الآخرة. ش: هذا اعتراض يَرِدُ على وجه النظر تقريره: أنكم قلتم: إن صلاة الصبح بالإجماع لا تتقدم على وقتها ولا تتأخر، وأن وقتها وقت مخصوص محدود الطرفين لا يشاركها غيرها فيه، والقياس عليها أن تكون سائر الصلوات كذلك، وأن تكون كل صلاة مخصوصة بوقت معين لا تشارك غيرها فيه؟ فما قولكم في الصلاة بعرفات، فإنه يجمع فيها بين الظهر والعصر وأنهما كان في وقت واحد، وكذلك الصلاة بجمع وهو المزدلفة فإنه يجمع فيها؟ وتقرير الجواب: أن الجمع بين الظهرين في عرفات والعشائين في مزدلفة ليس بناء على أن وقت الظهرين وقت واحد، ووقت العشائين وقت واحد، بحيث تشارك الأخرى في ذلك الوقت، وإنما هو مبني على أنه مأمور بالجمع بين الصلاتين في الموضعين المذكورين، وإنما يفعل ذلك امتثالًا للأمر ولأجل الوقوف بعرفة، ولأجل الاشتغال بالإفاضة منها إلى المزدلفة، والدليل على ذلك أن الإِمام بعرفة لو صلى كل واحدة من الظهر والعصر في وقتها المعهود كان جائزًا، ولكنه

مسيئًا لتركه السنة، وكذلك لو صلى كل واحدة من المغرب والعشاء بمزدلفة في وقتها كان جائزًا مع الإساءة. ولو كان الجمع بينهما للمعنى الذي ذكرته لما جازت صلاته، وكذا لو فعل ذلك المُتِمُّ أو المسافر في غير هذين الموضعن لم يكن مسيئًا، فثبت بذلك أن عرفة وجمع مخصوصتان بهذا الحكم، وأن حكم ما سواهما في هذا بخلاف حكمهما فيه. قوله: "فثبت بما ذكرناه ... " إلى آخره نتيجة كلامه الذي ذكره من تصحيح معاني الآثار، والذي ذكره من وجه النظر، أي ثبت بجميع ما ذكرنا في هذا الباب: أن معنى ما روينا عن النبي - عليه السلام - من الجمع بين الصلاتين: أنه أخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الثانية في أول وقتها، ثم اعلم أن النُّسَخ ها هنا مختلفة من قوله: "قيل له" إلى قوله: "فثبت بما ذكرناه"، وأحسنها وأصوبها ما أثبته وترجمته بالحمرة. قوله: "فإن اعتل معتل" المعتل ها هنا اسم فاعل، ولكنه يشترك في مثل هذه الصيغة اسم الفاعل واسم المفعول، ويحصل الفرق بالقرينة، مثل العلة ونحوها يقال هذا معتل للفاعل، ومعتل فيه للمفعول، وإنما لم يظهر الفرق بين الفاعل والمفعول في مثل هذا لأجل الإدغام، والفرق فيه تقديري؛ لأن ما قبل آخره مكسور في الفاعل، ومفتوح في المفعول، تقول: مُعْتَلِلٌ ومُعْتَلَلٌ عند فك الإدغام وإذا أدغمت إحدى اللامين في الأخرى يزول الفرق الصوري ويبقى التقديري، فافهم. قوله: "إن عرفة وجمع" كلاهما لا ينصرفان؛ للعلمية والتأنيث، أما عرفة فإنه علم للبقعة المشهورة وفيها تأنيث لفظًا ومعنًا. وأما "جمع" فإنه علم للمزدلفة، وفيها تأنيث معنوي؛ لأنه علم للبقعة فلا ينصرفان، فلا يدخلهما الجرّ والتنوين. فإن قيل: قد دخل الجر في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (¬1) فما وجهه؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [198].

قلت: لأن التأنيث فيها إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة، كما في ساعات، فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن اختصاص هذه التاء بالجمع المؤنث مانعة من تقديرها، فحينئذ لم يبق فيها إلا العلمية فلم يمنع من دخول التنوين حينئذ، فافهم. ص: وكذلك كان أصحاب النبي - عليه السلام - من بعده يجمعون بينهما. حدثنا محمد بن النعمان السقطي، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو خيثمة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: "وفدت أنا وسعد بن مالك ونحن نبادر الحج، فكان يجمع بين الظهر والعصر، يقدم من هذه ويؤخر من هذه، ويجمع بين المغرب والعشاء، يقدم من هذه ويؤخر من هذه، حتى قدِمنا مكة شرفها الله تعالى". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد، قال: "صحبت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في حجة، فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، ويسفر بصلاة الغداة". وجميع ما ذهبنا إليه في هذا الباب، وكيفية الجمع بين الصلاتين؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أي كما ذكرنا من أن صورة الجمع بين الصلاتين: هي تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها، كان أصحاب النبي - عليه السلام - من بعده يجمعون كذلك. وقد أخرج عن اثنين من الصحابة: أحدهما: سعد بن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة.

أخرج عنه بإسناد صحيح، عن محمد بن النعمان السقطي، منسوب إلى السقط، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية الجعفي من أكابر أصحاب أبي حنيفة وممن روى لهم الجماعة، عن عاصم بن سليمان الأحول البصري، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مَلّ النهدي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبدة، عن عاصم، عن أبي عثمان قال: "خرجت أنا وسعد إلي مكة، فكان يجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، يؤخر هذه ويعجل من هذه ويصليهما جميعًا، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء ثم يصليهما جميعًا، حتى قدمنا مكة". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن عاصم، عن أبي عثمان النهدي، قال: اصطحبت أنا وسعد بن أبي وقاص من الكوفة إلى مكة، وخرجنا موافدين، فجعل سعدٌ يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يقدم من هذه قليلًا ويؤخر من هذه قليلًا حتى جئنا مكة". والآخر: عبد الله بن مسعود، أخرج عنه بإسناد صحيح، عن فهد، عن عبد الله ابن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني أحد مشايخ البخاري وأبي داود، عن زهير ابن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق ... إلى آخره مقتصرًا على الإسفار بالفجر. قوله: "وفدت" من وَفِدَ يَفِدُ فهو وافدٌ، وأوفدته فَوَفَد، يقال: وَفِدَ فلان على الأمير، أي وَرَدَ رسولًا، فهو وافد، والجمع وَفْدٌ مثل صَاحب وصحْبٌ، وجمع ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 210 رقم 8234). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 549 رقم 4406). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 284 رقم 3249).

الوفد: أوفاد ووفود، والاسم الوفادة، ووافدته أنا إلى الأمير أي أرسلته، وإنما أظهر الضمير المرفوع بقوله: "أنا" ليصبح العطف على وفدت، كما عرف في موضعه. قوله: "ونحن نبادر" من المبادرة وهي المسارعة، والله أعلم بالصواب.

ص: باب: الصلاة الوسطه أي الصلوات هي؟

ص: باب: الصلاة الوسطه أي الصلوات هي؟ ش: أي هذا الباب في بيان الصلاة الوسطى آية صلاة هي من بين الصلوات الخمس؟ والوسطى بضم الواو: تأنيث الأوسط بمعنى الفضلى، وأفعل التفضيل لا يُبْهنَى إلا مما يقبل الزيادة والنقص، وكذا فعل التعجب، فلا يجوز زيد أموت للناس، ولا ما أموت زيد؛ لأنه لا يقبل ذلك، وكون الشيء وسطًا بين شيئين لا يقبل الزيادة والنقصان فلا يجوز أن يبنى أنه أفعل التفضيل، فتعين أن يكون الوسطول بمعنى: الفضلى، والمناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على أحكام الصلاة. ص: حدثنا ربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان: "أن رهطًا من قريش اجتمعوا، فمر بهم زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطي، فقال: هي العصر، فقام رجلان إليه منهم فسألاه، فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسالاه، فقال: هي الظهر؛ إن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله -عز وجل-: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬1). فقال النبي - عليه السلام -: "لينتهين رجال؛ أو لأحرقن بيوتهم". حدثنا فهد، قال: نا عمرو بن مرزوق، قال: نا شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، عن الزبرقان، عن عروة، عن زيد بن ثابت قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير -أو قال: بالهاجرة- وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1)؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238].

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، نا شعبة، عن عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: "هي الظهر". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن داود بن الحصين، عن ابن اليربوع المخزومي: "أنه سمع زيد بن ثابت يقول ذلك". حدثنا ابن معبد، قال: ثنا المقرئ، عن حيوة وابن لهيعة، قالا: أنا أبو صخر، أنه سمع يزيد بن عبد الله بن قسيط يقول: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت، يقول: "سمعت أبي يقول ذلك". ش: هذه ستة طرق صحاح عن زيد بن ثابت، غير أن الطريق الأول منقطع؛ لأن الزبرقان بن عمرو بن أمية لم يسمع من زيد بن ثابت ولا من أسامة بن زيد، وقد وثقه ابن حبان وغيره، وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى بن معين، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان: "أن رهطًا من قريش مَرَّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين [لهم] (¬2) يسألانه عن الصلاة الوسطي ... " إلى آخره نحوه سواء. والرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين ولا يكون فيهم امرأة، لا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط، وأراهط جمع الجمع، والهجير والهاجرة: اشتداد الحر نصف النهار، والقائلة: الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم، يقال: قَالَ يَقِيل قيلولة فهو قائل، وقال الجوهري: القائلة هي الظهيرة ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 206 رقم 21840). (¬2) في "الأصل، ك": "له"، والمثبت من "مسند أحمد".

يقال: أتانا عند القائلة، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضًا، وهي النوم في الظهيرة، يقال: قال يقيل قيلولة وقيلًا ومقيلًا وهو شاذ. قوله: "لينتهين رجال" أي لينتهين عن تضييع هذه الصلاة التي أمرهم الله -عز وجل- بالمحافظة عليها؛ أو لأحرقن بيوتهم. والأصل في مثل هذا الموضع أن يقدر قبل "أو" مصدر وبعدها "أن" ناصبة للفعل، وهما في تأويل مصدر معطوف بـ "أو" على المقدر قبلها. فتقدير هذا الكلام: ليكونن انتهاء منهم عن تضييع هذه الصلاة؛ أو إحراقٌ مني بيوتهم. الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، قال: سمعت الزبرقان يحدث، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري أيضًا في "تاريخه الكبير" (¬2). قوله: "وكانت أثقل الصلوات" لكونه - عليه السلام - كان يصليها في قوة الحر، ثم أبرد بعد ذلك، وأمر بالإبراد. قوله: "لأن قبلها صلاتين" وهما الصبح والعشاء، وهما من وجه الليل، "وبعدها صلاتين" وهما العصر والمغرب، وهما من وجه النهار. الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد الأعور المصيصي، عن شعبة ... إلى آخره. الرابع: عن ابن مرزوق ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 112 رقم 411). (¬2) "التاريخ الكبير" (3/ 433).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: "الصلاة الوسطي صلاة الظهر". الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى البصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن سعيد بن اليربوع المخزومي، عن زيد بن ثابت. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن مالك، عن داود بن الحصين، عن ابن اليربوع، قال: سمعت زيد بن ثابت قال: "هي الظهر". السادس: عن علي بن معبد بن نوح، وفي بعض النسخ عن إبراهيم بن منقذ العصفري عن عبد الله بن يزيد المقري، عن حيوة بن شريح بن صفوان أبي زرعة المصري، وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن أبي صخر بن زياد الخراط المدني، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي المدني الأعرج عن خارجة بن زيد بن ثابت أحد الفقهاء السبعة، عن أبيه زيد بن ثابت. قوله: "يقول ذلك" أي يقول: إن الصلاة الوسطى هي الظهر. وهذا هو المشهور عن زيد بن ثابت، وقال أبو عمر: وهو أثبت ما روي عنه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا موسى بن ربيعة، عن الوليد بن أي الوليد، عن عبد الرحمن بن أفلح: "أن نفرًا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يسأله عن الصلاة الوسطي، فقال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم: أنا كنا نتحدث أنها التي في إثر الضحى، قال: فردوني إليه الثانية، فقلت: يقرءون عليك السلام ويقولون لك: بين لنا أي صلاة هي؟ فقال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم: أنا كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله - عليه السلام - الكعبة. قال: وقد عرفناها، هي الظهر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 245 رقم 8617). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 577 رقم 2199).

ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه الطبري (¬1): ثنا ابن البرقي [قال: ثنا ابن أبي مريم، قال:] (¬2) أنا نافع بن يزيد، حدثني الوليد بن أبي الوليد، أن سلمة مرة حدثه: "أن نفرًا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطي، فقال له: هي التي على إثر الضحى، فما زادنا إلا عيًّا، بها فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح [مولى عبد الله بن عمر] (2) فارسلوه إليه، فقال: هي التي توجه فيها رسول الله - عليه السلام - إلى القبله". وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬3): من حديث موسى بن ربيعة الجمحي، عن الوليد، عن ابن أفلح: "أن نفرًا من الصحابة أرسلوا إلى ابن عمر ... " فذكره، وقال: لا يروى عن ابن أفلح، عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به موسى. قوله: "أن نفرًا" أي جماعة، وهم رهط الإنسان وعشيرته، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أنفار. قوله: "أنها" أي كنا نتحدث: أن الصلاة الوسطى هي التي تكون في إثر الضحى، أي عقيب صلاة الضحى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى ما ذكرنا، فقالوا: هي الظهر، واحتجوا في ذلك بما احتج به زيد بن ثابت، على ما ذكرناه في حديث الربيع، وبما رويناه في ذلك عن ابن عمر. شْ: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن شداد وعروة بن الزبير وأبا حنيفة في رواية؛ فإنهم قالوا: الصلاة الوسطي هي صلاة الظهر، وهو قول أسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (2/ 562). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "تفسير الطبري". (¬3) "المعجم الأوسط" (1/ 83 رقم 240).

وقال الطبري: وهو قول ابن عمر وأبي سعيد الخدري على اختلاف عنهما. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من أن الصلاة الوسطى هي الظهرة بما احتج به زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - وما احتج به زيد بن ثابت هو الذي رواه عنه بالطرق الستَّة، وقد ذكرناها. قوله: "وبما رويناه" أي واحتجوا أيضًا بما رويناه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما حديث زيد بن ثابت فليس فيه عن النبي - عليه السلام - إلا قوله: "لينتهين أقوام، أو لأحرقن عليهم بيوتهم" وأن النبي - عليه السلام - كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يجتمع معه إلا الصف والصفان، فأنزل الله هذه الآية، فاستدل هو بذلك على أنها الظهر؛ فهذا قولٌ من زيد بن ثابت ولم يروه عن النبي، وليس في هذه الآية عندنا دليل على ذلك؛ لأنه قد يجوز أن تكون هذه الآية أنزلت للمحافظة على الصلوات كلها، الوسطى وغيرها، ومن المحافظة عليها حضورها حيث تصلى، فقال لهم النبي - عليه السلام - في الصلاة التي يفرطون في حضورها: "لينتهين أقوام أو لأحرقن عليهم بيوتهم" يريد لينهين أقوام عن تضييع هذه الصلاة التي قد أمرهم الله بالمحافظة عليها، أو لأحرقن عليهم بيوت هم، وليس في شيء من ذلك دليل على الصلاة الوسطي أي صلاة هي منهن. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه، وهم جماعة كثيرة منقولة في مخالفيهم، أولئك القوم مختلفون أيضًا فيما بينهم، على ما يجيء مفصلًا إن شاء الله تعالى. قوله: "فقالوا: أما حديث زيد بن ثابت ... " إلى آخره جواب عما احتج به أولئك القوم، ورد لاستدلالهم؛ فإنه لا يصلح لما ذهبوا إليه، ووجه ذلك ظاهر غني عن البيان، وكذلك أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - ليس فيه دليل عن أن النبي - عليه السلام - على أن الصلاة الوسطي هي الظهر، وإنما هو قول ابن عمر - رضي الله عنه - وإخباره عما كانوا يتحدثون أنها الصلاة التي توجه فيها رسول الله - عليه السلام - إلى الكعبة شرفها الله، ثم العلماء ذكروا في هذا الباب عشرين قولًا:

الأول: أن الصلاة الوسطى هي العصر، وهو قول أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب وأم سلمة - رضي الله عنهم -. وقال ابن حزم: ولا يصح عن عليّ ولا عن عائشة غير هذا أصلًا، وهو قول الحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وابن سيرين وسعيد بن جبير وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ويونس وقتادة والشافعي وأحمد والضحاك بن مزاحم وعبيد بن تميم وزر بن حبيش ومحمد بن السائب ومقاتل وآخرين، وقال أبو الحسن الماوردي، وهو مذهب جمهور التابعين. وقال أبو عمر: هو قول أكثر أهل الأثر. وقال ابن عطية: عليه جمهور الناس. وقال أبو جعفر الطبري: الصواب من ذلك ما تظاهرت به الأخبار من أنها العصر. وقال أبو عمر: وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب. وقال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم. قال الماوردي: هذا مذهب الشافعي؛ لصحة الأحاديث فيه. قلت: هو أيضًا قول داود وابن المنذر. الثاني: أنها المغرب؛ وهو قول قبيصة بن ذؤيب، قال أبو عمر: هذا لا أعلمه قاله غير قبيصة. الثالث: أنها العشاء الآخرة؛ وهو قول الماوردي، وزعم البغوي في "شرح السُّنَّة" أن السلف لم ينقل عن أحد منهم هذا القول، قال: وقد ذكره بعض المتأخرين. الرابع: أنها الصبح، وهو قول جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وابن عباس -في قول- وابن عمر -في قول- وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس والشافعي -في قول- وقال أبو عمر: وممن قال: الصلاة الوسطى

صلاة الصبح: عبد الله بن عباس وهو أصح ما روي عنه في ذلك، وهو قول طاوس ومالك وأصحابه. وفي بعض شروح البخاري: وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وأبي موسى ومعاذ -فيما ذكره البغوي- وعلي بن أبي طالب، قال أبو عمر: ولم يصح عنه ذلك، وصح عن ابن عباس. الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها، روي ذلك عن ابن عمر من طريق صحيح؛ قال نافع: سأل ابن عمر رجلٌ عن الصلاة الوسطي، فقال: هي منهن فحافظوا عليهن كلهن" وبنحوه قال الربيع بن خثيم وزيد بن ثابت -في رواية- وشريح القاضي ونافع. السادس: أنها الخمس؛ إذ هي الوسطي من الدين كما قال - عليه السلام -: "بُني الإِسلام على خمس" (¬1) قالت جماعة هي الوسطى من الخمس، روي ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن غنيم فيما ذكره النقاش، وفي كتاب الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل، قيل: ذلك لأنها وسط الإِسلام، أي حياده، وكذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. السابع: أنها هي المحافظة على وقتها مع الصلوات، وفي كتاب "التفسير" لابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا المحاربي وابن فضيل، عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه قال هي المحافظة على وقتها. الثامن: أنها مواقيتها وشروطها وأركانها، وقال مقاتل بن حيان: الوسطى: مواقيتها ووضوءها وتلاوة القرآن فيها والتكبير والركوع والسجود والتشهد والصلاة على النبي - عليه السلام -، فمن فعل ذلك فقد أتمها وحافظ عليها. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا به محمد بن الفضل، ثنا محمد بن علي بن شقيق، أنا محمد بن مزاحم، عن بكر بن معروف، عنه. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، البخاري (1/ 12 رقم 8)، ومسلم (1/ 45 رقم 16).

وذكر أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" عن ابن عباس نحوه. التاسع: أنها الجمعة خاصة حكاه أبو الحسن الماوردي وغيره؛ لما اختصت به دون غيرها، وقال ابن سيده في "المحكم": لأنها أفضل الصلوات، ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ، إلا أن يقوله برواية يسندها إلى رسول الله - عليه السلام -. العاشر: أنها الجمعة يوم الجمعة، وفي سائر الأيام الظهر، حكاه أبو جعفر محمد ابن مقسم في تفسيره. الحادي عشر: أنها صلاتان: الصبح والعشاء، وعزاه ابن مقسم في تفسيره لأبي الدرداء؛ لقوله - عليه السلام -: "لو تعلمون ما في العتمة والصبح ... " الحديث (¬1). الثاني عشر: أنها العصر والصبح، وهو قول أبي بكر المالكي الأبهري. الثالث عشر: أنها الجماعة في جميع الصلاة، حكاه الماوردي. الرابع عشر: أنها الوتر. الخامس عشر: أنها صلاة الضحى. السادس عشر: أنها صلات العيدين. السابع عشر: أنها صلاة عيد الفطر. الثامن عشر: أنها صلاة الخوف. التاسع عشر: أنها صلاة عيد الأضحى. العشرون: أنها المتوسطة بين الطول والقصر. وأصحها العصر؛ للأحاديث الصحيحة، والباقي بعضها ضعيف وبعضها غلط، وفي المراد بالصلاة الوسطى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أوسط الصلوات مقدارًا. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري (1/ 222 رقم 590)، ومسلم (1/ 325 رقم 437).

والثاني: أنها أوسطها محلًا. والثالث: أنها أفضلها، وأوسط كل شيء أفضله فمن قال الوسطي: الفضلى جاز لكل ذي مذهب أن يدعيه، ومن قال: مقدارًا فهي المغرب؛ لأن أقلها ركعتين وأكثرها أربع. ومن قال: محلاًّ ذكر كل أحد مناسبة يوجه لها. ص: وقد قال قوم: إن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا لم يكن لصلاة الظهر، وإنما كان لصلاة الجمعة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - أنه قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أُحَرِّق على قوم يتخلفون عن الجمعة في بيوتهم". فهذا ابن مسعود يخبر أن قول النبي - عليه السلام - ذلك إنما كان للمتخلفين عن الجمعة، ولم يستدل هو بذلك على أن الجمعة هي الصلاة الوسطي، بل قال بغير ذلك، وأنها العصر، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ش: أراد بالقوم: الحسن البصري، وعوف بن مالك، والنخعي. "أن قول رسول الله - عليه السلام - هذا" أي قوله: "لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم" لم يكن لأجل صلاة الظهر حتى يَسْتَدَلّ به على أنها هي الوسطي، وإنما كان لأجل صلاة الجمعة، وقد بَيَّن ذلك عبد الله بن مسعود في حديثه؛ إذ لو كان لصلاة الظهر لكان استدل به على أن الوسطي هي الظهر، وإنما كان ذلك لأجل المتخلفين عن الجمعة، فحينئذ استدلال أهل المقالة الأولى بهذا الحديث على أن الوسطي هي الظهر غير صحيح، ولا استدلال من يستدل به على أنها هي صلاة الجمعة؛ لأن ابن مسعود لم يستدل بذلك على أنها هي الجمعة، بل قال بخلاف ذلك، حيث قال: إنها العصر، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وإسناد حديث ابن مسعود صحيح على شرط مسلم، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وأبو الأحوص هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل بن دكين، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، سمعته منه عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - قال لقوم يتخلفون ... " إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "ثم أحرق على رجال". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2): من حديث زهير، عن أبي إسحاق نحوه. ص: وقد وافق ابن مسعود على ما قال من ذلك غيره من التابعين، كما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: زعم حميد وغيره عن الحسن قال: "كانت الصلاة التي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُحرق على أهلها: صلاة الجمعة". ش: أي قد وافق عبد الله بن مسعود على قوله: إن قول النبي - عليه السلام -: "لينتهين رجال أو لأحرقن عليهم بيوتهم" للمتخلفين عن الجمعة؛ غيره من التابعين، وهو الحسن البصري، فإنه قال: "الصلاة التي أراد رسول الله - عليه السلام - أن يحرق على أهلها: صلاة الجمعة". روى ذلك عنه: حميد بن أبي حميد الطويل. أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن حميد. ص: وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - خلاف ذلك أيضًا: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر رجلًا بحطب فَيَحْطِب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 48 رقم 5539). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 56 رقم 4714).

حدثنا ربيع المؤذن، قالا: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، ومالك عن أبي الزناد ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني أبو صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم آخذ شعلًا من نار، وأحرق على من لم يخرج إلى الصلاة بيته". حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: أنا عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه أخر عشاء الآخرة حتى كان ثلث الليل -أو قربه- ثم جاء وفي الناس رُقَّد وهم عِزُون، فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: لو أن رجلًا ندب الناس إلى عِرق أو مِرْمَاتين لأجابوا له، وهم يتخلفون عن هذه الصلاة، لهممت أن أمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أتخلف على أهل هذه الدورة الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم ... فذكر مثله بإسناده. قال أبو جعفر -رحمه الله -: فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يخبر أن الصلاة التي قال فيها النبي - عليه السلام - هذا القول هي العشاء، ولم يدل ذلك على أنها الصلاة الوسطي، بل قد روى هو عن النبي - عليه السلام - ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ش: أي وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - خلاف ما روي عن ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود أخبر أن قول النبي - عليه السلام -: "لينتهين رجال، أو لأحرقن بيوتهم" إنما هو لأجل الجمعة؛ قال: وأبو هريرة ذكر أن ذلك إنما هو لأجل صلاة العشاء، ولم يدل ذلك على أنها هي الصلاة الوسطى؛ فحينئذ استدلال أهل المقالة الأولى بهذا الحديث على أن الصلاة الوسطى هي الظهر غير تام، على أن أبا هريرة - رضي الله عنه - روى عن النبي - عليه السلام - خلاف هذا أيضًا، على ما يجيء إن شاء الله تعالى.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة عن خمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - فقد ناسًا في بعض الصلوات، فقال: لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، يعني صلاة العشاء". وأبو داود (¬3): عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم انطلق يعني برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، نحو رواية أبي داود. قوله: "لقد هممت" أي قصدت. وقوله: "أن آمر" مفعول "لهممت" و"أن" مصدرية. وقوله: "ثم أمر" منصوب عطفًا على "أن آمر" الأول، وكذلك ثم آمر الثالث. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 231 رقم 618). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 451 رقم 651). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 150 رقم 548). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 259 رقم 791).

قوله: "ثم أُخالف" أي آتيهم من خلفهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة وأرجع إليهم وآخذهم على غفلة، أو يكون بمعنى: أتخلف عن الصلاة بمعاقبتهم، أو أخالف ظنهم بي في الصلاة بقصدي إليهم. قوله: "فأحرق" من التحريق أو من الإحراق، وفي الأول من المبالغة ما ليس من الثاني. قوله: "عظمًا سمينًا" يريد بضعة اللحم السمين على عظمه، ضربه رسول الله - عليه السلام - مثلًا في التفاهة، كما قال -عز وجل-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (¬1) يريد الشيء الكثير ولم يرد القنطار بعينه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (1) يريد الشيء الحقير ولم يرد الدينار بعينه. قوله: "أو مِرْمَاتين" يروى بكسر الميم وفتحها، وميمها زائدة، وهي تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة. وقيل: ما بين ظلفيها، وقيل: المرماة بالكسر: السهم الصغير الذي يتُعلم به الرمي، وهو أحقر السهام وأرذلها، أي لو دعي إلى أن يعطى سهمين من هذه السهام لأسرع الإجابة. وقال الزمخشري: هذا ليس بوجيه، ويدفعه قوله في الرواية الأخرى: "لو دعى إلى مرماتين أو عرق". وقال أبو عبيد: هذا حرف لا أدري ما وجهه، إلا أنه هكذا يفسر بما بين ظلفي الشاة، يريد به حقارته. ويقال: المرماتان: حديدتان من حدايد كانوا بها وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها في الأكوام والأغراض. قوله: "حسنتين" صفة للمرماتين من الحسن والجودة، وإنما وصفهما بالحسن لأنه عطفهما على العظم السمين، ويروى: "جَشِبَتَيْن" بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة، والجَشِب: الغليظ، وفي الحديث: "أنه - عليه السلام - كان يأكل الجَشِب". أي الغليظ الخشن من الطعام، وقيل غير المأدوم، وكل بَشع الطَّعم جشب ويروى خشبتين بفتح الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة، والخَشِبْ اليابس من الخَشَب، بفتحتين. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [75].

ويستنبط منه أحكام: الأول: استدل به عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وابن خزيمة وداود: أن الجماعة فرض، وفي "شرح المهذب": قيل: إنه قول الشافعي. وعن أحمد: واجبة وليست بشرط، وقالت الجمهور: ليست بفرض عين، واختلفوا هل هي سُنَّة أم فرض كفاية؟ والمختار عند الشافعي أنها فرض كفاية، وعند عامة مشايخنا واجبة، وقد قال بعض أصحابنا: سنة مؤكدة، وهو قول القدوري أيضًا، وفي "المفيد": الجماعة واجبة، وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وفي "شرح خواهر زاده" هي سُنَّة مؤكدة غاية التأكيد. وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما، وهو قول الشافعي المختار. وقيل: سُنَّه، وفي "الجواهر": عن مالك: سنة مؤكدة، وقيل: فرض كفاية. والجواب عن الحديث من وجوه: - الأول: أن هذا في المنافقين ويشهد له قوله: "لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا ... " إلى آخره، وهذه ليست صفة المؤمن لا سيما أكابر المؤمنين وهم الصحابة - رضي الله عنهم - وإذا كان في المنافقين كان التحريق للنفاق لا لترك الجماعة؛ فلا يتم الدليل. - الثاني: أنه - عليه السلام - همّ ولم يفعل. - والثالث: أنه - عليه السلام - لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة؛ وهو موضع البيان. الثاني: فيه دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال؛ لأن تحريق البيوت عقوبة مالية، وأجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغالّ من الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما. الثالث: فيه دليل على قتل تارك الصلاة متهاونًا، قاله عياض. قلت: يرد هذا قوله - عليه السلام -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ... ". الحديث، والحديث محمول على التهديد والتشديد.

الرابع: فيه الإعذار قبل العقوبة بالتهديد بالقول والوعيد. الخامس: فيه جواز أخذ أهل الجنايات والجرائم على غرة والمخالفة إلى منازلهم وبيوتهم. السادس: فيه معرفة يمين رسول الله - عليه السلام -، وأنه كان يخلف على ما يريد بالله، في ذلك رد على قول من يقول: لا يحلف بالله صادقًا ولا كاذبًا، وفي قوله - عليه السلام -: "من كان حالفا فليحلف بالله" كفاية. السابع: أن الصلوات يؤذن لها. الثامن: فيه إجازة إمامة المفضول بحضور الفاضل. التاسع: فيه إباحة عقوبة من تأخر عن شهود الجماعة بغير عذر. العاشر: أن هذه الصلاة التي همّ بتحريقهم للتخلف عنها هي صلاة العشاء؛ ولذلك ذكره الطحاوي ها هنا، وفي رواية: أنها الجمعة، وقد مَرَّ ذكرها، وفي رواية: أنها الصلاة الفرض مطلقًا، والكل له وجه، ولا منافاة بينها والله أعلم. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وعن مالك كلاهما، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مِرْمَاتين حسنتين؛ لشهد العشاء". الثالث: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن عمرو بن حفص الكوفي ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 451 رقم 651).

شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي قاضيها، أحد أصحاب أبي حنيفة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة، والكل رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -واللفظ لهما- قالا: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق -يعني برجال معهم حزم من حطب- إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". قوله: "على المنافقين" وهم الذين كانوا يُظْهِرون الإِسلام ويُبْطِنون الكفر، ويظهرون المحبة لرسول الله - عليه السلام - وفي قلوبهم بغض وعداوة، وقد قيل: إن هذا في حق المؤمنين، ولكن ذكر بهذه العبارة تغليظًا وتشديدًا في التهديد وهذا لا يصح؛ لأنه من المعلوم من حال الصحابة عدم التخلف عنه - عليه السلام - ويشهد على ذلك أنه ورد في بعض الأحاديث "ثم أحرق بيوتًا على من فيها". قوله: "ولو حبوا" نصب بفعل محذوف تقديره: ولو كانوا يحبون حبوًا، والحبو: أن يمشي على يديه وركبتيه أو إسته وحبا البعير: إذا برك أو أبرك ثم زحف من الإعياء، وحبا الصبيّ إذا زحف على إسته. قوله: "شعلا" جمع شعلة النار. قوله: "بيته" مفعول لقوله أحرق. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة هو ابن أبي النجود الأسدي الكوفي أبو بكر المقرئ أحد مشايخ أبي حنيفة، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 451 رقم 651).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - أخر عشاء الآخرة ... ". آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "أو قربه" بالرفع، عطف على قوله: "ثلث الليل" أي أو قرب ثلث الليل. قوله: "رُقَّدٌ" بضم الراء وفتح القاف المشددة: جمع راقد، كالركَّع جمع راكع، والسُّجَّد جمع ساجد. قوله: "وهم عزون" أي متفرقون، وهو جمع عزة وهي الحلقة المجتمعة من الناس وأصلها عزوة في الواو، وجمعت جمع السلامة على غير قياس في جمع. قوله: "ندب الناس" أي دعاهم. قوله: "إلى عَرْق" بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وهو العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم، وجمعه عَراق، وهو جمع نادر، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. قوله: "ثم أتخلف" أي آتيهم من خلفهم آخذهم على غفلة وغزة. قوله: "يتخلفون عن هذه الصلاة" أي يتركون الحضور إليها، على معنى أنهم يجعلونها [خلفهم] (¬2). قوله: "فأضرمها" من أضرمت النار إذا أوقتدها وهو بنصب الميم عطفًا على ثم أتخلف فافهم. الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن أبي عياش الأسدي الكوفي المقرئ، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 416 رقم 9372). (¬2) في "الأصل": "خلفها".

وأخرجه أحمد في "مسند" (¬1): ثنا أسود بن عامر، نا أبو بكر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "جاء رسول الله - عليه السلام - إلى المسجد، فرآهم عزين متفرقين، قال: فغضب غضبًا شديدا ما رأيناه غضب غضبًا أشد منه، قال: والله لقد هممت أن آمر رجلًا يؤم الناس، ثم أتتبع هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة في دورهم فأحرقها عليهم". ص: وقد وافق أبا هريرة من التابعين على ما قال من ذلك سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: أنا عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - قال: "كانت الصلاة التي أراد النبي - عليه السلام - أن يحرق على من تخلف عنها: صلاة العشاء الآخرة". ش: وافق أبا هريرة سعيد بن المسيب في إخباره أن الصلاة التي قال فيها النبي - عليه السلام -: "ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم" الحديث. هي الصلاة العشاء، ورواة هذا الأثر ثقات. فإبراهيم بن مرزوق وثقه الدارقطني، وعفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد روى الجماعة، وحماد بن سلمة روى له مسلم والأربعة، وعطاء الخراساني روى له الجماعة إلا البخاري، وسعيد بن المسيب من سادات التابعين وأكابرهم. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله خلاف ذلك كله وأن ذلك القول لم يكن من النبي - عليه السلام - لحال الصلاة، وإنما كان لحال أخرى. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير قال: "سألت جابرًا - رضي الله عنه - أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا شيء لأمرت رجلًا يصلي بالناس ثم لحرقت بيوتًا على ما فيها؟ قال جابر - رضي الله عنه -: إنما قال ذلك من أجل رجل بلغه عنه شيء، فقال: لئن لم ينته لأحرقن عليه بيته على ما فيه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 377 رقم 8890).

فهذا جابر - رضي الله عنه - يخبر أن ذلك القول من النبي - عليه السلام - إنما كان للمتخلف عما لا ينبغي التخلف [عنه] (¬1) فليس في هذا ولا شيء مما تقدمه الدليل على الصلاة الوسطى ما هي. قال أبو جعفر -رحمه الله -: فلما انتفى بما (ذكره) (¬2) أن يكون فيما روينا عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في شيء من ذلك دليل؛ رجعنا إلى ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فإذا ليس فيه حكايته عن النبي - عليه السلام -، وإنما هو من قوله؛ لأنه قال: "هي الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة". ش: أي خلاف ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من أن حديث التحريق لأجل الجمعة، وخلاف ما روي عن أبي هريرة من أنه لأجل صلاة العشاء الآخرة، بيان ذلك: أن جابرًا - رضي الله عنه - سئل عن حديث التحريق، فقال: لم يكن ذلك من النبي - عليه السلام - لأجل حال الصلاة، وإنما كان ذلك لأجل رجل بلغ النبي - عليه السلام - عنه شيء أوجب ذلك، فحينئذ لم يكن فيما روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - الذي مضى ذكره في أول الباب دليل على كون الصلاة الوسطى ما هي؟ فإذا كان كذلك يُرجع إلى ما روي عن عبد الله بن عمر وهو قوله: "إنا كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله - عليه السلام - إلى الكعبة"، وهو أيضًا لا يدل على شيء من ذلك؛ لأنه ليس فيه حكايته عن النبي - عليه السلام -، وإنما هو إخبار عن قوله؛ لأنه قال من قوله: "إنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله - عليه السلام - إلى الكعبة" فحينئذ لم يتم الدليل على مُدَّعي من يَدَّعِي أن الصلاة الوسطي هي الظهر. مُحْتَجًّا بما روي عن زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. ورجال حديث جابر ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالًا، على أن أحمد قد وثقه ومال إليه الطحاوي أيضًا، وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم المكي. وهذا قد أخرجه أسد السنة في "مسنده". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "ذكرناه".

قوله: "أقال" الهمزة فيه للاستفهام، و"اللام" في "لأمرت" للتأكيد فلذلك مفتوحة، وكذا في قوله: "لحرقت" وهو بتشديد الراء، من التحريق، وقوله: "لأحرقن" بضم الهمزة من الإحراق وبنون التأكيد الثقيلة. ص: وقد روي عنه من غير هذا الوجه خلاف ذلك. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، جميعًا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني ليث بن سعد. ح وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ليث بن سعد، قال: حدثني ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "الصلاة الوسطى صلاة العصر". قال أبو جعفر -رحمه الله- فلما تضاد ما روي في ذلك عن ابن عمر؛ دلّ هذا أنه لم يكن عنده فيه شيء عن النبي - عليه السلام -، فرجعنا إلى ما روي عن غيره، فإذا أبو بكرة بكار بن قتيبة قد حدثنا، قال: ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن عوف، عن أبي رجاء قال: "صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنهما - الغداة، فقنت قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قرة، قال: ثنا أبو رجاء، عن ابن عباس قال: "هي صلاة الصبح". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا، سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد [الله بن] (¬1) المبارك، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: "صليت خلف أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

صلاة الصبح، فقال رجل إلى جنبي من أصحاب النبي - عليه السلام -: هذه الصلاة الوسطى". قال أبو جعفر: فكأن ما ذهب إليه ابن عباس من هذا: قول الله -عز وجل-: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فكان ذلك القنوت عنده هو [قنوت] (¬2) الصبح، فجعل بذلك الصلاة الوسطي هي الصلاة التي فيها القنوت عنده. ش: أي قد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من غير الوجه المذكور، خلاف ما روي عنه من أن الصلاة الوسطي هي الظهر. حاصل الكلام: أنه روي عنه فيما مفأن الصلاة الوسطي هي الظهر؛ لقوله: "كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله - عليه السلام - إلى الكعبة". وروي عنه أيضًا أنه قال: "صلاة الوسطي صلاة العصر" وأخرج ذلك من طريقين صحيحين: أحدهما: عن محمد بن خزيمة بن راشد وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن ليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (¬3): ثنا محمد بن عبد الحكم، ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أنه كان يرى لصلاة العصر فضيلة؛ للذي قاله رسول الله - عليه السلام - فيها، ويرى أنها الصلاة الوسطي". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238]. (¬2) في "الأصل، ك": "وقت"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) "تفسير الطبري" (2/ 555).

والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي أحد مشايخ البخاري، عن ليث بن سعد ... إلى آخره. وهذا كما قد رأيت قد تضادت روايتا ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصلاة الوسطي، فدل ذلك على أنه لم يكن عنده شيء في أمر الصلاة الوسطي عن النبي - عليه السلام -، فحينئذ يتعين الرجوع إلى ما روي عن غيره، فنظرنا في ذلك، فوجدنا روي عن ابن عباس وعن رجال من الصحابة - رضي الله عنهم - أن الصلاة الوسطي هي صلاة الصبح. وأخرج ذلك عن ابن عباس عن أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري وغيره، عن عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي، وقد أدرك أبو رجاء زمن النبي - عليه السلام - ولم يره، وأسلم بعد الفتح وأتى عليه مائة وعشرون سنة أو أكثر، وروى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث عوف وأبي الأشهب، عن أبي رجاء العطاردي قال: "صلى بنا ابن عباس الصبح وهو أمير على البصرة، فقنت قبل الركوع، ورفع يديه حتى لو أن رجلًا بين يديه لرأى بياض إبطيه، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: هذه الصلاة التي ذكرها الله في كتابه {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) ". وأخرجه الطبري (¬3) أيضًا نحوه. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان، عن ابن عباس ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 461 رقم 2005). (¬2) سورة البقرة، آية: [238]. (¬3) "تفسير الطبري" (2/ 565).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن قرة، قال: ثنا أبو رجاء، قال: "صليت مع ابن عباس الصبح في مسجد البصرة، فقال: هذه الصلاة الوسطي". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم الضبعي، عن جابر ابن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء، عن ابن عباس. وأخرجه الطبري (¬2): من حديث صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال: "صلاة الوسطي صلاة الفجر". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري، عن داود بن عبد الرحمن العطار أبي سليمان، عن عمرو بن دينار المكي، عن مجاهد بن جبير المكي، عن ابن عباس ... إلى آخره. وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: الرواية عن ابن عباس في أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر صحيحة وإن كان روي عنه أيضًا أنها صلاة العصر. وأخرج عن رجل من الصحابة من طريق صحيح عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس البكري البصري ثم الخراساني، عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي قال: "صليت خلف أبي موسى الأشعري" واسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه الطبري (¬3): من حديث أبي العالية بطريق صحيح قال: "صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الغداة، فقلت لرجل من الصحابة إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذه الصلاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 246 رقم 8672). (¬2) "تفسير الطبري" (2/ 564). (¬3) "تفسير الطبري" (2/ 565).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: "صلينا مع بعض أصحاب النبي - عليه السلام - صلاة الغداة، فلما فرغنا قلت: أي صلاة صلاة الوسطى؟ قال: التي صليت الآن". قوله: "فجعل بذلك" أي جعل ابن عباس بكون القنوت في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) هو قنوت الصبح، والصلاة الوسطول هي الصلاة التي فيها القنوت عنده. ص: وقد خولف ابن عباس في هذه الآية فيم نزلت؟ فحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) فأمرنا بالسكوت. حدثنا حسين بن نصر، قال سمعت يزيد بن هارون ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سفيان في هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) فذكر عن منصور، عن مجاهد قال: كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية، فالقنوت: السكوت، والقنوت: الطاعة". حدثنا أبو بشر، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن الليث بن أبي سليم، عن مجاهد "في هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) قال: من القنوت الركوع والسجود، وخفض الجناح، وغض البصر من رهبة الله -عز وجل-". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن ابن عون، عن عامر الشعبي قال: "لو كان القنوت كما تقولون لم يكن للنبي - عليه السلام - منه شيء، إنما القنوت الطاعة، يعني {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) ". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 579 رقم 2208). (¬2) سورة البقرة، آية: [238]. (¬3) سورة الأحزاب، آية: [21].

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو الأشهب، قال: سألت جابر بن زيد عن القنوت، فقال: الصلوات كلها قنوت، أما الذي تصنعون، فما أدري ما هو؟ ". قال أبو جعفر -رحمه الله -: فهذا زيد بن أرقم ومن ذكرنا معه يخبرون أن ذلك القنوت الذي أمروا به في هذه الآية هو السكوت عن الكلام الذي كانوا يتكلمون به فيالصلاة، فخرج بذلك أن يكون في هذه الآية دليل على أن القنوت المذكور فيها هو القنوت المفعول في صلاة الصبح، وقد أنكر قوم أن يكون ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يقنت في صلاة الصبح، وقد روينا ذلك بأسانيده في باب: القنوت في صلاة الصبح، فلو كان هذا القنوت المذكور في هذه الآية هو القنوت في صلاة الصبح إذًا لما تركه؛ إذْ كان قد أمر به الكتاب. ش: المخالفون لابن عباس في سبب نزول هذه الآية: زيد بن أرقم من الصحابة، ومجاهد بن جبر والشعبي وجابر بن زيد من التابعين، فإنهم أخبروا أن القنوت المذكور في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) بصورة الأمر هو السكوت عن الكلام في الصلاة؛ لأنهم كانوا يتكلمون فيها، فدل ذلك أن القنوت المذكور في الآية ليس هو القنوت الذي كان يُفعل في صلاة الصبح فلا يُسمى حينئذٍ بسبب ذلك صلاة الصبح الصلاة الوسطى"، على أن ما روي عن ابن عباس من "أنه قنت في صلاة الصبح، وقال: هذه الصلاة الوسطى، أشار إليه بقوله: "وقد أنكر قوم أن يكون ابن عباس كان يقنت في صلاة الصبح" وأراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن ميمون والأسود وسعيد بن جبير وعمران بن الحارث ومجاهد بن جبر، فإنهم قالوا: لم يقنت ابن عباس في الفجر. قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (1): ثنا وكيع قال: ثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -: "أنهما كانا لا يقنتان في الفجر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6970).

حدثنا (¬1) هشيم قال: أنا حصين، عن عمران بن الحارث، قال: "صليت مع ابن عباس في داره صلاة الصبح، فلم يقنت قبل الركوع ولا بعده". حدثنا (¬2) حسين بن علي، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني مجاهد وسعيد ابن جبير: "أن ابن عباس كان لا يقنت في صلاة الفجر وهو إمام". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬3): وروينا عن ابن عباس أنه لم يقنت. قوله: "وقد روينا ذلك" أي إنكار قوم أن يكون ابن عباس كان يقنت في الصبح، وسيأتي بيانه في باب: الوتر، إن شاء الله تعالى. قوله: "إذًا لما تركه" جواب قوله: "فلو كان هذا القنوت". قوله: "إذْ كان" تعليل لما قبله، يعني لأن الكتاب قد أمر بالقنوت، وهو قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬4) ولو كان هذا القنوت هو القنوت المفعول في الصبح، لما جاز لابن عباس أن يتركه؛ لأنه أمر الكتاب على هذا التقدير. أما أثر زيد بن أرقم: فقد أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إسماعيل بن أبي خالد -واسم أبي خالد هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير- عن الحارث بن شبيل بن عوف الأحمسي البجلي الكوفي، عن أبي عمرو إسحاق بن مرار النحوي اللغوي الشيباني الكوفي. وهؤلاء كلهم من رجال الصحيحين ما خلا علي بن شيبة. وأخرجه البخاري (¬5): ثنا إبراهيم بن موسى، أبنا عيسى، عن إسماعيل، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: "قال لي زيد بن أرقم: إن كنا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6976). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 103 رقم 6994). (¬3) "المحلى" (4/ 142). (¬4) سورة البقرة، آية: [238]. (¬5) "صحيح البخاري" (1/ 402 رقم 1142).

لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - عليه السلام -، فيكلم أحدنا صاحبه لحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأمرنا بالسكوت". ومسلم (¬2): ثنا بحر بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كُنَّا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام". وأبو داود (¬3): محمد بن عيسى، نا هشيم ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬4): ثنا أحمد بن منيع، ثنا هشيم ... إلى آخره، ولفظه: "كنا نتكلم خلف رسول الله - عليه السلام - في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه لحاجته حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) فأمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام". والنسائي (¬5): أنا إسماعيل بن مسعود، ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: حدثني الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة بالحاجة على عهد رسول الله - عليه السلام -؛ حتى نزلت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬6) فأمرنا بالسكوت". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث، عن أبي عمرو، عن زيد بن أرقم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238]. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 383 رقم 539). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 249 رقم 949). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 256 رقم 405). (¬5) "المجتبى" (3/ 18 رقم 1219). (¬6) سورة البقرة، آية: [238].

وأخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (¬1): أنا يزيد بن هارون، أبنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كان يكلم أحدنا صاحبه في الصلاة في الحاجة؛ حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) فأمرنا بالسكوت". قوله: "حتى نزلت" مشعر بالتصريح على النسخ، وأن المراد بالقنوت: السكوت؛ لأن حتى للغاية والفاء التي في قوله: "فأمرنا" مشعر بتعليل ما سبق. قوله: "حافظوا" أي واظبوا وداوموا. قوله: "قانتين" نصب على الحال من الضمير الذي في "وَقُومُوا" من القنوت، وهو السكوت ها هنا، ويرد القنوت لمعاني كثيرة: للطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام. ويستفاد منه: أن المصلي يحرم عليه الكلام في الصلاة، وأما ما لا يسمى كلامًا فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس، وأجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه؛ مبطلٌ للصلاة. وأما الكلام لمصلحتها فقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد: يبطل الصلاة، وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك وطائفة قليلة، واعتبر الشافعية ظهور حرفين وإن لم يكونا مُفْهِمَيْن، ثم السلام كالكلام عند أبي حنيفة، حتى إذا سُلِّم عليه وهو في الصلاة لا يرد بلفظ ولا بإشارة، وبه قال عطاء والنخعي والثوري، ولكن قالوا: يرده بعد السلام فإن ردّه بلسانه بطلت صلاته عند أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور، وهو مروي عن أبي ذرٍّ وعطاء والنخعي والثوري، وعن أبي حنيفة يرده في نفسه، وعند محمد بعد السلام، وقال أبو يوسف: لا في الحال ولا بعد الفراغ. ¬

_ (¬1) "مسند عبد بن حميد" (1/ 113 رقم 260). (¬2) سورة البقرة، آية: [238].

وقال عياض: قال جماعة من العلماء: يردّ السلام في الصلاة نطقًا، منهم: أبو هريرة وجابر وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة وإسحاق، وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة: يرد إشارةً لا نطقًا. وعند الشافعي أنه لا يُسلَّم على المصلي، فإن سُلِّم عليه لم يستحق جوابًا. وعن مالك روايتان: كراهة السلام، والثانية جوازه. فإن قيل: متى كان هذا النسخ؟ قلت: قال ابن حبان: توهم من لم يُحْكم صناعة العلم بأن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة؛ لحديث زيد بن أرقم، وليس كذلك؛ لأن الكلام في الصلاة كان مباحًا إلى أن رجع ابن مسعود من عند النجاشي فوجدوا الإباحة قد نسخت، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يُقرئ المسلمين، وكان الكلام بالمدينة مباحًا كما كان بمكة شرفها الله تعالى، فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة، فحكى زيد ذلك الفعل؛ لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة". وهو لَعَمْرِي كلام جيد لولا ما في كتاب الترمذي (¬1): عن زيد كنا نتكلم خلف النبي - عليه السلام - يكلم الرجل منَّا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت ... " وأهل العلم كلهم يقولون: إن سورة البقرة مدنية خصوصًا هذه الآية. وقال الخطابي: نسخ الكلام كان بعد الهجرة بمدة يسيرة وحَمَلَ بعضهم على هذا حديث ابن مسعود على مجيئه في المرة الثانية من الحبشة لا الأولى، وحمل بعضهم حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين كما يقول القائل: قتلناكم وهزمناكم يعنون الآباء والأجداد وردَّ كلام الخطابي بتعذر التاريخ وليس جيدًا؛ لأن في حديث جابر المخرج عند مسلم (¬2): بعثني رسول الله - عليه السلام - في حاجة، ثم أدركته ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 256 رقم 405). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 383 رقم 539).

وهو يصلي فسلمت عليه، فأشار إليَّ، فلما فرغ قال: لِمَ سلمت آنفًا وأنا أصلي؟ فهذا الذي منعني أن أكلمك". وأخرجه أيضًا الأربعة (¬1) وفي لفظ (¬2): "كان ذلك وهو منطلق إلى بني المصطلق". فهذا فيه بيان ما أشكل على من ردَّ كلام الخطابي، وردّ أيضًا لما قاله ابن حبان. فافهم، وسيجيء مزيد الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما أثر مجاهد: فقد أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال: "كانوا يتكلمون في الصلاة، ويكلم الرجل أخاه، حتى نزلت هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬4) فقطعوا الكلام، قال: القنوت السكوت، والقنوت: الطاعة".انتهى. وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت". وقال الجوهري: القنوت الطاعة. وهذا هو الأصل ومنه قوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (¬5) ثم سُمي القيام في الصلاة قنوتًا، وفي الحديث "أفضل الصلاة طول القنوت" (¬6) ومنه قنوت الوتر. ¬

_ (¬1) أبو داود في "سننه" (1/ 313 رقم 949)، والترمذي في "جامعه" (5/ 218 رقم 2986)، والنسائي في "المجتبى" (3/ 18 رقم 1219). (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (1/ 383 رقم 540). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 331 رقم 3574). (¬4) سورة البقرة، آية: [238]. (¬5) سورة الأحزاب، آية: [35]. (¬6) أخرجه مسلم (1/ 520 رقم 756) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

الثاني: عن أبي بشر الرقي أيضًا، عن شجاع بن الوليد أبي، عن الليث بن أبي سليم أحد مشايخ أبي حنيفة، عن مجاهد. وأخرجه أبو موسى بن أبي بكر الحافظ: عن إسماعيل بن الفضل، عن منصور بن الحسن، عن محمد بن إبراهيم بن المقرئ ... بإسناده إلى مجاهد نحوه، وهو إسناد جيد. قوله: "خفض الجناح" الخفض ضد الرفع، وأراد به ها هنا السكون والقرار وعدم الالتفات. قوله: "من رهبة الله" أي من خوفه. وأما أثر الشعبي: فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن يونس بن عبد الله شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن عامر بن شراحيل الشعبي - رضي الله عنه -. وأما أثر جابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي قال: "سألت جابر بن زيد ... " إلى آخره. ص: وقد روي عن ابن عباس أن الذي ذُهب إليه في ذلك معنى آخر: حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا خالد بن خداش المهلبي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الصلاة الوسطي هي الصبح، تصلى بين سواد الليل وبياض النهار". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عباس قد أخبر في هذا الحديث أن الذي جعل صلاة الغداة به هي الصلاة الوسطي هذه العلة. ش: أراد أنه روي في الذي ذهب إليه ابن عباس في علة تسمية صلاة الصبح بالصلاة الوسطى، يعني غير المعنى الذي ذكره فيما مضى وهو كون القنوت عنده هو

قنوت الصبح، وأنه هو العلة في تسمية صلاة الصبح الصلاة الوسطي، وهو الذي رواه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي شيخ الأصحاب في وقته، عن خالد بن خِداش -بكسر الخاء المعجمة، وبالدال المهملة- ابن عجلان الأزدي المهلبي البصري أحد مشايخ مسلم، عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد الكلاعي الشامي الحمصي، عن عكرمة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق: عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز ابن محمَّد، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: "الصلاة الوسطى صلاة الصبح، تصلى في سواد الليل وبياض من النهار، وهي أكثر الصلوات تفوت من الناس" انتهى. فقد أخبر ابن عباس في هذا أن سبب تسمية صلاة الصبح بالصلاة الوسطى هو كونها تصلى بين سواد الليل وبياض النهار، على معنى أن المغرب والعشاء تصليان في سواد الليل، والظهر والعصر يصليان في بياض النهار، ويصلى الصبح بين ذلك السواد وذلك البياض، فتكون وسطى بهذا الاعتبار، وقد جعل بعضهم العلة في كونها وسطى بكونها منفردة بوقتها لا يشاركها غيرها في الوقت، قاله إسماعيل، وزاد غيره أنها لا يجمع معها غيرها في سفر ولا حضر، وأن رسول الله - عليه السلام - لم يضمها إلى غيرها في وقت واحدٍ. ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون قول الله -عز وجل-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أراد به: في صلاة الصبح، ويكون ذلك القنوت هو طول القيام، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: "أي الصلاة أفضل؟ " قال: "طول القنوت" وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في موضعه من كتابنا هذا. وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أيضًا أنها قالت: "إنما أُقِرَّت الصبح ركعتين؛ لطول القراءة فيهما"، وقد ذكرنا ذلك أبي بإسناده في غير هذا الموضع.

وقد يحتمل أن يكون قوله -عز وجل- {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أراد به في كل الصلوات، صلاة الوسطي وغيرها. ش: أشار بهذا إلى أن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} يحتمل معنيين آخرين غير المعنى الذي ذكره ابن عباس فيما مضى. أحدهما: أن يكون أراد به في صلاة الصبح، ولكن يكون المراد من القنوت: طول القيام فيها، كما جاء في حديثٍ حين سئل - عليه السلام -: "أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". ومعناه: طول القيام، وبه احتج أبو حنيفة والشافعي أن طول القيام في النوافل أفضل من كثرة الركوع والسجود، وقال صاحب "المحيط": طول القيام أفضل من طول الركوع والسجود. واستدل بهذا الحديث. وقال أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، نا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن حبشي الخثعمي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: طول القيام". والاحتمال الآخر: هو أن يراد به القنوت في كل الصلوات، صلاة الوسطى وغيرها. وها هنا احتمالات أُخر: الأول: أن يكون المراد من القنوت في الصلوات كلها ذكر الله -عز وجل-، وقال الزمخشري: القنوت أن تذكر الله قائمًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 422 رقم 1325).

والثاني: أن يكون المراد منه السكوت، كما ذكرنا. الثالث: أن يكون المراد قراءة القنوت في جميع الصلوات، كما ذهب إليه قوم كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. والرابع: أن يكون المراد الركوع والسجود كما قاله مجاهد - رضي الله عنه -. قوله: "وقد ذكرنا ذلك" أي قوله - عليه السلام - لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ وقد ذكره في هذا الكتاب. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فقد ذكره في غير هذا الموضع مسندًا، وذكره ها هنا معلقًا. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الشعبي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم النبي - عليه السلام - المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر، وصلاة الغداة؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى". وفي إسناده بكار بن عبد الله السيريني، وهو واهٍ، قاله الذهبي في "مختصر سنن البيهقي". ص: وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الصلاة الوسطي أنها العصر: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد العبدي قال: سمعت ابن عباس يقول: "الصلاة الوسطي صلاة العصر {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ولما اختلف عن ابن عباس في ذلك أردنا أن ننظر فيما روي عن غيره. ش: قد مرَّ أنه روي عن ابن عباس أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، وروي عنه أبي أنها صلاة العصر، ولما اختلفت الرواية عنه في ذلك تعين ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 363 رقم 1579).

الرجوع إلى ما روي عن غيره، ورواة هذا الأثر ثقات، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق الهمداني، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وزر بن عبيد العبدي وثقه ابن حبان ونسبته إلى عبد القيس في ربيعة. ص: وذهب أيضًا من ذهب إلى أنها غير العصر، أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على ذلك، فذكروا ما قد حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، قال: ثنا أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى عبد الله بن عمر، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حدثهما: "أنه كان يكتب المصاحف على عهد أزواج النبي - عليه السلام -، قال: فاستكتبتني حفصة ابنة عمر - رضي الله عنهما -زوج النبي - عليه السلام -- مصحفًا، وقالت لي: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني فأملها عليك كما حفظتها من النبي - عليه السلام -، قال: فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها، فقالت: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع ... مثله عن حفصة، غير أنها لم تذكر عن النبي - عليه السلام -. ش: "من ذهب" فاعل قوله: "وذهب". قوله: "إلى أنها" أي إلى أن الصلاة الوسطى غير العصر، وهذا يشمل من يقول: إنها الصبح، ومن يقول: إنها الظهر، وغيرها ممن يقول غير العصر. قوله: "أنه" في موضع التعليل، أي لأنه قد روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على ذلك، أي على كون الصلاة الوسطي غير العصر، وهو أن إملاء حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - على عمرو بن رافع: "اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر" يدل على أن العصر ليست بالصلاة الوسطي، وأنها غير العصر؛ لأنها عطفت على الصلاة الوسطى، فتكون غيرها؛ لاقتضاء العطف المغايرة.

ثم إنه أخرج حديث حفصة من طريقين صحيحين: أولهما: مرفوع، والآخر موقوف. فالأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد القرشي الزهري المدني، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - المدني نزيل بغداد، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - المعروف بالباقر، وعن نافع مولى عبد الله بن عمر، كلاهما عن عمرو بن رافع المدني ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): بهذا الإسناد بعينه، وفيه مخالفة للرواية السالفة من حديث أحمد بن خالد، ثنا ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي ونافع، كلاهما عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب قال: "كنت أكتب المصاحف فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها، فقالت: أيْ بُنَيّ، إذا انتهيت إلى هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فلا تكتبها حتى تأتيني فأملها عليك كما حفظتها من رسول الله - عليه السلام -، فلما انتهيت إليها حملت الورقة والدواة حتى جئتها، فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقومو الله قانتين". وهذا كما ترى مخالف للأول، ونَبَّه الذهبي على أن الرواية الأولى -أعني التي أخرجها الطحاوي- هي الأصح". والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "الموطإ" (¬2): عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع، أنه قال: "كنت أكتب مصحفًا لحفصة أم المؤمنين، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 463 رقم 2010). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 139 رقم 314).

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن حفصة زوج النبي - عليه السلام - دفعت مصحفًا إلى مولى لها يكتبه، وقالت. إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فآذني فلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. وأخرج أيضًا عن داود بن قيس: أنه سمع عبد الله بن رافع يقول: "أمرتني أمّ سلمة أن أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) فأخبرني، فأخبرتها، فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وكلاهما موقوف. وقال أبو عمر: حديث حفصة هذا قد اخُتلف في رفعه، ومتنه أيضًا، وممن رفعه عن زيد: هشام بن سعد، ورواه سُنيد عن هشيم، وقال فيه: "والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو، وهذا خلاف ما روي عنها: "والصلاة الوسطى وصلاة العصر" بالواو. وقال البيهقي: الوقف أثبت من الرفع. قوله: "على عهد أزواج النبي - عليه السلام -" أي على زمنهن وأيامهن. قوله: "استكتبني" من الاستكتاب، وهو طلب الكتابة. قوله: "آذني" بالمد أي أعلمني، من آذن يُؤذن إيذانًا، إذا أعلم. قوله: "فأملت عليّ" أي لقّنت عليّ ما أكتبه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 568 رقم 2202).

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال: "أمرتني عائشة - رضي الله عنها - ... " ثم ذكر نحو حديث حفصة من حديث علي بن معبد. ش: أشار بهذا إلى أن حديث حفصة المذكور قد روي أبي عن عائشة مثله، ولهذا قال: نحو حديث حفصة، وإنما قال: من حديث علي بن معبد؛ تنبيهًا على أنه روي مرفوعًا عن عائشة، كما أن حديث حفصة روي مرفوعًا من حديث علي بن معبد. وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم، وأبو يونس مولى عائشة وثقه ابن حبان واحتج به مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: "أمرتني عائشة أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي في حديث حفصة، غير أن في لفظ مسلم في آخره: "قالت عائشة: سمعتها من رسول الله - عليه السلام - ... ". وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير في "الجامع" (¬3): ثنا قتيبة، عن مالك، وعن الأنصاري، عن معن، عن مالك، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحوه. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 437 رقم 629). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 112 رقم 410). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 217 رقم 2982). (¬4) "المجتبى" (1/ 236 رقم 472).

وهذا أيضًا قد دل على أن العصر ليست بصلاة الوسطى؛ لأنها عطفت عليها بالواو، والمعطوف غير المعطوف عليه كما ذكرنا، وقال أبو عمر: لم يختلف في حديث عائشة في ثبوت الواو بخلاف حديث حفصة. قلت: فيه نظر؛ لأن ابن حزم ذكره في كتابه (¬1) وقال: وروينا من طريق بن مهدي، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري، عن القاسم، عنها فذكرته بغير واو. وروى أبو بكر بن أبي داود (¬2): صاحب "السنن". وقال: ثنا أحمد بن الحباب، ثنا مكي، ثنا عبد الله -يعني قاضي مصر- عن ابن هبيرة، عن قبيصة بن ذكوان قال: "في مصحف عائشة - رضي الله عنهما -: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر". قلت: وعلى تقدير صحة وجود "الواو" يجاب عنه -أعني عن حديث حفصة الذي فيه الواو بأشياء: منها أن من أثبت "الواو" امرأة، ومسقطها جماعة كثيرة. ومنها موافقة مذهب عائشة لسقوط "الواو". ومنها مخالفة "الواو" للتلاق. ومنها: معارضة رواية حفصة برواية البراء بن عازب؛ على ما يجيء عن قريب. ومنها: أن تكون "الواو" زائدة كما زيدت عند بعضهم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 256). (¬2) "كتاب المصاحف" (1/ 289). (¬3) سورة الأنعام، آية: [75].

وقوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} (¬1). وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2). وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3). وقال الأخفش في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (¬4) إن الجواب فتحت. ومنها أن يكون العطف فيه كالعطف في قول الشاعر: إلى الملك القُرْمِ وابنِ الهُمَام ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَم فقد وجد العطف ها هنا مع اتحاد الشخص، وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب كثير، ويقال: إن العطف ها هنا من باب التخصيص والتفضيل كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬5). وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬6). وكقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (¬7). فإن قيل: قد حصل التخصيص في العطف، وهو قوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فوجب أن يكون العطف الثاني وهو قوله وصلاة العصر مغايرًا له. قلت: إن العطف الأول كما قلتم، والثاني للتأكيد والبيان لمَّا اختلف اللفظان، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل، فتعطف إحدى الصفتين على الأخرى. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [105]. (¬2) سورة الأحزاب، آية: [40]. (¬3) سورة النساء، آية: [167]. (¬4) سورة الزمر، آية: [73]. (¬5) سورة البقرة، آية: [98]. (¬6) سورة الرحمن، آية: [68]. (¬7) سورة الأحزاب، آية: [7].

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن: "أنها سألت عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فقالت كنا نقرأها على الحرف الأول على عهد النبي - عليه السلام -: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ". ش: هذا طريق أخر عن عائشة - رضي الله عنها - وهو أيضًا صحيح، عن علي بن معبد بن نوح، عن الحجاج بن محمد الأعور المصيصي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أُمِّه أم حميد بنت عبد الرحمن ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن قالت: "سألت عائشة أم المؤمنين عن الصلاة الوسطى، فقالت: كنا نقرأها على الحرف الأول على عهد رسول الله - عليه السلام -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2): وقال: ثنا همام، [نا ابن مفرج] (¬3) نا ابن الأعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق ... إلى آخره. قوله: "على الحرف الأول" أي: على اللغة الأولى، وأرادت بالحرف اللغة، والحرف في الأصل الطرف والجانب، وبه سُمِّي الحرف من حروف الهجاء. قوله: "على عهد النبي - عليه السلام -" أي: على زمنه وأيامه. ص: قالوا: فلما قال الله تعالى فيما ذكر من هذه الآثار، عن النبي - عليه السلام -: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" ثبت بذلك أن الوسطى غير العصر. ¬

_ (¬1) عبد الرزاق في "مصنفه" (1/ 578 رقم 2203). (¬2) "المحلى" (4/ 257). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى" (4/ 257).

ش: أي: قال مَنْ ذهب إلى أنها غير العصر، أراد أنهم احتجوا بهذه القراءة المذكورة في الأحاديث السالفة على أن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر، وهذا ظاهر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وليس في ذلك عندنا دليل على ما ذكروا؛ لأنه قد يجوز أن تكون العصر مُسمّاة بالعصر ومُسمّاة بالوسطى، فذكرها ها هنا باسمَيْها جميعًا، هذا يجوز لو ثبت ما في تلك الآثار من التلاوة الزائدة على التلاوة التي قامت بها الحجة، مع أن التلاوة التي قامت بها الحجة رافعةٌ لكل ما خالفها. ش: هذا منعٌ لاستدلالهم بما ذكروا؛ بيانه: أن ما ذكروا لا يدل على دعواهم دلالة تامة؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا من عطف بعض الصفات على بعض كما ذكرنا الآن في قول الشاعر، وكما في قولك: جاءني زيد الكريم والعاقل. فإن الكريم والعاقل كلاهما من صفات زيد، فإن العطف ها هنا لا يدل على المغايرة، فكذلك قوله: "والصلاة الوسطى وصلاة العصر" من هذا القبيل، على أن هذا التأويل على تقدير ثبوت ما في تلك الآثار المروية عن حفصة وعائشة - رضي الله عنهما - من التلاوة الزائدة وهي: "وصلاة العصر" يعني: لو سلمنا ثبوت هذه التلاوة، فجوابه ما ذكرنا على أنا لا نسلم ذلك؛ لأن التلاوة التي قامت بها الحجة وهي التلاوة المشهورة التي ليس فيها: "وصلاة العصر" قد رفعت كل قراءة خالفتها، فحينئذٍ تكون قراءة "وصلاة العصر" منسوخة، وناسخها حديث البراء بن عازب على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي أن الذي كان في مصحف حفصة - رضي الله عنها - من ذلك غير ما روينا في الآثار الأول، كما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عمرو بن رافع قال: "كان مكتوبًا في مصحف حفصة بنة عمر - رضي الله عنها -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} "

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد تبين بهذا ما صرفنا إليه تهويل الآثار الأُوَل من قوله: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" أنه سمى صلاة العصر بالعصر وبالوسطى؛ فثبتت بهذا قول من ذهب إلى أنها صلاة العصر. ش: أشار بهذا إلى بيان صحة ما ذكره من التأويل لما في حديث حفصة الذي ذكره آنفًا، بيانه: أنه قد روي أن المكتوب في مصحف حفصة كان على هذه الصورة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وهي صلاة العصر) فقوله: "وهي صلاة العصر" تفسير لقوله: "الصلاة الوسطى" وهذا بعينه عين التأويل المذكور، فثبت بذلك أن صلاة العصر لها اسمان: صلاة العصر، والصلاة الوسطى، فعطف أحدهما على الآخر، ومثل هذا العطف يغني عن البيان والتفسير، ولا يدل على المغايرة، وثبت بذلك أبي قول من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وسقط بذلك دليل من يذهب إلى أن الصلاة الوسطى غير العصر. وإسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله كلهم ثقات، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. فقد ذكرنا عن قريب أن البيهقي أخرج في "سننه" (¬1): من حديث أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي ونافع، كلاهما عن عمرو بن رافع، وفيه: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقوموا لله قانتين". ص: وقد روي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في ذلك ما يدل على نسخ ما روي في ذلك عن عائشة وحفصة - رضي الله عنها - كما حدثنا أبو شريح محمد بن زكريا، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، قال: ثنا شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "نزلت "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" ¬

_ (¬1) تقدم.

فقرأناها على عهد رسول الله - عليه السلام - ما شاء الله، ثم نسخها الله -عز وجل- فأنزل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬1). قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر البراء في هذا الحديث أن التلاوة الأولى هي كما روت عائشة وحفصة، وأنه نسخ ذلك التلاوةُ التي قامت بها الحجة، فإن كان قوله الثاني: "والصلاة الوسطى" نسخًا للعصر أن تكون هي الوسطى فذلك نسخ لها، وإن كان نسخًا لتلاوة أحد اسميها وتثبيتًا لاسمها الآخر؛ فإنه قد ثبت أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فلما احتمل هذا ما ذكرنا، عُدنا إلى ما روي عن النبي - عليه السلام - في ذلك، فحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: أنا زائدة بن قدامة، قال: سمعت عاصمًا يحدث، عن زر، عن علي - رضي الله عنه - قال: "قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن العصر حتى كربت الشمس أن تغيب، فقال النبي - عليه السلام -: اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارًا، واملأ بيوتهم نارًا، واملأ قلوبهم نارًا، قال عليّ - رضي الله عنه -: كنا نرى أنها صلاة الفجر". قال أبو جعفر: فهذا عليّ - رضي الله عنه - قد أخبر أنهم كانوا يرونها قبل قول النبي - عليه السلام - هذا؛ الصبح، حتى سمعوا النبي - عليه السلام - يومئذ يقول هذا، فعلموا بذلك أنها العصر. ش: وجه النسخ ظاهر؛ لأن البراء صرّح به في روايته، ولكن قوله يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) نسخًا للعصر عن أن تكون هي الوسطى. والآخر: أن يكون هذا نسخًا لتلاوة أحد اسمي العصر كما قلنا: إن لها اسمين: العصر، والوسطى، فإذا نسخ أحدهما يكون تثبيتًا للآخر، فإذا كان كذلك يثبت أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولكن لما احتمل كلامه هذين الوجهين، رجعنا إلى ما روي عن غيره في الصلاة الوسطى، فوجدنا حديث علي - رضي الله عنه - يدل على أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238].

الصلاة الوسطى هي العصر؛ لأنه صرح فيه بذلك؛ فترجح الاحتمال الثاني وسقط الأول، فتكون الوسطى هي العصر وهو المطلوب، فيكون هذا من قبيل نسخ التلاوة وحكمها باق، فافهم. وإسناد حديث البراء صحيح على شرط مسلم، وأبو شريح محمد بن زكريا بن يحيى القضاعي ذكره ابن يونس فيمن ورد إلى مصر وقال: كان رجلًا صالحًا يفهم الحديث ويحفظ. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا يحيى بن آدم، قال: ثنا الفضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب قال: "نزلت ... " إلى آخره نحوه، وفي آخره: "فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف سماها الله". وكذا إسناد حديث عليّ - رضي الله عنه - صحيح، وعاصم هو بن بهدلة وهو ابن أبي النجود، روى له الجماعة؛ البخاري ومسلم مقرونًا. وزِرّ -بكسر الزاي المعجمة بعدها الراء المشددة- بن حبيش الأسدي أبو مطرف الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): في باب غزوة الخندق: ثنا إسحاق، ثنا روح، ثنا هشام، عن محمَّد بن عبيدة، عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن عليّ قال: "لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 438 رقم 630). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1071 - رقم 2773). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 436 رقم 627).

وأخرجه أبو داود (¬1): نا عثمان بن أبي شيبة، نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ويزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد، عن عبيدة، عن عليّ: "أن رسول الله - عليه السلام - قال يوم الخندق: حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا". وأخرجه الترمذي (¬2) في التفسير: ثنا هناد، ثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، أن عليًّا - رضي الله عنه - بعض حدثه: "أن النبي - عليه السلام - قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن عليّ، وأبو حسان الأعرج اسمه مسلم. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمد بن عبد الأعلى، قال ثنا، خالد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة، عن عليّ - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس". قلت: هؤلاء كلهم أخرجوه من حديث عبيدة عن عليّ - رضي الله عنه -. وكذا أخرجه الدارمي في "سننه" (¬4): وأحمد في "مسنده" (¬5). وأخرجه أحمد (¬6) أيضًا: من حديث زر، عن عليّ كرواية الطحاوي، وقال: نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن جابر، أن عاصم بن بهدلة، قال: سمعت زرًّا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 409). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 217 رقم 2984). (¬3) "المجتبى" (1/ 236 رقم 473). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 306 رقم 1232). (¬5) "مسند أحمد" (1/ 122 رقم 994). (¬6) "مسند أحمد" (1/ 150 رقم 1287).

يحدث، عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "أنه قال يوم أُحد: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم وبطونهم نارًا". وهذا كما ترى وقع في روايته: "يوم أُحد". وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده" (¬1): نحو رواية الطحاوي، وقال: ثنا أحمد ابن عبدة الضبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ، عن عليّ - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه السلام - قال يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا" وقال: هذا الحديث روي عن عليّ - رضي الله عنه - من غير وجه. قوله: "قاتلنا الأحزاب" جمع حِزب -بالكسر- وهي الطوائف من الناس، وأراد بها الطوائف الذين جاءوا يوم الخندق، ويوم الخندق هو يوم الأحزاب ويوم بني قريظة، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل: في الرابعة، والخندق فارسي معرب، وأصله كندة أي محفور. قوله: "حتى كربت الشمس" بمعنى دنت وقاربت، وهي من أفعال المقاربة كعسى وكاد وأوشك وأخواتها، وكَرَب -بفتح الراء- ومعناه يعني كاد، نص عليه الجوهري وغيره وحُكم خبرها حكم خبر كاد وفي الأكثر تجريده من أنْ ولم يذكر سيبويه فيه غير التجريد، وقد ذكرت ها هنا بـ "أن" نحو "كربت الشمس أن تغيبب" ومعناه قرب غروبها، كما تقول: كادت الشمس تغيب، أي قرب غروبها. قوله: "كنا نُرَى" أي نظن "أن صلاة الوسطى صلاة الفجر" فعلموا في ذلك الوقت أنها هي العصر. فإن قيل: ما الحكمة في جمعه - عليه السلام - في الدعاء عليهم البيوت والقبور. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 180 رقم 557).

قلت: ليعم عليهم العذاب في الدنيا والآخرة، وخص - صلى الله عليه وسلم - النار؛ لأنه أكبر أنواع العذاب. ويستفاد منه: جواز الدعاء على أعداء الدين بما شاء من الأدعية، وبيان فضيلة صلاة العصر على غيرها، ألا ترى كيف جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3). وجاء في حديث أبي المليح: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". أخرجه البخاري (¬4). ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "أنه قعد يوم الخندق، على فُرْضة من فُرَض الخندق ... " ثم ذكر نحوه، إلا أنه لم يذكر قول عليّ - رضي الله عنه -: "كنا نُرَى أنها الصبح". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريايى، عن سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: "قلت لعَبِيدَة: سَلْ لنا عليًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله ... " فذكر نحوه وزاد: "كنا نُرَى أنها الفجر حتى سمعت النبي - عليه السلام - يقول هذا". ش: هذان طريقان آخران وهما أيضًا صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، نسبة إلى العَقَد -بفتحتين- قوم من قيس وهم من أزد، وقد تكرر ذكره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 203 رقم 527). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 435 رقم 626). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 166 رقم 414) (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 203 رقم 528).

عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، بالجيم، وتشديد الزاي المعجمة، وفي آخره راء مهملة. عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى، سمع علئا يقول: قال رسول الله - عليه السلام - يوم الأحزاب وهو قاعد على فرضة من فرض الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم -أو قال: قبورهم وبطونهم نارًا-". الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرِّقي نسبة إلى رَقَّة مدينة بالجزيرة مشهورة، عن محمد بن يوسف الفريابي نسبة إلى فارياب بلدة بنواحي بلخ وقد تكرر ذكره. عن سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النَّجود -بفتح النون وضم الجيم- واسمه بهدلة. عن زر بن حبيش، عن عبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- ابن عمرو -ويقال: ابن قيس بن عمرو- السَّلْماني -بفتح السين المهملة وسكون اللام- المرادي وسَلْمان بن ناجية بن مراد، وهو مخضرم. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، قال: "قلت لعبيدة: سل عليًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نُرَى أنهما صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا". قوله: "على فرضة" الفُرْضَة: بضم الفاء وسكون الراء وفي آخره ضاد معجمة، وهو ما انحدر من وسط الجبل وجانبه، وفرضة النهر مَشْرَعَته التي يستقى منها، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 437 رقم 627). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 576 رقم 2192).

وفرضة الخندق ثلمته التي يدخل ويخرج منها، ويجمع على فُرَض بضم الفاء وفتح الراء. قوله: "ملأ الله" جملة دُعَائية، إنشاءً في صورة الإخبار، والمعنى: اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا، وهذه الجملة من الجمل التي لا محل لها من الإعراب. ص: حدثنا علي بن معبد قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه لم يذكر قول عليّ - رضي الله عنه -: "كنا نُرَى أنها الفجر". ش: أشار بهذا إلى أن حديث عليّ - رضي الله عنه - روي أبي عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدها: عن عليّ بن معبد بن نوح، عن إسحاق بن منصور السلولي الكوفي، عن محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن زُبَيْد -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث اليامي، عن مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عون بن سلّام الكوفي، قال: أنا محمد بن طلحة اليامي، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: "حبس المشركون رسول الله - عليه السلام - عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس -أو اصفرت- فقال رسول الله - عليه السلام -: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا. أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارًا". والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد بن الحارث، عن مرة بن شراحيل، عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 437 رقم 628).

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن المثنى، نا يزيد بن هارون، نا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - عليه السلام - غزا غزوًا فلم يرجع منه حتى مَسَّى لصلاة العصر عن الوقت الذي كان يصلي فيه ... " ثم ذكر نحوه. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعدويه، عن عباد، عن هلال ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: أنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه قال يوم الخندق ... " ثم ذكر مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عباس يخبر عن النبي - عليه السلام -: أنها صلاة العصر، فكيف يجوز أن يقبل عنه من رأيه ويخالف ذلك. ش: أشار بهذا إلى أنه روي عن ابن عباس أيضًا مثل حما روي عن عليّ وابن مسعود. وأخرجه من ثلاث طرق: الأولان صحيحان والثالث فيه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى فيه مقال. الأول: عن علي بن معبد بن نوح، عن معلى بن منصور الرازي من أصحاب أبي حنيفة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن هلال بن خباب -بالخاء المعجمة وبتشديد الباء الموحدة- العبدي، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 388 رقم 2022).

وأخرج الطبري في "تفسيره" (¬1): ثنا علي بن مسلم الطوسي، ثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "حبس المشركون النبي - عليه السلام - عن صلاة العصر في غزاة له حتى تَمَسَّى بها، فقال: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارًا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى". وفي لفظ: "قال يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". قوله: "حتى مسى" يعني دخل في المساء، وكذلك أمسى. قوله: "لصلاة العصر" أي لأجل وقت صلاة العصر، و"اللام" تأتي للوقت، وأراد بالوقت الذي تصلى فيه قبل اصفرار الشمس. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعدويه وهو سعد بن سليمان الواسطي، فالمحدثون يقولون سَعْدُويه -بضم الدال وسكون الواو- وعند النحاة هو مثل سيبويه ونفطويه -بفتح الدال والواو-، وكذا الخلاف في زنجويه. وهو يروي عن عباد بن العوام الكلابي أبي سهل الواسطي من رجال الجماعة، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس. الثالث: عن محمد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، وثقه ابن يونس. عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، وثقه ابن حبان. عن أبيه عمران بن محمد الأنصاري، عن أبيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة -بفتح الباء الموحدة والجيم والراء، ويقال: بضم الباء وسكون الجيم، ويقال: ابن نجدة بالنون والجيم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، ويقال: مولى ابن عباس بلزومه له، روى له الجماعة سوى مسلم. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (2/ 569).

وعن سعيد بن جبير، كلاهما عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي - عليه السلام - قال يوم الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا". ثم إن حديث ابن عباس هذا يرد ما روي عنه من رأيه من أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، على ما مرّ فيما مضى، وكيف لا يرد هذا وقد روى هو عن النبي - عليه السلام - أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا معنى قوله: "فهذا ابن عباس يخبر عن النبي - عليه السلام - ... " إلى آخره. فهذا الحديث كما ترى أخرجه الطحاوي عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وفي الباب عن أم حبيبة، وأم سلمة، وحذيفة، وجابر، وأنس - رضي الله عنهم -. فحديث أم حبيبة عند الطبري (¬2): ثنا ابن المثنى، ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سفيان، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة - رضي الله عنها - عن النبي - عليه السلام - أنه قال يوم الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس". وحديث أم سلمة عند الطبراني في "الكبير" (¬3): بإسناده عنها قالت: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارًا". وفي إسناده مسلم الملائي الأعور وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 26 رقم 12368). (¬2) "تفسير الطبري" (2/ 560). (¬3) "المعجم الكبير" (23/ 341 رقم 793).

وحديث حذيفة - رضي الله عنه - عند البزار (¬1): بإسناد صحيح عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا". وحديث جابر - رضي الله عنه - عند البزار: أيضًا بإسناد صحيح (¬2) عنه، أن النبي - عليه السلام - قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وحديث أنس - رضي الله عنه - عند إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره" من حديث أبان، عن أنس، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "شغلونا عن صلاة العصر التي غفل عنها سليمان بن داود - عليه السلام - حتى توارت بالحجاب". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مسهر، قال: ثنا صدقة بن خالد، قال: حدثني خالد بن دهقان، قال: أخبرني خالد سَبَلان، عن كهيل بن حرملة النمري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنه أقبل حتى نزل دمشق على آل أبي كلثم الدوسي، فأتى المسجد فجلس في غربيه، فتذاكروا الصلاة الوسطى فاختلفوا فيها، فقال اختلفنا فيها، كما اختلفتم ونحن بفناء بيت رسول الله - عليه السلام - وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - رضي الله عنه - فقال: أنا أعلم لكم ذلك، فأتى رسول الله - عليه السلام - وكان جريئًا عليه، فاستأذن فدخل، ثم خرج إلينا، فأخبرنا أنها صلاة العصر". ش: أبو مسهر هو عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى الغساني الدمشقي روى له الجماعة، وصدقة بن خالد القرشي الأموي أبو العباس الدمشقي مولى أم البنين أخت معاوية بن أبي سفيان، روى له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (7/ 307 رقم 2906). (¬2) "مسند البزار" (2/ 178 رقم 555).

وخالد بن دهقان -بتثليث الدال- القرشي أبو المغيرة الشامي الدمشقي، وثقه دحيم وابن حبان، وروى له أبو داود. وخالد سبلان هو خالد بن عبد الله بن فرج، يلقب بسبلان -بفتح السين والباء الموحدة- وثقه ابن حبان. وكهيل بن حرملة النمري، وثقه ابن حبان. وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي خال: معاوية بن أبي سفيان، له صحبة، وهو أخو أبي حذيفة بن عتبة لأبيه، وأخو مصعب بن عمير لأمه. قيل: اسمه خالد، وقيل: شيبة، وقيل: هشام، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم، أسلم يوم الفتح، وسكن الشام، وتوفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وكان من زهاد الصحابة - رضي الله عنه -. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا إبراهيم بن دحيم الدمشقي، ثنا أبي، ثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثني خالد بن دهقان (ح). وثنا أحمد بن المعلّى الدمشقي وموسى بن سهل أبو عمران الجوني، قالا: ثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، قال: ثنا خالد بن دهقان، أخبرني خالد سبلان، عن كهيل بن حرملة، عن أبي هريرة: "أنه أقبل حتى نزل على أبي كلثم الدوسي فتذاكروا الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه ابن حبان (¬2): في كتاب "الثقات" في ترجمة كهيل بن حرملة، ثنا محمد ابن الهمداني، ثنا ابن زنجويه، ثنا أبو مسهر، ثنا صدقة بن خالد، قال: ثنا خالد ابن دهقان، ثنا خالد سبلان، عن كهيل بن حرملة النمري قال: "قدم أبو هريرة ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 301 رقم 7197). (¬2) "الثقات" (5/ 341 رقم 5135).

دمشق فنزل على آل أبي كلثم الدوسي، فأتى المسجد فجلس في غربيِّه، فجلسنا إليه، فذكرنا الصلاة الوسطى، وقال أبو هريرة: اختلفنا فيها ... ". إلى آخره نحوه. وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده": وقال: لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي - عليه السلام - إلا هذا الحديث وحديثًا آخر، وقال أبو موسى المديني في كتاب "الصحابة": أبو هاشم هذا له حديثان حسنان. قلت: الأول: هو الحديث المذكور. والثاني: هو ما أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" (¬1): حدثني جدي، حدثنا عَبِيدة بن حميد، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن سمرة بن سهم، عن أبي هاشم بن عتبة وهو خال معاوية قال: "دخل عليه معاوية يعوده فبكى، فقال: ما يبكيك يا خال أمن وجع يشئزك، أم حرص على الدنيا فقد ذهب؟ فقال: على كل ولكن رسول الله - عليه السلام - عهد إلىَّ عهدًا فوددت أني كنت اتبعته، إن رسول الله - عليه السلام - قال لي: لعلك أن تدرك أموالًا تقسم، فإنما يكفيك من جمع المال خادم ومركبٌ في سبيل الله -عز وجل-، فوجدت فجمعت" انتهى. قوله: "على آل أبي كلثم" ويقال فيه: أبو كلثوم أيضًا و"الدوسي" نسبة إلى دوس قبيلة من اليمن من الأزد، وأبو هريرة أيضًا دوسي. قوله: "بفناء بيت رسول الله - عليه السلام -" فناء الدار بالكسر أمامها وهو الموضع المتسع الذي يرمى فيه ما يخرج من الدار. قوله: "وكان جريئًا" من الجراءة والإقدام على الشيء من غير تجبين. ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن جناب، قال: ثنا يونس، عن ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (3/ 443 رقم 15702)، وهناد في "زهده" (1/ 315 رقم 565) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي وائل.

محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الوسطى: صلاة العصر". ش: إسناده ضعيف ولكن الحديث من غير هذا الوجه صحيح على ما يأتي: وأحمد بن جناب -بالجيم والنون المخففة- بن المغيرة المصيصي أحد مشايخ مسلم وأبي داود. ويونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. ومحمد بن أبي حميد واسمه إبراهيم الزرقي الأنصاري المدني فيه مقال، ضعفه يحيى، ووهَّاه الجوزجاني، وأنكره البخاري، وروول له الترمذي وابن ماجه. وموسى بن وردان القرشي العامري أبو عمر المصري القاضي، ضعفه يحيى، وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وأخرجه البيهقي (¬1): بغير هذا الإسناد: من حديث عبد الوهاب بن عطاء، نا سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الوسطى: صلاة العصر". وقال: خالفه غيره، قال يحيى القطان والأنصاري: عن سليمان فوقفه. وأخرجه ابن خزيمة أيضًا في "صحيحه" (¬2). ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة ح وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن همام بن يحيى، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 460 رقم 2003). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 290 رقم 1338).

قتادة بن دعامة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الوسطى: صلاة العصر". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا بهز وعفان، قالا: نا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "حافظوا على الصلوات -قال عفان- والصلاة الوسطى وسماها لنا أنها صلاة العصر". الثاني: عن علي بن معبد، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "صلاة الوسطى: صلاة العصر". وقال: قال محمد بن إسماعيل: قال علي بن المديني: حديث الحسن عن سمرة صحيح وقد سمع منه. قلت: قد مر الكلام فيه مستقصى في باب الاغتسال يوم الجمعة. ص: فهذه آثار قد تواترت وجاءت مجيئًا صحيحًا عن النبي - عليه السلام -: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. ش: أشار به إلى الآثار التي رواها، التي دلت على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. قوله: "قد تواترت" أي تكاثرت وتتابعت، وليس المراد منه التواتر المصطلح عليه عند أهل الأصول، ونبّه بهذا أبي على أن اختياره أبي هو أن الوسطى هي صلاة العصر. ص: وقد قال بذلك أيضًا جلّة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عفان، قال: ثنا وُهَيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 8 رقم 20103). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 340 رقم 182).

عن أبي بن كعب قال: "صلاة الوسطى هي صلاة العصر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن عباد، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه - مثله. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي: "أنه سأل أبا هريرة عن الصلاة الوسطى، فقال: سأقرأ عليك القرآن حتى تعرفها، أليس يقول الله -عز وجل- في كتابه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬1) الظهر {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) المغرب {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} (¬2) العتمة، ويقول: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1).الصبح، وقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) هي العصر هي العصر". ش: أي قد قال بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر أكابر من الصحابة - رضي الله عنهم -. والِجلّة -بكسر الجيم وتشديد اللام- جمع جليل، بمعنى عظيم، وجلَّ كل شيء معظمه. وقد أخرج منهم عن أربعة أنفس وهم: أبي بن كعب، وأبو سعيد الخدري، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. فأما أثر أُبيّ فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أُبيّ. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [78]. (¬2) سورة النور، آية: [58]. (¬3) سورة البقرة، آية: [238].

وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬1): عن وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن أبي بن كعب قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر". وأما أثر أبي سعيد الخدري فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري. وأما أثر علي فأخرجه: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن يعقوب بن أبي عباد العبدي البصري، وثقه ابن يونس، عن إبراهيم بن طهمان الخراساني الهروي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، روى له الجماعة، عن الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي فيه مقال كثير، عن علي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: "صلاة الوسطى صلاة العصر". وقال ابن حزم في "المحلى": لا يصح عن علي - رضي الله عنه - غير هذا. وأما أثر أبي هريرة فأخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي الحمصي، أحد مشايخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، فيه مقال؛ ضعفه النسائي، ووثقه الفسوي، وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وروى له الأربعة. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القارئ أبي عثمان المكي، روى له الجماعة. البخاري مستشهدًا عن عبد الرحمن بن لبيبة وهو عبد الرحمن بن نافع الطائفي، ولبيبة اسم أمه، ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. وأخرجه الطبري (¬3) مختصرًا: حدثني المثنى، ثنا سويد، أنا ابن المبارك، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 245 رقم 8623). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 244 رقم 8609). (¬3) "تفسير الطبري" (2/ 554).

معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى؛ ألا وهي العصر، ألا وهي العصر". وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): مطولًا. قال: وروينا من طريق إسماعيل بن إسحاق، نا علي بن عبد الله -هو ابن المديني- نا بشر بن المفضل، نا عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن نافع: "أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى، فقال للذي سأله: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: فإني سأقرأها عليك بها القرآن حتى تفهمها، قال الله -عز وجل- ... " إلى آخر ما ذكره الطحاوي. قوله: "لدلوك الشمس: الظهر" أراد أن بدلوك الشمس يدخل وقت الظهر؛ لأن دلوكها زوالها عن كبد السماء، وذلك كما روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أتاني جبريل - عليه السلام - لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بي الظهر". وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "دلوك الشمس: غروبها". رواه الطبراني (¬2): بإسناده عنه. قوله: "إلى غسق الليل المغرب" أراد أن بغسوق الليل يدخل وقت المغرب، والغسق: الظلمة. وروى الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا الحسين بن إسحاق، ثنا يحيى الحماني، ثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "كنا مع عبد الله في طريق مكة، فلما غربت الشمس قال: هذا غسق الليل، ثم أذّن، ثم قال: هذا والله -الذي لا إله إلا هو- وقت هذه الصلاة". قوله: "ثلاث عورات لكم" أراد بثلاث عورات: ثلاثة أحوال، أمر الله فيها بأن يَستأذن العبيد، وقيل: العبيد والإماء، والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار. ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 258). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 230 رقم 9128). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 232 رقم 9140).

الأولى: قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما يُنَام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة. الثانية: بالظهيرة؛ لأنها وقت وضع الثياب للقائلة. الثالثة: بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم، وسمى الله كل واحدة من هذه الأحوال عورة؛ لأن الناس يختلّ تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل. أعور الفارس وأعور المكان، والأعور: المختل العين. قوله: "العتمة" أراد بها وقت صلاة العشاء. قوله: "إن قرأن الفجر" أراد صلاة الفجر، سميت قرآنًا وهو القراءة؛ لأنها ركن، كما سميت ركوعًا وسجودًا وقنوتًا. قوله: "مشهودًا" يعني تشهده ملائكة الليل والنهار، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة، أو من حقه أن يكون مشهودًا بالجماعة الكثيرة. قوله: "هي العصر هي العصر" مكرر، كرره أبو هريرة للتأكيد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فإن قال قائل: لم سُمِّيت صلاة الوسطى صلاة للعصر؟ قيل له: قد قال الناس في هذا قولين. فقال قوم سميت بذلك لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وبين صلاتين من صلاة النهار. ش: السؤال ظاهر، والجواب عنه شيئان: أحدهما: ما قاله قوم: إنها إنما سميت بذلك لأنها بين صلاتين من صلاة الليل وهما المغرب والعشاء، وبين صلاتين من صلاة النهار وهما صلاة الصبح وصلاة الظهر؛ فهذا الإطلاق باعتبار المحل؛ لأنه لو كان ذلك باعتبار المقدار لكانت المغرب هي الوسطى؛ لأن أقل الصلاة ركعتان وأكثرها أربع، ولو كان باعتبار أن الوسطى هي الفضلى، كان لكل ذي مذهب أن يدعي ذلك، وقد ذكرنا فيه أشياء أخرى فيما مضى.

ص: وقال آخرون في ذلك ما قد حدثني القاسم بن جعفر البصري، قال: سمعت يحيى بن الحكم الكيساني يقول: سمعت أبا عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن عائشة يقول: إن آدم - عليه السلام - لما تيب عليه عند الفجر، صلى ركعتين فصارت الصبح، وفُدِّي إسحاق - عليه السلام - عند الظهر فصلى إبراهيم - عليه السلام - أربعًا فصارت الظهر، وبعث عزير - عليه السلام - فقيل له: كم لبثت؟ فقال: يومًا. فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وقد قيل: غير عزير، وغفر لداود - عليه السلام - عند المغرب، فقام يصلى أربع ركعات، فجهد، فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا، وأول من صلى العشاء الآخرة نَبِينُّا - صلى الله عليه وسلم - فلذلك قالوا: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا عندنا معنى صحيح؛ لأن أول الصلوات إن كانت الصبح وآخرها العشاء الآخرة فالوسطى فيما بين الأولى والآخرة وهي العصر؛ فلذلك قلنا: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا قول أبي حنيفة وأتيت يوسف ومحمد - رحمهم الله-. ش: أي قال قوم آخرون في وجه تسمية صلاة العصر الصلاة الوسطى ما قاله أبو عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر القرشي التيمي البصري المعروف بابن عائشة وبالعيشي وبالعائشي؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهو أحد مشايخ أبي داود وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيان، وثقه أبو حاتم، وقال أبو داود: صدوق. وروى له الترمذي والنسائي. روى ذلك عنه يحيى بن الحكم الكيساني الواسطي، قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. وروى عنه أيضًا، وروى عنه القاسم بن جعفر البصري شيخ الطحاوي. قوله: "لما تيب عليه" أي لما تاب الله عليه، يعني لما قبل توبته عند الفجر؛ صلى ركعتين، فصارت تلك الركعتان الصبح، أي صلاة الصبح. قوله: "وفُدِّي إسحاق - عليه السلام - عند الظهر" يعني: جعل له فداء، وهو الكبش الذي

أرسله الله إليه ليذبح عوضًا عنه، وعند الجمهور الذي فُدِّي هو إسماعيل - عليه السلام -، فصلى إبراهيم - عليه السلام - عند ذلك أربعًا، أي أربع ركعات، فصارت الظهر، أي صلاة الظهر. قوله: "وبُعِثَ عزير - عليه السلام -" أي من نومه الذي سلطه الله عليه مائة عام، والأصح أنه مات؛ لقوله تعالى {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} (¬1) وذلك لما مرّ على بيت المقدس وقد خربها بخت نصر، فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}، قال ذلك ليعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة، كما طلبه إبراهيم - عليه السلام - فمات ضحى وبُعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يومًا، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم، فلما عاش وقام، صلى أربع ركعات فصارت العصر، أي صلاة العصر. قوله: "وقد قيل: غير عزير" أي قد قيل: إن الذي صلى العصر غير عزير - عليه السلام -، وهو يونس - عليه السلام -، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: "وغفر لداود - عليه السلام -" (¬2). وذكر الفارقي في كتاب "البستان": الصلوات الخمس صلاها خمسة من الأنبياء عليهم السلام، فآدم صلى الفجر، وإبراهيم صلى الظهر، ويونس صلى العصر، وعيسى صلى المغرب، وموسى صلى العشاء. وذكر الشيخ الإِمام الفقيه الزاهد أبو علي الحسن بن يحيى البخاري الزندويستي في كتابه "روضة العلماء" قال الفقيه رحمه الله تعالى: سألت أبا الفضل البرهدري، فقلت له: لم كانت الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والعتمة أربعًا؟ فقال: الشرع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [259]. (¬2) بيَّض له المؤلف -رحمه الله-.

فقلت: زدني، فقال: قالت الحكماء: لأن كل صلاة صلاها نبي من الأنبياء عليهم السلام في وقتها فادخرها الله تعالى لأمه محمد - عليه السلام - لينالوا فضل أولئك الأنبياء. فأما الفجر فإنما كان ركعتين؛ لأن أول من صلاها أبونا آدم - عليه السلام -، ولما أخرج من الجنة أظلمت عليه الدنيا، وجنَّ الليل ولم يكن رآه قبل ذلك، فخاف من ذلك خوفًا شديدًا، فلما أصبح وانشق الفجر صلى ركعتين شكرًا لله تعالى، الأولى منها شكرًا لله لنجاته من ظلمة الليل، والثانية شكرًا لضوء النهار، وكان منه تطوعًا، فأمرنا الله تعالى بذلك ليذهب به عنا ظلمة المعاصي، كما أذهب عنه ظلمة الليل، وينور علينا نور الطاعة كما نور عليه نور النهار. وأما صلاة الظهر أربع ركعات؛ لأن أول من صلاها إبراهيم الخليل - عليه السلام - لما أمر بذبح الولد، ثم نودي {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬1) وكان النداء عند الزوال، ونظر إبراهيم - عليه السلام - إلى الفداء وكان في أربعة أحوال: حال الذبح، فرفعه الله عنه بالفداء. وحال غم الولد؛ فكشف الله عنه ذلك. وحال النداء الذي ناداه الله تعالى وفدا عنه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬2). وحال رضي الله عنه وصلى عند ذلك أربع ركعات كل ركعة شكرا لما صنع من صنائعه، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: صلوا أربع ركعات الظهر لأوفقكم على ذبح إبليس اللعين، كما وفقت خليلي بذبح الولد، وأنجيكم من الغم كما نجيته، وأفدي لكم من النار كما فديت عنه، وأرضى عنكم كما رضيت عنه. وأما صلاة العصر فأول من صلاها يونس - عليه السلام - حين أنجاه الله تعالى من بطن الحوت، فكان في أربع ظلمات: ظلمة الزلة، وظلمة الماء، وظلمة الليل، وظلمة ¬

_ (¬1) سورة الصافات، آية: [105]. (¬2) سورة الصافات، آية: [107].

بطن الحوت، فكانت نجاته عند العصر، فصلى أربعًا شكرًا لله تعالى تطوعًا منه، ففرض الله علينا، فقال: عبدى، الأصل العصر أربعًا لأنجيك من ظلمة الخطايا كما أنجيته من بطن الحوت، ومن ظلمة القيامة كما أنجيته من ظلمة الماء، ومن ظلمة جهنم كما أنجيته من ظلمة الليل، ومن ظلمة القبر كما أنجيته من ظلمة الزلة. وأما المغرب فأول من صلاها عيسى بن مريم عليهما السلام حين أخبره الله تعالى: أن قومك يدعونني ثالث ثلاثة فصلى حينئذ ثلاث ركعات، وكان بعد غروب الشمس، فالركعة الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية: لنفيها عن والدته، والثالثة: لإثبات الألوهية لله تعالى، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} (¬1) قال: فعند ذلك يهون عليه الحساب وتنجيه من النار، وتؤمنه من الفزع الأكبر، فأمرنا الله بها ليهون علينا الحساب، وينجينا من النار كما أنجاه، ويؤمننا من الفزع الأكبر كما فعل به. وأما العتمة فأول من صلاها موسى - عليه السلام -، حين ضل عن الطريق عند خروجه من المدين، وكان في غم المراة، وغم أخيه هارون، وغم عدوه فرعون، وغم أولاده؛ فنجاه الله تعالى من ذلك كله، وسمع مناديًا ينادي: إني أنا ربك يعني هاديك، أجمع بينك وبين أخيك، وأظفرك على عدوك، فلما سمعه وكان وقت العتمة صلى أربع ركعات لكل حالة ركعة، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: عبدي، صلى العتمة أربعًا لأهديك كما هديته، وأكفيك كما كفيته، وأجمع بينك وبين الأنبياء عليهم السلام والصديقين كما جمعت بينه وبين هارون، فأعطيك الظفر على عدوك إبليس اللعين، كما أعطيته على عدوه فرعون، فلذلك كانت الصلاة في الأوقات مختلفة انتهى. وفيه مسائل: لم سميت الصلاة صلاة؟ أجيب: لأن فيها الدعاء، والصلاة: الدعاء في اللغة. وقيل: لأن فيها الصلاة على الرسول - عليه السلام -، وقيل: لأن تاركها يصلى النار، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [116].

وقيل: لأنها صلة بين العبد وربه، ويقال: لاتصال أركانها بعضها ببعض. ولم وضعت على أعضاء مختلفة؟ أجيب بأنه ورد في الحديث: "خلقتم من سبع ورزقتم من سبع فاسجدوا لله على سبع؛ ليكون شكرًا لها". ولم وضعت على سبعة عشر ركعة؟ أجيب بأن المفاصل سبع عشرة، فأراد بأن يعتق بكل ركعة مفصلًا. ولم وضعت مثنى وثلاث ورباع؟ أجيب بأن الله أراد أن توافق تلك الركعات أجنحة الملائكة ليكونوا مستغفرين للمصلين قاله جعفر الصادق - رضي الله عنه -. وقيل: وضعت ركعتين لأن العبد نصفان: روح وجسد، وثلاثًا: لأن له نفسًا وقلبًا وروحًا، وأربعًا: لأن له أربع طبائع. ولم وضعت في خمسة أوقات؟ أجيب بأن لله تعالى أفعالًا في هذه الأوقات الخمسة ما ليس في غيرها، وأراد من عنده خدمة خاصة في هذه الأوقات. وقيل: لأن أبواب السماء تفتح في هذه الأوقات.

ص: باب: الوقت الذي يصلى فيه الفجر أي وقت هو؟

ص: باب: الوقت الذي يصلى فيه الفجر أي وقت هو؟ ش: أي هذا باب في بيان الوقت المستحب الذي ينبغي أن تصلى فيه صلاة الفجر لفضيلة ذلك الوقت، وأما وقت الجواز فقد مرّ بيانه، والمناسبة بين الأبواب ظاهرة؛ لأن كلها في بيان أحوال الأوقات وأنوعها. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنَّ نساء المؤمنات يصلين مع النبي - عليه السلام - صلاة الصبح متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى أهلهن وما يعرفهن أحدٌ". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم ورجاله رجاله. والزهري محمد بن مسلم. وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا يحيى بن بكير، قال: أنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته قالت: "كنَّ نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس". وقال مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، كلهم عن سفيان -قال عمرو-: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي - عليه السلام - ثم يرجعن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد". وقال أبو داود (¬3): ثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - أنهما قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 210 رقم 553). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 445 رقم 645). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 168 رقم 423).

وقال الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وقال النسائي (¬2): أنا إسحاق بن إبراهيم قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن نساء المؤمنات كُنَّ يصلين الصبح مع النبي - عليه السلام - متلفعات بمروطهن، فيربعن فما يعرفهن أحد من الغلس". وقال ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كن نساء المؤمنات يصلين مع النبي - عليه السلام - صلاة الصبح، ثم يرجعن إلى أهلهن، فلا يعرفهن أحد يعني من الغلس". قوله: "كن نساء المؤمنات" من قبيل "أكلوني البراغيث"، وإلا فالقياس يقتضي أن يقال كانت نساء المؤمنات، ونساء المؤمنات كلام إضافي مرفوع؛ لأنه اسم لقوله: "كن" وخبره قوله: "يصلين". فإن قيل: إضافة النساء إلى المؤمنات إضافة الشيء إلى نفسه، وهي لا تجوز. قلت: الإضافة ها هنا كالإضافة في قولهم: رجال القوم أي: مقدموهم وفضلاؤهم، وكذلك المعنى هَا هنا: كُنَّ فاضلات النساء المؤمنات، ويقال: تقديره نساء الأنفس المؤمنات، ويقال: نساء الجماعات المؤمنات، والكل يرجع إلى معنى واحد. قوله: "متلفعات" حال من النساء، أي متجللات بأكسيتهن، قال الأصمعي: التلفع بالثوب: أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهذا اشتمال الصماء عند العرب؛ لأنه لم يرفع جانبًا منه فيكون فيه فرجة، وهو عند الفقهاء كالاضطباع إلا أنه في ثوب واحد، وعن يعقوب: اللفاع: الثوب تلتفع به المرأة، أي تلتحف به فيغيبها، وعن كراع: وهو الملفع أيضًا، وعن ابن دريد: اللفاع الملحفة أو الكساء. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 287 رقم 153). (¬2) "المجتبى" (1/ 271 رقم 546). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 220 رقم 669).

وقال أبو عمرو: هو الكساء. وعن صاحب "العين": تلفع بثوبه وتلفع الرجل بالشيب، كأنه غطى سواد رأسه ولحيته، وقال عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": التلفع أن يلقي الثوب على رأسه ثم يلتف به، ولا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال الالتفاع مثل الاشتمال، وأمّا التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه، وفي "المحكم": الملفعة: ما يُلْفع به من رداء أو لحاف أو قناع. انتهى. وذكر القزاز أن عمر قال: إن فلانة كانت ترجلني ولم يكن عليها إلاَّ لفاع، قال: فهذا يدل على أن اللفاع غير القناع؛ لأنه نفي أن يكون عليها غيره ومحال أن يكون عليها قناع ولا شيء تلبسه، وفي "المغيث" وقيل: اللفاع: النطع. وقيل: الكساء الغليظ، وفي "الصحاح": لفع رأسه تلفيعًا أي غطاه. قال القاضي: ووقع لبعض رواة "الموطأ" يحيى وغيره: "متلففات" بفائين، وأكثرهم بالفاء والعين، والمعنى متقارب إلا أن التلفع يختص بتغطية الرأس. قوله: "بمروطهن" جمع مِرط -بكسر الميم- قاله الجوهري، وقال القزاز: المرط ملحفة يؤتزر بها، والجمع أمراط ومروط. وقيل: يكون المرط كساء من خزٍّ أو صوف أو كتان. وفي "المحكم" قيل: هو الثوب الأخضر. وفي "مجمع الغرائب" أكسية من شعر أسود، وعن الخليل هي أكسية معلمة. وقال ابن الأعرابي: هو الإزار. وقال النضر بن شميل: لا يكون المرط إلا درعًا وهو من خزٍّ أخضر، ولا يسمى المرط إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء. وفي "شرح الموطأ": هو كساء صوف رقيق خفيف مربع، كن النساء في ذلك الزمان يأتزرن به ويلتففن. قوله: "وما يعرفهن أحد" قيل: يعني أرجال أم نساء؟ قاله الداودي، ويقال ما يعرف أعيانهن أحد.

وقال النووي: وهذا ضعيف؛ لأن المتلفعة في النهار أيضًا لا يُعرف عينها، فلا يبقى في الكلام فائدة. قلت: ليس مراد هذا القائل أن يشخصهن أحد حقيقة التشخص، بل مراده لا يعرفهن أرجال أم نساء أم صبيان أم بنات؟ فهذا أيضًا قريب من كلام الداودي. ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - بمثله، غير أنه قال: "وما يعرف بعضهن بعضًا من الغلس". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة نحوه. غير أنه قال: "وما يعرفن من الغلس". ش: هذه ثلاث طرق أخرى وهي صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو اليمان، أبنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة قالت: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر، فتشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن سعيد بن منصور الخرساني، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة بن يحيى المدني، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 146 رقم 365).

وأخرجه البزار في "سننه" (¬1): ثنا عمرو بن علي، نا أبو داود، نا فليح بن سليمان، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كن نساء المؤمنات يصلين مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الصبح متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفن من الغلس". وهذا الحديث قد روي عن عائشة من غير وجه. وحديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة لا نعلم رواه عنه إلا فليح. قلت: الغلس والغبش والغبس واحد، كل ذلك من بقايا ظلمة الليل، وفي "المحكم" الغلس: ظلام آخر الليل، ويقال: الغَلَس - بفتحتين- بقاء ظلام الليل واختلاطه بضياء الصباح، والغبس قريب منه إلا أنه دونه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (1): عن قتيبة، عن مالك، وقد ذكرناهما. ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن عروة بن الزبير، قال: أخبرني بشير بن أبي مسعود، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - صلى الغداة، فغلس بها، ثم صلاها فأسفر، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى". ش: عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة. ووثقه كثيرون حتى قيل: إن البخاري روى عنه في "الصحيح" ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه وهو هو. ¬

_ (¬1) كذا "بالأصل، ك"، والصواب: "مسنده"، ولم يطبع مسند عائشة بعد. (¬2) تقدم قريبًا.

وبَشير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة- الأنصاري المدني. قيل: إنه صحب النبي - عليه السلام - ولا يثبت سماعه منه، والأكثرون على أنه تابعي، روى له الجماعة سوى الترمذي. وأبوه أبو مسعود اسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1) مطولًا وقال: ثنا محمد بن سلمة، نا ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، أن ابن شهاب أخبره: "أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدًا على المنبر، فأخَّر العصر شيئًا، فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل - عليه السلام - قد أخبر محمدًا - عليه السلام - بوقت الصلاة، فقال له عمر: اعلم ما تقول، فقال له عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: نزل جبريل - عليه السلام - فأخبرني بوقت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صلت معه -يحسب بأصابعه خمس صلوات- فرأيت رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر حين نزول الشمس، وربما أخّرها حين يشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء، قبل أن تدخلها الصفراء، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2)، والبيهقي في "سُننه" (¬3): وقد احتج به قوم على أن حكم التغليس مستمر، وأنه سُنَّه مستمرة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 161 رقم 394). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 298 رقم 1449). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 363 رقم 1580).

وقال الحافظ أبو محمد موسى بن حازم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": قد اختلف أهل العلم في الإسفار بصلاة الصبح والتغليس بها، فرأى بعضهم الإسفار الأفضل وذهب إلى قوله: "اصبحوا بالصبح" ورآه محكمًا. وزعم الطحاوي أن حديث الإسفار ناسخ لحديث التغليس، وأنهم كانوا يدخلون مغلسين ويخرجون مسفرين، وليس الأمر كما ذهب إليه؛ لأن حديث التغليس ثابت، وأن النبي - عليه السلام - داوم عليه حتى فارق الدنيا. ثم روى الحديث المذكور وقال: هذا إسناد رواته عن آخرهم ثقات. قلت: يرد هذا ما أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2): عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها". قال العلماء: يعني وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر، وإنما غلس بها جدًّا وتوضحه رواية البخاري: "والفجر حين نزع"، وهذا دليل على أنه - عليه السلام - كان يسفر بالفجر دائمًا، وقلَّما صلاها بغلس، وبه استدل الشيخ في "الإِمام" لأصحابنا، على أن أسامة بن زيد قد تُكُلِّم فيه، فقال أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بقوي. فثبت بهذا أن زعم الطحاوي صحيح، وأن رد الحازمي كلام الطحاوي ردٌّ غير صحيح، والحق أحق أن يتبع. وقد تكلم البيهقي ها هنا كلامًا فيه تحامل على الطحاوي، وسنذكره مع جوابه في موضعه عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي (ح). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1598). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 938 رقم 1289).

وحدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني نهيك بن يريم، عن مغيث بن سُمَيّ، قال: "صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح فغلس، فالتفت إلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فقلت: ما هذا؟! قال: هذه صلاتنا مع رسول الله - عليه السلام - ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فلما قتل عمر - رضي الله عنه - أسفر بها عثمان - رضي الله عنه -". ش: أخرجه من طريقين جيدين: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب الإِمام محمد بن الحسن الشيباني، عن بشر بن بكر التنيسي أبي عبد الله البجلي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن نَهيك -بفتح النون- بن يَرِيم -بفتح الياء آخر الحروف- الأوزاعي، عن مغيث بن سُمَي الأوزاعي أبي أيوب الشامي. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الوليد بن مسلم، نا الأوزاعي، نا نهيك بن يريم الأوزاعي، ثنا مغيث بن سُمي، قال: "صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلم أقبلت على ابن عمر فقلت: ما هذه الصلاة؟! قال: هذه صلاتنا كانت مع رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فلما طعن عمر - رضي الله عنه - أسفر بها عثمان - رضي الله عنه -" الثاني: عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن الأوزاعي ... إلى آخرة. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬2): أنا أبو عبد الله الحافظ، قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: ثنا محمد بن الفضل العسقلاني، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا نهيك بن يريم، قال: ثنا مغيث بن سمي: "أن ابن الزبير غلس بصلاة الفجر، فأنكرت ذلك، فلما سلم التفت إلى ابن عمر ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 221 رقم 671). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (2/ 342 رقم 702).

فقلت: ما هذه الصلاة؟! وهو إلى جانبي، فقال: هذه صلاتنا مع رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر فلما قتل عمر أسفر بها عثمان - رضي الله عنهما -". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - قالا: "تسحرنا مع النبي - عليه السلام - ثم خرجنا إلى الصلاة، قلت: كم بين ذلك؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية". حدثنا محمد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت، مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العَقَدي نسبة إلى عَقَد -بفتح العين والقاف- قوم من قيس، عن هشام الدستوائي، عن قتاده، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس، أن زيد بن ثابت حدثه: "أنهم تسحروا مع النبي - عليه السلام -، ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين -يعني آية-". حدثنا حسن بن صباح (¬2)، سمع روحًا، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن نبي الله - عليه السلام - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - عليه السلام - إلى الصلاة وصلى، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 210 رقم 550). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 210 رقم 551).

وأخرجه مسلم (¬1) في كتاب الصوم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله - عليه السلام - ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية". وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا في كتاب "الصوم": ثنا يحيى بن موسى، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع النبي - عليه السلام - ثم قمنا إلى الصلاة، قال: قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا في كتاب "الصوم": أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع، قال: نا هشام، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله - عليه السلام - ثم قمنا إلى الصلاة، قال: زعم أن أنسًا القائل: ما كان بين ذلك؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية". ويستفاد منه حكمان: الأول: استحباب تأخير السحور، قال الترمذي: وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، استحبوا تأخير السحور. الثاني: استحباب التغليس بصلاة الصبح، والجواب عنه أن المراد من قوله: "قاموا إلى الصلاة" أو "قمنا، أو "قام" هو القيام إلى الصلاة بتحصيل شروطها لا حقيقة الشروع في الصلاة عقيب فراغهم من السحورة فإنهم ما كانوا يتسحرون إلا قبل طلوع الفجر، وكذا فراغهم عنه قبله، ولا يمكن أن يسرعون في الصلاة عقيبه؛ لأنه يكون قبل الوقت، ولهذا قدَّر زيد بن ثابت الوقت الذي بين فراغهم من السحور وبين قيامهم إلى الصلاة بمقدار قراءة خمسين آية أو ستين آية، وهذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 771 رقم 1097). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 84 رقم 703). (¬3) "المجتبى" بهذا السند (4/ 143 رقم 2155، 2156).

المقدار مقدار جيد، فيكون قيامهم إلى تحصيل شروط الصلاة بعد مضي هذا المقدار، وحنيئذ لا يكون شروعهم في نفس الصلاة إلا في الإسفار؛ لأن بين طلوع الفجر وبين الإسفار مسافة يسيرة؛ ولئن سلمنا أنهم كانوا يسرعون في نفس الصلاة بعد مضي هذا المقدار من حين فراغهم من السحور، فنقول: إنه محمول على ما إذا أراد تطويل القراءة، ونحن نقول أيضًا بأن المستحب في حق من يريد تطويل القراءة في صلاة الصبح أن يبتدئ في أول الوقت، ويختمها بالإسفار، أو يكون هذا في إبتداء الإِسلام حين كانت الجماعة قليلة، فلما قوي الإِسلام وكثر المسلمون، كان النبي - عليه السلام - يسفر بها؛ ليلحق الجماعه بصلاته - عليه السلام -. والطريق الآخر: عن محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي، قال الدارقطني: لا بأس به. وقال الخطيب: رواياته كلها مستقيمة؛ فلا أعلم في حديثه منكرًا، ولا أعلم لأي علة ضعَّفه من ضعَّفه، ونسبته إلى باغند -بالباء الموحدة وفتح الغين المعجمة، وسكون النون، والدال المهملة- وهي قرية من قرى واسط ينسب إليها جماعة من العلماء. وهو يروي عن عمرو بن عون بن أوس أبي عثمان الواسطي البزاز، روى له الجماعة. عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن منصور بن زاذان أبي المغيرة الواسطي روى له الجماعة، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنهما -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا القاسم بن عيسى الطائي، ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله - عليه السلام - ثم خرجنا فصلينا". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني سعد ابن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن قال: لما قدم الحجاج وجعل ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 116 رقم 4793).

يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن ذلك، فقال: كان رسول - عليه السلام - أو قال: كانوا يصلون الصبح بغلس". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر بن عبد الله قال: "كانوا يصلون الصبح بغلس". ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبي إسحاق المدني، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - القرشي الهاشمي، أبي عبد الله المدني من رجال الصحيحين. عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن يقول: "لما قدم الحجاج بن يوسف كان يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن وقت الصلاة، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير أو حين تزول الشمس، ويصلي العصر والشمس مرتفعة، ويصلي المغرب حين تغرب الشمس، ويصلي العشاء يؤخر أحيانًا ويعجل أحيانًا، إذا اجتمع الناس عَجَّل، وإذا تأخروا أخّر، وكان يصلي الصبح بغلس- أو قال: كانوا يصلونها بغلس". قال أبو داود: وهكذا قال شعبة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو هو ابن الحسن بن علي، قال: "سألت جابر بن ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 238 رقم 1722). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 207 رقم 540).

عبد الله عن صلاة النبي - عليه السلام - فقال: كان النبي - عليه السلام - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عَجَّل، وإذا قلُّوا أخر، والصبح بغلس". وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة. وثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بعض قال: "لما قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان رسول - عليه السلام - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجل، كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخَّر، والصبح كانوا -أو قال-: كان النبي - عليه السلام - يصليها بغلس". وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسلم بن إبراهيم، نحو رواية البخاري، غير أن في رواية أبي داود: "والمغرب إذا غربت الشمس ... " والباقي سواء بسواء. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة ... إلى آخره مثل رواية مسلم، غير أنه لم يذكر الصبح. قوله: "لما قدم الحجاج" أي المدينة كما صرح به في رواية مسلم، والحجاج هو ابن يوسف بن الحكم بن أبي عَقِيل -بالفتح- بن مسعودبن عامر بن معتّب -بالتشديد- بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قَسِيّ -وهو ثقيف- الثقفي، عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، توفي في رمضان -أو في شوال- سنة خمس وتسعين للهجرة، وعمره ثلاث أو أربع وخمسون سنة. قوله: "عن ذلك" أي عن تأخير الحجاج الصلاة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 446 رقم 646). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 163 رقم 397). (¬3) "المجتبى" (1/ 264 رقم 527).

قوله: "بغلس" أي في أول الوقت عند اختلاط الظلام بالضياء. والطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمَّد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: "لما قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله فقال: كان رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحو رواية مسلم سواء. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا عبد الله بن حسان العنبري، قال: حدثتني جدتاي صفية بنت عُليبة ودحيبة بنت عُليبة، أنهما أخبرتهما قيلة ابنة مخرمة، أنها قدمت على رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، وقد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من الظلمة". ش: يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي أبو محمد البصري المقرئ النحوي روى له الجماعة سوى البخاري، الترمذي في "الشمائل". وعبد الله بن حسان التميمي أبو الجنيد العنبري يلقب عتريس، روى له أبو داود والترمذي. وصفية بنت عُليبة -بضم العين المهلة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- روى لها أبو داود والترمذي. ودحيبة -بضم الدال وفتح الحاء المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- بنت عُليبة وثقها ابن حبان. روى لها البخاري في "الأدب" وأبو داود والترمذي، وهي وصفية أختان بنتا عليبة وجدتان لعبد الله بن حسان. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 369 رقم 15011).

وقَيْلة -بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف- بنت مخرمة العنبرية الصحابية وكانت صفية ودحيبة ربيبتي قيلة هذه وكانت قيلة جدة أبيهما. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) مطولًا: ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا حفص بن عمر أبو عمر البصري الحوضي (ح). وثنا معاذ بن المثنى والفضل بن حباب أبو خليفة، قالا: ثنا عبد الله بن سوَّار بن قدامة بن عنزة العنبري (ح). وثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي، ثنا عفان بن مسلم (ح). وثنا محمد بن زكرياء الغلابي، ثنا عبد الله بن رجاء الغداني (ح). وثنا محمد بن هشام بن أبي الدميك المستلمي، نا عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي، قالوا: ثنا عبد الله بن حسان العنبري أبو الجنيد أخو بني كعب العنبري، حدثتني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة، وكانتا ربيبتي قيلة، أن قيلة بنت مخرمة حدثتهما أنها كانت تحت حبيب بن أزهر أخي ابن جناب، فولدت له النساء، ثم توفي، فانتزع منها بناتها أثوب بن أزهر عمهن، فخرجت تبتغي الصحابة إلى رسول الله - عليه السلام - في أول الإِسلام فبكت جويرية منهن. حديباء قد كانت أخذتها الفرصة، وهي أصغرهن، عليها سبيج لها من صوف فرحمتها فاحتملتها معها فبَيْنا هما ترتكان الجمل إذا انتفجت الأرنب فقالت الحديباء الفصتية: لا والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب في هذ الحديث أبدًا ثم لما سنح الثعلب فسمته اسمًا غير الثعلب نَسَبَه عبد الله بن حسان ثم قالت ما قالت في الأرنب فبينما هما ترتكان إذْ برك الجمل وأخذته رعدة فقالت الحديباء الفَصْتية: والله أخذة أثوب، فقلت: واضطررت إليها: ويحكي ما أصنع؟ قا لت: قلبي ثيابك ظهورها لبطونها، وتدحرجي ظهرك لبطنك، وقلبي أحلاس جملك ثم خلعت سبيجها فقلبته وتدحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلتُ ما أمرتني انتفض الجمل، ثم ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (25/ 7 رقم 1).

قام فتفأّج وبال فقالت الحديباء: أعيدي عليك إداتك، ففعلتُ ما أمرتني به، فأعدتها، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى على إثرنا بالسيف صَلْتًا فَوَألنا إلى حواء ضخم، فداراه حتى ألقى الجمل إلى رواق البيت الأوسط جمل ذلول، واقتحمت داخله بالجارية وأدركني بالسيف فأصابت، ظبته طائفة من قرون رأسي، وقال: ألقي إليَّ بنت أخي يادفار، فرميت بها إليه، فجعلها على منكبه، فذهب بها، وكنت أعلم به من أهل البيت ومضيت إلى أخت لي ناكح من بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول الإسلام، فبينما أنا عندها ذات ليلة من الليالي تَحْسِب يميني نائمة جاء زوجها من الشام، فقال: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحبًا صاحب صدق، فقالت أختي: من هو؟ قال: حريث بن حسان الشيباني، عاد وافد بكر بن وائل إود رسول الله - عليه السلام - ذا صباح، فقالت أختي: الويل لب، لا تسمع بهذا أختي فتخرج مع أخي بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها ليس معها من قومها رجل، فقال: لا تذكريه لها فإني غير ذاكر لها، فسمعت ما قالا فعدوت فشددت على جملي، فوجدته غير بعيد، فسألته الصحبة، فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخة عنده فخرجت معه صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالناس صلاة الغداة وقد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل فصففت مع الرجال، امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لي الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا بل امرأة، فقال: إنك قد كدت تفتنيني، فصلي في النساء ورائك وإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته حين دخلت، فكنت فيهن حتى إذا طلعت الشمس دنوت، فجعلت إذا رأيت رجلًا ذا رداء وذا قشرٍ طمح إليه بصري لأرى رسول الله - عليه السلام - فوق الناس، حتى جاء رجل بعد ما ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله - عليه السلام -: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مُليَّتين قد كانتا بزعفران، وقد نفضتا، وبيده عُسَيب نخلة مقشوّ غير خوصتين من أعلاه، قاعد القرفصاء، فلما رأيت

رسول الله - عليه السلام - المتخشع في الجلسة أرعدت من الفَرَق فقال له جليسه: يا رسول الله، أرعدت المسكينة. فقال رسول الله - عليه السلام - ولم ينظر إلى وأنا عند ظهره: يا مسكينة، عليك السكينة، فلما قالها رسول الله - عليه السلام -؛ أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب، وتقدم صاحبي أول رجل حريث بن حسان فبايعه على الإسلام وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، أكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز، فقال رسول الله - عليه السلام -: اكتب له بالدهناء يا غلام، فلما أمر له بها، شُخِصَ بي، وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله لم يسألك السوية من الأمر إذْ سألك؛ إنما هذه الدهناء عندها مقيد الجمل، ومرعى الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفُتَّان، فلما رأى ذلك حريث أن قد حيل دون كتابه ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: كنت أنا وأنت كما قال وحتفها تحمل ضأن بأظلافها فقالت: والله ما أعلم أن كنت لدليلًا في الظلماء بذولا لذي الرحل، عفيفًا عن الرفيقة، حتى قدمنا على رسول الله - عليه السلام -، ولكن لا تلمني على أن أسأل حظي إذْ سألت حظك، قال: وما حظك في الدهناء لا أبا لك؟ قلت: مقيد جملي تسأله لجمل امرأتك قال: لا جرم إني أشهد رسول الله - عليه السلام - إني لك أخ وصاحب ما حييت إذا ثنيت على هذا عنده فقلت: إذ بدأتها ولن أضيعها، فقال رسول الله - عليه السلام - أيلام ابن هذه أن يفصِّل الخطة وينتصر من وراء الحجرة، فبكيتُ ثم قلت: قد والله ولدته يا رسول الله حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة ثم ذهب يميرني من خيبر فأصابته حماها فمات، فترك عليّ النساء، فقال رسول الله - عليه السلام -: فوالذي نفسي بيده لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك -أو لجررت على وجهك شك عبد الله بن حسان أي الحرفين حدثته المرأتان- أتغلب إحداكن صوحبها في الدنيا معروفًا فإذا حال بينه وبين من هو أولى به اسْتُرجع ثم قال: رب آسني ما أمضيت فأعني على ما أبقيتَ، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبلى فيستعير له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم، ثم كتب لها في قطيعة أديم أحمر

لقيلة والنسوة من بنات قيلة ألا يظلمن حقًّا ولا يكرهن على منكح وكل مؤمن ومسلم لهن نصير، أحْسنَّ ولا تَسئنَ". انتهى. وقد أخرج أبو داود (¬1) قطعة منه في باب إقطاع الأرضين في كتاب الخراج، وقال: ثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل -المعنى واحد- قالا: نا عبد الله ابن حسان العنبري، قال: حدثتني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما، أنها أخبرتهما قالت: "قدمنا على رسول الله - عليه السلام -، تقدم صاحبي -تعني حريث بن حسان- وافد بكر بن وائل، فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز، فقال: أكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شُخِصَ بي، وهي وطني وداري، فقلت له: يا رسول الله، إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندها نقيد الجمل، ومرعى الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة؛ المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان". وأخرج الترمذي (¬2) قطعة أيضًا في باب "ما جاء في الثوب الأصفر": ثنا عبد بن حميد، قال: ثنا عفان بن مسلم الصفار أبو عثمان قال: ثنا عبد الله بن حسان، أنه حدثته جدتاه صفية بنت عليبة ودحيبة بنت عليبة، حدثتاه عن قيلة بنت مخرمة وكانتا ربيبتيها وكانت قيلة جدة أبيهما أمُّ أمه، أنها قالت: "قدمنا على رسول الله - عليه السلام - ... " فذكرت الحديث بطوله: "حتى جاء رجل وقد ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله - عليه السلام -: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه -تعني النبي - عليه السلام - أسمال مليئتين كانتا بزعفران، وقد نفضتا ومعه عسيب نخلة". قال أبو عيسى: حديث قيلة لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن حسان انتهى. قوله: "فخرجت تبتغي الصحابة" أي تطلبها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 193 رقم 3070). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 120 رقم 2814).

قوله: "حديباء" تصغير حدباء، والحَدَب بالتحريك ما ارتفع وغلط من الظهر، وقد يكون في الصدر، وصاحبه: أحدب. قلت: الذي في ظهره: أحدب، والذي في صدره: أقعس. قوله: "أخذتها الفرصة" قال ابن الأثير: أي ريح الحديث، ويقال بالسين، وقال ابن عائشة: الفَرصة ذات الحديث، والفِرصة القطعة من المسك، والفُرصة: الدولة، يقال: أنتهز فرصتك: أي دولتك. قوله: "عليها سُبَيِّج" بضم السين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره جيم تصغير سبيج كَرَغِيف ورُغَيِّفّ، وهو معرب: شَبِيّ، للقميص بالفارسية، وقيل: معناه ثوب صوف أسود، وقال ابن عائشة: السُّبَيِّج سَمل كساء، وفي "العباب": وقال ابن الأعرابي: السِّيبج -بكسر السين وسكون الياء وفتح الباء الموحدة- قال: وأراه معربًا. قوله: "تُرْتِكان الجمل" أي تحملانه على السير السريع، يقال: رَتَكَ يَرْتِكُ رَتْكًا ورَتَكَانًا، وقال ابن عائشة: الرَتَكان: ضرب من السير. قوله: "إذا انتفجت الأرنب" أي وثبت، وقال ابن عائشة: الانتفاج: السعي. قوله: "الفصية" قال ابن عائشة: الفصية: انقضاء الأمور، قلت: هو بفتح الفاء وسكون الصاد المهملة وفتح الياء آخر الحروف، وأرادت بها الخروج من الضيق إلى السعة، وهو اسم من التفصي. وقال ابن الأثير: أرادت أنها كانت في ضيق وشدة من قبل عمّ بناتها، فخرجت منه إلى السعة والرخاء. قوله: "ثم سنح" قال ابن عائشة: أي ولاك ميامنه، وبعض العرب يجعل مياسره، وهم يتطيرون بأحدهما ويتفاءلون بالآخر. قوله: "أحلاس جملك" جمع حِلْس -بالكسر- وهو الكساء الذي يلي ظهر

البعير، تحت القَتَب. قوله: "فتفاءَّج": أي تفتح. قوله: "صلتًا" أي مجردًا مسلولًا. قوله: "فوألنا" أي لجأنا إلى "حِواء" بكسر الحاء المهملة، وبالمد في آخره، قال ابن الأثير: الحِواء: بيوت مجتمعة من الناس على ماء والجمع: أحوية. قوله: "فأصابت ظبته" أي طَرفُه وحدُّه وأصلها ظُبَوٌ على وزن صُرَدٌ، فحذفت الواو، وعُوِّض منها الهاء. قوله: "طائفة من قرون رأسي" أي قطعة من ذوائب شعري، وكل ضفيرة من ضفائر الشعر قرن. قوله: "يا دفار" أي يا مُنْتنة. قوله: "حين شق الفجر" أي حين طلع، يقال: شق الفجر وانشق إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه. قوله: "والنجوم شابكة في السماء" أي مشتبكة، أرادت أن النجوم ظهرت جميعها واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها. قوله: "لا تكاد تَعَارَفُ" بفتح التاء وضم الفاء، وأصله تتعارف بتاءين، فحذفت إحداها للتخفيف كما في قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} (¬1) أصله: تتلظى. قوله: "ذا رُواء" بضم الراء وبالمد، أي ذا منظر حسن. قوله: "وذا قِشْر" أي ذا لباس والقِشْر اللباس ومنه تسمى الحلة: قشرة. قوله: "طمح إليه بصري" أي امتد وعلا. قوله: "وعليه أسمال" جمع سَمْل، وهو الخَلِق من الثياب، وهو مضاف إلى قوله: ¬

_ (¬1) سورة الليل، آية: [14].

"مُلَيَّتين" تصغير ملائين تثنية ملاءة، وهي الإزار. قوله: "عُسّيِّب نخلة" أي جريدة منها، وهي السعفة، مما لا ينبت عليه الخوص، وقال ابن الأثير: الرواية: "عُسَيِّب نخلة" مصغرًا. قوله: "مقشوّ" أي مقشور عنه خوصه، يقال: قشوت العود إذا قشرته. قوله: "بالدهناء" الدهناء -بفتح الدال تمد وتقصر- موضع ببلاد بني تميم. قوله: "شُخِصَ بي" أي ارتفع بصري. قوله: "علي الفتان" يروى بضم الفاء وفتحها، فبالضم جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الآخر على الذين يضلون الناس عن الحق، ويفتنونهم، وبالفتح: هو الشيطان؛ لأنه يفتن الناس عن الدين، وفُتَّان مبالغة فاتن. قوله: "وحتفها تحمل ضأنًا بأظلافها" هذا مثل، وأصله: أن رجلًا كان جائعًا بالبلد القفر، فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به، فبحثت الشاة الأرض فظهرت فيها مدية فذبحها بها، فصار مثلًا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره، والحتف: الموت، والضمير في حتفها يرجع إلى الضأن، وهو جمع ضائن خلاف الماعز، والتقدير: تحمل ضأن حتفها بأظلافها. و"الأظلاف" جمع ظلف وهو للبقرة والشاة والظبي ونحوها، ويجمع على ظلف أيضًا. قوله: "رب آسني" أي اجعل لي أسوة بما تعطني به، قال ابن الأثير: معناه عَزِّني وصَبِّرني، ويروى: أُسْني -بضم الهمزة وسكون السين - أي عَوِّضني، والأوْس العوض. ص: حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا ووح بن عبادة والحجاج بن نصير، قالا: ثنا قرة بن خالد السدوسي، قال: ثنا ضرغامة بن عليية بن حرملة العنبري، قال: حدثني أبي، عن جدي قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - في ركوب من الحي، فصلى بنا صلاة الغداة فانصرف وما كاد أعرف وجوه القوم، أي كأنه

بغلس". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا قرة، عن ضرغامة بن عليبة، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام -، مثله. ش: هذان طريقان: أحدهما: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي وأبي عوانة الإسفرائيني وأبي حاتم الرازي، قال في "الميزان": محدث رحَّال ثقة. عن روح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة. وعن الحجاج بن نصير الفساطيطي القيسي أبي محمد البصري، فعن أحمد: ضعيف. وكذا عن النسائي، وذكره ابن حبان في "الثقاب" وقال: يخطئ ويهم. كلاهما يرويان عن قرة بن خالد السدوسي أبي محمد البصري روى له الجماعة. عن ضرغامة بن عليبة العنبري وثقه ابن حبان. عن أبيه عليبة بن حرملة العنبري التميمي وثقه ابن حبان. عن جده حرملة بن عبد الله التميمي العنبري الصحابي، وهو جَدُّ حبان بن عاصم لأمه، وجَدُّ صفية ودحيبة ابنتي عليبة لأبيها. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا أبي وعمي عبيد الله بن معاذ، قالا: ثنا أبي، ثنا قرة بن خالد، ثنا ضرغامة بن عليبة بن حرملة، حدثني أبي، عن أبيه قال: "انطلقت في وفد الحي إلى رسول الله - عليه السلام -، فصلى بنا صلاة الصبح، فلما سلم جعلت انظر إلى وجه الذي إلى جنبي، فما أكاد أعرفه من الغلس فقلت: يا رسول الله، أوصني، قال: اتق الله، وإن كنت في القوم فسمعتهم يقولون لك ما يعجبك فأته، وإن سمعتهم يقولون لك ما تكره، فدعه". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 6 رقم 3476).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز -بالخاء والزائين المعجمات- وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هارون بن إسماعيل الخزاز فقال: شيخ محله الصدق، كان عنده كتاب عن علي بن المبارك، وكان تاجرًا. عن قرة بن خالد، عن ضرغامة ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا قرة بن خالد، ثنا ضرغامة بن عليبة بن حرملة العنبري، عن أبيه عليبة، عن جده حرملة قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - في ركب من الحي، فصلى بنا صلاة الصبح، فجعلت انظر إلى الذي بجنبي فما أكاد أعرفه من الغلس، فلما أردت الرجوع، قلت: أوصني يا رسول الله، قال: اتق الله، وإذا كنت في مجلس فقمت عنهم فسمعتهم يقولون ما يعجبك فأته وإذا سمعتهم يقولون ما تكره فلا تأته". قوله: "في ركوب من الحط" الركوب جمع رَكْب جمع رَاكِب كصَحْب جمع صَاحِب، والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة. قوله: "وما أكاد" أي وما أقرب "أعرف"، وذلك لأجل الغلس، وهو ظلمة آخر الليل المختلطة بضياء الصباح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، وقالوا: هكذا يفعل في صلاة الفجر يغلس بها؛ فإنها أفضل من الإسفار بها. ش: أراد بهؤلاء القوم: الأوزاعي والليث وإسحاق بن راهويه والشافعي وأحمد ومالكًا -في الصحيح عنه- وأبا ثور وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الأحاديث المذكورة، وقالوا: التغليس بالفجر أفضل من الإسفار بها، وذكر ابن قدامة عن أحمد: إذا اجتمع المصلون فالتغليس أفضل وإن أخروا فالتأخير أفضل. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 167 رقم 126).

وقال ابن المنذر: وقد روينا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن الزبير وابن عمر وأبي هريرة أخبارًا تدل على أن التغليس أفضل من تأخيرها. قلت: وسنذكر عن عمر وعلي وعثمان وأبي موسى وابن عمر ما يخالف هذا. وقال ابن حزم: وتعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها، أفضل على كل حال حاشى العتمة؛ فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل، إلا أن يشق ذلك على الناس فالرفق بهم أولى، وحاشى الظهر للجماعة خاصة في شدة الحر خاصة، فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل الإسفار بها أفضل من التغليس. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وإبراهيم النخعي وطاوسًا وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأكثر العراقيين وفقهاء الكوفة وأصحاب ابن مسعود - رضي الله عنهم - فإنهم قالوا: بل الإسفار بالصبح أفضل من التغليس، وقالوا: الإسفار قوة الضوء. وهو أيضًا اختيار ثعلب وغيره من اللغوين، يقال: أسفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها، وأسفر وجهها إذا أضاء، وقال الجوهري: معنى اسفروا بالفجر: أي صلوها مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار. وقال ابن طريف: أسفر الليل: انقضى انكشفت ظلمته. وفي "المغيث": أسفر الصبح: انكشف، وفي "الأساس" للزمخشري: وخرجوا في السفر: في بياض الفجر، ورُحْ بنا بسفر: ببياض قبل الليل، وفي المجاز: وجه مسفر: مشرق سرورًا، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} (¬1)، وفي "المعرب": أسفر الصبح: أضاء، وأسفر بالصلاة أي صلاها بالإسفار، وقال في "المحيط": إذا كانت السماء مُصْحية فالإسفار أفضل إلا للحاج بمزدلفة، فهناك التغليس أفضل، وعمم في "المبسوط" فقال: الإسفار أفضل من التغليس في الأوقات كلها، وقال الطحاوي: ¬

_ (¬1) سورة: عبس، آية: [38].

إن كان من عزمه التطويل يشرع في التغليس ليخرج في الإسفار، قال: وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه، وفي كتاب "الأسرار" للدبوسي: لا يباح التأخير لمن ينام في بيته بعد الفجر بل يحضر المسجد لأول الوقت، ثم ينتظر الصلاة، ثم يصلي لآخر الوقت؛ إذ لو صلى لأول الوقت قَلَّ ما يمكنه اللبث والمقام إلى طلوع الشمس فلا ينشغل بعد الفراغ بحديث الدنيا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: "حجَّ عبد الله، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلما كانت ليلة المزدلفة فطلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس من المزدلفة، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر، ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك". وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "خرجت مع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - إلى مكة، فصلى الفجر يوم النحر حين سطع الفجر، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما في هذا المكان: المغرب، وصلاة الفجر في هذه الساعة". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من فضيلة الإسفار بالفجر؛ بحديث عبد الله بن مسعود. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن روح بن الفرج القطان أبي الزنباع المصري، عن عمرو بن خالد ابن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني أحد مشايخ البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين.

عن زهير معاوية بن حديج أبي خيثمة الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد: زهير فيما روى من المشايخ ثبت بخٍ بخٍ. روى له الجماعة. عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة. عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبي بكر الكوفي، ابن أخي علقمة بن قيس، روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن ابن يزيد قال: "خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جَمْعًا فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، وتعشى بينها، ثم صلى الفجر وقائل يقول: طلع، وقائل يقول: لا، ثم قال: إن رسول الله - عليه السلام - قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان، ولا يقدم الناس جمعًا حتى يُعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة، ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السُنَّة، فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان؟ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، ثنا جرير بن حازم، سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "حججنا مع ابن مسعود في خلافة عثمان - رضي الله عنه - قال: فلما وقفنا بعرفة قال: فلما غربت الشمس، قال ابن مسعود: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب فلا أدري كلمة ابن مسعود كانت أسرع أو إفاضة عثمان؟ قال: فأوضع الناس ولم يزد ابن مسعود على العَنَق حتى أتينا جمعًا، فصلى ابن مسعود المغرب، ثم دعى بعشائه فتعشى، ثم قام فصلى العشاء الآخرة، ثم رقد حتى إذا طلع الفجر قام فصلى الغداة، قال: فقلت له: ما كنت تصلي هذه الصلاة هذه الساعة -قال: وكان يسفر بالصلاة- قال: إني رأيت رسول الله - عليه السلام - في هذا اليوم في هذا المكان يصلي في هذه الساعة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1599). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 410 رقم 3893).

قوله: "حين يبزغ الفجر" أي حين يطلع يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر، وغيرهما، إذا طلعت، والبزوغ: الطلوع. قوله: "حتى يعتموا" أي حتى يدخلوا في وقت العتمة، وهي العشاء. قوله: "فأوضع الناس" من وضع البعير يضع وضعا، وأوضع راكبه إيضاعًا: إذا حمله على سرعة السير. قوله: "على العَنَق" وهو ضرب من السير، قال الجوهري: العنق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مستطرّ، أي ممتد. وهذا يدل على استحباب الإسفار بالفجر؛ لأن عبد الله لما صلى الفجر يومئذ في أول وقته استعجبه عبد الرحمن بن يزيد؛ لأن عهده أنه يسفر بالفجر دائمًا، ولهذا قال: إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، وقال ابن مسعود في جوابه: إن رسول الله - عليه السلام - كان لا يصلي هذه الساعة -يعني في أول الفجر- إلا هذه الصلاة -يعني صلاة الصبح- في هذا المكان -يعني في مزدلفة- في هذا اليوم -يعني يوم النحر- فدل ذلك أن رسول الله - عليه السلام - كان لا يصلي الفجر دائمًا إلا في الإسفار إلا في يوم مزدلفة؛ فإنه كان يغلس بها فيها، لتدارك الوقوف، ولا يعارضه حديث أبي مسعود البدري: "أنه - عليه السلام - صلى الصبح بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات - عليه السلام - لم يعد إلى أن يسفر". من وجهين: الأول: أن في إسناده أسامة بن زيد قد تكلموا فيه، فقال أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي. فلا يعارض حديث ابن مسعود؛ لكون رجاله ثقاتًا من رجال الصحيحين. الوجه الثاني: أن ابن مسعود أخبر بحال الرسول - عليه السلام - من أبي مسعود؛ لشدة ملازمته رسول الله - عليه السلام -، وكان حامل نعله، ولا يفارقه، وهو أكثر اطلاعًا من غيره في أمور عباداته واختياره الأوقات المستحبة فيها.

فإن قيل: حديث أبي مسعود قد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه، فهلَّا يعارض حديث ابن مسعود. قلت: بلى قد أخرجوه، ولكن البخاري ومسلما لم يذكرا في روايتهما قضية الإسفار مرة، ثم كانت صلاته التغليس حتى مات. فإن قيل: قد قال المنذري: هذه الزيادة في قضية الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة. قلت: قَدْ مَرَّ جوابه آنفًا: أن فيهم أسامة بن زيد، وقد قيل فيه ما قيل، وقد مر الكلام فيه مرة. الطريق الثاني: ليس من الطحاوي، وإنما هو من أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ الذي روينا كتاب "معاني الآثار" عنه عن الطحاوي، وهو من زيادات أبي بكر، ولهذا لا يوجد في كثير من النسخ. يروي عن أبي عروبة الحسن بن محمد الحراني الإمام الحافظ. عن عبد الرحمن بن عمرو البجلي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حسن بن موسى، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: "حج عبد الله بن مسعود، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلزمته فكنت معه ... ". فذكر الحديث وفيه: "فلما كان حين طلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها! قال: قال: "إن رسول الله - عليه السلام - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تُحَولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر، قال: رأيت رسول الله - عليه السلام - فعل ذلك". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 461 رقم 4399).

الطريق الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "أفضت مع ابن مسعود من عرفه، فلما جاء المزدلفة صلى المغرب والعشاء كل واحدة منهما بأذان وإقامة، وجعل بينهما العَشَاء، ثم نام، فلما قال قائل: طلع الفجر. صلى الفجر، ثم قال: إن رسول الله - عليه السلام - قال: إن هاتين الصلاتين أخرتا عن وقتهما في هذا المكان، أما المغرب فإن الناس لا يأتون ها هنا حتى يُعتموا، وأما الفجر فهذا الحين، ثم وقف، فلما أسفر قال: إن أصاب أمير المؤمنين دفع الآن، قال: فما فرغ عبد الله من كلامه حتى دفع عثمان - رضي الله عنه -". قوله: "تُحولان" أي تنقلان وتصليان في غير وقتها المعهود، وهذا دليل صريح إلى أنه - عليه السلام - كان يسفر بالصبح دائمًا؛ لأنه قال: "وصلاة الفجر في هذه الساعة" يعني ساعة طلوع الفجر، ولو كان يغلس بها دائما كما غلس بها في هذا اليوم لَما قال: "إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما" أي عن وقتهما المعهود؛ لأن المعهود في المغرب أن يصلى عقيب غروب الشمس، والمعهود في الصبح أنه كان يصليها عند الإسفار، وإن كان وقتها من بعد طلوع الفجر، ولو لم يكن المعنى ما ذكرنا لخلا كلامه - عليه السلام - عن الفائدة. ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا بشر بن السري، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سُمَيْرة، قال: حدثني أبو طريف "أنه كان شاهدًا مع النبي - عليه السلام - حصن الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البَصَر حتى لو أن إنسانًا رمى بنبله أبصر مواقع نبله". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 449 رقم 4293).

ش: يحيى بن معين -بفتح الميم- بن عون المري الغطفاني أبو زكرياء البغدادي الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمشار إليه بين أقرانه، وهو أحد مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد بن حنبل وأبي يعلى الموصلي وآخرين وبشر بن السري البصري أبو عَمرو الأفوه روى له الجماعة. وزكرياء بن إسحاق المكي روى له الجماعة. والوليد بن عبد الله بن أبي سُمَيْرة. وقيل: ابن سُمَيْر ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. وأبو طريف مولى عبد الرحمن بن طلحة حجازي، قال عبد الرحمن بن أبي هاشم عن أبيه: أبو طريف روى عن النبي - عليه السلام -، روى عنه الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة. وقال أبو عمر في "الاستيعاب": أبو طريف الهذلي سمع النبي - عليه السلام -، يعد في أهل الحجاز، ويقال: إنه تابعي. والحديث أخرجه البغوي (¬1): عن علي بن مسلم، عن يحيى بن معين، عن بشر بن السري ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي متنًا وإسنادًا. وأخرجه البغوي مرة أخرى بلفظ: "حاضرنا مع رسول الله - عليه السلام - حصن الطائف، وصلى بنا صلاة البصر، حتى لو شاء إنسان أبصر مواقع نبله". وأخرجه العسكري في كتاب "الصحابة": ثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمود بن آدم، قال: نا بشر بن السري، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة، نحوه. غير أن في روايته: "فكان يصلي بنا صلاة المغرب". ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 447 رقم 1941).

وكذلك أخرجه ابن الأثير في "معرفة الصحابة" (¬1) وقال: أنا يحيى بن أبي رجاء بإسناده إلى ابن أبي عاصم، قال: ذكر بشر بن طريف، عن أزهر بن القاسم، عن زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة، عن أبي طريف أنه قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - حين حاصر أهل الطائف، وكان يصلي بنا صلاة المغرب. ولو أن إنسانًا رمى بنبله لأبصر مواقع نبله". قوله: "صلاة البَصَر" بفتح الباء الموحدة والصاد. قيل: هي صلاة المغرب، وروي ذلك عن أحمد أبي أنه قال: صلاة البَصَر: صلاة المغرب. وقيل: صلاة الفجر؛ لأنهما يؤديان وقد اختلط الظلام بالضياء، والبَصَر ها هنا بمعنى الإبصار، يقال: بَصُر به بصرًا، فعل هذا تحمل الروايتان على المعنين، فتحمل رواية الطحاوي على صلاة الفجر؛ لأنه أخرجه دليلًا على استحباب الإسفار بالفجر، وتحمل رواية غيره على صلاة المغرب، فكلتا الروايتين صحيحة، ووقع في بعض نسخ الطحاوي: "صلاة الفجر" موضع "صلاة البصر". ص: وحدثنا يزيد بن مشان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: "كان النبي - عليه السلام - يؤخر الفجر كاسمها". ش: إسناده جيد حسن. وسفيان هو الثوري، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل -بفتح العين- بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو محمد المدني، ضعفه النسائي، وقال الترمذي: صدوق. وقال البخاري: مقارب الحديث. وروى له في غير الصحيح. قوله: "كاسمها" أراد أنه كان يصليها عند انفجار الصبح، وهو انفلاقه وانكشافه عند آخر الليل؛ لأن الفجر في آخر الليل كالشفق في أوله، فكما أنه اسم ¬

_ (¬1) "أسد الغابة" (1/ 1200).

لآخر الليل فكذلك كان - عليه السلام - يؤخر صلاة الفجر إلى آخر وقت الفجر، يعني وقت الإسفار. ص: وحدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر الضبعي، قال: ثنا عوف، عن سيار بن سلامة قال: "دخلت مع أي على أبي برزة - رضي الله عنه - فسأله عن صلاة رسول الله - عليه السلام - فقال: كان ينصرف من صلاة الصبح والرجل يعرف وجه جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي الهجري أبو سهل البصري المعروف بابن الأعرابي، روى له الجماعة. وسيّار بن سلامة الرياحي أبو المنهال البصري، روى له الجماعة. وأبو برزة -بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة بعدها الزاي المعجمة- اسمه نضلة بن عبيد بن برزة الأسلمي - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، ثنا أبي، ثنا النضر بن شميل، ثنا سيّار بن سلامة، عن أبي برزة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - ينصرف من الصبح، فينظر الرجل إلى الجليس الذي كان يعرفه فيعرفه". وأخرج النسائي (¬2) في فضل القراءة: أنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يزيد، قال: أنا سليمان التيمي، عن سيّار -يعني ابن سلامة- عن أبي برزة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المائة". ويستفاد منه: استحباب الإسفار بالفجر، وتطويل القراءة فيه. ص: قالوا: ففي هذه الآثار ما يدل على تأخير رسول الله - عليه السلام - إياها، وعلى تنويره بها، وفي حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يصلي في سائر الأيام صلاة ¬

_ (¬1) (...). (¬2) "المجتبى" (2/ 157 رقم 948).

الصبح في خلاف الوقت الذي يصلي فيه بمزدلفة، وأن هذه الصلاة تحول عن وقتها. ش: أي قال الجماعة الآخرون في هذه الأحاديث التي رويت عن عبد الله بن مسعود وأبي طريف وجابر بن عبد الله وأبي برزة ما يدل على أن النبي - عليه السلام - كان يؤخر صلاة الفجر إلى وقت الإسفار والتنوير، وكذلك حديث عبد الله يدل على ذلك؛ لأنه قال: "كان - عليه السلام - يصلي في جميع الأيام صلاة الصبح في خلاف الوقت الذي كان يصليها فيه بمزدلفة، وكان في مزدلفة يصليها في أول الوقت بالغلس" فيكون خلافه الإسفار والتنوير، وقال أيضًا: "إن هذه الصلاة تحول عن وقتها". يعني عن وقتها المعتاد، وهو الإسفار والتنوير؛ فدل أنه - عليه السلام - كان يستمر على الإسفار بها إلا في يوم مزدلفة وهذا ظاهر لا يخفى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وليس في شيء من هذه الآثار ولا فيما تقدمها دليل على أن الأفضل من ذلك ما هو؟ لأنه قد يجوز أن يكون - عليه السلام - فعل شيئًا وغيره أفضل منه، على التوسعة منه على أمته، كما توضأ مرة بعد مرة، وكان وضوءه ثلاثًا ثلاثًا أفضل من ذلك، فأردنا أن ننظر فيما روي عنه سوى هذه الآثار هل فيها ما يدل على الفضل في شيء من ذلك؟ فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أسفروا بالفجر، فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر، أو لأجوركم". وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وحدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي الناس، قال: حدثني شعبة، عن داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن استدلال كل واحد من الفريقين بالأحاديث التي ذكرها كل فريق للاحتجاج لا يتم به؛ وذلك لأنه قد يجوز أن يكون - عليه السلام - فعل التغليس والحال أن الإسفار أفضل، ويجوز أن يكون فعل الإسفار والحال أن التغليس أفضل توسعة بذلك على أمته، كما فعل كذلك في الوضوء حيث توضأ مرة مرة، والحال أن الثلاث كان أفضل، فإذا كان كذلك فلا يتم استدلال بذلك، فيتعين الرجوع إلى غير هذا ليوقف على أي شيء أفضل، فنظرنا في ذلك فوجدنا رافع بن خديج - رضي الله عنه - قد روى عن النبي - عليه السلام -: "أسفروا بالفجر". وفي رواية: "نوروا" وكذا روي عن غيره بصيغة الأمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فدل ذلك على أن الإسفار أفضل من التغليس؛ فحينئذ يتم استدلال أهل المقالة الثانية، وتقوم حجتهم على ساقها. فإنْ قيل: فعل هذا ينبغي أن يكون الإسفار واجبًا لمقتضى الأوامر فيه. قلت: الأمر إنما يدل على الوجوب إذا كان مطلقًا مجردًا عن القرائن الصارفة إلى غيره، والأوامر التي وردت في الإسفار ليست كذلك، فلا يدل إلا على الاستحباب. ثم إنه أخرج حديث رافع بن خديج من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن على بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عجلان القرشي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري روى له الجماعة، عن محمود بن لبيد بن عتبة بن رافع الأنصاري ذكره مسلم في التابعين من الطبقة الثانية وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، قال: وقال أبي: لا يعرف له صحبة. قال أبو عمر: قول البخاري أولى.

والحديث أخرجه الأربعة: فالترمذي (¬1): عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر. لباقون. عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر. ولفظ أبي داود (¬2): "أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم أو أعظم للأجر". ولفظ ابن ماجه (¬3): "أصبحوا بالصبح فإنه أعظم للأجر أو لأجركم". ولفظ النسائي (¬4): "أسفروا بالفجر". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬5) وقال: أنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: ثنا أبو خيثمة، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي - عليه السلام - قال: "أصبحوا بالصبح؛ فإنكم كلما أصبحتم بالصبح كان أعظم لأجوركم أو لأجرها". وذكره الطوسي وابن القطان وابن حزم في الصحاح، فقال ابن القطان: طريقه طريق صحيح. وقال الترمذي: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح، وقال البغوي: هو حديث حسن. ولما ذكر ابن حزم هذا الحديث في "المحلى" قال: الخبر صحيح، وقال أبو محمد الأزدي: هذا حديث يدور بهذا الإسناد فيما أعلم على عاصم، وهو ثقة عند أبي زرعة وابن معين، وضعفه غيرهما، وقد روي مسند آخر إلى رافع، وحديث عاصم أصح. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 289 رقم 154). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 424). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 221 رقم 672). (¬4) "المجتبى" (1/ 272 رقم 548). (¬5) "صحيح ابن حبان" (4/ 355 رقم 1489).

وحديث رافع من طريق عاصم حسن. وقال ابن القطان: لا أعرف لعاصم مضعِّفًا. ورواه أبو داود من حديث ابن عجلان بدلًا من ابن إسحاق. وجمع بينهما الطبراني (¬1) فقال: نا إبراهيم بن نائلة، نا محمد بن المغيرة، ثنا النعمان، ثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق وابن عجلان. وثنا (¬2) محمد بن عبدوس، ثنا إبراهيم بن راشد الأدمي، ثنا معلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، قالوا: ثنا عاصم به. قال: وثنا (¬3) أبو مَعْن، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا شعبة، عن أبي داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع. قال: لم يروه عن شعبة إلا آدم وبقية، إلا أن بقية رواه عن شعبة، عن داود البصري، وقيل: إنه داود بن أبي هند. ورواه أبو نعيم في كتاب "الصلاة" (¬4): عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمود به. وهذا الطحاوي أيضًا رواه من حديث ابن عجلان وابن إسحاق، كلاهما عن عاصم، ومن حديث داود بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن محمود به. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬5): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 250 رقم 4287). (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 251 رقم 4291). (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 251 رقم 4292)، وهو في "الأوسط" (3/ 334 رقم 3319). (¬4) "فضائل الصلاة" لأبي نعيم الفضل بن دكين (1/ 337 رقم 273). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 289 رقم 154).

عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التميمي شيخ البخاري، عن شعبه بن الحجاج، عن داود بن أبي هند البصري، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثني أبي، ثنا بقية بن الوليد، عن شعبة بن الحجاج، حدثني داود البصري، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي - عليه السلام - قال: "أسفروا بصلاة الفجر فإنه أعظم للأجر". فإن قيل: قد قال ابن حزم في "المحلى" (¬2): وهذا الخبر صحيح، إلا أنه لا حجة لهم فيه إذا أضيف إلى الثابت من فعله - عليه السلام - في التغليس، حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن، أو حين يعرف الرجل وجه جليسه الذي كان يعرفه، وإن هذا كان المداوم عليه من عمله - عليه السلام -، وصح أن الإسفار المأمور به إنما هو بأن ينقضي طلوع الفجر ولا يصلي على شك منه. قلت: قد مر أن الثابت من فعله - عليه السلام - في التغليس لا يدل على الأفضلية؛ لأنه يجوز أن يكون غيره أفضل منه وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر؛ لأن قوله: "أعظم للأجر". أفعل التفضيل فيقتضي أجرين أحدهما أكمل من الآخر؛ لأن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر لم يكن في وقت التغليس أجر لخروجه عن الوقت. فافهم. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 251 رقم 429). (¬2) "المحلى" (3/ 189).

فإن قيل: قد قال البيهقي (¬1): رجح الشافعي: حديث عائشة - رضي الله عنها - بأنه أشبه بكتاب الله -عز وجل - الله تعالى يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬2) فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة، وأن رسول الله - عليه السلام - لا يأمر بأن تُصلى صلاة في وقت يصليها في غيره، وهذا أشبه بسنن رسول الله - عليه السلام - وذكر حديث (¬3) "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئًا، والعفو لا يحتمل إلا معنيين: عفو عن تقصير، أو توسعة. والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها إذا لم يؤمر بترك ذلك الغير الذي وُسِّع في خلافه -يريد الوقت الأول- قال: وقد أبان رسول الله - عليه السلام - مثل ما قلنا، وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال:"الصلاة في أول وقتها" وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به. وقال: قال الشافعي في حديث رافع: له وجه يوافق حديث عائشة ولا يخالفه، وذلك أن رسول الله - عليه السلام - لما حضَّ الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال: "أسفروا بالفجر" حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا فأراد - عليه السلام -فيما نرى- الخروج من الشك، حتى يصلي المصلي بعد اليقين بالفجر، فأمرهم بالإسفار أي بالتبين. قلت: المراد بالآية والمحافظة فيها: هو المداومة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وليس فيها دليل على أن أول الوقت أفضل، بل هي دليل لنا؛ لأن الذي يسفر بالفجر يترقب الإسفار في أول الوقت، فيكون هو المحافظ المداوم على الصلاة؛ ولأنه ربما تقع صلاته في التغليس قبل الفجر، فلا يكون محافظًا للصلاة في وقتها. قوله: "وإن رسول الله - عليه السلام - لا يأمر بأن تصلى صلاة ... " إلى آخره يوهم رد حديث رافع المذكور، وليس هذا بصحيح؛ لأنه ثبت من طريق صحيح عن ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 472 - 473). (¬2) سورة البقرة، آية: [238]. (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 436 رقم 1893)، والدارقطني في "سننه" (1/ 249 رقم 21) من حديث ابن عمر، وأخرجه بنحوه الترمذي (1/ 321 رقم 172).

النبي - عليه السلام - أنه أمر بالإسفار كما مَرَّ ذكره، وقد قلنا أيضًا: إن صلاته - عليه السلام - في الغلس لا يدل على الأفضلية حتى يقال لا يأمر بأن تصلى صلاة في وقت يصليها في غيره. وأما حديث (¬1): "أول الوقت، رضوان الله، وآخره عفو الله" فالمراد من العفو: الفضل، كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (¬2) أي الفضل، فكان معنى الحديث -والله أعلم-: أن من أدى الصلاة في أول الوقت فقد نال رضوان الله وأمن من سخطه وعذابه، لامتثاله أمره وأدائه ما وجب عليه، ومن أدى في آخر الوقت فقد نال فضل الله، ونيل فضل الله لا يكون بدون الرضوان، فكانت هذه الدرجة أفضل من تلك. وأما حديث (¬3): "سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة في أول وقتها" فمعناه أداء الصلوات في أول وقتها أفضل الأعمال، وذكر "أول" ها هنا لأجل الحث والتحضيض والتأكيد على إقامة الصلوات في أوقاتها، وإلا فالذي يؤديها في ثاني الوقت أو ثالثه أو رابعه كالذي يؤديها في أوله، فعُلم أن المراد من ذكر الأول الحث والتأكيد في المنع عن الكسل في آدائها وتأخيرها عن وقتها إلى خروجها عنه، لا أن الجزء الأول له مزية على الجزء الثاني أو الثالث أو الرابع، فحاصل المعنى: الصلاة في وقتها أفضل الأعمال ثم يتميز الجزء الثاني في صلاة الصبح عن الجزء الأول بالأمر الذي فيه الإسفار الذي يقتضي التأخير عن الجزء الأول. وأما قوله: وقد قال الشافعي في حديث رافع ... إلى آخره، يرده ويبطل تأويله ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا. (¬2) سورة البقرة، آية: [219]. (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" (1/ 169 رقم 426)، وأحمد في "المسند" (6/ 374 رقم 27147)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 302 رقم 680) كلهم من حديث أم فروة، وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن مسعود (1/ 197 رقم 504).

ما رواه ابن أبي شيبة (¬1)، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي (¬2) في مسانيدهم والطبراني في "معجمه" (¬3). فقال الطيالسي (3): ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني. وقال الباقون: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، ثنا هُرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج، سمعت جدي رافع بن خديج يقول: قال رسول الله - عليه السلام - لبلال: "يا بلال، نوِّر صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار". ورواه بن أبي حاتم في "علله" (¬4) فقال: ثنا هارون بن معروف وغيره، عن أبي إسماعيل المؤدب إبراهيم بن سليمان، عن هُرَير به. قال: ورواه أبو نعيم، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع، عن هُرَير به. ورواه ابن عدي أيضًا في "الكامل" (¬5): عن أبي إسماعيل المؤدب، وأسند عن ابن معين أنه قال: أبو إسماعيل المؤدب ضعيف. قال ابن عدي: ولم أجد في تضعيفه غير هذا، وله أحاديث غرائب حسان تدل على أنه من أهل الصدق، وهو ممن يكتب حديثه. وحديث آخر يبطل ما قالوا، رواه الإمام (أبو القاسم القاسم بن ثابت) (¬6) السَّرَقُسْطي في كتاب "غريب الحديث": حدثنا موسى بن هارون، ثنا محمد بن الأعلى، ثنا المعتمر، سمعت يبانًا، أنا سعيد، قال: سمعت أنسًا - رضي الله عنه - يقول: ¬

_ (¬1) "مسند ابن أبي شيبة" (1/ 78 رقم 83). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 129 رقم 961). (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 277 رقم 4414) من طريق أبي إسماعيل المؤدب، ثنا هريرة به. (¬4) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 139 رقم 385). (¬5) "الكامل" لابن عدي (1/ 250). (¬6) كذا في "الأصل، ك"، ولعل الصواب: أبو القاسم ثابت. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (14/ 562 - 563).

"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح حين يفسح البصر" انتهى. قال: يقال: فسح البصر وانفسح إذا رأى الشيء عن بعد، يعني به إسفار الصبح، فحينئذ تأويلهم معنى الإسفار أن يظهر الفجر ويتبين حتى لا يُشَك فيه غير صحيح؛ لأن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار كما ذكره أهل اللغة، وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الفجر، فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير وهو التأخير عن الغلس وزوال الظلمة. فإن قيل: قد قيل: إن الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي المقمرة؛ لأن الصبح لا يتبين فيما جدًّا فأمرهم بزيادة التبيّن استظهارًا باليقين في الصلاة. قلت: هذا تخصيص بلا مخ - صلى الله عليه وسلم - وهو باطل. ويرده أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة (¬1): عن إبراهيم النخعي: "ما اجتمع أصحاب محمد - عليه السلام - على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا زهير بن عباد، قال: ثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن رجال من قومه من الأنصار من أصحاب النبي - عليه السلام - قالوا: قال النبي - عليه السلام -: "أصبحوا بصلاة الصبح، فما أصبحتم بها فهو أعظم للأجر". وحدثنا محمد بن هشام، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، عن رجال من قومه من الأنصار من أصحاب النبي - عليه السلام - قالوا: قال رسول الله - عليه السلام -: "أصبحوا بالصبح. فكلما أصبحتم بها فإنه أعظم للأجر". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن زهير بن عباد الرؤاسي قال الدراقطني: مجهول. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 284 رقم 3256).

قلت: هو ابن عم وكيع بن الجراح كوفي نزل مصر، وحدث عن مالك وحفص بن ميسرة وجماعة، وعنه الحسن بن سفيان وأبو حاتم الرازي وروح بن الفرج وغيرهم، ووثقه جماعة. عن حفص بن ميسرة العقيلي أبي عمر الصنعاني نزيل عسقلان روى له البخاري ومسلم والنسائي ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): من حديث زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، عن رجال من قومه من الأنصار، أن النبي - عليه السلام - قال: "ما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للأجر". الثاني: عن محمد بن هشام هو محمد بن حميد بن هشام الرُّعَيْني، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد. قوله: "أصبحوا" أمر من الإصباح وهو الإسفار والتنوير. ص: وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا أيوب بن سيّار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر الصديق، عن بلال - رضي الله عنهم - عن النبي - عليه السلام -، مثله. ش: أخرج الطبراني (¬2) نحوه: ثنا عبد الرحمن بن سالم الرازي، ثنا الهيثم بن اليمان، ثنا أيوب بن سيّار، عن ابن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال - رضي الله عنهم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال، أصبحوا بالصبح؛ فإنه خير لكم". وأخرجه البزار في "مسنده" (¬3) من حديث جابر عن بلال: ثنا محمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا شبابة بن سوّار، قال: ثنا أيوب بن سيَّار، عن ابن المنكدر، عن جابر، عن بلال، عن النبي - عليه السلام -: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وقال: ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 479 رقم 1513). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 329 رقم 1016). (¬3) "مسند البزار" (4/ 196 رقم 1357)، وفيه جابر، عن أبي بكر، عن بلال. وقد رواه الطبراني أيضًا في "الكبير" (1/ 351 رقم 1067) من نفس الطريق دون ذكر أبي بكر فيه.

أيوب ليس بالقوي، وقال ابن الجوزي: أيوب بن سيّار أبو سيّار الزهري المدني نزل فيد فعرف بالفيدي يروي عن ابن المنكدر، قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن المدني: ضعيف جدًا. وقال يحيى مرة: كذاب. قلت: قال ابن عدي: أظنه مدنيًّا وليست أحاديثه بالمنكرة جدًّا إلا أن الضعف يتبين على رواياته. ولعله عند الطحاوي مَرْضي؛ ولهذا أخرج حديثه في معرض الاستدلال، أو يكون زيادة وتأكيدًا؛ لأن في الباب أحاديث صحيحة كثيرة. فافهم. وهذا كما قد رأيت أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن رافع بن خديج، وعن رجال من الأنصار من الصحابة، وبلال - رضي الله عنهم - وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي برزة الأسلمي وجابر وبلال. قلت: وفي الباب عن قتادة بن النعمان وابن مسعود وأبي هريرة ومحمود بن لبيد وأنس بن مالك وأبي الدرداء وحواء الأنصارية فحديث أبي برزة وجابر وبلال قد ذكر. وحديث قتادة عند البزار والطبراني في "الكبير" من حديث فليح بن سليمان، ثنا عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجركم- أو للأجر". ورجاله ثقات. وحديث ابن مسعود عند الطبراني (¬1): ثنا أحمد بن أبي يحيى الحضرمي، ثنا أحمد بن سهل بن عبد الرحمن الواسطي، ثنا المعلى بن عبد الرحمن، ثنا سفيان الثوري وشعبة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا نحوه. وحديث أبي هريرة عند ابن حبان في كتاب "الضعفاء" (¬2): من حديث سعيد بن أوس، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا، نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 178 رقم 10381). (¬2) "المجروحين" (1/ 324، 325).

وروى البزار في "مسنده" والطبراني في "معجمه" (¬1) بإسنادهما: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بصلاة الفجر". وفيه حفص بن سليمان ضعفه ابن معين والبخاري وأبو حاتم وابن حبان ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في أخرى. وحديث محمود بن لبيد عند أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وعبد الرحمن بن زيد ضعيف. وحديث أنس بن مالك عند البزار: ثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي، ثنا خالد بن مخلد، ثنا يزيد بن عبد الملك، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "اسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر أو أعظم لأجركم". ويزيد بن عبد الملك ضعفه البخاري وأحمد والنسائي وابن عدي، ووثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. وحديث أبي الدرداء عند أبي إسحاق (¬3) إبراهيم بن محمد بن عُبيد: ثنا أبو زرعة، نا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا محمد بن شعيب، سمعت سعيد بن سنان يحدث، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبي - عليه السلام - قال: "أسفروا بالفجر تفقهوا". وحديث حواء الأنصارية عند الطبراني في "الكبير" (¬4): ثنا أحمد بن محمد الجمحي، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، نا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 63 رقم 1767): رواه البزار والطبراني في "الكبير" وفيه حفص ابن سليمان ضعفه ابن معين والبخاري وأبو حاتم وابن حبان وقال ابن خراش: كان يضع الحديث ووثقه أحمد في رواية وضعفه في أخرى. (¬2) "مسند أحمد" (5/ 429 رقم 23685). (¬3) انظر "عمدة القاري" (4/ 90). (¬4) "المعجم الكبير" (24/ 222 رقم 563).

عن ابن بجيد الحارثي، عن جدته حواء الأنصارية -وكانت من المبايعات- قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وإسحاق بن إبراهيم الحنيني ضعفه النسائي وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات"، والحنيني بضم الحاء، وبعدها نون، ثم ياء آخر الحروف، ثم نون. وابن بُجَيْد بضم الباء الموحدة، وفتح الجيم، وسكون الياء آخر الحروف، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وجدته حواء بنت زيد بن السكن، أخت أسماء بنت زيد بن السكن. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار الأخبار عن موضع الفضل، وأنه التنوير بالفجر، وفي الآثار الأول التي في الفصلين الأولين الإخبار عن الوقت الذي كان يصلي فيه النبي - عليه السلام - أي وقت هو، فقد يجوز أن يكون كان رسول الله - عليه السلام - مرة يغلس، ومرة يسفر على التوسعة، والأفضل من ذلك ما بينه في حديث رافع حتى لا تتضاد الآثار في شيء من ذلك، فهذا وجه ما روي عن النبي - عليه السلام - في هذا الباب. ش: أراد بهذه الآثار: التي رويت عن رافع بن خديج، وعن رجال من الأنصار من الصحابة، وعن بلال - رضي الله عنهم - التي فيها الأمر بالإسفار. قوله: "الإخبار" بكسر الهمزة. قوله: "وأنه التنوير" بيان لقوله: "عن موضع الفضل". قوله: "التي في الفصلين الأولين" أراد بالفصلين فصل أحاديث أهل المقالة الأولى التي فيها الإخبار بالتغليس وفصل أحاديث أهل المقالة الثانية التي فيها الإخبار عن الإسفار؛ فإن كلاًّ من أحاديث الفصلين لا يدل إلا على الوقت الذي كان يصلي فيه النبي - عليه السلام - أي وقت هو، فليس فيها دليل على أفضلية أحدهما؛ لأنه يجوز أن يفعل أحدهما مع كون الآخر أفضل منه؛ توسعة على أمته، كما ذكرناه فيما مضى. وأما بيان الأفضل من الفعلين ففي حديث رافع بن خديج؛ لأنه نص عليه بالأمر، وقد ذكرناه مستقصى، فبهذا التوجيه يرتفع التضاد بين أحاديث الفصلين المذكورين، فافهم.

ص: وأما ما روي عمن بعده في ذلك: فإن محمد بن خزيمة قد حدثنا، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصور بن المعتمر يحدث، عن إبراهيم النخعي، عن حبان بن الحارث قال: "تسحرنا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فلما فرغ من السحور أمر المؤذن فأقام الصلاة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أن عليًّا - رضي الله عنه - دخل في الصلاة عند طلوع الفجر، وليس في ذلك دليل على وقت خروجه منها أي وقت كان؟ فقد يحتمل أن يكون أطال فيها القراءة فأدرك التغليس والتنوير جميعًا، وذلك عندنا حسن. ش: أي أما الآثار التي رويت عن من بعد النبي - عليه السلام - في الباب المتنازع فيه، فإن من جملة ما روي في ذلك: أثر على بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنه يدل على أنه غلس، فاستدل به أهل المقالة الأولى وقالوا: لو لم يكن التغليس أفضل لما بادر علي - رضي الله عنه - إلى إقامة الصلاة من بعد فراغه من السحور، فأجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: "قال أبو جعفر ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ورجال هذا الأثر ثقات. حِبَّان -بكسر الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن الحارث أبو عقيل الكوفي، ذكره ابن حبان في "الثقات". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا جرير، عن منصور، عن شبيب بن غرقدة، عن أبي عَقِيل قال: "تسحرت مع علي - رضي الله عنهم - ثم أمر المؤذن أن يقيم". وأخرجه البيهقي (¬2): ثنا أبو زكرياء وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: قال الشافعي: أنا ابن عينية -وفي رواية ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 276 رقم 8930). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 471 رقم 639)، وهو في "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 456 رقم 1985) من طريق أبي زكرياء عن أبي العباس.

أبي سعيد- عن ابن عُينية، عن شبيب بن غرقدة، عن حبان بن الحارث قال: "أتيت عليًّا - رضي الله عنه - وهو معسكر بِدَيْر أبي موسى، فوجدته يطعم، فقال: ادن فكل، فقلت: إني أريد الصوم، قال: وأنا أريده، فدنوت فأكلت، فلما فرغ قال: يا ابن التياح، أقم الصلاة". ص: فأردنا أن ننظر هل روي عنه ما يدل على شيء من ذلك؛ فإذا أبو بشر الرفي قد حدثنا، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه قال: "كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يصلي بنا الفجر، ونحن نتراءى الشمس مخافة أن تكون قد طلعت". فهذا الحديث يخبر عن إنصرافه أنه كان في حال التنوير، فدل ذلك على ما ذكرنا. ش: لما أول ما روي عن علي - رضي الله عنه - من الأثر المذكور بالتأويل المذكور، أتى بأثر آخر روي عنه يدل على صحة ما ذكره من التأويل؛ لأنه كان يخبر فيه أنه كان ينصرف عن صلاته في حال التنوير، فإذن لا يتم استدلال أهل المقالة الأولى بالأثر المذكور، بل يكون هو دليلًا لنا عليهم على ما لا يخفى، وعندي جواب آخر فتح لي من الأنوار الإلهية، وهو أن إقامة علي - رضي الله عنه - الصلاة بعد فراغه من السحور لم يكن لأجل أن التغليس أفضل عنده، وإنما كانت لكونه مشغولًا بأمر العسكر لمصالح العباد، فاستعجل في إقامة الصلاة في أول وقتها ليتفرغ إلى أشغاله، والدليل عليه: رواية البيهقي: "أتيت عليًّا وهو يعسكر بِدَيْر أبي موسى" فكان علي على السفر وتجهيز العسكر، وكان تغليسه لذلك، وكان ربما لو أخر إلى الإسفار لضاعت مصالح المسلمين، ورعاية مصالح المسلمين أولى بل أوجب من رعاية الوقت المستحب، فافهم. وأبو بشر الرقي اسمه عبد الملك بن مروان وقد تكرر ذكره. وشجاع بن الوليد بن قيس السكوني روى له الجماعة، وداود بن يزيد الأودي الزعافري أبو يزيد الكوفي الأعرج، عمّ عبد الله بن إدريس، فيه مقال، فضعفه أحمد ويحيى، وروى له الترمذي وابن ماجه.

وأبوه يزيد بن عبد الرحمن الأودي جد عبد الله بن إدريس، وثقه ابن حبان. وأخرجه بن جرير الطبري: من حديث داود بن يزيد الأودي، عن أبيه قال: "كان علي - رضي الله عنه - يصلي بنا الفجر ونحن نتوقى الشمس مخافة أن تكون قد طلعت". ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك الأمر بالإسفار، كما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن سعيد بن عُبيد، عن علي بن ربيعة، قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: يا قنبَرْ أسفر أسفر". وكما حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا سيف بن هارون البرجمي، عن عبد الملك بن سَلع الهمداني، عن عبد خير قال: "كان علي - رضي الله عنه - ينور بالفجر أحيانًا، ويغلس بها أحيانًا". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فيحتمل تغليسه بها أن يكون تغليسًا يدرك به الإسفار. ش: أي وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أيضًا في الإسفار: الأمر به، وروي عنه أيضًا أنه كان تارة يسفر، وتارة يغلس، فتغليسه يحتمل أن يكون تغليسًا يدرك به الإسفار، وبهذا يحصل التوفيق بين أمره بالإسفار وبين تغليسه بنفسه وإسفاره بنفسه أيضًا، فافهم. فالأول: أخرجه عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن سعيد بن عبيد الطائي أبي الهزيل الكوفي، عن علي بن ربيعة الوالبي أبي المغيرة الكوفي. وهذا إسناد صحيح؛ لأن رواته ثقات. وأخرجه ابن جرير الطبري. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثورى، عن سعيد بن عبيد، عن ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 569 رقم 2165).

علي بن ربيعة، قال: "سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول لمؤذنه: أسفر أسفر يعني صلاة الصبح". وقُنْبر -بضم القاف، وسكون النون، وفتح الباء الموحدة، وقيل: بفتح القاف، وقيل: بضم القاف والباء أيضًا -وهو مولى علي بن أبي طالب، ويقال: كان (كرديًا) (¬1). والثاني: أخرجه عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن محمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني شيخ البخاري، عن سيف بن هارون البرجمي أبي الورقاء الكوفي، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بذاك، وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وزاد الدارقطني: متروك. روى له الترمذي وابن ماجه. والبُرْجمي -بضم الباء الموحدة وسكون الراء، وضم الجيم- نسبة إلى أحد البراجم وهم قيس وكلفة وغالب وعمرو، أولاد حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وأكثر أهل الحديث يفتحون الباء. عن عبد الملك بن سَلع الهمداني الكوفي، وثقه ابن حبان وقال: كان ممن يخطئ، ونسبته إلى هَمْدان -بسكون الميم- قبيلة كبيرة. عن عبد خير بن يزيد الهمداني أبي عمارة الكوفي، مخضرم، وثقه العجلي وابن معين. قوله: "قال أبو جعفر:" قد ذكرنا فحوى ما قاله، وعندي جواب آخر في هذا، وهو: أنه إنما كان ينور أحيانا عند فراغه من الاشتغال بأمور الناس فيسفر؛ طلبًا لفضيلة الوقت المستحب التي حث عليها - عليه السلام - بأمره وفعله، وكان يغلس أحيانًا لاشتغاله بأمور الناس مثل تجهيز العساكر أو السفر إلى ناحية، ونحو ذلك، وكان يغلس عند مثل ذلك لئلا يفوت مصالح العباد. ¬

_ (¬1) كذا "بالأصل، ك"، وفي "مغاني الأخيار" (4/ 53) يقال: كردي حتى لا يدري ما يقول. قلت: ولعل الصواب: كَبُرَ حتى لا يدري ما يقول. وهذا هو نص كلام الأزدي كما نقله عنه الذهبي في "الميزان" (3/ 392) فتصحفت على المؤلف -رحمه الله-. والله أعلم.

ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مثل ذلك: كما حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن خرشة بن الحر قال: "كان عمر - رضي الله عنه - ينور بالفجر، ويغلس، ويصلي فيما بين ذلك، ويقرأ سورة يوسف ويونس، وقصار المثاني والمفصل". ش: أي مثل ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - روي عن عمر - رضي الله عنه - في الإسفار والتغليس معًا. أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفى المقرئ، عن أبي حَصين -بفتح الحاء- اسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي، عن خرشة -بفتح الخاء المعجمة، وفتح الراء والشين المعجمة- بن حُرٍّ الفزاري مختلف في صحبته، وذكره ابن حبان في التابعين. وأخرجه عبد الرزاق (¬1) بدون ذكر القراءة: عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن خرشة بن الحر قال: "كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يغلس بصلاة الصبح ويسفر، ويصليها بين ذلك" انتهى. معناه أنه تارة كان يسفر بالفجر، وتارة كان يغلس، وتارة كان يصلي بين التغليس والإسفار. قوله: "وقصار المثاني" أراد بالمثاني السور التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصَّل كأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني. قوله: "والمفصل" عطف على قوله: "المثاني" أي فقرأ قصار المفصل، والمفصل السبع السابع؛ سمي به لكثرة فصوله، وهو من سورة "محمد" -وقيل: من "الفتح" وقيل: من "قاف"- إلى آخر القرآن، وقصار المفصل مِنْ "لم يكن" إلى ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 570 رقم 2168).

آخر القرآن، وأوساطه من "والسماء ذات البروج" إلى، "لم يكن" وطواله من سورة "محمد" أو من "الفتح" إلى "والسماء ذات البروج". ص: وقد رويت عنه آثار متواترة تدل على أنه قد كان ينصرف من صلاته مسفرًا: كما قد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه سمع عبد الله بن عامر يقول: "صلينا وراء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح فقرأ فيها بسورة يوسف وسورة الحج، قراءة بطيئة، فقلت: والله إذًا لقد كان يقوم حين يطلع الفجر، قال: أجل". وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدثني محمد بن يوسف، قال: سمعت السائب بن يزيد، قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - الصبح، فقرأ بالبقرة، فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين". وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن زيد بن وهب، قال: صلى بنا عمر - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فقرأ ببني إسرائيل والكهف، حتى جعلت أنظر إلى جدر المسجد هل طلعت الشمس؟ ". وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا مسعر، قال: أخبرني عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهبا قال: "قرأ عمر - رضي الله عنه - في صلاة الصبح بالكهف وبني إسرائيل". وحدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عامر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ في الصبح بسورة الكهف وسورة يوسف". وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا بُديل بن ميسرة، عن عبد اللهَ بن شقيق، قال: "صلى بنا الأحنف بن قيس

صلاة الصبح بعاقول الكوفة، فقرأ في الركعة الأول "الكهف" وفي الثانية بسورة "يوسف" قال: وصلى بنا عمر - رضي الله عنه - صلاة الصبح فقرأ بهما فيهما". وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمكه صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأولى بيوسف حتى بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (¬1)، ثمِ ركع فقام، فقرأ في الثانية بالنجم فسجد ثم قام فقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (¬2) ورفع صوته بالقراءة، حتى لو كان في الوادي أحد لأسمعه". وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: "أنه صلى مع عمر - رضي الله عنه - الفجر، فقرأ في الركعة الأولى بيوسف، وفي الثانية بالنجم فسجد". وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت الأعمش يحدث، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة قال: "صلى بنا عمر - رضي الله عنه - ... " فذكرمثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما روي ما ذكرنا عن عمر - رضي الله عنه - في حديث عبد الله بن عامر، أن قراءته تلك كانت بطيئة لم يجز -والله أعلم- أن يكون دخوله فيها كان إلا بغلس، ولا خروجه منها كان إلا وقد أسفر إسفارًا شديدًا. ش: أي قد رويت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - آثار متكاثرة، كلها تدل على أنه قد كان ينصرف من صلاته في الصبح في حالة الإسفار؛ وذلك لأن عبد الله بن عامر قد روي عنه أنه قرأ في الصبح بسورة "الكهف" وسورة "يوسف" وأن قراءته كانت بطيئة يعني كان يتأنى فيها ويترسل، ولا يتصور ذلك إلا أن يكون دخوله في ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية: [84]. (¬2) سورة الزلزلة، آية: [1].

الصلاة بغلس، وخروجه إلا بعد الإسفار الشديد؛ لأن قراءة هاتين السورتين مع التأني والتوقف يقتضي ساعة مديدة، وهذا ظاهر حسيًّا ولا يُنكر، فَعُلم من هذا كله أن الإسفار مطلوب مستحب؛ لأن عمر - رضي الله عنه - ما كان يطول في القراءة إلا لينال هذه الفضيلة، ولأن فيه شغل كل الوقت بالعبادة، على أن الأصل أن يكون وقت كل صلاة مشغولًا بصلاته، وأن يشرع المصلي فيها من أوله ويمدها إلى آخره، ولكن الله تعالى رخص لعَبيدِه رحمةً عليهم، أن يصلوا كل صلاة في وقتها في أي جزء كان من ساعاتها بعد أن يُجانبوا التفويت والتفريط. ثم إنه أخرج الآثار المذكورة من تسع طرق صحاح، رجالها كلهم ثقات: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - عن عبد الله بن عامر بن ربيعة العَنْزي -بفتح العين، وسكون النون- مات رسول الله - عليه السلام - وعمره خمس سنين، وروى عنه - عليه السلام -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن هشام بن عروة ... إلى آخره نحوه سواء. وقال مسلم (¬2): أصحاب هشام بن عروة كلهم يروون هذا الحديث عن هشام بن عروة، قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه -" ولم يقولوا: عن أبيه، كذلك رواه أبو أسامه وحاتم بن إسماعيل ووكيع ابن الجرح، عن هشام بن عروة، وهو الصواب عندي؛ لأنهم جماعة حفاظ. قوله: "فقلت" قائله عروة بن الزبير، وعلى قول مسلم قائله هشام بن عروة. قوله: "لقد كان يقوم حين يطلع الفجر" أي لقد كان عمر بن الخطاب يقوم إلى الصلاة من حين طلوع الفجر؛ وذلك لأن هذه القراءة الطويلة تقتضي وقتًا مديدًا ولا يكون ذلك إلا من حين طلوع الفجر إلى وقت الإسفار جدًّا. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 82 رقم 183). (¬2) "التمييز" (1/ 220) بنحوه.

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن يوسف بن بنت السائب بن يزيد، من رجال "الصحيحين"، عن السائب بن يزيد بن سعد الأسدي، ويقال: الليثي، ويقال: الهذلي، الصحابي، له ولأبيه صحبة. قوله: "فقرأ بالبقرة" أي بالسورة التي تذكر فيها البقرة. قوله: "استشرفوا الشمس" أي حدَّقوا النظر إليها، وأصل الاستشراف أن تضع يدك على حاجبك، وتنظر كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء، وأصله من الشرف والعلو. كأنه ينظر إليه من موضع مرتفع، فيكون أكثر لإدراكه. قوله: "لو طلعت لم تجدنا غافلين" أي لو طلعت الشمس لم تجدنا في غفلة من العبادة، بل كانت تجدنا في العبادة والطاعة. كما جاء في رواية عبد الرزاق (¬1): "لو طلعت لألفتنا غير غافلين" وهذا يدل جزمًا أن عمر - رضي الله عنه - كان يسفر بالصبح جدًّا بعد أن كان يشرع فيها بالغلس؛ لأن قراءة سورة البقرة تقتضي ساعة مديدة؛ لأنها مائتا آية وسبعة وثمانون آية، ولا سيما قراءة عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ بالترسل والتأني والتفكر في معانيه والتدبر في ألفاظه المعجزة. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري أبي زيد الكوفي الزرَّاد، عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي - عليه السلام -، فقبض وهو في الطريق. وهؤلاء كلهم من رجال الصحيحين وغيرهما ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه ابن جرير الطبرى، من حديث زيد بن وهب نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 115 رقم 2717).

الرابع: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن مسعر بن كدام ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة فى "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب: "أن عمر - رضي الله عنه - قرأ في الفجر "الكهف" و"بني إسرائيل". الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عامر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: "سمعت عمر - رضي الله عنه - يقرأ في الفجر بسورة يوسف قراءة بطيئة". وقد أسقط في رواية ابن أبي شيبة: عروة بن الزبير بين هشام، وعبد الله بن عامر، وهو الذي نص عليه مسلم أنه هو الصواب، كما ذكرناه عن قريب. السادس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي أبي عمرو القصاب البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بُدَيْل بن ميسرة العقيلي البصري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري أنه قال: "صلى بنا الأحنف بن قيس بن معاوية التميمي أبي بحر البصري، والأحنف لقبه، واسمه: الضحاك. وقيل: صخر، أدرك حياة النبي - عليه السلام - ولم يره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن معتمر بن سليمان، عن الزبير بن خريت، عن عبد الله بن شقيق، عن الأحنف قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - الغداة، فقرأ بيونس وهود ونحوهما". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 310 رقم 3547) دون ذكر "وبني إسرائيل". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 310 رقم 3548). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 310 رقم 3546).

قوله: "بعاقول الكوفة" قال في "العُباب": دَيْر العاقول موضع بين المدائن والنعمانية والعاقول من النهر والوادي والرمل: المعوج، وعاقولى اسم الكوفة في التوراة. قوله: "بهما فيهما" أي بالكهف ويوسف، في ركعتي الفجر. السابع: عن روح بن الفرج، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الأعمى، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ... إلى آخره. وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح ما خلا روحًا. الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي تيم الرباب، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التيمي ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة، عن عمر بن الخطاب: "أنه قرأ في الفجر بيوسف وركع، ثم قرأ في الثانية بالنجم فسجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (¬2) ". التاسع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم بن زيد الجهضمي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين ابن سَبْرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة، قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - فقرأ في ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 116 رقم 2724) من طريق الثوري وابن عيينة عن الأعمش ... (¬2) سورة الزلزلة، آية [1]. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 312 رقم 3564).

الركعة الأول بسورة يوسف، ثم قرأ في الثانية بالنجم، فسجد ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (¬1) ثم ركع". ص: وكذلك كان يكتب إلى عماله: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن المهاجر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى - رضي الله عنه - أن صلى الفجر بسوادٍ -أو قال: بغلس- وأطل القراءة". وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن عون، عن محمد، عن المهاجر، عن عمر مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: أفلا تراه يأمرهم أن يكون دخولهم فيها بغلس، وأن يطيلوا القراءة؟! فذلك عندنا إرادة منه أن يدركوا الإسفار. ش: أي مثل ما كان عمر - رضي الله عنه - يفعل من الشروع في صلاة الصبح في الغلس، وتطويل القراءة إلى الإسفار الشديد، كان كذلك يكتب إلى عُمَّاله -بضم العين وتشديد الميم- جمع عامل، وأراد بهم نوابه في بلاد الإِسلام، وكان أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس من جملة نوابه، وكان عمر - رضي الله عنه - استنابه على البصرة، واستعمله عثمان - رضي الله عنه - على الكوفة، توفي بمكان يقال له: الثَّوِيَّة، على ميلين من الكوفة، سنة اثنين وخمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنه ثنتين وأربعين، وقيل: غير ذلك. وأخرج الأثر المذكور من طريقين حسنين جيدين. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، ونسبته إلى حوض داود بن المهدي بن المنصور، محلة ببغداد. عن يزيد بن إبراهيم التسترى البصري، عن محمد بن سيرين، عن المهاجر -غير ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، آية [1].

منسوب- ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: لا أدري من هو، ولا ابن من هو. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: أخبرني المهاجر قال: "قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى - رضي الله عنهما - فيه مواقيت الصلوات، فلما انتهى إلى الفجر -أو قال: إلى الغداة- قال: قم فيها بسواد -أو بغلس- وأطل القراءة". قوله: "بسوادٍ" أراد به سواد الصبح بعد طلوع الفجر الثاني، وكذلك الغلس وقد مرَّ غير مرة، أن المراد منه: اختلاط ظلام الليل ببياض النهار. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن محمد بن سيرين، عن المهاجر مثله. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: "كتب عمر - رضي الله عنه -: أن صل الصبح إذا طلع الفجر والنجوم مشتبكة بغلس، وأطل القراءة". ص: وكذلك كل من روينا عنه في هذا شيئًا سوى عمر - رضي الله عنه - قد كان ذهب إلى هذا المذهب أيضا. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: "صلى بنا أبو بكر - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فقرأ بسورة إلى عمران، فقالوا: قد كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين". وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة، قال: ثنا عبيد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي قال: "صلى بنا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 283 رقم 3235). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 570 رقم 2170).

أبو بكر - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فقرأ بسورة البقرة في الركعتين جميعًا، فلما انصرف قال له عمر - رضي الله عنه -: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - قد دخل فيها في وقت غير الإسفار، ثم مد القراءة فيها حتى خيف عليه طلوع الشمس، وهذا بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - وبقرب عهدهم برسول الله - عليه السلام - وبفعله، لا ينكر ذلك عليه منهم منكر؛ فدل ذلك على متابعتهم له، ثم فعل ذلك عمر - رضي الله عنه - من بعده فلم ينكر عليه من حضره منهم؛ فثبت بذلك أن هكذا يفعل في صلاة الفجر، وأن ما علموا من فعل رسول الله - عليه السلام - فغير مخالف لذلك. ش: أي كل من روينا عنه من الصحابة في هذا الباب سوى عمر - رضي الله عنه - قد كانوا يذهبون إلى مذهب عمر - رضي الله عنه - في شروعهم في صلاة الصبح في الغلس، ومدهم القراءة إلى الإسفار الشديد، قصدًا منهم لما قصده عمر - رضي الله عنه -. قوله: "حدثنا سليمان ... " إ إد آخره، بيان لما قبله، وأخرجه عن طريقين: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن أنس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - قرأ في صلاة الصبح بالبقرة، فقال له عمر - رضي الله عنه - حين فرغ: كربت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين". وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: "صليت خلف أبي بكر، فاستفتح بسورة آل عمران، فقام إليه عمر فقال: يغفر الله لك، لقد كادت الشمس تطلع قبل أن تسلم، فقال: لو طلعت لألفتنا غير غافلين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 310 رقم 3545). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 113 رقم 2712).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب السبائي المصري، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزُّبَيْدي الصحابي، والزُّبَيدي -بضم الزاي وفتح الباء- نسبة إلى زُبَيْد الأكبر، وإليه ترجع قبائل زُبَيْد. قوله: "فهذا أبو بكر اقد دخل فيها -أي في صلاة الصبح ... " إلى آخره غني عن البيان. ص: فإن قال قائل: فما معنى قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: لمغيث بن سمي لما غلس ابن الزبير بالفجر: هذه صلاتنا مع رسول الله - عليه السلام - ومع أبي بكر ومع عمر فلما قتل عمر أسفر بها عثمان - رضي الله عنهم -؟ قيل له: يحتمل أن يكون أراد بذلك وقت الدخول فيها لا وقت الخروج منها حتى يتفق ذلك وما روينا قبله، ويكون قوله: "ثم أسفر بها عثمان" أي ليكون خروجهم في وقت يأمنون فيه، ولا يخافون فيه أن يغتالوا كما اغتيل عمر - رضي الله عنه -. ش: تقرير السؤال: أن قول ابن عمر - رضي الله عنهما - لمغيث حين غلس عبد الله بن الزبيرى - رضي الله عنهما -: هذه صلاتنا مع رسول - عليه السلام - ومع أبي بكر وعمر، وهذا يدل على أن النبي - عليه السلام - ما كان يسفر، ولا أبو بكر من بعده، ولا عمر من بعدهما، وأن الإسفار لم يعمل به إلا عثمان - رضي الله عنه - بعد أن طُعن عمر في صلاة الصبح؛ خوفًا من غفلة الاغتيال، وهذا ينافي ما ذكرتم. وتقرير الجواب: أن قول ابن عمر - رضي الله عنهما - ذلك محمول على أنه أراد به وقت الدخول في صلاة الفجر فقط، ولم يرد به وقت الخروج منها؛ إذ لو لم يكن المعنى على هذا يقع التضاد بين قول ابن عمر وبين ما روي عن غيره، فيما ذُكر في هذا الباب. فإذا حمل قوله على هذا المعنى تتفق الروايات ولا تتضاد، ومعنى قوله: "أسفر بها عثمان" أي أسفر ابتداءً وانتهاء؛ لأنه كان يخاف الغيلة من الأعداء كما اغتيل

عمر - رضي الله عنه - وكان يسفر من الأول بخلاف أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فإنهما كانا يسفران بعد أن كانا يشرعان بغلس، فيكون كلهم متفقين في الخروج عنها في الإسفار، وهو المطلوب. ثم حديث مغيث بن سمي أخرجه الطحاوي في أول هذا الباب في حجج أهل المقالة الأولين. وأخرجه ابن ماجه (¬1) والبيهقي (¬2) في سننيهما. ص: وقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - ما يدل أنه كان يدخل فيها بسواد؛ لإطالة القراءة فيها، كما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، أن الفرافصة بن عمير الحنفي أخبره قال: "ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح، من كثرة ما كان يرددها". قال أبو جعفر: فهذا يدل أيضًا أنه قد كان يحذو فيها حذو من كان قبله من الدخول فيها بسواد، والخروج منها في حال الإسفار. ش: أي قد روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أيضًا ما يدل على أنه كان يشرع في صلاة الصبح بالغلس، ويطيل القراءة إلى الإسفار الشديد، كما كان أبو بكر وعمر يفعلانه، فهذا أيضًا يدل على أنه قد كان يحذو فيها أي في صلاة الصبح حَذْو من كان قبله من الصحابة من الدخول فيها بالغلس، والخروج منها في الإسفار، يقال: حَذَا فلانٌ حَذْو فلانٍ أي اقتدى به في طريقته، وكذلك احتذى به: أي اقتدى به، وأصله من حذوت النعل بالنعل حذوًا: إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها، يقال: حذو القذة بالقذة. وإسناد الأثر المذكور صحيح. ويحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، وربيعة ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 221 رقم 671). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 456 رقم 1982).

هو المعروف بالرأي أحد مشايخ مالك وأبي حنيفة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق روى له الجماعة، والفرافصة بفائين وراء خفيفة، وصاد مهملة، إلا أنه عند المحدثين بفتح الفاء الاولى، وقال غيرهم: الفاء الأول مضمومة، وثقه ابن حبان. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) ولكن في روايته عن عمر موضع عثمان: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا عبد الله، قال: أخبرني ابن الفرافصة، عن أبيه قال: "تعلمت سورة يوسف خلف عمر - رضي الله عنه - في الصبح". ص: وقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ينصرف منها مسفرًا كما حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد: "أنه كان يصلي مع إمامهم في التيم فيقرأ بهم سورة من المائين، ثم يأتي عبد الله فيجده فى صلاة الفجر". وكما حدثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كنا نصلي مع ابن مسعود - رضي الله عنه - فكان يسفر بصلاة الصبح". فقد عقلنا بهذا أن عبد الله كان يسفر، فعلمنا بذلك أن خروجه منها كان حينئذ، ولم يُذكر في هذه الأحاديث دخوله فيها في أى وقت كان؟ فذلك عندنا والله أعلم على مثل ما روي عن غيره من أصحابه. ش: أشار بهذا إلى أن عبد الله بن مسعود أيضًا كان يفعل كما كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون من الانصراف عنها مسفرين، ولكن لم يتبين في ذلك دخوله في أي وقت كان؟ فذلك أيضًا محمول على مثل ما روي عن غيره من أنه كان يغلس ويمد القراءة إلى الإسفار الشديد. وأخرج أثره عن طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 82 رقم 184). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 310 رقم 3549).

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق قاضي الكوفة أحد أصحاب أبي حنيفة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن الحارث بن سويد التيمي أبي عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بدون ذكر ابن مسعود: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، قال: "كان إمامنا يقرأ بنا في الفجر بالسورة من المائين". قوله: "في التيم" أي في قبيلة التيم، وتيم من قريش رهط أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهو بن مالك بن النضر، وتيم بن غالب بن فهو أيضًا من قريش وهم بنو الأدرم وتيم بن عبد مناة بن آد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وتيم بن قيس بن ثعلبة بن عكابة في بكر، وتيم اللات أيضًا في الخزرج من الأنصار، وهم تيم اللات بن ثعلبة، واسمه النجار، وتيم الله من بكر يقال لهم: اللهازم وهو تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، وتيم الله في النمر بن قاسط. قوله: "فيقرأ بهم" أي فيهم بسورة من المائين كسورة آل عمران، والنساء، والمائدة ونحوها. الثاني: عن أبي الدرداء هاشم بن محمَّد الأنصاري مؤذن بيت المقدس، عن آدم بن أبي إياس التميمي العسقلاني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن قيس النخعي. والكلُّ رجال الصحيح ما خلا هاشمًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 311 رقم 3555).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان ابن مسعود - رضي الله عنه - ينور بالفجر". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان عبد الله يسفر بصلاة الغداة". ص: وقد كان يُفعل أيضًا مثل هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدثنا إسماعيل ابن يحيى المزني، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: أنا سفيان، قال: ثنا عثمان بن أبي سليمان، قال: سمعت عراك بن مالك يقول: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: "قدمت المدينة ورسول الله - عليه السلام - بخيبر، ورجل من بني غفار يؤم الناس، فسمعته يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بسورة مريم، وفي الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ". وكما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مثله، غير أنه قال: "واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وصليت خلفه". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا سباع بن عرفطة - رضي الله عنه - قد كان في عهد النبي -عليه السلام- باستخلاف النبي -عليه السلام- إياه يصلي بالناس صلاة الصبح هكذا، يطيل فيها القراءة حتى يصيب فيها التغليس والإسفار جميعًا. ش: أي قد كان يفعل أيضًا مثل ما ذُكر من تطويل القراءة في الصبح، الذي يدل على الإسفار على عهد رسول الله - عليه السلام - أي على زمنه وأيامه، كما في حديث أبي هريرة، فإنه أخبر أن سباع بن عرفطة قد كان يصلي بالناس صلاة الصبح باستخلاف النبي - عليه السلام - إياه حين سافر إلى خبير، وكان يقرأ في الركعة الأولى بسورة (مريم)، وفي الثانية بـ (المطففين)، وإنما كان يفعل هكذا حتى يجمع بين التغليس ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 284 رقم 3249). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 568 رقم 2160).

والإسفار، وهو يدل أيضًا على أن عنده علمًا من النبي - عليه السلام - في ذلك. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني أبي إبراهيم صاحب الإِمام الشافعي الفقيه المشهور المقدم في مذهب الشافعي خال الطحاوي، عن محمد بن إدريس الإِمام الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم القرشي النوفلي المكي، عن عراك بن مالك الغفاري المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من حديث سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن عراك بن مالك، سمع أبا هريرة يقول: "قدمت المدينة ورسول الله - عليه السلام - بخيبر، فوجدت رجلًا من غفار يؤم الناس في صلاة الصبح، يقرأ في الركعة الأول. سورة (مريم)، وفي الثانية: (ويل للمطففين) ". قوله: "ورسول الله - عليه السلام - بخيبر" جملة حالية، وكذلك قوله: "ورجل من بني غفار" جملة حالية، وهذا الرجل هو سباع بن عرفطة الغفاري كما فسره في الرواية الثانية، وكانت خيبر في سنة ست على قول الزهري، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن المُقدَّمي -بضم الميم، وفتح الدال المشددة- وهو محمَّد بن أبي بكر بن على بن عطاء بن مقدم شيخ البخاري ومسلم، عن فضيل بن سليمان النميري، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه عراك بن مالك الغفاري المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي في "سُننه" (¬2): من حديث الدراوردي، حدثني خثيم بن عراك، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - فاستخلف سباع بن ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 105) بلفظ: "يؤم الناس في صلاة المغرب". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 390 رقم 3828).

عرفطة على المدينة، فقدمت المدينة مهاجرًا، فصليت الصبح وراءه، فقرأ في السجدة الأولى: سورة مريم، وفي الأخرى: ويل للمطففين". وقال الذهبي: إسناده صالح، وسباع بن عرفطة من مشاهير الصحابة. ص: وقد روي أيضًا عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - من هذا شيء كما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معاوية ابن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: "صلى بنا معاوية الصبح بغلس، فقال أبو الدرداء: أسفروا بهذه الصلاة فإنه أفقه لكم، إنما تريدون أن تخلوا بحوائجكم". فهذا عندنا والله أعلم من أبي الدرداء على إنكاره عليهم ترك المد بالقراءة إلى وقت الإسفار، لا على إنكاره وقت الدخول فيها، فلما كان ما روينا عن أصحاب رسول الله - عليه السلام - وهو الإسفار الذي يكون الانصراف من الصلاة فيه مع ما روينا عنهم من إطالة القراءة في تلك الصلاة؛ ثبت أن الإسفار بصلاة الصبح لا ينبغي لأحد تركه، وإن التغليس لا يفعل إلا ومعه الإسفار، فيكون هذا في أول الصلاة، وهذا في آخرها. ش: أي وقد روي أيضًا عن أبي الدرداء عويمر بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - من هذا شيء أي من الإسفار بالصبح، كما في الأثر الذي أخرجه الطحاوي، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن محمَّد بن المثنى البصري الحافظ شيخ الجماعة، عن عبد الرحمن بن مهدي روى له الجماعة، عن معاوية بن صالح بن حُدير الحمصي قاضي الأندلس روى له الجماعة، البخاري في غير الصحيح، عن أبي الزهراية حدير بن كريب الحمصيى روى له مسلم وأبو داود، عن جبير بن نفير بالتصغير فيهما الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وأخرجه أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن عبيد مرفوعًا: ثنا أبو زرعة، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا محمد بن شعيب، سمعت سعيد بن سنان

يحدث، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبي-عليه السِلام- قال: "أسفروا بالفجر تفقهوا". وقد ذكرناه مرة عن قريب. قوله: "فإنه أفقه لكم" أي الإسفار أبين لكم، والفقه في اللغة الفهم، والبيان لازمه. قوله: "تريدون أن تخلوا بحوائجكم" من خلوت بالشيء خلوة وخلاء إذا اشتغلت به وتفرغت له، ومراده أنكم تستعجلون في الصلاة ولا تطيلون القراءة إلى الإسفار لتختلوا بحوائج الدنيا وتشتغلوا بها، وإنكاره عليهم في هذا لا في دخولهم وقت الغلس، ولو لم يكن عنده علم من إستحباب الإسفار لما أنكر عليهم بذلك؛ فدل ذلك على أن التغليس وحده لا ينبغي أن يفعل وإنما التغليس المستحب هو الذي يكون آخره إسفار فافهم. ص: قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى ما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النساء كن يصلين الصبح مع رسول الله - عليه السلام - ثم ينصرفن وما يعرفن من الغلس". قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يؤمر بإطالة القراءة فيها؛ فإنه قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجَّا بن رجاء، قال: ثنا داود -يعني داود بن أبي هند- عن السبيعي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أول ما فرضت الصلاة: ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة وصل إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر، وصلاة الصبح؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى". قال أبو جعفر: فأخبرت عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث أن رسول الله أن - عليه السلام - كان يصلي قبل أن يتم الصلاة على مثال ما يصلي إذا سافر، وحكم المسافر تخفيف الصلاة، ثم أحكم بعد ذلك فزيد في بعض الصلاة، وأمرنا بإطالة بعضها، فيجوز -والله أعلم- أن يكون ما كان يفعل من تغليسه بها، وانصراف النساء المؤمنات منها ولا يعرفن من الغلس، كان في ذلك الوقت الذي كان يصليها فيه على مثال ما

تصلى فيه الآن في السفر، ثم أُمِرَ بإطالة القراءة فيها، وأن يكون مفعوله في الحضر بخلاف ما يفعل في السفر من إطالة هذه وتخفيف هذه، وقال: "أسفروا بالفجر" أي أطيلوا القراءة فيها, ليس ذلك على أن تدخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، ولكن تخرجوا منها في وقت الإسفار. فثبت بذلك نسخ ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - مما ذكرنا، مع ما قد دل على ذلك أيضًا من فعل أصحاب النبي -عليه السِلام- من بعده، في إصابتهم الإسفار في وقت إنصرافهم منها واتفاقهم على ذلك حتى لقد قال إبراهيم النخعي ما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: "ما اجتمع أصحاب محمَّد - عليه السلام - على شيء ما اجتمعوا على التنوير". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر أنهم قد كانوا اجتمعوا على ذلك، فلا يجوز عندنا -والله أعلم- اجتماعهم على خلاف ما قد كان النبي - عليه السلام - فعله إلا بعد نسخ ذلك، وثبوت خلافه، فالذي ينبغي: الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول الله - عليه السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال وارد على ما تقدم من معنى الإسفار بصلاة الصبح، وهو أن يدخل فيها بالغلس، ويمدها بالقراءة إلى أن ينصرف عنها بالإسفار، تقريره: أن ما ذكرتم ينافيه حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أن النساء كن يصلين الصبح ... " إلى آخره؛ لأنه يدل على أنهم كانوا يدخلون فيها بالغلس، ويخرجون منها بالغلس. وتقرير الجواب ملخصًا: أن حديث عائشة - رضي الله عنها - منسوخ بوجهين: الأول: أن عائشة أخبرت في حديثها: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ... " إلى آخره، أن النبي - عليه السلام - كان يصلي قبل أن تتم الصلاة مثل المسافر بتخفيف القراءة، ولما أحكم الأمر وزيدت الصلاة التي زيدت أُمر بإطالة القراءة في صلاة الصبح عوضًا عن الزيادة، كالجمعة قصرت على الركعتين لمكان الخطبة، وذلك

الأمر هو قوله - عليه السلام -: "أسفروا بالفجر". فإن معناه أطيلوا القراءة فيها، حتى تخرجوا منها في وقت الإسفار، وليس معناه ادخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، فثبت بذلك نسخ حديث عائشة - رضي الله عنها - وما يضاهيه. الوجه الثاني لبيان النسخ: فعل الصحابة - رضي الله عنهم - وإجماعهم من بعده على الإسفار، بالمعنى الذي ذكرنا؛ فإنهم كانوا يطولون القراءة فيها، ويخرجون مسفرين، ولو لم يعلموا نسخ ذلك لما وسعهم أن يعملوا بخلافه، والدليل على إجماعهم على ذلك ما قاله إبراهيم النخعي: "ما اجتمع أصحاب محمَّد - عليه السلام - على شيء ما اجتمعوا على التنوير" ولو لم يكن النسخ صحيحًا فكيف كان يجوز لأكابر الصحابة - رضي الله عنهم - أن يجتمعوا على الإسفار، مخالفين لما قد كانوا علموا من النبي - عليه السلام - من التغليس في الدخول فيها والخروج عنها، وهذا محال في حقهم؛ لأنهم عالمون بموارد النصوص ومواقع الأحكام، وأما ما شنع الحافظ الحازمي على الطحاوي في هذا الموضع في دعواه النسخ فقد مَرَّ جوابه فيما مضى من هذا الباب بما فيه الكفاية. وشنع البيهقي أيضًا في كتابه "المعرفة" (¬1) وغيره لما تحرك له عرق العصبية، وقال: وقد ذكر الطحاوي الأحاديث التي وردت في تغليس النبي - عليه السلام - ومن بعده من الصحابة بالفجر ثم زعم أنه ليس فيها دليل على الأفضل، وإنما ذلك في حديث رافع، ولم يعلم أن النبي - عليه السلام - لا يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده، فخرج من فعل أصحابه فإنهم كانوا يدخلون فيها مغلسين ليطيلوا القراءة، ويخرجون فيها مسفرين؛ فإن النبي - عليه السلام - إنما خرج منها مغلسًا قبل أن يشرع فيها طول القراءة، فاستدل على النسخ بفعلهم ولم يعلم أن بعضهم كانوا يخرجون منها مغلسين كما روينا عنهم، وقال عمرو بن ميمون الأودي: "صليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الفجر ولو أن ابني مني ثلاثة أذرع لم أعرفه إلا أن يتكلم". ثم احتج بحديث عائشة - رضي الله عنها -: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 474).

رسول الله - عليه السلام - المدينة، وصل إلى كل صلاة مثلها غير المغرب، فإنها وتر، وصلاة الفجر لطول القراءة فيها" وزعم أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانتا معًا: وظاهر الحديث يدل على أن الزيادة في الصبح إنما لم تشرع لطول قراءتها المشروع فيها قبلها ثم حمل حديث عائشة - رضي الله عنها - في التغليس على أن ذلك كان قبل أن يشرع فيها طول القراءة، وعائشة - رضي الله عنها - قد أخبرت أن الزيادة في الصلاة كانت حين قدم النبي - عليه السلام - المدينة، وغيرها يقول: حين فرضت قبل قدومه المدينة، وعلى زعمه شرع طول القراءة فيها حين زيد في عدد غيرها، وعائشة إنما حملت حديث التغليس وهي عند النبي - عليه السلام - بالمدينة، وكذلك أم سلمة، وإنما تزوج بها بعد ما هاجرت بسنتين؟ فكيف يكون منسوخًا بحكم تقدم عليه؟! كيف وقد أخبرتنا عن دوام فعله وفعل النساء معه، وروينا عن جابر بن عبد الله الأنصاري في حديث مخرج في "الصحيحين" (¬1): "أن النبي - عليه السلام - كان يصليها بغلس". وفي حديث أبي مسعود الأنصاري: "أن النبي - عليه السلام - صلى الصبح بغلس ثم صلاها يومًا فأسفر بها ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى". وهذا كله يدل على بطلان النسخ الذي ادعاه الطحاوي في حديث عائشة وغيرها في التغليس، والطريق الصحيح في ذلك: أن تحمل الأحاديث التي وردت في الإخبار عن تغليس النبي - عليه السلام - وبعض أصحابه بالصبح على أنهم فعلوا ما هو الأفضل؛ لأن ذلك كان أكثر فعلهم، ويحمل حديث رافع - رضي الله عنه - على تبيين الفجر باليقن وإن كان يجوز الدخول فيها في الغيم بالاجتهاد قبل التبيين، انتهى. والجواب عن ذلك فصل، فصل. أما قوله: "ولم يعلم أن النبي - عليه السلام - لا يداوم إلا على ما هو الأفضل" قول لم يعلم هو ما قال فيه؛ لأن الطحاوي وأدنى من الطحاوي يعلم أن النبي - عليه السلام - لا يداوم إلا على الأفضل، ولكن من يقول أن النبي - عليه السلام - داوم على التغليس، فإن عارض بحديث ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 205 رقم 535)، ومسلم (1/ 446 رقم 646).

أبي مسعود البدري الذي فيه "وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى، أن يسفر" فجوابه: أن هذا من أسامة بن زيد وهو متكلم فيه فقال أحمد: ليس بشىء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بقوي. ويرده أيضًا ما أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2): عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصك صلاة الصبح من الغد قبل وقتها". قالت العلماء: يعني قبل وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل طلوع الفجر، ولم يقل به أحد، وإنما معناه أنه غلس بها جدًّا. وتوضحه رواية البخاري (¬3) و"الفجر حين بزغ" وهذا دليل قاطع على أنه - عليه السلام - كان يسفر بالفجر دائمًا وقلَّما صلاها بغلس فأين البيهقي من هذا المعنى. وأما قوله: "ولم يعلم أن بعضهم كانوا يخرجون منها بغلس" كما روينا عنهم فقول يشبه القول الأول، وكيف لا يعلم وقد روى هو أيضًا مثل ما روى البيهقي: "أنهم كانوا يخرجون منها مغلسين" ولكن لا يضره ذلك ولا يدفع كلامه؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك منهم مع علمهم أن الإسفار أفضل لأجل التوسعة، أو لأجل عارض قد عرض لهم ومنعهم عن مد الصلاة بتطويل القراءة إلى أن ينصرفوا منها مسفرين، كما ذكر فيما مضى، غاية ما في الباب أن أخبار التغليس التي رويت عن النبي - عليه السلام - وعن الصحابة مِنْ بعده تدل على الإخبار بالوقت الذي صلوا فيه، أي وقت هو وليس فيه شيء يدل على الأفضلية كما يدل حديث رافع - رضي الله عنه -. وأما قوله: "وقال عمرو بن ميمون الأودي" فيعارضه ما روى السائب بن يزيد ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1598). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 938 رقم 1289). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 602 رقم 1591).

قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقرأ بالبقرة فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين". فأين كان البيهقي من هذا الأثر؟! فإن قيل: هذا لا يدل على الأفضلية لأنه أيضًا مجرد إخبار عن الوقت الذي صلى فيه فقط. يقال: كذلك ليس في أثر عمرو بن ميمون ما يدل على الأفضلية؛ لأنه أيضًا مجرد إخبار عن الوقت الذي صلى فيه. وأما قوله: "وزعم أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانتا معًا وظاهر الحديث يدل على أن الزيادة في الصبح إنما لم تشرع لطول قراءتها المشروع فيها قبلها" فغير مُسَلَّم؛ لأن ظاهر الحديث لا يدل على أن طول القراءة شرع في الصبح قبل الزيادة في غيرها، فأي كلام وأي عبارة تدل على هذا حتى يقول: "ظاهر الحديث يدل على أن الزيادة ... " إلى آخره؟! لأن الدلالة هو فهم المعنى من اللفظ، وليس فيما ذكره فهم هذا المعنى، بل ظاهر الحديث أن لزيادة لما زيدت فيما زيدت من الصلاة، شُرع بعدها طول القراءة في الصبح؛ عوضًا عن الزيادة فافهم. ولم يقل الطحاوي أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانت معًا، بل كلامه يشعر أن إطالة القراءة في الصبح كانت بعد الزيادة في غيرها بزمان؛ لأنه ذكر الإطالة بكلمة "ثم" التي تدل على التراخي، وهو قوله: "ثم أمر بإطالة القراءة فيها". وبهذا خرج الجواب أيضًا عن قول البيهقي: "فكيف يكون منسوخًا بحكم تقدم عليه". حاصله أنه اعترض على الطحاوي بأنه زعم أن شروع إطالة القراءة في الصبح كان حين زيد في عدد غيرها، وعائشة احتملت حديث التغليس وهي عند النبي - عليه السلام - بالمدينة، فيكون حكم إطالة القراءة متقدمًا على حديث التغليس، والمتقدم كيف يكون ناسخًا للمتأخر؟! قلنا: لا نُسَلم أن إطالة القراءة متقدمة على حديث التغليس بل حديث التغليس،

متقدم على حكم الإطالة، بيان ذلك: أن تغليس النبي - عليه السلام - وانصراف النساء المؤمنات منها ولا يعرفن من الغلس، كان في الوقت الذي كان يصليها - عليه السلام - فيه على مثال ما يصلى فيه الآن في السفر بتخفيف القراءة، ثم أَمَر رسول الله - عليه السلام - بإطالة القراءة بقوله: "أسفروا" أي أطيلوا القراءة بالصبح لتخرجوا منها مسفرين، فحينئذٍ نسخ هذا المتأخر ذلك المتقدم، والله أعلم. وأما قوله: "وروينا عن جابر في حديث مخرج في الصحيحين" فغير دالٍّ على مدعاه؛ لأنه إخبار عن الوقت الذي كان صلى فيه النبي - عليه السلام - أيّ وقت هو؟ وليس فيه شيء يدل على الأفضلية. وأما قوله: "وفي حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -" فقد مَرَّ جوابه الآن مستوفى. وأما قوله: "والطريق الصحيح ... " إلى آخره، طريق غير صحيح؛ لأن الأحاديث التي وردت في الإخبار عن تغليس النبي - عليه السلام - وبعض أصحابه بالصبح ليس فيها ما يدل على الأفضلية، فإن عارضونا في ذلك، بأن أكثر فعلهم يدل على الأفضلية، فعارضناهم بالأوامر التي وردت بالإسفار؛ لأن أقل درجات الأمر تدل على الفضيلة، ولا سيما إذا قارن بها الفعل أيضًا. وأما قوله: "ويحمل حديث رافع على تبيين الفجر باليقين". فمردود؛ لأن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار كما ذكره أهل اللغة وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الفجر؛ فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير. والدليل عليه ما روى ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي، في مسانيدهم، والطبراني في "معجمه" (¬1). فقال الطيالسي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، وقال الباقون: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، ثنا هُرَير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج، سمعت جدي رافع ابن خديج ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

يقول: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: يا بلال، نوِّر صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار" وقد استوفينا الكلام فيما مضى من هذا الباب. ثم حديث الغلس الذي روته عائشة قد ذكرنا الكلام فيه مستوفى في هذا الباب. وأما حديثها الآخر: فرجاله ثقات، فأبو عمر هو حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، نسبته إلى حوض داود، محلة بالبصرة. ومرجا بن رجاء اليشكري أبو رجاء البصري وثقه أبو زرعة، وعن أبي داود: صالح. وداود بن أبي هند دينار بن عذافر أبو محمَّد البصري، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. والشعبي هو عامر، ونسبته إلى شعب بطن من همدان. ومسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: "إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم النبي - عليه السلام - المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر، وصلاة الغداة لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى". قوله: "غير المغربِ" بالجر؛ لأنها صفة لقوله: "كل صلاة" وفي الحقيقة استثناء منها ولكن الأصل في "غير" أن تكون صيغة دالة على مخالفة صاحبه بالحقيقة. قوله: "فإنها وتر" تعليل لعدم الزيادة بمثل ما كانت في أول فرضها، بل زيدت فيها ركعة؛ لأنها وتر النهار. قوله: "وصلاة الصبح" بالجرِّ أيضًا عطفًا على قوله غير المغرب، أي وغير صلاة ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 363 رقم 1579).

الصبح؛ لأجل طول القراءة فيها. قوله: "عاد إلى صلاته الأولى" وهي الركعتان في الظهر والعصر والعشاء، فهذا يدل صريحًا على أن الصلاة كانت تصلى ركعتين ركعتين إلى أن قدم النبي - عليه السلام - المدينة، ولم تشرع أربع في ذوات الأربع إلَّا عند قدومه - عليه السلام - إلى المدينة. فإن قيل: روي من حديث يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد، عن أبي مسعود قال: "أتى جبريل النبي - عليه السلام - فقال: قم فصل -وذلك دلوك الشمس حين مالت الشمس- فقام فصلى الظهر أربعًا، ثم أتاه حين كان ظله مثله فقال: قم فصل، فصلى العصر أربعًا، ثم أتاه حين غربت الشمس فقال: قم فصل، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أتاه حين غاب الشفق فقال: قم فصل، فصلى العشاء الآخرة أربعًا، ثم أتاه حين كان الفجر فقال له: قم فصل، فصلى الصبح ركعتين، ثم أتاه من الغد في الظهيرة حين صار ظل كل شيء مثله، فقال: قم فصل، فصلى الظهر أربعًا، ثم أتاه حين صار ظل كل شيء مثليه، فقال: قم فصل، فصلى العصر أربعًا، ثم أتاه الوقت بالأمس حين غربت الشمس فقال: قم فصل، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أتاه بعد أن غاب الشفق وأظلم فقال: قم فصل، فصلى العشاء الآخرة أربعًا، ثم أتاه حين أسفر الفجر فقال: قم فصل، فصلى الصبح ركعتين، ثم قال: ما بين هذين صلاة". أخرجه البيهقي (¬1)، والطبراني في "الكبير" (¬2). فهذا فيه دليل على أن ذلك كان بمكة بعد المعراج، وأن الخمس فرضن حينئذٍ بأعدادهن. قلت: أبو بكر بن محمَّد عن أبي مسعود منقطع، قاله الذهبي وغيره. وأيضًا الثابت عن عائشة في "الصحيح" (¬3) يعارضه وينافيه، فقال البخاري: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 361 رقم 1575). (¬2) "المعجم الكبير" (17/ 263 رقم 724). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 137 رقم 343).

حدثنا ابن يوسف، عن مالك، عن صالح، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر". وذكر الداودي أن الصلوات زيد فيها ركعتين ركعتين، وزيد في المغرب ركعة. وقال أبو عمر: ظاهر حديث عائشة العموم، والمراد به الخصوص، ألا ترى أن صلاة المغرب غير داخلة في قولها فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، وكذلك الصبح؟ لأنه معلوم أن الصبح لم يزد فيها ولم ينقص منها، وأنها في الحضر والسفر سواء. قلت: الذي يعلم من حديث عائشة الذي أخرجه البخاري أن فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، ولكن لم تُعلم الزيادة عليها متى كانت، والحديث الذي أخرجه الطحاوي عن عائشة يبين ما كان مجملًا في حديثها الآخر من أن الزيادة كانت عند مقدم النبي - عليه السلام - المدينة، وقال ابن جرير الطبري: وفي السنة الأولى من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي - عليه السلام - المدينة بشهر في ربيع الأول، لمضي اثنتي عشر ليلة منه. ثم أثر إبراهيم النخعي إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. والأعمش هو سليمان بن مهران. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال: "ما أجمع أصحاب محمَّد - عليه السلام - على شيء ما أجمعوا على التنوير بالفجر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 284 رقم 3256).

ص: باب: الوقت الذي يستحب أن تصلى صلاة الظهر فيه

ص: باب: الوقت الذي يستحب أن تصلى صلاة الظهر فيه ش: أي هذا باب في بيان الوقت الذي يستحب أداء الظهر فيه، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: أخبرنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: "كان رسول الله- عليه السلام - يصلي الظهر بالهجير". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وابن أبي ذئب هو محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، واسمه هشام ابن شعبة، والزبرقان بن عمرو بن أمية الضَمْري، وثقه ابن حبان، ويقال: زبرقان ابن عبد الله بن عمرو بن أمية قاله ابن أبي حاتم. والحديث أخرجه الطحاوي بأتم منه في أول باب الصلاة الوسطى، ولكن عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن خالد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان، أن أسامة بن زيد ... وقد ذكرنا أن الزبرقان لم يسمع من أسامة. وأخرجه أيضًا: عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، عن الزبرقان، عن عروة، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): نحو رواية الطحاوي ولكن عن زهرة موضع عروة، وقال: ثنا عمرو بن علي، قال: نا أبو داود، قال: نا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان، عن زهرة قال: "كنا جلوسًا مع أسامة بن زيد في المسجد، فسئل عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر، كان رسول الله - عليه السلام - يصليها بالهجير" ولا نعلم روى زهرة عن أسامة بن فلد إلاَّ هذا الحديث. وأخرجه البيهقي أيضًا في سننه" (¬2): من حديث ابن أبي ذئب، عن الزبرقان بن ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (7/ 70 رقم 2618). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 458 رقم 1993).

عمرو بن أُميَّة، عن زهرة قال: "كنا جلوسًا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر؛ كان رسول الله - عليه السلام - يصليها بالهجير". قلت: زهرة هو ابن معبد أبو عقيل المدني، وجده: عبد الله بن هشام من أصحاب النبي - عليه السلام -، قال أحمد: أبو عقيل زهرة بن معبد ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ليس به بأس، مستقيم الحديث، فقلت: يحتج بحديثه؟ فقال: لا بأس به. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني سعد بن إبراهيم قال: سمعت محمد بن عمرو بن حسن يقول: "سألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر بالهاجرة، أو حين تزول الشمس". ش: إسناده صحيح، ومحمد بن عمرو بن حسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، من رجال الصحيحين. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمَّد بن عمرو، وهو ابن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - قال: "سألت جابر ابن عبد الله عن صلاة النبي - عليه السلام - فقال: كان النبي - عليه السلام - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قَلّوا أَخَّر، والصبح بغلس". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة. وثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمَّد بن عمرو بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - قال: "لما قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر بالهاجرة ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 207 رقم 540). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 446 رقم 646).

وأخرجه أبو داود (¬1): نحو رواية البخاري سواء وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. وقد ذكرناه في الباب السابق. والهاجرة والهجير: اشتداد الحر نصف النهار. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن سعيد بن الحويرث، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نصلي مع النبي - عليه السلام - الظهر فيأخذ قبضة من الحصباء أو التراب فأجعلها في كفي، ثم أحولها إلى الكف الآخر، حتى يبرد ثم أضعها في موضع جبيني؛ من شدة الحر". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا عباد بن عباد، نا محمد بن عمرو، عن سعيد بن الحارث الأنصاري عن جابر بن عبد الله، قال: "كنت أصلي الظهر مع رسول الله - عليه السلام -، فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر". ويستفاد منه: استحباب أداء الظهر في أول وقته كما ذهب إليه قوم، وعلى أنهم كانوا يصلون على الأرض، وأن المسجد ما كان فيه حصر، وأن السجدة على الحصى جائزة، وأن المصلي إذا أمسك في كله شيئًا لا تفسد صلاته. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - حر الرمضاء بالهجير، فما أشكانا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 163 رقم 397). (¬2) "المجتبى" (1/ 264 رقم 527). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 163 رقم 399).

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن زياد بن خيثمة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب، مثله. قال أبو إسحاق: فإن كان يعجل الظهر فيشتد عليهم الحر. حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب -أو من هو مثله من أصحابه- قال خباب: "شكونا إلى النبي - عليه السلام - حر الرمضاء فلم يشكنا". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق (ح). وحدثنا أبو أُميَّة، قال: ثنا أبو نعيم ومحمد بن سعيد، قالا: ثنا شريك، عن أبي إسحاق (شيبة). وحدثنا أبو أُميَّة، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب قال: "شكونا إلى النبي - عليه السلام - حَرَّ الرمضاء، فلم يشكنا". ش: هذه ستة طرق صحاح غير أن في الطريق الثالث شكًّا لأبي إسحاق عمن رواه عن خباب: الأول: عن أبي بكرة بكَّار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي البصري، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن وهب الهَمْداني الخيواني -بالخاء المعجمة- عن خباب بن الأرت. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 433 رقم 619).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - حَرَّ الرمضاء فلم يشكنا. فقيل لأبي إسحاق: في تعجيلها؟ قال: نعم". قوله: "شكونا" من شكى يشكو، قال: الجوهري، شكوت فلانًا أشكوه شكوًا وشكاية وشَكيَّة وشكاة إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مَشْكوٌّ ومَشْكِيٌّ، والاسم الشكوى. قوله: "حَرَّ الرمضاء" مفعول "شكونا" والرمضاء: الرمل، من الرمض وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، ومنه سمي رمضان؛ لأنهم لما نقلوا أسماء المشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام شدة الحر ورمضه، وقيل غير ذلك. قوله: "فلم يُشْكنا" بضم الياء وسكون الشين أي لم يُجب إلينا ولم يُزْل شكوانا، يقال: أشكيت الرجل إذا أزلت شكواه، وإذا حملته على الشكوى. والمعنى أنهم شكوا إليه حَرَّ الشمس وما تصيب أقدامهم منه إذا خرجوا إلى صلاة الظهر، وسألوه تأخيرها قليلًا، فلم يشُكِهم أي لم يجبهم إلى ذلك ولم يُزل شكواهم. وقال ابن الأثير: وهذا الحديث يذكر في مواقيت الصلاة؛ لأجل قول أبي إسحاق -أحد رواته- قيل له: في تعجيلها؟ فقال: نعم. والفقهاء يذكرونه في السجود فإنهم كانوا يضعون أطراف ثيابهم تحت جباههم في السجود من شدة الحر، فنهوا عن ذلك، وأنهم لما شَكَوا إليه ما يجدون من ذلك، لم يفسح لهم أن يسجدوا على أطراف ثيابهم، وقال عياض: وقد قال ثعلب في تأويل قوله: "فلم يشكنا" أي لم يحوجنا إلى الشكوى، ورخص لنا في الإبراد، حكاه عنه القاضي أبو الفرج. الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 247 رقم 497).

السكوني أبي بدر، عن زياد بن خيثمة الجعفي الكوفي عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن وهب، عن خباب. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: "أتينا رسول الله - عليه السلام - فشكونا إليه حَرَّ الرمضاء فلم يشكنا. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم. قال: في تعجيلها؟ قال: نعم". قوله: "قال أبو إسحاق" هو عَمرو بن عبد الله السبيعي. قوله: "فإن كان يعجل الظهر" "إن" هذه مخففة من المثقلة، وأصلة: فإنه كان يعجل الظهر، أي أن النبي - عليه السلام - كان يعجل صلاة الظهر، فيشتد الحر على الصحابة. وفي بعض النسخ: "فإنه" على الأصل. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص بن غياث النخعي، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه في "سننه" (¬2): ثنا علي بن محمَّد، ثنا وكيع، نا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - حر الرمضاء، فلم يشكنا". قوله: "أو من هو مثله" شك من الراوي أراد الأعمش أن أبا إسحاق حدثه عن حارثة بن مضرب أو عن من هو مثل حارثة من أصحاب أبي إسحاق، الظاهر أنه هو سعيد بن وهب؛ لأن أبا إسحاق أخرج هذا الحديث عن خباب بواسطتين: أحدهما: حارثة بن مضرب. والآخر: سعيد بن وهب. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 433 رقم 619). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 222 رقم 675).

الرابع: عن أبي أُميَّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة بن محمَّد السوائي الكوفي، عن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبيه أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب. وأخرجه البزار (¬1): من حديث يونس، عن أبي إسحاق، ولكن عن سعيد بن وهب. وقال: ثنا الجراح بن مخلد، نا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، نا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - الرمضاء فلم يشكنا وكان رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر بالهجير" ولا يعلم روى سعيد بن وهب عن خباب إلَّا هذا الحديث. الخامس: عن أبي أُميَّة أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وعن محمَّد بن سعيد الأصبهاني، كلاهما عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، نا شريك، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - الصلاة في الرمضاء، فلم يُشْكِنَا". السادس: عن أبي أُميَّة أيضًا، عن ابن الأصبهاني -وهو محمَّد بن سعيد- عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب نحوه. وأخرجه الطبراني أيضًا (¬3): ثنا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله - عليه السلام - الرمضاء، فلم يشكنا". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (6/ 78 رقم 2134). (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 72 رقم 3678). (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 72 رقم 3676).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: نا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما رأيت أحدًا أشد تعجيلًا لصلاة الظهر من رسول الله - عليه السلام -، ما استثنت أباها ولا عمر - رضي الله عنهما -". ش: أخرجه من طريقين فيهما حكيم بن جبير الأسدي، فيه مقال، فقال أحمد: ليس بشيء. وعن إبراهيم بن يعقوب: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه التزمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "ما رأيت أحدًا كان أشد تعجيلًا للظهر من رسول الله - عليه السلام - ولا من أبي بكر ولا من عمر - رضي الله عنهما -". قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن. قلت: كأن الترمذي مال في هذا إلى ما قال يحيى بن سعيد: حكيم بن جبير روى عنه الحفاظ، مثل سفيان وزائدة ويونس وابن عُتيبة والأعمش وغيرهم، ولم ير يحيى بحديثه بأسًا؛ فلذلك حسنه الترمذي. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره مثله. قوله: "ما استثنت أباها" أي ما استثنت عائشة أباها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 292 رقم 155). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 285 رقم 3264).

ولا استثنت عمر - رضي الله عنه - عن قولها: "ما رأيت أحدًا" أرادت أن أباها وعمر أيضًا كانا ممن كان أشد تعجيلًا للظهر مثل رسول الله - عليه السلام -. ص: حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر قال: ثنا عوف الأعرابي، عن سيار بن سلامة، قال: سمعت أبا برزة يقول: "كان النبي - عليه السلام - يصلي الهجير -الذي يدعونه الظهر- إذا دحضت الشمس". ش: إسناده صحيح، وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي المعروف بالأعرابي ولم يكن أعرابيًا، وأبو بزرة اسمه نضلة بن عُبيد. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد، عن عوف بن أبي جميلة، عن سيار بن سلامة، عن أبي برزة الأسلمي قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي صلاة الهجير -التي تدعونها الظهر- إذا دحضت الشمس". قوله: "دحضت" أي زالت، وأصل الدحض الزَّلْق. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا شعبة، عن حمزة العائذي قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا نزل منزلًا لم يرتحل منه حتى يصلي الظهر، فقال رجل: ولو كان بنصف النهار؟ فقال ولو كان بنصف النهار". ش: إسناده صحيح، وحمزة بن عمرو العائذي -بالذال المعجمة- أبو عَمرو الضبي، ونسبته إلى عائِذ الله، من ضبه، روى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه أبو داود (¬2) في باب صلاة المسافر: ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، حدثني حمزة العائذي رجل من بني ضبة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (1/ 222 رقم 674). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 385 رقم 1205).

وأخرجه النسائي (¬1) في المواقيت: أنا عُبيد الله بن سعيد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني حمزة العائذي، قال: سمعت أنس بن مالك ... إلى آخره نحوه. قوله: "ولو كان بنصف النهار" المراد به أول الوقت، وأول الوقت يطلق عليه نصف النهار، وليس المعنى أنه كان يصلي قبل الزوال، و"الباء" في "بنصف النهار" للظرف. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج حين زالت الشمس، فصلى صلاة الظهر". ش: رجاله رجال مسلم كلهم، وابن شهاب محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر حين زالت الشمس". فقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أنا كثير بن عُبيد، قال: ثنا محمَّد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، قال: أخبرني أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج حين زاغت الشمس، فصل بهم صلاة الظهر". ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران (ح). ونا ابن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن سليمان عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 248 رقم 498). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 294 رقم 156). (¬3) "المجتبى" (1/ 246 رقم 496).

عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: "صليت خلف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا -والذي لا إله إلَّا هو- وقت هذه الصلاة". ش: أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن عبد الله بن مرة الخارفي الكوفي، عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬1): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن عمرو، نا زائدة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: "صلى عبد الله حين زالت الشمس، فقلت لسليمان: الظهر؟ قال: نعم. ثم قال عبد الله: هذا -والذي لا إله إلَّا هو- ميقات هذه الصلاة". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء بن عمرو البصري شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: "صلى بنا عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، ثم قال: هذا -والذي لا إله غيره- وقت هذه الصلاة". فالطحاوي: أخرج أحاديث هذا الفصل عن سبعة أنفس من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وخباب بن الأرت، وعائشة، وأبو برزة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود. وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث عائشة: وفي الباب عن جابر، وخباب، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 258 رقم 9277). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 285 رقم 3266).

وأبي برزة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجابر بن سمرة، و (أنيس) (¬1). قلت: قد بقي منهم ثلاثة أنفس وهم زيد بن ثابت، وجابر بن سمرة، وأنيس. أما حديث زيد بن ثابت: فأخرجه الطحاوي في أول باب الصلاة الوسطى. وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمد بن بشار، نا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس". وأمَّا حديث أنيس فأخرجه (¬3) .... ص: قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا، فاستحبوا تعجيل الظهر في الزمان كله في أول وقتها، واحتجوا في ذلك بما ذكرنا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد والأشهب وجماعة العراقيين فإنهم قالوا: المستحب تعجيل الظهر في أول وقتها في الشتاء والصيف. قال أبو عمر (¬4) -رحمه الله-: قال الليث بن سعد: تصلى الصلوات كلها الظهر وغيرها في أول وقتها، في الشتاء والصيف، فهو أفضل. وهو قول العراقيين، وكذلك قال الشافعي إلَّا أنه استثنى فقال إلَّا أن يكون إمام جماعة يُنْتاب من المواضع البعيدة فإنه يبرد بالظهر، وأما مذهب مالك في ذلك فقد ذكر إسماعيل بن إسحاق وأبو الفرج عمرو بن محمَّد: أن مذهبه في الظهر وحدها أن يبرد بها، وتؤخر في شدة الحر، وسائر الصلوات تصلى في أوائل أوقاتها. وأما ابن القاسم فحكى عن مالك: أن الظهر يصلى إذا فاء الفيئ ذراعًا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد على ما كتب به عمر - رضي الله عنه - إلى عماله. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وليس في "جامع الترمذي" (1/ 292 رقم 155). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 221 رقم 673). (¬3) بيض له المصنف -رحمه الله- ولم يذكره الترمذي كما في التعليق السابق. (¬4) "التمهيد" (1/ 98).

وقال ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا: إن معنى ذلك مساجد الجماعات، وأما المنفرد فأول الوقت أولى به. وقال عياض: ذهب مالك إلى أن البادئ في الصلاة في أول أوقاتها أفضل. وعند ابن المواز والقاضي إسماعيل وأبي الفرج: أن الظهر يبرد بها في شدة الحر. وقال الشافعي: تقدم الصلوات للفذ والجماعة في الشتاء والصيف إلا الإِمام الذي ينتاب إليه الناس من بُعْدٍ فيبرد بها في الصيف دون غيره، ولمالك في المدونة استحباب أن يصلى الظهر والعصر والعشاء الآخرة بعد تمكن الوقت وذهاب بعضه. وتأوله أشياخنا على أهل الجماعات، وأما الفرد فأول الوقت أصلى، وتأوله بعضهم أن ذلك للفذ أيضًا, ولم يختلف قوله في المبادرة بالمغرب أول وقتها, ولا قول غيره ممن يقول لها وقت أم وقتان، ولا اختلف قوله بالتغليس في الصبح. قوله: "واحتجوا في ذلك بما ذكرنا" أي احتج هؤلاء القوم في قولهم: "يستحب تعجيل الظهر في الزمان كله" بما ذكرنا من الأحاديث. ص: وخالف في ذلك آخرون، فقالوا: أما في أيام الشتاء فيعجل بها كما ذكرتم، وأما في أيام الصيف فتؤخر حتى يبرد بها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: الثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، ومالكا في الصحيح عنه، وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: تؤخر الظهر في الصيف عن أول وقتها حتى يبرد بها. وقال الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله-: والصحيح استحباب الإبراد، وهو المنصوص للشافعي، وبه قال جمهور أصحابه؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه المشتملة على فعله والأمر به في مواطن كثيرة، ومن جهة جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -.

وقال ابن حزم في "المحلى": تعجيل جميع الصلوات أفضل في أول أوقاتها على كل حال؛ حاشى العتمة؛ فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل، إلا أن يشق ذلك على الناس؛ فالرفق بهم أولى؛ وحاشى الظهر للجماعة خاصة، في شدة الحرِّ خاصةً؛ فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل. انتهى. وقال عياض: وذهب أهل الظاهر إلى أن أول الوقت وآخره في الفضل سواء؛ وقال به بعض المالكية. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن مهاجر أبي الحسن، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - في منزل، فأذن بلال، فقال رسول الله - عليه السلام -: مَهْ يا بلال، ثم أراد أن يؤذن، فقال: مَهْ يا بلال، حتى رأينا فئ التلول، ثم قال رسول الله - عليه السلام -: "إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة إذا اشتد الحر". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من استحباب إبراد الظهر في الصيف، بحديث أبي ذر - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح. ومهاجر أبو الحسن التيمي (¬1) الكوفي الصائغ؛ روى له الجماعة سوى ابن ماجه، وزيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي، رحل إلى النبي - عليه السلام - فقُبض وهو في الطريق؛ روى له الجماعة. وأبو ذرٍّ اسمه جُندب بن جنادة. وأخرجه البخاري (¬2): حدثنا ابن بشار، قال: ثنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن المهاجر أبي الحسن، سمع زيد بن وهب، عن أبي ذر: "أذن مؤذن النبي - عليه السلام - الظهر، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "التميمي"، والمثبت من "تهذيب الكمال" (28/ 584)، و"مغاني الأخيار" (5/ 112 رقم 2424). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 199 رقم 511).

فقال: أبرد، أبرد -أو قال: انتظر، انتظر- وقال: شدة الحرِّ من فيح جهنم، فإذا اشتد الحرُّ فأبردوا عن الصلاة، حتى رأينا شيء التلول". وقال (¬1) أيضًا: ثنا آدم بن أبي إياس [قال: حدثنا شعبة] (¬2)، قال: ثنا مهاجر أبو الحسن -مولى لبني تيم الله- قال: سمعت زيد بن وهب، عن أبي ذر الغفاري قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي - عليه السلام -: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، حتى رأينا شيء التلول، فقال النبي - عليه السلام -: إن شدة الحرّ من فيح جهنم؛ فإذا اشتد الحرُّ فأبردوا بالصلاة". وأخرجه مسلم (¬3): حدثني محمَّد بن المثنى، قال: حدثني محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت مهاجرًا أبا الحسن يحدث، أنه سمع زيد بن وهب يحدث، عن أبي ذر قال: "أذن مؤذن رسول الله - عليه السلام - بالظهر، فقال النبي - عليه السلام -: أبرد، أبرد؛ أو قال: انتظر، انتظر ... " إلى آخره نحو رواية البخاري. وأخرجه أبو داود (¬4): نا أبو الوليد الطيالسي، نا شعبة، أخبرني أبو الحسن، قال: سمعت زيد بن وهب يقول: سمعت أبا ذر يقول: "كنا مع النبي - عليه السلام -، فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر، فقال: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال: أبرد -مرتين أو ثلاثًا- حتى رأينا شيء التلول، ثم قال: إن شدة الحرِّ من فيح جهنم؛ فإذا اشتد الحرُّ فأبردوا بالصلاة". وأخرجه الترمذي (¬5): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: أنبأنا شعبة، عن مهاجر أبي الحسن، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر: "أن رسول الله - عليه السلام - كان في سفر ومعه بلال، فأراد أن يقيم، فقال: أبرد، ثم أراد أن يقيم، فقال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 199 رقم 514). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 431 رقم 616). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 164 رقم 401). (¬5) "جامع الترمذي" (1/ 297 رقم 158).

رسول الله - عليه السلام -: أبرد في الظهر، قال: حتى رأينا فيء التلول، ثم أقام فصلى، فقال رسول الله - عليه السلام - إن شدة الحر من فيح جهنم؛ فأبردوا عن الصلاة". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "فأذن بلال" أراد به: فأقام؛ لأن الإقامة يطلق عليها الأذان؛ والدليل عليه رواية الترمذي: "فأراد أن يقيم"؛ لأنه - عليه السلام - ما منعه عن الأذان في أول الوقت؛ وإنما منعه عن إقامته الصلاة في شدة الحر، وكذلك المراد من قوله: "فأراد أن يؤذن" معناه: أن يقيم، أو يكون المعنى: فأراد أن يؤذن كما صرح به في رواية أبي داود. قوله: "مَهْ" أي اكفف، ودع الإقامة في هذا الوقت؛ وهذا من أسماء الأفعال كـ"صَهْ" فإن معناه اسكت، وهو يستعمل مع الفرد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحدٍ، ويُنوَّن فيكون نكرةً، ويترك تنوينه فيكون معرفةً. قوله: "حتى رأينا فيء التلول" أي ظلها، والتلول جمع تلّ -بتشديد اللام- ويجمع على تلال أيضًا. قوله: "من فيح جهنم" بفاء مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وحاء مهملة؛ أي سطوع حرها وانتشاره وغليانها؛ وأصله في كلامهم: السعة والانتشار، ومنه قولهم في الغارة "فيحي فياح"، ومكان أفيح أي واسع، وأرض فيحاء أي واسعة. وللكلام وجهان: حقيقي: وهو أن تكون شدة حر الصيف من وهج حَرِّ جهنم على الحقيقة وروي (¬1) "أن الله تعالى أذن لجهنم في نفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء؛ فأشد ما تجدونه من الحرّ في الصيف فهو من نفسها، وأشد ما تجدونه من البرد في الشتاء فهو منها". ومجازي: وهو أن يكون هذا الكلام من باب التشبيه؛ أي كأنه نار جهنم من الحر؛ فاحذروها واجتنبوا ضررها. وقد قيل: روي: "فإن شدة الحر من فتح جهنم" ¬

_ (¬1) تقدم عن قريب.

من فتح الباب، أراد أن جهنم تفتح في ذلك الوقت؛ فتكون شدة الحر من وهج حر جهنم. قوله: "فأبردوا بالصلاة" أراد بها الظهر؛ لأن في شدة الحر لا يكون إلا وقت الظهر؛ ومعناه أخروها عن وقت الهاجرة إلى حين بَرْد النهار، وانكسار وهج الحر. وقال بعض أهل اللغة: أراد صلوها في أول وقتها، وبرد النهار أوله. قلت: هذا تأويل بعيد ينافيه قوله: "حتى رأينا فيء التلول". وقال الخطابي (¬1): ومن تأوله على بردي النهار، فقد خرج عن جملة قول الأمة. قال عياض: مَعْنى "أبردوا بالصلاة" ادخلوا بها في وقت البرد، وهو آخر النهار؛ لأن حال ذلك الوقت بالإضافة إلى حرِّ الهاجرة برد؛ يقال: أبرد الرجل: صار في برد النهار، وأبرد الرجل كذا: وفعله فيه. قوله: "أبردوا عن الصلاة" كما جاء في بعض الروايات: معناه بالصلاة، وعن تأتي بمعنى الباء، كما قيل: "رميت عن القوس"، أي به، كما تأتي الباء بمعنى عن، وقيل في قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬2) أي عنه، وقد تكون "عن" ها هنا زائدة، أي أبردوا الصلاة. ويستفاد منه: استحباب تأخير الظهر إلى وقت البرودة في الصيف، وبه استدل أصحابنا على ذلك، وحديث خباب ونحوه منسوخ بحديث الإبراد، على ما يأتي إن شاء الله، ويقال: الإبراد رخصة والتقديم أفضل، واعتمدوا على حديث خباب وحملوا حديث الإبراد على الرخصة والتخفيف في التأخير، وهو قول بعض الشافعية. وأن جهنم مخلوقة اليوم، خلافًا لمن يقول من المعتزلة وغيرهم: إنها لم تخلق بعد. ¬

_ (¬1) "معالم السنن" (1/ 111). (¬2) سورة الفرقان، آية: [59].

وأن شدة حَرِّ الصيف في الدنيا من حَرِّ جهنم. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد، عن النبى - عليه السلام - مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن فهدبن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ مسلم وغيره، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم -بالمعجمتين- الضرير أحد أصحاب أبي حنيفة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن فهد أيضًا، عن عمر بن حفص شيخ البخاري، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". تابعه سفيان ويحيى وأبو عوانة، عن الأعمش. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 223 رقم 679). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 199 رقم 513).

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب أخبره، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا النضر بن عبد الجبار، قال: ثنا نافع بن يزيد، عن ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، عن رسول - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله - عليه السلام - فذكر نحوه. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد وسليمان الأغر، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا كانْ اليوم الحَارّ، فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.

وعن عوف، عن الحسن، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن شدة الحر من فيح جهنم؛ فأبردوا بالصلاة". ش: هذه تسعة طرق صحاح، ورجالها كلهم ثقات. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن سعيد بن المسيب، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني وقتيبة بن سعيد الثقفي أن الليث حدثهم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة -قال ابن موهب: بالصلاة- فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم". وأخرجه الترمذي نحوه (¬2): عن قتيبة، عن الليث ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3) نحوه عن محمد بن الحسن بن قتيبة، عن يزيد بن موهب، عن الليث. وهذا الحديث قد روي بطرق مختلفة متعددة، عن أبي هريرة، أخرجه الجماعة (¬4) وأحمد (¬5) والطيالسي (¬6) والعدني والبزار في "مسانيدهم"، والدارمي (¬7) والبيهقي (¬8) والدارقطني في "سننهم"، والطبراني في "معجمه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 164 رقم 402). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 295 رقم 157). (¬3) "صحيح ابن حبان" (4/ 374 رقم 1507). (¬4) "البخاري" (1/ 199 رقم 512)، و"مسلم" (1/ 430 رقم 615)، و"أبو داود" (1/ 164 رقم 402)، و"الترمذي" (1/ 295 رقم 157)، و"النسائي" (1/ 248 رقم 500)، و"ابن ماجه" (1/ 222 رقم 678). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 266 رقم 7602). (¬6) "مسند الطيالسي" (1/ 304 رقم 2302). (¬7) "سنن الدارمي" (1/ 296 رقم 1207). (¬8) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 437 رقم 1899).

الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي المصري الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن النضر بن عبد الجبار بن نُضَيْر -بضم النون، وفتح الضاد المعجمة- أبي الأسود المصري، وثقه ابن حبان وغيره. عن نافع بن يزيد الكلاعي أبي يزيد المصري. عن يزيد بن عبد الله بن الهاد المدني. عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث القرشي التيمي أبي عبد الله المدني. عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني. عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحرَّ من فيح جهنم". وأخرجه مسلم (¬1): من حديث ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قصة النار، وقال: حدثني حرملة بن يحيى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أنا حيوة، قال: حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالت النار: ربِّ أكل بعضي بعضًا؛ فأذن لي أن أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حرَّ أو حرور فمن نفس جهنم". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم القرشي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 431 رقم 617).

وأخرجه السراج في "مسنده" وقال: ثنا عبيد بن عبد الواحد، ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا اشتد الحرُّ فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي، عن أبي هريرة. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وعن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا اشتد الحرُّ فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، وذكر أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها في كل عام بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف". وأخرجه مسلم (¬2): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك، نحوه. وأخرج ابن حبان في "صحيحه" (¬3): عن [عمر] (¬4) بن سعيد بن سنان، عن أحمد بن أبي بكر، عن مالك، نحوه. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 16 رقم 28). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 431 رقم 617). (¬3) "صحيح ابن حبان" (4/ 377 رقم 1510). (¬4) في "الأصل، ك": عمرو، وهو خطأ، والمثبت من "صحيح ابن حبان"، وهو عمر بن سعيد ابن أحمد بن سعيد بن سنان، أبو بكر الطائي المنبجي، له ترجمة في "تاريخ دمشق" (45/ 59 - 60).

الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا اشتد الحرُّ فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن إسحاق، عن مالك، عن أبي الزناد ... " إلى آخره. السادس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، قال: "كان أبو هريرة - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. وأخرجه البزار من حديث الأعرج من غير هذا الوجه، فقال: ثنا محمَّد بن إسماعيل البخاري، نا أيوب بن سليمان بن بلال، ثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبردوا بصلاة الظهر في شدة الحرِّ؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". السابع: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب الملقب بحشل شيخ مسلم وأبي بكر بن خزيمة وابن جرير الطبري. عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي المدني نزيل مصر، عن بُسْر -بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد، وعن سليمان الأغر أبي عبد الله المدني، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 16 رقم 29). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 462 رقم 9957).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن سعيد الأيلي وعمرو بن سَوَّاد وأحمد بن عيسى قال عمرو: أخبرنا، وقال الآخران: نا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، أن بكيرًا حدثه، عن بُسْر بن سعيد وسليمان الأغر، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا كان اليوم الحارّ فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". الثامن: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن منصور ابن شعبة الخراساني، عن هشيم بن بشير السلمي، عن هشام بن حسان القردوسي، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا هشيم، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "شدة الحر من فيح جهنم؛ فأبردوا بالصلاة". وأخرجه البزار أيضًا: ثنا نصر بن علي، نا عبد الله بن علي، عن هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". وأخرجه أحمد أيضًا (¬3): عن يزيد بن هارون، نا هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: أبردوا عن الصلاة في الحرِّ؛ فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم، أو من فيح أبواب جهنم". التاسع: عن صالح، عن سعيد، عن هشيم، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن البصري، عن أبي هريرة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثني أبي، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 430 رقم 615). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 229 رقم 7130). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 507 رقم 10600).

وعن أبي زرعة، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى يرفعه قال: "أبردوا بالظهر؛ فإن الذي تجدونه من الحرِّ من فيح جهنم". ش: هذان طريقان: أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري، عن أبيه حفص بن غياث، عن الحسن بن عبيد الله بن عروة النخعي الكوفي، عن إبراهيم ابن يزيد النخعي الكوفي، عن يزيد بن أوس، وثقه ابن حبان، وقال ابن المديني: مجهول، وذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه. عن ثابت بن قيس النخعي الكوفي، عن أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي (ح). وثنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا حفص (ح). وأبنا عمرو بن منصور، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى يرفعه قال: "أبردوا بالظهر؛ فإن الذي تجدونه من الحر من فيح جهنم". والآخر: عن فهد، عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم النخعي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى يرفعه قال: "أبردوا بالظهر ... " إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا علي بن عبد العزيز وبشر بن موسى، قالا: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 249 رقم 501).

وعن أبي زرعة، عن ثابت بن قيس، عن أبي موسى، رفعه قال: "أبردوا بالظهر؛ فإن الذي تجدونه من الحرِّ من فيح جهنم". انتهى. وأبو زرعة اختلف في اسمه، فقيل: هرم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل عمرو، وقيل: جرير، روى له الجماعة. وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وأبي هريرة وأبي موسى، ومن حديث المغيرة أيضًا على ما يأتي. وقال الترمذي (¬1): بعد أن أخرج حديث أبي هريرة: وفي الباب عن أبي سعيد، وأبي ذر، وابن عمر، والغيرة، والقاسم بن صفوان، عن أبيه، وأبي موسى، وابن عباس، وأنس - رضي الله عنهم -. قلت: وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وعائشة أم المؤمنين، وعمرو بن عبسة، وعبد الرحمن بن جارية. فحديث ابن عمر عند ابن ماجه (¬2): ثنا عبد الرحمن بن عمر، نا عبد الوهاب الثقفي، نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا بالظهر". وحديث المغيرة عنده أيضًا (¬3): ثنا تميم بن المنتصر الواسطي، نا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: "كنا نصلي مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". وأخرجه الطحاوي أيضًا على ما يأتي إن شاء الله. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 295 رقم 157). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 223 رقم 681). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 223 رقم 680).

وحديث القاسم بن صفوان عن أبيه عند الطبراني في "الكبير" (¬1)، وأحمد في "مسنده" (¬2): بإسنادهما عن النبي - عليه السلام - قال: "أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". والقاسم بن صفوان وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: القاسم بن صفوان لا يعرف إلا في هذا الحديث. قلت: صفوان هو ابن مخرمة الزهري له صحبة. وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البزار: نا محمَّد بن عثمان بن كرامة، نا عبيد الله، نا عمر بن صُهْبَان، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان النبي - عليه السلام - في غزوة يؤخر الظهر حتى يبرد ... " الحديث. وحديث أنس عند النسائي (¬3): أنا عبيد الله بن سعيد، قال: أنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: سمعت أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عَجَّل". وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند البزار (¬4): ثنا الفضل بن سهل الكرخي، وأحمد بن الوليد قالا: ثنا محمَّد بن الحسن المخزومي، قال: ثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "أبردوا بالصلاة إذا اشتد الحر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن جهنم قالت: أكل بعضي بعضًا، فاستأذنت الله في نفسين، فأذن لها، فشدة الحر من فيح جهنم، وشدة البرد من زمهريرها". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر - رضي الله عنه - إلا من هذا الوجه، ورواه محمَّد بن الحسن، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جده. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 71 رقم 7399). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 262 رقم 18333). (¬3) "المجتبى" (1/ 248 رقم 499). (¬4) "مسند البزار" (1/ 403، 404 رقم 280).

ومحمد بن الحسن منكر الحديث، وقد احتمل الناس حديثه. وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده" (¬1). وحديث عائشة عند البزار وأبي يعلى (¬2) بإسناد صحيح، عن عائشة أن النبي- عليه السلام - قال: "إن شدة الحرِّ من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة". وحديث عمرو بن عبسة عند الطبراني في "الكبير" (¬3): بإسناد ضعيف، عن النبي - عليه السلام - قال: "أبردوا بصلاة الظهر؛ فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم". وحديث عبد الرحمن بن جارية عند الطبراني أيضًا في "الكبير" (¬4) من رواية عبد الكريم بن سليط عنه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أبردوا بالظهر". وعبد الكريم بن سليط وثقه ابن حبان. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار الأمر بالإبراد بالظهر، من شدة الحر، وذلك لا يكون إلا في الصيف، فقد خالف في ذلك ما روي عن النبي - عليه السلام - من تعجيل الظهر في الحر على ما ذكرنا في الآثار الأول، فإن قال قائل: فما دل على أن أحد الأمرين أولى من الآخر؟ قيل له: قد روي أن تعجيل الظهر في الحر قد كان يفعل ثم نُسخ، كما حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، وتميم بن المنتصر، قالا: ثنا إسحاق ابن يوسف الأزرق، قال: ثنا شريك، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم، عن ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 46 رقم 1699): رواه أبو يعلى والبزار وقال: "إن جهنم قالت: أكل بعضي بعضًا" وفيه محمَّد بن الحسن بن زبالة نسب إلى وضع الحديث. (¬2) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 47 رقم 1702): رواه أبو يعلى والبزار ورجاله موثقون. (¬3) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 47 رقم 1703): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه سليمان ابن سلمة الخبائري وهو مجمع على ضعفه. (¬4) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 47 رقم 1705): رواه الطبراني في "الكبير" من رواية ابن سليط عنه ولم أجد من ذكر ابن سليط. ورجاله رجال الصحيح.

المغيرة بن شعبة، قال: "صلى بنا النبي - عليه السلام - صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة". قال أبو جعفر: فأخبر المغيرة في حديثه هذا أن أمر رسول الله - عليه السلام - بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها في الحرِّ، فثبت بذلك نسخ تعجيل الظهر في شدة الحرِّ، ووجب استعمال الإبراد في شدة الحرِّ. ش: ملخصه أن الآثار الأول التي فيها تعجيل الظهر في شدة الحرِّ قد انتسخ حكمها، بأمره - عليه السلام - بإبراد الظهر في شدة الحر، والدليل عليه حديث المغيرة بن شعبة؛ فإنه أخبر في حديثه أنه - عليه السلام - أمر بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها في الحرِّ، والمتأخر ناسخ للمتقدم، وإليه ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. وقال الترمذي (¬1): معنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحرّ أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد والمشقة على الناس فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قال الشافعي، قال أبو ذر: "كنا مع النبي - عليه السلام - في سفر، فأذن بلال في صلاة الظهر، فقال النبي - عليه السلام -: يا بلال، أبرد ثم أبرد". فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنىً؛ لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد، انتهى. ثم رجال حديث المغيرة ثقات، وتميم بن المنتصر بن تميم الهاشمي أبو عبد الله الواسطي شيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير الطبري. وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي القاضي. وبيان هو ابن بشر الأحمسي البجلي الكوفي، روى له الجماعة. وقيس بن أبي حازم واسمه حصين بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 295 رقم 157).

روى له الجماعة، قيل: إنه رأى النبي - عليه السلام - وهو يخطب، ولم يثبت، والصحيح أنه هاجر إليه - عليه السلام - ليبايعه فَقُبِضَ وهو في الطريق. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): عن تميم بن المنتصر ... إلى آخره نحوه، وقد ذكرناه عن قريب. ص: وقد روي عن أنس بن مالك وأبي مسعود - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه السلام - كان يعجلها في الشتاء ويؤخرها في الصيف: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن في حبيب، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن شهاب، عن عروة بن الزبير، قال: أخبرني بشير بن في مسعود، عن أبي مسعود: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يصلي الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها في شدة الحرِّ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا أبو خلدة، قال: ثنا أنس بن مالك، قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة". وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن ثابت، قال: ثنا أبو خلدة، عن أنس بن مالك قال: "كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالشتاء بكَّر بالظهر، وإذا كان بالصيف أبرد بها". قال أبو جعفر -رحمه الله-: هكذا السنة عندنا في صلاة الظهر على ما ذكر أبو مسعود وأنس - رضي الله عنهما - من صلاة رسول الله - عليه السلام -، وليس فيما قدمنا ذكره في الفصل الأول ما يجب به خلاف شيء من هذا؛ لأن حديث أسامة وعائشة وخباب وأبي برزة - رضي الله عنهم - كلهم عندنا منسوخة بحديث المغيرة الذي رويناه في الفصل الأخير. وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في صلاة الظهر حين زالت الشمس وحلفه أن ذلك وقتها، فليس في ذلك الحديث أن ذلك كان منه في الصيف ولا أنه كان منه في ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 223 رقم 680).

الشتاء، ولا دلالة في ذلك على خلاف غيره، وهذا أنس بن مالك فقد روى عنه الزهري أن رسول الله- عليه السلام - صلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاء أبو خلدة ففسر عنه أنه كان يصليها في الشتاء معجلًا وفي الصيف مؤخرًا، واحتمل ما روى ابن مسعود، وهو كذلك أيضًا. ش: ذكر حديث أبي مسعود وأنس - رضي الله عنهما - تأكيدًا لما ذكره من نسخ حديث المغيرة الأحاديث التي فيها تعجيل الظهر في شدة الحرّ. وأخرج حديث أبي مسعود -واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري- بإسناد صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات. وبَشير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة- قيل: له صحبة أيضًا. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) مطولا: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح (ح). وثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي، نا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب: "أنهم كانوا على كراسي عمر بن عبد العزيز ومعهم عروة بن الزبير، فدعاه المؤذن لصلاة العصر ... " الحديث ذكرناه بتمامه في أول باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر؛ لأن الطحاوي قد ذكر هناك قطعة منه بالإسناد الذي ذكره ها هنا بعينه. وأخرج حديث أنس من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن عطاء بن مقدَّم المقدمي -بفتح الدال- شيخ البخاري ومسلم. عن حرمي بن عمارة بن أبي حفصة البصري. عن أبي خلدة -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام- واسمه خالد بن دينار البصري الخياط. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 259 رقم 716).

عن أنس بن مالك. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، قال: أبنا أبو سعيد مولى بني هاشم، قال: أبنا خالد بن دينار أبو خلدة، قال: سمعت أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجَّل". قوله: "بكَّر" أي أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكَّر إليه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن ثابت البصري أبي محمَّد البزار -بالراء المهملة في آخره- عن أبي خلدة، عن أنس. وأخرجه أبو العباس السراج في "مسنده": ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا يحيى بن خليف بن عقبة بصري، عن أبي خلدة، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا كان البرد بكَّر بالصلاة، وإذا كان الحرَّ أخرها". قوله: "قال أبو جعفر .. " إلى آخره، ظاهر عن البيان. قوله: "وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ... " إلى آخره جواب عمَّا استدلت به أهل المقالة الأولى، من جملة الأحاديث التي ذكرت في الفصل الأول منها حديث مسروق قال: "صليت خلف عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا - والذي لا إله إلا هو- وقت هذه الصلاة" وتقرير الجواب: أنه لا دلالة فيه أنه كان ذلك في الصيف، ولا أنه كان في الشتاء، وإنما هو بيان وقت الظهر، ونحن نقول به. وأما الإبراد في الصيف والتعجيل في الشتاء فأمرٌ زائد على ذلك، فلا دلالة له على ذلك، وهذا كحديث الزهري عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر حين زالت الشمس"، ثم جاء أبو خلدة خالد بن دينار فسر عن أنس أنه كان يصليها في الشتاء مُعَجِّلًا وفي الصيف مُؤخرًّا، وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - يحتمل هذا الوجه، فلا يتم ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 248 رقم 499).

لهم به استدلال، وعندي جواب آخر أحسن منه، وهو أن ابن مسعود إنما أكد كلامه بيمينه على أن دخول وقت الظهر من زوال الشمس عن كبد السماء، وليس يمينه على أن وقت الظهر هو الوقت الذي صلى فيه الظهر فقط؛ لأن وقت الظهر أكثر من الوقت الذي صلى هو فيه؛ لأنه ينتهي إلى أنه يصير ظل كل شيء مثله أو مثليه على الخلاف، فيكون معنى قوله: "هو وقت الظهر" أي هو وقت دخول الظهر، واستحقاقه، وليس فيه دلالة على استحباب ذلك الجزء من الوقت، فافهم. ص: فإن احتج محتج في تعجيل الظهر بما قد حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سويد بن غفلة، قال: "سمع الحجاج أذانه بالظهر وهو في الجبَّانة، فأرسل إليه، فقال: ما هذه الصلاة؟ فقال: صليت مع أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - حين زالت الشمس، قال: فصرفه، وقال: لا تؤذن ولا تؤم". قيل له: ليس في هذا الحديث أن الوقت الذي رآهم فيه سويد كان في الصيف فقد يجوز أن يكون كان في الشتاء ويكون حكم الصيف عندهم بخلاف ذلك، والدليل على هذا: أن يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الله ابن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، "أن عمر - رضي الله عنه - قال لأبي محذورة بمكة: كنت بأرض حارة شديدة الحرِّ فأبرد ثم أبرد بالأذان للصلاة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: أفلا ترى أن عمر - رضي الله عنه - قد أمر أبا محذورة في هذا الحديث بالإبراد لشدة الحرِّ؟ فأولى الأشياء بنا أن نحمل ما روى عنه سويد على غير خلاف ذلك، فيكون ذلك كان منه في وقت لا حرَّ فيه. ش: وجه الاحتجاج: أن سويد بن غفلة أخبر أنه صلى مع أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - في أول الوقت، فدل على أن التعجيل هو السنة مطلقًا؛ لأنه لو لم يكن السنة لما فعل بها الخلفاء الثلاثة الراشدون. وتقرير الجواب: أنه لا دليل فيه أن الوقت الذي رآهم سويد يصلون فيه كان في الصيف، فيحتمل أن يكون قد كان ذلك في الشتاء، بل هو المراد، والدليل عليه أن

عمر - رضي الله عنه - أمر أبا محذورة مؤذن مكة أن يبرد بالأذان للصلاة في شدة الحرّ فلو لم يكن هذا عند عمر سنة لما أمره بذلك. ثم إسناد أثر سويد صحيح، وابن الأصبهاني هو محمَّد بن سعيد شيخ البخاري. وأبو حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملة- واسمه عثمان بن عاصم الكوفي، روى له الجماعة. وسويد بن غفلة بن عوسجة الكوفي أدرك الجاهلية، وروي عنه أنه قال: "أنا لِدَة النبي - عليه السلام -؛ ولدت عام الفيل ". قدم المدينة حين نُفِضَت الأيدي من دفن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: حدثني ميمون بن مهران: "أن سويد بن غفلة كان يصلي الظهر حين تزول الشمس، فأرسل إليه الحجاج: لا تسبقنا بصلاتنا، فقال سويد: قد صليتها مع أبي بكر وعمر هكذا، والموت أقرب إليَّ من أن أدعها". قوله: "في الجبانة" الجبان والجبانة الصحراء، وتسمى المقابر جبانة أيضًا؛ لأنها تكون في الصحراء، تسمية للشيء بموضعه. قوله: "فصرفه" أي منعه الحجاج عن الأذان والإقامة، والحجاج هو ابن يوسف الثقفي الظالم المشهور، وكان عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، وتوفي سنة خمس وتسعين من الهجرة، وعمره ثلاث -أو أربع- وخمسون سنة. وأما أثر عمر بن الخطاب فأخرجه عن يزيد بن سنان القزاز. عن أبي بكر الحنفي الصغير واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد روى له الجماعة. عن عبد الله بن نافع القرشي، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: يُكتب حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 285 رقم 3271).

عن أبيه نافع مولى ابن عمر. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أيوب ويزيد بن أبي زياد، عن عكرمة بن خالد، قال: "قدم عمر مكة، فأذن له أبو محذورة، فقال له عمر: أما خشيت أن ينخرق مريطاؤك؟! قال: يا أمير المؤمنين قدمتَ فأحببت أن أسمعكم أذاني، فقال له عمر: إن أرضكم معشر أهل تهامة حارَّة، فأبرد ثم أبرد -مرتين أو ثلاثًا- ثم أذن، ثم ثوب" انتهى. وأبو محذورة -بضم الذال المعجمة- اسمه أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان، واسم أبيه مِعْيرَ -بكسر الميم، وسكون العين، وفتح الياء آخر الحروف، وفي آخره راء- وكان أحسن الناس أذانًا وأنداهم صوتًا، وجعله النبي - عليه السلام - على أذان مكة يوم منصرفه من حنين، فلم يزل يؤذن فيها إلى أن توفي بمكة سنة تسع وخمسين من الهجرة. قوله: "مريطاؤك" المريطاء -بضم الميم، وبالمد- هي الجلدة التي بين السرة والعانة، وهي في الأصل مصغرة مرطاء، وهي الملساء التي لا شعر عليها، وقد تقصر. ص: فإن قال قائل: إن حكم الظهر أن يعجل في سائر الزمان، ولا يؤخر، كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث خباب وعائشة وجابر وأبي برزة - رضي الله عنه - وإنما كان من النبي - عليه السلام - من أمره إياهم بالإبراد رخصة منه لهم لشدة الحرِّ؛ لأن مسجدهم لم يكن له ظلال، وذَكَر في ذلك ما قد روي عن ميمون بن مهران، فيه كما قد حدثنا فهد، قال: ثنا علي [بن] (¬2) معبد، قال: ثنا أبو المليح الرقي، عن ميمون بن مهران، قال:؛ لا بأس بالصلاة نصف النهار وإنما كانوا يكرهون الصلاة نصف النهارة لأنهم كانوا يصلون بمكة وكانت شديدة الحرِّ ولم يكن لهم ظلال, فقال: ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 545 رقم 2060). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أبردوا بها. قيل له: هذا الكلام يستحيل؛ لأن هذا لو كان كما ذكرت لما أخرها رسول الله- عليه السلام - وهو في السفر، حيث لا كِنّ ولا ظل على ما في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ولصلاها حينئذٍ في أول وقتها في غير كنٍّ ولا ظل، فتركه الصلاة حينئذٍ دليل على أن ما كان منه من الأمر بالإبراد ليس لأن يكونوا في شدة الحر في الكِنَّ، ثم يخرجون فيصلون الظهر في حال ذهاب الحرِّ؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لصلاها لا كِنٌ في أول وقتها ولكن ما كان منه - عليه السلام - من هذا القول عندنا -والله أعلم- إيجاب منه أن ذلك هو سنتها، كان الكِنُّ موجودًا أو معدومًا. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: هذا السؤال يرد على ما ذكر من ثبوت النسخ في حديث خباب ونحوه، على ما مَرَّ ذكره، تقديره أن يقال: لا نُسَلِّم أن حديث الإبراد ناسخ لحديث التعجيل بل حكم التعجيل باقٍ كما في حديث خباب ومن ذكر معه، وإنما كان أمره - عليه السلام - بالإبراد لأجل الرخصة لهم؛ لأجل شدة الحرِّة لأن مسجدهم لم يكن له ظلال وكانوا يتضررون وقت الهاجرة، فرخص لهم بالإبراد لذلك؛ والدليل عليه ما قاله ميمون بن مهران -أبو أيوب الجزري، وثقه أحمد والنسائي وغيرهما- "لا بأس بالصلاة نصف النهار ... " إلى آخره. أخرجه الطحاوي: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي أحد أصحاب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن أبي المليح الرقي واسمه الحسن بن عمرو الفزاري وثقه أحمد وأبو زرعة، ونسبته إلى رَقَّة -بفتح الراء والقاف المشددة- بلدة بالفراتية وهذا أخذه ميمون من سويد بن غفلة، فكل ما أجيب عن قول سويد فهو جواب عن قول ميمون. وتقدير الجواب: أن ما ذكرتم هذا بعيد ومستحيل؛ لأن الأمر لو كان كما ذكرتم لَمَا أخر رسول الله - عليه السلام - الظهر والحال أنه كان في السفر كما مرَّ في حديث أبي ذر "كنا مع رسول الله - عليه السلام - منزل فأذن بلال، فقال رسول الله - عليه السلام -: مه يا بلال ... " الحديث.

وفى رواية الترمذي (¬1): "أن رسول الله - عليه السلام - كان في سفر ومعه بلال، فأراد أن يقيم، فقال: أبرد ... " الحديث. والسفر لا كِنَّ فيه ولا ظلال، ولم يُصلّ رسول الله - عليه السلام - في أول وقتها، بل أخرها, ولو كان الأمر كما ذكرتم لصلاها حينئذٍ في أول الوقت، فظهر من ذلك أن تأخيره - عليه السلام - الظهر حينئذٍ إلى وقت الإبراد لم يكن لأجل أن يكونوا في الكِنّ في شدة الحرِّ ليخرجوا منها ثم يصلوا بعد ذهابها، بل إنما كان ذلك منه - عليه السلام - عزمًا على أنه سنة سواء كان الكِنّ موجودًا أو معدومًا، فيستوي فيه السفر والحضر، وثبت النسخ الذي ادعينا واستمر الحكم على تأخير الظهر في الصيف حتى يبرد بها، والله أعلم. "والكِنّ" بكسر الكاف وتشديد النون السترة والجمع أكنان قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} (¬2)، والأكنة: الأغطية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} (¬3) والواحدة كنان، وأكننته في نفسي: أسررته، فافهم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 297 رقم 158). (¬2) سورة النحل، آية: [81]. (¬3) سورة الأنعام، آية: [25].

ص: باب: العصر هل يؤخر أم يعجل؟

ص: باب: العصر هل يؤخر أم يعجل؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة العصر هل تعجل في أول وقتها أم تؤخر فأيهما أفضل؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا علي بن معبد بن نوح البغدادي، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "سمعته يقول: ما كان أحد أشد تعجيلًا لصلاة العصر من رسول الله - عليه السلام -، إن كان أبعد رجلين من الأنصار دارًا من مسجد رسول الله - عليه السلام - لأبو لبابة بن عبد المنذر أحد بني عمرو بن عوف وأبو عبس بن جَبْر أحد بني حارثة، دار أبي لبابة بقباء، ودار أبي عبس في بش حارثة، ثم إن كانا ليصليان مع رسول الله - عليه السلام - العصر، ثم يأتيان قومهما وما صلوها؛ لتبكير رسول الله - عليه السلام - بها". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق بن يسار المدني. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا محمَّد بن إسماعيل الفارسي، ثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمَّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك: "كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله - عليه السلام - دارًا أبو لبابة بن عبد المنذر وأهله بقباء، وأبو عَبْس بن جَبْر ومسكنه في بني حارثة، فكانا يصليان مع رسول الله - عليه السلام -، ثم يأتيان قومهما وما صلوا؛ لتعجيل رسول الله - عليه السلام - بها". وأخرجه الطبراني أيضًا في "الأوسط" (¬2). ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 254 رقم 12). (¬2) "المعجم الأوسط" (8/ 53 رقم 7946).

قوله: "إن كان". "إنْ" هذه مخففة من المثقلة، وأصله إنَّه كان. قوله: "أبعد" مرفوع؛ لأنه اسم كان، وخبره قوله: "لَأَبو لبابة" ودخلت "اللام" فيه للتأكيد، ولهذا جاءت مفتوحة. وقوله: "دارًا" نصب على التمييز. قوله: "أحد بني عمرو" صفة لقوله: "لأبو لبابة" ويجوز أن يكون خبر مبتدإٍ محذوف، أي هو أحد بني عمرو، فحينئذٍ الجملة أيضًا صفة لأبي لبابة وأبو لبابة -بضم اللام- وتخفيف الباء الموحدة ثم ألف وباء أخرى -واسمه رفاعة بن المنذر، وقيل: بشير بن عبد المنذر غلبت عليه كنيته، كان من النقباء، وشهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، وقيل: لم يشهد بدرًا، بل أَمَّره رسول الله - عليه السلام - على المدينة، وضرب له بسهم مع أصحاب بدرٍ، وكانت معه راية بني عمرو بن عوف يوم الفتح، مات في خلافة عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قوله: "وأبو عبس" عطف على قوله: "لأَبو لبابة" واسمه عبد الرحمن بن جَبْر بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث الأنصاري الحارثي المدني غلبت عليه كنيته، شهد بدرًا، ومات بالمدينة سنة أربع وثلاثين ودفن بالبقيع وله سبعون سنة، وعَبْس بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، وبالسين المهملة. وجَبْر بفتح الجيم، وسكون الباء الموحدة. قوله: "دار أبي لبابة" مبتدأ، وخبره: قوله: "بقباء"، والجملة بيان لقوله: "أبعد رجلين من الأنصار دارًا" وكذلك قوله: "ودار أبي عبس" مبتدأ، وخبره قوله: "في بني حارثة" وقبُاء بضم القاف، وبالباء الموحدة، تمد وتقصر قرية على ميلين من المدينة، وهناك مسجد التقوى. قوله: "ثم إن كانا" "إن" هذه مخففة من المثقلة، وأصله ثم إنه كانا. قوله: "وما صلُّوها" جملة حالية.

قوله: "لتبكير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها" أي لتعجيل رسول الله - عليه السلام - بالعصر، وبه استدل الشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الله بن المبارك أن الأفضل تعجيل العصر، وقال الترمذي: وهو الذي اختاره بعض أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام -: منهم عمر وعبد الله بن مسعود وعائشة وأنس وغير واحدٍ من التابعين في تعجيل صلاة العصر، وكرهوا تأخيرها، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال عياض: هذا الحديث وأشباهه حجة للجماعة في أن أول وقت العصر القامة، وأن صلاتها لأول وقتها أفضل، ورد على من خالفهم؛ إذْ لو كان القامتان كما قال أبو حنيفة لما اتفق أن يجدوا بني عمرو يصلون إلا في الاصفرار ولا وصلوا إلى قباء والعوالي إلا بعد سقوط الشمس ونزولها وتغيرها، وكذا قال الشيخ محيي الدين: المراد من هذه الأحاديث المبادرة بصلاة العصر أول وقتها؛ لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس بعدُ لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة. ثم قال: وفيها دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور؛ أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله، وقال أبو حنيفة: لا يدخل وقته حتى يصير ظل كل شيء مثليه، وهذه حجة للجماعة عليه مع حديث ابن عباس (¬1) في بيان المواقيت، وحديث جابر (¬2) وغير ذلك. قلت: الجواب من جهة أبي حنيفة أنه - عليه السلام - أمر بالإبراد بالظهر بقوله: "أبردوا بالظهر" يعني صلوها إذا سكنت شدة الحَرِّ، واشتداد الحر في ديارهم يكون وقت صيرورة ظل كل شيء مثله، ولا يفتر الحرُّ إلا بعد المثلين، فإذا تعارضت الأخبار يبض ما كان على ما كان، ووقت الظهر ثابت بيقين فلا يزول بالشك، ووقت ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "سننه" (1/ 160 رقم 393)، والترمذي في "جامعه" (1/ 278 رقم 149)، وأحمد في "المسند" (1/ 333 رقم 3081). (¬2) أخرجه الترمذي في "جامعه" (1/ 281 رقم 150)، والنسائي في "المجتبى" (1/ 255 رقم 513)، وأحمد في "المسند" (3/ 330 رقم 14578).

العصر ما كان ثابتًا فلا يدخل بالشك، وأما حديث ابن عباس وجابر وغيرهما فلا يدل على أن لا يكون ما وراء وقت الإمامة وقتًا للظهر ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - أَمَّ للفجر في اليوم الثاني حين أسفر والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وكذلك صلى العشاء حين ذهب ثلث الليل والوقت يبقى بعده إلى طلوع الفجر. وأما الجواب عن حديث أنس وما يشابهه محمول على أن ذلك كان في وقت الصيف، أو كان ذلك في وقت مخصوص لعدد، والأفضل عند أصحابنا أن يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية لم يدخلها تغير في الشتاء والصيف جميعًا، قاله في "البدائع" لما روي عنه - عليه السلام -: "كان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية". أخرجه أبو داود (¬1) وهذا فيه بيان تأخره العصر؛ ولأن في تأخيره تكثير النوافل؛ لأن النافلة بعدها مكروهة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كنا نصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا مالك بن أنس، قال: حدثني الزهري وإسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلي قباء -قال أحدهما: وهم يصلون، وقال الآخر-: والشمس مرتفعة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد اللهَ بن يوسف، قال: ثنا مالك، عن الزهري، عن أنس (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: "كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 408).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر، فيذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة". قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة -وأحسبه قال: والأربعة-". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حيّة، فيذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة". حدثنا ابن خزيمة، قال: أنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن منصور، عن ربعي، قال: ثنا أبو الأبيض، قال: ثنا أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بنا العصر والشمس بيضاء، ثم أرجع إلى قومي وهم جلوس في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا فصلوا؛ فإن النبي - عليه السلام - قد صلَّى". قال أبو جعفر - عليه السلام -: فقد اخْتُلِفَ عن أنس بن مالك في هذا الحديث، فكان ما روى عاصم بن عمر بن قتادة وإسحاق بن عبد الله وأبو الأبيض عن أنس بن مالك يدل على التعجيل بها؛ لأن في حديثهم أن رسول الله - عليه السلام - كان يصليها، ثم يذهب الذاهب إلى المكان الذي ذكروا فيجدهم لم يصلوا العصر، ونحن نعلم أن أولئك لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فهذا دليل على التعجيل، وأما ما روى الزهري عنه فإنه قال: "كنا نصليها مع النبي - عليه السلام - ثم نأتي العوالي والشمس مرتفعة"، فقد يجوز أن تكون مرتفعة قد اصفرت. فقد اضطرب حديث أنس هذا؛ لأن معنى ما روى الزهري منه بخلاف ما روى إسحاق بن عبد الله، وعاصم بن عمر، وأبو الأبيض عن أنس. ش: أخرج حديث أنس من سبع طرق رواتها كلهم ثقات: إلا أنه مضطرب، وأشار إلى وجه الاضطراب بقوله: "لأن معنى ما روى الزهري منه" أي من أنس "بخلاف ما روى إسحاق بن عبد الله، وعاصم بن عمر، وأبو الأبيض، عن أنس"؛ لأن رواية هؤلاء تدل على التعجيل، ورواية الزهري تدل على التأخير

جدًّا؛ لأن قوله: "والشمس مرتفعة" يجوز أن يكون ارتفاعها هو حالة اصفرارها؛ فإن منع الخصم يعني الاضطراب بالدليل، فجوابه ما ذكرناه. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري. عن مالك بن أنس. عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة واسمه زيد بن سهل الأنصاري شيخ مالك في "الموطأ" روى له الجماعة. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن إسحاق بن عبد الله ... إلى آخره. قوله: "إلى بني عمرو بن عوف" قال عياض: هم على ثلثي فرسخ من المدينة. قوله: "يصلون العصر" جملة في محل النصب على أنها مفعول ثانٍ لقوله: "فيجدهم". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد أبي عبد الله المروزي الفارض الأعور، عن عبد الله بن المبارك، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، كلاهما عن أنس. وأخرجه النسائي (¬3): أنا سويد بن نصر، قال: ابنا عبد الله، عن مالك، قال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 202 رقم 523). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 433 رقم 621). (¬3) "المجتبى" (1/ 252 رقم 506).

حدثني الزهري وإسحاق بن عبد الله، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى قباء، فقال أحدهما. فيأتيهم وهم يصلون، وقال الآخر: والشمس مرتفعة". قوله: "قال أحدهما" أي أحد الاثنين من الزهري وإسحاق بن عبد الله. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي أيضًا، عن عبد الله بن يوسف التنيسي، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن ابن كتاب، عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منَّا إلى قبُاء فيأتيهم والشمس مرتفعة". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة". الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد الأزدي البصري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أنس بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي العصر، فيذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة. قال الزهري: والعوالي على ميلين أو ثلاثة، قال: وأحسبه قال: وأربعة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 202 رقم 526). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 433 رقم 621). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 547 رقم 2069).

وقال أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري قال: "والعوالي على ميلين أو ثلاثة، قال: وأحسبه قال: وأربعة" انتهى. قلت: العوالي جمع عالية، والعوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة، والنسب إليها عُلوي على غير القياس، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. قاله ابن الأثير، والذي يظهر من كلام الزهري أن أدناها من المدينة على ميلين، وقال عياض: فسر مالك العوالي بثلاثة أميال من المدينة، قال غيره: وهي مفترقة، فأدناها ميلان، وأبعدها ثمانية أميال. وقال الجوهري: العالية: ما فوق نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة وهي الحجاز وما والاها، والنسبة إليها عالي، ويقال أيضًا: عُلوي على غير قياس، ويقال: عالى الرجل وأعلى إذا أتى عالية نجد. السادس: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العمر والشمس مرتفعة حيَّة، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة. وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال ونحوه". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث. ونا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حيَّة، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة". لم يذكر قتيبة فيأتي العوالي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 405). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 202 رقم 525). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 433 رقم 621).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن قتيبة، عن الليث، نحوه. وكذلك أخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن رمح، عن الليث، نحوه. السابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني أبي عمرو البصري شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة الكوفي، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حِراش -بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وفي آخره شين معجمة- عن أبي الأبيض العَنْسي الشامي وكنيته اسمه، ويقال: اسمه عيسى، وثقه العجلي، وروى له النسائي. عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العصر والشمس بيضاء محلقة، ثم آتي عشيرتي في جانب المدينة لم يصلوا، فأقول: ما يجلسكم؟! صلوا؛ فقد صلى رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه النسائي (¬5): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بنا -يعني العصر- والشمس بيضاء محلقة" انتهى. قلت: "مُحلِّقة" بتشديد "اللام" المكسورة من حَلَّق الطائر: ارتفع في طيرانه، وقيل: بفتح "اللام"، وقال ابن الأثير: محلقة: أي مرتفعة، والتحليق: الارتفاع، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 164 رقم 404). (¬2) "المجتبى" (1/ 252 رقم 507). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 223 رقم 682). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 288 رقم 3298). (¬5) "المجتبى" (1/ 253 رقم 508).

ومنه: حَلَّق الطائر في كبد السماء، أي صَعِد، وحكى الأزهري عن شمر قال: تحليق الشمس من أول النهار: ارتفاعها، وفي آخره انحدارها. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن غير أنس، فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا أبو واقد الليثي، قال: ثنا أبو أروى، قال: "كنت أصلي مع النبي - عليه السلام - العصر بالمدينة، ثم آتي الشجرة ذا الحليفة قبل أن تغرب الشمس، وهي على فرسخين". ففي هذا الحديث أنه كان يسير بعد العصر فرسخين قبل أن تغيب الشمس، فقد يجوز أن يكون ذلك يسير أهل الأقدام، وقد يجوز أن يكون سيرًا على الإبل والدواب، فنظرنا في ذلك، فإذا محمَّد بن إسماعيل بن سالم الصاغ قد حدثنا، قال: ثنا معلى بن أسد وأحمد بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا وهيب، عن أبي واقد، قال: حدثنى أبو أروى، قال: "كنت أصلي العصر مع النبي - عليه السلام -، ثم أمشي إلى ذي الحليفة فآتيهم قبل أن تغيب الشمس". ففي هذا الحديث أنه كان يأتيها مشيًا، وأما قوله: "قبل أن تغرب الشمس" فقد يجوز أن يكون ذلك وقد اصفرت ولم يبق منها إلا أقل قليل. ش: أي قد روي في تعجيل العصر أيضًا عن غير أنس من الصحابة - رضي الله عنهم -. قوله: "فمن ذلك" أي فمما روي عن غير أنس منهم، وهو أبو أروى الدوسي الحجازي. قال الطبراني في "الكبير" (¬1): يقال: اسمه ربيعة، ويقال: عُبيد بن الحارث. أخرج حديثه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وفهد بن سليمان، كلاهما عن موسى ابن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 369).

عن وهيب -بالتصغير- بن خالد البصري روى له الجماعة. عن أبي واقد اسمه صالح بن محمد بن زائدة المدني، فيه مقال، فقال يحيى: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أحمد بن إسحاق، عن وهيب، عن أبي واقد، عن أبي أروى، قال: "كنت أصلي مع رسول الله - عليه السلام - العصر، ثم آتي الشجرة -يعني ذا الحليفة- قبل أن تغيب الشمس". وأخرجه ابن الأثير في "معرفة الصحابة" (¬2): من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمَّد بن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي نزيل مكة، شيخ أبي داود وابن أبي حاتم، وثقه ابن حبان. عن معلى بن أسد العَمِّي البصري شيخ البخاري. وعن أحمد بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري شيخ مسلم، كلاهما عن وهيب ابن خالد ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا أبو خليفة الفضل بن الحبُاب، ثنا سليمان ابن حرب، ثنا وهيب بن خالد، عن أبي واقد الليثي، عن أبي أروى قال: "كنت أصلي صلاة العصر مع رسول الله - عليه السلام - ثم آتي ذا الحليفة أمشي فآتيها ولم تغب الشمس". وأخرجه أحمد (¬4)، والبزار (¬5) في "مسنديهما". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 288 رقم 3306). (¬2) "أسد الغابة" (1/ 1136). (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 369 رقم 925). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 344 رقم 19045). (¬5) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 48 رقم 1707): رواه البزار وأحمد باختصار، والطبراني في "الكبير". وفيه صالح بن محمَّد أبو واقد وثقه أحمد وضعفه يحيى بن معين والدارقطني وجماعة.

قوله: "ثم آتي الشجرة" هي ذو الحليفة، فلذلك أوقع قوله: "ذا الحليفة" بدلًا منها، أو عطف بيان، وكذا فسرها في رواية ابن أبي شيبة بقوله: "يعني ذا الحليفة" وقال القاضي: ذو الحليفة ماء من مياه بني جُشَم، على ستة أميال -وقيل: سبعة- من المدينة، وفسرها في رواية الطحاوي بقوله: "وهي على رأس فرسخين" يعني من المدينة، وكلّ فرسخ ثلاثة أميال، وذكر الرواية الثانية لتفسير ما في الرواية الأولى من قوله: "ثم آتي الشجرة" فإن الإتيان أعم من أن يكون ماشيًا أو راكبًا، وفسر في الثانية بقوله: "ثم أمشي"، وقد زعم من ادعى استحباب تعجيل العصر أن فيه دلالة ظاهرة على أنه - عليه السلام - كان يعجل العصر؛ لأنه ذكر أنه كان يسير بعد صلاته - عليه السلام - فرسخين قبل أن تغيب الشمس. فنقول: قد روى أبو مسعود البدري نحو رواية أبي أروى، وفيه: "وكان يصليها والشمس مرتفعة"، ففيه دليل على أنه كان يؤخرها، على ما يجيء الآن إن شاء الله. ص: وقد روي عن أبي مسعود نحوًا من ذلك؛ حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث بن سعد، عن يريد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن شهاب، قال: سمعت عروة بن الزبير يقول: أخبرني بشير بن أبي مسعود، عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة العصر والشمس بيضاء مرتفعة، يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال، قبل غروب الشمس". فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أبي أروى، وزاد فيه: "كان يصليها والشمس مرتفعة". فذلك دليل على أنه قد كان يؤخرها. ش: أي قد روي عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري ما يشابه حديث أبي أروى الدوسي المذكور آنفًا، وهو ما أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد الأزدي المصري، عن أسامة بن زيد المدني، عن محمَّد بن

مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن بشير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة- عن أبيه أبي مسعود ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1) مطولًا، ذكرناه في باب "المواقيت"، وفي باب "الوقت الذي يستحب أن يصلى فيه الظهر"، وكذلك أخرج الطحاوي هذا الحديث المطول مقطعًا بثلاث قطع، قطعة في باب "المواقيت"، وقطعة في باب "وقت الظهر"، وقطعة هَا هنا بحسب موافقة المدعى. ص: وقد روي عن أنس بن مالك أيضًا ما يدل على هذا: حدثنا نصار بن حرب أبو بكر المِسْمَعي البصري، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن أبي الأبيض، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي صلاة العصر والشمس بيضاء محلقة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد أخبر أنس في هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - أنه كان يصليها والشمس بيضاء محلِّقة؛ فذلك دليل على أنه قد كان يؤخرها، ثم يكون بين الوقت الذي كان يصليها فيه وبين غروبها مقدار ما كان يسير الرجل إلى ذي الحليفة، أو إلى ما ذكر في هذه الآثار من الأماكن. ش: أي قد روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ما يدل على أنه - عليه السلام - كان يؤخر العصر، وقد بينه بقوله: "قال أبو جعفر ... " إلى آخره، وأخرج ذلك عن نصار بن حرب أبي بكر المِسْمَعي -بكسر الميم- قال ابن دريد: المسمع: أبو قبيلة من العرب يقال لهم: المسامعة كما يقال المهالبة والقحاطبة. عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض العَنْسي، عن أنس - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 259 رقم 716).

وأخرجه النسائي (¬1): وقد ذكرناه عن قريب. قوله: "أو إلى ما ذكر في هذه الآثار من الأماكن" يعني من قباء، أو من العوالي، أو من بني عمرو بن عوف. ص: وقد روي عن أنس بن مالك أيضًا في ذلك ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي صدقة مولى أنس، عن أنس: "أنه سئل عن مواقيت الصلاة، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يصلي صلاة العصر ما بين صلاتيكم هاتين". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذلك يحتمل أن يكون أراد بقوله: "فيما بين صلاتيكم هاتين" ما بين صلاة الظهر وصلاة المغرب، فذلك دليل على تأخير العصر، ويحتمل أن يكون أراد فيما بين تعجيلكم وتأخيركم، فذلك دليل على التأخير أيضًا, وليس بالتأخير الشديد، فلما احتمل ذلك ما ذكرنا، وكان في حديث الأبيض عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصليها والشمس بيضاء محلقة" دل ذلك على أنه قد كان يؤخرها. ش: أي قد روي عن أنس أيضًا في ما يدل على أنه - عليه السلام - كان يؤخر العصر غير تأخير شديد، وهو ما أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي صدقة واسمه توبة الأنصاري البصري مولى أنس بن مالك. روى له النسائي وأخرجه (¬2): من حديث شعبة، عن أبي صدقة، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ويصلي العصر بين صلاتيكم هاتين، ويصلي المغرب إذا غربت الشمس، ويصلي العشاء إذا غاب الشفق -قال على إثره-: ويصلي الصبح إلى أن ينفسخ البصر". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "المجتبى" (1/ 273 رقم 552).

ورواه أبو أحمد الحاكم في "الكنى": من حديث يزيد بن هارون، أنا شعبة ... فذكره، وفيه: "والفجر من حين يطلع الفجر إلى أن ينفسح البصر". ص: فإن قال قائل: وكيف يكون ذلك كذلك وقد روي عن أنس - رضي الله عنه - في ذم من يؤخر العصر؟ فذكر في ذلك ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه قال: "دخلت على أنس بن مالك بعد الظهر، فقام يصلي العصر، فلما فرغ من صلاته، ذكرنا تعجيل الصلاة -أو ذكرها- فقال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: تلك صلاة المنافقين -قالها ثلاثًا- يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس، وكانت بين قرني شيطان -أو على قرني الشيطان- قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله -عز وجل- فيهن إلا قليلًا". قيل له: قد بيَّن أنس في هذا الحديث التأخير المكروه ما هو، إنما هو التأخير الذي لا يمكن بعده أن يصلي العصر إلا أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا، فأما صلاة يصليها متمكنًا ويذكر الله فيها متمكنًا قبل تغير الشمس، فليس ذلك من الأول في شيء، وأولى بنا في هذه الآثار لما جاءت هذا المجيء أن نحملها ونُخَرِّج وجوهها على الاتفاق، لا على الخلاف والتضاد، فنجعل التأخير المكروه فيها هو ما بينه العلاء عن أنس، ونجعل الوقت المستحب من وقتها أن تصل فيه هو ما بينه أبو الأبيض عن أنس، ووافقه على ذلك أبو مسعود - رضي الله عنه -. ش: أي كيف يكون ما ذكرتم كما ذكرتم أنه يدل على أنه - عليه السلام - قد كان يؤخرها؟ تقرير السؤال: أنه - عليه السلام - ذَمِّ من يؤخر العصر في حديث أنس هذا، وذلك لا يكون إلا في شيء مكروه، فدَلَّ أن تأخير العصر مكروه. وتقرير الجواب: أن حديث أنس هذا وارد في التأخير المكروه، وهو أن تؤخر إلى أن يبقى من الوقت قدر ما يسع فيه أربع ركعات بالضيق بحيث لا يقدر على ذكر الله تعالى فيها إلا شيئًا قليلًا، فهذا هو التأخير المذموم صاحبه، العلوم عليه، وأما الصلاة التي يصليها متمكنًا بسعة في الوقت، ويذكر الله فيها كثيرًا متمكنًا قبل تغير الشمس فليست بمكروهة ولا صاحبها بمذموم عليها، وبهذا يحصل الاتفاق

بين هذه الآثار المذكورة التي فيها تضاد وخلاف ظاهرًا، والعمل بالكل بالتوفيق بينها أولى من العمل ببعضها وترك بعضها، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "وأولى بنا في هذه الآثار ... إلى آخره. وقوله: "أن نحملها" في محل الرفع على الابتداء، و"أن" مصدرية، وخبره قوله: "وأولى بنا" والتقدير: حمل الآثار وتخريج وجوهها على الاتفاق أولى بنا من تركها على الخلاف والتضاد. قوله: "ووافقه على ذلك" أي وافق أنسًا على ما رواه أبو الأبيض عنه؛ أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن الصباح وقتيبة وابن حجر، قالوا: أنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن: "أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: تلك صلاة المنافقين، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه قال: "دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر ... " إلى، آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا علي بن حجر، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء ابن عبد الرحمن: "أنه دخل على أنس بن مالك ... " إلى آخره نحو رواية مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 434 رقم 622). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 166 رقم 413). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 301 رقم 160).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حجر [بن] (¬2) إياس بن مقائل بن مشمرج [بن] (¬3) خالد، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا العلاء: "أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة ... " إلى آخره نحو رواية مسلم. قوله: "بعد الظهر" أي بعد صلاة الظهر. قوله: "تلك صلاة المنافقين" إشارة إلى صلاة العصر التي تصلى في اصفرار الشمس، وتؤخر هذا التأخير بلا عذر. قوله: "قالها ثلاثًا" أي قال - عليه السلام - هذه الكلمة ثلاث مرات، أعني قال: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين" كما قد وقع مصرّحًا في رواية أبي داود، وإنما كررها ثلاثًا ليكون أبلغ في ذم تأخيرها بلا عذر. قوله: "يجلس أحدهم ... " إلى آخره، بيان هذه الصلاة التي وقع فيها وفي صاحبها الذم. قوله: "بين قرني شيطان" قد مرَّ الكلام فيه مستوفى في باب مواقيت الصلاة. قوله: "فنقرها أربعًا" أي أربع نقرات، أراد بها الركعات الخارجة عن التريث من نَقَرَ الديكُ أو الغرابُ، وهو كناية عن تخفيفها جدًّا بحيث لا يمكث فيها إلا قدر وضع الديك أو الغراب منقاره فيما يريد أكله. قوله: "لا يذكر الله -عز وجل- فيهن إلا قليلًا" صفة لقوله: "أربعًا" وذلك لاستعجاله فيها خوفًا من غروب الشمس، لا بقدر أن يأتي بالقراءة كما ينبغي ولا بالتسبيحات والأدعية على صفاتها، وانتصاب "قليلًا" على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير: لا يذكر الله فيها إلا ذكر قليلًا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 254 رقم 511). (¬2) في "الأصل، ك": ابن أبي، والمثبت من "المجتبى"، ومصادر ترجمته. (¬3) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "المجتبى"، ومصادر ترجمته.

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - ما يدل على التعجيل بها؛ فذكر ما قد حدثنا يونس، عن ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر". وما حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا ابن المنهال, قال: ثنا سفيان، عن الزهري، سمع عروة يحدث، عن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: "كان النبي - عليه السلام - يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتين". قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك كذلك، وقد أخر العصر لقصر حجرتها، فلم تكن الشمس تنقطع منها إلا بقرب غروبها، فلا دلالة في هذا الحديث على تعجيل العصر. وذكروا في ذلك أيضًا ما حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة (ح). وما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن سيّار بن سلامة، قال: "دخلت مع أبي على أبي برزة - رضي الله عنه - فقال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العصر، فيرجع الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حيّة". قيل له: قد مضى جوابنا في هذا فيما تقدم من هذا الباب، فلم نجد في هذه الآثار لَمَّا صُحِّحَت وجمعت ما يدل إلا على تأخير العصر، ولم نجد شيئًا منها يدل على تعجيلها إلا ما قد عارضه غيره فاستحببنا بذلك تأخير العصر، إلا أنها تصلي والشمس بيضاء، في وقت يبقى بعده من وقتها مدة قبل تَغَيُّب الشمي، ولو خُلِّينا والنظر لكان تعجيل الصلوات كلها في أوائل أوقاتها أفضل، ولكن اتباع ما روي عن رسول الله - عليه السلام - مما تواترت به الآثار أولى. ش: تقرير السؤال: أن الخصم أورد حديثين يدلان على أفضلية تعجيل العصر. أحدهما: عن عائشة، أخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة أم المؤمنين. وأخرجه أبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. والثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو نعيم، قال: أنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفيء بعد". وقال مالك ويحيى بن سعيد وشعيب وابن أبي حفصة: "والشمس قبل أن تظهر". وأخرجه مسلم (¬3) عن ابن أبي شيبة وعمرو الناقد- قال عمرو: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وفي آخره: وقال أبو بكر: "ولم يظهر الفيء بعد" نحو رواية البخاري. قوله: "في حجرتها" أي في دارها وكلّ ما حُجِّر وأحيط به بالبناء فهو حجرة. قوله: "قبل أن تظهر" أي قبل أن تعلو على السطح، ومنه قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (¬4)، ومنه الحديث الآخر: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" أي عالين، وقال الجعدي: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودوُنَا ... وإِنَّا لَنَبغِي فوقَ ذلكَ مَظْهَرًا أي عُلوًّا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 407). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 251 رقم 521). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 426 رقم 611). (¬4) سورة الزخرف، آية: [33].

وقيل: معناه قبل أن يرتفع ظلها عن الحجرة، وقيل: قبل أن تزول عنها. والثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العصر وأن الشمس في قعر حجرتين لم تخرج". وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) وأحمد (¬2) والدارمي (¬3) والعدني وأبو يعلى (¬4) وغيرهم بأسانيد مختلفة كلها عن عائشة - رضي الله عنها -. والحديث الآخر: عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي الصحابي بإسنادين صحيحين: الأول: عن عبد الغني بن أبي عَقِيل -بفتح العين- وهو رفاعة بن عبد الملك الجمحي شيخ أبي داود، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرَّصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن سيار بن سلامة الرياحي أبي المنهال البصري، عن أبي برزة. وأخرجه الطبراني في الكبير: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال (ح). وثنا يوسف القاضي، ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن سيار ابن سلامة، عن أبي برزة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العصر والشمس حيَّة". والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن سيّار بن سلامة، عن أبي برزة. ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 201 رقم 520)، ومسلم (1/ 426 رقم 611)، وأبو داود (1/ 165 رقم 407)، والترمذي (1/ 298 رقم 159)، والنسائي (1/ 252 رقم 505)، وابن ماجه (1/ 223 رقم 683). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 37 رقم 24141). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 285 رقم 1186). (¬4) "مسند أبي يعلى" (7/ 393 رقم 4420).

وأخرجه الطبراني أيضًا: ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن سيار بن سلامة، عن أبي برزة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي العصر والشمس حيّة". وتقرير الجواب عن حديث عائشة: أنه لا دلالة فيه على تعجيل العصر؛ لأنه يجوز أن يكون - عليه السلام - قد أخَّر العصر والحال أن الشمس في حجرتها؛ لكون حجرتها منخفضة قصير البناء والجدران، فلم تكن الشمس تنقطع عنها إلا قريب الغروب، وهو معنى قوله: "قد يجوز أن يكون ذلك كذلك وقد أخر العصر" أي يجوز أن يكون ما ذكرتم من كون الشمس في حجرتها والحال أنه - عليه السلام - قد أخر صلاة العصر. قوله: "لقصر حجرتها" متعلق بقوله: "أن يكون ذلك" أي كون الشمس في حجرتها لأجل قصر بناء حجرتها. وأما حديث أبي برزة فقد مرَّ جوابه فيما مضى عند حديث أنس وأبي مسعود البدري من أن تكون الشمس مرتفعة ولكن قد اصفرت، وكذلك يكون معنى حديث أبي برزة، "والشمس حيّة" أي مرتفعة ولكن قد خالطتها الصفرة، فحينئذٍ لا يدل الحديث إلا على تأخيره العصر والله أعلم. ثم إن الناظر إذا أمعن نظره في هذه الأحاديث بعد جمعها يجدها قد يدل أكثرها على تأخير العصر، ولا يجد ما يدل على تعجيلها إلا ويجد آخر يعارضه، فالأولى بل المتعين في مثل ذلك أن يعمل بالأكثر ويوفق بين المتعارضين؛ فلذلك استحبوا تأخير العصر، إلا أنها لا تؤخر إلى وقت لا تبقى بعده مدة قبل تغير الشمس، فلو نظر الشخص إلى أصل المعنى لكان تعجيل الصلوات كلها -العصر وغيرها- في أوائل أوقاتها أفضل نقلًا وعقلًا. أما نقلًا: فلما روي عنه - عليه السلام - لما سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة في أول وقتها". أخرجه أبو داود (¬1) وغيره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 426) وقد تقدم تخريجه.

وأما عقلًا: فلأن التأخير من الكسل، وذم الله تعالى أقوامًا على الكسل فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} (¬1) والتأخير من الكسل، ولكن تواترت الآثار وتكاثرت بالدلالة على تأخير العصر، والظهر في شدة الحرّ، والصبح إلى الإسفار، والعشاء إلى ما قبل ثلث الليل، فوجب اتباعها، والعمل بها فأَعْدل الأمرين، وأشار إلى ذلك بقوله: "ولو خُلِّينا والنظر ... " إلى آخره و"خُلِّينا" على صيغة المجهول، والنظر منصوب على المعيَّة. وقوله: "أولى" خبر لقوله: "اتباع ما روي". ص: وقد روي عن أصحابه من بعده - رضي الله عنهم - ما يدل على ذلك أيضًا. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عماله: إنَّ أهَمَّ أمركم عندي: الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، صلوا العصر والشمس بيضاء مرتفعة بيضاء نقيّة، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة". حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا يزيد بن أبي حكيم، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: "كنا مع أبي هريرة - رضي الله عنه -، في جنازة فلم يصل العصر، وسكت حتى راجعناه مرارًا فلم يصل العصر حتى رأينا الشمس على رأس أطول جبل بالمدينة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كان من كان قبلكم أشد تعجيلًا للظهر، وأشد تأخيرًا للعصر منكم". فهذا عمر - رضي الله عنه - يكتب إلى عماله وهم من أصحاب النبي - عليه السلام - يأمرهم بأن يُصلوا العصر والشمس بيضاء مرتفعة، ثم أبو هريرة قد أخرها حتى رآها عكرمة على رأس أطول جبل بالمدينة، ثم إبراهيم يخبر عمن كان قبله يعني من أصحاب النبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [142].

وأصحاب عبد الله أنهم كانوا أشد تأخيرًا للعصر ممن بعدهم، فلما جاء هذا من أفعالهم ومن أقوالهم مؤتلفًا على ما ذكرناه، وروي عن النبي - عليه السلام - أنه كان يصليها والشمس مرتفعة، وفي بعض الآثار: "محلقة" وجب التمسك بهذه الأخبار، وترك خلافها، وأن تؤخر العصر حتى لا يكون تأخيرها يُدْخِلُ مُؤخِّرَها إلى الوقت الذي أخبر أنس بن مالك -في حديث العلاء- أن النبي - عليه السلام - قال: "تلك صلاة المنافقين" فإن ذلك الوقت هو الوقت المكروه تأخير صلاة العصر إليه، فأما ما قبله من وقتها مما لم تدخل الشمس فيه صفرة، وكان الرجل يمكنه أن يصلي فيه صلاة العصر، ويذكر الله -عز وجل- فيها متمكنًا ويخرج من الصلاة والشمس كذلك فلا بأس بتأخير العصر بلى ذلك الوقت، فذاك أفضل؛ لما قد تواترت به الآثار عن النبي - عليه السلام -، وعن أصحابه من بعده، ولقد روي عن أبي قلابة أنه قال: "إنما سميت العصر لتُعصَر". حدثنا بذلك صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، عن أبي قلابة قال: "إنما سميت العصر لتعصر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر أبو قلابة أن اسمها هذا إنا هو لأن سبيلها أن تعصر، وهذا الذي استحببناه من تأخير العصر، من غير أن يكون ذلك إلى وقت قد تغيرت فيه الشمس أو دخلتها صفرة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله. ش: أي قد روي عن أصحاب النبي - عليه السلام - من بعده ما يدل على استحباب تأخير العصر، أخرج ذلك عن اثنين من الصحابة وهما عمر بن الخطاب وأبو هريرة، وواحد من التابعين وهو إبراهيم النخعي. أما أثر عمر - رضي الله عنه - فقد أخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل؛ لأن نافعًا لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) بأتم منه، عن نافع مولى عبد الله بن عمر: "أن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 6 رقم 6).

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عُماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حَفِظَها وحافظ عليها حَفِظ دينه، ومن ضَيعها فهو لما سواها أضيع، ثم كتب أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعًا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، والصبح والنجوم بادية مشتبكة". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1)، وفي "المعرفة" (¬2): أنا أبو أحمد المهرجاني، قال: أنا أبو بكر بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن إبراهيم، قال: ثنا ابن بكير، قال: ثنا مالك، عن نافع: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عماله ... " إلى آخره نحوه. و"العُمَّال" بضم العين وتشديد الميم: جمع عامل، وأراد نوابه في البلاد من الصحابة. قوله: "من حفظها وحافظ عليها" أراد بحفظها إقامتها بشروطها وسننها وأدابها، وأراد بالمحافظة عليها: أدائها في أوقاتها. قوله: "أضيع" أفعل من الضياع، أي أكثر ضياعًا لغيرها. و"الفرسخ" ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع. وأما أثر أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي شيخ البخاري، عن يزيد بن أبي حكيم [العاني] (¬3) قال أبو حاتم: صالح الحديث، عن الحكم بن أبان العدني أبي عيسى، وثقه ابن معين والعجلي، عن عكرمة المدني مولى ابن عباس. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 445 رقم 1935) من طريق أخرى. (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 463 رقم 621). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، ولم أجد من نسبه بهذه النسبة إلا المؤلف -رحمه الله-، وكذا فعل في ترجمته من "مغاني الأخبار"، والذي في ترجمته: الكناني العدني وهو من رجال "التهذيب"، فالله أعلم.

ومما يؤيد ما فعله أبو هريرة: ما رواه الدارقطني (¬1): من حديث عبد الواحد بن نافع: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمرهم بتأخير العصر" فهذا وإن كان ضعيفًا ولكنه يصلح مؤيدًا لما روي عن أبي هريرة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن عمرو بن منبه، عن سوَّار ابن شبيب، عن أبي هريرة: "أنه كان يؤخر العصر حتى أقول: قد اصفرت الشمس". وأما أثر إبراهيم فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو البصري العقدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: "كان من قبلكم أشد تأخيرًا للعصر منكم". وقد وردت آثار كثيرة في تأخير العصر. قال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): أنا معمر، عن أيوب، "عن ابن سيرين وأبي قلابة كانا يمسيان بالعصر". عبد الرزاق (¬5): عن معمر، عن خالد الحذاء، أن الحسن وابن سيرين وأبا قلابة كانوا يمسون بالعصر". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 251 رقم 5). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 288 رقم 3309). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 289 رقم 3312). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 551 رقم 2087). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 551 رقم 2088).

عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد: "أن ابن مسعود كان يؤخر العصر". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن ابن عون، عن أبي عاصم، عن أبي عون: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يؤخر العصر حتى ترتفع الشمس على الحيطان". ثنا (¬3) وكيع، عن إسماعيل، قال: قال لي إبراهيم: "كان يصلى العصر إذا كان الظل واحدًا وعشرين قدمًا في الشتاء والصيف". قوله: "حتى لا يكون تأخيرها" أي تأخير صلاة العصر. قوله: "يُدخل" بضم الياء من الإدخال. قوله: "مُؤَخِّرَها" بالنصب على أنه مفعول "يُدْخِل" أي مؤخر العصر. قوله: "ولقد روي عن أبي قلابة" ذكره تأكيدًا لما قاله من قوله: "لما قد تواترت به الآثار" عن النبي - عليه السلام - وعن أصحابه من بعده يعني بتأخير العصر. أخرج ذلك بإسناد صحيح: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشر، عن خالد بن مهران الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام التابعين، توفي بالشام سنة أربع ومائة. وأخرجه الدارقطني في "سُننه" (¬4): ثنا ابن مخلد، ثنا الحساني، ثنا وكيع، ثنا خارجة بن مصعب، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: "إنما سميت العصر لِتُعْصَر". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 551 رقم 2089). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 288 رقم 3308). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 289 رقم 3317). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 255 رقم 18).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عُلية، عن خالد، عن أبي قلابة، قال: "إنما سميت العصر لتعصر". وأخرج الدارقطني (¬2) أيضًا عن محمَّد بن الحنفية وطاوس فقال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن غيلان، ثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا عمي كثير بن محمَّد، ثنا ابن شبرمة، قال: قال محمَّد بن الحنفية: "إنما سميت العصر لتعصر". حدثنا (¬3) القاضي أبو عمر، ثنا الحسن بن أبي الربيع، ثنا أبو عامر، ثنا إبراهيم ابن نافع، عن مصعب بن محمَّد، عن رجل قال: "أخر طاوس العصر جدًّا فقيل له في ذلك، فقال: إنما سميت العصر لتعصر". انتهى. قلت: معنى قولهم: "لتعصر" أي لتؤخر؛ لأن العصر معناه البطء. قال الكسائي: جاء فلان عَصْرًا أي بطيئًا، قاله الجوهري: والعصر: الحبس، يقال: ما عصرك؟ أي ما حبسك؟ والمعنى على هذا: لتحبس عن أول وقتها، فيكون اسمه يدل على ما هو المقصود من مسماه، كما جاء في الأثر عن جابر - رضي الله عنه -. قال ابن أبي شيبة (¬4): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر قال: "الظهر كاسمها، والعصر والشمس بيضاء حيّة، والمغرب كاسمها كنا نصلي مع رسول الله - عليه السلام - المغرب ثم نأتي منازلنا على قدر ميل فنرى مواقع النبل، وكان يعجل بالعشاء ويؤخر بالفجر كاسمها وكان يغلس بها". ص: فإن احتج محتج بالتبكير بها بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني أبو النجاشي، قال: حدثني رافع بن خديج قال: "كنا نصلي العصر مع النبي - عليه السلام - ثم ننحر الجزور فنقسمه عشر قسم، ثم نطبخ ونأكل لحمًا نضيجًا قبل أن تغيب الشمس". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 289 رقم 3318). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 255 رقم 20). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 255 رقم 21). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 282 رقم 3232).

قيل له: قد يجوز أن يكون كانوا يفعلون ذلك بسرعة عمل، وقد أخرت العصر، فليس في هذا الحديث عندنا حجة على من يرى تأخير العصر، وقد ذكرنا في باب مواقيت الصلاة في حديث بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - عليه السلام - لما سئل عن مواقيت الصلاة "صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة نقيّة، ثم صلاها في اليوم الثاني والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان أخرها في اليوم الأول". فكان قد أخرها في اليومين جميعًا ولم يعجلها في أول وقتها كما فعل في غيرها؛ فثبت بذلك أن وقت العصر الذي ينبغي أن يصلى فيه، هو ما ذهب إليه من ذهب إلى تأخيرها, لا ما ذهب إليه الآخرون. ش: هذا إيراد من الخصم بالحديث المذكور تقريره أن يقال: إنكم ادعيتم استحباب تأخير العصر، وأقمتم عليها براهن وأجبتم عما جاء من الأخبار الدالة على التعجيل بها فما تقولون في حديث رافع بن خديج؟ فإنه أخبر أنهم كانوا يصلون العصر مع النبي - عليه السلام -، ثم ينحرون الإبل ويقسمون لحمه، ثم يطبخون ذلك، ويأكلون لحمًا نضيجًا مستويًا قبل غروب الشمس؛ فهذا أدلّ دليل على استحباب تعجيل العصر؛ لأن نحر الإبل وسلخه وتقسيم لحمه عشر قسم، ثم طبخه نضيجًا والأكل منه يقتضي ساعة مديدة، فلو كان - عليه السلام - يؤخرها لم تلحق هذه الأشياء بعد صلاته قبل غروب الشمس، وهذا معلوم بالعقل. فأجاب الطحاوي بأنه قد يجوز أن يكون فعلهم هذا كله بالسرعة والاستعجال، والحال أن العصر قد أُخِّرت عن أول وقتها، وهذا أيضًا لا ينكر عقلًا، ألا ترى أن من عادة الملوك ومن يحذو حذوهم إذا اشتهوا أنواعًا من الأطعمة على غير العادة فينهض من يتولى أمر طعامهم من الساعة الراهنة ويذبح غنمًا أو بقرًا أو فرسًا أو طيرًا على حسب الاشتهاء فيجهز منها أنواع الأطعمة ويحضرها بين يدي الملك وكل ذلك في وقت يسير جدًا وذلك بمفعول الآلات والغرض وسرعة العمل، والغرض من ذلك أن هذا أمرٌ لا ينكر لا عقلًا ولا عادة.

وجواب آخر أنه يمكن أن يكون ما أخبره رافع بن خديج لأجل عذر عرض في ذلك اليوم، فلذلك يكون - عليه السلام - قد بَكَّر بالعصر، أو يكون ذلك في أيام الصيف؛ لأن أيامها طويلة. وأخرج الحديث المذكور عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن أبي النجاشي واسمه عطاء بن صهيب الأنصاري مولى رافع بن خديج، من رجال الصحيحين. عن رافع بن خديج. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن مهران الرازي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن أبي النجاشي، قال: سمعت رافع بن خديج يقول: "كنا نصلي العصر مع رسول الله - عليه السلام -، ثم تنحر الجزور، فتُقْسَمُ عشر قسم، ثم تطبخ فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مغيب الشمس". حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عيسى بن يونس وشعيب بن إسحاق الدمشقي، قالا: ثنا الأوزاعي بهذا الإسناد غير أنه قال: "كنا ننحر الجزور على عهد رسول الله - عليه السلام - بعد العصر" ولم يقل: كنا نصلي معه. قوله: "الجزور" بفتح الجيم وهو البعير ذكرًا كان أو أنثى إلا أن اللفظة مؤنثة، تقول: هذه الجزور وإن كان مذكرًا، والجمع جزر وجزائر. ويستفاد منه: أن المستحب في الإبل النحر كما ان المستحب في البقر والغنم الذبح، ويستعمل النحر بمعنى الذبح كما في قول جابر - رضي الله عنه -: "نحرنا الفرس على عهد رسول الله - عليه السلام -" (¬2). والفرس لا تنحر، وإنما هو يذبح، والذبح: قطع اللبة والأوداج، والنحر: الطعن في الصدر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 435 رقم 625). (¬2) "البخاري" (5/ 2099 رقم 5191)، و"مسلم" (3/ 154 رقم 1942) من قول أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه -.

قوله: "فثبت بذلك" أي بما قلنا أن وقت العصر الذي ينبغي أن يصل فيه هو ما ذهب إليه من ذهب إلى تأخيرها، وهم من الصحابة: علي وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، ومن التابعين: محمَّد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وطاوس بن كيسان، وأبو حنيفة - رضي الله عنهم -. ومن بعد التابعين: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، وآخرون. قوله: "لا ما ذهب إليه الآخرون" وأراد بهم: عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن أنس وعائشة - رضي الله عنهم -.

ص: باب: رفع اليدين في افتتتاح الصلاة إلى أين يبلغ بهما

ص: باب: رفع اليدين في افتتتاح الصلاة إلى أين يبلغ بهما ش: أي هذا باب في بيان رفع اليدين في أول الصلاة، إلى أين يبلغ بهما وكيف يرفعهما؟ ولما فرغ عن بيان الأوقات بأقسامها وأنواعها شرع في بيان كيفية الشروع في الصلاة، وفي بعض النسخ قال: كتاب الصلاة، ثم قال: باب رفع اليدين، ولا يحتاج إلى ذكر كتاب الصلاة؛ لأنه ذكر مرة على رأس باب الأذان. ص: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان مولى الزرقيين، قال: "دخل علينا أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا". ش: إسناده صحيح، وابن أبي ذئب هو محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب أبو الحارث المدني روى له الجماعة، وسعيد بن سمعان الأنصاري الزرقي المدني مولى بني زريق وثقه النسائي وابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، نا يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدًّا". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: نا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا". وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، قال: ثنا سعيد بن سمعان، قال: "جاء أبو هريرة إلى مسجد بني زريق، فقال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 259 رقم 753). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 6 رقم 240). (¬3) "المجتبى" (2/ 124 رقم 883).

ثلاث كان رسول الله - عليه السلام - يعمل بهن تركهن الناس: كان يرفع يديه في الصلاة مدًّا، ويسكت هنية، ويكبِّر إذا سجد وإذا رفع". قوله: "مدًّا" نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي رفعًا مدًّا، ويجوز أن يكون بمعنى مادًّا، ويكون حالًا من الضمير الذي في "رفع"، والتقدير: حال كونه مادًّا يديه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل يرفع يديه إذا افتتح الصلاة مدًّا، ولم يوقتوا في ذلك شيئًا، واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: العراقيين من أصحاب مالك، وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة، ولم يعينوا في ذلك شيئًا من بلوغ اليدين إلى أين تكون؟ ولكن قالوا: يمدها مدًّا بأن تكون رؤس أصابعهما مما يلي السماء صفة النابذ، وقال سحنون من المالكية: يكونان مبسوطتين، بطونهما مما يلي الأرض، وظهورها مما يلي السماء، وهي صفة الزاهد. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمَّد بن سيرين وابن أبي ذئب وسالم بن عبد الله والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: السُنَّة أن يرفع المصلي يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وقد نقل ذلك عن عمر وابنه وأبي هريرة، وقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه، وفي غيره دون ذلك" (¬1). وقال القاضي عياض: اختلفت الروايات في ذلك؛ ففي رواية: "حتى يحاذي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "السنن" (1/ 256 رقم 742)، ومالك في "الموطأ" (1/ 77 رقم 168)، "مسند الشافعي" (1/ 212 رقم 1023).

منكبيه" وفي أخرى: "حتى يحاذي بهما أذنيه" (¬1) وفي أخرى: "فروع أذنيه" (¬2) وفي أخرى: "فوق أذنيه مدًّا مع رأسه" (¬3)، وفي أخرى: "إلى صدره" (¬4) وبحسب هذه الروايات اختلف العلماء في الاختيار من فعلها، فذهبت عامّة أئمة الفتوى إلى الرواية الأولى، وهي أن يرفعهما حذو منكبيه، وهو أصح قولي مالك وأشهره، والرواية الأخرى عنه إلى صدره، وذهب ابن حبيب إلى رفعهما حذو أذنيه، وقد يجمع بين الأحاديث وبين الروايتين عن مالك بأن يكون بمقابلة أعلى صدره، وكفَّاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعهما مع أذنيه، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا، ونحوه للشافعي إلا ذكر الصدر وهو صفة ما جاء في الحديث. وتجتمع الأحاديث إلا في زيادة الرواية الأخرى: "فوق رأسه". وقال بعضهم: هو على التوسعة، وقال أبو عمر: هذه الروايات كلها مشهورة دالّة على التوسعة، ويقال: يرفعها إلى أن يجاوز رأسه، وهو المنقول عن طاوس أيضًا. وبقي الكلام ها هنا من وجوه: الأول: في نفس رفع اليدين قال ابن المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله - عليه السلام - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وفي "شرح المهذب": أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح ونقله ابن المنذر، ونقل العبدري عن الزيدية: أنه لا يرفع يديه عند الإحرام، ولا يعتد بهم، وفي فتاوى القفال: أن أبا الحسن أحمد ابن سيّار المروزي قال: إذا لم يرفع يديه لم تصح صلاته؛ لأنها واجبة، فوجب الرفع لها، بخلاف باقي التكبيرات لا يجب الرفع؛ لأنها غير واجبة، وقال النووي: وهذا مردود بإجماع من قبله، وقال ابن حزم: رفع اليدين في أول الصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به، وقد روي ذلك عن الأوزاعي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 122 رقم 879). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 293 رقم 391). (¬3) انظر "التمهيد" لابن عبد البر (9/ 229). (¬4) "شرح معاني الآثار" (1/ 196 رقم 1072).

الثاني: في كيفية الرفع، فقال الطحاوي: يرفع ناشرًا أصابعه مستقبلًا بباطن كفيه إلى القبلة كأنه لمح ما في "الأوسط" (¬1) للطبراني: من حديثه عن محمَّد بن حرب، نا [عمير] (¬2) بن عمران، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا استفتتح الصلاة أحدكم، فليرفع يديه وليستقبل بباطنهما القبلة؛ فإن الله -عز وجل- أمامه". وفي "المحيط": "ولا يفرج بين الأصابع تفريجًا". وقال الماوردي: يجعل باطن كل كف إلى الأخرى. وعن سحنون: زهورهما إلى السماء وبطونهما [إلى] (¬3) الأرض. وعن القابسي: يقيمهما مُحْنَيَيْن شيئًا يسيرًا. ونقل المحاملي عن أصحابهم: يستحب تفريق الأصابع. وقال الغزالي: لا يتكلف ضمًّا ولا تفريقًا، بل يتركهما على هيئتهما. وقال الرافعي: يفرق تفريقًا وسطًا. وفي "المغني" لابن قدامة: يستحب أن يمد أصابعه، ويضم بعضها إلى بعض. الثالث: في حكمة الرفع، فقال ابن بطال: رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: حكمته أن يرى الأصم فيعلم دخوله في الصلاة، والتكبير لإسماع الأعمى فيعلم بدخوله في الصلاة. وقيل: استكانة واستسلام، وكان الأسير إذا غُلب مدَّ يديه علامة لا ستسلامه. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (8/ 11 رقم 7801). (¬2) في "الأصل، ك": "محمد" وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الأوسط"، وعمير بن عمران هو الحنفي له ترجمة في "الكامل" لابن عدي (5/ 70) من رواية محمَّد بن حرب عنه، وقال: حدث بالبواطيل عن الثقات، وخاصة عن ابن جريج، وقال: ولعمير ابن عمران غير ما ذكرت ومقدار ما ذكرت مما رواه عن ابن جريج لا يرويها غيره عن ابن جريج، والضعف بيِّن على حديثه. وقال العقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 318): في حديثه وهم وغلط وانظر "لسان الميزان" (4/ 380). (¬3) تكررت في "الأصل، ك".

وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: هو إشارة إلى طرح الدنيا وراءه. الرابع: الرفع مقارن بالتكبير، أم لا؟ ففي "المبسوط": يرفع ثم يكبر، وقال: وعليه أكثر مشايخنا، وقال جواهر زادة: يرفع مقارنًا للتكبير، وبه قال أحمد، وهو المشهور عن مالك. وفي "شرح المهذب": الصحيح أن يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، وهو المنصوص. وقيل: يرفع بلا تكبير، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين. وقيل: يبتدئ يرفع بلا تكبير، ثم يرسلهما بعد فراغ التكبير، وهو مصحح عند البغوي. وقيل: يبتدئ بهما معًا. وقيل: التكبير مع انتهاء الإرسال. وقيل: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء. وهذا مصحح عند الرافعي. وفي شرح "المجمع" قال أبو يوسف: يقارن رفع اليدين مع التكبير. وبه قال الطحاوي وبعض الشافعية، وقال أبو حنيفة ومحمد: يقدم الرفع على التكبير. وهو الذي ذكره صاحب "المبسوط"؛ لأن الرفع إشارة إلى نفي الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثباتها له، والنفي يقدم على الإثبات. الخامس: رفعهما إذا أراد الركوع، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. ص: واحتجوا بذلك بما حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفَضْل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن

علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من رفع اليدين إلى المنكبين بحديث علي - رضي الله عنه -. ورجاله ثقات، لكن متن الحديث قد ضعف لكونه روي من وجه أخر عنه، وليس فيه الرفع غير أول الصلاة على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وعبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسم أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وموسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي الأسدي المدني، روى له الجماعة، وعبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشي المدني روى له الجماعة، وعبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي - عليه السلام -. واسم أبي رافع: أسلم، أو إبراهيم، أو ثابت، أو هرمز، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، ثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -[عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2): "أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا فرغ من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته، وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين يرفع يديه كذلك وكبّر". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 257 رقم 744). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، عن مالك، عن ابن شهاب، فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاثة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، وابن نمير، كلهم عن سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وقبل أن يركع، وإذا قام من الركوع، ولا يرفعهما بين السجدتين". وأبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، نا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع- وقال سفيان مرة: وأذا رفع رأسه. وأكثر ما كان يقول: وبعدما يرفع رأسه، ولا يرفع بين السجدتين". والترمذي (¬3): ثنا قتيبة وابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" وزاد ابن أبي عمر في حديثه: "وكان لا يرفع بين السجدتين". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 292 رقم 390). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 249 رقم 721). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 35 رقم 255).

وابن ماجه (¬1): ثنا علي بن [محمَّد] (¬2) وهشام بن عمار وأبو عمر الضرير، قالوا: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتل يحاذي منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين". الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3): من طريق الشافعي، عن مالك ... إلى آخره. ثم قال: ورواه بشر بن عمر وغيره عن مالك. قلت: هذا الحديث رواه أناس عن مالك. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬4): عن محمَّد بن مقاتل، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 279 رقم 858). (¬2) في "الأصل، ك": "مسهر" وهو تحريف، والمثبت من "سنن ابن ماجه"، و"تحفة الأشراف" (5/ 369 رقم 6816). وعلي هذا هو ابن محمَّد الطنافسي. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 68 رقم 2331). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 258 رقم 703).

وأخرجه النسائي (¬1): عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس ... إلى آخره نحو رواية البخاري وبقيَّة الجماعة قد ذكرناهم. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن جابر قال: "رأيت سالم بن عبد الله حين افتتح الصلاة رفع يديه حَذْو منكبيه، فسألته عن ذلك، فقال: رأيت ابن عمر يفعل ذلك، فقال ابن عمر: رأيت النبي - عليه السلام - يفعل ذلك". ش: هذا وجه آخر له، عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة الجذري الرهاوي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن سالم ... " إلى آخره. وهؤلاء ثقات غير أن جابرًا فيه مقال فضعفه يحيى وأبو حاتم، ووثقه آخرون. وأخرجه البيهقي: من حديث محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أنا أبو حمزة، عن سليمان الشيباني، قال: "رأيت سالم بن عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه، فلما ركع رفع يديه، فلما رفع رأسه رفع يديه، فسألته فقال: رأيت ابن عمر يفعله، فقال: رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعله". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة قال: قال أبو حميد: "نا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، قالوا: لِمَ؟ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة؟ فقال: بلى، قالوا: فأعرض، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، قال: فقالوا جميعًا: صدقت، هكذا كان يصلي". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّار القاضي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 121 رقم 877).

واسم أبي عاصم الضحاك بن مخلد. وأخرجه أبو داود (¬1) مطولًا: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد. ونا مسدّد، نا يحيى -وهذا حديث أحمد- أنا عبد الحميد -يعني ابن جعفر- قال: أخبرني محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، قالوا: فَلِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة؟ قال: إلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلًا، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بههما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركًا على شقه الأيسر. قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي". وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا: ثنا محمَّد بن بشار ومحمد بن المثني، قالا: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: نا عبد الحميد بن جعفر، قال: نا محمَّد بن عمرو بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 252 رقم 730). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 105 رقم 304).

عطاء، عن أبي حميد الساعدي، قال: سمعته -وهو في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة بن ربعي- يقول: "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -. قالوا: ما كنت أقدمنا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانًا، قال: بلى، قالوا: فأعرض، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر ويركع، ثم اعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه واعتدل حتى يرجع كل عضو في موضعه معتدلًا، ثم هوى إلى الأرض ساجدًا، ثم قال: الله أكبر، ثم جافى عضديه عن إبطيه، وفتح أصابع رجليه، ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلًا، ثم هوى ساجدًا ثم قال: الله أكبر ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك، حتى كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخّر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركًا، ثم سلم". قال: أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه البخاري مختصرًا (¬1): ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث، عن خالد، عن سعيد، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء. ونا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمَّد، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو بن عطاء: "أنه كان جالسًا مع نفرٍ من أصحاب النبي - عليه السلام - فذكرنا صلاة النبي - عليه السلام -، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - عليه السلام -؛ رأيته إذا كبّر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 284 رقم 794).

سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته". قوله: "في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أي بين عشرة، وكلمة "في" تجيء بمعنى بين كما في قوله تعالى،: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (¬1) أي بين عبادي، ومحلها النصب على الحال، أي سمعته حال كونه جالسًا بين عشرة أنفس من الصحابة منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي. قوله: "لِمْ" بتسكين الميم، ومعناه لم تقول هذا القول؟ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة أي اتباعًا، والتبعة -بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الباء- اسم للاتباع، وكذلك التبعة -بضم التاء وسكون الباء، والتباعة بالفتح، وانتصابها على التمييز، وكذلك صحبةً. قوله: "حتى يَقَرّ" من القرار من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ والمعنى حتى يستقر كل عظم في موضعه ويثبت. قوله: "فلا ينصب رأسه" يعني فلا يميلها إلى أسفل، وفي بعض الرواية: "فلا ينصب" من الانصباب. قوله: "ولا يقنع" من الإقناع، يعني لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره. قوله: "ثم يهوي" أي ينزل، ومصدره هُوىً. قوله: "فيجافي" أي يباعد. قوله: "ويثني رجله" من ثنيت الشيء ثَنْيًا إذا عطفته. قوله: "ويفتح" بالخاء المعجمة، أي يضم أصابع رجليه ويغمز موضع المفاصل منها ويثنيها إلى باطن الرجل، فيوجهها نحو القبلة. ¬

_ (¬1) سورة الفجر، آية: [29].

قوله: "متوركًا" حال من الضمير الذي من "قعد" والتورك أن يجلس على إليتيه، وينصب رجله اليمنى، ويخرج اليسرى من تحتها. قوله: "ثم هصر ظهره" بتخفيف الصاد المهملة، أي ثناه وعطفه للركوع، وأصل الهصر: الكسر، وقد هصره واهتصره بمعنى. قوله: "كل فَقَار" بفتح الفاء ثم القاف وفَقَار الظهر خزاته، والواحدة منها فقارة. ص: أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: الرفع في التكبير في افتتاح الصلاة يبلغ به المنكبان ولا يُجاوزان، واحتجوا في ذلك بهله الآثار، فكان ما في حديث أبي هريرة عندنا غير مخالف لهذا؛ لأنه إنما ذكر فيه أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًّا، فليس في ذلك ذكر المنتهى بذلك المد إليه أيُّ موضع هو؟ قد يجوز أن يكون يبلغ به حذاء المنكبين، وقد يحتمل أيضًا أن يكون ذلك الرفع قبل الصلاة للدعاء، ثم يكبر للصلاة بعد ذلك ويرفع يديه حلاء منكبيه، فيكون حديث أبي هريرة على رفع عند القيام للصلاة للدعاء، وحديث علي وابن عمر على الرفع بعد ذلك عند افتتاح الصلاة؛ حتى لا تتضاد هذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء من ذكرناهم عند قوله: "وخالفهم في ذلك آخرون". فإن قلت: أليس هذا بتكرار؟ قلت: لا؛ لأن المذكور عند قوله: "وخالفهم في ذلك آخرون" هو قوله: "ينبغي له أن يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه" وسكت عن المجاوزة عن المنكبين وبَيَّنَ ها هنا أن مذهب هؤلاء هو الاقتصار على محاذاة المنكبين، ولا يجاوزان عليهما، والمجاوزة عنهما هو مذهب مخالفيهم على ما يجيء. قوله: "يُبْلغ" على صيغة المجهول، و"المنكبان" مفعوله ناب عن الفاعل. وكذا قوله: "ولا يُجاوزان" على صيغة المجهول، وفي بعض النسخ "يبلغ به المنكبين" فيبلغ على صيغة المعلوم، وفاعله "المصلي" والمنكبين مفعوله. قوله: "فكان ما في حديث أبي هريرة ... " إلى آخره إشارة إلى وجه التوفيق بين

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكور في أول الباب الذي احتجت به طائفة فقالوا: ينبغي للمصلي أن يرفع يديه مدًّا ولم يعينوا فيه شيئًا، وبين حديثي علي وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - الذين احتج بهما طائفة، فقالوا: يرفع يديه إلى منكبيه ولا يجاوزهما عنهما، فكل من الطائفتين عمل بحديث وترك حديثًا، وأشار الطحاوي إلى أن العمل بالحديثين أولى من العمل بأحدهما وإهمال الآخر، وذلك بالتوفيق بينهما، ووجهه أن يقال: إن في حديث أبي هريرة لم يبين موضع المدِّ، فيجوز أن يكون المراد به أن يبلغ إلى المنكبين، فيكون أحد الحديثين كالتفسير للآخر ولا يكون بينهما تضاد، أو يحمل كل منهما على معنىً، وهو أن حديث أبي هريرة يحمل على رفع يدٍ عند القيام إلى الصلاة لأجل الدعاء وهو معنى قوله: "على رفعٍ عند القيام للصلاة للدعاء" فاللام في الصلاة تتعلق بالقيام، واللام في الدعاء تتعلق برفع، وحديث علي وابن عمر يحمل على رفع يديه مرة أخرى للشروع في الصلاة، فيكون معنى كل من الحديثين في محل غير محل الآخر، فلا يقع بينهما تضاد، لاختلاف المحلين. فافهم. ص: وخالف في ذلك آخرون، فقالوا: ترفع الأيدي في افتتاح الصلاة حتى يحاذى بهما الأذنان. ش: أي خالف الحكم المذكور جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبا ميسرة ووهب بن منبه وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- وجماعة من المالكية؛ فإنهم قالوا: ترفع الأيدي في افتتاح الصلاة حتى يحاذي بهما الأذنان، وروي ذلك عن البراء بن عازب ومالك بن الحويرث ووائل بن حجر وأبي حميد الساعدي وأبي جعفر وأبي إسحاق وآخرين. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكر، قال: أنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "كان النبي - عليه السلام - إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه".

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث البراء بن عازب. ومؤمل بن إسماعيل القرشي أبو عبد الرحمن البصري، احتج به الأربعة واستشهد به البخاري. وسفيان هو الثوري. ويزيد بن أبي زياد القرشي أبو عبد الله الكوفي فيه مقال، فعن أحمد: لم يكن بالحافظ. وعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف الحديث. وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وغيره أحب إلى منه. قلت: هو احتج به، وكذلك احتج به النسائي (¬1)، والترمذي، وابن ماجه، وروى له مسلم مقرونًا بغيره. وابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار الأنصاري أبو عيسى الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمَّد بن الصباح البزاز، قال: نا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود". انتهى. وفيه دلالة صريحة أن النبي - عليه السلام - كان يرفع يديه إذا كبر لافتتاح الصلاة حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه، ودلت رواية أبي داود على أن رفع اليدين عند الافتتاح فقط. فإن قيل: هذا الحديث ضعفوه، فكيف استدل به الطحاوي للحنفية؟ ¬

_ (¬1) مجرد ذكر أصحاب السنن الأربعة أو أحدهم الراوي في كتبهم لا يعدُّ احتجاجًا منهم به، بل ذكروا في كتبهم كثيرًا من الضعفاء والهلكى، ومَن ضعفوهم في كتبهم الأخرى. والله أعلم. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 258 رقم 749).

قلت: تضعيفهم إياه إما لنفس يزيد بن أبي زياد وإما لانفراد شريك في رواية أبي داود بزيادة قوله: "ثم لا يعود" فإن كان لنفس يزيد بن أبي زياد حيث نقلوا عن أحمد ويحيى وغيرهما أنه ضعيف كما قلنا، فقد عارض ذلك قول غيرهم، فقال يعقوب بن سفيان الفسوي: يزيد وإن كان قد تكلم فيه لتغيره فهو على العدالة والثقة، وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور والأعمش؛ فهو مقبول القول عدل ثقة، وقال أبو داود: ثبت لا أعلم أحدًا ترك حديثه وغيره أحبّ إليّ منه. وقال ابن سعد: كان ثقة في نفسه إلَّا أنه في آخر عمره اختلط. ولما ذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" قال: قال أحمد بن صالح: يزيد ثقة، ولا يعجبني قول من تكلم فيه، وخرج ابن خزيمة حديثه في "صحيحه" وقال: صدوق، وكذا قاله ابن حبان، وذكره مسلم فيمن شمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم وخرج حديثه في "صحيحه"، واستشهد به البخاري، والطحاوي أيضًا رضي به، ولو لم يكن عنده ثقة لما احتج به لما ذهب إليه أصحابه. وإن كان لانفراد شريك بهذه الزيادة، فسيجيء الكلام فيه مستقصى في باب التكبير للركوع والتكبير للسجود؛ لأن الطحاوي: أخرج هذا الحديث هناك أيضًا على منوال رواية أبي داود. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - حين يكبر للصلاة يرفع يديه حيال أذنيه". حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، قال: ثنا يوسف ابن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم بن كليب ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكَّار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

عن أبيه كليب بن شهاب الجرمي الكوفي، وثقه ابن حبان وأبو زرعة وابن سعد، وروى له الأربعة. عن وائل بن حجر -بالحاء ثم الجيم- الحضرمي أبي هنيدة الكندي الصحابي. وأخرجه الطبراني (¬1): نحوه من حديث سفيان، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل قال: "رأيت النبي - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي أذنيه ... " الحديث، رواه عن بشر بن موسى، عن الحميدي، عن سفيان. وأخرجه الدارقطني (¬2): من حديث جرير، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه إلى أذنيه". رواه عن الحسين بن إسماعيل، عن يوسف بن موسى، عن جرير، عن عاصم به. وأخرجه مسلم (¬3): من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه: "أنه رأى النبي - عليه السلام - رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر -وصف همام- حيال أذنيه ... " الحديث، رواه عن زهير، عن عفان، عن همام، عن محمَّد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة به. وأخرجه أبو داود (¬4): عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - عليه السلام - كيف يصلي؟ قال: فقام رسول الله - عليه السلام - فاستقبل القبلة فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه ... " الحديث. وأخرجه النسائي (¬5): أنا محمَّد بن رافع، قال: ثنا محمَّد بن بشر، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 36 رقم 85). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 292 رقم 14). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 301 رقم 401). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 315 رقم 957). (¬5) "المجتبى" (2/ 123 رقم 882).

فطر بن خليفة، عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه: "أنه رأى النبي - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تكاد إبهاماه تحاذي شحمة أذنيه". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن عاصم بن كليب، عن أبيه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، ثنا أبو الأحوص، ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام -، فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله - عليه السلام -، فلما افتتح الصلاة كبَّر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما كبَّر للركوع رفع يديه أيضًا كما رفعهما لتكبير الصلاة، فلما ركع وضع كفيه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفع يديه أيضًا، فلما قعد يتشهد افترش رجله اليسرى بالأرض ثم قعد عليها، فوضع كله الأيسر على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى". ص: حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث، عن رسول الله - عليه السلام -، مثله إلَّا أنه قال: "حتى يحاذي بهما فوق أذنيه". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو كامل الجحدري، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبَّر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، فإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 34 رقم 80). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 293 رقم 391).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث، قال: "رأيت النبي - عليه السلام - يرفع يديه إذا كبَّر وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه". وأخرجه النسائي (¬2): أنا علي بن حجر، قال: أنا إسماعيل، عن سعيد، عن قتادة، عن نصر بن عاصم الليثي، عن مالك بن الحويرث، قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يرفع يديه إذا كبَّر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع حتى بلغتا فروع أذنيه". ص: حدثنا أبو الحسين الأصبهاني، قال: ثنا هشام بن عمار، قال: ثنا إسماعيل ابن عياش، قال: ثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عيسى بن عبد الرحمن العدوي، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد الساعدي: "أنه كان يقول لأصحاب النبي - عليه السلام -: أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام -؛ كان إذا قام إلى الصلاة كبَّر ورفع يديه حذاء وجهه". ش: أبو الحسن هو محمَّد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، وهشام بن عمار ابن نصير أبو الوليد السلمي الدمشقي شيخ البخاري، وإسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف، والشين المعجمة- بن سليم الشامي الحمصي، أحد من روى عن أبي حنينة وأكثر، قال الفسوي: ثقة عدل. وقال دحيم: هو في الشاميين غاية وخلَّط عن المدنيين، وقال يحيى: ثقة. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وروى له الأربعة. وعتبة بن أبي حكيم الهمداني أبو العباس الشامي الأزدي الطبراني، قال يحيى: ثقة. وعنه: ضعيف. وقال أبو حاتم: صالح لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 257 رقم 745). (¬2) "المجتبى" (2/ 182 رقم 1024).

وعيسى بن عبد الرحمن، الأصح أنه عيسى بن عبد الله بن مالك الدار مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال ابن المديني: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له أبو داود وابن ماجه والنسائي في "اليوم والليلة". والعباس بن سهل بن سعد الأنصاري الساعدي المدني روى له الجماعة سوى النسائي. وأبو حميد الساعدي الأنصاري قيل: اسمه عبد الرحمن وقيل: المنذر بن سعد. ونسبته إلى بني ساعدة قوم من الخزرج ولهم سقيفة بني ساعدة وهي بمنزلة دارهم. والحديث أخرجه أبو داود (¬1) مطولًا: عن أحمد بن حنبل، عن عبد الملك بن عمرو، عن فليح، عن عباس بن سهل ... إلى آخره، وفيه: قال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام - ... " الحديث. ثم قال (¬2): ثنا عمرو بن عثمان، خبَّرنا بقية، قال: حدثني عتبة، قال: حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد ... إلى آخره. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما اختلفت هذه الآثار عن رسول الله - عليه السلام - التي فيها بيان الرفع إلى أي موضع هو، في الموضع الذي انتهى به، وخَرَّجَ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي بدأنا بذكره أن يكون مضادًا لها؛ أردنا أن ننظر أي هذين المعنيين أولى أن يقال به؟ فإذا فهد بن سليمان قد حدثنا، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته يرفع حذاء أذنيه إذا كبّر وإذا رفع وإذا سجد، فذكر من هذا ما شاء الله، قال: ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدره". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 253 رقم 734). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 253 رقم 735).

فأخبر وائل بن حجر في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت حينئذٍ في ثيابهم، وأخبر أنهم كانوا يرفعون إذا كانت أيديهم ليست في ثيابهم إلى حذو آذانهم، فأعلمنا روايتيه كلتيهما، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان في الثياب لعلة البرد إلى منتهى ما استطاع الرفع إليه وهو المنكبان، وإذا كانتا باديتين رفعهما إلى الأذنين كما فعل النبي - عليه السلام -، ولم يجز أن يحمل حديث ابن عمر وما أشبهه مما فيه ذكر رفع اليدين إلى المنكبين كان ذلك واليدان باديتان إذ كان قد يجوز أن يكونا كانتا في الثياب، فيكون ذلك مخالفًا لما روى وائل بن حجرة فيتضاد الحديثان، ولكنا نجعلهما على الاتفاق فنجعل حديث ابن عمر على أن ذلك كان من النبي - عليه السلام - ويداه في ثوبه -على ما حكى وائل في حديثه- ونجعل ما رواه وائل عن النبي - عليه السلام - لأ أنه فعله في غير حال البرد من رفعه يديه إلى أذنيه، فيستحب القول به وترك خلافه. وأما ما رويناه عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - في ذلك فهو خطأ، وسنبين ذلك في باب رفع اليدين في الركوع إن شاء الله تعالى. فثبت بتصحيح هذه الآثار ما روى وائل عن النبي - عليه السلام - على ما فصلنا مما فعل في حال البرد وفي غير حال البرد، وهو قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد بن الحسن - رضي الله عنه -. ش: ملخصه: أن الأحاديث في هذا الباب رويت على ثلاثة أنواع وبينها تضاد ظاهرًا وهي حديث أبي هريرة الذي فيه رفع اليدين مدًّا، وحديث علي وابن عمر - رضي الله عنهم - الذي فيه رفعهما حذو منكبيه، وحديث البراء ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث - رضي الله عنه - الذي فيه رفعهما إلى الأذنين، وقد بين فيما مضى أن حديث أبي هريرة غير مخالف لحديث ابن عمر، وبقي الكلام بين حديث ابن عمر، وحديث وائل، ومن روى مثله فينبغي أن يُنظر بينهما ويُوفق؛ دفعًا للتضاد، ورفعًا للخلاف بينهما؛ فنظرنا فوجدنا شريك بن عبد الله النخعي القاضي روى عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل ... الحديث، فأخبر وائل فيه أن رفعهم أيديهم إلى مناكبهم إنما كان

لكونها في ثيابهم، وأخبر في حديثه الآخر أنهم كانوا يرفعونها إلى حذو آذانهم إذا لم تكن في ثياب، فحملنا الرفع إلى مناكبهم فيما جاء من الأحاديث على حالة كون الأيدي في الثياب، والرفع إلى آذانهم فيما جاء أيضًا من الأحاديث على حالة كون الأيدي بادية أي ظاهرة، فبذلك يحصل الاتفاق بين الحديثين، ويرفع التضاد، وهذا هو الأصل في تصحيح معاني الآثار. قوله: "فأعلمنا" من الإعلام أي أعلمنا وائل بن حجر روايتيه المتقدمتين. قوله: "باديتين" أي ظاهرتين مكشوفتين. قوله: "كان ذلك واليدان باديتان" الواو في "واليدان" للحال، وهذا تركيب قلق ولابد من التقدير فيه وهو: أن الأصل "أنْ كان ذلك". وأنْ مصدرية، والتقدير لم يجز أن يحمل حديث ابن عمر وما أشبهه مما فيه رفع اليدين إلى المنكبين على كون ذلك والحال أن اليدين باديتان. قوله: "إذ كان قد يجوز" وكلمة "إذا" للتعليل. قوله: "فيكون ذلك" عطف على قوله: "أن يحمل". فافهم. ثم إسناد حديث شريك هذه صحيح. وأخرجه أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي - عليه السلام - حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه، قال: ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانس وأكسية". انتهى. قوله: "الأكسية" جمع كساء. و"البرانس" جمع بُرْنُس -بضم الباء الموحدة وبعد الراء الساكنة نون مضمومة ثم سين مهملة -وهو كل ثوب له رأس ملتزق به، دراعة كانت أو جبة أو غير ذلك، كان يلبسه العباد وأهل الخير، وهو عربي اشتق من "البِرْنس" بكسر الباء وسكون الراء، وهو القطن، والنون زائدة وقيل: إنه غير عربي.

وقال الجوهري: البُرْنُس قلنسوة طويلة، وكان النساك في صدر الإِسلام يلبسونها، وفي "المطالع": قال ابن دريد: البرنس -بضم الباء- نوع من الطيالسة، يلبسه العباد وأهل الخير.

ص: باب: ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام

ص: باب: ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام ش: أي هذا باب في بيان ما يستحب أن يقول المصلي بعد تكبيرة الافتتاح من الأدعية المأثورة، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا أبو ظفر عبد السلام بن مطهر، قال: ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلَّا الله ثلاثًا، ثم يقول: الله أكبر كبيرًا ثلاثًا، أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا جعفر بن سليمان ... فذكر مثله بإسناده غير أنه لم يقل: "ثم يقرأ". ش: هذان طريقان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي ظفر عبد السلام ... إلى آخره. وعبد السلام هذا شيخ البخاري وأبي داود، قال أبو حاتم: صدوق. وجعفر بن سليمان الضبعي أبو سليمان البصري، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح، وكان ينزل في بني ضبيعة فنسب إليهم. وعلي بن علي بن نجاد بن رفاعة الرفاعي اليشكري أبو إسماعيل البصري، قال أبو زرعة ويحيى: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وروى له الأربعة. وأبو المتوكل اسمه علي بن داود، وقيل: دواد، روى له الجماعة، والناجي -بالنون والجيم- نسبة إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد السلام بن مطهر، ثنا جعفر، عن علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه الترمذي (¬2): عن محمد بن موسى البصري، عن جعفر بن سليمان الضبعي ... إلى آخره نحوه، غير أنه ليس في روايته: "ثم يقول: لا إله إلَّا الله- ثلاثًا" وقوله: "ثم يقرأ". الثاني: عن فهد، عن الحسن بن الربيع بن سليمان البجلي، قال: أحمد بن عبد الله كوفي ثقة، رجل صالح. وهو شيخ الجماعة. عن جعفر بن سليمان ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان ... إلى آخره، واقتصر على: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا جعفر بن سليمان ... إلى آخره نحو رواية النسائي. فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: صحيح؛ لأن رجاله ثقات. فإن قلت: تكلم فيه يحيى بن سعيد من جهة علي بن علي، وقال الترمذي: قال أحمد: لا يصح هذا الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 265 رقم 775). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 9 رقم 242). (¬3) "المجتبى" (2/ 132 رقم 899). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 210 رقم 2410).

قلت: سكوت أبي داود يدل على صحته عنده (¬1)، وعلي بن علي وثقه جماعة كما ذكرنا، فإذا لا مانع لصحته. قوله: "سبحانك اللهم" أي أنزهك يا الله، "وسبحان" علم للتسبيح، كعثمان علم للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره: أسبح الله سبحانك، بمعنى أسبح تسبيحك، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فَسَدَّ مسدَّه ومعنى التسبيح: التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحب والنقائص وسمات الحدث مطلقًا. قوله: "وبحمدك" معطوف على محذوف تقديره: وأحمدك بحمدك، أو تقديره بحمدك سبحتك، ووفقت لذلك. قوله: "وتبارك" تفاعل من البركة وهي الكثرة والاتساع، وتبارك أي بارك، مثل قاتل وتقاتل إلَّا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى، ومعناه كثرت بركته في السماوات والأرض؛ إذ به تقوم وبه تستنزل الخيرات، وأوَّلهُ بعضُ أهل التحقيق على أن باسمه تنال البركة والزيادة، ونفى أن يتأول في وصفه معنى الزيادة لأنه ينبئ عن النقصان. قوله: "وتعالى جدك" أي علا وارتفع عظمتك، والجدُّ: العظمة، وينبغي أن تُمدَّ "لام" "تعالى" مدًّا ظاهرًا، وقد سمعت بعض مشايخي: أنه لو قصرها في الصلاة تفسد صلاته. قوله: "من همزه" وهمزه ما يوسوس به، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (¬2) وهمزاته خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان، وهي جمع المرة من الهمزة. ¬

_ (¬1) سكوت أبي داود على الحديث لا يدل على صحته كما هو معلوم عند علماء أصول الحديث، فقد قال أبو داود: ما فيه ضعف شديد بَيَّنْتُه، وما سكتُّ عنه فهو صالح. فيؤخذ من هذا أن ما فيه ضعف غير شديد يسكت عنه، وقد سكت على آحاديث كثيرة ضعيفة وواهية والله أعلم. (¬2) سورة المؤمنون، آية: [97].

وقد فسره في بعض روايات الحديث الذي أخرجه أبو داود (¬1)، وغيره (¬2) في الأدعية قال: "نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة" والموتة -بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوق-: الجنون؛ وسماه همزًا لأنه جعل من النخس والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته. قوله: "ونفخه" بالخاء المعجمة، وهو الكبير كما قلنا، وهو كناية عما يسوله الإنسان من الاستكبار والخيلاء، فيتعاظم في نفسه، كالذي نفخ فيه، ولهذا قال - عليه السلام - للذي رآه قد استطار غضبًا: "نفخ فيه الشيطان". قوله: "ونفثه" أي نفث الشيطان، وهو الشعرث إنما سمي النفث شعرًا لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه كالرقية، ويقال: المراد منه السحر، وهذا أشبه؛ لما شهد له التنزيل قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (¬3). فإن قيل: ما موقع قوله: "من همزه ونفخه ونفثه" مما قبله؟ قلت: الظاهر أنه بدل اشتمال من الشيطان الرجيم، فافهم. ص: حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف التجيبي، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو معاوية، عن حارثة بن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، ثم يكبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحسن بن ربيع، قال: ثنا أبو معاوية ... فذكر مثله بإسناده. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 262 رقم 764). (¬2) وأخرجه أحمد في "مسنده" أيضًا (4/ 80 رقم 16785، 16786)، (4/ 82 رقم 16806)، وغيره من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 84 رقم 2581)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 17 رقم 29123) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) سورة الفلق، آية: [4].

ش: هذان طريقان: أحدهما: عن مالك بن عبد الله بن سيف بن شهاب التجيبي، ونسبته إلى تجيب -بضم التاء المثناة من فوق، وكسر الجيم، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره باء موحدة- بطن من كندة بن ثور. عن علي بن معبد بن شداد العبدي، وثقه أبو حاتم. عن أبي معاوية الضرير واسمه محمَّد بن خازم -بالمعجمتين- روول له الجماعة. عن حارثة بن محمَّد بن عبد الرحمن وهو حارثة بن أبي الرجال الأنصاري المدني، فيه مقال، فعن أحمد: ليس بشيء. وعن يحيى: ليس بثقة. وعنه: ضعيف. وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وروى له الترمذي وابن ماجه. عن عمرة بنت عبد الرحمن، وهي جدة حارثة بن محمَّد المذكور، ثقة تابعية، روى لها الجماعة. وأخرجه الترمزي (¬1): ثنا الحسن بن عرفة، ويحيى بن موسى قالا: ثنا أبو معاوية، عن حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم ... إلى آخره". وأخرجه أبو داود (¬2): من حديث أبي الجوزاء، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم ... " إلى آخره، رواه عن حسين بن عيسى، عن طلق بن غنام، عن عبد السلام بن حرب الملائي، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء به. وأبو الجوزاء -بالجيم، والزاي المعجمة- اسمه أوس بن عبد الله الربعي البصري. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 11 رقم 243). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 265 رقم 776).

الثاني: عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن الحسن بن ربيع بن سليمان البجلي، عن أبي معاوية ... إلى آخره. وأخرء ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد وعبد الله بن عمران، قالا: ثنا أبو معاوية، نا حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم ... " إلى آخره. فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحارثة قد تكلم فيه من قِبَل حفظه. وقال أبو داود: هذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب، لم يروه إلا طلق بن غنام، وقد روول قصة الصلاة [جماعة عن بديل] (¬2) لم يذكروا فيه شيئًا من هذا. وقد أخرج الحكم في "مستدركه" (¬3): هذا الحديث بالإسنادين جميعًا -أعني بإسناد الطحاوي والترمذي، وبإسناد أبي داود- وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ولا أحفظ في قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك، في الصلاة أصح من هذا الحديث، وقد صح عن عمر بن الخطاب أنه كان يقوله. ثم أخرجه (¬4): عن الأعمش، عن الأسود، عن عمر. قال: وقد أسند بعضهم عن عمر ولا يصح عن عمر. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 265 رقم 806). (¬2) في "الأصل، ك": جماعة غير واحد عن بديل، والذي في "سنن أبي داود" (1/ 265 رقم 776): عن بديل جماعة. (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 360 رقم 859). (¬4) "مستدرك الحاكم" (1/ 361 رقم 860).

وأخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1): عن عبدة -وهو ابن أبي لبابة-: "أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". وقال المنذري: وعبدة لا يعرف له سماع من عمر، وإنما سمع من ابنه عبد الله، ولقال: إنه رأى رؤية. وقال صاحب "التنقيح" وإنما أخرجه مسلم في "صحيحه"؛ لأنه سمعه مع غيره. وقال الدارقطني في كتاب "العلل" (¬2): وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن حميد بن أبي [غنية] (¬3) عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن عمر، عن النبي - عليه السلام -، وخالفه إبراهيم النخعي، فرواه عن الأسود، عن عمر قوله، وهو الصحيح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يقول هذا أيضًا إذا افتتح الصلاة: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن عمرو بن ميمون قال: "صلى بنا عمر - رضي الله عنه - بذي الحليفة، فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووهب، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم ... فذكر بإسناده مثله، وزاد: "ولا إله غيرك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر، مثله. غير أنه لم يقل: "بذي الحليفة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 299 رقم 399). (¬2) "علل الدارقطني" (2/ 141 رقم 165). (¬3) في "الأصل، ك": "عتبة" وهو تحريف، والمثبت من "علل الدارقطني" ومصادر ترجمته.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن بكر البرساني، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عمر، مثله وزاد: "يُسمع من يليه". حدثنا أبو بكرة، قال: أنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر، مثله. حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن علقمة والأسود: "أنهما سمعا عمر - رضي الله عنه - كبر فرفع صوته، ثم قال مثل ذلك؛ ليتعلموها". ش: هذه ستة طرق كلها موقوفة صحاح ورجالها ثقات. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي المخضرم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1) كما ذكرناه عن قريب. وكلما أخرجه مسلم (1) بغير هذا الطريق كما مرَّ آنفًا. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عمرو بن ميمون قال: "صلى بنا عمر - رضي الله عنه - بذي الحليفة، فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك -وزاد أبو بكرة في روايتيه-: ولا إله غيرك". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): بهذه الزيادة، عن غندر، عن شعبة، عن الحكم ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) تقدم عن قريب. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 210 رقم 2400).

الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر بن الخطاب، مثل المذكور وليس فيه ذكر ذي الحليفة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر: "أنه قال حين استفتح الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمَّد بن بكر بن عثمان البرساني شيخ أحمد، روى له الجماعة، ونسبته إلى برسان -بضم الباء الوحدة، وسكون الراء- وهي قبيلة من الأزد. عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري. عن أبي معشر زياد بن كليب التميمي الكوفي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة ابن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، كلاهما عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن هشيم، عن حصين، عن أبي وائل، عن الأسود بن يزيد قال: "رأيت عمر بن الخطاب افتتح الصلاة فكبر، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك ... " إلى آخره. "يسمعنا". الخامس: عن أبي بكرة بكار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عمر. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "كان عمر - رضي الله عنه - حين افتتح الصلاة كبَّر، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 209 رقم 2395). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 208 رقم 2387). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 34 رقم 2180).

السادس: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي ... " إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "كان عمر - رضي الله عنه - إذا افتتح الصلاة رفع صوته يسمعنا يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". وأخرج محمَّد في "آثاره" (¬2): عن أبي حنيفة، [عن حماد] (¬3)، عن إبراهيم: "أن ناسًا من أهل البصرة أَتَوْا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يأتوه إلا ليسألوه عن افتتاح الصلاة، قال: فقام فافتتح الصلاة وهم خلفه، ثم جهر فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". قال محمَّد: وبه نأخذ في افتتاح الصلاة، ولكنا لا نرى أن يجهر بذلك الإِمام ولا من خلفه، وإنما جهر عمر - رضي الله عنه - ليعلمهم ما سألوه عنه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "كان عمر - رضي الله عنه - إذا افتتح الصلاة كبر، ثم قال: سبحانك اللهم ... -إلى آخره- يجهر بهن، قال: وقال: كان إبراهيم لا يجهر بهن". وهذا كما رأيت قد أخرجه الطحاوي، عن ثلاثة من الصحابة: عن أبي سعيد الخدري، وعائشة مرفوعًا، وعن عمر بن الخطاب موقوفًا. وأخرجه الدارقطني (¬5): عنه أيضًا مرفوعًا، ثم قال: الموقوف أصح. وقال الترمذي (¬6): روي عن عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 210 رقم 2404). (¬2) "الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 96 رقم 71). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "الآثار". (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 209 رقم 2388). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 299 رقم 6). (¬6) "جامع الترمذي" (2/ 9).

قلت: روي أيضًا عن واثلة، وأنس بن مالك، والحكم بن عمير الثمالي. فحديث عبد الله عند الطبراني (¬1): نا محمَّد بن عبد الله الحضرمي، نا أبو كريب، نا فردوس الأشعري، نا مسعود بن سليمان، قال: سمعت الحكم (¬2) يحدث، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك ... " إلى آخره. وحديث واثلة عند الطبراني (¬3) أيضًا: عن مكحول، عن واثلة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول إذا افتتح الصلاة ... " نحوه سواء. وحديث أنس عند الدارقطني في "سننه" (¬4): نا أبو محمَّد بن صاعد، نا الحسن ابن علي بن الأسود، نا محمَّد بن الصلت، نا أبو خالد الأحمر، عن حميد، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة كبر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ثم قال: رجال إسناده كلهم ثقات. وأخرجه الطبراني في كتابه المفرد في "الدعاء" (¬5)، فقال: ثنا أبو عقيل أنس بن مسلم الخولاني، ثنا أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى، نا مخلد بن يزيد، عن عائذ بن شريح، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة يكبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ورواه من طريق آخر (¬6) عن أنس نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 108 رقم 10117). (¬2) في "الأصل، ك": الحاكم، والمثبت من "المعجم الكبير" للطبراني والحكم هذا هو ابن عتيبة. (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 64 رقم 155). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 300 رقم 12). (¬5) "الدعاء" (1/ 173 رقم 505). (¬6) "الدعاء" (1/ 173 رقم 506).

وحديث الحكم بن عمير الثمالي عند الطبراني (¬1): ثنا محمَّد بن إدريس المصيصي والحسين بن إسحاق التستري، قالا: ثنا أحمد بن النعمان الفراء المصيصي، ثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير الثمالي قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا: إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم ولا تخالف آذانكم، ثم قولوا: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وإن لم تزيدوا على التكبير أجزأكم". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: هكذا ينبغي للمصلي أن يقول إذا افتتح الصلاة، ولا يزيد على هذا شيئًا غير التعوذ، إن كان إمامًا أو مصليًا لنفسه. وممن قال ذلك: أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي والثوري وعلقمة والأسود وإسحاق ابن راهويه وأحمد؛ فإنهم قالوا: ينبغي للمصلي أن يقول إذا افتتح الصلاة: سبحانك اللهم ... إلى آخره، ولا يزيد عليه شيئًا غير التعوذ، سواء كان إمامًا أو منفردًا، وهو معنى قوله: "إن كان إمامًا أو مصليًا لنفسه". وهذا يشعر بأنه إذا كان مأمومًا لا يقولها، وقال صاحب "البدائع": ثم يقول: سبحانك اللهم ... " إلى آخره، سواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا، هكذا ذكر في ظاهر الرواية. وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يقولها المؤتم أي لا يقرأ المأموم: وجهت وجهي، وسبحانك اللهم؛ لأن فيها أشياء من القرآن، وقد نهى - عليه السلام - أن يقرأ خلف الإِمام إلا بأم القرآن فقط، فإن دعى بعد قراءة الإِمام [في] (¬2) حال سكتة الإِمام بما روي عن النبي - عليه السلام - فحسن. قوله: "وممن قال ذلك" أي قول ما قاله القوم المذكورون: الإِمام أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 218 رقم 3190). (¬2) تكررت في "الأصل".

وهو قول محمَّد أيضًا, ولم يذكره مع أبي حنيفة ولا مع أبي يوسف، والمذكور في كتب أصحابنا: أن محمدًا مع أبي حنيفة في هذه المسألة، وقالا: يستحب للمصلي أن يقول: سبحانك اللهم ... إلى آخره، ولا يزيد عليه، سواء كان إمامًا أو منفردًا، وما روي من الأدعية غير هذا فمحمول على الصلوات النافلة. وقال ابن قدامة: العمل بالأدعية الطويلة متروك؛ فإنا لا نعلم أحدًا يستفتح بالأدعية الطويلة كلها، وإنما يستفتحون بسبحانك اللهم وبحمدك ... إلى آخره، أو بوجهت وجهي ... إلى آخره، وروي عن الشافعي أنه يأتي بالأذكار التي رويت في هذا الباب ولا يزكها, ولا شيئًا منها سواء كان في الفريضة أو في النافلة، والمنقول من المزني: أنه يقول: وجهت وجهي -إلى قوله- من المسلمين. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ينبغي له أن يزيد بعد هذا أو يقول قبله ما قد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - فذكروا ما قد حدثنا الحسين بن نصر بن المعارك البغدادي، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عمه، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء قال: نا عبد العزيز بن أبي سلمة (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي وعبد الله بن صالح، قالا: ثنا عبد العزيز ابن الماجشون، عن الماجشون وعبد الله بن الفضل، عن الأعرج فذكر بإسناده مثله. وحدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، فذكر بإسناده مثله.

قالوا: فلما جاءت الرواية بهذا وبما قبله استحببنا أن يقولهما المصلي جميعًا. وممن قال بهذا: أبو يوسف -رحمه الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان وجماعة الظاهرية؛ فإنهم قالوا: ينبغي له -أي للمصلي- أن يزيد بعد هذا -أي بعد سبحانك اللهم ... إلى آخره، أو يقول قبله- ما قد روي عن علي - رضي الله عنه - وهو: "وجهت وجهي ... " إلى آخره، وهو الذي اختاره الطحاوي، وأبو إسحاق المروزي، وأبو حامد من أصحاب الشافعي. وقال الشافعي: يستفتح بما روي عن علي - رضي الله عنه - وقال في "سنن حرملة": وخالفنا بعض الناس في الافتتاح، فقال: افتتح النبي - عليه السلام - بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ورواه عن بعض أصحاب النبي - عليه السلام -. وقال مالك: إذا كبر وفرغ من التكبير يقرأ: الحمد لله رب العالمين. وقال ابن حزم في "المحلى": وقال مالك: لا أعرف التوجه، قال علي: ليس من لا يعرف حجة على من يعرف، وقد احتج بعض مقلديه في معارضة ما ذكرنا لما روي عن رسول الله - عليه السلام -: "كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين" وقال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو قولنا؛ لأن استفتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين لا يدخل فيه التوجه؛ لأنه ليس التوجه قراءة، وإنما هو ذكر، فصح أنه - عليه السلام - كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ثم يذكر ما قد صح عنه من الذكر، ثم يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين وزيادة العدول لا يجوز ردها. ثم إنه أخرج حديث علي - رضي الله عنه - من أربع طرق صحاح: الأول: عن الحسن بن نصر بن المعارك البغدادي، قال ابن يونس: ثقة ثبت. عن يحيى بن حسان التنيسي أبي زكرياء البصري، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

عن عبد العزيز بن أبي سلمة وهو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، واسم أبي سلمة ميمون، ويقال: دينار، المدني أبي عبد الله الفقيه، روى له الجماعة. عن عمه يعقوب بن أبي سلمة، أبي يوسف المدني، أخي عبد الله بن أبي سلمة، روى له الجماعة غير البخاري، والماجشون لقب يعقوب المذكور، لقبته بذلك سكينة بنت الحسين بن علي - رضي الله عنه - وجرى هذا اللقب على أهل بيته من بنيه وبني أخيه، وكان يلقى الناس فيقول: جوني جوني، وشوني شوني، فلقب بالماجشون، ويقال: كانت وجنتاه حمراوين، فسمي بالفارسية بالماه كون، فعربه أهل المدينة فقالوا: الماجشون. وهو يروي عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. عن عبيد الله بن أبي رافع أسلم -أو إبراهيم- مولى النبي - عليه السلام -، وقد تكرر ذكره، روى له الجماعة. عن علي بن أبي طالب. وأخرجه الجماعة غير البخاري مطولًا ومختصرًا. فقال مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن أبي بكر المقدمي، قال: ثنا يوسف الماجشون، قال: حدثني أبي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلَّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلَّا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 534 رقم 771).

وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومُخِّي وعظمي وعصبي. وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة البصري، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن الماجشون وهو يعقوب بن أبي سلمة عمّ عبد العزيز، وعن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب القرشي المدني، كلاهما عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا أبو سعيد، نا عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون، ثنا عبد الله بن الفضل ويعقوب بن أبي سلمة الماجشون، كلاهما عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر استفتح ثم قال: وجهت وجهي -إلى قوله-: تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". نحو رواية المسلم. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن محمَّد الوهبي الكندي، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، كلاهما عن عبد العزيز بن الماجشون وهو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن الماجشون وهو عمه يعقوب بن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 94 رقم 729).

أبي سلمة، وعن عبد الله بن الفضل، كلاهما عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): ثنا حُمام بن أحمد، نا عباس بن أصبع، نا محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، نا أحمد بن زهير بن حرب، حدثني أبي، ثنا عبد الرحمن ابن مهدي، نا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، حدثني عمي- هو يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا كبّر استفتح ثم قال: وجهت ... " إلى آخره نحو رواية أحمد. الرابع: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا يوسف بن سعيد، ثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض -إلى قوله-: أستغفرك وأتوب إليك". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن إبراهيم بن محمَّد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر، ورفع يديه حذو منكبيه، ثم قال: ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 95). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 297 رقم 2). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" [2/ 79 رقم 2567].

{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} (¬1) الآية وآيتين بعدها إلى المسلمين، ثم يقول: اللهم أنت الملك ... " إلى آخره. قوله: "وجهت" أي قصدت بعبادتي الذي فطر السماوات والأرض أي خلقهما، وقيل: معناه أخلصت ديني وعملي. قوله: "حنيفًا" أي مستقيمًا مخلصًا، وقال أبو عُبيد: الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم - عليه السلام -، ويقال: معناه مائلًا إلى الدين الحق وهو الإِسلام، وأصل الحنف الميل، ويكون في الخير والشر، ومنه يصرف إلى ما تقتضيه القرينة، والنسبة إليه: حنيفي، وأما الحنفي بلا ياء فهو الذي ينسب إلى أبي حنيفة في مذهبه، حذف ها هنا الياء ليكون فرقًا بينهما، وانتصابه على أنه حال من الضمير الذي في: "وجهت" أي حال كوني في الحنيفية. قوله: "مسلمًا" حال أيضًا, وليس هذا في رواية مسلم وأبي داود. قوله: "وما أنا من المشركين" بيان للحنيفية وإيضاح لمعناه، والمشرك يطلق على كل كافر من عابد وثن وصنم، ويهودي، ونصراني، ومجوسي، ومرتد، وزنديق وغيرهم. قوله: "إن صلاتي" يعني عبادتي، و"نسكى" يعني تقربي كله، وقيل: وذبحي، وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬2) وقيل: صلاتي وحجي. وأصل النسك: العبادة، من النسيكة وهي الفضة المذابة المصفاة من كل خلط، والنسيكة أيضًا كل ما يتقرب به إلى الله -عز وجل-. قوله: "ومحياي ومماتي" أي وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالصة لوجهه لا شريك له، وبذلك الإخلاص أمرت في الكتاب، وأنا أول المسلمين. ¬

_ (¬1) الأنعام، آية: [162، 163]. (¬2) الكوثر، آية: [2].

ويقال: "ومحياي ومماتي" أي حياتي وموتي، ويجوز فتح الياء فيهما وإسكانها، والأكثرون على فتح "ياء" محياي وإسكان "ياء" مماتي، والسلام في "لله" لام الإضافة، ولها معنيان: الملك، والاختصاص، وكلاهما مراد ها هنا، والرب: المالك والسيد والمربي والمصلح، فإن وصف الله برب لأنه مالك وسيد، فهو من صفات الذات، وإن وصف به لأنه مدبر خلقه ومربيهم ومصلح لأحوالهم؛ فهو من صفات فعله، ومتى دخلته الألف واللام اختص بالله تعالى، وإذا حذفتا جاز إطلاقه على غيره فيقال: رب المال، ورب الدار، ونحو ذلك. و"العالمون" جمع عَالَم، وليس للعَالَم واحد من لفظه، والعَالَم اسم لما سوى الله تعالى، ويقال: الملائكة والجن والإنس، وزاد أبو عُبيدة: والشياطين، وقيل: بنو آدم خاصة، وقيل: الدنيا وما فيها. ثم هو مشتق من العلامة لأن كل مخلوق علامة على وجود صانعه. وقيل: من العِلْم فعك هذا يختص بالعقلاء، وذكر ابن مالك: أن العالمين اسم جمع لمن يعقل، وليس جمع عالم لأن العالم عامّ والعالمين خاص، ولهذا منع أن يكون الأعراب جمع عرب لأن العرب للحاضرين والبادين، والأعراب خاص بالبادين، وقال الزمخشري: إنما جمع ليشمل كل جنس مما سمي به. فإن قلت: فهو اسم غير صفة، وإنما يجمع بالواو والنون صفات العقلاء، أو ما في حكمها من الأعلام. قلت: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم فيه. قوله: "وأنا أول المسلمين" أي من هذه الأمة قاله قتادة، أو في هذا الزمان قاله الكلبي، أو بروحي قد كنت، كقوله - عليه السلام -: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين" (¬1) وفي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (5/ 585 رقم 3609)، وأحمد (4/ 66 رقم 16674) بلفظ "وآدم بين الروح والجسد". =

رواية مسلم: "وأنا من المسلمين" بلا "أول". قوله: "قالوا: فلما جاءت الرواية بهذا وبما قبله" أي قال الجماعة الآخرون: لما جاءت الرواية بهذا الدعاء الطويل وهو: "وجهت ... " إلى آخره وبما قبله وهو "سبحانك اللهم، وبحمدك ... " إلى آخره استحببنا أن يقولهما المصلي جميعًا، يعني يجمع بينهما، وقال النووي: وفي هذا الحديث استحباب دعاء الافتتاح في كل الصلوات حتى في النافلة، وهو مذهبنا ومذهب الأكثرين إلَّا أن يكون إمامًا لقوم لا يؤثرون فيها التطويل. وقال ابن الجوزي: كان ذلك في ابتداء الأمر أو في النافلة. وقال الكاساني من أصحابنا: تأويل ذلك أنه كان يقول ذلك في التطوعات والأمر فيها أوسع، وأما الفرائض فلا يزاد فيها على ما اشتهر فيه الذكر، وهو قوله: "سبحانك اللهم ... " إلى آخره، أو كان ذلك في الابتداء ثم نسخ بالآية، وهي قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (¬1) ذكر الجصاص عن الضحاك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه قول المصلي عند الافتتاح: سبحانك اللهم وبحمدك". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم قال: أنا جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (1) قال: "حين تقوم إلى الصلاة تقول هؤلاء الكلمات: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ¬

_ = قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (2/ 238): وأما قوله: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، فإنه لم يكن بين الماء والطين؛ إذ الطين ماء وتراب، ولكن لما خلق جسد آدم قبل نفخ الروح فيه كتب نبوة محمَّد وقدرها. وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (1/ 521): وأما الذي على الألسنة بلفظ "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين" فلم نقف عليه بهذا اللفظ، فضلًا عن زيادة "وكنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين". (¬1) سورة الطور، آية: [48]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 210 رقم 2402).

قلت: وبهذا سقط سؤال من يقول: كيف قلتم: هذا محمول على النافلة وفي رواية الدارقطني (¬1) وعبد الرزاق (3) قد صرح أنه - عليه السلام - إنما قال ذلك في المكتوبة على ما مرَّ عن قريب، وقال الكاساني: قال أبو يوسف في "الإملاء": يقول مع التسبيح: إني وجهت وجهي ... إلى آخره، ويقول: وأنا من المسلمين، ولا يقول: وأنا أول المسلمين؛ لأنه كذب، وهل تفسد صلاته إذا قال ذلك؟ قال بعضهم: تفسد؛ لأنه أدخل الكذب في الصلاة. وقال بعضهم: لا تفسد لأنه من القرآن. ثم عن أبي يوسف روايتان: في رواية: يقدم التسبيح عليه، وفي رواية: هو بالخيار إن شاء قدم وإن شاء أخر، وهو أحد قولي الشافعي، وفي قول: يفتتح بقوله: وجهت لا بالتسبيح. قلت: أصح مذهب أبي يوسف أن يجمع بينهما، فلذلك قال الطحاوي: "وممن قال بهذا أبو يوسف" أي ممن قال بالجمع بين وجهت والتسبيح: الإِمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري: وهو اختيار الطحاوي أيضًا على ما ذكرنا، وبه أعمل إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: باب: قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة

ص: باب: قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة ش: أي هذا باب في بيان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة كيف هي؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن البسملة في الصلاة بعد قراءة سبحانك اللهم ... إلى آخره، والطحاوي لم يذكر أحكام التعوذ مع أن محله بين قراءة سبحانك اللهم، وبن البسملة؛ لأنه ليس فيه خلاف بين الأئمة الثلاثة أعني أبا حنيفة والشافعي وأحمد، فإنه عندهم سُنَّة، وأما مالك فإنه لا يرى شيئًا من التسبيح والتعوذ والتسمية، بل عنده لما يكبر يشرع بقراءة أم القرآن، وعند الظاهرية التعوذ فرض. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): فرض على كل مصلي أن يقول إذا قرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لابدَّ له في كل ركعة من ذلك؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2). ثم قال: يجب التعوذ بعموم الآية عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها. ثم قال: وروينا (¬3) من طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين: "أنه كان يتعوذ من الشيطان في الصلاة قبل أن يقرأ بأم القرآن، وبعد أن يقرأ أم القرآن". وعن ابن جريج عن عطاء قال: "الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها" وبالتعوذ في الصلاة يقول سفيان الثوري والأوزاعي وداود وغيرهم. قلت: قول ابن حزم مخالف لإجماع السلف؛ لأنهم أجمعوا على أن التعوذ سُنَّة والأمر في الآية ليس للوجوب، ثم اختلف القراء في صفة التعوذ؛ فاختيار ¬

_ (¬1) "المحلى" (3/ 247). (¬2) سورة النحل، آية: [98]. (¬3) "المحلى" (3/ 250).

ابن عمرو وعاصم وابن كثير: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واختيار نافع وابن عامر والكسائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العلم، واختيار حمزة الزيات: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وهو قول ابن سيرين، وبكل ذلك ورد الأثر، وإنما يتعوذ المصلي في نفسه إمامًا كان أو منفردًا؛ لأن الجهر بالتعوذ لم ينقل عن النبي - عليه السلام -، والذي روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جهر بالتعوذ (¬1). تأويله: أنه كان وقع اتفاقًا لا قصدًا، أو كان ليعلم السامعين أن المصلي ينبغي له أن يتعوذ، كما نقل عنه الجهر بثناء الافتتاح فيما قدمنا. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم قال: "أربع يخفيهن الإِمام: بسم الله الرحمن الرحيم، والاستعاذة، وأمين, وإذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: ربنا لك الحمد". عبد الرزاق (¬3): عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: "خمس يخفيهن الإِمام: سبحانك اللهم وبحمدك، والتعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، واللهم ربنا لك الحمد". ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا الليث بن سعد، قال: أخبرني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن المُجْمر، قال: "صليت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن، فلما بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬4) قال: آمين. فقال الناس: آمين، ثم يقول إذا سلم: أما والذي نفسي بيده، أني لأشبهكم صلاة برسول الله - عليه السلام -". ش: سعيد بن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الجمحي أبو محمَّد المصري شيخ البخاري. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 214 رقم 2456). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 87 رقم 2596). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 87 رقم 2597). (¬4) سورة الفاتحة، آية: [7].

وخالد بن يزيد المصري أبو عبد الرحيم الإسكندراني، روى له الجماعة. وسعيد بن أبي هلال أبو العلاء المصري، روى له الجماعة. ونعيم بن المجمر هو نعيم بن عبد الله مولى آل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمي المجمر لأنه كان يجمر المسجد، والمجمر صفة لعبد الله -على الصحيح- وبه جزم ابن حبان، وتدل عليه رواية الطحاوي: نعيم بن المجمر، ويقال: صفة لنعيم، فعل هذا يقال: نعيم المجمر، وقد وقع هكذا في بعض الروايات وقال النووي: ويطلق على ابنه مجازًا، وروى له الجماعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أبي وشعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر أنه قال: "صليت وراء أبي هريرة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬2) قال: آمين، وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من اثنتين قال: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - عليه السلام -". وأخرجه ابن خزيمة، (¬3) وابن حبان (¬4) في "صحيحيهما"، والحكم في "مستدركه" (¬5) وقال: إنه على فرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬6) وقال: إسناد صحيح وله شواهد. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 305 رقم 14). (¬2) سورة الفاتحة، آية: [7]. (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 251 رقم 499). (¬4) "صحيح ابن حبان" (5/ 100 رقم 1797). (¬5) "مستدرك الحاكم" (1/ 357 رقم 849). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 46 رقم 2223).

وقال في "الخلافيات": رواته كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في "الصحيح". وسيجيء الجواب عن هذا كله إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي في بيتها: فيقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (¬1). ش: عمر بن حفص شيخ البخاري، وأبوه حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي القاضي أحد أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه - روى له الجماعة. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي روى له الجماعة. وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي أبو بكر المكي الأحول، روى له الجماعة. وأم سلمة زوج النبي - عليه السلام -، واسمها هند بنت أبي أمية حكى. وأخرجه أبو داود في كتاب "الحروف" (¬2): ثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا أبي، قال: نا ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة "ذكرت -أو كلمة غيرها- قراءة رسول الله - عليه السلام -: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} يقطع قراءته آية آية". وأخرجه أحمد (¬3): ثنا يحيى بن سعيد الأموي ... إلى آخره نحوه: "أنها سئلت عن قراءة رسول الله - عليه السلام -، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 433 رقم 4001). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 302 رقم 26625).

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (1). وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا محمَّد بن القاسم بن زكرياء، ثنا عبَّاد بن يعقوب، ثنا عمر بن هارون. وثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا إبراهيم بن هانئ، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، ثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} يقطعها آية آية، وعدّها عند الإعراب، وعدَّ بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم تعد عليهم". ورواه الحكم أيضًا (¬2): من طريق عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعدها آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثلاث آيات ... " إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عُبيد القاسم بن سلام، نا يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقطع قراءته: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 305 رقم 14). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 356 رقم 848). (¬3) "المعجم الكبير" (23/ 278 رقم 603).

وأخرجه البيهقي (¬1): أنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنا علي بن عمر الحافظ، قال: ثنا محمَّد بن القاسم بن زكرياء، قال: ثنا عباد بن يعقوب، قال: ثنا عمر بن هارون، (ح). قال: وثنا علي، قال: ثنا عبد الله بن عبد العزيز، قال: ثنا إبراهيم بن هانئ، قال: ثنا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: ثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج ... إلى آخره نحو رواية الدارقطني. وروى البيهقي أيضًا (¬2): عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس الأصم، عن محمَّد بن إسحاق الصغاني، عن خالد بن خراش، عن عمر بن هارون، بإسناده هذا: "أن النبي - عليه السلام - قرأ في الصلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعدها آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثلاث آيات {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أربع آيات وقال: هكذا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وجمع خمس أصابعه". وقال البيهقي في كتاب"المعرفة" (¬3): قال البويطي في كتابه: أخبرني غير واحد، عن حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة زوج النبي - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام -كان إذا قرأ بأم القرآن بدأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعدها آية ثم قرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعدها ست آيات". ص: فذهب قوم إلى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من فاتحة الكتاب وأنه ينبغي للمصلي أن يقرأ بها كما يقرأ بفاتحة الكتاب، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء ومجاهدًا وطاوسًا والشافعي وأحمد في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى أن البسملة من الفاتحة، وأنها يجهر بها كما يجهر بالفاتحة حيث ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 45 رقم 2217). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 44 رقم 2214). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 510).

تجهر، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وأم سلمة، وقال الترمذي: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - منهم أبو هريرة وابن عمر وابن الزبير ومَن بعدهم من التابعين رأوا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعي. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن أصحاب النبي - عليه السلام -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان أبي يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما روي عن بعض الصحابة، منهم: عمر - رضي الله عنه -. أخرج أثره عن أبي بكرة بكّار، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي روى له الجماعة، عن عمر بن ذر الهمداني المُرهبي أبي ذر الكوفي، قال يحيى والنسائي والدارقطني: ثقة. وعن أبي داود: كان رأسًا في الإرجاء. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان مرجئًا، لا يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم. عن أبيه ذر بن عبد الله بن زرارة أبي عمر الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن عبد الرحمن روى له الجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن أَبزَى الخزاعي، مختلف في صحبته، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا خالد بن مخلد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزَى، عن أبيه: "أن عمر - رضي الله عنه - جهر ببسم الله الرحمن الرحيم". وأخرجه البيهقي أيضًا في "الخلافيات". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 362 رقم 4157).

والجواب عنه أنه مخالف للصحيح الثابت عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يجهر، كما رواه أنس، فإن ثبت هذا عن عمر - رضي الله عنه - فيحمل على أنه فعله مرة أو بعض أحيان؛ لأجل التعليم أنها من سنن الصلاة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن عاصم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه جهر بها". ش: رجاله ثقات. وعاصم هو ابن بهدلة أبو بكر المقرئ. وأخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬1): أنا أبو عبد الله الحافظ، قال: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، قال: ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أنا عبد الوهاب ابن عطاء، قال: أنا سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". وأخرجه الدارقطني (¬2) مرفوعًا: ثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن مبشر، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا معتمر بن سليمان، ثنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن أبي خالد، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم". والجواب عنه أنه معارض بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬4): عن الثوري، نحوه. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 521 رقم 720). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 304 رقم 8). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 361 رقم 4143). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 89 رقم 2605).

وجواب آخر: أن قوله: "جهر بها" لا يدل على أنه جهر بها وهو في الصلاة، فلا يتم به الدليل، وكذلك قوله: "إنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم" لا يدل صريحًا على أنه كان في الصلاة، وأما رواية الدارقطني فهي ضعيفة. فقال الأزدي: تكلموا في إسماعيل بن أبي حماد. ولئن سلمنا أنها صحيحة ولكنها لا تدل على أنه كان يجهر بها فلا يتم الدليل. فإن قيل: روى الدارقطني (¬1) أيضًا: عن أبي الصلت الهروي واسمه عبد السلام ابن صالح، ثنا عباد بن العوام، ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان النبي - عليه السلام - يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم". قلت: هذا أضعف من الأول؛ فإن أبا الصلت متروك، قال أبو حاتم: ليس بصدوق عندي. وقال الدارقطني: رافضيٌّ خبيث. فإن قيل: رواه الحكم في "المستدرك" (¬2): عن عبد الله بن عمرو بن حسان، ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". قال الحكم: إسناده صحيح وليس له علة. قلت: غير صحيح ولا صريح، أما كونه غير صريح فلأنه ليس فيه أنه في الصلاة، وأما كونه غير صحيح فإن عبد الله بن عمرو بن حسان كان يضع الحديث، قاله إمام الصنعة علي بن المديني. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بشيء، كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبات. فانظر إلى تساهل الحاكم واستهتاره في هذا لأجل إقامة الحجة لما ادعاه. فإن قيل: روى البزار في "مسنده" (¬3): عن المعتمر بن سليمان، ثنا إسماعيل، ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 303 رقم 6). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 326 رقم 750). (¬3) قال الهيثمي في "مجمع "الزوائد" (2/ 281 رقم 2633): رواه البزار، ورجاله موثقون.

عن أبي خالد، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة". قلت: هذا هو الحديث الذي أخرجه الدارقطني الذي ذكرناه الآن. وأخرجه أبو داود، (¬1) والترمذي (¬2) بهذا الإسناد كلهم قالوا فيه: "كان يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم". وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك. وقال أبو داود: حديث ضعيف. ورواه العقيلي في كتابه (¬3) وأعله بإسماعيل هذا، وقال: حديثه غير محفوظ، ويرويه عن مجهول، ولا يصح في الجهر بالبسملة حديث مسند. ورواه ابن عدي (¬4) وقال: حديث غير محفوظ، وأبو خالد مجهول. وقال البزار: وإسماعيل لم يكن بالقوي في الحديث. وله طريق أخر عند الدارقطني (¬5): عن عمر بن حفص المكي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - لم يزل يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم حتى قبض". قلت: هذا لا يجوز الاحتجاج به؛ فإن عمر بن حفص ضعيف، قال ابن الجوزي في "التحقيق": أجمعوا على ترك حديثه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم قبل السورة، وبعدها إذا قرأ بسورة أخرى في الصلاة". ¬

_ (¬1) وكذا عزاه إلى أبي داود المزي في "التحفة" (5/ 265)، وقال: حديث "د" في رواية أبي الطيب الأشناني، ولم يذكره أبو القاسم. (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 14 رقم 245). (¬3) "الضعفاء" للعقيلي (1/ 80). (¬4) "الكامل في الضعفاء" (1/ 311). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 304 رقم 9).

ش: أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم، يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬2): أنا أبو زكرياء، وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن والسورة التي بعدها". والجواب عنه أنه كان لا يدعها سرًّا, وليس فيه دليل صريح على أنه كان يجهر بها، والحمل على أنه كان يُسرُّ بها أولى لاستفاضة النقل وتواتر الأخبار عن النبي - عليه السلام - وعن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا لا يجهرون بها. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، قال: ثنا يزيد الفقير، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". ش: أبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن قطاف. وقيل: عبد الله بن معاوية بن قطاف. وقيل: وهب ابن قطاف. وقيل: معاوية بن قطاف. قال أحمد ويحيى وأبو داود: ثقة. وروى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. ويزيد الفقير هو يزيد بن صهيب الفقير أبو عثمان الكوفي روى له الجماعة سوى الترمذي. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 90 رقم 2608). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 520 رقم 717).

وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬1) وغيره: أنا أبو محمَّد الحسن بن علي بن المؤمل، قال: ثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري، قال: ثنا محمَّد بن عبد الوهاب، قال: أنا يعلى بن عُبيد، قال: نا مسعر، عن يزيد الفقير: "أنه سمع ابن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم". والجواب عنه ما ذكرناه الآن. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو زيد الهروي، قال: ثنا شعبة عن الأزرق بن قيس، قال: "صليت خلف ابن الزبير - رضي الله عنه - فسمعته يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} بسم الله الرحمن الرحيم". ش: أبو زيد اسمه سعيد بن الربيع الحرشي العامري وكان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها روى له الجماعة. والأزرق بن قيس الحارثي روى له البخاري وأبو داود والنسائي. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن الأزرق بن قيس، قال: "سمعت ابن الزبير - رضي الله عنه - قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ الحمد لله رب العالمين، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3). الجواب عنه: أن ابن عبد اللهادي قال: إسناده صحيح، ولكنه يحمل على الإعلام، فإن قراءتها سنة فإن الخلفاء الراشدين كانوا يسرون بها، فظن كثير من الناس أن قراءتها بدعة، فجهر بها من جهر بها من الصحابة ليعلموا الناس أن قراءتها سنة لا أنه فعلها دائمًا وقد ذكر ابن المنذر عن ابن الزبير ترك الجهر. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 520 رقم 718). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 361 رقم 4154). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 192 رقم 2881).

وكذا يجاب عما أخرجه الخطيب (¬1): عن محمَّد بن أبي السري، عن المعتمر، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني قال: "صليت خلف عبد الله بن الزبير، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: ما يمنع أمراؤكم أن يجهروا بها إلَّا الكبر". ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس: " {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (¬2) قال: فاتحة الكتاب ثم قرأ ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: هي الآية السابعة، قال: وقرأ عَلَيّ سعيد بن جبير كما قرأ عليه ابن عباس". ش: أبو عاصم النبيل الضحاك مخلد، وابن جريج هو عبد الملك، وأبوه عبد العزيز بن جريج، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. ووثقه ابن حبان قال: وروى عن عائشة ولم يسمع منها. وروى له الأربعة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3) بأتم منه: عن ابن جريج، قال: أخبرني أبي، أن سعيد بن جبير أخبره، أن ابن عباس قال: " {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (2) وأم القرآن، وقرأها عليَّ سعيدٌ كما قرأتها عليك، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال ابن عباس: قد أخرجها الله لكم فما أخرجها لأحدٍ قبلكم. قال عبد الرزاق: قرأها علينا ابن جريج {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخرها آية". ¬

_ (¬1) انظر "نصب الراية" (1/ 265). (¬2) سورة الحجر، آية: [87]. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 90 رقم 2609).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -في السبع المثاني- قال: هي فاتحة الكتاب، قرأها ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم، سبعًا، قلت لأبي: أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من كتاب الله؟ قال: نعم، ثم قال: قرأها ابن عباس في الركعتين جميعًا". والجواب عنه أن في إسناده عبد العزيز بن جريج والد عبد الملك، وقد قال البخاري: حديثه لا يتابع عليه، ولئن سلمنا أن حديثه يتابع عليه سيعارضه ما يدل على خلافه، وهو حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت". رواه الطحاوي كما يجيء، ومسلم (¬2) أيضًا؛ وهذا دليل صريح على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ إذ لو كانت منها لقرأها في الثانية مع الفاتحة. وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي لأهل هذه المقالة حديثين عن أبي هريرة وأم سلمة، وآثارًا عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنه - وقد أخرج غيره أيضًا أحاديث مرفوعة عن أبي هريرة أيضًا وعلي وعمار والنعمان بن بشير والحكم بن عمير وأنس ومعاوية - رضي الله عنهم -. أما حديث أبي هريرة فأخرجه الخطيب (¬3): عن أبي أويس -واسمه عبد الله ابن أويس- قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا أَمَّ الناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 47 رقم 2228). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 419 رقم 599). (¬3) انظر "نصب الراية" (1/ 261)، ومنه ينقل المؤلف رحمه الله كثيرًا ولا يعزوه إليه.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"، (¬1) وابن عدي في "الكامل" (¬2) فقالا فيه: "قرأ" عوض "جهر". والجواب عنه: أن هذا غير محتج به؛ لأن أبا أويس لا يحتج بما انفرد به، وكيف إذا انفرد بشيء وخالفه فيه من هو أوثق منه مع أنه متكلم فيه؟! فوثقه جماعة وضعفه آخرون، وممن ضعفه: أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم الرازي، وممن وثقه: الدارقطني وأبو زرعة، وقال ابن عدي: يكتب حديثه. فإن قيل: أبو أويس قد أخرج له مسلم في "صحيحه". قلت: صاحبا "الصحيح" إذا أخرجا لمن تُكُلِّم فيه إنما يخرجان بعد انتقائهما من حديثه ما توبع عليه وظهرت شواهده وعلم أن له أصلًا, ولا يخرجان ما تفرد به سيما إذا خالفه الثقات، وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على "الصحيحين" فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلًا الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المستدرك"؛ فإنه يقول: هذا على شرط الشيخين أو أحدهما؛ وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجًّا به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث كان يكون ذلك الحديث على شرطه، ولهذا قال ابن دحية في كتابه "العلم المشهور": ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط، ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك. والمقصود أن حديث أبي أويس هذا لم يترك لكلام الناس فيه، بل لتفرده به ومخالفة الثقات له، وعدم إخراج أصحاب المسانيد والكتب المشهورة والسنن المعروفة. ولرواية مسلم الحديث في "صحيحه" (¬3) من طريقه وليس فيه ذكر البسملة. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 306 رقم 17). (¬2) "الكامل في الضعفاء" (4/ 183). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 296 رقم 395).

فإن قيل: قد جاء من طريق آخر أخرجه الدارقطني (¬1): عن خالد بن إلياس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "علمني جبريل - عليه السلام - الصلاة، فقام فكبر لنا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر به في كل ركعة". قلت: هذا إسناد ساقط؛ فإن خالد بن إلياس مجمع على ضعفه، قال البخاري: عن أحمد أنه منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال ابن حبان: روى الموضوعات عن الثقات. وقال الحاكم: روول عن المقبري ومحمد بن المنكدر وهشام بن عروة أحاديث موضوعة. فإن قيل: قد جاء آخر رواه الدارقطني (¬2) أيضًا: عن جعفر بن مكرم، نا أبو بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد بن جعفر، أخبرني نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا قرأتم الحمد فاقرءوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إحدى آياتها". قلت: قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحًا فحدثني عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مثله، ولم يرفعه. فإن قيل: قال عبد الحق في "أحكامه الكبرى": رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر وهو ثقة؛ وثقه ابن معين. قلت: كان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه، ولئن سلمنا رفعه فليس فيه دلالة على الجهر، ولئن سُلِّم فالصواب فيه الوقف كما قال الدارقطني: اختلف فيه على ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 307 رقم 18). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 312 رقم 36).

نوح بن أبي بلال، فرواه عبد الحميد عنه واختلف عنه، فرواه المعافى بن عمران، عن عبد الحميد، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا. ورواه أسامة بن زيد وأبو بكر الحنفي، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة موقوفًا، وهو الصواب. فإن قيل: هذا موقوف في حكم المرفوع؛ إذ لا يقول الصحابي: إن البسملة إحدى آيات الفاتحة إلَّا عن توقيف أو دليل قوي ظهر له وحينئذٍ يكون له حكم سائر آيات الفاتحة من الجهر والإسرار. قلت: لعل أبا هريرة سمع النبي - عليه السلام - يقرأها فظنها من الفاتحة، فقال: إنها إحدى آياتها، ونحن لا ننكر أنها من القرآن، ولكن النزاع في موضعين: أحدهما: أنها آية مستقلة قبل السورة وليست منها؛ جمعًا بين الأدلة، وأبو هريرة لم يخبر عن النبي - عليه السلام - أنه قال: هي إحدى آياتها، وقراءتها قبل الفاتحة لا تدل على ذلك، وإذا جاز أن يكون مستند أبي هريرة قراءة النبي - عليه السلام - لها، وقد ظهر أن ذلك ليس بدليل على محل النزاع، فلا يعارض به أدلتنا الصحيحة الثابتة، وأيضًا فالمحفوظ الثابت عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة كما رواه البخاري في "صحيحه" (¬1): من حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم". ورواه أبو داود، (¬2) والترمذي (¬3) وقال: حسن صحيح. على أن عبد الحميد بن جعفر تكلم فيه، ولكن الثقة قد يغلط والظاهر أنه قد غلط في هذا الحديث والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1738 رقم 4427). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 461 رقم 1457). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 297 رقم 3124).

وأما حديث علي وعمار - رضي الله عنهما - فأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1): عن سعيد بن عثمان الخزاز، نا عبد الرحمن بن سعد المؤذن، ثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار: "أن النبي - عليه السلام - كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم". وقال: صحيح الإسناد لا أعلم في رواته منسوبًا إلى الجرح، والجواب عنه ما قال الذهبي في "تنقيح المستدرك": هذا خبر واهٍ كأنه موضوع؛ لأن عبد الرحمن صاحب مناكير، ضعّفه ابن معين، وسعيد إن كان الكريزي فهو ضعيف وإلا فهو مجهول. وعن الحكم رواه البيهقي في "المعرفة" (¬2) بسنده ومتنه، وقال: إسناده ضعيف إلا أنه أمثل من حديث جابر الجعفي. قلت: وفطر بن خليفة قال السعدي: غير ثقة، روى له البخاري مقرونًا بغيره والأربعة، وتصحيح الحاكم لا يعتد به سيما في هذا الموضع؛ فقد عرف تساهله في ذلك، وقال ابن عبد الهادي: هذا حديث باطل ولعله أدخل عليه. وروى الدارقطني هذا الحديث في "سننه" (¬3): عن أسيد بن زيد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار نحوه، وعمرو بن شمر وجابر الجعفيان كلاهما لا يجوز الاحتجاج به، لكن عمرًا أضعف من جابر، قال الحاكم: عمرو بن شمر كثير الموضوعات عن جابر وغيره. وقال الجوزجاني: عمرو بن شمر زائغ كذاب. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان رافضيًا يسب الصحابة وكان يروي الموضوعات عن الثقات لا يحل كتب حديثه إلَّا على جهة التعجب. وأما جابر الجعفي فقال الإِمام أبو حنيفة: ما رأيت كذب من جابر الجعفي، ما أتيته من شيء من رأيي إلَّا أتاني فيه بأثر. وكذبه أيضًا أيوب وزائدة وليث بن أبي سليم والجوزجاني وغيرهم. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 439 رقم 1111). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (5/ 403 رقم 2001). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 302 رقم 4).

ورواه الدارقطني (¬1) أيضًا: عن عيسى بن عبد الله بن محمَّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - عليه السلام - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين جميعًا". والجواب عن هذا: أن عيسى هذا والد أحمد بن عيسى المتهم بوضع حديث ابن عمر، قال ابن حبان والحاكم: روى عن آبائه أحاديث موضوعة، لا يحل الاحتجاج به. فأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه الدارقطني في سننه" (¬2): ثنا عمر بن الحسن بن علي الشيباني، ثنا جعفر بن محمَّد بن مروان، ثنا أبو طاهر أحمد بن عيسى، ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم". والجواب عنه: أنه باطل من هذا الوجه، لم يحدث به ابن أبي فديك قط، والمتهم به أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمَّد أبو طاهر القرشي، وقد كذبه الدارقطني أيضًا، وقال الخطيب: سألت الحسن بن محمَّد الخلال عنه فقال: ضعيف. وجعفر بن محمَّد بن مروان ليس مشهورًا بالعدالة وقد تكلم فيه الدارقطني أيضًا وقال: لا يحتج به. وله طريق آخر عند الخطيب (¬3): عن عبادة بن زياد الأسدي، ثنا أبو يونس بن أبي يعفور العبدي، عن المعتمر بن سليمان، عن ابن أبي عُبيدة، عن مسلم بن حبان قال: "صليت خلف ابن عمر، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين، فقيل له، فقال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض، وخلف أبي بكر - رضي الله عنه - حتى قبض، وخلف عمر - رضي الله عنه - حتى قبض، فكانوا يجهرون بها في السورتين، فلا أدع الجهر بها حتى أموت". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 302 رقم 2). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 305 رقم 12). (¬3) انظر "نصب الراية" (1/ 263).

قلت: هذا أيضًا باطل، وعبادة بن زياد -بفتح العين- قال أبو حاتم: كان من رؤساء الشيعة. وقال الحافظ محمَّد النيسابوري: هو مجمع على كذبه. وشيخه يونس بن يعفور فيه مقال، ضعفه النسائي وابن معين، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج عندي بما انفرد به. ومسلم ابن حبان غيره معروف. وأما حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: فأخرجه الدارقطني (¬1) أيضًا: عن يعقوب ابن يوسف بن زياد الضبي، ثنا أحمد بن حماد الهمداني، عن فطر بن خليفة، عن أبي الضحى، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّني جبريل - عليه السلام - عند الكعبة، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". والجواب عنه: أن هذا حديث منكر بل موضوع، ويعقوب بن يوسف الضبي ليس بمشهور، وأحمد بن حماد ضعفه الدارقطني، وسكوت الدارقطني والخطيب وغيرهما من الحفاظ عن مثل هذا الحديث بعد روايتهم له قبيح جدًّا. وأما حديث الحكم بن عمير: فأخرجه الدارقطني (¬2) أيضًا: ثنا أبو القاسم الحسن بن محمَّد بن بشر الكوفي، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق الحمار، نا إبراهيم ابن حبيب، ثنا موسى بن أبي حبيب الطائفي، عن الحكم بن عمير وكان بدريًّا قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الليل وصلاة الغداة وصلاة الجمعة". والجواب عن هذا: أن هذا من الأحاديث الغريبة المنكرة بل هو حديث باطل من وجوه، وهي: أن الحكم ليس بدريًّا ولا في البدريين أحد اسمه الحكم بن عمير، بل لا تعرف له صحبة، فإن موسى بن حبيب الراوي عنه لم يلق صحابيًّا، بل هو مجهول لا يحتج بحديثه، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": الحكم بن عمير ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 309 رقم 27). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 310 رقم 31).

روى عن النبي - عليه السلام - أحاديث منكرة، لا تذكر سماعًا ولا لقاء، روى عنه ابن أخيه موسى بن أبي حبيب وهو ضعيف الحديث، سمعت أبي يذكر ذلك. وقد ذكر الطبراني في "معجمه الكبير" الحكم بن عمير وقال في نسبته الثمالي: ثم روى له بضعة عشر حديثًا منكرًا، وكلها من رواية موسى بن أبي حبيب عنه (¬1). وروى له ابن عدي في "الكامل" قريبًا من عشرين حديثًا (¬2)، ولم يذكرا فيها هذا الحديث، والراوي عن موسى هو إبراهيم بن إسحاق الصيني الكوفي، قال الدارقطني: متروك الحديث. ويحتمل أن يكون هذا الحديث صنعته؛ فإن الذين رووا نسخة موسى عن الحكم لم يذكروا هذا الحديث فيها، كبقي بن مخلد وابن عدي والطبراني، وإنما رواه -فيما علمنا- الدارقطني ثم الخطيب، ووهم الدارقطني فقال: إبراهيم بن حبيب. وإنما هو إبراهيم بن إسحاق، وتبعه الخطيب وزاد وهمًا ثانيًا، فقال: الضبي -بالضاد المعجمة والباء الموحدة- وإنما هو الصيني -بالصاد المهملة والنون-. وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه الحكم في "مستدركه"، (¬3) والدارقطني في "سننه" (¬4): من حديث محمَّد بن أبي المتوكل بن أبي السري، قال: "صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها: الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وقال المعتمر: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله - عليه السلام -". قال الحكم: رواته كلهم ثقات. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 217). (¬2) "الكامل في الضعفاء" (5/ 250). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 358 رقم 854). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 308 رقم 25).

والجواب عن هذا: أن هذا معارض بما رواه ابن خزيمة في "مختصره" (¬1)، والطبراني في "معجمه" (¬2): عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وأبو بكر، وعمر". و"في الصلاة" زادها ابن خزيمة. ورواه الحكم (¬3) أيضًا من طريق آخر: عن محمَّد بن أبي السري، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، ثنا مالك، عن حميد، عن أنس قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - فكلهم كانوا يجهرون بسم الله الرحمن الرحيم" قال الحاكم: وإنما ذكرته شاهدًا. قلت: قال الذهبي في "تنقيح المستدرك": أما استحى الحاكم يورد في كتابه مثل هذا الحديث الموضوع؟! فأنا أشهد بالله، والله إنه لكذب. وقال ابن عبد الهادي: سقط منه "لا". وروى الخطيب (¬4) أيضًا: عن ابن أبي داود، عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه العمري ومالك وابن عيينة، عن حميد، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة". والجواب عنه: ما قاله ابن عبد الهادي سقط منه "لا" كما رواه الباغندي وغيره: عن ابن أخي ابن وهب، هذا هو الصحيح، وأما الجهر فلم يحدث به ابن وهب قط، ويوضحه أن مالكًا رواه في "الموطأ" (¬5): عن حميد، عن أنس قال: "قمت وراء أبي بكر الصديق وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتحوا الصلاة". وقال ابن عبد البر في "التقصي": هكذا رواه جماعة موقوفًا، ورواه ابن ¬

_ (¬1) وهو في "صحيح ابن خزيمة" (1/ 250 رقم 498) من طريق عمران القصير، عن الحسن به. (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 255 رقم 739). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 359 رقم 855). (¬4) انظر "نصب الراية" (1/ 264). (¬5) "موطأ مالك" (1/ 81 رقم 178).

أخي ابن وهب عن مالك، وابن عُيينة والعمري، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، فقال: "إن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يقرءون". قال: وهذا خطأ من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك، فصار هذا الذي رواه الخطيب خطأً على خطأٍ، والصواب فيه عدم الرفع، وعدم الجهر. وأما حديث معاوية - رضي الله عنه - فرواه الحكم في "مستدركه" (¬1): عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره، أن أنس بن مالك قال: "صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة، فبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك الصلاة ولم يكبر حين يهوي فلما سلم ناداه من سمع ذاك من المهاجرين والأنصار ومن كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوى ساجدًا". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ورواه الدارقطني (¬2) وقال: رواته كلهم ثقات، وقد اعتمد الشافعي على حديث معاوية هذا في إثبات الجهر، وقال الخطيب: هو أجود ما يعتمد عليه في هذا الباب. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن مداره على عبد الله بن عثمان بن خثيم وهو وإن كان من رجال مسلم لكنه متكلم فيه، أسند ابن عدي إلى ابن معين أنه قال: أحاديثه غير قوية. وقال النسائي: لين الحديث ليس بالقوي فيه. وقال الدارقطني: لينوه. وقال ابن المديني: منكر الحديث. وبالجملة فهو يختلف فيه، فلا يقبل ما تفرد به، مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه، وهو أيضًا من أسباب الضعف، أما في إسناده فإن ابن خثيم تارة يرويه عن ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 357 رقم 851) بنحوه. (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 311 رقم 33).

أبي بكر بن حفص عن أنس، وتارة يرويه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه، وقد رجح البيهقي الأولى في "المعرفة" لجلالة راويها وهو ابن جريج، ومال الشافعي إلى ترجيح الثانية، ورواه ابن خثيم أيضًا، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده فزاد ذكر الجد، كذلك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وهي عند الدارقطني، والأولى، عنده وعند الحاكم، والثانية عند الشافعي. وأما الاضطراب في متنه: فتارة يقول: "صلى فبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم حين افتتح القرآن وقرأ بأم الكتاب". كما هو عند الدارقطني (¬1): في رواية إسماعيل بن عياش، وتارة يقول: "فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولا للسورة التي بعدها". كما هو عند الدارقطني (¬2): في رواية ابن جريج، ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن مما يوجب ضعف الحديث؛ لأنه مشعر بعدم ضبطه. الوجه الثاني: أن شرط الحديث الثابت ألَّا يكون شاذًّا ولا معللًا، وهذا شاذ معلل؛ فإنه مخالف لما رواه الثقات الأثبات عن أنس، وكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجًّا به، وهو مخالف لما رواه عن النبي- عليه السلام - وعن خلفائه الراشدين، ولم يعرف أحد من أصحاب أنس المعروفين بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك، ومما يرد حديث معاوية هذا: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه. الوجه الثالث: أن مذهب أهل المدينة قديمًا وحديثًا ترك الجهر بها، ومنهم من لا يرى قراءتها أصلًا، قال عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلَّا بالحمد لله رب العالمين. وقال عبد الرحمن بن القاسم: ما سمعت القاسم يقرأ بها. وقال عبد الرحمن الأعرج: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلَّا بالحمد لله رب العالمين. ولا يحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 311 رقم 34). (¬2) تقدم قريبًا.

أنه كان يجهر بها، إلَّا شيء يسير، وله محمل، وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم، فكيف ينكرون على معاوية ما هو سنتهم؟! هذا باطل. الوجه الرابع: أن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة كما نقلوه، لكان هذا معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل ذلك عنهم، بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، وما روي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من الجهر بها فباطل لا أصل له، والأوزاعي إمام الشام، ومذهبه في ذلك مذهب مالك، لا يقرأها سرًّا ولا جهرًا، ومن المستبعد أن يكون هذا حال معاوية، ومعلوم أن معاوية قد صلى مع النبي - عليه السلام -، فلو سمع النبي - عليه السلام - يجهر بالبسملة لما تركها حتى ينكر عليه رعيته أنه لا يحسن يصلي، وهذه الوجوه من تدبرها علم أن حديث معاوية باطل، ومغير عن وجهه، وقد يتمحل فيه، ويقال: إن كان هذا الإنكار على معاوية محفوظًا فإنما هو إنكار لترك إتمام التكبير لا لترك الجهر بالبسملة، ومعلوم أن ترك إتمام التكبير كان مذهب الخلفاء من بني أمية وأمرائهم على البلاد، حتى إنه كان مذهب عمر بن عبد العزيز، وهو عدم التكبير حين يهوي ساجدًا بعد الركوع، وحين يسجد بعد القعود، وإلَّا فلا وجه لإنكارهم عليه ترك الجهر بالبسملة وهو مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من أكابر الصحابة، ومذهب أهل المدينة أيضًا، وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما، وكيف تكون صحيحة وليست مخرجة في الصحيح ولا المسانيد ولا السنن المشهورة؟! وفي رواتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الذين لا يوجدون في التواريخ ولا في كتب الجرح والتعديل، كعمرو بن شمر، وجابر الجعفي، وحصين بن مخارق وعمر بن حفص المكي، وعبد الله بن عمرو بن حسان الواقعي، وأبي الصلت الهروي، [وعبد الكريم بن أبي المخارق، وابن أبي علي الأصبهاني] (¬1) الملقب ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "نصب الراية" (1/ 264). ومنه نقل المؤلف ولم يعزه له، وقد نبهنا على أول النقل، وسننبه -إن شاء الله تعالى- على آخر النقل.

بجراب الكذب، وعمر بن هارون البلخي، وعيسى بن ميمون المدني وآخرين، وكيف يجوز أن يعارض برواية هؤلاء ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحهما" (¬1): من حديث أنس الذي رواه عنه غير واحد من الأئمة الأثبات، منهم قتادة الذي كان أحفظ أهل زمانه، ويرويه عنه شعبة الملقب بأمير المؤمنين في الحديث، وتلقاه الأئمة بالقبول، ولم يضعفه أحد بحجة إلَّا من ركب هواه، وحمله فرط التعصب على أن علله باختلاف ألفاظه، مع أنها ليست مختلفة، بل بعضها يصدق بعضًا، وعارضه بمثل حديث ابن عمر الموضوع أو بمثل حديث علي الضعيف، ومتى وصل الأمر إلى مثل هذا فجعل الصحيح ضعيفًا، والضعيف صحيحًا، والمعلل سالما من التعليل، والسالم معللًا؛ سقط الكلام، وهذا ليس بعدل، والله أمر بالعدل، ولكن كل هذا من التعصب الفاسد والغرض الكاسد، وهذا تمشية للباطل، والله يحق الحق ويبطل الباطل، ويكفينا في تضعيف أحاديث الجهر إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة والسنن المعروفة والمسانيد المشهورة المعتمد عليها في العلم ومسائل الدين، والبخاري مع شدة تعصبه وفرط تحمله على مذهب أبي حنيفة، لم يودع صحيحه منها حديثًا واحدًا، فالله تعالى يدري ويعلم ما جهد وتعب في تحصيل حديث صحيح في الجهر حتى يخرجه في "صحيحه" فما ظفر به ولو ظفر به ما تركه أصلًا، وكذلك مسلم لم يذكر شيئًا من ذلك، ولم يذكرا في هذا الباب إلَّا حديث أنس الدال على الإخفاء. فإن قيل: إنهما لم يلتزما أن يودعا في صحيحهما كل حديث صحيح، فيكونان قد تركا أحاديث الجهر في جملة ما تركا من الأحاديث الصحيحة. قلت: هذا لا يقوله إلَّا كل سخيف أو مكابر؛ فإن مسألة الجهر بالبسملة من أعلام المسائل ومعضلات الفقه، ومن أكثرها دورانًا في المناظرة وجولانًا في المصنفات، والبخاري كثيرًا ما يتتبع لما يرد على أبي حنيفة من السنة فيذكر الحديث، ثم يُعَرِّض بذكره فيقول: قال رسول الله - عليه السلام - كذا وكذا، ثم يقول: وقال بعض ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 295 رقم 710)، ومسلم (1/ 299 رقم 399).

الناس كذا وكذا، يشير به إليه، ويشنع به عليه، وكيف يخلي كتابه من أحاديث الجهر بالبسملة، وهو يقول في أول كتابه: باب الصلاة من الإيمان، ثم يسوق أحاديث الباب، ويقصد الرد على أبي حنيفة قوله: إن الأعمال ليست من الإيمان. مع غموض ذلك على كثير من الفقهاء؟! ومسألة الجهر يعرفها عوام الناس ورعاعهم، ولو حلف الشخص بالله أيمانًا مؤكدة، إنه لو اطلع على حديث منها موافق لشرطه أو قريب من شرطه لم يخل منه كتابه، ولا كذلك مسلم، ولئن سلمنا فهذا أبو داود والترمذي وابن ماجه مع اشتمال كتبهم على الأحاديث السقيمة والأسانيد الضعيفة لم يخرجوا منها شيئًا، فلولا أنها عندهم واهية بالكلية لما تركوها. وقد تفرد النسائي (¬1) منها بحديث أبي هريرة الذي رواه نعيم المجمر، وهو أقوى ما فيها عندهم، وقد بيَّنَّا ضعفه من وجوه والله أعلم. فإن قيل: أحاديث الجهر تقدم على أحاديث الإخفاء بأشياء: منها: كثرة الراوين فإن أحاديث الإخفاء رواها اثنان من الصحابة أنس بن مالك، وعبد الله بن مغفل، وأحايث الجهر رواها أربعة عشر صحابيًا. ومنها: أن أحاديث الإخفاء شهادة على نفي، وأحاديث الجهر شهادة على الإثبات، والإثبات مقدم على النفي. ومنها: أن أنسًا قد روي عنه إنكار ذلك في الجملة. فروى أحمد، (¬2) والدارقطني (¬3) من حديث سعيد بن زيد بن أبي مسلمة قال: "سألت أنسًا كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أو الحمد لله رب العالمين؟ قال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظ أو ما سألني أحد قبلك. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 134 رقم 905). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 190 رقم 12997). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 316 رقم 10).

قال: الدارقطني: إسناده صحيح. قلت: الجواب عن الأول: أن الاعتماد على كثرة الرواة إنما يكون بعد صحة الدليلين، وأحاديث الجهر ليس فيها صحيح صريح، بخلاف حديث الإخفاء فإنه صحيح صريح ثابت مخرج في الصحيح والمسانيد المعروفة والسنن المشهورة، مع أن جماعة من الحنفية لا يرون الترجيح بكثرة الرواة، وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها لكنها كلها ضعيفة وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو ضعيف، كحديث الطير وحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلَّا ضعفًا، وأحاديث الجهر لم يروها إلَّا الحاكم والدارقطني، فالحاكم عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، والدارقطني قد ملأ كتابه من الأحاديث الضعيفة والغريبة والشاذة والمعللة، وكم فيه من حديث لا يوجد في غيره، وقد حكي أن الدارقطني لما دخل مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة، فصنف فيه جزءًا، فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي - عليه السلام - في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. وعن الثاني: أن هذه الشهادة وإن ظهرت في صورة النفي فمعناها الإثبات، على أن هذا مختلف فيه، فالأكثرون على تقديم الإثبات، وعند البعض هما سواء، وعند البعض النافي مقدم على المثبت، وإليه ذهب الآمدي وغيره. وعن الثالث: أن ما روي من إنكار أنس لا يقاوم ما ثبت عنه خلافه في الصحيح، ويحتمل أن يكون أنس - رضي الله عنه - نسى في تلك الحال لكبره، وقد وقع مثل ذلك كثيرًا كما سئل يومًا عن مسألة، فقال: "عليكم بالحسن فاسألوه؛ فإنه حفظ ونسينا" (¬1) وكم ممن حدث ونسى، ويحتمل أنه سأله عن ذكرها في الصلاة أصلًا، لا عن الجهر بها وإخفائها. ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (7/ 176).

فإن قيل: يجمع بين الأحاديث بأن يكون أنس لم يسمعه لبعده، وأنه كان صبيًّا يومئذٍ. قلت: هذا مردود؛ لأنه - عليه السلام - هاجر إلى المدينة، ولأنس يومئذ عشر سنين، ومات وله عشرون سنة، فكيف يتصور أن يصلي خلفه عشر سنين فلا يسمعه يومًا من الدهر يجهر؟! هذا بعيد، بل مستحيل، ثم قد روى هذا في زمن النبي - عليه السلام - فكيف وهو رجل في زمن أبي بكر وعمر وكهل في زمن عثمان، مع تقدمه في زمانهم وروايته للحديث، وقد روى أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه". رواه النسائي، (¬1) وابن ماجه، (¬2) وقال النووي في "الخلاصة": إسناده على شرط البخاري ومسلم (¬3). وقد ذهب البعض إلى أن أحاديث الجهر منسوخة لما نبينه إن شاء الله تعالى. ص: وخالفهم في ذلك أخرون فقالوا لا نرى الجهر بها، واختلفوا بعد ذلك فقال بعضهم: يقولها سرًّا، وقال بعضهم: لا يقولها البتة، لا في السر ولا في العلانية. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك، وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا يجهر بالبسملة، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال: بعضهم يقولها سرًّا وأراد بهؤلاء البعض: الثوري وأبا حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: لا يقولها البتة لا في السر ولا في العلانية، وأراد بهؤلاء البعض: الأوزاعي ومالكًا وابن جرير الطبري. وقال أبو عمر (¬4): قال مالك: لا تقرأ البسملة في الفرض سرًّا ولا جهرًا، وفي ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (5/ 84 رقم 8311). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 313 رقم 977). (¬3) هذا آخر ما نقله المؤلف عن الزيلعي في "نصب الراية"، وإن كان لم يعزه إليه، انظر "نصب الراية". (¬4) "التمهيد" (20/ 207).

النافلة إن شاء فعل وإن شاء ترك. وهو قول الطبري، وقال الثوري وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل: تقرأ مع أم القرآن في كل ركعة، إلا ابن أبي ليل قال: إن شاء جهر بها، وإن شاء أخفاها، وقال سائرهم: يخفيها. وقال الشافعي: هي آية من الفاتحة يخفيها إذا أخفى، ويجهر بها إذا جهر، واختلف قوله هل هي آية من كل سورة أم لا؟ على قولين: أحدهما: نعم. وهو قول ابن المبارك. والثاني: لا. وقال أيضًا: أجمعت الأمة أن الفاتحة سبع آيات وقال النبي - عليه السلام -: هي السبع المثاني (¬1)، ثم جاء في هذا الحديث وأشار به إلى حديث أبي هريرة: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ... " الحديث (¬2) أنه عدها سبع آيات ليس فيها "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وهو عدد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة وأكثر القراء، وأما أهل الكوفة من القراء فإنهم عدوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عُبيد: هي آية من الفاتحة. وللشافعي قولان: أحدهما: أنها آية من الفاتحة دون غيرها من السور. والقول الآخر: هي آية من أول كل سورة. وكذلك اختلف أصحابه على القولين جميعًا. وأما أصحاب أبي حنيفة فزعموا أنهم لا يحفظون عنه هل هي آية من الفاتحة أم لا، ومذهبه يقتضي أنها ليست آية من فاتحة الكتاب؛ لأنه يسر بها في السر والجهر. وقال داود: هي آية من القرآن في كل موضع وقعت فيه، وليست من السور، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4/ 1738 رقم 4427)، وأبو داود (1/ 461 رقم 1457)، والترمذي (5/ 297 رقم 3124)، والنسائي (2/ 139 رقم 914). (¬2) أخرجه مسلم (1/ 296 رقم 395)، وأبو داود (1/ 276 رقم 821)، والترمذي (5/ 201 رقم 2953)، والنسائي (2/ 135 رقم 909)، وابن ماجه (2/ 135 رقم 909).

وإنما هي آية مفردة غير ملحقة بالسور، وزعم الرازي: أن مذهب أبي حنيفة هكذا انتهى (¬1). قلت: الصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن؛ لأن الأمة أجمعت أن ما كان مكتوبًا بين الدفتين بقلم الوحي فهو من القرآن، والتسمية كذلك، وكذلك روى المعلى عن محمَّد فقال: قلت لمحمد: التسمية آية من القرآن أم لا؟ فقال: ما بين الدفتين كله قرآن. وكذا روى الجصاص عن محمَّد أنه قال: التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وللبداية بها تبركًا, وليست بآية من كل واحدة منها، وينبني على هذا أن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بها عند أبي حنيفة إذا قرأها على قصد القراءة دون الثناء عند بعض مشايخنا؛ لأنها آية من القرآن، وقال بعضهم: لا يتأدى؛ لأن في كونها آية تامة احتمال، فإنه روي عن الأوزاعي أنه قال: ما أنزل الله في القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا في سورة النمل، وهي وحدها ليست بآية تامة وإنما الآية من قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬2) فوقع الشك في كونها آية تامة، فلا يجوز بالشك، وكذا يحرم على الجنُب والحائض والنفساء قراءتها على قصد القرآن، أما على قياس قول الكرخي؛ لأن ما دون الآية يحرم عليهم، وكذا على رواية الطحاوي؛ لاحتمال أنها آية تامة فيحرم عليهم قراءتهاة احتياطيًا، وهذا القول هو قول المحققين من أصحاب أبي حنيفة، وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد. وقالت طائفة: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة. ص: واحتجوا على أهل المقالة الأولى في ذلك بما قد حدثنا الحسين بن نصر، ¬

_ (¬1) هذا آخر كلام ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 207). (¬2) سورة النمل، آية: [30].

قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عمارة بن القعقاع، قال: ثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، قال: ثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت". قالوا: ففي هذا دليل أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست من فاتحة الكتاب، ولو كانت من فاتحة الكتاب لقرأ بها في الثانية كما قرأ فاتحة الكتاب، والذين يستحبون الجهر بها في الركعة الأولى لأنها عندهم من فاتحة الكتاب استحبوا ذلك أيضًا في الثانية، فلما انتفى بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أن يكون النبي - عليه السلام - قرأ بها في الثانية, انتفى به أيضًا أن يكون قرأ بها في الأولى، فعارض هذا الحديث حديث نعيم بن المُجْمر، وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه، وفضل صحة مجيئه على مجيء حديث نعيم. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون الذين ذهبوا إلى ترك الجهر بالبسملة على أهل المقالة الأولى -وهم الذين ذهبوا إلى الجهر بها في ذلك أي فيما ذهبوا إليه من ترك الجهر- بحديث أبي هريرة، ودلالته على ذلك ظاهرة، وبَيَّنَها بقوله: "قالوا: ففي هذا دليل ... " إلى آخره. وأخرجه عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان بن حيان التنيسي البكري، أبي زكرياء البصري، سكن تنيس -بلدة بساحل مصر واليوم خراب- فنسب إليها، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. عن عبد الواحد بن زياد العبدي أبي عبيدة البصري، روى له الجماعة. عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، ابن أخي عبد الله بن شبرمة، روى له الجماعة. عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، روى له الجماعة،

واسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو، وقيل: جرير. وأخرجه مسلم (¬1): وقال: حدثت عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب وغيرهما، قالوا: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثني عمارة بن القعقاع ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "فعارض هذا الحديث" أي حديث أبي هريرة الذي رواه عنه أبو زرعة حديث نعيم بن المجمر الذي رواه عن أبي هريرة المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وأشار بقوله: "وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه" إلى أن حديث نعيم معلول، وهو أن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم بن المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمان مائة ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبي هريرة أنه حدث عن أبي هريرة أنه - عليه السلام - كان يجهر بالبسملة في الصلاة، ألا ترى كيف أعرض صاحبا الصحيح عن ذكر البسملة في حديث أبي هريرة "كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها ... " الحديث (¬2). فإن قيل: نعيم بن المجمر ثقة والزيادة من الثقة مقبولة. قلت (¬3): ليس ذلك مجمعًا عليه بل فيه خلاف مشهور، فمنهم من يقبلها مطلقًا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظًا ثبتًا، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: "من المسلمين" في صدقة الفطر (¬4) واحتج بها أكثر العلماء، ومن حكم في ذلك حكمًا عامًا فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها كزيادة مالك، وفي موضع يغلب على الظن صحتها كزيادة سعد بن طارق في حديث: "جعلت لي الأرض مسجدًا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 419 رقم 599). (¬2) أخرجه البخاري (1/ 276 رقم 770)، ومسلم (1/ 293 رقم 392). (¬3) هذا كلام الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 261). (¬4) أخرجه البخاري (2/ 547 رقم 1433)، ومسلم (2/ 677 رقم 984).

وجعلت تربتها لنا طهورًا" (¬1). وفي موضع نجزم بخطأ الزيادة كزدياة معمر ومن وافقه قوله: "وإن كان في مائعًا فلا تقربوه" (¬2)، وكزيادة عبد الله بن زياد -ذكر البسملة- في حديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" (¬3) وإن كان معمر ثقة وعبد الله بن زياد ضعيفًا؛ فإن الثقة قد يغلط. وفي موضع يغلب على الظن خطؤها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه. رواه البخاري في "صحيحه" (¬4): وسئل: هل رواها غير معمر؟ فقال: لا. وقد رواه أصحاب السنن الأربعة (¬5): عن معمر وقال فيه: "ولم يصل عليه". فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختلف عليه أيضًا، والصواب أنه قال: "ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة، وزيادة نعيم بن المجمر التسمية في هذا الحديث مما يتوقف فيه؛ بل يغلب على الظن ضعفه، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها لمن قال بالجهر؛ لأنه قال: "فقرأ أو قال: بسم الله الرحمن الرحيم" وذلك أعم من قراءتها سرًا, أو جهرًا، أو إنما هو حجة على من لا يرى قراءتها. فإن قيل: لو كان أبو هريرة أسَّر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة لم يعبر عن ذلك نعيم بعبارة واحدة متنَاولة للفاتحة والبسملة تناولًا واحدًا, ولقال: فأسر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة، والصلاة كانت جهرية، بدليل تأمينه وتأمين المأمومين. قلنا: ليس الجهر فيه بصريح، ولا ظاهر يوجب الحجة، ومثل هذا لا يقدم على ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 371 رقم 522). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 392 رقم 3842)، والنسائي (7/ 178 رقم 4260). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 312 رقم 35). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2500 رقم 6434). (¬5) أبو داود (2/ 553 رقم 4430)، والترمذي (4/ 36 رقم 1429)، والنسائي (4/ 62 رقم 1956). ولم أجده عند ابن ماجه، وما عزاه له المزي في "تحفة الإشراف" (2/ 393 - 394 رقم 2149).

النص الصريح المقتضي للإسرار، ولو أخذ الجهر من هذا الإطلاق لأخذ منه أنها ليست من أم القرآن؛ فإنه قال: "فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ أم القرآن" والعطف يقتضي المغايرة. وجواب آخر عن هذا الحديث: أن قوله: "فقرأ أو قال" ليس بصريح أنه سمعها منه؛ إذ يجوز أن يكون أبو هريرة أخبر نعيمًا أنه قرأها سرًّا، ويجوز أن يكون سمعها منه في مخافتته لقربه منه، كما روى عنه من أنواع الاستفتاح وألفاظ الذكر في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده، ولم يكن ذلك منه دليلًا على الجهر. وجواب آخر: أن التشبيه لا يقتضي أن يكون مثله من كل وجه، بل يكفي في غالب الأفعال، وذلك يتحقق في التكبير وغيره دون البسملة، فإن التكبير وغيره من أفعال الصلاة ثابت صحيح عن أبي هريرة، وكان مقصوده الرد على من تركه، وأما التسمية ففي صحتها عنه نظر، فينصرف إلى الصحيح الثابت دون غيره، ومما يلزمهم على القول بالتشبيه من كل وجه أن يقولوا بالجهر بالتعوذ. لأن الشافعي (¬1) روى: أخبرنا ابن محمَّد الأسلمي، عن ربيعة بن عثمان، عن صالح بن أبي صالح: "أنه سمع أبا هريرة وهو يؤم الناس رافعًا صوته في المكتوبة إذا فرغ من أم القرآن: ربنا إنا نعوذ إلى من الشيطان الرجيم"، فهلّا أخذوا بهذا كما أخذوا بجهر البسملة. مستدلين بما في "الصحيحين" (¬2) عنه: "فما أسمعنا - عليه السلام - أسمعناكم وما أخفانا أخفينا عنكم"، وكيف يظن بأبي هريرة أنه يريد التشبيه في الجهر بالبسملة وهو الراوي عن النبي - عليه السلام - قال: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله: ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 35 رقم 138) بنحوه. (¬2) البخاري (1/ 267 رقم 738)، ومسلم (1/ 297 رقم 396).

أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1): عن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ... فذكره. وعن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. وعن ابن جريج عن العلاء بن عبد الرحمن. وهذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة، وإلا لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة حتى إنه لم يخل منها بحرف، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس ليرتفع الإشكال، وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: حديث العلاء هذا قاطع تعلق المتنازعين، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثًا في سقوط البسملة أبين منه، واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بأمرين. أحدهما: لا (يعتبر) (¬2) بكون هذا الحديث في "صحيح مسلم" فإن العلاء بن عبد الرحمن تكلم فيه ابن معين، فقال: ليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو ضعيف. روي عنه هذه الألفاظ جميعًا، وقال ابن عدي: ليس بالقوي. وقد انفرد بهذا الحديث فلا يحتج به. الثاني: قال: وعلى تقدير صحته فقد جاءت في بعض الروايات عنه ذكر التسمية. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 296 رقم 395). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "نصب الراية" (1/ 261): "يُعْبَأ".

كما أخرجه الدارقطني (¬1): عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها له، يقول عبدي إذا افتتح الصلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيذكرني عبدي، ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيقول: حمدني عبدي ... " إلى آخره، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية. قلت: هذا القائل حمله الجهل وفرط التعصب ورداءة الرأي والفكر. وعلى أنه ترك الحديث الصحيح وضعفه لكونه غير موافق لمذهبه، وقال: لا (يعتبر) (¬2) بكونه في مسلم مع أنه قد رواه عن العلاء الأئمة الثقات الأثبات كمالك وسفيان بن عيينة وابن جريج وشعيب وعبد العزيز الدراوردي وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق والوليد بن كثير وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق، وهذه الرواية مما انفرد بها عنه ابن سمعان وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا في المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما رواه الدارقطني في "سننه" التي يروي فيها غرائب الحديث، وقال عمر بن عبد الواحد: سألت مالكًا عند أبي عن ابن سمعان فقال: كان كذابًا. وقال يحيى بن بكير: قال هشام بن عروة فيه: فقد كذب عليَّ وحدث عني بأحاديث لم أحدثه بها. وعن أحمد بن حنبل: متروك الحديث. وسئل ابن معين عنه فقال: كان كذابًا. وقيل لابن إسحاق: إن ابن سمعان يقول: سمعت مجاهدا، فقال: لا إله إلا الله أنا والله أكبر منه، ما رأيت مجاهدًا ولا سمعت منه. وقال ابن حبان: كان يروي عمن لم يره، ويحدث بما لم يسمع. وقال أبو داود: متروك الحديث، وكان من الكذابين. وقال النسائي: متروك. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "نصب الراية" (1/ 261): "يُعْبَأ".

وكيف يُعل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" بالحديث الضعيف الذي رواه الدارقطني عن كذاب متروك لا شيء، وهلَّا جعلوا الحديث الصحيح علة للضعيف، ومخالفة أصحاب أبي هريرة الثقات الأثبات لنعيم؛ موجبًا لردِّه، إذ مقتضى العلم أن يعلل الحديث الضعيف بالحديث الصحيح، كما فعلنا نحن والله أعلم. ص: وقالوا: وأما حديث أم سلمة الذي رواه ابن أبي مليكة، قد اختلف الذين رَوَوْه في لفظه، فرواه بعضهم على ما ذكرنا، ورواه آخرون على غير ذلك. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن عبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة، عن يعلى: "أنه سأل أم سلمة - رضي الله عنه - عن قراءة النبي - عليه السلام -، فنعتت له قراءة مفسرة حرفًا حرفًا". فقالوا: ففي هذا أن ذكر قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من أم سلمة تنعت بذلك قراءة رسول الله - عليه السلام - لسائر القرآن كيف كانت، وليس في ذلك دليل أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فمعنى هذا غير معنى حديث ابن جريج، وقد يجوز أيضًا أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب الذي في حديث ابن جريج كان من ابن جريج أيضًا حكايته منه للقراءة المفسرة حرفًا حرفًا، التي حكاها الليث عن ابن أبي مليكة، فانتفى بذلك أن يكون في حديث أم سلمة ذلك حجة لأحد. ش: أي قال أهل المقالة الثانية في الجواب عن حديث أم سلمة الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن إسناد هذا الحديث مضطرب؛ لأن بعضهم رواه عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة على ما ذكره الطحاوي في أول الباب في بيان استدلال أهل المقالة الأولى، وبعضهم رواه عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك عن أم سلمة، وهذا أصح من الأول.

وقد أشار الترمذي (¬1): إلى ذلك حيث أسنده من حديث يعلى: "أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي - عليه السلام - ... " فذكر الحديث بمعناه. ثم قال: غريب حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعل عن أم سلمة. وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة: "أنه - عليه السلام -كان يقطع قراءته"، وحديث الليث أصح؛ ولأجل ذلك قال الطحاوي في كتاب "الرد على الكرابيسي": لم يسمع ابن أبي مليكة هذا الحديث من أم سلمة، واستدل عليه بهذا الإسناد الذي ذكره ها هنا، فإذا كان الطريق الصحيح هو الذي أخرجه الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة، فليس فيه حجة لهم؛ لأن فيه ذكر قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من أم سلمة نعت منها لقراءة رسول الله - عليه السلام - لسائر القرآن كيف كانت، وليس فيه ما يدل أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فحينئذ يكون معناه غير معنى الحديث الذي رواه ابن جريج. وأيضًا فإنه يمكن أن أم سلمة سمعته سرًّا في بيتها لقربها منه، وأيضًا كان قصدها الإخبار بأنه - عليه السلام - كان يرتل قراءته ولا يسردها. قوله: "وقد يجوز أيضًا ... " إلى آخره جواب بطريق التسليم، بيانه: أنا ولو سلمنا أن طريق حديث ابن جريج صحيح، ولكنا لا نسلم أنه يدل على ما ذكرتم؛ لأنه يجوز أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب في حديث ابن جريج كان منه حكايته للقراءة المفسرة حرفًا حرفًا، التي حكاها الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة، فحينئذ لا يكون في حديث أم سلمة حجة لأحد مطلقًا، سواء كان من هذا الطريق أو من ذاك الطريق. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 182 رقم 2923).

وقد ذكرنا أن أبا داود (¬1)، وأحمد (¬2)، والدارقطني (¬3)، والحاكم (¬4)، والطبراني (¬5)، والبيهقي (¬6): رووا هذا الحديث بالطريق الأول كما سردناه عن الكل، وليس في رواية أبي داود وأحمد والطبراني ذكر الصلاة، إنما هو إخبار عن أم سلمة عن ترتيل قراءة النبي - عليه السلام -، وأما رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فمدارها على عمر بن هارون البلخي وهو مجروح تكلم فيه غير واحد من الأئمة، فقال أحمد: لا أروي عنه شيئًا. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المبارك: كذاب. وقال النسائي: متروك الحديث. وسئل عنه ابن المديني فضعفه جدًّا. ونقل ابن الجوزي عن يحيى فقال: كذاب خبيث ليس حديثه بشيء. وقال مرة: كذاب. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم. وقال صالح بن محمَّد: كان كذابًا. والبيهقي ذكر حديث يعلى في باب ترتيل القراءة، وتركه في باب الدليل على أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية تامة من الفاتحة؛ لكونه لا يوافق مقصوده، ولأن فيه بيان علة حديثه، والعجب ثم العجب منه روى هذا الحديث عن عمر بن هارون وألان القول فيه، وقال: ورواه عمر بن هارون وليس بالقوي، عن ابن جريج. وذكره في باب لا شفعة فيما ينقل، أنه ضعيف لا يحتج به، وكذلك العجب من الحاكم كيف يودع هذا الحديث الضعيف السقيم في كتابه الذي سماه "صحيحًا"وماذا إلا تحامل وتعصب، والدين لا يقوم بهذا، والحق أحق أن يتبع، وقال الذهبي: في "مختصر سنن البيهقي": هذا خبر منكر شذَّ به ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 463 رقم 1466). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 294 رقم 26569). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 307 رقم 21) من طريق ابن جريج. (¬4) "مستدرك الحاكم" (1/ 453 رقم 1165). (¬5) "المعجم الكبير" (23/ 278 رقم 603). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 13 رقم 4489).

عمر بن هارون، وقد قال ابن معين وغيره: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك. وأيضًا فإن كان عدها بلسانه في الصلاة فذلك مناف للصلاة، وإن كان بأصابعه فلا يدل على أنها آية من الفاتحة انتهى. ويقال: المحفوظ في هذا الحديث والمشهور: أنه ليس في الصلاة، وإنما قوله: "في الصلاة" زيادة من عمر بن هارون، وقبول الزيادة من ثقة فيه كلام فضلًا عن زيادة كذاب متروك لا شيء، ثم رجال حديث يعلى هذا ثقات، وهو يعلى بن مالك، ويقال: مملك. وثقه ابن حبان. وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بتكبير الابن وتصغير الأب، وأبو مليكة اسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، روى له الجماعة. والحديث أخرجه الترمذي (¬1) كما ذكرنا، وأخرجه أبو داود (1): أيضًا ثنا يزيد ابن خالد بن موهب الرملي، نا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك: "أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله - عليه السلام - وصلاته، فقالت: وما لكم وصلاته، كان يصلي، وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح، ونعتت قراءته، فإذا هي تنعت حرفًا حرفًا". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. قوله: "تنعت" من النعت، وهو وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في المذموم إلا أن يتكلف متكلف فيقول: نعت سوء. قوله: "حرفًا حرفًا" أي كلمة كلمة، أرادت أنه كان يقرأ بالترتيل والتجويد والتأني ورعاية مخارج الحروف وغير ذلك من أنواع التجويد، وانتصاب "حرفًا حرفا" كانتصاب "درهمًا درهمًا" في قول القائل: خذوا هذا الألف واقتسموا درهمًا درهما. وفي الحقيقة هي حال، ومعناه: اقتسموا حال كونها معدودة بهذا العدد، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "المجتبى" (3/ 214 رقم 1629).

وذلك لأن غير المشتق يقع حالًا بالتأويل، والمعنى في الحديث: فوصفت قراءة ظاهرة حال كونها معدودة بحرف حرف، و"حرفًا" الثاني كرر للتأكيد، فافهم. ص: وقالوا لهم أيضًا فيما رووه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهم - في قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (¬1): أما ما ذكرتموه من أنها هي السبع المثاني فإنا لا ننازعكم في ذلك، وأما ما ذكرتموه من أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منها فقد روي هذا عن ابن عباس كما ذكرتم، وقد رُوي عن غيره ممن روينا عنه في هذا الباب أنه لم يجهر بها ما يدل على خلاف ذلك، ولم يختلفوا جميعًا أن فاتحة الكتاب سبع آيات، فمن جعل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منها عدها آية، ومن لم يجعلها منها عد عليهم آية، ولما اختلفوا في ذلك وجب النظر، وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ش: أي قال أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى في جواب حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس الذي استدلوا به على أن البسملة آية من الفاتحة وأنها يجهر بها حيثما يجهر، بيان ذلك: أن الذي ذكرتم من أن الفاتحة هي السبع المثاني مسلَّم لا نزاع فيه لأحد معكم، ولكن النزاع في أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هل هي في الفاتحة أم لا؟ فالذي روي عن ابن عباس كما ذكرتم أنها من الفاتحة، ولكن روي عن غيره أنها ليست من الفاتحة؛ إذ لو كانت آية منها لجهر بها كما جهر بالفاتحة، ولما وقع الاختلاف في هذا وجب النظر، ولم يذكر الطحاوي وجه النظر ها هنا وأحاله على موضع آخر والظاهر أنه ذكره في كتابه "الرد على الكرابيسي" وجه النظر في ذلك أنهم اتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات بلا خلاف لأحد، ولكن الخلاف في كيفية العدد، فقراء الكوفيين عدوا البسملة آية منها ولم يعدوا عليهم، وقراء البصريين عدوا عليهم ولم يعدوا البسملة، ثم اتفق كلهم على أن سورة الكوثر مثلًا ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات، وليس في ذلك خلاف لأحد، فمتى قلنا: إن البسملة آية من أول كل سورة يلزم أن تكون سورة الكوثر أربع آيات، وسورة الإخلاص خمس ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: [87].

آيات، ولم يقل به أحدة فالنظر على ذلك ينبغي أن لا تعد البسملة آية من الفاتحة أيضًا، قياسًا على غيرها من السور، ويكون كونها سبع آيات من غير البسملة، فعلى هذا الوجه إذا جعلت البسملة من الفاتحة يلزم أن تكون الفاتحة ثمان آيات، ولم يقل به أحد. فإن قيل: إنما عدوا آيات السور سوى البسملة لأنه لا إشكال فيها عندهم. قلت: فحينذ لا يجوز لهم أن يقولوا: سورة الإخلاص أربع آيات، وسورة الكوثر ثلاث آيات، والثلاث والأربع إنما هي بعض السور، ولو كان كذلك لوجب أن يقولوا في الفاتحة: إنها ست آيات. ثم معنى قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (¬1) أي: سبع آيات، وهي الفاتحة، والمثاني: من التثنية وهي التكريرة لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة، أو في الثناء؛ لاشتمالها على ما هو ثناء على الله تعالى، الواحدة: مثناة أو مُثْنية، صفة الآية. قاله الزمخشري -رحمه الله-. ص: وقد روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما قد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من السبع الطول، وإلى براءة وهم من المئين فقرنتم بينهما، وجعلتموها في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال عثمان - رضي الله عنه -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل عليه الآية، فيقول: اجعلوها في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وتوفي رسول الله - عليه السلام - ولم أسأله عن ذلك، فخفت أن تكون منها، فقرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وجعلتهما من السبع الطول". ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: [87].

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا عثمان - رضي الله عنه - يخبر في هذا الحديث أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لم تكن عنده من السور، وأنه إنما كان يكتبها في فصل السور، وهي غيرهن؛ فهذا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - من ذلك. ش: أشار بهذا إلى دليل يدل على أن البسملة ليست من أوائل السور، فإذا لم تكن من السور لم تكن من الفاتحة أيضًا؛ لأنها من السور، وهو أيضًا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس، وهو الذي أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن هوذة بن خليفة بن عبد الله الثقفي البكراوي بن الأشهب البصري، وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. عن عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بالأعرابي، روى له الجماعة. عن يزيد الفارسي البصري، وقيل: إنه يزيد بن هرمز المدني، والصحيح أنه غيره، وفي بعض النسخ: يزيد الرقاشي، وليس بصحيح؛ لأن يزيد الرقاشي يزيد بن أبان الرقاشي، وهو لم يدرك ابن عباس، وإنما روى عن أنس بن مالك، وكلاهما من أهل البصرة، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي. وهذا إسناد صحيح، وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عمرو بن عون، أنا هشيم، عن عوف، عن يزيد الفارسي، قال: سمعت ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ قال عثمان - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه السلام - مما تنزل عليه الآيات، فيدعو بعض من كان يكتب له، ويقول: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطول ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 268 رقم 786).

وأخرجه الترمذي (¬1) في أبواب تفسير القرآن وقال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهل بن يوسف، قالوا: نا عوف بن أبي جميلة، قال: حدثني يزيد الفارسي، قال: حدثني ابن عباس قال: "قلت لعثمان بن عفان - رضي الله عنهم -: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ ووضعتموهما في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان - رضي الله عنه -: كان رسول الله - عليه السلام - مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعى بعض من كان يكتبه، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله - عليه السلام - ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , فوضعتهما في السبع الطول". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس - رضي الله عنه -. فهذا عثمان - رضي الله عنه - لو رأى البسملة من السور لكتبها بين الأنفال وبراءة، ولم تكن عنده من السور، وأنه كان إنما كان يكتبها في فصل السور بينها وبين غيرها. فإن قيل: إذا لم تكن آية من أوائل السور، فينبغي أن لا يقال: إنها آية من القرآن بأخبار الآحاد. قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأنه ليس على النبي - عليه السلام - توقيف الأمة على مقاطع الآي ومقاديرها, ولم نتعبد بمعرفتها؛ فجاز إثباتها آية بأخبار الآحاد، وأما موضعها من ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 272 رقم 3086).

السور فهو كإثباتها من القرآن، فسبيله النقل المتواتر ولا يجوز بأخبار الآحاد، ولا بالنظر والمقاييس كسائر السور، وكموضعها في سورة النمل، ألا ترى أنه قد كان يكون من النبي - عليه السلام - توقيف على مواضع الآي كما في رواية ابن عباس عن عثمان في هذا الحديث، ولم يوجد من النبي - عليه السلام - توقيف في سائر الآي على مبادئها ومقاطعها، فثبت أنه غير مفروض علينا مقادير، فإذْ قد ثبت أنها آية، فليست تخلو من أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه من القرآن وإن لم تكن من أوائل السور، أو تكون آية منفردة كررت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، فالأصلى أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه لنقل الأمة أن جميع ما في المصحف من القرآن، ولم تخص شيئًا منه من غيره، وليس وجودها مكررة في هذه المواضع مخرجها من أن تكون من القرآن، لوجود كثير مثل ذلك مذكور على وجه التكرار، ولا يخرجه ذلك من أن يكون كل واحد آية منه، نحو قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1) من سورة البقرة، ومثله في سورة آل عمران (¬2) ونحو قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (¬3) كل آية منها منفردة في موضعها من القرآن لا على معنى تكرار آية واحدة، وكذلك {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقول النبي - عليه السلام -: إنها آية يقتضي أن تكون آية في كل موضع ذكرت فيه، والله أعلم. قوله: "أن عمدتم" أي أن قصدتم و"أن" في محل الجر في تأويل المصدر، أي على عمدكم إلى الأنفال. قوله: "وهي من السبع الطُوَال"وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة، و"الطُوَل" بضم الطاء وفتح الواو جمع "الطولى" تأنيث الأطول، مثل الكُبَر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام أو الإضافة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [255]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [2]. (¬3) سورة الرحمن، آية: [12]، وتكررت فيها.

قوله: "وهي من المئين" أي من السور التي تشتمل على أكثر من مائة آية، والمئون -بكسر الميم-: جمع مائة، وبعضهم يقول: مُؤون -بالضم- وأصل مائة مائي، والهاء عوض الياء. قوله: "وكانت قصتها شبيهة بقصتها" أي قصة براءة كانت شبيهة بقصة الأنفال؛ لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذها. قوله: "فخفت أن تكون منها" أي أن تكون سورة براءة من الأنفال، فلأجل ذلك وضعها في السبع الطول، ولم يكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ويقال: تركت البسملة بينهما؛ لأنها نزلت لرفع الأمان، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان، وقيل: لما اختلفت الصحابة في أنها سورة واحدة، وهي سابعة السبع الطول، أو سورتان فتركت بينهما فرجة ولم تكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقيل: لم تكتب البسملة لأنها رحمة، والسورة في المنافقين. ص: وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله - عليه السلام - وعن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا يجهرون بها في الصلاة. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن الجريري، عن قيس بن عباية، قال: حدثني ابن عبد الله بن مغفل، عن أبيه وقيل ما رأيت رجلًا أشد عليه حدثًا في الإسلام منه، فسمعني وأنا أقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: أي بني، إياك والحدث في الإسلام؛ فإني قد صليت مع رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمعها من أحد منهم ولكن إذا قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين". ش: أي قد جاءت الأحاديث والأخبار حال كونها متكاثرة مترادفة، عن رسول الله - عليه السلام - وعن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة في الصلاة، فهذا أدل دليل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وأنها لا يجهر بها، والحديث يدل على أن ترك الجهر عندهم كان ميراثًا عن نبيهم - عليه السلام - يتوارثونه خَلَفُهم عن سَلَفِهم، وهذا وجه كاف في المسألة، ولو كان - عليه السلام -

يجهر بها دائمًا لما وقع فيه اختلاف ولا اشتباه، ولكان معلومًا بالاضطرار، ولَمَّا قال أنس: "لم يجهر بها - عليه السلام - ولا خلفاؤه الراشدون" (¬1) ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضًا وسماه "حدثًا" ولَمَّا استمر أهل المدينة في محراب النبي - عليه السلام - على ترك الجهر، فتوارثه آخرهم عن أولهم، وذلك جار عندهم مجرى الصالح والمدَّ بل أبلغ من ذلك؛ لاشتراك جميع المسلمين في الصلاة؛ ولأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة، وكم من إنسان لا يحتاج إلى صاع ولا مدٍّ، ومن يحتاجه يمكث مدة لا يحتاج إليه، ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين وأكثر أهل العلم، كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله - عليه السلام - يفعله. ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن شيبة الحافظ صاحب "المصنف" و"المسند". عن إسماعيل بن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري، وعلية اسم أمه، روى له الجماعة. عن سعد بن إياس الجُريري -بضم الجيم وفتح الراء- نسبة إلى جُرَير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، روى له الجماعة. عن قيس بن عَباية -بفتح العين- الحنفي الزماني، قال يحيى: بصري ثقة. وروى له الأربعة. عن ابنٍ لعبد الله بن مغفل ولم يعلم اسمه، ويقال: اسمه يزيد. عن عبد الله بن مغفل الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريري، عن قيس بن عَبَاية، عن ابن عبد الله بن مغفل قال: "سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أي بني، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 12 رقم 244).

محدث، إياك والحدث- قال: ولم أر أحدًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - كان أبغض إليه الحدث في الإِسلام يعني منه- قال: وقد صليت مع النبي - عليه السلام - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، قال: نا عثمان بن غياث، قال: أخبرني أبو نعامة الحنفي، قال: ثنا ابن عبد الله بن مغفل، قال: "كان عبد الله بن مغفل إذا سمع أحدنا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول: صليت خلف رسول الله - عليه السلام - وخلف أبي بكر وخلف عمر - رضي الله عنهما - فما سمعت أحدًا منهم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحو رواية الطحاوي. فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: حديث حسن، قال الترمذي عقيب إخراجه: قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام -، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين. فإن قيل: قال النووي في "الخلاصة": وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث، وأنكروا على الترمذي تحسينه كابن خزيمة وابن عبد البر والخطيب، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول. قلت: رواه أحمد في "مسنده" (¬3): من حديث أبي نعامة، والطبراني في "معجمه" من طريقين: طريق من عبد الله بن بريدة، وطريق من أبي سفيان، فالطرق الثلاثة عن ابن عبد الله بن مغفل. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 135 رقم 908). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 267 رقم 815). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 85 رقم 16833).

وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1). وقال الخطيب: عبد الله بن بريدة أشهر من أن يثنى عليه، وأبو سفيان السعدي وإن تُكُلِّم فيه ولكنه يعتبر منه ما تابعه عليه غيره من الثقات، وهو الذي سمى ابن عبد الله بن مغفل يزيد فحينئذٍ ترتفع الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة الأجلاء عنه، وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالبسملة، وهو إن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عنه درجة الحسن، وقد حسنه الترمذي، والحديث الحسن يحتج به لا سيما إذا تعددت شواهده وكثرت متابعاته، والذين تكلموا فيه وتركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد الله بن المغفل احتجوا في هذه المسألة بما هو أضعف منه، بل احتج الخطيب بما يعلم أنه موضوع، ولم يحسن البيهقي في تضعيف هذا الحديث إذْ قال بعد أن رواه في كتاب "المعرفة" من حديث أبي نعامة: تفرد به أبو نعامة قيس بن عباية، وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا "الصحيح". قلت: قوله: "تفرد به أبو نعامة" ليس بصحيح، فقد تابعه عبد الله بن بريدة وأبو سفيان السعدي، وقوله: وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحب "الصحيح" ليس بلازم في صحة الإسناد، ولئن سلمنا فقد قلنا: إنه حسن والحسن يحتج به (¬2). قوله: "وقل ما رأيت رجلًا" معناه: ورؤيتي قليلة جدًّا في الرجال مثله "أشد عليه الحدث في الإِسلام منه" فتكون "ما" مصدرية، يقال: قَلَّ رجل يفعل كذا إلا زَيْد، معناه ما يفعل إلا زيد، والأصل فيه أن تكتب "ما" متصلة بـ"قَلَّ" كما تكتب كذلك في طالما؛ لأنه لما اختلطت به معنى وتقديرًا اختلطت به خطأ وتصويرًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 359 رقم 4128). (¬2) هذا وما قبله نص كلام الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 260).

قوله: "حدثًا" نصب على التمييز، وأراد به الأمر المحدث الذي لم يكن في عصر النبي - عليه السلام - ولا في أيام الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -. قوله: "فسمعني وأنا أقرأ" أي في الصلاة كما وقع هكذا في رواية الترمذي؛ وأيضًا القرينة تدل على ذلك؛ فافهم. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم وسعيد بن عامر، قالا: ثنا سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "صليت خلف النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أنه قال: "قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذا افتتح الصلاة". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، عن حميد، عن أنس:؛ أن أبا بكر وعمر- ويُرى حميد أنه قد ذكر النبي - عليه السلام - ... " ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن أبي عمران وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شيبان، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: "صليت خلف النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنه - فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا الأحوص بن جوَّاب، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال: "لم يكن رسول الله - عليه السلام - ولا أبو بكر ولا عمر يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا دحيم بن اليتيم، قال: ثنا سويد بن عبد العزيز، عن عمران القصير، عن الحسن، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سليمان بن عبيد الله الرقي، قال: ثنا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين والحسن، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يستفتحون بالحمد لله رب العالمين". حدثنا أحمد بن مسعود الخياط المقدسي، قال: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا إبراهيم بن منقذ قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن محمَّد بن نوح أخا بني سعد بن بكر حدثه، عن أنس بن مالك قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". ش: هذه عشر طرق صحاح إلا الطريق السابع, فإن فيه سويد بن عبد العزيز قال أحمد: متروك الحديث. وقال يحيى: ليس بشيء. وعنه: ليس بثقة. وقال النسائي: ضعيف. والطريق العاشر فيه عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، وبقية الرجال كلهم ثقات. الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، عن قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمَّد بن بشر، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 360 رقم 4130).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا إسماعيل، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". وهذا الحديث من أقوى الحجج لمنع الجهر بالبسملة. فإن قيل: قد قال الترمذي: قال الشافعي: إنما متن هذا الحديث: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". معناه أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم. قلت: قال الحافظ أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي: هذا تأويل لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه، وأنس إنما قال هذا ردا على من يرى قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وكذلك عبد الله بن مغفل كما مضى حديثه عن قريب، ورواية مالك، عن حميد الطويل، عن أنس صريحة في ترك قراءة البسملة حيث قال: فكلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يمنع التأويل المذكور ويرده. فإن قيل: أيها الحنفي إذا كانت هذه آية من القرآن عندك، أنزلت للفصل بين السور، كان الواجب أن يجهر بها كالجهر بالقراءة في الصلاة التي يجهر فيها بالقرآن، إذ ليس في الأصول الجهر ببعض القراءة دون بعض في ركعة واحدة. قلت: إذا ثبت أنها لم تكن من الفاتحة، وإنما هي على وجه الابتداء بها تبركًا، جاز أن لا يجهر بها، ألا ترى أن قوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬2) الآية هو من القرآن، ومن استفتح به الصلاة لا يجهر به مع الجهر بسائر القراءة، كذلك البسملة حالها كحالة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 101 رقم 12010). (¬2) سورة الأنعام، آية: [79].

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر -قال ابن المثنى: نا محمد بن جعفر- قال: ثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أنس قال: "صليت مع رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وأخرجه النسائي (¬2): أنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج، قال: حدثني عقبة بن خالد، قال: ثنا شعبة وابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬3). الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن حميد الطويل، عن أنس، وهو موقوف. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬4). وقال أبو عمر: هكذا هو في "الموطإ" عند جماعة الرواة فيما علمت موقوفًا، ورواه الوليد بن مسلم، عن مالك مرفوعًا، عن حميد، عن أنس قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كان لا يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة" وهكذا رواه ابن أخي ابن وهب، عن مالك وابن عيينة والعمري، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك، وأما رواية الوليد بن مسلم فلم يتابع عليها عن مالك. والصواب عن مالك خاصة ما في "الموطإ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 299 رقم 399). (¬2) "المجتبى" (2/ 135 رقم 907). (¬3) "صحيح ابن حبان" (5/ 3 رقم 1799). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 81 رقم 178).

وقد روي هذا الحديث مرفوعًا عن النبي - عليه السلام - من طرق كثيرة بأسانيد صحاح عن أنس من حديث قتادة وثابت البناني وحميد -رحمهم الله-. الرابع: عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن أنس: "أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنها -" موقوفًا، ويرى حميد أنه قد ذكر النبي - عليه السلام -، فحينئذ يكون الحديث مرفوعًا. وأخرجه أحمد (¬1): ثنا أبو كامل، ثنا حماد، ثنا قتادة، وثابت وحميد، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". الخامس: عن أحمد بن أبي عمران الفقيه، وعلي بن عبد الرحمن بن المغيرة، كلاهما عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود واحد أصحاب أبي حنيفة، عن شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي البصري المؤدب، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي، ثنا علي بن الجعد، ثنا شعبة وشيبان، عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام -وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بسم الله الرحمن الرحيم". السادس: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن الأحوص بن جواب الكوفي من رجال مسلم، عن عمار بن رزيق الضبي الكوفي من رجال مسلم أيضًا، عن سليمان الأعمش، عن شعبة، عن ثابت بن أسلم، عن أنس - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 168 رقم 12737). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 314 رقم 1).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا العباس بن عبد العظيم، ثنا أبو الجوَّاب، ثنا عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". ولا نعلم روى الأعمش عن شعبة غير هذا الحديث ولا نعلم حدث به عن الأعمش إلا عمار بن رزيق. السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن دحيم -بضم الدال، وفتح الحاء المهملتين، وسكون الياء آخر الحروف- وهو لقب عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، عن سويد بن عبد العزيز بن نمير السلمي الدمشقي، فيه مقال وقد ذكرناه الآن، عن عمران بن مسلم المِنْقري البصري القصير، عن الحسن البصري، عن أنس. وأخرجه الطبراني (¬1): من حديث محمَّد بن أبي السري، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -". الثامن: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن سليمان بن عبيد الله الرقي أبي أيوب الأنصاري، عن مخلد بن الحسن الأزدي المهلبي أبي محمَّد البصري نزيل المصيصة، عن هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبي عبد الله البصري، عن محمَّد بن سيرين والحسن البصري، كلاهما عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن الجارود في "مسنده" (¬2) نحوه. التاسع: عن أحمد بن مسعود الخياط، عن محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي أبي يوسف نزيل المصيصة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، عن أنس - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 255 رقم 739). (¬2) "المنتقى" لابن الجارود (1/ 55 رقم 182) من طريق قتادة.

وأخرجه مسلم (¬1): عن محمَّد بن مهران، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك، وأشار به إلى ما رواه من حديث قتادة عن أنس قال: قال: "صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها". وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا محمَّد بن عثمان بن ثابت الصيدلاني، ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، ثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: "كنا نصلي خلف رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر به". العاشر: عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن محمَّد بن نوح أخي بني سعد بن بكر، عن أنس بن مالك. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده". ص: حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمَّد، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن بديل، عن أبي الجوزاء، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بالتكبر، ويفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ويختمها بالتسليم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وبديل -بضم الباء الموحدة- ابن ميسرة العقيلي البصري، وأبو الجوزاء -بالجيم والزاي المعجمة- أوس بن عبد الله الربعي البصري روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 299 رقم 399). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 216 رقم 9).

وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبو خالد -يعني الأحمر- عن حسين المعلم. وثنا إسحاق بن إبراهيم -واللفظ له- قال: أنا عيسى بن يونس، قال: ثنا حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل الركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهي عن عقبة الشيطان، وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم" وفي رواية ابن نمير عن أبي خالد: "وكان ينهى عن عقب الشيطان". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "وكان ينهى عن عقب الشيطان، وعن فَرْشة السَّبع ... " والباقي نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3) مختصرًا. قوله: "يفتتح الصلاة بالتكبير" أي يشرع فيها بقول: الله أكبر، ويشرع في القراءة بسورة الفاتحة. قوله: "بـ الحمدُ لله رب العالمين" برفع الدال على الحكاية، وهي أن يجيء بالقول بعد نقله على استثناء صورته الأولى، كقولك: دعني من تمرتان. في ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 357 رقم 498). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 267 رقم 783). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 267 رقم 812).

جواب من قال: يكفيك تمرتان وبدأت بـ الحمدُ لله، وبدأت بـ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (¬1) ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيتَ زيدًا؟ من زيدًا. قوله: "لم يشخص" من الإشخاص أي لم يرفع رأسه. قوله: "ولم يصوبه" أي لم يخفضه، من صَوَّب، بالتشديد. قوله: "عن عقبة الشيطان" وهو أن يضع إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وفيه حجة لأبي حنيفة ومالك أن البسملة ليست من الفاتحة، وحجة لأبي حنيفة أنها لا يُجهر بها؛ لأنه صرح أنه - عليه السلام -كان يفتتح الصلاة بالتكبير ثم بفاتحة الكتاب. وقد ثبت (¬2) أنه - عليه السلام - كان له سكتتان: سكتة بعد التكبير وكان فيها البسملة ودعاء الاستفتاح. وفيه إثبات التكبير في أول الصلاة، وقال النووي: وفيه تعيّن لفظ التكبير؛ لأنه ثبت أنه - عليه السلام - كان يفعله، وأنه - عليه السلام - قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا الذي ذكرناه من تعيين التكبير هو قول مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف. قلت: اشتراط التعيين أمر زائد؛ لأن المراد من التكبير التعظيم وبكل لفظ حصل التعظيم يجوز الافتتاح به، ثم إن تكبيرة الافتتاح من أركان الصلاة عندهم، وقال أبو حنيفة وأصحابه من شروطها، وثمرة الخلاف تظهر في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز خلافًا لهم، وكذا على الخلاف لو بني التطوع بلا تحريمة يصير شارعًا في الثاني، وكذا على الخلاف إذا كبَّر مقارنًا لزوال الشمس. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [1]. (¬2) أخرجه أبو داود (1/ 266 رقم 777)، والترمذي (2/ 30 رقم 251)، وابن ماجه (1/ 275 رقم 844)، وأحمد (5/ 15 رقم 20178).

وقال ابن المنذر: تنعقد الصلاة بمجرد النيّة بلا تكبير، قال أبو بكر: ولم يقل به غيره، وقال ابن البطال: وذهب جمهور العلماء إلى وجوب تكبيرة الإحرام، وذهبت طائفة إلى أنها سنة، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والحكم والزهري والأوزاعي، وقالوا: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، وروي عن مالك في المأموم ما يدل على أنه سنة، ولم يختلف قوله في المنفرد والإمام أنها واجبة على كل واحد منها، وأن من نسيها يستأنف الصلاة، وفي "المغني" لابن قدامة: التكبير ركن لا تنعقد الصلاة إلا به، سواء تركه عمدًا أو سهوًا، قال: وهذا قول ربيعة والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وحكى أبو الحسن الحنفي الكرخي عن ابن عُلية والأصم كقول الزهري في انعقاد الصلاة بمجرد النيّة بدون التكبير، وقال عبد العزيز بن إبراهيم بن بزيزة: قالت طائفة بوجوب تكبير الصلاة كله، وعكس آخرون فقالوا: كل تكبيرة في الصلاة ليست بواجبة مطلقًا، منهم ابن شهاب وابن المسيب وغيرهما، ثم تكبيرة الإحرام مرة واحدة عند جمهور العلماء، وعند الرافضة ثلاث مرات، وقد ورد ذلك في بعض الأحاديث من حديث أبي إمامة "كان - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاث تكبيرات". رواه أبو نعيم الدكيني، عن شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل، عنه. وفي "العلل" لابن أبي حاتم قال أبي: هذا حديث كذب لا أصل له. وفيه دليل على أن السلام سُنَّة، وقال الخطابي: وفي قولها: "كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ويختتمها بالتسليم". دليل على أنهما ركنان من أركان الصلاة، ولا تجزئ إلا بهما. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن ما من شيء يدل على الفرضية، وفرضية التكبير في أول الصلاة ليس بهذا الحديث بل بقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، ولئن سلمنا ذلك فلا يلزم من كون التكبير فرضًا أن يكون التسليم فرضًا مثله.

بدليل حديث الأعرابي (¬1): حيث لم يعلمه - عليه السلام - حين علمه الواجبات، غاية ما في الباب يكون إصابة لفظة السلام واجبة، والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما تواترت هذه الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - بما ذكرنا، وكان في بعضها أنهم كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، فليس في ذلك دليل على أنهم كانوا لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبلها؛ لأنه إنما عنى بالقراءة ها هنا قراءة القرآن، فاحتمل أنهم لم يعدوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قرآنا، وعدوها ذكرًا مثل سبحانك اللهم وبحمدك وما يقال عند افتتاح الصلاة، فكان ما يقرأ من القرآن بعد ذلك ويستفتح بالحمد لله رب العالمين. وفي بعضها: أنهم كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ففي ذلك دليل أنهم كانوا يقولونها من غير طريق الجهر، ولولا ذلك لما كان لذكرهم نفي الجهر معنى؛ فثبت بتصحيح هذه الآثار ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكرها سرًّا. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث والأخبار التي تدل على أن التسمية ليست من الفاتحة، وأنها لا يجهر بها في الصلاة، ولكن لما كان في ألفاظها اختلاف تعرض إلى بيان وجهه، وهو أن قوله على بعض ألفاظها: "كانوا يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذه العبارة لا تدل على أنهم كانوا لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل قرأة فاتحة الكتاب؛ لأن المراد بالقراءة ها هنا هو قرأة القرآن، فيحتمل أنهم لم يكونوا عدُّوا البسملة قرآنا، وإنما عدوها ذكرا مثل الثناء والاستفتاح، فحينئذ يكون القرآن هو الذي يقرأ بعد ذلك، وفي بعضها أنهم كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وهذا دليل على أنهم كانوا يقولونها سرًّا؛ إذْ لو لم يكن ذلك لخلا الكلام عن الفائدة، وهو ظاهر، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 263 رقم 724)، ومسلم (1/ 298 رقم 397).

فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نقول: إن البسملة يؤتى بها ولكن يسرُّ بها عملًا بما ورد من الألفاظ، وتعلق مالك بظاهر العبارة الأول حيث قال: يشرع في القراءة عقيب التكبير، ولا يشتغل بشيء غير ذلك. وتعلقت الشافعية منهم الخطيب بقوله: "فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين" وضعف ما سواه من العبارات، وهي سبعة ألفاظ رويت بطرق مختلفة عن أنس: الأول (¬1): "كانوا لا يستفتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". والثاني: "فلم أسمع أحدًا يقول أو يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". الثالث: "فلم يكونوا يقرءون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". الرابع: "فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". الخامس: "فكانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". السادس: "فكانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". السابع: "فكانوا يستفتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وهذا هو الذي تعلق به الخطيب وصححه، وجعل اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غيره متشابهًا، وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية، وهو غير مخالف للألفاظ الباقية بوجه، فكيف يجعل مناقضًا لها فإن حقيقة هذا اللفظ الافتتاح بالآية من غير ذكر التسمية جهرًا وسرًا، فكيف يجوز العدول عنه بغير موجب ويؤكده قوله في رواية مسلم (1): "لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها"، لكنه محمول على نفي الجهر؛ لأن أنسًا - رضي الله عنه - إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتقائه؛ فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإِمام لم يقرأها أصلًا فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن القراءة فيه سرًّا, ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها أصلًا مَنْ لم ير ها هنا سكوتًا كمالك وغيره ¬

_ (¬1) تقدم.

كما ذكرنا, ولكن ثبت في "الصحيحين" (¬1): عن أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا ... " إلى آخره، وإذا كان له سكوت لم يكن لأنس أن ينفي قراءة البسملة في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادًا به الجهر بذلك، يدل عليه قوله: "فكانوا لا يجهرون"، وقوله: "فلم أسمع أحدًا منهم يجهر" لا تَعَرُّض فيه للقراءة سرًّا ولا على نفيها؛ إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها, ولذلك قال لمن سأله: "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه" (¬2)، فإن العلم بالقراءة السريّة إنما يحصل بأخبار أو سماع عن قرب، وليس في الحديث شيء منها، ورواية من روى: "فكانوا يسرون" كأنها مرويّة بالمعنى من لفظ: "لا يجهرون". وأيضًا فحمل الافتتاح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام الصحيحة؛ لأن هذا من العلم الظاهر الذي يعرفه العام والخاص، كما يعلمون أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس ... إلى غير ذلك، فليس في نقل مثل هذه فائدة فكيف يجوز أن يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه، وإنما مَثَلُ هذا مَثَلُ من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاة الظهر والعصر. وأيضًا فلو أريد الافتتاح بالسورة لقيل: كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن، أو بفاتحة الكتاب، أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف في تسميتها عندهم. وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين، فلم ينقل عن النبي - عليه السلام - ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون: فلان قرأ الحمد. وأين هذا من قوله: "فكانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح. ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 259 رقم 711)، ومسلم (1/ 419 رقم 598). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 166 رقم 12723)، والدارقطني (1/ 216 رقم 10).

فإن قيل: فقد روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس الاستفتاح بأم القرآن، وهذا يدل على إرادة السورة. قلنا: هذا مروي بالمعنى، والصحيح عن الأوزاعي ما رواه مسلم (¬1): عن الوليد بن مسلم، عنه، عن قتادة، عن أنس قال: "صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها". ثم أخرجه مسلم (1): عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك. هكذا رواه مسلم في "صحيحه" عاطفًا له على حديث قتادة، وهذا اللفظ المخرج في الصحيح هو الثابت عن الأوزاعي، واللفظ الآخر -إن كان محفوظًا- فهو مروي بالمعنى، فيجب حمله على الافتتاح بأم القرآن. ورواه الطبراني في "معجمه" (¬2) بهذا الإسناد: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". ص: وقد روي ذلك أيضًا عن علي بن أبي طالب وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر ابن عياش، عن أيضًا سعد، عن أبي وائل قال: "كان عمر وعلي - رضي الله عنهما - لا يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولا بالتعوذ ولا بآمين". ش: أي قد روي ترك الجهر بالبسملة أيضًا عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - وأخرج خبر علي، عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) انظر "نصب الراية" (1/ 331).

الكوفي المقرئ، قيل: اسمه محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة. عن أبي سعد البقال واسمه سعيد بن المرزبان الأعور، فيه مقال، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، أدرك النبي - عليه السلام - ولم يره، روى له الجماعة. وأخرجه ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار": أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد، عن أبي وائل قال: "لم يكن عمر وعلي - رضي الله عنهما - يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولا بآمين". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - سبعين صلاة، فلم يجهر فيها بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وأخرج (¬2): عن شاذان، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل: "أن عليًّا وعمارًا كانا لا يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن إسرائيل، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان لا يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، كان يجهر بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير ابن معاوية، قال: سمعت عاصمًا، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: "ذلك فعل الأعراب". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 361 رقم 4148). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 361 رقم 4149). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 88 رقم 2601).

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا شريك ابن عبد الله، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس في الفصل الذي قبل هذا. ش: أخرج خبر ابن عباس من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن زهير بن معاوية بن حديج، أحد أصحاب أبي حنيفة، من رجال الجماعة. عن عاصم بن بهدلة. عن عبد الملك بن أبي بشير البصري، وثقه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة والعجلي، وروى له البخاري في الأدب، وأبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب" انتهى. والمعنى نسبة هذا الفعل إلى الجهل، وأنه من أفعال الجهلاء، لكون الغالب على الأعراب الجهل، وحاصله أنه بدعة؛ والدليل عليه: ما روى المغيرة، عن إبراهيم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 361 رقم 4143). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 89 رقم 2605).

قال: "جهر الإِمام بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة بدعة" (¬1). وروى جرير، عن عاصم الأحول، قال: "ذكر لعكرمة الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، فقال: إذن أعرابي". وروى أبو يوسف (¬2): عن أبي حنيفة قال: بلغني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "الجهر في الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أعرابية". وروى حماد بن زيد، عن كثير قال: "سئل الحسن عن الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، فقال: إنما يفعل ذلك الأعراب". ذكر ذلك كله أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (¬3). فإن قيل: كيف تقول فيما روى عبد الرزاق (¬4): عن معمر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار: "أن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يفتتح بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". قلت: هذا لا يدل على أنه كان يجهر بها، أو كان ذلك خارج الصلاة، ولا نزاع فيه. وهذا هو الجواب أيضًا عما قاله البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬5): بعد أن روى عن عاصم بن بهدلة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه كان يفتتح القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وفيه دلالة على خطأ وقع في رواية عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "في قراءة الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 360 رقم 4138). (¬2) "الآثار" لأبي يوسف (1/ 112 رقم 105)، ووصله محمَّد بن الحسن في "الآثار" (1/ 109 رقم 81). (¬3) "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 16، 17). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 90 رقم 610). (¬5) "معرفة السنن والآثار" (1/ 521 رقم 720).

وتخطيئه هذا خطأ؛ لأن هذا روي بطريق صحيح عن أبي عاصم، ورواه عاصم بن بهدلة عن عكرمة أيضًا كما رواه عبد الملك بن أبي بشير عنه عن ابن عباس فما الموجب في تخطئة شيء صواب بلا دليل، لأجل تمشية الدعوى الفاسدة؟! ثم إن البيهقي أوَّل كلام ابن عباس هذا بتأويلين فاسدين: الأول: قال: أراد به الجهر الشديد الذي يجاوز الحد. والثاني: أراد أن الأعراب لا يخفى عليهم أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من القرآن، وأنه يجهر بها، فكيف العلماء وأهل الحَضَر؟! أما الأول: فإن كان الجهر الشديد مكروهًا أو بدعة فأيْش وجه التخصيص بالبسملة؟ فهذا ترجيح بلا مرجح. وأما الثاني: فلا نسلم أن الأعراب كانوا يعلمون أن البسملة من القرآن، فمن أين علموا ذلك مع غلبة الجهل عليهم على أن ابن عباس إنما قال ذلك القول على وجه الإنكار على من يجهر بها، وهذان التأويلان خلاف ما أراده ابن عباس، والله أعلم. وقوله: "فهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس ... " إلى آخره، إشارة إلى أن ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس -أنه جهر بها- الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو الذي أخرجه الطحاوي فيما مضى، عن فهد، عن ابن الأصبهاني، عن شريك، عن عاصم، عن سعيد به، معارض بهذه الرواية, فلا يتم بذاك الدليل، وقد مَرَّ الكلام فيه هناك مستوفى. ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، أن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي حدثه، عن عبد الرحمن الأعرج قال: "أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد قال: "لقد أدركت رجالًا من علمائنا ما يقرءون بها". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال: "ما سمعت القاسم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". ش: أشار بهذا إلى ما روي عن جماعة من التابعين من عدم الجهر بالبسملة في الصلاة منهم: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. أخرجه عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال، ولكن الطحاوي يرضى به- عن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي المصري وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ. وروى له أبو داود وابن ماجه، ونسبته إلى الصِدف بكسر الدال وتفتح في النسبة وهو عمرو بن مالك، وقيل: شهال بن دُعمي بن زياد بن حضرموت. ومنهم: عروة بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما -. أخرجه عن إبراهيم، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود وهو النضر -بالضاد المعجمة- بن عبد الجبار راوية ابن لهيعة (¬1)، وثقه ابن حبان وغيره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه وأبي الزبير: "أنهما كانا لا يجهران". ومنهم: يحيى بن سعيد الأنصاري المدني قاضي المدينة، أخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري، عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري المصري، وقد ينسب إلى جده، من رجال مسلم. ¬

_ (¬1) كلا بل هو أبو الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي المدني يتيم عروة روى له رواة الجماعة، وأما النضر بن عبد الجبار فبينهما مفاوز، وهو يروي عن ابن لهيعة. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 360 رقم 4139).

عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، روى له الجماعة. عن يحيى بن سعيد الأنصاري. ومنهم: القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -، أخرجه عن روح أيضًا، عن سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن من ذكرنا بعده ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبت أنها ليست من القرآن، ولو كانت من القرآن لوجب أن يجهر بها كما يجهر بالقرآن سواها ألا ترى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} التي في النمل يجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن؛ لأنها من القرآن، فلما ثبت أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها، ويجهر بما سواها من القرآن؛ ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أن يخافت بها وأن يُسَرُّ، كما يُسَرُّ التعوذ والافتتاح وما أشبههما، وقد رأيناها أيضًا مكعوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير فاتحة الكتاب ليست بأية ثبت أيضًا أنها في فاتحة الكتاب ليست بآية وهذا الذي بَيَّنَّا من نفي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أن تكون من فاتحة الكتاب، ومن نفي الجهر بها في الصلاة، هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أشار بذلك إلى بيان الحكم الذي ظهر من الأحاديث والآثار المذكورة من ترك الجهر بالبسملة، فبين ذلك بوجهين: الأول: أنه لما ثبت عن رسول الله - عليه السلام -، وعن جماعة من الصحابة من بعده، وجماعة من التابعين من بعدهم ممن ذكروا في هذا الباب؛ ترك الجهر بالبسملة، ثبت أنها ليست من القرآن؛ لأنها لو كانت من القرآن لوجب الجهر بها كما يجهر بالقرآن حين يجهر به، ألا ترى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} التي في سورة النمل كيف يجهر بها لأنها من القرآن، فيجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن، وقال أبو بكر بن

العربي: ويكفيك أنها ليست بقرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه، فإن إنكار القرآن كفر. فإن قيل: إذا لم تكن قرآنًا لكان مُدْخلها في القرآن كافرًا. قلت: الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن، فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد، ولما ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أيضًا أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها لكونها ليست من القرآن، فكذلك ينبغي أن يخافت بالبسملة ويسر بها كما يسر بالتي قبل فاتحة الكتاب، كالتعوذ والاستفتاح وما أشبهها من الأدعية التي وردت قراءتها قبلها. الوجه الثاني: أنها لما كانت مكتوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير الفاتحة ليست بآية منها؛ فالنظر على ذلك أن لا تكون البسملة أيضًا من الفاتحة. فإن قيل: نحن نقول: إنها آية من غير الفاتحة فكذلك نقول: إنها آية من الفاتحة. قلت: هذا قول لم يقل به أحد، ولهذا قالوا: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد؛ لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها من الفاتحة أو ليست بآية منها, ولم يعدها أحد آية من سائر السور. فإن قيل: قد نقلوا إلينا جميع ما في المصحف على أنه قرآن، وذلك كافٍ في إثباتها في السور في مواضعها المذكورة في المصحف. قلت: إنما نقلوا إلينا أنها منه، وإنما الكلام بيننا وبينكم في أنها من هذه السور التي هي مكتوبة في أوائلها، ونحن نقول بأنها من القرآن أثبتت هذه المواضع، لا على أنها من السور، وليس إيصالها بالسورة في المصحف وقراءتها معها يوجبان أن تكون منها؛ لأن القرآن كلمه متصل بعضه ببعض.

فإن قيل: قد قلت أولًا بأنها ليست من القرآن، وأقمت عليه برهانًا، ثم تقول ها هنا: ونحن نقول بأنها من القرآن، أثبتت في هذه المواضع لا على أنها من السور. قلت: معنى قولنا: إنها ليست من القرآن: ليست من الفاتحة ولا من آيات كل سورة هي مكتوبة عليها، ومعنى قولنا: إنها من القرآن كونها آية مفردة مستقلة بذاتها أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من أول كل سورة، ولكن الذي يفهم من عبارة الطحاوي وأبي بكر بن العربي أنها ليست من القرآن مطلقًا، وإنما هي لابتداء القراءة والفصل بين السورتين، وأما التي في سورة النمل فلا خلاف فيه لأحد أنها من القرآن، ولكنها ليست بآية كاملة؛ لأن الآية الكاملة من قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} (¬1) إلى آخره. وروي (¬2) أنه - عليه السلام -: كان يكتب في أوائل الكتب: باسمك اللهم حتى نزل {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬3) فكتب بسم الله، ثم نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬4) فكتب فوقه الرحمن، فنزلت قصة سليمان - عليه السلام - فكتبها حينئذٍ". وقال الشعبي ومالك وقتادة وثابت: "إن النبي - عليه السلام - لم يكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى نزلت سورة النمل". والحاصل أن مذهب المحققين أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة، في أول كل سورة كما تلاها النبي - عليه السلام - حين أنزلت عليه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (¬5) وهذا قول ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية: [30]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 261 رقم 35890). (¬3) سورة هود، آية: [41]. (¬4) سورة الإسراء، آية: [110]. (¬5) سورة الكوثر، آية: [1].

ابن المبارك وداود، وهو المنصوص عن أحمد، وبه قالت جماعة من الحنفية، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة. قلت: ولذلك قال الشيخ حافظ الدين النسفي: وهي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهذا القول فيه الجمع بين الأدلة، وعن ابن عباس: "كان النبي - عليه السلام - لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وفي رواية "لا يعرف انقضاء السورة". رواه أبو داود، (¬1) والحاكم (¬2) وقال: إنه على شرط الشيخين وأما تلاوة النبي - عليه السلام - حين أنزلت عليه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}. فهو ما رواه مسلم، (¬3) وأبو داود، (¬4) والنسائي (¬5): عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أنزلت عليَّ آنفًا سورة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة". فإن قيل: لو لم تكن التسمية من أول كل سورة لما قرأها النبي - عليه السلام - بالكوثر. قلت: لا نسلم أنه يدل على أنها من أول كل سورة، بل يدل على أنها آية مفردة، والدليل على ذلك ما ورد في حديث بدء الوحي: "فجاءه الملك فقال له: اقرأ فقال: ما أنا بقاريء -ثلاث مرات- ثم قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} " فلو كانت البسملة من أول كل سورة، لقال: اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ بسم ربك. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 269 رقم 788). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 355 رقم 845). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 300 رقم 400). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 650 رقم 14747). (¬5) "المجتبى" (2/ 133 رقم 904).

ويدل على ذلك أيضًا ما رواه أصحاب السنن الأربعة (¬1): عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي (¬2)، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". وقال الترمذي: حديث حسن. ورواه أحمد في "مسنده"، (¬3) وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" وصححه. وعياش الجهني يقال: إنه عياش بن عبد الله، ذكره ابن حبان في "الثقات" ولم يتكلم فيه أحد فيما علمنا, ولو كانت البسملة من أول كل سورة لافتتحها - عليه السلام - بها، والله أعلم (¬4). ... ¬

_ (¬1) أبو داود (1/ 445 رقم 1400)، والترمذي (5/ 164 رقم 2891)، والنسائي في "السنن الكبرى" (6/ 178 رقم 10546)، وابن ماجه (2/ 1244 رقم 3786). (¬2) في "الأصل، ك": "عياش الجهني" وهو تحريف، والمثبت من "السنن" ومصادر ترجمته، و"تحفة الأشراف" (10/ 129 رقم 1355). ونتج عن هذا التحريف أن خفي على المؤلف -رحمه الله- فلم يعرفه بل ظنه آخر، وعباس الجشمي مترجم في "تهذيب الكمال" (14/ 265) وقال المزي: روى له الأربعة، والنسائي في "اليوم والليلة" حديثا واحدًا في فضل {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. (¬3) "مسند أحمد" (2/ 299 رقم 7962). (¬4) "صحيح ابن حبان" (3/ 67 رقم 787).

ص: باب: القراءة في الظهر والعصر

ص: باب: القراءة في الظهر والعصر ش: أي هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاتي الظهر والعصر، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن القراءة في الصلاة تكون عقيب البسملة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا سعيد وحماد ابنا زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: "كنا جلوسًا في فتيان من بني هاشم إلى ابن عباس، فقال له رجل: أكان النبي- عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، قال: فلعله كان يقرأ فيما بينه وبين نفسه؟ -وفي حديث سعيد: قال: لا. وفي حديث حماد: هي شرٌّ من الأول- ثم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدًا لله أمره الله -عز وجل- فبلغ والله ما أمره به". ش: رجاله ثقات، وسعيد بن زيد أخو حماد بن زيد روى له مسلم أبو داود والترمذي، وحماد روى له الجماعة. وأبو جهضم موالى آل عباس بن عبد المطلب، وثقه يحيى وأبو زرعة، وروى له الأربعة. وعبد الله بن عبيد الله -بتصغير الأب- ابن عباس بن عبد المطلب، وثقه أبو زرعة والنسائي، وروى له الأربعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، نا عبد الوارث، عن موسى بن سالم، نا عبد الله بن عبيد الله قال: "دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم فقلنا لشباب منا: سل ابن عباس كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا لا. فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه؟ فقال: خمشًا هذه شر من الأولى، كان عبدًا مأمورًا بلغ ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنا أنا نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا نُنزي الحمار على الفرس". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 808).

قوله: "كنا جلوسًا" أي جالسين، والجلوس جمع جالس، كالقعود جمع قاعد. قوله: "في فتيان" أي بين فتيان كما في قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (¬1) أي بين عبادي، والفتيان جمع فتى وهو الشاب، ولهذا جاء في رواية أبي داود: "في شباب" وهو جمع شاب. قوله: "إلى ابن عباس" أي معه، وكلمة "إلى" تجيء للمصاحبة، كما في قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬2) أي معه. قوله: "أكان النبي- عليه السلام -" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "هي شرّ من الأولى" أي هذه المسألة شر من المسألة الأولى، أو هذه الحالة شر من تلك الحالة، وشرٌّ بمعنى أَشَرّ، وقد عُلِمَ أن خيرًا وشرًّا يستعملان للتفضيل على صنيعيهما. قوله: "خمشًا" دعاء عليه بأن يخمش وجهه أو جلده، كما يقال: جدعًا، وصلبًا، وطعنًا، وقطعًا ونحوها من الدعاء بسوء، وهو منصوب بفعلٍ لا يظهر. قوله: "وأن لا نأكل الصدقة" أراد بها الزكاة. قوله: "وأن لا نُنْزي" من الإنزاء وثلاثيه نِزَأ بالكسر، وقال الجوهري: يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت أبا يزيد المدني يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أنه قيل له: إن ناسًا يقرءون في الظهر والعصر، فقال: لو كان لي عليهم سبيل لقلعت ألسنتهم؛ إن النبي - عليه السلام - قرأ، وكانت قراءته لنا قراءةً، وسكوته لنا سكوتًا". ¬

_ (¬1) سورة الفجر، آية: [29]. (¬2) سورة الصف، آية: [14].

ش: إسناده صحيح، وجرير هو ابن حازم بن زيد أبو النضر البصري، وأبو يزيد المدني روى له البخاري، وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: لا أعلم له اسمًا. والحديث أخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي يزيد المدني، عن عكرمة: "أن رجلًا سأل ابن عباس عن القراءة في الظهر والعصر، فقال: قرأ رسول الله - عليه السلام - في صلوات فنقرأ فيما قرأ فيه، ونسكت فيما سكت، فقلت: كان يقرأ في نفسه. فغضب وقال: أتتهمون رسول الله - عليه السلام -". وهذا الحديث لا نعلمه روي إلا عن ابن عباس بهذا اللفظ، ولا نعلم أحدًا تابع ابن عباس على ما تأوله من ذلك. وأخرجه الطبراني (¬1): عن محمَّد بن محمَّد، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره نحوه رواية البزار غير أن في لفظه "أو تتهم رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه أحمد (¬2): من حديث إسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: "قرأ رسول الله - عليه السلام - فيما أمر أن يقرأ فيه، وسكت فيما أمر أن يسكت فيه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬3) و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} " (¬4). ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار التي رويناها، وقالوا: لا نرى أن يقرأ أحد في الظهر والعصر البتة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 357 رقم 12005). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 360 رقم 3399). (¬3) سورة مريم، آية: [64]. (¬4) سورة الأحزاب، آية: [21].

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سويد بن غفلة والحسن بن صالح وإبراهيم بن عُلية ومالكًا في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار التي رويت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقلدوها، وقالوا: لا قراءة في الظهر والعصر أصلًا. ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في القراءة في الصلاة، فقالت طائفة: القراءة في الصلوات مستحبة غير واجبة، وإليه ذهب الأصم وابن عُلية والحسن بن صالح وابن عُيينة، حتى لو لم يقرأ مع القدرة عليها تجزئه صلاته. وقال الشافعي: فرضٌ في الكل. وقال مالك: فرضٌ في ثلاث ركعات. وقال الحسن: فرضٌ في واحدة. وقال أصحابنا: فرضٌ في الركعتين من غير تعيين. وقال عياض: فذهب جمهور العلماء إلى وجوب أم القرآن للإمام والفذّ في كل ركعة، وهو مشهور قول مالك، وعنه أيضًا: أنها واجبة في كل الصلاة، وهو قول إسحاق، وعنه: أنها إنما تجب في ركعة. قاله المغيرة والحسن، وعنه: أنها لا تجب في شيء من الصلاة وهو أشذ رواياته، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن أبا حنيفة يشترط أن يقرأ غيرها من القرآن في جلّ الصلاة، وذهب الأوزاعي إلى أنها تجب في نصف الصلاة، وحكي عن مالك. ثم اختلف بعد ذلك من لم يُعيّن قراءة أم القرآن في الصلاة ما يجزئه من غيرها من القرآن؟ بعد إجماعهم على أن لا صلاة إلا بقراءة في الركعتين الأولين إلا ما قاله الشافعي فيمن نسي القراءة في صلاته كلها: تجزئه ويعذر بالنسيان على ما روي عن عمر - رضي الله عنه - (¬1) ولم يصح عنه، وقد أنكره مالك، وروي أن عمر أعاد (¬2)، ثم رجع الشافعي عن هذا. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 347 رقم 3678)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 348 رقم 4006). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 382 رقم 3794)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 349 رقم 4012).

وقال أبو حنيفة: يجزئ أن يقرأ آية من القرآن. وقال أصحابه: ثلاثًا أو آية طويلة. وقال الطبري: سبع آيات بقدر أم القرآن من آيها وحروفها، وذهب أبو حنيفة إلى أن القراءة في الركعتين الأخريين لا تجب، وقاله الثوري والأوزاعي، وخالفهم الجمهور فأوجبوها على اختلاف مذاهبهم، وحكى ابن المواز عن ابن أبي سلمة وربيعة وعلي بن أبي طالب: أن القراءة في الصلاة ليست من فروضها، وإليه ذهب محمَّد بن أبي، وحكى الداودي عن علي وابن أبي سلمة وطائفة أن فرض القراءة مع الذكر، وأما الناسي فيجزئه القيام والركوع والسجود. وقال أبو عمر (¬1): وأما اختلاف العلماء في هذا الباب، فإن مالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود وجمهور أهل العلم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وقال ابن خوازبنداد المالكي البصري: وهي عندنا متعينة في كل ركعة قال: ولم يختلف قول مالك أنه من نسيها في ركعة من صلاة أو ركعتين أن صلاته تبطل أصلًا ولا تجزئه، واختلف قوله فيمن تركها ناسيًا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة: يعيد الصلاة ولا تجزئه، وهو قول ابن القاسم وروايته واختياره من قول مالك، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو وتجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه، قال: وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام، قال: وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: لا تجزئه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة. وقال أبو حنيفة: والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدًا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزاعه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك، وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها. وقال أبو يوسف ومحمد: ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (20/ 192).

ص: ورَوَوْا ذلك أيضًا عن سويد بن غفلة، كما حدثنا أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن زهير بن معاوية، عن الوليد بن قيس قال: "سألت سويد بن غفلة أيقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا". ش: أي روى هؤلاء القوم ترك القراءة في الظهر والعصر أيضًا عن سويد بن غفلة بن عوسجة أبي أمية الكوفي المخضرم، وقد روي أنه صلى مع النبي - عليه السلام - ولم يثبت. وهذا إسناد جيد؛ لأن رجاله ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل، عن زهير، عن الوليد بن قيس قال: "سألت سويد بن غفلة، أقرأ خلف الإِمام في الظهر والعصر؟ قال: لا". ص: فقيل لهم: ما لكم فيما روينا عن ابن عباس حجة، وذلك أن ابن عباس قد روي عنه خلاف ذلك: حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لقد حفظت السنة غير أني لا أدري كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر أم لا". فهذا ابن عباس قد أخبر في هذا الحديث أنه لم يتحقق عنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ فيهما وإنما أمر بترك القراءة -فيما تقدمت روايتنا له عنه- لأن رسول الله - عليه السلام - لم يكن يقرأ في ذلك فإذا انتفى أن يكون قد تحقق ذلك عنده عن النبي - عليه السلام - انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيره قد تحقق قراءة رسول الله - عليه السلام - فيهما مما سنذكره في موضعه في هذا الباب إن شاء الله تعالى مع أنه قد روي عن ابن عباس من رأيه ما يدل على خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 331 رقم 3796).

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: "اقرأ خلف الإِمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر". حدثنا علي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: سمعت ابن عباس يقول: "لا تُصلي صلاة إلا قرأت فيها ولو بفاتحة الكتاب". حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي العالية البراء قال: "سمعت ابن عباس أو سئل عن القراءة في الظهر والعصر فقال: هو إمامك فاقرأ منه ما قل وما كثر، وليس من القرآن شيء قليل". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا سعيد بن أي عروبة، عن أبي العالية، قال: "سألت ابن عباس ... فذكر مثله قال: سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: إني لأستحي أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن أو ما تيسر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عباس قد روي عنه من رأيه أن المأموم يقرأ خلف الإِمام في الظهر والعصر، وقد رأينا الإِمام يحمل عن المأموم، ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ، فالأمام أحرى أن يقرأ، مع ما قد روينا عنه أيضًا من أمره بالقراءة فيهما. ش: أي قيل لهؤلاء القوم المذكورين: ما لكم في ما روينا عن ابن عباس من الآثار المذكورة حجة؛ لأنه قد روي عنه خلاف ذلك، يعني ما يعارضه ويرده، وهو ما رواه الطحاوي عن صالح، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير الواسطي من رجال الجاعة، عن حُصين -بضم الحاء- ابن عبد الرحمن السلمي ابن عم منصور بن المعتمر من رجال الجماعة، عن عكرمة، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا زياد بن أبي أيوب، ثنا هشيم، أنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لا أدري كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ". انتهى. فقد أخبر في هذا أنه لم يتحقق عنده عدم قراءة رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر فإذا انتفى تحقق ذلك عنده عن النبي - عليه السلام - انتفى ما قاله أيضًا من ذلك القول؛ لأن غيره من الصحابة قد تحققوا قراءة رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر، إلى ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. وقال الخطابي في جواب هذا: إنه وهم من ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنه قد ثبت عن النبي - عليه السلام - أن كان يقرأ في الظهر والعصر من طرق كثيرة، كحديث أبي قتادة وخباب بن الأرت وغيرهما. قلت: عندي جواب أحسن من هذا مع رعاية الأدب في حق ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو أن ابن عباس استند في هذا أولًا على قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬2) وهو مجمل بيَّنه - عليه السلام -بفعله، ثم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3) والمرئي هو الأفعال دون الأقوال والصلاة اسمًا للفعل في حق الظهر والعصر، وللفعل والقول في حق غيرهما, ولم يبلغ ابن عباس قراءته - عليه السلام - في الظهر والعصر، فلذلك قال في جواب عبد الله بن عبيد الله: لا. فلما بلغه خبر قراءته - عليه السلام -: فيهما، وثبت عنده رجع من ذلك القول. والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 809). (¬2) سورة البقرة، آية: [42] وغيرها. (¬3) أخرجه البخاري (1/ 226 رقم 602). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 318 رقم 3637).

وإسناده صحيح. قوله: "مع أنه قد روي عن ابن عباس من رأيه ما يدل على خلاف ذلك" أي على أن الشأن قد روي عن ابن عباس من رأيه واجتهاده ما يدل على خلاف ذلك القول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى. وهو قوله: "أقرأ خلف الإِمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر، وقد علم أن الإِمام كان يحمل عن المأموم من غير عكس فإذا كان المأموم يقرأ مع تحمل القراءة عنه غيره فبالأولى أن تجب قراءة الإِمام الذي لا يحمل عنه أحد. ثم إنه أخرج ذلك عن أربع طرق صحاح برجال الثقات: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إسماعيل بن أبي خالد أبي عبد الله البجلي الكوفي، واسم أبي خالد: هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير. عن العيراز بن حريث العبدي الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن العيزار بن حريث العبدي، عن ابن عباس قال: "أقرأ خلف الإِمام بفاتحة الكتاب". قوله: "اقرأ" على صورة الأمر، من قَرَأ يقرأ. الثاني: عن علي بن شيبة أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن يونس ابن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمْدَاني السبيعي، عن العيزار بن حريث ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: سمعت ابن عباس يقول: "لا تصلين صلاة حتى تقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ولا تدع أن تقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 329 رقم 3773). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 94 رقم 2628).

الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد بن حفص القرشي التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بأبي عائشة، وعن موسى بن إسماعيل المِنْقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي العالية البراء البصري قيل: اسمه زياد، وقيل: كلثوم، وقيل: أذينة، روى له الشيخان، والبراء -بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء- على وزن فعال، وكان يبري النبل فسمي بذلك. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن أبي العالية: "سألت ابن عباس، فقال: اقرأ منه ما قلَّ أو كثر وليس من القرآن قليل". قوله: "هو إمامك" أي القراءة أمامك، وذكر الضمير باعتبار القرآن. قوله: "وليس من القرآن شيء قليل" أراد أن كله في القدر سواء، ولا يوصف جزء من القرآن بالقلة؛ لأنها تنبئ عن الحقارة. الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سعيد بن أبي عروبة مهران، عن أبي العالية البراء. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي العالية البراء قال: "قلت لابن عمر: أفي كل ركعة أقرأ؟ فقال: إني لأستحي من رب هذا البيت أن لا أقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وما تيسر. وسألت ابن عباس فقال: هو إمامك، فإن شئت فأقلَّ منه، وإن شئت فأكثر". ص: فأما ما روي عن النبي - عليه السلام - خلاف ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - من ذلك؛ فإن أبا بكرة بكّار بن قتيبة؛ حدثنا، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، أن أباه أخبره:؛ أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في الظهر والعصر، فيسمعنا الآية أحيانًا". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 94 رقم 2626). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 317 رقم 3630).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ بأم القرآن وسورتين معها في الأوليين من صلاة الظهر والعصر ويسمعنا الآية أحيانًا". ش: شرع في بيان ما وعد ببيانه بقوله: "لأن غيره قد تحقق قراءة رسول الله - عليه السلام - فيهما مما سنذكره في موضعه من هذا الباب" وروى ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم أبو قتادة واسمه الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله - عليه السلام -. وأخرج حديثه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكّار بن قتيبة القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتوائي أبي بكر النصري -بالنون- واسم أبي عبد الله سَنْبر. عن يحيى بن أبي كثير الطائي أبي نصر اليمامي، واسم أبي كثير صالح بن المتوكل. عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا المكي بن إبراهيم، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: "كان النبي - عليه السلام - يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة، ويسمعنا الآية أحيانًا". ومسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام وأبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه، وفي آخره "ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 264 رقم 728). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 333 رقم 451).

وأبو داود (¬1): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن هشام بن أبي عبد الله. ونا ابن المثنى، نا ابن أبي عدي، عن الحجاج -وهذا لفظه- عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة -قال ابن المثنى: وأبي سلمة- ثم اتفقا على أبي قتادة قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي بنا يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانًا، وكان يطول الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح". لم يذكر مسدد فاتحة الكتاب وسورة. والنسائي (¬2): أخبرني يحيى بن درست، قال: ثنا أبو إسماعيل، قال: ثنا خالد، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "كان يصلي بنا الظهر فيقرأ في الركعتين الأوليين، فيسمعنا الآية كذلك، وكان يطيل الركعة في صلاة الظهر، والركعة الأولى يعني من صلاة الصبح". وابن ماجه (¬3): ثنا بشر بن هلال الصواف، ثنا يزيد بن زريع، نا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ بنا في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر، ويسمعنا الآية أحيانًا". قوله: "في الظهر" أي في صلاة الظهر وصلاة العصر. قوله: "أحيانًا" أي في بعض الأحيان، وهو جمع حين وهو الوقت. وهذا محمول على أنه أراد بيان جواز الجهر في القراءة السرية وأن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة، بل هو سُنَّة، ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 271 رقم 798). (¬2) "المجتبى" (2/ 164 رقم 974). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 271 رقم 829).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا عمران بن يزيد بن خالد بن مسلم يعرف بابن أبي جميل الدمشقي، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الله بن سماعة، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، قال: ثنا أبي: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ بأم القرآن وسورتين في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانًا، وكان يطيل في الركعة الأولى". الثالث: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني أبي بكر السكري شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، وثقه ابن يونس وابن أبي حاتم. عن الوليد بن مسلم الدمشقي من رجال الجماعة، عن الأوزاعي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ بأم القرآن وسورتين معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانًا، وكان يطول في الركعة الأولى". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن خالد، عن جعفر بن محمَّد، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - "أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بأم القرآن وقرأن، وفي العصر مثل ذلك، وفي الآخريين منهما بأم القرآن، وفي المغرب في الأوليين بأم القرآن وقرآن، وفي الثالثة بأم القرآن" قال عبيد الله: فأراه قد رفعه إلى النبي - عليه السلام -. ش: خطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبو عمر الحمصي، شيخ البخاري. وإسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- بن سليم الحمصي أبو عتبة العنسي -بالنون- تكلم فيه ناس ولكنه ثقة، قال الفسوي: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 164 رقم 975). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 305 رقم 22650).

تكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل، أعلم الناس بحديث الشام، أكثر ما تكلموا فيه قالوا يغرب عن ثقات الحجازيين. قال دحيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنين. وروى له الأربعة. ومسلم بن خالد بن قرقرة، ويقال: ابن جرجة، أبو خالد المكي المعروف بالزنجي شيخ الشافعي، ضعيف قاله يحيى، وعنه: ثقة. وعنه: ليس به بأس. وقال أبو داود: ضعيف. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. روى له أبو داود وابن ماجه. وجعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أبو عبد الله المدني الصادق شيخ أبي حنيفة - رضي الله عنه - من ثقات الناس، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". والزهري هو محمَّد بن مسلم. وعُبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي - عليه السلام -، واسم أبي رافع: أسلم، أو إبراهيم، أو هرمز، أو ثابت، وقد تكرر ذكره، وسماعه عن علي - رضي الله عنه - صحيح، قاله البيهقي، وكان كاتبًا لعلي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة؛ وعبد الرزاق في مصنفيهما مختصرًا موقوفًا. فابن أبي شيبة (¬1): عن عبد الأعلى، عن عمه، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "يقرأ الإِمام ومن خلفه في الظهر والعصر في الركعتين الأولين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وعبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: "كان -يعني عليًّا - رضي الله عنه -- يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بأم القرآن وسورة، ولا يقرأ في الأخريين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 325 رقم 3726). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 100 رقم 3656).

وكذلك أخرجه الدارقطني في "سننه" والبيهقي في "المعرفة" موقوفًا. فالدارقطني (¬1): عن محمَّد بن مخلد، عن محمد بن إسحاق الصاغاني، عن شاذان، عن شعبة، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن ابن أبي رافع، عن أبيه، عن على: "أنه كان يأمر أو يحب أو يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب خلف الإِمام". والبيهقي (¬2): عن أبي عبد الله الحافظ، عن محمَّد بن أحمد بن حمدان، عن جعفر ابن أحمد بن نصر الحافظ، عن عمرو بن علي، عن يزيد بن زويع، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي قال: "اقرأ في صلاة الظهر والعصر خلف الإِمام بفاتحة الكتاب وسورة". وكذلك رواه يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، دون ذكر أبيه فيه. قوله: "بأم القرآن" أراد بها فاتحة الكتاب، وسميت بأم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، ولها أسامي أخرى كثيرة. قوله: "وقرآن" بالجرِّ عطفًا على قوله: "بأم القرآنِ" وأراد به سورة، ونحوها من آية طويلة أو ثلاث آيات قصار. قوله: "في العصر مثل ذلك" أي مثل ما كان يقرأ في الظهر. قوله: "فأُراه" أي: أرُى عليًّا، أي: أظنه أنه قد رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرجه مرفوعًا. ويستفاد منه: وجوب القراءة في الظهر والعصر، ووجوب ضم السورة إلى الفاتحة والاكتفاء في الركعة الثالثة من المغرب بسورة الفاتحة، وكذلك في الأخريين من الظهر والعصر. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 322 رقم 22). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 168 رقم 2759).

ويستفاد من رواية عبد الرزاق: أن القراءة ليست بواجبة في الأخريين منهما، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، حتى لو سبح فيهما جاز، وكذا لو سكت، ولكنه مكروه. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يقرأ في الأولين ويسبح في الأخريين". وكفى بعلي حجة في هذا. وأخرج أيضًا (¬2): عن جرير، عن منصور وقال: "قلت لإبراهيم: ما نفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة؟ قال: سبح وأحمد الله وكبر". وروى محمَّد بن الحسن عن أبي حنيفة: أن القراءة في الأخريين واجبة، حتى لو تركها ساهيًا تلزمه سجدة السهو. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "اجتمع ثلاثون من أصحاب النبي - عليه السلام - فقالوا: تعالوا حتى نقيس قراءة النبي - عليه السلام - فيما لم يجهر فيه من الصلوات، فما اختلف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعتين الأوليين من الظهر بقدر قراءة ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك، وفي صلاة العصر في الركعتين الأوليين على قدر النصف من الأوليين في الظهر، وفي الركعتين الأخريين على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور بن زاذان، عن الوليد أبي بشر العنبري، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقوم في الظهر في الركعتين الأوليين في ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3743). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3744).

كل ركعة قدر قراءة ثلاثين آية، وفي الأخريين بنصف ذلك، وكان يقوم في العصر في الركعتين الأوليين قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك". حدثنا أحمد بن شعيب، قال: أنا يعقوب بن إبراهيم الدسوقي، قال أنا هشيم، قال: ثنا منصور بن زاذان، عن الوليد بن مسلم، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نحزر قيام رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الظهر قدر ثلاثين آية قدر سورة السجدة في الركعتين الأوليين، وفي الآخريين على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين من العصر على النصف من ذلك. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن زيد بن الحواري العمي البصري قاضي هراة في ولاية قتيبة بن مسلم فيه مقال؛ فعن أحمد: صالح. وعن يحيى: لا شيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. وقال النسائي: ضعيف. وروى له الأربعة، وإنما سمي العمي لأنه كان كلما سئل عن شيء قال: حتى أسأل عمي. عن أبي نضرة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العوقي البصري من رجال الجماعة، غير أن البخاري استشهد به. عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا يحيى بن حكيم، نا أبو داود الطيالسي، نا المسعودي ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 271 رقم 828).

بقدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وقاسوا ذلك في العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر". قوله: "تعالوا" أمر من تعالى يتعالى، وهو الارتفاع، يقال: تعالى تعاليًا، تعالَوا -بفتح اللام- تعالى تعاليا تعالين ولا يستعمل منه النهي وغيره، ويقال: قد جاء تعاليتُ وأتعالى. قوله: "وقاسوا ذلك" إشارة إلى القراءة، والتذكر باعتبار القرآن. قوله: "ومن صلاة العصر في الركعتين" إلى آخره أراد أن الذي قرأ في الأوليين من العصر قاسوه فجاء على قدر النصف من الذي كان قرأه في الأوليين من الظهر، وكان الذي قاسوا ما قرأه في الأوليين من الظهر مقدار ثلاثين آية، فيكون الذي قرأه في الأوليين من العصر مقدار خمسة عشر آية. قوله: "وفي الركعتين الأخريين على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر، أراد أن الذي قرأ في الركعتين الأخريين من العصر قاسوه فجاء على قدر النصف من الذي كان قرأ به في الأخريين من الظهر، وكان الذي قاسوا ما قرأه في الأخريين من الظهر مقدار خمسة عشر آية، فيكون الذي قرأه في الأخريين من العصر مقدار سبع آيات أو ثماني آيات. قال الذهبي عقيب هذا الحديث: هذا غريب فرد، وهو مشكل، وكيف يكون زمان الأخريين من الظهر في طول الأوليين من العصر؟! وقد استدل به بعض أصحابنا على أنه يقرأ في الأوليين من الظهر ثلاثين آية، وكذا من الصبح؛ لاستوائها في سعة الوقت، وفي العصر يقرأ بخمسة عشر آية. وقال صاحب "الهداية": ويقرأ في الحضر في الفجر بأربعين آية أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، ويروى: من أربعين إلى ستين، ومن ستين إلى مائة، وبكل ذلك ورد الأثر.

وجه التوفيق: أنه يقرأ بالراغبين مائة وبالكسالى أربعين، وبالأوسط ما بين خمسين إلى ستين. وقيل: ننظر إلى طول الليالي وقصرها، وإلى كثرة الأشغال وقلتها، قال: وفي الظهر مثل ذلك -أي مثل الفجر- وقال في "الأصل": أو دونه لأنه وقت الأشغال فينقص عنه تحررا عن الملال، والعصر والعشاء سواء، يقرأ فيها بأوساط المفصل، وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل، والأصل فيه كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -: "أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل". قلت: هذا بهذا اللفظ غريب لم يثبت. والصحيح ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن وغيره قال: "كتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسط المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل". وقال الترمذي (¬2) في باب "القراءة في الصبح": وروي عن عمر: "أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل". ثم قال (¬3) في الباب الذي يليه: وروي عن عمر: "أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الظهر بأوساط المفصل". ثم قال (¬4) في الباب الذي يليه: وروي عن عمر: "أنه كتب إلى أبي موسى أن أقرأ في المغرب بقصار المفصل". والثاني: عن ابن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال الباهلي البصري، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن منصور بن زاذان الواسطي، عن ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 104 رقم 2672). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 108). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 110). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 112).

الوليد بن مسلم بن شهاب أبي بشر العنبري البصري، عن أبي الصديق الناجي -بالنون والجيم- نسبة إلى ناجية قبيلة واسمه بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس البصري. وهذا إسناد صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن الوليد أبي بشر، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الآخريين قدر خمس عشرة آية -أو قال: نصف ذلك- وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الآخريين قدر نصف ذلك". الثالث: عن أحمد بن شعيب النسائي الحافظ صاحب "السنن" المشهورة، عن يعقوب بن إبراهيم الدروقي، نسبة إلى دورق أراه من بلاد فارس قاله ابن قرقول، وقال الصغاني: دورق حصن على نهر من الأنهار المتشعبة من دجلة، انتقل من البصرة، ودورق بلدة بخوزستان، والدورق مكيال للشراب، وأهل مكة يسمون الجرة ذات العروة التي تقلّ باليد: الدورق، وهو صاحب المسند، وشيخ الجماعة. عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد، ثنا هشيم، أنا منصور ... إلى آخره نحوه، مع اختلاف يسير في اللفظ. قوله: "نحزر" من حَزَرْتُ الشيء أحْزُرُه وأحزِرُه -بالضم والكسر- حَزْرًا، أي قدرت وخرصت. وقوله: "سورة السجدة" وهي سورة ألم تنزيل السجدة، وهي مكية، ثلاثون آية عند أهل الكوفة والمدينة، وتسع وعشرون عند أهل البصرة، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمس مائة وثماني عشر حرفًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 334 رقم 452). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 273 رقم 804).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا حماد، عن سماك، عن جابر بن سمرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج، ونحوهما من السور". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، ويونس بن محمَّد بن مسلم البغدادي، وحماد هو ابن سلمة، وسماك هو ابن حرب الكوفي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد ... إلى آخره نحوه سواء. والترمذي (¬2): عن أحمد بن منيع، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "وشبههما" موضع: "ونحوهما" وقدم والسماء ذات البروج على الطارق. وقال: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح. والنسائي (¬3) عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن حماد ... إلى آخره نحو رواية الترمذي. وسورة البروج مكية، وهي اثنتان وعشرون آية، ومائة وتسع كلمات، وأربع مائة وثمان وخمسون حرفًا. وسورة الطارق مكية أيضًا، وهي سبع عشرة آية، وإحدى وستون كلمة، ومائتان وتسع وثلاثون حرفًا. وقد تعلق بعضهم بظاهر الحديث أن تطويل الركعة الثانية على الأولى غير مكروه؛ لأن البروج أطول من الطارق، وهذا فاسدٌ؛ لأن الواو لا تدل على الترتيب بل المراد أنه كان يقرأ في الركعة الأولى البروج، وفي الثانية الطارق، كما صرح به في روايتي الترمذي والنسائي، ومعنى روايتي الطحاوي وأبي داود على هذا، فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 273 رقم 805). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 110 رقم 307). (¬3) "المجتبى" (2/ 166 رقم 979).

ص: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا عارم، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "قرأ رجل خلف النبي - عليه السلام - في الظهر أو العصر، فلما انصرف قال: أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى؟ قال رجل: أنا. قال: لقد علمت أن بعضكم قد خالجنيها". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن سعيد بن أتيت عروبة، عن قتادة، أن زرارة حدثهم، عن عمران بن حصين، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران، عن النبي أن - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ابن خشيش -بضم الخاء وفتح الأولى من الشينين المعجمات بينهما ياء آخر الحروف ساكنة-. عن عارم بالمهملتين، وهو لقب محمَّد بن الفضل السدوسي، عن أبي عوانة الوضاح، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى العامري الحرشي أبي حاجب البصري قاضي البصرة، عن عمران - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو الوليد الطيالسي. ونا شعبة. ونا محمَّد بن كثير العبدي، أنا شعبة -المعنى- عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين: "أن النبي - عليه السلام - صلى الظهر، فجاء رجل فقرأ خلفه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فلما فرغ قال: أيكم قرأ؟ قالوا: رجل، قال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها" انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 279 رقم 828).

أي: نازعني قراءتها، وقال الخطابي: جاذبنيها، والخلج: الجذب وهذا وقوله: نازعينها سواء، وإنما أنكر عليه مجاذبته إياه في قراءة؛ السورة حتى تداخلت القراءتان وتجاذبتا. قلت: وإنما ذكر من باب المفاعلة ليدل على المشاركة؛ لأن الخلج الجذب بسرعة فنقل إلى المخالجة لتدل على المشاركة، ومنه الخليج وهو نهر يساق من النهر الأعظم إلى موضع؛ لأنه اختلج منه، أي جذب. وقال الخطابي: وأما قراءة الفاتحة فإنه مأمور بها على كل حال إن أمكنه أن يقرأ في السكتتين فعل وإلا قرأ معه لا محالة. قلت: يرده إطلاق الأحاديث المذكورة من هذا وقوله - عليه السلام -: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة". أخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) وغيره. الثاني: عن ابن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري القاضي الفقيه الكبير، عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران. وأخرجه مسلم (¬2): [ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا إسماعيل بن علية] (¬3). (ح) ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: سمعت زرارة بن أوفى يحدث، عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فلما ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 313 رقم 3582)، ورواه ابن ماجه في "سننه" (1/ 277 رقم 850)، وأحمد في "مسنده" (3/ 339 رقم 14684)، وغيرهما من حديث جابر، وقال الحافظ في "الدراية" (1/ 162): وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف، وقد قال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب منه، لكن تابعه ابن أبي سليم، قال البيهقي: ولم يتابعهما إلا من هو أضعف منها. وقال في "تلخيص الحبير": وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 298 رقم 398). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

انصرف، قال: أيكم قرأ، أو أيكم القارئ؟ قال رجل: أنا، قال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا هدبة بن خالد، نا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي -الظهر أو العصر- فقال: أيكم قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ فقال رجل: أنا، فقال: قد عرفت أن رجلًا خالجنيها". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أبنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين قال: "صلى النبي - عليه السلام - الظهر، فقرأ رجل خلفه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فلما صلى قال: من قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ قال رجل: أنا، قال: لقد علمت أن بعضكم قد خالجنيها". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا محبوب بن الحسن بن هلال [بن أبي زينب] (¬4) قال: ثنا خالد، عن زرارة بن أوفى القشيري، عن عمران بن حصين قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الظهر، فلما انصرف قال: أيكم قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ قال بعض القوم: أنا يا رسول الله، قال: لقد عرفت أن بعضكم خالجنيها". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 211 رقم 522). (¬2) "المجتبى" (2/ 140 رقم 917). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 433 رقم 19902). (¬4) في "الأصل": "نا ابن أبي ذئب"، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أحمد".

وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا أحمد بن نصر بن سندويه، نا يوسف بن موسى، نا سلمة بن الفضل، ثنا الحجاج بن أرطأة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي بالناس ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ قال: من ذا الذي يخالجني بسورتهم؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإِمام". ولم يقل هكذا غير حجاج وخالفه أصحاب قتادة، منهم: شعبة وسعيد وغيرهما، فلم يذكروا أنه نهاهم عن القراءة، وحجاج لا يحتج به. قلت: قال عثمان الدارمي عن يحيى: حجاج بن أرطاة في قتادة صالح. وقال شعبة: اكتبوا عن حجاج وابن إسحاق؛ فإنهما حافظان، غاية ما في الباب عابوا فيه إرساله، وروى له مسلم مقرونًا بغيره واحتج به الأربعة. ص: حدثنا محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سليمان التيميم، عن في مجلز، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: -ولم أسمعه منه- "أن النبي - عليه السلام - سجد في صلاة الظهر، قال: فرأى أصحابه أنه قرأ تنزيل السجدة". ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن بحر إلا أنه مرسل؛ لأن [أبا] (¬2) مجلز -وهو لاحق بن حميد السدوسي البصري الأعور- صرح بأنه لم يسمعه من ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) منقطعًا حيث قال: ثنا يزيد بن هارون، قال. أنا التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -: "أنه قرأ في صلاة الظهر سجدة فسجد، فرأوا أنه قرأ: ألم تنزيل السجدة"، قال: ولم يسمعه التيمي من أبي مجلز. وقد عرف أن المرسل والمنقطع كل منهما لا تقوم به حجة إلا إذا كان له طريق آخر مسند صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 326 رقم 8). (¬2) في "الأصل، ك": "ابن"، وهو تحريف. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 381 رقم 4386).

ويستفاد منه: وجوب القراءة في الظهر؛ لأنه - عليه السلام - لو لم يقرأ لما سجد سجدة التلاوة، وإخفاء القراءة فيه، ووجوب سجدة التلاوة في ألم تنزيل السجدة، وأنها إذا وجبت على الإِمام تجب، وأن السجدة الصلاتيَّة تؤدى فيها. ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيجهر ويخافت، فجهرنا فيما جهر وخافتنا فيما خافت، وسمعته يقول: لا صلاة إلا بقراءة". حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا سهل بن بكّار، قال: ثنا أبو عوانة، عن رقبة، عن عطاء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "في كل الصلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله - عليه السلام - أسمعنكم، وما أخفاه علينا أخفيناه عليكم". حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن حبيب المعلم، عن عطاء، عن أبي هريرة مثله. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة يقول ... فذكر نحوه. حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ... فذكره مثله بإسناده. حدثنا محمَّد بن بحر بن مطر، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، مثله. ش: هذه ستة طرق عن أبي هريرة: الأول: عن عبد الرحمن بن الجارود أبي بشر الكوفي ثم البغدادي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار. واسمه باذام العبسي أبي محمَّد الكوفي شيخ البخاري وأحمد. عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، فعن أحمد: كان يحيى بن سعيد يضعّفه. وعن ابن معين: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: محله الصدق، يكتب حديثه ولا يحتج به. وروى له الأربعة.

عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "كان النبي - عليه السلام -يؤمنا، فيجهر ويخافت ... " إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فيجهر" أي في بعض الصلوات كالمغرب والعشاء والصبح والجمعة وصلاة العيد. و"يخافت" أي يسر بالقراءة في بعضها كالظهر والعصر، وهو من الخفت وهو ضد الجهر، من خَفَتَ يَخْفِتُ خَفْتَا ويُخَافِت من المُخَافَتة، وهي المفاعلة، ولا يدل على المشاركة؛ لأنه بمعنى الثلاثي كالمسافرة بمعنى السفر، والمسارعة بمعنى الإسراع. قوله: "لا صلاة" أي لا صلاة جائزة أو صحيحة إلا بقراءة القرآن، وهو يتناول سائر الصلوات من الفرائض والنوافل؛ لأن النكرة في موضع النفي تعم. ويستفاد منه: أن بعض الصلوات يجب الإخفاء فيها بالقراءة، وبعضها الجهر بها، وأن كمال الصلاة بالمتابعة، وأن جميع الصلوات لا تجوز إلا بالقراءة ردا على من أنكر وجوبها فيها مطلقًا، أو في الظهر والعصر عند البعض، وأن المراد من القرآن مطلق القراءة سواء كان فاتحة الكتاب أو غيرها. فافهم. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سهل بن بكّار بن بشر الدارمي البصري المكفوف شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن رقبة بن مِصْقلة -بكسر الميم، وسكون الصاد ويقال بالسين- العبدي الكوفي من رجال الجماعة، ابن ماجه في التفسير. عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 121 رقم 2746).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن قدامة، قال: ثنا جرير، عن رقبة، عن عطاء، قال: قال أبو هريرة: "كل صلاة يقرأ فيها، فما أسمعنا رسول الله - عليه السلام - أسمعناكم، وما أخفاها أخفينا منكم". قوله "في كل صلاة قراءة" أي تجب في جميع الصلوات قراءة القرآن، سواء كانت فرضًا أو نفلًا، وسواء كانت مما يجهر بها أو مما يخافت فيها. وقوله في رواية النسائي: "يُقرأ فيها" على صيغة المجهول أي يقرأ القرآن، وروي نقرأ -بالنون- أي: نحن نقرأ؛ فدل الحديث على الجهر والإخفاء، وأجمعت الأمة على الجهر بالقراءة في الصبح، وأولتي المغرب والعشاء، والجمعة، وعلى الإسرار في الظهر والعصر، وثالثة المغرب، وأخريي العشاء. واختلفوا في العيد: فعندنا والشافعي يجهر. وفي الاستسقاء: فعند أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد: يجهر فيها بالقراءة. وفي الكسوف والخسوف فلا جهر فيهما عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف وأحمد: فيهما الجهر. وقال الشافعي: في الكسوف يسّر، وفي الخسوف يجهر. وأما بقيّة النوافل ففي النهار لا جهر فيها، وفي الليل يتخير. وقال النووي: وفي نوافل الليل قيل: يجهر فيها، وقيل: يخير بين الجهر والإسرار. الثالث: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري، عن يزيد بن زريع البصري، عن حبيب بن أبي قريبة المعلم أبي محمَّد البصري، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. وإسناده على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا يزيد بن زريع، عن حبيب المعلم، عن عطاء، قال: قال أبو هريرة: "في كل صلاة قراءة فما أسمعنا - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 163 رقم 969). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 297 رقم 396).

أسمعناكم، وما أخفى منا أخفيناه منكم، فمن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت منه، ومن زاد فهو أفضل". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع أبا هريرة يقول: "في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - عليه السلام - أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير". الخامس: عن محمَّد بن النعمان، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد أبي بكر الحميدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "في كل صلاة قراءة، فما أسمعناه رسول الله - عليه السلام - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، فسمعته يقول: لا صلاة إلا بقراءة". السادس: عن محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن حبيب المعلم، عن عطاء، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن قيس بن سعد وعمارة بن ميمون وحبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أن أبا هريرة قال: "في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا النبي - عليه السلام - أسمعناكم، وما أخفى علينا أخفينا عليكم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 267 رقم 837). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 120 رقم 2743). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 271 رقم 797).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، قال: أخبرني أبو عبيدة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ". ش: إسناده صحيح وسعيد بن سليمان هو المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود. وعبَّاد -على وزن فَعَّال بتشديد العين (¬1) - وكذلك العوَّام، روى له الجماعة. وسفيان بن حسين بن حسن الواسطي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأبو عبيدة ذكره البخاري في "الكنى" المجردة، وقال الحاكم أبو أحمد: خليقًا أن يكون أبو عبيدة حميد الطويل، كناه سفيان بن حسين بكنيته، وخفي ذلك على محمَّد بن إسماعيل البخاري، وقد حدث سفيان هذا عن حميد الطويل. وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: هو حميد الطويل. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمَّد بن شجاع المروذي، قال: ثنا أبو عبيدة، عن عبد الله بن عبيد، قال: سمعت أبا بكر بن النضر، قال: "كنا بالطف عند أنس فصلى بهم الظهر، فلما فرغ قال: إني صليت مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الظهر، فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): موقوفًا عن حماد بن مسعدة (¬4)، عن حميد قال: "صليت خلف أنس بن مالك الظهر، فقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وجعل يسمعنا الآية". ¬

_ (¬1) أي "عين" الفعل، وهي الباء في "عبَّاد"، و "الواو" في "عوَّام". (¬2) "المجتبى" (2/ 163 رقم 972). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 313 رقم 3575). (¬4) في "الأصل، ك" "سعيد" والمثبت من "المصنف" ومصادر ترجمته.

ص: وقد احتج قوم في ذلك أيضًا مع ما ذكرنا بما قد روي عن خباب بن الأرت. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: "قلت لخباب بن الأرت: أكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضطراب لحيته". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا شريك وأبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ... فذكر بإسناده مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلم يكن في هذا دليل عندنا على أنه قد كان يقرأ فيهما؛ لأنه قد يجوز أن تضرب لحيته بتسبيح يسبحه، أو دعاء أو غيره، ولكن الذي حقق القراءة منه في هاتين الصلاتين من قد روينا عنه الإشارة التي في الفصل الذي قبل هذا. ولما ثبت بما ذكرنا عن رسول الله - عليه السلام - تحقيق قراءته في الظهر والعصر، وانتفى ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - مما يخالف ذلك؟ رجعنا إلى النظر بعد ذلك هل نجد فيه ما يدل على صحة أحد القولين اللذين ذكرنا، فاعتبرنا ذلك، فرأينا القيام في الصلاة فرضًا وكذلك الركوع والسجود، وهذا كله من فرض الصلاة وهي به مضمنة لا تجزئ الصلاة إذا ترك شيء من ذلك، وكان ذلك في سائر الصلوات سواء، ورأينا القعود الأول مسنة لا اختلاف فيه فهو في كل الصلوات سواء، ورأينا القعود الأخير فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو فرض، ومنهم من يقول: هو سنة، وكل فريق منهم قد جعل ذلك في كل الصلوات سواء، فكانت هذه الأشياء ما كان منها فرضًا في صلاة فهو فرض في كل الصلوات كذلك، وكان الجهر بالقراءة في صلاة الليل ليس بفرض ولكنه سنة، وليست الصلاة به مضمنة كما كانت مضمنة بالركوع والسجود والقيام، قالك قد ينتفي من بعض الصلوات ويثبت في بعضها، والذي هو فرض والصلاة به مضمنة ولا تجزئ الصلاة إلا

بإصابته إذا كان في بعض الصلوات فرضًا كان في سائرها كذلك، فلما رأينا القراءة في المغرب والعشاء والصبح واجبة في قول هذا المخالف لا بد منها ولا تجزى الصلاة إلا بإصابتها كان كذلك هي في الظهر والعصر، فهذه حجة قاطعة على من ينفي القراءة من الظهر والعصر ممن يراها فرضًا في غيرهما، وأما من لا يرى القراءة من صلب الصلاة فإن الحجة عليه في ذلك: أنا قد رأينا المغرب والعشاء يقرأ في كلتيهما في قوله، ويجهر في الركعتين الأوليين منهما، ويخافت فيما سوى ذلك. فلما كان سنة ما بعد الركعتين الأوليين هي القراءة، ولم تسقط بسقوط الجهر، كان النظر على ذلك: أن تكون كذلك السنة في الظهر والعصر لما سقط الجهر فيهما بالقراءة أن لا تسقط القراءة؛ قياسًا على ما ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أصحاب الأئمة الأربعة، حيث استدلوا على وجوب القراءة في الظهر والعصر بحديث خباب بن الأرت وذلك لأن أبا معمر لما سأل خبابًا: "هل كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال له: نعم. فقال: بأي شيء عرفتم ذلك؟ قال خباب: باضطراب لحيته - صلى الله عليه وسلم -". ولم يرض الطحاوي بهذا الاستدلال، حيث قال: فلم يكن في هذا دليل عندنا على قراءته؛ لاحتمال أن يكون اضطراب لحيته المباركة بالتسبيح أو التهليل أو الدعاء أو بذكر من الأذكار، فلا يتم به الاستدلال مع هذا الاحتمال. هذا ما قاله، ولقائل أن يقول: هذا احتمال بعيد، فلا يضرُّ صحة الاستدلال، وذلك أنه - عليه السلام - قد قال: لا صلاة إلا بقراءة، فكيف يجوز بعد هذا القول أن يترك القراءة ويشتغل بالتسبيح ونحوه، بل الظاهر من الحال هو قراءته - عليه السلام - ولأن المصلي يناجي ربه في صلاته، وقراءة القرآن في حال المناجاة أولى وأجدر من الذكر على ما لا يخفي. قوله: "ولكن الذي حقق": أشار به إلى أن الدليل المرضي عنده في وجوب القراءة في الظهر والعصر هو الأحاديث التي رواها في الفصل الذي قبل هذا، وأراد بها

أحاديث أبي قتادة وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وعمران بن حصين وأبي هريرة وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. قوله: "تحقيق قراءته" فاعل لقوله: "ولما ثبت" أي تحقيق قراءة النبي - عليه السلام - في الظهر والعصر، و"انتفى ما روى عن ابن عباس". من قوله: "لا" حين سئل: "هل كان النبي - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر" الذي مرَّ ذكره في أول الباب، وهو الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وقد ذكر وجه انتفاء هذا فيما مضى مستقصى. قوله: "مما يخالف ذلك" أي الذي ثبت عنه - عليه السلام - من قراءته في الظهر والعصر. قوله: "رجعنا إلى النظر" أي القياس، وأراد أن القراءة في الظهر والعصر لما ثبتت بالدلائل الصحيحة الواضحة، ثبتت بما يؤكدها ويشدها أيضًا من القياس الصحيح، وهو من قوله: "فاعتبرنا ذلك ... " إلى آخر الباب. ملخص ذلك: أن القيام والركوع والسجود من فروض الصلاة بلا خلاف، وأن الصلاة لا تجزئ إلا بها, وليس ذلك في صلاة مخصوصة بل في سائر الصلوات، والقعود الأول سنة بلا خلاف، وهو أيضًا في سائر الصلوات، والقعود الأخير فيه خلاف فمنهم من يقول: هو فرض وهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأكثر العلماء، ومنهم من يقول: هو سنة وهم: مالك ومن تبعه، وهذا أيضًا في سائر الصلوات، فيقول كل ما كان فرضًا في صلاة، فهو فرض في كل صلاة، فالقراءة في العشاءين والصبح فرض لا خلاف فيه بيننا وبين الخصم؛ لأن كلاًّ منها صلاة، فكذلك في الظهر والعصر فرض؛ لأن كلاًّ منهما صلاة، وكان الجهر بالقراءة في صلاة الليل سنة ليس فرضا كالقيام ونحوه فكما انتفى الوجوب ها هنا وهو بعض الصلاة، وكذلك انتفى عن بعضها الآخر وهو الظهر والعصر، وثبت في البعض الآخر وهو الصبح والأوليان من العشاءين، فهذا الذي ذكرنا من الأثر والقياس حجة قاطعة على من ينفي القراءة من الظهر والعصر، ويوجبها في غيرهما، وأما الحجة على من لا يرى القراءة من صلب الصلاة -يعني من ذات الصلاة- أراد: من لم ير القراءة ركنًا من

أركان الصلاة: أن القراءة يجهر بها في الأوليين من العشاءين في قوله أيضًا: ويخافت فيما سوى ذلك وكان ذلك سنة حيث لم تسقط بسقوط الجهر، فالنظر على ذلك أن تكون السنة كذلك في الظهر والعصر أن لا تسقط القراءة فيهما بسقوط الجهر، فهذا هو وجه القياس والنظر الصحيح والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث خباب من طريقين صحيحين على شرط الشيخين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن قبيصة بن عقبة بن محمَّد السوائي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرة الأزدي الكوفي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن يوسف، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر قال: قلت ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غيرأن في لفظه: "بأي شيء كنتم تعلمون قراءته". وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "بم كنتم تعرفون". قوله: "باضطراب لحيته" أي بحركتها، وقد جاء في بعض الروايات لحيَيْه -بفتح اللام وباليائين أولاهما مفتوحة والأخرى ساكنة- وهي تثنية "لحي" بفتح اللام وسكون الحاء، وهي منبت اللحية من الإنسان وغيره. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، وأبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، ووكيع بن الجراح، كلهم عن سليمان الأعمش ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 264 رقم 727). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 272 رقم 801).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): أنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر قال: "قلنا لخباب بأي شيء كنتم تعرفون قراءة رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر؟ قال: باضطراب لحيته". أبو معاوية: "لحييه". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - كما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: "سمعت من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرأ في الظهر والعصر {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا سفيان بن حسين، قال: سمعت الزهري يحدث عن ابن أبي رافع، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أنه كان يأمر أو يحب أن يقرأ خلف الإِمام في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة سورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: حدثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، قال: سمعت أبا مريم الأسدي، يقول: "سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأ في الظهر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن جميل بن مرَّة وحكيم: "أنهم دخلوا على مورق العجلي، فصلى بهم الظهر، فقرأ بقاف والذاريات، اسمعهم بعض قراءته، فلما انصرف قال: صليت خلف ابن عمر - رضي الله عنهما - فقرأ بقاف والذاريات فاسمعنا نحو ما أسمعناكم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 318 رقم 3635). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 270 رقم 826).

حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا المقرئ، عن حيوة وابن لهيعة، قالا: أنا بكر بن عَمرو، أن عبيد الله بن مقسم أخبره، أن ابن عمر قال له: "إذا صليت وحدك فاقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بأم القرآن وسورة سورة، وفي الركعتين الأخريين بأم القرآن، فلقيت زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، فقالا مثل ما قال ابن عمر - رضي الله عنهما -". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عبيد الله بن مقسم قال: "سألت جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن القراءة؛ في الظهر والعصر، فقال: أما أنا فاقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة سورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله: "أنه سأله كيف تصنعون في صلاتكم التيم لا تجهرون فيها بالقراءة؛ إذا كنتم في بيوتكم؟ فقال: نقرأ في الأوليين من الظهر والعصر في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، ونقرأ في الأخريين بأم القرآن وندعو". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عبيد الله بن مقسم، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "إذا صليت وحدك شيئًا من الصلوات فاقرأ في الركعتين الأوليين بسورة مع أم القرآن، وفي الأخريين بأم القرآن". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا مسعر بن كدام، قال: حدثنا يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: "سمعته يقول: يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، قال: وكنا نتحدث أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما فوق ذلك، أو فما أكثر من ذلك".

حدثنا فهد، قال: حدثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن زكرياء، عن عبد الله بن خباب، عن خالد بن عرفطة قال: "سمعت خبابًا يقرأ في الظهر أو العصر إذا زلزلت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن إبراهيم قال: "سمعت هشام بن إسماعيل على منبر النبي - عليه السلام - يقول: قال أبو الدرداء: اقرءوا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". ش: أي قد روي فعل القراءة؛ في الظهر والعصر أيضًا عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وأخرج ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وخباب بن الأرت وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -. أما أثر عمر: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن عبيد الله ابن محمد بن حفص المعروف بأبي عائشة، وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مَلّ -بفتح الميم وكسرها- نسبة إلى نهد بن زيد بن ليث بن سُود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، قبيلة كبيرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن علية، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي، قال: "سمعت من عمر - رضي الله عنه - نغمة من "قاف" في صلاة الظهر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 319 رقم 3644).

وأما أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فأخرجه عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس التيمي -وقيل: التميمي- شيخ البخاري، عن شعبة، عن سفيان بن حسين الواسطي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن أبيه أبي رافع مولى النبي - عليه السلام -، عن علي - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا إسماعيل بن محمَّد الصفار، ثنا عباس بن محمَّد، ثنا عبد الصمد بن النعمان، ثنا شعبة، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن ابن أبي رافع، عن أبيه: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يأمر أو يقول: اقرأ خلف الإِمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وفي رواية (¬2) له: "أقرأ في صلاة الظهر والعصر". وقد ذكرناها فيما مضى عند قوله: "حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن خالد، عن جعفر بن محمَّد، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - ... " الحديث وهذا الحديث مع إسناده قريب من حديث بكر بن إدريس هذا. وأما أثر ابن مسعود: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء اسمه سليم بن أسود الكوفي، عن أبي مريم الأسدي واسمه عبد الله بن زياد الكوفي. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 322 رقم 21). (¬2) تقدم تخريجه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن أشعث بن سليم، عن أبي مريم الأسدي، عن عبد الله قال: "صليت إلى جنبه فسمعته يقرأ خلف بعض الأمراء في الظهر والعصر". وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه من طريقين صحيحين، وعبد الله بن لهيعة مذكور في الطريق الثاني متابعة. الأول: عن أبي بكرة بكار، عن وهب بن جرير، عن هشام بن حسان الأزدي القردوسي، عن جميل بن مرة الشيباني البصري، وثقه النسائي وروى له أبو داود، وعن حكيم -بفتح الحاء- غير منسوب، الظاهر أنه والد المغيرة بن حكيم من التابعين، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه: "أنهما وجماعة دخلوا على مورق العجلي ... " إلى آخره، ومُوَرِّق -بضم الميم وتشديد الراء المكسورة- بن المُشَمْرج -بضم الميم الأولى، وفتح الشين المعجمة، وسكون الميم، وكسر الراء، وفي آخره جيم- العجلي الكوفي ويقال البصري، روي له الجماعة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن إدريس، عن هشام، عن جميل بن مرة، عن مورق العجلي قال: "صليت خلف ابن عمر الظهر، فقرأ بسورة مريم". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن معمر، عن قتادة، عن مورق العجلي قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنه - يصلي بهم فيقرأ في الظهر بقاف واقتربت". الثاني: عن إبراهيم بن منقذ، عن عبد الله بن يزيد القصير المقرئ، عن حيوة بن شريح أبي زرعة المصري، وعن عبد الله بن لهيعة، كلاهما عن بكر بن عمرو المعافري المصري، إمام جامعها، عن عبيد الله بن مقسم القرشي المدني، عن ابن عمر، وزيد ابن ثابت، وجابر بن عبد الله. أما أثر زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: فقد ذكر في أثر ابن عمر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 328 رقم 3752). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 313 رقم 3576). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 105 رقم 2679).

وأما أثر جابر بن عبد الله: فأخرجه من أربع طرق صحاح، غير ما ذكره في أثر ابن عمر - رضي الله عنهم -: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي المكي. عن عبيد الله بن مقسم المدني ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن مقسم قال: "سألت جابر بن عبد الله عن القراءة قال: أما أنا فأقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الآخريين بفاتحة الكتاب". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث، عن ابن سعد، عن أسامة بن زيد، عن عبيد الله بن مقسم ... إلى آخره. قوله: "وندعوا" أراد به من الأدعية المأثورة التي تشابه ألفاظ القرآن، نحو: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة" ونحو ذلك. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني، عن أبيه بكير بن عبد الله، عن عبيد الله بن مقسم ... إلى آخره، وقد ذكرنا أن مخرمة لم يسمع من أبيه. الرابع: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن مسعر بن كدام، عن يزيد بن صهيب الفقير الكوفي، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن مسعر، عن يزيد الفقير، ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 101 رقم 2661). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 326 رقم 3728) الشطر الأول منه والشطر الثاني في (1/ 318 رقم 3633).

عن جابر قال: "يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، كنا نتحدث أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد". وأما أثر خباب: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي، عن زكرياء بن أبي زائدة الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن عبد الله بن خباب الأنصاري المدني، عن خالد ابن عرفطة، ويقال: خالد بن عرفجة، قال أبو حاتم: مجهول. وفي "الميزان": خالد بن عرفطة أو عرفجة، تابعي كبير لا يعرف انفرد عنه قتادة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وأما أثر أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري البصري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي أبي نصر اليمامي، واسم أبي كثير صالح بن المتوكل، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث القرشي المدني، روى له الجماعة، عن هشام بن إسماعيل والي المدينة النبوية الذي ضرب سعيد بن المسيب بالسياط، ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" وقال: هشام بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة المخزومي روى عن أبي الدرداء مرسلًا، روى عنه محمَّد بن يحيى بن حبان ومحمد بن إبراهيم التيمي، سمعت أبي يقول ذلك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) منقطعًا معضلًا وقال: ثنا عبد الله بن مبارك، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: "حُدِّثْت أن أبا الدرداء كان يقول: اقرءوا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، وفي الركعة الأخيرة من صلاة المغرب وفي الركعتين الآخريين من العشاء بأم الكتاب". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 325 رقم 3725).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن عمر بن راشد عم يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان: "أن أبا الدرداء كان يقول: اقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر والعشاء الآخرة في كل ركعة بأم القرآن وسورة وفي الركعة الآخرة من المغرب بأم القرآن " انتهى. قلت: لم يذكر خالد سماعًا من أبي الدرداء. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 102 رقم 2664).

ص: باب: القراءة في صلاة المغرب

ص: باب: القراءة في صلاة المغرب ش: أي هذا الباب في بيان أحكام القراءة في صلاة المغرب، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه (ح) وحدثنا يزيد بن مشان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا مالك، قال: أخبرني الزهري، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالطور". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: أنا مالك وسفيان، عن ابن شهاب، فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي قال: "سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالطور". وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على ... مالك إلى آخره نحوه. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن يحيى بن سعيد القطان، عن مالك ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 256 رقم 731). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 338 رقم 463).

وأخرجه أبو داود (¬1): حدثني القعنبي، عن مالك ... إلى آخره. والنسائي (¬2): أخبرنا قتيبة، عن مالك ... إلى آخره. الثالث: عن إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الشافعي، عن الإِمام محمَّد بن إدريس الشافعي، عن مالك، وعن سفيان بن عُيينة، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا سفيان، عن الزهري، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: "سمع النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالطور". وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا محمَّد بن الصباح، أنا سفيان، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالطور". قوله: "بالطور" أي بسورة {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} وهي مكية، وهي تسع وأربعون آية عند أهل الكوفة، وثمان وأربعون عند أهل البصرة، وسبع وأربعون عند أهل المدينة، وثلاثمائة واثني عشر كلمة، وخمسمائة أحرف. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: حدثني بعض إخوتي، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: "أنه أتى النبي - عليه السلام - في بدر، قال: فانتهيت إليه وهو يصلي المغرب، فقرأ بالطور، فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن، وذلك قبل أن يسلم". ش: فيه مجهول، وهو قوله: "بعض أخوتي" قيل: هو إما مسور وإما صالح ابنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والظاهر أنه صالح وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 811). (¬2) "المجتبى" (2/ 169 رقم 987). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 80 رقم 16781). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 272 رقم 832).

وسعد بن إبراهيم روى له الجماعة، وأبوه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وثقة النسائي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت بعض أخوتي، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: "أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء بدر -قال ابن جعفر: في فداء المشركين- وما أسلم يومئذ فدخلت المسجد ورسول الله - عليه السلام - يصلي المغرب، فقرأ بالطور فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن، قال ابن جعفر: فكأنما صدع قلبي [حيث] (¬2) سمعت القرآن". وأخرجه الطبراني (¬3) أيضًا: ثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، أن ابن شهاب أخبره، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: "أنه جاء في فداء أسارى بدر قال: فوافيت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في صلاة المغرب {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (¬4) قال: فأخذني من قراءته كالكرب، فكان ذلك أول ما سمعت من أمر الإِسلام". قوله: "أتى النبي - عليه السلام - في بدر" أي في فداء أهل بدر كما صرح به في رواية أحمد، وكان جبير يومئذ كافرًا، وأسلم بعد ذلك، فهذا من بدائع الحديث وعجائبه حين سمع جبير هذا الحديث وهو كافر، وحدث عنه وهو مسلم. قوله: "فكأنما صدع قلبي" أي شقَّه وقطَّعه، وأراد به أنه أثر في قلبه، وداخَلَهُ نور الإِسلام ببركة ذلك. قوله: "حين سمعت القرآن" وفي بعض الروايات "حيث سمعت" كما وقع كذلك في إحدى روايات أحمد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 83 رقم 16808). (¬2) في "الأصل، ك": حين. والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) "المعجم الكبير" (2/ 116 رقم 1498). (¬4) سورة الطور، آية: [1 - 3].

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ بالمرسلات عُرفا، فقالت: يا بني، لقد ذكرتني قراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ بها في صلاة المغرب". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري ... فذكر مثله بإسناده. ش: هذان طريقان صحيحان وقد تكرر رجالها والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (¬4): عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن أمه أم الفضل قالت: "خرج إلينا رسول الله - عليه السلام - وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات، فما صلاها بعد حتى لقي الله -عز وجل-". وقال: حديث أم الفضل حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 265 رقم 729). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 338 رقم 462). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 810). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 112 رقم 308).

والنسائي (¬1): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن أمه: "أنها سَمِعَت النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالمرسلات". وابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أمه -قال أبو بكر بن أبي شيبة: هي لبابة-: "أنها سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا" انتهى. ولبابة -بضم اللام، وتخفيف الباء الموحدة، وبعد الألف باء أخرى- هو اسم أم الفضل بنت الحارث بن حزن الهلالية، زوج العباس بن عبد المطلب، وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي - عليه السلام -. قوله: "يا بني" تصغير [ابن، وهذا تصغير] (¬3) الترحم والشفقة. قوله "قراءتك" مرفوع لأنه فاعل لقوله: "ذكرتني" وهي من التذكير. قوله: "هذه السورة" مفعول المصدر، أعني "قراءتك" والمصدر مضاف إلى فاعله. قوله: "إنها" أي إن {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} وهي مكية إلا قوله -عز وجل-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬4) وهي خمسون آية، ومائة وإحدى وثمانون كلمة، وثمانمائة وستة عشر حرفًا. الثاني: عن ابن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس العبدي البصري شيخ أحمد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬5): أنا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 168 رقم 986). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 272 رقم 831). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "عمدة القاري". (¬4) سورة المرسلات، آية: [48]. (¬5) "سنن الدارمي" (1/ 336 رقم 1294).

عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن أم الفضل: "أنها سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ في المغرب بالمرسلات". ص: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة، قال: أنا أبو الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: أخبرني زيد بن ثابت، أنه قال لمروان بن الحكم: "يا أبا عبد الملك، ما يحملك أن تقرأ في صلاة المغرب بقل هو الله أحد وسورة أخرى صغيرة؟ قال زيد: فوالله لقد سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطول وهي ألمص". حدثنا روح بن الفرج، قال: نا سعيد بن عفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام، عن أبيه: "أن مروان كان يقرأ في المغرب بسورة يس". قال عروة: قال زيد بن ثابت -أو أبو زيد الأنصاري شك هشام- لمروان: "لم تقصر صلاة المغرب، وكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ فيها بأطول الطوليين: الأعراف؟ ". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، ونسبته إلى جيزة مصر -بكسر الجيم- بليدة قبالة مقياس مصر من غربي النيل على شطه. عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المؤذن، قال أبو حاتم: محله الصدق ولكن غمزه سعيد بن أبي مريم. عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، روى له الجماعة. عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار بن نُضَيْر -بضم النون وفتح الضاد المعجمة- قال النسائي: ليس به بأس. وعن يحيى: كان راوية عن ابن لهيعة، وكان شيخ صدق.

عن عروة بن الزبير بن العوام، عن زيد بن ثابت الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه - أنه قال لمروان وهو ابن الحكم بن أبي العاص، ولد يوم أحد وقيل: يوم الخندق، ولم ير النبي - عليه السلام - لأنه خرج إلى الطائف طفلًا لا يعقل لما نفى النبي - عليه السلام -أباه الحكم (¬1) وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان - رضي الله عنه - فردهما واستكتب عثمان مروان وضمه إليه، روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمَّد بن سلمة، قال: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث، عن زيد بن ثابت، أنه قال لمروان: "يا أبا عبد الملك، أتقرأ في المغرب بقل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر؟ قال: نعم، قال: [فمحلوفة] (¬3) لقد رأيت رسول الله - عليه السلام - يقرأ فيها بأطول الطوليين ألمص". وقال أبو داود (¬4): نا الحسن بن علي، نا عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في المغرب بطولى الطوليين؟ قال: قلت: ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف، قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي من قبل نفسه: المائدة والأعراف". وقال البخاري (¬5): ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: "قال زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي - عليه السلام - يقرأ بطولى الطوليين؟ ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" للطبراني (12/ 148 رقم 12724). (¬2) "المجتبى" (2/ 169 رقم 989). (¬3) في "الأصل، ك": "فحقلوفة"، والمثبت من "المجتبى"، والمحلوفة: هو القَسَم وهو على سبيل إضمار الحلف بالله محلوفة. انظر "لسان العرب" (حلف). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 812). (¬5) "صحيح البخاري" (1/ 265 رقم 730).

قوله: "وسورة أخرى صغيرة" قد فسرها في رواية النسائي بـ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (¬1). قوله: "بأطول الطُّوَل" بضم الطاء وفتح الواو، جمع طولى، وهي فُعْلى -بالضم- تأنيث أطول، ككبرى تأنيث أكبر، وأراد بالطُّوَل: المائدة والأنعام والأعراف، وأراد بأطول الطول: الأعراف؛ لأنه فسره بقوله وهي ألمص. فإن قيل: أطول الطول: البقرة؛ لأنها أطول السبع الطول، فكيف يقول: أراد بأطول الطول الأعراف". قلت: لو لم يفسر بقوله: "وهي ألمص" كان الذي يفهم من قوله: "أطول الطول" البقرة، ولكن لا فسره بقوله: "وهي ألمص"، عُرف أن المراد منه سورة الأعراف؛ لأنها أطول الطول بعد البقرة، بيانه: أن البقرة مائتان وثمانون وست آيات، وهي ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وخمس وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف. وسورة آل عمران مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفًا. وسورة النساء مائة وخمس وسبعون آية، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسة وأربعون كلمة، وستة عشر ألفا وثلاثون حرفًا. وسورة المائدة مائة واثنان وعشرون آية، وألف وثمانمائة كلمة وأربع كلمات، واحد عشر ألفًا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفًا. وسورة الأنعام مائة وست وستون آية، وثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة، واثني عشر ألف وأربعمائة واثنان وعشرون حرفًا. ¬

_ (¬1) سورة الكوثر، آية: [1].

والأعراف مائتان وخمس آيات عند أهل البصرة، وست عند أهل الكوفة، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألف حرف وعشرة أحرف. الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن سعيد بن كثير بن عفير، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار ... إلى آخره. وهؤلاء ثقات إلا أن في ابن لهيعة مقالًا. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أحمد بن رشدين، نا يحيى بن بكير، ثنا ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة بن الزبير، قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في المغرب بأطول الطوليين". وفي "الأطراف" لابن عساكر: "قيل لعروة ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف ويونس". الثالث: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن المنهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه عروة ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. قوله: "أو أبو زيد الأنصاري" صحابي لم يدر اسمه، وذكره البغوي في "معجمه" وقال: أبو زيد الأنصاري ولم ينسَب. قوله: "شك هشام" أي هشام بن عروة. قوله: "لم تقصر" بالتشديد، وأراد تخفيف القراءة فيها. قوله: "بأطول الطوليين" يعني بأطول السورتين الطويلتين، وهما الأنعام والأعراف، والطولى مؤنث الأطول. قوله: "الأعراف" بيان لقول: "بأطول الطوليين". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 126 رقم 4827).

ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل بنت الحارث قالت: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - في بيته المغرب في ثوب واحد، متوشحًا به، فقرأ والمرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض - عليه السلام -". ش: إسناده صحيح على فرط مسلم، وموسى بن داود الضبي الخلقاني قاضي المصيصة، قال الدراقطني: كان مصنفًا مكثرًا مأمونًا روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وعبد العزيز هو ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وحميد هو الطويل. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن منصور، قال: نا موسى بن داود، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل بنت الحارث قالت: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - في بيته المغرب، فقرأ المرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض - عليه السلام -". قوله: "متوشحًا"، حال من الرسول - عليه السلام -، والتوشح التغشي، والأصل فيه من الوشاح، وهو شيء ينسج، عريضًا من أديم، وربما رصع بالجوهر والخرز، وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها، ويقال فيه: وشاح، وأشاح، وقال الجوهري: ربما قالوا: توشح الرجل بثوبه وبسيفه. وقال: ابن سيده: التوشح أن يتشح بالثوب ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى ثم يعقد طرفيهما على صدره، وقد وشحه الثوب. وقال الزهري في حديثه: الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقه، وهو الاشتمال على منكبيه. قوله: "ما صلى بعدها" أي بعد صلاة المغرب، وهذا يدل على أنه - عليه السلام - قبض بين المغرب والعشاء، ولكن المشهور المنقول عن الجمهور أنه توفي يوم الاثنين لليلتين ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 168 رقم 985).

خلتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وقيل: ليلة خلت منه، وقال ابن إسحاق: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، في اليوم الذي قدم فيه المدينة، وقال عروة في مغازيه: توفي رسول الله - عليه السلام - وهو في صدر عائشة - رضي الله عنها - وفي يومها يوم الاثنين حين زاغت الشمس لهلال ربيع الأول، وعن الأوزاعي: توفي رسول الله - عليه السلام - يوم الاثنين قبل أن ينشب النهار، ويقال: توفي رسول الله - عليه السلام - حين أشتد الضحى يوم الاثنين، وقيل: عند زوال الشمس، والله أعلم. قلت: المعنى في الحديث أنه ما صلى بعدها صلاة بالجماعة، أو ما صلى بعدها صلاة مغرب أخرى؛ لأنه - عليه السلام - لم يلحق إلى المغرب الأخرى فقبض - عليه السلام -، فافهم. ص: فزعم قوم أنهم يأخذون بهذه الآثار ويقلدونها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: حميدًا وعروة بن الزبير وابنه هشامًا والشافعي والظاهرية؛ فإنهم أخذوا بهذه الأحاديث المذكورة وتقلدوها وقالوا: الأحسن أن يقرأ المصلي في المغرب بالسور التي قرأها - عليه السلام - نحو الأعراف والطور والمرسلات ونحوها وقال الترمذي: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب. وقال ابن حزم في "المحلى": ولو أنه قرأ في المغرب بالأعراف أو المائدة أو الطور أو المرسلات فحسن. ص: وخالفهم في قولهم هذا أخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يقرأ في صلاة المغرب إلا بقصار المفصل. ش: أي خالف القوم المذكورين في قولهم الذي ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: المستحب أن يقرأ في صلاة المغرب من قصار المفصل.

وقال الترمذي: وعلى هذا العمل عند أهل العلم. والمفصل: السبع السابع، سمي به لكثرة فصوله، وهو من سورة محمَّد -وقيل: من الفتح، وقيل: من قاف- إلى آخر القرآن، وقصار المفصل من: لم يكن، إلى آخر القرآن. وأوساطه من: والسماء ذات البروج إلى: لم يكن، فافهم. ص: وقالوا قد يحوز أن يكون يريد بقوله قرأ بالطور: قرأ ببعضها، وذلك جائز في اللغة، يقال: هذا فلان يقرأ القرآن إذا كان يقرأ منه شيئًا، ويحتمل "قرأ بالطور" قرأ بكلها، فنظرنا في ذلك هل يروى فيه شيء يدل على أحد التأويلين؟ فإذا صالح بن عبد الرحمن وابن أبي داود قد حدثانا، قالا: حدثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن الزهري، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "قدمت المدينة على عهد النبي - عليه السلام - لأكلمه في أسارى بدر، فانتهيت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب، فسمعته يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (¬1) فكأنما صدع قلبي، فلما فرغ كلمته فيهم، فقال: شيخ، لو كان أتاني لشفعته فيهم يعني أباه مطعم بن عدي". فهذا هشيم قد روى هذا الحديث عن الزهري، فبين القصة على وجهها، وأخبر أن الذي سمعه من النبي - عليه السلام - هو قوله -عز وجل-: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (1) فبين هذا أن قوله في الحديث الأول: "قرأ بالطور" إنما هو ما سمعه يقرأه منها, وليس لفظ جبير إلا ما روى هشيم؛ لأنه ساق القصة على وجهها، فصار ما حكى فيها عن النبي - عليه السلام - هو قراءته {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (1) خاصة. وأما حديث مالك -رحمه الله-: فمختصر من هذا وكذلك حديث زيد بن ثابت في قوله لمروان: "لقد سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ فيها بأطول الطول: ألمص". يجوز أن يكون ذلك على قراءته ببعضها. ¬

_ (¬1) سورة الطور، آية: [7].

ش: أي قال الجماعة الآخرون، وأشار به إلى الجواب عما استدل به أهل المقالة الأولى, بيانه: أن قوله: "قرأ بالطور، يحتمل أمرين: الأول: أن يكون أراد به بعض الطور، من قبل ذكر الكل دارادة الجزء، وهذا شائع ذائغ في كلام العرب، وذلك كما يقال: فلان يقرأ القرآن إذا كان يقرأ منه شيئًا، وفلان يحيى الليل إذا كان يحيى بعضه، وفلان ينفق ماله في سبيل الله إذا كان ينفق بعضه. وأن يكون على حقيقته بأن يكون قرأ بالطور كلها فإذا كان هذا اللفظ دائرًا بين الاحتمالين وجب أن ينظر فيه هل يوجد شيء من الآثار يؤكد أحد الاحتمالين ويُعلم أن المراد أحدهما فنظرنا فيه، فوجدنا حديث جبير بن مطعم الذي رواه هشيم عن الزهري، قد دل على أن المراد من حديث جبير في الروايات السابقة هو بعض السورة؛ لأن هشيمًا بين في روايته هذه القصة على وجهها، وأخبر أن الذي سمعه جبير بن مطعم هو هذا المقدار من سورة الطور، وهو قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (¬1) خاصة، هذا الجواب أن الرواية التي رواها سعد بن إبراهيم. عن بعض إخوته عن أبيه جبير بن مطعم. وأما الجواب عن رواية مالك، عن الزهري، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه؛ فهو أنه مختصر من حديث سعد بن إبراهيم. وأما الجواب عن حديث زيد بن ثابت؛ فهو مثل الجواب المذكور أولًا، وهو أن يكون المراد بعض السورة كما ذكرنا، وكذلك الجواب عن حديث أم الفضل المذكور، ولم يذكر الطحاوي الجواب عنه. قلت: فيه نظر من وجهين: الأول: أن حديث هشيم لا يدل على المدعى؛ لأنه يجوز أن يكون انتهاء جبير بن مطعم إلى النبي - عليه السلام - وهو يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (1) وقد كان - عليه السلام - قد قرأ من أول السورة إلى هذا الموضع في غيبة جبير، وكان انتهاؤه إليه عند إنتهاء ¬

_ (¬1) سورة الطور، آية: [7].

النبي - عليه السلام - إلى هذه الآية، وأنه قد كمل السورة بعده بحضرته، ولم يذكر جبير من الآيات التي قد أدركها إلا هذه الآية وهي قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (¬1) إما لأنه أول آية قد أدركها، داما لأن هذه الآية هي التي قد صدعت قلبه لكونها تخبر عن وقوع عذاب الله تعالى بلا ريب. والثاني: أن إنكار زيد بن ثابت أو أبي زيد الأنصاري على مروان بن الحكم حين قرأ بسورة يس بقوله: "لم تقصر صلاة المغرب وكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ فيها بأطول الطوليين الأعراف؟ ". فلو لم يكن مراده الأعراف بتمامه لما وقع الإنكار في محله، مع أن مروان قد كان قرأ بسورة يس. والجواب الصحيح: أن يقال: إنه - عليه السلام - قد فعل هذا أحيانًا إما لبيان جواز الإطالة في المغرب، وإما لأنه قد علم أن من وراءه في ذلك الوقت ما كان يشتي ذلك عليهم، وإما لبيان أن الأمر على السعة، وأنه لا حد معلومًا في قراءة صلاة من الصلوات، وأن ذلك يفعل بحسب حال الوقت وبحسب حال المصلي، وقال القاضي عياض: وما ورد من إطالته - عليه السلام - في بعض الصلوات فإنه قد ورد ما يعارضه، وهو قوله - عليه السلام -: "إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" (¬2). وهذا أمر منه - عليه السلام - بالتخفيف، وإشارة للتعليل؛ فيبطل تطرق الاحتمال إليه، وهذا وقول جابر بن سمرة: "وكانت صلاته بعد تخفيفًا" وحدث أنس بنحوه يقضي على جميع مختلف الآثار، وأنه هو الذي شرعه - عليه السلام - للأئمة، وهو موضع البيان، وما خالفه من فعله فبحسب زوال العلة وهي السفر، وكون الصائم ورائه أو المتعجل، أو ضيق الوقت ونحو ذلك، على أنه - عليه السلام - كان يخفف الصلاة لسماع بكاء الصبي انتهى. ¬

_ (¬1) سورة الطور، آية: [7]. (¬2) متفق عليه من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، البخاري (1/ 248 رقم 670)، ومسلم (1/ 340 رقم 466).

وقد أكد بعضهم صحة ما ذكره الطحاوي من التأويل المذكور بما روي عن أنس قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي - عليه السلام -، ثم يرمي أحدنا فيرى موقع نبله" (¬1) وفي رواية غيره: "وهم يبصرون موقع النبل على قدر ثلثي ميل" (¬2) فلما كان هذا المقدار وقت انصراف رسول الله - عليه السلام -من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك وقد قرأ فيها الأعراف ولا نصفها ولا ثلثها. قلت: هذا ما ذكره الطحاوي على ما يجيء الآن، ولكن فيه نظرة لأن حديث أنس لا يدل على أنه - عليه السلام - كان دائمًا يصلي المغرب نحو ما ذكره حتى يصحح به التأويل المذكور، بل فعل النبي - عليه السلام - في هذا مختلف، وكذلك الروايات عنه مختلفة في تطويله القراءة فيها أحيانًا وتخفيفه أحيانًا، وكل ذلك كان ليدل على سعة الأمر، وأنه لا حد في قراءة لصلاة من الصلوات لا يتعدى، وأنه - عليه السلام - كان يفعل كل ذلك بحسب حال من وراءه وبحسب وقته من ابتداء الصلاة أول الوقت، إذْ يمكنه، أو الأعذار الحادثة فيه فافهم. ثم إسناد حديث هشيم صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا صالحًا وإبراهيم ابن أبي داود. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، نا أبو عبيد، نا هشيم، ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، قال هشيم: ولا أظن إلا قد سمعته من الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال: "أتيت النبي - عليه السلام - لأكلمه في أسارى بدر فوافيته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقول أو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} (¬4) فكأنما صدع قلبي". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 167 رقم 416)، وأحمد (3/ 189 رقم 12987). (¬2) "شرح معاني الآثار" (1/ 213 رقم 1169) عن بعض بني سلمة. (¬3) "المعجم الكبير" (2/ 116 رقم 1499). (¬4) سورة الطور، آية: [7 - 8].

قوله: "على عهد النبي - عليه السلام -" أي على زمنه وأيامه، وكان قدومه مع أسارى بدر كافرًا يومئذ وأسلم بعد ذلك قبل عام خيبر، وقيل: يوم الفتح، قاله في "التهذيب". قوله: "فقال شيخ" أي فقال - عليه السلام -: لو أتاني شيخ أراد به أباه مطعم بن عدي بن نوفل، وكانت له يد عند رسول الله - عليه السلام - وهي أنه كان أجار رسول الله - عليه السلام - لما قدم من الطائف حين دعى ثقيفًا إلى الإِسلام، وكان أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبها قريش على بني هاشم وبني المطلب، وإياه عنى أبو طالب بقوله: أمطعمُ إنَّ القومَ ساموكَ خُطَّة ... وإني متى أُوكَل فلستُ بوائلِ وكانت وفاة المطعم قبل بدر بنحو سبعة أشهر. قوله: "لشفعته" أي لقبلت شفاعته فيهم، لما قلنا من كون يد له عند النبي - عليه السلام -. ص: ومما يدل أيضًا على صحة هذا التأويل: أن محمَّد بن خزيمة قد حدثنا، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: "أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن موسى وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا حماد، قال: أنا ثابت، عن أنس قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي - عليه السلام - ثم يرمي أحدنا فيرى موقع نبله". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر (ح) وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن أبي عوانة وهشيم، عن أبي بشر، عن علي بن بلال، قال: "صليت مع نفر من أصحاب النبي - عليه السلام - من الأنصار فحدثوني أنهم كانوا يصلون مع رسول الله - عليه السلام - المغرب، ثم ينطلقون يرتمون لا يخفى عليهم موقع سهامهم، حتى يأتوا ديارهم وهي أقصى المدينة في بني سَلِمَة".

حدثنا أحمد بن مسعود، قال: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزعي، عن الزهري، عن بعض بني سَلِمَة: "أنهم كانوا يصلون مع النبي - عليه السلام - المغرب، ثم ينصرفون إلى أهليهم وهم يبصرون موقع النبل على قدر ثلثي ميل". حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن القعقاع بن حكيم، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نصلي مع النبي - عليه السلام -المغرب، ثم نأتي بني سَلِمَة وانا لنبصر مواقع النبل". قالوا: فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك وقد قرأ فيها الأعراف ولا نصفها. ش: أي ومن الذي يدل أيضًا على صحة هذا التأويل -وهو الذي ذكره أن المراد من السورة بعض السورة من إطلاق الكل وإرادة الجزء-: حديث جابر وأنس ونفر من أصحاب النبي - عليه السلام - وبعض بني سَلِمَة من الصحابة؛ لأنه ذكر في أحاديثهم أنهم كانوا يرمون بالسهام بعد انصرافهم من صلاة المغرب مع النبي - عليه السلام - وإن أحدهم يرى مواقع نبله على قدر ثلثي ميل، فإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون ذلك وقد قرأ - عليه السلام - فيها -أي في صلاة المغرب- الأعراف كلها أو نصفها؛ فدل أن المراد: بعضها كما قلنا. أما حديث جابر: فأخرجه من طريقين غير متواليين، ولو كانا متواليين لكان أحسن على ما لا يخفى. الأول: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا هناد بن السري، ثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر: "أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون". انتهى.

أي يرتمون بالسهام، يقال: انتضل القوم وتناضلوا أي رموا للسبق، وناضله إذا راماه، وفلان يناضل عن فلان إذا رامى عنه ودفع عنه. الثاني: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام بن شعبة أبي الحارث المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن القعقاع بن حكيم الكناني ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد، (¬1) والبزار، وأبو يعلى (¬2) في "مسانيدهم" بأسانيد مختلفة: عن جابر قال: "كنا نصلي مع الرسول - عليه السلام - المغرب، ثم نرجع إلى منازلنا وهي ميل وأنا أبصر مواقع النبل". وفي إسنادهم عبد الله بن محمَّد بن عقيل وهو مختلف في الاحتجاج به ولكن الترمذي وثقه، واحتج به أحمد وغيره. وأما حديث أنس - رضي الله عنه -: فأخرجه من طريقين أيضًا صحيحين: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار شيخ البخاري، وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا داود بن شبيب، نا حماد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي - عليه السلام - ثم نرمي فيرى أحدنا موضع نبله "انتهي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 369 رقم 15013). (¬2) "مسند أبي يعلى" (4/ 79 رقم 2104). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 167 رقم 416).

قلت: النبل السهام العربية ولا واحد لها من لفظها، فلا يقال: نبلة، وإنما يقال: سهم ونشابة. الثاني: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس. وأخرجه السراج في "مسنده": عن هناد، عن قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: "كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون، فيرون موقع نبلهم". وأما حديث نفر من الصحابة: فأخرجه من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار الدارمي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عونة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن علي بن بلال راوي المراسيل والمقاطع كذا قال ابن حبان بعد أن ذكره في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": علي بن بلال، وقال بعضهم: حسان بن بلال، قال: صليت مع نفر من الأنصار المغرب، فقالوا: كنا نصلي مع النبي - عليه السلام - ثم ننطلق فنترامى في بني سَلِمَة". سمعت أبي يقول ذلك. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح وهشيم بن بشير، كلاهما عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن علي بن بلال. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بإسناد حسن: عن علي بن بلال، عن ناس من الأنصار قالوا: "كنا نصلي مع رسول الله - عليه السلام - المغرب، ثم ننصرف فنترامى حتى نأتي ديارنا فما تخفى علينا مواقع سهامنا". وأما حديث بعض بني سلمة: فأخرجه عن أحمد بن مسعود الخياط شيخ الطبراني أيضًا، عن محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الصنعاني فيه مقال يختلف فيه، عن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 36 رقم 16462).

عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن بعض بني سلمة ... إلى آخره. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر وابن جريج، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك أخبره: "أن رجالًا من بني سلمة كانوا يشهدون المغرب مع رسول الله - عليه السلام - فينصرفون إلى أهليهم وهم يبصرون مواقع النبل". وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن حسين بن علي، عن جعفر بن برقان، عن الزهري، عن رجل -قال: من أبناء النقباء- عن أبيه قال: "كنا نصلي المغرب مع رسول الله - عليه السلام - ثم نرجع إلى رحالنا وأحدنا يبصر مواقع النبل". قال: قلت للزهري: فكم كانت منازلهم من المدينة؟ قال: ثلثي ميل. انتهى. قلت: ابن كعب اسمه عبد الله بن كعب، وبني سَلِمَة -بكسر اللام- من الأنصار حيث وقع. ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله قال: "صلى معاذ - رضي الله عنه - بأصحابه المغرب، فافتتح بسورة البقرة أو النساء، فصل رجل ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي - عليه السلام -، فذكر ذلك له، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفاتن أنت يا معاذ؟! - قالها مرتين- لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها؛ فإنه يصلي خلفك ذو الحاجة والضعيف والصغير والكبير". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: أنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن محارب بن دثار، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 511 رقم 2090). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 290 رقم 3329).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: "هي العتمة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر، قال: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يرجع فيؤمنا، فأخر رسول الله - عليه السلام - العشاء ذات ليلة، فصلى معه معاذ ثم جاء ليؤمنا، فافتتح سورة البقرة، فلما رأى ذلك رجل من القوم تنحى ناحية فصلى وحده، فقلنا: ما لك يا فلان أنافقت؟ فقال: ما نافقت ولآتين رسول الله - عليه السلام - فلأخبرنه، فأتى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إن معاذًا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا، وإنك أخرت العشاء البارحة وصك معك، ثم جاء فتقدم ليؤم معنا، فافتتح بسورة البقرة فلما رأيت ذلك تنحيت فصليت وحدي أي رسول الله، إنما نحن أصحاب نواضح، إنما نعمل بأجرائنا، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفتان أنت يا معاذ -مرتين- اقرأ بسورة كذا، اقرأ بسورة كذا، أقرأ بسور قصار من المفصل -لا أجدها- فقلنا لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا، عن جابر، أن رسول الله - عليه السلام - قال له: اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، فقال عمرو بن دينار: هو نحو هذا". قالوا: فقد أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قراءته بهم سورة البقرة، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ وأمره بالسور التي ذكرناها من المفصل، فإن كانت تلك الصلاة هي صلاة المغرب فقد ضاد هذا الحديث حديث زيد بن ثابت وما ذكرناه معه في أول هذا الباب، وإن كانت هي صلاة العشاء الآخرة فكره رسول الله - عليه السلام - أن يقرأ فيها بما ذكرنا مع سعة وقتها؛ فإن صلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى أن تكون تلك القراءة فيها مكروهة. ش: ذكر حديث معاذ - رضي الله عنه - من ثلاث وجوه تأكيدًا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من استحباب تخفيف القراءة في صلاة المغرب، ألا ترى أنه - عليه السلام - أنكر على

معاذ قراءة سورة البقرة في صلاته معهم، ونسبه إلى الفتنة وتنفير الناس عن الجماعة، وأمره بأن يقرأ بالسور القصيرة من سور المفصل، وهو معنى قوله: "قالوا: فقد أنكر، أي قال أهل المقالة الثانية ... إلى آخره. قوله: "فإن كانت تلك الصلاة" أي الصلاة التي صلاها معاذ معهم وقرأ فيها بسورة البقرة هي صلاة المغرب، فقد ضاد هذا الحديث حديث زيد بن ثابت وحديث جبير بن مطعم وحديث أم الفضل ونحوها مما يشابهها؛ لأن أحاديث هؤلاء تقتضي أن يكون المستحب قراءة السور الطويلة نحو السور التي ذكرت في أحاديثهم، وهذا الحديث يقتضي كراهة ذلك، فبينهما تضاد، هذا الذي ذكره. وفيه نظر؛ لأن أحاديث هؤلاء إذا كانت محمولة على بيان امتداد وقت المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق الأبيض أو الأحمر على الاختلاف أو على حسب من وراءه الراغبين لذلك، وهذا الحديث إذا كان محمولًا على ضيق الوقت إن كانت الصلاة مغربًا وعلى حسب من وراءه من أصحاب الأعذار والحاجات، وإذا كانت الصلاة عشاء، فلا تضاد ولا تنافي فافهم. قوله: "وإن كانت هي صلاة العشاء" أي وإن كانت صلاة التي صلاها معاذ هي صلاة العشاء الآخرة، فقد كره - عليه السلام - أن يقرأ بنحو سورة البقرة مع سعة وقت العشاء، فإذا كان كذلك ففي صلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى وأصلى أن تكون القراءة الطويلة مكروهة. فإن قيل: قد صرح في الحديث أن تلك الصلاة كانت صلاة العشاء فمن أين هذا الترديد؟ قلت: كما صرح بأنها صلاة العشاء في حديث عمرو بن دينار عن جابر، فكذلك صرح في حديث محارب بن دثار عن جابر بأنها صلاة المغرب، ولكن عمرو بن في ينار المكي صرح في روايته أنها صلاة العشاء حيث أخرج الطحاوي ذلك عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال: "هي العتمة" انتهى، أي: العشاء.

فإن قيل: قد روى أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان، عن عمرو، سمعه من جابر: "كان معاذ يصلي مع رسول الله - عليه السلام - ثم يرجع فيؤمنا- وقال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه -فأخر النبي - عليه السلام -- قال مرة: الصلاة، وقال مرة: العشاء- فصلى معاذ مع النبي - عليه السلام - ثم جاء قومه فقرأ البقرة، فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل: نافقت يا فلان؟ قال: ما نافقت فأتى النبي - عليه السلام -، فقال: إن معاذًا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله، إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة، فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟! اقرأ بكذا وكذا قال أبو الزبير: بسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، فذكرنا لعمرو فقال: أراه قد ذكره". وأخرجه أبو داود في "سننه" (¬2): عن أحمد بن حنبل. وهذا عمرو بن دينار يقول فيه بالترديد حيث قال: "فأخر النبي - عليه السلام - قال مرة: الصلاة، وقال مرة: العشاء". وقوله: "الصلاة" أعمّ من أن تكون مغربًا أو عشاء. قلت: الترديد في اللفظ فقط، ولا ترديد في المعنى، فإن مراده من قوله: "الصلاة" هو العشاء الآخرة؛ وذلك لأن تأخير المغرب مكروه، ولم ينقل أنه - عليه السلام - أخرها، وها هنا قد أراد بقوله: "فأخر الصلاة" أي العشاء؛ فافهم. أما الوجه الأول: فقد أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن محارب بن دثار، عن جابر قال: "صلى معاذ ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. ومحارب بن دثار بن كردوس السدوسي أبو كردوس الكوفي قاضيها. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 308 رقم 14346). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 269 رقم 790).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا محارب بن دثار، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لا أقبل رجل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذًا يصلي، فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي - عليه السلام - فشكى إليه معاذًا، فقال النبي - عليه السلام -: يا معاذ أفتان أنت -أو أفاتن ثلاث مرار- فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". الثاني: عن روح بن الفرج، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي والد سفيان الثوري، عن محارب بن دثار، عن جابر. وأخرجه البزار في "مسنده" من وجوه، وفي أحدها: ثنا إبراهيم بن بشار، نا داود بن عمرو، نا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن محارب بن دثار، عن جابر. وفي أحدها: عن شعبة، عن محارب ثم قال: واللفظ لفظ حديث شعبة، قال: "أقبل رجل من الأنصار معه ناضحان له، ومعاذ يصلي المغرب، فدخل معه في الصلاة، فاستفتح معاذ بالبقرة أو النساء -محارب الذي يشك- فلما رأى الرجل ذلك صلى ثم خرج، فبلغ الرجل أن معاذًا ينال منه، فذكر ذلك للنبي - عليه السلام -، فقال: أفتان يا معاذ، أفتان يا معاذ -أو فاتن فاتن فاتن- فلولا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما؛ يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة -أحسب محاربًا الذي يشك في الضعيف-". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 249 رقم 673).

الثالث: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني [محمد] (¬2) بن عباد، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: "كان معاذ يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي - عليه السلام - العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: نافقت يا فلان، قال: لا والله ولآتين رسول الله - عليه السلام - فلأخبرنه فأتى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - عليه السلام - على معاذ فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟! اقرأ بكذا وكذا". قال سفيان: قلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: "اقرأ والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى" فقال عمرو نحو هذا. قوله: "فصلى رجل" قيل: هو حزم بن أبي كعب، وقيل: حرام بن ملحان، وقيل: حازم، وقيل: سليم. قوله: "فبلغ ذلك معاذًا"، أي بلغ انصراف الرجل المذكور عن صلاة معاذ وصلاته وحده. قوله: "فبلغ ذلك الرجل" أي فبلغ قول معاذ: "إنه منافق" الرجل المذكور. قوله: "فأتى النبي - عليه السلام -" أي فأتى الرجل المذكور النبي - عليه السلام - "فذكر ذلك" أي ما قاله معاذ في حقه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 339 رقم 465). (¬2) في "الأصل، ك": معاذ. وفي "صحيح مسلم"، و"تحفة الأشراف" (2/ 256 رقم 2533): محمَّد بن عباد. ومحمد بن عباد هو ابن الزبرقان المكي وهو يروي عن سفيان. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" وهو الأظهر هنا. ويوجد في شيوخ مسلم: محمَّد بن معاذ بن عباد العنبري وهو يروي عن سفيان أيضًا.

قوله: "أفاتن" أي أمنفِّر عن الدين وصادٌّ عنه، والهمزة للاستفهام على سبيل الإنكار، وهذا زجر له عن تطويله الصلاة على ذوي الحاجات والضعفاء. قوله: "قالها مرتين" أي قال- عليه السلام - تلك الكلمة مرتين، أراد أنه قال: أفاتن أنت يا معاذ، أفاتن أنت يا معاذ. قوله: "لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى ... " إلى آخره، جواب "لو" محذوف، أي لو قرأت بهذه السورة كانت تكفي أو تجزئ أو نحو ذلك. قوله: "فإنه يصلي" الفاء للتعليل، والضمير للشأن. قوله: "أقبل رجل بناضحين" الرجل هو الذي ذكرناه، والناضح هو البعير الذي يستقى عليه، والأنثى: ناضحة، والجمع: نواضح، سميت بذلك لنضحها الماء باستقائها، والنضح: الرش. قوله: "وقد جنح الليل" الواو للحال، يقال: جنح الليل إذا قبل والشمس تغيب. قوله: "نال منه" أي أصاب منه، أراد: تكلم في حقه بما يسوؤه. قوله: "تنحى ناحية" أي تجنب الناس وصار في ناحية وحده. قوله: "أنافقت" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "أي رسول الله" أي: يا رسول الله وقد علم أن حروف النداء ثمانية، وهي "يا"، و"أيا"، و"هيا"، و"أي" و"الهمزة"، و"وا"، و"آ"، و"آي". و"يا " هي أم الباب؛ لأنها ينادى بها البعيد والقريب والمندوب وغيره و"أيا" مثل "يا" إلا أنها لا تستعمل إلا والمنادى مذكور و"هيا" مثل "أيا"؛ لأن مائها مبدلة من الهمزة و"أي" بفتح الهمزة وسكون الياء بوزن "كَيْ"، و"الهمزة" نحو: أَزيد أقبل، فهذه الخمسة حروف النداء عند البصريين، وزاد الكوفيون "آ"، و"آي" تقول: آزيد، وآي زيد، وأما "وا" فتستعمل في الندبة، وهي: نداء المتفجع عليه، أو المتوجع منه، نحو: وازيداه، واظهراه.

قوله: "أصحاب نواضح" أي: أصحاب عمل وتعب. قوله: "بأجرائنا" جمع أجير. قوله: "من المفصل" وهو السُّبع السابع من القرآن، سمي به لكثرة فصوله، وقد مرَّ مرة. قوله "فقلنا لعمر" القائل هو سفيان الثوري، وعمرو هو ابن دينار المكي، وأبو الزبير هو محمَّد بن مسلم بن تدرس المكيز ويستفاد من هذه الأحاديث: استحباب تخفيف القراءة في صلاة المغرب، وكراهية تطويلها, ولا سيما في حق الإِمام الذي يصلي وراءه قوم ضعفاء أو كسالى، أو يكون إمام مسجد شارع، وفي مثل هذا يكره في سائر الصلوات. وجواز قول من يقول سورة البقرة وسورة النساء وسورة المائدة ونحوها، ومنعه بعض السلف وزعم أنه لا يقال إلا: السورة التي تذكر فيها البقرة ونحوها، والحديث الصحيح حجة عليه. ووجوب الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه وإن كان مكروهًا غير محرم. وجواز الاكتفاء بالكلام في التعزير. والأمر بتخفيف الصلاة والتعزير على إطالتها إذا لم ترض الجماعة. وفيه جواز إمامة المتنفل بالمفترض وهو الذي تعلق به الشافعي، وسيجيء الجواب عن ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - فيما كان يقرأ به في العشاء الآخرة نحو من هذا. حدثنا أحمد بن عبد المؤمن الخراساني، قال: ثنا علي بن الحسن بن شفيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، وأشباهها من السور".

ش: إسناده صحيح، وأحمد بن عبد المؤمن وثقه ابن يونس وابن الجوزي، وعلي بن الحسن شيخ البخاري وغيره، والحسن بن واقد المروزي أبو عبد الله قاضي مرو روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وعبد الله بن بريدة أبو سهل المروزي روى له الجماعة، وأبوه بريدة بن الحصيب بن عبد الله الصحابي. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، ونحوها من السور" وقال: حديث بريدة حديث حسن. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، عن أبيه، عن الحسن بن واقد ... إلى آخره نحوه. ص: فإن قال قائل: فهل روي عن النبي - عليه السلام - أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل؟ قيل له: نعم. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ في المغرب بالتين والزيتون". حدثنا يحيى بن إسماعيل أبو زكريا البغدادي، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا الضحاك بن عثمان، قال: حدثني بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في المغرب بقصار المفصل". حدثنا روح بن الفرج، قال: حدثنا أبو مصعب، قال: أنا المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، عن الضحاك، عن بكير، عن سليمان، عن أبي هريرة قال: "ما رأيت ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 114 رقم 309). (¬2) "المجتبى" (2/ 173 رقم 999).

أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - عليه السلام - من فلان، قال بكير: فسألت سليمان -وكان قد أدرك ذلك الرجل- فقال: كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا عثمان بن مِكْتَل، عن الضحاك ... ثم ذكر بإسناده مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - قد أخبر عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل، فإن حملنا حديث جبير وما رويناه معه من الآثار على ما حمله عليه المخالف لنا؛ تضادت تلك الآثار وحديث أبي هريرة هذا، وإن حملناها على ما ذكرنا ائتلفت هي وهذا الحديث، وأولى بنا أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على التضاد؛ فثبت بما ذكرنا أن ما ينبغي أن يقرأ به في صلاة المغرب هو قصار المفصل، وهذا قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أخرج في جواب السائل، عن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم -: أحدهما: عبد الله بن عمر، أخرج حديثه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب نزيل مكة شيخ البخاري في أفعال العباد وشيخ ابن ماجه في "سننه"، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بشيء. وعنه: ضعيف. وعن النسائي: ليس بشيء. ووثقه ابن حبان ويحيى في رواية. عن وكيع بن الجراح، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن جابر بن يزيد الجعفي الكوفي، فيه مقال كثير. عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - قرأ في المغرب بالتين والزيتون". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 314 رقم 3592) ولكن من مسند عبد الله بن يزيد، وليس عبد الله بن عمر، وكذا ذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (1/ 209 رقم 488) بتحقيقنا وعزاه =

والآخر: أبو هريرة - رضي الله عنه - أخرج حديثه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يحيى بن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي شيبة صاحب "المصنف" و"المسند"، عن زيد بن الحباب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة- العكلي الكوفي من رجال مسلم والأربعة، عن الضحاك بن عثمان بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني الكبير من رجال مسلم والأربعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي المدني نزيل مصر من رجال الجماعة، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام -أخي عطاء بن يسار- من رجال الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده". الثاني: عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني أيضًا عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث الزهري المدني الفقيه قاضي مدينة الرسول - عليه السلام - وشيخ الجماعة سوى النسائي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني، وثقه يعقوب بن شيبة وروى له أبو داود وابن ماجه، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار ... إلى آخره. ¬

_ = لأبي بكر بن أبي شيبة في "مسنده" وكذا فعل البوصيري في "إتحاف الخيرة" (2/ 175 رقم 1282) بتحقيقنا أيضًا. وكذا أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" كما في المنتخب من مسند عبد بن حميد (1/ 178 رقم 493) من طريق إسرائيل عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري به. وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 297) وعزاه لعبد الله بن يزيد، وقال: رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه جابر الجعفي، وثقه شعبة وسفيان وضعفه بقية الأئمة. فهذا كما رأيت أن المحفوظ من رواية عبد الله بن يزيد الأنصاري وليس من رواية عبد الله بن عمر. فلعل هذا وهم من الطحاوي: وتبعه عليه العيني -رحمه الله-: هنا وكذا فعل في "عمدة القاري" (6/ 25) فقال: وروى الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالتين والزيتون" وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، وفي سنده مقال. ولم ينتبه أنه من مسند عبد الله بن يزيد وليس ابن عمر كما قدمنا.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، قال: ثنا عبد الله بن الحارث، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: "ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله - عليه السلام - من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان، فكان يطول الأوليين من الظهر ويخفف في الآخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وبأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2): ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو بكر الحنفي، ثنا الضحاك بن عثمان، حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج، ثنا سليمان بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: "ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله - عليه السلام - من فلان -أميرًا كان بالمدينة- قال سليمان: فصليت أنا وراءه، فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الآخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسط المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل" انتهى. قوله: "من فلان" قيل: هو عمرو بن سَلِمَة الجرمي أبو بُريد، أدرك النبي - عليه السلام -، وكان يؤم قومه على عهد رسول الله - عليه السلام - لأنه كان أكثرهم حفظًا للقرآن، وسَلِمَة بكسر اللام، وبُريد -بضم الباء الموحدة، وفتح الراء- وفي رواية ابن حبان: "من فلان أميرًا كان بالمدينة" كما ذكرنا. الثالث: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة القرشي المخزومي أبي الحسن الكوفي ثم المصري المعروف بعلَّان، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عثمان بن مِكْتَل بكسر الميم، وسكون الكاف وفتح التاء المثناة من فوق، عن الضحاك، عن بكير ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 167 رقم 983). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 145 رقم 1837).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1)، ولكن من طريق النسائي. قوله: "فإن حملنا حديث جبير ... " إلى آخره ظاهر ولكن فيه ما فيه؛ وذلك لأنا إذا حملنا الأحاديث على اختلاف الأوقات والحالات كما ذكرنا فيما مضى لا يلزم التضاد ولا التنافي، فافهم. ص: وقد روي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن علي بن زيد بن جدعان، عن زرارة بن أوقى قال: "أقرأني أبو موسى كتاب عمر - رضي الله عنه - إليه: اقرأ في المغرب بآخر المفصل". ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب مثل ما روى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وبن ذلك بقوله: "حدثنا ... " إلى آخره وابن الأصبهاني هو محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك هو ابن عبد الله النخعي ثقة كبير، وعلي بن زيد بن جدعان ليس بقوي قاله أبو زرعة وأحمد، وعن يحيى: ليس بحجة. وعن أبي حاتم: ليس بقوى، يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان ضريرًا وكان يتشيع، وزرارة بن أوفى العامري قاضي البصرة، من التابعين الثقات، ومات وهو ساجد، وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس وكان عمر - رضي الله عنه - استعمله على الكوفة والبصرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا شريك، عن علي بن زيد، عن زرارة بن أوفي قال: "أقرأني أبو موسى كتاب عمر - رضي الله عنه - أن اقرأ بالناس في المغرب بآخر المفصل" انتهى. وآخر المفصل من {لَم يَكُنِ} إلى آخر القرآن. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 193 رقم 3836). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 314 رقم 3594).

وروى عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: "صلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة المغرب فقرأ في الركعة الأولى بالتين والزيتون وطور سينين، وفي الركعة الأخرى ألم تر، ولإيلاف قريش". وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن الحصين وأبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -. فأثر ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو داود الطيالسي، عن قرة، عن النزال بن عمار، قال: حدثني أبو عثمان النهدي، قال: "صلى بنا ابن مسعود - رضي الله عنه - المغرب، فقرأ قل هو الله أحد، فوددت أنه كان قرأ سورة البقرة من حسن صوته". وأخرجه أبو داود، (¬3) والبيهقي (¬4) أيضًا. وأثر ابن العباس أخرجه ابن أبي شيبة (¬5) أيضًا: ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن ابن عباس قال: "سمعته يقرأ في المغرب إذا جاء نصر الله والفتح". وأثر عمران بن الحصين أخرجه ابن أبي شيبة (¬6) أيضًا: ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قال: "كان عمران بن الحصين يقرأ في المغرب إذا زلزلت والعاديات". وأثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬7): عن مالك، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، أن عبادة بن نُسَي أخبره، أنه سمع قيس بن ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 109 رقم 2697). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 314 رقم 3595). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 275 رقم 815). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 391 رقم 3838). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3597). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3601). (¬7) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 109 رقم 2698).

الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي: "أنه صلى وراء أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، ثم قرأ في الثالثة، قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته قرأ بأم القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} حتى {الْوَهَّابُ} " (¬1) انتهى. وعن مكحول (¬2): "أن قراءته هذه الآية في الركعة الثالثة كانت على سبيل الدعاء". وروي نحو ذلك من التابعين أيضًا: فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، قال: "سمعت سعيد بن جبير يقرأ في المغرب مرة: تنبئ أخبارها، ومرة {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ". ثنا (¬4) وكيع، عن ربيع قال: "كان الحسن يقرأ في المغرب إذا زلزلت والعاديات لا يدعها". ثنا (¬5) زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: "رأيت عمر بن عبد العزيز يقرأ في المغرب بقصار المفصل". ثنا (¬6) وكيع، عن محل قال: "سمعت إبراهيم يقرأ في الركعة الأولى من المغرب بـ إيلاف قريش". وأخرج البيهقي في "سننه" (¬7): من حديث هشام بن عروة: "أن أباه كان يقرأ في المغرب بنحوٍ مما تقرءون والعاديات ونحوها من السور". والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [8]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 110 رقم 2699). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3602). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3604). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3607). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 315 رقم 3603). (¬7) "سنن البيهقي الكبير" (2/ 392 رقم 3839).

ص: باب: القراءة خلف الإمام

ص: باب: القراءة خلف الإمام ش: أي هذا باب في بيان حكم قراءة المقتدي خلف الإِمام، وجه المناسبة بين الأبواب ظاهرة؛ لأن كلها مشتمل على أحكام القراءة في الصلاة. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر فتعايَتْ عليه القراءة، فلما سلم قال: "أتقرءون خلفي؟ " قلنا: نعم يا رسول الله، قال: "فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". ش: رجاله ثقات، ومكحول بن زيد الشامي أحد مشايخ أبي حنيفة والأوزاعي والزهري، ومحمود بن الربيع بن سراقة الخزرجي الأنصاري، يكنى أبا نعيم، ويقال: أبا محمَّد، عقل عن النبي - عليه السلام - مَجّه مَجَّها في وجهه من دلو من بئر في دارهم وهو ابن خمس سنين، وهو ختن عبادة بن الصامت - رضي الله عنها -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد، أنا محمَّد بن إسحاق، عن مكحول عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرءون وراء إمامكم، قلنا: نعم، والله يا رسول الله إناّ لنفعل هذا، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، ثنا محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره نحو رواية أحمد، غير أن في لفظه: "كنا خلف النبي - عليه السلام - في صلاة الفجر". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 316 رقم 22746). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 277 رقم 823).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرءون وراء إمامكم، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". قوله: "فتعايت" أي صعبت عليه القراءة وثقلت، وأصله من العيِّ وهو خلاف البيان، يقال: أعيى عليه الأمر وتَعَيىَّ وتَعَايَى كلها بمعنى واحد. قوله: "فلا تفعلوا" قال الخطابي: يحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد في القراءة على الفاتحة، ويحتمل أن يكون نهاهم عن الهذَّ وهو السرعة كما جاء في رواية أبي داود وأحمد، أراد يَهِذُّ القرآن هذًّا فيسرع فيه من غير تفكر ولا ترتيل، كما في قراءة الشعر، ونصبه على المصدر، وقيل: أراد بالهذِّ الجهر بالقراءة، وكانوا يلبِّسون عليه - عليه السلام - قراءته بالجهر. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: أنا محمَّد بن إسحاق ... فدكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان رجالهما ثقات: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي المدني، عن أبيه عباد بن عبد الله، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 116 رقم 311).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا الفضل بن يعقوب الجزري، ثنا عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن يزيد بن هارون ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء- بن هلال الباهلي، عن يزيد بن زريع، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره. قوله: "بأم القرآن" أراد بها فاتحة الكتاب، سميت بها لأنها فاتحة القرآن كما سميت مكة أم القرى لأنها أصلها، أو سميت بها لأنها عَلامَتهُ قال الشاعر: على رَأسِهِ أُمٌّ لنا يقتدى بها ... جماعَ أمورٍ لا يعَاصي له أمرًا (¬3) وقيل: إنها مقدمه، والأم العمر الماضي لتقدمه، قال الشاعر: إذا كانت الخمسون أمك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب (¬4) وقيل: لتمامها في الفضل. ومن أسمائها (¬5): السبع المثاني، والوافية، والكافية، والأساس، والشافية، والكنز، والصلاة، وسورة تعلم المسألة، وسورة الواقعة، وسورة الحمد، والشكر، والدعاء، والفاتحة، وأول القرآن. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 274 رقم 840). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 317 رقم 3620). (¬3) هكذا وقع هذا البيت في "الأصل، ك"، وقائل هذا البيت هو ذو الرمة، ونص البيت من ديوانه: عَلى رَأْسِهِ أمٌّ له يهتدي بها ... جِماعَ أُمورٍ لا يُعاصي لَهَا أمرًا (¬4) القائل هو الحسن بن عمرو الإباضي، وهو شاعر من شعراء الخوارج، ووقع في "الحماسة البصرية": (السبعون أمك)، بدلًا من (الخمسون أمك)، ويدل عليه البيت الذي يلي هذا البيت في القصيدة: وإِنِ امرَءًا قد سارَ سبعين حِجَّةً ... إلى منهلٍ من وردِهِ لقريبٌ (¬5) كتب في "الأصل" حاشية نصها: فائدة في أسماء فاتحة الكتاب.

وهي مكيّة. وقيل: مدنية ومكية؛ لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى، وهي سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس وقد ذكرناه، وسبع وعشرون كلمة، ومائة واثنان وأربعون حرفًا. قوله: "فهي خِداج" بكسر الخاء أي ذات خِداج، وهو النقصان، أو يكون وصفها بالمصدر مبالغة، من خَدَجَت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخَلْقِ، وأخدجته إذا ولدته ناقصًا وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي الثدية: مخدج اليد، أي: ناقصها. ص: حدثنا يونس، قال: أنا عبد الله بن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول قال: رسول الله - عليه السلام -: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خدل، فهي خداج، غير تمام، فقلت: يا أبا هريرة، إني أكون أحيانًا وراء الإِمام، قال: اقرأها يا فارسي في نفسك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: ثنا العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني، عن أبي السائب الأنصاري مولى هشام بن زهرة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني زهرة ... إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه مع زيادة بعد قوله: "يا فارسي" وهي: "فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: قال الله -عز وجل-: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ... " الحديث، ذكرنا تمامه في باب القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه مسلم (¬2): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك نحوه. وأخرجه أيضًا (2) عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن المثنى، ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن أبي مريم الجمحي المصري شيخ البخاري، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وروى عن العلاء أيضًا ورقاء والدراوردي وعبد الملك بن جريج. فحديث ورقاء أخرجه الطيالسي (¬4): عنه، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 276 رقم 821). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 296 رقم 395). (¬3) "المجتبى" (2/ 135 رقم 909). (¬4) "مسند الطيالسي" (1/ 334 رقم 2561).

وحديث الدراوردي أخرجه الحديث في "مسنده": عنه، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه. وحديث ابن جريج أخرجه ابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن ابن جريج، عن العلاء بن عبد الرحمن، أن أبا السائب أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره نحوه. قوله: "اقرأها يا فارسي" خطاب لأبي السائب، قال: محيي الدين النووي: ومما يؤيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم قول أبي هريرة هذا، ومعناه اقرأها سرًّا بحيث تُسمع نفسك. قلت: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن المأموم مأمور بالإنصات؛ لقوله تعالى: {وَأَنْصِتُوا} (¬2) والإنصات: الإصغاء، والقراءة سرًّا بحيث يسمع نفسه تخل بالإنصات، فحينئذ يحمل ذلك على أن المراد: تدبر ذلك وتفكره، ولئن سلمنا القراءة حقيقة فلا نسلم أنه يدل على الوجوب، على أن بعض أصحابنا استحسنوا ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات، ومنهم من استحسنها في غير الجهرية ومنهم من رأى ذلك إذا كان الإِمام لحَّانًا. قوله: "قسمت الصلاة" المراد منها الفاتحة، وقد ذكرنا أن من جملة أسماء الفاتحة: الصلاة، سميت بها لأنها تقرأ دائمًا في سائر الصلوات. وقال النووي: فيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة، سميت بذلك لأنها لا تصلح الصلاة إلا بها، كقوله - عليه السلام -: "الحج عرفة". قلت: لا نسلم أن يلزم من تسميتها صلاة وجوبها بعينها؛ لأن تسميتها بذلك باعتبار أنها تقرأ في سائر الصلوات لا باعتبار أنها فرض بعينها, ولا يلزم من قراءتها في سائر الصلوات فرضيتها كالتسمية والتحميد ونحوهما فإن صلاة لا تخلو عن شيء ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 273 رقم 838). (¬2) سورة الأعراف، آية: [204].

من ذلك، وليس ذاك بفرض، وقياسه على قوله: "الحج عرفة" ليس بصحيح؛ لأن معنى هذا الكلام: معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، وليست المعرفة بعينها عبارة عن الحج؛ لأن المعرفة لا تخلو إما أن تكون اسمًا لليوم المعهود، أو للموضع المعهود، وكل منهما ليس بحج ولا داخل في أركان الحج؛ فافهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب إلى هذه الآثار قوم، وأوجبوا بها القراءة خلف الإِمام فى سائر الصلوات بفاتحة الكتاب. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة وأوجبوا بها أي بالآثار المذكورة القراءة خلف الإِمام في جميع الصلوات بفاتحة الكتاب، و"الباء" فيه تتعلق بقوله: "القراءة" فافهم. وقال ابن العربي في "أحكام القرآن": ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: يقرأ إذا أسر الإِمام خاصة قاله ابن القاسم. الثاني: قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمَّد: لا يقرأ. الثالث: قال محمَّد بن عبد الحكم: يقرأها خلف الإِمام؛ فإن لم يفعل أجزأه كأنه رأى ذلك مستحبًّا، والأصح عندي وجوب قراءتها فيما أسر، وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام لما فيه من فرض الإنصات له والاستماع لقراءته فإن كان منه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر. وقال أبو عمر في "التمهيد": لم يختلف قول مالك أنه من نسيها -أي الفاتحة- في ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل أصلًا. ولا تجزئه، واختلف قوله فيمن تركها ناسيًا في ركعة من الصلاة الرباعية أو الثلاثية، فقال مرة: يعيد الصلاة ولا تجزئه، وهو قول ابن القاسم وروايته واختياره من قول مالك، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو وتجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه. قال: وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام.

قال: وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: لا تجزئه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة. وقال ابن قدامة في "المغنى": قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، وركن من أركانها، لا تصح إلا بها في المشهور عن أحمد، نقله عنه الجماعة، وهو قول مالك والشافعي، وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وروي عن أحمد رواية أخرى: أنها لا تتعين، وتجزئ قراءة آية من القرآن من أي موضع كان، وهذا قول أبي حنيفة. وقال ابن حزم في "المحلى": وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة، إمامًا كان أو مأمومًا، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء. ص: وخالفهم ذلك آخرون، فقالوا: لا نرى أن يقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات بفاتحة الكتاب ولا بغيرها. ش: أي خالف القوم المذكورين فيما قالوا جماعةٌ آخرون، وأراد بهم الثوريَّ، والأوزاعيَّ -في رواية- وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد -في رواية-، وعبد الله بن وهب، وأشهب المالكي؛ فإنهم قالوا: لا يقرأ المؤتم خلف الإِمام في شيء من الصلوات بفاتحة الكاتب ولا بغيرها. وقال عياض: وذهب الكوفيون إلى ترك قراءة المأموم في كل حال، وهو قول أشهب، وابن وهب من أصحابنا، وعامّة أصحاب مالك، وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم. وفقهاء الحجاز والشام على أنه لا يقرأ معه فيما جهر به وإن لم يسمعه، ويقرأ فيما أَسَرَّ الإِمام، ووافقهم أحمد، إلا أنه قال: يقرأ إذا لم يسمعه في الجهر، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن القراءة خلف الإِمام غير واجبة إلا داود وأحمد وأصحاب الحديث، فجعلوا قراءة أم القرآن للمأموم فيما أسر فيه إمامه فرضًا، واختلف النقل عن

المذهب فيها بالسنة والاستحباب، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن على كل حال، وإليه رجع الشافعي وأكثر أصحابه. انتهى. وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها، والله أعلم. ص: وكان من الحجة لهم عليهم في ذلك أن حديثي أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - اللذين رووهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ" ليس في ذلك دليل على أنه أراد بذلك الصلاة التي تكون وراء الإِمام، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك أن تكون الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، وأخرج من ذلك المأموم بقوله - عليه السلام -: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة"، فجعل المأموم في حكم من قرأ بقراءة إمامه، وكان المأموم بذلك خارجا من قوله - عليه السلام - كل من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، وقد رأينا أبا الدرداء - رضي الله عنه - قد سمع من النبي - عليه السلام - في ذلك مثل هذا، فلم يكن ذلك عنده على المأموم. كما حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح (ح) وكما حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثني محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن أبي الدرداء: "أن رجلًا قال: يا رسول الله، في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت. قال: وقال لي أبو الدرداء: أُرَى أن الإِمام إذا أم القوم فقد كفاهم". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذه أبو الدرداء قد سمع من النبي - عليه السلام - في كل الصلاة قرآن، فقال رجل من الأنصار: وجبت. فلم ينكر ذلك رسول الله - عليه السلام - من قول الأنصاري، ثم قال أبو الدرداء: بعدُ من رأيه ما قال، وكان ذلك عنده على من

يصلي وحده، وعلى الإِمام، لا على المأمومين فقد خالف ذلك رأي أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ذلك على المأموم مع الإِمام، فانتفى بذلك أن يكون في ذلك حجة لأحد الفريقين على صاحبه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين على أولئك القوم المذكورين في ذلك، أي فيما استدلوا بحديثي أبي هريرة وعائشة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب خلف الإِمام: أنه ليس فيهما دليل على أن يكون المراد هو الصلاة التي يكون وراء الإِمام، فقد يجوز أن يكون المراد بذلك هو الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، ويخرج من ذلك المأموم بحديث آخر، وهو ما رواه جابر - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من كان له إمام، فقراءة الأمام له قراءة" (¬1) فقد خص هذا الحديث عموم ذاك الحديث. الحاصل: أن أهل المقالة الأولى قالوا: إن قوله - عليه السلام -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" عام؛ لأن لفظ "كل" إذا أضيف إلى النكرة يقتضي عموم الأفراد، فالمعنى كل واحد واحد من أفراد الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو خداج، فيتناول بعمومه صلاة المأموم، وأجاب أهل المقالة الثانية عن ذلك: أن هذا عام مخصوص، فخرج منه حكم المأموم، فبقي حديث أبي هريرة وعائشة مقصورين على الإِمام والمنفرد، ثم إن الطحاوي -رحمه الله-: أيد كلامه بما رواه عن أبي الدرداء، وذلك أنه قد سمع عن النبي - عليه السلام -: "في كل الصلاة قرآن؟ قال: نعم. فقال رجل من الأنصار: وجبت" أي القراءة في جميع الصلوات، فلم ينكر ذلك رسول الله - عليه السلام - عليه، ثم قال أبو الدرداء بعد ذلك من رأيه: "أُرَى أن الإِمام إذا أم القوم فقد كفاهم" أي عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (1/ 277 رقم 850)، وأحمد في "المسند" (3/ 339 رقم 14684)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 160 رقم 2724). وقال الحافظ في "التلخيص" (1/ 232): مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة.

القراءة، وإنما قال ذلك إما بناء على ما سبق له من العلم بقوله - عليه السلام -: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة" (¬1)، وإما قال ذلك بطريق الاجتهاد لما أن الإِمام ضامن لصلاة القوم، ومن ضمانه أن يتحمل عنهم القراءة، فصار معنى الحديث عنده على من يصلي وحده وعلى الإِمام، لا على المأموم ولا يقال هذا رأيًا في مقابلة النص؛ لأنا نقول: إنه لم يصدر ذلك عن أبي الدرداء إلا بعد علمه وجزمه بأن مراد النبي - عليه السلام - من قوله: "كل صلاة لم يقرأ فيها ... " الحديث، صلاة من لا إمام له، فإذا كان الأمر كذلك فقد خالف رأي أبي الدرداء رأي أبي هريرة أن ذلك على المأموم مع الإِمام، وذلك قوله: "اقرأها يا فارسي في نفسك" فإذا اختلف الرأيان في الحديث المذكور لم يبق فيه حجة لأحد، ثم إذا حملنا قول أبي هريرة: "اقرأها يا فارسي في نفسك" على معنى تَدَبَّر ذلك وتذكره في نفسك، يتفق رأيه مع رأي أبي الدرداء، ويرتفع الخلاف، ويعمل بالحديثين كليهما. وأما الجواب عن قول من استدل بحديث أبي هريرة على فرضية قراءة فاتحة الكتاب فهو أن يقال: إن الاستدلال كذلك فاسد؛ لأن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬2) يقتضي قراءة مطلق القرآن، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص بخبر الواحد، وذا لا يجوز؛ لأنه نسخ، ولأنه روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد". رواه أبو داود (¬3) والطبراني في "الأوسط" (¬4) وروي عنه أيضًا: "أمرني رسول الله - عليه السلام - أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد". ¬

_ (¬1) انظر السابق. (¬2) سورة المزمل، آية: [20]. (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 276 رقم 819). (¬4) وأخرجه إسحاق بن راهويه (1/ 179 رقم 126)، وابن حبان في "صحيحه" (5/ 94 رقم 1791).

رواه أبو داود (¬1). فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلا بفاتحة الكتاب دلت الأخرى على جوازها بلا فاتحة الكتاب، فيعمل بالحديثين ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة، وبوجوب قراءة فاتحة الكتاب، وهذا هو العدل في باب إعمال الأخبار. وأيضًا فإن قوله: "فما زاد" دلالة على فرضية ما زاد على الفاتحة، وليس ذاك مذهب الخصم. وجواب آخر: أن الحكم يثبت بقدر دليله، وخبر الواحد ليس قطعيًّا فلا تثبت به الفرضية، نعم يثبت به الوجوب، ونحن نقول به، فإن كان الخصم يقول: الواجب والفرض عندي سواء، فنقول حينئذ: النزاع لفظي. وجواب آخر: أن قوله: "خداج" قد ذكرنا أن معناه: ناقص، ونحن نقول أيضًا: إن المصلي إذا لم يقرأ فاتحة الكتاب تكون صلاته ناقصة، وأما الاستدلال به على أنها تكون باطلةً باطلٌ؛ لأن معنى الخداج لا ينبئ عن ذلك بل قوله في الحديث: "غير تمام" يرد هذا؛ فإن عدم كونها تمامًا لا يستلزم البطلان، وهذا ظاهر. فإن قيل: هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول فصارت كالمشهور، وبالمشهور تثبت الفرضية. قلت: سلمنا إذا لم يعارضه دليل آخر، فالله تعالى نص بقوله: {مَا تَيَسَّرَ} فمتى عيَّنَا الفاتحة فرضًا ينقلب اليسر عسرًا، وهو خلاف النص فيرد، فافهم. ثم إنه أخرج حديث أبي الدرداء من طريقين صحيحين: الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني أبي عبد الله المصري وثقه ابن يونس، عن عبد الله بن وهب من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس من رجال مسلم والأربعة، عن أبي الزاهرية الحمصي واسمه حدير بن كريب من رجال مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن كثير بن مرة الحضرمي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 276 رقم 820).

الرهاوي أبي شجرة الحمصي الشامي من رجال الأربعة، قال العجلي: تابعي شامي ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. عن أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا ابن [مخلد] (¬2)، ثنا شعيب بن أيوب وغيره، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، ثنا أبو الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فقال رسول الله - عليه السلام لي -وكنت أقرب القوم إليه-: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلا قد كفاهم". كذا قال، والصواب: "فقال أبو الدرداء: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلا قد كفاهم". وأخرجه الدارقطني (¬3): أيضًا عن بحر بن نصر شيخ الطحاوي، وقال: حدثنا عبد الملك بن أحمد الدقاق، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، حدثني معاوية بهذا، وقال: قال أبو الدرداء: يا كثير، ما أرى الإِمام إلا قد كفاهم. الثاني: عن أحمد بن داود بن موسى المكي، عن محمَّد بن المثنى بن عبيد أبي موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن شيخ الجماعة، عن عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري أبي سعيد اللؤلؤي البصري من رجال الجماعة، عن معاوية بن صالح ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬4): أنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو الزاهرية، قال: حدثني كثير بن مرة الحضرمي، عن أبي الدرداء سمعه يقول: "سئل رسول - عليه السلام - أفي كل صلاة ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 332 رقم 29). (¬2) في "الأصل، ك": "خالد" وهو تحريف، والمثبت من "سنن الدارقطني". وقد ذكر المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة شعيب بن أيوب فيمن روى عنه: محمَّد بن مخلد الدوري. (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 333 رقم 30). (¬4) "المجتبى" (2/ 142 رقم 923).

قراءة؟ قال: نعم، قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إليّ وكنت أقرب القوم منه، فقال: ما أُرَى الإِمام إذا أمّ القوم إلَّا قد كفاهم". قال أبو عبد الرحمن: هذا عن رسول الله - عليه السلام - خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء، ولم يقرأ هذا مع الكتاب. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (¬1) ولكن من غير هذا الطريق: ثنا علي بن محمَّد، نا إسحاق بن سليمان، نا معاوية بن يحيى، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: "سأله رجال فقال: أقرأ والإمام يقرأ؟ قال: سأل رجل النبي - عليه السلام - أفي كل الصلاة قراءة؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: نعم، فقال رجل من القوم: وجب هذا". ص: وأما حديث عبادة - رضي الله عنه - فقد بين الأمر، فأخبر عن رسول الله - عليه السلام - أنه أمر المأمومين بالقراءة خلف الإِمام بفاتحة الكتاب، فأردنا أن ننظر هل ضاد ذلك غيرُهُ أم لا؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفًا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله - عليه السلام -: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - عليه السلام - فيما جهر به رسول الله - عليه السلام - بالقراءة في الصلوات حين سمعوا ذلك منه". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه، غير أنه قال: "فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقرءون". ش: هذا جواب عن حديث عبادة المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى في وجوب القراءة بأم الكتاب خلف الإِمام في سائر الصلوات، بيانه: ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 274، 275 رقم 842).

أن حديث أبي هريرة هذا يعارضه؛ لأنه يصرح بانتهاء الناس عن القراءة مع رسول الله - عليه السلام - فيما جهر به رسول الله - عليه السلام - بالقراءة من الصلوات، وحديث عبادة أخبر أنه أمر المأمومين بالقراءة خلفه بفاتحة الكتاب مطلقًا، فبينهما تعارض ظاهرًا في حكم القراءة في الجهرية، وحديث أبي هريرة الآخر الذي يأتي عن قريب وهو قوله: "فإذا قرأ فأنصتوا" يعارضه مطلقًا، سواء كان في الجهرية أو في السرية، وكذلك أحاديث ابن مسعود وجابر وابن عمر وأنس بن مالك كلها تعارض حديث عبادة على ما يأتي مفصلًا، فإذا ثبت التعارض يجب الرجوع في أخذ الحكم إلى طريق النظر، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وجواب آخر: أن قوله - عليه السلام - "لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب" في حديث عبادة يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يؤمروا بالإنصات عند قراءة القرآن، فلما نزل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1) بطلت القراءة خلف الإِمام، وقد وردت أخبار في أن هذه الآية نزلت في القراءة خلف الإِمام. والدليل على ما قلنا: ما أخرجه البيهقي (¬2): عن مجاهد قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار، فنزل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وأخرج عن الإِمام أحمد (¬3) قال: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة. ويحتمل أن يكون ذلك بطريق تحصيل الفضيلة والكمال لا الوجوب للأحاديث التي وردت في منع المقتدي عن القراءة. وقوله: "فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" معناه لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بها، ونحن نقول أيضًا بذلك، ولكن هذا في حق الإِمام والمنفرد، وأما المقتدي فليس عليه ذلك أصلًا. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: [204]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 155 رقم 2706). (¬3) انظر: "نصب الراية" (2/ 10) وهذا الأثرم خرجه أبو داود في سؤالاته للإمام أحمد (ص 48).

فإن قالوا: المقتدي مصلٍّ، وكل فصل تجب عليه القراءة، فالمقتدي تجب عليه القراءة. قلنا: المقتدي أيضًا قارئ؛ لأن قراءة إمامه قراءته وليست صلاة المقتدي صلاة بلا قراءة، بل صلاته صلاة بقراءة. وقال الخطابي: هذا الحديث يصرح بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلى خلف الإِمام، سواء جهر الإِمام بالقراءة أو خافت بها. وإسناده جيد لا طعن فيه. قلت: فيما ذكرنا جواب عما قاله، ولو كان الحديث عليهم لأعلُّوه بمحمد بن إسحاق كما هو عادة البيهقي وأمثاله، فلما صار لهم جعلوا إسناده جيدا لا طعن فيه، نعم لا طعن فيه ولكن محمله ما ذكرناه، فافهم. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة هذا من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - انصرف من صلاة ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه الترمذي (¬2): نا الأنصاري، قال: نا معن، قال: نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 278 رقم 826). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 118 رقم 312). (¬3) "المجتبى" (2/ 140 رقم 919).

فإن قيل: كيف تقول طريقه صحيح وقد قال: البيهقي: في صحة هذا الحديث نظر؛ لأن راويه ابن أكيمة الليثي رجل مجهول لم يحدث إلَّا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري؟ قلت: أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه" (¬1)، وحسنه الترمذي، وقال: اسمه عمارة، ويقال: عمرو، وقيل: اسمه عامر، وقيل: يزيد، وقيل: عباد، وكنيته أبو الوليد الحجازي، وقال ابن حبان في "صحيحه": اسمه عمرو، وهو وأخوه عمر ثقتان. وقال ابن معين: روى عنه محمَّد بن عمرو وغيره. وحسبك برواية ابن شهاب عنه، وأبو داود لما أخرج حديثه لم يتعرض له بشيء، وذلك دليل على حسنه عنده كما عرف (¬2). وفي "الكمال" لعبد الغني: روى عن ابن أكيمة: مالك، ومحمد بن عمرو. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وفي "التمهيد": كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب وهو يصغي إلى حديثه، وبحديثه قال هو وابن شهاب، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته، وهذا كله ينفي الجهالة. الثاني: عن حسين بن نمر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وهذا على شرط الصحيح. وأخرجه البزار: ثنا محمد بن مسكين، نا بشر بن بكر، نا الأوزاعي، حدثني محمَّد بن مسلم الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: "قرأ ناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاةٍ جَهَرَ فيها ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (5/ 157 رقم 1849). (¬2) الذي قاله أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: ما سكت عنه فهو صالح، وما فيه ضعف شديد بينته. فالذي يؤخذ من هذا القول أن أبو داود قد يسكت على أحاديث فيها ضعف غير شديد وأنه يتكلم على ما فيه ضعف شديد فقط. وهذا معنى "صالح" عنده.

بالقراءة، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته أقبل عليهم فقال: "هل قرأ منكم معي أحد آنفًا"؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ ". وهذا الحديث رواه ابن عيينة، ومعمر، وجماعة من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة وهو الصواب. وقال بعض أصحاب الزهري: عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث، عن سعيد بن المسيب، وأخطأ في إسناده، ورواه ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن الأعرج عن ابن بحينة، عن النبي - عليه السلام -. فأخطأ في إسناده. قوله: "ما لي أنازع القرآن" بصيغة المجهول، ونصب القرآن، ومعناه: ما لي إذا أداخل في القراءة وأغالب عليها؟ وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة والمداولة، ومنه منازعة الكأس في المُدَام. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحسين بن عبد الأول الأحول، قال: ثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: ثنا ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا قرأ فانصتوا". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، والحسن بن عبد الأول الكوفي الأحول وثقه ابن حبان، وأبو خالد سليمان بن حيان -بفتح الحاء، وتشديد الياء آخر الحروف- الأزدي الكوفي المعروف بأبي خالد الأحمر روى له الجماعة، ومحمد بن عجلان المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وزيد بن أسلم القرشي أبو أسامة المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب وشيخ أبي حنيفة روى له الجماعة، وأبو صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة.

وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن آدم، نا أبو خالد، عن ابن عجلان ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "ليؤتم به" بهذا الخبر، وزاد: "وإذا قرأ فأنصتوا". وأخرجه النسائي (¬2): أنا الجارود بن المعاذ الترمذي، قال: ثنا أبو خالد ... إلى آخره، ولفظه: "ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد". أنا (¬3) محمَّد بن عبد الله بن المبارك، قال: ثنا محمَّد بن سعد الأنصاري، قال: حدثني محمَّد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا أبو خالد ... إلى آخره، ولفظه بعد قوله: "فأنصتوا" "وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا". وأخرجه ابن ماجه في "سُنَنه" (¬5): عن ابن أبي شيبة نحوه. وهذا حجة صريحة -في أن المقتدى لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإِمام أصلًا- على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر. فإن قيل: قد قال أبو داود عقيب إخراجه هذا الحديث: وهذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد عندنا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 220 رقم 604) وقال أبو داود عقبه: هذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد. (¬2) "المجتبى" (2/ 141 رقم 921). (¬3) "المجتبى" (2/ 142 رقم 922). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 115 رقم 7137). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 276 رقم 846).

وقال البيهقي في "المعرفة" (¬1) بعد أن روى هذا الحديث: أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث؛ أبو داود وأبو حاتم وابن معين والحاكم والدارقطني، وقالوا: إنها ليست بمحفوظة. وأسند عن ابن معين في "سننه الكبير" (¬2): قال في حديث ابن عجلان: "وإذا قرأ فأنصتوا" قال: ليس بشيء. وكذا قال الدارقطني (¬3): في حديث أبي موسى الأشعري: "وإذا قرأ الإِمام فأنصتوا" وقد رواه أصحاب قتادة الحفاظ عنه، منهم هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة، ولم يقل أحد منهم: "وإذا قرأ فأنصتوا" قال: إجماعهم يدل على وهمه. وعن أبي حاتم: ليست هذه الكلمة محفوظة، إنما هي من تخاليط ابن عجلان. قلت: في هذا كله نظر، أما ابن عجلان فإنه وثقه العجلي، وفي "الكمال" لعبد الغني: ثقة كثير الحديث، وذكر الدارقطني أن مسلما أخرج له في "صحيحه" فهذا زيادة ثقة، وقد تابعه عليها خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء. كما ذكره البيهقي في "سننه الكبير" (¬4). وأما أبو خالد فإنه ثقة أخرج له الجماعة، وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت وكيعًا عنه فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟! وقال أبو هشام الرفاعي: ثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، ومع هذا فلم ينفرد بهذه الزيادة. فقد أخرج النسائي (¬5) كما ذكرنا هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق محمَّد بن سعد الأنصاري، ومحمد بن سعد ثقة وثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المخرمي والنسائي، فقد تابع ابن سعد هذا أبا خالد، وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (2/ 46 - 47). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 156 رقم 2714). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 330 رقم 16، 17). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 157 رقم 2715). (¬5) تقدم.

كما أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1). وبهذا ظهر أن الوهم ليس من أبي خالد كما زعم أبو داود، وقد ذكر المنذري في "مختصره" كلام أبي داود ورد عليه بنحو ما قلنا، وابن خزيمة صحح حديث ابن عجلان. ويؤكد هذا ما يوجد في بعض نسخ مسلم (¬2) هذه الزيادة عقيب هذا الحديث، وقال أبو إسحاق صاحب مسلم: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في حديث جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي غلاب، عن حطان، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قرأ الإِمام فأنصتوا ... " الحديث. أخرجه ابن ماجه (¬3) والبيهقي (¬4) وغيرهما (¬5)، قال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟! وقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة تقول هذا صحيح يعني "وإذا قرأ فأنصتوا"؟ فقال: هو عندي صحيح، فقال: لم لا تضعه ها هنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه. فقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري ومن حديث أبي هريرة، وذكر أبو عمر في "التمهيد" بسنده عن ابن حنبل أنه صحح الحديثين يعني حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة هذا، وأيضًا هذه الزيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، والعجب من أبي داود أنه نسب الوهم إلى أبي خالد وهو ثقة بلا شك، ولم ينسبه إلى ابن عجلان وفيه كلام؛ فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 156 رقم 2713). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 303 رقم 404). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 276 رقم 847). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 155 رقم 2709). (¬5) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 415 رقم 19738)، والدارقطني في "السنن" (1/ 330 رقم 17)، وأبو يعلى في "المسند" (13/ 255 رقم 7326).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، قال: ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كانوا يقرءون خلف النبي - عليه السلام -، فقال: خلطتم عليَّ القراءة". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه" (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله الأسدي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا نقرأ خلف النبي - عليه السلام -، فقال: خلطتم عليَّ القرآن". وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا محمَّد بن بشار وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو أحمد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "خلطتم" من التخليط وهو التخبيط. ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن يعقوب، عن النعمان -وهو أبو حنيفة- عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، أن النبي - عليه السلام - قال: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن النبي - عليه السلام - مثله، ولم يذكر جابرًا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن رجل من أهل البصرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا إسحاق بن منصور السلولي، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن جابر وليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3778). (¬2) "مسند البزار" (5/ 440 رقم 2078، 2079).

حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا الحسن ابن صالح، عن جابر -يعني الجعفي- عن أي الزبير، عن جابر عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: مسند صحيح ورجاله ثقات، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبو عبد الله المصري، بحشل ابن أخي عبد الله بن وهب، شيخ مسلم، وأبي حاتم، وابن خزيمة، وابن جرير الطبري وغيرهم، وعمه عبد الله بن وهب روى له الجماعة، والليث بن سعد المصري روى له الجماعة، ويعقوب هو أبو يوسف القاضي أكبر أصحاب أبي حنيفة، قال ابن معين: كان ثقة عدلًا صدوق، وقال ابن المديني: كان صدوقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات". والنعمان هو ابن ثابت الكوفي الإِمام الأعظم أبو حنيفة صاحب المذهب. وموسى بن أبي عائشة الهمداني الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن شداد بن الهاد أبو الوليد المدني روى له الجماعة. فإن قلت: كيف تقول مسند صحيح وقد قال الدارقطني (¬1): ثنا علي بن عبد الله بن مبشر، ثنا محمَّد بن حرب الواسطي، ثنا إسحاق الأزرق، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان. وقال أيضًا (¬2): حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا يوسف بن يعقوب بن أبي الأزهر التيمي، ثنا عبيد بن يعيش، ثنا يونس بن بكير، ثنا أبو حنيفة والحسن ابن عمارة بهذا، الحسن بن عمارة متروك الحديث، وروى هذا الحديث سفيان ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 323 رقم 1). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 325 رقم 5).

الثوري، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلًا عن النبي - عليه السلام -، وهو الصواب. قلت: قد ظهر لك من هذا تحامل الدارقطني على أبي حنيفة وتعصبه الفاسد فمن أين له ولأمثاله تضعيف إمام قد بلغ علمه حيث ما بلغ الإِسلام، وانتشر مذهبه في الآفاق، وأطبقت الخاصة والعامة من السلف والخلف على زهده وورعه وقوة تمكنه في الدين، وقد تقلد مذهبه وأثنى عليه من هو أكبر منه ومن أمثاله عند الله تعالى وعند الناس كسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، والليث بن سعد، ويحيى القطان، وأضرابهم، ووثقه من هم أعرف بهذا الشأن وأتقن في الحفظ والضبط والتبيان كيحيى بن معين، وابن عيينة، وشعبة، وعبد الرزاق، والشافعي، ومالك، وأحمد، وغيرهم من الأئمة الأجلاء الأثبات، والأكابر الثقات، ولكن صدق الشاعر حيث يقول: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا شأوه ... والقوم أعداء له وخصوم وفي المثل السائر: البحر لا يكدره وقوع الذباب، ولا ينجسه ولوغ الكلاب. على أن حديث جابر هذا له طرق متعددة، وإن كان بعضها مدخولًا ولكن يشد بعضها بعضًا. وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بسند صحيح وقال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن حسن بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل من كان له إمام فقراءة له قراءة". وهذا سند صحيح يؤكد صحة رواية أبي حنيفة مسندًا، وكذا رواه أبو نعيم: عن الحسن بن صالح، عن أبي الزبير كذا في أطراف المزي (¬2). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 331 رقم 3802). (¬2) "تحفة الأشراف" (2/ 291 رقم 2675).

فإن قيل: هذا منقطع؛ لأن جابرًا الجعفيَّ بين الحسن وأبي الزبير. قلت: أبو الزبير محمَّد بن مسلم توفي سنة ثمان وعشرين ومائة، قاله الترمذي وغيره، والحسن بن صالح ولد سنة مائة وتوفي سنة تسعة وستين ومائة وسماعه من أبي الزبير ممكن، ومذهب الجمهور أن من أمكن لقاؤه لشخص وروى عنه فروايته محمولة على الاتصال، فيحمل عك أن الحسن سمعه من أبي الزبير مرة بلا واسطة، ومرة أخرى بواسطة الجعفي فافهم. الثاني: مرسل، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة الكوفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد المدني التابعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر -أو العصر- فجعل رجل يقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجل ينهاه، فلما صلى قال: يا رسول الله، كنت أقرأ وكان هذا ينهاني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فإن قراءة الأمام له قراءة". وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن شريك وجرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". الثالث: فيه مجهول، عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن رجل من أهل البصرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "من كان له إمام فقراء الأمام له قراءة ". وقد ذكر الدارقطني أن إسرائيل أيضًا روى هذا الحديث عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، مرسلًا. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 136 رقم 2797). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3779).

الرابع: مسند صحيح، عن أبي أميّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن إسحاق بن منصور السلولي أبي عبد الرحمن الكوفي، عن الحسن بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله، الأنصاري - رضي الله عنه -. فإن قيل: كيف تقول: هذا صحيح. وقد قال الدارقطني (¬1): ثنا محمَّد بن مخلد، قال: ثنا محمَّد بن سعد العوفي، ثنا إسحاق بن منصور ويحيى بن أبي بكير، عن الحسن بن صالح، عن ليث بن أبي سليم وجابر، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي - عليه السلام - قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". جابر وليث ضعيفان؟ قلت: ليث هذا روى عنه الأئمة الكبار كالثوري وشريك وشعبة وفضيل بن عياض وحفص بن غياث والإمام أبو حنيفة، واستشهد به البخاري في الصحيح وروى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، وجابر بن يزيد وإن كان ضعيفًا فيما زعمه فقد ذكر متابعة، على أنَّا قد ذكرنا أن هذا رُوي من طريق الحسن بن صالح بإسناد صحيح. الخامس: مسند أيضًا، وفيه جابر بن يزيد الجعفي وهو مختلف فيه، عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، وفهد بن سليمان الكوفي كلاهما، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن الحسن بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا محمَّد بن مخلد، ثنا العباس بن محمَّد، ثنا أبو نعيم، ثنا الحسن بن صالح، عن جابر، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 331 رقم 20). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 331 رقم 21).

وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا. قلت: هذا الطريق ينبغي أن يكون صحيحًا؛ لأنا قد ذكرنا أن الحسن بن صالح قد روى عن أبي الزبير من غير واسطة جابر الجعفي. كما مَرَّيْ رواية ابن أبي شيبة (¬2)؛ فحينئذ لا يبقى كلام في صحة هذا الحديث، وإسناده على ما لا يخفى، ولهذا المعنى ذكره الطحاوي بطرق مختلفة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا ابن حيّ، عن جابر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثله. ش: أشار بهذا إلى أن الحديث المروي عن جابر رُوي عن عبد الله بن عمر أيضًا، وفيه تأكيد لصحة الحديث. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مثل الحديث المذكور. وأخرج الدارقطني في "سننه" (¬3): عن محمَّد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". قال الدارقطني: محمَّد بن الفضل متروك. ثم أخرجه (¬4): عن خارجة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا أنه قال في القراءة خلف الإِمام: "تكفيك قراءة الإِمام". قال: وهو الصواب. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 160 رقم 2774). (¬2) تقدم. (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 325 رقم 6). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 402 رقم 2) ولكن بلفظ: "من صلى خلف إمام فإن قراءة الإِمام له قراءة". وأما اللفظ المذكور، فهو لفظ الحديث الذي بعده (1/ 402 رقم 3).

قلت: رواه مالك في "الموطأ" (¬1): عن نافع، عن ابن عمر قال: "إذا صلى أحدكم خلف الإِمام فحسبه قراءة الإِمام، وإذا صلى وحده فليقرأ، قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإِمام". ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا يحيى بن سلام، قال: أنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا وراء الإمام". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، مثله، ولم يذكر النبي - عليه السلام -. حدثنا محمَّد بن علي بن داود البغدادي وفهد بن سليمان, قالا: ثنا إسماعيل ابن بنت السدي، قال: ثنا مالك ... فذكر هذا الحديث مثله بإسناده قال: فقلت لمالك: أرفعه؟ فقال: خذوا برجله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: مرفوع، أخرجه عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التميمي أبي زكرياء البصري، عن مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان القرشي أبي نعيم المدني المعلم من رجال الجماعة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا بحر بن نصر، ثنا يحيى بن سلام، نا مالك بن أنس، ثنا وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي - عليه السلام - قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا أن يكون وراء إمام". يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 86 رقم 192). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 327 رقم 9).

قلت: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مصري، وقع إلى مصر، صدوق. قوله: "فلم يصل" يعني: لم يكن مصليًا، يعني: لا تكون صلاته صلاة إلَّا إذا كان وراء الإِمام؛ فإنه حينئذ إذا ترك أم القرآن لا يضره ذلك، وتكون صلاته صحيحة، وليس المعنى أن صلاته تبطل إذا لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فيما إذا لم يكن وراء الإِمام، بدليل قوله: فهي خداج؛ لأن معناه فهي ناقصة، ولا يلزم من النقصان البطلان كما ذكرنا. الثاني: موقوف، عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن وهب، عن جابر موقوفًا عليه. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن مالك، عن وهب بن كيسان، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل؛ إلا مع الإِمام". وأخرجه الدارقطني (¬2): عن أبي بكر، عن يونس، عن ابن وهب ... إلى آخره نحوه. وكذلك في "موطأ" يحيى بن يحيى عن مالك (¬3). الثالث: أيضًا موقوف، عن محمَّد بن علي بن داود البغدادي وفهد بن سليمان، كلاهما عن إسماعيل بن موسى ابن بنت السدي الفزاري الكوفي شيخ أبي داود والترمذي وابن ماجه وأبي يعلى الموصلي وابن خزيمة قال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه الغلو في التشيع فأما في الرواية فقد احتمله الناس. قوله: "خذوا برجله" كناية عن إنكار مالك الرفع في الحديث المذكور، وتنبيه على أن الصواب هو الموقوف. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 121 رقم 2745). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 327 رقم 10). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 84 رقم 187).

ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أقبل بوجهه، فقال: أتقرءون والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فسألهم ثلاثًا، فقالوا: إنا لنفعل هذا، فقال: لا تفعلوا". ش: إسناده صحيح على يشترط البخاري، وأيوب هو السختياني وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام. فإن قيل: كيف تقول: صحيح. وقد أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن النبي - عليه السلام - لما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرءون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقال لهم ثلاث مرات، فقال قائل -أو قائلون-: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". ثم قال: هذا الحديث منكر، تفرد به عبيد الله، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب فلم يذكر أنسًا. وقال البخاري في "تاريخه" (¬2): ثنا مؤمل، نا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلًا. قال ابن علية، عن الحذاء، قلت لأبي قلابة: من حدثك به؟ قال: محمَّد بن أبي عائشة مولى لِبَني أمية. وأخرجه عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أتقرءون خلفي وأنا أقرأ؟ قال: فسكتوا حتى سألهم ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فلا تفعلوا ذلكم، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه سرًّا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 166 رقم 2750). (¬2) "التاريخ الكبير" (1/ 207). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 127 رقم 2765).

عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن محمَّد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب محمَّد - عليه السلام - قال: قال النبي - عليه السلام -: "لعلكم تقرءون والإمام يقرأ؟ مرتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب". قلت: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2): من حديث أبي قلابة، عن أنس، ثم قال: سمعه من أنس وسمعه من ابن أبي عائشة؛ فالطريقان محفوظان (¬3). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد بيَّنَّا بما ذكرنا عن النبي - عليه السلام - خلاف ما روى عبادة - رضي الله عنه - فلما اختلفت هذه الآثار المروية في ذلك التمسنا حكمه من طريق النظر؛ فرأيناهم جميعًا لا يختلفون في الرجل يافي الأمام وهو راكع أنه يكبر ويركع معه، ويعتد بتلك الركعة وإن لم يقرأ فيها شيئًا، فلما أجزأه ذلك في حال خوفه فوت الركعة احتمل أن يكون إنما أجزأه ذلك لمكان الضرورة، واحتمل أن يكون إنما أجزأه ذلك لأن القراءة خلف الإِمام ليست عليه فرضًا، فاعتبرنا ذلك، فرأيناهم لا يختلفون أن من جاء إلى الأمام وهو ركع فركع قبل أن يدخل في الصلاة بتكبر كان منه؛ أن ذلك لا يجزئه وإن كان إنما تركه لحال الضرورة وخوف ذوات الركعة، وكان لا بُدَّ له من قومة في حال الضرورة وغير حال الضرورة، فهذه صفات الفرائض التي لا بد منها في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا بإصابتها؛ فلما كانت القراءة مخالفة لذلك وساقطة في حال الضرورة كانت من غير جنس ذلك، فكانت في النظر أيضًا ساقطة في غير حال الضرورة، فهذا هو النظر في هذا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 127 رقم 2766). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 162 رقم 1852). (¬3) قال البخاري في "تاريخه" (1/ 207): "وقال عبيد الله بن عمرو: عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح أنس".

ش: قد ذكر فيما مضى أن حديث عبادة بيَّن فيه أنه - عليه السلام - أمر المأمومين بالقراءة خلفه بالفاتحة، وأن حديث أبي هريرة يضاده، وكذلك حديث آخرين من الصحابة كما ذكره مفصلًا، ثم لما اختلفت هذه الأحاديث في هذا الباب تعيَّن التماس حكمه من طريق النظر والقياس، ووجه ملخصًا: أن الرجل إذا أدرك الإِمام وهو راكع فإنه يكبر ويركع وتُغْني تلك الركعة عن القيام مع عدم القراءة فيه، ولكن يحتمل أن يكون جواز ذلك إما للضرورة، وإما لعدم وجوب القراءة خلف الإِمام، فاعتبرنا ذلك، فوجدنا الرجل إذا أدرك الإِمام وهو راكع، فركع قبل أن يدخل في الصلاة بتكبير حصل منه، أنه لا يجوز، وإن كان تركه القوم للضرورة -وهي خوف فوت الركعة- وعلم من ذلك أن لا بد له من قومة مطلقًا، ووجدنا القراءة مخالفة لهذا الحكم وساقطة في حال الضرورة، وصارت من خلاف جنس هذا، فالنظر على ذلك أن تكون القراءة ساقطة في غير حال الضرورة، فافهم. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن نفر من أصحاب النبي - عليه السلام - أنهم كانوا يقرءون خلف الإِمام ويأمرون بذلك، فذكروا ما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو إسحاق الشيباني، عن جواب بن عبيد الله التيمي، قال: ثنا يزيد بن شريك أبو إبراهيم التيمي، قال: "سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن القراءة خلف الإِمام، فقال لي: اقرأ، قلت: وإن كنت خلفك؟ قال: وإن كنت خلفي، قلت: وإن قرأت؟ قال: وإن قرأت". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو بشر، عن مجاهد، قال: "سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإِمام في صلاة الظهر من سورة مريم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حصين، قال: سمعت مجاهدًا يقول: "صليت مع عبد الله بن عمرو الظهر والعصر، فكان يقرأ خلف الإمام".

قيل له: قد روي هذا عمن ذكرت وقد روي عن غيرهم من أصحاب النبي - عليه السلام - خلاف ذلك. حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، قال: سمعت محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ومر على دار ابن الأصبهاني فقال: حدثني صاحب هذه الدار -وكان قد قرأ على أبي: عبد الرحمن- عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، قال: قال لي علي - رضي الله عنه -: "من قرأ خلف الإِمام فليس على الفطرة". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: "أنصت للقراءة؛ فإن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام". حدثنا مبشر بن الحسن البصري، قال: ثنا أبو عامر -أو أبو جابر قال أبو جعفر: أنا أشك- عن شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله ... فذكر مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود ... فذكر نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: "ليت الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه ترابًا". حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الزبير، عن إبراهيم، عن علقمة ... فذكر مثله. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن عبيد الله بن مقسم: أنه سأل عبد الله ابن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله، فقالوا: لا تقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن عبد الله ابن الأشج، عن أبيه، عن عبيد الله بن مقسم، قال: سمعت جابر بن عبد الله ... فذكر مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت سمعه يقول: "لا يقرأ المؤتم خلف الإِمام في شيء من الصلوات". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير -قال أبو جعفر: وهو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير- عن يزيد بن قسيط، عن عطاء ابن يسار، عن زيد ... فذكر مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح الحراني، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي جمرة قال: "قلت لابن عباس: أقرأ والإمام بين يدي؟ فقال: لا". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإِمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإِمام فحسبه قراءة الإِمام، قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإِمام". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تكفيك قراءة الإمام". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإِمام، وقد وافقهم على ذلك ما قد روي عن النبي - عليه السلام - مما قدمنا ذكره، وشهد لهم النظر الذي قد ذكرنا؛ فذلك أولى مما قد خالفه والله أعلم. ش: أورد أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية بأن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقرءون خلف الإِمام ويأمرون بها, ولو لم يكن ذلك واجبًا لما قرأوا ولا أمروا، وذكر الطحاوي ذلك عن اثنين من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -.

أما أثر عمر - رضي الله عنه - فأخرجه: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي، عن جَوَّاب -بفتح الجيم، وتشديد الواو، وفي آخره باء موحدة- بن عبيد الله التيمي الكوفي. عن يزيد بن شريك بن طارق التيمي تيم الرباب الكوفي والد إبراهيم التيمي قال: سألت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن الشيباني ... إلى آخره نحوه سواء. وأما أثر عبد اللهَ بن عمرو فأخرجه من طريقين: أحدهما: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس -وهو ابن أبي وحشية- اليشكري الواسطي، عن مجاهد بن جبر المكي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن هشيم ... إلى آخره نحوه. والآخر: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا هشيم، قال: أنا حصين قال: "صليت إلى جنب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: فسمعته يقرأ خلف الإِمام، قال: فلقيت مجاهدًا فذكرت له ذلك، قال: فقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإِمام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3748). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3749). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3750).

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن عيينة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: "سمعت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقرأ في الظهر والعصر مع الإِمام، فسألت إبراهيم، فقال: لا تقرأ إلا أن (تَتَّهم) (¬2) الإمام، وسألت مجاهدًا، فقال: قد سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ". وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا: من حديث هشيم، عن حصين قال: "صليت إلى جنب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فسمعته يقرأ خلف الإِمام، فلقيت مجاهدًا فذكرت له ذلك، فقال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ خلف الإِمام في الظهر من سورة مريم". قوله: "قيل له" أي قيل لهذا القائل: نعم قد روي هذا عمن ذكرت من الصحابة، ولكن روي عن غيرهم من الصحابة أيضًا خلاف ذلك، وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، فهؤلاء ستة من أجلاء الصحابة روي عنهم خلاف ما رُوي عن عمر وعبد الله بن عمرو، وأنهم اتفقوا على ترك القراءة خلف الإِمام مع ما وافقهم في ذلك ما روي عن النبي - عليه السلام - من ترك القراءة خلف الإِمام، وهو الذي رواه أبو الدرداء وأبو هريرة، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، فإنهم كلهم قد رووا عن النبي - عليه السلام - ما يوافق أقوال هؤلاء الصحابة على ما مرَّ ذكره مستقصى، ومع شهادة وجه النظر والقياس الذي قد ذكر عن قريب، فبمثل هذا يترك ما روي عن غيرهم من الخلاف، وقد ذكر بعض أصحابنا أن منع المقتدي عن القراءة مأثور عن ثمانين من كبار الصحابة، منهم: علي والعبادلة وقد ذكر غير الطحاوي أيضًا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 130 رقم 2775). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، و"التمهيد" لابن عبد البر (11/ 36)، وفي "المصنف": يَهِم. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 169 رقم 2769).

وقال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): أخبرني موسى بن عقبة: "أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإِمام". وأخرج عن داود بن قيس، عن محمَّد بن بجاد، عن موسى بن سعد بن أبي وقاص، قال: ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر". قلت: بجاد بكسر الباء الموحدة وبالجيم، وقال ابن ماكولا: بجاد بن موسى بن سعد بن أبي وقاص روى حديثه ابنه محمَّد بن بجاد وآخرون. أما أثر علي بن أي طالب - رضي الله عنه -: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي الأحول شيخ البخاري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه القاضي، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بذاك. وقال العجلي: كان فقيهًا صاحب سنة صادقًا جائز الحديث. روى له الأربعة. عن عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني من رجال الجماعة، عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، قال أبو حاتم: منكر الحديث. يروي عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - وها هنا روى عن علي بدون واسطة. وكذا رواه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا محمَّد بن الفضل بن سلمة، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عمرو بن عبد الغفار وأبو شهاب والحسن بن صالح، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن المختار بن عبد الله، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: "إنما يقرأ خلف الإِمام من ليس على الفطرة". فإن قيل: قال البيهقي (¬3): هذا ضعيف لا يسوي ذكره. قلت: قد أُخرج هذا من طرق متعددة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 139 رقم 2810). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 332 رقم 26). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 168).

فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن محمَّد بن سليمان الأصبهاني، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن ابن أبي ليلى، عن علي - رضي الله عنه -: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة". ومحمد بن سليمان الأصبهاني قال الذهبي: صدوق. وأخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقواه ابن حبان، وباقي السند على شرط الصحيح، وقد جاء لمحمد بن الأصبهاني متابعة. فروى الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا أحمد بن محمَّد بن سعيد، ثنا الحسين بن عبد الرحمن بن محمَّد الأزدي، ثنا عمى عبد العزيز بن محمَّد، ثنا قيس، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة". وأخرجه الدارقطني (¬3) أيضًا: عن المختار بن عبد الله، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -. وقال: ثنا بدر بن الهيثم القاضي، ثنا محمَّد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن ابن الأصبهاني، عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: قال علي - رضي الله عنه -: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة". وأخرجه أيضًا (¬4): عن عمار، عن عبد الله بن أبي ليلى، عن علي - رضي الله عنه -. ثنا أحمد بن يحيى بن المنذر من أصل كتاب أبيه، ثنا أبي، ثنا قيس، عن عمار الدهني، عن عبد الله بن أبي ليلى، قال: قال علي - رضي الله عنه -: "من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5): عن داود بن قيس، عن محمَّد بن عجلان، قال: قال علي - رضي الله عنه -: "من قرأ مع الإِمام فليس على الفطر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3781). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 332 رقم 24). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 331 رقم 22). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 332 رقم 25). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 138 رقم 2806).

قال: وقال ابن مسعود: ملئ فوه ترابًا. قال: وقال عمر بن الخطاب: وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر". وقال صاحب "التمهيد": ثبت عن علي وسعد وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - أنه لا قراءة مع الإِمام لا فيما أسر ولا فيما جهر. قوله: "وكان قد قرأ على أبي: عبد الرحمن" القائل بهذا القول هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أي: كان عبد الرحمن بن الأصبهاني قد قرأ على أبي وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى. فقوله: "عبد الرحمن" عطف بيان لقوله: "أبي" وليس المجموع كنية لشخص، فافهم فإنه موضع التوهم. وقوله: "عن المختار" يتعلق بقوله: "حدثني صاحب هذه الدار" أي صاحب هذه الدار الذي هو عبد الرحمن بن الأصبهاني الذي قرأ على والدي عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني عن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى. قوله: "فليس على الفطرة" أراد ليس على دين الإِسلام، يعني ليس على شرائط الدين، أو معناه: ليس على السنة كما في قوله: "عشر من الفطرة" (¬1) أي من السنة يعني سنن الأنبياء عليهم السلام التي أُمرنا أن نقتدي بهم فيها، فانظر إلى هذا الوعيد العظيم في الذي يقرأ خلف الإِمام، ولو ثبت عند علي - رضي الله عنه - من النبي - عليه السلام - وجوب القراءة خلف الإِمام لما قال بهذا القول (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 223 رقم 261). (¬2) هذا إن ثبت الأثر عن علي، فقد قال البخاري في "القراءة خلف الإِمام" (ص2): وهذا لا يصح؛ لأنه لا يعرف المختار ولا يدرى أنه سمعه من أبيه أم لا، وأبوه من علي، ولا يحتج أهل الحديث بمثله. وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمة عبد الله بن أبي ليلى: لا يعرف، والخبر منكر. وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 5): وهذا شيء لا أصل له عن علي ... وابن أبي ليلى هذا رجل =

وأما أثر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فأخرجه من أربع طرق ثلاثتها صحاح والرابع فيه حديج بن معاوية فيه مقال: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان وغيره. عن وهيب بن خالد بن عجلان البصري، عن منصور بن المعتمر الكوفي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة أدرك النبي - عليه السلام - ولم يره، وهؤلاء روى لهم الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن منصور، عن أبي وائل قال: "جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، أقرأ خلف الإِمام؟ قال: أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام". وأخرجه الطبراني (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، به. قوله: "أنصت" أي اسكت، من أَنْصَتَ يُنْصِت إنصاتًا إذا سكت سكوت مستمع وقد نَصَتَ أيضًا، وأنصَتُّه إذا أسكتُّه فهو لازم ومتعدٍّ. وقوله: "فإن في الصلاة شغلًا" أي اشتغالًا عن غيرها، أراد أنه يجب أن يكون على حضور وسكون، فمتى قرأ خلف الإِمام ترك ذلك الحضور والسكون. قوله: "وسيكفيك ذلك الإمامُ" أشار به إلى القرآن، أي يكفيك الإِمام القراءة، أراد أن قراءته تغني عن قراءتك، و"الإمامُ" مرفوع؛ لأنه فاعل "سيكفيك"، و"ذلكَ" في محل النصب على المفعولية. ¬

_ = مجهول، ما أعلم له شيئًا يرويه عن علي غير هذا الحرف المنكر، الذي يشهد إجماع للسلمين قاطبة ببطلانه ... إلخ. وانظر ترجمة المختار بن عبد الله بن أبي ليلى من "لسان الميزان" (6/ 6). (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 138 رقم 2803). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 264 رقم 9311).

الثاني: عن مبشر بن الحسن بن مبشر القيسي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، أو أبي جابر محمَّد بن عبد الملك الأزدي، والشك فيه من الطحاوي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن عبد الله. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان وشعبة، عن منصور، عن أبي وائل: "أن رجلًا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإِمام، فقال: أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلًا وسيكفيك ذاك الإِمام"، وقال البيهقي: وإنما يقال: أنصت لما يسمع. قلت: جاء عن ابن مسعود أنه لا قراءة خلف الإِمام مطلقًا كما قد ذكرناه. الثالث: عن روح بن الفرح القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن منصور ... إلى آخره. وأخرجه ابن شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن أبي وائل قال: "جاء رجل إلى عبد الله فقال: اقرأ خلف الإِمام؟ فقال له عبد الله: إن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حديج -بضم الحاء المهملة- بن معاوية بن حديج بن الرُّحَيل الكوفي أخي زهير بن معاوية، فيه مقال؛ فعن يحيى بن معين: ليس بشيء، وعن النسائي: ضعيف، وقال أبو حاتم: محله الصدق. عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 160 رقم 2726). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3780).

واعلم أن قضية التراب والحجر قد رويت عن أربعة من عظماء الصحابة وأكابرهم وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - وقد ذكرنا ذلك كله. قوله: "ليت الذي" أي: ليت الرجل الذي، أو: ليت المصلي الذي، أو ليت المقتدي الذي يقرأ القرآن خلف الإِمام، و"ليت" كلمة تمني، والتمني: ما لا مطمع في وقوعه، كقولك: ليت الشباب يعود. قوله: "مُلئ" على صيغة المجهول، و"فوه" مرفوع بإسناده إليه، و"ترابًا" نصب على المفعولية. وأخرج الطحاوي هذا أيضًا مقتصرًا على علقمة بن قيس: عن الحسن بن نصر ابن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي الهمداني الكوفي قاضي الري، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه- قال: أحسبه قال: ترابًا أو رضفًا". وكذا روي عن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن علية، عن أيوب وابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: قال الأسود: "لأن أعض على جمرة أحب إليَّ من أن أقرأ خلف الإِمام أعلم أنه يقرأ". ثنا (¬3) هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن وبرة، عن الأسود بن يزيد أنه قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه ترابًا". وأخرج عبد الرزاق (¬4): عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 139 رقم 2808). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3785). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 331 رقم 3789). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 139 رقم 2809) ولكن من طريق معمر، قال: وأخبرني رجل عن الأسود به، وأما بالإسناد المذكور فرواه (2/ 138 رقم 2807) بلفظ: "ملئ فاه ترابًا"، والله أعلم.

قال: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام إذا جهر، عض على جمرهّ". وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، عن بكر بن عمرو المعافري المصري إمام جامعها، عن عبيد الله بن مقسم القرشي المدني ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح عك فرط مسلم، وهذا مخرج عن ثلاثة من الصحابة وهم: ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله؛ فإنهم قالوا: لا يقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات. وأخرج عبد الرزاق (¬1): عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان ينهى عن القراءة خلف الإمام". وأخرج (¬2): عن الثوري، عن ابن ذكوان، عن زيد بن ثابت، وابن عمر "كانا لا يقرآن خلف الإِمام". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، قال: "لا تقرأ خلف الإِمام". وعن (¬4) وكيع أيضًا، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن ثوبان، عن زيد بن ثابت، قال: "لا تقرأ خلف الإِمام إن جهر ولا إن خافت". وعن (¬5) وكيع أيضًا، عن عمر بن محمَّد، عن موسى بن سعد، عن زيد بن ثابت قال: "من قرأ خلف الإِمام فلا صلاة له". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 140 رقم 2814). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 140 رقم 2815). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3786). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 331 رقم 3787). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 331 رقم 3788).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح في غاية الصحة وأخرجه يحيى بن يحيى في "موطئه" عن مالك (¬1) إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر .. إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح في غاية الصحة وأخرج البيهقي (¬2) معارضًا لهذا: من حديث الجريري، عن أبي الأزهر قال: "سئل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن القراءة خلف الإِمام فقال: إني لأستحي من رب هذه البنية أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن". قلت: هذه معارضة باطلة؛ فإن إسناد ما ذكره منقطع، والصحيح عن ابن عمر عدم وجوب القراءة خلف الإِمام. وقد أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم: "أن ابن عمر كان ينهى عن القراءة خلف الإِمام". وأخرج (¬4) أيضًا: عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن القراءة خلف الإِمام، قال: وأخبرني أشياخنا أن عليًّا قال: من قرأ خلف الإِمام فلا صلاة له". وأخرج أيضًا: عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول: "إذا كنت مع الإِمام فحسبك قراءة الإِمام". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 86 رقم 192). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 161 رقم 2728). (¬3) تقدم. (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 139 رقم 2810).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع وأنس بن سيرين، قالا: قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "تكفيك قراءة الإِمام". وأما أثر جابر بن عبد الله: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج أبي المسور المدني من رجال مسلم، عن أبيه بكير بن عبد الله من رجال الجماعة، عن عبيد الله بن مقسم المدني، عن جابر. وهذا إسناد صحيح. فإن قيل: قال أحمد: مخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا. وكذا قال يحيى بن معين، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا وهو حديث الوتر. قلت: قال معن بن عيسى: مخرمة سمع من أبيه. وقال مالك: قلت لمخرمة: ما حدثت عن أبيك سمعته منه؟ فحلف بالله لقد سمعته. وأما أثر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة، عن أبيه بكير بن عبد الله، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن داود بن قيس، قال: أخبرني عمر بن محمَّد بن زيد بن عمر بن الخطاب، قال: حدثني موسى بن سعيد، عن زيد بن ثابت قال: "من قرأ مع الإِمام فلا صلاة له". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر ابن أبي كثير، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 330 رقم 3784). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (21/ 137 رقم 2802).

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، أنه أخبره: "أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإِمام، فقال: لا قراءة مع الإِمام في شيء". قال البيهقي: هذا محمول على جهر الإِمام. قلت: لا نسلم ذلك؛ لعدم القرينة على ذلك، وقوله: "لا قراءة" نكرة في موضع النفي فتعمَّ. وأما أثر ابن عباس - رضي الله عنهما -: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح الحراني واسمه عبد الغفار بن داود أحد أصحاب أبي حنيفة، وقال ابن ماكولا: كان ثقة ثبتًا فقيهًا على مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه -. عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- الضبعي واسمه نصر بن عمران بن عاصم من رجال الجماعة. وهذا إسناد صحيح. فإن قيل: روي عن ابن عباس خلاف هذا. فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "لا تدع أن تقرأ خلف الإِمام بفاتحة الكتاب جهر أو لا". قلت: ما رواه الطحاوي أصح إسنادًا من هذا، فلا يعارض به؛ فإن ليث بن أبي سليم متكلم فيه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 163 رقم 2738). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 328 رقم 3755).

ص: باب: الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟

ص: باب: الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الخفض في الصلاة هل يكبر فيه أم لا؟ والخفض ضد الرفع، وأراد به الانخفاض إلى الركوع هل فيه تكبير أم لا؟ والمناسبة بينه وبين ما قبله من الأبواب ظاهرة؛ لأن هذه الحالة بعد حالة القراءة وعقيب الفراغ منها. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، قال: ثنا يحيى بن حماد، عن شعبة، عن الحسن بن عمران، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام - وكان لا يتم التكبير". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان: أحدهما: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي نزيل مصر، وثقه ابن يونس. عن زهير بن حرب بن شداد الحرشي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا حافظًا متقنًا. عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ختن أبي عوانة، روى له الجماعة أبو داود في غير "السنن". عن شعبة، عن الحسن بن عمران العسقلاني، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: شيخ. روى له أبو داود. عن ابن عبد الرحمن بن أبزى إما عبد الله بن عبد الرحمن وإما سعيد بن عبد الرحمن، وقال أبو داود الطيالسي: الأصح هو سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى. وسعيد هذا روى له الجماعة. وأما عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى فقد وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي، وعبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مختلف في صحبته، ذكره ابن حبان في

التابعين من كتاب "الثقات" وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي - عليه السلام - وصلى خلفه. وهذا الحديث يشهد لأبي حاتم والظاهر أنه صحابي كما قاله الجمهور، ولذلك سكت عنه الطحاوي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا أبو داود، ثنا شعبة ... إلى آخره نحوه. والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2) وقال: قال عمرو بن مرزوق: ثنا شعبة، عن الحسن بن عمران، عن ابن عبد الرحمن، عن أبيه: "أنه صل مع النبي - عليه السلام - فكان لا يتم التكبير". فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: قالوا: إنه ضعيف ومعلول بالحسن بن عمران، قال الطبري: هو مجهول لا يجوز الاحتجاج به. وقال البخاري في "تاريخه" (¬3): عن أبي داود الطيالسي: هذا عندنا باطل. فإن قيل: أخرج أبو داود هذا الحديث وسكت عنه، وذلك دليل الصحة عنده كما هو عادته. وكللك أخرجه أبو عمر بن عبد البر وسكت عنه وقال (¬4): ثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: ثنا قاسم بن أصبغ، قال: ثنا محمَّد بن عبد السلام، قال: ثنا بندار، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن الحسن بن عمران، قال: سمعت سعيد بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 282 رقم 837). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 68 رقم 2330). (¬3) "التاريخ الكبير" (2/ 300). (¬4) "التمهيد" (7/ 84).

عبد الرحمن بن أبزى يحدث عن أبيه: "أنه صلى خلف النبي - عليه السلام - فلم يكن يتم التكبير، كان لا يكبر إذا خفض". وكذلك الطحاوي سكت عنه غير أنه قال: الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - في التكبير في كل خفض ورفع أظهر من حديث عبد الرحمن بن أبزى وأكثر تواترًا. وهذه العبارة تدل على أنه ليس بضعيف عنده. قلت: ولئن سلمنا أنه غير ضعيف، وأنه حسن أو جيد، ولكنه محمول على أنه - عليه السلام - تركه مرة لبيان الجواز، أو يكون قد كان - عليه السلام - كبر ولم يسمع الراوي تكبيره، قاله البيهقي، وتأوله الكرخي على حذفه، وذلك نقصان صفة لا نقصان عدد، وأجاب الطحاوي عنه أن الآثار المتواترة على خلافه، وأن العمل على غيره، كما يجيء إن شاء الله تعالى. قوله: "وكان لا يتم التكبير" معناه إذا رفع رأسه من الركوع وأراد أن يسجد لم يكبر، وإذا قام من السجود لم يكبر، قاله أبو داود، وذكر في "مختصر السنن": يريد لا يأتي بالتكبير في الانتقالات كلها، إنما يأتي في بعضها. ولكن تبويب الطحاوي بهذا يدل على أن معناه: كان لا يكبر إذا خفض كما هو مصرح في رواية ابن عبد البر؛ فافهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فكانوا لا يكبرون في الصلاة إذا خفضوا، ويكبرون إذا رفعوا، وكذلك كانت بنو أميّة تفعل. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم ابن عبد الله وسعيد بن جبير وقتادة؛ فإنهم ذهبوا إلى هذا الأثر وكانوا لا يكبرون في الصلاة إذا خفضوا. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو داود، عن شعبة، عن الحسن بن عمران: "أن عمر بن عبد العزيز كان لا يتم التكبير". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2498).

حدثنا (¬1) يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر قال: "صليت خلف القاسم وسالم فكانا لا يتمان التكبير". حدثنا (¬2) غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: "صليت مع سعيد بن جبير فكان لا يتم التكبير". ويحكى هذا عن ابن عمر، وقال ابن بطال: كان ابن عمر ينقص التكبير. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبدة بن سليمان، عن مسعر، عن يزيد الفقير قال: "كان ابن عمر ينقص التكبير في الصلاة، قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر، فإذا أراد أن يسجد الثانية لم يكبر". ويحكى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي الوليد، قال: أخبرني شعبة بن الحجاج، عن رجل، عن ابن أبزى، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمهم فلم يكبر هذا التكبير". ويحكى عن ابن عباس أيضًا. وأخرج عبد الرزاق (¬5): عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد قال: "صليت مع ابن عباس بالبصرة فلم يكبر هذا التكبير بالرفع والخفض". قلت: المشهور عن هؤلاء الصحابة التكبير في الخفض والرفع، وروايات هؤلاء محمولة على أنهم قد تركوه أحيانًا؛ بيانًا للجواز، أو الراوي لم يسمع ذلك منهم لخفاء الصوت. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2501). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2503). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2504). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 66 رقم 2513). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 65 رقم 2510) من طريق ابن جريج عن عمرو به بنحوه.

قوله: "وكذلك كانت بنو أمية تفعل" أي كانوا يتركون التكبير في الخفض، وهم مثل معاوية وزياد وعمر بن عبد العزيز. قال ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: "أول من نقص التكبير زياد. وقال الطبري: "إن أبا هريرة سئل: من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية". وقال أبو عبد الله العدني في "مسنده": حدثنا بشر بن السري، ثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله قال: "أول من نقص التكبير الوليد بن عقبة، فقال عبد الله: نقصوها نقصهم الله، فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر كلما ركع، وكلما سجد، وكلما رفع رأسه". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فكبروا في الخفض والرفع جميعًا، وذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله - عليه السلام -. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم وغيرهم من عوام العلماء؛ فإنهم رأوا التكبير في الخفض والرفع جميعًا، وذهبوا في ذلك إلى ما تواترت وتكاثرت به الآثار عن النبي - عليه السلام -، ويحكى ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر وقيس بن عبادة وغيرهم. ثم اختلفوا في تكبيرات الصلاة غير تكبيرة الإحرام هل هي سنة أو واجبة؟ فقال قوم: هي سنة، قال ابن المنذر: وبه قال أبو بكر الصديق وعمر وجابر وقيس بن عبادة والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو حنيفة، ونقله ابن بطال أيضًا عن عثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير ومكحول والنخعي وأبي ثور. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2500).

وقالت الظاهرية وأحمد في رواية: كلها واجب. وقال أبو عمر: قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير إنما هو إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة، وليس بسُنَّة إلا في الجماعة، فأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر، وقد قال ابن القاسم: فمن نسي ثلاث تكبيرات فصاعدًا من صلاته وحده: أنه يسجد قبل السلام، فإن لم يفعل أعاد، وخالفه أصبغ وعبد الله بن عبد الحكم فقالا: لا إعادة على من نسي التكبير كله في صلاته إذا كان قد كبر لإحرامه، وإنما عليه سجدتا السهو، فإن لم يسجدهما فلا حرج، وعلى هذا القول فقهاء الأمصار وأئمة الفتوى، وهو الذي ذهب إليه أبو بكر الأبهري، قال: وأهل الظاهر كلهم يأمرون به ويفعلونه، فإن تركه تارك عندهم بعد أن يحرم لم تفسد صلاته؛ لأنه ليس عندهم من فرائض الصلاة. قلت: قال ابن حزم في "المحلى": والتكبير للركوع فرض، وقول: سبحان ربي العظيم في الركوع فرض، والقيام إثر الركوع فرض لمن قدر عليه حتى يعتدل قائمًا، وقول: "سمع الله لمن حمده" عند القيام من الوكوع فرض، فإن كان مأمومًا ففرض عليه أن يقول بعد ذلك: "ربنا لك الحمد"، أو "ولك الحمد"، وليس هذا فرضًا على إمام ولا فذّ، فإن قالاه كان حسنًا وسُنَّه، والتكبير لكل سجدة منهما فرض، وقول: سبحان ربي الأعلى في كل سجدة فرض، ووضع الجبهة واليدين والأنف والركبتين وصدور القدمين على ما هو قائم عليه فيما أبيح له التصرف عليه فرض كل ذلك، والجلوس بين السجدتين فرض، والطمأنينة فيه فرض، والتكبير له فرض، لا تجزئ صلاة لأحد من أن يدع من هذا كله عامدًا؛ فإن لم يأت به ناسيًا ألغى ذلك وأتى به كما أُمر ثم سجد للسهو فإن عجز عن شيء منه لجهل أو عذر مانع سقط عنه، وتمت صلاته. انتهى.

وقال أبو عمر (¬1): قال إسحاق بن منصور، سمعت أحمد بن حنبل يقول: "يروى عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده" قال أحمد: وأحب إليَّ أن يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما في التطوع فلا. قال أبو عمر: لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده، وأما ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع". فيدل ظاهره عك أنه كذلك كان يفعل إمامًا وغير إمام. وقال السفاقسي: واختلفوا فيمن ترك التكبير في الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات فأكثر أو التكبير كله سوى تكبيرة الإحرام سجد قبل السلام، وإن لم يسجد قبل السلام سجد بعده، وإن لم يسجد حتى طال بطلت صلاته، وفي "الموضحة": وإن نمصي تكبيرين سجد قبل أن يسلم، فإن لم يسجد لم تبطل صلاته، وإن ترك تكبيرة واحدة اختلف هل عليه سجود أم لا؟ فقال ابن عبد الحكم وأصبغ: ليس على من ترك التكبير سوى السجود، فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شيء عليه. وقال أصحابنا: لا يجب السجود بترك الأذكار كالثناء والتعوذ وتكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتها. وفي "شرح المهذب": لو ترك التكبير عمدًا أو سهوًا حتى ركع، لم يأت به لفوات محله. والله أعلم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله قال: "أنا رأيت رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل وضع ورفع". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن زهير ... فذكر بإسناده مثله، قال: "ورأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يفعلان ذلك". ش: شرع يبين ما ذكره من قوله: "وذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله - عليه السلام -" منها ما رواه عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (7/ 83).

وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية بن حديج أحد أصحاب أبي حنيفة ومن رجال الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن أبيه الأسود، وعن علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي عم الأسود بن يزيد، والكل من رجال الجماعة. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬1): أنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا أبو خيثمة، ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعن علقمة، عن عبد الله قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل رفع ووضع وقيام وقعود". وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده" (¬2): ثنا عمرو بن علي، قال: ثنا معاذ بن معاذ وأبو داود، قالا: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - كان يكبر في كل خفض ورفع، ويسلم عن يمينه وعن يساره. الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني أبي بدر، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعن علقمة، كلاهما عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه الترمذي (¬3): نا قتيبة، قال: نا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة والأسود، عن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل خفص ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما". قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مسعود حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 316 رقم 1249). (¬2) "مسند البزار" (5/ 48 رقم 1609). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 33 رقم 253).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا الفضل بن دكين ويحيى بن آدم، قالا: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، ويسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله - عليه السلام - يُرى بياض خده، قال: ورأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يفعلان ذلك". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء بن السائب، قال: حدثني سالم البراد- قال: وكان عندي أوثق من نفسي- قال: قال أبو مسعود البدري: "ألا أصلي لكم صلاة رسول الله - عليه السلام -؟ فصلى بنا أربع ركعات يكبر فيهن كلما خفض ورفع، وقال: هكذا رأيت رسول اللهَ - عليه السلام - صلى". ش: إسناده صحيح، وعفان بن مسلم بن عبد الله الصفار أبو عثمان البصري شيخ البخاري، وهمام بن يحيى العوذي أبو بكر البصري روى له الجماعة، وعطاء بن السائب بن مالك أبو زيد الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، وعن أحمد: ثقة ثقة، رجل صالح. روى له البخاري حديثًا واحدًا متابعة والأربعة. وسالم أبو عبد الله الكوفي وثقه يحيى بن معين وابن حبان وغيرهما، والبراد فعال -بالتشديد- من البرد لقب سالم، وأبو مسعود البدري اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا همام، عن عطاء بن السائب، حدثني سالم البراد -وكان أوثق عندي من نفسي- قال: "قال لنا أبو مسعود البدري: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله - عليه السلام -؟ فلما ركع وضع كفيه على ركبتيه وفرق بين أصابعه وجافى عن إبطيه حتى استقر كل شيء منه، وكبر وسجد وجافى عن إبطيه حتى استقر كل شيء منه، ثم كبر فاستوى قاعدًا على ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 230 رقم 1142). (¬2) "المعجم الكبير" (17/ 240 رقم 668).

مقعدته حتى استقر كل شيء منه، فصلى أربع ركعات، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي، أو هكذا كانت صلاة رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن حماد، نا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، ثنا سالم البراد قال: "دخلنا على أبي مسعود الأنصاري، فسألناه عن الصلاة، فقال: ألا أصلي بكم كما كان رسول الله - عليه السلام - يصلي؟ قال: فقام فكبر ورفع يديه، ثم ركع فوضع كفيه عك ركبتيه وجافى بين إبطيه، قال: ثم قام حتى استقلَّ كل شيء منه، ثم سجد فوضع كفيه وجافى بين إبطيه، ثم رفع رأسه حتى أستقلَّ كل شيء، ثم صلى أربع ركعات هكذا". قوله: "أَلا" حرف تنبيه ينبه السامع على ما يأتي. قوله: "كلما خفض ورفع" أي كلما خفض رأسه للسجود وكلما رفعها. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد العزيز بن مختار، قال: ثنا عبد الله الداناج، قال: ثنا عكرمة قال: "صلى بنا أبو هريرة - رضي الله عنه - فكان يكبر إذا رفع وإذا خفض، فأتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال: أوليس ذلك سنة أن القاسم - عليه السلام -؟! ". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو بشر، عن عكرمة، مثله ولم يذكر أبا هريرة. ش: هذان طريقان رجالهما ثقات: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد العزيز بن مختار الأنصاري أبي إسحاق الدباغ البصري من رجال الجماعة، عن عبد الله بن فيروز الداناج البصري روى له الجماعة سوى الترمذي، والداناج معرب داناه، وهو العالم بالفارسية. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 274 رقم 22413).

ورواه أحمد في "مسنده"، (¬1) والطبراني في "معجمه" (¬2): من طريق عبد الله الداناج المذكور فيه. قوله "أوليس ذلك" الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، ومعناه تلك صلاة رسول الله - عليه السلام - لأن نفي النفي إثبات. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس الواسطي، عن عكرمة نحوه، ولم يذكر فيه أبا هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا هشيم، بن بشير، عن أبي بشر, عن عكرمة نحوه, "رأيت رجلًا يصلي عند المقام، يكبر في كل خفض ورفع، قال: فأتيت ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخبرته بذلك فقال لي ابن عباس: أوليس تلك صلاة رسول الله - عليه السلام -؟! لا أمَّ لعكرمة". وقال البخاري (¬4): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: أنا همام، عن قتادة، عن عكرمة قال: "صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - عليه السلام -". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبو إسحاق، عن الأسود بن يزيد، قال: قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "ذكرنا علي - رضي الله عنه - صلاة كلنا نصليها مع النبي - عليه السلام - إما نسيناها وإما تركناها عمدًا، يكبر كلما خفض وكلما رفع وكلما سجد". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد بن أبو عروبة (ح) ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 250 رقم 2257). (¬2) "المعجم الكبير" (11/ 333 رقم 11918). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 218 رقم 2495). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 272 رقم 755).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا كبر الإِمام وسجد فكبروا واسجدوا". ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم رجال الصحيحين ما خلا ربيعًا وأسدًا وابن مرزوق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي موسى قال: "صلى بنا علي - رضي الله عنه - يوم الجمل صلاة ذكرنا بها صلاة رسول الله - عليه السلام - فإما أن نكون نسيناها وإما أن نكون تركناها عمدًا؛ يكبر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود، ويسلم عن يمينه ويساره". قوله: "ذكرنا" بالتشديد من التذكير و"عليٌّ" مرفوع ة لأنه فاعله و"صلاة" مفعوله. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي أبي محمَّد البصري، عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي أبي النضر البصري، عن قتادة، عن يونس بن جبير الباهلي أبي غلاب البصري، عن حِطَّان -بكسر الحاء، وتشديد الطاء المهملتين- أبي عبد الله الرقاشي -بفتح الراء وتخفيف القاف- نسبة إلى رقاش بنت ضبيعة أم ولد شيبان بن ذهل. وهو يروي عن أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 217 رقم 2491).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري ومحمد بن عبد الملك الأموي واللفظ لأبي كامل، قالوا: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: "صليت مع أبي موسى صلاة، فلما كان عند القعدة، قال رجل من القوم: أقرت الصلاة بالبر والزكاة، قال: فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم، انصرف فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ قال: فأرم القوم، ثم قال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأرم القوم، فقال: لعلك يا حطان قلتها؟ قال: ما قلتها, ولقد رهبت أن تبكعني بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتها ولم أرد بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإِمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله - عليه السلام -: فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم؛ فإن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا، فإن الإِمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله - عليه السلام -: فتلك بتلك، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عمرو بن عون، عن أبي عوانة، عن قتادة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 303 رقم 404). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 319 رقم 972).

وعن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: "صلى بنا أبو موسى ... " الحديث. وأخرجه النسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، أن الأشعري قال: "إن رسول الله - عليه السلام - خطبنا فعلمنا سنتنا وبيَّن لنا صلاتنا ... " الحديث. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن جميل بن الحسن، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة. وعن عبد الرحمن بن عمرو، عن ابن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، وهشام بن أبي عبد الله، عن قتادة -وهذا حديث عبد الرحمن- عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله - عليه السلام - خطبنا وبين لنا سنتنا ... " الحديث. قوله: "فأرم القوم" قال ابن الأثير: الرواية المشهورة "أَرَمَّ" بالراء المهملة وتشديد الميم، معناه أمسكوا عن الكلام وسكتوا ولم يجيبوا، يقال: أرمّ فهو مرمّ، ويروى "أزم القوم" -بفتح الزاي المعجمة- ومعناه أيضًا أمسكوا عن الكلام، كما يمسك الصائم عن الطعام ومنه سميت الحمية أزمًا. قوله: "أن تبكعني بها" من بكعت الرجل بكعًا إذا استقبلته بما يكره. قوله: "فتلك بتلك" معناه أن الدعوى معلقة بتلك الكلمة أو مضمنة بها، أعني بالدعوى: قراءة الإِمام {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} السورة، وأعني بالكلمة: قوله: "آمين". قوله: "فتلك" مبتدأ وخبره "بتلك" الثاني، ومتعلقه محذوف كما قدرنا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 241 رقم 1172). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 291 رقم 901).

قوله: "يسمع الله لكم" أي يستجيب لكم، والسماع كناية عن الإجابة؛ فافهم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني عبد الرحمن الأصم، قال: سمعت أنسًا يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يتمون التكبير، يكبرون إذا سجدوا إذا رفعوا، وإذا قاموا من الركعة". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم وأبو حذيفة، عن سفيان، عن عبد الرحمن الأصم ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ونسبته لعمل القوارير أو بيعها، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن الأصم من رجال مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن الأصم، عن أنس قال: "كان النبي - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان لا ينقصون التكبير". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن عبد الرحمن الأصم، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان يثبتون التكبير إذا رفعوا وإذا وضعوا". والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك ابن مخلد، وأبي حذيفة النهدي واسمه موسى بن مسعود شيخ البخاري، كلاهما عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن الأصم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 216 رقم 2477). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 64 رقم 2501).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن الأصم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر لا ينقصون التكبير". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة: "أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يصلي لهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله - عليه السلام -". حدثنا ابن مرزوق، قال: أنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري، عن أبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن: "أن أبا هريرة كان يصلي لهم المكتوبة ... " فذكر مثله. حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يكبر كلما سجد ورفع". حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، أن أبا سلمة قال: "رأيت أبا هريرة يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فقلت: يا أبا هريرة، ما هذه الصلاة؟! فقال: إنها لصلاة رسول الله - عليه السلام -". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، والكل رجال الصحيح.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، وإذا انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - عليه السلام -". وأخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن النعمان بن راشد الجزري الرقي مولى بني أمية، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدني أحد الفقهاء السبعة، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬3) بأتم منه: ثنا عمرو بن عثمان، نا أبي وبقية، عن شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة: "أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، فيكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد، ثم يقول: الله أكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين، فيفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - عليه السلام -، وإن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا". ففيه إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلا في رفعه من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وهذا مجمع عليه اليوم، ففي كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة، وهي: تكبيرة الإحرام، وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة، وهي: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية ثنتان وعشرون، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 272 رقم 752). (¬2) "المجتبى" (2/ 235 رقم 1155). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 281 رقم 836).

الثالث: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام بن شعبة المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، كان يسكن المقبرة فنسب إليها. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، نا أبو داود، نا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: "والله إني لأعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، كان رسول الله - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، وكان يكبر إذا نهض وإذا خفض وإذا رفع". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان الأنصاري المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، نا أبو عاصم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يرفع يديه إذا دخل الصلاة مدًّا، وكان يسكت قبل القراءة يسأل الله من فضله، ويكبر إذا خفض وإذا رفع". الخامس: عن محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن مهران الرازي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: "أن أبا هريرة كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع، فقلنا: يا أبا هريرة، ما هذا التكبير؟! فقال: إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 293 رقم 392).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكانت هذه الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - في التكبر في كل خفض ورفع أظهر من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وأكثر تواترًا، وقد عمل بها من بعد رسول الله - عليه السلام - أبو بكر وعمر وعلي -رضوان الله عليهم- وتواتر بها العمل إلى يومنا هذا، لا ينكر ذلك منكر، ولا يدفعه دافع، ثم النظر يشهد له أيضًا، وذلك أنا رأينا الدخول في الصلاة يكون بالتكبير، ثم الخروج من الركوع والسجود يكونان أيضًا بالتكبر، وكذلك القيام من القعود يكون أيضًا بالتكبر، فكان ما ذكرنا من تغير الأحوال من حال إلى حال قد أُجمع أن فيه تكبيرًا، فكان النظر على ذلك أيضًا أن يكون تغير الأحوال أيضًا من القيام إلى الركوع وإلى السجود فيه أيضًا تكبير؛ قياسًا عك ما ذكرنا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالآثار المرويّه: الأحاديث التي أخرجها عن عبد الله بن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - وأشار إلى ترجيحها على حديث عبد الرحمن بن أبزى الذي احتج به أهل المقالة الأولى بأوجه أربعة: الأول: أن هذه أظهر من حديث ابن أبزى في صحة الأسانيد وإتقان الرواة، وأنها أكثر تواترًا وأشد اشتهارًا بين الخاصة والعامّة، وقد عرف أن من جملة أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة وشهرة المروي، حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد والآخر يرويه اثنان، فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به، واستدلوا على ذلك بمسألة كتاب الاستحسان في الخبر بطهارة الماء ونجاسته، وحل الطعام وحرمته، أنه إذا كان المخبر بأحد الأمرين اثنين، وبالآخر واحدًا، فإنه يؤخذ بخبر الاثنين؛ وهذا لأن خبر المثنى حجة تامة في باب الشهادات، بخلاف خبر الواحد، فطمأنينة القلب إلى خبر المثنى أكثر، وقد اشتهر عن الصحابة - رضي الله عنهم - الاعتماد على خبر المثنى دون الواحد.

الثاني: أنه قد عمل بهذه الآثار من بعد رسول الله - عليه السلام - أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - وكفى بهم قدوة، وكذلك عمل بها غيرهم من الصحابة مثل عثمان -كما وقع في رواية ابن أبي شيبة- وأبي هريرة وأنس وأبي موسى الأشعري وأبي مسعود البدري وعبد الله بن مسعود وغيرهم - رضي الله عنهم -. الثالث: أنه قد تواتر بها العمل إلى يومنا هذا من غير نكبيرِ منكر، ولا ردِّ رادٍّ، فصار كالإجماع. الرابع: أنه يشهد له النظر والقياس، بيانه: أن الدخول في الصلاة يكون بالتكبير وكذلك الخروج من الركوع والسجود والقيام من القعود، فكل ذلك بالتكبير بلا خلاف فيه؛ فكان النظر والقياس عك ذلك أن تكون بالتكبير أيضًا حالة الانتقال من القيام إلى الركوع وإلى السجود، والجامع: وجود تغير الأحوال من حال إلى حال في كل واحدة من هذه الحالات.

ص: باب: التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع من الركوع هل في ذلك رفع أم لا؟

ص: باب: التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع من الركوع هل في ذلك رفع أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان التكبير لأجل الركوع والتكبير لأجل السجود، وفي بيان حالة رفع الرأس من الركوع هل فيهما رفع اليدين أم لا؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا فرغ ورفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر". ش: هذا أخرجه أبو جعفر: بعينه بهذا الإسناد في باب: رفع اليدين في افتتاح الصلاة، ولكن إلى قوله: "حذو منكبيه" وقطعه للتبويب. وأخرجه الأربعة (¬1) وقد ذكرناه هناك. قوله: "إذا قضى قراءته" أي: إذا فرغ منها. قوله: "ويصنعه" أي يصنع رفع اليدين. قوله: "وهو قاعد" جملة وقعت حالًا. قوله: "وإذا قام من السجدتين" يعني الركعتين؛ قاله في "الإِمام"، وقال النووي في "الخلاصة": وقع في لفظ أبي داود: "السجدتين" وفي لفظ الترمذي "الركعتين" والمراد بالسجدتين: الركعتان. ¬

_ (¬1) تقدم.

وقال الخطابي: أما ما روي في حديث علي أنه كان يرفع يديه عند القيام من السجدتين، فلست أعلم أحدًا من الفقهاء ذهب إليه، وإن صح الحديث فالقول به واجب. انتهى. قلت: الحديث صحيح، قال الترمذي: حسن صحيح، ووهم الخطابي في ذلك لكونه لم يقف على طريق الحديث، ولكن يجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت النبى - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين". ش: هذا أيضًا أخرجه بعينه بهذا الإسناد في باب: رفع اليدين في افتتاح الصلاة، ولكن إلى قوله: "حتى يحاذي بهما منكبيه" والأئمة الستة أخرجوه (¬1) وقد ذكرناه هناك. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أن النبى - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد، عن جابر قال: "رأيت سالم بن عبد الله رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة ثلاث مرات: حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين رفع رأسه، قال جابر: فسألت سالمًا عن ذلك، فقال: رأيت ابن عمر يفعل ذلك، وقال ابن عمر: رأيت النبى - عليه السلام - يفعل ذلك". ¬

_ (¬1) تقدم.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة قال: قال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام -، قالوا: لم؛ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة، ولا أقدمنا له صحبة؟! فقال: بلى، قالوا: فأعرض، قال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى الأرض، فإذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم صنع مثل ذلك في بقية صلاته، قال: فقالوا جميعًا: صدقت هكذا كان يصلي". ش: هذه الأسانيد كلها بعينها قد مرت هناك ولكن مقتصرة على رفع اليدين حذو المنكبين عند الافتتاح، وقد ذكرنا هناك من أخرجها من الأئمة، وتقطيعها للتبويب. وزيد هو ابن أبي أنيسة الجزري أبو أسامة الرهاوي من رجال الجماعة، وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي فيه كلام كثير. ومما يستفاد منها: استحباب الجمع للإمام بين التسميع والتحميد، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد. وأنه لا يرفع يديه بين السجدتين، وبه أخذ الجمهور، وقد ذهبت طائفة إلى الرفع في السجود أيضًا. لما روى أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن حميد، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يرفع يديه في الركوع والسجود". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 213 رقم 2434).

ويستفاد من حديث أبي حميد: أن الإِمام يقتصر على التسميع، وإليه ذهب أبو حنيفة. وسنية تكبيرات الانتقالات. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أُسيد وسهل بن سعد فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام -، إن رسول الله - عليه السلام - كان إذا قام رفع يديه، ثم رفع يديه حين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه". ش: إسناده صحيح، وأبو عامر اسمه عبد الملك بن عمرو، وقد تكرر ذكر نسبته إلى عَقَد بفتحتين صنف من الأزد. وعباس بن سهل بن سعد الأنصاري روى له الجماعة سوى النسائي، وأبو حميد -بضم الحاء- قيل اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد الساعدي الأنصاري المدني الصحابي، وأبو أسيد بضم الهمزة اسمه مالك بن ربيعة الأنصاري الساعدي الصحابي، وسهل بن سعد بن مالك الأنصاري الساعدي أبو يحيى المدني الصحابي. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا أبو عامر العقدي، نا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال: "اجتمع محمَّد بن مسلمة وأبو أسيد وأبو حميد وسهل بن سعد، فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام -، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، إن رسول الله - عليه السلام - قام فكبر ورفع يديه، ثم رفع يديه حين كبر للركوع، ثم ركع ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، ولم يصوب رأسه ولم يقنعه". وأخرجه أبو داود من وجوه كثيرة وأخرجه من هذا الوجه أيضًا وليس فيه ذكر رفع اليدين عند الركوع وقال (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 341 رقم 1307). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 253 رقم 734).

أخبرني فليح، قال: حدثني عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام - فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، فذكر بعض هذا، قال: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه، ثم رفع رأسه حتى رجع كل عظم في موضعه، حتى فرغ، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كله اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي - عليه السلام - حين يكبر للصلاة وحين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه حيال أذنيه". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس المعروف بالسوسي، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا ركع وإذا رفع رأسه من ركوعه يرفع يديه حتى يحاذي بهما فوق أذنيه". ش: هذه الأسانيد ذكرت هناك بعينها ولكن متونها مقتصرة على رفع اليدين عند الافتتاح، وها هنا ذكرها لرفع اليدين حين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع. ورجالها كلهم ثقات وأبو الأحوص سلام بن سليم الكوفي. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد".

ش: سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، وإسماعيل بن عياش بن سليم الشامي فيه مقال، قال النسائي: ضعيف. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وقال الفسوي: تكلم قوم فيه وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام، أكثر ما تكلموا فيه قالوا: يغرب عن ثقات الحجازين. وروى له الأربعة. وصالح من رجال الجماعة، وكذلك عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. وأخره ابن ماجه (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار، قالا: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه حين يفتتح الصلاة وحين يركع وحين يسجد". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، وأوجبوا الرفع عند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند النهوض إلى القيام من القعود في الصلاة كلها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح وطاوسًا ومجاهدًا والقاسم بن محمَّد وسالمًا وقتادة ومكحولًا وسعيد بن جبير وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وابن جرير الطبري ومالكًا في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار المذكورة، وأوجبوا الرفع أي رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، وعند القيام من القعود إلى الركعة الثالثة، وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأنس وابن الزبير. وقال البخاري (¬2): روي عن تسعة عشر نفرًا من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع منهم: أبو قتادة وأبو أسيد ومحمد بن مسلمة وسهل بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 279 رقم 860). (¬2) "جزء رفع اليدين" للبخاري (1/ 2).

سعد وعبد الله بن عمر وابن عباس وأنس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وعبد الله ابن الزبير ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأبو موسى الأشعري وأبو حميد الساعدي. وزاد البيهقي (¬1): أبا بكر الصديق وعمر وعليًّا وجابرًا وعقبة بن عامر وزيد بن ثابت وعبد الله بن جابر البياضي وأبا سعيد وأبا عبيدة وابن مسعود وأبي بن كعب وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والحسين بن علي وسلمان الفارسي وبريدة وعمارًا وأبا أمامة وعمير بن قتادة الليثي وأبا مسعود وعائشة وأعرابيًّا له صحبة. وزاد ابن حزم (¬2): أم الدرداء والنعمان بن عياش، قال: ورويناه أيضًا عن عبد الرحمن بن سابط والحسن وسالم والقاسم وعطاء ومجاهد وابن سيرين ونافع وقتادة والحسن بن مسلم وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار ومكحول والمعتمر ويحيى القطان وابن مهدي وابن علية وابن المبارك وابن وهب ومحمد بن نصر المروزي وابن جرير الطبري وابن المنذر والربيع ومحمد بن الحكم وابن نمير وابن المديني وابن معين وابن هارون في آخرين، وهو رواية أشهب وابن وهب وأبي المصعب وغيرهم عن مالك: أنه كان يرفع يديه على حديث ابن عمر إلى أن مات، وبه قال الأوزاعي وابن عيينة والشافعي وجماعة أهل الحديث. وذكر ابن عسكر في "تاريخه" (¬3): عن أبي حازم سلمة الأعرج القاضي قال: "أدركت ألفًا من الصحابة كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع". ¬

_ (¬1) انظر "سنن البيهقي الكبرى" باب رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه. (2/ 68) وما بعدها. (¬2) انظر "المحلى" (4/ 89) وما بعدها. (¬3) "تاريخ دمشق" (22/ 24). وأسند بعده عن ابن أبي حازم أنه قال: من حدثك أن أبي سمع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير سهل بن سعد فقد كذب، وانظر "جامع التحصيل" (1/ 187 رقم 255)، و"تهذيب الكمال" (11/ 275).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا نرى الرفع إلا في التكبيرة الأولى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وعامر الشعبي وأبا إسحاق السبيعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وخيثمة وقيسًا والمغيرة ووكيعًا وعاصم بن كليب ومالكًا -في رواية- وابن القاسم وأكثر المالكية وأهل الكوفة. قال الترمذي (¬1): وبه يقول غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين وهو قول سفيان وأهل الكوفة. واختلف عن مالك في رفع اليدين في الصلاة فروى الوليد بن مسلم وعبد الله بن وهب عن مالك: أنه كان يرى رفع اليدين في الصلاة. وروى الشافعي، عن مالك: أنه كان لا يرفع. وقال أشرت الدين بن نجيب الكاساني في "البدائع" (¬2): وروي عن ابن عباس أنه قال: إن العشرة الذين شهد لهم رسول الله - عليه السلام - بالجنة ما كانوا يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة. قلت: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وذكر غيره أيضًا عبد الله بن مسعود وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبا سعيد الخدري، وقول الترمذي يدل على هذا. ص: واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 40). (¬2) "بدائع الصنائع" (1/ 484).

عازب قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه ثم لا يعود". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن البراء، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: ثنا يحيى يحيى، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه. وعن الحكم (¬1)، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي أبي عبد الرحمن البصري نزيل مكة، وشيخ أحمد وإسحاق وابن المديني وبندار، وثقه يحيى بن معين وابن حبان، واستشهد به البخاري، واحتج به الأربعة أبو داود في القدر. عن سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي أبي عبد الله الكوفي، تكلموا فيه، وسيجيء الكلام فيه. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من رجال الجماعة، عن البراء - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن الصباح البزاز، قال: ثنا شريك، عن يزيد ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، و"ك": وعن الحكم بالإضافة وعليه شرح المؤلف، وهو كذلك في "مصنف ابن أبي شيبة" كما سيأتي، وعند أبي داود في "سننه": عن الحكم بدون الواو، وكذا هو في "تحفة الأشراف" (2/ 29 رقم 1786) ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يروي عن أخيه ويروي عن الحكم كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" وأما أخوه عيسى فقد شكك المزي في روايته عن الحكم كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (22/ 630) فقال: إن كان محفوظًا. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 258 رقم 749).

ابن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي، عن خالد بن عبد الله الواسطي، كلاهما من رجال الجماعة، عن محمَّد بن أبي ليلى فيه مقال، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن وثقه أبو حاتم وغيره، عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حسين بن عبد الرحمن، أنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - رفع يديه حين افتتح الصلاة، ثم لم يرفعهما حتى انصرف". الثالث: عن محمد بن النعمان السقطي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن وكيع، عن محمَّد بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، وعن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه، ثم لا يرفعهما حتى يفرغ". فإن قلت: قال أبو داود (¬3): روى هذا الحديث هشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد ولم يذكروا: "ثم لا يعود" وقال الخطابي: لم يقل أحد في هذا: "ثم لا يعود" غير شريك، وقال أبو عمر في "التمهيد": تفرد به يزيد، ورواه عنه الحفاظ فلم يذكر واحد منهم قوله: "ثم لا يعود". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 259 رقم 752). (¬2) المصنف ابن أبي شيبه (1/ 213 رقم 2440). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 258).

وقال البزار: لا يصح حديث يزيد في رفع اليدين "ثم لا يعود". وقال عباس الدوري (¬1) عن يحيى: ليس هو بصحيح الإسناد. وقال البيهقي (¬2) عن أحمد: هذا حديث واهي قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يذكر فيه: "ثم لا يعود". فلما لقن أخذه فكان يذكره فيه. وقال جماعة: إن يزيد كان تغير بأخرة وصار يتلقن، واحتجوا على ذلك بأنه أنكر الزيادة. كما أخرجه الدارقطني (¬3): عن علي بن عاصم، ثنا محمد بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "رأيت النبي - عليه السلام - حين قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أذنيه، فقلت: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: "ثم لم يعد" قال: لا أحفظ هذا. ثم عاود به فقال: لا أحفظه. وقال البيهقي: سمعت الحاكم أبا عبد الله يقول: يزيد بن أبي زياد كان يذكر بالحفظ، فلما كبر ساء حفظه، وكان يقلب الأسانيد ويزيد في المتون ولا يميز. قلت: يعارض قول أبي داود قول ابن عدي في "الكامل" (¬4): رواه هشيم وشريك وجماعة معهما عن يزيد بإسناده وقالوا فيه "ثم لم يعد" فظهر أن شريكًا لم يتفرد برواية هذه الزيادة فسقط بذلك أيضًا كلام الخطابي: لم يقل أحد في هذا: "ثم لا يعود" غير شريك؛ لأن شريكًا قد توبع عليها. كما أخرجه الدارقطني (¬5): عن إسماعيل بن زكرياء، ثنا يزيد بن أبي زياد به نحوه. ¬

_ (¬1) "تاريخ ابن معين رواية الدوري" (3/ 264 رقم 1239). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (1/ 548). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 294 رقم 24). (¬4) "الكامل في الضعفاء" (7/ 276). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 293 رقم 21).

وأخرجه البيهقي في "الخلافيات": من طريق النضر بن شميل، عن إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بلفظ: "رفع يديه حذو أذنيه ثم لم يعد". وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬1): من حديث حفص بن عمر، ثنا حمزة الزيات كذلك، وقال: لم يروه عنه إلا حفص، تفرد به محمَّد بن حرب. فإن قالوا: تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. قلنا: لا نسلم ذلك؛ لأن عيسى بن عبد الرحمن رواه أيضًا عن ابن أبي ليلى كذلك، فلذلك أخرجه الطحاوي إشارة إلى أن يزيد قد توبع في هذا، وأما إذا نظرنا في حال يزيد نجده ثقة، فقال العجلي: هو جائز الحديث. وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: يزيد وإن كان قد تكلم فيه لتغيره فهو على العدالة والثقة وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور والأعمش فهو مقبول القول عدل ثقة. وقال أبو داود: ثبت لا أعلم أحدًا ترك حديثه وغيره أحب إليَّ منه. وقال ابن سعد: كان ثقة في نفسه إلا أنه اختلط في آخر عمره. ولما ذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" قال: قال أحمد بن صالح: يزيد ثقة ولا يعجبني قول من تكلم فيه. وخرج ابن خزيمة حديثه في "صحيحه". وقال الساجي: صدوق. وكذا قال ابن حبان، وذكره مسلم فيمن شمله اسم الستر والصدق وتعاطي العلم وخرج حديثه في "صحيحه"، واستشهد به البخاري. فلما كانت حاله بهذه المثابة جاز أن يحمل أمره على أنه حدث ببعض الحديث تارة وبجملته أخرى، أو يكون قد نسى أولًا ثم تذكر، فإن ادعوا المعارضة برواية إبراهيم بن بشار عن سفيان، ثنا يزيد بن أبي زياد بمكة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" قال سفيان: فلما قدمت الكوفة سمعته يقول: "يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". فظننتهم لقنوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (2/ 84 رقم 1325).

رواه الحاكم، ثم البيهقي (¬1) عنه. قال الحاكم: لا أعلم ساق هذا المتن بهذه الزيادة عن سفيان بن عيينة غير إبراهيم بن بشار الرمادي، وهو ثقة في الطبقة الأولى من أصحاب ابن عيينة، جالس ابن عيينة نيفًا وأربعين سنة. ورواه البخاري في كتابه في "رفع اليدين" (¬2): حدثنا الحميدي، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، بمثل لفظ الحاكم. قال البخاري: وكذلك رواه الحفاظ ممن سمع يزيد قديمًا منهم شعبة والثوري وزهير، وليس فيه "ثم لم يعد". قلنا: هذا لا يتجه؛ لأنه لم يرو هذا المتن جهذه الزيادة غير إبراهيم بن بشار، كذا حكاه الشيخ في "الإمام" عن الحاكم، وابن بشار قال فيه النسائي: ليس بالقوي. وذمه أحمد ذمًّا شديدًا، وقال ابن معين: ليس بشيء لم يكن يكتب عند سفيان، وما رأيت في يده قلمًا قط، وكان يُملي على الناس ما لم يقله سفيان. ورماه البخاري وابن الجارود بالوهم، فجائز أن يكون قد وهم في هذا والله أعلم. وقال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: كان يملي على الخراسانية ما لم يقل ابن عيينة، فقلت له: أما تتقي الله؟! تملي عليهم ما لم يسمعوا؟! وذمه في ذلك ذمًّا شديدًا. وقال الأزدي: هو صدوق لكنه يهم في الحديث بعد الحديث. فإن قلت: قال ابن قدامة في "المغني": حديث يزيد بن أبي زياد ضعيف، قال الحميدي وغيره: يزيد بن أبي [زياد] (¬3) ساء حفظه في آخر عمره وخلط. ثم لو صح لكان الترجيح لأحاديثنا أولى بخمسة أوجه: أحدها: أنها أصح إسنادًا وأعدل رواة، فالحق إلى قولهم أقرب. الثاني: أنها أكثر رواة فظن الصدق في قولهم أقوى والغلط منهم أبعد. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 77 رقم 2361). (¬2) "جزء رفع اليدين للبخاري" (1/ 33 رقم 32). (¬3) في "الأصل" و"ك": "سفيان" وهو تحريف، والمثبت من "المغني" (2/ 174).

الثالث: أنهم مثبتون والمثبت يخبر عن شيء شاهده ورآه، فقدله يجب تقديمه لزيادة علمه، والنافي لم ير شيئًا فلا يؤخذ بقوله وكذلك قدمنا قول الجارح على المعدل. الرابع: أنهم فصَّلوا في روايتهم ونصُّوا في الرفع على الحالتين المختلف فيهما والمخالف لهم عمم روايته المختلف فيه وغيره، فيجب تقديم أحاديثنا؛ لنصها وخصوصها عك أحاديثهم العامّة التي لا نص فيها كما يقدم الخاص على العام، والنص على الظاهر المحتمل. الخامس: أن أحاديثنا عمل بها السلف من الصحابة والتابعين، فيدل ذلك على قوتها. قلت: يدفع الوجه الأول: حديث ابن مسعود على ما يأتي؛ فإنه أيضًا حديث صحيح نص عليه الترمذي وغيره. وأما الوجه الثاني: ولئن سلمنا أن كثرة عدد الرواة لها تأثير في باب الترجيح ولكن هذا إنما يكون فيما إذا كان راوي الخبر واحدًا، وراوي الخبر الذي يعارضه اثنان أو أكثر؛ فالذي نحن فيه إنما روي عن جماعة وهم عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وابن عمر وعباد بن الزبير - رضي الله عنهم - فحينئذ تتساوى الأخبار في ظن الصدق بقولهم في القوة وبعد الغلط. وأما الوجه الثالث؛ فلا نسلم أن خبر المثبت يقدم على خبر النافي مطلقًا؛ لأنه كما أنه يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للإثبات، فكذلك يستدل به بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي، والتحقيق في هذا الموضع أن خبر النفي إذا كان عن دليل يوجب العلم به يتساوى مع المثبت وتتحقق المعارضة بينهما، ثم يجب طلب المخلص بعد ذلك، فإن كان لا عن دليل يوجب العلم به فحينئذ يقدم خبر المثبت، وذلك كما في حديث بلال - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - لم يصل في الكعبة"

مع حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه - عليه السلام - صلى فيها عام الفتح" (¬1) فإنهم اتفقوا أنه - عليه السلام - ما دخلها يومئذ إلا مرة، ومن أخبر أنه لم يصل فيها فإنه لم يعتمد دليلًا موجبًا للعلم؛ لأنه لم يعاين صلاته فيها، والآخر عاين ذلك، فكان المثبت أولى من النافي، وأما الذي نحن فيه فالنفي فيه عن دليل يوجب العلم به ة لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - شاهد النبي - عليه السلام - وعاينه أنه رفع يديه في أول تكبيرة ثم لم يعد، وقول ابن عمر أيضًا إثبات عن دليل يوجب العلم، فحينذ يتساويان في القوة والضعف، فكيف يرجح الإثبات على النفي؟! فافهم فإنه موضع دقيق قَلَّ من يتعرض إليه، ولولا الفيض الإلهي لما قدرنا عليه. وأما الوجه الرابع: فنقول كما أن الخاص موجب للحكم فيما تناوله قطعًا، فكذلك العام موجب للحكم فيما تناوله قطعًا، وكل واحد من الحديثين نص، فكيف يقال والنص يقدم على الظاهر المحتمل؟! وأما الوجه الخامس: فنقول أيضًا: أحاديثنا عمل بها السلف من الصحابة والتابعين، فقد قال: الترمذي بعد أن أخرج حديث ابن مسعود: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين. وقد قلنا: إنه مذهب العشرة المبشرة بالجنة وقد رويت آثار كثيرة من الصحابة والتابعين تدل على أنهم عملوا بأحاديثنا كما سنذكر أكثرها إن شاء الله تعالى. ثم اعلم أن حديث عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب فقد أخرجها الطحاوي ها هنا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1/ 155 رقم 388)، ومسلم (2/ 966 رقم 1329): "أن ابن عمر سأل بلالًا: أصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ قال: نعم". وأما الذي أنكر صلاته بالكعبة فهو ابن عباس كما رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 155 رقم 389)، ومسلم في "صحيحه" (2/ 968 رقم 1331). والله أعلم.

وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬1): ثنا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، نا محمَّد بن عمران، حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي - عليه السلام - قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين تفتتح الصلاة، وحين تدخل المسجد الحرام فتنظر إلى البيت، وحين تقوم على الصفا، وحين تقوم على المروة، وحين تقف مع الناس عشيّة عرفة، وبجمع، والمقامين حين ترمي الجمرة". ورواه البخاري معلقًا في كتابه المفرد "في رفع اليدين" (¬2) ثم قال: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها. فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن أصحاب نافع خالفوا، وأيضًا فهم قد خالفوا هذا الحديث ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت. والجواب: أن قول شعبة مجرد دعوى، ولئن سلمنا فمرسل الثقات مقبول يحتج به، وكونهم لم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت لا يوجب المخالفة؛ لأن الحديث لا يدل على الحصر. صرواه البزار في "مسنده" أيضًا: ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء، نا عبد الرحمن بن محمَّد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر" ثم قال: وهذا حديث رواه غير واحد موقوفًا، وابن أبي ليلى لم يكن بالحافظ، وإنما قال: "ترفع الأيدي لما ولم يقل: لا ترفع الأيدي إلا في هذه المواضع انتهى. قلت: رواه موقوفًا ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: إذا قام إلى ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 385 رقم 12072). (¬2) "جزء رفع اليدين للبخاري" (1/ 78 رقم 77). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 214 رقم 2450).

الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي جمع، وعند الجمار". قال الشيخ في "الإِمام": ورواه الحاكم ثم البيهقي بإسناده عن المحاربي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وعن نافع عن ابن عمر قالا: قال رسول الله - عليه السلام -: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين". وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه البيهقي في "الخلافيات": عن عبد الله بن عون الخزاز، ثنا مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". قال البيهقي: قال الحاكم: هذا باطل موضوع، ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح؛ فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك بخلاف هذا ولم يذكر الدارقطني هذا في غرائب حديث مالك. قلت: هذا أيضًا مجرد دعوى من الحاكم؛ لأنه لم يبين وجه البطلان ما هو، ولا يلزم من عدم ذكر الدارقطني هذا في غرائب حديث مالك أن يكون هذا باطلًا، فافهم. الخراز بالخاء المعجمة بعدها راء ثم زاي. وأما حديث عباد فأخرجه البيهقي أيضًا في "الخلافيات": أنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي العباس محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن إسحاق، عن الحسن بن الربيع، عن حفص بن غياث، عن محمَّد بن يحيى، عن عباد بن الزبير: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول الصلاة ثم لم يرفعهما في شيء حتى يفرغ". قال الشيخ في "الإِمام": عباد هذا تابعي، فهو مرسل. قلت: قد قلنا: إن مرسل الثقات مقبول محتج به. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود".

حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا وكيع، عن سفيان ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان ورجالهما رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي ومحمد بن النعمان. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا وكيع، عن سفيان، عن عاصم يعني ابن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال عبد الله بن مسعود: "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - عليه السلام -؟ قال: فصلى فلم يرفع يديه إلَّا مرة". وأخرجه الترمذي (¬2): عن هناد، عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "إلا في أول مرة". وأحْرجه النسائي (¬3): عن محمود بن غيلان، عن وكيع ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في"مصنفه" (¬4): عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. وكذا العدني أخرجه في "مسنده": عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره. فإن قيل: قد اعترض على هذا الحديث من ثلاثة أوجه: الأول: ما رواه الترمذي (¬5) بسنده: عن ابن المبارك قال: لم يثبت عندي حديث ابن مسعود: "أنه - عليه السلام - لم يرفع يديه إلا في أول مرة". وثبت حديث ابن عمر: "أنه رفع عند الركوع، وعند الرفع، وعند القيام من الركعتين" (¬6). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 258 رقم 748). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 40 رقم 257). (¬3) "المجتبى" (2/ 195 رقم 1058). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 213 رقم 2441). (¬5) "جامع الترمذي" (2/ 36). (¬6) رواه البخاري (1/ 258 رقم 706).

ورواه الدارقطني (¬1)، ثم البيهقي (¬2) في "سننيهما"، وذكره المنذري في مختصره للسنن. الثاني: مما قال المنذري: قال غير ابن المبارك: إن عبد الرحمن لم يسمع من علقمة. الثالث: ما قال الحاكم: عاصم بن كليب لم يخرج حديثه في "الصحيح" وكان يختصر الأخبار فيؤديها بالمعنى وإن لفظة "ثم لا يعود" في الرواية الأخرى غير محفوظة في الخبر، نقل البيهقي في "سننه" عن الحاكم هكذا. قلت: أما الجواب عن الأول: أن عدم ثبوت الخبر عند ابن المبارك لا يمنع ثبوته عند غيره، فقد قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين، وهو قول سفيان وأهل الكوفة انتهى. ولو لم يثبت هذا الخبر عند سفيان لما عمل به، وصححه ابن حزم في "المحلى" وهو يدور على عاصم بن كليب، وقد وثقه ابن معين، وأخرج له مسلم. فلا نسأل عنه للاتفاق على الاحتجاج به. وأما الجواب عن الثاني: أن قول المنذري غير قادح؛ فإنه عن رجل مجهول، وهو قول عجيب لأنه تعليل بقول رجل مجهول شهد على النفي وقال الشيخ في "الإِمام": وقد تتبعت هذا القائل فلم أجده، ولا ذكره ابن أبي حاتم في "مراسيله" وإنما ذكره في كتاب "الجرح والتعديل" فقال: وعبد الرحمن بن الأسود أُدخل على عائشة وهو صغير ولم يسمع منها، وروى عن أبيه وعلقمة. ولم يقل: إنه مرسل، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: إنه مات في سنة تسعة وتسعين. فكان سنه سن إبراهيم النخعي، فإذا كان سنه سن إبراهيم فما المانع من سماعه من علقمة، مع الاتفاق على سماع النخعي منه، ومع هذا كله فقد صرح الخطيب في كتاب ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 293 رقم 20). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 79 رقم 2365).

"المتفق والمفترق" في ترجمة عبد الرحمن هذا أنه سمع أباه وعلقمة، وكذا قال في "الكمال": سمع عائشة زوج النبي - عليه السلام -، وأباه، وعلقمة بن قيس. وأما الجواب عن الثالث: وهو تضعيف الحاكم عاصمًا، فقد قلنا: إن ابن معين وثقه، وأنه من رجال الصحيح، وقول الحاكم: إن حديثه لم يخرج في "الصحيح" غير صحيح؛ فقد أخرج له مسلم حديثه عن أبي بردة، عن علي في "الهدي" (¬1)، وحديثه عنه عن علي: "نهاني رسول الله - عليه السلام - أن أجعل خاتمي في هذه والتي تليها" (¬2) وغير ذلك (¬3) أيضًا، فليس من شرط الصحيح التخريج عن كل عدل، وقد أخرج هو في مستدركه عن جماعة لم يخرج لهم في "الصحيح" وقال: هو على شرط الشيخين، وإن أراد بقوله لم يخرج حديثه في "الصحيح" أي هذا الحديث فليس ذاك بعلة، وإلا لفسد عليه مقصوده كله من "المستدرك". والحاصل أن رجال هذا الحديث على شرط مسلم، فالحديث حينئذ صحيح، والدور على تضعيفه لا يفيد. فإن قيل: قال البيهقي (¬4): روى هذا الحديث عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب فذكر فيه رفع يديه حين كبر في الابتداء، فلم يتعرض للرفع ولا لتركه بعد ذلك، وذكر تطبيق يديه بين فخذيه، وقد يكون رفعهما فلم ينقله كما لم ينقل سائر سنن الصلاة، وقد يكون ذلك في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين في الركوع، ثم صار التطبيق منسوخًا، وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه فخفي جميعًا على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2090 رقم 2725). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1659 رقم 2078). (¬3) انظر "صحيح مسلم" (4/ 2292 رقم 2992). (¬4) "معرفة السنن والآثار" (1/ 551 - 552).

قلت: هذا رد لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في الاقتصار على الرفع مرة لمجرد احتمال بعيدة؛ ولا يلزم من نسخ التطبيق نسخ الاقتصار على الرفع في التكبيرة الأولى، وقد جاء لحديثه هذا شاهد جيد. وهو ما أخرجه البيهقي (¬1) أيضًا: من حديث محمد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: "صليت خلف النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند افتتاح الصلاة". فإن قيل: قال الدارقطني (¬2): تفرد به محمَّد بن جابر وكان ضعيفًا، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا، عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي - عليه السلام -، وهو الصواب. قلت: ذكر ابن عدي أن إسحاق -يعني ابن إسرائيل- كان يفضل محمَّد بن جابر على جماعة شيوخ هم أفضل منه وأوثق، وقد روى عنه من الكبار مثل: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والسفيانين وشعبة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه مثل هؤلاء والذين هم دونهم، وقد خالف في أحاديث، ومع ما تكلم فيه من تكلم يكتب حديثه. وقال الفلاس: صدوق. وأدخله ابن حبان في "الثقات". وحماد بن أبي سليمان روى له الجماعة إلا البخاري، ووثقه يحيى القطان وأحمد بن عبد الله العجلي، وقال شعبة: كان صدوق اللسان. وإذا تعارض الوصل مع الإرسال والرفع مع الوقف فالحكم عند أكثرهم للواصل والرافع لأنهما زادا والزيادة من الثقة مقبولة والله أعلم (¬3). وأما حديث عبد الله بن إدريس الذي ذكره البيهقي. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 79 رقم 2365). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 295 رقم 25). (¬3) قد تقدم التنبيه على خطأ هذا المذهب عند المحققين من المحدثين مرارًا.

فقد أخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن العباس الضبعي، قالا: نا عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله قال: "ألا أريكم صلاة رسول الله - عليه السلام -؟ فكبر ورفع يديه حين افتتح الصلاة، فلما ركع طبق يديه وجعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، قال: "قلت لأبراهيم: حديث وأئل أنه رأى النبي - عليه السلام - يرفع يديه إذا افتتح الصلاة إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن مرة قال: "دخلت مسجد حضرموت فإذا علقمة بن وائل يحدث عن أبيه: أن رسول الله - عليه السلام - كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، فذكرت ذلك لإبراهيم، فغضب وقال: رأه هو ولم يره ابن مسعود ولا أصحابه؟! ". ش: هذان إسنادان صحيحان؛ لأن مؤملًا وثقه أحمد وغيره، وقد ذكرناه عن قريب، وسفيان هو الثوري، والمغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم هو النخعي وكلاهما من رجال الجماعة، ووائل هو ابن حجر الصحابي. ومسدد بن مسرهد شيخ البخاري، وخالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وحصين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، وعمرو بن مرة بن عبد الله المرادي الجملي الكوفي الأعمى، وعلقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، والكل من رجال الجماعة. فإن قيل: كيف تقول: هذان إسنادان صحيحان وفيهما الانقطاع؟ لأن إبراهيم النخعي لم يدرك عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 46 رقم 1608).

قلت: عن قريب يجيء الجواب عن ذلك، فتجده متصلًا في المعنى، وإنما ذكر الطحاوي هذا جوابًا لمن يزعم أن ابن مسعود يجوز عليه أن يكون قد نسي الرفع في غير التكبيرة الأول كما نسي في التطبيق فخفي عليه نسخه؛ وذلك لأن من رأى فعلًا من النبي - عليه السلام - خمسين مرة أو أقل منه كيف ينساه والحال أنهم كانوا محتاطين في أمور دينهم ولا سيما في أمر الصلوات لتكررها خمس مرات في اليوم والليلة ومثل ابن مسعود الذي كان يلازم النبي - عليه السلام - في غالب أوقاته لا يخفى عليه ذلك، فلذلك غضب إبراهيم النخعي لمَّا قال له عمرو بن مرة ما قال وبالغ في جواب المغيرة حيث قال: "إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك -أي رفع اليدين عند رفع الرأس من الركوع- فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك"، وهذا كله إنكار من إبراهيم لرفع اليدين من غير تكبيرة الافتتاح، وقال إبراهيم أيضًا لعلقمة بن وائل: "ما أرى أباك رأى رسول الله - عليه السلام - إلا ذلك اليوم الواحد فحفظ ذلك، وعبد الله لم يحفظ ذلك منه؟! ثم قال إبراهيم: إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة". روى ذلك الدارقطني، (¬1) ثم البيهقي (¬2) في "سننيهما": من حديث جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: دخلنا على إبراهيم، فحدثه عمرو بن مرة قال: صلينا في مسجد الحضرميين، فحدثني علقمة بن وائل، عن أبيه: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا سجد، فقال إبراهيم: ما أرى أباك ... إلى آخر ما ذكرناه. وأخرجه أيضًا أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (¬3) ولفظه: "أحفظ وائل ونسي ابن مسعود - رضي الله عنه -؟! ". وقال صاحب "التنقيح": قال الفقيه أبو بكر بن إسحاق، هذه علة لا تستوي سماعهما؛ لأن رفع اليدين قد صح عن النبي - عليه السلام - ثم الخلفاء الراشدين ثم الصحابة ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 291 رقم 13). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 81 رقم 2369). (¬3) انظر "نصب الراية" (1/ 397)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (1/ 151).

والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، قد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهي المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق، ونسي كيفية قيام الاثنين خلف الإِمام، ونسي مالم يختلف العلماء فيه: أن النبي - عليه السلام - صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي - عليه السلام - بعرفة، ونسي مالم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف كان يقرأ النبي - عليه السلام - {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬1) وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة، كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين انتهى؟! والجواب عن ذلك. أما قوله: "لأن رفع اليدين قد صح عن النبي - عليه السلام -، فنقول قد صح أيضًا تركه. كما في رواية الترمذي (¬2) وقال: حديث حسن صحيح. وأما قوله: "ثم الخلفاء الراشدين" فممنوع إذ قد صح عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - خلاف ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى، والذي روي عن عمر - رضي الله عنه - في الرفع في الركوع والرفع منه ذكره البيهقي بسنده، وفيه من هو مستضعف ولهذا قال (¬3): ورويناه عن أبي بكر وعمر، وذكر جماعة، ولم يذكره بلفظ الصحة كما فعل ابن إسحاق المذكور، وذكر في الجوهر النقي: ولم أجد أحدًا ذكر عثمان - رضي الله عنه - في جملة من كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه. وأما قوله: "ثم الصحابة والتابعين" فغير صحيح أيضًا، فإن من الصحابة من قصر الرفع على تكبيرة الافتتاح، وهم الذين ذكرناهم فيما مضي. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا وكيع، عن أبي بكر بن عبد الله بن قطاف ¬

_ (¬1) سورة الليل، آية: [3]. (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 40 رقم 257) وقال: حديث حسن. (¬3) انظر "الجوهر النقي بذيل سنن البيهقي" (2/ 80). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبه" (1/ 213 رقم 2442).

النهشلي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه: "أن عليًا - رضي الله عنه - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". ثنا (¬1) أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: "ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح الصلاة". ثنا (¬2) ابن آدم، عن حسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صليت مع عمر - رضي الله عنه - فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة قال عبد الملك: ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة". انتهى. ويرد قوله أيضًا ما روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح لا غير كالأسود وعلقمة وإبراهيم وخيثمة وقيس بن أبي حازم والشعبي وأبي إسحاق وغيرهم. ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) بأسانيد جيدة، وروي ذلك أيضًا بسند صحيح عن أصحاب علي وعبد الله - رضي الله عنهم - وناهيك بهم. وأما قوله: "وليس في نسيان ابن مسعود ... " إلى آخره، فدعوى لا دليل عليها، ولا طريق إلى معرفة أن ابن مسعود علم ذلك ثم نسيه، والأدب في هذه الصورة التي نسبه فيها إلى النسيان أن يقال: "لم يبلغه" كما فعل غيره من العلماء. قوله: "ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق" غير وارد على منهج الأدب، ولا نسلم أنه نسي ذلك بل إنما نقول: إنه لم يبلغه ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 214 رقم 2452). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 214 رقم 2454). (¬3) انظر "مصنف ابن أبي شيبة" (باب: من كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود) (1/ 213) وما بعدها.

قوله: "ونسي كيفية الاثنين خلف الإمام" أراد به ما روي أنه صلى بالأسود وعلقمة فجعلهما عن يمينه ويساره (¬1)، وقد اعتذر ابن سيرين عن ذلك بأن المسجد كان ضيفا، ذكره البيهقي (¬2) في باب: المأموم يخالف السنة في الموقف. قوله: "ونسي أنه - عليه السلام - صلى الصبح في يوم النحر في وقتها" ليس بجيدٍ؛ إذ في "صحيح البخاري" (¬3) وغيره عن ابن مسعود: "أنه - عليه السلام - صلى الصبح يومئذ بغلس". فما نسي أنه صلاها في وقتها، بل أراد أنه صلاها في غير وقتها المعتاد، وهو الإسفار وقد تبين ذلك بما في "صحيح البخاري" (3) من حديثه: "فلما كان حين يطلع الفجر قال: إن النبي - عليه السلام - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان في هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس، والفجر حين يبزغ الفجر". وقوله: "ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد ... " إلى آخره، أراد بذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: "هيئت عظام ابن آدم للسجود، فاسجدوا حتى بالمرافق (¬4) إلا أن عبارة ابن إسحاق ركيكة، والصواب أن يقال: من كراهية وضع المرفق والساعد. وقوله: "ونسي كيف كان يقرأ النبي - عليه السلام - {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ليس كذلك؛ لأنه ذكر في "المحتسب" لابن جني: قرأ: والذكر والأنثى بغير ما قرأ النبي - عليه السلام - وعلي وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -. وفي "الصحيحين" (¬5): أن أبا الدرداء قال: "والله لقد أقرأنيها رسول الله - عليه السلام -". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 378 رقم 534). (¬2) "السنن الكبير" (3/ 99 رقم 4954). (¬3) تقدم. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 232 رقم 2658)، والشافعي في "الأم" (7/ 296). (¬5) البخاري (3/ 1368 رقم 3532)، ومسلم (1/ 565 رقم 824) واللفظ للبخاري.

فثبت أن ابن مسعود لم ينفرد بذلك، ولم يصح قوله: "أنه نسي كيف كان النبي - عليه السلام - يقرؤها" وإنما سمعها على وجه آخر فأداها كما سمعها (¬1). وقوله في أول كلامه: "لا يسوي" لفظة عاميّة، والصواب أن يقال: لا يساوي، وفي "الصحاح": قال الفرّاء: هذا الشيء لا يساوي كذا, ولم يعرف: يسوي كذا، وهذا لا يساويه أي لا يعادله. ص: فكان هذا ما احتج به أهل هذا القول لقولهم مما رويناه عن النبي - عليه السلام -، فكان من حجة مخالفهم عليهم في ذلك أن قال مع ما رويناه نحن: تواتر الآثار وصحة أسانيدها واستقامتها، فقولنا أولى من قولكم. ش: أي فكان ما ذكرنا من حديث البراء وابن مسعود هو الذي احتج به أهل هذا القول وهم الجماعة الآخرون الذين خالفوا أهل المقالة الأولى في رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه. قوله: "فكان من حجة مخالفهم عليهم في ذلك" أي فكان من حجة مخالف أهل المقالة الثانية عليهم -أي على أهل المقالة الثانية- في ذلك أي فيما خالفوا إياهم في رفع اليدين في الموضعين المذكورين، وأشار بهذا الكلام إلى أن أهل المقالة الأولى لو قالوا: نعم رويتم ما رويتم من حديثي البراء وابن مسعود، ولكن أحاديثنا أصلى بالعمل من أحاديثكم لتواترها -يعني لورودها متكاثرة- ولصحة أسانيدها واستقامة طرقها بمثل هذا يقع الترجيح. قوله: "أن قال" "أن" هذه مفتوحة مصدرية في محل الرفع؛ لأنها اسم كان. وقوله: "من حجة مخالفهم" خبرها. وقوله: "تواتر الآثار" كلام إضافي مرفوع بالابتداء. وقوله: "مع ما رويناه" مقدمًا خبره، والجملة مقول القول. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى النقل من "الجوهر النقي" بحروفه (2/ 80 - 82) ولم يعزه المؤلف له.

قوله: "وصحةُ أسانيدها" بالرفع عطف عليه، وكذا قوله: "واستقامتها" فافهم. ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك ما سنبينه إن شاء الله تعالى: أما ما روي في ذلك عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن أبي الزناد الذي بدأنا بذكره في أول هذا الباب: فإن أبا بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، قال: ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن عاصم، عن أبيه -وكان من أصحاب علي - رضي الله عنه - عن علي مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فحديث عاصم بن كليب هذا قد دل على أن حديث ابن أبي الزناد الذي رويناه في الفصل الأول من هذا الباب على أحد وجهين: إما أن يكون سقيمًا في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلًا كما قد رواه غيره: فإن ابن خزيمة حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن رجاء (ح) وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح وأحمد بن خالد الوهبي، قالوا: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل ... ثم ذكروا مثل حديث ابن أبي الزناد في إسناده ومتنه ولم يذكروا الرفع في شيء من ذلك. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فإن كان هذا هو المحفوظ، وحديث ابن أبي الزناد خطأ، فقد ارتفع بذلك أن يجب لكم بحديث خطأ حجة، وإن كان ما روى ابن أبي الزناد صحيحًا لأنه زاد على ما روى غيره فإن عليًا - رضي الله عنه - لم يكن ليرى النبي - عليه السلام - يرفع ثم يترك هو الرفع بعده، وإلا قد ثبت عنده نسخ الرفع، فحديث علي - رضي الله عنه - إذا صح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع. ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الأولى فيما قالوا: أحاديثنا أولى، لصحة أسانيدها واستقامة طرقها. وأحاديثهم هي التي رواها علي بن

أبي طالب وعبد الله بن عمر ووائل بن حجر - رضي الله عنهم - فشرع يجيب عن ذلك جميعه ردًّا لما ادعوا من أولوية العمل بها لصحتها واستقامتها، فقال: أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - وهو الذي رواه عنه عبيد الله بن أبي رافع المذكور في أول الباب، بيان ذلك: أن عليًّا - رضي الله عنه - وإن كان قد روي عنه ما يدل على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فقد روي عنه أيضًا ما ينافي ذلك ويعارضه فإن عاصم بن كليب روى عن أبيه: "أن عليًّا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد" فهذا يدل على أنه لا رفع لليدين إلا عند تكبيرة الإحرام، ويدل أيضًا على أن حديث عبيد الله بن أبي رافع عنه الذي رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد على وجهين: إما أن يكون سقيمًا في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلًا كما قد رواه غير ابن أبي الزناد مثل حديث ابن أبي الزناد في الإسناد والمتن، وليس فيه الرفع في شيء من ذلك، وهو الحديث الذي رواه عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي كما نبينه عن قريب. فإن كان هذا محفوظًا يكون حديث ابن أبي الزناد خطأ بالضرورة، فحينئذ لا تقوم حجة بحديث خطإٍ في نفسه. وإما أن يكون ما رواه ابن أبي الزناد صحيحًا بحيث أنه زاد على ما روى غيره، فحينئذ يكون منسوخًا. لأن عليًّا - رضي الله عنه - لا يجوز له أن يرى النبي - عليه السلام - يرفع، ثم يترك هو الرفع بعده، ولا يجوز له ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام؛ لأن هذا هو حسن الظن بالصحابة، وهو أن يحمل مثل هذا على أنه علم انتساخ حكم الحديث فلذلك عمل أو أفتى بخلافه ومتى ما لم يحمل على هذا الوجه يلزم من ذلك إما أن يكون ذلك عن غفلة ونسيان، وإما أن يكون على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث وكل واحد منهما محال في حق الصحابة؛ لأن في الأول شهادة مغفل وشهادة المغفل لا تكون حجة فكذلك خبره، وفي الثاني يلزم الفسق والفاسق لا تقبل روايته أصلًا، والصحابة - رضي الله عنهم - منزهون عن هذه الأشياء،

فظهر لنا أن الصحابي الراوي لحديث إذا ظهر منه المخالفة قولًا أو فعلًا يدل ذلك على أنه قد ثبت عنده النسخ فعمل بخلافه أو أفتى بخلافه. ثم إسناد حديث عاصم بن كليب صحيح من وجهين اللذين أخرجهما على شرط مسلم. وأبو أحمد اسمه محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي روى له الجماعة، وأبو بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية ابن قطاف، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعاصم بن كليب بن شهاب الجرمي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبوه كليب بن شهاب بن المجنون الجرمى قال أبو زرعة: ثقة. وكذا قال ابن سعد وابن حبان، واحتج به الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن أبي بكر بن عبد الله بن قطاف النهشلي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". انتهى. وفيه رد على ما حكى البيهقي (¬2): عن الشافعي أنه قال: ولا يثبت عن علي وابن مسعود أنهما كانا لا يرفعان أيديهما إلا في تكبيرة الإحرام. فإن قيل: روى البيهقي (2) حديث عاصم بن كليب عن علي - رضي الله عنه - ثم قال: قال الدارمي: فهذا روي من هذا الطريق الواهي، وقد روى الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع" (¬3). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 213 رقم 2442)، وقد تقدم قريبًا. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 80 رقم 2367). (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" (1/ 261 رقم 761)، والترمذي في "الجامع" (5/ 478 رقم 3423)، وابن ماجه في "السنن" (1/ 280 رقم 864)، وأحمد في "المسند" (1/ 93 رقم 717).

فليس الظن بعلي - رضي الله عنه - أنه يختار فعله على فعل النبي - رضي الله عنه -, ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره. قلت: كيف يكون هذا الطريق واهيًا ورجاله ثقات؟! فقد رواه عن النهشلي جماعة من الثقات: ابن مهدي وأحمد بن يونس وغيرهما، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كما ذكرناه، والنهشلي أخرج له مسلم وغيره كما ذكرنا، ووثقه ابن حنبل وابن معين وقال أبو حاتم: شيخ صالح يكتب حديثه. وقال الذهبي في كتابه: رجل صالح تكلم فيه ابن حبان بلا وجه، وبقية الرواة ثقات أيضًا وقد ذكرناه. وقال الطحاوي (¬1) في كتابه "الرد على الكرابيسي ": الصحيح مما كان عليه علي بعد النبي - رضي الله عنه - ترك الرفع في شيء من الصلاة غير التكبيرة الأولى. فكيف يكون هذا الطريق واهيًا؟! بل الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد وفيه مقال كما ذكرناه. وقوله: "فليس الظن بعلي - رضي الله عنه - ... " إلى آخره لخصمه أن يعكسه ويجعل فعله بعد النبي - رضي الله عنه - دليلًا على نسخ ما تقدم, إذ لا يظن به أنه يخالف فعله - رضي الله عنه - إلا بعد ثبوت نسخه عنده كما بيناه. ثم حديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أخرجه من طريقين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح، وأحمد بن خالد الوهبي، كلاهما عن عبد العزيز ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) هذا الكلام وما بعده هو نص كلام ابن التركماني في "الجوهر النقي" كما في ذيل "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 79).

وكلا الطريقين ذكرهما في باب ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه مسلم، (¬1) وأبو داود، (¬2) والنسائي، (¬3) وابن ماجه (¬4) مطولًا ومختصرًا. قوله: "فحديث علي - رضي الله عنه - إذا صحح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع" أي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، وأراد بهذا الحديث هو الحديث الذي رواه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عمه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة كبر ... " إلى آخره، وإنما قال: هو أكبر الحجة لأنا وجدنا عبيد الله بن أبي رافع قد روي عنه هذان الحديثان أعني أحدهما: ما رواه ابن أبي الزناد، والآخر ما رواه عبد العزيز بن أبي سلمة ففي حديث ابن أبي الزناد زيادة ليست في حديث ابن أبي سلمة، وهي رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فنظرنا فيهما فوجدنا حديث ابن أبي سلمة أرجح وأقوى من حديث ابن أبي الزناد لأن حديث ابن أبي سلمة أخرجه مسلم وغيره كما ذكرنا، وحديث ابن أبي الزناد لم يخرجه مسلم ولا البخاري وإنما أخرجه الأربعة، على أن ابن أبي الزناد متكلم فيه، فقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال عمرو بن علي: تركه ابن مهدي. ولئن سلمنا صحة حديث ابن أبي الزناد فإنه يلزم الخصم أن يقول به، والحال أنه لم يقل به؛ لأن فيه الرفع عند القيام من السجدتين، والخصم لا يرى بذلك. واعلم أن كلمة "إذا" في قوله: "إذا صح" ليست للشرط؛ لأن صحة حديث علي الذي رواه ابن أبي سلمة لا يشك فيها بل لمجرد الظرفية فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 534 رقم 771). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 260 رقم 760). (¬3) "المجتبى" (2/ 129 رقم 897). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 280 رقم 864).

ص: وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فإنه قد روي عنه ما قد ذكرناه عن النبي - عليه السلام - ثم روي من فعله بعد النبي - عليه السلام - خلاف ذلك، كما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: "صليت خلف ابن عمر - رضي الله عنهما - فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عمر قد رأى النبي - عليه السلام - يرفع، ثم قد ترك هو الرفع بعد النبي - عليه السلام -، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد كان رأى النبي - عليه السلام - فعله، وقامت الحجة عليهم بذلك. ش: هذا جواب عن حديث ابن عمر الذي هو إحدى حجج أهل المقالة الأولى، وهو الحديث الذي رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت النبي - عليه السلام - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين". وهذا حديث أخرجه الجماعة، (¬1) وهو حديث صحيح بلا خلاف، ولكنه منسوخ، والدليل عليه ما رواه مجاهد أنه قال: "صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة". وقد ذكرنا عن قريب أن الراوي إذا عمل بخلاف ما روى أو أفتى بخلافه دل ذلك على انتساخ الحكم الأول عنده وإلا لم يكن له المخالفة. وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح على شرط الشيخين: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ الشيخين وغيرهما، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي المقرئ، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن مجاهد بن جبر المكي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 258 رقم 705)، ومسلم (1/ 292 رقم 390)، وأبو داود (1/ 249 رقم 721)، والترمذي (2/ 35 رقم 255)، والنسائي (2/ 121 رقم 876)، وابن ماجه (1/ 279 رقم 858).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: "ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح". ص: فإن قال: قائل: هذا حديث منكر. قيل له: وما دَلَّك على ذلك؟ فلن تجدك إلى ذلك سبيلًا، فإن قال: إن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي - عليه السلام - من ذلك. قيل لهم: فقد ذكر ذلك طاوسٌ، وقد خالفه مجاهد، فقد يجوز أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - فعل ما رواه طاوسٌ، يفعله قبل أن تقوم عنده الحجة بنسخه، ثم قامت عنده الحجة بنسخه فتركه وفعل ما ذكره عنه مجاهد وهكذا ينبغي أن يحمل ما روي عنهم وينفى عنهم الوهم حتى يتحقق ذلك، وإلا سقط أكثر الروايات. ش: هذا اعتراض من جهة الخصم على دعوى النسخ في حديث ابن عمر، بيانه أن يقال: لا نسلم أن يكون خبر مجاهد دليلًا على انتساخ ذلك الحديث؛ لأنه منكر لأنه مخالف لما ثبت في "الصحيح" ولما رواه الحفاظ الكبار، فأجاب عنه بقوله: وما دلَّك على ذلك؟ أي على كونه منكرًا، فلن تجد إلى ذلك أي إلى إثبات كونه منكرًا سبيلًا، أراد أن هذا مجرد دعوى بأنه منكر فلا تقبل، فلا ترد علينا، ثم قال: فإن قال -أي الخصم-: إن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما روي عنه عن النبي - عليه السلام - من ذلك، أي من رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه. وقد روى البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شعبة، عن الحكم، قال: "رأيت طاوسًا كبر فرفع يديه حذو منكبيه عند التكبير، وعند ركوعه، وعند رفع رأسه من الركوع، فسألت رجلًا من أصحابه فقال: إنه يحدث به عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي - عليه السلام -. قيل لهم -أي للخصم وهم أهل المقالة الأولى-: سلمنا أنه قد ذكره طاوس، ولكنه قد خالفه مجاهد فتحققت المنافاة بين كلاميهما، فتعين التوفيق ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 74 رقم 2351).

لنفي الوهم عنهم، وإن لم يفعل ذلك تسقط أكثر الروايات؛ لأنه يلزم أن تكون أحد الراويين منسوبًا إلى غفلة أو قلة مبالاة لروايته، وكل واحد منهما مسقط لعدالته وناف لخبره، فيحتاج حينئذ إلى التوفيق، والتوفيق ها هنا بين خبري مجاهد وطاوس ما ذكره بقوله: فقد يجوز ... إلى آخره، وهو ظاهر لا يخفي. ص: وأما حديث وائل فقد ضاده إبراهيم بما ذكره عن عبد اللهَ أنه لم يكن رأى النبي - عليه السلام - فعل ما ذكر، فعبد الله أقدم صحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفهم بأفعاله من وائل وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون ليحفظوا عنه كما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر ... فذكر بإسناده مثله وقال أيضًا: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرنا سليمان، قال: "سمعت عمارة بن عمير يحدث، عن أبي معمر، عن أبي مسعود الأنصاري قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقول: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن إياس بن قتادة، عن قيس بن عباد، قال: قال لي أبي بن كعب: قال لنا رسول الله - عليه السلام -: "كونوا في الصف الذي يليني". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فعبد الله من أولئك الذين كانوا يقربون من رسول الله - عليه السلام - ليَعْلَموا أفعاله في الصلاة كيف هي؛ ليعلِّموا الناس ذلك، فما حكوا من ذلك فهو أولى مما جاء به من كان أبعد منه منهم في الصلاة. فإن قالوا: ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غير متصل.

قيل لهم: إن إبراهيم كان إذا أرسل عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده، وتواتر الرواية به عن عبد الله؛ قد قال له الأعمش: إذا حدثتني فأسند، قال: إذا قلت لك قال عبد الله فلم أقل ذلك حتى حدثني جماعة عنه، فإذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني. حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب أو بشر بن عمر -قال أبو جعفر -رحمه الله-: أنا أشك- عن شعبة، عن الأعمش بذلك. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر أن ما أرسله عن عبد الله فمخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه عن رجل بعينه عن عبد الله وكذلك هذا الذي أرسله عن عبد الله لم يرسله إلا ومخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه عن رجل بعينه عن عبد الله ومع ذلك قد رويناه متصلًا من حديث عبد الرحمن بن الأسود، وكذلك كان عبد الله يفعل في سائر صلاته. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله لا يرفع يديه في شيء من الصلوات إلا في الافتتاح". ش: هذا جواب عن حديث وائل بن حجر: "رأيت رسول الله - عليه السلام - حين يكبر للصلاة وحين يركع وحن يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه حيال أذنيه" بيانه أن خبر وائل بن حجر هذا يضاده ما رواه إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود: "أنه لم يكن رأى النبي - عليه السلام - فعل ما ذكر -يعني من رفع اليدين- في غير تكبيرة الإحرام"، ثم أشار إلى ترجيح خبر ابن مسعود على خبر وائل بقوله: "فعبد الله أقدم صحبة لرسول الله - عليه السلام -" لأنه أسلم بمكة قديمًا، وكان عاشر العشرة ممن أسلم من الصحابة عند مبعث النبي - عليه السلام - وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام - وهو صاحب نعل رسول الله - عليه السلام -، كان يُلبسه إيّاها إذا قام، فإذا

جلس أدخلها في ذراعه وكان كثير الولوج عليه - عليه السلام -، وقال له رسول الله - عليه السلام -: "إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي" (¬1). والسواد: السرار. ووائل بن حجر أسلم في المدينة في. سنة تسع من الهجرة وبين إسلاميهما اثنان وعشرون سنة، فحينئذ يحفظ ابن مسعود عن النبي - عليه السلام - ما لا يحفظه وائل وأمثاله، وابن مسعود أفهم بأفعال النبي - عليه السلام - وأكثر تحقيقًا لها ولهذا قال إبراهيم للمغيرة حين قال: "إن وائلًا حدث أنه رأى النبي - عليه السلام - يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع": "إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك"، والحال أن رسول الله - عليه السلام - كان يحب أن يليه المهاجرون في الصلاة ليحفظوا عنه أفعال الصلاة ويعلموها الناس، ولا شك أن عبد الله من المهاجرين القدماء وممن كان يليه - عليه السلام -، فيكون حفظه أفعال النبي - عليه السلام - وفهمه إياها أقوى من حفظ وائل وفهمه الذي كان ممن يتأخر عنهم في الصلاة وغيرها، فإذا كان كذلك يكون ما حكوا عن عبد الله أقوى مما حكوه عن وائل وأمثاله، ثم أشار إلى الاعتراض من جهة الخصم بقوله "فإن قالوا: ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غيره متصل" بيانه: أن خبر وائل بن حجر متصل، وخبر إبراهيم عن عبد الله منقطع، فكيف يضاده ويعارضه؟ وشرط التضاد والمعارضة المساواة بين الخبرين، فالمنقطع بمعزل عن المتصل فلا يضاده ولا يعارضه، بيان الانقطاع: أن إبراهيم لم يدرك عبد الله؛ لأن عبد الله توفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة بالمدينة وقيل بالكوفة. ومولد إبراهيم سنة خمسين كما صرح به ابن حبان، وقال الكلاباذي: سنة ثمان وثلاثين. والله أعلم. وأجاب عنه بقوله: "قيل لهم إن إبراهيم ... إلى أخره" بيانه أن إبراهيم: كان من عادته أنه إذا أرسل حديثًا عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده من الرواة عنه، وبعد تكاثر الروايات عنه؛ ألا ترى أن سليمان بن مهران الأعمش لما قال له: إذا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1/ 49 رقم 139)، وأحمد (1/ 388 رقم 3684).

حدثني فأسند، قال له في جوابه: إذا قلت لك: قال عبد الله، فلم أقل لك ذلك حتى حدثني جماعة من الثقات عنه أي عن عبد الله وإذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله يعني بتعيين الراوي عنه، فهو الذي حدثني بعينه وخصوصه فقط فأخبر أن ما أرسله عن عبد الله مخرجه أصح عنده من الذي يخبره عن فلان عنه؛ لأن في الأول يكون الخبر عنده ثابتًا من روايات جماعة بخلاف الثاني فإنه خبر واحد، ولا شك أن خبر الجماعة أولى وأقوى من خبر الواحد (¬1). قوله: "حدثنا بذلك إبراهيم" أي حدثنا بما ذكرنا من أن إبراهيم إذا أرسل عن عبد الله ... إلى آخره. إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، أو بشر بن عمر الزهراني، والشك فيه من الطحاوي لا من إبراهيم بن مرزوق، فلذلك قال: قال أبو جعفر: وأنا أشك، يعني بين وهب وبشر بن عمر، هل كان من رواية إبراهيم بن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، أو عن وبشر بن عمر، عن شعبة، عن سليمان الأعمش. وهؤلاء كلهم ثقات. فهذا الذي ذكره كان بطريق التسليم، ثم أجاب بطريق المنع بقوله: "ومع ذلك قد رويناه متصلًا" بيانه أن يقال: لا نسلم أن خبر ابن مسعود منقطع بالكلية، فإنا قد رويناه متصلًا من حديث عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - "أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود"، على أنا نقول: إن حديث إبراهيم عن عبد الله وإن كان منقطعًا بحسب الظاهر فهو متصل معنًى ¬

_ (¬1) قال البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" في حديث إبراهيم عن عبد الله: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فوه نتنًا"، قال: هذا مرسل لا يحتج به. ونقل مغلطاي في "الإعلام شرح سنن ابن ماجه" (4/ ق 87/ ب) عن الشافعي قال: وأصل قولنا: إن إبراهيم لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛ لأنه لم يلق واحدًا منهما. وقال الذهبي في "الميزان" (1/ 75): استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة.

بالطريق الذين ذكرناه، ثم أكد كون خبر ابن مسعود بأنه أولى بالعمل من خبر من يروي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام بقوله: "وكذلك كان عبد الله يفعل في سائر صلاته". أي من الاقتصار في رفع اليدين على أول الصلاة؛ وذلك لأنه لو لم يثبت عنده أن آخر الأمر من النبي - عليه السلام - الاكتفاء برفع اليدين في أول الصلاة لما كان هو أيضًا يكتفي بذلك في سائر الصلوات؛ إذ لو ثبت عن النبي - عليه السلام - الرفع في غير أول الصلاة لما وسع عبد الله مخالفته، وهذا ظاهر لا يخفى. وأخرج ذلك بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ الشيخين، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. وأخرجه ابن شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص ... إلى آخره نحوه. قوله: "إلا في الافتتاح" أي في افتتاح الصلاة، وأراد به: عند التكبيرة الأولى فقط. فإن قيل: كيف تقول هذا إسناد صحيح وهو منقطع؛ لأن إبراهيم ما أدرك عبد الله كما ذكرنا؟ قلت: قد مر الجواب عن قريب، وبقي الكلام في حديث أنس وأبي مسعود الأنصاري وأبي بن كعب - رضي الله عنهم -. أما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح الصغير البغدادي نزيل مصر شيخ النسائي أيضًا، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري، عن حميد بن أبي حميد الطويل البصري، عن أنس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 213 رقم 2443).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يحب أن يليه في الصلاة المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن بكر، عن حميد، عن أنس. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا عبد الوهاب، ثنا حميد، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه". قوله: "يحب أن يليه" أي يقرب منه المهاجرون والأنصار، من الولي وهو القرب، والمراد منه: في الصلاة، كما صرح به في رواية أحمد. قوله: "ليحفظوا عنه" أي عن النبي - عليه السلام - أحكام الصلاة؛ لأن كل ما قرب الرجل من الإِمام يكون أكثر مشاهدة لأحوال إمامه بخلاف من يكون بعيدًا عنه فإنه لا يشاهد منه ما يشاهده من يليه. وأما حديث أبي مسعود الأنصاري -واسمه عقبة بن عمرو- فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة الكوفي، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وليلني منكم أولوا الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلوخهم. قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافًا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 205 رقم 13157). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 313 رقم 977). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 323 رقم 432).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا ابن كثير، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وأخرجه النسائي (¬2): أنا بشر بن خالد العسكري، قال: ثنا [غندر] (¬3) عن شعبة، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: "كان رسول الله يمسح عواتقنا ويقول ... " إلى آخر ما رواه مسلم. وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا محمد بن الصباح، أنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش ... إلى آخره نحو رواية مسلم. قوله: "ليلني" بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، من ولي يلي، أصله يولي حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة فصار يلي وأمر الغائب منه: ليل؛ لأن الياء تسقط للجزم، وأمر الحاضر لي مثل قِي على وزن عِي قال محي الدين النووي: ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التأكيد. قلت: القاعدة: أن النون الموكدة إذا دخلت الناقص تعود الياء والواو المحذوفتان فيصير ليليني منكم. "أولوا الأحلام" أي: العقلاء، وقيل: البالغون، والأحلام جمع حُلْم -بضم الحاء وسكون اللام- وهو ما يراه النائم، تقول: حَلَم -بالفتح- واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضًا، ولكن غلب استعماله فيما يراه النائم من دلالة البلوغ، فكان المراد ها هنا: ليلني البالغون وذكر في الفائق: "أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا" قيل: المراد مَنْ بلغ وقت الحلم حلم أو لم يحلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 237 رقم 674). (¬2) "المجتبى" (2/ 90 رقم 812). (¬3) في "الأصل، ك": "عبدة" وهو تحريف، والمثبت من "المجتبى", و"تحفة الأشراف" (7/ 333 رقم 9994). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 312 رقم 976).

قوله: "والنهى" بضم النون جمع نُهية -بضم النون وسكون الهاء- وهي العقل ويقال: بفتح النون أيضًا لأنه ينهى صاحبه عن الرذائل، وكذلك العقل لعقله وهو مأخوذ من عقال البعير، وكذلك الحكمة من حَكْم البعير، وهي حديدة لجامها التي تمنعها عن العدول عن الاستقامة، وقيل: أولوا النهى؛ لأنه ينتهي إلى رأيهم واختياراتهم لعقلهم، ويقال رجل نهٍ ونهي، من قوم نَهِين. وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرًا كالهدى وأن يكون جمعًا كالظُّلَم، قال: والنهى معناه في اللغة الثبات والحبس، ومنه النِّهى والنَّهى -بكسر النون وفتحها- والتنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع، قال الواحدي: فيرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس، فالنهية هي التي تنهى وتحبس عن القبائح. قلت: التنهية -بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون وكسر الهاء وفتح الياء آخر الحروف- وقال في الصحاح: تنهية الوادي حيث ينتهي إليه الماء من حروفه والجمع: التناهي. فإن قيل: ما وجه هذا العطف؟ قلت: إن فسر "أولوا الأحلام" بالعقلاء يكون عطف قوله: "والنهى" على "الأحلام" للتأكيد؛ لأن المعنى واحد وإن اختلف اللفظ، وإن فسر "أولوا الأحلام" بالبالغين يكون المعنى: ليقرب مني البالغون العقلاء. فإن قيل: ما وجه تخصيصهم بذلك؟ قلت: لاستخلافه إن احتاج ولتبليغ ما سمعوه منه، وضبط ما يُحَدِّثُ عنه، والتنبيه على سهو إن وقع؛ ولأنهم أحق بالتقدم، وليقتدي بهم من بعدهم، وكذا ينبغي لسائر الأئمة الاقتداء بسيرته - عليه السلام - في كل حال من جموع الصلاة، ومجالس العلم والذكر، ومجالس الرأي ومعارك القتال. قوله: "ثم الذين يلونهم" معناه الذين يقربون منهم في هذا الوصف، وبه استدل أصحابنا في ترتيب الصفوف، فقال صاحب "الهداية": ويصف الرجال ثم الصبيان

ثم النساء ثم ذكر الحديث، وبه استدل صاحب "الهداية" أن محاذاة المرأة الرجل وهما مشتركان في صلاة تفسد صلاة الرجل. فإن قيل: كيف تثبت الفرضية بهذا وهو خبر الآحاد؟ قلنا: إنه من المشاهير فتثبت به فرضية تمييز مقام المرأة من مقام الرجل، وتجوز به الزيادة على الكتاب، وقال صاحب "الأسرار": إن لم تثبت فروض الصلاة بخبر الواحد، ففروض الجماعة تثبت؛ لأن أصل الجماعة ثبت بالسنة، فافهم. وأما حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- واسمه نصر بن عمران الضبعي من رجال الجماعة، عن إياس بن قتادة البصري وثقه ابن حبان، عن قيس بن عُباد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- القيسي الضبعي البصري روى له الجماعة غير الترمذي، عن أبي بن كعب الأنصاري - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سليمان بن داود ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، سمعت إياس بن قتادة يحدث، عن قيس بن عُباد قال: "أتيت المدينة للقيّ أصحاب محمَّد - عليه السلام -, ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إليَّ من أُبَيّ، فأقيمت الصلاة وخرج عمر مع أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني، لا يسوءك الله؛ فإني لم آتك الذي [أتيتك] (¬2) بجهالة ولكن رسول الله - عليه السلام - قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك ... " الحديث. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 140 رقم 21301). (¬2) في "الأصل، ك": "أتيت"، والمثبت من "مسند أحمد".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يحيى بن أدم، عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود، قال: ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا عمر - رضي الله عنه - لم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى في هذا الحديث، وهو حديث صحيح لأن الحسن بن عياش وإن كان هذا الحديث إنما دار عليه فإنه ثقة حجة، قد ذكر ذلك يحيى بن معين وغيره. قال أبو جعفر -رحمه الله-: أَفتَرى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خفي عليه أن النبي - عليه السلام - كان يرفع يديه في الركوع والسجود، وعلم ذلك من هو دونه، أو مَنْ هو معه يراه يفعل غير ما رأى رسول الله - عليه السلام - يفعل ثم لا ينكر ذلك عليه، هذا عندنا محال، وفعل عمر - رضي الله عنه - هذا وترك أصحاب رسول الله - عليه السلام - إياه على ذلك، دليل صحيح أن ذلك هو الحق الذي لا ينبغي لأحد خلافه. ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود في اقتصار رفع اليدين على تكبيرة الإحرام. أخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يحيى بن أدم بن سليمان القرشي الكوفي، عن الحسن بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- بن سالم الكوفي أخي أبي بكر بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر هو عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر الهمداني الكوفي، عن الزبير بن عدي الهمداني اليامي الكوفي قاضي الري، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن آدم، عن حسن بن عياش ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "صليت مع عمر بن الخطاب فلم يرفع يديه في شيء من ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 214 رقم 2454).

صلاته إلا حين افتتح الصلاة. قال عبد الملك: ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة". وفيه ردّ لما قاله البيهقي (¬1): وروينا رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع عن أبي بكر الصديق وعمر الخطاب - رضي الله عنهما -. لأن هذا حديث صحيح نص عليه الطحاوي بقوله وهو حديث صحيح. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وإنما قال ذلك لأن رجاله كلهم ثقات، وأما يحيى بن عبد الحميد الحماني فإن ابن معين وثقه، وعنه: صدوق مشهور ما بالكوفة مثل ابن الحماني ما يقال فيه إلا من حسد. وكفى به شاهدًا، وأما ابن أدم وعبد الملك والزبير بن عدي وإبراهيم والأسود فمن رجال الصحيحين والأربعة غير أن عبد الملك من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وأما حسن بن عياش فإن الطحاوي شهد فيه بأنه ثقة حجة، وكفى به شاهدًا، وهو من رجال مسلم والترمذي والنسائي، وباقي الكلام ظاهر. ص: وأما ما رَوَوْه عن أبي هريرة من ذلك فإنما هو من حديث إسماعيل بن عياش عن صالح بن كيسان، وهم لا يجعلون إسماعيل فيما روى عن غير الشاميين حجة، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج بمثله عليهم لم يسوغوه إياه. ش: هذا جواب عن حديث أبي هريرة الذي رواه الأعرج عنه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد"، بيانه أن في إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، وهؤلاء الذين يذهبون إلى هذا الحديث لا يجعلون إسماعيل هذا حجة فيما يرويه عن غير الشاميين وإنما يجعلونه حجة إذا روى عن الشاميين، فكيف يحتجون به ها هنا والحال أنه رواه عن ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 547).

صالح بن كيسان المدني، وقال دحيم: إسماعيل في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وقال الفسوي: يغرب عن ثقات الحجازيين. وقال يحيى بن معين: إسماعيل بن عياش ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فأن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حيان: كثير الخطأ في حديثه، فخرج عن حد الاحتجاج به. وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. قوله: "بما لو احتج" أي بالذي لو احتج الخصم "بمثله" أي بمثل هذا الحديث "عليهم" أي على الذين ذهبوا إلى حديث إسماعيل هذا "يسوغوه إياه" أي لم يجوزوا الاحتجاج "إياه" أي الخصم؛ فافهم. ص: وأما حديث أنس بن مالك فهم يزعمون أنه خطأ، وأنه لم يرفعه أحد إلا عبد الوهاب الثقفي خاصة، والحفاظ يوقفونه على أنس - رضي الله عنه -. ش: هذا جواب عن حديث أنس بن مالك الذي رواه حميد عنه: "أن النبي - عليه السلام - كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع". وبيانه: أن هذا الحديث عند الحفاظ موقوف على أنس ولم يرفعه أحد عن أنس إلا عبد الوهاب الثقفي خاصة، وعبد الوهاب هذا طعن فيه أبو حاتم، فلا يحتج بروايته، ولا سيما إذا أنفرد فيما لم يتابعه عليه أحد. ص: وأما حديث عبد الحميد بن جعفر فإنهم يضعفون عبد الحميد ولا يقيمون به حجة، فكيف يحتجون به في مثل هذا؟! ومع ذلك فإن محمَّد بن عمرو بن عطاء لم يسمع ذلك الحديث من أبي حميد ولا ممن ذكر معه في ذلك الحديث، بينهما رجل مجهول , وقد ذكر ذلك العطاف بن خالد عنه عن رجل، وأنا أذكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد هذا ففيه: "فقالوا جميعًا: صدقت". فليس يقول ذلك أحد غير أبي عاصم.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا هشيم (ح) وحدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الحميد ... فذكراه بإسناده ولم يقولا: "فقالوا جميعًا صدقت". وهكذا رواه غير عبد الحميد وأنا ذاكر ذلك في باب: الجلوس في الصلاة. فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لما وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فما أردت بشيء من ذلك تضعيف أحد من أهل العلم، وما هذا بمذهبي، ولكني أردت تبيان ظلم الخصم لنا. ش: هذا جواب عن حديث عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - ... الحديث. بيانه: أن عبد الحميد بن جعفر ضعيف عندهم , لأن الثوري كان يضعفه، فإذا كان ضعيفًا عندهم فكيف يحتجون به في مثل هذا الموضع في معرض الاحتجاج على خصمهم؟! وفي "الجوهر النقي": عبد الحميد مطعون في حديثه، كذا قال يحيى بن سعيد، وهو إمام الناس في مثل هذا الباب. قوله: "ومع ذلك فإن محمَّد بن عمرو ... " إلى آخره جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لا نسلم أن عبد الحميد ضعيف؛ فإنه من رجال صحيح مسلم، واحتج به الأربعة، واستشهد به البخاري في "الصحيح"، وعن أحمد: ثقة ليس به بأس. وعن يحيى كذلك، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وتقدير الجواب: أنا وإن سلمنا أنه مثل ما ذكرتم، ولكن الحديث معلول بجهة أخرى، وهو أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد الساعدي، ولا ممن ذكر معه في هذا الحديث مثل أبي قتادة وغيره، وذلك لأن سنَّه

لا يحتمل ذلك لأن أبا قتادة قتل مع علي - رضي الله عنه - وصلى عليه عليّ، كذا قال الهيثم بن عدي، وقال ابن عبد البر: هو الصحيح، وقيل: توفي بالكوفة سنه ثمان وثلاثين. ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافته في سنة خمس وعشرين ومائة، ولهذا قال ابن حزم: ولعله وهم فيه- يعني عبد الحميد. فإن قيل: قال البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬1): أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد فمردود؛ لأن يحيى بن معين وثقه في جميع الروايات عنه، وكذلك أحمد بن حنبل، واحتج به مسلم في "صحيحه". وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح، فقد حكم البخاري في "تاريخه" بأنه سمع أبا حميد وأبا قتادة وابن عباس. وقوله: "قتل مع علي" رواية شاذة رواها الشعبي، والصحيح الذي أجمع عليه أهل التاريخ: أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي والواقدي والليث وابن منده، ثم قال: وإنما اعتمد الشافعي في حديث أبي حميد برواية إسحاق بن عبد الله، عن عباس بن سهل، عن أبي حميد، ومن سماه من الصحابة، وأكده برواية فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل عنهم فالإعراض عن هذا والاشتغال بغيره ليس من شأن من يريد متابعة السنة. قلت: أما قوله: "أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد مردود" فهو مردود لما ذكرنا عن يحيى بن سعيد والثوري، وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء والمتروكين" فقال: كان يحيى بن سعيد القطان يضعفه، وكان الثوري يحمل عليه ويضعفه، وقال يحيى بن سعيد: كان سفيان يضعفه من أجل القدر على أن الطحاوي قد نسب تضعيفه إليهم ولم يضعفه من عنده، ولو كان ضعفه من عنده لكان مقبولًا أيضًا؛ لأنه إن لم يكن من أهل ذلك فمن يكون. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 557 - 561).

وأما قوله: "وأما ما ذكره من انقطاعه فليس بصحيح ... " إلى آخره فمجرد تشنيع وتعصب محض؛ لأن الطحاوي لم يقل هذا من عند نفسه، بل إنما حكم بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع من أبي حميد ولم ير أبا قتادة لعدم إحتمال سنة ذلك؛ لأنه قتل مع علي - رضي الله عنه - وصلى عليه عليٌّ، وهو قول الإمام عامر الشعبي الحجة في هذا الباب، وقول الهيثم بن عدي، ولهذا قال ابن عبد البر: هو الصحيح. وفي "الكمال" قال: وقيل توفي سنة ثمان وثلاثين، فكيف يقول البيهقي: هذه رواية شاذة؟! فلم لا يجوز أن تكون رواية البخاري شاذة؟ بل هي شاذة بلا شك؛ لأن قوله لا يرجح على قول الشعبي والهيثم بن عدي. قوله "بينهما رجل مجهول" أي بين محمَّد بن عمرو بن عطاء وبن أبي حميد، وأشار بهذا إلى أنه منقطع، وأنه مضطرب السند والمتن؛ لأن العطاف بن خالد رواه فأدخل بينه يعني بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين النفر من الصحابة رجلًا مجهولًا، والعطاف وثقه ابن معين، وعنه قال: صالح. وعنه: ليس به بأس. وقال أحمد: من أهل مكة ثقة صحيح الحديث. والدليل على أن بينهما واسطة: أن أبا حاتم بن حبان أخرج هذا الحديث في "صحيحه" (¬1): من طريق عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدي: "أنه كان في مجلس فيه أبوه وأبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي ... " الحديث وذكر المزي ومحمد بن طاهر المقدسي في "أطرافهما": أن أبا داود أخرجه من هذا الطريق. وأخرجه البيهقي (¬2): في باب السجود على اليدين والركبتين من طريق الحسن بن الحرّ، حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن مالك، عن عياش -أو عباس بن سهل- ... الحديث. ثم قال: وروى ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (5/ 180 رقم 1866). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 101 رقم 2475).

عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد. لم يذكر محمدًا في إسناده. وقال البيهقي (¬1) في باب: القعود على الرجل اليسرى بين السجدتين: وقد قيل في إسناده: عن عيسى بن عبد الله، سمعه عن عباس بن سهل، أنه حضر أبا حميد ثم في رواية عبد الحميد أيضًا: "أنه رفع عند القيام من الركعتين". وهذا يلزم الإِمام الشافعي، وفيها أيضًا التورك في الجلسة الثانية. وفي رواية عباس بن سهل التي ذكرها البيهقي (¬2) بعد هذه الرواية خلاف هذه، ولفظها: "حتى فرغ ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته" فظهر بهذا أن الحديث مضطرب الإسناد والمتن والله أعلم. قوله: "وأنا أذكر ذلك" أي كون رجل مجهول بين محمَّد بن عمرو بن عطاء، وبين أبي حميد، وقد ذكر ذلك: في باب الجلوس في الصلاة (¬3) بقوله: حدثنا فهد بن سليمان ويحيى بن عثمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قالا: ثنا عطاف بن خالد، قال: حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: حدثني رجل: "أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسًا ... " الحديث. قوله: "وحديث أبي عاصم عن عبد الحميد" [أي حديث] (¬4) أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر هذا ففي آخره: "فقالوا جميعًا: صدقت، هكذا كان يصلي" وليس ذاك في غير رواية أبي عاصم، وبيّن ذلك بقوله: حدثنا على بن شيبة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 118). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 128 رقم 2603). (¬3) "شرح معاني الآثار" (1/ 259). (¬4) "تكررت في الأصل".

وأخرجه من طريقين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو. والثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله ابن عمر القواريري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو فذكر كل منهما الحديث بإسناده ولم يقولا: "فقالوا جميعًا: صدقت" فدل ذلك على أن حديث عبد الحميد مضطرب. قوله: "وكذا رواه غير عبد الحميد" أي من غير لفظة، "فقالوا جميعًا: صدقت" وسيجيء هذا في باب: الجلوس في الصلاة، فلذلك قال: وأنا ذاكر ذلك في باب الجلوس في الصلاة. قوله: "فما نرى كشف هذه الآثار" أي الأحاديث التي رويت في هذا الباب على اختلاف المتون والأسانيد "يوجب لما وقف" أي حين وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك رفع اليدين في الركوع. وقوله: "يوجب" جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان لقوله "فما نرى". قوله: "تبيان ظلم الخصم لنا" بكسر التاء، على وزن تِفْعال، اسم للتبيين، قال الجوهري: التبيان مصدر وهو شاذ؛ لأن المصادر إنما تجئ على التَّفْعال -بفتح التاء- مثل التذكار والتكرار والتوكاف ولم تجيء على الكسر إلا حرفان، وهما التبيان والتلقاء. ص: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر: فإنهم قد اجمعوا أن التكبيرة الأولى معها رفع وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع معها، واختلفوا في تكبيرة النهوض وتكبيرة الركوع، فقال قوم: حكمهما حكم تكبيرة الافتتاح وفيهما الرفع كما فيها الرفع. وقال آخرون: حكمها حكم التكبيرة بين السجدتين ولا رفع فيهما كما لا رفع فيها، وقد رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة لا تجزى الصلاة إلا

بإصابتها، ورأينا التكبيرة بين السجدتين ليست كذلك؛ لأنه لو تركها تارك لم تفسد عليه صلاته، ورأينا تكبيرة الركوع وتكبيرة النهوض ليستا من صلب الصلاة؛ لأنه لو تركها تارك لم تفسد عليه صلاته وهما من سننها، فلما كانتا من سنن الصلاة، كما التكبير بين السجدتين من سنن الصلاة، كانتا كهي في أن لا رفع فيهما كما لا رفع فيها؛ فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-. ش: ملخص وجهه النظر والقياس: أن تكبيرة الإحرام فرض فيها الرفع، والتكبيرة بين السجدتين سنة وليس فيها الرفع، وتكبيرة النهوض والركوع اختلف في حكمهما هل فيهما رفع أم لا، فالقياس أن يكون حكمهما في الرفع وعدمه كحكم التكبيرة بين السجدتين؛ للعلة الجامعة، وهي كون الكل سنة لا كحكم تكبيرة الإحرام؛ لعدم العلة الجامعة. قوله: "فإنهم أجمعوا" أي فان الخصوم أجمعوا، وليس المراد منه إجماع العلماء كلهم؛ لأن الرفع مع التكبيرة بين السجدتين مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى". ثنا (¬2) ابن علية، عن أيوب، قال: "رأيت نافعًا وطاوسًا يرفعان أيديهما بين السجدتين". ثنا (¬3) يزيد بن هارون، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين: "أنهما كانا يرفعان أيديهما بين السجدتين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 243 رقم 2796). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 243 رقم 2797). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة (1/ 243 رقم 2798).

ثنا (¬1) ابن علية، عن أيوب قال: "رأيته يفعله". قوله: "فقال قوم" أراد بهم من ذكرناهم فيما مضى، وهم: الحسن وسالم وعطاء ومجاهد وابن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم: الثوري وابن أبي ليلى والنخعي والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك في رواية ابن القاسم. قوله: "وقد رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة" هذا اللفظ يشعر بأنها من أركان الصلاة، وليست كذلك عند أبي حنيفة، بل هي من الشروط، واحتج بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬2) والفاء للعطف، والمعطوف غير المعطوف عليه، وعند الشافعي ومالك وأحمد هي من أركان الصلاة، والفرض أعم من الشرط والركن. فإن قيل: فما فائدة هذا الخلاف؟ قلت: في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز، خلافًا لهم. وفي بناء التطوع على الفرض بلا تحريمة جديدة فعندنا يصير شارعًا في الثاني خلافًا لهم. وفيما إذا كبر مقارنًا لزوال الشمس. قوله: "كانتا كهي" أي كانت تكبيرة الركوع وتكبيرة النهوض "كهي" أي كالتكبيرة بين السجدتين. ص: ولقد حدثني ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش قال: "ما رأيت فقيهًا قط يفعله، يرفع يديه في غير التكبيرة الأولى". ش: أراد بهذا تأكيد ما قاله من قوله: "فما نرى كشف هذه الآثار يوجب لَمَّا وقف على حقائقها وكشف مخارجها إلا ترك الرفع في الركوع" وتأكيد ما بينه من ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 243 رقم 2799). (¬2) سورة الأعلى، آية: [15].

وجهه النظر، إذا لو لم يقتضي الأمر من كشف الآثار والأخبار ووجه النظر والقياس ترك الرفع في غير التكبيرة الأولى لما ترك الفقهاء من التابعين وغيرهم الرفع في الركوع وعند رفع الرأس منه، وبين تركهم إياه بقوله: ولقد حدثني إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، أخي الحسن بن عياش -رحمهم الله-.

ص: باب: التطبيق في الركوع

ص: باب: التطبيق في الركوع ش: أي هذا باب في بيان حكم التطبيق في الركوع، وهو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهد، وهو مذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - كما يجيء إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: أنا إسرائيل بن يونس، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود: "أنهما دخلا على عبد الله فقال: أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا فطبق، ثم طبق بيديه فجعلهما بين فخديه، فلما صلى قال: هكذا فعل النبي - عليه السلام -". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرئيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة والأسود أنهما كانا مع عبد الله ... ثم ذكر نحوه. حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن الأسود قال: "دخلت أنا وعلقمة على عبد الله، فقال: أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقلنا نعم، فقال: فصلوا، فصلى بنا فلم يأمرنا بأذان ولا بإقامة، فقمنا خلفه فقدمنا، فقام أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فلما ركع وضع يديه بين رجليه وحنا، قال: وضرب يدي عن ركبتي وقال: هكذا، وأشار بيده، فلما صلى قال: إذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك فقدموا أحدكم، فإذا ركع أحدكم فليفعل هكذا، وطبق يديه، ثم ليفترش ذراعيه بين فخذيه، فكأني أنظر إلى أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -". ش: هذه ثلاث طرق صحاح ورجالها كلهم رجال الجماعة غير علي بن شيبة وفهد بن سليمان.

وعُبيد الله بن موسى بتصغير العبد، ونسبته إلى عبس -بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، وفي آخره سين مهملة- ابن بغيض بن ريث بن غطفان قبيلة مشهورة. والأعمش هو سليمان بن مهران. فكالطريق الأول: أخرجه مسلم (¬1): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود: "أنهما دخلا على عبد الله، فقال: أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم. فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخديه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): عن محمَّد بن عثمان بن كرامة، عن عبيد الله بن موسى ... إلى آخره نحوه. وكالطريق الثاني: أخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3): عن أسود، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ابن الأسود، عن علقمة والأسود: "أنهما كانا مع ابن مسعود، فحضرت الصلاة فتأخر علقمة والأسود، فأخذ ابن مسعود بأيديهما [فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ثم ركعا فوضعا أيديهما] (¬4) على ركبهما فضرب أيديهما، ثم طبق بين يديه وشبك وجعلهما بين فخذيه، قال: رأيت النبي - عليه السلام - فعله". وكالطريق الثالث: أخرجه مسلم (1): ثنا محمَّد بن العلاء الهمداني أبو كريب، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة قالا: "أتينا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 378 رقم 534). (¬2) "مسند البزار" (4/ 301 رقم 1479). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 413 رقم 3927). (¬4) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

عبد الله بن مسعود في داره، فقال: أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقلنا: لا. فقال: فقدموا فصلوا، فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة، قال: وذهبنا لنقوم خلفه، فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، قال: فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا، قال: فضرب أيدينا، وطبّق بين كفيه ثم أدخلهما بين فخديه، قال: فلما صلى قال: إنه سيكون عليكم إمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة، وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وَلْيُحْن، وليطبق بين كفيه فكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله - عليه السلام - فأراهم". قوله: "أصلى هؤلاء" الهمزة فيه للاستفهام، فأراد بهؤلاء الأمير والتابعين له. قوله: "فقام بينهما" أي فقام ابن مسعود بين علقمة والأسود. قوله: "فطبق" من التطبيق وهو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهد. قوله: "صلوا" فيه: جواز إقامة الجماعة في البيوت، لكن لا يسقط بها فرض الكفاية إذا قلنا: إنها فرض كفاية، بل لا بد من إظهارها، وإنما اقتصر عبد الله بن مسعود على فعلها في البيت؛ لأن الفرض كان سقط بفعل الأمير وعامة الناس وإن أخروها إلى آخر الوقت. قوله: "فلم يأمرنا بأذان ولا بإقامة" فيه: جواز صلاة المرء الفريضة في بيته بلا أذان ولا إقامة، وهذا مذهب ابن مسعود وبعض السلف من أصحابه، أنه لا يشرع الأذان والإقامة لمن يصلي وحده في البلد الذي يؤذن فيه وتقام الصلاة بالجماعة العظمى، بل يكفي أذانهم وإقامتهم. قال القاضي عياض: اختلف الناس فيمن صلى وحده أو في بيته هل تجزئه إقامة أهل العصر وأذانهم؟ فذهب بعض السلف من أصحاب ابن مسعود وغيرهم إلى أن

له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة، وذهب عامة الفقهاء إلى أنه يقيم ولا تجزئه إقامة أهل العصر ولا يؤذن، واستحب ابن المنذر أن يؤذن ويقيم، وذهب ابن سيرين والنخعي إلى الإقامة إلا صلاة الفجر فإنه يؤذن ويقيم لها خاصة. قوله: "وحَنَى" بفتح الحاء المهملة والنون، من حَنَى يَحْنُو، وحَنَى ويَحْنِي، يقال: حنى ظهره إذا عطفه، ويقال جَنَأَ بفتح الجيم والنون وبالهمزة في آخره، من جَنَأَ الرجل على الشيء إذا أكب عليه، وهما متقاربان. قال ابن الأثير: والذي قرأناه في كتاب مسلم: بالجيم، وفي كتاب الحميدي: بالحاء. قلت: أراد بالذي في مسلم هو قوله: "وليحن وليطبق" وقد مر آنفًا. قال عياض: "وليحن"، كذا رواية أكثر شيوخنا بالحاء المهملة وكسر النون، وعند الطبري: "فليجنأ" بالجيم وفتح النون وبهمز آخره، وكلاهما صحيح المعنى، وهو من الانعطاف والانحناء في الركوع، وهو تعقف الصلب يقال: جَنَأَ على الشيء يجنؤ جنوءًا وجَنَأَ يجنئ إجناء، ووقع هذا الحرف عند العذري "وليجنُ" بضم النون، وهو بمعناه، يقال: جنوت العود وجنيته إذا عطفته. قوله: "ويخنقونها" أي يضيقون وقتها ويتركون أذانها إلى اصفرار الشمس، يقال: هم في خناق من كذا أي في ضيق. قوله: "إلى شرق الموتى" أراد به اصفرار الشمس عند غروبها؛ لأن الشمس في هذا الوقت إنما تلبث قليلًا ثم تغيب، فشبه ما بقي من وقت تلك الصلاة التي يؤخروخها ببقاء من شرق بريقه إلى أن يخرج نفسه، من قولهم: شرق الميت بريقه إذا غُصَّ به. قوله: "سبحة" أي نافلة وتطوعًا. ومما يستفاد منها: أن الإمام إذا كان معه اثنان يقيم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو مذهب ابن مسعود، وبه قال: علقمة والأسود، وخالفهم في ذلك

جميع العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى الآن، فقالوا: إذا كان مع الإمام رجلان وقفا وراءه صفًّا، وأجمعوا إذا كان ثلاثة أنهم يقفون وراءه. وأما الواحد فإنه يقف عن يمين الإمام عند العلماء كافة، ونقل جماعة الإجماع فيه، ونقل عياض عن ابن المسيب أنه يقف عن يساره، ولا أظن أنه يصح عنه، وإن صح فلعله لم يبلغه حديث ابن عباس، وكيف كان، فَهُم اليوم مجمعون على أنه يقف عن يمينه. ص: فذهب قوم إلى هذا واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأسود وعلقمة وإبراهيم النخعيين وأبا عُبيدة، فإنهم ذهبوا إلى التطبيق، واحتجوا بهذا الحديث، أي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو مذهبه أيضًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ينبغي له إذا ركع أن يضع يديه على ركبتيه شبه القابض عليهما، ويفرق بين أصابعه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وابن سيرين والحسن البصري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: بل ينبغي للمصلي ... إلى آخره، وهو المحكي عن عمر وابن عمر وعلى وسعد - رضي الله عنهم -. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - والتابعين ومن بعدهم، لا اختلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون، والتطبيق منسوخ عند أهل العلم. ص: واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: أنا بشر بن عمر وحبان بن هلال، قالا: ثنا شعبة، قال: أخبرني أبو حصين عثمان بن عاصم الأسدي، عن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "أمسوا فقد سنت لكم الركب".

ش: أي أحتج الآخرون فيما ذهبوا إليه -من وضع اليدين على الركبتين شبه القابض وتفريق الأصابع- بحديث عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه بإسناد صحيح، وحبّان: بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة. وأبو حَصين: بفتح الحاء وكسر الصاد. وأبو عبد الرحمن السلمى اسمه عبد الله بن حبيب بن ربيّعة -بالتصغير- الكوفي القارئ ولأبيه صحبة روى له الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: أنا أبو حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قال لنا عمر بن الخطاب: "إن الركب سُنَّت لكم، فخذوا بالركب". قال أبو عيسى: حديث عمر حديث حسن صحيح. وأحْرجه النسائي (¬2): أنا سويد بن نصر، قال: أبنا عبد الله، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إنما السنة الأخذ بالركب". وفي رواية له (¬3): سُنّت لكم الركب، فأمسكوا بالركب". قوله: "أمسّوا" أمر من الإمساس، والمعنى: أمسّوا أيديكم ركبكم. "فقد سُنت لكم الركب" يعني سُنّ إمساسها والأخذ بها، وصورة الأخذ ما ذكره الطحاوي. وفي "المغني" لابن قدامة: قال أحمد: ينبغي له إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويعتمد على ضبعيه وساعديه ويسوي ظهره ولا يرفع رأسه ولا ينكسه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 42 رقم 258). (¬2) "المجتبى" (2/ 185 رقم 1035). (¬3) "المجتبى" (2/ 185 رقم 1034).

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء بن السائب، قال: ثنا سالم البراّد -قال: وكان عندي أوثق من نفسي- قال: "قال لنا أبو مسعود البدري: ألا أريكم صلاة رسول الله -عليه السلام؟ -فذكر حديثًا طويلًا- قال: ثم ركع فوضع كفيه على ركبتيه، وفضلت أصابعه على ساقيه". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة -فيما يظن ابن مرزوق- فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام - فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام -، كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النعي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة ... فذكر مثله. قال: "فقالوا جميعًا: صدقت". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وأئل بن حجر قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - إذا ركع وضع يديه على ركبتيه". ش: هذه الأسانيد بعينها قد مرت الإسناد الأول في باب: الخفض في الصلاة هل فيه تكبير. والبقية في باب: التكبير للركوع. غير أنه زاد في الأول: "فوضع كفيه على ركبتيه ... " إلى آخره. وفي الثاني: قوله "ومحمد بن مسلمة فيما يظن ابن مرزوق". وقوله: "كان إذا ركع وضع يديه ... " إلى آخره. وفي الرابع: قوله: "إذا ركع وضع يديه على ركبتيه".

وأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو، ونسبته إلى عَقَد -بفتحتين- صنف من الأزد، ومحمد بن مسلمة -بالميمن في مسلمة- بن سلمة -بالميم الواحدة- بن خالد أبو عبد الله الأنصاري، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام -، وقيل: إنه هو الذي استخلفه - عليه السلام - على المدينة عام تبوك. وأبو عاصم النبيل اسمه الضحاك بن مخلد، وأبو الأحوص اسمه سلام بن سليم الكوفي. قوله: "وفضلة أصابعه" أي وضع فضلة أصابعه أراد أنه - عليه السلام - ألقم بكفيه ركبتيه، ووضع ما زاد من أصابعه. "على ساقيه"، والمراد منه طرف الساق الفوقاني؛ لأن ما بعد عين الركبة من حد الساق؛ فافهم. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة، قال: سمعت ابن عجلان يحدث، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "اشتكى الناس إلى النبي - عليه السلام - التفرج في الصلاة، فقال - عليه السلام -: استعينوا بالركب". ش: إسناده صحيح، وأبو زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، وحيوة بن شريح بن صفوان بن مالك التجيبي المصري، وابن عجلان هو محمَّد بن عجلان المدني، وسُمَيّ القرشي المدني روى له الجماعة، وأبو صالح ذكوان الزيات. وأخرجه أبو داود (¬1) في باب: رخصة افتراش اليدين في السجدة: ثنا قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن ابن عجلان، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "اشتكي أصحاب النبي - عليه السلام - مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالركب". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 300 رقم 902).

وأخرجه الترمذي (¬1) في الاعتماد في السجود: ثنا قتيبة ... إلى آخره نحوه. غير أن لفظه: "اشتكى بعض أصحاب النبي - عليه السلام - إلى النبي - عليه السلام - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب". قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - إلا من هذا الوجه من حديث الليث عن ابن عجلان، وقد رواه سفيان بن عيينة وغير واحد عن سمي، عن النعمان بن أبي عياش، عن النبي - عليه السلام - نحو هذا وكأن رواية هؤلاء أصح من رواية الليث. انتهى. قلت: هذا مرسل وقال البخاري: هذا بإرساله أصح. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬2): من حديث ابن عُيينة، عن سُمي، عن النعمان بن أبي عياش قال: "شكوا إلى رسول الله - عليه السلام - الاعتماد والادعام في الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه". انتهى. قلت: النعمان بن أبي عياش الزرقي الأنصاري من التابعين، روى عن عبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، وعن يحيى: أنه ثقة. فإن قلت: لم يستدل أحد غير الطحاوي بهذا الحديث على وضع الأيدي على الركب في الركوع، فهذا أبو داود والترمذي بوباه لما ذكرنا، ومحمد بن عجلان فسر قوله: "استعينوا بالركب" وقال: معناه أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وأعيى. قلت: قوله - عليه السلام -: "استعينوا بالركب" أعم من أن يكون في الركوع أو في السجود، أي استعينوا بأخذ الركب، والمعنى بوضع الأيدي على الركب. قوله: "اشتكى الناس" من شَكى يَشْكُو يقال: شَكَوْتُ فلانًا اشْكُوه شكوًا وشِكاية وشَكِيَّة وشَكَاة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 77 رقم 286). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 117 رقم 2554).

وقوله: "التفرج" مفعوله؛ وأراد به الانفراج. فإن قلت: قد سكت الترمذي عن هذا، فكيف قلت: إنه صحيح؟ قلت: الحديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحكم في "مستدركه"، (¬1) وقال: صحيح على شرط مسلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكانت هذه الآثار معارضة للأثر الأول ومعها من التواتر ما ليس معه، فأردنا أن ننظر هل في شيء من الآثار ما يدل على نسخ أحد الأمرين بصاحبه؟ فاعتبرنا ذلك فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن أبي يعفور، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: "صليت إلى جنب أبي، فجعلت يديّ بين ركبتي فضرب يدي وقال: يا بنيّ، إنا كنا نفعل هذا فأُمرنا أن نضرب بالأكف على الركبة". حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي يعفور ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن مصعب بن سعد، قال: "صليت مع سعد، فلما أردت الركوع طبقت، فنهاني عنه وقال: كنا نفعله حتى نهينا عنه". فقد ثبت بما ذكرنا نسخ التطبيق، وأنه كان متقدمًا لما فعله رسول الله - عليه السلام - من وضع اليدين على الركبتين. ش: أي كانت الأحاديث التي فيها وضع اليدين على الركبتين في الركوع معارضة للحديث الأول، وهو الذي فيه التطبيق، و"معها" أي مع تلك الأحاديث "من التواتر" أي من كثرة الرواية وتلقي الأئمة بالقبول والأخذ بها "ما ليس معه" أي مع حديث التطبيق، فإذا كان الأمر كذلك يتعين طلب المخلص وهو على وجوه كما عرف في موضعه منها: طلب المخلص من حيث التاريخ، وهو أن يعلم بالدليل ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 352 رقم 834).

التاريخ بين النصين المتعارضين، فيكون المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم، فنظرنا ها هنا، فوجدنا قول سعد بن أبي وقاص يدل على أن حديث التطبيق منسوخ؛ لأنه صرح بقوله: "إنا كنا نفعل هذا، فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب" وفي لفظة: "كنا نفعله حتى نهينا عنه" وهذا صريح في النسخ، وأما ابن مسعود - رضي الله عنه - فلعله لم يبلغه خبر النسخ، فلذلك لم يترك التطبيق، وأما من عمل به من أصحابه فأنهم اتبعوه في ذلك وتقلدوه. ثم أنه أخرج حديث سعد من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة، عن أبي يعفور واسمه واقد ولقبه وقدان العبدي الكوفي وهو أبو يعفور الكبير روى له الجماعة، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أبي زرارة المدني روى له الجماعة، عن أبيه سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة بالجنة. وأخرجه الجماعة، فالبخاري (¬1): عن أبي الوليد، عن شعبة ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفى ثم وضعتهما بين فخذيَّ، فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب". ومسلم (¬2): عن ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب بن سعد قال: "ركعت فقلت بيدي هكذا يعني طبق بههما ووضعهما بين فخذيه فقال أبي: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا بالركب". وأبو داود (¬3): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن أبي يعفور، عن مصعب بن سعد قال: "صليت إلى جنب أبي فجعلت يديّ بين ركبتيّ، فنهاني عن ذلك، فعدت ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 273 رقم 757). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 380 رقم 535). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 291 رقم 867).

فقال: لا تصنع هذا؛ فإنا كنا نفعله فنهينا عن ذلك، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب". والترمذي (¬1): عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن أبي يعفور، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد: "كنا نفعل ذلك فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع الأكف على الركب". والنسائي (¬2): عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب بن سعد قال: "ركعت فطبقت، فقال أبي: إن هذا شيء كنا نفعله ثم ارتفعنا إلى الركب". وابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن محمَّد بن بشر، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الزبير بن عدي، عن مصعب بن سعد قال: "ركعت إلى جنب أبي فطبقت فضرب يدي وقال: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب" انتهى. وقد علم أن قول الصحابي: كنا نفعل، وأمرنا، ونهينا محمول على أنه أمر لله ولرسوله، ونهي عن الله ورسوله؛ لأن الصحابي إنما يقصد الاحتجاج به لإثبات شرع وتحليل وتحريم، وحكم يجب كونه مشروعًا. الثاني: عن الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا: ثنا قتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري -واللفظ لقتيبة- قالا: نا أبو عوانة، عن أبي يعفور، عن مصعب بن سعد قال: "صليت إلى جنب أبي، قال: فجعلت يديَّ بين ركبتيَّ، فقال لي أبي: اضرب ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 44 رقم 259). (¬2) "المجتبى" (2/ 185 رقم 1033). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 283 رقم 873). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 380 رقم 535).

يكفيك على ركبيتك، قال: ثم فعلت ذلك مرة أخرى، فضرب يدي وقال: إنا نهينا عن هذا، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب". وأخرجه النسائي في (¬1) أيضًا: عن قتيبة، عن أبي عوانة .. إلى آخوه نحوه. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الزبير بن عندي، عن مصعب، عن أبيه نحوه. ص: ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر كيف هو، فرأينا التطبيق فيه التقاء اليدين، ورأينا وضع اليدين على الركبتين فيه تفريقهما فأردنا أن ننظر في أحكام أشكال ذلك في الصلاة كيف هو، فرأينا السنة جاءت عن النبي - عليه السلام - بالتجافي في الركوع والسجود، وأجمع المسلمون على ذلك، فكان ذلك من تفريق الأعضاء، وكان من قام في الصلاة أُمر أن يراوح بين قدميه، وقد روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو الذي روى التطبيق، فلما رأينا تفريق الأعضاء في هذا بعضها من بعض أولى من إلصاق بعضها ببعض، واختلفوا في إلصاقها وتفريقها في الركوع؛ كان النظر على ذلك: أن يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه منه، فيكون كما كان التفريق فيما ذكرنا أفضل، يكون في سائر الأعضاء كذلك. ش: أي ثم طلبنا حكم وضع اليدين على الركبتين من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 185 رقم 1032). (¬2) "مسند البزار" (3/ 365 رقم 1165).

قوله: "في أحكام أشكال ذلك" أي: أمثال ذلك، والأشكال -بفتح الهمزة- جمع شكل، وشكل الشيء: ما يشاكله، أي يماثله. قوله: "بالتجافي في الركوع" أي تباعد العضدين عن الجنبين، وأصله من الجفاء: وهو البعد عن الشيء، يقال: جفاه إذا بعد عنه، وأجفاه إذا أبعده. قوله: "أن يراوح بين قدميه" يعني أن يعتمد على إحداهما مرة، وعلى الآخرى مرة، ليوُصل الراحة إلى كل منهما، وأصله من الروْح بمعنى الراحة، ثم الأمر بالمراوحة بين القدمين. هو ما رواه النسائي (¬1) بإسناده: عن ابن مسعود: "رأى رجلًا يصلي قد صفّ بين قدميه، فقال: خالفت السنة، لو راوحت بينهما كان أفضل". وفي رواية أخرى (¬2): "أخطأ السُنَّه لو راوح بينهما كان أعجب إليّ". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا شريك، عن أبي إسحاق، قال: "رأيت عمرو بن ميمون يراوح بين قدميه في الصلاة". ثنا (¬4) وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: "رأيت عمرو بن ميمون يراوح بين قدميه، يضع هذه على هذه وهذه على هذه". ثنا (¬5) يزيد بن هارون، عن هشام قال: "كان ابن سيرين يراوح بين قدميه في الصلاة". قوله: "وقد روي ذلك" أي الأمر بالمراوحة بين القدمين قد روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقد ذكرناه الآن. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 128 رقم 892). (¬2) "المجتبى" (2/ 128 رقم 893). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 109 رقم 7064). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 109 رقم 7065). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 110 رقم 7067).

قوله: "وهو روى ذلك" أي والحال أن ابن مسعود هو الذي روى التطبيق. قوله: "معطوفًا" أي مصروفًا وموجهًا "على ما أجمعوا عليها". قوله: "أفضلَ" بالنصب، خبر لقوله: "كما كان التفريق فيما ذكرنا". وقوله: "يكون في سائر الأعضاء" أي يكون التقدير في سائر الأعضاء أفضلَ كذلك، وفي بعض النسخ: "في سائر الأشياء" والأول أصح. ص: وقد روي في التجافي في السجود: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا سجد يُرى بياض إبطيه". ش: أي قد روي في إبعاد العضدين عن الجنبين في حالة السجدة حديث ابن عباس. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن التميمي الذي يحدث عن ابن عباس بالتفسير واسمه أربد، وقيل: أربده -بالهاء- وكان يجالس ابن عباس، لم يرو عنه غير أبي إسحاق، روى له أبو داود، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، ثنا زهير، نا أبو إسحاق، عن التميمي الذي يحدث بالتفسير عن ابن عباس قال: "أتيت النبي - عليه السلام - من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مجخّ قد فرج يديه". قوله: "مُجخّ" بضم الميم وبعدها جيم مفتوحة وخاء معجمة مشددة، وروي: "كان إذا صلى جَخّ" بفتح الجيم وبعدها خاء معجمة مشددة، أي فتح عضديه عن جانبيه وجافاهما عنهما، ويروى جخَّى بالياء وهو مثل جخ، وقال بعضهم: "كان إذا صلى جخّ" أي تحول من مكان إلى مكان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 899).

وروى البزار: "كان النبي - عليه السلام - إذا صلى جخى" قال: وقال النضر بن شميل: جخى: لا يتمدد في ركوعه ولا سجود. وقال الحاكم (¬1): صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو معدود في أفراد النضر بن شميل. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا كثير بن هشام وأبو نعيم، قالا: ثنا جعفر بن برقان، قال: حدثني يزيد بن الأصم، عن ميمونة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا سجد جافى حتى يرى من خلفه وضح إبطيه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن الصباح، قال: ثنا إسماعيل بن زكرياء، عن جعفر بن برقان وعبد الله بن عبد الله بن الأصم، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة بنحوه. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن كثير بن هشام الكلابي أبي سهل الرقي نزيل بغداد شيخ أحمد وروى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وعن أبي نعيم الفضل بن دكين الملائي الكوفي شيخ البخاري، كلاهما عن جعفر بن برقان الكلابي أبي عبد الله الجزري الرقي روى له الجماعة البخاري في "الأدب"، عن يزيد بن الأصم -واسم الأصم عمرو- الكوفي نزيل الرقة قال ابن أبي حاتم: ابن أخت ميمونة - رضي الله عنها - روى له الجماعة البخاري في "الأدب"، عن ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لعمرو، قال إسحاق: أنا، وقال الآخرون: ثنا وكيع، قال: أنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة بنت الحارث ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 351 رقم 828). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 357 رقم 497).

قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جافى حتى يرى من خلفه وضح إبطيه". قال وكيع: يعني بياضهما. قوله: "حتى يرى" على صيغة المعلوم، وفاعله قوله: "مَنْ خلفه" و"وضح إبطيه" بالنصب مفعوله، ويجوز أن يكون "يُرى" على صيغة المجهول ويكون "وضح إبطيه" مرفوعًا بالاستناد إليه، ويكون "مِنْ" من قوله: "مِنْ خلفه" حرف جر. فافهم. والوضح: البياض من كل شيء وقد فسره وكيع في رواية مسلم، وقال ابن الأثير: أي البياض الذي تحتهما وذلك للمبالغة في رفعهما وتجافيهما عن الجنبين. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن الصباح الدولابي أبي جعفر البغدادي البزاز صاحب السنن، شيخ الشيخين وأبي داود وأحمد وأبي يعلى. عن إسماعيل بن زكرياء الخلقاني أبي زياد الكوفي، عن جعفر بن برقان الرقي، وعن عبد الله بن عبد الله بن الأصم أبي سليمان البكائي، كلاهما عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمه يزيد بن الأصم، عن ميمونة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا سجد جافى بين يديه حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: ثنا يحيى بن يحيى وابن أبي عمر، قالا جميعًا: عن سفيان، قال يحيى: أنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن عمه يزيد بن الأصم، عن ميمونة قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 898). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 357 رقم 496)

واعلم أنه قد وقع في إسناد أبي داود ومسلم جميعًا: عبيد الله بن عبد الله بن الأصم -بتصغير الابن وتكبير الأب- ووقع في رواية الطحاوي كلاهما بالتكبير، وقال النووي: هكذا وقع في بعض الأصول عبيد الله بن عبد الله بن الأصم -بتصغير الأول- في روايتي مسلم، وفي بعض الروايات عبد الله مكبر في الموضعين، وفي أكثرها بالتكبير في الرواية الأولى والتصغير في الثانية، وكله صحيح؛ فعبد الله وعبيد الله أخوان، وهما ابنا عبد الله بن الأصم، وكلاهما روى عن عمه يزيد بن الأصم. ووقع في سنن النسائي (¬1) اختلاف في الرواة عن النسائي، بعضهم رواه بالتكبير وبعضهم بالتصغير. ورواه البيهقي في "سننه" (¬2) من رواية ابن عيينة بالتصغير، ومن رواية الفزاري (¬3) بالتكبير. وكذا رواه أبو داود، (¬4) وابن ماجه (¬5) في سننيهما" من رواية ابن عيينة بالتكبير، ولم يذكرا رواية الفزاري. قلت: النسخ المضبوطة لأبي داود: عبيد الله بن عبد الله بالتصغير من رواية سفيان بن عُيينة، ولكن الذي ذكره محيي الدين النووي أنه بالتكبير من رواية سفيان، وأما الذي بالتصغير فهو من رواية مروان الفزاري وأبو داود لم يخرج من روايته. قوله: "بهمة" واحد البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهم: بهام بكسر الباء، وقال الجوهري: البهمة من أولاد الضأن خاصة، ويطلق على الذكر والأنثى قال: والسخال أولاد المعزى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 213 رقم 1109). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 114 رقم 2536). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 114 رقم 2537) عن عبيد الله بالتصغير. (¬4) تقدم. (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 285 رقم 880) بالتصغير.

والحديث أخرجه الحكم في "مستدركه"، (¬1) والطبراني في "معجمه" (¬2): وقالا فيه: "بهمية" بتصغير بهمة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن بحر، قال: ثنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا سجد جافى حتى يُرى بياض إبطيه أو حتى أرى بياض إبطيه". ش: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر بن بَرِّيّ القطان أبي الحسن البغدادي شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، عن هشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء روى له الجماعة سوى مسلم، عن معمر بن راشد الأزدي روى له الجماعة، عن منصور بن المعتمر روى له الجماعة، عن سالم بن أبي الجعد واسمه رافع الأشجعي الكوفي روى له الجماعة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا سجد جافى يعني جافى يديه عن جنبيه". وهذا الحديث لا نعلم أحد رواه عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابر إلا معمر. قوله: "أو حتى أرى" شك من الرواي. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن إسحاق، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، قال: حدثني أبو الهيثم، قال: سمعت أبا سعيد يقول: "كأني انظر إلى بياض كشحي رسول الله - عليه السلام - وهو ساجد". ش: أبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ويحيى بن إسحاق البجلي أبو زكرياء السيلحيني روى له الجماعة سوى البخاري، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال، ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 352 رقم 831). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 436 رقم 1055).

وعبيد الله بن المغيرة بن معيقيب السبائي أبو المغيرة المصري روى له الترمذي وابن ماجه، قال أبو حاتم: صدوق. وأبو الهيثم سليمان بن عمرو بن عبد المصري روى له الأربعة ووثقه ابن معين وابن حبان. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. و"الكَشح" بفتح الكاف الخصر، وقال الجوهري: الكشح ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، والكَشَح بالتحريك: دإء يصيب الإنسان في كشحه، فيكون قوله "وهو ساجد" جملة اسمية حالية. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق قال: "رأيت البراء إذا سجد خَوَّى ورفع عجيزته، وقال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل". ش: أبو أمية محمَّد بن مسلم، ويحيى بن عبد الحميد الحماني وثقه ابن معين، وعنه: صدوق مشهور ما بالكوفة مثله، ما يقال فيه إلا من حسد. ونسبته إلى حِمَّان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم- قبيلة من تميم. وشريك هو ابن عبد الله النخعي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، والبراء هو ابن عازب الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، ثنا شريك، عن أبي إسحاق قال: "وصف لنا البراء بن عازب فوضع يديه واعتمد على ركبتيه، ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يسجد". وأخرجه النسائي (¬2): أنا علي بن حجر المروزي، قال: أنا شريك، عن أبي إسحاق مال: "وصف لنا البراء السجود، فوضع يديه بالأرض ورفع عجيزته، وقال: هكذا رأيت النبي - عليه السلام - يفعل". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 896). (¬2) "المجتبى" (2/ 212 رقم 1104).

قوله: "خوَّى" بالخاء المعجمة وتشديد الواو، أي جافى بطنه عن الأرض، ورفعها وجافى عضديه عن جنبيه حتى يخوي ما بين ذلك، قال الجوهري: خَوَّى البعير تخوية إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه وكذلك الرجل في سجوده، والطائر إذا أرسل جناحيه. وجاء في رواية أخرى رواها النسائي (¬1): عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن النضر بن شميل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن البراء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى جخى". انتهى. قلت: يقال: جخى وجخ أيضًا: إذا فتح عضديه في السجود ورفع بطنه عن الأرض، قاله المطرزي. قوله: "ورفع عجيزته" العجيزة العجز، وهي للمرأة خاصة، فاستعارها للرجل، والعجز مؤخر الشيء. ص: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عبد الله بن بحينة أنه حدثه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد فرج بين ذراعيه وبين جنبيه حتى يُرى بياض إبطيه". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة. وأبو صالح عبد الله بن صالح، ويحيى بن أيوب الغافقي المصري، وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل المصري، وعبد الله بن بحينة هو عبد الله بن مالك بن القشيب الأزدي الصحابي وبحينة أمه وهي بنت الأرت وهو الحارث بن المطلب بن عبد مناف. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 212 رقم 1105).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا يحيى بن بكير، قال: حدثني بكر بن مضر، عن جعفر، عن ابن هرمز، عن عبد الله بن مالك بن بحينة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه". وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا بكر هو ابن مضر ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة أيضًا نحوه. قوله: "ابن بحينة" في رواية البخاري ومسلم صفة لعبد الله أو بدل منه لا صفة لمالك، ولا له تعلق منه، فافهم؛ لأنا قلنا: إن بحينة اسم أمه، وشهرته باسم أمه ص: حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الكعبي، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي، فنظرت إلى عفرة إبطيه -يعني بياض إبطيه- وهو ساجد". ش: إسناده حسن، ويونس هو ابن عبد الأعلى، وعبد الله بن نافع الصائغ القرشي أبو محمَّد الكوفي روى له الجماعة البخاري في "الأدب" وداود بن قيس الفراء الدباغ أبو سليمان المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وعبيد الله بن عبد الله بن أقرم بن زيد الخزاعي وثقه النسائي وروى له والترمذي وابن ماجه، وأبوه عبد الله بن أقرم الخزاعي الصحابي يكنى أبا معبد روى عن النبي - عليه السلام - هذا الحديث فقط روى عنه ابنه عبيد الله المذكور. وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخزاعي، عن أبيه قال: "كنت مع أبي بالقاع ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 152 رقم 383). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 356 رقم 495). (¬3) "المجتبى" (2/ 212 رقم 1106). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 62 رقم 274).

من نمرة فمرت ركبة فإذا رسول الله - عليه السلام - قام يصلي، قال: فكنت أنظر إلي عفرتي إبطيه إذا سجد وأرى بياضه". وقال أبو عيسى: حديث عبد الله بن أقرم حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث داود بن قيس، ولا يعرف لعبد الله بن أقرم عن النبي - عليه السلام - غير هذا الحديث. وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حجر، قال: أبنا إسماعيل، قال: ثنا داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم، عن أبيه قال: "صليت مع رسول الله - عليه السلام - فكنت أرى عفرة إبطيه إذا سجد". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا وكيع، عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخزاعي، عن أبيه قال: "كنت مع أبي بالقاع من نمرة، فمر بنا ركب فأناخوا في ناحية الطريق فقال لي أبي: كن في بهمك حتى آتي هؤلاء القوم وأُسائلهم، قال: فخرج وجئت يعني دنوت، فإذا رسول الله - عليه السلام -، فحضرت الصلاة فصليت معهم، فكنت انظر إلى عفرتي إبطي رسول الله - عليه السلام - كلما سجد". قوله: "إلى عفرة إبطيه العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفر الأرض وهو وجهها، ومنه "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء" (¬3). قوله: "بالقاع" وهو مكان مستو واسع في وطأة من الأرض، يطؤه ماء السماء فيمسكه ويستوي نباته. قوله: "من نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 213 رقم 1108). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 285 رقم 881). (¬3) متفق عليه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، البخاري (5/ 2390 رقم 6156)، ومسلم (4/ 2150 رقم 2790).

قوله: "فمرت رَكَبة" بفتح الكاف وهم أقل من الركب، والركب اسم من أسماء الجمع كنفر ورهط، وقيل: هو جمع راكب كصاحب وصَحْب، والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة، وجمع الرَّكَبَة -بالتحريك-: الرَّكَبَات. قوله: "في بهمك" البهم بفتح الباء الموحدة جمع بَهْمة وهي ولد الضأن الذكر والأنثى، وجمع البهم بِهَام -بالكسر- وأولاد المعزى السخال فإذا اجتمعا أطلق عليها البهم والبهام. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: أخبرني خالد بن يزيد، عن عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن أبي هريرة أنه قال: "كأني انظر إلى بياض كشحي رسول الله - عليه السلام - وهو ساجد". ش: إسناده حسن، وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن سالم المعروف بابن أبي مريم أبو محمَّد المصري شيخ البخاري، ونافع بن يزيد أبو يزيد المصري روى له الجماعة إلا الترمذي، وخالد بن يزيد ويقال: ابن أبي يزيد وهو الصواب، قال يحيى: لا بأس به. روى له ابن ماجه. وعبيد الله بن المغيرة بن معيقيب السبائي المصري، قال أبو حاتم: صدوق. وروى له الترمذي وابن ماجه. وأبو الهيثم اسمه سليمان بن عمرو بن عبد المصري، وثقه ابن معين، وروى له الأربعة. وقد مر تفسير "الكشح". قوله: "وهو ساجد" جملة حالية. ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: ثنا أبو نعيم وصفان، قالا: ثنا عباد بن راشد، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثني أحمر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن كنا لنأوي لرسول الله - عليه السلام - مما يجافي يديه عن جنبيه إذا سجد".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم وأبو عامر، عن عباد بن ميسرة، عن الحسن قال: أخبرني أحمر صاحب النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن محمَّد بن علي بن داود أبي بكر البغدادي المعروف بابن أخت غزال، وثقه ابن يونس، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وصفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، كلاهما عن عباد بن راشد التميمي البصري البزاز، فيه مقال؛ فعن أحمد: شيخ ثقة صدوق صالح. وعن يحيى: ضعيف. وعنه: صالح. وعن أبي داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له البخاري مقرونًا بغيره وأبو داود والنسائي وابن ماجه. عن الحسن هو البصري، عن أحمر بن جري -بفتح الجيم وكسر الراء- وقيل: بالتصغير، وقيل: حَرِي بالحاء المهملة، وقيل: جَزْء -بفتح الجيم وسكون الزاي وفي آخره همزة- وأحمر هذا له صحبة ولم يرو عنه غير الحسن البصري، روى عن النبي - عليه السلام - هذا الحديث لا غير. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا عباد بن راشد، ثنا الحسن، نا أحمر بن جزء صاحب رسول الله - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، نا عباد بن راشد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): وقال الذهبي في "مختصره": هذا التجافي منه - عليه السلام - كان لأنه كان إمامًا لا يزحمه أحد، فأما إذا كان الصف قصيًّا فهو أولى بهم من تحللهم فمع التراص لا يمكنهم التجافي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 300 رقم 900). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 886). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 115 رقم 2543).

قوله: "إن كنا" "إن " هذه مخففة من المثقلة. قوله: "لنأوي" اللام فيه للتأكيد، ومعناه نرقّ له ونرثى يقال أويت للرجل آوي له إذا أصابه شيء فرثيت له. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد وأبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، كلاهما عن عباد بن ميسرة المنقري البصري، وعن أحمد: ضعيف، وعن يحيى: لا بأس به، عن الحسن البصري. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): أنا أبو موسى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا عباد بن راشد، قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا أحمر صاحب رسول الله - عليه السلام - قال: "إن كنا لنأوي لرسول الله - عليه السلام - مما يجافي يديه عن جنبيه إذا سجد". وأخرجه الطبراني (¬2) نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما كانت السنة فيما ذكرنا تفريق الأعضاء لا إلصاقها؛ كانت فيما ذكرنا أيضًا كذلك؛ فثبت بثبوت النسخ الذي ذكرنا، وبالنسخ الذي وصفنا انتقاء التطبيق، ووجوب وضع اليدين على الركبتين. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أراد من قوله فيما ذكره: ما ذكره من أحاديث ابن عباس وميمونة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري والبراء بن عازب وعبد الله بن بحينة وعبد الله بن أقرم وأبي هريرة وأحمر بن جَرِي - رضي الله عنهم - في التجافي في السجود، وأراد بقوله: "كانت فيما ذكرنا أيضًا" ما ذكره من وضع اليدين على الركبتين؛ لأن فيه أيضًا تفريق الأعضاء بخلاف التطبيق؛ لأن فيه إلصاق اليدين. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (3/ 123 رقم 1552). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 279 رقم 813).

وإيرادُه أحاديث هؤلاء الصحابة في هذا الباب؛ لأجل المعنى الذي ذكره. قوله: "وهذا" أي وضع اليدين على الركبتين هو قول أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد أيضًا وأصحابهم، وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما ذكرناه مستقصى والله أعلم.

ص: باب: مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزئ أقل منه

ص: باب: مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزئ أقل منه ش: أي هذا باب في بيان مقدار الركوع ومقدار السجود في الصلاة وحدُّهما الذي لا يجزئ أن يفعل بأقل منه، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إذا قال أحدكم في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا؛ فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان رب الأعلى ثلاثًا؛ فقد تم سجوده وذلك أدناه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا ابن أبي ذئب ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان إسنادان فيهما انقطاع على ما يأتي؛ لأن عون بن عبد الله لم يدرك عبد الله. قال أبو داود: هذا مرسل؛ عونٌ لم يدرك عبد الله. وقال البخاري في "تاريخه الكبير" (¬1)، وأحمد فيما حكاه الخلال والطوسي في "أحكامه": هذا منقطع. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل؛ عون بن عبد الله لم يلق ابن مسعود - رضي الله عنه -. وخالد بن عبد الرحمن وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به. روى له أبو داود والنسائي. وابن أبي ذئب هو محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب. واسمه هشام بن شعبة المدني روى له الجماعة. وإسحاق بن يزيد الهذلي المدني وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (1/ 32 - 33) وقال: لا يصح.

وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الفقيه الكوفي روى له الجماعة غير البخاري. وأبو بكرة بكّار القاضي، وأبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو وقد تكرر ذكره. فكالطريق الأول أخرجه الترمذي (¬1): ثنا علي بن حجر، أنا عيسى بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه غير أن لفظه: "إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، فإذا فعل ذلك فقد تم ركوعه، وإذا سجد أحدكم فليقل في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، فإذا فعل ذلك فقد تم سجوده، وذلك أدناه". وكالطريق الثاني: أخرجه أبو داود (¬3): ثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، نا أبو عامر وأبو داود، عن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه". قوله: "وذلك أدناه" أي أدنى الكمال، كذا نقل عن الشافعي، وقال صاحب الهداية: أي أدنى كمال الجمع، وقال بعض أصحابنا: أي أدنى كمال السنة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 46 رقم 261). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 890). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 296 رقم 886).

قلت: كل هذا لا يفهم من التركيب، والذي يقتضيه التركيب: أن يكون الضمير في أدناه راجعًا إلى القول الذي يدل عليه قوله: "إذا قال أحدكم" ومعناه: قوله ذلك -يعني ثلاث مرات- أدنى القول، وأكثره ليس له حد معلوم إلى خمس أو سبع أو تسع، أوتارًا بحسب حال المصلين والزمان، وأقله محدود بثلاث ولا ينبغي أن ينقص عنه. ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هذا مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزى أقل منه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إسحاق وداود وأحمد -في المشهور- وسائر الظاهرية؛ فإنهم قالوا: مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزئ أقل منه هو القدر الذي أن يقول فيه: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى كل واحد ثلاث مرات. واحتجوا في ذلك بحديث ابن مسعود المذكور، وإنما قالوا بذلك؛ لأن القول بذلك في الركوع والسجود فرض عندهم، فمن ضرورة هذا يكون فرض الركوع والسجود مقدرًا بهذا المقدار. وفي "المغني" لابن قدامة: والمشهور عن أحمد أن تكبير الخفض والرفع، وتسبيح الركوع والسجود، وقول سمع الله لمن حمده، وربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي بين السجدتين، والتشهد الأول: واجب، وهو قول إسحاق وداود. وقال ابن حزم في "المحلى": والتكبير للركوع فرض، وقول سبحان ربي العظيم في الركوع فرض، والتكبير لكل سجدة فرض، وقول سبحان ربي الأعلى فرض في كل سجدة، ثم قال: وبإيجاب وفرض هذا قال أحمد بن حنبل وأبو سليمان وغيرهما. قلت: لكن الفرض عند أحمد هو أن يقول مرة واحدة، والزيادة عليها فضيلة. قال في مغنيهم: ويقول سبحان ربي العظيم ثلاثًا وهو أدنى الكمال، وإن قال مرة واحدة أجزأه، وقال أحمد في رسالته: جاء الحديث عن الحسن البصري أنه قال:

"التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث" وقال القاضي: الكامل في التسبيح إن كان منفردًا ما لا يخرجه إلى السهو، وفي حق الإِمام ما لا يشق على المأمومين، ويحتمل أن يكون الكمال عشر تسبيحات لأن أنسًا - رضي الله عنه - روى أن النبي - عليه السلام - كان يصلي كصلاة عمر بن عبد العزيز فحزروا ذلك بعشر تسبيحات. قلت: حديث أنس رواه أبو داود (¬1) ولفظه: "ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - عليه السلام - أشبه صلاة برسول الله - عليه السلام - من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات". وقال القاضي: قال بعض أصحابنا: الكمال أن يسبح مثل قيامه، وإن قال: سبحان ربي العظيم وبحمده فلا بأس، وروي عن أحمد أنه قال: أما أنا فلا أقول: وبحمده، وحكى ذلك ابن المنذر عن الشافعي وأصحاب الرأي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: مقدار الركوع أن يركع حتى يستوي راكعًا، ومقدار السجود أن يسجد حتى يطمئن ساجدًا؛ فهذا مقدار الركوع والسجود الذي لابد منه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وعبد الله بن وهب وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: مقدار الركوع أن يركع حتى يستوي راكعًا، ومقدار السجود أن يسجد حتى يطمئن ساجد، وهذا المقدار الذي لا بد منه ولا تتم الصلاة إلا به. ثم إن الطحاوي: لم ينصب ها هنا خلافًا بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف كما هو المذكور في كتب أصحابنا مثل "الهداية و"المبسوط" و"المحيط" وغيرها؛ فإنهم قالوا فيها: الطمأنينة في الركوع والسجود فرض عند أبي يوسف والشافعي، ثم احتجوا لها بحديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع الآتي ذكره ها هنا عن قريب (¬2)، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 297 رقم 888). (¬2) سيأتي.

وذكروا عن أبي حنيفة ومحمد أنهما قالا: إنها واجبة وليست بفرض، حتى قال في "الخلاصة": إنها سنة عندهما، وقالوا: لأن الركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض لغة، فتتعلق الركينة بالأدنى منهما، وقالوا أيضًا: قوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬1) أمر بالركوع والسجود وهما لفظان خاصان يراد بهما الانحناء والانخفاض، فيتأدى ذلك بأدنى ما ينطبق عليه من ذلك، وافتراض الطمأنينة فيهما بخبر الواحد زيادة على مطلق النص، وهو نسخ وذا لا يجوز، وأجابوا عن الحديث الذي احتج به أبو يوسف والشافعي: أن في آخره: "وما انتقصت من ذلك فإنما ينقص من صلاتك". على ما يجيء في الحديث عن قريب؛ وأنه أطلق اسم الصلاة على التي ليست فها الطمأنينة، ولو كانت باطلة لما سماها صلاة؛ لأن الباطلة ليست بصلاة، وأيضًا وصفها بالنقص فدل أنها صحيحة ولكنها ناقصة، وكذا يأول، ويكون المراد من الحديث نفي الكمال لا نفي ذات الصلاة، فهذا ما قالوه، ولكن القول ما قال الطحاوي؛ لأنه أعلم الناس بمذاهب العلماء وخلافياتهم. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام ص: واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: حدثني شريك بن أبي نمر، عن علي بن يحيى، عن عمّه رفاعة بن رافع: "أن النبي - عليه السلام - كان جالسًا في المسجد، فدخل رجل فصلى والنبي - عليه السلام - ينظر إليه، فقال: إذا قمت في صلاتك فكبر ثم أقرأ إن كان معك قرآن فإن لم يكن معك قرآن فأحمد الله وكبر وهلل، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم قم حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من ذلك فإنما تنقصه من صلاتك". ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [77].

حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد الزرقي، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. ش: هذا طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، ونسبته إلى وُحاظة -بضم الواو، وتخفيف الحاء المهملة، والظاء المعجمة- ابن سعد بن عوف بن مالك. عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني روى له الجماعة، عن شريك بن أبي نمر -وهو شريك بن عبد الله بن أبي نمر- القرشي أبي عبد الله المدني، روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل". عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان المدني روى له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. عن عمه رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الزرقي، شهد بدرًا هو وأبوه، وكان أبوه نقيبًا. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه: "أن رجلًا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فصلى، فأمره رسول الله - عليه السلام - فأعاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: يا رسول الله ما ألوت -بعد مرتين أو ثلاثًا- أن أتم صلاتي فقال رسول الله - عليه السلام -: إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 288 رقم 857) ذكره مختصرًا ولفظه: "أن دخل المسجد ... " فذكر نحوه- أي نحو حديث أبي هريرة الذي قبله. وأما بهذا اللفظ فأخرجه الطبراني في "الكبير" (5/ 38 رقم 4526) من طريق حجاج عن حماد به، وانظر "تحفة الأشراف" (3/ 169 رقم 3604).

مواضعه، ثم يقول: الله أكبر، ثم يحمد الله ويثني عليه ويقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا، ثم يكبر ويسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعدًا، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، فإذا لم يفعل ذلك لم تتم صلاته". وقال الحافظ زكي الدين المنذري في "مختصر السنن": والمحفوظ فيه: علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع. انتهى. وإنما قال ذلك كذلك لأنه رفاعة هذا ليس بعم علي بن يحيى وإنما هو عم أبيه؛ لأن خلادًا ورفاعة أخوين ابنا رافع، ويحيى هو ابن خلاد فيكون رفاعة عم يحيى، وعلي هو ابن يحيى، فيكون رفاعة عم أبيه. فافهم. وبهذا أخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد أبو يحيى بمكة وهو بصريّ، قال: ثنا أبي قال: ثنا همام قال: ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن علي بن يحيى بن خلاد بن مالك بن رافع بن مالك، حدثه عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع قال: "بينما رسول الله - عليه السلام - جالس ونحن حوله إذ دخل رجل فأتى القبلة فصلى، فلما قضى صلاته جاء فسلم على رسول الله - عليه السلام - وعلى القوم، فقال له رسول الله - عليه السلام -: وعليك، اذهب فصل فإنك لم تصل. فذهب فصلى فجعل رسول الله - عليه السلام - يرمق صلاته، ولا ندري ما يعيب منها، فلما قضى صلاته جاء فسلم على رسول الله - عليه السلام - وعلى القوم فقال له رسول الله - عليه السلام -: اذهب فصل فإنك لم تصل، فأعادها مرتين أو ثلاثًا فقال الرجل: يا رسول الله ما عبت في صلاتي؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: إنها لن تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله -عز وجل-، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله ويحمده ويمجده، وقال همام: وسمعته يقول: ويحمد الله ويمجده ويكبره قال: فكلاهما قد سمعته يقول، قال: ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 225 رقم 1136).

وأذن له فيه، ثم يكبر ويركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده ثم يستوي قائمًا حتلى يقيم صلبه، ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه -وقد سمعته يقول: جبهته- حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ويكبر فيرفع حتى يستوي قاعدًا على مقعدته، ويقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد حتلى يمكن وجهه ويسترخي، فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته". وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا الحسن بن علي، ثنا هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، قالا: ثنا همام، ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع ... الحديث. الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن أبي كثير هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني قارئ أهل المدينة، عن يحيى بن علي بن يحعرول بن خلاد الزرقي الأنصاري المدني وثقه ابن حبان، عن أبيه علي بن يحيى بن خلاد روى له البخاري، عن جده يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان الزرقي الأنصاري المدني قيل: إنه ولد على عهد النبي - عليه السلام - فحنكه وقال: "لأسمينه اسمًا لم يسم به بعد يحيى بن زكرياء عليهما السلام، فسماه يحيى". (¬2) روى له الجماعة سوى مسلم. عن رفاعة بن رافع وهو عم يحيى المذكور. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا علي بن حجر، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع: "أن رسول الله - عليه السلام - بينما هو جالس في المسجد يومًا قال رفاعة: ونحن معه إذ جاءه رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته، ثم انصرف فسلم على النبي - عليه السلام -، فقال ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 288 رقم 858). (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 269)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 72). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 100 رقم 302).

النبي - عليه السلام -: وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل ففعل ذلك مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يأتي النبي - عليه السلام - فيسلم على النبي - عليه السلام -، فيقول النبي - عليه السلام -: وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل، فخاف الناس وكَبُرَ عليهم أن يكون مَنْ أخف صلاته لم يصل، فقال الرجل في آخر ذلك: فأرني وعلمني، فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فقال: أجل، إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم أيضًا، فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وبره وهلله، ثم اركع فاطمئن راكعًا، ثم اعتدل قائمًا، ثم اسجد واعتدل ساجدًا، ثم اجلس فاطمئن جالسًا، ثم قم؛ فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئًا انتقصت من صلاتك". وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا عباد بن موسى الختلي، ثنا إسماعيل يعني ابن جعفر، قال: أخبرني يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع: "أن رسول الله - عليه السلام - ... " فقص هذا الحديث قال فيه: "فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم، ثم كبر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فأحمد الله وبره وهلله، قال فيه: وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك". ويستفاد منه فوائد: أن الشروع في الصلاة لا يكون إلا بتكبير وهو فرض بلا خلاف، وقراءة القرآن وهي أيضًا فرض، وفيه دليل صريح على أن الفرض مطلق القراءة، وهو حجة لأبي حنيفة على عدم فرضية قراءة الفاتحة؛ إذ لو كانت فرضًا لأمره - عليه السلام - لأن المقام مقام التعليم، وأن العاجز عن قراءة القرآن يحمد الله ويكبره ويهلله عوض القراءة فإنه يجزئه، ثم العجز عن القراءة أعم من أن يكون لمعنى في طبيعته أو لعذرآخر وأيا ما كان العاجز عن القرآن يجوز له أن يصلي بالأدعية ونحوها. وفي "المغني" لابن قدامة: فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم، فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته، فإن لم يقدر أو خشى ذوات الوقت وعرف من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 289 رقم 861).

الفاتحة آية كررها سبعًا، قال القاضي: لا يجزئه غير ذلك؛ لأن الآية منها أقرب إليها من غيرها، وكذلك إن أحسن منها أكثر من ذلك كرره بقدره، وإن عوف بعض آية لم يلزمه تكرارها وعدل إلي غيرها، ويجب أن يقرأ بعدد آياتها، وهل يعتبر أن يكون في عدد حروفها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعتبر، والثاني: يلزمه ذلك، فإن لم يحسن شيئًا من القرآن ولا أمكنه التعلم قبل خروج الوقت لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا تلزمه الزيادة على هذه، وعن بعض الشافعية: يزيد عليها كلمتين حتى يكون مقام سبع آيات ولا يصح ذلك. انتهى. قلت: هذا كله على أصلهم أن قراءة الفاتحة فرض عندهم، وأما على أصل الحنفية: أنه يقرأ ما تيسر له من القرآن، فإن عجز عن ذلك بالكلية يدعو بما شَابَهَ ألفاظ القرآن فإن فرضنا أنه لا يقدر على إتيان شيء من الأدعية يصلي هكذا ولا يلزمه غير ذلك، وفيه بيان مقدار الركوع الذي لا بد منه، وهو أن يطمئن راكعًا. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (¬1): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن من سمع محمَّد بن علي يقول: "يجزئه من الركوع إذا وضع يديه على ركبتيه، ومن السجود إذا وضع جبهته على الأرض". ثنا (¬2) ابن علية، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: "يجزئ من الركوع إذا أمكن يديه من ركبتيه، ومن السجود إذا أمكن جبهته من الأرض". وفيه بيان مقدار السجود الذي لا بد منه، وهو أن يطمئن جالسًا. فإن قيل: لم يبين في هذا الحديث بعض الواجبات كالنية، والقعدة الأخيرة، وترتيب الأركان، وكذا بعض الأفعال المختلف في وجوبها كالتشهد في الأخير، والصلاة على النبي - عليه السلام -، وإصابة لفظة السلام. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 225 رقم 2579). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 225 رقم 2581).

قلت: لعل هذه الأشياء كانت معلومة عند هذا الرجل فلذلك لم يبينها؛ فافهم. ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين وأخرجه الجماعة غير النسائي: فالبخاري (¬1): عن مسدد، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: ثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي - عليه السلام -، فرد النبي - عليه السلام - عليه السلام، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم جاء فسلم على النبي - عليه السلام -، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فصل ثم جاء فسلم على النب - عليه السلام -، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل -ثلاثًا- فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". ومسلم (¬2): عن محمَّد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله ... إلي آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن أنس، يعني: ابن عياض. قال: ونا ابن المثني، قال: حدثني ابن سعيد، عن عبيد الله -وهذا لفظ ابن المثني- قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد ... " الحديث نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 274 رقم 760). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 298 رقم 397). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 278 رقم 856).

والترمذي (¬1): عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، قال: أنا عبيد الله بن عمر، قال: أخبرني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد ... " الحديث نحوه. وابن ماجه (¬2): عن ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة: "أن رجلًا دخل المسجد فصلى، ورسول الله - عليه السلام - في ناحية المسجد، فجاء فسلم، فقال: وعليك فأرجع فصل فإنك لم تصل ... " الحديث. قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ينافي فرضية قراءة فاتحة الكتاب؛ إذ لو كانت فرضًا لأمره النبي - عليه السلام - بذلك، بل هو صريح في الدلالة على أن الفرض مطلق القراءة كما هو مذهب أبي حنيفة، وقال الخطابي: قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزئه غيرها، بدليل قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهذا في الإطلاق كقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3) ثم كان أقل ما يجزئ من الهدي معينًا معلوم المقدار ببيان السنة، وهو الشاة. قلت: يريد الخطابي أن يتخذ لمذهبه دليلًا على حسب اختياره بكلام ينقض آخره أوله حيث اعترف أولًا أن ظاهر هذا الكلام الإطلاق والتخيير وحكم المطلق أن يجري على إطلاقه، وكيف يكون المراد منه فاتحة الكتاب وليس فيه الاحتمال. وقوله: "وهذا في الإطلاق كقوله تعالى ... " إلى آخره فاسد؛ لأن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم، وهو يتناول الإبل والبقر والغنم، وأقل ما يجزئ شاة، فيكون مرادًا بالسنة بخلاف قوله: "ما تيسر معك من القرآن" فإنه ليس كذلك، فإنه يتناول كل ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 103 رقم 303). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 336 رقم 1060). (¬3) سورة البقرة، آية: [196].

ما يطلق عليه اسم القرآن، فيتناول الفاتحة وغيرها، ثم تخصيصه بالفاتحة من غير مخصص ترجيح بلا مرجح، وهو باطل، ولا يجوز أن يكون قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" مخصصًا؛ لأنه ينافي معنى اليسر فينقلب الى عسر، وهو باطل. قوله: "ثم افعل ذلك" أي ما ذكرنا من الهيئات في صلاتك كلها. وقال الخطابي: وفيه دلالة على أن يقرأ في كل ركعة كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة. وقال أصحاب الرأي: إن شاء أن يقرأ في الركعتين الأخريين قرأ، وإن شاء أن يسبح سبح وإن لم يقرأ فيهما شيئًا أجزأه، ورووا فيه عن علي بن أبي طالب أنه قال: "يقرأ الأولين ويسبح في الأخريين" (¬1) من طريق الحارث عنه، وقد تكلم الناس في الحديث قديمًا، وممن طعن فيه الشعبي ورماه بالكذب، وتركه أصحاب الصحيح، ولو صح عن عليّ - رضي الله عنه - لم يكن حجة؛ لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك منهم: أبو بكر وعمر وابن مسعود وعائشة - رضي الله عنهم - وغيرهم، وسنة رسول الله - عليه السلام - أولى ما اتبع، بل قد ثبت عن عليّ - رضي الله عنه - من طريق عبيد الله بن أبي رافع: "أنه كان يأمر أن يقرأ في الأولين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب" (¬2). قلت: وإن دل قوله ذلك على أن يقرأ في كل ركعة، فقد دل غيره أن القراءة في الأولين قراءة في الأخريين، بدليل ما روي عن جابر بن سمرة قال: "شكى أهل الكوفة سعدًا ... " الحديث (¬3)، وفيه: "واحذف في الأخريين" أي احذف القراءة في الأخريين، وتفسيره بقولهم: أقصر الصلاة ولا أحذفها؛ كلها خلاف الظاهر، وقوله: "لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه" غير مسلَّم؛ لأنه روي عن ابن مسعود مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3743). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 325 رقم 3726). (¬3) أخرجه البخاري (1/ 262 رقم 722)، ومسلم (1/ 334 رقم 453).

على ما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن علي وعبد الله: "أنهما قالا: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين". وكذا روي عن عائشة، وكذا روي عن إبراهيم (¬2) والأسود (¬3). وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: "كان عليًّا - رضي الله عنه - يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بأم القرآن وسورة، ولا يقرأ في الأخريين". وهذا إسناد صحيح، وينافي قول الخطابي: "بل قد ثبت عن عليّ - رضي الله عنه - من طريق عبيد الله ... " إلى آخره. وفي "التهذيب" لابن جرير الطبري: وقال حماد: عن إبراهيم، عن ابن مسعود: "أنه كان لا يقرأ في الركعتين الآخريين من الظهر والعصر شيئًا". وقال هلال بن سنان: "صليت إلى جنب عبد الله بن يزيد، فسمعته يسبح". وروى منصور، عن جرير، عن إبراهيم قال: "ليس في الركعتين الآخريين من المكتوبة قراءة، سبح الله واذكر الله". وقال سفيان الثوري: اقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الآخرين بفاتحة الكتاب -أو سبح فيهما بقدر الفاتحة-أيُّ ذلك فعلت أجزاك، وإن سبح في الآخرين أحب إليّ". والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين بالفرض الذي لا بد منه ولا تتم الصلاة إلا به ما هو، فعلمنا أن ما سوى ذلك إنما أريد به أدنى ما يبتغى به الفضل، وإن كان ذلك الحديث -الذي ذلك فيه منقطعًا- غير ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3742). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3745). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 327 رقم 3746). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 100 رقم 2656).

مكافئ لهذين الحديثين في إسنادهما، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد- رحمهم الله. ش: أراد بهذين الحديثين: الحديث رواه رفاعة بن رافع، والحديث الذي رواه أبو هريرة؛ فإن فيهما أخبر بمقدار الفرض في الركوع والسجود الذين لا بد منه ولا تتم الصلاة إلا به، فعلمنا من ذلك أن ما سوى ذلك من الأحاديث نحو حديث ابن مسعود الذي احتج به أهل المقالة الأولى وأمثاله إنما يراد بها طلب الفضيلة والكمال. قوله: "وإن كان ذلك الحديث" أراد به حديث ابن مسعود الذي ذكر في أول الباب، و"الواو" في "وإن" للحال، و"إنْ" مخففة من المثقلة، والتقدير: والحال أنه أي أن الشأن "كان ذلك الحديث" أي حديث ابن مسعود "الذي ذلك فيه" أي في الحديث، وذلك إشارة إلى قوله: "أدنى ما يبتغى به الفضل" أي أدنى ما يطلب به الفضيلة والكمال. قوله: "منقطعًا" حال من الحديث. وقوله: "غير مكافئ" بنصب "غير"؛ لأنه خبر "كان" أي غير مماثل ولا نظير لهذين الحديثين، أعني حديثي رفاعة وأبي هريرة في قوة إسنادهما. الحاصل: أنه أجاب عن حديث ابن مسعود بثلاثة أجوبة. أشار إلى الجواب الأول بقوله: "إنما أريد به أدنى ما يبتغى الفضل". وإلى الثاني: بقوله "منقطعًا" لأن حديث ابن مسعود منقطع كما ذكرنا هناك؛ لأن راويه هو عون بن عبد الله عن ابن مسعود، وعون لم يلق ابن مسعود؛ فإذا كان منقطعًا فلا تقوم به الحجة. وإلى الثالث: بقوله: "غير مكافئ لهذين الحديثين في إسنادهما" حاصله: ولئن سلمنا عدم الانقطاع؛ فإنه لا يماثل حديثي رفاعة وأبي هريرة لقوة إسنادهما واستقامة مخرجهما؛ وذلك لأنا قد ذكرنا أن حديث أبي هريرة أخرجه الشيخان

وغيرهما، وحديث رفاعة مخرج على شرط البخاري، وحديث ابن مسعود ليس كذلك، فلا يعارضهما، وتعين الحكم لحديثي رفاعة وأبي هريرة. فافهم. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة ... " إلى آخره أي ما ذكرنا من أن مقدار الركوع: أن يركع حتى يستوي راكعًا، ومقدار السجود: أن يسجد حتى يطمئن ساجدا. هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقد ذكرنا أن الطحاوي لم ينصب بينهم خلافًا كما قد نصبه غيره من المتأخرين والله تعالى أعلم.

ص: باب: ما ينبغي أن يقال في الركوع والسجود

ص: باب: ما ينبغي أن يقال في الركوع والسجود ش: أي هذا باب في بيان ما ينبغي أن يدعى به من الأدعية في حالة الركوع وحالة السجود. ص: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو راكع: اللهم لك ركعت وبك أمنت ولك أسلمت وأنت ربي، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي لله رب العالمين -عز وجل-، ويقول في سجوده: اللهم لك سجدت ولك أسلمت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء (ح) وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي وعبد الله بن صالح، قالوا: أخبرنا عبد العزيز بن الماجشون، عن الماجشون وعبد الله بن الفضل، عن الأعرج ... فذكروا بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: قد ذكرها الطحاوي بعينها في باب: ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام ولكنه اقتصر هناك في المتن على: "وجهت وجهي" لأجل التبويب. وقد ذكرنا أنه أخرجه الجماعة -غير البخاري- مختصرًا ومطولًا (¬1). والوهبي هو أحمد بن خالد بن محمَّد الكندي، واستوفينا الكلام هناك في الماجشون، والمراد من الماجشون الثاني هو يعقوب بن أبي سلمة عم عبد العزيز المذكور، وهم أهل بيت يلقبون بالماجشون. ¬

_ (¬1) تقدم.

قوله: "وهو راكع" جملة اسمية حالية. قوله: "اللهم لك ركعت" يعني يا الله ركعت لأجلك، وتأخير الفعل للاختصاص، والركوع: الميلان والخرور، يقال: ركعت النخلة إذا مالت، وقد يذكر ويراد به الصلاة، من إطلاق اسم الجزء على الكل. قوله: "وبك أمنت" أي صدقت. قوله: "وبك أسلمت" أي انقدت وأطعت. قوله: "خشع لك سمعي" أي خشي وخضع، وخشوع السمع والبصر والمخ والعظم والعصب كالخضوع في البدن. فإن قيل: كيف يتصور الخشوع من هذه الأشياء؟ قلت: ذكر الخشوع وأراد به الانقياد والطاعة، فيكون هذا من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم. فإن قيل: ما وجه تخصيص السمع والبصر من بين الحواس، وتخصيص المخ والعظم والعصب من بين سائر أجزاء البدن. قلت: أما تخصيص السمع والبصر فلأنهما أعظم الحواس وأكثرها فعلًا وأقواها عملًا وأمسها حاجة؛ ولأن أكثر الآفات للمصلي بهما؛ فإذا خشعتا قلَّت الوساوس الشيطانية. وأما تخصيص المخ والعظم والعصب؛ فلأن ما في أقصى قعر البدن المخ، ثم العظم ثم العصب؛ لأن المخ يمسكه العظم، والعظم يمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مركبة عليها، فهذه عمدُ بِنْية الحيوان وأطنابها، وأيضًا العصب خزانة الأرواح النفسانية، واللحم والشحم غادٍ ورائح، فإذا حصل الانقياد والطاعة عن هذه فالذي يتركب عليها بالطريق الأولى. فإن قيل: ما معنى انقياد هذه الأشياء؟

قلت: أما انقياد السمع فالمراد به: قبول سماع الحق والإعراض عن سماع الباطل. وأما انقياد البصر فالمراد به: صرف نظره إلي كل ما ليس فيه حرمة والاعتبار به في المشاهدات العلوية والسفلية. وأما انقياد المخ والعظم والعصب فالراد به: انقياد باطنه كانقياد ظاهره؛ لأن الباطن إذا لم يوافق الظاهر لا يكون انقياد الظاهر مفيدًا معتبرًا، وانقياد الباطن عبارة عن تصفيته عن دنس الشرك والنفاق وتزيينه بالإخلاص والعلم والحكمة، وترك الغل والغش والحقد والحسد والظنون والأوهام الفاسدة ونحو ذلك من الأشياء التي تخبث الباطن. وانقياد الظاهر عبارة عن استعمال الجوارح بالعبادات كل جارحة بما تخصها من العبادة التي وضعت لها. فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله: "خشع لك سمعي" بما قبله، وما وجه ترك العاطف بين الجملتين. قلت: كأن هذا وقع بيانًا لقوله: "ولك أسلمت" فلذلك ترك العاطف؛ لأن معنى لك أسلمت: انقدت وأطعت، ومعنرل خشع سمعي ... إلى آخره: الانقياد والإطاعة كما قررناه، فكأنه - عليه السلام - بين نوعي الانقياد والإطاعة بقوله: "خشع سمعي ... " إلى آخره بعد الإجمال، فقوله: "خشع سمعي وبصري" بيان الانقياد الظاهر، وقوله: "مخي وعظمي وعصبي" بيان الانقياد الباطن، فهذه الأسئلة والأجوبة لاحت لي في هذا الموضع من الفيض الإلهي والسر الرحماني، فلله المنة والحمد. قوله: "وشق سمعه وبصره" من الشَّق بفتح الشين أي فلق وفتح، والشِّق بكسر الشين نصف الشيء، واستدل الزهري بهذا على أن الأذنين من الوجه، والجواب

عنه: أن المراد بالوجه جملة الذات كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬1) ويؤيد هذا أن السجود يقع بأعضاء أخر مع الوجه، وأيضًا: أن الشيء يضاف إلى ما يجاوره كما يقال: بساتين البلد. قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬2) أي المقدرين والمصورين، ومعنى "تبارك": تعالى وتعاظم، من البركة. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الئه بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت أنت ربي، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين". ش: هذا طريق آخر فيه، وهو أيضًا صحيح، وأبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي وابن جريج هو عبد الملك. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن روح، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "وما استقلت به" من قولهم: استقل بالشيء إذا استبد به، ويقال: استقله يستقله إذا رفعه وحمله، وكذلك أقل الشيء يقله. ص: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: أنا عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن عليَّ كرم الله وجهه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهيت أن أقرأ وأنا راكع أو ساجد، ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: [88]. (¬2) سورة المؤمنون، آية: [14]. (¬3) "مسند أحمد" (1/ 119 رقم 960).

فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم". ش: عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي المعروف بابن عائشة شيخ أحمد وأبي داود، وثقه ابن حبان، وقال: أبو داود صدوق. روى له الترمذي والنسائي. وعبد الواحد بن زياد العبدي أبو عبيدة البصري روى له الجماعة، وعبد الرحمن ابن إسحاق بن الحارث أبو شيبة الواسطي ابن أخت النعمان بن سعد الأنصاري، فيه مقال، قال أبو داود والنسائي وابن حبان: ضعيف. وعن أحمد: ليس بشيء. وقال أبو بكر بن خزيمة: لا يحتج بحديثه. روى له أبو داود والترمذي. والنعمان بن سعد بن حبتة، ويقال: ابن حبتر الأنصاري، قال أبو حاتم: لم يرو عنه غير ابن أخته عبد الرحمن بن إسحاق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى له الترمذي. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬1): حدثني سويد بن سعيد سنة ستة وعشرين ومائتين، أنا علي بن مسهر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي - رضي الله عنه - قال: "سأله رجل أقرأ في الركوع والسجود؟ فقال: قال رسول الله - عليه السلام -: إني نهيت أن أقرأ في الركوع والسجود، فإذا ركعتم فعظموا الله، وإذا سجدتم فاجتهدوا في المسألة؛ فقمن أن يستجاب لكم". وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده" (¬2): ثنا أبو كامل، ثنا عبد الواحد بن زياد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرج مسلم (¬3): عن أبي الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن حنين أن أباه حدثه، أنه سمع ¬

_ (¬1) عبد الله في "زوائده على مسند أحمد" (1/ 155 رقم 1336). (¬2) "مسند البزار" (2/ 278 رقم 697). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 348 رقم 480).

علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "نهاني رسول الله - عليه السلام - أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا"، وفي لفظ له: "نهاني رسول الله - عليه السلام - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد"، وفي لفظ: عن ابن عباس، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: "نهاني حِبي أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا". وفي لفظ: عن ابن عباس، عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - كلهم قالوا: "نهاني عن قرأءة القرآن وأنا راكع" ولم يذكروا في روايتهم النهي عنها في السجود، كما ذكر الزهري وزيد بن أسلم والوليد بن كثير وداود بن قيس. وفي لفظ: عن ابن عباس أنه قال: "نهيت أن أقرأ وأنا راكع" لا يذكر في الإسناد علي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود، (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. قوله: "نهيت" على صيغة المجهول. قوله: "أن أقرأ "أن مصدرية، أي نهيت عن قراءة القرآن. قوله: "وأنا راكع" جملة اسمية حالية. قوله: "أو ساجد" أي أو أنا ساجد وهي أيضًا حال. قوله: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب" أراد به تعظيم الله تعالى بذكر الأدعية التي فيها تعظيم الله وتمجيده. قوله: "فقمن" بفتح القاف، وكسر الميم وفتحها لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف شيء يثنى ويجمع، وفيه لغة ثالثة: "قمين" لما بزيادة الياء وكسر الميم، ومعناه حقيق وجدير. فإن قيل: ما إعراب هذه الجملة؟ قلت: "أن" في قوله "أن يستجاب لكم" مصدرية، والتقدير الاستجابة لكم، وهي في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "قمن" أي الاستجابة لكم في هذه ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 445 رقم 4045). (¬2) "المجتبى" (2/ 217 رقم 1119).

الحالة حقيق وجدير، ويجوز أن يكون ارتفاع "أن يستجابُ" على الفاعلية لكونه مستندًا إلى الصفة وهو "قمن" بكسر الميم، فافهم. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه دلالة صريحة على النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. فإن قيل: ما الحكمة في ذلك؟ قلت: الذي يلوح لنا في هذا المقام هو أن النبي - عليه السلام - أخبر الأمة عن انقطاع الوحي بوفاته، ونبههم على جلالة قدر ما هو تارك فيهم من الوحي المنزل، وهو الكتاب العزيز الذي لم يؤت نبي مثله بقرينة مستكنة في صيغة النهي؛ وذلك أن الركوع والسجود من باب الخضوع وأمارات التذلل من العباد لجلالة وجه الله الكريم فنهى أن يقرأ الكتاب الكريم الذي عظم شأنه وارتفع محلّه عند هيئة موضوعة للخضوع والتذلل ليتبين لأصلي العلم معنى الكتاب العزيز، وتتكشف لذوي البصائر حقيقة القرآن الكريم. فإن قيل: إذا قرأ المصلي القرآن في ركوعه وسجوده هل تبطل صلاته أم لا؟ قلت: لا تبطل عند أبي حنيفة مطلقًا سواء قرأ عامدًا أو ناسيًا، ولكن في الناسي تجب سجدتا السهو وقال النووي: فلو قرأ في الركوع أو السعير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: أنه كغير الفاتحة فيكره ولا تبطل صلاته، والثاني: يحرم وتبطل صلاته، هذا إذا كان عمدًا، فإن قرأ سهوًا لم يكره، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي. وفي "المغني" لابن قدامة: ويكره أن يقرأ القرآن في الركوع والسجود، ثم ذكر الحديث المذكور. الثاني: استدل مالك به وبأمثاله على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وكراهة الدعاء أيضًا في الركوع، ولكن أباحه في السجود، وذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى

وجوب الذكر فيهما دون تعيين، وأنه يعيد الصلاة من تركه؛ لأنه إنما أخلى موضعهما من القراءة ليكون محلًا للذكر والدعاء، وفيه نظر على ما لا يخفى الثالث: فيه دلالة على أن الركوع والسجود محل للأدعية وتعظيم الله تعالى، وأن السجود محل للمسألة، وعن هذا قال أصحابنا: يستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده، ويكرر كل واحدة منهما ثلاث مرات، ويقتصر على هذا عندنا في الفرائض سواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا فإن ضم إليه ما جاء من الأدعية المأثورة فلا بأس به إذا كان في التطوع. الرابع: فيه حجة لمن ذهب من أهل الأصول إلى أن خطاب النبي - عليه السلام - خصوصًا يتناول أمته وإن اقتضى من طريق اللغة تخصيصه، وذلك للأمر بالاقتداء به إلا ما دل دليل على تخصيصه به. ص: حدثنا أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي، قال: سمعت ابن عيينة يقول: حدثني سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كشف رسول الله - عليه السلام - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه -" ثم ذكر مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد بن الحسن. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: أنا سفيان بن عيينة، قال: أخبرني سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كشف رسول الله - عليه السلام - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: يأيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 348 رقم 479).

ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن سفيان، عن سليمان ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬2): أنا علي بن حجر المروزي، قال: أبنا إسماعيل هو ابن جعفر، قال: ثنا سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس قال: "كشف رسول الله - عليه السلام - الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: اللهم بلغت ثلاث مرات، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود فإذا ركعتم فعظموا ربكم وإذا سجدتم فاجتهدوا [في الدعاء] (¬3)، فإنه قمن أن يستجاب لكم. قوله: "الستارة" بكسر السين، وهو: الستر الذي يكون على باب البيت والدار. قوله: "والناس صفوف" جملة حالية، وكذا قوله: "خلف أبي بكر". قوله: "إنه" أي إن الشأن. قوله: "من مبشرات النبوة" جمع مبشرة، وهي الأمور المبشرة بالنبوة كصدق الرؤيا، ورؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ثم صار بغلبة الاستعمال كالاسم، واشتقاقها من البشارة، والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، من بَشَّرتُ الرجلَ أبشره -بالضم- بَشْرًا وبشُورًا من البشرى، وكذلك الإبشار والتبشير، ثلاث لغات، والاسم: البشارة، والبشارة بالكسر والضم، والنبوة من النبأ وهو الخبر تقول: نَبَأَ، ونَبَّأَ، وأَنْبَأَ، أي: أخبر، ومنه أخذ النبي؛ لأنه أنْبأ عن الله تعالى، وهو فعيل بمنى فاعل. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 294 رقم 876). (¬2) "المجتبى" (2/ 217 رقم 1120). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى".

قوله: "إلا الرؤيا" وهي مقصورة مهموزة، ويجوز ترك همزها كنظائرها، من رأى في منامه رؤيا على وزن فُعْلى، والمراد "بالصالحة" صحتها أو حسن ظاهرها. قوله: "راكعًا أو ساجدًا" حالان من الضمير الذي في: "أن اقرأ". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك، فاغفر لي فإنك أنت التواب". ش: إسناده صحيح، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر وأبو الضحى مسلم بن صُبيح -بضم الصاد، وفتح الباء الموحدة- الهمداني الكوفي العطاردي روى له الجماعة. ومسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه الجماعة غير الترمذي بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة: فقال البخاري (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". وقال مسلم (¬2): ثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم. قال زهير: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن". وفي لفظ له: "كان رسول الله - عليه السلام - يكثر أن يقول قبل أن يموت: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 274 رقم 761). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 350 رقم 484).

التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ... إلى آخر السورة". وفي لفظ آخر له قالت: "ما رأيت النبي - عليه السلام - منذ نزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} (¬1) يصلي صلاة إلا دعا أو قال فيها: سبحانك ربي وبحمدك، اللهم اغفر لي". وفي لفظ آخر قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: فقلت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه؟! قال: أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) فتح مكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} انتهى. وفي تفسير مقاتل (¬2): عاش رسول الله - عليه السلام - بعد نزولها ستين يومًا. وذكر القرطبي (¬3) وغيره أنها نزلت بمنى أيام التشريق في حجة الوداع. وقال أبو داود (¬4): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى ... إلى آخره نحو رواية البخاري، وفي آخره: "يتأول القرآن". وقال النسائي (¬5): أنا سويد بن نصر، قال: أبنا عبد الله، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. ¬

_ (¬1) سورة النصر. (¬2) "تفسير مقاتل" (4/ 245). (¬3) "تفسير القرطبي" (20/ 213). (¬4) "سنن أبي دواد" (1/ 294 رقم 877). (¬5) "المجتبى" (2/ 219 رقم 1122).

وقال ابن ماجه (¬1): ثنا محمَّد بن الصباح، أنا جرير، عن منصور ... إلى آخره نحوه. قوله: "يتأول القرآن" يعني يعمل ما أمر به في قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬2). ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير وبشر بن عمر الزهراني (حَ) وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالوا: ثنا شعبة، عن منصور ... فذكروا بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الكناسي، قال: ثنا سفيان، عن منصور ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق أخرى في الحديث المذكور وهي أيضًا صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار، عن وهب بن جرير وبشر بن عمر الزهراني البصري، كلاهما عن شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى عن مسروق، عن عائشة. وقد ذكرنا أن البخاري أخرجه من طريق شعبة عن منصور. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". والضمير في "قالوا" يرجع إلى وهب وبشر وأبي داود وكذلك في قوله "فذكروا". الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن محمَّد بن عبد الله بن كناسة الكوفي المعروف بالكناسي وبابن كناسة، وهو لقب أبيه عبد الله بن عبد الأعلى، وثقه يحيى وأبو داود والعجلي، روى له النسائي. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 889). (¬2) سورة النصر.

وهو يروي عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - مما يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن منصور ... إلى آخره نحوه، وفي آخره بعد قول: "يتأول القرآن: يعني {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقول في ركوعه وسجوده، سبوح قدوس رب الملائكة والروح". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة ... فذكر مثله بإسناده. ش: هذان طريقان صحيحان ويحيى بن سعيد هو القطان، ومطرف بن عبد الله بن الشخير والكل رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي. فكالأول أخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمَّد بن بشر، قال: نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، أن عائشة نبأته: "أن رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه. وكالثاني أخرجه النسائي (¬3): أنا بندار محمَّد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان وابن أبي عدي، قالا: ثنا شعبة، عن قتادة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 155 رقم 2878). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 353 رقم 487). (¬3) "المجتبى" (2/ 224 رقم 1134).

وقال أبو داود (¬1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا هشام، عن قتادة، عن مطرف، عن عائشة ... إلى آخره نحوه. قوله: "سبوح قدوس" يرويان بالضم والفتح، والفتح أقيس، والضم أكثر استعمالًا، وقال الخطابي: لم يأت من الأسماء على فُعَّول -بضم الفاء- إلا سبوح وقدوس وقد يفتحان كسَفُّود، وكَلُّوب، وقال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر، وكذلك الروح، وقال أبو الحسن الهنائي: ومعنى سبوح قدوس: تسبيح وتقديس وتعظيم، ويقال: القدوس: الطاهر من العيب. وقال ابن فارس وغيره: معنى السبوح: المسبح أي المبرأ من النقائض والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية، ومعنى القدوس: المقدس أي المطهَّر من كل ما لا يليق بالخالق. وقال الهروي: قيل: القدوس: المبارك. قوله: "رب الملائكة والروح" قيل: الروح: ملك عظيم، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة، وقيل: يحتمل أن يكون جبريل - عليه السلام -، وقيل: الروح صنف من الملائكة، وقيل: يحتمل أن يراد الروح الذي به قوام كل حيّ، أي ربّ الملائكة ورب الروح. فإن قيل: ما موقع قوله: "سبوح قدوس" من الإعراب؟ قلت: هما خبرا مبتدأ محذوف تقديره ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس، وقال القاضي عياض: وقيل فيه: سبوحًا قدوسًا على تقدير أسبح سبوحًا أو أذكر أو أعظم أو أعبد أو نحو ذلك. ص: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا الفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فقدت النبي - عليه السلام - ذات ليلة، فظننت أنه أتى جارية فالتمسته بيدي فوقعت يدي على صدور قدميه وهو ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 293 رقم 872).

ساجد يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت ك ما أثنيت على نفسك". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت ... ثم ذكر مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عمارة بن غزية، قال: سمعت أبا النضر يقول: سمعت عروة يقول: قالت عائشة ... ثم ذكر مثله إلا أنه لم يذكر قوله: "لا أحصي ثناء عليك" وزاد "أثني عليك لا أبلغ كل ما فيك". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي، عن أسد بن موسى وثقه أبو حاتم، عن الفرج بن فضالة بن النعمان أبي فضالة الشامي الحمصي، فيه مقال، فعن يحيى والنسائي: ضعيف. وعن أحمد: ثقة. وعن يحيى: ليس به بأس. وعنه: صالح. وعن البخاري ومسلم: فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد منكر الحديث. وقال أبو حاتم: صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به، حديثه عن يحيى بن سعيد فيه إنكار، وهو في غيره أحسن حالًا، وروايته عن ثابت لا تصح. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، عن عائشة - رضي الله عنها -. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره، وهو مرسل؛ لأن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي لم يسمع عائشة. قال أبو عمر في "التمهيد": وهذا الحديث مرسل في "الموطأ" عند جماعة الرواة، لم يختلفوا عن مالك في ذلك.

وهو يُسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة من طرق صحاح ثابتة. الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم الجمحي المصري، شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن مريم بن غزية بن الحارث المدني، عن أبي النضر -بالضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة - رضي الله عنها -. وهذا إسناد صحيح وهذا الحديث روي عن عائشة من غير وجه. فأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن عائشة قالت: "فقدت رسول الله - عليه السلام - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن سليمان الأنباري، عن عبدة، عن عبيد الله، عن محمَّد بن يحيى بن حبان ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عائشة قالت: "فقدت رسول الله - عليه السلام - ذات ليلة، فوجدته وهو ساجد، وصدور قدميه نحو القبلة، وهو يقول ... " إلى آخره نحوه. وهو مرسل كما ذكرنا. وكذا أخرجه مالك في "موطئه" (¬4): عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 352 رقم 486). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 295 رقم 879). (¬3) "المجتبى" (2/ 222 رقم 1130). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 214 رقم 499).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبيدة بن حميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: "طلبت رسول الله - عليه السلام - ليلة فلم أجده، قالت: فظننت أنه أتى بعض جواريه -أو نسائه- قالت: فرأيته وهو ساجد وهو يقول: اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت". وهذا أيضًا مرسل؛ لأن إبراهيم النخعي لم يسمع عائشة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن عمران: "أن عائشة قامت ذات ليلة تلتمس النبي - عليه السلام - في جوف الليل، قالت: فوقعت يدها على بطن قدم النبي - عليه السلام - وهو ساجد وهو يقول: سبحان ربي ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". قوله: "فقدت" ويروى: "افتقدت" وهما لغتان بمعنًى. قوله: "وهو ساجد" جملة حالية، وكذا قوله: "يقول". قوله: "اللهم ... " إلى آخره قال الخطابي: فيه معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضى والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له، وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب في حق عبادته والثناء عليه. قوله: "لا أحصى ثناء عليك أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به، وقيل معناه: لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء عليك بها وإن اجتهدت في الثناء عليك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 30 رقم 29237). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 156 رقم 2881).

قوله: "أنت كما أثنيت على نفسك" اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته وردَّ ثنائه إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، وكما أنه لا نهاية لصفاف لا نهاية للثناء عليه؛ لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل ثناء أثني به عليه وإن كثر وإن طال وبولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه أيُّ وصفاته أكبر وأكثر وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. وفي هذا الحديث دليل لأهل السنة في جواز إضافة الشر إلى الله تعالى كما يضاف إليه الخير لقوله: أعوذ من سخطك، ومن عقوبتك. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عمارة بن غزية، عن سُمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وأخره، وعلانيته وسره". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال مسلم وغيره، وأبو صالح ذكوان الزيات. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر ويونس بن عبد الأعلى، قالا: أنا ابن وهب ... إلى آخره نحوه. وهذا الحديث قد شارك فيه الطحاوي مسلمًا في رجاله ومتنه جميعًا، وشيخ كل منهما فيه يونس بن عبد الأعلى المصري. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا: عن أحمد بن صالح وابن السرح، كلاهما عن ابن وهب ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 350 رقم 483). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 294 رقم 878).

قوله: "دقه" بكسر الدال: أي قليله، وهو مصدر في الأصل، من دق الشيء إذا لطف. و"جله" بكسر الجيم ... أي كثيره، وهو أيضًا في الأصل مصدر، من جلَّ الشيء إذا عظم. قوله: "دقه وجله ... " إلى آخره: تفصيل بعد إجمال؛ لأنه لما قال: "اغفر لي ذنبي كله" فقد تناول جميع ذنوبه مجملًا ثم فصَّله بقوله: كذا وكذا وفائدته: أن التفصيل بعد الإجمال أوقع وآكد وانتصاب "دقه" على أنه بدل من قوله: "ذنبي" و"جله ... " إلى آخره عطف عليه. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن عمارة بن غزية، عن سُمي موك أبي بكر، عن أبي صالح، عن أتيت هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء". ش: هذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا هارون بن معروف وعمرو بن سواد، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن سلمة، قالوا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): عن محمَّد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو ... إلى آخره نحوه. قوله: "أقرب ما يكون" معناه أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 350 رقم 482). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 294 رقم 875). (¬3) "المجتبى" (2/ 226 رقم 1137).

وقوله: "أقرب ما يكون" مبتدأ حُذف خبره لسدِّ الحال وهو قوله: "وهو ساجد" مسدَّه، مثل قولهم: أحب ما يكون الأمير وهو قائم، وعلم من ذلك خطأ من زعم أن الواو في قوله: "وهو ساجد" زائدة؛ لأنه خبر لقوله: "أقرب" وتحقيق الكلام ها هنا أن "ما" في "ما يكون" مصدرية، والفعل الذي بعدها بمعنى المصدر، وهو بمعنى الجمع هنا لأن أفعل التفضيل يجب أن تكون بعض ما أضيف هو إليه، فتقديره أقرب أكوان العبد من أنه حاصل إذا كان وهو ساجد، ثم حذف الخبر أعني "حاصل"؛ لأن حذف متعلقات الظروف شائع كثير، ثم حذف الظرف أعني إذا كان لدلالة الحال عليه؛ لأن الحال يدل على الوقت والزمان، فالحال يدل على الظرف والظرف على الخبر، فالحال على الخبر لأن الدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء. فإن قيل: ما معنى كون العبد أقرب إلى الله حالة السجود من بين سائر أحواله؟ قلت: لأنه في حالة تدل على غاية تذلل واعتراف بعبودية نفسه وربوبية ربه، فكانت مظنة الإجابة فلذلك أمر - عليه السلام - بإكثار الدعاء في السجود، بقوله "فأكثروا الدعاء" أي في حالة السجود، واستدل بعض العلماء بهذا الحديث أن السجود أفضل من القيام، ومذهب أبي حنيفة أن طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود، وبه قال الشافعي؛ لقوله - عليه السلام -: "أفضل الصلاة: طول القنوت". رواه مسلم (¬1). ومعناه: القيام. وقال محيي الدين النووي: وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: أن تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل، حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة، وممن قال بتفصيل تطويل السجود: ابن عمر - رضي الله عنهما -. والمذهب الثاني: مذهب الشافعي وجماعة أن تطويل القيام أفضل؛ لما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756).

والمذهب الثالث: أنهما سواء. وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة ولم يتعرض فيها بشيء، وقال إسحاق بن راهويه: أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما بالليل فتطويل القيام إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه فتكثير الركوع والسجود أفضل. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا بأس أن يدعو الرجل في ركوعه وسجوده بما أحب، وليس في ذلك عندهم شيء مؤقت، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق وداود، فإنهم قالوا: يدعوا المصلي بما شاء من الأدعية المذكورة في الأحاديث السابقة في صلاته، سواء كانت فرضًا أو نفلًا. وقال ابن قدامة في "المغني": ويقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وإن زاد دعاء مأثورًا أو ذكرًا، ثم ذكر مثل الأدعية في هذا الباب فحسن؛ لأن النبي - عليه السلام - قاله. وقال البيهقي: وقال الشافعي: يسبح كما أمر النبي - عليه السلام - في حديث عقبة، ويقول كما قال في حديث علي - رضي الله عنه -. قلت: حديث عقبة يأتي عن قريب، وحديث عليّ مرَّ في أول الباب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لا ينبغي له أن يزيد في ركوعه على "سبحان ربي العظيم" يرددها ما أحب، ولا ينبغي له أن ينقص في ذلك عن ثلاث مرات، ولا ينبغي له أن يزيد في سجوده على "سبحان ربي الأعلى" يرددها ما أحب، ولا ينبغي له أن ينقص في ذلك عن ثلاث مرات. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والحسن البصريّ وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: السنة للمصلي أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وذلك أدناه، وفي

سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، وذلك أدناه، ولا ينبغي له أن يزيد على ذلك شيئًا" وهو المنقول أيضًا عن عليّ وابن مسعود وحذيفة وعقبة بن عامر - رضي الله عنهم - وذكر الطحاوي في شرحه "للمختصر" يسبح الإِمام ثلاثًا، وقيل: أربعًا ليتمكن المقتدي من الثلاث، وقال الماوردي: أدنى الكمال ثلاث، والكمال إحدى عشرة أو تسع، وأوسطه خمس. وفي بعض شروح "الهداية": إن زاد على الثلاث حتى ينتهي إلى أثنى عشرة فهو أفضل عند الإِمام وعندهما إلى سبع. وقوله: "يرددها" أي يردد كلمة "سبحان ربي العظيم"، أراد أنه يكررها ما شاء فوق الثلاث، غير أنه إذا كان إمامًا لا يزيد على الثلاث إلا مقدار مالًا تحصل المشقة على القوم. قوله: "ولا ينبغي له أن يزيد" هذا في الفرائض، وأما في النوافل فلا بأس به؛ لأن باب النفل أوسع. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر الغافقي، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: "نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬1) قال النبي - عليه السلام -: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬2) قال النبي - عليه السلام -: اجعلوها في سجودكم". حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي، قال: حدثني موسى بن أيوب الغافقي ... فذكر بإسناده مثله ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن عبد الرحمن بن الجارود البغدادي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ القصير، شيخ البخاري، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن عمه إياس بن عامر الغافقي ثم المناري -ومنار بطن من غافق- وثقه ابن حبان وغيره. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [74، 96]، وسورة الحاقة، آية: [52]. (¬2) سورة الأعلى، آية: [1].

عن عقبة بن عامر الجهني الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، وموسى بن إسماعيل -المعنى- قالا: ثنا ابن المبارك، عن موسى -قال أبو سلمة: موسى بن أيوب- عن عمه، عن عقبة بن عامر ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه (¬2)، والحكم في "مستدركه" (¬3). الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن المعروف ببحشل المصري، عن عمه عبد الله بن وهب، عن موسى بن أيوب ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا عمرو بن رافع البجلي، نا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن أيوب الغافقي، قال: سمعت عمي إياس بن عامر يقول: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول ... إلى آخره نحوه. واستدلت به الظاهرية على أن قول سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى في الركوع والسجود فرض؛ للأمر بذلك. قلئا: الأمر ليس للوجوب؛ بقرينة أنه - عليه السلام - لما عَلَّم الأعرابي أركان الصلاة لم يأمره بذلك. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: ثنا موسى بن أيوب، عن إياس بن عامر، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ... فذكر مثله. ش: إسناده صحيح، وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي ثقة، وثقه ابن يونس، ويحيى بن أيوب المصري الغافقي روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 292 رقم 869). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 225 رقم 1898). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 347 رقم 818). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 887).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وكان من الحجة لهم أيضًا: أنه قد يجوز أن يكون ما كان من النبي - عليه السلام - في الآثار الأول إنما كان قبل نزول الآيتين اللتين ذكرتا في حديث عقبة - رضي الله عنه - فلما نزلتا أمرهم النبي - عليه السلام - بما أمر به من ذلك، وكان أمره ناسخًا لما قد تقدم من فعله. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: "أنه قد يجوز ... " إلى آخره، وهذا ظاهر، وهذا في الحقيقة جواب عن الآثار المتقدمة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى. فإن قيل: ما وجه هذا النسخ، والنسخ لا يكون إلا فيما يعلم بالتاريخ فيما بين النصين، فيكون المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم، وأيضًا قوله: "قد يجوز أن يكون ... " إلي آخره احتمال، وقد نص أهل الأصول، أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؟ قلت: قد تكون دلالة التاريخ تقوم مقام التاريخ عينه، كما إذا كان أحد النصين موجبًا للحظر والآخر موجبًا للإباحة، ففي مثل هذا يثبت النسخ بدلالة التاريخ, وهو أن النص الموجب للحظر يكون متأخرًا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة، من ضرورة ذلك يعلم أن الموجب للحظر طارئ عليه متأخر عنه، فيكون ناسخًا له بدلالة التاريخ، وكذلك فيما نحن فيه؛ لأن أمره - عليه السلام - بقوله: "اجعلوها في ركوعكم، اجعلوها في سجودكم" تقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم، فيكون ذلك رفعًا لما كان من فعله، وهذا هو النسخ، وهذا الذي لاح لي في هذا المقام من الأنوار الربانية والأسرار الرحمانية. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا أنه كان يقول في ركوعه وسجوده ما أمر به في حديث عقبة كما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر وبشر بن عمر، قالا: ثنا شعبة، عن سليمان، عن سعد بن عبيدة، عن المستورد، عن صلة بن زفر، عن حذيفة: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام - ذات ليلة، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى".

حدثنا فهد، قال: ثنا سحيم الحراني، قال: ثنا حفص بن غياث، عن مجالد، عن الشعبي، عن صلة، عن حذيفة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا". ش: لما بين احتجاج أهل المقالة الثانية بما أمر به في حديث عقبة بن عامر وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنها -، بين أيضًا ما فعله - عليه السلام - بنفسه مما أمر به، فيكون ما احتج به هؤلاء أقوى لما فيه من قول الرسول - عليه السلام - وفعله، وما احتج به أهل المقالة الأولى هو فعله فقط، ولا شك أن فعله إذا اجتمع مع قوله يكون أقوى وآكد، وهذا في نفس الأمر جواب أخر عن احتجاج أهل المقالة الأولى. وأخرج حديث حذيفة من طريقين: الأول: صحيح على شرط مسلم، عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، وبشر بن عمر الزهراني، كلاهما عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن سعد بن عبيدة السلمي أبي حمزة الكوفي، عن المستورد بن الأحنف الكوفي، عن صلة بن زفر العبسي الكوفي، عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. وأخرجه الأربعة؛ فأبو داود (¬1): عن حفص بن عمر، عن شعبة، قال: قلت لسليمان: أدعو في الصلاة إذا مررت بآية تخوف؟ فحدثني عن سعد بن عبيدة، عن مستورد، عن صلة بن زفر، عن حذيفة: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام -، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ". والترمذي (¬2): عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 292 رقم 871). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 48 رقم 262).

والنسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن المستورد، عن صلة، عن حذيفة قال: "صليت مع رسول الله - عليه السلام - ذات ليلة، فاستفتح سورة البقرة فقرأ بمائة آية، قلت: يركع، فمضى، قلت: يختمها في الركعتين، فمضى، فقلت: يختمها ثم يركع، فمضى حتى قرأ سورة النساء، ثم آل عمران، ثم ركع نحوًا من قيامه، يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وأطال القيام، ثم سجد فأطال السجود، يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله إلا ذكره". وابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن رمح المصري، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبي الأزهر، عن حذيفة بن اليمان: "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، وإذا سجد: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن القاسم الحراني المعروف بسحيم، عن حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد الكوفي، فيه مقال؛ فعن يحيى بن سعيد القطان: في نفسي منه شيء. وعن أحمد: ليس بشيء؛ يرفع حديثا كثيرًا لا يعرفه الناس. وعن يحيى بن معين: لا يحتج بحديثه. وعن أبي حاتم: ليس بقوي الحديث. عن عامر الشعبي، عن صلة بن زفر، عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬3): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، ثنا عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 224 رقم 1133). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 888). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 341 رقم 1).

صلة، عن حذيفة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثًا، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثًا". انتهى. قلت: قوله: "وبحمده" زيادة في رواية الدارقطني، قال أبو داود: أخاف أن لا تكون محفوظة. وفي "المغني": روى أحمد بن نصر، عن أحمد بن حنبل، أنه سئل عن تسبيح الركوع والسجود، سبحان ربي العظيم أعجب إليك أو سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: قد جاء هذا وجاء هذا، وما أدفع منه شيئًا. وروي عن أحمد أنه قال: أما أنا فلا أقول: "وبحمده". وقيل: يحتمل أن أحمد قال ذلك؛ لأن هذه الزيادة من رواية ابن أبي ليلى وهو ضعيف عنده، وحكى ابن المنذر هذا عن الشافعي أيضًا وعن أصحاب الرأي. ص: فهذا أيضًا قد دلّ على ما ذكرنا من وقوفه على دعاء بعينه في الركوع والسجود. ش: أشار بهذا إلى حديث حذيفة - رضي الله عنه - أي هذا أيضًا قد دل على أن النبي - عليه السلام - قد وقف في الركوع والسجود على دعاء معين، وهو قوله: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، فحينئذٍ فلا يتعدى عليه، ولا ينقص من ثلاث مرات، وأن كل ما ورد في غيره من الأدعية فمحمول على النوافل. ص: وقال آخرون: أما الركوع فلا يزاد فيه على تعظيم الرب، وأما السجود فيجتهد فيه في الدعاء، واحتجوا في ذلك بحديثي علي وابن عباس - رضي الله عنهم - اللذين ذكرناهما في الفصل الأول. ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن المبارك ومالكًا ومن تبعهما من الفقهاء؛ فإنهم ذهبوا إلى حديثي علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس المذكورين في أول الباب، وقالوا: أما الركوع فلا يزاد فيه على تعظيم الرب على معنى لا يدعى فيه، ولكن يذكر الله تعالى بأنواع التعظيم، وأما السجود فيجتهد فيه في الدعاء.

قال القاضي عياض: ذهب مالك إلى قوله - عليه السلام -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء ... ". الحديث، وكره القراءة في الركوع وكره الدعاء في الركوع، وأباحه في السجود اتباعًا للحديث. وفي "الأحكام" لابن بزيزة: وروينا عن ابن المبارك أنه قال: "إنه لَيُعْوِزني الملح للقدر، فأدعو الله به في سجودي في الصلاة". ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أنهم قد جعلوا قول النبي - عليه السلام -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ناسخًا لما قد تقدم من أفعاله قبل ذلك في الأحاديث الأُول، فيحتمل أن يكون أمره بالتعظيم في الركوع لما نزلت عليه {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬1) وأباح الدعاء في السجود بما أحبوا قبل أن تنزل عليهم: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬2) فلما نزل عليه ذلك أمرهم بأن ينتهوا إليه في سجودهم -على ما في حديث عقبة- ولا يزيدون عليه، فصار ذلك ناسخًا لما قد تقدم منه قبل ذلك، كما كان الذي أمرهم به في الركوع عند نزول {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ناسخًا لما كان منه قبل ذلك. ش: أي فكان من الحجة على الآخرين الذين قالوا: "لا يزاد في الركوع على تعظيم الرب ... " إلى، آخره، وأراد بهذا: الجواب عما قالوا والرد عليهم. بيانه: أن هؤلاء قد جعلوا قوله - عليه السلام -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ناسخًا لما كان النبي - عليه السلام - يفعله قبل ذلك مما ذكر في الأحاديث التي مضى ذكرها في أول الباب، وذلك نحو قوله: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ... " إلى آخره، هذا وجه استدلالهم فيما ذهبوا إليه، ومنع ذلك الطحاوي وبين وجهه حيث قال: "فيحتمل أن يكون أمره بالتعظيم في الركوع ... " إلى آخره بيانه: أن أمره - عليه السلام - بالتعظيم في الركوع بقوله: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" يحتمل أن يكون حين نزلت عليه ¬

_ (¬1) سورة الوا قعة، آية: [74، 96]، وسورة الحاقة، آية: [52]. (¬2) سورة الأعلى، آية: [1].

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬1) فيكون القائل في ركوعه: سبحان ربي العظيم معظمًا لربه في ركوعه، وكان الدعاء في السجود مباحًا لهم بأي شيء دعوا وبأي دعاء شاءوا قبل نزول قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} بقتضى ما ورد عنه - عليه السلام - في ذلك، فلما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬2) أمرهم بأن يقولوا ذلك في سجودهم، ويقتصرون عليه ولا يزيدون شيئًا؛ لما في حديث عقبة بن عامر الجهني، فيصير هذا ناسخًا لما كان منه قبل ذلك مما كان يقوله ويدعو به في سجوده، كما كان الذي أمرهم به في الركوع عند نزول قوله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ناسخًا لما كان منه قبل ذلك، وجه النسخ في هذا قد بيناه عن قريب. ص: فإن قال قائل: إنما كان ذلك من النبي - عليه السلام - بقرب وفاته لأن في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: كشف النبي - عليه السلام - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه -. قيل له: فهل في الحديث أن تلك الصلاة هي الصلاة التي توفي رسول الله - عليه السلام - بعقبها، أو أن تلك المرضة هي مرضته التيم توفي فيها، ليس في الحديث منها شيء، فقد يجوز أن تكون هي الصلاة التي توفي بعقبها، ويجوز أن تكون صلاة غيرها وقد صح بعدها، فإن كانت هيم الصلاة التي توفي بعدها فقد يجوز أن تكون {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} نزلت عليه بعد ذلك قبل وفاته، وإن كانت تلك الصلاة متقدمة لذلك فهو أحرى يجوز أن يكون بعدها. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن قوله - عليه السلام -: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". كان بقرب موته - عليه السلام - بدليل قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كشف النبي - عليه السلام - الستارة ... " الحديث، فإذا كان الأمر كذلك؛ يكون هذا متأخرًا، فكيف يكون منسوخًا؟. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [74، 96]، وسورة الحاقة، آية: [52]. (¬2) سورة الأعلى، آية: [1].

وتقرير الجواب أن يقال: ليس في الحديث ما يدل على أن تلك الصلاة التي خرج إليها رسول الله - عليه السلام - بعد كشف الستارة هي الصلاة التي توفي رسول الله - عليه السلام - عقيبها، وليس فيه أيضًا أن مرضته الستلا تلك هي المرضة التي توفي فيها رسول الله - عليه السلام -، ولكن يحتمل أن تكون هي الصلاة التي توفي عقبها، ويحتمل أن لا يكون ذلك، بل قد صح بعدها - عليه السلام -، فإن كانت هي الصلاة التي توفي عقبها، فقد يحتمل أن يكون قوله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} نزل عليه بعد ذلك قبل وفاته، وإن كانت تلك الصلاة متقدمة فبالطريق الأولى أن يكون ذلك. فعلى كلا التقديرين يثبت النسخ، والله أعلم. وقد شنع البيهقي في كتابه "المعرفة" (¬1) في هذا المقام على الطحاوي، وقال: روى الطحاوي ما روينا ها هنا، وفي كتاب "السنن" من الأحاديث فيما يقال في الركوع والسجود، ثم ادعي نسخها بحديث عقبة بن عامر الجهني؛ فكأنه عرض بقلبه حديث سليمان بن سحيم بإسناده عن ابن عباس، في الأمر بالدعاء في السجود، وأن ذلك كان من النبي - عليه السلام - مرض موته حين كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له" ثم ذكر ما روينا في إسناد الشافعي، فتحير في الجواب عنه، فأتى بكلام بارد، فقال: يجوز أن تكون {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬2) نزلت عليه بعد ذلك قبل وفاته، ولم يعلم أن هذا القول صدر من النبي - عليه السلام - غداة يوم الاثنين، والناس صفوف خلف أبي بكر - رضي الله عنه - في صلاة الصبح، كما دل عليه حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - (¬3)، وهو اليوم الذي توفي فيه، وقد روينا في الحديث الثابت (¬4): عن النعمان بن بشير: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (1/ 568). (¬2) سورة الأعلى. (¬3) "أخرجه مسلم" (1/ 315 رقم 419). (¬4) أخرجه مسلم (2/ 598 رقم 878).

حديث الغاشية، وإذا اجتمعا في يوم واحد يقرأ بهما". وقد روينا (¬1) عن سمرة بن جندب قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في العيدين {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬2) " وفي رواية أخرى (¬3): "في صلاة الجمعة" وفي هذا دلالة على أن {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} كان قد نزل قبل ذلك بزمان كثير، وروينا عن البراء بن عازب في الحديث الطويل (¬4) في هجرة النبي - عليه السلام - قال: "فما قدم يعني رسول الله - عليه السلام - المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل. وروينا في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه (¬5) - في قصة من خرج في صلاته حين افتتح سورة البقرة أن النبي - عليه السلام - أمره أن يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحو ذلك، وكان هذا أيضًا قبل مرضه بكثير، وقد تحير صاحب هذه المقالة في خبر معاذ، وصار أمره إلى أن حمله في مسألة "الفريضة خلف التطوع" على أن ذلك كان في وقت تصلى فيه الفريضة الواحدة في يوم واحد مرتين وذلك في زعمه في أول الإسلام، فنزول {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} عنده إذن في تلك المسألة في أول الإسلام، وفي هذه المسألة في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - عليه السلام -، ليستقيم قوله في الموضعين، وهذا شأن من يسوي الأخبار على مذهبه، ويجعل مذهبه أصلًا، وأحاديث رسول الله - عليه السلام - تبعًا، والله المستعان، ومشهور فيما بين أهل التفسير أن سورة سبح اسم ربك الأعلى، وسورة الواقعة والحاقة اللتين فيهما {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} نزلن بمكة وهو فيما رويناه عن الحسن البصري وعكرمة وغيرهما فكيف استجاز هذا الشيخ ادعاء نسخ ما ورد في ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1/ 547 رقم 1774)، وأحمد (5/ 7 رقم 20092)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 294 رقم 5989). (¬2) سورة الغاشية. (¬3) أخرجها أبو داود (1/ 362 رقم 1125)، والنسائي (3/ 111 رقم 1422)، وأحمد (5/ 13 رقم 20162). (¬4) أخرجه البخاري (3/ 1428 رقم 3710). (¬5) تقدم

حديث ابن عباس من قول النبي - عليه السلام - وأمره بالدعاء في السجود في مرض موته بما نزل قبله بدهر طويل بالتوهم والله أعلم. قلت: قول البيهقي: "فأتى بكلام بارد ... " إلى آخره تشنيع بارد صادر عن أريحية تعصب؛ لأن الطحاوي إنما قال: قد يجوز أن تكون هي الصلاة التي توفي بعقبها إلى آخره في حديث ابن عباس؛ لأن حديث ابن عباس ساكت عن بيان وفاته - عليه السلام - في مرضه ذلك أو في يومه الذي قال فيه ذلك، وإنما بيانه ذلك جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو ما رواه مسلم وغيره. فقال مسلم (¬1): حدثني عمرو الناقد وحسن الحلواني وعبد بن حميد -قال عبد: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب وهو ابن إبراهيم بن سعد، قال: فحدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلي لهم في وجع رسول الله - عليه السلام - الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله - عليه السلام - ستر الحجرة، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله - عليه السلام - ضاحكًا، فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله - عليه السلام - ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله - عليه السلام - خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله - عليه السلام - بيده: أن أتموا صلاتكم، قال: ثم دخل رسول الله - عليه السلام - فأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله - عليه السلام - من يومه ذلك". انتهى. فهذا ليس فيه ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في حديثه من قوله: "أما الركوع فعظموا فيه الرب ... " إلى آخره، ولا فيه ما في حديث أنس من بيان وفاته - عليه السلام - في ذلك اليوم؛ فعلمنا أن الحديثين متغايران فمن أين يورد البيهقي عليه ويقول: ولم يعلم أن هذا القول صدر من النبي - عليه السلام - غداة يوم الاثنين والناس صفوف خلف أبي بكر في صلاة الصبح كما دل عليه حديث أنس - رضي الله عنه - فلا نسلم دلالة حديث أنس على أن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 315 رقم 419) وقد تقدم.

قضية حديث ابن عباس بعينها هي ابن حديث أنس، فلم لا يجوز أن يكون حديث ابن عباس قبل ذلك بزمان، فما المانع من ذلك وكلام الطحاوي مبني على هذا الاحتمال، ثم روايته عن النعمان بن بشير وغيره مما يدل على أن سبح اسم ربك الأعلى، وسبح اسم ربك العظيم، قد نزلتا قبل ذلك بزمان لا يضر الطحاوي، ولا ينافي كلامه؛ لأن حديث ابن عباس إذا كان محتملًا أن يكون قبل حديث أنس، يكون محتملًا أيضًا أن يكون قبله بزمان طويل، فحينئذ يكون نزول الآيتين بعد حديثه قبل وفاته - عليه السلام - بمدة طويلة. فإن قيل: سلمنا ما ذكرت هذا, ولكن ما تقول في قوله: "ومشهور بين أهل التفسير أن سورة سبح اسم ربك الأعلى، وسورة الواقعة والحاقة اللتين فيهما قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} نزلن بمكة، فإذا كان كذلك يكون نزول هاتين الآيتين قديمًا، ولا شك أن حديث ابن عباس مدني، فكيف يكون منسوخًا بنص متقدم قبله بدهر طويل؟ قلت: يجوز أن تكون السور المذكورة مكية والآيتين مدنيتين، أو يكون الناسخ لذلك هو قوله - عليه السلام -: اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم, لا نفس الآيتين المتقدمتين في النزول. فإن قيل: قوله - عليه السلام -: "اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم" إنما كان عند نزول الآيتين فيكون هذا أيضًا متقدمًا. قلت: يمكن أن يكون قوله - عليه السلام - ذلك بعد نزول الآيتين بزمان، بل الظاهر هذا أنه بعد نزولهما بمدة، والدليل عليه أن عقبة بن عامر الجهني راوي هذا الحديث أسلم بالمدينة، والآيتان على ما قال البيهقي: مكيتان، فكيف يكون قوله - عليه السلام - ذلك حين نزول الآيتين؟ وكيف تصح أخبار عقبة بذلك والحال أنه لم يكن حاضرًا وقت نزول الآيتين، ولا كان مسلمًا حينئذٍ؟! فعلمنا أن قوله - عليه السلام - بذلك كان متأخرًا حتى أخبر به عقبة، فإذا كان متأخرًا يكون ناسخًا لما كان من فعله - عليه السلام - مما كان يدعو به في

الركوع والسجود، على ما ذكرنا، ثم الدليل على أن عقبة أسلم بالمدينة ما قاله ابن الأثير في "معرفة الصحابة" (¬1) روى عنه أبو عُشانة أنه قال: "قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركتها ثم ذهبت إليه، فقلت: تبايعني يا رسول الله، قال: فمن أنت؟ فأخبرته فقال: أيهما أحب إليك؛ تبايعني بيعة أعرابية أو بيعة هجرة؟ قلت: بيعة هجرة، فبايعني" (¬2). فإن قيل: يجوز أن يكون عقبة - رضي الله عنه - حاكيًا للحديث المذكور عمن سمعه من الصحابة من غير حضور منه على ذلك. قلت: صرح في حديثه بقوله: "لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬3) قال لنا رسول الله - عليه السلام -: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬4) قال لنا رسول الله - عليه السلام -: اجعلوها في سجودكم" (¬5) فهذا يرد هذا الاحتمال على ما لا يخفى، ولما طرق سمعي ما نقلته من البيهقي وحطه على الطحاوي صَعُب ذلك شديدًا لا لأجل أنه من أكابر أئمة أصحابنا ولا لأجل أني متعصب له، وإنما ذلك لأجل تعصبه عليه بغير طريق وحطه عليه بغير وجه في غير موضع من كتابه، ولم أجد أحدًا أجاب عنه، ففكرت فيه ساعة مديدة، فلم يفتح لي شيء، ثم صليت على سيد الخلق نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عشر مرات، فكأن ما ذكرته قد صُبَّ في خلدي دفعة واحدة فجرى ذلك على جناني ثم جرى ببناني على البيان، ولله الحمد والمنة، على هذا الفضل والإحسان. ¬

_ (¬1) "أسد الغابة" (1/ 775). (¬2) وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبري" (17/ 304 رقم 839). (¬3) سورة الواقعة، آية: [74، 96]، وسورة الحاقة، آية: [52]. (¬4) سورة الأعلى، آية: [1]. (¬5) أخرجه ابن ماجه (1/ 287 رقم 887) , وأحمد (4/ 155 رقم 17450)، والبيهقي (2/ 86 رقم 2388).

ص: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار، وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأينا مواضع في الصلاة فيها ذكر، فمن ذلك التكبير للدخول في الصلاة، ومن ذلك التكبر للركوع والسجود والقيام من القعود، فكان ذلك التكبير تكبيرًا قد وقف العباد عليه وعلموه، ولم يجعل لهم أن يجاوزوه بلى غيره، ومن ذلك ما يشهدون به في القعود، فقد علموه ووقفوا عليه ولم يجعل لهم أن يأتوا مكانه بذكر غيره؛ لأن رجلًا لو قال مكان قوله: الله أكبر: الله أعظم أو الله أجل. كان في ذلك مسيئًا، ولو تشهد رجل بلفظ مخالف للفظ التشهد الذي جاءت به الآثار عن رسول الله - عليه السلام - وأصحابه كان في ذلك مسيئًا، وكان بعد فراغه من التشهد الأخير قد أبيح له من الدعاء ما أحب، فقيل له فيما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب"، فكان قد وقف في كل ذكر على ذكر بعينه ولم يجعل له مجاوزته بلى ما أحب، إلا ما وقف عليه من ذلك، وإن استوى ذلك في المعنى، فلما كان في الركوع والسجود قد أجمع على أن فيهما ذكرًا، ولم يجمع أنه أبيح له فيهما كل الذكر، كان النظر على ذلك أن يكون ذلك الذكر كسائر الذكر في صلاته من تكبيره، وتشهده، وقوله: سمع الله لمن حمده، وقول المأموم: ربنا ولك الحمد، ويكون ذلك قولًا خاصًّا لا ينبغي لأحد مجاوزته إلى غيره، كما لا ينبغي له في سائر الذكر الذي في الصلاة، ولا يكون له مجاوزة ذلك إلى غيره إلا بتوقيف من الرسول - عليه السلام -، له على ذلك؛ فثبت بذلك قول الذين وقتوا في ذلك ذكرًا خاصًّا وهم الذين ذهبوا بلى حديث عقبة - رضي الله عنه - ما فصل فيه من القول في الركوع والسجود، وهذا قول أبي حنيفة وأي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: خلاص هذا أن الصلاة فيها أذكار متعينة لم يُجعل للمصلي أن يتعداها إلى غيرها، كتكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع والسجود، والتشهد؛ فإن هذه أذكار متعينة، حترل لو أقول بذكر يشابه واحدًا من ذلك في معناه، يكون مسيئًا وإن كان لا تفسد به صلاته، وفيها ذكر غير متعين كالأدعية بعد الفراغ من التشهد الأخير، بتخيير له من الشارع بقوله: "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب". ولما كان الإجماع على

أن في الركوع والسجود ذكرًا, ولكن لم يجمع على أنه يأتي فيهما بكل الذكر، لعدم التوقيف فيه؛ فكان النظر والقياس على ذلك أن يكون ذكرهما كسائر الأذكار المتعينة، نحو التكبير والتشهد والتسميع والتحميد، ويكون ذلك قولًا خاصًّا لا ينبغي لأحد مجاوزته إلى غيره، كما ليس له ذلك فيما ذكرنا من الأذكار إلا ما فيه توقيف من الرسول - عليه السلام -. قوله: "قد وقف العباد عليه" جملة وقعت صفة لقوله: "تكبيرًا". قوله: "كان في ذلك مسيئًا" لعدم إتيانه بما أتى به الشرع، ولكن لا تفسد صلاته لما ذكرنا. قوله: "فقيل له" أي قيل للمصلى فيما روي عن عبد الله بن مسعود، ويأتي ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: "فثبت بذلك" نتيجة ما قبله من الكلام. قوله: "الذين وقتوا" أي عينوا. قوله: "على ما فصل فيه" أي ميز وبين، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: وأين جعل للمصلي أن يقول بعد التشهد ما أحب؟ قيل له: في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدثنا بذلك أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن شقيق، عن عبد الله قال: "كنا نقول خلف رسول الله - عليه السلام - إذا جلسنا في الصلاة: السلام على الله وعلى عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن الله -عز وجل- هو السلام، فلا تقولوا هكذا، ولكن قولوا ... " فذكر التشهد على ما ذكرناه في غير هذا الموضع عن ابن مسعود، قال: "ثم ليتخير أحدكم بعد ذلك أطيب الكلام أو ما أحب من الكلام". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ما نقول بين كل ركعتين غير أن

نسبح ونكبر ونحمد ربنا -عز وجل-، وإن محمدًا - عليه السلام - أوتي فواتح الكلم وجوامعه -أو قال: وخواتمه- فقال: إذا قعدتم في الركعتين فقولوا -فذكر التشهد- ثم يتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به ربه -عز وجل-". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الفضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن شقيق، عن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، غير أنه قال: "ثم ليختر من الكلام بعدُ ما شاء" فابيح له ها هنا أن يختار من الدعاء ما أحب؛ لأن ما سواه من الصلاة بخلافه من ذلك ما ذكرنا من التكبر في مواضعه ومن التشهد في موضعه ومن الاستفتاح في موضعه، ومن التسليم في موضعه؛ فجعل ذلك ذكرا خاصًّا غير متعدٍّ إلى غيره، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الذكر في الركوع والسجود ذكرًا خاصًّا لا يتعدى إلى غيره، والله أعلم. ش: لما قال: فيما قبل هذا عن قريب؛ فقيل له: فيما روى ابن مسعود عن النبي - عليه السلام -: "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب" بين ذلك ها هنا بتخريجه الحديث. فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك النبي - عليه السلام - ولم يره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين ما خلا أبا بكرة. وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: "كنا إذا كنا مع النبي - عليه السلام - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - عليه السلام -: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 287 رقم 800).

فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخهير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به". وقال مسلم (¬1): ثنا زهير به بن حرب وعثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم- قال إسحاق: أنا، وقال الآخران:- ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله - عليه السلام -: السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء". وفي لفظ (1): "أو أحب". وقال أبو داود (¬2): نا مسدد، ثنا يحيى ... إلى آخره نحو رواية البخاري، غير أن فيه: "كنا إذا جلسنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده". وزيادة لفظ: "صالح" بعد قوله: "كل عبد". والباقي مثله سواء. وقال الترمذي (¬3): ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود قال: "علَّمنا رسول الله - عليه السلام - إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: التحيات لله والصلوات ... " إلى آخره، وليس في روايته: "ثم ليتخير أحدكم". وقال النسائي (¬4): أنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن الأشجعي ... إلى آخره نحو رواية الترمذي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 301 رقم 402). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 318 رقم 968). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 81 رقم 289). (¬4) "المجتبى" (2/ 237 رقم 1162).

وقال أيضًا (¬1): أنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدث، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وإن محمدًا - عليه السلام - عُلِّم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله ... " إلى آخره "وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع الله -عز وجل-". وقال ابن ماجه (¬2): نا محمَّد بن عبد الله بن نمير، نا أبي، نا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود. (ح) وثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا يحيى بن سعيد، نا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنا إذا صلينا مع النبي - عليه السلام - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل وميكائيل، وعلى فلان وفلان -يعنون الملائكة- فسمعنا رسول الله - عليه السلام - نقول ذلك، فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلستم فقولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- فإنه إذا قال ذلك أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الكوفي، عن عبد الله ... إلى آخره. وأخرج النسائي (¬3) نحوه كما ذكرناه آنفًا. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أسد بن موسى، عن الفضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 238 رقم 1163). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 290 رقم 899). (¬3) تقدم.

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا عبدان بن أحمد، نا إسماعيل بن زكرياء الكوفي، ثنا فضيل بن عياض، عن الأعمش ومنصور، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله ... الحديث. وأخرجه من وجوه كثيرة. قوله: "السلام على الله " مقول القول، والألف والسلام فيه لاستغراق الجنس، أي كل واحدٍ واحدٍ من أفراد السلام على الله وقد بين - عليه السلام - أن السلام اسم من أسماء الله تعالى ومعناه: السالم من النقائض وسمات الحدث، ومن الشريك والند، وقيل: بمعنى المسلم لأوليائه، وقيل: المسلم عليهم. قوله: "السلام على فلان وفلان" يعنون بهم الملائكة كما صرح به في رواية ابن ماجه. قوله: "على ما ذكرناه في غير هذا الموضع" أراد به: باب التشهد في الصلاة كيف هو على ما يجيء. قوله: "أو ما أحب من الكلام" شك من الراوي فلأجل هذا اللفظ أخرج هذا الحديث ها هنا، وإلا فموضعه باب التشهد على ما يجيء إن شاء الله تعالى، وهذا فيه دليل صريح على أن الدعاء بعد التشهد غير مؤقت، وذلك لأن الشارع خيره في ذلك، حتى ذهب الشافعي إلى أنه يجوز له أن يدعو بما شاء من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثمًا، وقال أصحابنا: لا يجوز إلا الدعوات المأثورة الواردة في القرآن أو السنة؛ لأن الدعاء من أمور الدنيا مثل قوله: اللهم زوجني فلانة، أو ارزقني ألف دينار من كلام الناس، وقد صح في الحديث أن أهذه، (¬2) الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، وسيجيء تحقيق الكلام في هذا الحديث في بابه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 41 رقم 9889). (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

قوله: "أوتي فواتح الكلم" الفواتح جمع فاتحة، وأراد بها ما يسّر الله له من البلاغة والفصاحة والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي لم تفتح على غيره وتعذرت، وهذا كما في قوله في الحديث الآخر: "أتيت مفاتيح -وفي رواية: مفاتح- الكلم" (¬1). قوله: "وجوامعه" جمع جامعة أي كلمة جامعة، وأراد بها القرآن الذي جمع الله بلطفه في الألفاظ اليسيرة معاني كثيرة. قوله: "وخواتمة" جمع خاتمة، وأراد بها ما يختم به الكلام على حسن الاختتام بعد انتهاء المقاصد، بأبلغ العبارات، وأكمل الإشارات، وأوضح الدلالات. قوله: "فأبيح له ها هنا" أي في التشهد في آخر الصلاة، والباقي ظاهر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6/ 2568 رقم 6597) بلفظ: "أعطيت مفاتيح ... ".

ص: باب: الإمام يقول سمع الله لمن حمده هل ينبغي له أنا يقول بعدها: ربنا لك الحمد أم لا؟

ص: باب: الإمام يقول سمع الله لمن حمده هل ينبغي له أنا يقول بعدها: ربنا لك الحمد أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الإِمام هل يجمع بين سمع الله لمن حمده وبين ربنا لك الحمد، أم يكتفي على قوله: سمع الله لمن حمده؟ ومعنى سمع الله: أجاب، وهذا مجاز عن الإجابة، والهاء فيه للسكتة والاستراحة، لا للكناية حتى لا يجوز فيه إلا الوقف، ونصّ في "فتاوى المناقبي": أنه إذا حرك الهاء تفسد صلاته و"ربنا" منصوب على أنه منادى حذف حرف النداء منه، والواو في "ربنا ولك الحمد" قيل: إنها زائدة، وقيل: عاطفة، تقديره: ربنا حمدناك ولك الحمد، وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن هذه "الواو" فقال: هي زائدة، ومذهب أبي حنيفة حذف الواو، كما وقع في حديث عبد الله بن أبي أوفى الذي أخرجه مسلم وغيره كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال صاحب "المحيط": اللهم ربنا لك الحمد أفضل؛ لزيادة الثناء، وعن أبي حفص: لا فرق بين قوله: "لك، وبين قوله: "ولك" وعند الشافعي يأتي "الواو" ولو أسقطها جاز. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام وأبو عوانة وأبان، عن قتادة، عن يونس بن جُبير، عن حطان بن عبد الله، عن أي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فقال: إذا بر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق جميعًا، قالا: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ... فذكر بإسناده مثله.

ش: هذان إسنادان صحيحان، ذكرهما الطحاوي بعينهما في باب: الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟ غير أنه اقتصر هناك في متن الإسناد الأول على قوله: "إذا كبر الإِمام وسجد فكبروا واسجدوا" وزاد هنا البقية، مع زيادته في نفس الإسناد: أبا عوانة الوضاح اليشكري وأبان بن يزيد العطار، وكذا زاد ها هنا في نفس الإسناد الثاني: أبا بكرة بكّار القاضي، وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه مطولًا ومختصرًا (¬1). قوله: "يسمع الله لكم" أي يستجيب لكم، كما يقال: السلطان سمع كلام فلان، أي أجاب إلى كلامه. ويستفاد منه أحكام: الأول: استدل به أبو حنيفة على أن المقتدي يكبر مقارنًا لتكبير الإمام لا يتقدم ولا يتأخر؛ لقوله إذا كبر الإِمام فكبروا؛ لأن "الفاء" للحال، وقال أبو يوسف ومحمد: والأفضل أن يكبر بعد فراغ الإِمام من التكبير؛ لأن "الفاء" للتعقيب، وإن كبر مع الإِمام أجزأه عند محمد -رواية واحدة- وقد أساء، وكذلك في أصح الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية: لا يصير شارعًا، ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله كاقتران حركة الخاتم والإصبع، والبعدية على قولهما أن يوصل "ألف" الله بـ"راء" أكبر. وقال شيخ الإسلام جواهر زاده: قول أبي حنيفة أدق وأجود وقولهما أرفق وأحوط. ثم قيل: الخلاف في الجواز، والفتوى أنه في الأفضلية، وقول الشافعي كقولهما، وقال الماوردي: إن شرع في تكبير الإحرام قبل فراغ الإِمام منها لم تنعقد صلاته، ¬

_ (¬1) تقدم.

ويركع بعد شروع الإِمام في الركوع، فإن قارنه أو سابقه فقد أساء، ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه بطلت صلاته إلا أن ينوي المفارقة ففيه خلاف مشهور. الثاني: أن "الفاء" في قوله: "فاركعوا" وفي قوله: "فاسجدوا" تدل على التعقيب وتدل على أن المقتدي لا يجوز له أن يسبق الإِمام بالركوع والسجود، حتى إذا سبقه فيهما ولم يلحقه الإِمام فسدت صلاته. الثالث: فيه فرضية التكبير -أعني تكبيرة الافتتاح- وفرضية الركوع والسجود بقوله: "فكبروا"، "فاركعوا"، "فاسجدوا" لأنها أوامر تدل على الوجوب. فإن قيل: هلَّا توجب التحميد لقوله: "فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد" وهو أيضًا أمر، وما الفرق بين الأمرين؟ قلت: قامت قرينة على عدم الوجوب ها هنا، وهي أن النبي - عليه السلام - لما علَّم الأعرابي أركان الصلاة لم يأمره أن يقول: ربنا لك الحمد، ولا سمع الله لمن حمده، فدل ذلك على أنهما من سنن الصلاة. الرابع: فيه أن الإِمام يكتفي بالتسميع، وبه قال أبو حنيفة على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه، غير أنه لم يذكر قوله: "سمع الله لكم ... " إلى آخر الحديث. حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن مصعب بن محمَّد القرشي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء العامري الطائفي، عن أبي علقمة المصري مولى بني هاشم، ويقال مولى عبد الله بن عباس، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة (ح) ونا عبيد الله بن معاذ -واللفظ له- قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن يعلى وهو ابن عطاء، سمع أبا علقمة، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما جعل الإِمام جُنَّة فإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه". الثاني: عن أبي بكرة أيضًا وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن سعيد بن عامر الضبعي، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الدارمي في "سُننه" (¬2): أنا يزيد بن هارون، أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قال: سمع الله لمن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 310 رقم 416). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 343 رقم 1311).

حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون". الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد البصري، عن مصعب بن محمد بن شرحبيل المكي، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة نحوه. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم -المعنى- عن وهيب، عن مصعب بن محمَّد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد -قال مسلم: ولك الحمد- وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة. وهؤلاء كلهم رجال "الصحيح". وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه: فالبخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬4): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 220 رقم 603). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 274 رقم 763). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 306 رقم 409). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 285 رقم 848).

والترمذي (¬1): عن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك، وليس في روايته "اللهم". والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن مالك نحو رواية الترمذي. قوله: "فإنه" أي فإن الشأن. قوله: "من وافق قوله قول الملائكة" يعني في قوله "آمين" في زمن واحد، وقيل: الموافقة بالصفة من الإخلاص والخشوع، وقيل: موافقته إياهم: دعاؤه للمؤمنين كدعاء الملائكة لهم، وقيل: الموافقة: الإجابة، أي فمن استجيب له كما يستجاب لهم، وهو بعيد. وقيل: هي إشارة إلى الحفظة وشهودها الصلاة مع المؤمنين، فنُؤمِّن إذا أمن الإمام، فمن فعل فعلهم وحضر حضورهم الصلاة، وقال قولهم؛ غفر له. والقول الأول أولى. وقال الخطابي: وفيه دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا القول، ويستغفرون ويحضرون بالدعاء والذكر. ص: فذهب قوم إلى أن هذه الآثار قد دلتهم على ما يقول الإمام والمأموم جميعًا، وأن قول النبي - عليه السلام -: "سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد" دليل على أن سمع الله لمن حمده يقولها الإمام دون المأموم، وأن "ربنا لك الحمد" يقولها المأموم دون الإمام، وممن ذهب إلى هذا القول أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد ومالكًا وعبد الله بن وهب وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: إن الإمام يكتفي بالتسميع، والمأموم بالتحميد فقط، وممن ذهب إلى، هذا القول: الإمام أبو حنيفة، وذلك لأن الآثار المذكورة دلت على ذلك، كذلك لأنه - عليه السلام - قسم، والقسمة تنافي الشركة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 55 رقم 267). (¬2) "المجتبى" (2/ 196 رقم 1063).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصة، وقالوا: ليس في قول النبي - عليه السلام -: "وإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان ذلك كذلك؛ لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم. فقد رأيناكم تجمعون على أن المصلي وحده يقولها مع قوله: "سمع الله لمن حمده"؛ فكما كان من يصلي وحده يقولها وليس بمأموم، ولم ينف ذلك ما ذكرنا من قول رسول الله - عليه السلام -؛ كان الإمام أيضًا يقولها كذلك، ولا ينف ذلك ما ذكرنا من قول رسول الله - عليه السلام -. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وابن سيرين وأبا بردة والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد في المشهور؛ فإنهم قالوا: بل يجمع الإمام بين التسميع والتحميد. وإليه ذهبت الظاهرية أيضًا. وفي "المغني" لابن قدامة: وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. قوله: "ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصةً" يعني لا يجمع بينه وبين "سمع الله لمن حمده"؛ وفيه خلاف الشافعي. وقال الترمذي في "جامعه": وقال ابن سيرين وغيره: يقول من خلف الإمام: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" مثل ما يقول الإمام؛ وبه يقول الشافعي وإسحاق. قلت: وهو قول ابن نافع وعيسى من أصحاب مالك، ويروى عن مالك أيضًا، وإليه ذهبت الظاهرية أيضًا.

وقال صاحب "المغني" (¬1): قال ابن سيرين وأبو بردة وأبو يوسف ومحمد والشافعي وإسحاق: يقول المأموم ذلك كالإمام. انتهى. قلت: عَدُّهُ أبايوسف ومحمدًا منهم ليس بصحيح؛ فإن مذهبهما كمذهب الجمهور: أن المأموم يقتصر على التحميد ولا يجمع بينهما. قوله: "وقالوا" أي قال الآخرون؛ هذا جواب عما استدل به أهل المقالة الأولى بالآثار المذكورة على أن التسميع لا يقوله الإمام دون المأموم وهو ظاهر. قوله: فقد رأينكم تجمعون على أن المصلي وحده يقولها مع قوله: "سمع الله لمن حمده" أي يقول: "ربنا لك الحمد" مع "سمع الله من حمده" وفيه كلام؛ فقال صاحب "البدائع": وإن كان منفردًا يأتي بالتسميع في ظاهر الرواية, وكذا بالتحميد عندهم، وعن أبي حنيفة روايتان: روى المعلى، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنه قال: يأتي بالتسميع دون التحميد. وإليه ذهب الشيخ أبو القاسم الصفار والشيخ أبو بكر الأعمش، وروى الحسن، عن أبي حنيفة: أنه يجمع بينهما. وذكر في بعض النوادر عنه: أنه يأتي بالتحميد لا غير. وفي "الجامع الصغير" ما يدل عليه؛ فإن أبا يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن الرجل يرفع رأسه من الركوع في الفريضة يقول: اللهم اغفر لي؟ قال: يقول: ربنا لك الحمد، ويسكت. وما أراد به الإمام لأنه لا يأتي بالتحميد عنده؛ فكان المراد به المنفرد. وجه هذه الرواية: أن التسميع ترغيب في التحميد، وليس معه من يرغبه، والإنسان لا يرغِّب نفسه؛ فكانت حاجته إلى التحميد لا غير. وجه رواية المعلى: أن التحميد يقع في حالة القومة وهي مسنونة، وسنة الذكر تختص بالفرائض والواجبات كالتشهد في القعدة الأولى؛ ولهذا لم يشرع في القعدة بين السجدتين. ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 583).

وجه رواية الحسن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما في حديث عائشة - رضي الله عنها - ولا محمل له سوى حالة الانفراد؛ ولهذا كان عمل الأمة على هذا؛ وما كان الله ليجمع أمة محمد - عليه السلام - على ضلالة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبدالله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -: "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". ش: أي احتج الآخرون في قولهم: إن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد؛ بحديث علي بن أبي طالب هذا. ولكن الاحتجاج به غير تام؛ لأنه ليس فيه دلالة على أنه - عليه السلام - كان يقول ذلك وهو إمام، والدعوى لا تقوم إلا بحجة تامة على ما يذكره الطحاوي عن قريب. وهذا الإسناد بعينه مذكور في أول باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة، ولكن متن الحديث هناك: "كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة ورفع يديه حذو منكبيه". ثم أعاد هذا الإسناد بعينه في أول باب "التكبير للركوع " وزاد في المتن على ما ذكرنا: "ويصنع مثل ذلك -إذا قضى قراءته- إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا فرغ ورفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر". ثم أعاد هذا الإسناد بعينه في أول باب "ما ينبغي أن يقال في الركوع والسجود" ومتن الحديث هناك: "كان رسول الله - عليه السلام - يقول وهو راكع: اللهم لك ركعت -إلى قوله-: فتبارك الله أحسن الخالقين". فكل ذلك حديث واحد، وتقطيعه إياه بحسب التبويب.

وقد ذكرنا في باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة" أن أبا داود أخرج هذا الحديث بهذا الإسناد. وأخرج الترمذي (¬1): عن محمود بن غيلان، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال: حدثني عمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد". قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن صحيح. قوله: "ملء السماوات" بنصب الهمزة ورفعها، والنصب أشهر، وهو الذي اختاره ابن خالويه ورجحه، وأطنب في الاستدلال له، وجوز الرفع على أنه مرجوح. وحكي عن الزجاج: أنه يتعين الرفع، ولا يجوز غيره، وبالغ في إنكار النصب. قلت: أما انتصابه: فعلى أنه صفة لمصدر محذوف، أي: حمدًا ملء السماوات والأرض، وأما الرفع: فعك أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ملء السموات والأرض، ثم المِلء -بكسر الميم-: ما يأخذه الإناء إذا امتلأ، والمَلْء -بالفتح- مصدر ملأت الإناء فهو مملوء، ودلو مَلأَى على فَعْلى، وكوز ملآن ماءً، والعامة تقول: مَلِيء ماءً. وها هنا بكسر الميم. وفيه: إشارة إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود؛ فإنه - عليه السلام - حمده ملء السماوات والأرض وهذه نهاية أقدام السابقين، وهذا تمثيل وتقريب، والكلام لا يقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو خمدر أن تكون تلك الكلمات أجسامًا تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما يملأ السماوات والأرض. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 53 رقم 266).

قوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" إشارة إلى أن حمد الله أعز من أن يحترزه الحسبان أو يكتنفه الزمان والمكان، فأحال الأمر على المشيئة، وليس وراء ذلك الحمد منتهىً، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه؛ وبهذه الرتبة استحق أن يسمى أحمد؛ لأنه كان أحمد من سواه. وقوله: "بعدُ" مبني على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة فبني على الضم. واحتج الشافعي به على أن المصلي يقول هذا سواء كان في المكتوبة أو التطوع. وقال الترمذي عقيب ذكره هذا الحديث: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي، قال: يقول هذا في المكتوبة والتطوع، وقال بعض أهل الكوفة: يقول هذا في صلاة التطوع ولا يقولها في صلاة المكتوبة. قلت: وبه قال أحمد. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: إسناده صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وأخرجه أيضًا (1) مقتصرًا على قوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" كرواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 347 رقم 478).

وكذا أخرجه النسائي (¬1): عن أبي داود سليمان بن سيف الحراني، عن سعيد بن عامر، عن هشام بن حسان ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني عبيد -هو ابن الحسن- قال: سمعت ابن أبي أوفى يحدث، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هو أيضًا صحيح، وأبو بكرة بكار، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، وابن أبي أودنئ هو عبد الله بن أبي أوفى، واسم أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي، له ولأبيه صحبة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن عبيد بن الحسن قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يدعو بهذا الدعاء: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمَّد بن عيسى، ثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية ووكيع ومحمد بن عبيد، كلهم عن الأعمش، عن عبيد بن الحسن، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: "كان النبي - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن وكيع، عن الأعمش ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. ص: حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف، قال: ثنا عبد الله بن يوسف الدمشقي، قال: أنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن عطية بن قيس الكلاعي، عن قزعة بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 198 رقم 1066). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 346 رقم 476). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 284 رقم 878). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 284 رقم 878).

يحيى، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - مثله، وزاد: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا نازع لما أعطيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". ش: إسناده صحيح، وعبد الله بن يوسف شيخ البخاري، وسعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي أبو عبد العزيز الدمشقي فقيه أهل الشام ومفتيهم بعد الأوزاعي، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وعطية بن قيس الكلاعي أبو يحيى الحمصي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا بحديث واحد. وقزعة بن يحيى أبو الغادية البصري، روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أنا مروان بن محمَّد الدمشقي، قال: ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبدٌ، اللهم لا ما نع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مؤمل بن الفضل الحراني، نا الوليد. وثنا محمود بن خالد، ثنا أبو مسهر، وثنا ابن السرح، نا بشر بن بكر. ونا محمد بن محمد بن مصعب، نا عبد الله بن يوسف، كلهم عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطية، عن قزعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول -حين يقول سمع الله لمن حمده-: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء -قال مؤمل: ملء السموات- وملء الأرض وملء ما شئت من شيء ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 347 رقم 477). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 285 رقم 847).

بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت -زاد محمود: ولا معطي لما منعت، ثم اتفقا- ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قال بشر: "ربنا لك الحمد". لم يقل محمود: "اللهم" قال: "ربنا ولك الحمد". وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن هشام أبو أمية الحراني، قال: ثنا مخلد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة بن يحيى، عن أبي سعيد، أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا نازع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قوله: "أهل الثناء والمجد" وهو منصوب على النداء، والمعنى: يا أهل الثناء والمجد. وهو المشهور، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت أهل الثناء، و"الثناء" الوصف الجميل والمدح، و"المجد" العظمة ونهاية الشرف. قال القاضي عياض: ووقع في رواية ابن ماهان: "أهل الثناء والحمد" وله وجه، ولكن المشهور الصحيح هو الأول. قوله: "أحق ما قال العبد، وكلنا" هكذا هو الراوية المشهورة "أحق" بالألف، "وكلنا" بالواو ولكن وقع في رواية النسائي: "حق" بدون الألف، ووقع في بعض روايات النسائي: "خير ما قال العبد". وقال بعض الأفاضل: هو الصحيح. ووقع في كتب الفقه: "حق ما قال العبد كلنا" (¬2) بحذف "الألف" و"الواو"، ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 224 رقم 655) بهذا اللفظ، وهو في "المجتبى" (2/ 198 رقم 1068) مع اختلاف في بعض ألفاظه. (¬2) وهكذا رواه النسائي في "السنن الكبرى" (1/ 224 رقم 655). وقال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 244): وقع في كتاب "المهذب" ما وقع هنا بإسقاط الألف من "أحق" وبإسقاط الواو من "وكلنا"، وتعقبه النووي بأن الذي عند المحدثين بإثباتها، كذا قال، وهو في "سنن النسائي" بحذفها أيضًا. انتهى.

فهذا غير معروف من حيث الرواية، وإن كان معناه صحيحًا، والرواية المعروفة المشهورة: "أحق ما قال العبد وكلنا" ومعناه: أحق قول العبد "لا نازع لما أعطيت" فيكون ارتفاع "أحق" على الابتداء وخبره قوله: "لا نازع". قوله: "وكلنا لك عبد" جملة معترضة بينهما، وتقدير الكلام: أحق قول العبد: لا نازع لما أعطيت، أو"لا مانع لما أعطيت" وكلنا لك عبد فيجب أن نقوله. وفائدة الاعتراض: الاهتمام به وارتباطه بالكلام السابق، ونظيره في القرآن: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} (¬1) الآية فإن قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ} اعتراض بين قوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} و {وَعَشِيًّا} والجملة المعترضة لا محل لها من الأعراب وقد عرف ذلك في موضعه. فإن قيل: ما وجه كون هذا أحق ما يقوله العبد؟ قلت: لأن فيه التفويض إلى الله تعالى والإذعان له والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن الخير والشر منه. قوله: "لا نازع لما أعطيت" كذا في رواية النسائي أيضًا كما ذكرناها، وفي رواية غيرهما: "لا مانع لما أعطيت" وكلاهما معنى واحد. قوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي لا ينفع ذا الغنى، منك غناه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، أو معناه: لا يُسْلِمه من عذابك غناه. و"الجد" في اللغة: الحظ والسعادة والغنى، ومنه: "تعالى جدُّك". أي: علا جلالك وعظمتك. والمشهور فيه فتح الجيم، هكذا ضبطه العلماء المتقدمون والمتأخرون. وقال ابن عبد البّر: ومنهم من رواه بالكسر، وقال أبو جعفر الطبري: هو بالفتح. قال: وقاله الشيباني بالكسر. قال: وهذا خلاف ما عرفه أهل النقل. قال: ولا نعلم من قاله غيره، وضَعّف الطبريّ ومن بعده الكسر. ¬

_ (¬1) سورة الروم، آية: [17 - 18].

قالوا: ومعناه على ضعفه الاجتهاد، أي: لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده، إنما ينفعه وينجيه رحمتك. وقيل: المراد: ذا الجد والسعي التام في الحرص على الدنيا. وقيل: معناه: الإسراع في الهرب، أي: لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك هروبه فإنه في قبضتك وسلطانك. فإن قيل: بيَّن لي إعراب هذا الكلام؟ قلت: "ذا الجد" منصوب على أنه مفعول "لا ينفع"، وكلمة "من" في قوله: "منك" للبدل كما في قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬1) أي: بدل طاعة الله، أو بدل رحمة الله. وكما في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} (¬2) أي بدل الآخرة. وقوله: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (¬3) أي: بدلكم؛ لأن الملائكة لا تكون من الإنس. وقال أبو حيان: إثبات البدلية لـ "مِنْ" فيه خلاف، وأصحابنا ينكرونه، وغيرهم قد أثبته، وزعم أنها تأتي لمعنى البدل، واستدل بالآيات التي تَلَوْنَا وبقول الشاعر: [أخذوا] (¬4) المخاضَ من الفصيل غُلُبَّة ... ظلما ويكتبُ للأميرِ أفِيلا أي: بدل الفصيل -وهو ولد الناقة إذا فُصل عن أمّه- والجمع فصلان، والمخاض ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، وغُلُبَّةَّ -بضم الغين المعجمة واللام وتشديد الباء الموحدة المفتوحة -وهو مصدر من غلب يغلب وكذلك غُلُبّى وغَلاَبِية وغَلْبا وغَلَبَا بتسكين اللام وتحريكها، وغلَبةً ومَغْلبةً، والأفيل -بفتح الهمزة وكسر ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [10]. (¬2) سورة التوبة، آية: [38]. (¬3) سورة الزخرف، آية: [60]. (¬4) في "الأصل، ك": "أخذ"، والمثبت من "ديوان الراعي النميري" و"خزانة الأدب".

الفاء- ابن المخاض وابن اللبون، ويجوز أن تكون "من" في الحديث بمعنى "عند" والمعنى: لا ينفع ذا الغنئ عندك غناه. قلت: يجوز أن تكون "من" على حالها للابتداء، ويكون المعنى: لا ينفع ذا الغنى من ابتداء نقمتك أو من ابتداء عذابك غناه. ويقال: ضمّن "ينفع" معنى "يمنع" ومتى علقت "من" بالجد انعكس المعنى. وأما ارتفاع قوله: "الجدُّ" فعلى أنه فاعل قوله: "لا ينفع" ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا شريك، عن أبي عمر، عن أبي جُحَيفة قال: "ذُكِرت الجدود عند النبي - عليه السلام -، فقال بعض القوم: جد فلان في الإبل. وقال بعضهم: في الخيل. فسكت النبي - عليه السلام -، فلما قام يصلي فرفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ". ش: سعيد بن سليمان الضبّي أبو عثمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود. وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي ثقة، وأبو عمر المنبهّي النخعي الكوفي، ذكره ابن أبي حاتم في الكنى ولم يُسمّه، وسكت عنه. وأبو جُحَيفة السوائي الصحابي اسمه وهب بن عبد الله. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا إسماعيل بن موسى السُدي، ثنا شريك، عن أبي عمر، قال: سمعت أبا جحيفة يقول: "ذكرت الجدود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فقال رجل: جد فلان في الخيل. وقال آخر: جد فلان في الإبل. وقال آخر: جد فلان في الغنم. وقال آخر: جد فلان في الرقيق. فلما قضى رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 284 رقم 879).

صلاته، ورفع رأسه من آخر ركعة قال: اللهم ربنا لك الحمد ... " إلى آخره نحوه، وفي آخره: "وطوّل رسول الله - عليه السلام - صوته بالجدّ ليعلموا أنه ليس كما يقولون". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يحيى بن أبي بكير، عن شريك ... إلى آخره نحوه. وهذا الحديث كما قد رأيته أخرجه الطحاوي عن خمسة من الصحابة وهم: علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي سعيد الخدري، وأبي جحيفة السوائي. ولما أخرج الترمذي (¬2) حديث علي - رضي الله عنه - قال: وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفى، وأبي جحيفة، وأبي سعيد (¬3).انتهى. وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬4). ص: فليس في هذه الآثار أنه كان يقول ذلك وهو إمامٌ، ولا فيها ما يدل على شيء من ذاك، غير أنه قد ثبتَ بها أن مَنْ صلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. فاردنا أن ننظر هل روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على حكم الإمام في ذلك كيف هو؟ وهل يقول في ذلك ما يقول مَنْ يصلي وحده أم لا؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابنُ وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أنهما سمعاه يقولُ: "كان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 222 رقم 2550). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 53 رقم 266). (¬3) وروي أيضًا من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - كما في "المعجم الكبير" للطبراني (10/ 168 رقم 10348)، و"الدعاء" للطبراني (1/ 185 رقم 555)، وكذا روي عن عائشة كما في "الدعاء" (1/ 187 رقم 569). (¬4) بيَّض له المؤلف -رحمه الله-، وانظر "تلخيص الحبير" (1/ 244).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمدُ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ... " ثم ذكر الحديث. فقد يجوز أن يكون قال ذلك لأنه من القنوت، ثم تركه بعدُ لمّا ترك القنوت، فرجعنا إلى غير هذا الحديث هل فيه دلالة على شيء مما ذكرنا؟ فإذا ربيعٌ المؤذنُ قد حدّثنا قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابنُ أبي ذئب، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه قال: "أنا أشبهكم صلاة برسول الله - عليه السلام -؛ كان إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: ربنا لك الحمد". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وَهْب، قال: أخبرني يونسُ، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كُسفت الشمس في حياة رسول الله - عليه السلام -، فصلى بالناس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمدُ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا قام من الركوع قال: ذلك". ففي هذه الآثار ما يدلُّ على أن الإمام يقول من ذلك مثل ما يقول مَنْ صلى وحده؛ لأن في حديث عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - عليه السلام - قال ذلك وهو يصلي بالناس، وفي حديث أبي هريرة: "أنا أشبَهكُم صلاة برسول الله - عليه السلام - .... " ثم ذكر ذلك، فأخبر أن ما فعل من ذلك هو ما كان رسول الله - عليه السلام - يفعله في صلاته لا يَفْعل غيرهَ. وفي حديث ابن عمر ما ذكرنا عنه من ذلك، وهو أيضًا إخبار عن صفة صلاته كيف كانت فلما ثبت عنه أنه كان يقول -وهو إمام- إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ثبت أن هكذا ينبغي للإمام أن يفعل ذلك، اتباعًا لما قد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار.

وأما من طريق النظر فإنهم قد أجمعوا فيمن يصلي وحده على أنه يقول ذلك. فأردنا أن ننظر في الأمام هل حكمه في ذلك حكم من يصلي وحده أم لا؟ فوجدنا الإمام يفعل في كل صلاته من التكبر والقراءة والقيام والقعود والتشهد مثل ما يفعل مَنْ يصلي وحده، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه في صلاته كأحكام من يصلي وحده فيما يطرأ عليه في صلاته في الأشياء التي توجب فسادها وما يُوجب سجود السهو فيها وغير ذلك؛ فكان الإمام ومن يصلي وحده في ذلك سواء بخلاف المأموم، فلما ثبت باتفاقهم أن المصلي وحده يقول بعد قول سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد. ثبت أيضًا أن الإمام يقولها بعد قوله: سمع الله لمن حمده. فهذا هو وجه النظر أيضًا في هله الباب، فبهذا نأخذ، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وأما أبو حنيفة فكان يذهب في ذلك إلى القول الأول والله أعلم. ش: قد ذكرنا أن الاستدلال بهذه الأحاديث المذكورة لا يتم؛ لأنه ليس فيها أنه - عليه السلام - كان يقول ذلك -أي: ربنا لك الحمد- مع قوله: سمع الله لمن حمده. والحال أنه إمام، ولا فيها ما يدل على شيء من ذلك، أي من الجمع بين التسميع والتحميد، غير أن هذه الآثار تُبَيّن أن من صلى وحده منفردًا يجمع بينهما، فإذا كان كذلك يجب الرجوع إلى حديث يتم به الاستدلال، فنظرنا في ذلك فوجدنا أحاديث أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - تدل على أن الإمام يقول من ذلك -أي من الجمع بين التحميد والتسميع- مثل ما يقول المنفرد، وهو معنى قوله: "ففي هذه الآثار ما يدل على أن الإمام يقول من ذلك ... " إلى آخره. وذلك أن في حديث عائشة يصرّحُ بأن رسول الله - عليه السلام - قال ذلك وهو يصلّي بالناس، وفي حديث ابن عمر كذلك، وفي حديث أبي هريرة أَخْبَر أن ما كان يفعله من الجمع بين التحميد والتسميع هو ما كان يفعله رسول الله - عليه السلام -، فثبت بهذا أَنْ ما يفعله الإِمام كذلك؛ اتباعًا لما ثبت في الأحاديث المذكورة، وهو معنى قوله: "ثبتَ أَنْ هكذا ينبغي للإمام" و"أنْ" هذه مخففة من المثقلة، وهي في محل الرفع على أنه فاعل "ثبت".

قوله: "فهذا حكم هلما الباب" أي هذا الذي ذكرنا حكم هذا الباب من طريق الأحاديث، "وأما من طريق النظر" والقياس "فإنهم قد أجمعوا ... " إلى آخره. وهو ظاهر، ولكن في قوله: "قد أجمعوا فيمن يصلي وحده على أنه يقول ذلك" بحثٌ؛ فإن صاحب "المغني" نقل عن أحمد: أنه لا يجمع المنفرد بين التحميد والتسميع. قال: فإنه قال في رواية إسحاق في الرجل يصلي وحده، فإذا قال: سمع الله لمن حمده. قال: ربنا ولك الحمد. فقال: إنما هذا للإمام جمعهما وليس هذا لأحد سوى الإمام. ووجهه أن الخبر لم يرد به في حقه، فلم يشرع له كقول سمع الله لمن حمده في حق المأموم قوله: "وأما أبو حنيفة فكان يذهب" وفي بعض النسخ: "وأما أبو حنيفة ومالك فكانا يذهبان في ذلك إلى القول الأول" والله أعلم. ثم إنه أخرج عن أبي هريرة حديثين صحيحين: أحدهما: لا يتم به الاستدلال أيضًا على ما نقوله عن قريب، وهو الذي أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1) بهذا الإسناد بعينه: عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أنهما سمعا أبا هريرة يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم يقول وهو قائم: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 466 رقم 675).

اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وَطأتُك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلًا وذكران، وعُصَيّة عَصت الله ورسوله". ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. وأخرجه البخاري (¬1) بأطول منه: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة ابن عبد الرحمن: "أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده. ثم يقول: ربنا ولك الحمد. قبل أن يسجد، ثم يقول: الله أكبر. حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكبر [حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكبر، (¬2) حين يقوم من الجلوس في الاثنتين، ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - عليه السلام - إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا". قالا: وقال أبو هريرة: "وكان رسول الله - عليه السلام - حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 276 رقم 770). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

وأما بيان عدم تمام الاستدلال به فهو قوله: "فقد يجوز أن يكون قال ذلك لأنه من القنوت ثم تركه بعد" أي: ثم ترك الجمع بين التسميع والتحميد بعد ذلك لما ترك القنوت، فحينئذ لا يتم به الاستدلال لأجل هذا الاحتمال. والذي يتم به الاستدلال هو الحديث الثاني لأبي هريرة، وهو الذي خرّجه عن ربيع بن سليمان المؤذن المصري صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن المغيرة بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: "كان النبي - عليه السلام - إذا قال: سمع الله لمن حمده. قال: اللهم ربنا ولك الحمد ... " الحديث. فهذا صريح على أنه - عليه السلام - كان يجمع بين التسميع والتحميد، لا لعلة قنوت ولا لغيره. ولقائل أن يقول: يمكن أن يكون هذا من النبي - عليه السلام - وهو منفرد، على أن أبا حنيفة قد حمله على حالة الانفراد. قلت: يمكن أن يقال: محاكاة أبي هريرة هي الصلاة المطلقة، والمطلق ينصرف إلى الكامل، وهو الصلاة مع الجماعة. وأما حديث عائشة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح على شرط مسلم جميع رجاله، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬2): عن حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس. وحدثني أبو الطاهر ومحمد بن سلمة المرادي، قالا: ثنا ابن وهب، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 274 رقم 762). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 618 رقم 901).

يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "خسفت الشمس في حياة رسول الله - عليه السلام -، فخرج رسول الله - عليه السلام - إلى المسجد، فقام وكبّر وصفّ الناس وراءه، فاقترأ رسول الله - عليه السلام - قراءة طويلة، ثم كبّر فركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬1) وقال: نا ابن السَرْح، نا ابن وهب. ونا محمَّد بن سلمة المرادي، نا ابن وهب ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وأخرجه بقية الجماعة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى (¬2). وهذا أيضًا فيه الجمع بين التحميد والتسميع، ولكن لأبي حنيفة أن يقول هذا أيضًا يجوز أن يكون كالقنوت، فعله ثم تركه. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن إبراهيم بن أبي الوزير -وهو إبراهيم بن عمر بن مَطرف الهاشمي المكي- أبي إسحاق ابن أبي الوزير. عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬3) ولفظه: "إن رسول الله - عليه السلام - كان إذا افتتح الصلاة يَرفع يدَيْه حَذْو منكبَيْه، فإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود". وأما معنى الأحاديث: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 378 رقم 1180). (¬2) سيأتي. (¬3) "موطأ مالك" (75/ 1 رقم 163).

فقوله: "اللهم أنج الوليد بن الوليد" وفي رواية أبي داود "نجَّ" والوليد هو أخو خالد بن الوليد، أُسِرَ يوم بدر كافرًا ففُدِيَ بأربعة آلاف درهم ولما افتُدِيَ أسلم فحبَسوه بمكة فكان رسول الله - عليه السلام - يدعو له. وسلمة بن هشام هو أخو أبي جهل بن هشام، وكان من خيار الصحابة - رضي الله عنهم -، واحتُبِس بمكة وعُذِّب في الله، وكان رسول الله - عليه السلام - يدعو له. وعياش بن أبي ربيعة -واسم أبي ربيعة عمرو- بن المغيرة وهو أخو أبي جهل لأمه وابن عمه، وهو أخو عبد الله بن أبي ربيعة، كان إسلامه قديما قبل أن يدخل رسول الله - عليه السلام - دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة، وولد بها ابنه عبد الله، ثم عادإ لى مكة، وهاجر إلى المدينة هو وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، ولما هاجر إلى المدينة قدم عليه أخواه لأمه: أبو جهل، والحارث، ابنا هشام، فذكرا له أن أمه قد حلفت أن لا تدخل رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه وحبساه بمكة، وكان رسول الله - عليه السلام - يدعو له، وقتل عياش يوم اليرموك. وقيل: مات بمكة. قاله الطبري. قوله: "وطأتك" الوطأة -بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة- هي: البأس، والمعنى ها هنا: الإيقاع بهم والعقوبة لهم، وتكون الوطأة بالقدم وبالقوائم وبالخيل. قوله: "كسني يوسف" أصله سنين، سقطت النون للإضافة، ومعنى سنين يوسف: الجدب والقحط، وهي السبع الشداد التي أصابتهم. و"لحيان": أبو قبيلة، وهو لحيان بن هذيل بن مُدْركة، ذكره الجوهري في باب لحا، فيدل هذا أن النون فيه زائدة. و"رعل": و"رعْلة" جميعًا قبيلة باليمن، وقيل: هم من سليم، قاله ابن سيده، وفي الصحاح: رِعل -بالكسر- وذكران قبيلتان من سُليم.

وقال ابن دُريد: رِعل من الرِعْلة، وهي النخلة الطويلة، والجمع رِعال. وهو رد لما قاله ابن التين: ضُبط بفتح الراء، والمعروف أنه بكسرها، وهو في ضبط أهل اللغة بفتحها. وقال الرُشاطي: هو رعل بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن مضر. وقال ابن دحية في "المولد": ولا أعلم في رِعل وعُصَيّة صاحبًا له رواية صحيحة عن النبي - عليه السلام -. و"عُصَيّة" هو ابن خفاف بن امرئ القيس بن بُهثة بن سُلَيم، ذكره أبو علي الهجري في "نوادره" والله أعلم.

ص: باب: القنوت في صلاة الفجر

ص: باب: القنوت في صلاة الفجر ش: أي هذا باب في بيان أحكام القنوت في صلاة الفجر وغيرها من الصلوات، والقنوت ها هنا: الدعاء، وهو يرد بمعاني متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والعبادة والقيام وطول القيام والسكوت والدعاء، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه. ولما كان الباب السابق في حكم التسميع والتحميد وكان من جملة أحاديثه حديث أبي هريرة الذي فيه القنوت بعد قوله: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. وكان ذلك في صلاة الفجر؛ ناسب أن يذكر عقيبه حكم القنوت في الفجر؛ فافهم. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، أنهما سمعا أبا هريرة يقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة، ويكبر ويرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيانًا ورعلًا وبهوان، وعصيَّة عصت الله ورسوله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا صلى العشاء الآخرة فرفع رأسه من الركوع قال: اللهم أنج الوليد ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: قال أبو هريرة: "لأريَنَّكم صلاة رسول الله - عليه السلام - أو كلمة نحوها- فكان إذا رفع رأسه من الركوع وقال: سمع الله لمن حمده. دعا للمؤمنين ولعن الكافرين".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه كان إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قال: اللهم أنج الوليد ... ثم ذكر مثل حديث أبي بكرة عن أبي داود. حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة مثله. قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم ولم يدعُ لهم، فذكرت ذلك فقالوا: أوما تراهم قد قدموا؟ ". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، قال: ثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: اللهم أنج الوليد ... " ثم كر مثله، غير أنه لم يذكر قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: "فأصبح ذات يوم فلم يدع لهم ... إلى أخر الحديث. وزاد: "قال: يجهر به، وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلانًا وفلانًا -أحياء من العرب- فأنزل الله -عز وجل-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1) ". ش: هذه ستة طرق صحاح: الأول: قد أخرجه بعينه في آخر الباب الذي قبله، ولكن اقتصر هناك وذكر إلى قوله: "اللهم أنج الوليد بن الوليد" وذكرنا هناك أن مسلمًا (¬2) أخرجه بهذا الإسناد، وأن البخاري (2) أبي أخرجه. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128]. (¬2) تقدم.

الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من صلاة العشاء الآخرة قنت وقال: اللهم نجِّ الوليد بن الوليد، اللهم نجِّ سلمة بن هشام، اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نجّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف". الثالث: هو عين الإسناد الثاني غير أن المتن مختلف. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا معاذ بن فضالة، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "لأقربن صلاة النبي - عليه السلام -، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده؛ فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه، وليس في لفظه: "بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده". وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا داود بن أمية، نا معاذ -يعني ابن هشام- حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحو رواية مسلم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 521 رقم 10764). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 275 رقم 764). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 468 رقم 676). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 456 رقم 1440).

قوله: "لأرينكم" اللام فيه مفتوحة لأنها للتأكيد، وأرينكم بنون التأكيد من الإراءة، و"صلاة رسول الله - عليه السلام -" بالنصب مفعوله الثاني. قوله: "أو كلمة نحوها" شك من الراوي، أي نحو لفظة: "لأرينكم" وهي نحو قوله: "لأقربن بكم" كما في رواية البخاري (¬1) وغيره (¬2)، من التقريب ومعناه: لآتينكم بما يُشْبهها وما يقرب منها. وفي رواية للنسائي (¬3): "إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - عليه السلام -". الرابع: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي شيخ أحمد، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬4): حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا حسين بن محمَّد، قال: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة أخبره: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده. ثم قال قبل أن يسجد: اللهم نجّ عياش بن أبي ربيعة .... " الحديث. الخامس: عن محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مثله إلى أخره. وأخرجه مسلم (¬5): ثنا محمَّد بن مهران الرازي، ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حدثهم: "أن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 275 رقم 764). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 468 رقم 676). (¬3) "المجتبى" (2/ 235 رقم 1156). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 467 رقم 675). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 466 رقم 675).

النبي - عليه السلام - قنت بعد الركعة في صلاة شهرًا إذا قال: سمع الله لمن حمده. يقول في قنوته: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم نجّ سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعدُ، فقلت: أرى رسولَ الله - عليه السلام - قد ترك الدعاء لهم. قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا؟ ". وأخرجه أبو داود (¬1) نحوه. قوله: "أوَما تراهم" الهمزة فيه للاستفهام، والضمير يرجع إلى الذين كان - عليه السلام - يدعو لهم، وهم الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة قوله: "قد قدموا" أي خلصوا من أسر الكفار بمكة وقدموا إلى رسول الله - عليه السلام -، وإنما كان - عليه السلام - يقنت لأجلهم، فلما خلصوا وقدموا ترك الدعاء. السادس: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أبي، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال -إذا قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد-: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 457 رقم 1442). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1661 رقم 4284).

على مضر واجعلها سنين كسني يوسف -يجهر بذلك- وكان يقول في بعض صلاته -في صلاة الفجر-: اللهم العن فلانًا وفلانًا -لأحياء من العرب- حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} " (¬1). قوله: "اللهم أنج الوليد" مقول لقوله: "وربما قال". وقوله: "سمع الله لمن حمده" مقول لقوله: "إذا قال". قوله: "أحياءَ" بالنصب عطف بيان لقوله: "فلانًا وفلانًا". قوله: "ليس لك من الأمر شيء" يعني أن الله تعالى هو مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهداتهم. وقال الزمخشري: وقيل: انتصاب "يتوب" بإضمار "أن" و"أن يتوب" في حكم اسم معطوف بأوْ على "الأمر" أو على قوله: "شيء" أي: ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم. أو: ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذبهم. وقيل: "أو" بمعنى "إلا أن" كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي. على معنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفّى منهم. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهديّ، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح حين رفع رأسه من الركوع، قال: ربنا ولك الحمد -في الركعة الأخيرة- ثم قال: اللهم العن فلانا وفلانا، على ناس من المنافقين فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (1). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128].

ش: إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا يحيى بن عبد الله السلمي، أنا عبد الله، أنا معمر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ". وأخرجه النسائي (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. وأخرجه الترمذي (¬3) أيضًا. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا سلمة بن رجاء، قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الله بن كعب، عن عبدالرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة قال: اللهم أنج ... " ثم ذكر مثل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في أول هذا الباب، وزاد: "أنزل الله -عز وجل- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: فما دعا رسول الله - عليه السلام - بدعاء على أحد بعد". ش: إسناده حسن، ورجاله ثقات، والمقدمي هو محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، شيخ البخاري ومسلم. وأخرجه (¬4): ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1493 رقم 3842). (¬2) "المجتبى" (2/ 203 رقم 1078). (¬3) لم أجده، ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف" (5/ 394 رقم 6939) إلا للبخاري والنسائي. (¬4) بيض له المؤلف رحمه الله.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقنت في الصبح والمغرب". ش: إسناده صحيح. وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أبي الوليد ومسلم بن إبراهيم وحفص بن عمر، وعن أبي معاذ، عن أبيه، كلهم، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. والترمذي (¬3): عن قتيبة ومحمد بن المثنى، عن محمَّد بن جعفر ... إلى، آخره، نحو رواية مسلم. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقنت في الصبح والمغرب". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح. وأبو نعيم الفضل بن دكين. وأخرجه مسلم (1): ثنا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 470 رقم 678). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 67 رقم 1441). (¬3) "سنن الترمذي" (2/ 251 رقم 401).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن، عن سفيان وشعبة، عن عمرو بن مرة ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن داود، قال: نا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن نُصَير، عن أي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين يومًا". ش: رجاله ثقات. وابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي. وأحمد بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وأبو بكر بن عياش المقرئ روى له الجماعة. ونُصَير -بضم النون وفتح الصاد المهملة- ابن أبي الأشعث الأسدي الكوفي، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم. وأبو حمزة -بالحاء والزاي المعجمة- اسمه محمَّد بن ميمون المروزي السكري، روي له الجماعة (¬2). وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا داود بن رشيد، ثنا حسان بن إبراهيم، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: "ما قنت رسول الله - عليه السلام - قط في صلاة الغداة إلا ثلاثين يومًا يدعو على نجد من بني سليم، ثم تركه". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن بشر العبدي، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا خالد بن عبد الله بن حرملة، عن الحارث بن خفاف، عن خفاف بن إيماء قال: "ركع رسول الله - عليه السلام - ثم رفع رأسه ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 202 رقم 1076). (¬2) هذا وهم، ولعل الصواب: أبو حمزة ميمون الأعور القصاب الكوفي، فهو الذي يروي عن إبراهيم النخعي، ويروي عنه نصير بن أبي الأشعث. وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (29/ 238).

فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان اللهم العن رعلًا وذكوان، الله أكبر ثم خر ساجدًا". ش: إسناده صحيح. و"خُفَاف" -بضم الخاء وتخفيف الفاء الأولى- ابن إيماء -بفتح الهمزة وبكسرها وسكون الياء آخر الحروف، وبالمد، وقيل: هو بالفتح مقصور- ابن رحضة -بفتح الراء والحاء المهملتين، وفتح الضاد المعجمة- الغفاري الصحابي. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، على ما يأتي عن قريب. وأحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، أنا محمَّد بن إسحاق، عن خالد بن عبد الله بن حرملة، عن الحارث بن خُفاف أنه قال: قال خفاف بن أيماء: "ركع رسول الله - عليه السلام - ثم رفع رأسه فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله؛ اللهم العن بني لحيان، والعن رعلًا وذكوان، ثم كبر ووقع ساجدًا، قال خُفاف: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك". قوله: "فقال: غفار" هو غفار بن مُليل -بضم الميم، وفتح اللام- ابن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة من إلياس بن مضر. وأسلم هو ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن مضر، وتفسير البواقي قد مرَّ عن قريب. ص: حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الكثيري المديني، قال: ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، قال: حدثني عبد العزيز بن محمَّد، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن خالد بن عبد الله بن حرملة المُدْلجي، عن الحارث بن خفاف بن إيماء بن رَحَضَة الغفاري، عن خُفاف بن إيماء بن رَحَضَة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله، غير أنه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1/ 470 رقم 679) وسيأتي. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 57 رقم).

لم يذكر أنه لما خر ساجدًا قال: الله أكبر وزاد: "قال خفاف: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد بن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان آخران وهما صحيحان أيضًا: الأول: عن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن كثير ابن الصلت أبي عبد الرحمن الكثيري المديني، قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بالمدينة ومحله الصدق. عن إسماعيل بن أبي أويس الأصبحي المدني شيخ البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه. عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن محمَّد بن عمرو ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر- قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرني محمَّد -وهو ابن عمرو- عن خالد بن عبد الله بن حرملة، عن الحارث بن خُفاف أنه قال: قال خفاف بن إيماء: "ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع رأسه فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان، والعن رعلًا وذكوان ثم وقع ساجدًا، قال خفاف: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن محمَّد بن عمرو ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث إسماعيل بن جعفر، عن محمَّد بن عمرو، عن خالد بن عبد الله بن حرملة، عن الحارث بن خُفاف أنه قال: قال خفاف بن إيماء: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 470 رقم 679). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 208 رقم 2950).

"ركع رسول الله - عليه السلام - ثم رفع رأسه فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان ورعلًا وذكوان، ثم خَرَّ ساجدًا، قال خالد: فجعلت لعنة الكفرة لأجل ذلك". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمَّد قال: "سئل أنس - رضي الله عنه -: أقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر؟ فقال: نعم، فقيل له -أو فقلت له-: قبل الركوع أو بعده؟ قال: بعد الركوع يسيرًا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عمرو ابن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته، وصليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحاظي، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - قنت شهرًا، يدعو على عصية وذكوان ورعلًا ولحيان". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أنس قال: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - بعد الركوع شهرًا، قال: قلت: فكيف القنوت؟ قال: قبل الركوع". حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم قال: "سألت أنس بن مالك عن القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: لا، بل قبل الركوع، فقلت: إن ناسا يزعمون أن رسول الله - عليه السلام - قنت بعد الركوع، قال: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه يقال لهم: القراء". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا شاذ بن فياض، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس أنه قال: "كان القنوت في الفجر والمغرب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن

سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس بن مالك قال: "قنت النبي - عليه السلام - شهرًا يدعو على رعل وذكوان". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا الحارث بن عبيد، قال: ثنا حنظلة السدوسي، عن أنس بن مالك قال: "كان من قنوت النبي - عليه السلام -: واجعل قلوبهم على قلوب نساء كوافر". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: "كنت جالسًا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا؟ فقال: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن مروان الأصفر قال: "سألت أنسًا أقنت عمر - رضي الله عنه -؟ فقال: قد قنت من هو خير من عمر". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر، عن حميد، عن أنس قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - عشرين يومًا". حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، قال: ثنا الهيثم بن جَمِيل، قال: ثنا أبو هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أنس بن مالك قال: "رأيت النبي - عليه السلام - في صلاة الصبح يكبر حتى إذا فرغ كبرّ فركع، ثم رفع رأسه فسجد، ثم قام في الثانية فقرأ حتى إذا فرغ كبر فركع، ثم رفع رأسه فدعا". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا همام، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك قال: "دعا رسول الله - عليه السلام - ثلاثين صباحًا على رعل وذكوان وعصية الدين عصوا الله ورسوله". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس قال: "قنت النبي - عليه السلام - شهرًا بعد الركوع يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه". ش: هذه أربعة عشر طريقًا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

الأول: على شرط البخاري، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين. وأخرجه البخاري (¬1): عن مسدد ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "في الصبح" موضع: "في صلاة الغداة"، وليس فيه: "أو فقلت له". وأخرجه مسلم (¬2): عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب، كلاهما عن إسماعيل، عن أيوب، عن محمَّد قال: "قلت لأنس: هل قنت رسول الله - عليه السلام - في صلاة الصبح؟ قال: نعم بعد الركوع يسيًرا". الثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المِنْقري المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد أبي عبيدة البصري من رجال الجماعة، عن عمرو بن عبيد بن ناب -ويقال: ابن كيسان- البصري شيخ القدرية والمعتزلة، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي: متروك الحديث صاحب بدعة. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. روي له أبو داود في "القدر"، وابن ماجه في "التفسير". عن الحسن البصري، عن أنس. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬3): ثنا الحسن بن إسماعيل، نا أحمد بن محمَّد بن عيسى، ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم أيضًا، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، ونسبته إلى وُحاظة -بضم الواو، وبالحاء المهملة، والظاء المعجمة- ابن سعد بن عوف بن عدي، عن سعيد بن بشير -بفتح الباء- الأزدي النصري -بالنون: ضعفه يحيى بن معين، وعنه: ليس بشيء. وعن النسائي: ضعيف. وقال ابن نمير: منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي في الحديث، روى عن قتادة المنكرات. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 340 رقم 956). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 468 رقم 677). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 40 رقم 12).

وأخرجه النسائي (¬1) من حديث قتادة بإسناد صحيح: أخبرنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قتادة. وهشام، عن قتادة، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - قنت شهرًا، قال شعبة: لعن رجالا، وقال هشام يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه بعد الركوع" هذا قول هشام. وقال شعبة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - قنت شهرًا يلعن رعلًا وذكوان ولحيان". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو الناقد، قال: ثنا الأسود بن عامر، قال: أنا شعبة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - قنت شهرا يلعن رعلًا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله". الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي أبي عامر الكوفي شيخ البخاري وأحمد، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أنس. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث سفيان، عن عاصم، عن أنس قال: "إنما قنت النبي - عليه السلام - شهرًا، فقلت: كيف القنوت؟ قال: بعد الركوع". انتهى. وقوله: "بعد الركوع"، مخالف لما رواه الطحاوي من قوله: "قال: قبل الركوع" ورواية الطحاوي أصح. ويشهد لذلك ما رواه مسلم (¬4): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أنس قال: "سألته عن القنوت، قبل الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: قبل الركوع، قال: قلت: فإن ناسًا يزعمون أن رسول الله - عليه السلام - قنت ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 203 رقم 1077). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 469 رقم 677). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 208 رقم 2951). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 469 رقم 677).

بعد الركوع، فقال: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه يقال لهم القراء". وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى. الخامس: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي السنوسي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن عاصم الأحول ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) كما ذكرنا. وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عاصم قال: "سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت، [قلت] (¬3): قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قال: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - عليه السلام - بعد الركوع شهرًا، أرُاه كان بعث قومًا يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلًا إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - عليه السلام - عهد، فقنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا يدعو عليهم". قوله: "يدعو على أناس ... إلى آخره" وقصته: أنه كان في سرية بئر معونة، وقد كانت في صفر في سنة أربع من الهجرة، وأغرب مكحول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق. وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله - عليه السلام -، يعني بعد أحد بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أُحد، وقال موسى بن عقبة: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، ويقال: مرثد بن أبي مرثد. وعن أنس بن مالك قال: "بعث النبي - عليه السلام - سبعين رجلًا لحاجة يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 469 رقم 677). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 340 رقم 957). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من صحيح البخاري.

معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة النبي - عليه السلام -، فقتلوهم، فدعا النبي - عليه السلام - شهرًا عليهم في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت، وما كان يقنت". رواه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وروى البخاري (¬3) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله - عليه السلام - على عدوهم، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة، قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي - عليه السلام - فقنت شهرًا يدعون في الصبح على أحياء من العرب؛ على رعل وعصية وبني لحيان". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن شاذ بن فياض اليشكري أبي عبيدة البصري واسمه هلال، وشاذ لقب عليه، ومعناه بالفارسية فرح، قال أبو حاتم: صدوق ثقة. روى عنه أبو داود. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "كان القنوت في المغرب والفجر". السابع: عن إبراهيم أيضًا، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن زائدة ابن قدامة، عن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، عن أنس. وهذا صحيح على شرط الشيخين. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 15 رقم 3860). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1511 رقم 677). (¬3) "صحيح البخاري" (4/ 1500 رقم 3862). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 340 رقم 959).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا معاذ بن معاذ أبو المثنى، نا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس بن مالك قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان". الثامن: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن الحارث بن عبيد الإيادي أبي قدامة البصري مؤذن مسجد البرتي، من رجال مسلم والأربعة، عن حنظلة بن عبد الله السدوسي أبي عبد الرحيم البصري، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعنه: منكر الحديث. وعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بقويّ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الترمذي وابن ماجه حديثا واحدًا. قوله: "قلوبهم" أي قلوب الكفار. و"الكوافر" جمع كافرة، وإنما خص قلب الكافرة؛ لأنه أبعد من قبول الحق، وأقرب إلى الضلال والطغيان. التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن أبي جعفر الرازي قيل: اسمه عيسى بن أبي عيسى، وأبو عيسى اسمه ماهان، وقيل: اسمه عيسى بن ماهان، وقيل: اسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان، وعن أحمد: ليس بقوي في الحديث. وعنه: صالح الحديث. وعن يحيى: كان ثقة. وعنه: يكتب حديثه، ولكنه يخطئ. وقال أبو زرعة: شيخ يهم كثيرًا. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن خراش: صدوق سيء الحفظ. وروى له الأربعة. عن الربيع بن أنس البكري، قال العجلي: بصري صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 204 رقم 13142).

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أحمد بن منصور وأحمد بن محمَّد بن عيسى، قالا: ثنا أبو نعيم، نا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: كنت جالسا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا، فقال: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) وقال: قال الحكم: إسناده صحيح ثقة رواته. قلت: كيف يكون صحيحًا وفيه أبو جعفر الرازي؟ وفيه مقال كما ذكرنا, ولكن عند الحاكم أمر الصحيح هين، وهو في هذا الباب مجازف جدًّا، وأمر البيهقي أعجب منه حيث سكت عن هذا لكونه موافقا مذهبه. العاشر: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سليمان بن حرب بن بُجَيد الأزدي الواشحي البصري شيخ البخاري، عن شعبة، عن مروان الأصفر أبي خلف البصري من رجال الشيخين وأبي داود والترمذي. وأخرج الحازمي في "الناسخ والمنسوخ" (¬3) من حديث محمَّد قال: سألت أنسًا: "أقنت عمر في صلاة الصبح؟ فقال: قنت من هو خير منه، النبي - صلى الله عليه وسلم -". الحادي عشر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر بن عياش المقرئ، عن حميد الطويل، عن أنس. وقد اختلف في عدد الأيام التي قنت فيها رسول الله - عليه السلام - ففي رواية النسائي والبخاري ومسلم: "إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا يدعو على أناس وفي رواية البزار من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حميد الطويل قال: "قتل من الأنصار يوم بئر معونة سبعون رجلًا، فكان رسول الله - عليه السلام - يدعو على من قتلهم خمسة عشر يومًا في الصلاة بعد الركوع". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 39 رقم 11). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 201 رقم 2927). (¬3) ورواه أبو يعلى في "مسند" (5/ 219 رقم 2834). من طريق محمَّد بن سيرين به.

وكذا في رواية السراج: من حديث المعتمر، عن حميد، يحدث عن أنس: "فدعا النبي - عليه السلام - على قتلة القراء خمسة عشر يومًا" وقال: هذا لفظ حديث المعتمر. ورواه إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، عن حميد: "فدعا عليهم أيامًا". وفي كتاب "القنوت" لأبي القاسم بن مندة من حديث أنس: "دعا على قتلة القراء تسعة وعشرين ليلة". وفي رواية عن أنس: "ثلاثين صباحًا" على ما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي بن حبيب بن إبراهيم أبي علي الأنطاكي المعروف بالبالسي نسبة إلى بالس مدينة على شط الفرات الغربي، وهي أول مدن الشام من الفرات، ومن شرقيها الرقة. عن الهيثم بن جميل البغدادي أبي سهل الحافظ، نزيل أنطاكية، قال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ. روى له ابن ماجه. عن أبي هلال محمَّد بن سليم الرازي، روى له البخاري مستشهدًا والأربعة، وعن يحيى: صدوق. وعنه: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. عن حنظلة بن عبد الله السدوسي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1) مختصرًا: عن عثمان، عن مطر، عن حنظلة، أنه سمع أنسًا - رضي الله عنه - يقول: "قنت رسول الله - عليه السلام - في الفجر بعد الركوع". قوله: "فدعا" أراد به القنوت؛ لأن القنوت هو الدعاء. الثالث عشر: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء أبي عمرو البصري شيخ البخاري، عن همام بن يحيى بن دينار أبي بكر البصري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 110 رقم 4965).

وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "دعا رسول الله - عليه السلام - على الذين قَتَلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا، يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس - رضي الله عنه -: أنزل الله -عز وجل- في الذين قتُلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد: أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا رضي عنا ورضينا عنه". الرابع عشر: عن فهد، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسلم، ثنا هشام، ثنا قتادة، عن أنس قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن يحيى، عن هشام ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ص: قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى إثبات القنوت في صلاة الفجر، ثم افترقوا فرقتين فقالت فرقة منهم: هو بعد الركوع، وقالت فرقة منهم: هو قبل الركوع، وممن قال ذلك منهم: ابن أبي ليلى، ومالك بن أنس. كما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت مالكا يقول: الذي آخذ به في خاصة نفسي: القنوت في الفجر قبل الركوع. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن سيرين، وابن أبي ليلى ومالكا والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم ذهبوا إلى إثبات القنوت في صلاة الفجر، وإليه ذهب الظاهرية، ثم افترقوا أي هؤلاء القوم فرقتين، فقالت فرقة منهم، وهم: الشافعي وأحمد وإسحاق ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 468 رقم 677). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 150 رقم 3861). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 115 رقم 12171).

والظاهرية: هو -أي القنوت- بعد الركوع، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي في قول. وقالت فرقة منهم- وهم مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأحمد في رواية: هو -أي القنوت- قبل الركوع وكذلك مذهب أبي حنيفة أنه قبل الركوع ولكن في الوتر خاصة، وهو مذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعمر بن عبد العزيز، وعَبِيدة السلماني، وحميد الطويل، وعبد الله بن المبارك، حكى ذلك ابن المنذر. وحكي أيضًا التخيير قبل الركوع وبعده عن أنس، وأيوب بن أبي تميمة، وأحمد بن حنبل، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أختار القنوت بعد الركوع؛ لأن كل شيء ثبت عن النبي - عليه السلام - في القنوت إنما هو في الفجر لما يرفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع، ولم يصح عن النبي - عليه السلام - في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء. وقال أبو داود: قال أحمد: كل ما روى البصريون عن عمر في القنوت، فهو بعد الركوع، وروى الكوفيون قبل الركوع. وقال الترمذي: وقال أحمد وإسحاق لا يقنت في الفجر إلا عند نازلة تنزل بالمسلمين، فإذا نزلت نازلة فللإمام أن يدعو لجيوش المسلمين. وقال سفيان الثوري: إن قنت في الفجر فحسن، وإن لم يقنت فحسن، وأختار أن لا يقنت، ولم ير ابن المبارك القنوت في الفجر. وقال ابن حزم في "المحلى": والقنوت فعل حسن، وهو بعد الركوع في آخر ركعة من كل صلاة فرض الصبح وغير الصبح، وفي الوتر، فمن تركه فلا شيء عليه، ويدعو لمن شاء ويسميهم بأسمائهم إن أحب، وإن قال ذلك قبل الركوع لم تبطل صلاته بذلك.

ص: وكان مِن حجة مَن ذهب منهم إلى أنه بعد الركوع: ما ذكرناه عن أبي هريرة وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم -. وكانت الحجة عليهم للفريق الآخر: ما ذكرناه في حديث سفيان، عن عاصم، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - إنما قنت بعد الركوع شهرًا، وإنما القنوت قبل الركوع". ش: أشار بذلك إلى استدلال كل واحدة من الفرقتين من القوم المذكورين. وهو أن استدلال الفرقة الأولى: ما رواه سعيد بن المسيب وأبو سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت بعد الركوع". وما رواه سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - وقد مَرَّ. وما رواه عبد الله بن كعب، عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم -. واستدلال الفرقة الثانية هو ما رواه عاصم الأحول، عن أنس - رضي الله عنه -: "إنما قنت رسول الله - عليه السلام - بعد الركوع شهرًا قال: قلت: فكيف -أي الوقت-؟ قال: قبل الركوع". أشار إلى هذا بقوله: "وكانت الحجة عليهم" أي على أهل المقالة الأولى- وهم الفرقة الأولى للفريق الآخر وهم أهل المقالة الثانية. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا نرى القنوت في صلاة الفجر أصلا قبل الركوع ولا بعده. ش: أي خالف القوم المذكورين -وهم الفرقتان المذكورتان- جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك والشعبي وطاوسًا وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهدًا وأبا حنيفة والليث بن سعد وأبا يوسف ومحمدًا وأشهب من المالكية؛ فإنهم قالوا: لا قنوت في الفجر أصلًا لا قبل الركوع ولا بعده.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذه الآثار المروية في القنوت قد رويت على ما ذكرنا، فكان أحد من روي ذلك عنه عبد الله بن مسعود، قد روينا عنه فيها: "أن النبي - عليه السلام - قنت ثلاثين يوما" فكان قد ثبت عنده قنوت رسول الله - عليه السلام - وعلمه. ثم وجدنا عنه ما قد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لم يقنت النبي - عليه السلام - إلا شهرًا، لم يقنت قبله ولا بعده". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو معشر -يعني البراء- قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا يدعو على عصية وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت"، وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاة الغداة. قال أبو جعفر: فهذا عبد الله بن مسعود يخبر أن قنوت النبي - عليه السلام - الذي كان، إنما كان من أجل مَن كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك فصار القنوت عنده منسوخًا، فلم يكن هو من بعد رسول الله - عليه السلام - يقنت. ش: أي وكان من الحجة والبرهان للجماعة الأخرى فيما ذهبوا إليه من ترك القنوت في صلاة الفجر أصلًا، لا قبل الركوع ولا بعده، أن هذه الأحاديث المروية وهي أحاديث عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وخُفاف بن أَيْماء والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، قد رويت على ما ذكرنا من القنوت في الفجر. وتقرير الكلام أن يقال: إنا لا ننازع أن هذه الأحاديث قد رويت على نحو ما ذكرنا, ولكن كل واحد له معنى، ومعاني الكل ترجع إلى معنى واحد، وهو انتساخ القنوت في الفجر، بيان ذلك: أن أحد الرواة في ذلك عبد الله بن مسعود؛ لأنه قد روى عنه علقمة أنه قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين [يوما] (¬1) ". ثم روى عنه علقمة أيضا أنه قال: "لم يقنت النبي - عليه السلام - إلا شهرًا، لم يقنت قبله ولا بعده". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخرجه الطحاوي عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل الكوفي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة، والزاي المعجمة- محمَّد بن ميمون السكري، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عنه. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في (¬1) "مسنده": ثنا يوسف بن موسى، ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا شريك ... إلى آخره نحوه. وروى علقمة عنه أيضًا أنه قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا يدعو على عصية وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت، وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاة الغداة". أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ الأربعة، عن أبي معشر يوسف بن يزيد العطار البصري البَرَّاء -بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المهملة- سمي به لأنه كان يري النبل، وقيل: كان يبري العود، عن أبي حمزة محمَّد بن ميمون (¬2) ... إلى آخره. وهذا أيضا إسناد صحيح. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا داود بن رشيد، نا حسان بن إبراهيم، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: "ما قنت النبي - عليه السلام - قط في صلاة الغداة إلا ثلاثين ليلة، يدعو على نجد من بني سليم، ثم تركه بعد". فهذا عبد الله - رضي الله عنه - يخبر أن قنوت النبي - عليه السلام - الذي كان يقنت إنما كان لأجل من كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك، يدل عليه قوله: "فلما ظهر عليهم" أي فلما غلب عليهم وانتصر ترك القنوت، فدل ذلك على انتساخ ما كان منه من القنوت؛ ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 15 رقم 1569). (¬2) تقدم قريبًا أن الصواب: أبو حمزة ميمون الأعور القصاب الكوفي.

لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته، ولذلك كان ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يقنت من بعد رسول الله - عليه السلام - في صلاة الفجر. وقال الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود: "أن ابن مسعود كان لا يقنت في صلاة الغداة". وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة. وقال أيضا (¬2): ثنا فضيل بن محمَّد الملطي، ثنا أبو نعيم، نا أبو العميس، حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال: "كان عبد الله لا يقنت في صلاة الغداة، وإذا قنت في الوتر قبل الركعة". ثنا (¬3) محمَّد بن النضر الأزدي، نا معاوية بن عمرو، نا زائدة، ثنا حصين بن عبد الرحمن، عن إبراهيم قال: "لم يكن عبد الله بن مسعود يقنت في صلاة الغداة". ثنا (¬4) علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد، عن أبي حمزة، عن ابن مسعود: "أنه كان يقنت في الوتر قبل الركوع، ولا يقنت في صلاة الفجر". انتهى. فهذا كله دليل على ثبوت نسخ القنوت في الفجر عنده، إذْ لو لم يثبت لما وسعه تركه على ما لا يخفى. فإن قيل: يمكن أن يكون القنوت خفي عليه كما خفي عليه وضع الأيدي على الركب في الركوع، حتى ثبت على القول بالتطبيق إلى أن مات. قلت: كيف يخفى عليه ذلك؟ والحال أنه قد روى أنه - عليه السلام - قنت، ولو لم يكن يرو شيئًا فيه لأمكن ذلك كما في مسألة التطبيق، فإنه ما روى عنه - عليه السلام - غير التطبيق، وما ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 284 رقم 9429). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 284 رقم 9430). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 284 رقم 9431). (¬4) "المعجم الكبير" (9/ 284 رقم 3294).

روى غيره من غير التطبيق لم يبلغه، بخلاف مسألة القنوت، بل علم ذلك من الرسول - عليه السلام - وروى عنه، ثم علم انتساخه. وقد روى أبو حنيفة أيضًا في "مسنده" (¬1): عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "لم يقنت رسول الله - عليه السلام - إلا شهرًا، حارب حيًّا من المشركين، فقنت يدعو عليهم". وفي "المحلى" (¬2): وروينا عن ابن عباس أنه لم يقنت. وعن عبد الرزاق، عن معمر أن الزهري كان يقول: "من أين أخذ الناس القنوت؟! وتعجب، إنما قنت رسول الله - عليه السلام - أيامًا ثم ترك ذلك" قال أبو محمَّد: فهذا الزهري جهل القنوت ورآه منسوخًا. وقال ابن أبي نجيح: "سألت سالمًا هل كان عمر يقنت في صلاة الصبح؟ قال: لا إنما هو شيء أحدثه الناس". وفي "المنتقى" لابن عبد البر: عن ابن عمر وطاوس: "القنوت في الفجر بدعة". ص: وكان أحد من روى ذلك أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، ثم قد أخبر هو أن الله تعالى نسخ ذلك حين أنزل على النبي - عليه السلام - {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬3) فصار ذلك عند ابن عمر منسوخًا أيضا، فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله - عليه السلام -، وكان ينكر على من يقنت. كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة، عن أبي مجلز قال: "صليت خلف ابن عمر الصبح فلم يقنت، فقلت الكِبَر يمنعك؟ فقال: ما أحفظه عن أحد من أصحاب". ¬

_ (¬1) "مسند أبي حنيفة" (1/ 82). (¬2) "المحلى" (4/ 142). (¬3) سورة آل عمران، آية: [128].

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب ومؤمل بن إسماعيل، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي الشعثاء قال: "سألت ابن عمر - رضي الله عنها - عن القنوت، فقال: ما شهدت وما رأيت" في حديث وهب، وفي حديث مؤمل: "ولا رأيت أحدًا يفعله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة، عن الأشعث، عن أبيه قال: "سئل ابن عمر عن القنوت، فقال: وما القنوت؟! قال: إذا فرغ الإِمام من القراءة في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قام يدعو، قال: ما رأيت أحدًا يفعله، وإني لأظنكم معاشر أهل العراق تفعلونه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة، عن منصور، عن تميم بن سلمة قال: "سئل ابن عمر عن القنوت ... " فذكر مثله، إلا أنه قال: "ما رأيت ولا علمت". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فوجه ما روي عن ابن عمر في هذا الباب: أنه رأى النبي - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة قنت، حتى أنزل الله -عز وجل- عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فترك لذلك القنوت الذي كان يقنته، وسأله أبو مجلز فقال: الكِبَر يمنعك من القنوت؟ فقال: ما أحفظه عن أحد من أصحابي -يعني عن أحد من أصحاب النبي - عليه السلام -- أي أنهم لم يفعلوه بعد ترك رسول الله - عليه السلام - إياه، وسأله أبو الشعثاء عن القنوت، وسأله ابن عمر عن ذلك ما هو؟ فأخبره أن الإِمام إذا فرغ من القراءة في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قام يدعو، فقال: ما رأيت أحدًا يفعله؛ لأن ما كان هو علمه من قنوت النبي - عليه السلام - إنما كان الدعاء بعد الركوع، وأما قبل الركوع فلم يره منه ولا من غيره، فأنكر ذلك من أجله، فقد ثبت بما روينا عنه نسخ قنوت رسول الله - عليه السلام - بعد الركوع، ونفي القنوت قبل الركوع أصلا، وأن النبي - عليه السلام - لم يكن يفعله، ولا خلفاؤه - رضي الله عنهم - من بعده.

ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح أيضا عن النبي - عليه السلام - عبد الله بن عمر، يعني روى أنه قنت في الصبح، ثم أخبر أن ذلك انتسخ حين أُنزل عليه - عليه السلام - قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬1) الآية، بيان ذلك على وجهين: الأول: أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقنت بعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر، وشاهد ذلك عن النبي - عليه السلام - ورآه، ثم رأى بعده أنه - عليه السلام - ترك ذلك القنوت الذي كان يقنته حين أنزل الله تعالى عليه - عليه السلام -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، وليس ذلك إلا نسخ ذلك الحكم. فإن قيل: لعل ذلك خفي على ابن عمر كما خفي عليه المسح على الخفين؛ حيث لم ير ذلك. قلت: كيف يخفى ذلك عليه، والحال أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه قنت؟! بخلاف المسح على الخفين فإنه لم يرو فيه شيئًا، ولعل رواية غيره فيه لم تبلغه، وهذا الكلام قد قاله البيهقي أيضًا حيث قال في "سننه": وهذه سنة خفيت على ابن عمر، وهذا بعيد بل مستحيل في حق ابن عمر - رضي الله عنهما -؛ لأنه مع كثرة مجالسته مع النبي - عليه السلام - وشدة ملازمته كيف ينسى ذلك أو يغفل عنه؟! ولئن سلمنا أنه خفي عليه ما كان من النبي - عليه السلام - ولكن لا نسلم أنه خفي عليه ما كان من أبيه عمر - رضي الله عنه -، فإنه لما سأله أبو مجلز عن قنوت عمر - رضي الله عنه -، فقال: "ما رأيته ولا شهدته". وقال الشعبي: "كان عبد الله لا يقنت، ولو قنت عمر - رضي الله عنه - لقنت عبد الله، وعبد الله يقول: لو سلك الناس واديًا وشعبًا وسلك عمر واديًا وشعبًا لسلكت وادي عمر وشعبه". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن إدريس، عن أبي مالك، عن أبيه قال: "قلت له: صليت خلف رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، أفكانوا يقنتون؟ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6963).

فقال: لا يا بني، هي محدثة. ثنا وكيع (¬1)، قال: ثنا محمد بن قيس، عن عامر الجهني "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان لا يقنت في الفجر، وقال عامر: ما كان القنوت حتى جاء أهل الشام". ثنا وكيع (¬2)، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: "لم يقنت أبو بكر ولا عمر في الفجر". فإن قيل: قال ابن حزم (¬3): قال بعض الناس: الدليل على نسخ القنوت ما رويتموه من طريق معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - حين رفع رأسه من صلاة الصبح من الركعة الآخرة قال: اللهم العن فلانا وفلانا -دعا على ناس من المنافقين- فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬4) الآية. قال علي: هذا حجة في إثبات القنوت؛ لأنه ليس فيه نهي عنه، وهذا حجة في بطلان قول من قال: إن ابن عمر جهل القنوت، ولعل ابن عمر إنما أنكر القنوت في الفجر قبل الركوع، فهو موضع إنكار. قلت: ابن حزم حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء؛ لأن قوله: "هذا حجة في إثبات القنوت" ليس على الإطلاق في معناه أنه حجة في إثبات ما كان من القنوت أولًا، وحجة أيضا على انتساخ ذلك، فأول النص حجة في إثباته، وآخره وهو نزول الآية حجة في انتساخه، فابن حزم أخذ الجانب الواحد وجعله حجة مطلقا، وترك الجانب الذي عليه وعلى أمثاله ممن يرى بالقنوت في صلاة الفجر، وقوله: "وهذا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 103 رقم 6983). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 104 رقم 6997). (¬3) "المحلى" (4/ 144). (¬4) سورة آل عمران، آية: [128].

حجة في بطلان قول من قال ... إلى آخره" ليس كذلك؛ لأن مراد من يقول: "إن ابن عمر جهل القنوت" القنوت الذي كان يفعله بعض الناس من بعد النبي - عليه السلام - حيث قال لما سئل عنه: "ما شعرت" وليس مراده أنه جهل القنوت المنسوخ الذي فعله - عليه السلام - شهرًا ثم تركه، فإنه هو الذي رواه كما روى غيره، فكيف يجهل بشيء قد رواه وعلمه؟!. الوجه الثاني في بيان النسخ: أن ترك ابن عمر - رضي الله عنهما - القنوت في الصبح بعد روايته دليل على أنه قد انتسخ ذلك إذ لو كان حكمه باقيا لا تركه؛ لأن عمل الراوي بخلاف روايته يدل على أن ما رواه منسوخ؛ إذ إقدامه على ذلك بالترك يدل على ذلك كما علم ذلك في موضعه، وأيضًا فإنه - رضي الله عنه - أنكر على من كان يقنت، ولو كان حكمه باقيا غير منسوخ لا وسعه الإنكار. ثم الآثار التي أخرجها عن ابن عمر أربعة: الأول: عن ابن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة بن دعامة، عن أبي مجلز لاحق بن حميد. وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة؛ لأن رجاله رجال الجماعة ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عثمان بن عمر الضبي، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز قال: "صليت خلف ابن عمر فلم يقنت، فقلت: ما منعك من القنوت؟ فقال: إني لا أحفظ عن أحد من أصحابي". وأخرجه ابن جرير الطبري "في تهذيب الآثار" (¬2) نحوه، من حديث شعبة، عن قتادة. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 137)، وقال: رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله ثقات. (¬2) "تهذيب الآثار" (6/ 218 رقم 2725).

قوله: "الكِبَر" بكسر الكاف وفتح الباء، أراد إنك لم تقنت في الصبح؛ لأجل كونك شيخًا كبيرًا؟ قوله: "ما أحفظه" أي القنوت في صلاة الصبح. "عن أحد من أصحابي" أراد بهم أصحاب النبي - عليه السلام -، وعني بذلك أنهم لم يكونوا يفعلونه بعد ترك النبي - عليه السلام - إياه فكيف أفعله أنا؟ الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير البصري، ومؤمل بن إسماعيل القرشي البصري، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي الشعثاء سليم بن الأسود بن حنظلة المحاربي الكوفي. وهذا أيضًا إسناد صحيح في غاية الصحة. وأخرجه ابن جرير الطبري في "التهذيب" (¬1) نحوه. الثالث: عن أبي بكرة أيضا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه أبي الشعثاء سليم. وهذا أيضا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن سليم أبي الشعثاء المحاربي قال: "سألت ابن عمر عن القنوت في الفجر، فقال: فأي شيء القنوت؟ قلت: يقوم الرجل ساعة بعد القراءة، قال ابن عمر: ما شعرت". الرابع: عن أبي بكرة أيضا، عن أبي داود سليمان أيضا، عن زائدة أيضا، عن تميم بن سلمة السلمي الكوفي، وثقه يحيى والنسائي، واستشهد به البخاري، وروى له الباقون سوى الترمذي. وهذا أيضا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "تهذيب الآثار" (6/ 183 رقم 2690). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6969).

وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قال ابن عمر - رضي الله عنهما - في قنوت الصبح: "ما شهدت، وما علمت". ص: وكان أحد من روي عنه القنوت عن النبي - عليه السلام -: عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -، فأخبر في حديثه الذي روينا عنه بأن رسول الله - عليه السلام - دعا على من كان يدعو عليه، وأن الله تعالى نسخ ذلك بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2) الآية، ففي ذلك أيضًا وجوب ترك القنوت في الفجر. ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح عن النبي - عليه السلام -: عبد الرحمن بن أبي بكر؛ فإنه روى "أنه - عليه السلام - كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة قال: اللهم أنج الوليد ... " الحديث، ثم أخبر في آخر حديثه: "فما دعا رسول الله - عليه السلام - بدعاء على أحد بعد ذلك بعد نزول قوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية". فهذا أيضًا يدل على أن ما كان منه - عليه السلام - قد انتسخ. فإن قيل: يحتمل أن يكون معنى قوله: "فما دعا رسول الله - عليه السلام - بدعاء على أحد بعد" يعني ترك اللعن على أحد، كما أخرجه البيهقي (¬3): عن عبد الرحمن بن مهدي في قول أنس - رضي الله عنه -: "قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه" قال: إنما ترك اللعن. قلت: جاء عن الزهري مصرحًا: أن الراد منه ترك القنوت مطلقًا. كما روى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): عن معمر، عن الزهري كان يقول: "من أين أخذ الناس القنوت؟! " وتعجب. ويقول: "إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا ثم ترك ذلك". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6977). (¬2) سورة آل عمران، آية: [128]. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 201 رقم 2924). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 105 رقم 4945).

ص: وكان أحد من روي عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أيضًا: خفاف بن إيماء، فذكر عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه لما رفع رأسه من الركوع قال: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان ومن ذكر معهم. ففي هذا الحديث لعن من لعن رسول الله - عليه السلام - في حديثي ابن عمر وعبد الرحمن بن أي بكر - رضي الله عنهم -، وقد أخبرا هما في حديثهما أن رسول الله - عليه السلام - ترك ذلك حين أُنزل عليه الآية التي ذكرنا، ففي حديثيهما النسخ لما في حديث خفاف بن إيماء وفي ذلك وجوب ترك القنوت أيضًا. ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح أيضا عن النبي - عليه السلام - خفاف بن إيماء، هذا جواب عن حديثه. بيان ذلك أن حديثه أيضا منسوخ؛ وذلك لأن الذين لعنهم رسول الله - عليه السلام - في حديثه هم الذين لعنهم في حديثي عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم -، فالقضية واحدة، وقد أخبر عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر كلاهما في حديثيهما أن رسول الله - عليه السلام - ترك ذلك حين نزلت عليه الآية، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬1) الآية، فيكون هذا الترك أيضًا في حديث خفاف بن إيماء لاتحاد القضية، فيكون حديثه منسوخًا بانتساخ حديثي ابن عمر، وابن أبي بكر - رضي الله عنهم -. قوله: "وقد أخبرا هما" أي قد أخبر ابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر. وقوله: "هما" ضمير مرفوع وقع تأكيدا للضمير المستكن في قوله، "أخبرا". فافهم. ص: وكان أحد من روى ذلك عنه أيضا البراء بن عازب، فروى عنه: "أن النبي - عليه السلام - كان يقنت في الفجر والمغرب، ولم يخبر بقنوته ذلك ما هو، فقد يجوز أن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128].

يكون ذلك هو القنوت الذي رواه ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه -، ومن روى ذلك معهما، ثم نسخ ذلك بهذه الآية أيضًا، وقد قرن في هذا الحديث بين المغرب والفجر، فذكر أن رسول الله - عليه السلام - كان يقنت فيهما، ففي إجماع مخالفنا لنا على أن ما كان يفعله في المغرب من ذلك منسوخا ليس لأحد بعده أن يفعله دليل على أن ما كان يفعله في الفجر أيضا كذلك. ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح أيضا عن النبي - عليه السلام -: البراء بن عازب، هذا جواب عن حديثه. بيان ذلك أنه منسوخ أيضا؛ لأن البراء أخبر في حديثه أنه - عليه السلام - كان يقنت في صلاة الفجر وصلاة المغرب، ولكن لم يبين ما كان قنوته، ولماذا كان؟ فيحتمل أن يكون ذلك هو القنوت الذي رواه عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم - ومن روى ذلك معهما -أي مع عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر- مثل أبي هريرة وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -؛ فيكون منسوخًا بما نسخ به حديثهما وهو قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬1) الآية. قوله: "وقد قرن في هذا الحديث بين المغرب و [الفجر] (¬2) ... " إلى آخره جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: سلمنا ما ذكرتم من النسخ إذا كان المراد من القنوت في حديث البراء هو القنوت في حديثي عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم -، وأما إذا كان المراد غير ذلك القنوت، فلا نسلم نسخه في صلاة الصبح. وتقرير الجواب: أن الخصم أجمع معنا على أن قنوته - عليه السلام - في صلاة المغرب انتسخ، حتى لا يجوز لأحد أن يفعله بعد النبي - عليه السلام -، فهذا دليل على أن قنوته - عليه السلام - في صلاة الصبح أيضا منسوخ، وإلا فيلزم التحكم والترجيح بلا مرجع وهو باطل. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128]. (¬2) في "الأصل": "العشاء"، والمثبت من "ك"، وحاشية "الأصل".

وأيضًا فإنه قد روي عن البراء: "أن النبي - عليه السلام - كان لا يصلي صلاة إلا قنت فيها". رواه ابن حزم (¬1) وقال: ثنا حُمام بن أحمد، ثنا عباس بن أصبغ، نا محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا أبو عبد الله الكابُلي، نا إبراهيم بن موسى الرازي، ثنا محمَّد بن أنس، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -. فهذا منسوخ بإجماع الخصم حترل لا يجوز أن يقنت أحد في الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، فيكون حكم الصبح كذلك وإلا يلزم التحكم كما ذكرنا. قوله: "دليل" مبتدأ وخبره قوله: "ففي إجماع مخالفنا لنا"، وأراد من هذا المخالف: من يرى بالقنوت في الصبح. قوله: "منسوخا" نصب على أنه خبر كان. وقوله: "ليس لأحد بعده أن يفعله" صفة لقوله: "منسوخا" أي بعد النبي - عليه السلام -. ص: وكان أحد من روي عنه عن رسول الله - عليه السلام - أيضا القنوت في الفجر: أنس بن مالك، فروى عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقه". فأثبت في هذا الحديث القنوت في صلاة الغداة وأن ذلك لم ينسخ. وقد روي عنه من وجوه خلاف ذلك، فروى أيوب، عن محمَّد بن سيرين قال: "سئل أنس: أقنت النبي - عليه السلام - في صلاة الصبح؟ فقال: نعم، فقيل: قبل الركوع أو بعده؟ فقال: بعد الركوع يسيرًا". وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه أنه قال: "قنت النبي - عليه السلام - ثلاثين صباحًا، يدعو على رعل وذكوان". وروى قتادة عنه نحوا من ذلك. ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 139).

وقد روى عنه حميد: "أن النبي - عليه السلام - إنما قنت عشرين يومًا" فهؤلاء كلهم قد أخبروا عنه بخلاف ما روى عمرو، عن الحسن. وروى عنه عاصم إنكار القنوت بعد الركوع أصلًا، وأن النبي - عليه السلام - إنما فعل ذلك شهرًا, ولكن القنوت قبل الركوع، يضاد ذلك أيضًا ما روى عَمرو بن عبيد وخالفه، فلم يجز لأحد أن يحتج في حديث أنس بأحد الوجهين مما روي عن أنس؛ لأن لخصمه أن يحتج عليه بما روي عن أنس مما يخالف ذلك. وأما قوله: ولكن القنوت قبل الركوع فلم يذكر ذلك عن النبي - عليه السلام -، فقد يجوز أن يكون ذلك أخذه عمن بعده أو رأيا رآه، فقد رأى غيره من أصحاب النبي - عليه السلام - خلاف ذلك، فلا يكون قوله أولى من قول من خالفه إلا بحجة تبين لنا. ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح أيضا عن النبي - عليه السلام -: أنس بن مالك - رضي الله عنه -، هذا جواب ما روي عن أنس - رضي الله عنه -، بيانه: أنه لا يصلح حجة لأحد من الخصوم؛ لأن الرواية عنه في ذلك مضطربة، فروى عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقه". وروى عنه محمَّد بن سيرين: "أنه - عليه السلام - كان يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع يسيرًا" ولم يذكر فيه حتى فارقه، وروى عنه إسحاق بن عبد الله: "أنه قنت النبي - عليه السلام - ثلاثين صباحًا"، فهذا مقيد بالمدة المذكورة، وكذلك روى قتادة عنه، وروى عنه حميد الطويل: "أن النبي - عليه السلام - إنما قنت عشرين يوما" فهذا أيضا مقيد بمدة أقل من تلك المدة. وروى البزار عن حميد عن أنس: "خمسة عشر يومًا" وقد ذكرناه، وفي رواية لابن مندة: "تسعة وعشرين ليلة" وقد ذكرناها أيضا، وروى عنه عاصم الأحول إنكار القنوت بعد الركوع أصلًا، وأن النبي - عليه السلام -، إنما فعل ذلك شهرًا، ولكن القنوت قبل الركوع. فهذه روايات كما ترى مضطربة مختلفة، وفي بعضها تضاد؛ لأن رواية عاصم الأحول تضاد رواية عمرو بن عبيد، عن الحسن في قوله: "لم يزل يقنت بعد الركوع

في صلاة الغداة" فحينئذ لم يجز لأحد أن يحتج في حديث أنس بأحد الوجهين -بالنفي أو الإثبات- لأن لأحد الخصمين أن يحتج على الآخر بما يحتج به من خلاف ما يحتج به. على أنه قد روى عن أنس أيضا ما يدل على أن القنوت في الصبح منسوخ. وهو ما رواه أبو داود (¬1): ثنا أبو الوليد، نا حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - قنت شهرًا ثم تركه". فقوله: "ثم تركه" يدل على أن القنوت في الفرائض ثم نسخ. فإن قيل: قد قال الخطابي: معنى قوله: "ثم تركه" أي ترك الدعاء على هؤلاء القبائل المذكورة في الأحاديث في هذا الباب، أو ترك القنوت في الصلوات الأربع، ولم يتركه في صلاة الفجر. قلت: لا ينبغي أن يصدر مثل هذا الكلام عن مثل الخطابي، فإنه كلام متحكم متعصب، فإن الضمير في تركه يرجع إلى القنوت الذي يدل عليه قوله: "قنت" لما وهو عام يتناول جميع القنوت في جميع الصلوات، وتخصيص الفجر من بينها -بلا دليل يدل عليه- باطل. وقوله: "أي ترك الدعاء" لا يصح أيضا؛ لأن الدعاء لم يمض ذكره في هذا الحديث، ولئن سلمنا؛ فالدعاء ها هنا هو عين القنوت، وما ثم شيء غيره، فيكون قد ترك القنوت، والترك بعد العمل نسخ. فافهم. وقوله: "وأما قوله: ولكن القنوت قبل الر كوع ... " إلى آخره إشارة إلى أن أنسًا - رضي الله عنه - لم يثبت عنده شيءٌ من القنوت قبل الركوع؛ لأن قوله: ولكن القنوت قبل الركوع ليس عن النبي - عليه السلام - , لأنه لم يذكر ذلك عنه - عليه السلام -، فيجوز أن يكون قد أخذ ذلك عن أحد من الصحابة، أو يكون ذلك رأيًا رآه باجتهاده، فإن كان ذلك رأيا ة فقد رأى غيره من الصحابة خلاف ذلك، وهو أن يكون بعد الركوع "فلا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 458 رقم 1445).

يكون قول أنس أولى وأرجح من قول غيره إلا بحجة تبين جهة الرجحان والأولوية، وإن كان عن أحد من الصحابة، فقد روي عن غيره خلافه فلا تقوم به حجة. فافهم. ص: فإن قال قائل: قد روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: "كنت جالسًا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت النبي - عليه السلام - شهرًا، فقال: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا". قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك القنوت هو القنوت الذي رواه عمرو، عن الحسن، عن أنس، فإن كان ذلك كذلك فقد ضاده ما قد ذكرناه، ويجوز أن يكون ذلك القنوت قبل الركوع الذي ذكره أنس في حديث عاصم، فلم يثبت لنا عن أنس عن النبي - عليه السلام - في القنوت قبل الركوع شيء، وقد ثبت عنه النسخ للقنوت بعد الركوع. ش: أخرج الطحاوي حديث أبي جعفر الرازي فيما مضى عن قريب، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: "كنت جالسًا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرًا، فقال: مازال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا". تقرير السؤال: أن هذا الحديث صريح على أن القنوت في الصبح لم ينسخ، وأنه باق حكمه، وهو ظاهر. وتقرير الجواب أن يقال: إن قوله: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة، يحتمل أن يكون أريد به القنوت الذي رواه عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يزل يقنت بعد الركوع حتى فارقه"، فحينئذ يعارضه ويضاددُهُ ما رواه غيره كإسحاق بن عبد الله: "أنه قنت ثلاثين صباحًا"، وحميد: "أنه إنما قنت عشرين يومًا"، فإذا كان كذلك لا تقوم به حجة لما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد من القنوت هو القنوت قبل الركوع الذي ذكره أنس في حديث عاصم الأحول.

وقد قلنا إنه لم يثبت عن أنس عن النبي - عليه السلام - في القنوت قبل الركوع شيء، وأما القنوت الذي بعد الركوع فقد ثبت عنه النسخ فيه. والله أعلم. على أنَّا نقول: إن بعضهم قد ضعف هذا الحديث وعلله بأبي جعفر هذا؛ فإن فيه مقالا كما قد ذكرناه فيما مضى عن قريب. فإن قيل: قال النووي في "الخلاصة": صححه الحاكم في كتابه "المستدرك" وقال حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات. وعن الحاكم أخرجه البيهقي في "المعرفة" بسنده ومتنه وسكت عنه. قلت: قال صاحب "التنقيح على التحقيق": "هذا الحديث أجود أحاديثهم"، وذكر جماعة وثقوا أبا جعفر الرازي، وله طريق في كتاب "القنوت" لأبي موسى المديني، قال: "وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل، أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} (¬1) وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَآءَ اللَّيْلِ} (¬2)، قال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ} (¬3)، وقال: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي} (¬4)، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬5). وقال: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬6). وفي الحديث: "أفضل الصلاة طول القنوت". وضعفه ابن الجوزي في كتاب "التحقيق"، وفي "العلل المتناهية" قال: "هذا حديث لا يصح؛ فإن أبا جعفر الرازي اسمه عيسى بن ماهان، قال ابن المديني: كان يخلط. وقال يحيى: كان يخطئ. وقال أحمد: ليس بالقوي في الحديث". وقال ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [120]. (¬2) سورة الزمر، آية: [9]. (¬3) سورة الأحزاب، آية: [31]. (¬4) سورة آل عمران، آية: [43]. (¬5) سورة البقرة، آية: [238]. (¬6) سورة البقرة، آية: [116].

ابن الجوزي: وقد أورد الخطيب في كتابه الذي صنفه في القنوت أحاديث أظهر فيها تعصبه فمنها: ما أخرجه عن دينار بن عبد الله خادم أنس بن مالك، عن أنس قال: "ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الصبح حتى مات"، قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاجه به وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين؛ لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيها. فواعجبا للخطيب؛ أما سمع في الصحيح: "من حدث عني حديثا، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". وهل مثله إلا كمثل من أنفق بهرجًا ودلسه، فإن أكثر الناس لا يعرفون الصحيح من السقيم، وإنما يظهر ذلك للنقاد، فإذا أورد الحديث محدث واحتج به حافظ لم يقع في النفوس إلا أنه صحيح. ومن نظر في كتابه الذي صنفه في القنوت، وكتابه الذي صنفه في الجهر بالبسملة، واحتجاجه بالأحاديث التي يعلم بطلانها؛ اطلع على عصبيته وقلة دينه، ثم ذكر له أحاديث أخرى كلها عن أنس أن النبي - عليه السلام - لم يزل يقنت في الصبح حتى مات، وطعن في أسانيدها. فإن قيل: ذكره البيهقي في "سننه" أيضا ثم قال: قال الحاكم صحيح، وقال في "المعرفة": وله شواهد عن أنس ذكرناها في "السنن". قلت: قد تحقق بينهم مجازفة الحاكم في التصحيح، والعجب من البيهقي أيضا سكوته عن ذلك وإقراره عليه، وليس ذلك إلا من آثار العصبية الفاسدة. وأما الشواهد التي ذكرها فهي ما أخرجه في "سننه" (¬1): من حديث الغضائري، ثنا عثمان بن السماك، نا أبوقلابة، نا قريش بن أنس، نا إسماعيل المكي، وعَمرو بن عبيد، عن الحسن عن أنس قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان -وأحسبه ذكر رابعًا- حتى فارقتهم" رواه عبد الوارث عن عمرو بن عبيد فقال: "في صلاة الغداة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 202 رقم 2928).

ومن حديث خليد بن دعلج (¬1)، عن قتادة، عن أنس: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فقنت، وخلف عمر فقنت، وخلف عثمان فقنت". ومن حديث يحيى القطان (¬2): ثنا العوام بن حمزة قال: "سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح، قال: بعد الركوع، قلت: عمن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان". ومن حديث ابن عيينة (¬3)، عن مخارق، عن طارق قال: "صليت خلف عمر الصبح فقنت"، وعن عبيد بن عمير قال: "سمعت عمر - رضي الله عنه - يقنت بمكة في الفجر" رواه ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عنه. ومن حديث شعبة (¬4)، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود: "صليت خلف عمر في السفر والحضر، فما كان يقنت إلا في صلاة الفجردا رواه غندر وابن الجعد هكذا، وقال آدم، عن شعبة: "فكان يقنت في الركعة الثانية من الفجر، ولا يقنت في سائر صلاته". انتهى. قلت: أما حديث الغضائري ففيه إسماعيل المكي، وعمرو بن عبيد، فهو صرح في "سننه": فإنا لا نحتج بهما. وأما حديث خليد بن دعلج فإن [خليدًا] (¬5) لا يصلح للاستشهاد به؛ لأن أحمد وابن معين والدارقطني ضعفوه، وقال ابن معين مرة: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. ولم يخرج له أحد من الستة، وفي "الميزان": عده الدارقطني من المتروكين. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 202 رقم 2929). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 202 رقم 2930). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 203 رقم 2931). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 203 رقم 2932). (¬5) في "الأصل، ك": "دعلجًا"، وهو سبق قلم من المؤلف، فإن هذه الأقوال الآتية إنما هي في خليد لا دعلج.

ثم إن المستغرب من حديث أنس المتقدم قوله: "ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا" وليس هذا في حديث خليد بن دعلج، وإنما فيه أنه - عليه السلام - قنت، وذلك معروف، وإنما المستغرب دوامه حتى فارق الدنيا، فعك تقدير صلاحية خليد للاستشهاد به، كيف يشهد حديثه لحديث أنس؟!. وأما حديث يحيى القطان فإنه قال: إسناده حسن، وكيف يكون إسناده حسنًا، وفيه العوام بن حمزة، وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: له أحاديث مناكير؟!. فإن قيل: رواية يحيى بن سعيد عنه دلت على ثقته عنده. قلت: ما ذكرناه يدل على ضعفه، والجرح مقدم على التعديل. وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص بن غياث، عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: "يا أبت، صليت خلف النبي - عليه السلام - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فما رأيت أحذا منهم يقنت؟ فقال: يا بني هي محدثة". ورواه أيضًا عن ابن إدريس، عن أبي مالك بمعناه. والسندان صحيحان، فالأخذ بذلك أولى مما رواه العوام. وحديث أبي مالك أخرجه البيهقي أيضًا في باب: من لم ير القنوت في الصبح. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2)، ولفظه: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف عليّ فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة". وأما حديث طارق وحديث عبيد بن عمير فإن البيهقي قال: فإنها روايات صحيحة موصولة، وكيف تكون صحيحة؟! فإن في أسانيدها محمَّد بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6961). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 328 رقم 1989).

الحسن البربهاري: قال ابن الجوزي في كتابه: قال البرقاني: كان كذابا. وقال الدارقطني: خلط الجيد بالرديء فأفسده. وفيها يحيى بن سليم الطائفي: قال البيهقي في باب من كره أكل: الطائفي كثير الوهم سيء الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الرازي: لا يحتج به. فظهر من هذا أنها ليست بروايات صحيحة، بل المروي عن عمر - رضي الله عنه - بالأسانيد الصحيحة أنه لم يقنت فيها كما ذكرنا الآن في رواية أبي مالك الأشجعي. وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون: "أنهما صليا خلف عمر الفجر، فلم يقنت". وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا في باب: من لم ير السجود في ترك القنوت، من حديث سفيان بسنده المذكور. وقال ابن أبي شيبة (¬3) أيضًا: ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: "أن الأسود وعمرو بن ميمون صليا خلف عمر الفجر، فلم يقنت". وقال أيضًا (¬4): نا وكيع، ثنا ابن أبي خالد، عن أبي الضحى، عن سعيد بن جبير: "أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقنت في الفجر". ورواه عبد الرزاق (¬5): عن ابن عيينة، عن ابن أبي خالد. وهذه أسانيد صحيحة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6965). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 350 رقم 3695). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6964). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6972). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 106 رقم 4956).

وأما حديث شعبة (¬1)، عن حماد، عن إبراهيم، فقد قال البيهقي: فيه دليل على اختصار وقع في الحديث الذي أتى فساق سنده: عن منصور، عن إبراهيم، أن الأسود وعمرو بن ميمون قالا: "صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت"، ثم قال: منصور وإن كان أوثق وأحفظ من حماد بن أبي سليمان، فرواية حماد في هذا توافق المذهب المشهور عن عمر في القنوت. قلت: لما انتفع البيهقي برواية حماد ها هنا ذكر ما يدل على حفظه وثقته؛ لأنه إذا كان منصور أحفظ وأوثق منه كان هو في نفسه حافظًا ثقة، وخالف ذلك في باب: الزنا لا يحرم الحلال، وضعفه، وليست رواية منصور مختصرة من رواية حماد، بل معارضة لها، ومع جلالة منصور تابعه على روايته الأعمش. فرواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن منصور والأعمش ... فذكره كذلك، وتابعه أيضًا الحسن بن عبيد الله كما تقدم عن قريب. وقد روي عن حماد ما هو موافق لرواية منصور. فذكر عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا: "صلى عمر زمانا لم يقنت". وفي "التهذيب" (¬4) لابن جرير الطبري: روى شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صليت مع عمر في السفر والحضر ما لا أحصي، فكان لا يقنت". وروى أبو حنيفة في "مسنده" (¬5): عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "ما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام، فكان يقنت". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 350 رقم 3695). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 106 رقم 4948). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 105 رقم 4947). (¬4) "تهذيب الآثار" (6/ 177 رقم 2684). (¬5) "مسند أبي حنيفة" (1/ 83).

وفي "مسنده" (¬1) أيضًا: عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صحبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنين، فلم أره قانتا في صلاة الفجر". واعلم أن عندي جوابا آخر عن حديث أبي جعفر الرازي. وهو أنه معارض بما رواه الطبراني في "معجمه" (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، ثنا شيبان بن فروخ، نا غالب بن فرقد الطحان قال: "كنت عند أنس بن مالك شهرين، فلم يقنت في صلاة الغداة". وروى محمَّد بن الحسن في كتابه "الآثار" (¬3): أنا أبو حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي قال: "لم يرالنبي - عليه السلام - قانتا في الفجر حتى فارق الدنيا". ص: وكان أبوهريرة أحد من روى عن النبي - عليه السلام - أيضًا القنوت في الفجر، فذلك القنوت هو دعاء لقوم ودعاء على آخرين، وفي حديثه أن النبي - عليه السلام - ترك ذلك حين أنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬4) الآية. ش: هذا جواب عن حديث أبي هريرة المذكور فيما مضى في معرض استدلال أهل المقالة الأولى، بيانه أن أبا هريرة روى عن النبي - عليه السلام - القنوت في الفجر، وذلك القنوت هو الدعاء لقوم والدعاء على آخرين. فالأول: هو قوله - عليه السلام -: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة". والثاني: هو قوله: "اللهم العن فلانا وفلانا، أحياء من العرب"، ثم روى أن النبي - عليه السلام - ترك ذلك حيث قال في حديثه: "وأصبح ذات يوم ولم يدع لهم، ¬

_ (¬1) "مسند أبي حنيفة" (1/ 83). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 245 رقم 693). (¬3) "الآثار" (1/ 277 رقم 213). (¬4) سورة آل عمران، الآية: [128].

فذكرت ذلك، فقال: أو ما تراهم قد قدموا؟ " فهذا يدل على أن ما كان منه قد انتسخ حكمه وزال. ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون هذا هكذا وقد كان أبو هريرة بعد النبي - عليه السلام - يقنت في الصبح؟ فذكر ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح). وما قد حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: ثنا بكر بن مضر , عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال: "كان أبو هريرة يقنت في صلاة الصبح". قال: فدل ذلك على أن المنسوخ عند أبي هريرة إنما هو الدعاء على من دعا عليه النبي - عليه السلام - فأما القنوت الذي كان مع ذلك فلا. قيل له: إن يونس بن يزيد قد روى عن الزهري في حديث القنوت الذي ذكرناه في أول هذا الباب ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب ... فذكر ذلك الحديث بطوله، ثم قال فيه: "قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك حين أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، فصار ذكر نزول هذه الآية الذي كان به النسخ من كلام الزهري، لا مما رواه عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، فقد يحتمل أن يكون نزول هذه الآية لم يكن أبو هريرة علمه، فكان يعمل على ما علم من فعل رسول الله - عليه السلام - وقنوته إلى أن مات؛ لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، وعلم عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - أن نزول هذه الآية كان ناسخا لما كان النبي - عليه السلام - يفعل، فانتهيا إلى ذلك، وتركا به المنسوخ المتقدم". ش: هذا سؤال من جهة الخصم، تقريره أن يقال: لا نسلم أن المنسوخ على الكيفية التي ذكرتم؛ لأن أبا هريرة قد قنت في صلاة الصبح بعد النبي - عليه السلام -, ولو كان النسخ على نحو ما ذكرتم لما ساغ لأبي هريرة أن يقنت بعده - عليه السلام - مع علمه بالمنسوخ، بل إنما كان المنسوخ عند أبي هريرة هو الدعاء على من كان - عليه السلام - يدعو

عليه، فأما القنوت الذي كان مع ذلك فلم ينسخ ولم يرتفع حكمه، فلهذا قنت أبو هريرة بعده. ثم إنه أخرج أثر أبي هريرة الذي فيه أمر قنوته من وجهين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد المصري مولى ربيعة بن شرحبيل ابن حسنة الكندي، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل المصري، عن عبد الرحمن الأعرج. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أنه كان يقنت في صلاة الصبح". الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضا، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي أبي زكرياء المصري، عن بكر بن مضر ... إلى آخره. وتقرير الجواب: أن يقال: إن يونس بن يزيد الأيلي قد روى عن محمَّد بن مسلم الزهري في حديث القنوت الذي ذكر في أول الباب، وفيه: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك حين أنزل عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2) الآية، فدل ذلك على النسخ، ولكن ذكر نزول هذه الآية الذي حصل به النسخ، من كلام الزهري لا مما رواه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، فإذا كان كذلك، فقد يحتمل أن يكون نزول هذه الآية لم يقف عليه أبو هريرة ولا أحاط به علمه، فلذلك عمل بما كان علمه من فعل النبي - عليه السلام - وقنوته إلى أن مات؛ وذلك لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، فإذا لم تثبت فكيف يترك ما قد علمه من النبي - عليه السلام -؟. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 115 رقم 4981). (¬2) سورة آل عمران، آية: [128].

ألا ترى أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم -، لما علما بنزول الآية، وعلما أنه ناسخ للذي كان النبي - عليه السلام - يفعله انتهيا إلى ذلك، وتركا ما قد علماه من فعل النبي - عليه السلام - المتقدم المنسوخ. واعلم أن الطحاوي أخرج حديث الزهري هذا فيما سبق في موضعين. الأول: في أواخر باب: الإِمام يقول: سمع الله لمن حمده، فقال: ثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أنهما سمعاه يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه من الركوع، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد ... " الحديث. الثاني: في أول هذا الباب بهذا الإسناد بعينه، وزاد فيه: "وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين ... " الحديث، ولم يذكر في الموضعين قول الزهري: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك حين أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬1) الآية". وإنما ذكره ها هنا ,ولكن الجميع بإسناد واحد، وقطعه للتبويب. وأخرجه مسلم (¬2) وقال: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أخهما سمعا أبا هريرة يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلًا وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله، ثم بلغنا أنه ترك ذلك ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128]. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 466 رقم 675).

لما أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1). ص: وحجة أخرى أن في حديث ابن إيماء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين رفع رأسه من الركوع: غفار غفر الله لها -حتى ذكر ما ذكر في حديثه- ثم قال: الله أكبر وخر ساجدًا". فثبت بذلك أن جميع ما كان يقوله هو ما ترك بنزول تلك الآية، وما كان يدعو به مع ذلك من دعائه للأسرى الذين كانوا بمكة، ثم ترك ذلك عندما قدموا، وقد روى أبو هريرة أيضًا في حديث يحيى بن أبي كثير الذي قد رويناه فيما تقدم منا في هذا الباب عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة يذكر القنوت، وفيه: قال أبو هريرة: "وأصبح ذات يوم ولم يدع لهم، فذكرت ذلك، فقال: أوما تراهم قد قدموا؟ " ففي ذلك أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول ذلك الحديث في العشاء الآخرة كما كان يقول في الصبح، وقد أجمعوا أن ذلك منسوخ في صلاة العشاء بكماله لا إلى قنوت غيره، فالفجر أيضًا في النسخ كذلك. ش: هذا جواب آخر عن السؤال المذكور، تقريره أن يقال: إن في حديث خُفاف بن إيماء الذي مر ذكره في هذا الباب أن رسول الله - عليه السلام - دعا لقوم ودعا على آخرين، ثم قال: الله أكبر وخر ساجدًا وأن جميع ذلك ترك بنزول الآية المذكورة، حتى الدعاء الذي كان يدعو به للأسرى الذين كانوا بمكة، فحين ما قدموا ترك ذلك، وقد صرح بذلك في الحديث الذي رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "وأصبح ذات يوم ولم يدع لهم، فذكرت ذلك، فقال: أوَما تراهم قد قدموا" وفي هذا الحديث أيضًا كان يقول ذلك القنوت في صلاة العشاء الآخرة، كما كان يقوله في الصبح، وقد أجمع الخصم معنا أن ذلك منسوخ في صلاة العشاء بكماله لا إلى قنوت غيره، فإذا كان هذا منسوخًا، فكذلك يكون القنوت الذي في الفجر منسوخًا بكماله لا إلى قنوت غيره. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128].

وقولهم: المنسوخ ليس القنوت كله بل إنما كان الدعاء على من دعا عليه أو له، وأما القنوت الذي كان معه باق في الصبح؛ تحكم وتخصيص بلا مخصص وهو باطل، ولئن سلمنا بقاء القنوت وانتساخ الدعاء فلم يختص بذلك الصبح؟ فهلا يقنت في العشاء أيضًا؟ فتخصيص الصبح وترك العشاء تحكم بلا دليل، وأما قنوت أبي هريرة بعد النبي - عليه السلام - فلما ذكرناه عن قريب، على أن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يقنتون في الصبح على ما يجيء، وليس فعل أبي هريرة بأولى وأحق من فعلهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما كشفنا وجوه هذه الآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت، فلم نجد ما يدل على وجوبه الآن في صلاة الفجر، لم نُأْمر به فيها؟ وأمرنا بتركه مع أن بعض أصحاب النبي - عليه السلام - قد أنكره أصلًا، كما حدثنا علي بن معبد وحسين بن نصر وعلي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، قال: أنا أبو مالك الأشجعي سعد بن طارق، قال: قلت لأبي: "يا أبه، إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر، وخلف عمر، وخلف عثمان، وخلف علي ها هنا بالكوفة قريبا من خمس سنين، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني، محدث". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلسنا نقول: إنه محدث على أنه لم يكن، وقد كان، ولكنه قد كان بعده ما قد رويناه في هذا الباب قبله. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها في هذا الباب. قوله: "لم نُأْمر" جواب قوله "فلما" وهو على صيغة لمجهول، وكذلك قوله: "وأُمِرْنا" على صيغة المجهول، أي لم نؤمر بالقنوت في صلاة الصبح، وأمرنا بترك القنوت. قوله: "مع أن بعض أصحاب النبي - عليه السلام - قد أنكره أصلًا" تأكيد لقوله: "فلم نجد ما يدل على وجوبه الآن في صلاة الفجر" أي قد أنكر القنوت في الصبح أصلًا، وأراد بهذا البعض الذي أنكر القنوت أصلًا: هو طارق بن أشيم الصحابي، فإن ابنه سعد بن طارق لما سأله عنه، قال: "أي بني" أي يا بني "محدث" أي إن القنوت في

صلاة الصبح محدث، وليس معناه أنه لم يكن ثم كان، ولكن معناه أنه كان في زمن النبي - عليه السلام - مدة، ثم انتسخ، ثم أحدثوه بعده - عليه السلام -، فلذلك قال: يا بني محدث، وكذا فسره ابن حبان في روايته: "بدعة" أي ابتدع به بعد النبي - عليه السلام - بعد أن كان قد ارتفع حكمه وانتسخ. وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عن علي بن معبدبن نوح المصري، وحسين ابن نصر بن المعارك البغدادي، وعلي بن شيبة بن الصلت السدوسي، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون الواسطي روى له الجماعة، عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن أبيه طارق. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن أبي مالك الأشجعي قال: "قلت لأبي: يا أبه، إنك قد صليت خلف رسول الله - عليه السلام -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ها هنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، كانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬2)، ولفظه: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر - رضي الله عنه - فلم يقنت، وصليت خلف عمر - رضي الله عنه - فلم يقنت، وصليت خلف عثمان - رضي الله عنه - فلم يقنت، وصليت خلف علي - رضي الله عنه - فلم يقنت، ثم قال: يا بني، إنها بدعة". وكذا أخرجه النسائي في "سننه" (¬3): عن قتيبة، عن خلف، عن أبي مالك الأشجعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4)، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 252 رقم 402). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 328 رقم 1989). (¬3) "المجتبى" (2/ 204 رقم 1080). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6963).

وممن أنكر القنوت من الصحابة: عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: "ما القنوت؟ وما رأيت أحدًا يفعله" حين سأله أبو الشعثاء عنه، وقد مر ذكره مستوفى عن قريب. وروى ابن عبد البر عن ابن عمر وطاوس: أن القنوت في الفجر بدعة، وكان ممن ينكره من التابعين أيضًا: الزهري، ويحيى الأنصاري، وإبراهيم النخعي- رحمهم الله. ص: فلما لم يثبت لنا القنوت عن النبي - عليه السلام - رجعنا إلى ما روي عن أصحابه في ذلك، فإذا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الغداة، فقنت فيها بعد الركوع، وقال في قنوته: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم الثالث نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق". وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين، عن ذر بن عبد الله الهمداني، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، عن أبيه: "أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك إلا أنه قال: ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخشى عذابك الجد". وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبدة بن أتيت لبابة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن عمر - رضي الله عنه - قنت في صلاة الغداة قبل الركوع بالسورتين". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان يقنت في صلاة الصبح بسورتين: اللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد".

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي رافع، قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فقرأ بالأحزاب، فسمعت قنوته وأنا في آخر الصفوف". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، كلاهما عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فلما فرغ من القراءة في الركعة الثانية، كبر ثم قنت، ثم كبر فركع". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن مخارق ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا ابن عون، عن ابن سيرين: "أن سعيد بن المسيب ذكر له قول ابن عمر - رضي الله عنهما - في القنوت، فقال: أما إنه قد قنت مع أبيه، ولكنه نسي". ش: لما لم يثبت القنوت في صلاة الصبح عن النبي - عليه السلام - بعد كشف وجوه الأحاديث المروية فيه، وجب الرجوع فيه إلى ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم -، لنعلم هل القنوت في الصبح ثابت أم لا؟ وهل يجب فعله أم لا؟ فرجعنا في ذلك، فوجدنا قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قد قنت في صلاة الصبح بعد الركوع، ووجدنا أيضًا قد روي عنه أنه كان لا يقنت فيها، فبين الأمرين مخالفة وتضاد، ولكن يحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين في وقت وحاله. فنظرنا في ذلك، فوجدنا أنه قد كان يقنت إذا حارب، وإذا لم يحارب لم يقنت. فعلمنا أن معنى الذي كان يقنت أنه إذا كان يحارب كان يدعو على أعدائه، ويستعين بالله عليهم ويستنصره، كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل لما قتلوا القراء من

أصحابه، وقد روي أيضًا عن علي - رضي الله عنه - ما روي عن عمر - رضي الله عنه -، فإذا كان الأمر كذلك يكون كل ما روي عن الصحابة من القنوت في صلاة الصبح يكون محمولا على حالة المحاربة. ألا ترى أتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقنت في صلاة المغرب أيضًا، والخصم لا يقول بالقنوت فيها، فعلمنا أنه كان يفعل ذلك حالة المحاربة، وسيجىء تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى. ثم انه أخرج ما روي من قنوت عمر في الصبح من تسع طرق: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وعن أحمد: كان سيء الحفظ مضطرب الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وروى له الأربعة. عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر بن جندع بن ليث الليثي أبي عاصم المكي قاضي أهل مكة، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب الغداة فقال في القنوت: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونزك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار مُلْحِق". الثاني: عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن هشيم أيضًا، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن ذر بن عبد الله الهمداني، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى الصحابي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 106 رقم 7027).

وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أنه صل خلف عمر - رضي الله عنه - فصنع مثل ذلك". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغاضري، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (¬2) مفسرًا: من حديث الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكافرين ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك". ثم قال البيهقي: كذا قال: قبل الركوع، وهو وإن كان إسنادا صحيحًا فرواة قنوت عمر بعد الركوع أكثر، وهم: أبو رافع، وعبيد بن عمير، وأبو عثمان النهدي، وزيد بن وهب، والعدد أولى بالحفظ من الواحد. قلت: لم يذكر لرواية هؤلاء سندًا إلا لرواية عبيد بن عمير خاصة، وقد روي عنه وعن زيد بن وهب خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 106 رقم 7028). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 210 رقم 3963).

قال ابن أبي شيبة (¬1): أنا هشيم، ثنا يزيد بن أبي زياد، ثنا زيد بن وهب: "أن عمر - رضي الله عنه - قنت في الصبح قبل الركوع". وأخرج أيضًا (¬2): عن أبي عثمان، عنه: "أنه قنت قبل الركوع". وأخرج أيضًا (¬3): من طريقين عن عبيد بن عمير عنه. وأخرج أيضًا (¬4): عن أبي معقل: "أن عمر وعليا وأبا موسى قنتوا في الفجر قبل الركوع". فليس الراوي عن عمر أنه قنت قبل الركوع واحدًا كما زعم، بل هم خمسة، الواحد ذكره البيهقي، والأربعة ذكرهم ابن أبي شيبة، وهؤلاء أكثر مما ذكرهم البيهقي، فهم أولى بالحفظ. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بَجَرَة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات- وقيل: نجدة -بالنون والجيم- مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقيل له: مولى ابن عباس؛ للزومه إياه. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5): عن رجل، عن شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يقنت في الفجر بسورتين". الخامس: عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام - واسمه أسلم أو إبراهيم، وقد تكرر ذكره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 105 رقم 7018). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 105 رقم 7019). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 105 رقم 7021 - 7022). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 105 رقم 7016). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 112 رقم 4972).

وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬1): من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يقنت في صلاة الصبح". السادس: عن أبي بكرة أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي البصري، عن سفيان الثوري، عن مخارق بن خليفة بن جابر، ويقال: مخارق بن عبد الله بن جابر، ويقال: مخارق بن عبد الرحمن الأحمسي الكوفي، عن طارق بن شهاب الأحمسي الصحابي - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث سفيان بن عيينة، عن مخارق، عن طارق قال: "صليت خلف عمر الصبح، فقنت". السابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مخارق، عن طارق. وهذا أيضًا إسناد صحيح. الثامن: عن أبي بكرة بكار، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن مخارق بن خليفة، عن طارق بن شهاب. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن الثوري، عن مخارق، عن طارق بن شهاب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى الصبح، فلما فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر حين ركع". التاسع: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن محمد بن سيرين. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (2/ 80 رقم 968). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 203 رقم 2931). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 109 رقم 4959).

وهذا أيضًا إسناد صحيح. قوله: "اللهم" يعني يا الله، والسين في "نستعينك" و"نستغفرك" للطلب. قوله: "ونخلع" مِنْ خلع ثوبه ونعله. قوله: "ونترك" كالتفسير له، والفعلان تنازعا في قوله: "من يفجرك" أي من يعصيك ويخالفك. قوله: "ونحفد" بالحاء والدال المهملتين ومعناه نسرع في العمل والخدمة، وهو من باب حَفَدَ يَحْفدُ كضَرَبَ يَضْرِبُ، قال الجوهري: الحفد: السرعة تقول: حفد البعير والظليم حَفْدا وحَفْدَانًا وهو تدارك السير، وبعير حَفَّاد، ومنه الدعاء: "وإليك نسعى ونحفد" واحفدته: حملته على الحَفْدِ والإسراع. قوله: "ملحق" بالرفع خبر إن، روي بكسر [الحاء] (¬1) وفتحها. قوله: "بالسورتين" أراد بها قوله: "اللهم إنا نستعينك" إلى قوله: "وفترك من يفجرك"، وقوله: "اللهم إياك نعبد" إلى قوله: "إن عذابك بالكفار ملحق"، وكانتا سورتين من القرآن فنسختا، والله أعلم. وبه استحسن أصحابنا أن يقول المصلي في وتره هذا الذي روي عن عمر - رضي الله عنه -. وقال في "المبسوط": ليس في الوتر دعاء موقت سوى قوله: "اللهم إنا نستعينك ... " إلى آخره، والصحابة اتفقوا على هذا في القنوت. وعن إبراهيم بسند صحيح: "ليس في قنوت الوتر شيء موقت، إنما هو دعاء واستغفار". وفي "البدائع": وأما دعاء القنوت فليس في القنوت دعاء موقت، كذا ذكر الكرخي في كتاب الصلاة؛ لأنه روي عن الصحابة أدعية مختلفة في حال القنوت، ولأن الموقت من الدعاء يجري على لسان الداعي من غير احتياجه إلى إحضار قلبه، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "اللام"، وأظنه سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والمثبت هو الموافق كما في المعاجم، فإن "اللام" ساكنة في كلا الحالتين. والله أعلم.

وصدق الرغبة منه إلى الله تعالى، فيبعد عن الإجابة، ولأنه لا يوقت في القراءة بشيء من الصلوات ففي دعاء القنوت أصلى وقد روي عن محمَّد أنه قال: التوقيت في الدعاء يُذهب رقة القلب، وقال بعض مشايخنا: المراد في قوله: "ليس في القنوت دعاء موقت ما سوى قوله: "اللهم إنا نستعينك"؛ لأن الصحابة اتفقوا على هذا في القنوت، فالأولى، أن يقرأه، ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه غيره كان حسنًا، والأصلى أن يقرأ معه ما علَّم رسول الله - عليه السلام - الحسن بن علي في قنوته: اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد روي عن عمر - رضي الله عنه - ما ذكرنا، وروي عنه خلاف ذلك. فحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود: "أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقنت في صلاة الصبح". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود وعمرو بن ميمون، قالا: "صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود ومسروق أنهم قالوا: "كنا نصلي خلف عمر - رضي الله عنه - الفجر فلم يقنت". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود ومسروق أنهم قالوا: "كنا نصلي خلف عمر - رضي الله عنه -، نحفظ ركوعه وسجوده، ولا نحفظ قيام ساعة، يعنون القنوت". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود وعمرو بن ميمون، قالا: "صلينا خلف عمر - رضي الله عنه -، فلم يقنت في الفجر".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت إبراهيم، يحدث عن عمرو بن ميمون، نحوه. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا خلاف ما روي عنه في الآثار الأول، فاحتمل أن يكون قد كان فعل كل واحد من الأمرين في وقت. فنظرنا في ذلك، فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا مسعر بن كدام، قال: حدثني عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب قال: "ربما قنت عمر". فأخبر زيد بما ذكرنا، أنه كان ربما قنت وربما لم يقنت، فأردنا أن ننظر في المعنى الذي له كان يقنت ما هو؟ فإذا ابن أبي عمران قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن أبي شهاب الحناط، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "كان عمر - رضي الله عنه - إذا حارب يدعو على أعدائه ويستعين الله عليهم ويستنصره كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل لما قتل من قتل من أصحابه، حتى أنزل الله -عز وجل- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1)، قال عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -: فما دعا رسول الله - عليه السلام - على أحد بعد". فكانت هذه الآية -عند عبد الرحمن وعند عبد الله بن عمر، ومن وافقهما على ما كانا يقولانه في ذلك- نسخ للدعاء بعد ذلك في الصلاة على أحد، ولم تكن عند عمر - رضي الله عنه - بناسخة ما كان قبل القتال، وإنما نسخت عنده الدعاء في حال عدم القتال، إلا أنه قد ثبت بذلك بطلان قول من يرى الدوام على القنوت في صلاة الفجر. فهذا وجه ما روي عن عمر في هذا الباب. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [128].

ش: لما روى ما روى عن عمر من القنوت في صلاة الصبح؛ شرع يروي ما روي عنه خلافه ليوفق بينهما. وأخرج أثر الخلاف من ستة طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود نحوه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة ... إلى آخره. وهو أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث الفضيل، عن منصور، عن إبراهيم، أن الأسود وعمرو بن ميمون، قالا: "صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الحميد بن صالح، عن أبي شهاب واسمه عبد ربه بن نافع الكناني الحفاظ الكوفي وهو الأصغر، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة والأسود ومسروق بن الأجدع. وهذا أيضًا إسناد صحيح. الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي الكوفي؛ قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن حبان: ثقة. عن أبي شهاب المذكور ... إلى آخره نحوه. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 106 رقم 4949). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 204 رقم 2934).

قوله: "ولا نحفظ قيام ساعة" المراد من هذا الكلام إنكار هؤلاء قنوت عمر - رضي الله عنه - في الفجر؛ لأنه لو قنت لما خفي عليهم، ولكانوا يحفظونه كما كانوا يحفظون ركوعه وسجوده. الخامس: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن علي بن معبد ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون: "أنهما صليا خلف عمر - رضي الله عنه - الفجر فلم يقنت". السادس: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: "أن الأسود وعمرو بن ميمون صليا خلف عمر الفجر فلم يقنت". وأخرج ابن جرير الطبري في "التهذيب" (¬3): من حديث شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صليت مع عمر - رضي الله عنه - في السفر والحضر ما لا أحصي، فكان لا يقنت في الصبح". فهذه الآثار كلها تخالف الآثار الأُول، فاحتمل أن يكون قد فعل كل واحد من القنوت وتركه في وقت، يعني ربما كان قنت، وربما كان ترك، وأخرج ما يدل على ذلك عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن مسعر بن كدام بن ظهير الكوفي، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري الكوفي الزراد، عن زيد بن وهب الجهني الكوفي، رحل إلى النبي - عليه السلام - فقبض وهو في الطريق. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6965). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6964). (¬3) "تهذيب الآثار" (6/ 177 رقم 2684).

وهذا إسناد صحيح، والكل من رجال الجماعة ما خلا يزيد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب قال: "ربما قنت عمر في صلاة الفجر".انتهى. فهذا يدل على أنه كان يقنت مرة ويترك مرة، ولكن ينبغي أن ننظر في المعنى الذي كان يقنت حين يقنت لأجله، ولماذا كان؟ فنظرنا فإذا أسود بن يزيد قد روى عنه: إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت، فعلمنا أن المعنى الذي كان يقنت لأجله هو وقت المحاربة، كان يدعو على أعدائه ويستعين بالله عليهم ويستنصره، كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل ذلك لما بلغه أن القراء الذين أرسلهم إلى بئر معونة قد قتلوا، وكانوا سبعين رجلًا -وفي "مسند السراج": كانوا أربعين، وفي "المعجم": ثلاثون: ستة وعشرون من الأنصار، وأربعة من المهاجرين- وكان رسول الله - عليه السلام - أمّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي الذي يقال له: المعتق ليموت، فخرج عليهم عامر بن الطفيل فقتلوا جميعًا غير عمرو بن أمية الضمري وكعب بن زيد. وكانت هذه السرية في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، وكان السبب في ذلك: أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر الكلابي ملاعب الأسنة قدم فأهدى للنبي - عليه السلام - فلم يقبل منه، وعرض عليه الإِسلام فلم يسلم، وقال: لو بعثت معي نفرا من أصحابك إلى قومي لرجوت أن يجيبوا دعوتك، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، قال: أنا لهم جار إن تعرض لهم أحد، فبعث معه القراء، فجرى ما ذكرناه. "وبئر معونة": ماء لبني عامر بن صعصعة على أربع مراحل من المدينة. ثم إنه - عليه السلام - لم يزل يدعو عليهم في صلاته حتى أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2) الآية حتى كف عنه وتركه كما ذكرناه مستقصى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 104 رقم 7006). (¬2) سورة آل عمران، آية: [128].

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر "فما دعا رسول الله - عليه السلام - على أحد بعد ذلك". فكانت هذه الآية عند عبد الرحمن بن أبي بكر وعند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - ناسخة للدعاء على أحد في الصلاة مطلقا، وكذا عند من يذهب إلى قولهما في ذلك، ولم يكن عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نسخها إلا مقيدًا بغير حالة المحاربة، فكان النسخ عنده في حال عدم القتال، وعلى كل التقدير يثبت بذلك بطلان قول من يرى الدوام على القنوت في صلاة الفجر، أما عند عبد الرحمن وابن عمر فَلِكَوْن النسخ عاما عندهم. وأما عند عمر - رضي الله عنه - فلكونه مخصوصا بغير حالة الحرب، وكلا المذهبين يدل على بطلان رؤية الدوام على القنوت في الفجر. ثم إنه أخرج ما روي عن الأسود بإسناد صحيح، عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى البغدادي الفقيه؛ وثقه ابن يونس. عن سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي شهاب الحناظ -بالنون- بياع الحنطة، واسمه موسى بن نافع الأسدي، وهو أبو شهاب الكبير روى له البخاري ومسلم والنسائي، وأبو شهاب الأصغر الحفاظ أيضًا مر عن قريب، وأبو شهاب الكبير يروي عن الإمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي. عن حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري الكوفي الفقيه الثقة، مشهور احتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونا بغيره، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي. وأخرجه أبو حنيفة في "مسنده". وأخرج أيضًا (¬1): عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "ما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي حتى حارب أهل الشام فكان يقنت". ¬

_ (¬1) "مسند أبي حنيفة" (1/ 83).

وأخرج أيضًا: عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "صحبت عمر بن الخطاب سنين، فلم أره قانتا في صلاة الفجر". وأخرجه محمَّد بن الحسن في "آثاره" (¬1): عن أبي حنيفة نحوه. ص: وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فروي عنه في ذلك ما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يقنت في صلاة الصبح قبل الركوع". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث وأبو داود، قالا: ثنا شعبة (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبونعيم، قال: ثنا سفيان، كلاهما عن أبي حصين، عن عبد الله بن معقل -في حديث سفيان- قال: "كان عليّ وأبو موسى - رضي الله عنهما - يقنتان في صلاة الغداة -وفي حديث شعبة- فقنت بنا عليٌّ وأبو موسى". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عبيد بن حسن، قال: سمعت ابن معقل يقول: "صليت خلف علي - رضي الله عنه - الصبح فقنت". فقد يجوز أن يكون علي - رضي الله عنه - كان يرى القنوت في صلاة الصبح في سائر الدهر، ويجوز أن يكون فعل ذلك في وقت خاص للمعنى الذي كان عمر - رضي الله عنه - فعله من أجله، فنظرنا في ذلك فإذا روح بن الفرج قد حدثنا، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله لا يقنت في الفجر، وأول من قنت فيها عليّ - رضي الله عنه -، وكانوا يرون أنه إنما فعل ذلك؛ لأنه كان محاربا". حدثنا فهد، قال: ثنا مُحرز بن هشام، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "إنما كان علي يقنت ها هنا؛ لأنه كان محاربًا، فكان يدعو على أعدائه في القنوت ¬

_ (¬1) "الآثار" (1/ 278 رقم 214).

في الفجر والمغرب. فثبت بما ذكرنا أن مذهب علي - رضي الله عنه - في القنوت هو مذهب عمر - رضي الله عنه - الذي وصفنا، ولم يكن عليٌّ - رضي الله عنه - يقصد بذلك إلى الفجر خاصة؛ لأنه قد كان يفعل ذلك في المغرب، فيما ذكر إبراهيم - رضي الله عنه -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، قال: حدثني حصين بن عبد الرحمن، قال: سمعت عبد الرحمن بن معقل يقول: "صليت خلف علي - رضي الله عنه - المغرب فقنت ودعا". فكل قد أجمع أن المغرب لا يقنت فيها إذا لم تكن حرب، وأن عليًّا - رضي الله عنه - إنما قنت فيها من أجل الحرب، فقنوته في الفجر أيضًا عندنا كذلك. ش: لما كان الخصم استدل أيضًا -فيما ذهب إليه من القنوت في الفجر- بما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقنت في الصبح، ذكره ثم أجاب عنه بما ذكره، وهو ظاهر. وأخرج ما روي عنه من أربع طرق صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن رُبَيعة -بالتصغير- السلمي الكوفي، ولأبيه صحبة، وأبو عبد الرحمن روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم ... إلى آخره. وفيه حجة لأصحابنا: أن القنوت فيما يقنت قبل الركوع. فإن قيل: روى البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث يزيد بن أبي زياد، سمعت أشياخنا يحدثون: "أن عليا - رضي الله عنه - كان يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع". قلت: يزيد بن أبي زياد ضعيف، وحكى البيهقي نفسه تضعيفه عن ابن معين في باب "رفع اليدين عنوإلافتتاح خاصة"، ثم إنه روى عن الأشياخ وهم مجهولون، والذي رواه الطحاوي وابن أبي شيبة أولى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 105 رقم 7020). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 108 رقم 2955).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، كلاهما عن شعبة، عن أبي حصين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عثمان بن عاصم بن حُصَير -بالتصغير- الأسدي الكوفي. عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني قال: "قنت بنا ... " إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده": عن شعبة ... إلى آخره. الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن أبي حصين ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن عبد الله بن معقل قال: "قنت في الفجر رجلان من أصحاب النبي - عليه السلام -: علي وأبو موسي". وقال البيهقي: هذا عن علي صحيح مشهور. قلت: الجواب عنه ما ذكره الطحاوي، وأيضًا هذا الأثر مضطرب. فإن ابن حبان أخرج في "صحيحه" (¬2): عن أبي مالك، [عن أبيه] (¬3): "أنه صلى خلف علي - رضي الله عنه - فلم يقنت". قوله: "كلاهما عن أبي حصين" أي شعبة وسفيان كلاهما رويا عن أبي حصين. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عبيد بن حسن المزني الكوفي، عن عبد الله بن معقل بن مقرن. وأخرج ما رواه إبراهيم النخعي الذي يدل على أن قنوت علي إنما كان للمحاربة عن طريقين رجالهما ثقات: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 104 رقم 7002). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 328 رقم 1989). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح" ابن حبان.

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي الكوفي الفقيه الأعمى، عن إبراهيم النخعي. وأخرج محمَّد بن الحسن في "آثاره" (¬1): عن أبي حنيفة عن حماد، عن إبراهيم: "أن أهل الكوفة إنما أخذوا القنوت عن علي، قنت يدعو على معاوية حين حاربه". وأخرج ابن حزم في "المحلى" (¬2): من طريق ابن المجالد عن أبيه، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة والأسود، قالا: "ما قنت رسول الله - عليه السلام - في شيء من الصلوات إلا إذا حارب، فإنه كان يقنت في الصلوات كلهن، ولا قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان حتى ماتوا، ولا قنت علي - رضي الله عنه - حتى حارب أهل الشام، فكان يقنت في الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت أيضًا، يدعو كل واحد منهما على صاحبه". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن مُحرز بن هشام، عن جرير بن حازم، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي. وأخرج ما رواه عبد الرحمن بن معقل الذي يدل على أن عليًّا كان يقنت في المغرب أيضًا عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن معقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف- ابن مقرِّن المزني الكوفي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا شريك، عن حصين، عن عبد الرحمن بن معقل، قال: "صليت خلف علي - رضي الله عنه - المغرب فقنت". ¬

_ (¬1) "الآثار" (1/ 278 رقم 214). (¬2) "المحلى" (4/ 145). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 109 رقم 7057).

ص: وأما عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فروي عنه ما قد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن عوف، عن أبي رجاء، عن ابن عباس قال: "صليت معه الفجر فقنت قبل الركوع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عوف ... فذكر بإسناده مثله، وزاد: "وقال: هذه الصلاة الوسطى". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد يجوز أيضًا في أمر ابن عباس في ذلك ما جاز في أمر علي - رضي الله عنه -، فنظرنا هل روي عنه خلاف هذا؟ فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن واقد، عن سعيد بن جبير قال: "صليت خلف ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - فكانا لا يقنتان في صلاة الصبح". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن منصور، قال: أنا مجاهد، أو سعيد بن جبير: "أن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان لا يقنت في صلاة الفجر". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن عمران بن الحارث، قال: "صليت خلف ابن عباس في داره الصبح، فلم يقنت قبل الركوع ولا بعده". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: أخبرني عمران بن الحارث السلمي قال: "صليت خلف ابن عباس الصبح، فلم يقنت". فكان الذي يروي عنه القنوت هو أبو رجاء إنما كان ذلك وهو بالبصرة واليا عليها لعلي - رضي الله عنه -، وكان أحد من يروي عنه بخلاف ذلك سعيد بن جبير، وإنما كانت صلاته بعد ذلك بمكة، وكانت صلاته في ذلك مذهب عمر وعلي - رضي الله عنهما -، فكان الذين قد روينا عنهم القنوت في الفجر إنما كان ذلك منهم للعارض الذي ذكرنا، فقنتوا فيها وفي غيرها من الصلوات، وتركوا ذلك في حال عدم ذلك العارض.

ش: لما استدل الخصم أيضًا بما روي عن ابن عباس من قنوته في الصبح، ذكره ثم أجاب عنه بما ملخصه: أن قنوت ابن عباس - رضي الله عنهما - يجوز أن يكون كقنوت علي -يعني لأجل الحراب- كان يدعو على الأعداء، على أنه قد روى عنه سعيد بن جبير وعمران بن الحارث عدم القنوت أصلًا، والذي روى عنه القنوت هو أبو رجاء عمران بن ملحان العطاردي، وكان ذلك لما كان ابن عباس بالبصرة واليا عليها من جهة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والذي روى عنه سعيد بن جبير كان بمكة بعد ذلك، فدل أن ما كان منه من القنوت في الصبح إنما كان لأجل العارض وهو الحرب، فكل من روي عنه من الصحابة من القنوت في الصبح فمحمول على هذا العارض، والدليل على صحة هذا: أن بعضهم كان يقنت أيضًا في غير الصبح، وقد ذكرنا عن قريب أن ابن حزم روى أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يقنت في الصلوات كلهن، وكان ذلك حين كان يحارب أهل الشام، فهذا كله يدل على بطلان قول من يرى القنوت في الصبح دائمًا. وقد أخرج ما روي عن قنوته من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة بن محمَّد السوائي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان، أدرك زمان النبي - عليه السلام - ولم يره، وأسلم بعد الفتح وأتى عليه مائة وعشرون سنة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنف" (¬1): ثنا هشيم، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: "رأيت ابن عباس يمد ضَبعيه في قنوت صلاة الغداة إذ كان بالبصرة". الثاني: أخرجه الطحاوي بعينه في باب: الصلاة الوسطى. وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 104 رقم 7004).

وأخرجه البيهقي (¬1) مطولًا وقد ذكرناه هناك. وأخرج ما روي عن عدم قنوته من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن واقد الخياط أبي عبد الله مولى زيد بن خليد، وثقه ابن حبان، عن سعيد بن جبير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - "أنهما كانا لا يقنتان في الفجر". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء ... إلى آخره. وهؤلاء قد تكرروا جدًّا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا الحسن بن علي، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني مجاهد وسعيد بن جبير: "أن ابن عباس كان لا يقنت في صلاة الفجر". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن عمران بن الحارث السلمي أبي الحكم الكوفي، روى له مسلم والنسائي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن عمران بن الحارث قال: "صليت مع ابن عباس في داره الصبح، فلم يقنت قبل الركوع ولا بعده". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 461 رقم 2006). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6970). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 103 رقم 6995). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6976).

الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". ص: وقد روينا عن آخرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك القنوت في سائر الدهور. فمن ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن علقمة قال: "كان عبد الله لا يقنت في صلاة الصبح". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "كان ابن مسعود لا يقنت في شيء من الصلوات إلا الوتر، فإنه كان يقنت قبل الركعة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن علقمة قال: "كان عبد الله لا يقنت في صلاة الصبح". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا المسعودي ... فذكر مثل حديث أبي بكرة، عن أبي داود، عن المسعودي، بإسناده. حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن المبارك، عن فضيل بن غزوان، عن الحارث العكلي، عن علقمة بن قيس قال: "لقيت أبا الدرداء - رضي الله عنه - بالشام فسألته عن القنوت فلم يعرفه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمَّد بن مسلم الطائفي، قال: ثنا عمرو بن دينار قال: "كان عبد الله بن الزبير يصلي بنا الصبح بمكة فلا يقنت".

ش: أي قد رويخا عن جماعة آخرين من الصحابة - رضي الله عنهم - ترك القنوت أصلًا في سائر الأزمان، لا في الحرب ولا في غيرها، وهم أربعة أنفس ها هنا: عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -. أما أثر ابن مسعود فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن علقمة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس: "أن ابن مسعود لم يكن يقنت في الفجر". الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا فضيل بن محمَّد الملطي، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو العميس، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "كان عبد الله لا يقنت في صلاة الغداة، إذا قنت قنت في الوتر قبل الركعة". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو البصري العقدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله ... إلى، آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1): ثنا وكيع، عن الثوري ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء، عن عبد الرحمن ابن عبد الله المسعودي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 101 رقم 6967). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 238 رقم 9166).

وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬1): عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن المنهال، عن حماد، عن أبي حمزة، عن ابن مسعود: "أنه كان يقنت في الوتر قبل الركوع ولا يقنت في صلاة الفجر". وأخرج محمَّد بن الحسن في "آثاره" (¬2): عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود كان يقنت السنة كلها في الوتر قبل الركوع" قال محمَّد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. وأخرج أيضًا (¬3): عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود لم يقنت هو ولا أحد من أصحابه حتى فارق الدنيا- يعني في صلاة الفجر". وأما أثر أبي الدرداء عويمر بن مالك - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الكوفي الحماني؛ وثقه يحيى وغيره، عن عبد الله بن المبارك، عن فضيل بن غزوان بن جرير الضبي، عن الحارث بن يزيد العكلي روى له مسلم، عن علقمة بن قيس. قوله: "فلم يعرفه" أي لم يعهده في الصبح عن النبي - عليه السلام - ولا عن الصحابة، ونظير هذا ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - لما سأله أبو الشعثاء عن القنوت في الفجر: "ما شعرت أن أحدًا يفعله" رواه عبد الرزاق وغيره، وقد مرّ. وأما أثر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك، عن نافع. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 284 رقم 9432). (¬2) "الآثار" (1/ 272 رقم 209). (¬3) "الآثار" (1/ 275 رقم 211).

وأما أثر عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن محمَّد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الجمحي المصري شيخ البخاري. عن محمَّد بن مسلم بن سوسن الطائفي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عمرو بن دينار المكي روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا روح بن عبادة، عن زكرياء بن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن دينار: "أن ابن الزبير - رضي الله عنهما - صلى بهم الصبح فلم يقنت". ص: فهذا عبد الله بن مسعود لم يكن يقنت في دهره كله، وقد كان المسلمون في قتال عدوهم في كل ولاية عمر - رضي الله عنه -، أو في أكثرها، فلم يكن يقنت لذلك، وهذا أبو الدرداء ينكر القنوت، وابن الزبير لا يفعله، وقد كان محاربًا حينئذ لأنَّا لم نكن نعلم أم الناس إلا في وقت ما كان الأمر صار إليه. فقد خالف هؤلاء عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - فيما ذهبوا إليه من القنوت في حال المحاربة بعد ثبوت زوال القنوت في حال عدم المحاربة، فلما اختلفوا في ذلك، وجب كشف ذلك من طريق النظر لنستخرج من المعنيين معنى صحيحًا، فكان ما قد روينا عنهم أنهم قنتّوا فيه من الصلوات لذلك الصبح والمغرب خلا ما روينا عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يقنت في صلاة العشاء" فإن ذلك يحتمل أيضًا أن تكون هي المغرب، ويحتمل أن تكون هي العشاء الآخرة، ولم نعلم عن أحد منهم أنه قنت في ظهر ولا عصر في حال حرب ولا غيره، فلما كانت هاتان الصلاتان لا قنوت فيهما في حال الحرب ولا في حال عدم الحرب، وكان الفجر والمغرب والعشاء لا قنوت فيهن في حال عدم الحرب؛ ثبت أن لا قنوت ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 102 رقم 6971).

فيهن في حال الحرب أيضًا، وقد رأينا الوتر فيها القنوت عند أكثر الفقهاء في سائر الدهر، وعند خاصٍّ منهم في ليلة النصف من شهر رمضان خاصة، فكانوا جميعًا إنما يقنتون لتلك الصلاة خاصة لا لحرب ولا لغيره. فلما انتفى أن يكون القنوت فيما سواها يجب لعلة الصلاة خاصة، لا لعلة غيرها، انتفى أن تكون تجب لمعنى سوى ذلك. فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر في حال حرب ولا غيره، قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: ملخص هذا: أن هؤلاء الأربعة من الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يقنتون في صلاة الصبح. أما ابن مسعود فإنه لم يكن يقنت أصلًا في جميع دهره، والحال أن المسلمين كانوا في قتال عدوهم في كل ولايات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أو في أكثرها، وذلك لأن أكثر البلاد فتحت في أيامه كالشام ومصر وأكثر العراق، ولم تزل عساكره تجول يمينا وشمالا, ولو كان ابن مسعود يرى القنوت في أيام الحرب لكان قنت، فحيث ترك أصلًا، دَلَّ على أن حكمه مرفوع. وأما ابن عمر فكذلك لم يكن يفعله حترل روى ابن عبد البر عنه: "أنه كان يقول: القنوت في الفجر بدعة". وأما أبو الدرداء فإنه أنكره بالكلية. وأما ابن الزبير فإنه لم يكن يفعله، والحال أنه كان محاربا؛ لأنه لم يؤم الناس إلا حين صار الأمر إليه، وذلك حين ادعى الخلافة في مكة، وبويع له في جمادى الأول سنة أربع وستين بمكة، واستبد بأمرها، ثم انتشرف بيعته في الحجاز واليمن والعراق والمشرق والمغرب، وبعض بلاد الشام، وكانت أيامه تسع سنين وعشرة أيام، وقتل يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى أو الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وعن مالك وغيره: أن مقتله كان على رأس ثنتين وسبعين، وكان سنه يوم قتل اثنتن وسبعين سنة.

فهؤلاء قد خالفوا عمر وعليًّا وابن عباس - رضي الله عنهم - فيما ذهبوا إليه من القنوت في حال المحاربة، مع اتفاقهم كلهم على زوال حكمه في حال عدم المحاربة، فإذا كان اختلافهم في حال المحاربة؛ وجب كشف ذلك من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر. قوله: "قنتوا فيه من الصلوات لذلك" أي لأجل الحرب. قوله: "الصبح" بالنصب؛ لأنه خبر كان في قوله: "فكان ما قد روينا". قوله: "والمغرب" عطف عليه قوله: "فإن ذلك يحتمل أيضًا ... إلى آخره"؛ لأن لفظ العشاء مشترك بين صلاة المغرب التي تسمى العشاء الأولى، وصلاة العشاء التي تسمى العشاء الآخرة، فإذا كان مشتركا بين المعنيين يحتمل أن يراد به أحد المعنيين عند الإطلاق. قوله: "ولم نعلم عن أحد منهم أنه قنت في ظهر ولا عصر" فيه نظر؛ لأنا قد ذكرنا أن ابن حزم قد أخرج عن علي: "أنه كان يقنت في الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت أيضًا كذلك يدعو كل واحد منهما على صاحبه". وروى السراج في "مسنده": ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا عبد الصمد، ثنا ثابت، ثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "قنت النبي - عليه السلام - شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة، يدعو على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ثنا حُمام بن أحمد، ثنا عباس بن أصبغ، نا محمَّد ابن عبد الملك بن أيمن، نا أبو عبد الله الكابُلي، نا إبراهيم بن موسى الرازي، ثنا محمَّد بن أنس، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب: "أن النبي - عليه السلام - كان لا يصلي صلاة إلا قنت فيها". ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 139).

قوله: "وقد رأينا الوتر فيها القنوت عند أكثر الفقهاء" وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وعلقمة، وحماد بن أبي سليمان، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير، وأبا حنيفة وأصحابه، والثوري، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق؛ فإن هؤلاء كلهم يرون القنوت في الوتر قبل الركوع، وهو مذهب ابن مسعود وابن عمر وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب والحسن بن علي - رضي الله عنهم -. وقال الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قال الحسن بن علي - رضي الله عنهم -: "علمني رسول الله - عليه السلام - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ولا نعرف عن النبي - عليه السلام - في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا. واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. انتهى. قلت: أبو الحوراء -بالحاء والراء المهملتين- اسمه ربيعة بن شيبان. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم، قال: أنا منصور، عن الحارث العكلي، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: "أن عمر - رضي الله عنه - قنت في الوتر قبل الركوع". ثنا (¬3) شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبيه: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يقنت في الوتر بعد الركوع". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 328 رقم 464). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 96 رقم 6900). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 96 رقم 6901).

ثنا (¬1) حفص، عن ليث، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه: "أن [عبد الله] (¬2) - رضي الله عنه - كان يوتر فيقنت قبل الركوع". ثنا (¬3) هشيم، قال: أنا مغيرة، عن إبراهيم قال: "كان يقول في قنوت الوتر قبل الركوع إذا فرغ من القراءة ... ". ثنا (¬4) ابن نمير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير: "أنه كان يقنت في الوتر قبل الركوع". ثنا (¬5) يزيد بن هارون، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة: "أن ابن مسعود وأصحاب النبي - عليه السلام - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع". وقال السراج في "مسنده": ثنا أبو كريب، ثنا محمَّد بن بشر، عن العلاء بن صالح، ثنا زبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أنه سأله عن القنوت في الوتر، فقال: ثنا البراء بن عازب قال: سنة ماضية". وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬6)، ولكن قال: هذا وهم إنما هو الفجر. فإن قيل: هل روي عن النبي - عليه السلام - أنه قنت في الوتر قبل الركوع؟ قلت: نعم، فقال الدارقطني (¬7): ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ثنا علي بن خشرم، ثنا عيسى بن يونس، عن فطر عن زبيد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 96 رقم 6903) ولكن عن عبد الله. (¬2) في "الأصل، ك "عليًّا"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والمثبث من "المصنف". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 96 رقم 6909). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 96 رقم 6910). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6911). (¬6) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 153 رقم 1097). (¬7) "سنن الدارقطني" (2/ 31 رقم 2).

بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬2)، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬3)، ويقنت قبل الركوع، فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يمد بها صوته، في الأخيرة يقول: رب الملائكة والروح". ثنا (¬4) الحسن بن يحيى بن عياش، ثنا الحسن بن محمَّد الزعفراني، ثنا يزيد بن هارون، أنا أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "بت مع رسول الله - عليه السلام - لأنظر كيف يقنت في وتره؟ فقنت قبل الركوع، ثم بعثت أمي أم عبد، فقلت: بيتي مع نسائه فانظري كيف يقنت في وتره؟ فأتتني فأخبرتني أنه قنت قبل الركوع". ثم قال الدارقطني: أبان متروك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): عن يزيد بن هارون، عن أبان ... إلى آخره، نحوه. وقال الدارقطني (¬6): ثنا عبد الصمد بن علي، ثنا عبد الله بن غنام، ثنا عقبة بن مكرم، ثنا يونس بن بكير، ثنا عمرو بن شمر، عن سلام، عن سويد بن غفلة قال: "سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - يقولون: قنت رسول الله - عليه السلام - في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك". وقال ابن ماجه (¬7): ثنا علي بن ميمون الرقي، ثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زُبَيْد اليامي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أُبي بن كعب: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر فيقنت قبل الركوع". ¬

_ (¬1) سورة الأعلى، آية: [1]. (¬2) سورة الكافرون، آية: [1]. (¬3) سورة الإخلاص، آية: [1]. (¬4) "سنن الدارقطني" (2/ 31 رقم 4). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6912). (¬6) "سنن الدارقطني" (2/ 32 رقم 6). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 374 رقم 1182).

قلت: هذا سند صحيح، وسيجيء مزيد الكلام فيه في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: "وعند خاص منهم" أي وعند قوم مخصوصين من الفقهاء: القنوت في ليلة النصف من شهر رمضان خاصة، وأراد بهم: الشافعي، ومالكا في رواية ابن نافع عنه، وأحمد في وجه، وقال الترمذي: وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وكان يقنت بعد الركوع". وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وبه يقول الشافعي وأحمد. وفي "الروضة" للنووي: ولنا وجه يقنت في جميع شهر رمضان، ووجه أنه يقنت في جميع السنة، والصحيح اختصاص النصف الأخير من رمضان، وهو نص الشافعي -رحمه الله-. وفي "الجواهر" للمالكية: والمشهور أنه لا يقنت في النصف الأخير من رمضان، وهو قول ابن القاسم. وفي "الحاوي" في فقه أحمد: وأقله أي أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، يسلم في كل ركعتين، ويوتر بركعة، وإن سرد عشرًا وجلس ثم أوتر بالأخيرة وتحيَّا وسلم صح مع ترك السنة، وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين أو سردًا بسلام كالمغرب، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة "سبح"، وفي الثانية "الكافرون"، وفي الثالثة "الإخلاص" يقنت فيها بعد الركوع، ويجوز قبله، ويرفع يديه ويقول: اللهم إنا نستعينك ... إلى آخره.

ص: باب: ما يبدأ بوضعه في السجود اليدين أو الركبتين

ص: باب: ما يبدأ بوضعه في السجود اليدين أو الركبتين ش: أي هذا باب في بيان ما يبدأ المصلي في سجوده بوضع اليدين أولا أم الركبتين ثم اليدين؟ قوله: "اليدين" منصوب بفعل محذوف، أي هل يضع اليدين أولا أو يضع الركبتين أولا، ويجوز أن يكون مفعولا للمصدر المضاف إلى فاعله، أعني قوله: "بوضعه". وقوله: "في السجود" معترض بين الفاعل والمفعول. والمناسبة بين البابين من حيث إن هذا الحكم يتعقب الركوع والقنوت في صلاة الفجر على مذهب من يرى القنوت بعد الركوع. فافهم. ص: حدثنا عليّ بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا الدراوردي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا سجد بدأ بوضع يديه قبل ركبتيه، وكان يقول: كان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك". ش: إسناده صحيح، وعلي بن عبد الرحمن هو المعروف بعلان؛ قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بمصر وهو صدوق. وروى له النسائي في اليوم والليلة" حديثا واحدًا. وأصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الفقيه وراق عبد الله بن وهب، شيخ البخاري. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمَّد، روى له الجماعة البخاري مقرونا بغيره، ونسبته إلى، دراورد قرية بخراسان. وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، أبو عثمان المدني، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسن بن الحسن بن عبد الرحمن القاضي، ثنا محمَّد بن أصبغ بن الفرج، حدثنا أبي، ثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، قال: وكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك" ثم قال: رواه ابن وهب وأصبغ ومحرزبن سلمة، عن عبد العزيز، ولا أراه إلا وهما، فالمشهور عن ابن عمر ما رواه حماد بن زيد وابن علية، عن أيوب، عن نافع عنه قال: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه". قلت: الذي أخرجه الطحاوي أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحديث الذي علله به فيه نظر؛ لأن كلا منهما منفصل عن الآخر، وحديث أبي هريرة الذي يأتي دلالته قولية، وقد تأيد بحديث ابن عمر هذا، فحينئذ يمكن أن يرجح إلى حديث وائل الذي يأتي؛ لأن دلالته فعلية على ما هو الأرجح عند الأصوليين، ولهذا قال النووي في "شرح المهذب": لا يظهر لي الآن ترجيح أحد المذهبين من السنة. ولكن الطحاوي رجح حديث أبي وائل؛ لأن الحديث لم يختلف عنه بخلاف حديث أبي هريرة فإنه قد اختلف عنه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور وأصبغ بن الفرج، قالا: ثنا الدراوردي، عن محمَّد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 344 رقم 2). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 100 رقم 2470).

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، قال: حدثني محمَّد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه". ش: هذان إسنادان صحيحان. ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو عبد الله المدني، وثقه النسائي وابن حبان. وأبو الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان المدني، روى له الجماعة. والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز المدني. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا هارون بن محمَّد بن بكار من كتابه، قال: ثنا مروان بن محمَّد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يكبرك بروك البعير". وأخرجه أبو داود (¬2): عن سعيد بن منصور، عن عبد العزيز ... إلى آخره نحوه. والدارمي "سننه" (¬3): عن يحيى بن حسان، عن عبد العزيز بن محمَّد ... إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقال قوم: هذا كلام محال؛ لأنه قال: لا يبرك كما يرك البعير، والبعير إنما يرك على يديه، ثم قال: ولكن يضع يديه قبل ركبتيه ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 207 رقم 1091). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 222 رقم 840). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 347 رقم 1321).

فأمره ها هنا أن يضع كما يضع البعير، ونهاه في أول الكلام أن يفعل ما يفعل البعير، فكان من الحجة عليهم في ذلك في تثبيت هذا الكلام وتصحيحه, ونفي الإحالة عنه أن البعير ركبتاه في يديه، وكذلك في سائر البهائم وبنو آدم ليسوا كذلك. فقال: لا يبرك على ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يبدأ فيضع أولًا يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه، ثم يضع ركبتيه، فيكون ما يفعل في ذلك بخلاف ما يفعل البعير. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من الفقهاء طعنوا في الحديث المذكور، وقالوا: معناه متناقض؛ لأنه قال: "لا يبرك المصلي كما يبرك البعير"، والبعير إنما يبرك على يديه، ثم قال: "ولكن يضع يديه قبل ركبتيه"، وهذا تناقض؛ لأنه نهى في الأول أن يفعل مثل ما يفعل البعير، وأمر في الثاني بأن يفعل مثل ما يفعل البعير أيضا؛ لأنه قال: "ولكن يضع يديه ثم ركبتيه"، وقد مر أن البعير إنما يبرك على يديه. فأجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: فكان من الحجة عليهم، أي على هؤلاء القوم، بيانه: أن هذا الكلام صحيح وليس محال ولا متناقض؛ وذلك لأن البعير ركبتاه في يديه، وكذلك في سائر البهائم بخلاف بني آدم، فإن ركبهم في أرجلهم، فمعنى قوله: لا يبرك المصلي على ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يبدأ فيضع أولًا يديه اللتين ليست فيهما ركبتاه، ثم يضع ركبتيه اللتين في رجليه فيكون هذا الفعل بخلاف ما يفعل البعير، وهذا ظاهر. ومن هذا أخذ ابن حزم في كتابه في وجه التوفيق فقال: وركبتا البعير في ذراعيه. ص: فذهب قوم إلى أن اليدين يبدأ بوضعهما في السجود قبل الركبتين، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكا في رواية، وأحمد في قول؛ فإنهم قالوا: يبدأ المصلي في سجوده أولا بوضع يديه، ثم ركبتيه، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وعن قتادة: "يفعل أهون ذلك عليه".

قال ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا معتمر، عن معمر، قال: "سئل قتادة؛ عن الرجل إذا انصبّ من الركوع يبدأ بيديه؟ قال: يصنع أهون ذلك عليه". وعن مالك التخيير، وقال في "الجواهر": ثم يكبر للسجود فإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، أو ركبتيه قبل يديه. وقال ابن حزم في "المحلى": وفرض على كل مصلٍ أن يضع إذا سجد يديه على الأرض قبل ركبتيه، واستدل بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يبدأ بوضع الركبتين قبل اليدين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد في الأصح، ومسلم بن يسار؛ فإنهم قالوا: يبدأ أولا بوضع الركبتين قبل اليدين. ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وفي "الروضة" للنووي: فالسنة أن يكون أول ما يقع على الأرض من الساجد ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه. وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ثم يسجد مكبرًا واضعًا ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه. وعنه: يضع يديه قبل ركبتيه. وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم يرون أن يضع الرجل ركبتيه على الأرض قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الفحل". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا خلاف ما روى الأعرج عن أبي هريرة، ومعنى هذا: لا يبرك على يديه كما يبرك البعير على يديه. ش: أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة هذا. وأخرجه بإسنادين فيهما عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري المدني ضعيف جدًّا، قال في "الميزان": واه. وقال ابن الجوزي: قال أحمد وعمرو بن علي: منكر الحديث متروكه. وقال أحمد مرة: ليس بذاك. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء لا يكتب حديثه. وقال النسائي وعلي بن الجنيد: متروك. وجده أبو سعيد المقبري واسمه كيسان روى له الجماعة. وابن فضيل هو محمَّد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده ... إلى آخره، نحوه، غير أن في لفظه: "بروك الجمل". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة يرفعه ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. وأخرجه الترمذي معلقًا (¬3)، وقال: وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -. وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى القطان وغيره. انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 100 رقم 2467). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 235 رقم 2702). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 57 رقم 269).

فهذا كما رأيت: عبد الله بن سعيد، عن أبيه في رواية الترمذي، وفي رواية الطحاوي والبيهقي وابن أبي شيبة: عبد الله بن سعيد، عن جده، واسم جده كيسان وقد ذكرناه، واسم أبيه سعيد بن أبي سعيد المقبري، يروي عن أبي هريرة وابن عمر، روى عنه مالك وابن أبي ذئب وعبد الرحمن بن إسحاق، وعن أحمد: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة: مدني ثقة. قوله: "بروك الفحل" أي كبروك الفحل، وأراد به فحل الإبل، وفسره في رواية الترمذي حيث قال: بروك الجمل، والجمل الفحل من الإبل، وقال الفراء: الجمل زوج الناقة. قوله: "قال أبو جعفر ... إلى آخره" بيان ذلك أن هذه الرواية عن أبي هريرة تعارض رواية الأعرج عنه؛ لأن في رواية الأعرج: وضع اليدين أولًا ثم الركبتين، وفي هذه الرواية: وضع الركبتين أولا ثم اليدين، وأشار الطحاوي إلى دفع المعارضة بقوله: ومعنى هذا: لا يبرك على يديه كما يبرك البعير على يديه، ولا يتم الكلام به على ما لا يخفى. والأحسن أن يقال في دفع المعارضة: إن هذه الرواية ضعيفة ومعلولة بعبد الله بن سعيد، ورواية الأعرج صحيحة، فلا مساواة بينهما فلا تعارض، ولكن يكون الحديث حينئذ حجة لأهل المقالة الأولى. فإن قيل: ما جواب أهل المقالة الثانية عن ذلك حينئذ؟ قلت: قد قال بعضهم حديث الأعرج أيضا معلول؛ لأن البخاري قال: محمَّد ابن عبد الله بن الحسن لا يتابع على حديثه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ فإن قيل: قول البخاري لا يتابع على حديثه ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي إياه.

قلت: ولئن سلمنا ذلك فحديث الأعرج منسوخ كما ذكره البعض، وقال ابن قدامة: وروي عن أبي سعيد قال: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين" وهذا يدل على نسخ ما تقدمه. والأحسن أن يقال في ذلك ما قاله الطحاوي: إن حديث أبي هريرة اختلف عنه، وحديث وائل لم يختلف عنه، والأخذ به أصلى. وعن هذا قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث الأعرج عن أبي هريرة. والله أعلم. ص: حدثنا أحمد أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شريك، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا سجد بدأ بوضع ركبتيه قبل يديه". حدثنا ابن أبي داود, قال ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله، ولم يذكر وائلا. ش: هذان إسنادان: الأول: مرفوع صحيح ورجاله ثقات، واسحاق بن أبي إسرائيل المروزي نزيل بغداد شيخ البخاري في غير "الصحيح"، قال ابن معين: هو ثقة من ثقات المسلمين. واسم أبي إسرائيل إبراهيم. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي وحسين بن عيسى، قالا: ثنا يزيد بن هارون ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "وإذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه على ركبتيه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 222 رقم 838).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا سلمة بن شبيب وعبد الله بن منير والحسن بن علي الحلواني وأحمد بن إبراهيم الدورقي وغير واحد، قالوا: ثنا يزيد بن هارون ... إلى آخره، نحو رواية أبي داود. وأخرجه النسائي (¬2): عن الحسن بن عيس، عن يزيد بن هارون ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن الحسن بن علي الخلال، عن يزيد بن هارون ... إلى آخره، نحوه. الإسناد الثاني: مرسل، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، عن همام بن يحيى، عن سفيان الثوري. وقال الترمذي (1) بعد أن رواه مسندا: هذا حديث غريب حسن، لا نعرف أحدًا رواه مثل هذا غير شريك، وروى همام، عن عاصم مرسلا, ولم يذكر فيه وائل بن حجر. وقال النسائي (¬4): لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن هارون. وقال الدارقطني (¬5): تفرد به يزيد، عن شريك، ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما ينفرد به. وقال البيهقي: هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي، وإنما تابعه همام مرسلا. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 56 رقم 268). (¬2) "المجتبى" (2/ 206 رقم 1089). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 286 رقم 882). (¬4) "المجتبى" (2/ 234 رقم 1154). (¬5) "سنن الدارقطني" (1/ 345 رقم 6).

ص: كذا قال ابن أبي داود- من حفظه: عن سفيان الثوري، وقد غلط، والصواب: شقيق وهو أبو ليث كذلك حدثنا يزيد بن سنان من كتابه، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا همام، عن شقيق أبي ليث، عن عاصم بن كليب، عن أبيه. وشقيق أبو ليث هذا لا يعرف. ش: أي كذا قال إبراهيم بن أبي داود البرلسي: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا سفيان، عن عاصم ... إلى آخره، من حفظه دون كتاب، وقد غلط إبراهيم فيه، والصواب: ثنا همام، ثنا شقيق، عن عاصم؛ كذلك حدثنا يزيد بن سنان القزاز من كتابه، قال: حدثنا حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال، عن همام، عن شقيق ... إلى آخره. وشقيق أبو ليث هذا لا يعرف، يعني مجهول، وذكره ابن أبي حاتم وقال: شقيق أبو ليث يروي عن عاصم بن كليب، روى عنه همام بن يحيى، وسكت عنه. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضا من طريقين: الأول: عن محمد بن معمر، عن الحجاج بن منهال، عن همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - ... " فذكر حديث الصلاة قال: "فلما سجد وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقعا كفاه". الثاني: قال همام: وحدثنا شقيق، قال: حدثني عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - بمثل هذا. وهذا مرسل. واعلم أن هذا من قوله: "كذا قال ابن أبي داود" إلى قوله: "لا يعرف" غير موجود في كثير من النسخ، وفي بعض النسخ مضروب عليه، والظاهر أن هذا تخبيط ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 222 رقم 839).

من النساخ، وأنه من النسخة غير أنهما لما طال هجراخها بين أهل العلم وقع فيها الخلط. ص: فلما اختلف عن النبي - عليه السلام - فيما يبدأ بوضعه في ذلك؛ نظرنا فيه، فكان سبيل تصحيح معاني الآثار: أن وائلا لم يختلف عنه، وإنما الاختلاف عن في هريرة، فكان ينبغي أن يكون ما روي عنه لما تكافأت الروايات فيه؛ ارتفع وثبت ما روى وائل - رضي الله عنه -. ش: أشار بهذا الكلام إلى ترجيح حديث وائل بن حجر على حديث أبي هريرة، بيان ذلك: أن أبا هريرة اختلف عنه كما ذكر فيما مضى، فإن رواية الأعرج عنه تعارضها وتخالفها رواية عبد الله بن سعيد عن جده عنه كما مر بيانه، وحديث وائل لم يختلف عنه، فيكون أرجح من حديث أبي هريرة؛ لأن الاتفاق من أسباب الترجيح. ولهذا قال الخطابي: حديث وائل أثبت من حديث أبي هريرة، على أنَّا قلنا: إن بعضهم ادعى انتساخ حديث أبي هريرة، كما مر بيانه مستوفى. قوله: "تكافأت" أي تساوت، من تكافأ تتكافأ، أي: تتساوى، ومنه الحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى في القصاص والديات، وأصله من الكفؤ، وهو النظير والمساوي. ص: فهذا حكم تصحيح معاني الآثار في ذلك، وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنَّا قد رأينا الأعضاء التي قد أمر بالسجود عليها هبم سبعة أعضاء، بذلك جاءت الآثار عن رسول الله - عليه السلام -. فما روي عنه في ذلك: ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال النبي - عليه السلام -: "أمر العبد أن يسجد على سبعة آراب: وجهه وكفيه وركبتيه وقدميه، أيها لم تقع فقد انتقض".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل، عن عامر، عن أبيه قال: قال النبي - عليه السلام -: "إذا سجد العبد سجد على سبعة آراب ... " ثم ذكر مثله. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن عباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن يزيد بن الهاد ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس: "أُمر النبي - عليه السلام - أن يَسْجد على سبعة أعظم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكانت هذه الأعضاء هي التي عليها السجود، فنظرنا في ذلك كيف حكم ما اتفق عليه منها لنعلم به كيف حكم ما اختلفوا فيه منها؟ فرأينا الرجل إذا سجد يبدأ بوضع أحد هذين إما ركبتاه وإما يداه، ثم رأسه بعدهما، ورأيناه إذا رفع بدأ برأسه فكان الرأس مقدمًا في الرفع مؤخرًا في الوضع، يُثَنِّي بعد رفع رأسه برفع يديه، ثم ركبتيه، هذا اتفاق منهم جميعًا، فكان النظر على ما وصفنا في حكم الرأس إذا كان مؤخرًا في الوضع لما كان مقدمًا في الرفع، أن تكون اليدان كذلك لما كانتا مقدمتين على الركبتين في الوفع، أن تكونا مؤخرتين عنهما في

الوضع، فثبت بذلك ما روي عن وائل؛ فهذا هو النظر، وبه نأخذ، وهو قول أتيت حنيفة وأتيت يوسف، ومحمد رحمهم الله. ش: أي هذا الذي ذكرنا من ترجيح حديث وائل بالوجه المذكور هو حكم تصحيح الآثار المتعارضة والمتضادة، وأما وجه حكمها من طريق النظر والقياس، أن الأعضاء التي أمر المصلي أن يسجد عليها سبعة، وهي: الوجه والكفان والركبتان والقدمان، ورأيناهم قد اتفقوا أن المصلي إذا سجد يبدأ إما بركبتيه، وإما بيديه، ثم برأسه بعدهما، وإذا رفع بدأ أولا برأسه، ثم بيديه، ثم بركبتيه، فكان الرأس مقدفا في الرفع مؤخرًا في الوضع؛ فالنظر والقياس على ذلك أن تكون اليدان كذلك كما كانتا مقدمتين على الركبتين في الرفع ينبغي أن تكونا مؤخرتين عن الركبتين في الوضع. قوله: "أحد هذين" إشارة إلى الركبتين وإلى اليدين، باعتبار المذكور، فلذلك ذكر اسم الإشارة. قوله: "ثم يثني" من التثنية. قوله: "إذ كان مؤخرًا" أي حين كان. قوله: "مقدمتين" بفتح الدال المشددة، وكذلك قوله: مؤخرتين بفتح الخاء. فافهم. قوله: "فمما روي عنه في ذلك" أي من الذي روي عن النبي - عليه السلام - في السجود على الأعضاء. وأخرج ذلك عن ثلاثة من الصحابة، وهم: سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة بالجنة، وعباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -. أما حديث سعد فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو إبراهيم ابن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن المدني،

عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المدني، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص المدني، عن أبيه سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة. وأخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (¬1): حدثني ابن أبي شيبة، نا محمَّد بن عمر، عن عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا سجد العبد سجد على سبعة آراب: وجهه وكفيه وركبتيه وقدميه، فما لم يضع فقد انتقص". الآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عن عبد الله بن جعفر ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة نحوه (¬2). وأما حديث عباس بن عبد المطلب فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد المدني، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن عباس بن عبد المطلب ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، نا بكر يعني ابن مضر، عن ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه". ¬

_ (¬1) "المنتخب من مسند عبد بن حميد" (1/ 82 رقم 156). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 234 رقم 2677). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 235 رقم 891).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن قتيبة أيضًا ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث العباس حديث حسن صحيح وعليه العمل عند أكثر أهل العلم. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2)، والحاكم في "مستدركه" (¬3)، وسكت عنه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن عباس بن عبد المطلب ... نحوه. وأخرجه النسائي (¬4): عن قتيبة، عن بكر، عن ابن الهاد نحو رواية أبي داود المذكورة آنفا. وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن الهاد ... إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن يزيد بن الهاد ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬6): ثنا محمد بن عقبة السدوسي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن يزيد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي - عليه السلام - قال: "أمر المرء أن يسجد على سبعة آراب: يديه ورجليه وركبتيه، ووجهه". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 61 رقم 272). (¬2) "صحيح بن حبان" (5/ 248 رقم 1921). (¬3) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 349 رقم 823). (¬4) "السنن الكبرى" (1/ 230 رقم 681). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 286 رقم 885). (¬6) "مسند البزار" (4/ 146 رقم 1319).

وأخرجه أحمد في"مسنده" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن العباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجد الرجل سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفيه وركبتيه وقدميه". واعلم أن حديث العباس هذا عزاه جماعة إلى مسلم، منهم صاحب الأطراف، والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" والبيهقي في "سننه"، وابن الجوزي في "جامع المسانيد" وفي "التحقيق"، ولم يذكره عبد الحق في الجمع بين الصحيحين، ولم يذكر القاضي عياض لفظ الآراب في "مشارق الأنوار" الذي وضعه على ألفاظ البخاري ومسلم والموطأ. قال القاضي: وهذه اللفظة لم تقع عند شيوخنا في مسلم ولا في النسخ التي رأينا، والتي في كتاب مسلم: "سبعة أعظم". انتهى. والذي يظهر -والله أعلم- أن أحدهم سبق بالوهم وتبعه الباقون، وهو محل اشتباه فإن العباس يشتبه بابن عباس، وسبعة آراب قريب من سبعة أعظم. والله أعلم. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان، عن عبد الله بن عباس: "أمر النبي - عليه السلام - أن يسجد على سبعة أعظم". وأخرجه البخاري (¬2): ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس: "أمر النبي - عليه السلام - أن يسجد على سبعة أعضاء- ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا، الجبهة واليدين والركبتين والرجلين". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 206 رقم 1764). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 280 رقم 776).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع الزهراني-قال يحيى: أنا، وقال أبو الربيع: ثنا- حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "أمر النبي - عليه السلام - أن يسجد على سبعة، ونهي أن يكف شعره أو ثيابه" هذا حديث يحيى، وقال أبو الربيع: "على سبعة أعظم، ونهي أن يكف شعره وثيابه: الكفين والركبتين والقدمين والجبهة". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعره ولا ثيابه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة أيضا، عن حماد ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬4) من طريق أخر أيضًا، وقال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - قال: "أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ولا نكف ثوبا ولا شعرًا". ومن طريق آخر أيضًا (¬5): ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال النبي - عليه السلام -: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 354 رقم 490). (¬2) "جامع الترمذي" (6212 رقم 273). (¬3) "المجتبى" (2/ 208 رقم 1093). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 280 رقم 777). (¬5) "صحيح البخاري" (1/ 280 رقم 779).

وكذا أخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد هو ابن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف ثوبًا ولا شعرًا". حدثنا (1) بهز، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن طاوس، عن ابن عباس، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين والرجلين وأطراف القدمين، ولا أكفت الثياب ولا الشعر". حدثنا (¬2) أبو الطاهر، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة، ولا أكفت الشعر ولا الثياب، الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين". وأخرجه أبو داود (¬3): نا محمَّد بن كثير، أنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - قال: "أمرت -وربما قال: أمر- نبيكم أن يسجد على سبعة آراب". وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا بشر بن معاذ الضرير، ثنا أبو عوانة وحماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم". الطريق الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال التميمي الضرير الحافظ شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع العيشي ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 354 رقم 490). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 355 رقم 490). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 235 رقم 890). (¬4) "سنن ماجه" (1/ 286 رقم 883).

البصري، عن روح بن القاسم التميمي العنبري، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - أن يسجد على سبع، ونهي أن يكف شعره وثيابه". قوله: "آراب" بالمد جمع "إِرْب" بكسر الهمزة وسكون الراء، وهو العضو، والمعنى: أمر العبد أن يسجد على سبعة أعضاء. قوله: "وجهه" بالجر عطف بيان لقوله: "آراب" وما بعده عطف عليه. قوله: "أيها لم يقع" أي أيّ الأعضاء من هذه الأعضاء السبعة لم يقع على الأرض فقد انتقض سجوده، والضمير في انتقض يرجع إلى السجود الذي دل عليه قوله: "أن يسجد"، وقد اختلف العلماء فيما يجري السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم على أن السجود على الأرض فريضة. فقال النووي: أعضاء السجود سبعة وينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا، وأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفي بعضها، والأنف مستحب فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين. وقال أبو حنيفة، وابن القاسم من أصحاب مالك: له أن يقتصر على أيهما شاء. وقال أحمد، وابن حبيب من أصحاب مالك: يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا؛ لظاهر الحديث. وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد؛ لأنه قال: "سبعة آراب"، وفي رواية أخرى: "سبعة أعظم" فإن جعلا عضوين صارت ثمانية. فإن قيل: ذكر الأنف في رواية مسلم حيث قال:" أمرت أن أسجد على سبعةٍ: الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 221 رقم 1927).

قلت: الجواب ما ذكرناه، وإنما ذكر الأنف استحبابا، وهو تابع للجبهة، ألا ترى كيف ذكر أصحاب التشريح فقالوا: إن عظمي الأنف يبتدئان من قرنة الحاجب وينتهيان إلى الموضع الذي فوق الثنايا والرباعيات، فعلى هذا يكون الأنف والجبهة التي هي أعلى الحد واحدًا، وهو المعنى المشار إليه في حديث عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال - عليه السلام -: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- والرجلين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر" فقد سوى بينهما, ولأن أعضاء السجود سبعة إجماعًا, ولا تكون سبعة إلا إذا كانت الجبهة والأنف عضوًا واحدًا. وقال ابن بطال: وقالت طائفة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، روي ذلك عن ابن عمر وعطاء وطاوس، والحسن وابن سيرين والقاسم، وسالم والشعبي والزهريّ، قال: وهذا هو قول مالك، ومحمد وأبي يوسف، والشافعي -في أحد قوليه- وأبي ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وروي عن أبي حنيفة أنه إن اقتصر على أحدهما: -الأنف أو الجبهة- جاز، هذا هو الصحيح من مذهبه، وروى أسد بن عمرو عنه: لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر، وهو قول تلميذيه، وفي بعض شروح الهداية عنه: إن وضع الجبهة وحدها من غير عذر جاز بلا كراهة، وفي الأنف وحده يجوز مع الكراهة، والمستحب الجمع بينهما. وفي "الأسرار" للدبوسي جاز ذلك، وقد أشار أبو حفص في "المنظومة" أنه يجوز بلا عذر، وحكى ابن شاس في "الجواهر" أنه قول مالك. وقال ابن جرير في "تهذيب الآثار": حكم الجبهة والأنف سواء، فواضع الأنف دون الجبهة كواضع راحتيه دون الأصابع أو الأصابع دونهما، لا فرق بين ذلك، قال: وبنحو هذا الذي قلناه قال جماعة من السلف. قال ابن بطال: وبه قال طاوس وابن سيرين، وهو قول ابن القاسم. وفي "المبسوط": ونقل عن ابن عمر مثل قول إمامنا النعمان.

وأما اليدان والركبتان والقدمان فهل يجب السجود عليهما؟ فقال الشيخ محيى الدين: فيه قولان للشافعي: أحدهما: لا يجب لكن يستحب استحبابًا متأكدًا. والثاني: يجب وهو الأصح، وهو الذي رجحه الشافعي، فلو أخل بعضو منها لم تصح صلاته، وإذا أوجبا لم يجب كشف القدمين والركبتين، وفي الكفين قولان للشافعي: أحدهما يجب كشفهما كالجبهة، وأصحهما لا يجب. وفي "شرح الهدايه": السجود على اليدين والركبتين والقدمين غير واجب. وفي "الواقعات": لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزئه، وقال أبو الطيب: مذهب الشافعي أنه لا يجب وضع هذه الأعضاء، وهو قول عامة الفقهاء، وعند زفر وأحمد بن حنبل: يجب، وعن أحمد: في الأنف روايتان. وفي "المغني" لابن قدامة: والسجود على جميع هذه الأعضاء واجب إلا الأنف فإن فيه خلافا كما سنذكره، وبهذا قال طاوس والشافعي -في أحد قوليه- وإسحاق، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي- في القول الآخر: لا يجب السجود على غير الجبهة، وفي الأنف روايتان: إحداهما: يجب السجود عليه، وهذا قول سعيد بن جبير، وإسحاق، وأبي خيثمة، وابن أبي شيبة. والرواية الثانية: لا يجب السجود عليه، وهو قول طاوس وعطاء، وعكرمة والحسن، وابن سيرين والشافعي، وأبي ثور وصاحبي أبي حنيفة. فإن قيل: كيف اقتصر أبو حنيفة في فرض السجود على الجبهة أو الأنف وحدها؟ والأحاديث المذكورة تدل على أن الفرض على الأعضاء السبعة كما ذهب إليه الشافعي وزفر وغيرهما ممن ذكرنا فيما مضى؟ قلت: الأمر في النص تعلق بالسجود مطلقا من غير تعيين عضو، ثم انعقد الإجماع على التقييد ببعض أعضاء الوجه، فلا يجوز تعيين غيره، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، فنحمله على بيان السنة؛ عملا بالدليلين.

ثم اختلف أصحابنا الثلاثة في ذلك البعض، فقال أبو حنيفة -رحمه الله-: هو الجبهة أو الأنف من غير تعيين، لو وضع أحدهما في حالة الاختيار تجزئه، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده يجوز مع الكراهة. وعند أبي يوسف ومحمد: هو الجبهة على التعيين لو ترك السجود عليهما حالة الاختيار لا تجزئه، وأجمعوا على أنه لو وضع الأنف وحده في حال العذر تجزئه، ولا خلاف في أن المستحب هو الجمع بينهما حالة الاختيار. ص: وقد روي ذلك أيضا عن عمر، وعبد الله وغيرهما، كما حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود، قالا: "حفظنا من عمر - رضي الله عنه - في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه، كما غير البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه". حدثنا أبوبكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا حماد بن سلمة، أن الحجاج بن أرطاة أخبرهم، قال: قال إبراهيم النخعي: حُفِظَ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أن ركبتيه كانتا تقعان إلى الأرض قبل يديه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن مغيرة قال: "سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد، فقال: "أو يضع ذلك إلا أحمق أو مجنون". ش: أي قد روي وضع الركبتين قبل اليدين أيضًا عن عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود، وكذا روي عن إبراهيم النخعي. أما أثر عمر - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد ... إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يضع ركبتيه قبل يديه". وثنا يعلى (¬2)، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يقع على ركبتيه". وأخرجه عبد الرزاق أيضا في "مصنفه" (¬3): عن الثوري ومعمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا ركع يقع كما يقع البعير، ركبتاه قبل يديه، وكان يكبر وهو يهوي". وأما أثر ابن مسعود فأخرجه من طريق فيه ضعف وانقطاع، أما الضعف فإن الحجاج بن أرطاة فيه مقال، وأما الانقطاع فإن إبراهيم لم يرو عن ابن مسعود شيئًا (¬4). وأبو بكرة هو بكار القاضي. وأبو عمر حفص بن عمر الضرير شيخ أبي داود وابن ماجه. وأما أثر إبراهيم فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب ابن جرير بن حازم، عن شعبة، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬5): عن الثوري، عن معمر، عن إبراهيم: "في الرجل تقع يداه قبل ركبتيه قال إبراهيم: أو يفعل ذلك إلا المجنون". والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 236 رقم 2703). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 236 رقم 2704). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 176 رقم 2955). (¬4) وقد صحح قبل ذلك روايته عن ابن مسعود، وتعقبناه هناك!. (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 176 رقم 2956).

ص: باب: وضع اليدين في السجود أين ينبغي أن تكون؟

ص: باب: وضع اليدين في السجود أين ينبغي أن تكون؟ ش: أي هذا باب في بيان أن اليدين أين يستحب أن تكونا في وضعهما حالة السجود، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام -؛ إن النبي - عليه السلام - كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه". ش: ذكر هذا الإسناد بعينه في باب "التكبير للركوع والتكبير للسجود"، غير أنه اقتصر هناك على رفع اليدين في حالتي الركوع والسجود، والكل حديث واحد، وإنما قطعه لأجل التبويب. وأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو، ونسبته إلى عَقَد -بفتح العين المهملة والقاف- صنف من الأزد. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقد ذكرناه هناك. قوله: "ونحى" من التنحية وهي الإبعاد، واستدل بقوله: "أمكن أنفه وجبهته" مَنْ يقول: لا بد من السجود على الجبهة والأنف جميعًا، ولا يقتصر على إحداهما، واستدل من يرى الاقتصار على الجبهة بما روى ابن أبي شيبة (¬1): من طريق جابر بن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في أعلى جبهته على قصاص الشعر". وقالوا: ذلك محمول على السنة والفضيلة جمعًا بين الدليلين. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 235 رقم 2697).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: هكذا ينبغي للمصلي أن يجعل يديه في ممجوده حَذو منكبيه. ش: أراد بهؤلاء القوم: الشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور، واستحبوا للمصلي أن يجعل يديه في سجوده حَذو منكبيه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يجعل يديه في سجوده حَذو أذنيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا، وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: المستحب أن يجعل يديه في سجوده حذاء أذنيه، ويحكى ذلك عن ابن عمر، وأبي مسعود الأنصاري، ووائل بن حجر - رضي الله عنهم -. وقال صاحب "الهداية": يضع وجهه بين كفيه، ويديه حذاء أذنيه؛ لما روي أنه - عليه السلام - فعل كذلك. وقال صاحب "المحيط": ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "كان رسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد كانت يداه حيال أذنيه". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني, قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا عاصم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا محمَّد ابن جحادة، قال: ثنا عبد الجبار بن وائل بن حجر قال: "كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي، فحدثني وائل بن علقمة، عن أبي وائل بن حجر قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام - فكان إذا سجد وضع وجهه بين كفيه". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه -.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: ذكره بعينه في باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة"، وفي باب "الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟ " وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي - عليه السلام - حين سجد وضع يديه قريبا من أذنيه". قوله: "حيال أذنيه" أي حذاء أذنيه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن خالد بن عبد الله بن الرحمن الطحان الواسطي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رمقت رسول الله - عليه السلام -، فلما سجد كانت يداه حذو أذنيه". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو المنقري المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد العنبري أبي عبيدة البصري، عن محمَّد بن جحادة -بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة- الأودي الكوفي، عن عبد الجبار بن وائل بن حجر، عن وائل بن علقمة هكذا وقع في رواية الطحاوي، وائل بن علقمة، وكذا وقع في رواية أبي داود، والصواب: علقمة بن وائل، كما في رواية مسلم والطبراني كما نذكره. وعبد الجبار وعلقمة أخوان ابنا وائل بن حجر روى لهما الجماعة غير البخاري، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": وائل بن حجر الكندي الحضرمي، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 233 رقم 2667). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 175 رقم 2948).

سكن الكوفة، يكنى أبا هنيدة، له صحبة، روى عنه ابناه: علقمة وعبد الجبار. قوله: "فحدثني وائل بن علقمة، عن أبي وائل بن حجر" أي حدثني وائل، عن أبي الذي هو وائل بن حجر، فقوله: "وائل بن حجر عطف بيان عن قوله: "أبي"، وليس قوله: "أبي وائل" كنية، فافهم، فإنه موضع اشتباه، وفي هذا الموضع ما يحتاج إلى التنبيه من وجهين: الأول: أن قوله: "وائل بن علقمة" ليس بصواب، بل الصواب هو علقمة بن وائل كما ذكرنا. الثاني: أن قوله: عن أبي وائل ليس بكنية، بل قوله: "أبي"، كلام إضافي، وقوله: "وائل بن حجر" عطف بيان. أما رواية مسلم (¬1): فهي ما رواه عن زهير، عن عفان، عن همام، عن محمَّد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه: "أنه رأى النبي - عليه السلام - رفع يديه ... " الحديث. وأما رواية الطبراني فهي ما رواه في "الكبير" (¬2): ثنا حفص بن عمر بن الصباح، ثنا أبو معمر المقعد. وثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا محمَّد بن عبيد بن حساب، ثنا عبد الوارث، ثنا محمَّد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل قال: "كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي، فحدثني علقمة بن وائل، عن أبي: وائل بن حجر قال: "صليت مع رسول الله - عليه السلام -؛ فكان إذا كبر رفع يديه، ثم التحف فأخذ شماله بيمينه وأدخل يديه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 301 رقم 401). (¬2) "المعجم الكبير" (22/ 28 رقم 61).

في ثوبه، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه، ثم سجد ووضع جبهته بين كفيه، فإذا رفع رأسه من السجود رفع يديه ... حتى فرغ من صلاته". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن عثمان، قال: ثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن البرء قال: "سألته أين كان رسول الله - عليه السلام - يضع جبهته إذا صلى؟ قال: بين كفيه". ش: إسناده حسن: وسهل بن عثمان بن فارس الكندي الحافظ أبو مسعود العسكري شيخ مسلم. وحفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي قاضيها، أحد أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه -، ورى له الجماعة. والحجاج بن أرطاة النخعي أبو أرطاة الكوفي القاضي، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له مسلم مقرونا بغيره، واحتج به الأربعة. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: "سئل أين كان النبي - عليه السلام - يضع وجهه؟ قال: كان يضعه بين كفيه -أو قال: يديه- في السجود". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان كل من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين يجعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين أيضًا، وكل من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى الأذنين يجعل وضع اليدين في السجود حيال الأذنين أيضًا، وقد بينت فيما تقدم من هذا الكتاب تصحيح قول من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى حيال الأذنين، فثبت بذلك أيضًا قول من ذهب في وضع اليدين في السجود حيال الأذنين أيضًا، وهو قول أبي حنيفة وأتيت يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 233 رقم 2665).

ش: من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين هم: محمد بن سيرين وسالم بن عبد الله والشافعي وأحمد وإسحاق. ومن ذهب إلى الرفع في افتتاح الصلاة إلى الأذنين هم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي ووهب بن منبه وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد -في رواية- وابن حبيب من المالكية. قوله: "وقد بينت فيما تقدم" أراد به في باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة".

ص: باب: صفة الجلوس في الصلاة كيف هو؟

ص: باب: صفة الجلوس في الصلاة كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان هيئة الجلوس في قعدات الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة. والصفة والوصف مصدران كالوعد والعدة، وعند المتكلمين: الوصف ما قام بالواصف، والصفة ما قام بالموصوف. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، أن مالكا، حدثه عن يحيى بن سعيد: "أن القاسم بن محمَّد أراهم الجلوس فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، وحدثني أن أباه عبد الله بن عمر كان يفعل ذلك". ش: إسناده صحيح. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1): عن يحيى بن سعيد ... إلى آخره نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن فضيل وأبي أسامة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر قال: "إن من سنة الصلاة أن تُفترش اليسرى، وتُنصب اليمنى". قوله: "وثنى رجله" من ثنيت الشيء ثنيًا: إذا عطفته. قوله: "على وَرِكِه اليسرى" الورك ما فوق الفخذ، وهي مؤنثة -بفتح الواو وكسر الراء، وقد تسكن الراء- مثل فَخِذ وفَخْذ. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 90 رقم 202). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2927).

قوله: "أراني هذا" أي الجلوس المذكور، "عبد الله بن عبد الله" وكلاهما مكبر وهو: عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، أبو عبد الرحمن المدني، أخو سالم. روى له الجماعة سوى ابن ماجه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا، حدثه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أخبره: "أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس قال: ففعلته يومئذ وأنا حديث السنن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى، فقلت له: فإنك تفعل ذلك، قال: إن رجليَّ لا تحملاني". ش: هذا أيضا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وقال أبو عمر: قد بان في هذا الحديث أن التربع في الصلاة لا يجوز، وليس من سنتها، وعك هذا جماعة الفقهاء، فلا وجه للإكثار فيه، وقد روي عن ابن عباس وأنس ومجاهد وأبي جعفر محمَّد بن علي وسالم وابن سيرين وبكر المزني أنهم كانوا يصلون متربعين، وهذا عند أهل العلم على أنهم كانوا يصلون جلوسًا عند عدم القدرة على القيام، أو كانوا متنفلين جلوسًا؛ لأنهم كلهم قد روي عنه التربع في الصلاة لا يجوز، إلا لمن اشتكى، أو تنفل، وأما الصحيح فلا يجوز له التربع في الصلاة بإجماع من العلماء، وكذلك أجمعوا على أنه من لم يقدر على هيئة الجلوس في الصلاة أتى على حسب ما يقدر، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن القعود في الصلاة كلها: أن ينصب الرجل رجله اليمني ويثني رجله اليسرى، ويقعد بالأرض، واحتجوا في ذلك بما وصفه يحيى بن سعيد في حديثه من القعود، وبأخبار عبد الله بن عمر في حديث عبد الرحمن بن القاسم أن ذلك سنة الصلاة، قالوا: والسنة لا تكون إلا عن رسول الله - عليه السلام - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 284 رقم 793).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: يحيى بن سعيد الأنصاري، والقاسم بن محمَّد، وعبد الرحمن بن القاسم، ومالكًا؛ فإنهم ذهبوا إلى أن القعود في الصلاة كلها في القعدة الأولى وفي الآخرة: أن ينصب المصلي رجله اليمنى، ويثني رجله اليسرى، ويقعد بالأرض، وهذا هو التورك الذي ينقل عن مالك. وفي "الجواهر" لابن شاس: والمستحب في صفة الجلوس كله الأول، والأخير وبين السجدتين أن يكون توركا. وفي "التمهيد": اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس، فقال مالك: يفضي بإليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمني، ويثني رجله اليسرى، وهكذا عنده في كل جلوس في الصلاة، والمرأة والرجل في ذلك عنده سواء. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي فيما ذهبوا إليه من هيئة الجلوس في الصلاة كلها، وجه استدلالهم: أن عبد الله بن عمر قال: "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى" والسنة لا تكون إلا عن النبي - عليه السلام -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: أما القعود في آخر الصلاة فكما ذكرتم وأما القعود في التشهد الأول منها فعلى الرجل اليسرى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: القعود إن كان في آخر الصلاة فكما ذكره أولئك القوم، وإن كان في التشهد الأول يكون قعوده على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. وقال أبو عمر: قال الشافعي: إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعًا، فأخرجهما عن وركه الأيمن، وأفضى بمقعدته إلى الأرض، وأضجع اليسرى ونصب اليمنى في القعدة الأولى. وقال أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي في كل شيء إلا في الجلوس للصبح فإنه عنده كالجلوس في ثنتين، وهو قول داود. وقال الطبري: إن فعل هذا فحسن، وإن فعل هذا فحسن؛ لأن ذلك كله قد ثبت عن النبي - عليه السلام -.

وقال ابن قدامة في "المغني": فإذا جلس واعتدل يكون جلوسه على رجله اليسرى وينصب اليمنى، وإذا جلس للتشهد الأخير تورك ينصب رجله اليمنى، ويجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض، ثم قال: السنة عند إمامنا التورك في التشهد الثاني، وإليه ذهب مالك والشافعي. وقال الشيخ محيي الدين النووي: الجلسات عند الشافعي أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة عقيب كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، فالجميع يسن مفترشًا إلا الأخيرة، فلو كان مسبوقا وجلس إمامه في آخر الصلاة متوركا جلس المسبوق مفترشًا؛ لأن جلوسه لا يعقبه سلام، ولو كان على المصلي سجود سهو فالأصح أن يجلس مفترشًا في تشهده، فإذا سجد سجدتي السهو تورك ثم سلم. ص: وكان من الحجة لهم فيما احتج به عليهم الفريق الأول: أن قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنها -: "إن سنة الصلاة ... " فذكر ما في الحديث، لا يدل ذلك أنه عن النبي - عليه السلام -، قد يجوز أن يكون رأى ذلك، أو أخذه ممن بعد رسول الله - عليه السلام -، وقد قال رسول الله - عليه السلام -: "عليكم بسنتي في وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" وقال سعيد بن المسيب -لما سأله ربيعة عن أُروش أصابع المرأة-: إنها السنة يا ابن أخي". ولم يكن مخرج ذلك إلا من زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فسمى سعيد قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: سنة، فكذلك يحتمل أن يكون عبد الله بن عمر سمي مثل ذلك أيضًا سنه، وإن لم يكن عند في ذلك عن النبي - عليه السلام - شيء. ش: أي من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتج به عليهم الفريق الأول، وهم أهل المقالة الأولى: حاصله أن هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من قول عبد الله بن عمر: "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى". بيانه: أن هذا القول من ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يدل على أن المراد منه سنة النبي - عليه السلام -؛ لأنه يحتمل أن يكون عبد الله رأى ذلك برأيه واجتهاده فجعله سنة له، أو أخذه عن

أحد من الصحابة - رضي الله عنه - بعد النبي - عليه السلام -، فإذا كان كلامه محتملا لما ذكرنا، لا تقوم به الحجة، ولا يتم به الاستدلال. وقوله: "وقد قال رسول الله - عليه السلام - ... إلي أخره" يؤكد ما ذكره من وجود هذا الاحتمال. بيان ذلك: أن السنة لفظ مشترك بين سنة الرسول - عليه السلام - وسنة غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -، والدليل عليه قوله - عليه السلام -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" حيث أثبت للخلفاء سنة. وهذا الحديث الذي أخرجه الطحاوي معلقا قد أخرجه أبو داود (¬1) مطولا: في باب "من دعا إلى السنة" وقال: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن ابن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: "أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (¬2) فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلي بنا رسول الله - عليه السلام - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله - عليه السلام -، كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وأخرجه الترمذي (¬3)، وابن ماجه (¬4) أيضا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 200 رقم 4607). (¬2) سورة التوبة، آية: [92]. (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 44 رقم 2676). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 16 رقم 43).

قوله: "وقال سعيد بن المسيب ... إلى آخره" دليل على أن السنة تطلق على سنة غير الخلفاء الراشدين أيضًا من الصحابة - رضي الله عنهم -، والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والخلافة تمت بهم، ثم صار ملكا وسيفًا وحربًا، وقد استوفيت الكلام فيه في باب "المسح على الخفين" فإن الطحاوي أخرج هذا الحديث هناك مسندًا مختصرا، وكذلك ذكر هناك قول سعيد بن المسيب لربيعة في أروش أصابع المرأة: "يا ابن أخي، إنها السنة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: "قلت لسعيد بن المسيب: كم في هذه من المرأة؟ يعني: الخنصر، فقال: عشر من الإبل، قال: قلت: في هذه -يعني الخنصر والتي تليها- قال: عشرون قلت: فهؤلاء -يعني الثلاثة- قال: ثلاثون، قال: قلت: ففي هؤلاء -وأومأ إلى الأربع- قال: عشرون قال: قلت: حين آلمت جراحها وعظمت مصيبتها كان الأقل لأرشها، قال: أعراقي أنت؟! قال: قلت: عالم مثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي، السنة". قوله: "ولم يكن مخرج ذلك إلا من زيد بن ثابت - رضي الله عنه -" أي مخرج ما قاله سعيد بن المسيب في أروش أصابع المرأة، من زيد - رضي الله عنه -. وذلك ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا زكرياء وابن أبي ليلى، عن الشعبي قال: "كان علي - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ على النصف من دية الرجل فيما دق وجلَّ، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ على النصف من دية الرجل إلا السن والموضحة، فهما فيه سواء، وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يقول: دية المرأة في الخطأ مثل دية الرجل حتى يبلغ ثلث الدية، فما زاد فهي على النصف". انتهى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 412 رقم 27504). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 411 رقم 27497)، ولكن بإسناد آخر.

قلت: تأمل الآن في هذا تجد قول سعيد بن المسيب مستخرجا من هذا، بيانه: أنه أوجب في أصبع المرأة الواحدة عشرا من الإبل مثل أصبع الرجل الواحدة، وأوجب في أصبعيها عشرين من الإبل كما في أصبعي الرجل، وأوجب في ثلاثة أصابع منها ثلاثين من الإبل كثلاثة أصابع من الرجل، وأوجب في أربعة أصابع منها عشرين من الإبل وخالف القياس المذكور؛ لأن القياس ينبغي أن يجب أربعون من الإبل كما في أربعة أصابع من الرجل، ولكنه أخذ ذلك من قول زيد بن ثابت حيث قال: "دية المرأة في الخطأ مثل دية الرجل حتى يبلغ الثلث، فما زاد فهي على النصف" وها هنا لما زادت أصابع المرأة على الثلث أوجب ديتها على نصف دية الرجل، وكانت دية الرجل في أربعة أصابع أربعين إبلا فأوجب نصفها، وهو عشرون إبلا في أربعة أصابع منها على الأصل المذكور، ألا ترى أن ربيعة لما استبعد ذلك حيث قال: "حين آلمت جراحها وعظمت مصيبتها كان الأقل لأرشها، قال سعيد بن المسيب: أعراقي أنت؟ " أراد به أنت مخالف خارج، ثم قال: "يا ابن أخي، السنة" أراد بها سنة زيد بن ثابت ومذهبه وطريقته في ذلك. والله أعلم. ص: وفي ذلك حجة أخرى: أن عبد الله بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أرى القاسم الجلوس في الصلاة على ما في حديثه، وذكر عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله، عن أبيه لما قال له: "فإنك تفعل ذلك قال: إن رجليّ لا تحملاني" فكان معنى ذلك أنهما لو حملاني قعدت على إحداهما وأقمت الأخرى؛ لأن ذكره لهما لا يدل على أن إحداهما تستعمل دون الأخرى، ولكن تستعملان جميعا، فيقعد على إحداهما وينصب الأخرى، فهذا خلاف ما في حديث يحيى بن سعيد -رحمه الله-. ش: أي وفيما احتج به الفريق الأول على الفريق الثاني حجة أخرى للفريق الثاني على الأول. بيان ذلك: أن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - أرى القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - كيفية الجلوس في الصلاة على ما وصفه في حديثه، وأن عبد الرحمن بن القاسم ذكر عن عبد الله بن عبد الله لما قال له، أي لعبد الله بن

عمر - رضي الله عنها -: "فإنك تفعل ذلك" يعني: التربع في الصلاة، قال له: "إن رجليَّ لا تحملاني"، معناه: لو حملاني قعدت على إحداهما وأقمت الأخرى؛ لأن ذكره لهما لا يدل على أنه يستعمل إحداهما ويترك الأخرى، بل المعنى أنه يستعمل كلتيهما فيقعد على الواحدة وينصب الأخرى، فهذه الهيئة خلاف الهيئة التي ذكرها في حديث يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، فيكون بين المنقولين عنه تخالف وتضاد، فسقط الاحتجاج به. ص: وقد روى أبو حميد الساعدي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهم أبو قتادة - رضي الله عنه -، قال: "قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لِمَ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة، ولا أقدمنا له صحبة؟! فقال: بلى، قالوا: فأعرض، فذكر أنه كان في الجلسة الأولى يثني رجله اليسرى ويقعد عليها، حتى إذا كانت السجدة التي تكون في أخرها التسليم أخَّر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر، قال: فقالوا جميعًا: قد صدقت". حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الليث بن سعد، عن يزيد بن محمَّد القرشي ويزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: وأخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب وعبد الكريم بن الحارث، عن محمد ابن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه، غير أنه لم يقل: "فقالوا جميعًا: صدقت". حدثنا أبو الحسين الأصبهاني قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا خالد بن مخلدا، قال: ثنا عبد السلام بن حفص، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي ... فذكر بإسناده مثله. فهذا يوافق ما ذهب إليه أهل هذه المقالة.

ش: ذكر حديث أبي حميد الساعدي هذا في معرض الاحتجاج لأهل المقالة الثانية؛ لأنه يوافق ما ذهبوا إليه، وهو ظاهر. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: قد ذكره بعينه في باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة" وفي باب "التكبير للركوع" أيضًا، والكل حديث واحد، ولكنه قطعه على حسب التبويب. وقد ذكرنا أن الحديث أخرجه البخاري والأربعة (¬1) مختصرًا ومطولا، وذكرنا أيضًا ما فيه من المعاني وغيرها. الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي المصري الملقب ببحشل ابن أخي عبد الله بن وهب شيخ مسلم أيضًا، عن عمه عبد الله بن وهب المصري، عن الليث بن سعد المصري، عن يزيد بن محمَّد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف القرشي؛ وثقه ابن حبان، وروى له البخاري مقرونا بيزيد بنأبي حبيب، وكذا روى له الطحاوي ها هنا مقرونا بيزيد هذا، فإن الليث بن سعد يروي هذا الحديث، عن يزيد بن محمَّد ويزيد بن أبي حبيب كلاهما يرويان، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة الديلي المدني روى له الشيخان وأبو داود والنسائي. ومحمد بن عمرو هذا يروي عن محمَّد بن عمرو بن عطاء بن عياش المدني، روى له الجماعة، عن أبي حميد الساعدي الأنصاري المدني صاحب رسول الله - عليه السلام -, قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد، وقيل غير ذلك، وقد ذكرناه. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث، عن خالد، عن سعيد، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء. وحدثثا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمَّد، عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو بن عطاء: "أنه كان جالسا مع نفر من أصحاب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 284 رقم 794).

رسول الله - عليه السلام - فذكرنا صلاة النبي - عليه السلام -، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - عليه السلام -: رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غيى مفترش ولا قابضها، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرول وقعد على مقعدته". قوله: "قال: وأخبرني ابن لهيعة ... إلى أخره" أي قال عبد الله بن وهب المصري: وأخبرني أيضًا عبد الله بن لهيعة المصري، فيه مقال. عن يزيد بن أبي حبيب سويد الأزدي المصري المذكور آنفا، وعن عبد الكريم ابن الحارث بن زيد المصري، روى له مسلم والنسائي، كلاهما عن محمَّد بن عمرو ابن عطاء ... إلى آخره. وأشار بذلك إلى أن عبد الله بن وهب روى هذا الحديث من طريقين: أحدهما: عن الليث بن سعد ... إلى آخره. والآخر: عن عبد الله بن لهيعة ... إلى آخره. الثالث: عن أبي الحسن محمَّد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، عن عثمان بن أبي شيبة محمَّد بن إبراهيم العبسي الكوفي أخي أبي بكر بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن خالد بن مخلد القطواني الكوفي شيخ البخاري أيضًا، عن عبد السلام بن حفص المدني؛ قال أبو حاتم: ليس بمعروف. روى له أبو داود. عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة الديلي نسبة إلى الديل -بكسر الدال- في كنانة هكذا ضبطه أهل العربية، وينسبون إليه على لفظه، وكذا ضبطه في "مطالع الأنوار" وقال: محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي، ووقع في رواية

الطحاوي: الدؤلي -بضم الهمزة- وهو نسبة إلى دؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل. ص: وقد خالف آخرون أيضًا في ذلك فقالوا: القعود في الصلاة كلها سواء على مثل القعود الأول في قول أهل المقالة الثانية , ينصب رجله اليمنى ويفترش رجله اليسرى فيقعد عليها. ش: أي وقد خالف جماعة آخرون أهل المقالتن المذكورتين أيضًا في حكم الجلوس في قعدات الصلاة، وأراد بهم: الثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: القعود في الصلاة كلها -في القعدة الأولى وفي الأخيرة سواء- وهو أن ينصب رجله اليمنى، ويفترش رجله اليسرى فيقعد عليها. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا صالح بن عبد الرحمن وروح بن الفرج، قالا: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن وائل بن حجر الحضرمي قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام -، فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله - عليه السلام -، قال: فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها، ووضع كله اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقه بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا خالد بن مخلد، عن عاصم ... فذكر بإسناده. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا يوافق ما ذهبوا إليه من ذلك. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث وائل بن حجر. وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، وروح بن الفرج القطان المصري، كلاهما عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه كليب بن شهاب الجرمي، عن وائل. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) بأتم منه: ثنا المقدام بن داود، نا أسد بن موسى، ثنا أبو الأحوص، ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام - فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله - عليه السلام - , فلما افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما كبر للركوع رفع يديه أيضًا كما رفعهما لتكبير الصلاة، فلما ركع وضع كفيه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفع يديه أيضًا، فلما قعد يتشهد افترش رجله اليسرى بالأرض، ثم قعد عليها، فوضع كله الأيسر على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقه بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى". الثانى: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن خالد بن مخلد القطواني شيخ البخاري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل. وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - عليه السلام - كيف يصلي؟ قال: فقام رسول الله - عليه السلام - فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، ثم وضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 34 رقم 80). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 193 رقم 726).

فخذه اليسرى، وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلق حلقة، ورأيته يقول: هكذا وحلق بثنتين -الإبهام والوسطى- وأشار بالسبابة". قوله: "لأحفظن" بفتح اللام؛ لأنها للتأكيد وبنون التوكيد أيضًا. قوله: "وجعل حَلْقة" بفتح الحاء وسكون اللام مثل حلقة الدرع، وحلقة الباب، وحلقة القُرْط، وأما حَلَقَة القوم فيجوز فيها الفتح والسكون. وقال أبو عمرو الشيباني: ليس في الكلام حَلَقَة بالتحريك إلا في قولهم: هؤلاء قوم حُلَقة للذين يحلقون الشعر، جمع حالق. ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه: أن يعقد أصابعه ويجعل حلقة بالإبهام والوسطى، قال الفقيه أبو جعفر: هكذا روي عن أبي حنيفة، وقال صاحب "الهداية": ويبسط أصابعه. وقال صاحب "المحيط": وعن محمَّد أنه يضع يديه على فخذيه؛ لأن فيه توجيه الأصابع إلى القبلة أكثر، وعن بعضهم: أنه يفرق أصابعه. وكل هذا مخالف لما في هذا الحديث. الثاني: فيه: أن يدعو بالمسبحة ويشير بها، وبه قال أبو يوسف، ذكره في "الإملاء" قال: وتروى الإشارة عن النبي - عليه السلام - وبينه، وعن بعض أصحابنا: وتكره الإشارة وهو غير صحيح؛ لأن أبا يوسف نص عليها في "الإملاء"، وكذلك نص عليها محمَّد في كتابه، وقال في "المحيط": والإشارة على قول أبي حنيفة -رحمه الله-. الثالث: فيه: أن السُّنَّة أن يفترش المصلي رجله اليسرى ويجلس عليها. فإن قيل: استدلال الحنفية لا يتم بهذا الحديث؛ لأنه لم يذكر فيه إلا أنه فرش رجله اليسرى فقط. قلت: أكبر الخلاف فيه؛ لأنه اكتفى بهذا المقدار.

وأما نصب الرجل اليمنى فقد ذكره ابن أبي شيبة في روايته فقال (¬1): ثنا ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر: "أن النبي - عليه السلام - جلس فثني اليسرى، ونصب اليمنى، يعني: في الصلاة". ثنا (¬2) يزيد بن هارون، عن حسين المعلم، عن بُديل، عن أبي الجوزاء، عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا سجد فرفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يفترش رجله اليسرى، وينصب اليمنى". ثنا (¬3) وكيع، عن هشام بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: "كان النبي - عليه السلام - يفترش اليسرى، وينصب اليمنى". ثنا (¬4) ابن فضيل، وأبو أسامة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر قال: "إن من سنة الصلاة أن يفترش اليسرى، وينصب اليمنى". ثنا (¬5) وكيع والفضل بن دكين، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان ينصب اليمنى، ويفترش اليسرى". قوله: "فهذا يوافق" أي حديث وائل بن حجر يوافق مذهب هؤلاء الذين ذهبوا إلى أن القعود في الصلاة كلها سواء، وهو أن ينصب رجله اليمنى، ويفترش رجله اليسرى ويقعد عليها. وما قيل: إنه لم يذكر فيه إلا افتراش رجله اليسرى فقط فقد ذكرنا جوابه الآن. ص: وفي قول وائل: "ثم عقد أصابعه يدعو" دليل على أنه كان في أخر الصلاة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2923). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2924). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2926). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2927). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2929).

ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: من أين قلتم: إن المراد من قوله: "فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها" هو القعدة الأخيرة؟ فما الذي يدل على ذلك؟ فَلِمَ لا يجوز أن يكون المراد منه هو القعدة الأولى؟ وتقرير الجواب: أن قوله: "يدعو" يدل على أن المراد من قوله: "فلما قعد للتشهد ... إلى آخره" هو القعدة الأخيرة؛ لأن الدعاء في التشهد لا يكون إلا في آخر الصلاة، وذلك لأن القعدة الأولى لا دعاء فيها، وإنما فيها قراءة التحيات لله فقط على ما عرف ذلك. ص: فقد تضاد هذا الحديث وحديث أبي حميدة فنظرنا في صحة مجيئهما واستقامة أسانيدهما فإذا فهد ويحيى بن عثمان قد حدثانا، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: نا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قالا: ثنا عطاف بن خالد، قال: حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: "حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسًا ... " فذكر نحو حديث أبي عاصم سواء. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد فسد بما ذكرنا حديث أبي حميدة؛ لأنه صار: عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن رجل، وأهل الإسناد لا يحتجون بمثل هذا، فإن ذكروا في ذلك ضعف العطاف بن خالد، قيل لهم: وأنتم أيضًا تضعفون عبد الحميد أكثر من تضعيفكم للعطاف مع أنكم لا تطرحون حديث العطاف كله، إنما تزعمون أن حديثه في القديم صحيح كله، وأن حديثه بأخرة دخله شيء، هكذا قال يحيى بن معين في كتابه، وأبو صالح سماعه من العطاف قديم جدًّا، فقد دخل ذلك فيما صححه يحيى من حديثه، مع أن من محمد بن عمرو بن عطاء لا يحتمل مثل هذا؛ وليس أحد يجعل هذا الحديث سماعا لمحمد بن عمرو من أبي حميد إلا عبد الحميد، وهو عندكم ضعيف، ولكن الذي روى حديث أبي حميد ووصله لم يفصل حكم الجلوس كما فصله عبد الحميد.

ش: أشار بهذا إلى الجواب عن حديث أبي حميد الذي احتج به أهل المقالة الثانية كما ذكرناه، تقريره أن يقال: قد تضاد هذا الحديث، أعني حديث وائل بن حجر وحديث أبي حميد، بيان ذلك: أن حديث أبي حميد يدل على أن صفة الجلوس في القعدة الأخيرة هي التورك، وحديث وائل يدل على أنه يفترش اليسرى ويقعد عليها مطلقا من غير قيد بالأخيرة ولا بالأولى، وحديث أبي حميد مقيد، وبين المقيد والمطلق تضاد، فإذا كان الأمر كذلك يجب النظر في حال إسنادي الحديثين هل هما متساويان في الصحة أم لا؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا عطاف بن خالد قد روى عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن رجل: "أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسًا ... " فذكر نحو حديث أبي عاصم سواء، فبين عطاف أن بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين أولئك الصحابة رجلًا، فظهر بهذا فساد حديث أبي حميد؛ لأن الحديث صار عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن رجل قال: "سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - عليه السلام - أحدهم أبو قتادة ... " الحديث. وأهل الإسناد لا يحتجون بمثل هذا؛ لأن فيه مجهولا؛ فيعل به الحديث فيفسد، فلا يعادل حديث وائل ولا يقاربه، ويكون العمل بحديث وائل. قوله: "فإن ذكروا في ذلك ضعف العطاف بن خالد" اعتراض من جهة أهل المقالة الثانية، تقريره أن يقال: العطاف بن خالد ضعيف؛ لأنه روي عن مالك أنه تكلم فيه، ولم يحمده. وقال الرازي: ليس بذاك. فإذا كان كذلك فكيف يفسد به حديث أبي حميد، وتقرير الجواب: أن في إسناد حديث أبي حميد: عبد الحميد بن جعفر، وأنتم تضعفون عبد الحميد أكثر من تضعيفكم للعطاف، وكان يحيى القطان يضعفه، وكان الثوري يحمل عليه من أجل القدر ويضعفه، وكان أدنى حالا من العطاف، مع إنكم لا تطرحون حديث العطاف كله، بل تقولون: إن حديثه في القديم صحيح كله، وأن حديثه لم يتغير إلا في أخرة، كذا قاله يحيى بن معين في كتابه "الجرح والتعديل"، وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن عطاف بن خالد، فقال: هو من أهل المدينة، ثقة صحيح الحديث. وعنه: ليس به بأس. وعن يحيى بن معين: ليس به بأس، ثقة صالح الحديث. وقال أبو زرعة:

ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح ليس بذاك. وعن أبي داود: ثقة. واحتج به الترمذي والنسائي، ومن نقل عنه جرحه لا يعتبر؛ لأنه جرح مبهم غير مفسر. قوله: "بأَخَرَة" بفتحات الهمزة والخاء والراء، يقال: جاء فلان بأخرة، وما عرفته إلا بأخرة: أي أخيرًا. قوله: "وأبو صالح سماعه من العطاف قديم جدًّا" أبي أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث روايته عن العطاف قديمة جدًّا، فبالاتفاق بيننا وبينكم تكون روايته عنه صحيحة. قوله: "مع أن سن محمد بن عمرو بن عطاء ... إلى أخره" جواب آخر لبيان ضعف حديث أبي حميد، بيانه: أن في حديث أبي حميد حضر محمَّد بن عمرو بن عطاء أبا حميد وأبا قتادة [ويكون] (¬1) هذا صحيحًا، وأبو قتادة قتل مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وصلى عليه عليّ - رضي الله عنه -، كذا قال الشعبي والهيثم بن عدي. وقال ابن عبد البر: هو الصحيح. وقيل: توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، ولهذا قال ابن حزم: ولعله وهم فيه يعني: عبد الحميد، ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك في سنة خمس وعشرين ومائة، ووفاته في سنة ست وعشرين ومائة. وقد شنع البيهقي ها هنا على الطحاوي تشنيعًا باردًا، ذكرناه مع جوابه في باب "التكبير للركوع والتكبير للسجود". قوله: "وليس أحد يجعل هذا الحديث" يعني حديث أبي حميد، سماعًا لمحمد بن عمرو بن عطاء من أبي حميد الساعدي إلا عبد الحميد بن جعفر، وهو عندكم ضعيف، قد ذكرنا عن قريب مَنْ ضَعَّفَهُ من الأئمة، وهذا بخلاف ما رواه الثقات؛ فإنهم رووا حديث أبي حميد موصولا من غير فصل حكم الجلوس كما فصله عبد الحميد، فحينئذ تسقط روايته لمخالفته رواية الثقات من وجهين: ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

أحدهما: أنه خالفهم في الوصل؛ لأن في روايته: محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد، وفي رواية هؤلاء: محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن رجل، عن أبي حميد. الثاني: أنه فصل بين الجلوسين، وهؤلاء لم يفصلوا، فمن كان بهذه المثابة وخالف الثقات لا تقبل روايته، والله أعلم. ص: حدثنا نصر بن عمار البغدادي، قال: ثنا علي بن إشكاب، قال: أنا أبو بدر شجاع بن الوليد، قال: أنا أبو خيثمة، قال: ثنا الحسن بن حُرّ، قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء أحد بني مالك، عن عياش -أو عباس- بن سهل الساعدي وكان في مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب النبي - عليه السلام - وفي المجلس: أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد من الأنصار - رضي الله عنهم - "أنهم تذاكرو الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -، فقالوا: وكيف؟ قال: اتبعت ذلك من رسول الله - عليه السلام -، قالوا: فأرنا، قال: فقام يصلي وهم ينظرون، فبدأ فكبر ورفع يديه نحو حَذْو المنكبين، ثم كبر للركوع ورفع يديه أيضًا، ثم أمكن يديه من ركبتيه غير مقنع رأسه ولا مصوبه، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم رفع يديه، ثم قال: الله أكبر فسجد، فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد، ثم كبر فجلس فتورك إحدى رجليه ونصب قدمه الأخرى، وكبر كذلك، ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبير، ثم ركع الركعتين، ثم سلَّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله أيضًا: السلام عليكم ورحمة الله". ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما قاله من أن بين محمد بن عمرو بن عطاء وبين أبي حميد واسطة، وأن غير عبد الحميد لم يجعل هذا الحديث سماعًا لمحمد بن عمرو هذا من أبي حميد، وأنه لم يفصل حكم الجلوس كما فصله عبد الحميد. وأخرجه عن نصر بن عمار البغدادي، عن علي بن إشكاب وهو علي بن الحسين بن إبراهيم أبو الحسين بن إشكاب البغدادي شيخ أبي داود وابن ماجه، وثقه النسائي وابن حبان.

عن أبي بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكوني شيخ أحمد بن حنبل، روى له الجماعة. عن أبي خيثمة زهير بن معاوية بن خديج الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. عن الحسن بن حر بن الحكم النخعي الكوفي، وثقه ابن معين والنسائي، وروى له أبو داود والنسائي. عن عيسى بن عبد الله بن مالك الدار، وهو مالك بن عياض مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ قال ابن المديني: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى له أبو داود وابن ماجه. عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن عيّاش -بتشديد الياء آخر الحروف، أو العباس بالباء الموحدة - ابن سهل الساعدي، روى له الجماعة سوى النسائي. وأخرجه البيهقى (¬1): من حديث شجاع بن الوليد، حدثني أبو خيثمة زهير، حدثني الحسن بن حر ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، فرفع يديه، ثم قال: الله أكبر" وفي لفظه أيضًا: "فتورك إحدى قدميه ونصب الأخرول، ثم كبر وسجد، ثم كبر -يعني-: فقام، ولم يتورك، ثم عاد فركع الركعة الأخرى كذلك، ثم جلس بعد الركعتين، حتى إذا أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة، وركع الركعتين الآخريين، ثم سلم عن يمينه ... " إلي آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا علي بن الحسين بن إبراهيم، نا أبو بدر ... إلى قوله: وأبو حميد ... نحوه، ثم قال: بهذا الخبر يزيد وينقص، قال فيه: "ثم رفع رأسه -يعني من الركوع- فقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه، ثم قال: الله أكبر، فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد، ثم كبر ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 101 رقم 2475). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 253 رقم 966).

فجلس، فتورك ونصب قدمه الأخرى، ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام ولم يتورك ... " ثم ساق الحديث، قال: "ثم جلس بعد الركعتين، حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة، ثم ركع الركعتين الأخريين ... " ولم يذكر التورك في التشهد. قوله: "فأرنا" أمر من أرى يُرِي إراءة. قوله: "غير مقنع رأسه" حال من الضمير الذي في قوله: "ثم أمكن" ورأسه منصوب بقوله: "مقنع" وهو من أقنع إقناعًا، وأراد به لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره، قال الله تعالى: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} (¬1) أي رافعي رءوسهم. قوله: "ولا مُصوِّبه" بالجر عطفا على "مقنعٍ" من التصويب وهو التنكيس، أراد به لا يخفض رأسه إلى أسفل. قوله: "فانتصب على كفيه" من نصبته فانتصب. قوله: "وصدور قدميه" أبي صدري قدميه، ذكر الجمع وأراد به التثنية، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬2) أي قلباكما. قوله: "وهو ساجد" جملة اسمية وقعت حالًا. قوله: "فتورك" من التورك، وهو أن يجلس على إليتيه وينصب اليمنى، ويخرج اليسرى من تحته. ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه أن ابتداء الصلاة بالتكبير وهي فرض بالإجماع، ولكن اختلفوا هل هي ركن، أو شرط؟ وقد تقدم. الثاني: فيه رفع اليدين في أول الصلاة، وهو مستحب بالإجماع. الثالث: فيه رفع اليدين إلى حذو المنكبين، وبه تمسك الخصم، وأصحابنا حملوه على حالة العذر، وقد مر مستوفى. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، آية: [43]. (¬2) سورة التحريم، آية: [4]

الرابع: فيه أن الركوع له تكبير، وهو أيضًا سنة بالاتفاق. الخامس: فيه رفع اليدين عند الركوع، وقد قلنا: إنه منسوخ. السادس: فيه بيان هيئة الركوع، وهو أن لا يرفع رأسه إلى فوق، ولا ينكسه، ومن هذا قال صاحب "الهداية": ويبسط ظهره، ولا يرفع رأسه ولا ينكسه. السابع: فيه أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وبه احتج أبو يوسف ومحمد والشافعي، وقد مر الكلام فيه مستقصى. الثامن: فيه التكبير للسجود، وهو أيضًا سنة بالاتفاق. التاسع: فيه بيان هيئة السجود. العاشر: فيه التورك في القعدة الأولى، وبه احتج مالك، وعندنا هو محمول على حالة العذر والكِبَر. الحادي عشر: فيه السلام مرتين: مرة عن يمينه، ومرة عن شماله. ص: حدثنا نصر بن عمار، قال: ثنا علي، قال: ثنا أبو بدر، قال: أنا أبو خيثمة، قال: أنا الحسن بن حر، قال: حدثني عيسى هذا الحديث هكذا أو نحوه، وحدث عيسى أن مما حدثه أيضًا في الجلوس في التشهد: "أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخله اليمنى، ثم يشير في الدعاء بأصبع واحدة". ش: هذا بعينه هو الإسناد الأول مع الحديث الأول، وإنما كرره لأجل زيادة فيه أشار إليها بقوله: "وحدث عيسى أن مما حدثه أيضًا ... " إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا جهله الزيادة حيث قال: وحدثني عيسى أن مما حدثه أيضًا في الجلوس في التشهد: "أن يضع اليسرى على فخذه اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ثم يشير بالدعاء بإصبع واحدة"، ثم قال البيهقي: هكذا ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 101 رقم 2475).

رواه جماعة، عن شجاع بن الوليد، وبعضهم رواه عنه، وفيه: ابن عطاء، قال: حدثني مالك، عن عباس بن سهل. قوله: "بإصبع واحدة" بإطلاقه يتناول كل أصبع من أصابع اليدين، وهي المراد منها مسبحة اليمنى، على ما صرح به في حديث آخر. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح ابن سليمان، عن عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد، وأبو أسيد وسهل بن سعد فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " فذكروا القعود على ما ذكره عبد الحميد في حديثه في المرة الأولى، ولم يذكر غير ذلك. ش: هذا وجه آخر في حديث أبي حميد يوافق ما ذكره عبد الحميد بن جعفر في حديثه في المرة الأولى. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة أبي يحيى المدني روى له الجماعة، عن عباس بن سهل ابن سعد الأنصاري الساعدي المدني روى له الجماعة سوى النسائي. وأخرجه أبو داود (¬1) بهذا الإسناد: عن أحمد بن حنبل، نا عبد الملك بن عمرو، قال: أخبرني فليح، قال: حدثني عباس بن سهل قال: "اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - عليه السلام -فذكر بعض هذا- قال: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليها، ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حَذْو منكبيه، ثم رفع رأسه حتى رجع كل عظم في موضعه، حتى فرغ، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى , وأشار بأصبعه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 196 رقم 734).

ص: حدثني أبو الحسين الأصبهاني، قال: ثنا هشام بن عمار، قال: أنا إسماعيل بن عياش، قال: ثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عيسى بن عبد الرحمن العدوي، عن العباس بن سهل، عن أبي حميد الساعدي: "أنه كان يقول لأصحاب رسول الله - عليه السلام -: أنا أعلمكم بصلاة النبي - عليه السلام - قالوا: من أين؟ قال: رقبت ذلك منه حتى حفظت صلاته، قال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذاء وجهه، فإذا كبر للركوع فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك، وقال: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه، ولا مفترش ذراعيه، وإذا قعد للتشهد أضجع رجله اليسرى ونصب اليمنى على صدورها، وتشهد". ش: ذكر هذا الإسناد بعينه في باب "رفع اليدين في افتتاح الصلاة"، وهذا حديث طويل جدًّا قطعه لأجل التبويب، وقد ذكرنا هناك أن أبا داود أخرجه من طريق عتبة بن أبي حكيم. قوله: "رقبت" من رقبت الشيء أرقبه رُقوبا، ورِقْبة، ورِقْبانا -بالكسر فيهما: إذا رصدته، والرقيب: الحافظ، والرقيب: المنتظر. قوله: "غَيْرَ حامل" بالنصب حال من الضمير الذي في فرج. قوله: "ولا مفترش" بالجر، عطف على قوله: "حامل"، و"ذراعيه" مفعوله. قوله: "أضجع" من الإضجاع، من ضَجَعَ الرجل إذا وضع جنبه على الأرض يَضْجَعُ ضَجْعًا وضُجُوعًا، فهو ضاجِع، وأضجع مثله. ويستنبط منه الأحكام التي ذكرناها آنفًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله -: فهذا أصل حديث أبي حميد هذا، ليس فيه ذكر القعود إلا على مثل ما في حديث وائل، والذي روى محمَّد بن عمرو فغير معروف ولا متصل عندنا عن أبي حميد؛ لأن في حديثه أنه حضر أبا حميد وأبا قتادة، ووفاة أبي قتادة قبل ذلك بدهر طويل؛ لأنه قتل مع علي كرم الله وجهه وصلى عليه علي - رضي الله عنه -، وأين سن محمَّد بن عمرو من هذا، فلما كان المتصل عن أبي حميد موافقًا

لما روى وائل ثبث القول بذلك، ولم يجز خلافه، مع ما قد سنده من طريق النظر، وذلك أنا رأينا القعود الأول في الصلاة وفيما بين السجدتين في كل ركعة، هو أن يفترش اليسرى فيقعد عليها، ثم اختلفوا في القعود الأخير في الصلاة، فلم يخلُ من أحد الوجهين من أن يكون سنة أو فرض، فإن كان سنة فحكمه حكم القعود الأول، وإن كان فريضة فحكمه حكم القعود فيما بين السجدتين، فثبت بذلك ما روى وائل بن حجر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. ش: أشار بقوله: "فهذا" إلى ما ذكر في الأحاديث المذكورة من حكم الجلوس في الصلاة من غير فصل بين حكم القعدتين، بيان هذا: أن أصل حديث أبي حميد الذي رواه عبد الحميد وغيره مثل ما ذكر في هذه الأحاديث، وأنه ليس فيه ذكر القعود في الصلاة إلا مثل ما ذكر في حديث وائل بن حجر المذكور، والحاصل أن حديث أبي حميد روي على وجهين: أحدهما: منقطع مضطرب الإسناد والمتن كما قد بينا فيما مضى؛ لأنه روي عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد الساعدي، وروى عطاف بن خالد، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن رجل، عن أبي حميد، فدل هذا أن بين محمَّد بن عمرو هذا وبين أبي حميد رجلًا، فدل ذلك على انقطاع حديث عبد الحميد، أشار الطحاوي إلى ذلك بقوله: "والذي روى محمَّد بن عمرو فغير معروف ولا متصل عندنا عن أبي حميد ... " إلى آخره، وقد استوفينا الكلام فيه فيما مضى. والوجه الثاني: أنه متصل، وهو موافق لرواية وائل، فإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بحديث وائل، ولم يتم استدلال الخصم بحديث أبي حميد، على أن طريق النظر والقياس يشد ذلك ويقويه، أشار إلى بيان ذلك بقوله: "مع ما قد شده من طريق النظر" أي مع شد طريق النظر هذا القول، وكلمة "مع" للمصاحبة و"ما" للمصدرية، والضمير المنصوب في "شده" يرجع إلى القول في قوله: "ثبت القول بذلك" أي بما روى وائل، فافهم، والباقي ظاهر.

ص: وقد قال بذلك أيضًا إبراهيم النخعي، حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن المغيرة، عن إبراهيم: "أنه كان يستحب إذا جلس الرجل في الصلاة أن يفترش قدمه اليسرى الأرض، ثم يجلس عليها". ش: أي قد قال بما قال أهل المقالة الثالثة -من فرش الرجل اليسرى في قعود الصلاة والجلوس عليها، ونصب اليمنى- أيضًا: إبراهيم النخعي. أخرجه بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن محل، عن إبراهيم: "كان إذا جلس نصب اليمنى، وأضجع اليسرى". وأخرج عن محمَّد بن سيرين أيضًا نحوه. وأخرج (¬2) عن الحسن: "أنه كان ربما أضجع رجليه جميعا، وربما أضجع اليمنى ونصب اليسرى". وأخرج (¬3) عن وكيع والفضل بن دكين، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه -: "أنه كان ينصب اليمنى، ويفترش اليسرى". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 255 رقم 2931). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2930). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 254 رقم 2929).

ص: باب: التشهد في الصلاة كيف هو؟

ص: باب: التشهد في الصلاة كيف هو؟ ش: أبي هذا باب في بيان كيفية التشهد في الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، ومالك بن أنس، أن ابن شهاب، حدثهما عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاريِّ: "أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعلم الناس التشهد على المنبر وهو يقول: قولوا: التحيات الله، الزاكيات الله، والصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، قال: أنا ابن شهاب، عن حديث عروة، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ ... فذكر مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، ومالك بن أنس المدني، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ -بتشديد الياء- نسبة إلى القارة، وهم بنو الهون بن خزيمة، شددت الياء لئلا يلتبس بالقارئ الذي هو اسم فاعل من القراءة، وقد قيل: إن له صحبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة ... إلى آخره، نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 261 رقم 2992).

والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عروة ... إلى آخره نحوه. قوله: "التحيات" جمع تحية وهي السلامة من جميع الآفات، وقيل: البقاء الدائم، وقيل: العظمة، وفي "المحكم":التحية: السلام. وقال الخطابي: وروي عن أنس في تفسيرها في أسماء الله: السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الأحد الصمد، قال: التحيات لله بهذه الأسماء، وهي الطيبات لا يُحَيَّا بها غيره. وقال ابن الأثير: التحيات كلمات مخصوصة كانت العرب تحيِّي بها الملوك كقولهم: أَبَيْتَ اللعن، وأنعم صباحًا، وعم ظلاما، وزي ده هزار سأل أبي عش عشرة آلاف سنة، وكلها لا يصلح شيء منها للثناء على الله تعالى، فتركت، واستعملت بمعنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات لله: أبي الثناء والعظمة والتمجيد كما يستحقه ويجب له. قوله: "لله" اللام فيه لام الملك والتخصيص، وهي للأول أبلغ، وللثاني أحسن. وقال القرطبي: فيه تنبيه على أن الإخلاص في العبادات والأعمال لا يفعل إلا لله تعالى، ويجوز أن يراد بها الاعتراف بأن ملك ذلك كله لله تعالى. قوله: "الزاكيات" جمع زاكية، وأراد بها الأعمال الزاكيات أي الطاهرات، وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن والحديث. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 202 رقم 3068).

قوله: "والصلوات" أراد الصلوات الخمس، وقيل: النوافل. قال ابن الأثير: والأول أولى، وقال الأزهري: العبادات، وقال الشيخ تقي الدين: والصلوات تحتمل أن يُراد بها الصلوات المعهودة، ويكون التقدير: أنها واجبة لله، ولا يجوز أن يقصد بها غيره، أو يكون ذلك إخبارًا عن قصد إخلاصنا الصلوات له، أي صلواتنا مخلصة له لا لغيره، ويجوز أن يراد بالصلوات: الرحمة، ويكون معنى قوله: "لله" أي المتفضل بها والمعطي هو الله؛ لأن الرحمة التامة لله تعالى لا لغيره. قوله: "السلام عليك أيها النبي" قيل: معناه التعوذ باسم الله الذي هو السلام، كما تقول: الله معك، أي الله متوليك وكفيل بك، وقيل: معناه السلامة والنجاة لك، كما في قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (¬1). وذكر الفخر الفارسي الخبري: معنى السلام على النبي - عليه السلام -: أي اسم الله عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات والبركات، وسَلِمْتَ من المكاره والمذام والآفات، فإذا قلت: اللهم سلم على محمَّد، إنما تريد: اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص. وقال الشيخ حافظ الدين: يعني السلام الذي سلمه الله عليك ليلة المعراج، ورفع؛ ليدل على الثبوت والاستمرار. وقال ابن الأثير: السلام مُنَكَّرًا. أراد سلام عظيم لا يدرك كنهه ولا يعرف قدره، وأكثر ما جاء في القرآن مُنَكَّرًا، ومن رواه معرفًا فلأنه أراد أنه سلامًا معهودًا، أو جنس السلام. قلت: تفسير الشيخ حافظ الدين يقتضي أن تكون الألف واللام فيه للعهد، وهو السلام الذي سلمه الله عليه ليلة المعراج. قوله: "وبركاته"، جمع بركة، وهي الخير الكثير من كل شيء، واشتقاقه من البرك، وهو الإبل الكثير. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [91].

قوله: "السلام علينا" أراد به الحاضرين من الإِمام والمأمومين والملائكة عليهم السلام. قوله: "وعلى عباد الله الصالحين" الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله وحقوق العباد. وقال القرطبي: فيه دليل على أن الدعاء يصل من الأحياء إلى الأموات. قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" قال أهل اللغة: يقال: رجل محمَّد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة. وقال ابن الفارسي: وبذلك سمي نبينا محمدًا - عليه السلام - يعني لعلم الله بكثرة خصاله المحمودة. قلت: الفرق بين محمَّد وأحمد: أن محمدًا مفعّل للتكثير، وأحمد أفعل التفضيل، والمعنى: إذا حمدني أحد فأنت أحمد منهم، وإذا حمدت أحدًا فأنت محمَّد، والعبد الإنسان حرًّا كان أو رقيقا، وجمعه: أعبد وعبيد وعباد وعُبُدٌ وعِبْدان وعُبْدان وأعابد جمع أعبد، والعبدى والعبوداء والعبدة أسماء الجمع، وجعل بعضهم العباد لله، وغيره من الجمع لله والمخلوقين، وخص بعضهم بالعبدى الذين ولدوا في الملك، والأنثى عبدة، والعبدل: العبد، ولامه زائدة. وقال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرت من العبودية، ولا اسم أتم للمؤمن من الوصف بالعبودية؛ ولهذا قال الله تعالى للنبي - عليه السلام - ليلة المعراج- وكانت أشرف أوقاته في الدنيا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (¬1)، وقال في تلك الليلة: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (¬2). ثم اختلف العلماء في التشهد هل هو واجب أم سنة؟ فقال الشافعي وآخرون: التشهد الأول سنة، والأخير واجب، وقال جمهور المحدثين: هما واجبان. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [1]. (¬2) سورة النجم، آية: [10].

وقال أحمد: الأول واجب، والثاني فرض. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك بوجوب الأخير. وقال ابن بطال: أجمع فقهاء الأمصار: أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق والليث وأبو ثور على أن التشهد الأول ليس بواجب حاشا أحمد؛ فإنه أوجبه، ونقل ابن الأثير وجوبهما عن أحمد وإسحاق، ونقله ابن المتن أيضًا عن الليث وأبي ثور. وفي "المغني" لابن قدامة: إن كانت الصلاة مغربًا أو رباعية فهما واجبان فيهما على إحدى الروايتين، وهو مذهب الليث وإسحاق؛ لأنه - عليه السلام - فعله وداوم عليه، وأمره به في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بقوله: "فقولوا التحيات لله ... "، والأخرى: ليس بواجب. وفي شرح "الهداية": قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة، وهو المختار والصحيح، وقيل: سنة، وهو الأقيس، ولكنه خلاف ظاهر الرواية. ثم السنة في التشهد الإخفاء؛ لما روى الترمذي (¬1) بإسناده، عن ابن مسعود: "من السنة أن تخفي التشهد" وقال: حسن غريب. وعند الحاكم (¬2) عن عبد الله: "من السنة أن تخفي التشهد". وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3): عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "نزلت هذه الآية في التشهد: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (¬4) ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 84 رقم 291). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 400 رقم 986). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 350 رقم 707). (¬4) سورة الإسراء، آية: [110].

وقال الحكم: صحيح على شرط مسلم. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: "قلت لنافع: كيف كان ابن عمر - رضي الله عنهما- يتشهد؟ قال:"كان يقول: بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم يتشهد، ثم يقول: شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمدًا رسول الله". ش: إسناده صحيح. وأبو بكرة بكار. وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. وابن جريج هو عبد الملك. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج ... إلى آخره، نحوه. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن صالح (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بكير، قالا: ثنا الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "إذا تشهد أحدكم فليقل ... " ثم ذكر مثل تشهد عمر - رضي الله عنه -. ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث ابن سعد، عن عُقَيْل -بضم العين، وفتح القاف- ابن خالد، عن محمَّد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ... إلى آخره. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد المصري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 204 رقم 3073).

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد: التحيات الطيبات الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله". وفي إسناده موسى بن عبيدة وخارجة بن مصعب، وهما ضعيفان. ص: حدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم قال: "كانت عائشة - رضي الله عنها - تعلمنا التشهد، وتشير بيدها ... " ثم ذكر مثله. ش: إسناده صحيح. وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم يقول: "كانت عائشة - رضي الله عنها - تعلمنا التشهد وتشير بيدها، تقول: التحيات لله" وفيه: تأخير الشهادتين. وأخرج (¬3): عن صالح بن محمَّد بن صالح التمار، عن أبيه، عن القاسم قال: "علمتني عائشة قالت: هذا تشهد النبي - عليه السلام -: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، قال التمار: قلت: بسم الله؟ قال القاسم: سم الله كل ساعة. ثم قال البيهقي: الصحيح وقفه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 351 رقم 7). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 144 رقم 2666). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 144 رقم 2667).

وأخرج (¬1) أيضًا: من حديث ابن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان يقول في التشهد في الصلاة في وسطها وفي آخرها قولا واحدًا: بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، الزاكيات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام ... ويعده لنا بيده عدد العرب". وأخرج مالك في "موطئه" (¬2): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، أنه أخبره "أن عائشة زوج النبي - عليه السلام - كانت تقول إذا تشهدت: التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم". ص: فذهب قوم إلى هذه الأحاديث فقالوا: هكذا التشهد في الصلاة؛ لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد علّم الناس على منبر رسول الله - عليه السلام - بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم ينكر ذلك عليه منهم مُنْكِر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سالم بن عبد الله ونافعًا والزهري ومالكًا وأصحابه، فإنهم اختاروا تشهد عمر - رضي الله عنه - وادعوا فيه إجماعا؛ وذلك لأن عمر - رضي الله عنه - قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكروه، فكان إجماعًا. وقال عياض: وتشهد عمر - رضي الله عنه - وإن كان غير مسند إلى النبي - عليه السلام - فيلحق بمعنى المسند، ويقوى قوته، ويترجح على غيره من المسانيدة لتعليم عمر له للناس على المنبر، كما روي بجمع ملئهم وجمهورهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا له: عدلت عما اختاره النبي - عليه السلام - وعامة الناس إلى رأيك، وهم ممن لا يُقر على خطأ، فدل سكوتهم له واستمرار عمر - رضي الله عنه - على تعليمه الناس أن ذلك عندهم معلوم، وأن الأمر في التشهد غير مقصور على رواية غيره. انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 142 رقم 2657). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 91 رقم 206).

والجواب عما قالوه: أن أكثر أهل العلم من الصحابة - رضي الله عنهم -، على خلافه على ما يجيء، فكيف يكون إجماعًا؟! على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة، إنما الخلاف في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي - عليه السلام - الذي علمه أصحابه وأخذوا به، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لو وجب ما ذكرتموه عند أصحاب النبي - عليه السلام - إذن لما خالف أحد منهم عمر- رضى الله عنه - في ذلك، فقد خالفوه فيه وعملوا بخلافه، وروى أكثرهم ذلك عن النبي - عليه السلام -. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، وأصحاب الحديث، وجماهير الفقهاء؛ فإنهم قالوا: لو وجب ما ذكرتموه من تشهد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - عند الصحابة لما كان يخالفه أحد منهم فيه، فإن جماعة من الصحابة قد خالفوه فيه، وعملوا بخلافه، على أن تشهد عمر - رضى الله عنه - من ذاته، وتشهد غيره مسند إلى النبي - عليه السلام -، وهو أقوى من غيره. ثم إنهم اختلفوا فيما بينهم، فاختار الشافعي وجماعة تشهد ابن عباس، واختار أبو حنيفة وأصحابه وآخرون تشهد ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو قول الجمهور، على ما يجيء بيانه مفصلًا إن شاء الله تعالى. ص: فمن خالفه في ذلك: عبد الله بن مسعود، فروي عنه في ذلك عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووهب وأبو عامر، قالوا: ثنا هشام الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله - عليه السلام قلنا: السلام على الله -عز وجل-، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، فالتفت إلينا رسول الله - عليه السلام - فقال: لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله تعالى هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن حماد ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن شقيق، عن عبد الله مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن أب وائل، عن عبد الله مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مُحل بن محرز. (ح) وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مُحل بن محرز، قال: ثنا شقيق ... فدكر بإسناده مثله، وزاد حسين في حديثه قال: "وكانوا يتعلمونها كما يتعلم أحدكم السورة من القرآن". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن حبيب، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله، قال: "أخذت التشهد من في رسول - عليه السلام - ولقنني إياها كلمة كلمة ... " ثم ذكر التشهد الذي في حديث أبي وائل وزاد: "وقال: وكانوا يخفون التشهد ولا يظهرون". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا مغيرة الضبي، قال: ثنا شقيق بن سلمة ... ثم ذكر مثل حديث حماد ومنصور وسليمان ومحل، عن أبي وائل، غير أنه لم يقل: "وبركاته". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أنا إسرائيل، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ما نقول بين كل ركعتين، غير أنا نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمدًا - عليه السلام - عُلِّمَ فواتح الكلم

وخواتمه، وقال: وجوامعه، فقال: إذا قعد أحدكم في الركعتين فليقل ... " ثم ذكر مثله. حدثنا الحسين بن نصر، قال: أنا شبابة بن سوار وعبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا المسعودي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "علمنا رسول الله - عليه السلام - خطبة الصلاة ... " فذكر مثله. ش: أي ممن خالف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - من الصحابة -في التشهد الذي كان يأمر به- عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وهذا بيان لقوله: "فقد خالفوه فيه، وعملوا بخلافه، وروى أكثرهم ذلك عن النبي - عليه السلام -" فلذلك ذكره بالفاء التفصيلية. ثم انه أخرج حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - من اثني عشر طريقًا: الأول: إسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير بن حازم، وأبي عامر عبد الملك بن عَمرو العقدي، ثلاثتهم عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ونسبته إلى دستوا -بفتح الدال وضم التاء- كورة من كور الأهواز. عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه النسائي (¬1): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن هشام، عن حماد، عن أبي وائل ... إلى آخره نحوه سواء. وهذا الحديث أخرجه الجماعة كلهم، قد ذكرنا ذلك كله في آخر باب "ما ينبغي أن يقال في الركوع والسجود". الثاني: وهو أيضا صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن ابن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن حماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 240 رقم 1169).

وأخرجه أحمد في"مسنده" (¬1): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور وسليمان وحماد وأبي هاشم ومغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا نقول في الصلاة: السلام على الله، السلام على جبريل، فقال لنا رسول الله - عليه السلام -: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات ... " إلى آخره. الثالث: وهو أيضا صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني أبي محمَّد البصري، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا علي بن العزيز، وبشر بن موسى، قالا: ثنا أبو نعيم، ثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا إذا صلينا قلنا: السلام على الله، السلام على جبريل، فسمعنا النبي - عليه السلام -، فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله ... " إلى آخره. الرابع: وهو أيضا صحيح: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد بن عجلان البصري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق، عن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا أبو سعيد، نا زائدة، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله - عليه السلام - يقول الرجل منا في صلاته: السلام على الله، السلام على فلان، يخص، فقال لنا رسول الله - عليه السلام - يوم: إن الله -عز وجل- هو السلام، فإذا قعد أحدكم في صلاته فليقل: التحيات لله ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 440 رقم 4189) نحوه، وأما اللفظ المذكور فأخرجه في "مسنده" (1/ 464 رقم 4422) من طريق محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، به. (¬2) "المعجم الكبير" (10/ 40 رقم 9885). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 413 رقم 3919).

الخامس: وهو إسناد حسن: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور، عن شقيق، عن عبد الله. وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": عن وكيع، عن محل بن محرز، عن أبي وائل ... إلى آخره نحوه. السادس: وهو أيضا مثله: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن محل بن محرز، عن شقيق ... إنمما آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبدان بن أحمد، نا عقبة بن مكرم، نا يونس بن بكير، عن بشير بن المهاجر، عن ابن بريدة، عن أبيه. [وعن علي بن] (¬2) عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا محل بن محرز الضبي قال: سمعت شقيق بن سلمة يذكر عن عبد الله بن مسعود قال: "كانوا يصلون خلف النبي - عليه السلام -، فقال قائل منهم: السلام على الله، فقال: من القائل: السلام على الله؟ إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات ... " إلى، آخره. السابع: إسناده ضعيف: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عمر بن حبيب القاضي البصري؛ ضعفه يحيى بن معين، وقال: كان يكذب. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف لا يكتب حديثه. وضعفه النسائي أيضًا، وهو يروي عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود، عن عبد الله. وأخرج الطبراني (¬3): عن عبدان بن أحمد، عن أزهر بن مروان الرقاشي، عن عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 39 رقم 9883، 9884). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، وإنما دخل هذان الإسنادان بعضهما في بعض، ولفظ الإسناد الأول: "ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعودة وذلك أنه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -". ولعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله. (¬3) "المعجم الكبير" (10/ 53 رقم 9932).

ابن مسعود: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يتشهد في الصلاة، قال: فكنا نحفظ عن رسول الله - عليه السلام - كما نحفظ حروف القرآن -الواوات والألفات- قال: إذا جلس أحدكم على وركه اليسرى قال: التحيات لله، والصلوات ... " إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): عن عبد الله بن سعيد، عن يونس بن بكير، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله قال: "إن من السنة أن تخفي التشهد". وأخرجه الترمذي (¬2) أيضا بهذا الإسناد، ثم قال: حديث حسن غريب، والعمل عليه عند أهل العلم. الثامن: وهو إسناد صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله ابن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية الكوفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، نا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا مغيىرة الضبي، عن شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله: "كنا نصلي خلف رسول الله - عليه السلام - فنقول: السلام على الله، قال: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله ... " إلى آخره. التاسع: وهو أيضا صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي الكوفي، عن عبد الله. وأخرجه النسائي (¬4): أنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يحدث عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 73 رقم 1643). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 84 رقم 291). (¬3) "والمعجم الكبير" (10/ 45 رقم 9902). (¬4) "المجتبى" (2/ 238 رقم 1163).

ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عُلِّم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات ... " إلى آخره. العاشر: وهو أيضًا صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله الشافعي الحمصي، ثنا مزداد بن جميل، عن محمد بن [مناذر] (¬2)، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي الكنود، عن ابن مسعود قال: "كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين في الصلاة غير أن نكبر ونسبح ونحمد ربنا، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أعطي فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في التشهد فقولوا: التحيات لله، والصلوات ... " إلى آخره. الحادي عشر: وهو أيضا صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري وأحمد، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 49 رقم 9917). (¬2) "الأصل، ك": "مثلار"، وهو تحريف، والمثبت من "المعجم الكبير". وقال ابن معين في "تاريخ الدوري" (2/ 77 رقم 309): "كان صاحب شعر، ولم يكن صاحب حديث، وكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد في المواضع التي يتوضأ منها حتى تسود وجوه الناس، وليس يروي عنه رجل فيه خير". وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 271 رقم 958): "كان ماجنا مظهرا للمجون، لا يجوز الاحتجاج به"، ثم نقل كلام ابن معين فيه. وكذا فعل ابن عدي في "الكامل" (6/ 268) وقال: "لم يكن من أصحاب الحديث، وكان الغالب عليه المجون واللهو". ووقع في "المعجم الكبير" تحريف في اسم الراوي عنه، فوقع فيه: مرداذ بن جميل، والصواب: مزداد كما في "المفتنى في سرد الكنى" للحافظ الذهبي رحمه الله (1/ 140 رقم 1017).

وأخرجه الطبراني (¬1) أيضا: عن علي بن عبد العزيز، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة وأبي الأحوص، عن ابن مسعود، نحوه. قوله: "كلاهما" أبي شعبة وإسرائيل. قوله: "عُلِّم فواتح" الكلمة على صيغة المجهول، والفواتح جمع فاتحة، وأراد بها ما يتوسل بها إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي أغلقت على غيره. وأراد "بخواتمه": ما يختم به الكلام بحسن الاختتام والانتهاء على تمام المقصود. وأراد "بجوامعه": ما جمع الله له بلطفه في الألفاظ اليسيرة المعاني الكثيرة، واحدها: جامعة، أي: كلمة جامعة، وإنما ذكر الضمير في "خواتمه وجوامعه" باعتبار لفظ الكلم أو باعتبار المذكور، والكلم جمع كلمة، كالنبق جمع نبقة. الثاني عشر: وهو أيضًا صحيح: عن الحسن بن نصر بن المعارك، عن شبابة ابن سَوَّار الفزاري أبي عمرو المدائني، وعبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، كلاهما عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله. وأخرجه أبو عبد الله العدني في "مسنده": ثنا عيسى بن يونس، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: "أوتي رسول الله - عليه السلام - جوامع الخير وفواتحه -أو قال: فواتح الخير وجوامعه، شك أبوه- فعلمنا خطبة الصلاة، وخطبة الحاجة. فخطبة الصلاة: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 49 رقم 9915).

وخطبة الحاجة: إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم تصل خطبتك بثلاث آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1) الآية، و {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬2) الآية، و {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً} (¬3) ". ص: وخالفه في ذلك أيضا عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، فروي عنه، عن النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، وأسد بن موسى، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ش: أي خالف عمر- رضى الله عنه - في تشهده المذكور أيضًا عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرج حديثه بإسناد صحيح، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث. وثنا محمَّد بن رمح بن المهاجر، قال: أنا الليث، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير. وعن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [102]. (¬2) سورة النساء، آية: [1]. (¬3) سورة الأحزاب، آية: [70] (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 302 رقم 403).

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" وفي رواية ابن رمح: "كما يعلمنا القرآن". وأخرجه أبو داود، (¬1) والترمذي (¬2) كلاهما أيضًا عن قتيبة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: عن قتيبة، ولكن آخره نحو رواية الطحاوي: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن محمَّد بن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. وقال الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله-: التقدير: التحيات والمباركات والصلوات والطيبات، كما في حديث ابن مسعود وغيره، ولكن حذفت الواو اختصارًا. قلت: حذف واو العطف لا يجوز عند الجمهور، وبعضهم جوزه في الضرورة، ولا ضرورة هنا، ولا فائدة في اختصارها، ويقال: في حديث ابن عباس اضطراب، فمن اضطرابه: أن الشافعي: رواه بتنكير السلام، وأحمد بتعريفه، وقال الشافعي وأحمد: "وأن محمدا"، وفي رواية مسلم وغيره: "وأشهد أن محمدا"، وفي رواية لمسلم: "وأن محمدا"، و"السلام" معرفة. فإن قالوا: رجحناه لزيادة: "المباركات"؛ لموافقتها الآية الكريمة: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً} (¬5). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 256 رقم 974). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 83 رقم 290). (¬3) "الجتبي" (2/ 242 رقم 1174). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 291 رقم 900). (¬5) سورة النور، آية: [61].

فيقال: لم يشرع في السلام: حياكم الله، وإن وافق ذلك لفظ القرآن في قوله تعالى: {حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ} (¬1)، وفي حديث جابر زيادات كان ينبغي أن تعتد وكذا في حديث علي - رضي الله عنه - على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، قال: "سئل عطاء وأنا أسمع عن التشهد، فقال: التحيات المباركات الطيبات الصلوات لله .. " ثم ذكر مثله، ثم قال: "لقد سمعت ابن الزبير يقولهن على المنبر يعلمهن الناس، ولقد سمعت ابن عباس يقول مثل ما سمعت ابن الزبير - رضي الله عنهما - يقول، قلت: لم يختلف ابن الزبير وابن عباس؟ قال: لا". ش: إسناد صحيح. وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي. وعطاء بن أبي رباح أحد مشايخ أبي حنيفة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، عن عطاء قال: سمعت ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنه - يقولان في التشهد في الصلاة: "التحيات المباركات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام على النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: لقد سمعت ابن الزبير يقولهن على المنبر يعلمهن الناس، قال: ولقد سمعت ابن عباس يقولهن كذلك، قلت: فلم يختلف فيهما ابن عباس وابن الزبير؟ قال: لا". ص: وخالفه في ذلك أيضًا عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما -: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا قتادة، قال: حدثني عبد الله بن بَابَى المكي قال: "صليت إلى جنب عبد الله بن عمر، ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [86]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 203 رقم 3070).

فلما قضى صلاته ضرب يده على فخذي فقال: ألا أعلمك تحية الصلاة كما كان النبي - عليه السلام - يعلمنا؟ فتلا هؤلاء الكلمات ... " مثل ما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -. ش: أي خالف عمر- رضى الله عنه - في تشهده أيضا ابنه عبد الله بن عمر. أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم. و"بَابَى" بباءين موحدتين مفتوحتين بينهما ألف ساكنة ويقال: بَابَيْه -بزيادة هاء بعد الياء- ويقال: ابن باباه، روى له الجماعة سوى البخاري. وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا سهل بن بكار، ثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن عبد الله بن بابى، عن ابن عمر - رضى الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - في التشهد: "التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". قوله: "صليت إلى جنب عبد الله" بمعنى صليت عنده؛ لأن "إلى" تجيء بمعنى موافقة "عند"، وأصل "إلى" لانتهاء الغاية الزمانية أو المكانية كما عرف. قوله: "فتلا هؤلاء الكلمات" إشارة إلى الألفاظ التي في تشهد عبد الله بن مسعود، على ما مرَّ بيانه. ص: حدثنا ابن أبي داود ويحيى بن إسماعيل البغدادي بطبرية، قالا: ثنا نصر بن علي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر- قال: ابن أبي داود في حديثه: عن مجاهد، وقال يحيى: سمعت مجاهدًا- يحدث عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - في التشهد: "التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" إلا أن يحيى زاد في حديثه: قال ابن عمر: زدت فيها: "وبركاته" وزدت فيها: "وحده لا شريك له".

ش: هذا طريق أخر وهو أيضا صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، يحيى بن إسماعيل أبي زكرياء البغدادي، وثقه ابن حبان، كلاهما عن نصر بن علي بن نصر بن علي الصغير شيخ الجماعة، عن أبيه علي بن نصر بن علي بن صهبان الكبير، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري الواسطي، عن مجاهد، عن ابن عمر- رضى الله عنهما -, عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا نصر بن علي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة ... إلى آخره، نحو رواية يحيى بن إسماعيل، وهو الذي أشار إليه الطحاوي بقوله: "إلا أن يحيى زاد في حديثه ... " إلى آخره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ، عن أبيه، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: "كنت أطوف مع ابن عمر - رضى الله عنهما - بالبيت وهو يعلمني التشهد، يقول: التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله -[قال ابن عمر: وزدت فيها: وبركاته- السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله] (¬2)، قال ابن عمر: وزدت فيها: وحده لا شريك له- وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". هكذا حدثنا ابن أبي داود، عن عبيدالله بن معاذ بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر، ولم يذكر النبي - عليه السلام - , إلا أن قول ابن عمر فيه: "وزدت فيها" ما يدل على أنه أخذ ذلك عن غيره ممن هو خلاف عمر- رضى الله عنه -, إما رسول الله - عليه السلام -، وإما وأبو بكر - رضي الله عنه -. ش: هذا موقوف على ابن عمر - رضى الله عنهما -؛ لأن إبراهيم بن أبي داود لم يذكر في روايته هذه عن النبي - عليه السلام -, ولكن قول ابن عمر-: "وزدت فيها"، أي في التحيات ما يدل على أنه أخذ ذلك عن غيره، غير أبيه عمر بن الخطاب؛ لأنه خالفه فيه، فتعين أن يكون أخذ الزيادة من غيره، وهو إما النبي - عليه السلام -، وإما أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - , ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 255 رقم 971). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "ش".

ولما أخرج البزار هذا الحديث مرفوعًا نحو رواية الطحاوي قال: وحديث أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر لا نعلم أحدًا رفعه عن شعبة إلا علي بن نصر، ورواه غيره موقوفًا. وعلي بن نصر هو المذكور في الرواية السابقة، وأراد بغيره هو عبيد الله بن معاذ شيخ مسلم وأبي داود، وأبوه معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري البصري قاضيها، روى له الجماعة. ص: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر- رضى الله عنهما - قال: "كان أبو بكر - رضي الله عنه - يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب ... " ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء. ش: ذكر هذا شاهدًا لقوله: "وإما أبو بكر - رضي الله عنه -" فإنه ذكر أن قول ابن عمر: "وزدت فيها" ما يدل أنه أخذ ذلك عن غيره ممن هو خلاف عمر، إما رسول الله - عليه السلام - وإما أبو بكر - رضي الله عنه -، فعلم من ذلك أن تلك الزيادة إنما أخذها من أبي بكر - رضي الله عنه -. أخرج ذلك عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن زيد بن الحواري العمي البصري قاضي هراة، فيه مقال؛ فعن ابن معين: لا شيء. وعنه صالح. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث. وقال الدارقطني: صالح. وسمي العمي؛ لأنه كان كلما سئل عن شيء قال: حتى أسأل عمِّي. روى له الأربعة. وهو يروي عن أبي الصديق بكر بن عمرو الناجي البصري، روى له الجماعة، ونسبته إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي وهي قبيلة كبيرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل بن دكين، عن سفيان، عن زيد العَمّي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر: "أن أبا بكر - رضي الله عنهم - كان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 260 رقم 2990).

يعلمهم التشهد كما يعلم الصبيان في الكتاب: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله". قوله: "في الكُتَّاب" بضم الكاف وتشديد التاء، قال الجوهري: الكُتَّاب والمكتب واحد، والجمع الكتاتيب، والمكاتب. ص: فهذا الذي روينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يخالف ما رواه سالم ونافع عنه، وهذا أولى؛ لأنه حكاه عن النبي - عليه السلام - وعن أبي بكر - رضي الله عنه -، وعلمه مجاهدًا فمحال أن يكون ابن عمر يدع ما أخذه عن النبي - عليه السلام - إلى ما أخذه عن غيره. ش: أشار بقوله: فهذا الذي روينا عن ابن عمر إلى ما رواه عنه عبد الله بن بَابَى ومجاهد، وأنه مخالف لما رواه سالم ابنه عنه، ونافع مولاه، وهو الذي ذكره في جملة ما احتج به أهل المقالة الأولى، ثم أشار بأن ما رواه عنه مجاهد أولى بالعمل من وجوه: الأول: أنه رواه عن النبي - عليه السلام -. الثاني: أنه رواه عن أبي بكر - رضي الله عنه -. والثالث: أنه علمه مجاهدًا؛ فإن في تعليمه إياه دلالة على أنه هو المعول عليه عنده، فإذا كان كذلك فمن المحال أن يكون عنده من النبي - عليه السلام - شيء قد أخذه منه، ثم يتركه ويأخذ ما كان عن غيره، وهذا ظاهر. ص: وخالفه في ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -، فروي عنه في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن هارون البُرْدي، قال: أنا سهل بن يوسف الأنماطي -بصري ثقة- قال: ثنا حميد، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة من القرآن ... " ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء. ش: أي وخالف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - في تشهده المذكور- أبو سعيد الخدري سعد بن مالك - رضي الله عنه -.

أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن هارون بن بشير القيسي أبي عمرو الكوفي البُرْدي لقب به لبردة كان يلبسها، وقال ابن حبان: كان من أهل المدينة، وكان يبيع التمر البردي فنسب إليه، ووثقه. وروى له البخاري -مقرونا بغيره- وأبو داود والنسائي. عن سهل بن يونس الأنماطي أبي عبد الله البصري روى له الجماعة، ونسبته إلى الأنماط وهي البُسط. عن حميد الطويل. عن أبي المتوكل الناجي واسمه علي بن داود البصري، روى له الجماعة، ونسبته إلى بني ناجية اسم قبيلة. ص: وخالفه في ذلك أيضًا جابر بن عبد الله، فروي عنه في ذلك عن النبي - عليه السلام - ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أيمن بن نابل، قال: ثنا محمَّد بن مسلم أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله ... " ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود سواء بسواء، إلا أنه قال: "عبد الله ورسوله، وأسأل الله -عز وجل- الجنة وأعوذ بالله من النار". ش: أي وخالف عمر أيضًا في تشهده المذكور جابر بن عبد الله. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وقد تكرر ذكره، عن أيمن بن نابل -بالنون في أوله، والباء الموحدة بعد الألف- الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان، قال أبو حاتم: شيخ. وقال يعقوب بن شيبة: مكي صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الدارقطني: ليس بالقوي، خالف الناس ولو لم يكن إلا حديث التشهد. روى له البخاري متابعة، والترمذي، والنسائي. وهو يروي عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه النسائي (¬1)، أنا محمَّد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أيمن يقول: حدثني أبو الزبير، عن جابر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن زياد، عن المعتمر بن سليمان، وعن يحيى ابن حكيم، عن محمَّد بن بكر، عن أيمن بن نابل، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - ... إلى آخره نحوه. واستدلت به طائفة على أن المصلي يسمي في أول تشهده، ويحكى ذلك عن عمر - رضى الله عنه - وكان إذا تشهد يقول: بسم الله خير الأسماء. وعن ابن عمر أنه كان يسمي في أوله، وإليه ذهب أيوب ويحيى بن سعيد وهشام. وقال مالك: ذلك واسع. وفي "المغني": وسمع ابن عباس رجلا يقول: بسم الله فانتهره. وبه قال مالك وأهل المدينة، وابن المنذر والشافعي، وهو الصحيح. ص: وخالفه في ذلك أبو موسى الأشعري، فروي عنه في ذلك، عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: سمعت أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول: "إن رسول الله - عليه السلام - خطبنا، فعلمنا صلاتنا وبَيَّن لنا سنتنا، فقال: إذا كان في القعدة فليكن من قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام -أو قال: سلام شك سعيد- عليك أيها النبي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 243 رقم 1175). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 292 رقم 902).

ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، قال: ثنا أبو غلاب يونس بن جبير، أن حطان بن عبد الله الرقاشي حدثه قال: قال لي أبو موسى الأشعري: "إن رسول الله - عليه السلام - خطبنا فعلمنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: إذا كان عند القعدة فليكن من قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ش: أي وخالف عمر- رضى الله عنه - أيضا -في تشهده المذكور- أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس. وأخرجه من طريقين صحيحين، قد ذكرهما بعينهما في باب "الخفض في الصلاة هل فيه تكبير؟ " غير أن ها هنا زاد أبا بكرة. وقد ذكرنا هناك أن مسلمًا أخرجه (¬1) مطولا، وكذلك البزار في "مسنده" (¬2). واستدلت جماعة بقوله: "فليكن من قول أحدكم: التحيات، وفي رواية أبي داود: "فليكن من أول قول أحدكم" على أنه يقول في أول جلوسه، ولا يقول: بسم الله، وقال النووي: وليس هذا الاستدلال بواضح؛ لأنه قال: فليكن من أول قول أحدكم، ولم يقل: فليكن أول قول أحدكم. قلت: الاستدلال به واضح؛ لأن كلمة "من" لابتداء الغاية، ومعناه: فليكن ابتداء أول قول أحدكم: التحيات، فإذا ابتدأ أولا بـ"بسم الله" لا يكون ابتداء أول القول بالتحيات. فافهم. ص: وخالفه في ذلك أيضًا عبد الله بن الزبير، فروي عنه في ذلك عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا محمَّد بن حميد، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 303 رقم 404). (¬2) "مسند البزار" (8/ 64 رقم 3056).

قال: حدثني الحارث بن يزيد، أن أبا أسلم المؤذن حدثه، أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: "إن تشهد النبي - عليه السلام - الذى كان، يتشهد به: بسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات الطيبات الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي - عليه السلام - ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني". ش: أي وخالف عمر- رضى الله عنه - أيضًا -في تشهده المذكور- عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما -. ومحمد بن حميد بن هشام أبو قرة الرعيني، وثقه ابن يونس. وسعيد بن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، شيخ البخاري. وابن لهيعة فيه مقال. والحارث بن يزيد الحضرمي أبو عبد الكريم المصري روى له مسلم وأبو داود وابن ماجه. وأبو أسلم المؤذن ... (¬1) وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا بكر بن سهل الدمياطي, ثنا عبد الله بن يوسف, ثنا ابن لهيعة ثنا الحارث بن يزيد، سمعت أبا الورد يقول: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: "تشهد النبي - عليه السلام -: بسم الله وبالله ... " إلى آخره نحوه سواء، وفي آخره: "هذا في الركعتين الأولين". ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف رحمه الله، والحديث أخرجه الطبراني كما يأتي، والبزار في "مسنده" (6/ 188 رقم 2229)، ووقع فيه أبو الورد بدلًا من أبي أسلم، وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ في تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن ابن الزبير بهذا الإسناد، وأبو الورد فلا نعلم روى عنه إلا الحارث ابن يزيد، والحارث بن يزيد فقد روى عنه ابن لهيعة وغيره. وانظر "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/ 194)، و"تلخيص الحبير" (1/ 267).

ص: فكل هؤلاء قد روى عن النبي - عليه السلام - في التشهد ما ذكرنا عنهم، وخالف ما روي عن عمر- رضى الله عنه -، فقد تواترت بذلك عن النبي - عليه السلام - الروايات فلم يخالفها شيء، ولا ينبغي خلافها, ولا الأخذ بغيرها, ولا الزيادة على شيء مما فيها، إلا أن في حديث ابن عباس حرفا يزيد على غيره، وهو: "المباركات"، فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره إذ كان قد زاد عليه، والزائد أولى من الناقص. وقال آخرون: بل حديث ابن مسعود وأبي موسى وابن عمر الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى أولى؛ لاستقامة طرقهم، واتفاقهم على ذلك؛ لأن أبا الزبير لا يكافىء الأعمش ولا منصورًا ولا مغيرة، ولا أشباههم ممن روى حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا يكافئ قتادة في حديث أبي موسى، ولا يكافئ أبا بشر في حديث ابن عمر- رضى الله عنهما -. ولو وجب الأخذ بما زاد وإن كان دونهم لوجب الأخذ بما زاد أيمن بن نابل على الليث عن أبي الزبير؛ فإنه قد قال في التشهد: "بسم الله"، ولوجب الأخذ بما زاد أبو أسلم عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فإنه قال في التشهد أيضًا: "بسم الله" وزاد أيضًا ما في ذلك من الزيادة على حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. فلما كانت هذه الزيادة غير مقبولة؛ لأنه لم يزدها على الليث مثله، لم تقبل زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - على عطاء بن أبي رباح؛ لأن ابن جريج رواه عن عطاء عن ابن عباس موقوفًا، ورواه أبو الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس مرفوعًا, ولو ثبتت هذه الأحاديث كلها وتكافأت في أسانيدها لكان حديث عبد الله أولاها؛ لأنهم قد أجمعوا أنه ليس للرجل أن يتشهد بما شاء من التشهد غير ما روي في ذلك، فلما ثبت أن التشهد الخاص من الذكر، وكان ما رواه عبد الله قد وافقه عليه كل من رواه عن النبي - عليه السلام - غيره، وزاد غيره عليه ما ليس في تشهده، كان ما قد أُجمع عليه من ذلك أولى أن يتشهد به دون الذي اختلف فيه. ش: أشار بهؤلاء إلى: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، وأبي موسى الأشعري

وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -؛ فإنهم كلهم رووا عن النبي - عليه السلام - في التشهد ما يخالف تشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ما مرت رواياتهم مفصلة، وكذا روي عن معاوية وسلمان وعائشة - رضي الله عنهم -، ما يوافق ما روى هؤلاء الصحابة. فحديث معاوية عند الطبراني (¬1): عن إسماعيل بن عياش، عن حريز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان: "أنه كان يعلم الناس التشهد وهو على المنبر عن النبي - عليه السلام -: التحيات لله، والصلوات والطيبات ... " إلى آخره، نحو تشهد ابن مسعود. وحديث سلمان عند البزار، والطبراني (¬2) أيضًا كلاهما: عن سلمة بن الصلت، عن عمرو بن يزيد الأزدي، عن أبي راشد قال: "سألت سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن التشهد فقال: أعلمكم كما علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التحيات لله والصلوات والطيبات ... " إلى آخره نحوه. وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند البيهقي (¬3): عن القاسم، عنها قالت: "هذا تشهد النبي - عليه السلام -: التحيات لله ... " إلى آخره نحوه. قال النووي في "الخلاصة": سنده جيد. قوله: "فقد تواترت بذلك عن النبي - عليه السلام - الروايات" أي قد تكاثرت وتتابعت بما روي من غير عمر مخالفا لما روي عن عمر - رضى الله عنه -، فلا ينبغي مخالفة هذه الروايات، ولا الأخذ بغيرها, ولا الزيادة على شيء مما ذكر فيها من الألفاظ والكلمات. والحاصل أنه قد أشار أولا إلى ترجيح الروايات المخالفة لحديث عمر- رضى الله عنه - بكثرة ورودها وتتابع تخريجها، ثم أشار ترجيح رواية ابن مسعود من بين هذه الروايات، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 379 رقم 891). (¬2) "المعجم الكبير" (6/ 264 رقم 6171). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 144 رقم 2667).

قوله: "إلا أن في حديث ابن عباس حرفا ... إلى آخره" استثناء من قوله: "ولا الزيادة على شيء مما فيها"، والمعنى لكن فيما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - في التشهد حرف يزيد على ما في رواية غيره، وهو لفظ: "المباركات"، على ما مر في روايته: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وقد اختلفوا في الأخذ بهذه الزيادة، أشار إليه بقوله: "فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره" أي الأخذ بحديث ابن عباس هو أولى من غيره، وعلل ذلك بقوله: "إذا كان قد زاد عليه" أي لأنه كان أي ابن عباس - رضي الله عنهما - قد زاد على حديث غيره، والزائد أولى من الناقص. وأراد بهؤلاء القائلين: الشافعي وأصحابه؛ فإنهم ذهبوا إلى تشهد ابن عباس، وعللوا بالتعليل المذكور. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد وأبا ثور وإسحاق وجماهير الفقهاء من التابعين وغيرهم ممن بعدهم؛ فإنهم قالوا: بل حديث ابن مسعود، وأبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، وعبد الله بن عمر الذي رواه عنه -أي عن ابن عمر- مجاهد بن جبر المكي وعبد الله بن بابى المكي أولى، ثم بين وجه الأولوية بقوله: "لاستقامة طرقهم أي طرق أحاديث الرواة من هؤلاء، واتفاقهم على ذلك"، وإنما قيد في رواية ابن عمر بقوله: "الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى" احترازًا عن روايته التي فيها نافع عنه، وقد مرت في أول الباب. قوله: "ولأن أبا الزبير ... إلى آخره" إشارة إلى بيان تعليل قوله: "لاستقامة طرقهم واتفاقهم على ذلك" بيان ذلك أن الراوي حديث ابن عباس هو محمَّد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي، كما مر بيانه فيما مضى، فأبو الزبير هذا لا يكافئ أي لا يساوي ولا يعادل سليمان الأعمش، ولا منصور بن المعتمر، ولا مغيرة بن مقسم الضبي ولا أشباههم كأبي عوانة الوضاح اليشكري والأسود بن يزيد النخعي وشقيق بن سلمة وهشام الدستوائي وغيرهم، الذين رووا حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، فإن هؤلاء ممن احتج بهم الشيخان وغيرهم، ووقع الاتفاق من

المحدثين كلهم على عدالتهم وثقتهم، ألا ترى أن البخاري لم يرو لأبي الزبير إلا مقرونا بغيره وإن كان هو من رجال مسلم! ولكنه لا يعادل هؤلاء المذكورين. وقد قال الشافعي: أبو الزبير يحتاج إلى، دعامة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. قوله: "ولا يكافئ قتاد" أي لا يكافئ أبو الزبير المذكور قتادة بن دعامة السدوسي في حديث أبي موسى الأشعري، وقد مر أن قتادة روى حديثه عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري. قوله: "ولا يكافئ" أي أبو الزبير أبا بشر جعفر بن إياس اليشكري في حديث عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما -, وقد مر أن أبا بشر روى حديثه عن مجاهد، عن ابن عمر وذلك أن أبا بشر مجمع عليه في عدالته وثقته، وأخرج له الشيخان وغيرهما. قوله: "ولو وجب الأخد بما زاد ... إلى آخره" جواب عما قالوا من قولهم: "والزائد أولى" بيان ذلك: أنه لو وجب الأخذ بالزيادة وإن كانت هي ممن دون من لم يزد من الرواة لوجب الأخذ بزيادة أيمن بن نابل على الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي؛ فإنه قال في روايته: حدثنا محمَّد بن مسلم أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله ... " ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود، فإذا أخذوا بزيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس لفظة: "المباركات" الذي رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، لزمهم أن يأخذوا بزيادة أيمن بن نابل في حديث جابر بن عبد الله الذي رواه أيمن بن نابل عن أبي الزبير، عن جابر. بيان الملازمة: أن أبا الزبير أدنى حالا من الليث، فإذا أخذتم من أبي الزبير زيادته في حديث الليث عنه، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس والحال أنه أدنى من الليث، يجب الأخذ أيضًا بزيادة أيمن بن نابل في حديث أبي الزبير عن

جابر، وكذلك يجب الأخذ بزيادة أبي أسلم المؤذن، عن عبد الله بن الزبير أنه قال في التشهد أيضًا: "بسم الله" وألفاظًا أخرى ليست في حديث ابن مسعود. قوله: "فلما كانت هذه الزيادة ... إلى آخره" من تتمة الجواب المذكور، أبي فلما كانت زيادة أيمن بن نابل غير مقبولة؛ لأنه لم يزدها على الليث مثله، أبي مثل الليث في درجة العدالة والأمانة والثقة، لم تقبل كذلك زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس علي عطاء بن أبي رباح؛ لأن عبد الملك بن جريج رواه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفًا، ورواه أبو الزبير محمَّد بن مسلم، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس مرفوعًا؛ لأن من رفع فقد زاد على من وقف، وأبو الزبير لا يكافئ ابن جريج، فافهم. قوله: "ولو ثبتت هله الأحاديث كلها ... إلى آخره" جواب بطريق التسليم، بيانه: لو سلمنا أن الأحاديث المذكورة كلها لو ثبتت وصحت وتساوت في قوة الأسانيد، وصحة الطريق واستقامة المجيء لكان حديث عبد الله بن مسعود أولاها، ثم أشار إلى بيان الأولوية بقوله: "لأنهم قد أجمعوا ... " إلى آخره، وهو ظاهر. قلت: لم يقل أحد من أهل العلم بالحديث: إن حديث ابن مسعود يساويه حديث أو يفوقه. ومن ذلك قال الخطابي -رحمه الله-: أصح الروايات وأشهرها رجالا: تشهد ابن مسعود. وقال ابن المنذر وأبو علي الطوسي: قد روي حديث ابن مسعود من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد عن النبي - عليه السلام -. وقال البزار: أصح حديث في التشهد: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وروي عنه من نيف وعشرين طريقا، ولا أعلم يروى عن النبي - عليه السلام - في التشهد أثبت من حديث عبد الله، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر حالًا, ولا أشد تظاهرًا بكثرة الأسانيد واختلاف طرقها وإليه أذهب.

وقال أبو عمر: بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم؛ لثبوت فعله عن النبي - عليه السلام -. وقال علي بن المديني: لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى. وبنحوه قال ابن طاهر. وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين: حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. قلت: لأجل ذلك قال صاحب "الهداية": والأخذ بتشهد ابن مسعود أولى؛ لأن فيه الأمر، وأقله الاستحباب، و"الألف" و"اللام" وهما للاستغراق، وزيادة "الواو" وهي لتحديد الكلام كما في القسم، وتأكيد التعليم. قلت: أما الأمر وهو قوله: "فليقل" وليس في تشهد ابن عباس في ألفاظهم الجميع إلا في لفظ النسائي: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا" وفي لفظ له: "قولوا في كل جلسة". وأما "الألف" و"اللام" فإن مسلمًا وأبا داود وابن ماجه لم يذكروا تشهد ابن عباس إلا معرفًا بالألف واللام، وذكره الترمذي والنسائي منكرًا: "سلام عليك أيها النبي، سلام علينا" وكان برهان الذي اعتمد على هذه الرواية. وأما "الواو" فليست في تشهد ابن عباس عند الجميع. وأما التعليم فهو أيضًا في تشهد ابن عباس عند الجميع: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" هكذا لفظ مسلم، وفي لفظ الباقين: "كما يعلمنا القرآن". وفي تشهد ابن مسعود تراجيح أُخر منها: أن الأئمة الستة اتفقوا عليه لفظا ومعنى؛ وذلك نادر، وتشهد ابن عباس معدود في أفراد مسلم، وأعلى درجة

الصحيح عند الحفاظ ما اتفق عليه الشيخان ولو في أصله، فكيف إذا اتفقا على لفظه؟ ومنها: إجماع العلماء على أنه أصح حديث في الباب، كما قال الترمذي: فهو أصح حديث روي عن النبي - عليه السلام - في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - ومن بعدهم من التابعين. ومنها: أنه قال فيه: "علمني التشهد، كفي بين كفيه" ولم يقل ذلك في غيره؛ فدلَّ على مزيد الاعتناء به. ص: وحجة أخرى: أنا قد رأينا عبد الله شدد في ذلك حتى أخذ على أصحابه "الواو" فيه كي يوافقوا لفظ رسول الله - عليه السلام -، ولا نعلم غيره فعل ذلك، فلهذا استحببنا ما روي عن عبد الله دون ما روي عن غيره، فمما روي عن عبد الله مما ذكرنا: ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمر، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان عبد الله يأخذ علينا "الواو" في التشهد". ش: أي برهان آخر في ترجيح حديث عبد الله في التشهد على حديث غيره: هو تشديد عبد الله على أصحابه في أخذ "الواو" فيه ليوافقوا لفظ رسول الله - عليه السلام - ولا يخالفوه، ولو لم يكن أمره مؤكدًا عنده لما فعل ذلك، ولا يُعلم أحد غيره من الصحابة الذين رووا التشهد فعل من التأكيد ما فعله عبد الله، فهذا هو وجه استحباب أخذ ما رواه هو، وترك ما رواه غيره. ثم إنه أخرج الأثر المذكور عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمر التيمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي. وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين ما خلا بكارًا.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القرآن، يأخذ علينا الألف و"الواو". ثنا وكيع (¬2)، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: "كان يأخذ علينا الواو في التشهد: الصلوات والطيبات". قوله: "كان عبد الله يأخذ علينا الواو" أي الواو التي بين التحيات والصلوات، وبين الصلوات والطيبات، أراد أنه كان يقولها بالواوين: "التحيات لله والصلوات والطيبات" ولا ينبغي أن يتركهما ولا واحدة منها، وقد بالغ فيه بعض الناس أنه إذا تركها أعاد الصلاة. وقال ابن قدامة: قال ابن حامد: ورأيت بعض أصحابنا يقولون: لو ترك واوًا أو حرفًا أعاد الصلاة لقول الأسود: "فكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن" ولكن الأصح أن ذلك لا يضر صلاته. وقال أحمد: تشهد عبد الله أعجب إلى، وإن تشهد بغيره فهو جائز ة لأن النبي - عليه السلام - لما علمه الصحابة مختلفًا، دل على جواز الجميع؛ كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف. وقال القاضي: وهذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح تشهده. انتهى. قلت: هذا كله من حيث الجواز، وأما من حيث الفضيلة فلا ينبغي أن نخل لفظا من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وقد روى الترمذي (¬3): نا أحمد بن محمَّد بن موسى، قال: نا عبد الله بن المبارك، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 262 رقم 3007). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 262 رقم 3009). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 82 رقم 289).

عن معمر، عن خُصَيف قال: "رأيت النبي - عليه السلام - في المنام فقلت: يا رسول الله، إن الناس قد اختلفوا في التشهد فقال: عليك بتشهد ابن مسعود". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن خُصَيف الجزري قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - في النوم جاءني فقلت: يا رسول الله - عليه السلام - اختلف علينا في التشهد، قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال ابن مسعود كذا، قال: السنة سنة ابن مسعود - رضي الله عنه -". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع قال: "سمع عبد الله رجلًا يقول في التشهد: بسم الله، التحيات لله، فقال له عبد الله: أتأكل؟ ". ش: ذكر هذا تأكيدًا لما قاله من ترك الزيادة على ما في حديث ابن مسعود كما ذكر أيمن بن نابل في حديث جابر وغيره. أخرجه عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله القرشي المدني، وهو ضعيف، فقال القطان: لا شيء. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال أحمد والنسائي: متروك الحديث. ولكن احتج به الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن المسيب بن رافع الأسدي الكاهلي روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع قال: "سمع ابن مسعود رجلا يقول في التشهد: بسم الله فقال: إنما يقال هذا على الطعام". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 205 رقم 3077). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 263 رقم 3014).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: "أن الربيع بن خثيم لقي علقمة فقال: إنه قد بدا لي أن أزيد في التشهد: "ومغفرته"، فقال له علقمة: ننتهي إلى ما علمناه". ش: أشار بهذا إلى أن كل ما يزاد على تشهد ابن مسعود لا يعمل به، سواء كانت الزيادة نحو التسمية في أوله، أو نحو مغفرته في أوسطه، أو نحو اللهم اغفر لي واهدني في آخره، كما في حديث عبد الله بن الزبير. وأبو بكرة بكار، ومؤمل هو ابن إسماعيل القرشي، والثوري هو سفيان، ومنصور: هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، والربيع بن خثيم ابن عائذ أبو يزيد الكوفي، وعلقمة بن قيس النخعي. وكل هؤلاء أئمة ثقات. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): أخبرني أبي، عن إبراهيم قال: "جاء ربيع بن خثيم إلى علقمة يستشيره أن يزيد فيها: ومغفرته، فقال علقمة: إنما ننتهي إلى ما علمناه". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: "أتيت الأسود بن يزيد فقلت: إن أبا الأحوص قد زاد في خطبة الصلاة: والمباركات، قال: فائته فقل له: إن الأسود ينهاك، ويقول: إن علقمة بن قيس تعلمهن من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن، عدهن عبد الله في يده ... " ثم ذكر تشهد عبد الله - رضي الله عنه -. ش: هذا أيضًا لما ذكرنا في الذي قبله، وفهد هو ابن سليمان. وأبو غسان اسمه مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، شيخ البخاري. وزهير هو ابن معاوية. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 200 رقم 3062).

وأبو الأحوص هو عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي. والكل ثقات أجلاء. قوله: "في خطبة الصلاة" أراد بها التشهد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلهذا الذي ذكرنا استحببنا ما روي عن عبد الله بتشديده في ذلك، ولإجماعهم عليه؛ إذ كانوا قد اتفقوا على أنه لا ينبغي أن يتشهد إلا بخاص من التشهد. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي ولأجل ما ذكرنا من المعاني والأمور استحببنا تشهد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، ولأجل إجماعهم أي إجماع كل من روى حديث التشهد "عليه" أي على تشهد عبد الله؛ لأن ألفاظ تشهده موجودة في جميع من روى التشهد من غيره، وقد كانوا كلهم اتفقوا على أن التشهد لا يكون إلا بألفاظ مخصوصة، ولا يكون بأي لفظ كان، فإذا كان كذلك، فالمتفق عليه أولى من المختلف فيه. قوله: "وهذا" أي ما ذكرنا من استحباب تشهد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. "قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله"، وهو قول جماهير الفقهاء أيضًا من التابعين ومن بعدهم، على ما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.

ص: باب: السلام في الصلاة كيف هو؟

ص: باب: السلام في الصلاة كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية السلام في الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن السلام لا يكون إلا عقيب التشهد في آخر الصلاة. ص: حدثنا الربيع الجيزي وروح بن الفرج، قالا: ثنا أحمد بن أبي بكر الزهري، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن سعد - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة بتسليمة واحدة: السلام عليكم". ش: أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث أبو مصعب الزهري المدني الفقيه، قاضي مدينة الرسول - عليه السلام -، شيخ الجماعة سوى النسائي. ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي. ووثقه ابن حبان. وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وبقية الرجال ثقات. وإسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص المدني، وسعد هو ابن أبي وقاص مالك بن أهيب، أحد العشرة المبشرة. وأخرجه أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" (¬1): من حديث الدراوردي، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل ... إلى آخره نحوه. ثم قال: هذا وهم، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره، عن مصعب بسنده: "أنه - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه ويساره". وسنبين ذلك بتحقيقه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "الاستذكار" (1/ 490).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المصلي يسلم في صلاته تسليمة واحدة، تلقاء وجهه: السلام عليكم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والأوزاعي، ومالكا، فإنهم قالوا: التسليم في آخر الصلاة مرة واحدة. واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور، ويحكى ذلك عن ابن عمر وأنس وسلمة بن الأكوع وعائشة. وقال عمار بن أبي عمار: "كان مسجد الأنصار يسلمون فيه تسليمتين، وكان المهاجرون يسلمون تسليمة واحدة". وقال ابن بطال: إنما حدثت التسليمتان زمن بني هاشم. وقال الطبري: هو مخير في الخروج بسلام أو بغيره. قلت: واحتج هؤلاء أيضا بحديث عائشة: أخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: نا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمَّد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئا". ثم قال: وفي الباب عن سهل بن سعد. قلت: وفي الباب عن سلمة بن الأكوع، وأنس بن مالك، وسمرة - رضي الله عنهم -. أما حديث سهل بن سعد، فأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو مصعب المديني أحمد ابن أبي بكر، ثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - عليه السلام - سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 90 رقم 296). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 297 رقم 918).

وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه ابن ماجه (¬1) أيضًا: ثنا محمَّد بن الحارث المصري، نا يحيى بن راشد، عن يزيد مولى سلمة، عن سلمة بن الأكوع قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى فسلم مرة واحدة". وأما حديث أنس، فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - سلم تسليمة واحدة". وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، نا عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم تسليمة واحدة". وأما حديث سمرة، فأخرجه البيهقي (¬4) أيضًا: من حديث نعيم بن حماد، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم في الصلاة تسليمة قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره". والجواب: أن حديث عائشة قد تكلم فيه، فقال الترمذي: وحديث عائشة لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، قال محمَّد بن إسماعيل: زهير بن محمَّد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر. وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": تفرد به زهير، وهو من مناكيره. وحديث سهل بن سعد، فقد قال أبو حاتم: عبد المهيمن بن عباس ضعيف الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 297 رقم 920). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 267 رقم 3072). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 179 رقم 2812). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 179 رقم 2813).

وحديث سلمة بن الأكوع فيه يحيى بن راشد وقد ضعفه النسائي. وحديث أنس فرد غريب، قاله الذهبي. وحديث سمرة فيه روح بن عطاء قال الذهبي: واهٍ. ولئن سلمنا صحتها, ولكن معناها أنه - عليه السلام - كان يسمعهم التسليمة الواحدة، أو أن الأحاديث التي فيها التسليمتان تتضمن زيادة على تلك الأحاديث، والزيادة من الثقات مقبولة، أو نقول: يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - فعل الأمرين؛ ليبين الجائز والمسنون. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ينبغي أن يسلم عن يمينه وعن شماله، يقول في كل واحدة من التسليمتين: السلام عليكم ورحمة الله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: نافع بن عبد الحارث وعلقمة وأبا عبد الرحمن السلمي وعطاء بن أبي رباح والشعبي والثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وإسحاق وابن المنذر؛ فإنهم قالوا: إن المصلي يسلم في آخر صلاته تسليمتين: تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره. ويحكى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي وعمار وابن مسعود - رضي الله عنهم -. ثم اختلفوا في السلام هل هو واجب أم سنة؟ فعن أبي حنيفة: أنه واجب. وقيل: سنة، وقال صاحب "الهداية": ثم إصابة لفظة السلام واجبة عندنا, وليست بفرض؛ خلافا للشافعي. وفي "المغني" لابن قدامة: التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه، والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة. وقال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة.

وقال الطحاوي: قال الحسن بن حر: هما واجبتان. وهي رواية عن أحمد، وبه قال أصحاب مالك. وعند الشافعي: السلام فرض، وكذا عن أحمد، وقال الثوري: لو أخل بحرف من حروف "السلام عليكم" لم تصح صلاته. وقال في "المغني" أيضًا: والسنة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فإن قال: وبركاته أيضًا فحسن، والأول أحسن، وإن قال: السلام عليكم ولم يزد فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه. قال القاضي: ونص عليه أحمد في صلاة الجنازة، وهو مذهب الشافعي. وقال ابن عقيل: الأصح أنه لا يجزئه فإن نكَّس السلام فقال: عليكم السلام؛ لم يجزه. وقال القاضي: فيه وجه أنه يجوز، وهو مذهب الشافعي، فإن قال: سلام عليكم منُكِّرًا منونًا ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه، وهو مذهب الشافعي. وقال ابن حزم: الأولى فرض، والثانية سنة حسنة لا يأثم تاركها. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأولى: أن حديث سعد هذا إنما رواه كما ذكُر الدراوردي خاصة، وقد خالفه كل من رواه عن مصعب غيره. فحدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن سعد - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يُرى بياض خديه من ها هنا ومن ها هنا". حدثنا محمَّد بن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود جميعًا، قالا: ثنا مسدد بن مسرهد، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، عن مصعب بن ثابت ... فذكر بإسناده مثله.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى: أن حديث سعد بن أبي وقاص المذكور الذي احتجت به أهل المقالة الأولى إنما روي مثل ما ذكر عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي خاصة، وكل من روى هذا الحديث عن مصعب بن ثابت غير الدراوردي فقد خالف الدراوردي في ذلك، ثم بَيَّنَ المخالفة بالفاء التفسيرية بقوله: "فحدثنا ... إلى آخره". وأخرجه من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي المعروف بأبي عائشة، شيخ أبي داود، ثقة صدوق. عن عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور. وبقية الرجال ذكروا الآن. وأخرجه البيهقيم في كتابي "المعرفة" (¬1) و"السنن" (¬2): أنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أنا أحمد بن عبيدة، قال: ثنا عبيد بن شريك، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬3): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا أبو عامر العقدي، قال: نا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: "كنت أرى رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده". وأخرجه النسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم أيضا ... إلى آخره نحوه، وفي لفظه: "حتى يرى بياض خده". ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (2/ 60 رقم 932). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 177 رقم 2805). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 409 رقم 582). (¬4) "المجتبى" (1/ 180 رقم 1564).

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن مسدد ابن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، نا محمَّد بن عمرو، حدثني مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن مالك قال: "كان النبي - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خديه". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا عبد الله بن المبارك مع حفظه وإتقانه قد رواه عن مصعب على خلاف ما رواه الدراوردي عنه، ووافقه على ذلك محمَّد بن عمرو بن علقمة مع تقدمه وجلالته، ثم قد روي هذا الحديث عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر كما رواه محمَّد بن عمرو وابن المبارك لا كما رواه الدراوردي. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى بن حسان (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قالا: ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر بن سعد، عن سعد - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه حتى أرى بياض خده، وعن يساره حتى أرى بياض خده". فقد انتفي بما ذكرنا ما روى الدراوردي، وثبت عن سعد عن النبي - عليه السلام - أنه كان يسلم تسليمتين. ش: أشار بهذا إلى أن رواية عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي وهم، وأن الثابت عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: أنه كان يسلم تسليمتين، وبين ذلك بما رواه عبد الله بن المبارك مع غاية حفظه وقوة إتقانه فقد خالف الدراوردي في روايته هذه، ومع هذا فقد وافقه على ذلك أيضًا محمَّد بن عمرو بن علقمة المدني مع ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 180 رقم 1564).

تقدمه على الدراوردي ومثله. على أن هذا الحديث قد رواه عن عامر بن سعد: إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص المدني، كما رواه محمَّد بن عمرو، وعبد الله ابن المبارك، لا كما رواه عبد العزيز الدراوردي. وأخرج هذا من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن يحيى بن حسان بن حيان التنيسي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن المخرمي المدني، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن عامربن سعد، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): عن عبد الله بن سليمان، عن محمَّد بن بشار، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن جعفر الزهري، عن إسماعيل بن محمَّد، عن عامر ... إلى آخره نحوه. وقال: هذا إسناد صحيح. والأخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الله بن جعفر ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر العقدي ... إلى آخره، وقد ذكرناه عن قريب. ص: وقد وافقه على ذلك غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام -. فحدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أبي موسى قال: "صلى بنا علي - رضي الله عنه - يوم الجمل صلاة ذكرنا صلاة رسول الله - عليه السلام -؛ إما أن نكون نسيناها، وإما تركناها عمدًا، فكان يكبر في كل خفض ورفع، ويسلم عن يمينه وعن شماله". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 356 رقم 1). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 409 رقم 582).

ش: أي قد وافق سعد بن أبي وقاص على قوله: إنه - عليه السلام - كان يسلم تسليمتين غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم بين ذلك بالفاء التفصيلية، بقوله: "فحدثنا ... إلى آخره" وهذا الحديث ذكره في باب "الخفض في الصلاة هل فيه تكبير"، ولكن في الإسنادين بعض اختلاف؛ لأنه أخرجه هناك عن ربيع المؤذن، عن أسد، عن إسرائيل عن أبي إسحاق، وها هنا عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن يونس شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش الحناط -بالنون- المقرئ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن بريد -بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم، واسمه مالك بن ربيعة السلولي البصري، وأبوه له صحبة، وبريد وثقه ابن معين وأبو زرعة. وروى له الأربعة. وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس، وقد ذكرنا هناك أن هذا أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي بكر بن عياش ... إلى آخره. ويوم الجمل يوم مشهود مشهور، كان في سنة ست وثلاثين من الهجرة، وهو اليوم الذي تلاقت فيه عسكر عائشة مع عسكر علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - على المربد من أرض البصرة، وكانت عائشة تُحْمل في هودج على جمل يسمى عسكرًا، اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عُرينة بمائتي دينار، فلذلك قيل: يوم الجمل وأضيف إليه. قوله: "ذَكَّرنا" بالتشديد، من التذكير. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن رسول الله - عليه السلام -، مثله.

حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: ثنا علقمة والأسود بن يزيد وأبو الأحوص، قالوا: ثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي - عليه السلام -، مثله. حدثنا الربيع الجيزي، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: ثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام -، مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام -، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يسلمون عن أيمانهم، وعن شمائلهم في الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن زهير بن معاوية (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا زهير (ح). وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو الجوَّاب الأحوص بن الجوَّاب، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله، عن رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم ومنصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله قال: "صلى بنا أمير بمكة، فسلم عن يمينه وعن شماله، فقال عبد الله، من أين علقها؟ -قال الحكم في حديثه-: كان رسول الله - عليه السلام - يفعله". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن المديني، قال: ثنا يحيى ... فذكر بإسناده مثله. ش: أخرج هذا عن عبد الله بن مسعود من عشر طرق: الأول: عن علي بن شيبة، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي -بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها السين المهملة- شيخ البخاري، عن

سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن الثوري، عن أبي إسحاق ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن أحمد بن عبد المؤمن المروزي ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه النسائي (¬3): أنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: أبنا الحسن بن واقد، قال: ثنا أبو إسحاق، عن علقمة والأسود وأبي الأحوص، قالوا: ثنا ابن مسعود: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر". الرابع: عن الربيع بن سليمان الجيزي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 390 رقم 3699). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 219 رقم 3130). (¬3) "المجتبى" (3/ 63 رقم 1325).

وأخرجه أبو داود (¬1): نا أحمد بن منيع، نا حسين بن محمَّد، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص والأسود، عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". الخامس: عن علي بن شيبة، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن إسرائيل ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): نا محمَّد بن عثمان، قال: نا عبيد الله، قال: نا إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه وعن يساره". السادس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث شجاع بن الوليد، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، ويسلم عن يمينه وشماله، حتى أرى بياض خده، ورأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يفعلان ذلك". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا نحوه: عن محمَّد بن المثنى، عن معاذ بن معاذ، عن زهير. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 261 رقم 996). (¬2) "مسند البزار" (5/ 49 رقم 1610). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 177 رقم 2800). (¬4) "المجتبى" (3/ 62 رقم 1319).

السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن زهير، عن أبي إسحاق ... إلى، آخره. وهذا أيضا صحيح. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا حميد الرؤاسي، ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبد الله قال: "أنا رأيت رسول الله - عليه السلام - يكبر في كل رفع ووضع، وقيام وقعود، ويسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده، ورأيت أبا بكر وعمر يفعلان ذلك". الثامن: عن علي بن معبد بن نوح، عن أبي الجَوَّاب -بفتح الجيم، وتشديد الواو، وفي آخره باء موحدة- الأحوص بن الجَوَّاب، عن زهير ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو كامل، نا زهير، نا أبو إسحاق ... إلى آخر ما ذكره الدارقطني. التاسع: وهو موقوف: عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد. ومرفوع: عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة ومنصور بن المعتمر، كلاهما عن مجاهد، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة الأزدي، عن عبد الله. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 357 رقم 4). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 386 رقم 3660).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن الحكم ومنصور، عن مجاهد، عن أبي معمر: "أن أميرا كان بمكة يسلم تسليمتين، فقال عبد الله أنَّى عَلِقَها؟ -قال الحكم في حديثه-: إن رسول الله - عليه السلام - كان يفعله". العاشر: كالتاسع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن المديني شيخ البخاري وغيره، وإمام هذا الشأن، عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن الحكم ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شعبة، عن الحكم ... إلى آخره نحوه، ثم قال: وقال شعبة: رفعه مرة. قوله: "من أين علقها؟ " معناه من أين تعلمها، وممن أخذها، وبابه من عَلِقَ يَعْلَقُ، كَعَلِمَ يَعْلَمُ، يقال: عَلِقَ به عَلَقًا، أبي تعلق به، وعَلِقَ حبُّها بقلبه أبي هويها، وعَلِقَ بها عُلُوقًا، وعَلِقَ يَفْعَلُ كذا مثل طَفِقَ، وعَلِقَ الظبي في الحبالة، وعَلِقَتْ الدابة، واشتريت الماء فَعَلِقَتْ بها العلقة، وكل ذلك يرجع إلى، معنى واحد، وهو العلق. ص: أخبرنا صالح بن عبد الرحمن وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن عمار: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم في صلاته عن يمينه وعن شماله". ش: إسناده صحيح، ويوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وعمار هو ابن ياسر - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمَّد، نا يحيى بن آدم، نا أبو بكر بن عياش ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 409 رقم 581). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 176 رقم 2799). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 296 رقم 916).

وفي آخره: "حتى يرى بياض خديه: السلام عليكم ورحمة الله". وأخرجه الدارقطني (¬1) أيضًا. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن يحيى المازني، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه الواسع بن حبان: "أنه سأل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن صلاة رسول الله فقال: كان يكبر كلما خفض ورفع، ويسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يسلم في الصلاة تسليمتين: عن يمينه وعن شماله". ش: هذان طريقان: الأول صحيح، والثاني قال أبو حاتم: حديث منكر قاله ابنه عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: حديث حيوة بن شريح، عن بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم تسليمتين". حديث منكر. والله أعلم. وابن جريج هو عبد الملك. وحَبَّان في الموضعين بفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة. وبقية بن الوليد الحمصي روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في المتابعات. والزُّبيدي -بضم الزاي المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 356 رقم 2).

الحروف- هو محمَّد بن الوليد بن عامر الحمصي القاضي، صاحب الزهري، نسبته إلى، زُبَيْد الأكبر، وهو منبه بن صعب، وإليه ترجع قبائل زبيد. والزهري هو محمَّد بن مسلم المدني. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا مسعر (ح). وحدثنا أبو أمية، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا مسعر، عن عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله - عليه السلام - سلمنا بأيدينا قلنا: السلام عليكم، السلام عليكم، فقال: ما بال أقوام يسلمون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي أحدكم إذا جلس في الصلاة أن يضع يده على فخله، ويشير بأصبعه، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم". ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمَّد بن الزبير، عن مسعر بن كدام، عن عبيد الله بن القبطية الكوفي، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن مسعر. ونا أبو كريب -واللفظ له- قال: أنا ابن أبي زائدة، عن مسعر قال: حدثني عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة قال: "كنا إذا صلينا مع رسول الله - عليه السلام - فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - عليه السلام -: علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله". والآخر: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يعلى بن عبيد الحنفي الطنافسي الكوفي، عن مسعر ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 322 رقم 431).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا يحيى بن زكرياء ووكيع، عن مسعر، عن عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله - عليه السلام - يسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره، فلما صلى قال: ما بال أحدكم يرمي بيده كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي -أو أولا يكفي- أحدكم أن يقول هكذا -وأشار بأصبعه- السلام على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: عن عمرو بن علي، عن أبي نعيم، عن مسعر .. إلى آخره نحوه. قرله: "ما بال أقوام" أي ما شأنهم وما حالهم؟. قوله: "شُمْس" بضم الشين المعجمة، وسكون الميم، وبعدها سين مهملة، جمع شمساء، والذكر أشمس، والشموس يطلق على الذكر والأنثى، ولا تقل: شموص، وهو الذي لا يستقر؛ لشغبه وحدته، وهو من الناس: العسر الصعب الخلق. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: ثنا حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن البراء: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يسلم في الصلاة تسليمتين". حدثنا أحمد بن أبي داود، قال: ثنا مسدد وأبو الربيع الزهراني، قالا: ثنا عبد الله بن داود، عن حريث، عن الشعبي، عن البراء، عن رسول الله - عليه السلام -، مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المعروف بعلان، عن أبي إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، ونسبته إلى تُرجمان -بضم التاء المثناة من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 262 رقم 998). (¬2) "المجتبى" (3/ 61 رقم 1318).

فوق، ويقال بفتح التاء- والترجمان ها هنا اسم لأحد أجداده، قال أبو داود والنسائي: لا بأس به. عن حديج بن معاوية بن حديج الكوفي، أخي زهير بن معاوية، وعن يحيى: لا بأس به. وعن النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: محله الصدق. عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن البراء. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الشعبي، عن البراء - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يبدو خده: السلام عليكم ورحمة الله". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، وعن أبي الربيع الزهراني سليمان بن داود شيخ البخاري ومسلم، كلاهما عن عبد الله بن داود بن عامر الخريبي الثقة الزاهد، عن حريث بن أبي مطر الفزاري الحناط -بالنون- الكوفي، فيه مقال، فقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك. وعنه: ليس بثقة. وقال ابن معين: لا شيء. وقال البخاري: فيه نظر. واستشهد به في الأضاحي، وروى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي داود، ثنا عمرو بن علي، ثنا عبد الله ابن داود، عن حريث، عن الشعبي، عن البراء بن عازب: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم تسليمتين". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت حُجْرًا أبا عنبس، يحدث عن وائل بن حجر: "أنه صلى خلف النبي - عليه السلام - فسلم عن يمينه وعن يساره". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 177 رقم 2803). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 357 رقم 5).

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري قال: سمعت عبد الرحمن، يحدث عن وائل بن حجر، عن رسول الله - عليه السلام -، مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ابن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن العنبس الحضرمي أبي العنبس الكوفي المحضرم، عن وائل بن حجر. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبدة بن عبد الله، نا يحيى بن آدم، نا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: "صليت مع النبي - عليه السلام -، فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة، عن حجر، عن وائل. وأخرجه الطيالسيى في "مسنده" (¬2). الثالث: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني شيخ البخاري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة المرادي الكوفي الأعمى، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق، وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، عن عبد الرحمن اليحصبي، عن وائل ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري، يحدث عن عبد الرحمن اليحصبي، عن وائل الحضرمي: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 262 رقم 997). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 138 رقم 1024). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 265 رقم 3042).

"أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام -، فكان يكبر إذا خفض وإذا رفع، ويرفع يديه عند التكبير، ويسلم عن يمينه وعن يساره ... " الحديث. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا العتمر بن سليمان، قال: قرأت على الفضيل: حدثني أبو حريز، أن قيس بن أبي حازم حدثه، أن عدي بن عميرة الحضرمي قال: "كان النبي - عليه السلام - إذا سلم في الصلاة أقبل بوجهه على يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن، ثم يسلم عن يساره، ويقبل بوجهه حتى يرى بياض خده الأيسر". ش: يحيى بن معين -بفتح الميم- الإِمام المشهور في الجرح والتعديل. والمعتمر بن سليمان بن طرخان البصري، روى له الجماعة. والفضيل بن ميسرة الأزدي العقيلي، أبو معاذ البصري، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأبو حريز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن الحسن قاضي سجستان؛ فعن أحمد: منكر الحديث. وعن يحيى: ثقة. وعنه: ضعيف. وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي: ضعيف. استشهد به البخاري، وروى له الأربعة. وقيس بن أبي حازم واسمه حصين بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي، أدرك الجاهلية، وهاجر إلى النبي - عليه السلام - ليباعه فقبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه يخطب؛ ولم يثبت ذلك. وأبو حازم له صحبة، روى له الجماعة. وعدي بن عميرة -بفتح العين وكسر الميم- الكندي الصحابي، أبو زرارة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": نا محمَّد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، نا معتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيل، عن أبي حريز، عن قيس بن أبي حازم،

عن عدي بن عميرة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا سجد جافي، حتى يرى بياض إبطيه، وكان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم، السلام عليكم". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش بن الوليد الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا قرة -يعني ابن خالد- قال: ثنا بديل، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: "قال أبو مالك الأشعري لقومه: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - عليه السلام - ... فذكر الصلاة، وسلم عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هكذا كانت صلاته". ش: إسناده صحيح، وعياش -بتشديد الياء آخر الحروف- شيخ البخاري وأبي داود. وعبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمَّد السامي البصري من بني سامة بن لؤي بن غالب، روى له الجماعة. وقرة بن خالد السدوسي أبو خالد البصري، روى له الجماعة. وبديل -بضم الباء- ابن ميسرة العقيلي البصري، روى له الجماعة سوى البخاري. وشهر بن حوشب الأشعري أبو سعيد الحمصي، روى له الأربعة، ومسلم مقرونًا بغيره. وعبد الرحمن بن غَنْم -بفتح الغين المعجمة، وسكون النون- الأشعري الشامي، مختلف في صحبته؛ قال العجلي: شامي تابعي ثقة، من كبار التابعين. وأبو مالك الأشعري الصحابي - رضي الله عنه -، قيل: اسمه: الحارث بن الحارث، وقيل: عبيد، وقيل: عبيد الله، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن عاصم، وقيل غير ذلك.

والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، نا عياش بن الوليد الرقام، ثنا عبد الأعلى، ثنا قرة بن خالد، ثنا بديل بن ميسرة، ثنا شهر بن حوشب، قال: "قال أبو مالك الأشعري: لأصلين بكم صلاة رسول الله - عليه السلام -، فدعا بوضوء وتوضأ، ثم قام إلى الصلاة فصف رجال وصف خلفهم الغلمان، فجعل يكبر إذا سجد، وإذا رفع رأسه، وإذا قام من الركعتين، ثم سلم عن يمينه وعن شماله". ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن المديني، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا هوذة بن قيس بن طلق، عن أبيه، عن جده طلق بن علي - رضي الله عنه - قال: "كنا إذا صلينا مع رسول الله - عليه السلام - رأينا بياض خده الأيمن وبياض خده الأيسر". ش: إسناده صحيح، وأبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. وعلي بن المديني شيخ البخاري وإمام أهل الحديث. وملازم بن عمرو بن عبد الله السحيمي وثقه يحيى وأحمد، وروى له الأربعة. وهوذة بن قيس بن طلق بن علي، وثقه ابن حبان. وأبوه قيس بن طلق الحنفي اليمامي، قال العجلي: تابعي ثقة. وأبوه طلق بن علي بن المنذر من أصحاب النبي - عليه السلام -. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "معجمه" (¬2)، وابن حبان في "صحيحه" (¬3): عن ملازم بن عمرو، حدثني هوذة بن قيس بن طلق، عن أبيه، عن جده: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يُرى بياض خده الأيمن وبياض خده الأيسر". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 281 رقم 3416). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 333 رقم 8246). (¬3) وأخرجه في "الثقات" (7/ 590) في ترجمة هوذة بن قيس.

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، عن أوس بن أوس -أو أوس بن أبي أوس- قال: "أقمت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - نصف شهر فرأيته يصلي ويسلم عن يمينه وعن شماله". ش: قيس بن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي، قال يحيى بن معين: ضعيف لا يكتب حديثه، وعنه: ليس بشيء. وعنه: ضعيف الحديث، لا يساوي شيئًا. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال النسائي: ليس بثقة. وعنه: متروك الحديث. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وعمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي، ذكره ابن حبان في "الثقات". وعبد الملك بن المغيرة الطائفي، وثقه ابن حبان. وروى له الترمذي حديثًا واحدًا. وأوس بن أوس الثقفي الصحابي، ويقال: أوس بن أبي أوس، كذا قال يحيى بن معين، ويقال: أخطأ فيه يحيى؛ لأن أوس بن أبي أوس هو ابن حذيفة، والظاهر ما قاله يحيى؛ لأن البخاري قال في "تاريخه الكبير": أوس بن حذيفة الثقفي والد عمرو، ويقال: أوس بن أبي أوس، وكذا جعل أبو نعيم كليهما واحدًا، وقد بسطنا الكلام فيه في كتاب الرجال (¬1). ص: حدثنا أحمد بن عبد المؤمن الصوفي، قال: ثنا أشعث بن شعبة، قال: ثنا المنهال بن خليفة، عن الأزرق بن قيس قال: "صلى بنا أبو رِمْثة، ثم حدثنا أن رسول الله - عليه السلام - سلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره". ش: أشعث -بالثاء المثلثة- ابن شعبة المصيصي أبو أحمد، أصله خراساني، سكن الثغور، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود. ¬

_ (¬1) يقصد المؤلف رحمه الله به كتاب "مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار" الذي جعله كتقدمة لشرحه كتاب "شرح معاني الآثار" المسمى "مباني الأخبار".

والمنهال بن خليفة العجلي أبو قدامة الكوفي، قال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: فيه نظر. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يجوز الاحتجاج به. وقال يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: صالح، يكتب حديثه. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. والأزرق بن قيس الحارثي، وثقه ابن حبان. وأبو رِمْثَة -بكسر الراء، وسكون الميم، وفتح الثاء المثلثة، وفي آخره هاء- له صحبة، وعداده في أهل البصرة. والحديث أخرجه أحمد بن هارون المصيصي، عن أشعث بن شعبة، عن المنهال بن خليفة، عن الأزرق بن قيس قال: "صلى بنا أبو ريمة (¬1)، فسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يرى بياض خده، ثم قال: صليت بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي". ¬

_ (¬1) والحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (1/ 329 رقم 1007) من طريق أشعث بن شعبة به، وهكذا وقع هنا وفي "تحفة الأشراف" (9/ 212 رقم 12041): أبو ريمة، وقال الحافظ في "التهذيب": وقفت على عدة نسخ من "سنن" أبي داود: إحداها بخط الخطيب، وأخرى بخط أبي الفضل بن طاهر، وأخرى من طريق ابن الأعرابي، ومن طريق ابن أبي ذئب، ومن طريق الرملي كلها متفقة في سياقها: عن أبي رمثة، هكذا براء ثم ميم ثم ثاء مثلثة، وهكذا أخرج الحاكم هذا الحديث في "المستدرك" (1/ 403 رقم 996) فيما وقفت عليه من نسخه فقال: عن أبي رمثة. وكذلك أورده الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 284 رقم 728) في مسند أبي رمثة في حرف الياء فإنه سماه يثربي كما قيل في أحد أسمائه، ولم أر من ضبطه براء ثم ياء مثناة من تحت ثم ميم إلا في هذا الكتاب. ثم ذكره ابن منده بهذا الحديث فكناه أبا ريمة فلعل المصنف تبعه، ثم رأيت في "الصحابة" لابن حبان ما هذا نصه: أبو ريمة لم يزد على ذلك فالله تعالى أعلم. وبنحو هذا الكلام علق الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف" على "تحفة الأشراف". وفي "الإصابة" (7/ 147).

فهذا كما رأيت أخرج الطحاوي حديث التسليمتين عن ثلاثة عشر من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم: سعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، ووائل بن حجر، وعدي ابن عميرة الحضرمي، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن مسعود في هذا الباب قال: وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وجابر بن سمرة، والبر اء، وأبي سعيد، وعمار وجابر بن عبد الله، ووائل، وعدي بن عميرة. فهؤلاء عشرة أنفس قد أخرج الطحاوي أحاديثهم ما خلا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري، وزاد عليهم من زاد كما ذكرنا. قلت: وفي الباب أيضا عن سهل بن سعد، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن زيد - رضي الله عنهم -. أما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه ... (¬1). وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ... (1) وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الله بن مالك، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في صلاته عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خديه". فيه ابن لهيعة والإمام أحمد يعظمه. وأما حديث حديفة بن اليمان - رضي الله عنه - فأخرجه الحافظ ضياء الدين محمَّد بن عبد الواحد المقدسي كتابه "الأحكام": عن حذيفة بن اليمان قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم عن يمينه، وعن يساره، حتى يرى بياض خده: السلام ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 414 رقم 3933).

عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله"، وذكر أن ابن ماجه رواه، وكذا ذكر أبو الحجاج يوسف بن الزكي (¬1) أن ابن ماجه أخرجه في الصلاة عن علي بن محمَّد، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة ولم أجد ذلك في باب "التسليم" في كتاب الصلاة في "سنن" ابن ماجه، والذي وجدته في هذا الباب إنما هو هذا السند عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - (¬2). وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه الطبراني (¬3): عن الحسن بن علي، عن محمود بن خالد الدمشقي، عن أبيه، عن عيسى بن المسيب، عن سلم بن عبد الرحمن النخعي، عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة: "أن معاوية كتب إلى المغيرة يسأله عن آخر ما كان يتكلم به رسول الله - عليه السلام - فكتب إليه: إنه كان يقول إذا سلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، بعد أن يسلم عن يمينه وعن شماله، حتي يري بياض خده الأيسر". وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الشافعي في "مسنده" (¬4): عن إبراهيم بن محمَّد، عن إسحاق بن عبد الله، عن عبد الوهاب بن بخت، عن واثلة بن الأسقع: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى خداه". وأما حديث عبد الله بن زيد فأخرجه الشافعي أيضًا في "مسنده" (¬5): عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، قال مرة: عن ابن عمر، ومرة: عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم عن يمينه وعن يساره". ¬

_ (¬1) "تحفة الأشراف" (3/ 43 رقم 3356). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 296 رقم 916). (¬3) "المعجم الكبير" (20/ 393 رقم 929). (¬4) "مسند الشافعي" (1/ 43). (¬5) "مسند الشافعي" (1/ 44).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلم نعلم شيئا صح عن النبي - عليه السلام - في السلام في الصلاة إلا وقد دخل فيما روينا في هذا الباب؛ فإنما يخالف ذلك من يخالفه إلى حديث الدراوردي الذي قد بينا فساده في أول هذا الباب. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الأحاديث التي صحت عن النبي - عليه السلام - أنه كان يسلم مرتين في الصلاة قد دخلت فيما رواه عن الصحابة المذكورين - رضي الله عنهم -، والذي يخالف في ذلك إنما يخالف ذاهبا إلى، حديث عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي الذي فيه التسليم مرة، وقد بين فيما مضى فساد ذلك. والله أعلم. ص: وقد احتج قوم في ذلك أيضًا بما حدثنا ابن أبي داود وأحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقيّ، قالا: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا زهير بن محمَّد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة". قيل لهم: هذا حديث أصله موقوف على عائشة، هكذا رواه الحفاظ، وزهير بن محمَّد وإن كان رجلًا ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعف جدَّا، هكذا قال يحيى بن معين فيما حكى لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم علي بن عبد الرحمن، وزعم أن فيها تخليطا كبيرًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من المالكية، فإنهم احتجوا فيما ذهبوا إليه من أن السلام في آخر الصلاة مرة واحدة بحديث عائشة - رضي الله عنها -. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، كلاهما عن عمرو بن أبي سلمة ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن يحيى النيسابوري، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمَّد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 91 رقم 296).

رسول الله - عليه السلام - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئا". وأخرجه ابن ماجه أيضا (¬1): ثنا هشام بن عمار، ثنا عبد الملك بن محمَّد الصنعاني، نا زهير بن محمَّد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه". وأخرجه البيهقي (¬2)، والدارقطني (¬3) أيضًا. وأجاب عن هذا بقوله: "قيل لهم ... إلى آخره" وبيان ذلك من وجهين: الأول: أنه موقوف على عائشة - رضي الله عنها -، هكذا قال الحفاظ، ولهذا لما أخرجه الترمذي قال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وقال ابن حزم في "المحلى": أما تسليمة واحدة فلا يصح فيها شيء عن رسول الله - عليه السلام -؛ لأن الأخبار في ذلك إنما هي من طريق فيه إما مجهول، أو ضعيف، أو ساقط، أو من طريق مرسل. الثاني: أنه معلول برواية عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمَّد؛ فإن روايته عنه ضعيفة جدًّا كذا قال إمام الصنعة الحافظ يحيى بن معين. فهذا الطحاوي قد وثق زهير بن محمَّد، ولكن ادعى أن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه ضعيفة، وغيره ادعى أن كليهما ضعيفان، فقال صاحب "الاستذكار" ذُكِر هذا الحديث -يعني حديث عائشة هذا- لابن معين فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما. وقال الترمذي: قال محمَّد بن إسماعيل: زهير بن محمَّد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه. وقال النسائي: ليس ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 297 رقم 919). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 179 رقم 2810). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 357 رقم 7).

بالقوي. وذكره أبوزرعة في أسامي الضعفاء. وقال عثمان الدارمي: له أغاليط كثيرة. وقال النسائي في رواية: ضعيف. وعنه: ليس به بأس. قلت: الصواب ما قاله الطحاوي أن زهير بن محمَّد ثقة، ولهذا احتج به الشيخان في "صحيحيهما"، وكذا الأربعة في كتبهم، وإنما علة الحديث من جهة عمرو بن أبي سلمة، فإن يحيى قال فيه: ضعيف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال العقيلي: في حديثه وهم. فإن قيل: عمرو بن أبي سلمة أيضًا احتج به الشيخان في "صحيحيهما" والأربعة في كتبهم. قلت: قد قلنا: إن رواية عمرو بن أبي سلمة إنما تضعف عن زهير بن محمد؛ لا أنه في نفسه ضعيف، ألا ترى إلى ما قاله البخاري: زهير بن محمَّد أهل الشام يروون عنه مناكير، وعمرو بن أبي سلمة من أهل الشام؛ لأنه دمشقي نزل بتنيس وتوفي بها سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقد روى عنه إبراهيم بن أبي داود البرلسي وأحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، وأحمد بن مسعود الخياط مشايخ الطحاوي، وروط عنه الشافعي أيضًا فتارة يصرح باسمه، وتارة يقول: أخبرنا الثقة عن الأوزاعي، والدليل على ما ذكرنا أن البخاري ومسلمًا أخرجا أحاديث عائشة وأخذا من عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمَّد من غير هذا الوجه، فلم يخرجا حديث عائشة هذا لكونه منكرًا، فافهم. وعندي جواب آخر عن حديث عائشة ل إن كان صحيحا: أن عائشة كانت تقف في صف النساء، وصفهن متأخر عن صفوف الرجال، فيحتمل أنها سمعت من النبي - عليه السلام - تسليمة واحدة ولم تسمع الأخرى؛ ولهذا أكابر الصحابة حكوا عنه - عليه السلام - تسليمتين كما ذكرناه.

فإن قيل: روى ابن ماجه (¬1): عن أبي مصعب المديني أحمد بن أبي بكر، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - عليه السلام - سلم تسليمة واحدة". وروى عن (¬2): محمَّد بن الحارث المصري، عن يحيى بن راشد، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى، فسلم مرة واحدة". وروى البيهقي (¬3): من حديث عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، عن عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يسلم تسليمة واحدة". ومن حديث (¬4) نعيم بن حماد، عن روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة: "كان رسول الله - عليه السلام - يسلم في الصلاة تسليمة قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره". قلت: أما حديث سهل بن سعد فهو منكر، قال البخاري: عبد المهيمن بن عباس منكر الحديث، ولهذا لم يرو له الشيخان شيئا ولئن صح فهو محمول على أن سهلا كان صبيا وكان مقامه في الصلاة متأخرًا عن صفوف الرجال، فيحتمل أن يكون سمع من النبي - عليه السلام - تسليمة واحدة، كما ذكرنا في حديث عائشة. وأما حديث سلمة بن الأكوع فهو معلول بيحيى بن راشد؛ لأن ابن معين ضعفه. وأما حديث أنس فقد قال الذهبي: فرد غريب. وأما حديث سمرة ففي إسناده روح بن عطاء، فقال الذهبي: روح واهٍ. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 279 رقم 918). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 297 رقم 920). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 179 رقم 2812). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 179 رقم 2813).

على أن صاحب "التمهيد" قد عده من الأحاديث التي فيها تسليمتان. قوله: "منهم علي بن عبد الرحمن" وهو علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة بن نشيط القرشي المخزومي أبو الحسن الكوفي، ثم المصري المعروف بعلان أحد مشايخ الطحاوي. قوله: "وزعم أن فيها" أي زعم يحيى بن معين أن في رواية عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمَّد تخليطا كبيرًا -بالثاء المثلثة أو بالباء الموحدة- ومن جملة التخليط: أن هشام بن عروة كان يقول: كان يسلم تسليمة يسمعنا، ويقال: كان يسلم تسليما ويقال: تسليمة، ويقال: كان يسلم تسليمة واحدة. وقال الأثرم: سألت أحمد عن هذا الحديث، فقال: إنما يقول هشام: كان يسلم تسليمة يسمعنا. قيل له: إنهم يختلفون فيه عن هشام بعضهم يقول: تسليمًا وبعضهم يقول: تسليمة، قال: هذا أجود. فقد بين أحمد أن معنى الحديث يرجع إلى، أنه يسمعهم التسليمة الواحدة ومن روى تسليمًا فلا حجة لهم فيه؛ فإنه يقع على الواحدة والثنتين والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فإذا ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - ما ذكرت فبمن تعارضها في ذلك من أصحاب النبي - عليه السلام -؟ قيل له: بأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وقد روينا عنهما فيما تقدم من هذا الباب. ش: هذا سؤال من جهة الخصم، تقريره أن يقال: سلمنا أن حديث عائشة - رضي الله عنها - غير مرفوع، وأنه موقوف عليها, ولكنه إذا ثبت عنها فمن يعارض عائشة في ذلك من الصحابة؟ وتقرير الجواب: أن الأسود روى عن عبد الله بن مسعود قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم في

الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" وقد تقدم الحديث في هذا الباب، فهذا يعارض ما روي عن عائشة - رضي الله عنها -، وكذا روي عن غيرهما من الصحابة نحو ذلك على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، فالأخذ بأقوالهم أولى لقربهم من رسول الله - عليه السلام - في مكان الصلاة، وكثرة حفظهم لأفعاله - عليه السلام -. ص: حدثنا حسين بن نصر وعلي بن شيبة، جميعًا قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: "كان أبو بكر - رضي الله عنه - يسلم عن يمينه وعن شماله، ثم ينفتل ساعتئذ كأنه على الرضف". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووهب، قالا: ثنا شعبة وهمام (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا هشام، عن حماد ... فذكر بإسناده مثله. ش: أشار بهذا إلى ما روي من فعل أبي بكر - رضي الله عنه - مما يعارض ما روي عن عائشة من روايتها التي هي في الأصل موقوفة عليها. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن حسين بن نصر وعلي بن شيبة، كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن أبي الضحى مسلم بن صُبَيْح -بضم الصاد وفتح الباء الموحدة- عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر والثوري، عن حماد وجابر، عن أبي الضحى، عن مسروق: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم انفتل ساعتئذ كأنما كان جالسا على الرضف". قوله: "ثم ينفتل" أي ينصرف. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 242 رقم 3214).

قوله: "ساعتئذ" أي حينئذ، أي حين قوله: السلام عليكم. قوله: "على الرضف" بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة وفي آخره فاء، وهو الحجارة المحماة على النار، واحدها رضفة. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة وهشام الدستوائي، عن حماد، عن أبي الضحى، عن مسروق. الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن هشام، عن حماد، عن أبي الضحى، عن مسروق بن الأجدع. ص: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي رزين قال:"صليت خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فسلم عن يمينه وعن يساره". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال: "كان علي - رضي الله عنه - يسلم عن يمينه وعن شماله، قيل لسفيان: عليّ؟ قال: نعم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين قال: "صليت خلف علي وعبد الله - رضي الله عنهما - فسلما تسليمتين". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن شقيق بن سلمة، عن عليّ - رضي الله عنه -: "أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن شماله". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: أنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي: "أنه صلى خلف عليّ وابن مسعود - رضي الله عنهما - فكلاهما سلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن شقيق، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن شماله". ش: أخرج أثر علي بن أبي طالب الذي يخالف ما روي عن عائشة -وفي بعض طرقه عن ابن مسعود أيضًا- من ستة طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي رزين مسعود بن مالك الأسدي الكوفي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: "سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يسلم في الصلاة عن يمينه وعن شماله، والتي عن شماله أخفض". الثاني: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أبي رزين ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر والثوري، عن عاصم، عن أبي رزين: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني شيخ البخاري ... إلى آخره. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحراني شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية بن حديج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن شقيق بن سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 266 رقم 3052). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 219 رقم 3131).

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن علي - رضي الله عنه -، نحوه. الخامس: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان. عن همام بن يحيى، عن عطاء بن السائب بن مالك المدني، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي القارئ. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2): من طريق أبي وائل وأبي عبد الرحمن السلمي: "أن علي بن أبي طالب كان يسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". ومن طريق (1) أبي عبد الرحمن السلمي: "أن عبد الله بن مسعود كان يسلم في الصلاة تسليمتين". السادس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): من حديث الأعمش، عن شقيق، عن علي - رضي الله عنه -. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله: "أن أمير مكة صلى فسلم تسليمتين، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أترى من أين علقها؟ ". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 219 رقم 3132). (¬2) "المحلى" (4/ 131). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 266 رقم 3051).

ش: ذكر الطحاوي هذا مرة في هذا الباب، عن إبراهيم بن أبي داود، عن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن الحكم ومنصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، وذكر أن الحكم رفعه، وقد ذكرنا هناك أن مسلمًا أخرجه، ورجال هذا أئمة أجلاء. وعثمان بن أبي شيبة شيخ مسلم وأبي داود. وجرير بن عبد الحميد الرازي القاضي أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. والأعمش هو سليمان. ومالك بن الحارث السلمي الرقي روى له مسلم وأبو داود والنسائي. وعبد الرحمن بن يزيد النخعي أبو بكر الكوفي، روى له الجماعة. قوله: "أن أمير مكة" شرفها الله تعالى، هو نافع بن عبد الحارث. والدليل عليه ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء: "أنَّ نافع بن عبد الحارث -وهو أمير مكة- كان إذا سلم التفت فيسلم عن يمينه، ثم يسلم عن شماله، فبلغت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: أنى أخذها ابن عبد الحارث؟ ". فقال ابن جريج: وبلغني أن ابن مسعود قال: "أنى أخذها؟! فإني رأيت بياض وجه رسول الله - عليه السلام - من كلا الشقين إذا سلم". قوله: "من أين عَلقَها؟ " أي من أين أخذها، وقد مَرَّ الكلام فيه مستقصى عن قريب. ص: قال ابن أبي داود: قال يحيى بن معين: هذا من أصح ما روي في هذا الباب. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 220 رقم 3136).

ش: أي قال إبراهيم بن أبي داود البرلسي شيخ الطحاوي راوي الأثر المذكور، قال يحيى بن معين: هذا -أي أثر ابن مسعود المذكور- من أصح ما روي في باب "ما روي عن الصحابة في أن السلام في الصلاة مرتين" والله أعلم. والدليل عليه: أن مسلما أخرجه كما ذكرناه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: "كان عمّار - رضي الله عنه - أميرًا علينا سنة، لا يصلي صلاة إلا سلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". ش: إسناده صحيح، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله، وحارثة بن مضرب العبدي الكوفي وثقه يحيى، وقال أحمد: حسن الحديث. روى له الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: "صليت خلف عمار؛ فسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله". وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن أبي إسحاق، نحوه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن محبد الله بن بكير، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه: "أنه رأى سهل بن سعد الساعدي إذا انصرف من الصلاة سلم عن يمينه وعن شماله". ش: إسناده صحيح على شرط البخاري. وأبو حازم اسمه سلمة بن دينار الأعرج الأفزر المدني القاضي الزاهد الحكيم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) مرفوعًا: عن سهل بن سعد، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 266 رقم 3049). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 220 رقم 3134). (¬3) تقدم.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار - رضي الله عنهم -، ومن ذكرنا، معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم، لا ينكر ذلك عليهم غيرهم على قرب عهدهم برؤية رسول الله - عليه السلام - وحفظهم لأفعاله، فما ينبغي لأحد خلافهم لو لم يكن روي في ذلك عن النبي - عليه السلام - شيء، فكيف وقد روي عنه - عليه السلام - ما يوافق فعلهم - رضي الله عنهم -؟! ش: هذا ظاهر غني عن مزيد البيان. قوله: "أبو بكر" وما عطف عليه عطف بيان عن قوله: "أصحاب رسول الله - عليه السلام -" قوله: "لا ينكر ذلك ... إلى آخره" إشارة إلى أن الإجماع وقع على أن التسليم مرتان. ص: فإن أنكر منكر ما روينا عن أبي وائل عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يسلم في الصلاة تسليمتين". وما روينا عنه في ذلك عن عبد الله، واحتج لما أنكر من ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: "قلت لأبي وائل: أتحفظ التكبير؟ قال: نعم قلت: فالتسليم؟ قال: واحدة". قال: فكيف يجوز أن يحفظ هو التسليم واحدة! وقد رأى عليًّا وعبد الله يسلمان اثنتين؟! أفترى عَمَّن حفظ الواحدة عن غيرهما، وعنهما كان يحفظ، وبهما كان يقتضي؟ ففي ثبوت هذا عنه ما يجب به فساد ما رويتم عنه في التسليمتين. قيل له: إن الذي روينا عنه في التسليمتين صحيح، لم يدخله شيء في إسناده ولا في متنه، وذلك على السلام من الصلوات ذات الركوع والسجود، والذي أراده أبو وائل في حديث عمرو بن مرة من السلام مرة واحدة هو في الصلاة ذات التكبير، فإنه قد كان جماعة من الكوفين منهم إبراهيم يسلمون في صلواتهم على جنائزهم تسليمة

خفيفة، ويسلمون في سائر صلواتهم تسليمتين، وهكذا معنى حديث أبي وائل عندنا في ذلك والله أعلم. وهذا أولى أن يحمل عليه ما روي عنه من ذلك؛ حتى لا يضاد بعضه بعضا. ش: هنا اعتراض من جهة الخصم، تقريره أن يقال: إنكم قد رويتم عن علي - رضي الله عنه - في رواية أبي وائل شقيق بن سلمة عنه: أن السلام في آخر الصلاة مرتان، وعندنا ما ينافي هذا ويضاده، وذلك أن عمرو بن مرة، قال لأبي وائل: "أتحفظ التكبير؟ قال: نعم، قال: فالتسليم؟ قال: واحدة". فكيف يجوز أن يحفظ التسليم واحدة حال كونه رائيًا عليًّا وابن مسعود يسلمان ثنتين، فهل هو حفظ الواحدة عن غيرهما -والحال أنه كان يحفظ عنهما وبهما كان يقتدي ويتبع- فإذن في ثبوت ما ذكرنا فساد ما ذكرتم وبطلانه. وتقرير الجواب أن يقال: إن ما رويناه صحيح سندًا ومتنًا فلا يمكن إنكاره ودفعه، ولكن له محمل، وما رويتم له محمل، وهو أن ما رويناه محمول على السلام من الصلوات التي لها ركوع وسجود، والذي رويتم محمول على صلاة الجنازة، فإن جماعة الكوفيين -منهم إبراهيم النخعي- كانوا يسلمون في الصلاة على الجنازة تسليمة واحدة خفيفة. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد الملك بن إياس، عن إبراهيم قال: "تسليم السهو والجنازة واحدة". وروي ذلك. عن علي وابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -. قال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمير بن سعيد قال: "صلى علي - رضي الله عنه - على يزيد بن المكلف فكبر عليه أربعًا، وسلم تسليمة خفيفة عن يمينه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 388 رقم 4456). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 499 رقم 11492).

ثنا (¬1) علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا صلى على الجنازة رفع يديه فكبر، فإذا فرغ سلم على يمينه واحدة". ثنا (¬2) وكيع والفضل بن دكين، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنه كان يسلم على الجنازة تسليمة". ص: فإن قال قائل: فقد كان عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين يسلمون في صلاتهم تسليمة واحدة، وذكر في ذلك ما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن محمَّد. وعن أشعث، عن الحسن: "أنهما كانا يسلمان في الصلاة تسليمة واحدة حيال وجوههما". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن ابن عون، عن الحسن ومحمد: "تسليمة واحدة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد، عن سعيد، عن عمر بن عبد العزيز، مثله. قيل له: صدقت، قد روي هذا عن هؤلاء، وقد روي عمن قبلهم ممن ذكرنا ما يخالف ذلك، مع ما قد تواتر عن رسول الله - عليه السلام - مما قدمت ذكره في هذا الباب. ش: وجه هذا الإيراد: أنه قد روي عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومحمد بن سيرين أنهم كانوا يسلمون في صلواتهم تسليمة واحدة، وهذا أيضًا يدل على أن التسليم مرة واحدة. وأخرج ذلك عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ ابن نصر البصري قاضيها، عن عبد الله بن عون البصري، عن محمَّد بن سيرين. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 499 رقم 11491). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 499 رقم 11493).

وعن أشعث بن عبد الملك الحبراني البصري، عن الحسن البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن الحسن وابن سيرين: "أنهما كانا يسلمان تسليمة عن أيمانهما". وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن هشام بن حسان: "أن الحسن وابن سيرين كانا يسلمان في الصلاة واحدة". وأخرجه أيضًا عن إبراهيم بن مرزوق من وجهين: أحدهما: عنه عن سعيد بن عامر، عن عبد الله بن عون، عن الحسن البصري ومحمد ابن سيرين. وأخرجه عبد الرزاق (1) نحوه. والآخر: عن ابن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن سعيد بن أبي عروبة أبي النضر البصري، عن عمر بن عبد العزيز. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن سهل بن يوسف، عن حميد قال: "صليت خلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فسلم واحدة". وتقرير الجواب أن يقال: سلمنا ما ذكرتم من رواية هذا عن هؤلاء، ولكن قد روي عمن قبلهم من الصحابة ما يخالف ذلك، والأخذ به أول من وجهين: أحدهما: أن من قبلهم أكبر وأولى بالاتباع من هؤلاء، وهذا ما لا نزاع فيه. الآخر: أن ما روي عنهم قد تأكد بما قد روي عن النبي - عليه السلام - بروايات كثيرة مما ذكر في هذا الباب من أنه - عليه السلام - كان يسلم في آخر صلاته تسليمتين. فافهم. ص: وقد روى عن سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى -وهما من التابعين أكبر من أولئك- خلاف ما روي عنهم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 267 رقم 3070). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 222 رقم 3144). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 267 رقم 3069).

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن زهرة بن معبد قال: "كان سعيد بن المسيب يسلم عن يمينه وعن يساره". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم قال: "كنت أصلي مع ابن أبي ليلى، فسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". ش: أي قد روي عن سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري والحال أنهما من التابعين أكبر من أولئك أبي الحسن البصري وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز خلاف ما روي عنهم، أبي عن هؤلاء الثلاثة. وبين ذلك بما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن سعيد بن أبي أيوب واسمه مقلاص الخزاعي المصري، عن زهرة بن معبد بن عبد الله أبي عقيل المدني نزيل مصر. وعن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل بن دكين ووكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى: "أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم، السلام عليكم". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذان تابعيان معهما من القدم ومن الصحبة لجماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ما ليس للذي يخالفهما ممن ذكرنا في هذا الباب، فالذي روينا عنهما في ذلك أولى؛ لاقتدائهما بمن قبلهما ولموافقتهما لما قد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك، وهذا أيضًا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بـ"هذان" إلى سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى أراد أنهما من قدماء التابعين، وممن صحبا جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 297 رقم 3060).

بيان الأول: أن ميلاد سعيد بن المسيب قد كان لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - وقيل: لأربع، ووفاته كانت في سنة أربع وسبعين من الهجرة. وميلاد ابن أبي ليلى كان لست بقين من خلافة عمر - رضي الله عنه -، ووفاته كانت في سنة ثلاث وثمانين من الهجرة. وأما الحسن البصري فإن ميلاده كان لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -، ووفاته كانت في سنة عشر ومائة. وأما محمد بن سيرين فإن ميلاده كان لسنتين بقيتا من خلافة عثمان - رضي الله عنه -، ووفاته كانت في سنة عشر ومائة أيضًا. وأما عمر بن عبد العزيز فإن ميلاده كان في سنة إحدى وستين من الهجرة، ووفاته كانت في سنة إحدى ومائة من الهجرة. وبيان الثانى: أن سعيد بن المسيب كان زوج ابنة أبي هريرة، وكان أعلم الناس بحديثه، وكان أبو هريرة أكثر الصحابة حديثا، وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب، وهو أثبتهم في أبي هريرة. وقال قتادة: ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلال والحرام من سعيد بن المسيب. وقال سليمان بن موسى: كان سعيد بن المسيب أفقه التابعين. ويقال له: سيد التابعين، وقد قال الإِمام أحمد: سعيد بن المسيب أفضل التابعين. وقد قال الحاكم: إنه أدرك العشرة. وهو وهم. وروى عن عمر كثيرًا، وعن عثمان، وعلي، وسعد، وأبي هريرة، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وبلال، وجابر بن عبد الله، وجبير ابن مطعم، وحسان بن ثابت، وحكيم بن حزام، وزيد بن ثابت، وزيد بن خالد الجهني، وسراقة بن مالك، وصهيب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والمسور بن مخرمة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي قتادة، وأبي موسى الأشعري، وعائشة

أم المؤمنين، وأم سلمة زوج النبي - عليه السلام -، وأم شريك، وأسماء بنت عميس، وآخرين كثيرين من الصحابة. وأما ابن أبي ليلى فإنه أيضًا أدرك كثيرًا من الصحابة، وقال عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي - عليه السلام - كلهم من الأنصار. وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى في حلقة فيها نفر من أصحاب النبي - عليه السلام - يستمعون لحديثه وينصتون له، فيهم البراء بن عازب. قوله: "فالذي روينا عنهما" أبي عن سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى "في ذلك" أي في التسليم مرتين أولى؛ لاقتدائهما بمن قبلهما من الصحابة الذين روي عنهم أن التسليم مرتان. قوله: "ولموافقتهما" أي ولأجل موافقة سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى لما قد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - من أن التسليم مرتان، ولا شك أن الأخذ بما يوافق ما ثبت عن النبي - عليه السلام - أولى وأحق من الأخذ بما لا يوافقه، وهذا ظاهر لا نزع فيه، والله أعلم.

ص: باب: السلام في الصلاة هو من فرضها أم من سننها؟

ص: باب: السلام في الصلاة هو من فرضها أم من سننها؟ ش: أي هذا باب في بيان السلام في آخر الصلاة هل هو من فروض الصلاة أو من سننها؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي , قال: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مفتاح الصلاة الطهور، وإحرامها التكبير، وإحلالها التسليم". ش: الفريابي هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري، وقد تكرر ذكره. وعبد الله بن عَقِيل -بفتح العين- ابن أبي طالب القرشي المدني وفيه مقال، فقال ابن سعد: منكر الحديث لا يحتجون بحديثه. وعن يحيى: ليس حديثه بحجة. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وقال النسائي: ضعيف. وقال الترمذي: صدوق. وروى له أبو داود والترمذي. ومحمد بن الحنفية هو محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية واسمها خولة بنت جعفر بن قيس روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، عن على - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد وقتيبة ومحمود بن غيلان، قالوا: ثنا وكيع، عن سفيان. وثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 16 رقم 61). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 8 رقم 3).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) أيضًا: ثنا علي بن محمَّد، ثنا وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي (¬2) بلفظ الطحاوي. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬3) وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الترمذى: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمَّد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وقال أيضًا: سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمَّد بن عقيل، قال محمَّد: هو مقارب الحديث. وقال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: وفي الباب عن جابر وأبي سعيد. قلت: أما حديث جابر فأخرجه الترمذي (¬4) أيضًا: ثنا أبو بكر محمَّد بن زنجويه البغدادي وغير واحد، قالوا: أنا حسين بن محمَّد، قال: ثنا سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء". وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ابن ماجه (¬5): ثنا سويد بن سعيد، نا علي بن مسهر، عن أبي سفيان طريف السعدي. (ح) وثنا أبو كريب، نا أبو معاوية، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 101 رقم 275). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 15 رقم 2094). (¬3) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 223 رقم 457). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 10 رقم 4). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 101 رقم 276).

أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - قال: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". قوله: "مفتاح الصلاة" أي الذي تفتح الصلاة به، والمفتاح مفعال من الفتح، شبه الصلاة بالخزانة المقفولة على طريق الاستعارة بالكناية، وهي التي لا يذكر فيها سوى المشبه، ثم أثبت لها المفتاح على سبيل الاستعارة الترشيحية وهي ما يقارن ما يلائم المستعار منه. قوله: "الطهور" بفتح الطاء، وهو اسم لما يتطهر به، وهو بعمومه يتناول الماء والتراب، والظاهر أنه بضم الطاء؛ لأن المراد به الفعل. قوله: "وإحرامها التكبير" أي إحرام الصلاة بإتيان التكبير، فكأن المصلي بالتكبير والدخول فيها صار ممنوعًا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، فقيل للتكبير: إحرام وتحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك. قوله: "وإحلالها التسليم" أي تحليل الصلاة يكون بالسلام في آخرها، فكأن المصلي يحل له ما حرم عليه فيها بالتكبير من الأقوال والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها كما يحل للمُحْرِم بالحج عند الفراغ منه ما كان حرامًا عليه. ويستدل به على فرضية الطهارة لأجل الصلاة؛ لأن الشارع جعل الطهور مفتاحًا لها، فتكون الطهارة موقوفًا عليها، والصلاة موقوفة، فلما كان الموقوف فرضًا كان الموقوف عليه فرضًا مثله؛ لأنه شرط، والمشروط لا يوجد بدونه، واستدل به أصحابنا على فرضية تكبيرة الإحرام. فإن قيل: هذا خبر آحاد فكيف تثبت به الفرضية؟ قلت: أصل فرضية التكبير في أول الصلاة بالنص، وهو قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1)، وقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر} (¬2) غاية ما في الباب يكون الحديث ¬

_ (¬1) سورة الأعلى، آية: [15]. (¬2) سورة المدثر، آية: [3].

بيانا لما يراد به النص، واستدل به أبو يوسف على أن الشروع في الصلاة لا يصح إلا بألفاظ مشتقة من التكبير، وهي أربعة ألفاظ: الله أكبر، الله الأكبر، الله الكبير، الله كبير. واستدل الشافعي ومالك أنه لا يصير شارعًا إلا بلفظ واحد وهو: الله أكبر. وقال أبو حنيفة ومحمد: يصح الشروع بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، مثل: الله أكبر، الله أجل، الله أعظم، الرحمن أكبر، الرحمن الأجل، أو الحمد لله أو سبحان الله، أو لا أكبر إلا الله، لقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1) والمراد به ذكر اسم الرب لافتتاح الصلاة؛ لأنه عقب الصلاة الذكر بحرف التعقيب بلا فصل، فلا يجوز تقييده بلفظ مشتق من الكبرياء بأخبار الآحاد. ص: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا انصرف من صلاته بغير تسليم فصلاته باطلة؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قال: "تحليلها التسليم" فلا يجوز أن يخرج منها بغيره. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكا والشافعي وأحمد وأصحابهم، فإنهم ذهبوا إلى أن الرجل إذا انصرف من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة، حتى قال النووي: ولو أحل بحرف من حروف: "السلام عليكم، لم تصح صلاته، واستدلوا على ذلك بقوله - عليه السلام -: "تحليلها التسليم". وقال ابن قدامة: إذا فرغ من صلاته وأراد الخروج منها سلم عن يمينه ويساره، وهذا التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه، وبهذا قال مالك والشافعي، والواجب عندهم فرض، فلا فرق بينهما. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافترقوا في ذلك على قولين: منهم من قال: إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته وإن لم يسلم. ومنهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، وابن المسيب، وإبراهيم، وقتادة، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا، وابن جرير الطبري؛ فإنهم ذهبوا إلى أن التسليم ليس بفرض، حتى لو تركه لا تبطل صلاته، ولكن افترق هؤلاء أيضًا على قولين: فمنهم من قال: إذا قعد مقدار التشهد، فقد تمت صلاته، وإن لم يسلم حتى إذا أحدث في ذلك الوقت لا يضر صلاته، وليس عليه شيء، وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة في الصلاة فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم، وهو مذهب عطاء وإبراهيم، وإليه ذهب مالك أيضا, ولكن التسليم عنده فرض كما بينا، فحاصل مذهب مالك: أنه يرى بفرضية التسليم في آخر الصلاة، ولا يرى بفرضية الجلوس في آخر الصلاة. ص: وكان من الحجة للفريقين جميعًا على أهل المقالة الأول: أن ما روي عن النبي - عليه السلام - من قوله: "تحليلها التسليم" إنما روي عن علي - رضي الله عنه -، فقد روي عن علي - رضي الله عنه - من رأيه في مثل ذلك ما يدل على أن معنى قول رسول الله - عليه السلام - ذلك كان عنده على غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى. فذكروا ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي عوانة، عن الحكم، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا علي - رضي الله عنه - قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "وتحليلها التسليم" ولم يكن ذلك عنده على أن الصلاة لا تتم إلا بالتسليم إذ كانت تتم عنده بما هو قبل التسليم، وكان معنى "وتحليلها التسليم" عنده إنما هو التحليل الذي ينبغي أن يحل به لا بغيره، والتمام الذي لا يجب -بما يحدث بعده إعادة الصلاة- غيره. ش: أي كان من الدليل والبرهان لأهل المقالتين على أهل المقالة الأولى، ملخص هذا: أن استدلال أهل المقالة الأول بالحديث المذكور على ما ذهبوا

إليه غير صحيح؛ لأن هذا الحديث روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -، وروي عنه أيضًا من رأيه اجتهاده ما يدل على أن معنى قوله - عليه السلام -: "وتحليلها السلام" ليس على ما حمله أهل المقالة الأولى، وهو قوله: "إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته". وأخرجه بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن الحكم بن عتيبة، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي - رضي الله عنه -. فدل هذا أنه ليس معنى ما رواه عن النبي - عليه السلام - أن الصلاة لا تتم إلا بالتسليم؛ لأن تمام الصلاة عنده بشيء هو قبل التسليم، وهو رفع رأسه من آخر سجدة، فدل ذلك أن معنى قوله: "تحليلها التسليم" عنده هو التحليل الذي ينبغي أن يحل به لا بغيره. فافهم. قوله: "إذ كانت" كلمة "إذْ" للتعليل. قوله: "والتمام" مبتدأ وخبره قوله: "غيره" أي غير السلام، وقوله: "إعادة الصلاة" مرفوع بقوله: "لا تجب". وجواب أخر: أن الحديث المذكور من أخبار الآحاد، والفرضية لا تثبت بها، إلا أنا أثبتنا به الوجوب احتياطا. فإن قيل: لما أخرج البيهقي أثر علي - رضي الله عنه - قال: عاصم ليس بقوي، وعلي - رضي الله عنه - لا يخالف ما رواه، وإن صح عنه فمجموع ما رواه هو وغيره لا حجة في قول أحد من أمة النبي - عليه السلام - معه - عليه السلام -. قلت: عاصم وثقه ابن المديني وأحمد بن عبد الله، واحتج به الأربعة، وقوله: وعلي - رضي الله عنه - لا يخالف ما رواه، لخصمه أن يعكس الأمر ويجعل قوله دليلا على نسخ ما رواه؛ إذْ لا يظن به أن يخالف النبي - عليه السلام - إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رواه، وقد رُوِيَ عن جماعة من السلف كقول علي - رضي الله عنه -.

فروى عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، عن عطاء: "فيمن أحدث بصلاته قبل أن يتشهد، قال: حسبه فلا يعيد". وعن (¬2) ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء: "إذا رفع الإِمام رأسه من السجود في آخر صلاته فقد تمت صلاته وإن أحدث". وعن قتادة (¬3)، عن ابن المسيب: "فيمن يحدث بين ظهراني صلاته، قال: إذا قضى الركوع والسجود فقد تمت صلاته". وعن الثوري (¬4)، عن منصور قلت لإبراهيم: "الرجل يحدث حين يفرغ من السجود في الرابعة وقبل التشهد؟ قال: تمت صلاته". ثم هذا كله على تقدير تسليم صحة الحديث المذكور، إذْ لو اعتبرنا ما قالوا في ابن عقيل يسقط به الاحتجاج. فإن قيل: فما تقول في حديث الخدري الذي تقدم ذكره؟ قلت: في سنده أبو سفيان طريف السعدي، قال أبو عمر: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث، كذا في الإِمام، ثم على تقدير صحة الحديث قال أبو عمر: لا يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون إلا بالتسليم إلا بضرب من دليل الخطاب، وهو مفهوم ضعيف عن الأكثرين. ص: فإن قال قائل: فقد قال: "تحريمها التكبير" فكان هو الذي لا يدخل فيها إلا به، وكذلك لما قال: "وتحليلها التسليم" كان كهو أيضًا لا يخرج منها إلا به. قيل له: إنه لا يجوز الدخول في الأشياء إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، وقد يخرج من الأشياء من حيث أمران يخرج منها ومن غير ذلك، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 353 رقم 3674). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 354 رقم 3675). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 354 رقم 3676). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 354 رقم 3677).

أنا قد رأينا أن النكاح قد نهى أن يعقد على المرأة؛ وهي في عدة، وكان مَنْ عقده عليها وهي كذلك لم يكن بذلك مالكا لبضعها, ولا وجب له عليها نكاح، في شباه لذلك كثيرة يطول بذكرها الكتاب، وأمر ألا يخرج منه إلا بالطلاق الذي لا إثم فيه، وأن تكون المطلقة طاهرًا من غير جماع، وكان من طلق على غير ما أمر به من ذلك فطلق ثلاثا أو طلق امرأته حائضًا يلزمه ذلك وإن كان آثما، ويخرج بذلك الطلاق المنهي عنه من النكاح الصحيح، فكان قد بينت الأسباب التي تملك بها الأبضاع كيف هي، والأسباب التي تزول بها الأملاك عنها كيف هي، ونهوا عما خالف ذلك أو شيئًا منه، فكان من فعل ما نهي عنه من ذلك ليدخل به في النكاح لم يدخل به فيه، فإذا فعل شيئًا منه ليخرج به من النكاح خرج به منه، فلما كان لا يدخل في الأشياء إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، ويخرج منها من حيث أمر به من الخروج منها وبغير ذلك؛ كان كذلك النظر في الصلاة أن يكون كذلك، فيكون الدخول فيها غير واجب إلا بما أمر به من الدخول فيها، ويكون الخروج منها بما أمر به، مما يخرج به منها ومن غيى ذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالتكبيرة لقوله - عليه السلام -: "تحريمها التكبير" فكذلك لا يصح الخروج منها إلا بلفظ السلام لقوله - عليه السلام -: "وتحليلها التسليم". وتقرير الجواب ملخصا: أن الدخول في الأشياء لا يجوز إلا من حيث أمر به من الدخول فيها, ولكن الخروج منها يجوز أن يكون من حيث أمران يخرج منها، ويجوز أن يكون من غير ما أمر به أن يخرج منها، غاية ما في الباب يكون مسيئًا في ذلك، ونظير ذلك من الصور كثير، منها النكاح: فإنه نهى أن يعقد على المرأة إذا كانت في العدة، فالدخول فيه لا يصح إلا من حيث أمر به، وهو أن تكون المرأة خالية من الأزواج والموانع الشرعية، حتى إذا عقد عليها وهي في عدة لا يصير به الزوج مالكا لبضعها, ولا تثبت بذلك أمور الزوجية، ولكن الخروج في مثل هذه الصورة يجوز أن يكون من حيث أمر به أن يخرج منها ويجوز

أن يكون من غير ذلك، مثلا أمر الزوج أن يطلق امرأته طلاقًا لا إثم فيه، وتكون المرأة طاهرًا من غير جماع، فهذا هو الأمر الذي أمر فيه أن لا يخرج منه إلا به، ثم لو ترك هذا وخرج منه من غير ما أمر به، فإن طلقها ثلاث تطليقات دفعة واحدة، أو طلقها وهي حائض فإنه يقع طلاقه في الصورتين كما أوقعه، فهذا قد خرج منه من غير ما أمر به ولكنه كان مسيئًا. فعلم من ذلك أن حالة الخروج من الشيء لا تقتضي أن تكون على صفة حالة الدخول فيه، فإذا كان الأمر كذلك كان النظر والقياس في الصلاة أن يكون كذلك، فيكون الدخول فيها لا يصح إلا من حيث أمر به من الدخول فيها، فلا يصح الدخول فيها إلا بالتكبير، ويكون الخروج منها بما أمر به من السلام، وبغير ذلك من الأفعال التي تنافي الصلاة، فيكون هذا أيضًا صحيحًا ولكنه يكون مسيئًا لتركه السنه, والله أعلم. قوله: "من ذلك أنا قد رأينا" فقوله: "أنا رأينا" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "من ذلك"، وأشار بذلك إلى قوله: "وقد يخرج من الأشياء ... " إلى آخره. قوله: "وهي بذلك" أي والحال أن المرأة كذلك، أي في عدة الغير. قوله: "لم يكن بذلك" أبي بذلك العقد. قوله: "في أشباه لذلك" أبي في أمثال ونظائر لما ذكر من الصورة. قوله: "كثيرةٍ" بالجر صفة لقوله: "أشباه". قوله: "ويخرج بذلك الطلاق المنهي عنه" أبي يخرج المطلق بالطلاق الذي أوقعه ثلاثا أو في حالة الحيض، و"الطلاق" مجرور؛ لأنه بدل عن قوله: "بذلك" أو صفة له. فافهم. قوله: "فكان قد بُيِّنَهت" على صيغة المجهول من التبيين.

قوله: "يلزمه ذلك" خبر لقوله: "وكان من طلق على غير ما أمر به" وقوله: "مطلق ثلاثا" تفسير لما قبله. فافهم. ص: وكان ما احتج به من ذهب إلى أنه إذا رفع رأسه من أخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته بما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رفع رأسه من أخر سجدة فقد مضت صلاته إذا هو أحدث". حدثنا يزيد بن سنان ومحمد بن عباس اللؤلؤي، قالا: ثنا معاذ بن الحكم، عن عبد الرحمن بن زياد ... فذكر مثله بإسناده. ش: لما ذكر فيما مضى أن منهم من قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته، وإن لم يتشهد ولم يسلم، وهم: عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، أراد أن يبين احتجاجهم ثم يجيب عنه، وقد احتج هؤلاء فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، وأخرجه من طريقين: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي قاضيها، فيه مقال، فقال الترمذي: ضعيف. وعن أحمد: ليس بشيء. وعنه: منكر الحديث. وقال أحمد بن صالح: ثقة. وكان ينكر على من يتكلم فيه، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية، قال البخاري: في حديثه مناكير. وروى له من الأربعة غير النسائي. وعن بكر بن سوادة بن ثمامة الحذامي البصري، عن يحيى والنسائي: ثقة. روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

كلاهما يرويان عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا ابن المبارك، ثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رفع رأسه من آخر السجود ثم أحدث فقد تمت صلاته". والآخر: عن يزيد بن سنان القزاز ومحمد بن عباس اللؤلؤي، كلاهما عن معاذ بن الحكم بن رافع البجلي أبي سعيد البصري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ... إلى آخره. وأخرجه العدني: عن عبد الرزاق، عن الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، ولفظه: "إذا جلس الإِمام ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته". وقال البيهقي (¬2): ورواه معاذ بن الحكم، عن الإفريقي وزاد فيه: "وقضى تشهده"، والإفريقي واهٍ. ص: قيل لهم: إن هذا الحديث قد اختلف فيه، فرواه قوم هكذا، ورواه آخرون على غير ذلك. حدثنا إبراهيم بن منقذ وعلي بن شيبة، قالا: ثنا أبو عبد الرحمن المقرى، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي وبكر بن سوادة الجذامي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا قضى الإمام الصلاة فقعد فأحدث هو أو أحد ممن أتم الصلاة معه قبل أن يسلم الإمام، فقد تمت صلاته، فلا يعود فيها". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا معناه غير معنى الحديث الأول، وقد روي هذا الحديث أيضًا بلفظ غير هذا: ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 298 رقم 2252). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 139 رقم 2647).

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا معاذ بن الحكم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ... فذكر مثل حديث أبي بكرة، عن أتيت داود، عن ابن المبارك. قال معاذ: فلقيت عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، فحدثني به عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، فقلت له: لقيتهما جميعًا؟ فقال: كلاهما حدثني به، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته، فلا يعود لها". ش: أي قيل لهؤلاء القوم -الذين ذهبوا إلى، أن من رفع رأسه في آخر سجدة في صلاته فقد تمت صلاته وإن لم يتشهد ولم يسلم، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو-: إن هذا الحديث قد اختلفت فيه الناس، فرواه قوم هكذا أي كما ذكرنا في رواية أبي بكرة عن أبي داود الطيالسي، ورواية يزيد بن سنان، ومحمد بن عباس اللؤلؤي، عن معاذ بن الحكم، ورواه آخرون وهم: علي بن شيبة وإبراهيم بن منقذ العصفري ويزيد بن سنان القزاز على غير ذلك، أي على غير الوجه الذي رواه أولئك القوم. والحاصل أن هذا جواب عن الحديث المذكور بأنه مضطرب، فلا يقوم به الاحتجاج. وكذا قال الترمذي: وقد اضطربوا في إسناده. فالذي يفهم من كلام الطحاوي أن علة الحديث عنده كونه مضطربا, ولهذا لم يستدل بما رواه يزيد بن سنان، عن معاذ بن الحكم، عن الثوري ... إلى، آخره لأصحابنا فيما ذهبوا إليه من أن المصلي إذا قعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته، واستدل لهم على ذلك بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ لأنه سالم من الاضطراب. وغير الطحاوي أجاب عن الحديث المذكور بأنه ضعيف معلول بالإفريقي، فقال الدارقطني: عبد الرحمن بن زياد ضعيف لا يحتج به. وقال عبد الرحمن بن

أبي حاتم: هذا الحديث منكر، سمعت أبي يقول ذلك. وقال البخاري: عبد الرحمن ابن رافع التنوخي رواه، وفي حديثه مناكير. وقال الذهبي: في إسناده الإفريقي وهو واهٍ. وقال البيهقي: هذا الحديث ضعيف، وإن صح فإنما كان قبل أن يفرض التسليم، وقال الخطابي: هذا حديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم، ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد على ما رووه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، ثم لم يقووا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيممًا فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فقد فسدت صلاته، وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد: لا ينتقض الوضوء إلا أن يكون في صلاة، والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بيّن. قلت: نعم، الحديث مضطرب على ما أشار إليه الطحاوي، ولكن كلام الخطابي كله مدخول فيه، أما عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وإن كان ضعفه البعض فقد وثقه آخرون، فقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. وقال أحمد بن محمَّد ابن الحجاج بن رشدين، عن أحمد بن صالح قال مرة: من يتكلم في ابن أنعم فليس بمقبول، ابن أنعم من الثقات. وقال عباس بن محمَّد: سمعت ابن معين يقول: ليس به بأس. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: هو ثقة. وقال البخاري: روى عنه الثوري. وقال عبد الرحمن: ليس به بأس. وقال [الترمذي] (¬1): رأيت محمَّد بن إسماعيل يقوي أمره يقول: هو مقارب الحديث. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أحمد"، والمثبت من "تهذيب التهذيب" (6/ 159)، و"الكاشف" (1/ 627).

وقوله: "وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم" غير مسلم؛ لأن الاستدلال على فرضية السلام بقوله: "وتحليلها التسليم" غير صحيح على ما ذكرنا, ولأنه ليس فيه نفي التحليل بغير التسليم، إلا أنه خص التسليم لكونه واجبا، وبهذا يُدفع كلام البيهقي أيضًا: "وإن صح فإنما كان قبل أن يفرض التسليم"، ولأنه مجرد دعوى لا دليل عليها. وقوله: "ولا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهره ... " إلى آخره غير صحيح؛ لأن عطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن البصري وقتادة ذهبوا إلى ذلك، وأخذوا بظاهره كما بيناه، وأيضًا فإن أبا يوسف ومحمدًا من أصحابنا قالا به. وليس المراد من قوله في الحديث: "وقعد" نفس القعود بل المراد القعود قدر التشهد كما فسره في حديث روي عن عطاء عن ابن عباس كما نذكره عن قريب. وقوله: "لأنهم قالوا: إذا طلعت الشمس ... " إلى آخره، غير صحيح أيضًا؛ لأن بطلان الصلاة في هذه الصورة عند أبي حنيفة بناء على أن الخروج من الصلاة بفعل الصلي فرض، وليس لهذا تعلق بالحديث المذكور عند أبي حنيفة، وأما أبو يوسف ومحمد فلا يريان بطلان الصلاة في هذه الصور بهذا الحديث. فافهم. ثم الحديث الذي رواه عن إبراهيم بن منقذ وعلي بن شيبة، كلاهما عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله - عليه السلام - قال: إذا قضى الإِمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم فقد تمت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة". قوله: "إذا قضى الإِمام الصلاة" معناه إذا فرغ منها وقعد في آخرها، فأحدث قبل أن يتكلم فقد تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الفرائض. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 167 رقم 617).

وفيه حجة على من يرى التسليم فرضًا، وحجة لأصحابنا في المصلي إذا سبقه الحدث بعد ما قعد قدر التشهد، لا يضر ذلك صلاته فيقوم ويتوضأ ويسلم لأنه لم يبق عليه إلا التسليم، فيأتي به. وإن تعمد الحدث في هذه الحالة أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان. ومما يؤيد ذلك ما رواه أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "الحلية" (¬1): في ترجمة عمر بن ذر: حدثنا محمَّد بن المظفر، ثنا صالح بن أحمد، ثنا يحيى بن مخلد المفتي، ثنا عبد الرحمن بن الحسن أبو مسعود الزجاج، عن عمر بن ذر، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا فرغ من التشهد أقبل علينا بوجهه وقال: من أحدث بعد ما فرغ من التشهد فقد تمت صلاته". وما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا جلس الإِمام في الرابعة ثم أحدث فقد تمت صلاته، فليقم حيث شاء". قوله: "وقد روى هذا الحديث" أراد به حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه إبراهيم بن منقذ، ثم بين هذه الرواية بقوله: "حدثنا يزيد بن سنان ... إلى آخره". قوله: "فذكر مثل حديث أبي بكرة عن أبي داود" أبي ذكر يزيد بن سنان في حديثه في هذه الرواية مثل حديث أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك. قوله: "قال معاذ" أبي معاذ بن الحكم المذكور. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (5/ 117). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 233 رقم 8469).

وأخرجه الترمذي (¬1) أيضًا، وقال: ثنا أحمد بن محمَّد، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة أخبراه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أحدث -يعني الرجل- وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم، فقد جازت صلاته". ص: واحتج الذين قالوا: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها بمقدار التشهد بما قد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، وأبو غسان -واللفظ لأبي نعيم- قال: ثنا زهير بن معاوية، عن الحسن بن حرّ، قال: حدثني القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - عليه السلام - أخذ بيده وعلمه التشهد. فذكر التشهد على مثل ما ذكرنا عن عبد الله في باب التشهد، وقال: "فإذا فعلت ذلك وقضيت هذا فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا الحسن بن حرّ ... فذكر مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو معشر البراء، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - ... ثم ذكر التشهد وقال: "لا صلاة إلا بتشهد"، فرووا ما ذكرنا من قول النبي - عليه السلام -. ثم رووا من قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ما قد حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وكيع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "التشهد انقضاء الصلاة، والتسليم إذن بانقضائها". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 261 رقم 408).

ش: أي احتج الفريق الذين قالوا -وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، ومن كان معهم ممن ذكرناهم فيما مضى-: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها قدر التشهد، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه عن أربع وجوه: ثلاثة مرفوعة، وواحد موقوف على ابن مسعود: الأول: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وعن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، كلاهما عن زهير بن معاوية بن حديج، عن الحسن بن حر بن الحكم النخعي الكوفي، عن القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي، عن علقمة بن قيس الكوفي. وهذا إسناد صحيح، ورجاله أئمة ثقات. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، ثنا زهير، نا الحسن بن حرّ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - عليه السلام - أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة ... فذكر مثل دعاء حديث الأعمش، إذا قلت هذا -أو قضيت هذا- فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". الثاني: عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن الحسن بن حر ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2): أنا أبو عروبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو البجلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا الحسن بن حرّ، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني: "أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن النبي - عليه السلام - أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة: التحيات لله، والصلوات ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 254 رقم 970). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 291 رقم 1961).

والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" قال زهير: غفلت حين كتبته من الحسن. فحدثني من حفظه عن الحسن بنفسه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" قال زهير: ثم رجعت إلى حفظي: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ الأربعة، عن أبي معشر يوسف بن يزيد العطار البراء، سمي به لأنه كان يبري النبل، وقيل: العود، روى له الشيخان. عن أبي حمزة -بالحاء المهملة، والزاي المعجمة- واسمه محمَّد بن ميمون السكري (¬1)، روى له الجماعة. عن إبراهيم النخعي، عن علقمة. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا محمَّد بن مرداس، قال: ثنا محبوب بن الحسن، قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "كان النبي - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: تعلموها فإنه لا صلاة إلا بتشهد، يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات ... " إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا عبدان بن أحمد، ثنا زيد بن الحرشي، ثنا صفدي بن سنان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "كان النبي - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بالتشهد". ¬

_ (¬1) تقدم مرارًا أنه أبو حمزة ميمون الأعور القصاب الكوفي. وهو المشهور بالرواية عن إبراهيم النخعي. (¬2) "مسند البزار" (5/ 17 رقم 1571). (¬3) "المعجم الكبير" (10/ 51 رقم 9922).

وهذا ظاهره متروك؛ بدليل حديث الأعرابي، والفرضية لا تثبت بخبر الآحاد، غاية ما في الباب تثبت به السنة، كما في قوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يسم" و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وذهب إلى ظاهره أحمد وأبو ثور والليث وآخرون. وكذا قال الشافعي في التشهد الأخير. الرابع: وهو الموقوف أخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان، عن أبي وكيع الجراح بن مليح، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي، عن عبد الله. وأخرج البيهقي (¬1): من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال عبد الله: "مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإِمام فقم إن شئت" ومعنى اللفظين في الحقيقة واحد على ما لا يخفى، فقوله: "التشهد انقضاء الصلاة" يعني تنقضي الصلاة بالقعود مقدار التشهد، فهذا يدل على فرضية القعدة في آخر الصلاة؛ لأن ما ينقضي به الفرض فهو فرض بخلاف السلام، فإنه لا ينقضي به الفرض، وإنما هو إذن بانقضائه، أي: إعلام به. وبقي الكلام في الحديث الأول من وجهين: الأول: أن الخطابي زعم أنهم اختلفوا في هذا الكلام هل هو من قول النبي - عليه السلام - أو من قول ابن مسعود؟ فإن صح مرفوعًا إلى النبي - عليه السلام - ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي في التشهد غير واجبة. وقال البيهقي بعد أن روى هذا الحديث: الأصح أنه من قول ابن مسعود، يعني قوله: "فإذا فعلت ذلك أو قضيت هذا ... " إلى آخره. وقال ابن حبان بعد أن أخرجه (¬2): وقد أوهم هذا الحديث من لم يُحكم الصناعة أن الصلاة على النبي - عليه السلام - ليست بفرض. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (173/ 2 رقم 2790). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 291 رقم 1959)، وهو الحديث الذي قبل هذا.

فإن قوله: "إذا قلت هذا" زيادة أخرجها زهير بن معاوية في الخبر عن الحسن ابن حر. ثم قال: ذكر بيان أن هذه الزيادة من قول ابن مسعود لا من قول النبي - عليه السلام - وأن زهيرًا أدرجه في الحديث. ثم أخرجه (¬1): عن ابن ثوبان، عن الحسن بن حر، عن القاسم بن مخيمرة به سندًا ومتنا، وفي آخره قال ابن مسعود: "فإذا فرغت من هذا فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف". ثم أخرجه (¬2): عن حسين بن علي الجعفي، عن الحسن بن حر، به، وفي آخره: قال الحسن: وزادني محمَّد بن أبان بهذا الإسناد قال: "فإذا قلت هذا فإن شئت فقم". قال: ومحمد بن أبان ضعيف قد تبرأنا من عهدته في كتاب "الضعفاء". وقال الدارقطني في "سننه" (¬3) بعد أن أخرجه: هكذا أدرجه بعضهم في الحديث عن زهير، ووصله بكلام النبي - عليه السلام -، وفصله شبابة بن سَوَّار عن زهير فجعله من كلام ابن مسعود، وهو أشبه بالصواب؛ فإن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن حر كذلك وجعل آخره من كلام ابن مسعود، ولاتفاق حسين الجعفي، وابن عجلان، ومحمد بن أبان في روايتهم عن الحسن بن حر على ترك ذكره في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك، ثم ساق جميع ذلك بالأسانيد وفي آخره: قال ابن مسعود: "إذا فرغت من هذا ... " إلى آخره. والجواب عن ذلك جميعه من وجوه: ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (5/ 293 رقم 1962). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 294 رقم 1963). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 352 رقم 11).

الأول: أن أبا داود روى ل هذا الحديث وسكت عنه، ولو كان فيه ما ذكروه لنبه عليه؛ لأن عادته في كتابه أن يلوح على مثل هذه الأشياء، وكذلك الطحاوي سكت عن هذا ولم يلوح عليه. الثاني: زعم أبو زيد الدبوسي وغيره أن هذه الزيادة رواها أبو داود الطيالسي، وموسى بن داود الضبي، وهاشم بن القاسم، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن يحيى النيسابوري في آخرين متصلًا، فرواية من رواه مفصولا لا تقطع بكونه مدرجًا؛ لاحتمال أن يكون نسيه ثم ذكره، فسمعه هؤلاء متصلًا، وهذا منفصلًا، أو قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - فُتْيا كعادته، وقد وجدنا في حديث الإفريقي الذي مضى ذكره عن قريب ما يدل على صحة هذا. الثالث: أن ابن ثوبان الذي ذكره البيهقي وابن حبان قد ضعفه ابن معين، والبيهقي بنفسه ذكره في باب "التكبير أربعًا". وكذلك غسان بن الربيع الذي روي عن ابن ثوبان ضعفه الدارقطني وغيره، وبمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلًا بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفًا، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع؛ لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي - عليه السلام - فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه؛ إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوه، ثم لو سلمنا حصول الوهم في رواية من أدرجه لا يتعين أن يكون الوهم من زهير بل ممن رواه عنه؛ لأن شبابة رواه عنه موقوفًا. الوجه الثاني: في استنباط الأحكام منه وهو على وجوه: الأول: أنه ينافي فرضية الصلاة على النبي - عليه السلام - في الصلاة؛ لأنه - عليه السلام - علق التمام بالقعود، وهو حجة على الشافعي؛ لأن قوله: "إذا فعلت ذلك" إشارة إلى التشهد والمعنى: إذا قرأت التحيات، "أو قضيت هذا" أي القعود، وحاصل المعنى: إذا

قرأت التشهد وأنت قاعد؛ لأن قراءة التشهد في غير الصلاة لم تشرع، ولم تعتبر أو قعدت ولم تقل، فيكون التخيير في القول لا في الفعل؛ إذ الفعل ثابت في الحالين، وكل منهما لا يدل على وجوب الصلاة عليه - عليه السلام -. وأيضًا أنه - عليه السلام - علّم التشهد لعبد الله بن مسعود، ثم أمر عقيبه أن يتخير من الدعاء ما يشاء، ولم يعلم الصلاة عليه، ولو كانت فرضًا لعلمه؛ إذ موضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، وأيضًا لما علم الأعرابي أركان الصلاة لم يعلمه الصلاة عليه، ولو كانت فرضًا لعلمه إياها، وكذا لم ترد في تشهد أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن أوجبها فقد خالف الآثار. وقالت جماعة من أهل العلم: إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة، وليس له سلف يقتدي به، منهم ابن المنذر وابن جرير الطبري، والطحاوي، وهو يستدل بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} (¬1) والأمر للوجوب، فلا تجب خارج الصلاة فتعينت الصلاة، وليس في الآية دلالة على ما قال؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، بل يجب في العمر مرة؛ كما اختاره الكرخي، أو كلما ذكر اسم النبي - عليه السلام - كما اختاره الطحاوي - رحمه الله -. الثاني: أنه ينافي فرضية السلام في الصلاة؛ لأنه - عليه السلام - خير المصلي بعد القعود بقوله: "إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وهو حجة على الشافعي أيضًا حيث فرض السلام. الثالث: احتج به أصحابنا على فرضية القعدة الأخيرة؛ وذلك لأنه - عليه السلام - علق تمام الصلاة بالقعود، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وهو حجة على مالك حيث لم يفترض القعدة الأخيرة. فإن قيل: "أو" الأحد الشيئين، وليس فيه دلالة على ما ادعيتم؟ قلت: جوابه ما ذكرنا من قولنا: وحاصل المعنى ... إلى آخره. فإن قيل: كيف تثبت الفرضية بخبر الواحد؟ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [56]

قلت: ليس الثبوت به، بل هو بالكتاب؛ لأن نفس الصلاة ثابتة به، وتمامها منها بالخبر بيان لكيفية الإتمام، والبيان به يصح كما في مسح الرأس. الرابع: احتج به أبو يوسف ومحمد والإثنا عشرية المشهورة: أن الصلاة لا تبطل فيها؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فاعتراض العوارض عليه كاعتراضها بعد السلام والله أعلم. ص: ثم قد روي عن النبي - عليه السلام - أيضًا ما يدل على أن ترك السلام غير مفسد للصلاة، وهو أن رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر خمسًا، فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله فسجد سجدتين. حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسدًا للصلاة؛ لأنه لو رآه مفسدا لها إذًا لأعادها، فلما لم يعدها وقد خرج منها إلى خامسة لا بتسليم، دل ذلك أن السلام ليس من صلبها، ألا ترى أنه لو كان جاء بالخامسة وقد بقي عليه مما قبلها سجدة كان بذلك يفسد الأربع؛ لأنه خلطهن بما ليس منهن، فلو كان السلام واجبا كوجوب السجود في الصلاة لكان حكمه أيضًا كذلك، ولكنه بخلافه فهو سنة. ش: هذا بيان الحجة لمن قال السلام في آخر الصلاة سنة، على من قال: إنه فريضة، وقد بين ذلك بحديث عبد الله بن مسعود الذي رواه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ... إلى آخره. ورواته كلهم ثقات قد تكرر ذكرهم.

والحديث أخرجه الجماعة (¬1) بوجوه متعددة، وبألفاظ مختلفة [كما سنذكره] في بابه، باب الرجل يشك في صلاته إن شاء الله تعالى، والباقي غني عن الشرح. ص: وقد روي أيضًا في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعًا، فليبن علي اليقين ويدع الشك، فإن كانت صلاته نقصت فقد أتمها، وكانت السجدتان ترغمان الشيطان، وإن كانت صلاته تامة كان ما زاد والسجدتان له نافلة". فقد جعل رسول الله - عليه السلام - الخامسة زائدة، والسجدتن اللتين تطوعًا, ولم يجعل ما تقدم من الصلاة بذلك فاسدًا إذ كان المصلي قد خرج منها البتة، فثبت بذلك أن الصلاة تتم بغير تسليم، وأن التسليم من سننها لا من صلبها. ش: حديث أبي سعيد الخدري أيضًا من جملة الدليل لمن قال بسنية السلام على من قال بفرضيته، وسيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى؛ فلذلك علقه ها هنا ولم يسنده. وأخرجه مسلم، (¬2) وأبو داود، (¬3) النسائي، (¬4) وابن ماجه (¬5)، على ما يجيء إن شاء الله تعالى. قوله: "ترغمان" أي تغيضان وتذلان من الرغام وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 157 رقم 396)، "صحيح مسلم" (1/ 401 رقم 572)، "سنن أبي داود" (1/ 268 رقم 1019)، "جامع الترمذي" (2/ 238 رقم 392)، "المجتبى" (3/ 31 رقم 1254)، "سنن ابن ماجه" (1/ 380 رقم 1205). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 400 رقم 571). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 269 رقم 1024). (¬4) "المجتبى" (3/ 27 رقم 1238). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 382 رقم 1210).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان تصحيح معاني الآثار في هذا الباب يوجب ما ذهب إليه الذين قالوا: لا تتم الصلاة حتى يقعد فيها مقدار التشهد. لأن حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد احتمل ما ذكرنا، واختلف في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - عليه السلام -على ما وصفنا, ولم يبق إلا حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو الذي يختلف فيه. ش: أراد أن الآثار التي ذكرت في هذا الباب إذا نُظر فيها وصحح معانيها ظهر أن الذي ذهب إليه من قال: لا تتم الصلاة إلا بالقعود مقدار التشهد هو الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تبعه في ذلك؛ وذلك لأن حديث علي - رضي الله عنه - الذي رواه محمد بن الحنفية عنه عن النبي - عليه السلام - قد بينا أنه لا يصلح أن يكون دليلا على أن يكون تمام الصلاة بالسلام، ولا لفرضية السلام. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قد بينا أنه مضطرب مختلف فيه، ولم يبق من ذلك سالمًا إلا حديث عبد الله بن مسعود الذي لم يختلف فيه، والاحتمال ينافيه؛ فحينئذ ثبت به قول من ذهب إلى أن الصلاة لا تتم إلا بالقعود قدر التشهد، وأنها تتم بدون السلام. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر؛ فإن الذين قالوا: إنه إذا رفع رأسه من آخر سجدة من صلاته فقد تمت صلاته، قالوا: إنا رأينا هذا القعود قعودا للتشهد، وفيه ذكر يُتَشَهَّد به، وتسليم يُخْرج به من الصلاة، وقد رأينا قبله في الصلاة قعودًا فيه ذكر يُتَشَهَّد به، فكل قد أجمع أن ذلك القعود الأول وما فيه من الذكر ليس هو من صلب الصلاة بل هو من سننها. ثم اختلفوا في القعود الأخير، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كالقعود الأول ويكون ما فيه كما في القعود الأول فيكون سنة، وكل ما يفعل فيه سنة كما كان القعود الأول سنة وكل ما يفعل فيه سنة، وقد رأينا القيام الذي في كل الصلاة، والركوع، والسجود

الذين فيها أيضًا كله كذلك؛ فالنظر على ما ذكرنا أن يكون القعود فيها أيضًا كله كذلك، فكما كان بعضه باتفاقهم سنة؛ كان ما بقي منه كذلك أيضًا في النظر. ش: هذا الوجه من النظر والقياس للفريق الذين ذهبوا إلى أن المصلي إذا رفع رأسه من السجدة في آخر الصلاة تمت صلاته ولا يبقى عليه شيء، وبين ذلك بوجهين: أشار إلى الأول بقوله: "إنا رأينا هذا القعود قعودًا" إلى قوله: "وكل ما يفعل فيه سنة". وإلى الثاني بقوله: "وقد رأينا القيام ... إلى آخره"، وإنما خَصَّ هؤلاء بالذكر لهم بيان النظر والقياس؛ لأن الفريقين الآخرين متفقون في فرضية القعود في آخر الصلاة مقدار التشهد، وإنما الخلاف بينهم في لفظ السلام كما بيناه. فافهم. ص: فاحتج عليهم الآخرون فقالوا: قد رأينا القعود الأول من قام عنه ساهيا فاستتم قائمًا أمر بالمضي في قيامه ولم يؤمر بالرجوع إلى القعود. ورأينا من قام من القعود الأخير ساهيا فاستتم قائمًا أمر بالرجوع إلى القعود. قالوا: فما يؤمر بالرجوع إليه بعد القيام عنه فهو فرض، وما لم يؤمر بالرجوع إليه بعد القيام عنه فليس ذاك بفرض، ألا ترى أن من قام وعليه سجدة من صلاته حتى استتم قائمًا أمر بالرجوع إلى ما قام عنه؛ لأنه قام فترك فرضًا، فأمر بالعود إليه، فكذلك القعود الأخير لما أمر الذي قام عنه بالرجوع إليه كان ذلك دليلًا أنه فرض، فلو كان غير فرض إذًا لما أمر بالرجوع إليه كما لم يؤمر بالرجوع إلى القعود الأول. ش: هذا جواب عن وجه النظر الذي ذكره هؤلاء المذكورون، ملخصة أن يقال: الذي ذكرتم من قياس القعود الأخير على الأول في عدم الفرضية فاسد؛ لأنا وجدنا دليلًا يفرق بينهما بأن يجعل الأول سنة، والثاني فرضًا، وهو قوله:

"قد رأينا القعود الأول من قام عنه حال كونه ساهيا ... إلى آخره" وهو ظاهر غني عن الشرح. ولكن لهم أن يقولوا نحن ما نوجب الرجوع إلى القعود في الحالتين فيصح حينئذ القياس، ويمكن أن يجاب بأن الرجوع وإن لم يكن فرضًا لأجل القعود يكون فرضًا لأجل الخروج من الصلاة بالتسليمة إن كانوا يرونها فرضًا، وبغيرها إن لم يروها فرضًا، وفيه نظر لا يخفى. فافهم. ص: فكان من الحجة عليهم للآخرين: أنه إنما أمر اللي قام من القعود الأول حتى استتم قائمًا بالمضي في قيامه، وأن لا يرجع إلى قعوده؛ لأنه قام من قعود غير فرض فدخل في قيام فرض، فلم يؤمر بترك الفرض والرجوع إلى غير الفرض، وأمر بالتمادي على الفرض حتى يتمه، وكان لو قام عن القعود الأول فلم يستتم قائمًا أمر بالعود إلى القعود؛ لأنه لما لم يستتم قائما فلم يدخل في فرض فأمر بالعود مما ليس بسنة ولا فرض إلى القعود الذي هو سنة، فكان يؤمر بالعود مما ليس بسنة ولا فريضة إلى ما هو سنة، ويؤمر بالعود من السنة إلى ما هو فريضة. وكان الذي قام من القعود الأخير حتى استتم قائما داخلا لا في سنة ولا في فريضة، وقد قام من قعود هو سنة فأمر بالعود إليه، وترك التمادي فيما ليس سنة ولا فريضة، كما أمر اللي قام من القعود الأول الذي هو سنة فلم يستتم قائمًا فيدخل في الفريضة أن يرجع من ذلك إلى القعود الذي هو سنة، فلهذا أمر الذي قام من القعود الأخير حين استتم قائمًا بالرجوع إليه. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب لا ما قال الآخرون، ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ذهبوا في ذلك إلى قول الذين قالوا: إن القعود الأخير مقدار التشهد من صلب الصلاة. ش: لما أجاب عن وجه النظر والقياس الذي ذكره أولئك القوم فيما ذهبوا إليه، بَيَّنَ ها هنا وجه النظر والقياس الصحيح الذي ذكره مخالفوهم، وفي هذا أيضًا جواب

عن النظر الذي ذكره أولئك القوم مع بيان القياس الصحيح، ولهذا رأيت في بعض النسخ قد ذكر فيه قوله: "فاحتج عليهم الآخرون" إلى قوله: "أمر بالرجوع إلى القعود الأول" فقط ولم يزد عليه وذكر عقيبه: "ولكن أبا حنيفة ... " إلى آخره، وفي بعض النسخ ذكر قوله: "فكان من الحجة عليهم للآخرين ... " إلى آخره فقط من غير ذكر قوله: "فاحتج عليهم الآخرون". وفي بعضها ذكر ذا وذا، وهو الأكثر. ووجهه ما ذكرنا وللقائل أن يقول: قوله: "فدخل في قيام فرض" غير مسلم؛ لأن القيام الفرض هو الذي يكون عقيب القعود، وهذا القيام في حكم القعود، ولهذا يؤمر بالرجوع إذا لم يحصل كماله. ص: وقد قال بما قالوا من ذلك بعض المتقدمين: حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن يونس، عن الحسن: "في الرجل يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر سجدة، قال: لا تجزئه حتى يتشهد أو يقعد قدر التشهد". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن سابق الرشيدي، قال: ثنا حيوة بن حدثنا عن ابن جريج قال: "كان عطاء يقول: إذا تشهد الرجل التشهد الأخير فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأحدث -وإن لم يكن سلم عن يمينه وعن يساره- فقد تمت صلاته، أو قال: فلا يعود إليها". ش: أي قد قال بما قال الفريقان من ذلك أي من وجوب القعدة الأخيرة وعدم وجوب التسليمة بعض المتقدمين من السلف، فممن قال بوجوب القعدة الأخيرة منهم: الحسن البصري. أخرج ذلك عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التميمي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الحسن البصري.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: "إذا رعف بعد ما يفرغ من السجدة الأخيرة فلينصرف وليتوضأ, فليرجع فليتشهد ما لم يتكلم، فإن تكلم استأنف الصلاة" وقد روي عن الحسن خلافة أيضًا، قال ابن أبي شيبه في "مصنفه" (¬2): ثنا حفص، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "إذا رفع رأسه ثم أحدث فقد أجزأته صلاته". وكذ روى عن إبراهيم (¬3): ثنا حفص، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم قال: "إذا أتم الركوع والسجود، ثم أحدث فقد انقضت صلاته، وإن لم يتشهد". وممن قال بعدم وجوب التسليمة: عطاء بن أبي رباح. أخرجه عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن سعيد بن سابق بن الأزرق الرشيدي مولى عبيد الله بن حجاب يكنى أبا عثمان، ذكره ابن يونس في علماء مصر، وسكت عنه، والظاهر أن نسبته إلى رشيد بلدة بساحل مصر قريبة من الإسكندرية. وهو يروي عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، روى له الجماعة. عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي أحد مشايخ أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 233 رقم 8475). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 233 رقم 8471). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 233 رقم 8474).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن ابن جريج، عن عطاء، نحوه. وأخرج عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) بخلاف ذلك: عن ابن جريج، عن عطاء: "في رجل أحدث في صلاته قبل أن يتشهد، قال: فحسبه فلا يعد". والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (8476). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 353 رقم 3674). (¬3) وكتب المؤلف -رحمه الله-: فرغت يمين مؤلفه عن تبييضه وتنقيحه يوم الأربعاء السادس والعشرين من ربيع الآخر عام تسعة عشر وثمانمائة بحارة كتامة بالقاهرة المحروسة بمدرسته التي أنشأها فيها عمرها الله بذكره، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا إتمامه، بحرمة محمَّد وآله الكرام عليه أفضل السلام. يتلوه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله: باب الوتر.

ص: باب: الوتر

بسم الله الرحمن الرحيم ص: باب: الوتر ش: أي هذا باب في بيان الوتر وأحكامه، والمناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله التي فيها أحكام الفرائض هي أن اتصاله بالفرض أقوى من اتصال النفل به، وهو في اللغة خلاف الشفع. وفي "العباب": الوتْر -بالكسر- الفرد، والوَتر-بالفتح-: الذَّحْل، هذه لغة أهل العالية، فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم، وأما تميم (¬1) فبالكسر فيهما، وقرأ الكوفيون -غير عاصم-: "والشفع والوتر" بكسر الواو. وقال يونس في كتاب "اللغات": وتَرتُ الصلاة مثل أوتَرْتُها، وفي الحديث: "يا أهل القرآن أوْتِروا، فإن الله وتر يحب الوتر" (¬2)، وكذلك: أوترت القوس ووتّرتُها أيضًا توتيرًا بمعنى إذا جعلتَ عليها الوَتَرَ بالتحريك. ص: حدثنا ابراهيم بن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة (ح). وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيية، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح، قال: سمعت أبا مجلز يُحدّثُ عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر آخر الليل". حدثنا سليمان بن شعيب الكَيْساني، قال: أنا عبد الرحمن بن زياد، قال: أنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا مجلز فذكر مثله. حدثنا سليمان، قال: أنا الخَصِيبُ بن ناصح، قال: أنا همام، عن قتادة، عن أبي مجلز قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك"، والمثبت من "لسان العرب" (5/ 274)، و"عمدة القاري" (7/ 2). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" (2/ 61 رقم 1416)، والنسائي في "المجتبى" (3/ 228 رقم 1675)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 370 رقم 1169) كلهم من حديث علي - رضي الله عنه -.

يَقُول: الوتر ركعة من آخر الليل. وسألت ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: قال رسول الله - عليه السلام -: ركعة من آخر الليل". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم البُرلّسي، عن علي بن الجعْد الجوهري أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري وآخرين، عن شعبة، عن أي التَّيَّاح -بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة- واسمه يزيد بن حُميد, عن أبي مجلز -بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام وفي آخره زاي معجمة- واسمه لاحق بن حميد، عن ابن عمر. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن يحيى، قال: ثنا وهبُ بن جرير -ثم ذكر كلمة- قال: ثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح؟ عن أبي مجلز ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي التياح ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث شعبة، عن أبي التياح، عن أبي مجلز، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الوتر ركعة من آخر الليل". الثالث: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيْساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة بن دعامة السدوسي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬3): نا ابن مثنى، نا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر ركعة من آخر الليل". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 333 رقم 1689). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 23 رقم 4545). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 232 رقم 1689).

الرابع: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد- بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي مجلز ... إلى آخره. وأخرجه مُسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا همام قال: ثنا قتادة، عن أبي مجلز قال: "سألت ابن عباس ... " إلى آخره نحوه سواء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقلَّدوه وجعلوه أصلًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء ابن أي رباح، وسعيد بن المسيب، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق، وداود بن علي فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث وجعلوه أصلًا في الإيتار بركعة، إلا أن مالكًا قال: ولابد أن يكون معها شفع -ليُسلّم بينهن- في الحضر والسفر. وعنه: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وكذا فعله سحنون في مرضه. وقال ابن العربي: أقل النفل عند الشافعي ركعة، وحقيقة مذهبه تكبيرة، فإنه عنده لو كبَّر لصلاة، ثم بدا له في تركها فخرج عنها، كتب له ثواب التكبيرة، وليس له أصل، وأما ركعة واحدة فلم تشرع إلا في الوتر، وفعله أبو بكر وعمر، ورُوي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس (¬2) وأبي موسى وابن الزبير، وعائشة - رضي الله عنهم -. وقال أبو عمر: وممن رُوي عنه أجازه الوتر بواحدة ليس قبلها شيء: عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية، فقد روي عن ابن عباس أنه قيل له: إن معاوية فَعَلَهُ، فقال: أصاب السنة (¬3). وقال ابن حزم في "المحلى" (¬4): وأفضل الوتر من آخر الليل، والليل ينقسم على ثلاثة عشرة وجهًا أيها فعل أجزأه، وأحبها إلينا وأفضلها أن يصلي ثنتي عشرة ركعة، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 518 رقم 753). (¬2) "سنن أبي داود" (21/ 2 رقم 2162). (¬3) انظر "الاستذكار" (2/ 120). (¬4) "المحلى" (3/ 42 - 47).

يسلم من كل ركعتين، ثم يصلي ركعة واحدة ويسلم، لما روت عائشة: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين". أخرجه أبو داود. الثاني: أن يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين منها، ثم يصلي خمس ركعات متصلات لا يجلس إلا في آخرهن؛ لرواية عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل ثلاثة عشرة ركعة يوتر منهن بخمس ركعات لا يجلس في شيء من الخمس إلا في آخرهن، ثم يجلس ويسلم". أخرجه النسائي (¬1). والثالث: أن يصلي عشر ركعات يُسلّم من آخر كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة؛ لرواية عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر إحدى عشرة ركعةً، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة". أخرجه مسلم (¬2). والرابع: أن يصلي ثمان ركعات، يسلِّم في كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة؛ لما روي عن ابن عمر: "أَن رجلًا سأل رسول الله - عليه السلام - عن صلاة الليل، فقال: مثني مثني، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة". أخرجه مسلم (¬3). والخامس: أن يصلي ثماني ركعات لا يجلس في شيء منهن جلوس تشهد إلا في آخرها، فإذا جلس في آخرهن وتشهد قام دون أن يسلم فأتى بركعة واحدة ثم ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى للنسائي" (1/ 167 رقم 421). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 508 رقم 736). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 516 رقم 749).

يجلس ويتشهد ويسلم؛ لرواية عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بتسع ركعات يقعد في الثامنة، ثم يقوم فيركع ركعة". أخرجه النسائي (¬1). والسادس: أن يصلي ست ركعات، يسلم في آخر كل ركعتين منها، ويوتر بسابعة؛ لقوله - عليه السلام -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (¬2). والسابع: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخر السادسة منهن، ثم يقوم دون أن يسلم فيأتي بالسابعة، ثم يجلس ويتشهد ويسلِّم؛ لرواية عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - لما كبر وضعف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يُسلّم فيصلي السابعة، ثم يسلم (¬3) ". والثامن: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس جلوس تشهدٍ إلا في آخرهن، فإذا كان في آخرهن جلس وتشهد وسلَّم؛ لرواية عائشة - رضي الله عنها - أيضًا قالت: "لما أسنَّ رسول الله - عليه السلام - وأخذ اللحم؛ صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ثم يصلي ركعتين بعد أن يسلم". والتاسع: أن يصلي أربع ركعات يتشهد ويسلِّم من كل ركعتي ثم يوتر بواحدة - عليه السلام -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (1). العاشر: أن يصلي خمس ركعات متصلات، لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرهن؛ لرواية عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن". أخرجه النسائي (2)، وبه قال بعض السلف. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1/ 444/ 1415). (¬2) تقدم. (¬3) "المجتبى" (3/ 240 رقم 1717).

والحادي عشر: أن يصلي ثلاث ركعات، يجلس في آخر الثانية منهن ويتشهد ويسلِّم، ثم يأتي بركعة واحدة ويتشهد في آخرها ويسلم في آخرها؛ لقوله - عليه السلام -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وهذا قول مالك. الثاني عشر: أن يصلي ثلاث ركعات يجلس في الثانية، ثم يقوم دون أن يسلَّم، ثم يأتي بالثالثة، ثم يجلس ويتشهد ويسلم كصلاة المغرب"، وهو اختيار أبي حنيفة لرواية عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان لا يسلم في ركعتي الوتر". والثالث عشر: أن يركع ركعة واحدة فقط، وهو قول الشافعي وأبي سليمان وغيرهما. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافرقوا على فرقتين، فقال بعضهم: الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، وقال بعضهم: الوتر ثلاث ركعات، يسلم في الاثنتين منهن، وفي آخرهن. ش: أي خالف الجماعة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وعبد الله بن المبارك وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية والشافعي في قول، والحسن بن حيّ ومالكًا في الصحيح. ولكن هؤلاء افترقوا إلى فرقتين أيضًا، فقال بعضهم وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري وابن المبارك: الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن كصلاة المغرب. وقال أبو عمر: يُروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي أمامة وحذيفة وعمر بن عبد العزيز والفقهاء السبعة. وقال الترمذي: وذهب قوم من أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - وغيرهم إلى أن الوتر ثلاث ركعات. (قال سفيان: إن شئت أوترت بخمس، وإن شئت أوترت بثلاث،

وإن شئت أوترت بركعة) (¬1) قال سفيان: والذي أستحب: أن يوتر بثلاث ركعات. وهو قول ابن المبارك وأهل الكوفة. انتهى. قوله: "وقال بعضهم" وهم: مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية وإسحاق: الوتر ثلاث ركعات يسلّم في الاثنتين منهن وفي آخرهن، وأرادوا أنه ثلاث ركعات بتسليمتين. وعن الشافعي: أنه بالخيار؛ إن شاء أوتر بركعة، وإن شاء أوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، في الأوقات كلها. وقال الزهري: في شهر رمضان ثلاث ركعات، وفي غيره ركعة واحدة. وقال الخطابي: قال سفيان الثوري: الوتر ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة. وقال مالك: الوتر ثلاث يفصل بينهن، فإن لم يفصل ونسي إلى أن قام في الثالثة سجد سجدتي السهو. ص: وكان قول رسول الله - عليه السلام -: "الوتر ركعة من آخر الليل" قد يحتمل عندنا ما قال أهل المقالة الأولى، ويَحتمل أن تكون ركعة مع شفع قد تقدمها، وذلك كله وتر، فتكون تلك الركعة تُوترُ الشفع المتقدم لها. ش: أراد أن الحديث المذكور لا يصلح للاستدلال؛ لأن له الاحتمالين المذكورين، فإذا تمسك الخصم بأحدهما؛ يتمسك الآخر بالآخر، فلا يتم الاستدلال لإحدى الطائفتين. ص: وقد بيَّن ذلك ما قد رواه بعضهم عن ابن عمر: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أَن رجلًا سأل رسول الله - عليه السلام - عن صلاة الليل، فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصلِّ ركعة توتر لك صلاتك". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، عن هشيم، عن أبي بشْر، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. أخبرنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن حبيب، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، قال: ثنا عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فِطْرٌ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن بديل بن مَيْسرة وأيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظِي، قال: ثنا معاوية بن سَلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ونافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أخبرهما عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم وحميد بن عبد الرحمن، حدثاه عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله.

ش: أي وقد بيَّن ما ذكرنا من الاحتمال بَعضُ الرواة من التابعين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرج ذلك من اثني عشر طريقًا صحيحًا رجالها كلهم ثقات. الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري، عن عبد الله بن عون المزني البصري، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا محمَّد بن سعيد، وابن عون، وغيرهما، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا سأل النبي - عليه السلام - عن صلاة الليل، قال: مثني مثنى، فإذا خشيت الصبح فصلِّ لك ركعة توتر لكَ صلاتك". الثاني: على شرط الصحيحين ورجالها كلهم رجال مسلم. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن رجلًا سأل النبي - عليه السلام - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - عليه السلام -: صلاة الليل مثنى مثني، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدةً توتر له ما قد صلَّى". الثالث: رجاله رجال الصحيحين ما خلا شيخ الطحاوي. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، يحيى هو ابن سعيد الأنصاري. وأخرجه البزار: من حديث يحيى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل مثنى مثني، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ صلى ركعةً واحدةً توتر له صلاته". الرابع: أيضًا رجاله رجال الصحيحين ما خلا نصر بن مرزوق. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 88 رقم 6806). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 337 رقم 946).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "سمعت رجلًا يسأل النبي - عليه السلام - وهو على المنبر: كيف يصلي أحدنا بالليل؟ فقال - عليه السلام -: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما مضى من صلاتك". الخامس: [من] (¬1) طريق أبي داود، وأبو بكرة هو بكار القاضي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث عمرو، عن طاوس، عن ابن عمر: "أن رجلًا سأل النبي - عليه السلام - عن صلاة الليل، فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة". السادس: عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا محمَّد، نا شعبة، عن أبي بشر، سمعت عبد الله بن شقيق يحدث، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أَن رجلًا سأل النبي - عليه السلام - عن الوتر، قال: فمشيت أنا وذلك الرجل، فقال رسول الله - عليه السلام -: صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة". السابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي أحد أصحاب أبي حنيفة، وثقه أبو حاتم، عن جرير بن حازم، عن منصور بن المعتمر، عن حبيب بن أبي ثابت الكوفي، عن طاوس، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن حبيب بن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "على". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 22 رقم 4543). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 113/ 5937). (¬4) "مسند أحمد" (2/ 81/ 5537).

أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عمر قال: "سئل النبي - عليه السلام - عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة". الثامن: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن خالد بن مهران الحذاء ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا محمَّد بن محمَّد التمار، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فاسجد سجدة". التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة القرشي الكوفي الحناط -بالنون- احتج به الأربعة، وروى له البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا فطر ابن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس قال: سمعت ابن عمر يحدث، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة". العاشر: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن مسدد شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن بديل بن مَيْسرة وأيوب السختياني كلاهما, عن عبد الله بن شقيق ... إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (¬2) ثنا أبو الربيع، نا حمّاد، نا أيوب وبُديْل، عن عبد الله ابن شقيق، عن ابن عمر: "أن رجلًا سأل النبي - عليه السلام - كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى, فإذا خشيت الصبح فصلىّ ركعةً، واجعل آخر صلاتك وترًا". ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (12/ 396 رقم 13461). (¬2) "مسند أبي يعلى" (10/ 147 رقم 4770).

الحادي عشر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظِي شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة، ونسبته إلى وُحاظة -بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة- ابن سعد بن عوف، وهو يروي عن معاوية بن سلام الحبشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني. وأخرجه البزار في "مسنده ": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، نا عبيد الله بن موسى، نا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ونافع، عن ابن عمر، أن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل ركعتين، فإذا خشيتم الصبح فأوتروا بواحدة". وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا نحوه. الثاني عشر: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بَحشَل، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم ابن عبد الله بن عمر وحميد بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه البزار: ثنا محمَّد بن معمر، ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن النعمان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن وسالم، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة". ص: وحدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا علي بن بحر القطان، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الوضين بن عطاء، قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر: "أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة واحدة". وأخبر ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه السلام - كان يفعل ذلك، فقد أخبر أنه كان يصلي شفعًا ووتْرًا، وذلك في الجملة كله وتر، وقوله "يفصل بتسليمة" يَحتملُ أن تكون تلك التسليمة يُريدُ بها التشهد، ويحتمل أن يكون التسليم الذي يقطع الصلاة، فنظرنا في ذلك، فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 233 رقم 1695).

نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن بكر بن عبد الله قال: "صلى ابن عمر ركعتين ثم قال: يا غلام، أرحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة". ففي هذه الآثار أنه كان يوتر بثلاث ولكنه يفصل بين الواحدة والاثنتين، فقد اتفق عنه في الوتر أنه ثلاث. وقد جاء عنه من رأيه أيضًا ما يدل على أن قول النبي - عليه السلام - الذي ذكرناه كما وصفنا أنه يحتمل من التأويل. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني بكر ابن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عقبة بن مسلم قال: "سأَلت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن الوتر، فقال: أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم؛ صلاة المغرب، قال: صدقت -أو أحسنت- ثم قال: بينا نحن في المسجد، قام رجل فسأل رسول الله - عليه السلام - عن الوتر -أو عن صلاة الليل- فقال رسول الله - عليه السلام -: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة". أفلا ترى أن ابن عمر حين سأله عقبة عن الوتر فقال: أتعرف وتر النهار؟ أي: هو كهو، وفي ذلك ما يُنبئك أن الوتر كان عند ابن عمر ثلاثًا كصلاة المغرب، إذ جعل جوابه لسائله عن وتر الليل: أتعرف وتر النهار؟ صلاة المغرب، ثم حدثه بعد ذلك عن النبي - عليه السلام - بما ذكرنا، فثبت أن قوله: "فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها توتر بتلك الواحدة ما صليت قبلها، وكل ذلك وتر. ش: أشار بهذا الكلام إلى إثبات ما ذكره من احتمال قوله - عليه السلام -: "الوتر ركعة"، وأن معناه ركعة مع شفع تقدمها، وإلى أن الوتر ثلاث ركعات كالمغرب، بيان ذلك: أنه أخرج عن أحمد بن داود المكي شيخ الطهبراني أيضًا، عن علي بن بحر

القطان البغدادي، وثقه يحيى وأبو حاتم والعجلي والدارقطني والحاكم، عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن الوضين بن عطاء بن كنانة الدمشقي، وعن أحمد: ليس به بأس، كان يرى القدر. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث، روى له أبو داود وابن ماجه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر: "أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة واحدة". ففيه شيئان: - أحدهما: أنه أخبر أنه كان يصلي شفعًا ووترًا وهذا كله وتر؛ لأنه ثلاث ركعات. - والآخر: أنه أخبر أنه كان يفصل بتسليمة واحدة فهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذكر التسليم وأراد به التشهد من قبيل ذكر الشيء باسم ما يجاوره. والآخر: أن يكون المراد به التسليم الحقيقي الذي يقطع الصلاة، فنظرنا في ذلك فوجدنا يونس بن عبد الأعلى المصري قد روى عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "كان يُسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته". وأخرجه البخاري (¬1) معلقًا، وقال: وعن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته". وأخرجه البيهقي (¬2) مسندًا: من طريق الشافعي، عن مالك، عن نافع. ووجدنا أيضًا صالح بن عبد الرحمن قد روى عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن المعتمر، عن بكر بن عبد الله المزني قال: "صلى ابن عمر ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 337 رقم 946). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 25 رقم 4567).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا منصور، عن بكر بن عبد الله المزني: "أن ابن عمر صلى ركعتين ثم سلَّم, ثم قال: أدخلوا إليّ ناقتي فلانة، ثم قام فأوتر بركعة". ففي هذين الأثرين أنه كان يوتر بثلاث ولكنه كان يفصل بين الواحدة والاثنتين بتسليمة، فثبت لنا أحد شقي المدّعئ؛ لأن المدّعى شيئان: أحدهما: كون الوتر ثلاث ركعات. والآخر: كونه بتسليمة واحدة. ففيما ذكرنا ثبت أن الوتر ثلاث ركعات. وأما ثبوت الشق الآخر فبقول ابن عمر أيضًا حين سأله عقبة بن مسلم عن الوتر فقال: "أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، صلاة المغرب. قال: صدقت أو أحسنت". أخرجه بإسناد مصري صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا, عن يحيى بن عبد الله بن بكير الدمشقي المصري شيخ البخاري وغيره، عن بكر بن مضر بن محمَّد أبي عبد الملك المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري، عن عقبة بن مسلم التجيبي أبي محمَّد المصري القاضي إمام مسجد الجامع العتيق بمصر، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وأخرجه الطبراني مقتصرًا على قول النبي - عليه السلام - وقال: ثنا يحيى بن علي بن صالح , ثنا إسحاق بن بكر بن مضر , ثنا أبي , عن جعفر بن ربيعة , عن عقبة بن مسلم قال: "سألت عبد الله بن عمر عن الوتر فقال: بينما نحن في المسجد، قام رجل فسأل رسول الله - عليه السلام - عن الوتر وعن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أصبحت وخشيت الصبح فأوتر بواحدة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 88/ 6807).

ثم معنى قوله: "أتعرف وتر النهار" أن الوتر كصلاة المغرب، وصلاة المغرب ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، فقوله هذا يدل على أن الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمة واحدة كصلاة المغرب. ودلَّ هذا أيضًا على أن المراد من قوله - عليه السلام -: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها ليكون بتلك الواحدة ما صلي قبلها وترًا. وإنما قلنا: إن قول ابن عمر دلَّ على هذا المعنى؛ لأنه لما قال لعقبة بن مسلم: أتعرف وتر النهار؟ قال عقيب ذلك: قال رسول الله - عليه السلام -: "صلاة الليل مثني مثني فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"، فحديثه بذلك عقيب جوابه لُعقبة بما أجاب يدل على ما ذكرنا من المعنى المذكور. فإن قيل: قد جاء عن ابن عمر أنه كان يَفْصل في وَتره بتسليمةٍ فكيف تستدل على أنه بلا فصل -كالمغرب- بقوله لعقبة: "أتعرف وتر النهار"؟ قلت: ذاك فعله وهذا قوله، والأخذ بالقول أولى؛ لأنه أقوى على ما عرف في موضعه، ومما يقوِّي ذلك: أن الحسن البصري حكى إجماع المسلمين على الثلاث بدون الفصل. فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، حدثنا عمرو، عن الحسن قال: "أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يُسلّم إلا في آخرهن". وأيضًا فالذي جاء عن ابن عمر مما ذكر طريقه ضعيف؛ لأن فيه الوضين بن عطاء، ضعَّفه جماعة على ما ذكرناه، على أنه قد أنكره الحسن البصري على ما روى البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث يزيد بن زريع، قال: ثنا حبيب المعلم قال: "قيل للحسن: إن ابن عمر كان يُسلّم في الركعتين من الوتر. فقال: كان عمر أفقه منه؛ كان ينهض في الثالثة بالتكبير". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90/ 6834). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 29 رقم 4586).

ص: وقد بيَّن ذلك أيضًا: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن أبي في إسحاق، عن عامر الشعبي قال: "سألت ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليل؟ فقالا: ثلاث عشرة ركعة؛ ثمان ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر". ش: أي وقد بيَّن أيضًا ما ذكرنا- من أن المراد من قوله: "فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها، وكذا المراد من قوله: "الوتر ركعة" أي ركعة مع شفع تقدمها: ما روي عن عبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. أخرجه بأسناد صحيح على شرط الشيخين: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن سعيد بن أبي مريم الجمحي شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن كثير الأنصاري، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عامر بن شراحيل الشعبي. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا محمَّد بن عبيد بن ميمون أبو عبيد المديني، نا أبي، عن محمَّد بن جعفر، عن موسى بن عقبة ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "منها ثمان بالليل" (¬2). قوله: "ثمان" مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: منها ثمان ركعات، كما هو في رواية ابن ماجه. قوله "ويوتر بثلاث" أي: يوتر النبي - عليه السلام - بثلاث ركعات. قوله "وركعتين بعد الفجر" أي: ويصلي ركعتين بعد طلوع الفجر الثاني، وأراد بهما سنة الفجر. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 433 رقم 1316). (¬2) في المطبوع من "السنن" هو نفس لفظ الطحاوي: "منها ثمان ويوتر بثلاث .. ".

وفيه من الفوئد: أنه - عليه السلام - كان يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فدلّ على استحباب ذلك، وعلى استحباب قيام الليل، وعلى أن الوتر ثلاث ركعات، وهو يُبيِّن أن معنى قوله - عليه السلام -: "فأوتر بواحدة" أي مع شفع تقدمها، يوتر بتلك الواحدة ما يُصلي قبلها، وكذلك معنى قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" كما ذكرناه. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي: "أن رجلًا سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الوتر، فأمره أن يفصل. فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس: هي البتيراء. فقال ابن عمر: تريد سنة الله وسنة رسوله؟ هذه سنة الله وسنة رسوله". ش: ذكره أيضًا دليلًا على ما قاله من أن المراد من قوله - عليه السلام -: "فأوتر بواحدة" يعني مع شيء تقدمها، وإن كان لا يدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخرها؛ وذلك لأنه لم يقصد من ذكره ها هنا إلا المعنى الذي ذكره. وأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيْساني، عن بشر بن بكر التِنّيِسي البجلي وثقه أبو زرعة وآخرون وروى له البخاري، عن الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني، وثقه أبو زرعة والدارقطني، وقال محمَّد بن سعد: كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبي - عليه السلام - كثيرًا وليس له لقيُّ، وعامة أصحابه يدلسون. قلت: مثل الأوزاعي روى عنه، واحتجت به الأربعة ويكفي هذا في الاحتجاج بحديثه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) ثنا أبو شعيب الحراني، ثنا يحيى بن عبد الله البَابُلْتي، ثنا الأوزاعي، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "سأل رجل ابن عمر عن الوتر، فقال: أوتر بواحدة. فقال الرجل: إني أخشى أن يقول الناس إنها البتيراء. قال: سنة الله وسنة رسوله تريد؟ هذه سنة الله وسنة رسوله - عليه السلام -". ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (12/ 387 رقم 13143).

وأخرجه البيهقي (¬1): عن أحمد بن عيسى، نا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، حدثني المطلب بن عبد الله فقال: "أتى ابن عمر رجل فقال: كيف أوتر؟ قال: أوتِرْ بواحدة. قال: إني أخشى أن يقول الناس إنها البتيراء. قال: أسنة الله ورسوله تريد؟ هذه سنة الله ورسوله". وقال الذهبي: أحمد بن عيسى التنيسي الخشاب تالفٌ. انتهى. و"البُتَيراء" على وزن فُعَيلاء وهو مصغر بَتْراء مؤنث أبتر من البَتْر وهو القطع، وقد جاء من غير تصغير في حديث زياد أنه قال في خطبته: "البَتْراء". وإنما قيل هكذا؛ لأنه لم يذكر فيها الله -عز وجل-، ولا صلى فيها على النبي - عليه السلام -. ومعناه الشرعي ما قاله ابن الأثير في "النهاية": البتيراء هو أن يوتر بركعة واحدة، وقيل: هو الذي شرع في ركعتين فأتم الأولى ثم قطع الثانية، ثم قال: ومنه حديث سعد: "أنه أوتر بركعة فأنكر عليه ابن مسعود وقال: ما هذه البُتَيْراء". قلت: فدل ذلك أن ابن مسعود - رضي الله عنه - يرى أن البُتَيْراء هو الإيتار بركعة واحدة، وأما ابن عمر - رضي الله عنهما - فإنه قد فسر البتيراء نحو القول الأول. وأخرج البيهقي (¬2): عن الحاكم، قال: أنا الأصم، نا الصغاني، نا إسحاق بن إبراهيم الرازي، ثنا سلمة الأبرش، نا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: "سألت ابن عمر عن وتر الليل، فقال: يا بُنَي هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، المغرب. قال: صدقت، وتر الليل واحدة؛ بذلك أمر رسول الله - عليه السلام -. قلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون: إن تلك البتيراء. قال: يا بني، ليس تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعًا ولا سجودًا ولا قيامًا، فتلك البتيراء". فإن قلت: هل ورد النهي عن البتيراء؟ ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 62 رقم 4568). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 26 رقم 4569).

قلت: روى أبو عمر في" التمهيد" (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن يوسف، ثنا أحمد بن محمَّد بن إسماعيل بن الفرج، أبنا أبي، ثنا الحسن بن سليمان قبيْطة، ثنا عثمان بن محمَّد بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن البتيراء؛ أن يُصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها". فإن قيل: قال ابن حزم في "المحلى" (¬2): ولم يصح عن النبي - عليه السلام - نهيٌ عن البتيراء، ولا في الحديث على سقوطه بيان ما هي البتيراء. قلت: تعلق ابن حزم بما قالوا: إن في إسناد حديث أبي سعيد الخدري عثمان بن محمَّد بن عثمان بن أبي عبد الرحمن، وهو ضعيف لقول العُقَيلي: الغالب على حديثه الوهم. وهذا تعلّق لا طائل تحته؛ لأن أحدًا غير العُقيلي لم يتكلم فيه بشيء، وكلام العقيلي خفيف، ألا ترى أن الحاكم أخرج لعثمان بن محمَّد هذا في كتابه "المستدرك على الصحيحين"؟ وبقية الرجال ثقات (¬3). أما شيخ أبي عمر: فهو عبد الله بن محمَّد بن يوسف، هو ابن الفرضي الإِمام الثقة الحافظ. وأما الحسن بن سليمان بن سلام الفزاري: فهو أبو علي الحافظ يُعرف بقُبَيْط، قال فيه ابن يونس: كان ثقةً حافظًا. وأما الدراوردي: فإن الجماعة أخرجوا له، غير أن البخاري أخرج له مقرونًا بغيره. وأما عمرو بن يحيى بن سعيد أبو أمية المكي: فإن البخاريّ روى له، وأما أبوه ¬

_ (¬1) "التمهيد" (13/ 254). (¬2) "المحلى" (3/ 48). (¬3) ذكر الإِمام الذهبي هذا الحديث في ترجمة عثمان بن محمَّد، المذكور في "الميزان" (3/ 53)، ونقل عن ابن القطان أنه قال: هذا حديث شاذٌّ لا يعرج على رواته.

يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص بن أمية القرشي أبو أيوب المدني: فإن مسلمًا روى له. فحينئذٍ يكون هذا الحديث صحيحًا ولا سيما على شرط الحاكم وقد قال صاحب "الهداية" في باب سجود السهو: لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه - عليه السلام - عن البتيراء. وأراد به الحديث المذكور. ص: وقد روي عن عائشة في ذكرها وتر النبي - عليه السلام - ما يدل على حقيقة ما ذكرنا: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام -لا يُسلِّم في ركعتي الوتر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد ... فذكر بإسناده مثله. فأخبَرت أن الوتر ثلاثٌ، لا يسلم بين شيء منهن. ش: لما ذكر أن حقيقة معنى قوله - عليه السلام -: "أوتْرِ بواحدة" وقوله: "الوترُ ركعة واحدة" هو أن يكون بشفع قد تقدمها، وأن الوتر ثلاثٌ بتسليمة واحدة في آخره؛ ذكر حديث عائشة هذا شاهدًا لما ذكره؛ فإنها أخبرت في حديثها هذا أنه - عليه السلام - كان لا يُسلم في ركعتي الوتر، وهذا صريح على أنه كان يوتر بثلاث ركعات بقعدتين وتسليمة واحدة في آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين على شرط مسلم: أحدهما: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرّقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس، عن سعيد بن أبي عروبة مهران البصري، عن قتادة بن دعامة السَّدُوسي، عن زُرارة بن أوفى أي الحاجب البصري، عن سعد بن هشام بن عامر الأنصاري ابن عم أنس بن مالك. وهؤلاء كلهم روى لهم الجماعة ما خلا سَعْدًا، فإنه روى له تعليقا البخاري، وما خلا أبا بشر فإنه أيضًا ثقة.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسماعيل بن مسعود، نا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أن عائشة - رضي الله عنها - حدثته: "أن رسول الله - عليه السلام - كان لا يُسلّم في ركعتي الوتر". والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمَّد بن المنهال التميمي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع القيسي شيخ ابن المديني، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا أبو محمَّد بن صاعد، ثنا محمَّد بن عمرو ابن سليمان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث أبان، عن قتادة، عن زرارة، عن سَعد بن هشام، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن". ص: ثم قد رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها - بعد هذا أحاديث في الوتر إذا كُشِفَت رَجعَتْ إلى معنى حديث سَعْد بن هشام هذا، فمن ذلك ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشَيم، قال: أنا أبو حرة، قال: ثنا الحسين، عن سَعْد بن هشام، عن عائشة قالت: "كان رسولُ الله - عليه السلام - إذا قامَ من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر". فأخْبَرتْ ها هنا أنه كان يُصلي ركعتين، ثم ثمانيًا، ثم يوتر، فكان مَعْنى "ثم يوتر" يحتمل: ثم يوتر بثلاث منهن ركعتان من الثمان وركعة بعدها، فيكون جميع ما صلى إحدى عشرة. ويحتمل: ثم يوتر بثلاثٍ مُتتابعات، فيكون جميع ما صلى ثلاث عشرة ركعةً. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 2345 رقم 1698). (¬2) "سنن الدراقطني" (2/ 32 رقم 7). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 28 رقم 4581).

فنظرنا فيما يحتمل من ذلك؛ هل جاء شيء يدل على شيء منه بعينه؟ فإذا إبراهيم ابن مرزوق ومحمد بن سليمان الباغندي قد حدثانا، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حُصَيْن بن نافع العَنْبرِي، عن الحسن، عن سَعْد بن هشام قال: "دخلتُ على عائشة - رضي الله عنها - فقلت: حدثيني عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، قالت: كان النبي - عليه السلام - يصلي بالليل ثمان ركعات ويُوتر بالتاسعة، فلما بَدّنَ صلى ست ركعات وأوْتر بالسابعة وصلى ركعتين وهو جالس". ففي هذا الحديث أنه كان يوتر بالتاسعة فذلك يَحْتَمل أن يكون يُوتِرَ بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التيم قبلها حتى يتفق هذا الحديث وحديث زرارة ولا يتضادان. ش: اعلم أنه قد ووي عن عائشة - رضي الله عنها - أن وتر النبي - عليه السلام - ثلاث بتسليمة واحدة وهو في رواية سعد بن هشام عنها كما مر آنفًا، وروي عنها أيضًا أحاديث في بعضها ما يناقض هذا، وأحاديث أخرى بينها تضادّ ظاهرًا, ولكن إذا كشفت معانيها تَرْجع كلها إلى معنى واحد وهو المعنى الذي يُفهم من حديث سعد بن هشام من أن الوتر ثلاث ركعات بقعدتين وتسليمة واحدة في آخره، فأشار إلى بيان ذلك بقوله: ثم قد رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - ... إلى آخره. فمن جملة ذلك ما رواه سعد بن هشام عنها: "أَنه - عليه السلام - كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم صلى ثمان ركعات ثم أوتر". أخرجه من طريق صحيح على شرط مسلم، عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم ابن بَشِير، عن أبي حُرّة -بضم الحاء المهملة- واصل بن عبد الرحمن البصري، روى له مسلم والنسائي، عن الحسن البصري، عن سعد بن هشام. وأخرجه مسلم (¬1) والنسائي (¬2) مقتصرا على قوله: "بركعتين خفيفتين" بهذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 532 رقم 767). (¬2) لم يعزه المزي في "الأطراف" (11/ 404/ 1609 رقم 16097) إلا لمسلم فقط.

الإسناد بعينه، فأخبرت عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث أنه - عليه السلام - كان يصلي ركعتين، ثم يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر فقولها: "ثم يوتر" يحتمل وجهين: الأول: ثم يوتر بثلاث ركعات منهن ركعتان من الثمان وركعة بعدها، فيكون حينئذٍ جميع ما صلى إحدى عشرة ركعة؛ ثمان ركعات تطوع، وثلاث وتر. الثاني: ثم يوتر بثلاث ركعات متتابعات، فيكون جميع ما صلى ثلاث عشرة ركعة؛ عشر ركعات تطوع، وثلاث وتر، فبهذا الاحتمال لا يحكم بشيء بعينه إلا إذا دلّ دليل على شيء من ذلك بعينه. فنظرنا في ذلك، فوجدنا سَعْد بن هشام أيضًا روى عن عائشة: "أنه - عليه السلام - كان يُصلي بالليل ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة"، فهذا صريح على أنه كان يوتر بالتاسعة مع الركعتين من ثمان ركعات التي قبلها، فدلّ ذلك على أن المراد في الحديث الأول هو الاحتمال الأول؛ لأن الحديثين كليهما من رواية الحسن البصري، عن سَعْد بن هشام، وقد بيَّن أحدهما معنى الآخر. وإنما قلنا هكذا؛ ليقع الاتفاق بين روايتي سَعْد بن هشام عن عائشة، اللتين بينهما تضاد ظاهرًا، بيانه: أن زرارة بن أوفى روى عن سَعْد بن هشام، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان لا يسلم في ركعتي الوتر"، وأن الحسن البصريّ روى عن سعد في الروايتين المذكورتين أنه كان يصلي ثمان ركعات في إحديهما: "ثم أوتر"، وفي الأخرى: "ثم يوتر بالتاسعة" فبين قوله: "لا يسلم في ركعتي الوتر" وقوله:"ثم أوتر" تضادّ ظاهرًا؛ لأن الأول يدل على أن الثلاث متتابعات، والثاني يدل على أن الثالثة مفصولة من الركعتين، فإذا حملنا معنى قوله: "ثم أوتر" على معنى أنه أوتر بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التي قبلها؛ يقع الاتفاق ويرتفع التضاد. ثم إسناد حديث ابن مرزوق صحيح أيضًا، ورجاله ثقات. ومحمد بن سليمان بن الحارث الباغندي قال الدارقطني: لا بأس به. وقال الخطيب: رواياته كلها مستقيمة. ونسبته إلى باغند قرية من قرى واسط.

وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، وحصين بن نافع الفهري التميمي الوراق البصري، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي. وأخرجه النسائي بهذا الإسناد (¬1): أنا محمَّد بن عبد الله الخلنجي، قال: ثنا أبو سعيد -يعني مولى بني هشام- قال: ثنا حصين بن نافع، قال: ثنا الحسن، عن سعد بن هشام: "أنه وقد على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فسألها عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقالت: كان يصلي من الليل ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة ويصلي ركعتين وهو جالس". وأخرجه (¬2) من طريق آخر: أخبرنا زكرياء بن يحيى، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الرزاق قال: أبنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أخبرني سعد بن هشام، عن عائشة أنه سمعها تقول: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بتسع ركعات ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فلما ضَعُف أوتر بسبع ركعات ثم يصلي ركعتين وهو جالس". وأخرجه من خمس طرق أخرى مطولة ومختصرة (¬3). وأخرجه مسلم (¬4) مطولًا جدًّا. وكذا أخرجه أبو داود (¬5) بطرق مختلفة مطولة ومختصرة. وقوله: "ويوتر بالتاسعة" أي بالركعة التاسعة، والمعنى يجعل التاسعة وترًا بركعتين قبلها والكل ثلاث وتر. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 242 رقم 1724). (¬2) "المجتبى" (3/ 242 رقم 1722). (¬3) "المجتبى" (3/ 241 - 243 رقم 1718 - 1725). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 513 رقم 746). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 40 رقم 1342).

قوله: "فلما بَدَّن" بتشديد الدال مَعْناه كَبُر وأسنَّ، وأما بَدُنَ -بتخفيف الدال وضمها- فمعناه كثر لحمه وسمن، ولم يكن سمينًا. كذا قاله أبو عبيدة. قلت: يَردُّ عليه ما جاء من حديث ابن أبي فضالة في صفته - عليه السلام -: "بادن متماسك" من البدانة وهي كثرة اللحم. قوله: "وأوتر بالسابعة" أي بالركعة السابعة، ومعناه: بركعتين قبلها كما ذكرناه. قوله: "وهو جالس" كلمة وقعت حالًا. وقد أخذ الأوزاعي وأحمد بظاهر الحديث، فأباحا ركعتين بعد الوتر جالسًا، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله. قال النووي: وأنكره مالك. قلت: الصواب أن النبي - عليه السلام - فعل هاتين الركعتين بعد الوتر جالسًا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز الفعل جالسًا, ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرةً أو مرتين أو مرات قليلة. فإن قيل: قد أخبرت عائشة - رضي الله عنها - بقولها: "كان يصلي" وهذه لفظة تدل على الاستمرار والثبات. قلت: المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أنّ "كان" لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماضي يدل على وقوعه مرة، فإن دل دليل على التكرار عُمِل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها. وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة والعربية ذكروا أن "كان" تدل على الثبات والاستمرار، وفرَّقوا بينها وبين "صار"، وقالوا: إن "صار" تدل على الحدوث والتجدد، واستشهدوا عليه بجواز القول: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وبعدم جواز "صار الله"، فافهم. والتحقيق فيه: أنه - عليه السلام - كان يفعل ذلك مستمرًّا بعد أن بدَّن، فتكون مداومته على ذلك للعجز؛ ولأن باب النفل أوسع، والله أعلم.

واستدل به الشافعي في أحد أقواله: أن الوتر سبع ركعات، ونحن نقول أن الوتر منها ثلاث ركعات ليس إلا، والأربع قبله نفل، والحديث لا يدل على أن الوتر سبع ركعات، وإنما قال: "ويوتر بالسابعة" أي بالركعة السابعة مع شفع تقدمها. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد بن هشام الأنصاري: "أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -، عن صلاة رسول الله - عليه السلام - بالليل، فقالت: كان يُصلي العشاء، ثم يتجوز بركعتين وقد أعد سواكه وطَهُورَه فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يُسوِّي بينهن في القراءة، ويوتر بالتاسعة، فلما أسنَّ رسول الله - عليه السلام - وأخذه اللحم جعَل تلك الثماني ستًّا ثم يوتر بالسابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ". ففي هذا أنه كان يُصلّي قبل الثمان التي يوتر بتاسعتهن أربعًا، فجميع ذلك ثلاث عشرة ركعة منها الوتر اللي فسرة زرارة، عن سعد، عن عائشة - رضي الله عنها - وهو ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن. فقد صحت رواية سعد عن عائشة - رضي الله عنها - وباتت على ما ذكرنا. ش: ذكر هذه الرواية شاهدة لما قاله من أن المراد من قول عائشة - رضي الله عنها - في الحديث الذي رواه عنها سعد بن هشام أيضًا "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر" أنه يوتر بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التي قبلها، وأنه يدل على أن الوتر ثلاث ركعات من غير فصل بينها بتسليمة؛ لأنه ذكر في هذا الحديث أنه - عليه السلام - كان يصلي قبل ثمان ركعات التي يوتر بتاسعتهن أربعًا، فيكون جميع ذلك ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وهو ثلاث ركعات على ما فسره زرارة بن أوفى في روايته عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - لا يُسلِّم في ركعتي الوتر".

ثم إنه أخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حرة واصل بن عبد الرحمن، عن الحسن البصري ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا محمَّد بن إسحاق بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد بن هشام الأنصاري: "أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة النبي - عليه السلام - بالليل، فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - إذا صلى العشاء تجوّز بركعتين، ثم ينام وعند رأسه طَهوُره وسواكه، فيقوم فيتسوَّك ويتوضأ, ويصلي ويتجوَّز بركعتين، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوِّي بينهن في القراءة، ثم يوتر بالتاسعة، ويصلي ركعتين وهو جالس، فلما أسنَّ رسول الله - عليه السلام - وأخذ اللحم، جعل الثمان ستًّا ويوتر بالسابعة، ويصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ} ". قوله: "ثم يتجوز بالركعتين" أي يخففهما ويُسْرع بهما، وقيل: هو من التجاوز وهو القطع والسير. قوله: "طَهُوره" بفتح الطاء: اسم لما يتطهر به. قوله: "ويوتر بالتاسعة" أي بالركعة التاسعة مع شفع تقدمها، وكذا معنى قوله: "ثم يوتر بالسابعة". ويستفاد منه أحكام: استحباب التأهب بأسباب العبادات قبل وقتها والاعتناء بها، واستحباب السواك عند القيام من النوم، وجواز النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، وعدم الكراهة في القراء في الركعة الثانية بسورة وهي فوق السورة التي قرأها في الركعة الأولى، فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (6/ 367 رقم 2640).

ص: وقد روي عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا هُشَيم بن بشير، قال: أنا خالد الحذاء، قال: أنا عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن تطوع رسول الله - عليه السلام - بالليل، فقالت: كان إذا صلى بالناس العشاء يدخل فيصلي ركعتين، قالت: وكان يصلي من الليل تِسْع ركعات فيهن الوتر، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين في بَيْتي ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر". ففي هذا الحديث أنه كان يُصلّي إذا دخل بَيْته بعد العشاء ركعتين، ومن الليل تسعًا فيهن الوتر، فذلك عندنا على تسعٍ غير الركعتين اللتين كان يخففهما على ما قال سعد عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يفتتح صلاته من الليل بركعتين خفيفتين"، وإنما حملنا معنى حديث عبد الله بن شقيق على هذا المعنى ليتفق هو وحديث سَعْد بن هشام ولا يتضادان. ش: لما كان حديث عبد الله بن شقيق يخالف ظاهر حديث سَعْد بن هشام، وكلاهما يَرْويان عن عائشة - رضي الله عنها -؛ ذكره عقيب حديث سعد ليوفِّق بينهما دفعًا للتضاد، أما بيان التضاد: فإن الذي ذكره سعد في حديثه: أن جميع ما كان يصليه - عليه السلام - ثلاث عشرة ركعة؛ لأنه كان يصلي ركعتين بعد العشاء ويتجوز بهما، ثم يصلي ركعتين أخراوين بعد قيامه من النوم، ثم يصلي ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة، فالجملة ثلاث عشرة ركعة منها الوتر ثلاث ركعات. والذي ذكره عبد الله بن شقيق: أنه كان إذا صلى بالناس العشاء يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، فالجملة إحدى عشرة. وأما بيان وجه التوفيق بينهما: أن حديث عبد الله بن شقيق محمول على معنى حديث سَعْد وهو أن المراد من الركعتين اللتين كان يصليهما إذا دخل، والتسع التي كان يصليها بعدهما التي فيهن الوتر غير الركعتين الخفيفتين اللتن قد ذكرتا في حديث سعد بن هشام عن عائشة المذكور فيما مضى، فحينئذٍ يكون الجميع هنا أيضًا ثلاث عشرة ركعة؛ فتتفق الروايتان ولا تختلفان.

ثم إسنادُ حديث عبد الله بن شقيق صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات قد فذكروا غير مرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا هُشَيم، ثنا خالد، عن عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - عليه السلام - من التطوع، فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعًا في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا, وليلًا طويلًا جالسًا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، ثم يخرج ليصلي بالناس صلاة الفجر" انتهى. من فوائده: أن الوتر ثلاث ركعات؛ لأن قوها: "فيهن الوتر" أي في التسع الوتر وهو ثلاث، وأن صلاة السنن في المنازل أفضل، وفيه ترغيب لقيام الليل ولو جزءًا يسيرًا. ص: وقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك: [ما قد] (¬2) حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: حدثني أبان بن يزيد، قال: حدثني ابن أبي كثير، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، وصلى بين أذان الفجر والإقامة ركعتين". فيحتمل أن تكون الثمان ركعات التي أوتر بتاسعتهن في هذا الحديث هي الثمان التي ذكر سعد بن هشام عن عائشة - رضي الله عنها - "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي قبلهن أربع ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 30/ 2406). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ركعات" ليتفق هذا الحديث وحديث سعد، ويكون هذا الحديث قد زاد على حديث سعد وحديث عبد الله بن شقيق تطوع رسول الله - عليه السلام - بعد الوتر. ويحتمل أيضًا أن تكون هذه التسع هي التسع التي ذكرها سعد بن هشام في حديثه عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - عليه السلام - كان يصليهما لما بدّن؛ فيكون ذلك تسع ركعات مع الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته، ثم كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا بدلًا مما كان يصليه قبل أن يُبدّن قائمًا وهو ركعتان، فقد عاد ذلك أيضًا إلى ثلاث عشرة ركعة. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - عليه السلام - بالليل، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع قائمًا ثم سجد، وكان يصلي ركعتين بين الأذان والإقامة من صلاة الصبح". فهذا الحديث معناه معنى حديث أحمد بن داود، عن سهل بن بكار غير أنه ترك ذلك الوتر. وحدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة منها ركعتان وهو جالس، ويصلي ركعتين قبل الصبح". فتلك ثلاث عشرة ركعة، فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أحمد بن داود. وقولها: "يصلى ركعتين قبل الصبح" يعني قبل صلاة الصبح، وهما الركعتان اللتان ذكرهما أحمد بن داود في حديثه أنه كان يصليهما بين الأذان والإقامة. وحدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا القواريري (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قالا: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن أبي لبيد، قال: سمعت أبا سلمة يقول: "دخلت على عائشة - رضي الله عنها -، فسألتها عن

صلاة رسول الله - عليه السلام - بالليل، فقالت: كانت صلاته في رمضان وغيره سواء؛ ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر". فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما رويناه قبله من حديث أبي سلمة. وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره: "أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله - عليه السلام - في رمضان؟ فقالت: ما كان النبي - عليه السلام - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا. قالت عائشة - رضي الله عنها -: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيناي تنامان ولا ينام قلبى". فيحتمل هذا الحديث أن يكون قولها "ثلاثا" تريد [يوتر] (¬1) بإحداهن مع اثنتين من الثمان، ثم يصلي الركعتين الباقيتين، وهما الركعتان اللتان ذكرهما أبو سلمة فيما تقدم مما روينا عنه أنه كان يصليهما وهو جالس؛ حتى يتفق هذا الحديث وما تقدمه من أحاديثه، ويحتمل أن تكون الثلاث كلها وترًا، وهو أغلب المعنيين؛ لأخها قد فَصَّلت صلاته فقالت: فكان يصلي أربعًا، ثم أربعًا، ووصفت ذلك كله بالحسن والطول، ثم قالت: "ثم يصلي ثلاثًا" ولم تصف ذلك بطول، وجمعت الثلاث بالذكر، فذلك عندنا على الوتر، فيكون جميع ما كان يصليه إحدى عشرة ركعة مع الركعتين الخفيفتين اللتين في حديث سعد بن هشام، أو مع الركعتين اللتين كان يصليهما وهو جالس بعد الوتر وهذا أشبه بروايات أبي سلمة؛ لأن جميعها تُخبرُ عن صلاته بعد ما بدّن، وحديث سعد بن هشام يخبز عن صلاته بعد ما بدَّن وعن صلاته قبل ذلك. ش: لما ذكر فيما مضى أنه قد روي عن عائشة أحاديث في الوتر إذا كشفت رجعت إلى معنى حديث سعد بن هشام الذي رواه عنه زرارة بن أوفى وهو: "أنه - عليه السلام - كان ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

لا يُسلّم في ركعتي الوتر"، ثم وفق بين ما وقع في روايات سعد بن هشام من التخالف ظاهرًا، وكذا ما وقع بين روايته وبين رواية عبد الله بن شقيق؛ شرع ها هنا بذكر ما رواه أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة؛ ليوفق بينه وبين ما روي من غيره عن عائشة في هذا الباب، فأخرج حديثه من ستة طرق: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار بن بشر الدارمي البصري المكفوف شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار البصري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى، قال: نا ابن أبي عدي، نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم، قالا: نا أبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة: "أن نبي الله - عليه السلام - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة؛ كان يصلي ثمان ركعات، ويوتر بركعة ثم يصلي -قال مسلم: بعد الوتر- ركعتين وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي بين أذان الفجر والإقامة ركعتين". وأخرجه النسائي (¬3): أنا عبد الله بن فضالة بن إبراهيم، قال: ثنا محمَّد -يعني ابن المبارك- الصوري، قال: ثنا معاوية -يعني ابن سلام- عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سأل عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2 - 39 رقم 1339). (¬2) "سنن أبي داود" (2 - 39 رقم 1339). (¬3) "المجتبى" (3/ 251 رقم 1756).

من الليل، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ تسع ركعات قائمًا يوتر فيها، وركعتين جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام فركع، وسجد، ويفعل ذلك بعد الوتر، فإذا سمع نداء الصبح، قام فركع ركعتين خفيفتين". قوله: "فيحتمل أن يكون ... " إلى آخره، بيان وجه التوفيق بين هذا الحديث الذي رواه أبو سلمة عن عائشة، وبين الحديث الذي رواه سعد بن هشام وعبد الله بن شقيق عنها، ملخصه أن يقال: يحتمل أن يكون المراد من قولها: "يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة" في حديث أبي سلمة هو الثمان ركعات التي ذكرت في حديث سعد بن هشام عن عائشة، وهو قولها: "فيتسوَّك ويتوضأ, ثم يصلي ركعتي، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات ... " الحديث، فحينئذٍ يتفق الحديثان. ولكن يكون في حديث أبي سلمة زيادة على حديث سعد بن هشام، وعبد الله بن شقيق، وهي تطوع رسول الله - عليه السلام - بعد الوتر؛ لأن هذا التطوع -وهو الركعتان بعد الوتر- لم يذكر في حديثهما، والمذكور في حديث عبد الله بن شقيق من الركعتين بعد الوتر هو ركعتا الفجر، وهما سنة غير تطوع، ويحتمل أيضًا أن يكون المراد من هذه التسع أعني تسع ركعات التي ذكرها أبو سلمة في حديثه -وهو قول عائشة: "يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة" وهي تسع ركعات- هي التسع الركعات التي ذكرها سَعْد بن هشام في حديثه عن عائشة أن رسول الله - عليه السلام - كان يصليها لما بدّن؛ وذلك لأنه لما بدَّن كان يصلي ست ركعات، ثم يوتر بالسابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فهذه تسع ركعات، فتكون ثلاث عشرة ركعة مع الركعتين الخفيفتن اللتين كان - عليه السلام - يفتتح بهما صلاته، فحينئذٍ يتفق الحديثان أيضًا. وقد قيل: وجه هذا الاختلاف عن عائشة في أعداد الركعات في صلاته - عليه السلام - في الليل؛ إما من الرُواة عنها، وإما منها باعتبار أنها أخبرت عن حالات منها ما هو الأغلب عن فعله - عليه السلام -، ومنها ما هو نادر، ومنها ما هو بحسب اتساع الوقت وضيقه.

الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز -المعجمات- البصري، روى له الجماعة سوى أبي داود، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، قال: ثنا هشام، قال: ثنا يحيى، عن أبي سلمة: "أنه سأل عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام - بالليل، قالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي ركعتين بين الأذان والإقامة في صلاة الصبح". قوله: "فهذا الحديث" أي الحديث [الذي] (¬2) رواه علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، معناه معنى حديث أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار، عن أبان بن يزيد، عن ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها -، وهو الحديث الأول، غير أن إبراهيم بن مرزوق في روايته عن هارون بن إسماعيل، عن علي بن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة ترك ذكر الوتر، حيث لم يقل بعد قوله: "يصلي ثمان ركعات": "ثم يوتر" كما ذكره أحمد بن داود، عن سهل، عن أبان، عن يحيى، عن أبي سلمة: "يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة"، وكما وقع ذكره في رواية النسائي كما ذكرنا, ولكنه مراد ها هنا أيضًا, ولا يلزم أن يكون جميع ما صلى اثنتي عشرة ركعة، وليس كذلك، بل الروايات على أنها كانت ثلاث عشرة ركعة. الطريق الثالث: عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري المدني قارئ أهل المدينة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 256 رقم 1781). (¬2) غير موجودة في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

وأخرجه أبو داود (¬1) من حديث محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة ... إلى آخره نحوه. قوله: "فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أحمد بن داود" أراد به الحديث الأول الذي رواه عن أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار، عن أبان، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة؛ لأن في كل منهما: ثلاث عشرة ركعة، والموافقة بينهما في هذا، وفي قولهما: "يصلي ركعتين قبل الصبح"؛ لأن المراد من هذا هو ما ذكره أحمد بن داود في حديثه أنه كان يصليهما بين الأذان والإقامة، أي بين أذان الصبح وإقامته، فافهم. الطريق الرابع: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد الثقفي المدني، عن أبي سلمة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو الناقد، قال: نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد، أنه سمع أبا سلمة قال: "أتيت عائشة - رضي الله عنها -، فقلت: أيْ أُمَّه أخبريني عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل، منها ركعتا الفجر". الطريق الخامس: عن روح بن الفرج القطان، عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس شيخ أبي داود، عن سفيان ... إلي آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬3): من حديث سفيان، عن ابن لبيد نحوه. قوله: "فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما رويناه قبله من حديث أبي سلمة" يعني من التنصيص على ثلاث عشرة ركعة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 43/ 1350). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 510 رقم 738). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 6 رقم 4450).

وقال البيهقي: ثم إن عائشة - رضي الله عنها - أخبرت ها هنا أنه - عليه السلام - ما كان يزيد على إحدى عشرة في رمضان وغيره، وهذا هو الأغلب في رواياته، وما روي عنها من خمس عشرة فذاك في الكثير، وما روي عنها من السبع فذاك في القليل. الطريق السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي سلمة، والكل رجال مسلم. والحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه: فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلي آخره نحوه سواء. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (¬4): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك. والنسائي (¬5): عن محمَّد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك ... إلى آخره. قوله: "فلا تسأل عن حسنهن" معناه أنهن في غاية من كمال الحسن والطول، مستغنيات بظهور حسنهن وطولهن عن السؤال عنه والوصف. قوله: "أتنام" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي" هذا من خصائص الأنبياء عليهم السلام، وقد تأوله بعضهم على أن ذلك كان غالب أمره وقد ينام نادرًا؛ لحديث الوادي "فلم يعلم بفوات الصبح حتى طلعت الشمس"، ومنهم من قال: لا يستغرقه النوم حتى ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 385 رقم 1096). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 509 رقم 738). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 40 رقم 1341). (¬4) "سنن الترمذي" (2/ 302/ 439). (¬5) "المجتبى" (3/ 234/ 1697).

يكون منه الحدث، ومنهم من قال: يوم الوادي إنما نامت عيناه فلم يرَ طلوع الشمس، وطلوعها إنما يدرك بالعين لا بالقلب، وقيل: لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه. والصواب الأول. قوله: "فيحتمل هذا الحديث ... " إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين حديث أبي سلمة عن عائشة هذا، وبين أحاديثه التي تقدمت؛ لأن بينها تضادًّا ظاهرًا؛ لأنه في الأحاديث المذكورة: "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة". وفي هذا الحديث: "ما كان النبي - عليه السلام - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة". بيان ذلك من وجهين: أحدهما: أن قولها: "يصلي ثلاثًا" يحتمل أن يكون - عليه السلام - كان يوتر بإحدى ركعتين من الثمان ركعات، ثم يصلي الركعتين الباقيتين من الثلاث وهما الركعتان اللتان ذكرهما أبو سلمة في حديثه السابق أنه كان يصليهما وهو جالس وفي ذلك أن الركعة الواحدة من الثلاث التي في قولها: "ثم يصلي ثلاثًا" تضاف إلى الركعتين من الثمان ركعات التي صلاها - عليه السلام - أربعًا أربعًا، فتصير هذه الركعة مع الثنتين منها وترًا، ثم تُجعل الركعتان اللتان بقيتا من الثلاث عوض الركعتين اللتين ذكرهما أبو سلمة في حديثه الآخر أنه - عليه السلام - كان يصليهما وهو جالس، فالجملة إحدى عشرة ركعةً، وتضاف إليها ركعتا الفجر فصارت ثلاث عشرة ركعةً، فاتفق هذا الحديث والأحاديث التي قبله. قوله: "اثنتين" مفعول لقوله: "يوتر بإحداهن". قوله: "من الثمان" في محل النصب؛ لأنه صفة لقوله: "اثنتين" والتقدير: يجعل إحداهن وترًا مع الاثنتين الكائنتن من الثمان، فافهم. والوجه الثاني: وهو الأوجه والأصوب: أن قولها: "ثم يصلي ثلاثًا" تكون كلها وترًا؛ وذلك لأنها قد فصَّلت بكلامها صلاته - عليه السلام - حيث قالت: "فكان يصلي أربعًا ثم يصلي أربعًا" ثم وصفت كل ذلك بالحسن والطول، ثم قالت: "ثم يصلي ثلاثا"

ولم تصف هذه الثلاث بشيء من ذلك وإنما جمعتها بالذكر، فدلَّ ذلك على أنهما الوتر، فيكون جميع ما صلاه: إحدى عشرة ركعةً وتضاف إليها الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم صلى ... "، فحينئذٍ تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، فتتفق الأحاديث كلها ويرتفع الخلاف، وتضاف إليها الركعتان اللتان كان - عليه السلام - يصليهما وهو جالس بعد ما بدَّن، فحينئذٍ أيضًا تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، وهذا أشبه بروايات أبي سلمة؛ لأن جميع رواياته تُخبر عن صلاة النبي - عليه السلام - بعد ما بدَّن وأسنَّ فحينئذٍ إضافة هاتين الركعتين اللتين كان يصليهما وهو جالس إلى تلك الإحدى عشرة يكون أنسب وأشبه من إضافة تلكما الركعتين الخفيفتين اللتين كان يصليهما إذا قام من الليل. وهذا الذي ذكره الطحاوي أجود وأحسن من الذي ذكره بعض المحدثين والفقهاء أن هذا الاضطراب عن عائشة باعتبار الغالب والنادر، وباعتبار اتساع الوقت وضيقه، ومن قول بعضهم أيضًا: إن هذا الاختلاف من الرواة، وكل ذلك ليس بشيء، بل القول ما قاله: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وفي هذا الحديث من الأحكام: أن فيه دليلًا للجمهور في أن تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود، ويؤيده أيضًا ما رواه عبد الله الحُبْشي الخثعمي: "أن رسول الله - عليه السلام - سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال: طول القيام". أخرجه أبو داود (¬1). وروى جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أفضل الصلاة طول القنوت". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 36 رقم 1325).

وأخرجه مسلم (¬1). أراد به طول القيام. وفيه حجة لأبي حنيفة أن التنفل بالليل أربع ركعات بتسليمة واحدة. وفيه دليل على أن الوتر ثلاث ركعات، وهو حجة لأصحابه. ص: وقد روي عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنهم - ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يُصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين". فهذا يحتمل أن يكون على صلاته قبل أن يبدِّن فيكون ذلك هو جميع ما كان يصليه مع الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته، ويحتمل أن يكون على صلاته بعد ما بدَّن فيكون ذلك على إحدى عشرة ركعة منها تسع فيها الوتر وركعتان بعدهما وهو جالس على ما في حديث أبي سلمة، وعلى ما في حديث سعد بن هشام وعبد الله بن شقيق، غير أن مالكًا -رحمه الله- روى هذا الحديث فزاد فيه شيئًا. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث وابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد بسجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج معه". بعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري ... فذكر مثله بإسناده. قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أن جميع ما كان يصليه بعد العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، فقد عاد ذلك إلى حديث أبي سلمة، وعلمنا به أن تلك الصلاة هي صلاته بعد ما بدّن، وأما قولها - رضي الله عنهما -: "يُسلّم بين كل ركعتين" فإن ذلك يحتمل أن يكون كان يسلم بين كل ركعتين في الوتر وغيره، فثبت بذلك ما يَذهَبُ إليه أهل المدينة من التسليم بين الشفع والوتر، ويَحْتملُ أن يكون كان يُسَلم بين كل ركعتين من ذلك غير الوتر ليتفق ذلك وحديث سعد بن هشام ولا يتضادّان، مع أنه قد روي عن عروة في هذا خلاف ما رواه الزهري عنه، فمن ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين". فهذا خلاف ما في حديث ابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، عن عروة، فذلك يحتمل أن تكون الركعتان الزائدتان في هذا الحديث هما الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه، وليس في ذلك دليل على وتره كيف كان. فنظرنا في ذلك؛ فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس وبسبع". حدثنا روحُ بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن هشام بن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بخمس سجدات، ولا يجلس بينها حتى يجلس في الخامسة، ثم يسلم".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بخمسٍ لا يجلس إلا في آخرهن". فقد خالف ما رواه هشام ومحمد بن جعفر، عن عروة؛ ما روى الزهريّ من قوله: "كان يصلي إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة ويسلم في كل ركعتين". شَ: ذكر ما رواه عروة أيضًا عن عائشة في هذا الباب على اختلاف أحكامه، ويوفق بينه وبين ما روى غيره عن عائشة - رضي الله عنهما-. فأخرج حديث عروة عن عائشة - رضي الله عنها - من سبع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وأخرجه الجماعة (¬2) أيضًا. قوله: "فهذا يحتمل أن يكون ... " إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه التوفيق بينه وبين الروايات السابقة. بيان ذلك: أن حديث عروة هذا يحتمل وجهين: الأول: أن يكون هذا محمولًا على صلاته - عليه السلام - قبل أن يبدِّن ويُسِنَّ، فيكون ذلك مع الركعتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته إذا قام من الليل ثلاث عشرة ركعة. الثاني: أن يكون محمولًا على صلاته بعد ما بدَّن وأسنّ، فيكون ذلك على إحدى عشرة ركعة منها تسع ركعات، فيها الوتر ثلاث ركعات، وركعتان ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 120 رقم 262). (¬2) البخاري (5/ 2325 رقم 5951)، ومسلم (1/ 508 رقم 736)، وأبو داود (2/ 39 رقم 1336)، والترمذي (2/ 303 رقم 440)، والنسائي (3/ 234 رقم 1696)، وابن ماجه (1/ 432 رقم 1358).

بعدهما، وهما اللتان كان يصليهما وهو جالس، فتكون الجملة إحدى عشرة ركعةً، ويُضاف إليها الركعتان اللتان كان يفتتح بهما صلاته إذا قام من الليل، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعة. قوله: "غير أن مالكًا روى هلما الحديث فزاد فيه شيئًا" وهو قوله: "فإذا فرغ منها ... " إلى آخره. وفيه من الفوائد: أن فيه دليلًا على استحباب الاضطجاع والنوم على الشق الأيمن، قالت الحكماء: وحكمته أنه لا يستغرق في النوم؛ لأن القلب في جهة اليسار فيعلق حينئذٍ فلا يستغرق، وإذا نام على اليسار كان في دعة واستراحة فيستغرق. وفيه استحباب صلاة ركعتي الفجر في بيته، وكذا سائر السنن والنوافل. الطريق الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن يونس بن يزيد الأيلي، وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، ومحمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدني، ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أخبرته: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته -تعني بالليل- يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة". وأخرجه مسلم (¬2): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن فيه زيادة وهي قوله: "من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 378 رقم 1071). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 508 رقم 736).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ونصر بن عاصم -وهذا لفظه- قالا: نا الوليد، ثنا الأوزاعي -وقال نصر: عن ابن أبي ذئب والأوزاعي- عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن يتصدع الفجر إحدى عشرة ركعةً، يُسلِّم من كل ثِنتين، ويوتر بواحدة، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن بالأصلى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن". حدثنا (¬2) سليمان بن داود المهْري، نا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب وعمرو ابن الحارث ويونس بن يزيد، أن ابن شهاب أخبرهم -بإسناده ومعناه- قال: "ويوتر بواحدة ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له الفجر -وساق معناه وقال-: بعضهم يزيد على بعض". انتهي. أي بعض الرواة في هذا الحديث يزيد في قصة الحديث على بعض، وهو معنى قول الطحاوي أيضًا: بعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث. الطريق الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 39 رقم 1336). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 39 رقم 1337). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 432 رقم 1358).

ونا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -وهذا حديث أبي بكر- قالت: "كان النبي - عليه السلام - يصلّي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم في كل اثنتين ويوتر بواحدة، ويسجد فيهن سجدةً بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن بين الأذان الأول من صلاة الصبح قام فركع ركعتين خفيفتين". وأخرجه البزار في "مسنده": عن محمَّد بن المثنى، عن أبي عامر العقدي ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا، ومتنه: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يسلم في كل سجدتين، ويوتر بواحدة". قوله: "ففي هذا الحديث ... " إلى آخره، [شارة] (¬1) إلى بيان التوفيق بين حديث عروة عن عائشة، وحديث أبي سلمة عن عائشة، وهو ظاهر. قوله: "وأما قولها: يُسلّم بين كل ركعتين ... " آخره، جوابٌ عما يقال: إن هذا الحديث صريح أنه كان يوتر بركعة واحدة؛ لأنه كان يسلم بين كل ركعتين، فيكون حجة على من يقول: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة. تقرير الجواب: أن قولها: "يُسلّم بين كل ركعتين" يحتمل مَعْنَييْن: الأول: مثل ما نقول لهم، وهو أن يكون كان يُسلّم بين كل ركعتين في الوتر وغيره من النفل الذي هو قبل الوتر، فيكون هذا دليلًا لما يذهب إليه أهل المدينة من التسليم بين الشفع والوتر وهم مثل مالك، وسعيد بن المسيب، والزهري، وغيرهم؛ فإن عندهم الوتر ثلاث ركعات ولكن بتسليمين كما بيّنا ذلك فيما مضى. الثاني: يحتمل أن يكون المراد من قولها: "يُسلّم بين كل ركعتين" غير الوتر وهذا الوجه أرجح؛ لأنا لو لم نحمله على هذا المعنى يقع بينه وبين حديث سَعْد بن هشام المذكور فيما مضى تضادٌّ؛ لأنه روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان ¬

_ (¬1) ليست "بالأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

لا يُسلّم في ركعتي الوتر"، والحمل على معنىً يوجب الاتفاق بين الأحاديث أولى وأجدر من الحمل على معنى يوجب التضاد والتناقض، فافهم. وقوله: "مع أنه روي عن عروة في هذا ... " إلى آخره جواب آخر عما قيل؛ تقريره: أن الزهري وإن كان قد روى عن عروة، عن عائشة: "أنه كان يُسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة"، فقد روى غيرُ الزهري، عن عروة، عن عائشة خلاف ما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ فإن هشام بن عروة روى عن أبيه عروة، عن عائشة: "أنه - عليه السلام - كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين". أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وهذا هو الطريق الرابع. قوله: "فهذا خلاف ما في حديث ابن أبي ذئب" أي هذا الحديث الذي رواه مالك، عن هشام، عن عروة، عن عائشة خلاف ما في حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وعمرو بن الحارث المصري، ويونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. ووجه الخلاف: أن حديث عروة عن عائشة هذا يدل على أن جميع صلاته كانت خمس عشرة ركعة على ما لا يخفى، وأحاديث هؤلاء تدل على أن جميعها ثلاث عشرة ركعة. ثم أشار إلى وجه التوفيق بقوله: فذلك يحتمل أن تكون الركعتان الزائدتان في هذا الحديث -يعني حديث عروة عن عائشة- هما الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه، فحينئذٍ تكون هاتان الركعتان داخلتين في جملة ثلاث ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 39 رقم 1339).

عشرة ركعة، ولكن ليس في حديث عروة، عن عائشة هذا دليل على كيفية وتره - عليه السلام - لأنه لم يبيِّن فيه شيئًا. فنظرنا في ذلك فوجدنا هشام بن عروة قد روى عن أبيه عروة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس، وبسبع". أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن هشام. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة نحوه. وهذا هو الطريق الخامس. والطريق السادس: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يونس، ثنا ليث، عن هشام، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بخمس سجدات لا يجلس بينهن حتى يجلس في الخامسة، ثم يسلِّم". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا موسى بن إسماعيل، نا وُهَيب، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يُوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيُسلِّم". الطريق السابع: إسناده صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن بكير الكوفي الجمال عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام، عن عروة، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 508 رقم 737). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 64 رقم 1338). (¬3) سنن أبي داود (2/ 39 رقم 1338).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُصلِّي ثلاث عشرة ركعةَ بركعتَيْه قبل الصبح، يصلي ستًّا مثنى مثنى، ويوتر بخمسٍ لا يقعد بينهن إلا في آخرهن". وأخرجه النسائي (¬2): عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن". قوله: "فقد خالف ما رواه هشام ومحمد بن جعفر، عن عروة ما روى الزهري"، أي خالف ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وما رواه محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة؛ ما رواه محمَّد بن مسلم الزهري؛ لأن في رواية الزهري: "كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويُسلّم بين كل ركعتين" وفي رواية هؤلاء: "لا يجلس إلا في الخامسة"، و"أنه يوتر بخمس وبسبع"، وهذه مخالفة ظاهرة؛ فحينئذٍ حصل الاضطراب فيما روي عن عروة، عن عائشة في صفة وتر النبي - عليه السلام -، فإذا كان كذلك يرجع في ذلك إلى ما روى غير عروة عن عائشة، أشار إلى ذلك بقوله: ص: فلما اضطرب ما روي عن عروة في هذا عن عائشة من صفة وتر النبي- عليه السلام - لم يكن فيما رَوَى عنها في ذلك حجة، فرجعنا إلى ما رَوَى عنها غيرُه، فنظرنا في ذلك فإذا علي بن عبد الرحمن قد حدثنا، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا موسى ابن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 45 رقم 1359). (¬2) "المجتبى" (3/ 240 رقم 1717).

كان يوتر بتسع ركعات" (¬1). حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بتسْع، فلما بلغ سنًّا وثقل؛ أوتر بسبع". حدثنا أبو أيوب عبد الله بن عبيد بن عمران بن خلف الطبراني، قال: ثنا محمَّد ابن عبد الله بن نمير، قال: ثنا ابن فُضَيل، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة - رضي الله عنها -، مثله. ففي هذا الحديث كان وتره تسعًا؛ إلا أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يُصلي من الليل تسع ركعات". ففي هذا الحديث أن تلك التسع هي صلاته التي كان يصليها في الليل، فخالف هذا ما قبله من حديث الأسود، واحتمل أن يكون جميع ما قد سمّاه وترًا هو جميع صلاته التي فيها الوتر؛ والدليل على ذلك ما في حديث يحيى بن الجزار: "أنه كان يُصلي قبل أن يضعف تسعًا؛ فلما بلغ سنًّا صلى سبعًا". فوافق ذلك ما رواه سعد بن هشام في حديثه من الثمان التي كان يصليهن أولًا، ويوتر بواحدة، فلما بدّن جعل تلك الثمان ستًّا وأوتر بالسابعة، فدلّ هذا على أنه سمّى جميع صلاته في الليل -التي كان فيها الوتر- وترًا؛ حتى تتفق هذه الآثار ولا تتضادّ. ش: أي لما وقع الاضطراب في رواية عروة عن عائشة في صفة وتر النبي - عليه السلام - لم يكن فيما روى عروة عنها حجة لأحد، فوجب الرجوع في ذلك إلى ما رواه غير عروة ¬

_ (¬1) وقعت هنا رواية في "شرح معاني الآثار" ليست في "الأصل، ك" ونصها: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بتسع ركعات".

عن عائشة، فنظرنا في ذلك؛ فوجدنا الأسود بن يزيد النخعى قد روى عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بتسع ركعات". أخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة الكوفي المصري، المشهور بعلان، قال ابن أبي حاتم: صدوق. عن عبد الغفار بن داود بن مَهران الحراني شيخ البخاري، عن موسى بن أعين الجزري أبي سعيد الحراني، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه النسائي نحوه (¬1). ووجدنا مسروق بن الأجدع ويحيى بن الجزار كلاهما قد رويا عن عائشة نحوه. أخرج حديث مسروق بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سهل بن بكار بن بشر الدارمي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي الضحى مسلم بن صُبَيح -بضم الصاد- الهمداني الكوفي، عن مسروق، عن عائشة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن معمر، نا يحيى بن حماد، نا أبو عوانة، عن سُلَيمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بتسع". وأخرج حديث يحيى أيضًا بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عبيد الطبراني، عن محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي الحافظ شيخ البخاري وغيره، عن محمد بن فصل بن غزوان الضبي شيخ أحمد، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن يحيى بن الجزار -بالجيم بعدها الزاي المعجمة وفي آخرها راء مهملة- العُرني الكوفي، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 242/ 1725).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن سليمان، قال: نا حسين، عن زائدة، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل تسعًا، فلما أسنّ وثقل صلى سبعًا". قوله: "ففي هذا الحديث وتره كان تسعًا" أشار به إلى حديث عائشة الذي رواه عنها الأسود ومسروق ويحيى بن الجزار، وهذا يخالف ما رواه عروة عن عائشة: "أنه كان يوتر بخمس، وبسبع"، ويخالف أيضًا حديث الأسود الذي رواه علي بن عبد الرحمن عن عبد الغفار، عن موسىل بن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، وحديث الأسود أيضًا الذي رواه فهد، عن الحسن بن الربيع بن سليمان القسري الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي روى له الجماعة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود. وأخرجه النسائي أيضًا (¬2): أنا هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن الأعمش أراه عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل تسع ركعات". بيان الخلاف: أن في رواية علي بن عبد الرحمن: "كان يوتر بسبع ركعات"، وفي رواية فهد: "كان يصلي من الليل تسع ركعات"، ثم وفق الطحاوي بينهما بقوله: واحتمل أن يكون جميع ما قد سماه وترًا هو جميع صلاته التي فيها الوتر؛ من باب إطلاق اسم الجزء على الكل؛ لأن الوتر هو ثلاث ركعات من التسع، والباقي وهو الست نفلٌ، ثم قال: والدليل على ذلك: أن على هذا الإطلاق ما في حديث يحيى بن الجزار، والباقي ظاهر. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 238 رقم 1709). (¬2) "المجتبى" (3/ 242 رقم 1725).

وقال النووي: دلَّت الروايات على أن الوتر ليس مخصوصًا بركعة واحدة ولا بإحدى عشرة، ولا بثلاث عشرة، بل يجوز ذلك وما بينه، وأنه يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا لبيان الجواز وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين. قلت: قد مرَّ أن بين بعض الروايات مخالفة، وفي بعضها اضطراب، ورواية العامة: "كان يوتر بثلاث"، والأخذ بها أولى؛ على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. ص: غير أنَّا لم نقف بَعدُ على حقيقة الوتر إلا في حديث زرارة بن أوفى، عن سَعْد بن هشام خاصةً، فنظرنا هل في غير ذلك دليل على كيفية الوتر أيضًا كيف هي؟ فإذا حُسَيْن بن نصر قد حدثنا، قال: ثنا سعيدُبن عُفَيْر، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في الركعتين اللتين كان يوتر بعدهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬2) ويقرأ في التي في الوتر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬3) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (¬4) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (¬5) ". وحدثنا بكر بن سهل الدمياطي، قال: ثنا شعيب بن يحيى، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث؛ يقرأ في أول ركعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) والمعوذتين (¬6) ". ¬

_ (¬1) سورة الأعلى. (¬2) سورة الكافرون. (¬3) سورة الإخلاص. (¬4) سورة الفلق. (¬5) سورة الناس. (¬6) سورة الفلق، والناس.

فأخبرت عمرة عن عائشة في هذا الحديث بكيفية الوتر كيف كانت، ووافقت على ذلك سعد بن هشام، وزاد عليها سَعدٌ: "أنه كان لا يسلم إلا في آخرهن". حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا صفوان بن صالح، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن إسماعيل بن عياش، عن محمَّد بن يزيد الرحبي، عن أبي إدريس، عن أبي موسى، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في وتره في ثلاث ركعات {قُل هُوَ اللهُ أحَد} والمعوذتين". فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما روى سعد وعمرة. ش: أراد بذلك أن الأحاديث التي رُويت عن عائشة فيما مضى في باب الوتر ليس فيها ما يوقف به على حقيقة الوتر إلا في حديث زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - لا يُسلِّم في ركعتي الوتر"؛ فإنه صريح على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة وقعدتين، فوجدنا أيضًا قد روي عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وأبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، كلاهما رويا عن عائشة ما يوافق حديث زرارة عن سعد، عن عائشة. أما حديث عمرة فقد أخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك البغدادي، قال ابن يونس: كان ثقة ثبتًا. عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني روى له المجاعة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية المدنية روى لها الجماعة، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو حاتم الرازي، نا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن أبيوب، عن يحيى بن سعد، عن عمرة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 24 رقم 10).

أخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬1)، وأخرجه الترمذي (¬2) معلقًا. الثاني: عن بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع الدمياطي شيخ الطبراني، وفي "الميزان" (¬3): حمل الناس عنه وهو مقارب الحال. عن شعيب بن يحيى بن السائب التجيبي العبادي -والعباد بطن من السكون- أبي يحيى المصري، قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمعروف. وروى له النسائي. عن يحيى بن أيوب الغافقي ... إلى آخره وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبد الله بن أحمد بن شبُّوية المروزي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في الوتر في الركعة الأول بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬4) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬5) , وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬6) ". وأما حديث أبي موسى فأخرجه عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ شيخ الشام في وقته وشيخ أبي داود والطبراني أيضًا، عن صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي مؤذن المسجد الجامع بدمشق شيخ أبي داود، وقال: هو حجة. وروى له بقية الأربعة ابن ماجه في "التفسير". عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، قال الفسوي: تكلم فيه قوم، وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث أهل الشام. وقال دُحَيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن الحجازيين. وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 37 رقم 4630). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 326) معلقًا تحت الحديث رقم (463). (¬3) "ميزان الاعتدال" (2/ 62). (¬4) سورة الأعلى. (¬5) سورة الكافرون. (¬6) سورة الإخلاص.

عن محمَّد بن يزيد الرحبي الدمشقي، قال الذهبي: لم أر لهم فيه كلامًا. عن أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني العَوْذي روى له الجماعة، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة - رضي الله عنها - وأخرجه (¬1). ص: وحدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: "قلت لعائشة - رضي الله عنها -: بكم كان النبي - عليه السلام - يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة". ففي هذا الحديث ذكرُها لما كان يصليه في الليل من التطوع وتسميتها إياه وترًا، إلا أنها قد فصَّلت بين الثلاث وبين ما ذكرت معها, وليس ذلك إلا لأن الثلاث كان لها معنى بائن من معنى ما كان قبلها، فدل ذلك على معنى حديث الأسود ومسروق يحيى بن الجزار، عن عائشة - رضي الله عنها - أنه كذلك. والدليل على ذلك أيضًا ما روي عنها من قولها: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن عبد الحميد ابن جبير بن شيبه، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء". فكرهت أن يجعل الوتر ثلاثًا لم يتقدمهن شيء حتى يكون قبلهن غيرهن، فلما كان الوتر عندها أحسن ما يكون هو أن يتقدمه تطوع إما أربع واما اثنتان، جمعت بذلك تطوع النبي - عليه السلام - في الليل الذي صلح به الوتر الذي بعدها أوْتر فسمت ذلك وترًا، إلا أنه قد ثبت في جملة ذلك عندنا أن الوتر ثلاث، فثبت من روايتها عن النبي - عليه السلام - ما رواه عنها سعد بن هشام لموافقة قولها من رأيها إياه، فثبت بذلك أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، غير أن ما رواه هشام بن عروة، عن ¬

_ (¬1) بيّض له المؤلف -رحمه الله-، والحديث أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/ 52 رقم 6825) من طريق صفوان بن صالح به.

أبيه في ذلك: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن" لم نجد له معنى، وقد نقلت العامة عن أبيه، وعن غيره، عن عائشة بخلاف ذلك؛ فما روته العامة أولى مما رواه هو وحده وانفرد به. ش: ذكر هذا الحديث أيضًا لبيان حقيقة الوتر، وأنه ثلاث ركعات، بيان ذلك: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بأربع وثلاث، ثمان وثلاث، وعشر وثلاث" فقد ذكرت فيه ما كان يصليه - عليه السلام - في الليل من التطوع، وسمَّت الجميع وترًا على إطلاق اسم الجزء على الكل؛ لأن الكل ليس بوتر وإنما الوتر منه ثلاث ركعات؛ ولهذا فصلت بين الثلاث والأربع، والثلاث والثمان، والثلاث والعشر، ولو لم يكن معنى الثلاث مباينًا لمعنى ما كان قبله لما فصلت بهذا التفصيل، فثبت بذلك أن الوتر هو الثلاث. ودلَّ ذلك أيضًا على أن معنى حديث الأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، يحيى بن الجزار كذلك، وقد مرَّ فيما مضى أحاديثهم أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بتسع، فيكون معناه على معنى الحديث المذكور: "كان يوتر بستٍّ وثلاث" فتكون الثلاث وترًا، وما قبله من الستّ نفلًا. ثم الذي يفهم من حديث عائشة - رضي الله عنها - شيئان: الأول: أن الثلاث الذي هو وتر يمتاز عما ذكر قبله من الأربع والثمان والعشر. والثاثى: أنها أطلقت على الكل وترًا؛ لأنها كانت تكره أن تجعل الوتر ثلاثًا من غير أن يتقدمهن شيء، فلهذا قالت من قولها: "الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء" أي الوتر سبع ركعات، أو خمس ركعات، ولكن المراد أن الثلاث منه هو الوتر وما قبله -من الأربع في السبع، ومن الركعتين في الخمس- نفل وتطوع، وكان الأحسن عندها في الوتر أن يكون قد تقدمه شيء من التطوع، فلذلك قالت: "الثلاث بتراء" أي الثلاث ركعات التي لا يتقدمهن شيء من التطوع بتراء وإن كانت هي وترًا, ولذلك المعنى أيضًا جمعت تطوع النبي - عليه السلام - مع وتره وأطلقت على الكل وترًا حيث قالت:

"كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث"، ولكن ثبت في ضمن هذا الكلام أن الوتر ثلاث ركعات؛ فحينئذٍ ثبت ما رواه سعد بن هشام عنها عن النبي - عليه السلام - "أنه كان لا يسلم في ركعتي الوتر"؛ وذلك لأن قولها من رأيها: "والثلاث بتراء" يدل على أنه يوافق ما رواه سعد عنها عن النبي - عليه السلام -. فثبت بمجموع ذلك أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخرها. فإن قيل: يعارض ما ذكرتم ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه في ذلك: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن". قلت: أجاب عنه الطحاوي بقوله: غير أن مما رواه ابن عروة، عن أبيه ... إلى آخره، وهو ظاهره. ثم إسناد حديث بحر بن نصر صحيح، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني أبو عبد الله المصري شيخ أبي عوانة الإسفراييني، وثقه يونس بن عبد الأعلى. وعبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، ومعاوية بن صالح بن حدير المزني الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن أبي قيس -ويقال: ابن قيس، والأول أصح- أبو الأسود النصري -بالنون- الشامي الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن معاوية، عن عبد الله ابن أبي قيس، قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها -: بكم كان رسول الله - عليه السلام - يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين". قوله: "كان يوتر بأربع وثلاث" أي بأربع ركعات وثلاث ركعات، والمعنى كان يتطوع بأربع ركعات ثم يوتر بثلاث ركعات، ولكنها أطلقت على الكل وترًا لما ¬

_ (¬1) مسند أحمد (6/ 149 رقم 25200).

ذكرنا من المعنى، وكذا معنى قولها: "وثمان وثلاث" أي ثمان ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر، فالجملة إحدى عشرة، وقولها: "وعشر وثلاث" أي وعشر ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر. فإن قيل: إذا كان المراد من هذا تطوعه - عليه السلام - مع الوتر، وقد كان تطوعه - عليه السلام - في الليل -فيما ذكر في الأحاديث السابقة- ثلاث عشرة ركعةً، فكيف يكون التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث؛ لأن المذكور في هذا الحديث سبع ركعات وإحدى عشرة ركعة؟ قلت: يمكن أن يقال في قولها: "بأربع وثلاث" أن يكون هذا خلاف ما كان - عليه السلام - يصليه من ركعتن خفيفتين إذا افتتح صلاته حين يقوم من الليل، وخلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، فيصير الجملة إحدى عشرة ركعة، ويضاف إليها ركعتا الفجر فتصير ثلاث عشرة ركعة، وقد جاء إضافة ركعتي الفجر إلى تطوعه ووتره بالليل كما في حديث أبي سلمة، عن عائشة: "كانت صلاته في رمضان وغيره سواء ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر"، وقد مر في هذا الباب، وكما في حديث القاسم بن محمَّد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويسجد سجدتي الفجر؛ فذلك ثلاث عشرة ركعة". أخرجه أبو داود (¬1). وفي رواية له (¬2): "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر". وأما في قولها: "وثمان وثلاث" أن يكون هذا خلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعةً. وأما في قولها: "وعشر وثلاثٍ" أي عشر ركعات تطوع وثلاث وتر، فالجملة ثلاث عشرة ركعة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 38 رقم 1334). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 46 رقم 1360).

ثم إسناد حديث أحمد بن داود المكي صحيح أيضًا على شرط مسلم. وابن أبي عمر هو محمَّد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نزيل مكة، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه. وسفيان هو الثوري. وعبد الحميد بن جبير بن شيبة بن عثمان المكي روى له الجماعة. قوله: "بتراء" فعلاء تأنيث أبتر من البتر، وهو القطع، وإنما قالت: "والثلاث بتراء" لما ذكرنا أن أحسن ما يكون من الوتر عندها أن يكون قد تقدمه شيء من النفل إما أربع أو ركعتان. وقال ابن أبي شيبة في مصنفه (¬1): حدثنا عباد بن العوام، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن عائشة قالت: "لا توتر بثلاث بتراء، صلِّ قبلها ركعتين أو أربعًا". فعلم من هذا أن معنى قولها: "والثلاث بتراء" أي مقطوعة، وهو إنما يكون إذا لم يتقدمها شيء، لا لكون أن الإيتار بالثلاث مكروه لكونه بتراء، فافهم فإنه موضع خفيّ معناه، قد صَعُب على كثير من الأغبياء الذين تسلقوا به إلى القول بكراهة الإيتار بثلاث ركعات، وآفة سُقْم الأذهان تلجئ الأغبياء إلى أكثر من ذلك. ص: وقد رويت عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك آثار يعود معناها أيضًا إلى المعنى الذي عاد إليه معنى حديث عائشة - رضي الله عنها -، فمن ذلك: ما حدثنا ابن مرزوق وأبو بكرة، قالا: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس: "أنه بات عند خالته ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6828).

ميمونة - رضي الله عنهما -، فقام النبي - عليه السلام - يصلي من الليل، فقمتُ، فتوضأت، ثم قمتُ عن يساره، فجذبني فأدارني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة؛ قيامه فيهن سواء". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كُهَيل، قال: سمعت كُرَيبًا يحدث عن ابن عباس فذكر مثله، وقال: "فتكاملت صلاة النبي - عليه السلام - ثلاث عشرة ركعة". فقد اتفق هذا الحديث وحديث عائشة في جملة صلاته أنها كانت ثلاث عشرة ركعةً، إلا أنه لا تفصيل في حديث ابن عباس، فأردنا أن ننظر؛ هل رُوي عن ابن عباس في تفصيل ذلك شيء؟ فنظرنا في ذلك، فإذا علي بن معبد قد حدثنا، قال: (¬1) ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: "أمرني العباس أن أبيت بآل النبي - عليه السلام - وتقدم إليّ: أن لا تنام حتى تحفظ لي صلاة رسول الله - عليه السلام - قال: فصليت مع النبي - عليه السلام - العشاء، ثم نام، ثم قام فبال، ثم توضأ، ثم صلى ركعتين ليستا بطويلتين ولا بقصيرتين، ثم عاد إلى فراشه، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم استوى، وفعل مثل ذلك حتى صلَّى ستّ ركعات، وأوتر بثلاث". حدثنا أحمدُ بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن حصين، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: ثنا أبي، عن ابن عباس مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني حُصَين، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "ثم أوتر"، ولم يقل: "بثلاثٍ". ¬

_ (¬1) زاد في "شرح المعاني": ثنا شعبة. ولم يتعرض له المؤلف في الشرح.

فأخبر علي بن عبد الله بن عباس بوتر النبي - عليه السلام - كيف كان في صلاته تلك وأنه ثلاثٌ، وخالف أبا جمرة وعكرمة بن خالد وكريبًا في عدد التطوع. ش: أشار بهذا إلى أنه رويت أحاديث عن عبد الله بن عباس في صلاته - عليه السلام - من الليل، إذا كشفت يكون معناها كمعنى أحاديث عائشة المذكورة فيما مضى. ثم أخرج عن أبي جمرة، وعكرمة بن خالد، وكريب، عن ابن عباس: "أنه - عليه السلام - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة". أما حديث أبي جمرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، وأبي بكرة بكار القاضي، كلاهما عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- اسمه نصر بن عمران الضُّبَعي البصري، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني أبو جمرة، عن ابن عباس قال: "كان صلاة النبي - عليه السلام - ثلاث عشرة ركعة، يعني بالليل". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا. وأما حديث عكرمة: فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمّي البصري شيخ البخاري، عن وُهَيب بن خالد البصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن طاوس روى له الجماعة، عن عكرمة بن خالد بن العاص المكي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - قام من الليل يصلي، فقمت فتوضأت، فقمت عن يساره فجرني فأقامني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة قيامه فيهن سواء". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 382 رقم 1087). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 531 رقم 764). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 252 رقم 2276).

وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. ويستفاد منه أحكام: فضيلة قيام الليل، والإمام إذا كان معه واحد يقيمه عن يمينه، والمستحب تسوية القراءة في ركعات النفل، وجواز إقامة النفل مع الجماعة، واستحباب ذلك في البيوت والمنازل. وأما حديث كريب فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن كريب ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬3): ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت كريبًا بن أبي مسلم يحدث، عن ابن عباس قال: "بتُّ في بيت خالتي ميمونة، فرقَبتُ رسول الله - عليه السلام -، قال: فنام ثم استيقظ فغسل وجهه وكفيه ثم نام، ثم استيقظ فقام إلى قربة فحل شناقها -يعني رباطها- ثم صب في جفنة -أو قصعة- فغسل كفيه ووجهه وتوضأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين، ثم قام يصلي، فقمت عن يساره فأقامني عن يمينه، "فتكاملت صلاة رسول الله - عليه السلام - ثلاث عشرة ركعة، وكان يقول في سجوده -أو قال في صلاته، شك شعبة-: اللهم اجعل في سمعي نورًا، وفي قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، واجعلني نورًا- أو اجعل لي نورًا، شك شعبة- ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرف نومه بنفخه، ثم خرج إلى الصلاة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 47 رقم 1365). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 447 رقم 1425). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 353 رقم 2706).

وحديث ابن عباس أخرجه الجماعة (¬1) مطولًا ومختصرًا. قوله: "فقد اتفق هذا الحديث" أي حديث ابن عباس الذي رواه عنه أولئك الثلاثة، وحديث عائشة - رضي الله عنها - المذكور فيما مضى؛ في جملة صلاته أنها كانت ثلاث عشرة ركعة، غير أنه لا تفصيل في حديث ابن عباس هذا كما جاء التفصيل في حديث عائشة، فنظرنا فيه هل نجد عنه حديثًا فيه تفصيل كما في حديث عائشة؟ فوجدنا علي بن عبد الله بن عباس قد روى عن أبيه عبد الله بن عباس حديثًا فيه تفصيل كما في حديث عائشة. أخرج ذلك من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري شيخ النسائي أيضًا، عن شبابة بن سوار الفزاري أبي عمرو المدائني، عن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي، عن المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي، عن علي بن عبد الله بن عباس روى له الجماعة، البخاري في غير الصحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا يونس بن أبي إسحاق، ثنا المنهال بن عمرو، ثنا علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: "أمرني العباس بن عبد الملطلب قال: بِتْ إلى رسول الله - عليه السلام -، فانطلقت إلى المسجد، فصلى رسول الله - عليه السلام - بالناس صلاة العشاء الآخرة، ثم صلى بعدها حتى لم يبق في المسجد أحدٌ غيري، قال: ثم مرَّ بي فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله. قال: فمَهْ؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة، قال: فالْحَقْ. قال: فلما انصرف دخل فقال: أفرشوا عبد الله، فأُتيتُ بوسادة من منسوج، قال: وتقدم إليّ العباس: لا تنام حتى تحفظ صلاته. قال: فتقدم رسول الله - عليه السلام - فنام حتى سمعت غطيطه، ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2327 رقم 5957)، و"صحيح مسلم" (2/ 528 رقم 763)، و"سنن أبي داود" (2/ 46 رقم 1364)، و"سنن الترمذي" (1/ 451 رقم 232)، و"المجتبى" (2/ 218 رقم 1121)، و"سنن ابن ماجه" (1/ 47 رقم 423). (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (10/ 275 رقم 10648).

فاستوى على فراشه، فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) ثم قام ثم استن بسواكه وتوضأ, ثم دخل في مصلاه فصلى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين، ثم عاد إلى فراشه فنام حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه ففعل كما فعل في المرة الأولى، ثم استن بسواكه، ثم توضأ, ثم في خل مصلاه فصلى ركعتين ليستا بطويلتن ولا قصيرتين، ثم عاد إلى فراشه فنام حترل سمعت غطيطه، ثم استو ى على فراشه ففعل كما فعل، ثم صلي ثم أوتر، فلما قضى صلاته سمعته يقول: اللهم اجعل في بصري نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في لساني نورًا، واجعل في قلبي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، واجعل عن شمالي نورًا، واجعل لي من أمامي نورًا، واجعل من خلفي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، واجعل من أسفلي نورًا، واجعل لي يوم القيامة نورًا، وأعظم لي نورا". قوله: "أن أبيت بآل النبي - عليه السلام -" أي بأهله، أراد به أن يبيت في بيت النبي - عليه السلام -؛ ليحفظ صلاته، كيف يصلي؟ قوله: "غطيطه" وهو صوت يخرجه النائم مع نفسه، والخطيط -بالخاء المعجمة- قريب من الغطيط، والغين والخاء المعجمتان متقاربتان في المخرج، يقال: خط في نومه يخط: بمنزلة غط، وقال بعضهم: الخطيط -بالخاء- لا يعرف. فإن قيل: كيف يتفق هذا الحديث مع حديث عائشة في كون صلاته - عليه السلام - ثلاث عشرة ركعة؟ قلت: يتفق معه لأن فيه ركعتين أولًا، ثم ست ركعات، ثم الوتر ثلاث ركعات، فالجملة إحدى عشرة ركعة، ويضاف إليها ركعتا الفجر فصارت الجملة ثلاث عشرة ركعة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [190].

الطريق الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن السُّلَمي، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس. ورجاله كلهم ثقات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا هشام بن عبد الملك، نا أبو عوانة، عن حصين، عن حبيب بن أبي ثابت، أنه حدثه محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: حدثني ابن عباس: "أنه بات عند النبي - عليه السلام - , فاستيقظ من الليل فأخذ سواكه فاستاك به، ثم توضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) حتى قرأ هذه الآيات، وانتهى عند آخر السورة، ثم صلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف حتى سمعت نفخة النوم، حتى استيقظ فاستاك وتوضأ, حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوتر بثلاث، فأتى بلال المؤذن، فخرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل في قلبي نورًا، واجعل أمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، اللهم عظِّم لي نورًا". الطريق الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السُّلَمِي، عن حبيب بن أبي ثابت ... إلى آخره. فذكر الحديث مثل المذكور غير أنه لم يقل: "ثم أوتر بثلاث"، بل قال: "ثم أوتر" فقط، فأخبر علي بن عبد الله بن عباس بوتر النبي - عليه السلام - كيف كان في صلاته وعيّن أنه ثلاث، والرواية التي ليس فيها ذكر الثلاث محمولة على الرواية التي فيها ذكر الثلاث، فافهم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 373 رقم 3541). (¬2) سورة آل عمران، آية: [190].

قوله: "وخالف أبا جمرة" أي خالف علي بن عبد الله في روايته عن أبيه؛ أبا جمرة نصر بن عمران وعكرمة بن خالد وكريبًا مولى ابن عباس، في عدد تطوعه - عليه السلام - بالليل، وذلك لأن في رواية هؤلاء: "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة"، وفي رواية علي بن عبد الله: "إحدى عشرة ركعة"، وقد ذكرنا أنَّا إذا أضفنا إلى هذه ركعتي الفجر تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، والله أعلم. ص: وأما سعيد بن جبير فروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: عن ابن عباس (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "بتّ في بيت خالتي ميمونة - رضي الله عنها -، فصلى رسول الله - عليه السلام - العشاء ثم جاء فصلى أربعًا، ثم قام قصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعمت غَطِيطَه -أو خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة". ففي هذا الحديث أنه صلى إحدى عشرة ركعة، منها ركعتان بعد الوتر، فقد وافق علي بن عبد الله في التسع التي منها الوتر، وزاد عليه ركعتين بعد الوتر. ش: لمَّا روى أحاديث عن ابن عباس يرجع معناها إلى معنى أحاديث عائشة المذكورة في هذا الباب، وكان الرواة فيها عن ابن عباس أبا جمرة، وعكرمة بن خالد، وكريبًا أخرج أيضًا أحاديث عن ابن عباس من رواية سعيد بن جبير - رضي الله عنه - موافقة لرواية علي بن عبد الله في أنه صلى التسع منها وتره، ولكنه زاد عليه في روايته ركعتين بعد الوتر. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "بتّ في بيت خالتي ميمونة، فصلّى رسول الله - عليه السلام - العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فجئت فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصل خمس ركعات، ثم صلي ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو قال: خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عَمرو العقدي، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا ابن المثنى، نا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث، فصلى رسول الله - عليه السلام - العشاء، ثم جاء فصل أربعًا، ثم نام، ثم قام يصلي، فقمت عن يساره فأدارني فأقامني عن يمينه، فصلى خمسًا ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو خطيطه- ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن الحكم ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬3): ثنا يوسف القاضي، ثنا سليمان بن حرب (ح). وثنا أبو خليفة، ثنا أبو الوليد الطيالسي، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "بتُّ عند خالتي ميمونة، فصلى النبي - عليه السلام - العشاء، ثم جاء فصل أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فقال: أستيقظ الغلام؟ أقام الغليّم؟ فجئت فقمت عن يساره فحولني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلي ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو قال: خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 247 رقم 665). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 45 رقم 1357). (¬3) "معجم الطبراني الكبير" (12/ 25 رقم 12365).

ص: وقد روي عن سعيد بن جبير، ويحيى بن الجزار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في وتر النبي - عليه السلام - مفردًا ما يدل على أنه ثلاث؛ فمن ذلك: ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى الجزار، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث ركعات". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا لوين، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - فذكر مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا لُوَيْن، قال: ثنا شريك، عن مخوَّل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، يقرأ في الأولي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - ثم ذكر مثله. فهذا فيه تحقيق ما رواه علي بن عبد الله عن أبيه من وتر رسول الله - عليه السلام - أنه كان ثلاثًا. ش: لمَّا أخرج فيما مضى من حديث علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه من وتر رسول الله - عليه السلام - أنه كان ثلاثًا حيث قال في روايته: "حتى صلَّى ستّ ركعات وأوتر بثلاث" أكد ذلك برواية سعيد بن جبير ويحيى بن الجزار عن ابن عباس في وتر النبي - عليه السلام - مفردًا من دون ذكر تطوعه أنه ثلاث ركعات، فروايتهما عن ابن عباس أنه - عليه السلام - كان يوتر بثلاث ركعات بدون أن يُذكر معه نفل من صلاة الليل تدل على أنه - عليه السلام - كان يوتر بثلاث ركعات أيضًا -في رواية علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه- مع نفله وتطوعه من صلاة الليل. فأخرج ذلك من أربع طرق صحاح: الأول: على شرط مسلم، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي شيخ أحمد، عن أبي بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن

قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، عن حبيب بن أبي ثابت قيس الكوفي، عن يحيى بن الجزار العرني الكوفي، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬1): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس قال: "كان رسول - عليه السلام - يصلي من الليل ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الفجر". الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن محمَّد بن سليمان بن حبيب المصيصي الملقب بلُوَيْن -بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون- عن شريك النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا الحسين بن عيسى، قال: ثنا أبو أسامة، قال: حدثني زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث، يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". الثالث: مثل الثاني، غير أنه ذكر فيه في موضع أبي إسحاق: مخوَّل بن راشد النهدي الكوفي من رجال الجماعة، وزاد فيه: مسلمًا البطين وهو مسلم بن عمران أبو عبد الله الكوفي، روى له الجماعة إلا النسائي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا شريك عن مخوَّل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 237 رقم 1707). (¬2) "المجتبى" (3/ 236 رقم 1702). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 94 رقم 6879).

الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن سعيد بن جبير. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬1): ثنا شبابة، ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ص: وأما كريبٌ فروى عن ابن عباس في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا شريك بن أبي نمر، أن كريبًا أخبره، أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "بتُّ ليلةً عند رسول الله - عليه السلام - فلما انصرف من العشاء الآخرة انصرفت معه، فلما دخل البيت ركع ركعتين خفيفتين ركوعهما مثل سجودهما وسجودهما مثل قيامهما، ثم اضطجع مكانه في مصلاه حتى سمعت غطيطه، ثم تعارّ ثم توضأ فصلى ركعتين كذلك، ثم اضطجع مكانه فرقد حتى سمعتُ غطيطه، ثم فعل ذلك خمس مرات، فصلى عشر ركعات، ثم أوتر بواحدة، وأتاه بلال - رضي الله عنه - فآذنه بالصبح، فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة". فقد أخبر في هذا الحديث أنه صلى عشر ركعات ثم أوتر بواحدة، فقد يحتمل أن يكون أوتر بواحدةٍ مع اثنتين قد تقدمتاها فتكونان مع هذه الواحدة ثلاثًا ليستوى معنى هذا الحديث ومعنى حديث على بن عبد الله، وسعيد بن جبير، يحيى بن الجزار. ثم نظرنا هل روي عنه ما يُبيّن ذلك؟ فإذا إبراهيم بن منقد العصفري قد حدثنا، قال: ثنا المقرى، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: ثنا عبد ربه بن سعيد، عن قيس بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن عبد الله بن عباس حدّثه قال: "فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العشاء، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر بثلاث". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 319 رقم 36469).

فاتفق هذا الحديث وحديث ابن أبي داود على أن جميع ما صلى إحدى عشرة ركعةً، وبيّن هذا أن الوتر فيها ثلاث. فثبت بذلك أن معنى حديث ابن أبي داود: "ثم أوتر بواحدة" أي مع الثنتين قد تقدمتاها، هما معها وتر. وقد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، أن عبد الله بن عباس حدثه: "أنه بات عند ميمونة -وهي خالته- فصلّى رسول الله - عليه السلام - ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح". فقد زاد في هذا الحديث ركعتين، ولم يخالفه في الوتر، وكان ما روينا عن ابن عباس -لما جُمعَتْ معانيه- يَدُل على أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث. ش: "كان بَيْن رواية سعيد بن جبير يحيى بن الجزار عن ابن عباس، وبين رواية كريب عن ابن عباس أيضًا تضادٌّ ظاهرًا؛ لأن حديثهما عن ابن عباس يصرّح بأنه كان يوتر بثلاث، وحديث كريب عنه يصرِّح بأنه كان يوتر بواحدة، فبينهما تضاد وخلاف، أراد أن يوفق بينهما؛ فذكر وجه التوفيق: أن معنى حديث كريب: "ثم أوتر بواحدة" أي مع اثنتين، أي ركعتين قد تقدمتا تلك الركعة الواحدة التي أوتر بها، فتكون هذه مع تلكما الركعتين ثلاث ركعات؛ فحينئذٍ يتفق الحديثان (¬1). ثم أخرج بإسناد صحيح ما يبيِّن صحة هذا التوفيق: عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري وثقه ابن يونس، عن عبد الله بن يزيد القرشي أبي عبد الرحمن المقرئ روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري روى له الجماعة، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري أخي يحيى بن سعيد روى له ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك".

الجماعة، عن قيس بن سليمان العنبري التميمي وثقه ابن حبان، عن كريب، أن ابن عباس حدثه: "أنه - عليه السلام - أوتر بثلاث". فهذه الرواية عن كريب تدل على أن معنى روايته الأول هو المعنى الذي ذكره الطحاوي؛ إذ التوفيق بين الروايتين المتعارضتين هو الأصل؛ لأن فيه الإعمال بالدليلين وإن لم يوفّق فأقل المرتبة يَسقط العمل بإحدى الروايتين، وهو خلاف الأصل. وأما إسناد حديث كريب في روايته الأولى فصحيح أيضًا؛ لأن رجاله ثقات، فيحيى بن صالح الوُحاظي أبو صالح الشامي شيخ البخاري وقد تكرر ذكره، وسليمان بن بلال القرشي أبو محمَّد المدني روى له الجماعة، وشريك بن أبي نمر هو شريك بن عبد الله ابن أبي نمر القرشي أبو عبد الله المدني روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمَّد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: "رقدتُ في بيت خالتي ميمونة زوج النبي - عليه السلام - وكان النبي - عليه السلام - عندها؛ لأنظر كيف صلاة النبي - عليه السلام - من الليل؟ فتحدث النبي - عليه السلام - مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قام فنظر إلى السماء فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬2) هذه الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذَّن بلال بالصلاة، فصل ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح". وأخرج أبو داود (¬3) مثل هذا: عن الفضل بن عباس، قال: حدثنا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا زهير بن محمَّد، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (11/ 476 رقم 12184). (¬2) سورة آل عمران، آية: [190]. (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 44 رقم 1355).

الفضل بن عباس قال: "بتُّ ليلة عند النبي - عليه السلام - لأنظر كيف يصلي؟ فقام فتوضأ وصلى ركعتين؛ قيامه مثل ركوعه، وركوعه مثل سجوده، ثم نام، ثم استيقظ فتوضأ واستنثر، ثم قرأ الخمس آيات من آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2)، فلم يزل يفعل هذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام فصلى سجدة واحدةً فأوتر بها، ونادى المنادي عند ذلك، فقام رسول الله - عليه السلام - بعدما سكت المؤذن فصلى سجدتين خفيفتين، ثم جلس حتى صلى الصبح". قوله: "ثم تعارّ" بتشديد الراء، أي استيقظ، ولا يكون إلا يقظةً مع كلام، وقيل: معناه تمطى، وقال الجوهري: تعارّ الرجل إذا هبّ من نومه مع صوت. قوله: "فآذنه" أي أعلمه بصلاة الصبح. وأما حديث يونس بن عبد الأعلى فقد أخرجه أيضًا بإسناد صحيح؛ إيذانًا بأن معنى هذه الرواية معنى الرواية السابقة وليس بينهما اختلاف، ولكنه زافى في هذه الرواية ركعتين، وهما ركعتا الصبح. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬4): عن محمَّد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. وابن ماجه (¬5): عن أبي بكر بن خلاّد الباهلي، عن معن بن عيسى، عن مالك. وأحمد (¬6): عن عبد الرحمن، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 401 رقم 1140). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 526 رقم 763). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 47 رقم 1367). (¬4) "المجتبى" (3/ 210 رقم 1620). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 433 رقم 1363). (¬6) "مسند أحمد" (1/ 242 رقم 2164).

ولفظ البخاري: عن كريب مولى ابن عباس، أنه أخبره عن عبد الله بن عباس: "أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي خالته، قال: فاضطجعت على عرض الوسادة واضطجع رسول الله - عليه السلام - وأهله في طولها، فنام رسول الله - عليه السلام - حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله - عليه السلام - فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شنٍّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمتُ فصندت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - عليه السلام - يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمين يفتلها بيده، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصُبح". ويستفاد من هذا الحديث أربعة عشر حكمًا: - جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعه بحضور بعض محارمها وإن كان مميزًا. - واستحباب قيام الليل. - وجواز القراءة للمحدث. - واستحباب قراءة الآيات المذكورة عند القيام من النوم. - وجواز قول: "سورة آل عمران" و"سورة البقرة" ونحوهما. - وإحسان الوضوء، وهو إسباغه وتكميله. - واستحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن يثق بالانتباه. - واستحباب الاضطجاع بعد الوتر. - واستحباب اتخاذ المؤذن لإعلام مواقيت الصلوات. - وجواز إتيان المؤذن إلى الإِمام ليخرج إلى الصلاة.

- وصلاة ركعتي الفجر. - والتخفيف فيهما. - والتنفل بالليل ركعتين ركعتين. - والرابع عشر: أن الوتر ثلاث ركعات، أشار إليه بقوله: "وكان ما روينا عن ابن عباس لما جُمِعت معانيه يدل على أن وتره - عليه السلام - كان ثلاث ركعات، فافهم". ص: وقد رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من قوله في ذلك شيء. حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن عطاء، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "إني لأكره تكون بتراء ثلاثًا, ولكن سبعًا أو خمسًا". وحدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش، فذكر بإسناد مثله. وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن الأعمش، فذكر بإسناده مثله. فهذا عندنا على أنه كره أن يوتر وترًا لم يتقدمه تطوع، وأحب أن يكون قبله تطوع إما ركعتان وإما أربع. ش: أي قد رُوِي عن عبد الله بن عباس من قول نفسه ورأيه في أن الوتر ثلاث، ولكنه كره أن يوتر أحد وترًا لم يتقدمه تطوع، لا أنه قال من رأيه أن الإيتار بثلاث ركعات بتراء وإنما أحب ذلك لأنه لما نظر في أفعال النبي - عليه السلام - في صلاة الليل فوجد وتره فيها مسبوقًا بتطوع، فلذلك أحب أن يكون قبل الوتر تطوع إما ركعتان وإما أربع. ثم إنه أخرج ذلك عن ابن عباس من ثلاث طرق: الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي الرجل الصالح، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الواسطي البزاز،

فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشىء. وعنه: ساقط. وعن ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وهو يروي عن سليمان الأعمش، عن سعيد بن جبير. الثاني: وهو طريق صحيح، عن عيسى بن إبراهيم بن عيسى الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي، عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش ... إلى آخره. الثالث: وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله رجاء، عن سفيان، عن الأعمش ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: "قلت لسعيد بن جبير: قول عبد الله: الوتر بسبعٍ أو بخمسٍ ولا أقل من ثلاث؟ فقال سعيد: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إِني لأكره أن يكون ثلاثًا بتراء ولكن سبعًا أو خمسًا". ص: فإن قال قائل: فقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذا، فذكر ما حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء قال: قال رجل لابن عباس: هل لك في معاوية أوتر بواحدة -وهو يُريد أن يَعيبَ معاوية- فقال ابن عباس: أصاب معاوية". قيل له: فقد رُوي عن ابن عباس في فعل مُعاوية هذا ما يدل على إنكاره عليه إياه؛ وذلك أن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة قال: "كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هَزِيعٌ من الليل، فقام معاوية فركع ركعةً واحدةً. فقال ابن عباس: من أين تُرَى أخذها الحمارٌ؟! ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا عمران فذكر بإسناده مثله، إلا أنه لم يقل: "الحمار"، ولا يجوز عليه أن يكون ما خالف فعل رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 89 رقم 6821).

الذي قد علمه عنده صوابًا، وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أصاب معاوية" على التقية منه له يعني أصاب في شيء آخر؛ لأنه كان في زمنه. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم إن الوتر عند ابن عباس ثلاث؛ لأن أحاديثه إذا جمعت تدل على أنه - عليه السلام - كان يوتر بثلاث ركعات، ولكن ابن عباس كان يكره أن يوتر أحد وترًا لم يتقدمه تطوع، فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه اسْتَصْوبَ فعل معاوية حين أوتر بركعة واحدة لم يتقدمها شيء حيث قال: "أصاب معاوية". أخرج ذلك عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء ابن أبي رباح. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا الحجاج، عن عطاء: "أن معاوية أوتر بركعة فأنكر ذلك عليه، فسئل ابن عباس فقال: أصاب السنة". وأخرجه البخاري في كتاب مناقب الصحابة في باب "ذكر معاوية" (¬2): ثنا ابن أبي مريم، ثنا نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة: "قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ قال: فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب؛ إنه فقيه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) في باب "الوتر بركعة" من هذا الطريق. وتقرير الجواب أن يقال: إنه قد روي أيضًا عن ابن عباس ما يدل على أنه أنكر على معاوية في إيتاره بركعة واحدة. أخرج ذلك من طريقين صحيحين على شرط مسلم: أحدهما: عن أبي غسان مالك بن يحيى الهمداني، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن عمران بن حُدَير السَّدوسيّ أبي عبيدة البصري، عن عكرمة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 313 رقم 36406). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1373 رقم 3554). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 27 رقم 4576).

والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن عمران بن حُدَير ... إلى آخره. ولقد أنكر ابن عباس - رضي الله عنهما - على معاوية في إيتاره بركعة من غير أن يسبقه تطوع، ولو لم يكن ذلك مخالفًا للسنة لما ساغ له الإنكار عليه، ولا يجوز على ابن عباس أن يكون ما خالف فعل الرسول - عليه السلام - الذي قد تحقق عنده صوابًا. قوله: "هَزيع من الليل" بفتح الهاء وكسر الزاي المعجمة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره عين مهملة، ومعناه: طائفة من الليل، ربعه أو ثلثه. قوله: "من أين تُرَى أخذها الحمار" فقوله "تُرَى" جملة معترضة بين كلمة الاستفهام والذي دخلت عليه. وقوله: "الحمار" إشارة إلى شدة إنكاره عليه في إيتاره بركعة واحدة. قوله: "وقد يجوز ... " إلى آخره، إشارة إلى جواب آخر، تقريره أن يقال: يجوز أن يكون معنى قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أصاب معاوية" على التقية منه له أي على منه لأجل معاوية، يعني دفعًا عنه ما يعيب به ذلك الرجل عليه حتى يمتنع من أن يعيب عليه، فقال: "أصاب" يعني أصاب في شيء آخر غير إيتاره بركعة واحدة، وهذا من باب الإيهام والتورية، وهو باب شائع ذائع. وجواب آخر عندي وهو أن قوله: "أوتر بواحدة" لا يستلزم نفي كون ركعتين قد تقدمنا عليها، فيجوز أن يكون معاوية قد صلَّى ركعتين ثم أوتر بركعة أخرى ولم يقف المنكر عليه إلا على ما قد شاهد من إيتاره بالركعة الواحدة، ولم يحط علمه بما قد صلى قبلها، فيكون قول ابن عباس: "أصاب السنة" في كونه أوتر بركعة مع ركعتين قبلها، فافهم. ص: وقد روي عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد الفهمي، قال: أنا ابن لهيعة، عن عبد العزيز بن صالح، عن أبي منصور قال: "سألت عبد الله بن عباس عن الوتر، فقال: ثلاث".

وقال ابن لهيعة: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبَدة، عن أبي منصور بذلك. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن أبي يحيى قال: "سمر المسور بن مخرمة وابن عباس حتى طلعت الحمراء، ثم نام ابن عباس فلم يستيقظ إلا لأصوات أهل الزوراء، فقال لأصحابه: أتروني أدرك أُصلي ثلاثًا -يريد الوتر- وركعتي الفجر وصلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؟ فقالوا: نعم، فصلَّى". وهذا في آخر وقت الفجر، فمحال أن يكون الوتر عنده يجزئ فيه أقل من ثلاث ثم يصليه حينئدٍ ثلاثًا مع ما يخاف من فوات الفجر، فدل ذلك على صحة ما صَرفْنا إليه معاني أحاديثه في الوتر أنه ثلاث. ش: أي قد روي عن ابن عباس من قوله ورأيه أن الوتر ثلاث ركعات، وذكر هذا تأكيدًا لما قاله، وكان ما روينا عن ابن عباس -لما جمعت معانيه- يدل على أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث؛ لأن قول ابن عباس: "الوتر ثلاث" يدل على أن كل ما روِي عنه عن النبي - عليه السلام - من وتره ثلاث؛ لأنه لم يقل هو: إنه ثلاث. إلا وقد ثبت عنده أن وتره - عليه السلام - ثلاث. وأخرج ما روي عن ابن عباس من قوله: "إن الوتر ثلاث" من طريقين: الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن عبد الله بن محمَّد الفهمي- يُعرف بالبيطاري، وثقه أحمد بن صالح. قاله ابن أبي حاتم. وهو يروي عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن عبد العزيز بن صالح مولى بني أمية، ذكره ابن يونس في علماء مصر في باب "الكنى" وقال: ومن أهل المغرب: أبو منصور مولى ابن عباس، كان بأفريقية. وذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه. وقوله: "قال ابن لهيعة: وحدثنيم يزيد بن أبي حبيب ... " إلى آخره، إشارة إلى أن عبد الله بن لهيعة رَوَى هذا الأثر عن يزيد بن أبي حبيب المصري أيضًا، عن عمرو بن الوليد بن عبدة مولى بني سهم، عن أبي منصور بذلك.

وعمرو بن الوليد هذا ذكره ابن يونس في علماء مصر وقال: يروي عن عبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، وذكره ابن ماكولا في باب "عَبْدة وعَبَدة"، فقال: وأما عَبَدة -بفتح العين والباء- في الآباء عمرو بن الوليد بن عَبَدَة مولى عمرو بن العاص، يَرْوي عن أبي عمرو، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، حديثه في المصريين، وحضر أبوه الوليد فتح مصر. قاله ابن عفير. تُوفي عمرو سنة ثلاث ومائة وكان فقيها فاضلًا، وتُوفي أبوه الوليد بن عَبَدَة سنة مائة. فإن قيل: أعلّ البيهقي طريق الطحاوي بابن لهيعة، وهو ضعيف. قلت: قد تقرر عند أهل الجرح والتعديل أن ابن لهيعة وثقه قوم منهم أحمد بن حنبل وكفى به مُعَدِّلًا، والطحاوي أيضًا يعدله على أنه يمكن (¬1) لا احتجاج، فافهم. الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن أبي يحيى الأعرج المعرقب واسمه مصدع مولى معاذ بن عفراء الأنصاري، ويقال: مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن المسور بن مخرمة ابن نوفل الزهري الصحابي، له ولأبيه صحبة. و"السمر": هو الحديث بالليل. و"الحمراء": هي النجمة الحمراء التي تطلع قبل الفجر وهي نجمة مضيئة. و"الزوراء": بفتح الزاي المعجمة وسكون الواو وبالمد؛ موضع عند سوق المدينة قرب المسجد النبوي مرتفع كالمنارة. قوله: "وهذا في آخر وقت الفجر" أي قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أتروني أدرك أصلي ... " إلى آخره، إنما كان في آخر وقت الفجر، والباقي ظاهر. ومما يدل لهذا: أن الوتر لا يسقط بخروج وقته كسائر السنن المؤكدة، وهذا آية وجوبه؛ ولهذا قال أبو حنيفة: الوتر فرض. أي عملًا، واجب علمًا، سنة سببًا إنه إذا ذكره في الفجر يفسد، وإذا أعاد صلاة العشاء لفسادها لا يُعيد وتره. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك".

ص: وقد روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - في الوتر أيضًا أنه ثلاث. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بتسع سور من المفصل، في الركعة الأولى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ}، وفي الثانية {وَالْعَصْرِ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} وفي الثالثة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {تَبَّتْ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لما ذكره من أن الوتر ثلاث. أخرج ذلك بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن عبد الله الأعور الكوفي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة ثلاث سور، آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ص: وقد رُوي عن عمران بن حصين، عن النبي - عليه السلام - مثل ذلك. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ {سبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ش: أي قد روي عن عمران بن حصين، عن النبي - عليه السلام -: "أنه أوتر بثلاث" كما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 323 رقم 460).

أخرجه بإسناد حسن عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحمّاني الكوفي وثقه يحيى بن معين، عن عبّاد بن العوّام بن عمر الواسطي، روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي الكوفي، روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى أبي حاجب البصري، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا بشر بن خالد، ثنا شبابة، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين: "أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بـ {سبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ص: وقد روي عن زبد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عبد الله بن قيس بن مخرمة أخبره، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقن صلاة رسول الله - عليه السلام - قال: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فصلى رسول الله - عليه السلام - ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين هما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين هما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة". فالكلام في هذا مثل الكلام فيما تقدمه. ش: روي مسند إلى قوله: ما حدثنا، وإسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. وابن ماجه (¬3): عن عبد السلام بن عاصم، عن عبد الله بن نافع، عن ثابت الزبيري، عن مالك. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (9/ 75 رقم 3604). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 47 رقم 1366). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 433 رقم 1362).

وأخرجه مسلم (¬1): وليس في لفظه: "فتوسدت عتبته أو فسطاطه". قوله: "لأرمقن" بفتح اللام؛ لأنها للتأكيد أي: لأنظرن، مِن رمَق يرمُق. و"العتبة": أسكفة الباب. و"الفسطاط": بضم الفاء قال الزمخشري: ما ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة، ويقال لمصر وبصرة: الفسطاط. قوله: "طويلتين" ثلاث مرات في رواية الطحاوي وابن ماجه، ومرتين في رواية مسلم وأبي داود (¬2) الركعتين والتكرار للتأكيد والمبالغة. قوله: "ثم أوتر" أي بعد أن صلى عشر ركعات ركعتين ركعتين أنه أوتر بثلاث ركعات؛ لأنه قال: "فذلك ثلاث عشرة ركعة"، والإشارة إلى ما صلى، فلو لم يكن المجموع ثلاثًا لم يكن المجموع ثلاث عشرة ركعة؛ لأن المذكور قبل الوتر ركعتين ركعتين خمس مرات فالمجموع عشر ركعات. قوله: "فالكلام في هذا" أي في حديث زيد بن خالد مثل الكلام فيما تقدمه من أحاديث ابن عباس وغيره - رضي الله عنهم -. ص: وقد رُوي عن أبي أمامة، عن النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا عُمارة بن زاذان، عن أبي غالب، عن أبي أُمامَة: "أن النبي - عليه السلام - كان يُوتِرُ بتِسْعٍ، فلما بَدّنَ وكثر لحمه أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالسٌ يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ". فقد يجوز أن يكون ذكر شفعه -وهو التطوع- ووتره فجعل ذلك كله وترًا كما ذكرنا في بعض ما تقدم ذِكْرنا له، فقد روينا عن أبي أمامة من فعله ما يدل على هذا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليمان بن حيان، عن أبي غالب: "أن أبا أمامة كان يوتر بثلاث". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 531 رقم 765). (¬2) طمس في "الأصل، ك" بمقدار كلمتين.

فثبت بذلك أن الوتر عند أبي أمامة هو ما ذكرنا، ومحال أن يكون ذلك عنده كذلك وقد علم من فعل النبي - عليه السلام - خلافه ولكن ما علمه من فعل النبي - عليه السلام - معناه ما صرفنا إليه. ش: إنما ذكر حديث أبي أمامة هذا ليجيب عنه؛ لأن ظاهره كالحجة على أصحابنا في قولهم: إن الوتر ثلاث، وكالاعتراض أيضًا على ما قرره من أن معنى الأحاديث التي رُوِيَت في هذا الباب إذا كشف؛ يَرْجع حاصله إلى أن الوتر ثلاث. وتقرير الجواب: أن أبا أمامة - رضي الله عنه - أطلق في حديثه على تطوع النبي - عليه السلام - مع وتره وترًا من قبيل (إطلاق) (¬1) اسم الجزء على الكل، وهذا سائغ شائع في الكلام، فيكون مراده من قوله: "كان يوتر بتسع" أنه كان يتطوع بست ركعات ثم يوتر بثلاث، وكذا قوله: "أوتر بسبع" أنه تطوع بأربع ركعات ثم أوتر بثلاث، كما قد أول بهذا التأويل فيما مضى من أحاديث عائشة - رضي الله عنها -، ثم ذكرنا ما يؤيد صحة هذا التأويل بقوله: "وقد روينا عن أبي أمامة من قوله ما يدل على هذا" أي على ما ذكرنا من التأويل. وأخرجه بطريق صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سليمان بن حيان -بالياء آخر الحروف المشددة- أبي خالد الأحمر الكوفي الجعفري روى له الجماعة، عن أبي غالب البصري -ويقال: الأصبهاني- صاحب أبي أمامة واختلف في اسمه فقيل: حزور، وقيل سعيد بن الحزور، وقيل: نافع. واختلف فيه أيضًا؛ فقال ابن سعد: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ثقة. وقال الترمذي في بعض أحاديثه: هذا حديث حسن. وفي بعضها: هذا حديث صحيح. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سليمان بن حيان، عن أبي غالب قال: "كان أبو أمامة يوتر بثلاث ركعات". وإنما قلنا: إنه يؤيد صحة هذا التأويل؛ لأنه لو لم يكن معنى ما رواه عن النبي - عليه السلام - نحو ما ذكرنا لما جاز له أن يوتر بثلاث؛ لأنه يستحيل في حقه أن يعمل شيئًا وقد علم من رسول الله - عليه السلام - أنه فعل خلافه، ولكن الذي فعله هو الذي علمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم الحديث المرفوع أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر وثقه ابن حبان، عن عُمارة -بضم العين- بن زاذان -بالمعجمتين- الصيدلاني البصري، مختلف فيه، فقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو زرعة: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو يَرْوي عن أبي غالب، وقد ذكرناه آنفا. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، نا خالد بن خداش (ح). وثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم بن علي (ح). وثنا أبو خليفة الفضل بن حباب الجمحي، نا أبو الوليد الطيالسي، قالوا: ثنا عمارة بن زاذان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بتسع ركعات، فلما بدّن وكثر عليه اللحم أوتر بسبع ركعات، وصلى ركعتين وسجدتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6826). (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (8/ 227 رقم 8064).

ص: وقد روي في ذلك عن أم الدرداء، عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم الدرداء قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما كَبُر وضَعُف أوتر بسبع". فالكلام في هذا مثل الكلام في حديث أبي أمامة أيضًا. ش: الكلام في حديث أم الدرداء كالكلام في حديث أبي أمامة في الإيراد والجواب. وأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن نعيم بن حماد المروزي الفارض الأعور شيخ البخاري، عن أبي [معاوية] (¬1) محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش الكوفي، عن عمرو بن مرة أي عبد الله الكوفي الأعمى، عن يحيى بن الجزار، عن أم الدرداء واسمها خيرة بنت حدرد وقيل اسمها هُجَيْمَة. وأخرجه الترمذي (¬2): بعين هذا المتن وبهذا الإسناد، ولكن في روايته: عن أم سلمة موضع أم الدرداء، وقال: ثنا هنّاد، ثنا أبو معاوية ... إلى آخره نحوه. ص: وقد روي في ذلك عن أم سلمة، عن النبي - عليه السلام -: ما حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا جرير بن الحميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام". فقد يجوز أن يكون هذا قبل أن يحكم الوتر فكان من شاء أوتر بخمس ومَنْ شاء أوتر بسبع، وكان إنما يراد منهم أن يصلوا وترًا لا عدد له معلومًا. ش: لما كان هذا الحديث واردًا على ما قرره من أن المعنى من الأحاديث المذكورة يرجع إلى أنه - عليه السلام - كان يوتر بثلاث، وإن كان قد أطلق فيها الوتر على تطوعه مع وتره جميعًا ذكره هنا ليجيب عنه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "نعيم"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله- فمحمد بن خازم يكنى أبا معاوية الضرير، وقد وقع في المتن على الصواب. (¬2) "سنن الترمذي" (2/ 319 رقم 457).

وتقرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون حديث أم سلمة هذا قبل إحكام أمر الوتر؛ وذلك لأنهم كانوا أولًا مخيرين في أن يوتروا إن شاءوا بسبع وإن شاءوا بخمس وإن شاءوا بثلاث، وإن شاءوا بواحدة وكأن المراد منهم أن يوتروا وترًا بلا عدد معين، ألا ترى إلى ما قال في حديث أبي أيوب الأنصاري (¬1): "أوتر بخمس، فإن لم تستطع فبثلاث، فإن لم تستطع فبواحدة، فإن لم تستطع فأوْمِ إيماءً". ثم إن الأمة قد أجمعوا بعد النبي - عليه السلام - على وتر لا يجوز لكل مَن أوتر به أن يتجاوزه إلى غيره، فصار إجماعهم ناسخًا لما قد تقدمه من التخيير الذي كان في عدد الوتر، هذا ما ذكره الطحاوي. فإن قيل: كيف يجوز النسخ بالإجماع وأوان النسخ حال حياة النبي - عليه السلام -؛ للاتفاق على أنه لا نسخ بعده، وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع بدون رأيه؟ قلت: ليس المراد من قولنا: صار إجماعهم ناسخًا لما قد تقدمه من التخيير، أن النسخ وقع بعد النبي - عليه السلام - بالإجماع، وإنما المراد أن النسخ كان في حياة النبي - عليه السلام -، وأن الإجماع وقع على كون هذا النسخ في حياته، فصار استناد الإجماع إلى زمن الرسول - عليه السلام -. فإن قيل: كيف حقيقة النسخ بالإجماع؟ قلت: حقيقة ذلك أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز؛ لأن أوان النسخ حال حياته - عليه السلام - كما ذكرنا ولا نسخ بعده، وإنما يكون الإجماع موجبًا للعلم بعده ولا نسخ بعده، ولكن جوزه بعض المشايخ بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، وقالوا: الإجماع في كونه حجة أقوى الخبر المشهور، فإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور فبالإجماع أولى, والجواب عنه ما ذكرناه. ثم إسناد حديث أم سلمة صحيح، أخرجه عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شدّاد صاحب محمَّد بن الحسن، وثقه أبو حاتم. ¬

_ (¬1) سيأتي الآن.

عن جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي القاضي أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. عن منصور بن المعتمر روى له الجماعة، عن الحكم بن عتيبة روى له الجماعة، عن مُقْسِم بن بَجَرَة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات- روى له الجماعة سوى مسلم، عن أم المؤمنين أم سلمة واسمها: هند بنت أبي أمية. وأخرجه النسائي (¬1) أنا القاسم بن زكرياء بن دينار، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بسَبعٍ أو بخمسٍ لا يفصل بينهن بسلام". وأخرجه ابن ماجه (¬2) نحو رواية الطحاوي. ص: وقد روي عن أبي أيوب ما يدل على أن ذلك قد كان كذلك: حدثنا أبو غسّان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتر بَخْمسٍ، فإن لم تَسْتَطِعْ فبثلاث، فإن لم تَسْتَطِعْ فبواحدة، فإن لم تَسْتَطِعْ فأَوْمِ إيماء". أخبرنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا وُهَيب بن خالد، قال: ثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، عن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر حق، فمن أوتر بخَمْسٍ فهو حسن، ومن أوتر بثلاث فقد أحسن، ومن أوتر بواحدة فهو حسن، ومن لم يَستَطِعْ فليومِ إيماء". حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك، قال: أنا الأوزاعي، قال: ثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، أن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر حق، فمن شاء أوتر بخَمْسٍ، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 239 رقم 1715)، و"سنن النسائي الكبير" (1/ 441 رقم 1404). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 376 رقم 1192).

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب -قال: ولم يذكر النبي - عليه السلام - قال: "الوتر حق -أو واجب- فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدةٍ، ومَنْ غُلب إلى أن يُوم فليومِ". فأخبر في هذا الحديث أنهم كانوا مخيرين في أن يوتروا بما أحبوا لا وقت في ذلك ولا عدد بعد أن يكون ما صلّوا وترًا، وقد أجمعت الأمة بعد رسول الله - عليه السلام - على خلاف ذلك وأَوْتروا وترًا لا يجوز لكل مَنْ أوتر عنده ترك شيء منه، فدلَّ إجماعهم على نسخ ما قد تقدمه من قول رسول الله؛ لأن الله تعالى لم يكن ليجْمَعَهُم على ضلال. ش: لما أجاب عن حديث أم سلمة المذكور آنفا بأنه يجوز أن يكون هذا قبل أن يحكم بالوتر ... إلى آخره شرع يبُين ذلك، أي: قد روي عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ما يَدُلّ على أن الوتر كان بلا عدد معلوم قبل إحكام أمره، وأنهم كانوا مخيرّين في عدده كما ذكرناه، أشار إليه بقوله: "فأخبر في هذا الحديث" أي حديث أبي أيوب الأنصاري "أنهم" أي الصحابة - رضي الله عنهم - "كانوا مخيرين في أن يوتروا بما أحبوا" من سبع أو خمس أو ثلاث "لا وقت في ذلك" أي لا تعيين فيه "ولا عدد" معلومًا غير أن لا بد أن يكون وترًا، "وقد أجمعت الأمة بعد النبي - عليه السلام - على خلاف ذلك" أي على خلاف الخيار المذكور، وإنما عَيّن كل منهم وترًا لا يجوز العدول عنه إلى وتر غيره، مثلًا من اختار الوتر بثلاث لم يجوزه بواحدة، ومن اختار الوتر بواحدة لم يجوز الثلاث بتسليمة وقعدتين، ومن اختار الخمس لم يجوز السبع، ومن اختار السبع لم يجوز الخمس، وعلى هذا، غير أنهم كلهم اتفقوا على ترك الخيار وأجمعوا على انتساخ ما كان من قوله - عليه السلام -: "من شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة"، وإجماع الأمة من أقوى الحجج؛ لأن أمته لا تجتمع على الضلالة، وقد ذكرنا ما فيه من السؤال والجواب عن قريب؛ فليعاود إليه.

ثم إنه أخرج حديث أبي أيوب من أربع طرق، أحدها موقوف كما نذكره. الأول: عن أبي غسان مالك بن يحيى بن مالك الهمداني المعروف بالسوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد روى له الجماعة، عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه. عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: قال: "قال لي رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه النسائي (¬2) ولفظه: "من شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أومى إيماءً". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن سَهْل بن بكار ... إلى آخره. وكلهم ثقات. وأخرجه أبو داود (2): ثنا عبد الرحمن بن المبارك، نا قريش بن حيان العجلي، نا بكر بن وائل، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بابلت البابلتي، قال يحيى معين: يحيى بن عبد الله بن الضحاك لم يَسْمَع والله من الأوزاعي شيئًا. وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات يَهِم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به، وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 92 رقم 6859). (¬2) "سنن النسائي الكبير" (1/ 441 رقم 1402).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) بسند جيد، وقال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الفريابي، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الوتر حق؛ فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا بسند جيد، وقال: أنا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، قال: ثنا عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الوتر حق؛ فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة". الرابع: وهو موقوف، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عطاء، عن أبي أيوب، ولم يذكر النبي - عليه السلام - ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا الربيع بن سليمان بن داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: نا الهيثم بن حُمَيد، قال: حدثني أبو مُعَيْد، عن الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: "الوتر حق؛ فمن أحبّ أن يوتر بخمس ركعات فليفعل، ومن أحبّ أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". قال الحارث بن مسكين قراءةً عليه وأنا أسمع (2): عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب قال: "من شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أومى إيماءً". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 376 رقم 1190). (¬2) "سنن النسائي الكبرى" (1/ 440 رقم 1400). (¬3) "سنن النسائي الكبرى" (1/ 441 رقم 1402).

ورواه عبد الرزاق أيضًا (¬1) عن معمر موقوفًا. قوله: "الوتر حق" صريح في إيجاب الوتر؛ لأن الحق ها هنا بمعنى الثابت ولا سيما وقد ذكر في رواية أبي داود بلفظ: "على" التي للإيجاب كما قد ذكرناه آنفًا. ص: وقد روي عن عبد الرحمن بن أبزى، عن النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير، قال: ثنا محمَّد بن طلحة، عن زُبَيْد، عن ذرٍّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أنه صلى مع النبي - عليه السلام - الوتر، فقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} , فلما فرغ قال: سبحان الملك القدوس ثلاثًا يمد صوته بالثالثة". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا محمَّد بن طلحة، عن زُبَيْد ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "وفي الثانية {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وفي الثالثة الله الواحد الصمد". فهذا يدل على أنه كان يوتر بثلاث. ش: ذكر حديث عبد الرحمن بن أبزى الصحابي - رضي الله عنه - تأكيدًا لما بيَّنه في الأحاديث السابقة أن الوتر ثلاث ركعات؛ لأن حديثه يدل على ذلك على ما لا يخفى. وأخرجه من ثلاث طرق حسان جياد: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي المطرف بن أبي الوزير- واسمه محمَّد بن عمر بن مطرف القرشي الهاشمي البصري، قال أبو حاتم: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 19 رقم 4633).

عن محمَّد بن طلحة بن مصرف اليامي روى له الجماعة، عن زُبَيد -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- بن الحارث بن عبد الكريم اليامي -ويقال: الأيامي أيضًا- أبي عبد الله الكوفي روى له الجماعة. عن ذرّ -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- بن عبد الله الهمداني أبي عمر الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي روى له إلجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى الصحابي عند الجمهور. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن يزيد، قال: ثنا بهز، قال: ثنا شعبة، عن سلمة وزبيد، عن ذر، عن أبي عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} , وكان يقول إذا سلَّم: سبحان الملك القدوس ثلاثًا ويرفع صوته بالثالثة". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن زبيد ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا يوسف القاضي، ثنا حفص بن عمر الحوضي. وثنا محمَّد بن عبدوس ومحمد بن عبد الله الحضرمي، قالا: ثنا علي بن الجعد، قالا: ثنا شعبة، عن زبيد وسلمة بن كهيل، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} , ويقول إذا سلَّم: سبحان الملك القدوس ثلاثًا يرفع صوته في الثالثة". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 449 رقم 1435). (¬2) وأخرجه في "المعجم الأوسط" (8/ 108 رقم 8115) من طريق قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن به.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن محمَّد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن زبيد ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): بطرق متعددة بعضها مرسلة. وأخرجه أيضًا (¬2): عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي كعب - رضي الله عنهما -. قوله: " {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} " أراد به {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} , وأراد بقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} إلى آخره. ص: وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - في ذلك: ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، حدثه عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة -ولم يرفعه- قال: "لا توتروا بثلاث ركعات فتشبِّهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة". فقد يحتمل أن يكون كره إفراد الوتر حتى يكون معه شفع على ما قد روينا قبل هذا عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - فيكون ذلك تطوعًا قبل الوتر، وفي ذلك نفي الواحدة أن تكون وترًا، ويحتمل أيضًا أن يكون على ما ذكرنا في حديث أبي أيوب في التخيير، إلا أنه ليس فيه إباحة الوتر بالواحدة؛ فقد ثبت بهذه الآثار التي رويناها عن النبي - عليه السلام - أن الوتر أكثر من ركعة واحدة، ولم يُرو في الركعة شيء إلا وتأويله يحتمل ما شرحناه وبيَّناه في موضعه من هذا الباب. ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (3/ 247 رقم 1741). (¬2) "المجتبى" (3/ 244 رقم 1729).

ش: لما كان الخصم احتجوا على أصحابنا بحديث أبي هريرة هذا؛ ذكره ليجيب عنه، وتقرير الجواب عنه من وجهين: الأول: أن قوله: "لا توتروا بثلاث" يحتمل كراهة الوتر من غير تطوع قبله من الشفع، ويكون المعنى: لا توتروا بثلاث ركعات وحدها من غير أن يتقدمها شيء من التطوع الشفع، بل أوتروا هذه الثلاث مع شفع قبلها ليكون خمسًا، وإليه أشار بقوله: "وأوتروا بخمس" أو أوتروا هذه الثلاث مع شفعين قبلها لتكون سبعًا، وإليه أشار بقوله: "أو بسبع" أي: أو أوتروا بسبع ركعات أربع تطوع وثلاث، وتر ولا تفردوا هذه الثلاث كصلاة المغرب ليس قبلها شيء، وإليه أشار بقوله: "ولا تشبهوا بصلاة المغرب" ومعناه: ولا تشبهوه بالمغرب في كونها منفردة عن تطوع قبلها ,وليس معناه لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها ثلاث ركعات والنهي ليس بوارد على تشبيه الذات بالذات، وإنما هو واردٌ على تشبيه الصفة بالصفة، فافهم. ومع هذا فما ذكره نفي أن تكون الركعة الواحدة وترًا؛ لأنه أمر بالإيتار بخمس أو بسبع، ليس إلا. الوجه الثاني: أن يكون معناه ما ذكره في حديث أبي أيوب في التخيير، وما ذكره هناك من الجواب فهو جواب ها هنا، هذا حاصل ما ذكره الطحاوي -رحمه الله-. وجواب آخر: أن هذا مُعَارَض بما رواه الطحاوي والترمذي أيضًا من حديث الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "كان النبي - عليه السلام - يوتر بثلاث". وبما أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1) بإسناده إلى عائشة، قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث لا يسلِّم إلا في آخرهن". وقال: إنه صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 447 رقم 1140).

وبما أخرجه الدارقطني (¬1) ثم البيهقي (¬2): عن يحيى بن زكرياء، ثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب" قال الدارقطني: لم يَرْوِه عن الأعمش مرفوعًا غير يحيى بن زكرياء وهو ضعيف، ورواه الثوري وعبد الله بن نمير وغيرهما عن الأعمش فوقفوه انتهى. قلت: أخرجه النسائي (¬3): من حديث ابن عمر، قال: ثنا قتيبة، عن الفضيل ابن عياض، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة المغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل". وهذا السند على شرط الشيخين. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين: الأول: مرفوع، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب المصري بَحْشل، ابن أخي عبد الله بن وهب شيخ مسلم. عن عمه عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن صالح بن كيسان المدني، عن عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. والكل رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 27 رقم 1). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 30 رقم 4590). (¬3) "سنن النسائي الكبرى" (1/ 435 رقم 1382). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 31 رقم 4593).

الثاني: موقوف، عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد أبي عبد الملك المصري، عن جعفر بن ربيعة ابن شرحبيل بن حسَنَة الكِنْدي المصري، عن عراك بن مالك الغفاري الكناني، عن أبي هريرة. وهؤلاء أيضًا رجال الصحيح غير فهد. وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا موقوفًا، وأخرجه مرفوعًا أيضًا كما قلناه (¬2). قوله: "فتشبَّهوا بالمغرب" جواب النهي؛ فلذلك جاء بالفاء منصوبًا، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (¬3) والمعنى: لا يكن إيتار بثلاث وتشبيه بالمغرب، ثم استدرك بقوله: "ولكن أوتروا ... " إلى آخره، وليس فيه أيضًا ما يدل على اعتداد الوتر بركعة واحدة، فافهم. ص: ثم أردنا أن نلتمس ذلك من طريق النظر، فوجدنا الوتر لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون فرضًا، وإما أن يكون سنةً، فإن كان فرضًا فإنَّا لم نر شيئًا من الفرض إلا على ثلاثة أوجه؛ فمنه ما هو ركعتان، ومنه ما هو أربع، ومنه ما هو ثلاث، وكلٌّ قد أجمع أن الوتر لا يكون اثنتين ولا أربعًا، فثبت بذلك أنه ثلاث، هذا إن كان فرضًا. وأما إن كان سنةً فإنا لم نجد شيئًا من السنن إلا وله مثل في الفرض من ذلك الصلاة منها تطوع ومنها فرض، ومن ذلك الصدقات فإن لها أصلًا في الفرض وهو الزكاة، ومن ذلك الصيام وله أصل في الفرض وهو صيام شهر رمضان، وما أوجب الله -عز وجل- في الكفارات، ومن ذلك الحج يتطوع به وله أصل في الفرض وهو حجة الإسلام، ومن ذلك العمرة يتطوع بها ووجوبها فيه اختلاف وسنبينه في ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 31 رقم 4594). (¬2) تقدم. (¬3) سورة طه، آية: [81]

موضعه إن شاء الله تعالى. ومن ذلك العتاق له أصل في الفرض وهو ما فرض الله -عز وجل- في الكتاب من الكفارات والقضاء، فكانت هذه الأشياء متطوَّع بها ولها أصل في الفرض، فلم نر شيئًا يُتطوع به، إلا وله أصل في الفرض، فقد رأينا أشياء هي فرض ولا يجوز أن يتطوَّع بها، مثل الصلاة على الجنازة هي فرض ولا يجوز أن يتطوع بها، ولا يجوز لأحد أن يصلي على ميِّت مرتين يتطوع بالآخرة منهما، فكأن الفرض قد يكون في شيء ولا يجوز أن يتطوع بمثله، ولم نر شيئًا يُتطوع به إلا وله مثل في الفرض منه أُخذ، وكان الوتر مُتطوَّع به فلم يجز أن يكون كذلك إلا وله مثل في الفرض، والفرض لم نجد فيه وترًا إلا ثلاثًا؛ فثبت بذلك أن الوتر ثلاث. هذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: ملخصه أنه بنى ذلك على مقدمة مانعة الخلوّ، وهي: أن الوتر إما فرض وإما سنة، فإن كان فرضًا فلابد أن يكون مثل فرض من الصلوات، وهي إما ركعتان كالصبح أو أربع كالظهر والعصر والعشاء، أو ثلاث كالمغرب، وكلهم أجمعوا على أن الوتر لا يكون ركعتين ولا أربعًا؛ فثبت بذلك أن يكون ثلاثًا كالمغرب، وإن كان سنة فليس شيء في السنن إلا وله مثل في الفرض، والفرض قد يكون في شيء لا يجوز أن يتطوع بمثله، وليس شيء يتطوع به إلا وله مثل في الفرض، فالوتر يُتطوع به فلا يجوز أن يكون إلا وله مثل في الفرض، والفرض ليس فيه وتر إلا ثلاث؛ فيجب أن يكون الوتر ثلاثًا. فافهم، والباقي غني عن الشرح. قوله: "ولا يجوز لأحد أن يصلي على ميِّت مرتين ... " إلى آخره، أراد به إذا تطوع بالصلاة الثانية، أما إذا صلى ثانية على أنها فرض كما هو عند قوم، فإن ذلك يجوز؛ لأن تكرار الصلاة على الجنازة مشروع عندهم. ص: وقد روي في ذلك عن أصحاب النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحُ بن عُبَادة، قال: ثنا مالك، عن محمَّد بن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبي بن كعب

وتميمًا الداريَّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعةً. قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يَعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر". وهذا يدل على أنهم كانوا يوترون بثلاث؛ لأنه لا يجوز أن يكونوا كانوا يصلون شفعًا واحدًا ثم ينصرفون عليه حتى يَصلوه بشفع آخر. ش: أي قد روي في الإيتار بالثلاث عن الصحابة - رضي الله عنهم - آثار أخرج عن جماعة منهم في ذلك، منها: ما أخرجه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن يوسف ابن بنت السائب بن يزيد، عن السائب بن يزيد بن سعيد الكندي، له ولأبيه صحبة. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). والآخر: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث مالك. قوله: "يقرأ بالمئين" وهو جمع مائة، وأراد إما بالآيات المئين، أو سور طويلة التي تشتمل على أكثر من مائة آية. قوله: "في فروع الفجر" أراد به أعاليها، وفرع كل شيء أعلاه. قوله: "وهذا يدل ... " إلى آخره، بيان ذلك: أن هذه كانت صلاة التروايح في ليالي رمضان، وما كانت إلا شفعًا شفعًا، وكانوا إذا صلّوا شفعًا لا ينصرفون عنه حتى يَصِلُوه بشفع آخر؛ فحينئذٍ يكون تطوعهم ثمان ركعات -ووترهم ثلاث ركعات- فالجملة إحدى عشرة ركعةً. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 115 رقم 251). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 496 رقم 4392).

والدليل على ذلك: ما رواه مالك في "الموطأ" (¬1) عن زيد بن رومان قال: "كان الناس يقومون في زمن عمر - رضي الله عنه - في رمضان بثلاث وعشرين ركعة". فهذه العشرون كانت تراويحهم شفعًا شفعًا، والثلاث كان وترهم، وبهذا استدل أصحابنا على أن التراويح عشرون بعشر تسليمات. فإن قيل: كيف التوفيق بين روايتي مالك هاتين؟ قلت: يمكن الجمع بأنهم قاموا بإحدى عشرة، ثم قاموا بعشرين، ويوترون بثلاث. ومن الدليل على ذلك أيضًا: ما رواه البيهقي في "سننه" (¬2) بإسناده: عن شُتَيْر بن شكل؛ وكان من أصحاب علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يؤمهم في رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث". ومما يستفاد من الأثر المذكور: استحباب تطويل القراءة في التراويح، والدليل عليه أيضًا: ما رواه مالك في "الموطأ" (¬3)، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام؛ مخافة الفجر" أي مخافة طلوع الفجر، ولكن هذا كان في ذلك الزمان، وكانت لأهله رغبة في كثرة العبادات وإحياء الليالي، وفي زماننا هذا ظهر الكسل والفتور للناس في العبادات، فللإمام أن يقرأ في التراويح بحيث لا يثقل عليهم ولا يؤدي إلى تنفيرهم. وقال أصحابنا: روى الحسن، عن أبي حنيفة: أن الإِمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات أو نحوها؛ لأن السنة في التراويح الختم مرة، وعدد ركعات التراويح في جميع ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 115 رقم 252). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 116 رقم 254). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 116 رقم 254).

الشهر ستمائة، وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ عشر آيات في كل ركعة يحصل الختم فيها. وقال صاحب "الهداية": ولم يذكر قدر القراءة، وكثر المشاع على أن السنة فيها الختم مرة؛ فلا يترك لكسل القوم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن سليمان الجعْفي، قال: أنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن أبي هلال، عن ابن السبّاق، عن المسوَر بن مخرمة قال: "دفنّا أبا بكر - رضي الله عنه - ليلًا، فقال عمر - رضي الله عنه -: إني لم أوُتِرْ. وَصفَّنا وراءه، فصلَّى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن". ش: إسناده صحيح في غاية الصحة، ورجاله رجال الصحيح. يحيى بن سليمان الجعفي أبو سعيد المقرئ الكوفي نزيل مصر شيخ البخاري. وابن أبي هلال هو سعيد بن أبي هلال أبو العلاء المصري. وابن السبّاق هو عبيد بن السباق الثقفي المدني. والمِسْور بن مخرمة بن نوفل القرشي له ولأبيه صحبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن ابن جرير، عن إسماعيل بن محمَّد بن سَعْد، عن ابن السبّاق: "أن عمر - رضي الله عنه - دفن أبا بكر ليلًا، ثم دخل المسجد فأوتر بثلاثٍ". ويستفاد منه أحكام: جواز دفن الميت بالليل، وكافت وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، والأول أصح. وكان رسول الله - عليه السلام - أسنّ من أبي بكر - رضي الله عنه - بمقدار سنيّ خلافته، وكان مولده بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أيامًا، وغسَّلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية أبي بكر بذلك ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة".

إياها، وصلى عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ودُفِن في الحجرة إلي جانب النبي - عليه السلام -, وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. وأن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخره، وهذه حجة قوية لأصحابنا، ولما روى الحاكم في "مستدركه" (¬1)، عن عائشة: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن" وفي رواية: "لا يسلِّم في الركعتين الأوليين من الوتر". قال: وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعنه أخذ أهل المدينة عطاء وغيره. وجواز الوتر بالجماعة في غير رمضان، وقال بعض المشايخ من أصحابنا: وهو الصحيح، وقال صاحب "الهداية": يصلى الوتر جماعة في غير شهر رمضان وعليه إجماع المسلمين. وذكر في "النوازل والواقعات" و"الصدر الشهيد": [....] (¬2) يصلى الوتر خارج رمضان يجوز. قلت: كأنهم أخذوا هذا من فعل عمر - رضي الله عنه - المذكور. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: أنا أبو خلدة قال: "سألت أبا العالية عن الوتر فقال: علّمنا أصحاب محمَّد - عليه السلام -أو علمونا- أن الوتر مثل صلاة المغرب غير أنك تقرأ في الثالثة، هذا وتر الليل، وهذا وتر النهار". ش: أبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو خَلْدة -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام- اسمه خالد بن دينار البصري الخياط، روى له الجماعة سوى مسلم وابن ماجه. وأبو العالية اسمه رُفيع بن مهران الرياحي البصري، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي - عليه السلام - بسنتين، ودخل على أبي بكر الصديق، وصلى خلف عمر بن الخطاب، وروى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 477 رقم 1140). (¬2) طمس في "الأصل" بمقدار ثلاث كلمات، وليس في "ك".

قوله: "مثل صلاة المغرب" يعني بتسليمة واحدة في آخرها، وبيّن أنهما وتر الليل كما أن صلاة المغرب وتر النهار. قوله: "غير أنك تقرأ في الثالثة" أي في الركعة الثالثة من الوتر بخلاف المغرب فإنه لا يقرأ في الثالثة منها إلا على سبيل الاستحباب، حتى لو تركها لاشيء عليه، بخلاف الوتر فإن القراءة فرض في جميع ركعاته. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "الوتر ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث ... فذكر مثله بإسناده. ش: أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقّي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السَّكُوني أي بدر روى له الجماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش روى له الجماعة، عن مالك بن الحارث السُّلَمي الرِّقّي روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث ... إلى، آخره نحوه. قوله: "ثلاث" أي ثلاث ركعات. قوله: "صلاة المغرب" بالجر على أنه بدل من قوله: "كوتر النهار" أو عطف بيان. والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن مالك بن الحارث ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (2/ 282 رقم 9419).

وأخرجه الطبراني (¬1) أيضًا: ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال ابن مسعود: "وتر الليل كوتر النهار -صلاة المغرب- ثلاثًا". ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: أنا هُشَيم، عن حُمَيد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "الوتر ثلاث ركعات. وكان يوتر بثلاث ركعات". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت قال: "صلى بنا أنس بن مالك الوتر -أنا عن يمينه وأم ولده خلفنا- ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن، ظننت أنه يريد أن يعلمنى". ش: أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن صالح ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن هشيم، عن حميد، عن أنس: "أنه كان يوتر بثلاث ركعات". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: "أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن". ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن نافع والمَقْبري: "سَمِعَا مُعَاذًا القارِئ يُسلِم في الركعتين من الوتر". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن عياش بن عباس القتباني عن عامر بن يحيى، عن حنش الصنعاني قال: "كان ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 282 رقم 9419). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 89 رقم 6824). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 91 رقم 6840).

معاذ - رضي الله عنه - يقرأ للناس في رمضان، فكان يوتر بواحدة يفصل بينها وبين الثنتين بالسلام حتى يَسْمع مَنْ خلفه تَسْليمَه، فلما تُوفي قام للناس زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأوتر للناس بثلاث لم يُسَلّم بَيْنهن حتى فرغ منهن، فقال له الناس: أرغبت عن سنة صاحبك؟ فقال: لا, ولكن إن سلمت انفضّ الناسُ". ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن محمَّد بن عجلان، عن نافع مولى ابن عمر، وسعيد ابن أبي سعيد كيسان المقبري -ونسبته إلى مقبرة لسكناه فيها- أنهما سمعا معاذ بن الحارث الأنصاري، يعرف بالقارئ، وهو ممن أقامهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلون بالناس التروايح، شهد غزوة الخندق، وقيل: إنه لم يدرك من حياة النبي - عليه السلام - إلا ست سنين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن سعيد ونافع قالا: "رأينا معاذًا القارئ يُسلِّم في ركعتي الوتر". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وفي آخره شين معجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- ونِسْبته إلى قِتْبان -بكسر القاف وسكون التاء المثناة من فوق وبالباء الموحدة- وهو بطن من رعين. وهو يروي عن عامر بن يحيى بن جَشِيب الشرعبي المصري، روى له مسلم والترمذي وابن ماجه- عن حَنَش الصنْعاني -بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة- روى له الجماعة إلا البخاري قال: "كان معاذ - رضي الله عنه - ... " وأراد به معاذ بن جبل. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 89 رقم 6815).

وإنما أَوْرد هذين الحديثين عن معاذين المذكورين وإن كانا لا يَصْلحان للاحتجاج لأصحابنا من حيث أن فيهما تسليمتين، ولكنهما يصلحان من حيث أن فيهما أن الوتر ثلاث ركعات، وأما أمر التسليمتن فإنه يُجيب عنه عن قريب إن شاء الله. ص: فهؤلاء جميعًا من أصحاب النبي - عليه السلام - كانوا يوترون بثلاث فمنهم من كان يسلم في الاثنتين منهن، ومنهم من كان لا يسلم. فلما ثبت عنهم أن الوتر ثلاث؛ نظرنا في حكم التسليم بين الاثنتين منهن كيف هو؟ فرأينا التسليم يقطع الصلاة ويَخرُج المُسَلِّمُ به منها حتى يكون في غير صلاة، وقد رأينا ما قد أجمعوا عليه من أن الفرض لا ينبغي أن يفصل بعضه من بعضٍ بسلامٍ، فكان النظر على ذلك أن يكون الوتر كذلك لا ينبغي أن يفصل بعضه من بعض بسلامٍ. ش: أشار بهؤلاء إلى الجماعة من الصحابة الذين أخرج عنهم أنهم كانوا يقولون: الوتر ثلاث ركعات ويوترون بثلاث، وهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك ومعاذ القارئ ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وناس آخرون من الصحابة. فهؤلاء كانوا يوترون بثلاث ركعات، غير أن منهم من كان يسلم في الركعتين وهم: معاذ القارئ، ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر على ما روى البخاري (¬1): من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "كان يسلم من الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته". ومنهم من كان لا يسلِّم وهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود وأنس وآخرون، وعلى كل حال ثبت عنهم أن الوتر ثلاث ركعات، وباقي الكلام ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - عليه السلام - أنه كان يوتر بواحدة؛ فذكر ما حدثنا أبو بكرة بكار، عن أبي داود، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 337 رقم 946).

فليح بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن التيمي قال: قلت: "لا يغلبني الليلة على المقام أحدٌ، فقمت أصلي فوجدتُ حسّ رجل من خلفي في ظهري، فنظرت فإذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فتنحيت له فتقدم فاستفتح القرآن حتى ختم، ثم ركع وسجد، فقلت: أوهم الشيخ؟ فلما صلى قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة واحدة: قال: أجل، وهي وتري". قيل له: قد يجوز أن يكون عثمان - رضي الله عنه - يفصل بين شفعه ووتره فيكون قد صلى شفعه قبل ذلك ثم أوتر فيما رواه عبد الرحمن، وفي إنكار عبد الرحمن فعل عثمان - رضي الله عنه - دليل على أن العادة التي كان جرى عليها قبل ذلك وعرفها إلى غير ما فعل عثمان، وعبد الرحمن فله صحبة. فقد دخل بذلك المعنى في المعنى الأول. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد ادعيتم أن الوتر ثلاث ركعات، وذكرتم فيها آثارًا عن بعض الصحابة ما يدل على أن الوتر ثلاث، وعندنا أيضًا آثار عن بعض الصحابة تعارض ما ذكرتم وتنافيه، منها الأثر الذي روي عن عثمان. أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة أبي يحيى المدني روى له الجماعة، عن محمد بن المنكدر بن عبد الله التيمي أبو بكر المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عثمان القرشيء التيمي له صحبة، أسلم يوم الحديبية وقيل: يوم الفتح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث فليح، عن محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن عثمان قال: قلت: "لأغلبن علي المقام الليلة، فسبقت إليه، فبينما أنا قائم أصلي إذا رجل وضع يده على ظهري فنظرت فإذا عثمان -وهو يومئذٍ أمير- فتنحيت عنه، فقام فافتتح القرآن حتى فرغ منه، ثم ركع وجلس وتشهد وسلَّم في ركعة واحدة لم يزد عليها، فلما انصرف قلت: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة! قال: هي وتري". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 25 رقم 4561).

وتقرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون عثمان يفصل بين الركعة والركعتين بسلام فيكون في هذه الصورة قد صلى الركعتين قبل أن يراه عبد الرحمن التيمي ثم أوتر بعد ذلك بركعة واحدة، فيما رآه عبد الرحمن؛ فحينئذٍ لم يكن فيه دليل على أن الوتر ركعة واحدة، والمقصود نفي الإيتار بركعة واحدة فقط، وأما الفصل بين الركعتين والركعة بسلام فلا يضر كون الوتر ثلاثًا، غاية ما في الباب أنه يكون بتسليمتين، وأيضًا إنكار عبد الرحمن فعل عثمان هذا دليل على أن العادة في الوتر التي كان يعهدها عبد الرحمن غير ما فعله عثمان وإلا فلا مجال لإنكاره عليه بذلك، وعبد الرحمن أيضًا صحابي كما ذكرنا ولإنكاره تأثير، فبهذا التأويل دخل معنى هذا الأثر في المعنى الأول وهو الذي ذكره بقوله: "فهؤلاء جميعًا من أصحاب النبي - عليه السلام - كانوا يوترون بثلاث، منهم من كان يسلم في الاثنتين منهن ومنهم من كان لا يسلم" فكان عثمان - رضى الله عنه - ممن يسلم، وعبد الرحمن التيمي ممن لا يسلم، فافهم. قوله: "في المقام" أي القيام وهو مصدر ميمي، وأراد به قيام الليل. قوله: "فإذا عثمان" أي فإذا هو عثمان، وكلمة "إذا" للمفاجأة. قوله: "أَوَهِمَ الشيخ" أراد به عثمان - رضي الله عنه -، والمعنى أسقط من صلاته شيئًا، يقال: أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب إذا أسقطت منه شيئًا ووهم إذا غلط. قوله: "أجل" أبي نعم. ص:"وإن احتج في ذلك محتج بما روي عن سعدة فإنه قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة حدثهم، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن سعيد بن المسيب قال: "شهد عندي من شئت من آل سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بواحدة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن مصعب بن سعد، عن أبيه "أنه كان يوتر بواحدة".

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: "أَمّنا سَعْد بن أبي وقاص في صلاة العشاء الآخرة، فلما انصرف تنحى في ناحية المسجد فصلى ركعة، فتبعْتُه فأحدث سجدة، فقلت: يا أبا إسحاق، ما هذه الركعة؟ قال: وتر أنام عليه. قال عمرو: فذكرت ذلك لمصعب بن سَعْد فقال: كان يوتر بركعة -يعني سعدًا". قيل: قد يجوز أن يكون سَعْد فعل في ذلك ما يحتمله ما فعل عثمان - رضي الله عنه - فيما ذكرنا قبله. ش: أي وإن احتج في الإيتار بركعة واحدة محتج بما روي عن سعد بن أبي وقاص في إيتاره بركعة؛ فالجواب عنه ما ذكرناه فيما فعله عثمان - رضي الله عنه -. وأخرج ذلك من ثلاث طرق رجالها ثقات غير أن في الطريق الأول مجهولًا، وهو ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة أبي شرحبيل المصري، عن يعقوب بن عبد الله، عن ابن المسيب ... إلى آخره. وأخرج عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، عن عطاء، عن سعيد: "بلغني أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بركعة". الثاني: عن صالح، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هُشَيم بن بَشِير، عن حُصين بن عبد الرحمن السُّلَمي، عن مصعب بن سَعْد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن مصعب ابن سعد، عن أبيه: "أنه كان يوتر بركعة، فقيل له، فقال: إنما استقصرتها". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمَة -بكسر اللام- المرادي الكوفي ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 21 رقم 4642). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 313 رقم 36407).

وأخرج عبد الرزاق (¬1): عن ابن عيينة، عن يزيد بن خُصيفة، قال: سمعت محمد بن شرحبيل يقول: "رأيت سعد بن مالك صلى العشاء، ثم صلى بعدها ركعة أوتر بها". ص: فإن قال قائلٌ: ففي حديث عمرو بن مرة ما يدل على خلاف ذلك؛ لأنه قال: "صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة". قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف إلى منزله، وقد كان صلى قبل ذلك بعد انصرافه من صلاته. وقد حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عامرٍ قال: "كان آل سعد، وآل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - يُسلّمون في الركعتين من الوتر ويوترون بركعة". فقد بيَّن الشَّعبِيُّ في هذا الحديث مذهب آل سَعْد في الوتر وهم الْمقتدُون بسَعْد المتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعةً ركعةً إنما هو وتر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فقد عاد ذلك إلى قول الذين ذهبوا إلى أن الوتر ثلاث. وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حماد، عن حماد، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود - رضي الله عنه - عاب ذلك على سَعْدٍ". ومحالٌ عندنا أن يكون عبد الله عاب ذلك على سعد -مع نبل سعد وعلمه- إلا لمعنى قد ثبت عنده هو أولى من فعله، ولو كان ابن مسعود إنما خالفه برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سَعْدٍ، ولما عاب ذلك على سعد إذ كان مأخذ ذلك هو الرأي، ولكن الذي علمه ابن مسعود مما خالفه فعل سعد في ذلك هو غير الرأي. ش: هذا اعتراض على الجواب المذكور، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: يجوز أن يكون سعد بن أبي وقاص كان يفصل بين شفعه ووتره، فيكون قد صلى شفعه قبل ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 22 رقم 4646).

وتره ثم أوتر بركعة، فيكون المجموع ثلاث ركعات كما هو كذلك في فعل عثمان - رضي الله عنه -، ولكن حديث عمرو بن مرة ينافي ما ذكرتم من هذا الكلام؛ لأنه قال: "صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة"، وليس ها هنا شيء قبل صلاته بركعة. وتقرير الجواب أن يقال: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف انصرافًا إلى منزله فلما انصرف إلى منزله صلى هناك شفعه ثم لما جاء صلى ركعة، وقد صحح هذا التأويل بما أخرجه عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبي نصر العجلي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن داود بن أبي هند دينار البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عامر بن شراحيل الشعبي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي قال: "كان آل سعد وآل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - يسلِّمون في ركعتي الوتر، ويوترون بركعة" انتهى. فهذا الشعبي قد بين في هذا الحديث أن مذهب آل سعد إنما هو وتر بعد شفع، قد فصلوا بينهما وبينه بتسليم، وآل سعد إنما أخذوا هذا من سعد؛ فإنهم مقتدون به ومتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعة ركعة إنما هو وتر صادر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فإذا كان كذلك عاد معناه إلى قول من يقول: إن الوتر ثلاث ركعات. قوله: "وقد حدثنا أبو بكرة ... " إلى آخره، جواب آخر، تقريره: أن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - عاب على سعد - رضي الله عنه - إيتاره بركعة واحدة، ولم يكن ذلك إلا لمعنى قد ثبت عند عبد الله أنه هو الأولى من فعل سعدث إذ لو لم يكن كذلك لاستحال على عبد الله أن يعيب على سعد فعله ذلك مع نبالة سعد وعلمه وجلالة قدره؛ فدل ذلك أن سعدًا إنما فعل ذلك برأيه واجتهاده، ألا تروى إلى ما قال سعد لما قيل له: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 313 رقم 36414).

إنك توتر بركعة: "إنما استقصرتها" على ما ذكرناه في رواية ابن أبي شيبة عن قريب. قوله: "ولو كان ابن مسعود إنما خالفه ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لم لا يجوز أن يكون عيب ابن مسعود وإنكاره على سعد برأيه واجتهاده دون أمر ثبت عنده في ذلك؟ وتقرير الجواب: أنه لو كان ذلك برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سعد، ولما عاب به أيضًا على سعد؛ لأن مأخذ ذلك منه الرأي، فالذي يفعل شيئًا برأي لا ينكر على من يفعل خلافه برأي أيضًا؛ لأن الإنكار لا مجال له في ذلك، وإنما ينكر على من يفعل برأي إذا كان عنده شيء قد ثبت بنصٍّ يخالف ذلك الرأي؛ فحينئذٍ يكون للإنكار مجال وتوجّه. قوله: "مع نُبْل سَعْد" بضم النون وسكون الباء الموحدة، أي مع فضله، قال الجوهري: النبل والنبالة: الفضل، وقد نَبُل -بالضم- فهو نبيل. ثم إسناد ما أخرجه عن للراهيم بن أبي داود البرلسي صحيح. لأن رجاله ثقات. وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، وحماد الأول هو ابن سلمة، وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة، وإبراهيم هو النخعي - رحمه الله -. ص: وإن احتج في ذلك بما قد حدثنا فهدٌ، قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي عبيد الله قال: "رأيت أبا الدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهم - يدخلون في المسجد والناس في صلاة الغداة، فيتنحون إلى بعض السواري -فيوتر كل واحد منهم بركعة- ثم يدخلون مع الناس في الصلاة". قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك كان منهم بعد ما كانوا صلوا في بيوتهم أشفاعًا كثيرة، فيكون ذلك الذي صلوا في بيوتهم هو الشفع، وما صلوا في المسجد هو الوتر، فيعود ذلك أيضًا إلى أن الوتر ثلاث. ش: أي: وإن احتج محتج في الإيتار بركعة بما رواه فهد بن سليمان، عن

محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الصنعاني نزيل مصيصة الثقة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يزيد -بفتح الياء آخر الحروف وكسر الزاي المعجمة وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم بن أبي عطاء الشامي روي له البخاري والأربعة، عن أبي عبيد الله مسلم بن مسلم الخزاعي الدمشقي- كاتب أبي الدرداء، قال العجلي: شامي ثقة من خيار التابعين. وأبو الدرداء اسمه عُويمر بن مالك الأنصاري الخزرجي، مات بدمشق سنة اثنتين وثلاثين. وفضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي وهو ممن بايع تحت الشجرة، ولاه معاوية قضاء دمشق وكان خليفته أيضًا إذا غاب عنها، ومات بها سنة ثلاث وخمسين. ومعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني، مات سنة ثماني عشرة بناحية الأردن وقبره بغور بيسان في شرقيه. قوله: "قيل له: قد يجوز ... " إلى آخره، جواب عن الأثر المذكور، وهو ظاهر. ص: وقد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وَهْب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: "أتيت عمر بن عبد العزيز والوتر بالمدينة -يقول الفقهاء-: ثلاثًا لا يُسَلَّم إلا في آخرهن". حدثنا أبو العَوّام محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن السبعة: سعيد ابن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمَّد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله، وسليمان بن يسار -في مشيخة سواهم أهل فقه وصلاح وفضل- وربما اختلفوا في الشيء فَأُخِذَ بقول أكبرهم وأفضلهم رأيًا، فكان مما وعيت عنهم على هذه الصفة أن الوتر ثلاث لا يُسَلَّم إلا في آخرهن. فهذا من ذكرنا من فقهاء المدينة وعلمائهم قد أجمعوا أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا

في آخرهن، وتابعهم على ذلك عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ولم ينكر ذلك منكر سواهم، وقد علم سعيد بن المسيب ما كان من وتر سعد فأفتى بغيره ورآه أولى منه، وقد أفتى عروة بن الزبير كذلك أيضًا، وقد روى عنه الزهري وابنه هشام في الوتر ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب. فهذا عندنا مما لا يبغي خلافه؛ لِمَا قد شهد له من حديث رسول الله - عليه السلام - ومن فعل أصحابه ومن أقوال أكثرهم من بعده ثم لِمَا اتفق عليه تابعوهم. ش: أشار بهذا إلى بيان إجماع فقهاء المدينة الذين هم أهل فقه وصلاح وفضل ولا سيما الفقهاء السبعة المشهورون بالفضل التام، والعلم الغزير والدين المتين على أن الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، ثم إن مثل عمر بن عبد العزيز الذي هو من الخلفاء الراشدين الذين كانوا بالحق يعدلون قد تابعهم في ذلك وكفي به حجة في الدين، فإن قوله وفعله حجة بلا خلاف، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التابعين حجة [....] (¬1) عمر بن عبد العزيز، ولم ينكر ذلك منهم منكر ولا مِن سواهم، فصار إجماعًا على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن. وعن هذا قال الحسن البصري: "أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن". أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن حفص، عن عمرو، عنه. فإذا كان الأمر كذلك لا ينبغي لأحد خلاف هذا، وقد شهد له من حديث رسول الله - عليه السلام - ثم من فعل الصحابة من بعده كأبي بكر وعمر وعلي وأنس وعبد الله ابن مسعود وآخرين، ثم من اتفاق التابعين عليه، ثم من أتباع التابعين. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في "الأصل" وليست في "ك". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6834).

وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق قال: "كان أصحاب علي وأصحاب عبد الله لا يسلِّمون في ركعتي الوتر". ثم إسناد ما رواه الربيع صحيح. وهو الربيع بن سليمان المؤذن يروي عن عبد الله ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي، وعبد الرحمن وإن تكلم فيه قوم فهو ثقة عند آخرين، وبيَّن الفقهاء السبعة بما رواه عن أبي العوام، عن خالد بن نزار الأيلي المنسوب إلى، مدينة أيلا، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن السبعة، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة ابن الزبير بن العوام، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني، وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام -. قوله: "عن السبعة" أي الفقهاء السبعة. قوله: "سعيدِ بن المسيب" بالجر بدل عن قوله: "عن السبعة"، أو عطف بيان وما بعده عطف عليه، ويجوز بالرفع على تقدير: وَهُمْ سعيدُ بن المسيب وعروة ... إلى آخره. قوله: "في مشيخة سواهم" أي سوى هؤلاء السبعة، وهم مثل علقمة، وجابر ابن زيد، وسعيد بن جبير، ومكحول، وحماد وإبراهيم النخعي. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو بكر بن عياش، عن طلق، عن معاوية، عن علقمة قال: "الوتر ثلاث". ثنا أبو أسامة (¬3)، عن عثمان بن غياث، قال: سمعت جابر بن زيد يقول: "الوتر ثلاث". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 91 رقم 6841). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6830). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6829).

ثنا زيد بن الحبُاب (¬1)، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير: "أنه كان يوتر بثلاث، ويقنت في الوتر قبل الركوع". ثنا وكيع (¬2)، عن هشام بن الغاز، عن مكحول: "أنه كان يوتر بثلاث ويقنت في الوتر قبل الركوع". ثنا وكيع (¬3)، عن مسعر، عن حماد قال: "نهاني إبراهيم أن أسلِّم في الركعتين من الوتر". و"المشيخة": بفتح الميم جمع شيخ، قال الجوهري: جمع الشيخ: أشياخ وشيوخ وشِيَخَة وشِيخَان ومَشْيَخَة ومَشَايخ ومَشْيُوخَاء. والشيخ في اللغة يطلق على من استبانت فيه السنّ، ويقال: من عدى خمسين سنةً يسمى شيخًا إلى ثمانين سنة، ثم يصير رهمًّا، ولكن المراد ها هنا من الشيخ: مَنْ تقدم في العلم وإن لم يبلغ حد الشيخوخة في السنن، ويقال: الشيخ مَنْ يصلح أن يُتلمذُ له. قوله: "أهلِ فقة" بالجر صفة للجماعة المذكورين. قوله: "مما وعيت عنهم" أي مما حفظت وفهمت عن هؤلاء الفقهاء. قوله: "وتابعهم على ذلك" أي تابع الفقهاء المذكورين على أن الوتر ثلاث: عمر ابن عبد العزيز - رضى الله عنه - وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة بعد ابن عمه (¬4) وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل: سنتان ونصف. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6835). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6836). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 90 رقم 6838). (¬4) طمس "بالأصل" بمقدار سطرين، وغير موجود في "ك".

وقوله: "وقد علم سعيد بن المسيب ... " إلى آخره إشارة إلى ما كان يفعله سعد ابن أبي وقاص من إيتاره بركعة من رأيه واجتهاده؛ فلأجل ذلك أفتى سعيد بن المسيب بخلافه ورأى أن ما ذهب إليه غيره من أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخره أولى مما ذهب إليه هو. وكذلك أفتى عروة بن الزبير بن العوام بخلاف ما ذهب إليه سعد بن أبي وقاص، والحال أنهما كانا يعلمان ما ذهب إليه سعد، ولو لم يكن ما عندهما مما أفتيا به أولى مما ذهب إليه سعد لما تركاه ولما اختارا غير ما ذهب إليه سعد، ولو كان ما فعله سعد عن أصل يرجع إليه لما جاز لسعيد بن المسيب ولا لعروة أن يخالفانه؛ على ما لا يخفى.

ص: باب: القراءة في ركعتي الفجر

ص: باب: القراءة في ركعتي الفجر ش: أي هذا باب في بيان حكم القراءة في ركعتي الفجر وهما السُنَّه التي قبلها، وجه المناسبة بين البابين من حيث وقوع الاختلاف في كل واحد من الوتر والقراءة في ركعتي الفجر. ص: قال قوم: لا يقرأ في ركعتي الفجر، وقال آخرون: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب خاصة. واحتج الفريقان في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، أن حفصه أم المؤمنين - رضي الله عنه - أخبرته: "أن رسول الله - عليه السلام - كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح -أو النداء بالصبح- صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة". حدثنا محمَّد بن إدريس المكي، قال: ثنا الحُمَيديّ، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن نافع ... فذكر بإسناده نحوه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا بكر بن الأصم وابن علية وبعض الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا قراءة في ركعتي الفجر. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: مالكًا وعبد الله بن وهب وبعض الشافعية؛ فإنهم قالوا: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب لا غير. واحتج كلا الفريقين بحديث حفصة - رضى الله عنها -. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، أنا مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى, عن مالك. والنسائي (¬3): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه كان إذا نودي لصلاة الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن يقوم إلى إلصلاة". والآخر: عن محمَّد بن إدريس المكي، قال: ثنا الحميدي، قال ابن أبي حاتم: صدوق. والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حميد الحميدي المكي شيخ البخاري. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬4): ثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة بن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا نودي بصلاة الصبح سجد سجدتين قبل صلاة الصبح يخففهما". ص: فذهب قوم إلى أن السنة فيهما هي التخفف. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير وآخرين؛ فإنهم ذهبوا إلى أن السنة في ركعتي الفجر التخفيف، وهو قول كافة العلماء، وذهب بعضهم [....] (¬5) وظاهر حديث عائشة الاقتصار فيهما على أم القرآن وهو استحباب مالك، وفعله هو وأصحابه، وقد روي عنه استحسان قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيهما على ما جاء في حديث أبي هريرة، وهو قول الشافعي وأحمد، وذهب الثوري والحسن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 223 رقم 593). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 500 رقم 723). (¬3) "المجتبى" (3/ 255 رقم 1773). (¬4) "معجم الطبراني الكبير" (23/ 212 رقم 378). (¬5) طمس في "الأصل" ولم يستدرك في "ك".

وأبو حنيفة إلى أنه يجوز لمن فاته [...] (¬1) من الليل أن يقرأه فيهما وإن طوّل، وذهب قوم إلى لا أنه لا يقرأ فيهما جملة، حكاه الطحاوي. وذهب النخعي إلى جواز إطالة القراءة فيهما واختاره الطحاوي. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي قبل الفجر ركعتين خفيفتين حتى أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ ". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا علي بن مُسْهِر، عن يحيى بن سعيد ... فذكر بإسناده نحوه. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح أن يحيى بن سعيد حدثه أن محمَّد بن عبد الرحمن حدثه عن أمه عمرة، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ... ثم ذكر نحوه. ش: حديث عائشة هذا أيضًا مما يحتج به من يقول بعدم القراءة في ركعتي الفجر. وأخرجه من ثلاثة طرق صحاح: ففي الطريقين الأولين: عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. وفي الطريق الثالث: بينهما محمَّد بن عبد الرحمن وهو ابن عمرة على ما نذكره. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم كالطريق الثالث على ما نبينه إن شاء الله تعالى. الأول: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي البصري، روى له مسلم وأبو داود والنسائي. عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري أبي حفص المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل" ولم يستدرك في "ك".

عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني روى له الجماعة. عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية روى لها الجماعة، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أحمد بن يونس، ثنا وهب، ثنا يحيى -هو ابن سعيد- عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - عليه السلام - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟ ". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: أخبرني محمَّد بن عبد الرحمن، أنه سمع عمرة تحدث عن عائشة أنها كانت تقول: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ ". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، نا زهير بن معاوية، نا يحيى بن سعيد ... إلى آخره نحو رواية البخاري. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن علي بن مسهر القرشي الكوفي قاضي الموصل روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين فأقول: قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟! ". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن معاوية ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 393 رقم 1118). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 551 رقم 724). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 19 رقم 1255). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 40 رقم 24171).

ابن صالح بن حدير الحمصي، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة وفي الرواية الأخرى عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عمته عمرة. قلت: عمرة هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدينة كانت في حجر عائشة - رضي الله عنها -, روت عنها وعن رافع بن خديج وعبيد بن رفاعة ومروان بن الحكم وحبيبة بنت سهل وحمنة بنت جحش وأم سلمة. وأم هشام بنت حارثة بن النعمان هي أختها، روى عنها جماعة كثيرون، منهم: ابنها أبو الرجال -بالجيم- محمَّد بن عبد الرحمن بن حارثة، ومنهم ابن أخيها محمَّد بن عبد الرحمن وهي عمته، وفي كتاب "الكمال في أسماء الرجال": روى عنها ابنها أبو الرجال محمَّد بن عبد الرحمن وأخوها -ويقال: ابن أخيها- محمَّد بن عبد الرحمن، وابن أخيها محمَّد بن عبد الله بن عبد الرحمن وابن أختها أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم. ص: وقد روي عنها منقطعًا ما فيه أنه قد كان يقرأ فيها غير فاتحة الكتاب. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا هشام، عن محمَّد، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي ما يقرأ فيهما، وذكرت {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". فقد ثبت عنه بحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي رواه شعبة في قراءة فاتحة الكتاب بحديث أبي بكرة هذا قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} , فثبت بذلك أنه كان يفعل فيهما ما يفعل في سائر الصلوات من القراءة. ش: ذكر هذا شاهدًا لما ذكره من التأويل في أحاديث عائشة السابقة حيث ذكرت عائشة - رضي الله عنها - فيه أنه - عليه السلام - كان يخفي القراءة في ركعتي الفجر، وذكرت سورتين وهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ فثبت بحديث شعبة المذكور أنه - عليه السلام - كان يقرأ الفاتحة في ركعتي الفجر، وبحديث أبي بكرة هذا أنه كان يقرأ في الركعتين السورتين من القرآن وهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

{اللَّهُ أَحَدٌ} وفحينئذٍ لم تبق حجة لمن ينفي وجوب القراءة فيهما، وأن الأحاديث المذكورة حجة عليهم. وقوله: "وقد روي عنها" أبي عن عائشة - رضي الله عنها -. قوله: "منقطعًا" حال تقدمت على صاحبها وهو قوله: "ما فيه أنه قد كان يقرأ". أبي: قد روي عن عائشة الذي فيه أنه - عليه السلام - قد كان يقرأ فيهما حال كونه منقطعًا. ورجال هذا الحديث رجال الصحيحين ما خلا أبا بكرة. وهشام هو ابن حسان، ومحمد هو ابن سيرين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن محمَّد بن سيرين، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُسرّ فيهما القراءة". ص: ثم نظرنا، هل روى غير عائشة عنه في ذلك شيئًا؟ فإذا إبراهيم بن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "ما أُحْصِي ما سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". حدثنا محمَّد بن إسماعيل، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رمقت النبي - عليه السلام - أربعًا وعشرين مرةً أو خمسًا وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل صلاة الغداة وفي الركعتين بعد المغرب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 50 رقم 6337).

حدثنا لبيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سويد بن سعيد، قالا: ثنا مروان بن معاوية، قال: أنا عثمان بن حكيم الأنصاري، قال: أنا سعيد بن يسار، أنه سمع عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (¬1) الآية، وفي الثانية {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (¬2) ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، قال: ثنا عثمان بن عمر بن موسى قال: سمعت أبا الغيث يقول: سمعت أبا هريرة يقول: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في السجدتين قبل الفجر في السجدة الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} (1)، وفي السجدة الثانية {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬3) ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عثمان بن موسى بن خلف العمّي، قال: ثنا أخي خلف بن موسى، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في ركعتي (¬4) يقرءون بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن يحيى بن جناد البغدادي، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري، قال: سمعت طلحة بن خراش يحدث، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلًا قام فركع ركعتي الفجر فقرأ في الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة، فقال النبي - عليه السلام -: هذا عبد آمن بربه، ثم قام فقرأ في الآخرة في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى انقضت السورة، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [136]. (¬2) سورة المائدة، آية: [111]، ووقع في "الأصل"، و"ك"، و"شرح معاني الآثار": قل آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. (¬3) سورة آل عمران، آية: [53]. (¬4) طمس في "الأصل" بمقدار ورقة أو أكثر.

فقال رسول الله - عليه السلام -: هذا عبد قد عرف ربه. فقال طلحة: فإنا أستحب أن أقرأ هاتين السورتين في هاتين الركعتين". ففي هذه الآثار في بعضها أنه قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وفي بعضها أنه قرأ بغير ذلك، وليس في ذلك نفي أن يكون قد قرأ بفاتحة الكتاب مع ما قد قرأ به من ذلك، فقد ثبت بما وصفنا أن تخفيفه ذلك كان تخفيفًا معه قراءة، وثبت بما ذكرنا من قراءته غير فاتحة الكتاب نفي قول من كره أن يُقرأ فيهما غير فاتحة الكتاب، فثبت أنهما كسائر التطوع، وأنه يقرأ فيهما كما يقرأ في التطوع، ولم نجد شيئًا من الصلوات التطوع لا يقرأ فيه بشيء ويقرأ فيه بفاتحة الكتاب خاصةً. ش: أشار بهذا إلى أن القراءة في ركعتي الفجر رويت عن جماعة من الصحابة كما رويت عن عائشة - رضي الله عنهم -. وقد أخرج ذلك عن ستة منهم، وهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله. أما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن عبد الملك بن الوليد بن مَعْدان البصري الضبعي قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: يروي أحاديث لا يتابع عليها، وقال ابن معين: صالح. وهو يروي عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أبو موسى محمَّد بن المثنى، قال: ثنا بدل بن المُحَبَّر، قال: ثنا عبد الملك بن معدان، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 296 رقم 431).

وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن معدان، عن عاصم. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1) نحوه، ولكن ذكر موضع أبي وائل زر بن حبيش. وأما حديث عبد الله بن عمر: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن مجاهد بن جبر المكي، عن ابن عمر. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا محمود بن غيلان وأبو عمار، قالا: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: "رمقت النبي - عليه السلام - شهرًا فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن الإسناد. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا الفضل بن سهل، قال: حدثني أبو الجواب، قال: حدثنا عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: "رمقت النبي - عليه السلام - عشرين مرةً يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن أحمد بن سنان ومحمد بن عبادة الواسطيين، عن أبي أحمد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر ... فذكر مثله. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (8/ 463 رقم 5049). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 276 رقم 417). (¬3) "المجتبى" (2/ 170 رقم 992). (¬4) "سنن ابن ماجه" (3/ 363 رقم 1149).

وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين أيضًا: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن مروان بن معاوية بن الحارث الكوفي شيخ أحمد بن حنبل، عن عثمان بن حكيم الأنصاري، عن سعيد بن يسار -بالياء آخر الحروف- المدني مولى، ميمونة - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يسار، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في ركعتي الفجر {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (¬2) والتي في آل عمران {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬3) الآية". وأخرجه أبو داود (¬4): عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن عثمان بن حكيم ... إلى آخره. وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سويد بن سعيد بن سهل الأنباري شيخ مسلم وابن ماجه، عن مروان بن معاوية، عن عثمان بن حكيم ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬5): أخبرني عمران بن يزيد، قال: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، قال: ثنا عثمان بن حكيم ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "في الأولى، منهما الآية التي في البقرة ... ". وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد ابن منصور شيخ مسلم، عن عبد العزيز بن محمَّد، عن عثمان بن عمر بن موسى ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 502 رقم 727). (¬2) سورة البقرة، آية: [136]. (¬3) سورة آل عمران، آية: [64]. (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 20 رقم 1259). (¬5) "المجتبى" (2/ 155 رقم 944).

ابن عبيد الله القرشي التيمي، وثقه ابن حبان -واستشهد به البخاري- واحتج به أبو داود. عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع- مشهور باسمه وكنيته، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن الصباح، نا عبد العزيز بن محمَّد، عن عثمان بن عمر -يعني ابن موسى- عن أبي الغيث، عن أبي هريرة: "أنه سمع النبي - عليه السلام - يقرأ في ركعتي الفجر {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} (¬2) وفي الركعة الآخرة بهذه الآية {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬3) أو {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (¬4) شك الدراوردي". وأما حديث أنس فأخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود، عن عثمان بن موسى بن خلف العمي -لم أقف على ترجمته وحاله- عن أخيه خلف بن موسى العمّي البصري روى له النسائي، عن أبيه موسى بن خلف العمِّي البصري، قال ابن معين: ليس به بأس. وروى له أبو داود. الثاني: عن قتادة، عن أنس. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن المثنى وعمرو بن علي، قالا: نا خلف ابن موسى بن خلف، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه: عن محمَّد بن إبراهيم بن يحيى بن جنّاد البغدادي البزاز يكنى أبا بكر، قال ابن عقدة: أبو بكر بن جناد عدل ثقة مأمون، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 20 رقم 1260). (¬2) سورة آل عمران، آية: [84]. (¬3) سورة آل عمران، آية: [53]. (¬4) سورة البقرة، آية: [119].

مات بطريق مكة سنة ست وسبعن ومائتين. وفي "التكميل": روى عنه أبو داود في "المراسيل". وهو يروي عن يحيى بن معين الإمام المشهور، عن يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري الأنيْسي أبي زكرياء المدني، قال أحمد: لم يكن به بأس. ووثقه ابن حبان. عن طلحة بن خراش -بالخاء المعجمة- الأنصاري المدني، قال النسائي: صالح. وروى له الترمذي وابن ماجه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1) من حديث طلحة بن خراش، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلًا قام فركع ركعتي الفجر ... " إلى آخره نحوه. قوله: "ركع ركعتي الفجر" أي صلى ركعتي الفجر، أطلق الركوع وأراد به الصلاة، من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل. قوله: "هذا عبد آمن بربه" إنما قال ذلك عند قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ لأنها تشتمل على نفي العبادة لغير الله تعالى، ونفي التوحيد عن غيره، فهذا هو عين الإيمان؛ ولذلك قال عند قراءة سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: هذا عبد عرف ربه؛ لأنها تشتمل على صفات الله تعالى، فمن قرأها فقد عرف ربه بالوحدانية والصمدية، وبأن لا والد ولا ولد له، ولا كفء له ولا نظير وأنه فردٌ صمد أحد واحد، تعالى الله وتقدس. وقوله: "ففي هذه الآثار" أراد بها الأحاديث المذكورة عن هؤلاء الصحابة الستة - رضي الله عنهم -. قوله: "في بعضِها" بالجر بدل من قوله: "ففي هذه الآثار" في محل الرفع على الابتداء. وقوله: "ففي هذه الآثار" مقدمًا خبره. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (6/ 213 رقم 2460).

قوله: "فثبت أنهما كسائر التطوع" أبي الصلوات التي يتطوع بها. ص: ولم نجد شيئًا من التطوع كله كُرِه أن تمد فيه القراءة، بل استحب طول القنوت، رُوي ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن ذلك: ما حدثنا به علي بن مَعْبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا سليمان بن مهران (ح). وثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفرياى، قال: ثنا مالك بن مغول، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "أتى رجل رسول الله - عليه السلام - فقال: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أفضل الصلاة طول القنوت". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الحجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، قال: حدثني عثمان بن أبي سليمان، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن حبشي الخثعمي: "أن النبي - عليه السلام - سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام". حدثنا محمَّد بن النعمان السقطي، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت أبا الزبير يحدث، عن جابر، أن النبي - عليه السلام - قال: "أفضل الصلاة طول القيام". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا سويد أبو حاتم، قال: حدثني عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده "أن رجلًا سأل النبي - عليه السلام -: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". قال أبو جعفر -رحمه الله-: سمعت ابن أبي عمران يقول: سمعت ابن سماعة يقول: سمعت محمَّد بن الحسن يقول: بذلك نأخذ، هو أفضل عندنا من كثرة الركوع والسجود مع قلة طول القيام. ش: لما ذكر أن ركعتي الفجر كسائر التطوعات، وأن القراءة لا بد فيهما كما في غيرهما من التطوعات؛ ذكر أنه لا يوجد قط تطوع يكره فيه مد القراءة أبي تطويلها،

بل يستحب طول القنوت؛ وهو القراءة أو القيام، فالقيام إذا طال لا يخلو عن القراءة الطويلة، والدليل على ذلك أنه قد روي عنه - عليه السلام -: أن أفضل الصلاة طول القنوت، أي القيام أو القراءة. وأخرج ذلك عن ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -. أما حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فأخرج عنه من أربع طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي الواسطي -ويقال المكي- الإسكاف، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "سُئل رسول الله - عليه السلام -: أيّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمَّد بن يوسف الفريابي -شيخ البخاري- عن مالك بن مِغْوَل -بكسر الميم وسكون الغين المعجمة- البجلي الكوفي، عن سليمان الأعمش ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو معاوية ويعلى ووكيع، قالوا: ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 314 رقم 14408).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد بن حميد، ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أفضل الصلاة طول القنوت". الرابع: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن أسامة بن عبد الله بن حميد الحميدي أبي بكر المكي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه الحديث في "مسنده": ثنا سفيان -هو ابن عيينة- عن أبي الزبير، عن جابر قال: "قيل للنبي - عليه السلام -: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت". وأما حديث عبد الله بن حُبْشي -بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف. وأخرجه بإسناد صحيح، عن علي بن معبد بن نوح، عن الحجاج بن محمَّد الأعور المصيصي، عن عبد الملك بن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم المكي روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن علي بن عبد الله البارقي الأزدي روى له الجماعة سوى البخاري، عن عبيد بن عمير بن قتادة أبي عاصم المكي روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا ابن حنبل -يعني أحمد- نا حجاج ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "سئل: أبي الأعمال أفضل؟ ". وأما حديث عمير بن قتادة الصحابي: فأخرجه عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي أيضًا، عن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال البصري روى له الجماعة، عن سويد بن إبراهيم أبي حاتم الجحدري الخياط، ضعفه يحيى والنسائي، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 36 رقم 1325).

عن عبد الله بن عبيد بن عمير أبي هاشم المكي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبيه عبيد بن عمير روى له الجماعة، عن جده عمير بن قتادة بن سعيد الليثي ثم الجندعي، لم يرو عنه غير ابنه عبيد. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬1): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل وجعفر بن محمَّد الفريابي والحسين بن إسحاق التستري، قالوا: ثنا حوثرة بن أشرس، ثنا سويد أبو حاتم صاحب الطعام، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا قال: يا رسول الله - عليه السلام -، أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، قال: أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم خلقًا" انتهى. والمراد من القنوت: القيام وإن كان يأتي بمعاني كثيرة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والسكوت والقيام وطول السجود والقراءة، فينصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى لي ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه. قوله: "أي الصلاة" أو "أي الأعمال" وارد على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص، فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير جميع الأشياء من جميع الوجوه وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال، والمراد: من أفضل الصلاة أو من أفضل الأعمال: طول القيام، كما يقال: فلان أعقل الأشخاص وأفضلهم، ويراد أنه من أعقلهم ومن أفضلهم. قوله: "قال أبو جعفر: سمعت ابن أبي عمران ... " إلى آخره، أشار به إلى أن مذهب أصحابنا أن طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود، وهو مذهب الجمهور، وقد مرَّ الكلام فيه مستقصى. وابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي نزيل مصر، وثقه ابن يونس، وتفقه على محمَّد بن سماعة بن عبيد الله، أحد الثقات الأثبات، وقال ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 48 رقم 103).

ابن الجوزي: هو من الحفاظ الثقات، وكان يصلي كل يوم مائتي ركعة، وهو من أصحاب أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة - رضي الله عنهم -. ص: فلما كان هذا حكم التطوع، وقد جعلت ركعتا الفجر من أشرف التطوع وأكد أمرهما ما لم يؤكد أمر غيرهما من التطوع، وروي فيهما عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمَّد بن يزيد بن قنفذ، عن ابن سِيلان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إلا تزكوا ركعتيم الفجر ولو طردتكم الخيل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدثني عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن رسول الله - عليه السلام - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا حفص، عن ابن جريج، عن عطاء ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". فلما كانتا أشرف التطوع كان أولى بهما أن يفعل فيهما أشرف ما يفعل في التطوع. وقد حدثني ابن أبي عمران، قال: حدثني محمَّد بن شجاع، عن الحسن بن زياد، قال: سمعت أبا حنيفة -رحمه الله- يقول: "ربما قرأت في ركعتي الفجر جزءين من القرآن". فبهذا نأخذ، لا بأس أن تطال فيهما القراءة، وهي عندنا أفضل من التقصير؛ لأن ذلك من طول القنوت الذي فضَّله رسول الله - عليه السلام - في التطوع على غيره. وقد روي ذلك أيضًا عن إبراهيم:

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قالا: ثنا هشام الدستوائي، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم قال: "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا الركعتين اللتين قبل الفجر. قلت لإبراهيم: أطيل القراءة فيهما؟ قال: نعم إن شئت". ش: جواب "لما" هذه و"لما" الأخرى المعطوفة عليها هو قوله: "كان أصلى بهما أن يفعل فيهما أشرف ما يفعل في التطوع"، و"الواو" في "وقد" جعلت للحال. قوله: "وروي فيهما" أبي في ركعتي الفجر، وأخرج في فضلهما عن اثنين من الصحابة، وهما: أبو هريرة وعائشة - رضي الله عنها -. أما حديث أبي هريرة: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي أبي عثمان الواسطي المعروف بسعدويه، شيخ البخاري وأبي داود. عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان الواسطي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن إسحاق -ويقال: عبد الله بن إسحاق- المدني، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ بن جدعان التيمي المدني روى له الجماعة سوى البخاري، عن ابن سِيلان -بكسر السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف- عبد ربه بن سيلان، وقيل: هو جابر بن سيلان، وذكر ابن حبان عبد ربه بن سيلان في "الثقات" وقال: عبد ربه بن سيلان، وهو الذي يقال له عبد ربه الدوسي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، نا خالد، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن إسحاق المدني- عن ابن زيد، عن ابن سيلان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل" انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 403 رقم 1258).

وقد اختلف في هذا الحديث، فقال عبد الحق في "أحكامه" بعد أن ذكره من جهة أبي داود: ليس إسناده بالقوي. وقال ابن القطان في "الوهم والإيهام": علته الجهل بحال ابن سيلان، ولا ندري أهو عبد الله بن سيلان أو جابر بن سيلان، فجابر بن سيلان يروي عن ابن مسعود، روى عنه محمَّد بن زيد بن مهاجر كما ذكره ابن أبي حاتم، وذكره الدارقطني فقال: يروي عن أبي هريرة، روى عنه محمَّد بن زيد بن مهاجر وأيًّا كان فهو مجهول لا يعرف، وأيضًا فعبد الرحمن بن إسحاق هو الذي يقال له عباد المقرئ، قال يحيى القطان: سألت عنه بالمدينة فلم أرهم يحمدونه. وقال أحمد: روى أحاديث منكرة. قلت: أما عبد الله بن سيلان فقد وثقه ابن حبان كما ذكرنا، وأما عبد الرحمن بن إسحاق فقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين واستشهد به البخاري، وإنما لم يعتمده في مذهبه لأنه كان قدريًّا فنفوه من المدينة، فأما رواياته فلا بأس بها. قوله: "ولو طردتكم الخيل" أي الفرسان، ومنه قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي بفرسانك ورجَّالتك، والخيل الخيول أيضًا، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ}. فإن قيل: ما جواب لو؟ قلت: محذوف، والتقدير: ولو طردتكم الخيل لا تتركوها، وحُذِفَ لدلالة القرينة عليه. فإن قيل: على ماذا عطف ولو؟ قلت: على المحذوف، والتقدير: لا تتركوا ركعتي الفجر إن لم تطردكم الخيل وإن طردتكم الخيل، وهذا كلام خارج مخرج المبالغة والمعنى لا تتركونهما ولو فرض أنكم في حالة طرد الخيل. واستدل به أصحابنا أن الرجل إذا انتهى إلى المسجد، والإمام في صلاة الفجر وهو لم يصلِّ ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى؛ يصلي ركعتي

الفجر عند باب المسجد ثم يدخل ولا يتركهما، وأما إذا خشي فوت الفرض فحينئذٍ يدخل مع الإِمام ولا يصلي؛ لأن ذوات الجماعة أعظم والوعيد بالترك ألزم بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين؛ لأنه يمكن أداؤها في الوقت بعد الفرض في القول الصحيح. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن عبيد بن عمير بن قتادة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا يحيى بن سعيد ... إلى آخره، غير أن في روايته: "قبل الصبح". وأخرجه البخاري (¬2): ثنا بيان بن عمرو، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة قالت: "لم يكن النبي - عليه السلام - على شيء من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه "قبل الصبح". قوله:"تَعَاهُدًا" أي حفظًا ورعاية وملازمة، وبظاهره أخذ الحسن البصري، وقال: إن سنة الصبح واجبة. وعن أشعث: كان الحسن يرى الركعتين قبل الفجر واجبتين. وقال القرطبي: هذا قول شاذّ لا أصل له، والذي عليه جماعة العلماء أنهما سنة. وقال ابن رشد في "القواعد": اتفقوا على أنهما سنة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 500 رقم 724). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 393 رقم 1116). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 19 رقم 1254).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير الخارفي شيخ البخاري ومسلم، عن حفص بن غياث النخعي الكوفي، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن رباح، عن عبيد بن عمير، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى عتمة". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن عبيد الغبري، ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا صالح بن عبد الله الترمذي، قال: ثنا أبو عوانة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬4): أنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى ... إلى آخره نحوه. قوله: "خير من الدنيا" أراد به من شهوات الدنيا وزخارفها وملاذِّها. وقوله: "وما فيها" أي خير مما في الدنيا، أراد به كل نوع من الأعمال التي ليست بعبادة ولا فيها أجر، أو خير من الأعمال التي من جنسها مما يتقرب به إلى الله تعالى، ولهذا صارت ركعتا الفجر من أشرف التطوعات واستدلت به طائفة في تأكيد منزلة ركعتي الفجر والترغيب في فعلها، ومن ذلك ذهب الحسن البصري إلى وجوبها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 49 رقم 6323). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 501 رقم 725). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 275 رقم 416). (¬4) "المجتبى" (3/ 252 رقم 1759).

واستدل بعضهم بهذا الحديث على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، وهو قول الشافعي في القديم، وفي قوله الجديد الوتر أفضل. وحكى الرافعي قولًا لبعض الشافعية أنهما سواء في الأفضلية. وحكى الرافعي أيضًا عن أبي إسحاق المروزي أن صلاة الليل أفضل من سنة الفجر. قلت: لا شك أن الوتر أفضل؛ لأنه ملحق بالفرائض، وسنة الفجر ملحقة بالنوافل وباب النوافل أقصر من باب الفرائض، فافهم. قوله: "ولقد حدثني ابن أبي عمران ... " إلى آخره، أشار بهذا الكلام إلى أن مذهب أبي حنيفة استحباب طول القراءة في ركعتي الفجر، وأنه أيضًا مختاره، وأنه أيضًا مختار إبراهيم النخعي، وهو أيضًا مختار سعيد بن جبير والحسن البصري ومجاهد. أما أنه مختار أبي حنيفة فلما رواه عن أحمد بن أبي عمران الفقيه البغدادي، عن محمَّد بن شجاع البغدادي ابن الثلجي- بالثاء المثلثة، من أصحاب الحسن بن زياد، كان موصوفًا بالزهد والعبادة والتلاوة، مات وهو ساجد في صلاة العصر، وأصحاب الحديث حملوا عليه كثيرًا، وأمره إلى الله تعالى، فلا يخلو عن نوع تحامل. والحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب الإِمام أبي حنيفة كان فقيهًا كبيرًا عائد بالروايات وأقوال الناس، ولكن المحدثين تكلموا فيه كثيرًا، والله أعلم بحاله، والظاهر أنه تحامل وكيف وقد قال يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد الهروي، ولي القضاء ثم استعفى منه، وكان محبًا للسنة واتباعها حتى كان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه اتباعًا لقوله - عليه السلام -: "ألبسوهم مما تلبسون". و"الحزب": ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب في اللغة: النوبة في ورود الماء. وأما أنه مختار نفسه فلقد أشار إليه بقوله: "فبهذا نأخذ".

وأما أنه مختار إبراهيم النخعي فلما رواه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي. والثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي أبي عمر البصري، شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره. ص: وقد رويت آثار عمن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القراءة فيهما أردت بذكرها الحجة على من قال: لا قراءة فيهما، فمن ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: "كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الصبح بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن أصحابه "أنهم كانوا يفعلون ذلك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبوداود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني الأعمش، عن إبراهيم: "أن أصحاب ابن مسعود كانوا يفعلون ذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب: "أن أبا وائل قرأ في ركعتي الفجر بفاتحة الكتاب وبآية". حدثنا يونس وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، عن أبي بكر بن مضر، قال: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عقبة بن سلمة، عن عبد الرحمن بن جبير: "أنه سمع عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يقرأ في ركعتي الفجر بأم القرآن لا يزيد معها شيئًا". ش: أي قد رويت أخبار عن الصحابة والتابعين في القراءة في ركعتي الفجر، أخرج ذلك عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي وائل وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم -. أما أثر ابن مسعود: فأخرجه عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النخعي.

وهؤلاء كلهم ثقات غير أن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن علية وغندر، عن شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: "كان ابن مسعود يقرأ في الركعتين قبل صلاة الصبح -أو قال: صلاة الغداة- بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} زاد غندر-: وفي الركعتين بعد المغرب". وأما أثر إبراهيم: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن سعيد بن عامر الضبعي البصري عن شعبة بن الحجاج، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم، عن أصحابه أي عن أصحاب إبراهيم كأبي وائل والأسود والشعبي وأبي الضحى وآخرين. والثاني: أيضًا عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم. وأما أثر أبي وائل: فأخرجه من طريق صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن أبي وائل شقيق بن سلمة. وأما أثر عبد الله بن عَمرو - رضي الله عنهما -: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى وفهد بن سليمان كلاهما، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد المصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري روى له الجماعة، عن عقبة بن مسلم التجيبي المصري، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. عن عبد الرحمن بن جبير المصري المؤذن مولى، نافع بن عمرو، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 50 رقم 6339).

ص: باب: الركعتين بعد العصر

ص: باب: الركعتين بعد العصر ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الركعتين بعد العصر. وجه المناسبة بين البابين: من حيث أن كلًا منهما مشتمل على حكم ركعتين في حكمهما خلاف، فافهم. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود ومسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان اليوم الذي يكون عندي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صلى ركعتين بعد العصر". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الشيباني، قال: ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ركعتان لم يكن النبي - عليه السلام - يدعهما سرًّا ولا علانية ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا حفص، عن الشيباني ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هلال بن يحيى، قال: ثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن محمَّد بن المنتشر، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - لا يدع الركعتين بعد العصر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "والله ما ترك رسول الله - عليه السلام - عندي الركعتين بعد العصر قط". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمَّد بن يحيى بن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ما دخل عليّ النبي - عليه السلام - قط بعد العصر إلا صلى ركعتين".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة نحوه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحوضي، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أم موسى قالت: "أتيت عائشة - رضي الله عنها - فسألتها عن الركعتين بعد العصر ... " فذكرت عنها مثل ذلك أيضًا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي صلاة العصر ثم يصلي بعدها ركعتين". ش: أخرج الحديث من تسع طرق: الأول: على شرط الشيخين، عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي وعن مسروق بن الأجدع، كلاهما عن عائشة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن عرعرة، قال: ثنا شعبة، عن أبي البحتري، قال: رأيت الأسود ومسروقًا شهدا على عائشة قالت: "ما كان النبي - عليه السلام - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلَّى ركعتين". وأخرجه مسلم (¬2): حدثنا ابن المثني وابن بشار، -قال ابن المثنى-: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود ومسروق قالا: نشهد على عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلا صلاهما رسول الله - عليه السلام - في بيتي- تعنى الركعتين بعد العصر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 214 رقم 568). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 572 رقم 835).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود ومسروق قالا: "نشهد على عائشة أنها قالت: ما من يوم يأتي على النبي - عليه السلام - إلا صلى بعد العصر ركعتين". وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت مسروقًا والأسود قالا: "نشهد على عائشة أنها قالت: كان رسول الله - عليه السلام - إذا كان عندي بعد العصر صلاهما". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن موسي بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد العبدي أبي عبيدة البصري روى له الجماعة، عن سليمان بن أبي سليمان فيروز أبي إسحاق الشيباني الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن الأسود النخعي روى له الجماعة، عن أبيه الأسود بن يزيد بن قيس النخعي روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا موسى بن إسماعيل ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا علي بن مسهر. ونا علي بن حجر -واللفظ له- قال: أنا علي بن مسهر، قال: أنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلاتان ما تركهما رسول الله - عليه السلام - في بيتي قط سرًّا ولا علانية، ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر". قوله: "ركعتان" أبي صلاتان كما هو مصرح في رواية مسلم، وهذا من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل، ذكرت الركعة وأرادت بها الصلاة التي هي ركعتان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 25 رقم 1279). (¬2) "المجتبى" (1/ 281 رقم 576). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 213 رقم 567). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 572 رقم 835).

قوله: "يدعهما" أي يتركهما. قوله: "سرًّا" أي في حالة السر. قوله: "ركعتين قبل الصبح" هكذا هو بالياء علامة النصب في بعض النسخ، وكذا وقع في رواية مسلم، وفي بعض النصح: "ركعتان" بالألف علامة الرفع، وكذا وقع في رواية البخاري، أما وجه الرفع فظاهر تقديره إحداهما ركعتان قبل الصبح والأخرى ركعتان بعد العصر، وأما وجه النصب فعلى أنه بيان من الضمير المنصوب في "يدعهما". الثالث: إسناده صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد ابن عبد الله بن نمير الخارفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن حفص بن غياث النخعي، عن سليمان الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده": نا علي بن مسهر، قال: أخبرنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "صلاتان ما تركهما رسول الله - عليه السلام - في بيتي قط سرًّا ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن هلال بن يحيى بن مسلم الرأي البصري أحد أصحاب أبي يوسف، ذكره ابن الجوزي وأثنى عليه، وضعفه ابن حبان، ولكن تضعيفه ساقط؛ لأنه متحمل عليه، وهو أجلّ من ذلك لجلالة قدره وسعة علمه؛ ولذلك لقب بالرأي كما لقب به ربيعة الرأي شيخ مالك. وهو يروي عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري روى له الجماعة، عن إبراهيم بن محمَّد بن المنتشر الكوفي وثقه ابن حبان، عن أبيه محمَّد بن المنتشر بن الأجدع ابن أخي مسروق بن الأجدع روى له الجماعة، عن مسروق، عن عائشة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا إبراهيم بن محمَّد بن المنتشر، عن أبيه: "أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، فقيل له، فقال: لو لم أصلهما إلا أني رأيت مسروقًا يصليهما لكان ثقة، ولكني سألت عائشة، فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - لا يدع ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر". الخامس: إسناده صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن مقدم المقدمي أبي عبد الله البصري شيخ الأربعة، عن عباد بن عباد بن المهلب بن أبي صفرة أبي معاوية البصري روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا زهير بن حرب، قال: نا جرير. وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي، جميعًا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ما ترك رسول الله - عليه السلام - ركعتين بعد العصر عندي قط". السادس: إسناده على شرط مسلم، عن أحمد بن داود المكي، عن محمَّد بن يحيى ابن أبي عمر العدني أبي عبد الله نزيل مكة، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه العدني في "مسنده": عن سفيان ... إلى آخره نحوه. السابع: إسناده صحيح أيضًا على شرط البخاري، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الرجال الأنصاري المدني، وثقه يحيى القطان وأحمد، وروى له النسائي، عن أبيه أبي الرجال -بالجيم جمع رجل- اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة، روى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية المدنية، روى لها الجماعة، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 133 رقم 7349). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 572 رقم 835).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إبراهيم، ثنا عبد الله بن يوسف، نا ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع ركعتين بعد العصر". الثامن: إسناده صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض داود محلة ببغداد، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن مغيرة بن مقسم الضبي الكوفي الفقيه روى له الجماعة، عن أم موسى سرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قيل اسمها حبيبة، وقال أبو داود: اسمها فاختة. قال الدارقطني: حديثها مستقيم، وروى لها أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أسود، نا إسرائيل، عن المغيرة، عن أم موسى قالت: "سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر فقالت: ما أتاني النبي - عليه السلام - في يوم إلا صلى بعد العصر ركعتين". التاسع: على شرط مسلم، عن أبي بكرة بكار، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري روى له الجماعة، عن إسرائيل بن يونس السبيعي، عن المقدام بن شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري، عن أبيه شريح بن هانئ ابن يزيد أبو المقدام الكوفي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه السراج [....] (¬2). ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: سمعت أبا سعيد الأعمى يحدث، عن رجل يقال له: السائب مولى القارئين، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - "أنه رآه ركع ركعتين بعد العصر وقال: لا أدعهما بعد ما رأيت النبي - عليه السلام - يصليهما". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 109 رقم 24827). (¬2) طمس في "الأصل" وغير موجود في "ك".

ش: أبو بكرة بكار القاضي، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وأبو سعد الأعمى المكي ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، روى له ابن ماجه قاله في "التكميل"، عن السائب بن يزيد مولى القارئين وثقه ابن حبان. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي سعد الأعمى، عن السائب بن يزيد، عن زيد بن خالد: "أنه قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في الركعتين بعد العصر: لا أدعهما بعد ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يصليهما". ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا بأس أن يصلي الرجل بعد العصر ركعتين، وهما من السنة عندهم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأسود ومسروقًا وشريحًا وعمرو بن ميمون وعبد الله بن أبي الهذيل وعبد الرحمن بن الأسود والأحنف بن قيس؛ فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور وقالوا: لا بأس أن يصلي الرجل بعد العصر ركعتين، وحكي ذلك عن علي والزبير وابنه عبد الله وتميم الداري والنعمان بن بشير وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن خالد الجهني وأبي جحيفة وعائشة - رضي الله عنهم -، وإليه ذهب الشافعي وأحمد [....] (¬2) كانت هاتان الركعتان عما فاته من الركعتين اللتين بعد الظهر. وفي "المغني" لابن قدامة: وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر فالصحيح جوازه؛ لأن النبي - عليه السلام - فعله، فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة، وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها في حديث عائشة، وهذا مذهب الشافعي. وقال النووي: الصلاة التي لها سبب لا تكره في وقت النهي، وإنما تكره ما لا سبب لها، وأن السنن الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها، وهو الصحيح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 228 رقم 5167). (¬2) طمس في "الأصل" وغير موجود في "ك".

وسيجيء الكلام عن ذلك. ص: وخالفهم أكثر العلماء في ذلك وكرهوهما. ش: أي خالف القوم المذكورين أكثر العلماء فيما ذهبوا إليه، وكرهوا هاتين الركعتين بعد العصر، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك وابن سيرين والثوري. وهو قول الشافعي وأحمد إذا كانتا تطوعًا غير ذات سبب. وهو مذهب عمر - رضي الله عنه -، ويحكى ذلك عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعمرو بن عبسة وعبد الله بن عباس ومعاوية وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: ثنا طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن معاوية أرسل إلى أم سلمة يسألها عن الركعتين اللتين ركعهما رسول الله - عليه السلام - بعد العصر، فقالت: نعم، صلى رسول الله - عليه السلام - عندي ركعتين بعد العصر، فقلتُ: أُمِرْتَ بهما؟ قال: لا ولكني كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن". ش: أي احتج أكثر العلماء فيما ذهبوا إليه من كراهة الركعتين بعد العصر بحديث أم سلمة - رضي الله عنها -. أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن معبد بن شداد العبدي المصري، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العَبْسي -بالباء الموحدة - روى له الجماعة، عن طلحة بن يحيى بن طلحة المدني نزيل الكوفة روى له الجماعة سوى البخاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبي عبد الله المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" (¬1): ثنا ابن نمير، قال: ثنا طلحة بن يحيى، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 309 رقم 26675).

قال: زعم لي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن معاوية أرسل إلى عائشة يسألها هل صلى النبي - عليه السلام - بعد العصر شيئًا؟ قالت: أما عندي فلا، ولكن أم سلمة أخبرتني أنه فعل ذلك، فأَرْسِلْ إليها فَاسْألهَا، فأرسل إلى أم سلمة، فقالت: نعم، دخل عليّ بعد العصر فصلى سجدتين، قلت: يا نبي الله أنزل عليك في هاتين السجدتين؟ قال: لا، ولكني صليت الظهر فشُغِلْتُ فاستدركتهما بعد العصر". وجه استدلال الجمهور بذلك أنه - عليه السلام - قال: "ما أمرت بهما" لما قالت أم سلمة: أُمِرتَ بهما؟ "ولكنني كنت أصليهما ... " إلى آخره. فدل ذلك أنه من خصائصه - عليه السلام -، والدليل على ذلك ما جاء في رواية أخرج عن أم سلمة قالت: "قلت: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا" على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وبهذا يبطل ما قال بعض الشافعية: إن الأصل الاقتداء به - عليه السلام - وعدم التخصيص حتى يقوم دليل به، ولا دليل أعظم من هذا، وهنا شيء آخر يلزمهم وهو أنه - عليه السلام - كان يداوم عليهما، وهم لا يقولون به في الصحيح الأشهر، فإن عورضوا يقولون: هذا من خصائص النبي - عليه السلام -؟ ثم في الاستدلال بالحديث يقولون: الأصل عدم التخصيص وهذا كما يقال: فلان مثل الظليم (¬1) يستحمل عند الاستطارة ويستطير عند الاستحمال، وقد قال بعضهم: إنه صلى بعد العصر تبيينًا لأمته أن نهيه - عليه السلام - عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على وجه الكراهة لا على التحريم. وقال بعضهم: الأصل فيه أنه صلاهما يومًا قضاءً لفائت ركعتي الظهر، وكان - عليه السلام - فعل فعلًا واظب عليه ولم يقطعه فيما بعد. وقال أكثرهم: إنه مخصوص بذلك، وهذا هو الأشهر كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الظَّليم: ذكر النعام. انظر "لسان العرب" (12/ 379).

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن معاوية بن أبي سفيان قال وهو على المنبر لكثير بن الصلت: اذهب إلى عائشة - رضي الله عنها - فاسألها عن ركعتي النبي - عليه السلام - بعد العصر، قال أبو سلمة: فقمت معه، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - لعبد الله ابن الحارث: اذهب معه. فجئناها فسألناها، فقالت: لا أدري، سلوا أم سلمة، فسألناها، فقالت: دخل علي النبي - عليه السلام - فإنه يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، ما كنت تصلي هاتين الركعتين؟! فقال: قدم علي وقد من بني تميم -أو جاءتني صدقة- فشغلوني عن ركعتين كنت أصليهما بعد الظهر، وهما هاتان". حدثنا الحجاج بن عمران بن الفضل البصري، قال: ثنا يوسف بن موسى القطان، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن عبد الرحمن بن أبي سفيان: "أن معاوية أرسل إلى عائشة يسألها عن السجدتين بعد العصر، فقالت: ليس عندي صلاهما، ولكن أم سلمة حدثتني أنه صلاهما عندها، فأرسل إلي أم سلمة، فقالت: صلاهما رسول الله - عليه السلام - عندي، لم أره صلاهما قبل ولا بعد، فقلت: يا رسول الله، ما سجدتان رأيتك صليتهما بعد العصر ما صليتهما قبل ولا بعد؟! فقال: هما سجدتان كنت أصليهما بعد الظهر، فقدم عليَّ قلائص من الصدقة، فنسيتهما حتى صليت العصر ثم ذكرتهما، فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يروني، فصليتهما عندك". حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة - رضي الله عنهما -: "أن النبي - عليه السلام - صلى في بيتها ركعتين بعد العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هاتان الركعتان؟! فقال: كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني مالٌ فشغلني، فصليتهما الآن".

حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بُكير، أن كريبًا مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - حدثه: "أن ابن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة فقالوا: أقرئها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد العصر، وقل إنّا أُخْبِرنَا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن رسول الله - عليه السلام - نهى عنهما؟ قال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر - رضي الله عنه - عليهما. قال كريبٌ: فدخلت عليها فبلغتها ما أرسلوني به، فقالت: سَلْ أم سلمة. فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت أم سلمة: سمعتُ النبي - عليه السلام - ينهى عنهما ثم رأيته صلاهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي إلى جنبه فقولي: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما؟! فإن أشار بيده فاستأخرى عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس بالإِسلام من قوم فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار أو في بعضها: أن عائشة - رضي الله عنها - لما سُئلت عما حكي عنها مما ذكرناه في الفصل الأول أن النبي - عليه السلام - لم يكن يأتيها في بيتها بعد العصر إلا صلى ركعتين، أضافت ذلك إلى أم سلمة - رضي الله عنها - فانتفت بذلك الآثار الأُوَل كلها المروية عن عائشة - رضي الله عنها - فلما سئلت عن ذلك أم سلمة - رضي الله عنها - أخبرت أنها قد كانت سمعت النبي - عليه السلام - ينهى عنهما، ووافقها في ذلك ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر، إلا أنهم ذكروا ذلك بلاغًا (¬1) يحيى بن أبي زياد أبي محمَّد البصري، ختن أبي عوانة، شيخ البخاري. ¬

_ (¬1) سقط ها هنا ورقة من "الأصل، ك".

عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن قتادة، عن أبي العالية الرياحي رُفَيع بن مهران البصري، أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي - عليه السلام - بسنتين روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا هشام، عن قتادة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "حتى تشرق الشمس" موضع "حتى تطلع". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري البصري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن قتادة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا داود بن رشيد وإسماعيل بن سالم، جميعًا عن هشيم -قال داود: ثنا هشيم- قال: أنا منصور، عن قتادة، قال: نا أبو العالية، عن ابن عباس قال: "سمعت غير واحد من أصحاب رسول الله - عليه السلام - منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان أحبَّهم إليّ - أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس". وأخرجه الترمذي (¬3): عن أحمد بن منيع، عن هشيم ... إلى آخره نحوه، وقال: حديث حسن صحيح. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم شيخ أبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبي العالية. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا أبان، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس قال: "شهد عندي رجال مرضيون فيهم عمر بن الخطاب - ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 211 رقم 556). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 566 رقم 826). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 343 رقم 183). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 24 رقم 1276).

وأرضاهم عندي عمر - رضي الله عنه - أن نبي الله - عليه السلام - قال: لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس". قوله: "شهد عندي رجال" معناه بيَّنوا لي وأعلموني به، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬1) قال الزجاج: معناه: بيّن. قوله: "مرضيون" صفة للرجال، وأراد بها أنهم عدول مقبول قولهم. قوله: "وأرضاهم" أفعل من الرضى، وأراد به المبالغة في الثناء على عمر - رضي الله عنه - وكيف وهو أعدل الناس وأزكاهم بعد النبي - عليه السلام - وأبي بكر - رضي الله عنه -. وقد اختلف العلماء في تأويل نهيه - عليه السلام - عن الصلاة بعد الصبح والعصر، قال أبو طلحة: "المراد بذلك كل صلاة". ولا يثبت ذلك عنه. وقال ابن حزم: إن قومًا لم يروا الصلاة أصلًا في هذين الوقتين. وقال النووي: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها. وقال أصحابنا (¬2): لا بأس بأن تُصلَّى في هذين الوقتين الفوائت وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة؛ لأن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير الوقت كالمشغول به لا لمعنى في الوقت فلم يظهر في حق الفرائض وفيما وجب بعينه كسجدة التلاوة، وكذا صلاة الجنازة؛ لأنها ليست بموقوفة على فعل للعبد، ولكن يظهر في حق المنذور؛ لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته، وفي حق ركعتي الطواف، وفي الذي شرع فيه ثم أفسده؛ لأن الوجوب لغيره وهو ختم الطواف وصيانة المؤدى. فإن قيل: شغل الوقت كله تقديري وأداء النفل تحقيقي. قلت: الفرض التقديري أقوى من النفل الحقيقي، ولا يظهر النهي في حق مثله من الفرض. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [18]. (¬2) "الهداية" (1/ 42).

وقال ابن بطال: تواترت الأخبار والأحاديث عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير، فدلّ أن صلاته - عليه السلام - الركعتين بعد العصر مخصوصة به دون أمته. هكذا قال الماوردي وغيره: إنه من خصوصياته - عليه السلام -، وقد مرَّ الكلام فيه. ص: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: ثنا أبو نعيم (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قالا: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في دبر كل صلاة ركعتين إلا الفجر والعصر". ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الكوفي -المعروف بتُرُنْجة، نزيل مصر- عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن ضمرة السكوني الكوفي، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن كثير، أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاص بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي في إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر". والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي- وفي بعض النسخ: عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن مرزوق يروي عنهما جميعًا. عن سفيان ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 408 رقم 1275).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. وهذا نص صريح قطعي على أنه لا صلاة بعد صلاتي الفجر والعصر سواء كان لها سبب أو لم يكن. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن سعد بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه نهى عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المُقدميُّ، قال: ثنا محمَّد بن دينار، قال: ثنا سعد بن أوس، قال: ثنا مِصْدع أبو يحيى، قال: حدثتني عائشة - رضي الله عنها -وبيني وبينهما ستر-: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يكن يصلي صلاةً إلا أتبعها ركعتين غير العصر والغداة فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما". ش: هذان إسنادان حسنان جيّدان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العَبْدي -صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، وثقه أبو حاتم- عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، روى له الجماعة، عن سعد بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري -أخي يحيى وعبد ربه، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه- عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية روى لها الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو أسامة وابن نمير، عن سعد بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن صلاتين: عن صلاة بعد طلوع الفجر حتلى تطلع الشمس وترتفع؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغيب بين قرني شيطان. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 132 رقم 7339). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 131 رقم 7323).

وعن صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس". والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي أبي عبد الله البصري شيخ الأربعة، عن محمَّد بن دينار الأزدي ثم الطاحي أبي بكر البصري، فعن يحيى بن معين: ليس به بأس. وعنه: ضعيف. وقال أبو زرعة: ضعيف. وعنه: لا بأس به. روى له أبو داود والترمذي، عن سعد بن أوس العبسي -ويقال: العدوي- أبي محمَّد الكاتب الكوفي -ويقال: البصري- قال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: صالح. وقال العجلي: ثقة. روى له الأربعة، عن مِصْدع -بكسر الميم- أبي يحيى المعرقب، روى له الجماعة إلا البخاري. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سعد -وهو ابن إبراهيم- عن نصر بن عبد الرحمن، عن معاذ بن عفراء: "أنه طاف بعد العصر أو بعد صلاة الصبح ولم يُصَلِّ، فسئل عن ذلك فقال: نهى رسول الله - عليه السلام - عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". ش: إسناده صحيح. ونصر بن عبد الرحمن القرشي الحجازي وثقه ابن حبان، ومعاذ بن عفراء هو معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري المعروف بابن عفراء، وهي أمه، وهي عفراء بنت عبيد بن ثعلبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نصر بن عبد الرحمن، عن جده معاذ القرشي: "أنه طاف بالبيت مع معاذ ابن عفراء بعد العصر وبعد الصبح فلم يُصلِّ، فسأله، فقال: قال النبي - عليه السلام -: لا صلاة بعد صلاتين: بعد الغداة حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 131 رقم 7321).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا أبو بكر النهشلي، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد، عن رسول الله - عليه السلام - أنه نهى عن ذلك، كما ذكر معاذ بن عفراء عن النبي - عليه السلام -. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا فهد، قال: نا يحيى بن صالح، قال: نا سليمان بن بلال، قال: نا عمرو ابن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه أربع طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي بكر النهشلي الكوفي،- قيل اسمه عبد الله بن قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، روى له مسلم ومن الأربعة غير أبي داود. عن عطية بن سعد العوفي -بالعين المهملة وبالفاء- الجدلى القيسي أبي الحسن الكوفي، قال أحمد: ضعيف الحديث. وكذا عن النسائي، وعن يحيى: صالح. روى له أبو داود والترمذي والنسائي. عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1). الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أبي نضرة -بالنون المفتوحة والضاد المعجمة الساكنة- المنذر بن مالك العبدي العَوَقي -بالقاف- عن أبي سعيد الخدري. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 170 رقم 1226).

وهو إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": نا عبد الواحد بن غياث، نا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغيب الشمس، ونهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد. وهو أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد العزيز بن عبد الله، قال: نا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أنا عطاء بن يزيد الجندعي، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس". وأخرجه مسلم أيضًا. الرابع: أيضًا صحيح: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي، عن عمرو بن يحيى بن سعيد القرشي الأموي المكي، عن أبيه يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص المدني، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، نا وهيب، نا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله - عليه السلام -، عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى، وعن لبستين: الصماء، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن صلاتن في ساعتين: بعد الصبح، وبعد العصر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 212 رقم 561). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 96 رقم 11929).

ص: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البَرَقْي، قال: نا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمَّد، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: إسناده صحيح، قال ابن يونس: أحمد بن عبد الله ثقة ثبت. وعمرو بن أبي سلمة التنيسي أبو حفص الدمشقي روى له الجماعة، وزهير بن محمَّد التميمي العنبري روى له الجماعة، وموسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - نهى عن صلاة: عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: نا عبد الله بن حُمران، قال: أنا شعبة، عن أبي التيّاح الضُّبَعي، قال: أنا حُمران بن أبان قال: "خطبنا معاوية بن أبي سفيان قال: يا أيها الناس، إنكم لتصلون صلاة قد صحبنا رسول الله - عليه السلام - ما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها، يعني الركعتين بعد العصر". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وعبد الله بن حمران بن عبد الله القرشي الأموي البصري روى له مسلم وأبو داود والنسائي، وأبو التياح يزيد بن حميد الضُّبَعي البصري روى له الجماعة، وحمران بن أبان المدني مولى عثمان بن عفان روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): نا محمَّد بن أبان، قال: نا غُنْدر، قال: نا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدثُ عن معاوية قال: "إنكم لتصلون صلاةً لقد صَحِبْنا رسول الله - عليه السلام - فما رأيناه ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 131 رقم 7328). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 213 رقم 562).

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وحَبَّان -بفتح الحاء والباء الموحدة المشددة- والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): عن محمَّد بن سلام، عن عبدة، عن عبيد الله، عن خُبَيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة نحوه. فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي حديث هذا الباب عن ثمانية أنفس من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: عبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب وعائشة الصديقة ومعاذ بن عفراء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر ومعاوية بن أبي سفيان وأبو هريرة. ولما أخرج الترمذي (¬3) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا الباب قال: وفي الباب عن علي وابن مسعود وأبي سعيد وعقبة بن عامر وأبي هريرة وابن عمر وسمرة بن جندب وسلمة بن الأكوع وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو، ومعاذ بن عفراء، والصنابحي -ولم يسمع من النبي - عليه السلام -- ويعلى بن أمية ومعاوية وعائشة وكعب بن مرة وأبي أمامة وعمرو بن عبسَة. قلت: وفي الباب أيضًا عن أنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص وصفوان ابن المعطل وبلال وأبي اليسر وعبد الرحمن بن عوف ورجل من أصحاب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 566 رقم 825). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 213 رقم 563). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 344 رقم 183).

النبي - عليه السلام - وأبي أسيد وقبيصة بن هلب عن أبيه، والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن ابن أزهر - رضي الله عنهم -. فحديث ابن مسعود عند البزار (¬1): عن العباس بن جعفر، عن الوليد بن صالح، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زرٍّ، عن عبد الله قال: "نُهِي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر -أو بعد صلاة الصبح- حتى تطلع الشمس بنصف النهار- أحسبه قال: في شدة الحر". وحديث عقبة بن عامر عند مسلم (¬2): من حديث موسى بن عَلَيّ، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني: "ثلاث ساعات كان رسول الله - عليه السلام - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا ... " الحديث. وأخرجه الطحاوي أيضًا في باب المواقيت. وحديث سمرة بن جندب عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا أبو داود، عن شعبة، عن سماك، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة، يحدث عن سمرة بن جندب، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تصلوا -أو قال: نهى رسول الله - عليه السلام - أن يُصلى- بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع على قرن أو بين قرني شيطان". وحديث سلمة بن الأكوع عند أحمد في "مسنده" (¬4): عن عبد الرحمن بن مهدي، عن زهير، عن يزيد بن خُصَيْفة، عن سلمة بن الأكوع قال: "كنت أسافر مع النبي - عليه السلام - فما رأيته يصلي بعد العصر ولا بعد الصبح [قط] (¬5) ". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 219 رقم 1823). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 568 رقم 831). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 131 رقم 7325). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 51 رقم 16583). (¬5) في "الأصل، ك": فقط. والمثبث من "مسند أحمد".

وحديث زيد بن ثابت عند الطبراني في "الكبير" (¬1): من حديث قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد العصر". وحديث عبد الله بن عمرو عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا يزيد بن هارون، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أن النبي - عليه السلام - نهى عن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". وحديث الصنابحي عند مالك في "موطإه" (¬3): عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، ونهى رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة في تلك الساعات". هذه رواية يحيى عن مالك، وتابعه في قوله "عبد الله الصنابحي" جمهور الرواة، منهم القعنبي وغيره، قاله أبو عمر. قال: وقال فيه مطرف: عن مالك بسنده عن أبي عبد الله الصنابحي، وتابعه إسحاق بن عيسى الطباع وجماعة، وهو الصواب، واسمه عبد الرحمن بن عُسَيْلة، من كبار التابعين ولا صحبة له، قصد النبي - عليه السلام - فتوفي وهو في الطريق قبل لقائه إياه بأيام يسيرة. وحديث يعلى بن أمية عند أحمد (¬4): عن حَيّ بن يعلى بن أمية قال: "رأيت يعلى يصلي قبل أن تطلع الشمس فقال له رجل -أو قيل له-: أنت رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام - تصلي قبل طلوع الشمس؟! قال يعلى: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان ... ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 146 رقم 4900). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 131 رقم 7327). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 219 رقم 512). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 223 رقم 17988).

وحديث كعب بن مرة عند عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، عن كعب بن مرة البهزي، قال: "قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر. قال: ثم الصلاة مقبولة حتى يطلع الفجر، ثم لا صلاة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين، ثم الصلاة حتى تغرب الشمس". وحديث أبي أمامة عند الطبراني في "الكبير" (¬2) من رواية القاسم عنه: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن صلاتين ... " الحديث، وأراد بهما الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. وحديث عمرو بن عَبَسة عند أبي داود (¬3): "قال: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ ... " الحديث، وفيه: "ثم أقصر حتى تطلع الشمس وترتفع رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان". وحديث أنس عند أبي يعلى (¬4) بإسناده الصحيح: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلوا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها؛ فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان وصلُّوا بين ذلك ما شئتم". وحديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد (¬5): قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "صلاتان لا يصل بعدهما: الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس". وحديث صفوان بن المعطل عند ابن ماجه (¬6): أنه قال: "يا رسول الله ... " ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 425 رقم 3949). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 235 رقم 7917). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 25 رقم 1277). (¬4) "مسند أبي يعلى" (7/ 220 رقم 4216). (¬5) "مسند أحمد" (1/ 171 رقم 1469). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 397 رقم 1252).

الحديث، وفيه "إذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس ... " الحديث. وحديث بلال عند أحمد (¬1): قال: "لم نكن نُنْهَى عن الصلاة إلا عند طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان". وحديث أبي اليسر عند أحمد (¬2) والطبراني (¬3): عن سعيد بن نافع قال: "رآني أبو اليسر الأنصاري صاحب رسول الله - عليه السلام - وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس فعاب عليّ ونهاني وقال: إن رسول الله - عليه السلام - قال: لا تصلوا حتى ترتفع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان". وحديث عبد الرحمن بن عوف عند الطبراني في "الكبير" (¬4): قال: "سئل رسول الله - عليه السلام -: أي الليل أسمع؟ ... " الحديث وفيه: "لا صلاة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين، ثم لا صلاة حتى تغيب الشمس". وحديث رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - عند أحمد (¬5) وأبي يعلى (¬6): عن عبد الله ابن رباح، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى العصر، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 12 رقم 23933). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 216 رقم 93219) ولكن من حديث أبي بشر الأنصاري، وكذا عند الطبراني كما يأتي و"مجمع الزوائد" (2/ 226) وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الأوسط" إلا أن أبا يعلى قال: "رآني أبو هبيرة ... " ورجال أحمد ثقات، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات وذكر حديث أبي اليسر من طريق سعيد بن نافع أيضًا بنحوه وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. وهو عند أبي يعلى في "مسنده" (3/ 143 رقم 1572) من حديث أبي هبيرة الأنصاري كما قال الهيثمي. وعند البزار في "مسنده" (6/ 274 رقم 2304) من حديث أبي اليسر بنحوه كما قال الهيثمي. (¬3) "المعجم الكبير" (6/ 323 رقم 6524). (¬4) "المعجم الكبير" (1/ 133 رقم 279). (¬5) "مسند أحمد" (5/ 368 رقم 23170) وزاد في آخره: "فقال رسول الله - عليه السلام -: أحسن بن الخطاب" وكذا عند أبي يعلى. (¬6) "مسند أبي يعلى" (13/ 107 رقم 7166).

فقام رجل فصلى، فرآه عمر - رضي الله عنه - فقال له: اجلس فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل ... ". وحديث أبي أسيد عند الطبراني (¬1): أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا صلاة بعد العصر". وحديث قبيصة بن هلب، عن أبيه عند الطبراني (¬2) أيضًا: عن النبي - عليه السلام -: "أنه سئل: هل من ساعة من الدهر تحبسنا عن الصلاة؟ فقال: لا، إلا عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، وتغيب بين قرني شيطان". وحديث المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر عنده أيضًا، وابن عباس (¬3) معهما: قالوا: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة بعد العصر". ص: فقد جاءت الآثار عن النبي - عليه السلام - متواترةً بالنهي عن الصلاة بعد العصر، ثم عمل بذلك أصحابه من بعده، ولا ينبغي لأحد خلاف ذلك فمما روي عن أصحابه في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد: "أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر". حدثنا ابن أبي داود، قال: نا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، قال: نا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كان عمر يكره الصلاة بعد العصر، وأنا أكره ما كره عمر - رضي الله عنه -". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 268 رقم 593). (¬2) "المعجم الكبير" (22/ 167 رقم 432). (¬3) "المعجم الكبير" (11/ 413 رقم 12173) من حديث ابن عباس فقط.

حدثنا أبو بكرة، قال: نا يحيى بن حماد، قال: نا أبو عوانة، عن سليمان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، قال: نا شعبة، عن جبلة بن سحيم، قال: سمعت ابن عمر يقول: "رأيت عمر - رضي الله عنه - يضرب الرجل إذا رآه يصلي بعد العصر حين ينصرف من صلاته". حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: "سألت ابن عمر عن الصلاة بعد العصر، فقال: رأيت عمر - رضي الله عنه - يضرب الرجل إذا رأه يصلي بعد العصر". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن إياد، عن البراء بن عازب قال: "بعثني سلمان بن ربيعة بريدًا إلى عمر بن الخطاب في حاجة له، فقدمت عليه فقال لي: لا تصلوا بعد العصر؛ فإني أخاف عليكم أن تتركوها إلى غيرها". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: نا شعبة، قال: أنبأني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبد الله بن رافع بن خديج يحدث عن أبيه قال: "فاتتني ركعتان من العصر فقمت أصليهما فجاء عمر - رضي الله عنه - ومعه الدرة فلما سلمت قال: ما هذه الصلاة؟ فقلت: فاتتني ركعتان فقمت أقضيهما. فقال: ظننتك تصلي بعد العصر، ولو فعلت ذلك لفعلت بك وفعلت". حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهب، قال: نا شعبة، عن سعد، عن عبيد الله بن رافع، عن أبيه ... فذكر مثله. حدثنا فهد، قال: نا علي بن معبد، قال: نا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد بن عمرو، عن عمرو بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "أمرني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن أضرب مَنْ كان يصلي بعد العصر الركعتين بالدرة".

ش: أي: قد جاءت الأحاديث عن النبي - عليه السلام - متكاثرة بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وأراد بالتواتر معناه اللغوي. قوله: "ثم عمل بذلك" أي بالنهي عن الصلاة بعد العصر أصحاب النبي - عليه السلام - وقد ذكر ها هنا جماعة منهم في ضمن الآثار التي رواها عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهم: السائب بن يزيد الكناني المدني ابن أخت النمر، حجَّ مع النبي - عليه السلام - وهو ابن سبع سنين، وذهبت به خالته إلى النبي - عليه السلام - وهو مريض فمسح برأسه ودعا له بالبركة، وتوضأ النبي - عليه السلام - فشرب من وضوئه ونظر إلى خاتم بين كتفيه. وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ورافع بن خديج، وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - فإن هؤلاء الصحابة الأجلَّاء كلهم رووا عن عمر - رضي الله عنه - منع الصلاة بعد العصر، وعملوا به أيضًا، فصار كالإِجماع منهم على ذلك، فحينئذٍ لا يبقى مجال للخلاف فيه، ولو لم يكن النهي فيه مؤكدًا لما ضرب عمر بن الخطاب المنكدر وغيره بالدرة على فعل ذلك، فلا يجوز حينئذٍ التقرب إلى الله بالفعل المنهي عنه. ثم إنه أخرج الأثر في ذلك عن عمر بن الخطاب من عشر طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال مسلم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن السائب بن يزيد الكناني الذي مرَّ ذكره الآن. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). والمنكدر هو أبي عبد الله والد محمَّد بن المنكدر القرشي التيمي المدني، ولد على عهد النبي - عليه السلام - ولا تثبت له صحبة. الثاني: على شرط الشيخين، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 221 رقم 518).

عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيْل -بضم العين- بن خلاد بن عَقيل -بالفتح- عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن السائب بن يزيد ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب قال: "رأيت عمر بن الخطاب يضرب المنكدر على السجدتين بعد العصر- يعني الركعتين". وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: "ضرب عمر - رضي الله عنه - المنكدر إذ رآه سبَّح بعد العصر". الثالث: على شرطهما أيضًا، عن يزيد بن سنان، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله: "أن عمر - رضي الله عنه - كره الصلاة بعد العصر، وأنا أكره ما كره عمر - رضي الله عنه -". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل ... إلى آخره. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن جبلة ابن سحيم التيمي أبي سُرَيرة الكوفي روى له الجماعة، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 132 رقم 7340). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 429 رقم 3964). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 132 رقم 7332).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن فضيل، عن المختار، عن أنس قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يضرب الأيدي على الصلاة بعد العصر". السادس: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير أيضًا، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- نصر بن عمران بن عاصم الضُبَعي البصري روى له الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن هشيم أو غيره، قال: أخبرني أبو جمرة قال: "سألت ابن عباس عن الصلاة بعد العصر فقال: صلِّ ما شئت إلى الليل، ولقد رأيت عمر - رضي الله عنه - يضرب الرجل يراه يصلي بعد العصر". السابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبيد الله بن إياد بن لقيط السدوسي أبي السليل الكوفي، روول له البخاري في "الأدب" والباقون سوى ابن ماجه -عن إياد بن لقيط- وهو أبو عبيد الله المذكور، روى له البخاري في "الأدب" والباقون سوى ابن ماجه. عن البراء بن عازب قال: "بعثني سلمان بن ربيعة" وهو سلمان بن ربيعة بن عمرو بن سهم السهمي أبو عبد الله الباهلي وهو سلمان الخيل ويقال أن له صحبة، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. قوله: "بَرِيدًا" بفتح الباء الموحدة وهو في الأصل: البغل، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدًا، والمسافة التي بريدًا السكتين بريدًا، والسكة: الموضع الذي كان يسكنه الفيوج المرتَّبون من رباط أو قُبَّة أو بيت أو نحو ذلك، وبُعْد ما بين السكتين فرسخان، وكان يرتب في كل سكة بغال من البريد للرسول. وفي "العباب": البريد كلمة فارسية أصلها بُريده دُمْ أي محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فأعربت الكلمة وخففت. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 133 رقم 7342). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 433 رقم 3947).

قوله: "بعد العصر" أي صلاة العصر. قوله "فإني أخاف أن تتركوها" أي أخاف أن تتركوا صلاة العصر التي هي الفرض إلى غيرها الذي ليس بفرض. الثامن: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن رافع بن خديج، وثقه ابن حبان، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. عن أبيه رافع بن خديج الصحابي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبد الله بن رافع بن خديج، يحدث عن أبيه قال: "رآني عمر - رضي الله عنه - يومًا وأنا أصلي بعد العصر، فانتظرني حتى صليت، فقال: ما هذه الصلاة؟ فقلت: سبقتني بشيء من الصلاة، فقال عمر - رضي الله عنه -: لو علمت أنك تصلي بعد العصر لفعلت وفعلت". التاسع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبيد الله بن رافع -وهو بالتصغير- أخو عبد الله بن رافع -بالتكبير- المذكور في السند الماضي، ذكره ابن حبان في الثقات، فالذي بالتكبير كنيته أبو محمَّد، والذي بالتصغير كنيته أبو الفضل. العاشر: عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات. عن عمر بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل، وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 132 رقم 7337).

وأخرجه ابن حبان في ترجمة عمر بن عبد الملك المذكور (¬1). ص: حدثنا الحسن بن الحكم الحِبَريُّ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا مسعود بن سَعْد، عن الحسن بن عبيد الله، عن محمد بن شداد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأشتر قال: "كان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يضرب الناس على الصلاة بعد العصر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عامر بن مصعب، عن طاوس: "أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الركعتين بعد العصر، فنهاه عنهما وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2) الآية". فهؤلاء أصحاب النبي - عليه السلام - يَنْهَوْن عنهما، ويَضْرب عمر - رضي الله عنه - عليهما بحضرة سائر أصحابه على قرب عهدهم من رسول الله - عليه السلام - لا ينكر ذلك منهم منكر. ش: هذان إسنادان صحيحان للأثرين. أحدهما: عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، أخرجه عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحِبري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره راء مهملة- نسبته إلى بيع الحبرات عن أبي غسان مالك بن إسماعيل بن درهم شيخ البخاري، عن مسعود بن سعد الجُعْفي وثقه النسائي وغيره، عن الحسن بن عبيد الله بن عروة أبي عروة النخعي الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن محمَّد بن شداد الكوفي وثقه ابن حبان، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن الأشتر وهو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي شاعر فارس، صحب علي بن أبي طالب كثيرًا وروى عنه وعن خالد بن الوليد، واستعمله على مصر، فتوجه إليها ومات في الطريق عند بحر قلزم وقبل الوصول إليها سنة ثمان وثلاثين، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وروى له النسائي. ¬

_ (¬1) "ثقات ابن حبان" (7/ 171 رقم 9510). (¬2) سورة الأحزاب، آية: [36].

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمَّد بن فضيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن محمَّد بن شداد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأشتر قال: "كان خالد بن الوليد يضرب الناس على الصلاة بعد العصر". والآخر: عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عامر بن مصعب، عن طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي (¬2) من حديث ابن عيينة، عن هشام بن حجير قال: "كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما. قال: إنما نهى رسول الله - عليه السلام - عنهما أن تُتَّخذ سلمًا، قال ابن عباس: إنه قد نهى عن صلاة بعد العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬3) ". قوله: "فهؤلاء أصحاب النبي - عليه السلام -" أشار به إلى ما ذكر من الصحابة في أثر عمر بن الخطاب، وما ذكره من خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس مشتملًا غير ما ذكره في ضمن أثر عمر بن الخطاب. ص: فإن قال قائل: فقد أخبرت أم سلمة أن النبي - عليه السلام - قد كان نهى عنهما ثم صلاهما بعد ذلك لما تركهما بعد الظهر، فهكذا أقول يصليهما بعد العصر مَنْ تركها بعد الظهر، ولا يصلي أحد بعد العصر شيئًا من التطوع غيرهما. قيل له: إن رسول الله - عليه السلام - لما صلاهما حينئذٍ قد نهى أن يقضيهما أحدٌ، وذلك أن علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 132 رقم 7331). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 453 رقم 4170). (¬3) سورة الأحزاب، آية: [36].

العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله - عليه السلام -، صليتَ صلاةً لم تكن تُصلِيها؟ قال: قدم مالٌ فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر فصليتها الآن. قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتانا؟ قال: لا". فنهى رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث أحدًا أن يصليهما بعد العصر قضاءً عما كان يصليه بعد الظهر. فدل ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا فاتتاه خلاف حكمه، فليس لأحد أن يصليهما بعد العصر ولا أن يتطوع بعد العصر أصلًا. وهذا هو النظر أيضًا؛ وذلك أن الركعتين بعد الظهر أيضًا ليستا فرضًا، فإذا تُركتا حتى تُصلَّى صلاة العصر، فإن صُلِّيتا بعد ذلك فإنما تطوع بهما مُصلِّيهما في غير وقت تطوع؛ فلذلك نَهَيْنا أحدًا أن يصلي بعد العصر تطوعًا، وجَعلْنا هاتين الركعتين وغيرهما من سائر التطوع في ذلك سواء. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ش: تقرير السؤال أن يقال: سلمنا ما ذكرتم من أن الصحابة كانوا ينهون عن هاتين الركعتين بعد العصر، وأن عمر - رضي الله عنه - كان يضرب الناس على ذلك، ولكن لا نسلِّم مع ذلك إذا كان يُصلّيهما قضاءً عما فاته من ركعتي الظهر، وهو مذهب الشافعي، فإن عنده إذا صلاهما قضاءً عنهما بعد العصر فلا بأس بذلك، وقد ذكرناه فيما مضى. وتقرير الجواب أن يقال: إن ما ذكرتم إنما يصح إذا لم يكن فيه نهي أيضًا، وقد ورد النهي عن النبي - عليه السلام - عن قضائهما أيضًا إذا فاتتاه من الظهر، ألا ترى أن أم سلمة - رضي الله عنها - لما قالت: "قلت: يا رسول الله - عليه السلام -، أفنقضيهما إذا فاتتانا؟ قال: لا"، فنهى النبي - عليه السلام - أن يصليهما أحد بعد العصر قضاءً عما كان يصليه بعد الظهر، فعلم من ذلك أن الصلاة التطوع منهي عنها بعد العصر مطلقًا، فإذا صلاهما بعد العصر يكون متطوعًا قضاءً عن تطوع، والتطوع في غير وقت التطوع لا يجوز؛ فيدخل تحت النهي، وهو وجه النظر والقياس أيضًا.

وإسناد حديث أم سلمة هذا صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس ... إلى آخره نحوه. قوله: "أفنقضيهما" الهمزة للاستفهام، والضمير يرجع إلى الركعتين اللتين بعد الظهر. قوله: "إذا فاتتانا" الضمير المرفوع في "فاتتا" يرجع إلى الركعتين و"نا" ضمير منصوب. قوله "قال: لا" أي: لا تقضيهما إذا فاتتا، وهذا دليل صريح على أن السنن إذا فاتت عن وقتها لا تُقضى، وأن ما كان - عليه السلام - يفعله كان مخصوصًا به، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 315 رقم 26720).

ص: باب: الرجل يصلي بالرجلين أين يقيمهما؟

ص: باب: الرّجلَ يُصلِّي بالرجلين أين يُقيمُهما؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يصلي بالرجلين، في أين يقيمهما الإِمام في الصلاة؟ والمناسبة بين البابين: من حيث اشتمال كل منهما على حكم الاثنين، أما في الأول، فالكلام كان في كراهة الركعتين بعد العصر، وأما في هذا فالكلام في حكم الرجلن إذا صليا مع الإِمام. ص: قد ذكرنا في باب "التطبيق في الركوع" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، قال: ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على رُكَبنا، فضرب أيدينا بيده وطبَّق، فلما فرغ قال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -". فاحتمل ذلك عندنا أن يكون ما ذكره عن النبي - عليه السلام - أنه فعله هو التطبيق، ويحتمل أن يكون هو التطبيق وإقامة أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله، فأردنا أن ننظر، هل في شيء من الروايات ما يدل على شيء من ذلك؟ فإذا حُسين بن نصر قد حدثنا، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا محمَّد ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "دخلتُ أنا وعمي على عبد الله بالهاجرة، فأقام الصلاة، فتأخرنا خلفه، فأخذ أحدنا بيمينه، والآخر بشماله، فجعلنا عن يمينه وعن يساره، فلما فرغ قال: هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يصنع إذا كانوا ثلاثة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا الحديث يخبر أن قول ابن مسعود: "هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -" هو علي قيام الرجلين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وعلى التطبيق جميعًا. وقد حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون قال: "كنتُ أنا وشعيب بن الحبحاب عند إبراهيم، فحضرت العصر، فصلى بنا إبراهيم، فقمنا

خلفه، فجرّنا، فجعلنا عن يمينه وعن شماله، قال: فلما صلينا وخرجنا إلى الدار قال إبراهيم: قال ابن مسعود: هكذا فَصَلّوا، ولا تُصلُّوا كما يُصلِّي فلان. قال: فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين ولم أُسمِّ له إبراهيم، فقال: هذا إبراهيم قد قال ذاك عن علقمة، ولا أرى ابن مسعود فعله إلا لضيقٍ كان في المسجد، أو لعذر رآه فيه، ولا أعلم ذلك من السنة. قال: فذكرته للشعبي فقال: قد زعم ذلك علقمة- ابن عون القائل". ففي هذا الحديث إضافة الفعل إلى ابن مسعود ولم يذكره الشعبي ولا ابن سيرين أن ابن مسعود - رضي الله عنه - ذكره عن النبي - عليه السلام -، ثم ذكره الأسود لابنه عن النبي - عليه السلام -. وكيف كان المعنى في هذا؟ فقد عورض ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا مَهديّ بن جعفر قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن أبي حَزْرَة المدني يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أتينا جابر بن عبد الله فقال جابر: "جئتُ رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي حتى قمتُ عن يساره، فأخذني بيده فأدارني حتى أقامني عن يمينه، وجاء جبار بن صخر فقام عن يساره، فَدَفَعَنا بيده جميعًا حتى أقامنا خلفه". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: "أن جَدَّته مُلَيكة دعت النبي - عليه السلام - لطعامٍ صَنَعتْه، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبِس، فنضحته بماء، فقام رسول الله - عليه السلام - وصفَفتُ أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف". ش: ذكر الطحاوي في باب "التطبيق في الركوع" -وهو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع- عن ابن مسعود شيئين: الأول: أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. والثاني: أنه طبق ثم قال بعد فراغه من صلاته: "هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -".

فقوله هذا يحتمل معنيين: الأول: أن يكون فعله هذا هو التطبيق وحده، يعني يكون قوله: "هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -" راجعًا إلى التطبيق وحده. الثاني: يحتمل أن يكون قوله: "هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -" راجعًا إلى التطبيق وإلى إقامة أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله. فإذا كان الأمر كذلك نحتاج أن ننظر هل جاء شيء من الروايات ما يدل على شيء من ذلك؟ فنظرنا في ذلك، فوجدنا عبد الرحمن بن الأسود روى عن أبيه الأسود أنه قال: "دخلت أنا وعمي ... " الحديث، فدل هذا الحديث على أن قول ابن مسعود: "هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -" يرجع إلى الاحتمال الثاني وهو أنه يدل على قيام أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله، وعلى التطبيق جميعًا، وهذا هو مذهب ابن مسعود وأصحابه، وروي أيضًا عن أبي يوسف، ومذهب الجمهور أن الإِمام يتقدم عليهما، وهو قول عمر وعلي وجابر بن زيد، وعطاء، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد. ثم إسناد هذا الحديث صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "دخلت على ابن مسعود أنا وعمي بالهاجرة، قال: فأقام الصلاة، فقمنا خلفه، قال: فأخذني بيدٍ وأخذ عمي بيدٍ، قال: ثم قدمنا حتى جعل كل رجل منا على ناحية، ثم قال: هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يفعل إذا [كانوا] (¬2) ثلاثةً". قوله: "دخلت أنا وعمي" إنما ذكر "أنا" ليصح عطف قوله: "وعمي" على قوله: "دخلت"؛ لأن الضمير المرفوع المتصل لا يعطف عليه إلا بإعادة الضمير المتصل ليصير عطف الاسم على الاسم، وفي تركه يتوهم عطف الاسم على الفعل. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 451 رقم 4311). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

وعم الأسود هو علقمة بن قيس بن عبد الله، والأسود بن يزيد بن قيس، فعلقمة ويزيد أخوان ابنا قيس بن عبد الله. والهاجرة: اشتداد الحرّ نصف النهار، وأراد به وقت الظهر. قوله: "فجعلَنا" بفتح اللام، أي جعلنا ابن مسعود عن يمينه، وعن شماله. قوله: "وقد حدثنا أبو بشر الرقي ... " إلى آخره، جواب عما ذكر، بيانه: أن الحديث المذكور وإن كان مرفوعًا في رواية الأسود، فهو موقوف في رواية إبراهيم النخعي، والصحيح وقفه، وكذا قال أبو عمر: إن هذا الحديث لا يصح رفعه، والصحيح فيه عندهم التوقيف على ابن مسعود أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود. انتهى. والدليل على صحة الوقف دون الرفع: أن محمَّد بن سيرين أنكر أن يكون ذلك من السنة حيث قال: ولا أعلم ذلك من السنَّة، وإنما فعل ابن مسعود ذلك لضيق كان في المسجد، أو لعلةٍ أخرى رآه فيها، وكذا عامر بن شراحيل الشعبي قال: هذا زعم علقمة. وعبد الله بن عون هو القائل بذلك. ففي هذا الحديث أضافوا الفعل إلى ابن مسعود دون النبي - عليه السلام -، أعني به الحديث الذي أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبي المثني البصري قاضيها روى له الجماعة، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني أبي عون البصري روى له الجماعة، قال: كنت أنا وشعيب بن الحبحاب الأزدي أبو صالح البصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه. عن إبراهيم هو النخعي، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود. قوله: "وقد يجوز أيضًا أن يكون علقمة ... " إلي آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: قد يجوز أن يكون علقمة بن قيس لم يذكر لعامر الشعبي ولا لمحمد ابن سيرين أن ابن مسعود ذكر فعله المذكور عن النبي - عليه السلام -، وذكره الأسود بن يزيد لابنه عبد الرحمن أنه عن النبي - عليه السلام -، فيكون الحديث مرفوعًا.

وتقرير الجواب هو ما أشار إليه بقوله: "وكيف كان المعنى في هذا، فقد عُورِض ذلك ... " إلى آخره، بيانه: أن هذا الحديث وإن سلَّمنا صحة رفعه أو صحة وقفه؛ فأيًّا ما كان فهو مُعَارَض بحديث جابر بن عبد الله وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنهم -. أما حديث جابر فأخرجه وإسناد صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن مهدي بن جعفر الرملي الزاهد وعن يحيى: لا بأس به. عن حاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة، عن أبي حَزْرة -بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالراء المهملة- المدني القاضي واسمه يعقوب بن مجاهد، روى له البخاري في "الأدب" ومسلم وأبو داود. عن عبادة بن الوليد أبي الصامت المدني روى له الجماعة سوى الترمذي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حاتم بن إسماعيل، ثنا أبو حَزْرة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد قال: "أتينا جابرًا قال: سرت مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة فقام يصلي ... " الحديث، وفيه: "فقمت عن يسار رسول الله - عليه السلام - فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء ابن صخر حتى قام عن يساره، فأخَذَنا بيديه جميعًا فدَفَعنا حتى أقامنا خلفه". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) أيضًا مطولًا. وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء الأنصاري الخزرجي ثم السلمي، يكنى أبا عبد الله، من أصحاب العقبة. قوله: "فَدَفَعَنَا" بفتح العين أبي فدفعنا رسول الله - عليه السلام -. وأما حديث أنس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 239 رقم 3106). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 2301 رقم 3006). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 171 رقم 634).

وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه. فالبخاري (¬1): عن عبد الله، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (¬4): عن إسحاق الأنصاري، عن مالك. والنسائي (¬5): عن قتيبة، عن مالك. غير أن في رواية البخاري ومسلم: "فصلى لنا رسول الله - عليه السلام - ركعتين" وفي رواية أبي داود: "فصلى لنا ركعتين"، وفي رواية النسائي: "قوموا فأصلي لكم، وصلى ركعتين ثم انصرف". قوله: "أن جدته مليكة" الضمير في "جدته" يرجع إلى إسحاق المذكور، وهي جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك، ويقال: الضمير يرجع إلى أنس، وهو القائل: "أن جدته" وهي جدة أنس بن مالك أم أمه، واسمها مليكة بنت مالك بن عدي، ويؤيد الوجه الأول أن في بعض طرق الحديث: "أن أم سليم سألت رسول الله - عليه السلام - أن يأتيها". أخرجه النسائي (¬6): عن يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله ... فذكره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 149 رقم 373). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 457 رقم 658). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 166 رقم 612). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 454 رقم 234). (¬5) "المجتبى" (2/ 85 رقم 801). (¬6) "المجتبى" (2/ 56 رقم 737).

وأم سليم هي أم أنس، جاء ذلك مصرحًا في البخاري، وقال النووي في "الخلاصة": الضمير في "جدته" لإسحاق -على الصحيح- وهي أم أم إسحاق، وقيل جدّة أنس. وهو باطل، وهي أم سليم، صرَّح به في رواية البخاري، ومُليكة بضم الميم وفتح اللام، وبعض الرواة رواه بفتح الميم وكسر اللام، والأول أصح، وفي بعض شروح البخاري: اختلف في الضمير من "جدته" هل يعود على إسحاق أو على أنس؟ فزعم أبو عمر أنه يعود على إسحاق وأنها جدته وأم أنس، ولم يتردد في ذلك، وتبعه على ذلك غير واحد، يؤيده ما جاء في رواية أبي داود "أن رسول الله - عليه السلام - كان يزورها وجاءت الصلاة فصلى على بساط"، وما جاء في رواية النسائي: "أن أم سُليم سألت رسول الله - عليه السلام - أن يأتيها فيصلي في بيتها" ومنهم من قال: الضمير يعود على أنس؛ لأن أم أم سليم اسمها مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة. قال ذلك محمَّد بن سعد في كتاب "الطبقات"، وهشام بن محمَّد الكلبي في "الجمهرة"، وأبو عبيد بن سلام، وأحمد بن جابر البلاذري وذكرها في الصحابة - رضي الله عنهم -، وزعم الأصيليُّ أن أم سليم اسمها مَلِيكة بفتح الميم وكسر اللام، وكأنه غير جيد لغرابته. قوله: "دعت النبي - عليه السلام -" أي طلبته. قوله: "لطعام" أي لأجل طعام. قوله: "صنعته" جملة وقعت صفة لطعام. قوله: "فأكل منه" فيه حذف، أي فأجاب دعوتها، فجاء فأكل منه. قوله "فلأصلي بكم" قال أبو العباس القرطبي: رويناه بكسر لام "فلأصلي" وفتح الياء على أنها لام كي، والياء زائدة، وروي بكسر اللام وجزم الياء على خطاب نفسه، وروي بفتح اللام واثبات الياء ساكنة، وهي أضعفها؛ لأن اللام تكون جواب قسم محذوف، وحينئذٍ تلزمها النون في المشهور.

قوله: "فقمت إلى حصير" قال ابن سيده في "المحكم" و"المحيط الأعظم": إنها سفيفة تصنع من بَرْديّ وأسَلٍ ثم تفترش؛ سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض، ووجه الأرض يسمى حصيرًا. وفي "الجمهرة": الحصير عربي؛ سمي حصيرًا لانضمام بعضه إلى بعض. قوله: "من طول ما لبس" أبي من كثرة ما استعمل، وقال الشيخ تقي الدين: دلَّ ذلك أن الافتراش يُطلق عليه لبس. ويرتب على ذلك مسألتان: إحداهما: لو حلف لا يلبس ثوبًا ولم تكن له نية فافترشه؛ أنه يحنث. والثانية: أن افتراش الحرير حرام؛ لأنه كاللبس. قلت: أما الأول فينبغي أن لا يحنث فيها؛ لأن مبنى اليمين على العرف، ولا يُسمى المفترش لابسًا في العرف. وأما الثانية: فليس الافتراش كاللبس؛ لأن بجواز الافتراش جاء الأثر دون اللبس. قوله: "فنضحته بماء" إن كان ذلك لنجاسة متيقنة يكون النضح بمعنى الغسل، وإن كان لتوقع نجاسة لامتهانه بطول افتراشه يكون النضح بمعنى الرش لتطييب النفس، ويقال: إن كان النضح لِيَلِينَ الحصير للصلاة عليه يكون بمعنى الرش، وإن كان لعرض الدوس والأقدام يكون بمعني الغسل. قوله: "واليتيم" عطف على ما قبله، وإنما ذكر "أنا" لأن العطف على الضمير المرفوع المتصل لا يجوز إلا بعد الضمير المرفوع المنفصل؛ حتى لا يتوهم عطف الاسم على الفعل، واسم اليتيم ضُمَيرة، جَدّ حسين بن عبد الله بن ضميرة، قاله ابن الحَذَّاء عن عبد الملك بن حبيب، قال: ولم يذكره إلا ابن حبيب فيما علمت، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله أو من أحد من أهل المدينة الذين لقيهم، قال ابن الحَذَّاء: حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضُميرة، وأبو ضُميرة

هو مولى رسول الله - عليه السلام -، فإن كان كما قال فقد اختلفوا في اسم أبي ضُميرة، فقيل: اسمه روح بن سَنْدَر، وقيل روح بن شيرزاد، وقال أبو عمر عن البخاري: اسمه سعد الحمْيري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعبد الحميري هو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة. قوله: "ثم انصرف" أي عن البيت، وهذا هو الأقرب، ويحتمل أنه أراد الانصراف من الصلاة. أما على رأي أبي حنيفة بناءً على أن السلام لا يدخل تحت مسمى الركعتين. وأما على رأي غيره فيكون الانصراف عبارة عن التحلل الذي يَسْتعقب السلام، وقد قال بعض الحنفية: ويستدل أبو حنيفة ومن قال بقوله أن السلام ليس بواجب في الخروج من الصلاة لقوله: "ثم انصرف" ولم يذكر سلامًا، ولقائل أن يقول: قوله "ثم انصرف" يريد الانصراف من البيت الذي هو فيه كما ذكرناه. ويستفاد من الحديث فوائد: استحباب التواضع وحسن الخلق، وإجابة دعوة الداعي، والدلالة على إجابة أولى الفضل لمن دعاهم لغير الوليمة، واستحباب الصلاة للتعليم أو لحصول البركة، وبيان موقف الاثنين وراء الإمام وهو المطلوب من تخريج الحديث، والدلالة على أن للصبي موقفًا في الصف، وعلى أن موقف المرأة وراء موقف الصبي، وأنها لا تجوز إمامتها لأن مقامها إذا كان متأخرًا عن مرتبة الصبي فبالأوْلى أن لا تتقدمهم، وهو قول الجمهور خلافًا للطبري وأبي ثور في إجازتهما إمامة النساء مطلقًا، وحكي عنهما أيضًا إجازة ذلك في التروايح إذا لم يوجد قارئ غيرها، وعلى جواز الاجتماع في النوافل خلف الإِمام، وعلى صحة صلاة الصبي وأنها معتدٌّ بها، وعدم كراهة الصلاة على الحصير ونحوه مما تنبته الأرض وهو إجماع، إلا ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز، ويُحمل فعله على التواضع.

فإن قيل: فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): من حديث يزيد بن المقدام، [عن المقدام بن شريح] (¬2) عن أبيه، عن شريح: "أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -: أكان النبي - عليه السلام - يصلي على الحصير، فإني سمعت في كتاب الله -عز وجل- {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (¬3) فقالت: لا، لم يكن يصلي عليه". قلت: هذا غير صحيح؛ لأنه معلول بيزيد (¬4)، فلا يُعارِض الصحيح. ص: فإن قال قائل: فإن فعل ابن مسعود - رضي الله عنه - هذا الذي وصفنا بعد النبي - عليه السلام - يدل على أن ما عمل به من ذلك هو الناسخ. قيل له: فقد روي عن غير ابن مسعود من أصحاب النبي - عليه السلام - أنه فعل بعد موت النبي - عليه السلام - في ذلك مثل ما روى جابر وأنس - رضي الله عنهما -، فإن كان ما روي عن ابن مسعود من فعله بعد النبي - عليه السلام - دليلًا عندك على أن ذلك هو الناسخ، كان ما روي عن غير ابن مسعود من ذلك دليلًا عند خصمك على أن ذلك هو الناسخ. ¬

_ (¬1) ورواه أبو يعلى في "مسنده" (7/ 426 رقم 4448) من طريق ابن أبي شيبة عن يزيد بن المقدام، عن المقدام بن شريح، عن أبيه به. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أبي يعلى". (¬3) سورة الإسراء، آية: [8]. (¬4) قلت: قال السيوطي في "الجامع الصغير" (1/ 323) بعد أن ذكر هذا الحديث: ورجاله -كما قال الحافظ الزين العراقي- ثقات. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 57): رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون. ويزيد هذا هو ابن المقدام بن شريح بن هانئ الحضرمي الحارثي، قال الحافظ في "تهذيب التهذيب": قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال أبو داود والنسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: ليس به بأس، وقال عبد الحق: ضعيف، وردّ عليه ذلك ابن القطان وقال: لا أعلم أحدًا قال فيه ذلك. قال الحافظ: وهو كما قال. وقال في "التقريب": صدوق. وكذا قال الذهبي في "الكاشف". وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 491) تحت باب: "الصلاة على الحصير" فكأنه لم يثبت عند المصنف -أي البخاري- أو رآه شاذًّا مردودًا لمعارضته ما هو أقوى منه كحديث الباب.

فمما روي عن غير ابن مسعود في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري (خ). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه قال: "جئت بالهاجرة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فوجدته يُصلي، فقمت عن شماله، فأخلفني فجعلني عن يمينه، ثم جاء يَرْفأ فتأخرت فصليت أنا وهو خلفه". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: سمعت ابن عتبة يقول: "أقيمت الصلاة، وليس في المسجد أحد إلا المؤذن ورجل وعمر بن الخطاب، فجعلهم عمر - رضي الله عنه - خلفه فصلى بهم". ش: السؤال والجواب ظاهران، وهو معارضة بالمثل. قوله: "فمما روي" أي فمن الذي روي عن غير ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو ما رواه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه عبد الله بن عتبة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه قال: "أتيت عمر بن الخطاب وهو يصلي بالهاجرة، فقمت عن شماله فجعلني عن يمينه، فجاء يَرْفأ، فتأخرنا، فصرنا اثنين خلفه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 429 رقم 4944).

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، عن أبيه أنه قال: "دخلت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالهاجرة، فوجدته يُسبِّح، فقمت وراءه، فقرَّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يَرْفأ تأخرنا، فصففنا وراءه". الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج أبي القاسم الأزدي الفقيه، عن آدم بن أبي إياس التيمي -ويقال التميمي- شيخ البخاري، عن شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن عبيد مولى آل طلحة القرشي الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب المدني روى له الجماعة، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبي عبد الرحمن المدني والد عبيد الله، أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة غير الترمذي. قوله: "بالهاجرة" أراد بها وقت الظهر، ولكن رواية مالك تدل على أن المراد بها وقت الضحوة الكبرى، وهو وقت اشتداد الحر، وكان يصلي فيه الضحى؛ لأنه قال: "فوجدته يُسبِّح" أي يتطوع ويتنفل. قوله: "فأخلفني" أي جعلني من خلفه إلى يمينه، بمعني أدارني من خلفه إلى يمينه. قوله: "يَرْفأ" بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء المهملة وبالفاء بعدها ألف ساكنة، وهو مولى لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان حاجبه في خلافته. ص: ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر، فرأينا الأصل أن الإمام إذا صلى برجل واحد أقامه عن يمينه، وبذلك جاءت السنة عن رسول الله - عليه السلام - في حديث ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 154 رقم 360).

أنس، وفيما حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أتيت النبي - عليه السلام - وهو يصلي، فقمت عن يساره، فأخلفني فجعلني عن يمينه". فهذا مقام الواحد مع الإِمام، وكان إذا صلى بثلاثةٍ أقامهم خلفه، هذا لاخلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلافهم في الاثنين، فقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الواحد. وقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الثلاثة، فأردنا أن نَنْظر في ذلك لنعلم هل حكم الاثنين في ذلك كحكم الثلاثة أو حكم الواحد؟ فرأينا رسول الله - عليه السلام - قد قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة". حدثنا بذلك أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - عليه السلام - بذلك. فجعلهما رسول الله - عليه السلام - جماعةً، فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما. ورأينا الله -عز وجل- قد فرض للأخ أو للأخت من قبل الأم السدس، وفرض للجميع الثلث وكذلك فرض للاثنين، وجعل للأخت من الأب والأم النصف، وللاثنتين الثلثين، وكذلك أجمعوا أنه يكون للثلاث، وأجمعوا أن للابنة النصف وأن للبنات الثلثين، وقال أكثرهم -وابن مسعود فيهم-: إن للاثنتين أيضًا الثلثين. فكذلك هو في النظر؛ لأن البنت لَمَّا كانت في ميراثها من أبيها كالأخت في ميراثها من أخيها كان البنتان أيضًا في ميراثهما من أبيهما كالأختين في ميراثهما من أخيهما؛ فكان حكم الاثنين فيما وصفنا حكم الجماعة لا حكم الواحد. فالنظر على ذلك أن يكونا في مقامهما مع الإمام في الصلاة مقام الجماعة لا مقام الواحد، فثبت بذلك ما روى جابر وأنس، وفعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

غير أن أبا يوسف قال: الإِمام بالخيار، إن شاء فعل كما روى ابن مسعود، وإن شاء فعل كما روى أنس وجابر. وقول أبي حنيفة ومحمد في هذا أحب إلينا، والله أعلم. ش: أي: ثم طلبنا حكم الاثنين من طريق القياس هل له حكم الثلاثة أم حكم الواحد؟ فوجدنا الأصل في ذلك أن الإِمام إذا كان وراءه واحد فإنه يقيمه عن يمينه كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه بإسناد صحيح، عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه الجماعة مطولًا ومختصرًا، فقال البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "بتّ في بيت خالتي ميمونة، فصلى رسول الله - عليه السلام - العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، فجئت فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه ... " الحديث. وقال مسلم (¬2): حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع، قالا: نا وهب بن جرير، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت قيس بن سعد يحدث، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "بعثني العباس إلى النبي - عليه السلام - وهو في بيت ميمونة، فبتّ معه تلك الليلة، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره فتناولني من خلف ظهره فجعلني عن يمينه". وقال أبو داود (¬3): حدثنا ابن المثنى، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم ... إلى آخره نحو رواية البخاري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 247 رقم 665). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 531 رقم 763). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 45 رقم 1357).

وقال الترمذي (¬1): نا قتيبة، قال: نا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي - عليه السلام - ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله - عليه السلام - برأسي من ورائي، فجعلني علي يمينه". وقال النسائي (¬2): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "بتّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل، فقمت عن شماله، فقال بي هكذا، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه". وقال ابن ماجه (¬3): ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد الواحد بن زياد بن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: "بتّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - عليه السلام - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأقامني عن يمينه". قوله: "هذا لا خلاف فيه بين العلماء" أشار به إلى قوله: "وكان إذا صلى بثلاثة أقامهم خلفه"؛ لأن هذا مما لا يختلف فيه أحد من العلماء، "وإنما اختلافهم في الاثنين" أي في حكم الاثنين، هل هو كحكم الواحد أم كحكم الجماعة؟ "فقال بعضهم" وأراد بهم: أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود، وغيرهما: "يقيمهما" أي يقيم الإمام الاثنين "حيث يقيم الواحد" يعني واحدًا عن يمينه، والآخر عن شماله. "وقال بعضهم" وأراد بهم جمهور العلماء والأئمة الأربعة وأصحابهم "يقيمهما" أي الاثنين "حيث يقيم الثلاثة" يعني يتقدم الإِمام عليهما كما يتقدم على الثلاثة فما فوقها، فصار الخلاف في هذا الفعل، فننظر فيه، هل حكمه حكم الواحد أو حكم الجمع؟ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 451 رقم 232). (¬2) "المجتبى" (2/ 87 رقم 806). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 312 رقم 973).

فرأينا دلائل تدل على أن حكم الاثنين في غير صورة النزاع حكم الجمع لا حكم الواحد: منها: قوله - عليه السلام -: "الاثنان فما فوقهما جماعة". أخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن عبيد الله -بالتصغير- ابن محمَّد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بابن عائشة شيخ أبي داود وأحمد، ثقة صدوق. وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما يرويان عن الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التيمي السَعْدي الأعرجي أبي العلاء البصري المعروف بُعَليْله، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ليس بشيء. وعنه: ضعيف. وقال أبو داود: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: لا يشتغل بروايته فإنه ضعيف الحديث، ذاهب الحديث. عن أبيه بدر بن عمرو بن جراد الكوفي، قال في "الميزان": فيه جهالة، ما روى عنه غير ولده. عن جده عمرو بن جراد التيمي السعدي. عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا هشام بن عمار، نا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جدِّه عمرو بن جراد، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "اثنان فما فوقهما جماعة". فجعلهما -أي الاثنين- رسول الله - عليه السلام - جماعةً فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما، ومثل هذا القول حجة من اللغوي فكيف من النبي - عليه السلام -؟! ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 312 رقم 972).

ومن الدلائل: ما أشار إليه بقوله: "ورأينا الله -عز وجل- قد فرض للأخ ... " إلى آخره، بيانه: أن الله تعالى قد فرض للأخ من الأم أو للأخت من الأم السدس؛ وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬1) أي وله أخ لأم أو أخت لأم، وبذلك قرئت، وفرض للثلاثة منهم الثلث؛ وذلك لقوله تعالى: ({فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وكذلك فرض للاثنين منهم الثلث فجعل الأخوين من الأم أو الأختين من الأم مثل الثلاثة منهم. ومنها: ما أشار إليه بقوله: "وجعل للأخت من الأب والأم النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للأخت الواحدة من الأب والأم النصف، وللأختين من الأب والأم الثلثين، وكذلك للثلاث فما فوقه، فقد سوَّى الله تعالى هنا أيضًا بين الاثنين والجمع، وجعل حكمهما واحدًا، وهذا لا خلاف فيه، ومنها ما أشار إليه بقوله: "وأجمعوا أن للابنة النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للبنت الواحدة النصف؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (¬2)، فهذا مجمع عليه للنص، وكذلك أجمعوا أن للبنات الثلثين؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (2). ثم قال أكثر العلماء من التابعين وغيرهم ومن الصحابة عبد الله بن مسعود: إن للاثنتين أيضًا الثلثان كالجمع منهن، وذهب آخرون منهم ومن الصحابة عبد الله بن عباس أن للاثنتين النصف كالواحدة. ومنها غير ما ذكره الطحاوي: أن بالاثنين غير الإِمام تنعقد صلاة الجمعة عند أبي يوسف. ومنها: أن حكم المرأتين في النصف كحكم النساء عنده. ومنها: أن الاثنين كالثلاث عنده في سد الطريق الكبير الذي بين الإِمام والقوم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [12]. (¬2) سورة النساء، آية: [11].

ومنها: قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1) المراد قلباكما؛ إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. فإذا دلَّت هذه الأحكام على أن حكم الاثنين حكم الجماعة لا حكم الواحدة في هذه الصُورَ، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكم الاثنين في مقامهما مع الإِمام في الصلاة كحكم الجماعة لا حكم الواحد. والأكثرون من الصحابة والفقهاء وأئمة اللغة على أن أقل الجمع ثلاثة حتى لو حلف لا يتزوج نساء لا يحنث بتزوج امرأتين؛ وذلك لإجماع أهل اللغة والعربية على اختلاف صيغ الواحد والاثنين والجمع في غير ضمير المتكلم مثل: رجل، رجلان، رجال، وهو فَعَلَ، وهما فَعَلا، وهم فَعَلُوا، وأيضًا يصح نفي الجمع عن الاثنين مثل: ما في الدار رجال بل رجلان. وقد أجابوا عن الحديث بأنه لما دل الإجماع على أن أقل الجمع ثلاثة وجب تأويل الحديث، وذلك بأن يحمل على أن للاثنين حكم الجمع في المواريث استحقاقًا وحجبًا، أو في حكم الاصطفاف خلف الإِمام وتقدم الإِمام عليهما، أو في حكم إباحة السفر لهما وارتفاع ما كان منهيًّا عنه في أول الإِسلام من مسافرة واحد واثنين بناءً على غلبة الكفار، أو في انعقاد صفة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة؛ وذلك لأن الغالب من حال النبي - عليه السلام - تعريف الأحكام دون اللغات. وعن الآيات بأن فيها إطلاق الجمع على الاثنين مجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض، أو تشبيه الواحد بالكثير في العِظَم والخطر كما يطلق الجمع على الواحد تعظيمًا في مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من وجه النظر: ما روى جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وانتفى بذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [4]. (¬2) سورة النجم، آية: [9].

ص: باب: صلاة الخوف كيف هي؟

ص: باب: صلاة الخوف كيف هي؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية صلاة الخوف، ولما فرغ عن بيان أنواع الصلوات التي تقع في حالة الأمن؛ شرع يبين الصلاة التي تقع في حالة الخوف، فالمناسبة بين هذا الباب وبين الأبواب التي قبله تكون من جهة التضاد، فافهم. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عاصم بن علي وخلف بن هشام، قالا: ثنا أبو عوانة (ح). وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "فرض الله على لسان نبيكم أربعًا في الحضر، وركعتين في السفر، وركعة في الخوف". ش: هذه أربعة أسانيد: الأول: صحيح على شرط مسلم، عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري، وعن خلف بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي شيخ مسلم كلاهما، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن بُكير بن الأخنس السَّدُوسي الكوفي، عن مجاهد بن جبر المكي، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد -قال يحيى: أنا. وقال الآخرون: ثنا- أبو عوانة، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم، في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق الضرير إبراهيم بن زكرياء العجلي البصري، ضعفه خلق كثير؛ فقال أبو حاتم الرازي: مجهول، والحديث ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 479 رقم 687).

الذي رواه منكر. وقال الترمذي: كأن حديثه موضوع لا يشبه حديث الناس. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: حدث عن الثقات بالبواطيل. وهو أيضًا يروي عن أبي عوانة ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وجبارة بن المغلس، قالا: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "افترض الله الصلاة على لسان نبيكم - عليه السلام - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". الثالث: عن عبد العزيز بن معاوية بن عبد العزيز العتَّابي أبي خالد البصري، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا يعقوب بن ماهان، قال: نا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إن الله -عز وجل- فرض الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور شيخ أبي داود ومسلم، عن أبي عوانة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): نا مسدد وسعيد بن منصور، قالا: ثنا أبو عوانة ... إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلَّدوه وجعلوه أصلًا، فجعلوا صلاة الخوف ركعةً واحدةً. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء، وطاوسًا والحسن ومجاهدًا والحكم بن عُتَيبْة ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 339 رقم 1068). (¬2) "المجتبى" (3/ 119 رقم 1442). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 400 رقم 1247).

وقتادة وإسحاق والضحاك؛ فإنهم قالوا: صلاة الخوف ركعة واحدة. واحتجوا بالحديث المذكور، وقال ابن قدامة: والذي قال منهم: ركعة إنما جعلها عند شدة القتال. وروي مثله عن زيد بن ثابت، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، قال جابر: "إنما القصر ركعة عند القتال". وقال إسحاق "يجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماءً، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة؛ لأنها ذكر الله تعالى". وعن الضحاك أنه قال: "ركعة، فإن لم تقدر كبَّر تكبيرة حيث كان وجهه". وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: ابن عمر والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة. ثم قال: والذين روينا عنهم صلاة النبي - عليه السلام - أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين، وابن عباس - رضي الله عنهما - لم يكن ممن يحضر النبي - عليه السلام - في غزواته، ولا نعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره، فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي - عليه السلام - أولى. وقال ابن حزم في "المحلّى": مَنْ حضره خوف من عدو ظالم، أو كافر، أو باغي من المسلمين، أو من سَيْل، أو من نار، أو من حَنش، أو سبع، أو غير ذلك، وهم في ثلاثة فصاعدًا، فأميرهم مُخيَّر بين أربعة عشر وجهًا كلها قد صح عن رسول الله - عليه السلام - وسواء ها هنا الخائف من طالب بحق أو بغير حق. ثم قال: وروينا عن أبي هريرة أنه صلى بمن معه صلاة الخوف، فصلاها بكل طائفة ركعة، إلا أنه لم يقض ولا أمر بالقضاء. وعن ابن عباس: "يومئ بركعةٍ عند القتال". وعن الحسن: "أن أبا موسى الأشعري صلى في الخوف ركعة". وعن معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: "إذا كانت المسايفة فإنما هي ركعة يومئ إيماءً حيث كان وجهه، راكبًا كان أو ماشيًا".

وعن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيد، عن الحسن قال في صلاة المطاردة: "ركعة". وعن سفيان الثوري: حدثني سالم بن عجلان الأفطس: سمعت سعيد بن جبير يقول: "كيف تكون قصرًا وهم يُصلُّون ركعتين؟! وإنما هو ركعة ركعة يومئ بها حيث كان وجهه". وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة قال: "سألت الحكم بن عُتَيْبة وحماد بن أبي سليمان، وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة حيث كان وجهه". وعن وكيع، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم مثل قول الحكم وحماد وقتادة. وعن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد: "في قول الله -عز وجل-: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1) قال: في الغزو يصلي راكبًا وراجلًا، يومئ حيث كان وجهه، والركعة الواحدة تجزئه". وبه يقول سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه. ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الله -عز وجل- قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬2) ففرض الله -عز وجل- صلاة الخوف ونصَّ فرضها في كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة بعد تمام الركعة الأولى مع الأمام، فثبت بهذا أن الإِمام يصلِّيها في حال الخوف ركعتين، وهذا خلاف هذا الحديث، ولا يجوز أن يؤخذ بحديثٍ يدفعه نَصُّ الكِتَاب. ش: أي: فكان من الحجة والبرهان على القوم المذكورين الذين جعلوا صلاة الخوف ركعة واحدة: أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (2) الآية. فهذه الآية تدل على أن الإِمام يصلي صلاة الخوف ركعتين؛ لأن معنى قوله: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [239]. (¬2) سورة النساء، آية: [102].

{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (¬1) اجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصلِّ بهم ركعةً، فإذا سجدوا -يعني الطائفة الذين معك، والسجود على ظاهره عند أبي حنيفة- فليكونوا من ورائكم يحرسونكم، ولتأت طائفة أخرى -وهم الذين كانوا تجاه العدو- فليصلوا معلى ركعةً، فتكون صلاة الإِمام ركعتين. وقال أبو بكر الرازي: وفي الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم، وذلك موافق لقولنا، فإذا كانوا كذلك لم يكملوا صلاتهم إلا بعد صلاة الطائفة الثانية الركعة الثانية، وإليه أشار الطحاوي بقوله: "وجعل صلاة الطائفة" أراد به الطائفة الأولى بعد تمام الركعة الأولى مع الإِمام، وعلى مذهب مالك لا يكونون من ورائهم إلا بعد تمام صلاتهم؛ لأنه فسّر السجود بالصلاة، فعلى مذهبه يقضون لأنفسهم بعد صلاتهم مع الإمام ركعةً، ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء. فإذا ثبت بالتقرير المذكور أن الإمام يصليها في حالة الخوف ركعتين؛ لا يجوز أن يترك ذلك بحديث يخالف النص؛ لأن العمل به نسخ للكتاب بخبر الواحد، وذا لا يجوز، وقد يُقال: إن قوله: "وركعةً في الخوف" محمول على أنه مع الإمام حتى لا يكون مخالفًا لغيره من الأحاديث الصحيحة. ص: ثم قد عارضه عن ابن عباس غيره: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكر بن أبي الجهْم، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - بذي قَرْد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصفَّ صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، فصلى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلى بهم ركعةً، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - عليه السلام - ركعتان ولكل طائفة ركعة". ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102].

فهذا عبيد الله بن عبد الله قد روى عن ابن عباس ما يخالف ما روى مجاهد عنه، ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعةً فيَصِلُها بأخرى بلا قعود ولا تشهد ولا تسليم. فلما تضادّ الخبران عن ابن عباس؛ تنافيا، ولم يكن لأحد أن يحتج في ذلك بمجاهد عن ابن عباس؛ لأن خصمه يحتج عليه بُعبَيد الله، عن ابن عباس بخلاف ذلك. ش: هذا إشارة إلى حجة أخرى على القوم المذكورين، بيانها أن يُقال: إن ما رَوَيْتم عن مجاهد، عن ابن عباس من أن صلاة الخوف ركعة؛ يُعارِضُه ما رواه عبيد الله، عن ابن عباس أيضًا؛ لأنه صرَّح في روايته هذه بأن صلاة الخوف ركعتان، فحينئذٍ تضادّ خبرا ابن عباس وتنافيا؛ فلم يبق لهم أن يحتجوا في ذلك بخبر مجاهد عن ابن عباس؛ لأنهم متى احتجوا به يحتج عليهم خصمهم بخبر عبيد الله، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدُوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي أبي عامر الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن أبي بكر بن أبي الجهم -واسم أبي الجهم صخر، ويقال: عُبيد- بن حذيفة القرشي العدوي، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. عن عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة. عن عبد الله بن عباس. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - صلّى بذي قرَدٍ، فصفّ الناس خلفه صَفّين، صفًّا خلفه، وصفًّا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 169 رقم 1533).

موازي العدوّ، فصلى بالذين خلفه ركعةً، ثم انصرف هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعةً ولم يقْضوا". قوله: "بذي قَرَد" بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، هو موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر، ويقال لغزوة ذي القَرَد: غزوة الغابة أيضًا، وكانت في سنة ست من الهجرة، وقال ابن هشام: واستعمل رسول الله - عليه السلام - على المدينة ابن أم مكتوم. وذكر ابن سعد أنها كانت في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وكانت لرسول الله - عليه السلام - عشرون لقحة ترْعي بالغابة، فأغار عليها عُيَيْنة في ليلة الأربعاء في أربعين فارسًا، فاستاقوها، وكان أبو ذر فيها، وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها، فركب رسول الله - عليه السلام - فخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعًا، فوقف، وكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه الدرع والمغفر شاهرًا سيفه، فعقد له رسول الله - عليه السلام - لواءً في رمحه، وقال: "امض حتى تلحقك الخيل"، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يَحْرسون المدينة، فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله - عليه السلام - بذي قَرَد، فاستنقذوا عَشْر لقاحِ، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله - عليه السلام - بذي قَرَد صلاة الخوَف، وأقام بها يومًا وليلة يتحسَّسُ الخبر، وقسم في كل مائة من أصحابة جزورًا ينحرونها، وكانوا خمسمائة -ويقال: سبعمائة- ثم رجع رسول الله - عليه السلام - إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليالٍ. قوله: "مَصافّ هؤلاء" بفتح الميم وتشديد الفاء، جمع مَصَفّ وهو موضع الحرب الذي تكون فيه الصفوف، وأما المُصاف -بضم الميم- فهو بمعنى المُقابِل، يقال: مُصَافّ العدو، أي مقابلهم. ثم هذا النوع من صلاة الخوف ذهب إليه ابن أبي ليلى؛ فإنه قال: إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين، فيكبّر ويكبّرون، فيركع ويركعون

جميعًا معه، ويسجد الإِمام والصفُّ الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخر، فإذا فرغوا من سجودهم فقاموا تقدم الصف الآخر وتأخر الصف المقدم، فيصلي بهم الإِمام الركعة الأخرى كذلك. ثم اعلم أن صلاة الخوف على أنواع شتّى. فقال الخطابي: وقد صلاَّها رسول الله - عليه السلام - في أيام مختلفة، وعلى أشكال متباينة يتَوخّى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها مؤتلفة في المعاني. وقال ابن القصَّار المالكي: إن النبي - عليه السلام - صلاهَّا في عشرة مواطن، وذكر مسلم أربعة أحاديث كل حديث يدل على صورة، وذكر أبو داود ثمان صور، وذكر غيره صُورًا أخرج يبلغ مجموعها ستة عشر وجهًا. وقال في الإِمام: اختلفت الأحاديث في هيئة صلاة الخوف، فذكر ابن عمر - رضي الله عنهما - هيئةً، وروى صالح بن خوَّات هيئة أخرى، وروى جابر هيئةً أخرى، وأحسن ما بنيت عليه هذه الأحاديث أن تحمل على اختلاف أحوال أدَّي الاجتهاد في كل حالة إلى أن إيقاع الصلاة على تلك الهيئة أحصن وأكثر تحرزًا وأمنًا من العدو، ولو وقعت على هيئةٍ أخرى لكان فيها تفريط وإضاعة للحزم. وقال عياض: واختلف فقهاء الأمصار في المختلف من الهيئات الواردة في الإيماء، فأخذ مالك برواية صالح بن خوَّات التي رواها عنه في "موطإه". وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر، وأخذ أبو حنيفة برواية جابر، ولا معنى للأخذ بها إلا إذا كان العدو في القبلة، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الإمام يصلي ركعتين وتصلي كل طائفة ركعة لا أكثر، واحتج بما رواه الطحاوي عن ابن عباس في أول الباب.

وأخرج مسلم (¬1) في بعض طرقه عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - صلى أربع ركعات، بكل طائفة ركعتين" فكانت للنبي - عليه السلام - أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، وهو اختيار الحسن، وذُكِرَ عن الشافعي أيضًا. وفيها صورة أخرى رواها ابن مسعود وأبو هريرة، وأخرى رواها أبو داود في حديث ابن مسعود أيضًا، وأخرى رواها أيضًا في رواية أبي هريرة، وأخرى رويت عن عائشة - رضي الله عنها -، وأخرى جاءت في حديث ابن أبي حثمة من رواية صالح بن خوَّات، وأخرى رويت عن القاسم في حديث ابن أبي حثمة، وأخرى رواها أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم -، وسيأتي ذلك مفصَّلًا مشروحًا. ص: فإن قالوا: فقد رُوي عن غير ابن عباس ما يُوافِقُ ما قلنا، وذكروا ما حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن الرُّكَيْن بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال: "أتيت ابن وَدِيعة فسألته عن صلاة الخوف، فقال: ائت زيد بن ثابت فسله، فأتيته فسألته، فقال: صلى النبي - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه فصفَّ صفًّا خلفه، وصفًّا موازي العدوّ، فصلَّى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مَصَافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مَصَافّ هؤلاء، فصلى بهم ركعةً ثم سَلّم عليهم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مُؤَمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، ثم ذكر مثله بإسناده، وقال عبد الله بن وديعة: وزاد: "فكانت لرسول الله - عليه السلام - ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة". حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبَيصة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مُؤَملٌ، قالا: ثنا سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم الحنظلي قال: "كنا مع سعيد ابن العاص بطبرستان، فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع النبي - عليه السلام -؟ فقام حذيفة فقال: أنا ... " ثم قال مثل ما ذكر زيد سواء. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 576 رقم 843).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عطيّة بن الحارث، قال: حدثني مُخْمَل بن دماثٍ قال: "غزوت مع سعيد بن العاص فسأل الناس: من شهد منكم صلاة الخوف مع النبي - عليه السلام -؟ ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المَسْعُودي، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - مُقَابلَ العَدُو ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: حدثني أبو حفص الفلاس، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة: "أن النبي - عليه السلام - صلَّى باصحابه صلاة الخوف" فذكر مثله. ش: أي: فإن قال أولئك القوم المذكورون، هذه معارضة منهم، بيانها أن يقال: إنكم قد ذكرتم ما يعارض احتججنا به من حديث ابن عباس وأسقطتم احتجاجنا به، وها نحن قد وجدنا عن غير ابن عباس من الصحابة قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه صلى صلاة الخوف ركعةَّ واحدةً نحو ما ذهبنا إليه. فذكروا في ذلك أحاديث زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وجابر بن عبد الله وسهل بن أبي حثمة - رضي الله عنهم -، فإنهم رووا عن النبي - عليه السلام - ما يوافق ما قلنا. أما حديث زيد بن ثابت فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن الرُّكين -بضم الراء- بن الرَّبيع -بفتح الراء- بن عُمَيلة -بضم العين- الفزاري أبي الربيع الكوفي، روى له الجماعة، البخاري في كتاب "الأدب". عن القاسم بن حسان العامري، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي. عن عبد الله بن وديعة بن جذام الأنصاري المدني روى له البخاري وابن ماجه.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سفيان، عن الركين، عن القاسم بن حسان قال: "أتيت فلان بن وديعة، فسألته عن صلاة الخوف فقال: أثبت زيد بن ثابت ... " إلى آخره نحوه. ثم قال البيهقي: أراد بقوله: "ذهب هؤلاء وجاء أولئك" في تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان ... إلى آخره. وزاد عبد الله بن وديعة في هذه الرواية: "فكانت" أي الصلاة "لرسول الله - عليه السلام - ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة". وأخرجه الطبراني في "الكبير (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن الرُّكين بن الرَّبيع بن عُمَيلة الفزاري، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: "سألته عن صلاة الخوف فقال: قام رسول الله - عليه السلام - فصلى بهم، فقام صفّ خلفه، وصفّ موازي العدو، فصل بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء فصلى بهم ركعةً ثم انصرف". وأما حديث حديفة بن اليمان - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم بن أسود المحاربي الكوفي، عن الأسود بن هلال المحاربي أبي سلام الكوفي، عن ثعلبة بن زهدم التميمي الحنظلي الصحابي ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني أشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم قال: "كنا مع ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 262 رقم 5846). (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (5/ 153 رقم 4919). (¬3) "المجتبى" (3/ 168 رقم 1530).

سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلَّى مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقام حذيفة وصفّ الناس خلفه صفين، صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعةً ولم يَقْضوا". وأخرج أيضًا (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان، عن الأشعث بن أبي الشعثاء ... إلى آخره. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمّل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، نا يحيى، عن سفيان، حدثني الأشعث بن سُلَيم، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهْدم قال: "كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعةً وبهؤلاء ركعةً ولم يقضوا". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ البخاري وأحمد، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن عطية بن الحارث الهمداني الكوفي، عن مُخْمل -بضم الميم وسكون الخاء المعجمة- بن دَمَاث -بفتح الدال المهملة وتخفيف الميم وفي آخره ثاء مثلثة- الكوفي وثقه ابن حبان، قال: "غزوت مع سعيد بن العاص ... " إلى آخره. وهو سعيد بن العاص بن أحيحة القرشي الأموي أبو عبد الرحمن المدني، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، استعمله عثمان على الكوفة، وغزا طَبَرِسْتان فافتتحها -وهي بفتح الطاء والباء الموحدة والراء وسكون السين المهملة وبالتاء المثناة من فوق وبعد الألف نون- وهي بلاد كثيرة المياه والأشجار ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 167 رقم 1529). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 16 رقم 1246).

والغالب عليها الجبال وأبنيتها بالخشب والقصب، وهي بلاد كثيرة الأمطار، ويرتفع منها أبرسم يعم الآفاق، وغالب خبزهم الأرز، وهي شرقي كبلان؛ وانما سميت بذلك لأن طَبَر بالفارسية الفأس، وأستان الناحية، ومن كثرة اشتباك أشجارها لا يَسْلك فيها الجيش إلا بعد أن تقطع الأشجار من بين أيديهم بالطبر، فسميت لذلك طبرستان أي: ناحية الطبر، ومن بلادها: رُويان خرج منها جماعة من أهل العلم، وناتل، والأرجان، وويمَه، وآمُل وهي أكبر مدينة بطبرستان ومنها أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري، وما مَطير خرج منها جماعة من أهل العلم. وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن يزيد بن صهيب الفقير أبي عثمان الكوفي روى له الجماعة غير الترمذي. وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، قال: أنبأني يزيد الفقير، أنه سمع جابر بن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - فأقيمت الصلاة، فقام رسول الله - عليه السلام - وقامت خلفه طائفة، وطائفة مواجهة العدو، فصل بالذين خلفه ركعةً وسجد بهم سجدتين، ثم إنهم انطلقوا فقاموا مقام أولئك الذين كانوا في وجه العدو، وجاءت تلك الطائفة فصل رسول الله - عليه السلام - ركعةً وسجدتين، ثم إن رسول الله - عليه السلام - سلَّم، فسلَّم الذين خلفه وسلَّم أولئك". وله رواية أخرى (¬2): عن يزيد الفقير، عن جابر نحوه، وفي آخره: "فكانت للنبي - عليه السلام - ركعتان ولهم ركعة". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 175 رقم 1546). (¬2) "المجتبى" (3/ 174 رقم 1545).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) مطولًا ومختصرًا بوجوه متعددة. وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري أحد الأئمة الحنفية الكبار، قال ابن الجوزي: ولي لقضاء بالشام والكوفة وبغداد، وكان عالمًا ورعًا ثقة قدوة في العلوم غزير الفضل والدين، ذكره صاحب "الهداية" في كتاب الرهن. وهو يروي [عن] (¬3) أبي حفص الفلاس الحافظ واسمه عمرو بن علي، وهو باسمه أشهر منه بكنيته، وهو شَيْخ الجماعة، يَرْوي عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - روى له الجماعة، عن أبيه القاسم بن محمَّد روى له الجماعة، عن صالح بن خوَّات -بالخاء المعجمة وبتشديد الواو وفي آخره تاء مثناة من فوق- بن جبير الأنصاري المدني، روى له الجماعة حديث صلاة الخوف. عن سهل بن أبي حثمة عبد الله الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. والحديث أخرجه الجماعة: فقال البخاري (¬4): ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة قال: "يقوم الإِمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى العدو، فيُصلِّي بالذين معه ركعة ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعةً فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1515 رقم 3906). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 574 رقم 840). (¬3) ليست في "الأصل". (¬4) "صحيح البخاري" (4/ 1514 رقم 3902).

ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام - مثله. وقال مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - عليه السلام - صلَّى بأصحابه في الخوف، فصفّهم خلفه صفّين، فصلى بالذين يلونهم ركعةً، ثم قام، فلم يزل قائمًا حتى صلَّى الذين خلفهم ركعةً، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعةً، ثم قعد حتى صلَّى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم". وقال أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه: "أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام وطائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإِمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم سلَّموا وانصرفوا -والإمام قائم- فكانوا وجاه العدو، ثم يُقبل الآخرون الذين لم يُصلُّوا فيكبروا وراء الإِمام، فيركع بهم، ويسجد بهم، ثم يُسلِّم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون". وقال الترمذي (¬3): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن صالح بن خوَّات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة: "أنه كان يقول في صلاة الخوف: يقوم الإِمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة ويركعون لأنفسهم ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم، ثم يذهبون إلى مقام أولئك، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 575 رقم 841). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 13 رقم 1239). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 455 رقم 565).

فيركع بهم ركعةً ويسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدة ثم يركعون ركعةً، ويسجدون سجدتين". قال محمد بن بشار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام - بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري. وقال النسائي (¬1): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - عليه السلام - صلَّى بهم صلاة الخوف، فصفّ صفًّا خلفه وصفًّا مُصافّوا العدو، فصلَّى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلّى بهم ركعةً، ثم قاموا فقضوا ركعةً ركعةً". وقال ابن ماجه (¬2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، عن سَهْل بن أبي حثمة: "أنه قال في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى الصف، فيركع بهم ركعة، ويركعون لأنفسهم ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم ثم يذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد بهم سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين". قال محمد بن بشار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام - بمثل حديث يحيى بن سعيد. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 170 رقم 1536). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 399 رقم 1259).

ص: قيل لهم: هذا غير موافق لما روى مجاهد، ولكنه موافق لما روى عبيد الله، عن ابن عباس، وقد تقدّمت حجتنا في أول هذا الباب أن النبي - عليه السلام - محال أن يكون الفرض عليه في تلك الصلاة ركعة واحدة ثم يَصِلُها بأخرى لا يسلم بينهما، فثبت بما ذكرنا أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الأمام، ولم يذكر المأمومين بقضاء ولا غيره في هذه الآثار، فاحتمل أن يكونوا قضوا ولا بد -فيما يوجبه النظر- أن يكونوا قد قضوا ركعةً ركعةً؛ لأنا رأينا الفرض على الإمام في صلاة الأمن والإقامة مثل الفرض على المأموم سواء، وكذلك الفرض عليهما في صلاة الأمن في السفر سواء، ومحال أن يكون المأموم فرضه ركعةً فيدخل مع غيره ممن فرضُه ركعتان إلا وجب عليه مثل ما وجب على إمامه ألا تُرى أن مسافرًا لو دخل في صلاة مقيم صلى أربعًا فكان المأموم يجب عليه ما يجب على إمامه، وقد يكون على المأموم ما ليس على إمامه، من ذلك أنَّا رأينا المقيم يُصلي خلف المسافر بصلاته ثم يقوم بعد ذلك فيقضي تمام صلاة المقيم، فكان المأموم قد يجب عليه ما ليس على إمامه ولا يجب على إمامه ما لا يجب عليه، فلما ثبت بما ذكرنا وجوب الركعتين على الإِمام ثبت أن مثلهما على المأموم. ش: أي قيل لهؤلاء القوم في جواب ما ذكروا من موافقة أحاديث زيد بن ثابت وحذيفة وجابر بن عبد الله وسهل بن أبي حثمة: هذا غير موافق لما رواه مجاهد، عن عبد الله بن عباس من قوله: "إن صلاة الخوف ركعة واحدة"، ولكنه موافق لما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - بذي قرد صلاة الخوف ... " الحديث، وأشار بقوله: "وقد تقدمت حجتنا في أول هذا الباب ... " إلى قوله: "ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعةً فَيصِلُها بأخرى" بلا قعود للتشهد ولا تسليم. قوله: "إن النبيَّ - عليه السلام -" بالفتح بدل من قوله: "حُجّتَنَا". قوله: "ثم يَصِلُها بأخرى" أي يصلُ الركعة الواحدة بركعة أخرى.

قوله: "فثبت" أي: إذا كان كذلك؛ ثبت بما ذكرنا أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الإِمام، فإذا كان على الإِمام ركعتين وجب أن يكون على المأموم مثلهما، وذلك بطريق النظر والقياس؛ لأنه لم يذكر المأمومين في هذه الأحاديث بقضاء ولا غيره، ولكن الذي يقتضيه القياس أن يكونوا قد قضوا ركعةً ركعةً، والباقي ظاهر. ص: وقد روي عن حليفة - رضي الله عنه - من قوله ما يدل على ما تأوّلنا في حديثه وحديث زيد وجابر وابن عباس - رضي الله عنهم - أنهم قضوا ركعةً ركعةً. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبدٍ، عن حذيفة قال: "صلاة الخوف ركعتان وأربع سجدات". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فدلَّ ذلك على أبيهم قد كانوا فعلوا ذلك مع رسول الله - عليه السلام - في الأحاديث الأول. ش: أشار بهذا إلى تأييد ما ذكره من التأويل في أحاديث هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - وهو أن الذي يوجبه النظر والقياس: أن يكون المأمومون قد قضوا ركعة ركعة؛ لأن من جملة من روى من هؤلاء الصحابة حذيفة بن اليمان، وقد روي عنه من رأيه ما يدل على تأويل حديثه بالتأويل الذي ذكرناه. أخرجه بإسناده صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سُلَيم -بضم السين- بن عبد السلولي الكوفي وثقه ابن حبان، عن حذيفة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سُليم ابن عبدٍ، عن حذيفة قال: "صلاة الخوف ركعتان وأربع سجدات، فإن أعملك العدو حلَّ لك القتال والكلام بين الركعتين" انتهى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 215 رقم 8288).

فكلامه هذا قد دلَّ على أنهم كانوا يفعلون ذلك مع رسول الله - عليه السلام - فيما مضى من أحاديث هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم -. ص: ثم اعتبرنا بالآثار هل نجد فيها من ذلك شيئًا؟ فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن أبي موسى: "أن رسول الله - عليه السلام - عليه السلام - صلى بأصحابه صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعة وكانت طائفة بإزاء العدو، فلما صلى بهم ركعة سلم، فنكصوا على أعقابهم حتى انتهوا إلى إخوانهم ثم جاء الآخرون فصلَّى بهم رسول الله - عليه السلام - ركعة، ثم سلَّم، فقام كل فريق فصلوا ركعةً ركعةً". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد أخبر في هذا الحديث أنهم قضوا، فبيَّن ما وصفنا أنه يحتمل في الآثار الأول، وكان قوله: "ثم سلَّم بعد الركعة الأولى" يحتمل أن يكون سلامًا لا يريد به قطع الصلاة ولكن يريد به إعلام المأمومين موضع الانصراف. ش: أي ثم اعتبرنا الأحاديث المروية في هذا الباب هل نجد فيها من ذلك شيئًا؟ أي من التأويل الذي ذكرناه الذي أيده قول حذيفة، فإذا أبو بكرة بكار القاضي قد حدث، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حرة واصل ابن عبد الرحمن البصري روى له مسلم، عن الحسن البصري، عن أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) موقوفًا، وقال: ثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن: "أن أبا موسى - رضي الله عنه - صلى بأصحابه بأصبهان، فصلَّت طائفة منهم معه، وطائفة مواجهة العدوّ، فصلى بهم ركعةً، ثم نكصوا وأقبل الآخرون يتخللونهم، فصلى بهم ركعةً، ثم سلَّم، وقامت الطائفتان فصلتَّا ركعةً ركعةً". قوله: "نكصوا على أعقابهم" أي رجعوا إلى ورائهم، والنكوص: الرجوع إلى وراء، وهو القهقرى، يقال: نكص ينكص من باب نصر ينصر فهو ناكص. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 215 رقم 8290).

قوله: "فبيَّن" أي حديث أي موسى، وقوله: "ما وصفنا" مفعوله، وقوله: "أنه يحتمل" مفعول "وصفنا". وقوله: "وكان قوله: ثم سلم ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: كيف تكون صلاة الخوف ركعتين وقد سلم - عليه السلام - عقيب الركعة الأولى؟ فالسلام فاصل بين الركعتين، فلا تكون إلا ركعة في حق الطائفة الأولى، وركعة أيضًا في حق الطائفة الثانية. وتقرير الجواب أن يقال: إن سلامه - عليه السلام - يحتمل أن يكون لم يُردْ به قطع الصلاة، وإنما أراد به أن يعلم المأمومين موضع الانصراف إلى جهة العدو لتأتي الطائفة الذين تجاههم، وهذا التأويل أيضًا يرفع التضاد بين الأحاديث ولتتفق معانيها. ص: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قييصة، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن خُصَيْفٍ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "صلى النبي - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه، يصفّ صفًّا خلفه وصفًّا مُوَازِينَ العَدوّ وكلُّهم في صلاة، فصلَّى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، فصلَّى بهم ركعةً ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وهؤلاء إلى مصافّ هؤلاء فقضوا ركعةً". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا بكر بن بكار القيسي، قال: ثنا عبد الملك بن حسين، قال: ثنا خُصَيْفٌ، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "صلَّى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف في حَرّة بني سُلَيم ... " ثم ذكر نحوه غير أنه لم يذكر: "وكلهم في صلاة" وزاد: "وكانوا في غير القبلة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد أخْبَر في هذا الحديث أنهم قضوا ركعةً ركعةً، وأخبر أنهم دخلوا في الصلاة جميعًا، فثبت بما ذكرنا من الآثار أن صلاة الخوف ركعتان، غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معًا، فأردنا أن ننظر: هل عارض هذا الحديث غيره في هذا المعنى؟

فنظرنا في ذلك، فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإِمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يُصلوا، فيتقدم الذين لم يصلوا ويتأخر الآخرون فيصلي بهم ركعةً، وينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فتقوم كل طائفة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعةً ركعةً بعد أن أن ينصرف الإمام، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلّوا ركعتين ركعتين. قال نافع: لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي - عليه السلام -". فقد أخبر في هذا الحديث أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأولى ركعة، والكتاب شاهدٌ بهذا؛ لأن الله -عز وجل- قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}، فقد ثبت بما وصفنا أن دخول الثانية في الصلاة بعد فراغ الإِمام من الركعة الأول. وهذا الخبر صحيح الإسناد، وأصله مرفوع وإن كان نافعٌ قد شك فيه في وقت ما حدثه مالكًا، وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر. حدثنا عليُّ بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صلى النبي - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة منهم معه وطائفة منهم فيما بينه وبين العدو، فصلى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعةً". حدثنا فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط، قالا: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - بمثل معناه. وقد رواه أيضًا سالم عن أبيه مرفوعًا. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الربيع الزَهْرانيُّ، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كذلك.

حدثنا أبو محمَّد فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سالم، أن ابن عمر قال: "غزوت مع النبي - عليه السلام - غَزْوَته قِبلَ نجد فوازَيْنا العدو ... " ثم ذكر مثله. ش: أخرج حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من ثلاث طرق؛ لكونه دالًا على أن المأمومين في صلاة الخوف قد قضوا ركعةً ركعةً، وأخبر أيضًا أنهم دخلوا في الصلاة جميعًا، فإذا كان كذلك يثبت به أن صلاة الخوف ركعتان فيصير حجة على من يقول أنها ركعة كما ذكرنا. ثم الطريق الأول: عن علي بن شيبة بن الصَّلْت، عن قبيصة ابن عقبة السوائي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن خُصَيْف -بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ابن عبد الرحمن الجَزَري أبي عون الخزاعي فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وعنه شديد الاضطراب في المسند. وعن ابن معين: صالح. وعنه: ثقة. وكذا قال العجلي وأبو زرعة: إنه ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً. وروى له الأربعة. وهو يروي عن أبي عُبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود، وقيل: اسمه كنيته، روى له الجماعة، عن أبيه عبد الله بن مسعود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن خُصَيْف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - فصلى صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، قال: وهم في صلاة كلهم، قال: فكبر وكبروا جميعًا، فصلى بالصف الذي يليه ركعة وصف موازي العدو. قال: ثم ذهب هؤلاء، وجاء هؤلاء فصلى بهم ركعةً، ثم قام هؤلاء الذين صلى بهم الركعة الثانية فقضوا مكانهم، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء وجاء أولئك فقضوا ركعة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 409 رقم 3882).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان، عن خُصَيْف ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي مطولًا (¬1)، ثم قال: ورواه الثوري، عن خُصَيْف فقال: "صفٌّ خلفه، وصف موازي العدو، وكل في صلاة". الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن بكر بن بكار القيسي البصري فيه مقال، فعن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ووثقه أبو عاصم النبيل وابن حبان. وهو يروي عن عبد الملك بن حسين أبي مالك النخعي المعروف بابن ذر، فيه كلام، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال الفلاس: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وروى له ابن ماجه، وهو يروي عن خُصَيْف، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله. وأخرجه أبو داود (¬2): وليس فيه ذكر حرة بني سليم ولا قوله: "وكانوا في غير القبلة" فقال: ثنا عمران بن ميسرة، نا ابن فُضيل، نا خُصَيْفٌ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: "صلَّى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف، فقاموا صفًّا خلف رسول الله - عليه السلام - وصفًّ مستقبل العدو، فصلَّى بهم النبي - عليه السلام - ركعة، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو، فصلَّى بهم النبي - عليه السلام - ركعة، ثم سلَّم، فقام هؤلاء فصلّوا لأنفسهم ركعةً ثم سلّموا، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعةً ثم سلّموا". وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن محمَّد بن فضيل، عن خصيف ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 261 رقم 5840). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 16 رقم 1244). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 214 رقم 8275).

فإن قيل: كيف يذكره الطحاوي في معرض الاستدلال لأهل المقالة الثانية والاحتجاج على أهل المقالة الأولى، وقد رأيت ما قالوا في بعض رواته كما ذكرنا؟! وقد قال البيهقي: هذا مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف ليس بالقوي وقال الترمذي: أبو عبيدة لم يعرف اسمه ولم يسمع من أبيه شيئًا. قلت: قال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين، وابن سبع سنين مميز يحتمل السماع والحفظ؛ ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقًا وتأدبًا. وأما خصيف فقد ذكرنا أن أبا زرعة والعجلي وابن معين وابن سعد وثقوه، وقال النسائي: صالح. وأما بكر بن بكار فقد ذكرنا أن أبا عاصم وابن حبان وثقاه. وأما عبد الملك بن حسين وإن كانوا قد ضعفوه فإن حديثه في المتابعات، وحديث الضعيف إذا ذكر مع حديث الثقة لا يُناقش فيه، بل يكون مما يُقوّى به الصحيح ويصحح به الضعيف. قوله: "في حَرَّة بني سُليم" الحَرَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء- وهي أرض ذات حجارة سود. وبنو سليم قبيلة من قيس غيلان، وهو سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصيفة بن قيس غيلان. ثم اعلم أنه لما كان المذكور في طريق حديث ابن مسعود قوله: "وكلهم في صلاة" مما يخدش استدلال أهل المقالة الثانية؛ لأن مذهبهم أن دخول الطائفة الثانية في صلاة الإمام لا يكون إلا بعد أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة. أجاب عن هذا بقوله: غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معًا، فأردنا أن ننظر هل عارض هذا الحديث -أي حديث ابن مسعود- غيره في هذا المعنى -أي في دخولهم في الصلاة معًا- فأخرج في ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو يخبر أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأول ركعةً، ثم قال:

والكتاب شاهد بهذا؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وهو يدل على شيئين: الأول: أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة؛ لأنه قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} (¬1). والثاني: قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) نفى كل جزء من الصلاة، فظهر أن الآية دلت على أنهم لا يكونون جميعًا مع الإمام، وثبت أن دخول الطائفة الثانية في الصلاة بعد فراغ الإمام من الركعة الأولى، فهذا كله موافق لمذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ومخالف لمذهب الخصم؛ لأن منهم من يقول: يفتتح جميعٌ الصلاةَ مع الإمام، وهذا خلاف الآية الكريم. ولما عارض هؤلاء بقولهم: إن خبر ابن عمر موقوف وخبر ابن مسعود مرفوع فكيف يعارضه؟ أجاب عنه بقوله: "وهذا الخبر" أي خبر ابن عمر "صحيح الإسناد وأصله مرفوع"، وقد دل عليه أن أكابر أصحاب نافع مولى ابن عمر مثل موسى بن عقبة وأيوب بن موسى ومجاهد وآخرين رووه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا وكذا قال مالك: قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - عليه السلام -. ثم بيّن ذلك بخمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102]. (¬2) "موطأ مالك" (1/ 184 رقم 442).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى ابن آدم، عن سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلَّى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلَّى ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعةً ركعةً". وأخرجه مسلم (¬2) والدارقطني (¬3) أيضًا نحوه. الثالث: عن فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط، كلاهما عن محمَّد بن كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): نا أبو المغيرة، نا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - صلَّى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعةً وسجدتين -والطائفة الأخرى مواجهة للعدو- ثم انصرفت الطائفة التي مع النبي - عليه السلام - وأقبلت الطائفة الأخرى فصلى بها رسول الله - عليه السلام - ركعةً وسجدتين، ثم سلَّم النبي - عليه السلام -، ثم قام كل رجل من الطائفتين فركع لنفسه ركعة وسجدتين". وهذان الطريقان بيان قوله: "وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر" أي أصحاب نافع كما ذكرنا، ثم أكَّد كلامه ذلك بما رواه أيضًا غير نافع عن ابن عمر مرفوعًا وهو قوله: "وقد رواه أيضًا سالم عن أبيه مرفوعًا" أي قد روى الحديث المذكور أيضًا سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 173 رقم 1542). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 574 رقم 839). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 59 رقم 7). (¬4) "مسند أحمد" (2/ 150 رقم 6377).

وقد أخرج عنه من طريقين صحيحين: أحدهما: وهو الطريق الرابع مما ذكرنا، عن يزيد بن سنان، عن أبي الربيع الزَهْراني -واسمه سليمان بن داود الأزدي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن فليح بن سليمان، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد بن حميد، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي - عليه السلام - ركعةً، ثم سلَّم النبي - عليه السلام - ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة". وحدثنيه (¬2) أبو الربيع الزهراني، قال: نا فليح، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: "أنه كان يحدث عن صلاة رسول الله - عليه السلام - في الخوف ويقول: صليتها مع رسول الله - عليه السلام -" بهذا المعنى. والثاني: هو الطريق الخامس مما ذكرنا، عن فهد بن سليمان عن أبي اليمان الحكم ابن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار أبي بشر الحمصي روى له الجماعة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب عن الزهري قال: "سألته: هل صلى النبي - عليه السلام - يعني صلاة الخوف؟ قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: غزوت مع رسول الله - عليه السلام - قِبَل نجد فوازينا العَدُوّ، فصاففْنا لهم، فقام رسول الله - عليه السلام - يُصلِّي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله - عليه السلام - بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تُصَلّ، فجاءوا فركع رسول الله - عليه السلام - بهم ركعةً وسجد سجدتن ثم سلَّم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعةً وسجد سجدتين". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 574 رقم 839). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 319 رقم 900).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن سالم. وأخرجه الترمذي (¬2): عن محمَّد بن عبد الملك، عن يزيد بن زريع ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع ... إلى آخره نحوه. قوله: "غزوتَه" بالنصب على المصدرية. قوله: "قِبَل نجدد" بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي جهة نجد، وهي من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. قال الجوهري: وهو مذكر. وأنشد ثعلب: ذراني من نجدٍ فإن سنينه ... لعبن بنا شِيبًا وشيَّبنَنا مُرْدا قوله: "فوازينا" من الموازاة وهي المقابلة، وأصله من آزى، يقال: آزيته إذا حاذيته، قال الجوهري: ولا تقل: وازيته. والذي في الحديث يرده. قال ابن الأثير: الإزاء: المحاذاة والمقابلة، ومنه حديث صلاة الخوف: "فوازينا العدو" أي قابلناهم، وأنكر الجوهري أن يقال: وازينا. ثم اعلم أن أباحنيفة ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير الطبري وبعض أصحاب الشافعي احتجوا بهذه الأحاديث على أن صلاة الخوف تصل بأن يجعل الإِمام الناس طائفتن، طائفة بإزاء العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلى بهم ركعة إن كان مسافرًا أو كانت الصلاة صلاة الفجر وركعتين إن كان مقيمًا والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 15 رقم 1243). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 453 رقم 564). (¬3) "المجتبى" (3/ 171 رقم 1538).

فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، ورويت هذه الصورة عن سفيان الثوري أيضًا. وقال أبو بكر الجصاص -رحمه الله-: أشد الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد؛ وذلك لأنه تعالى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬1)، وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو، وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو؛ لأنها تحرس هذه المصلية، وقد عُقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعًا مع الإِمام؛ لأنهم لو كانوا مع الإِمام لما كانت طائفة منهم قائمةً مع النبي - عليه السلام -، بل يكونون جميعًا معه وذلك خلاف الآية، ثم قال: وقولنا موافق السنة الثابتة من النبي - عليه السلام - والأصول؛ وذلك لأن النبي - عليه السلام - قال (¬2): "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، وقال (¬3): "إني امرؤ قد بدَّنتُ، فلا تبادروني بالركوع ولا السجود". ومن مذهب المخالف: أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإِمام، وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإِمام لا يجوز الخروج منها قبله، وأيضًا جائز أن يلحق الإِمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يكون للخارجين من صلاته قبل فراغه إن سجدوا، ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فتحصل، مخالفة الإِمام في النفل وترك الإِمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام، ومنع الإِمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم، وهذان وجهان أيضًا خارجان من الأصول. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102]. (¬2) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -، والبخاري (1/ 149 رقم 371)، ومسلم (1/ 308 رقم 411). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (3/ 144 رقم 1594).

فإن قيل: جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصًا بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإِمام كما جاز المشي فيها. قيل له: المشي له نظير في الأصول، وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وأيضًا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة فينصرف ويتوضأ ويبني، وقد وردت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه ابن عباس (¬1) وعائشة (¬2) - رضي الله عنهم - أن النبي - عليه السلام - قال: "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته"، والرجل يركع ويمشي إلى الصف ولا تبطل صلاته، وركع أبو بكر - رضي الله عنه - حتى دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي - عليه السلام - قال له: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (¬3) ولم يأمره باستئناف الصلاة، فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول، وليس في الخروج من الصلاة قبل فراغ الإِمام نظير فلم يجز فعله. وأيضًا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي، ولما قامت به الدلالة سلمناه لهما، وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقه الأصول وحتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها. ص: وذهب آخرون في ذلك إلى ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن مَن صلى مع النبي - عليه السلام - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صَفّت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالدين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 156 رقم 25). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 385 رقم 1221). (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1/ 271 رقم 750).

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر - رضي الله عنهم -، عن صالح بن خوّات الأنصاري، أن سهل بن أبي حَثْمة أخبره أن صلاة الخوف ... فذكر نحوه، ولم يذكره عن النبي - عليه السلام - وزاد في ذكر الركعة الآخرة قال: "فيركع بهم، ثم يسجد، ثم يسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد ... فذكر بإسناده مثله. ش: أي ذهب جماعة آخرون في باب "صلاة الخوف" إلى حديث صالح بن خوّات، وأراد يهم: مالكًا في رواية، والشافعي وأحمد وأصحابهما الأكثرين. وقال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": وإلي حديث يزيد بن رومان ذهب الشافعي وأصحابه في صلاة الخوف، وبه قال داود، وهو قول مالك الأول؛ لأن ابن القاسم ذكر عنه أنه رجع إلي حديث القاسم بن محمَّد في ذلك، والخلاف منه إنما هو في موضع واحد؛ وذلك أن الإِمام عنده لا ينتظر الطائفة التي تقضي لأنفسها. قال ابن القاسم: كان مالك يقول: لا يسلم الإمام حتى تقوم الطائفة الثانية فتتم لأنفسها ثم يسلم بهم. وقال عياض في "شرح مسلم": أخذ مالك برواية صالح بن خوّات التي رواها عنه في "موطإه"، وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر - رضي الله عنهما -. وقال ابن قدامة في "المغني" بعد أن ذكر حديث سهل بن أبي حثمة: وبهذا قال مالك والشافعي. ثم قال: ولنا ما روى صالح بن خوات عن مَن صلى مع النبي - عليه السلام - يوم ذات الرقاع. وقال صاحب "البدائع": احتج الشافعي بما روى سهل بن أبي حثمة، ولنا ما روى ابن مسعود وابن عمر - رضي الله عنه - انتهى.

وقال أحمد: وقد روي عن النبي - عليه السلام - صلاة الخوف على أوجه، وما أعلم في هذا الباب إلا حديثًا صحيحًا، واختار حديث سهل بن أبي حثمة. وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم، قال: قد ثبتت الروايات عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف فرأى كل ما روي عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف فهو جائز، وهذا على قدر الخوف. قال إسحاق: ولسنا نختار حديث سهل بن أبي حثمة على غيره من الروايات. ثم إنه أخرج حديث صالح بن خوّات من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1) في باب "غزوة ذات الرقاع": ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات عن مَنْ شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلى صلاة الخوف: "أن طائفةً صلت معه ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك. الثاني: وهو موقوف: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬5): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوّات الأنصاري، أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه: "أن صلاة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1513 رقم 3900). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 575 رقم 842). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 13 رقم 1238). (¬4) "المجتبى" (3/ 171 رقم 1537). (¬5) "موطأ مالك" (1/ 183 رقم 441).

الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعةً ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلّمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يُقبل الآخرون الذين لم يسلمّون فيكبرون وراء الإِمام، فيركع بهم الإِمام ويسجد، ثم يُسلّم، فيقومون، فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلّمون". الثالث: موقوفٌ أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوّات، أن سهل بن أبي حثمة أخبره. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن سهل بن أبي حثمة قال: "صلاة الخوف أن يقوم الإِمام مستقبل القبلة، ويقوم معه طائفة من أصحاب، وتقوم طائفة مستقبلة العدو، فيصلي بالطائفة التي معه ركعةً ثم يستأخر أولئك، وتقوم الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة، فيكون الإِمام قد صلى ركعتين، وتصلي كل طائفة مكانها ركعة". قوله: "يوم ذات الرقاع" وهي غزوة مشهودة كانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد؛ سميت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين ثقبت من الحفاء فلفّوا عليها الخرق، هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سميت به لجبل هناك يقال له الرقاع؛ لأن فيه بياضًا وحمرة وسوادًا، وقيل: سميت بشجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: لأن المسلمين رقّعوا راياتهم، ويحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها. وقال النووي: شرعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وقيل: في غزوة بني النضير. قوله: "وُجَاه العدو" بضم الواو أي مقابلهم وحذاءهم. وقال ابن الأثير: وتكسر الواو وتضم، وفي رواية "تجاه العدو" والتاء بدل من الواو مثلها في تقاة وتخمة.

وقال ابن قدامة: والعمل بهذا -أي بحديث صالح بن خوّات- أولى؛ لأنه أشبه بكتاب الله تعالى، وأحوط للصلاة والحرب. أما موافقة الكتاب: فإن قوله الله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} (¬1) يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعنده -أي عند أبي حنيفة- تصلى معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلّم معه، ومن مفهوم قوله: {لَمْ يُصَلُّوا} (1) أن الطائفة الأولى قد صلّت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها. وأما الاحتياط للصلاة: فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية، بعضها توافق الإِمام فيها فعلا، وبعضها تفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق، وعنده تنصرف من الصلاة فإما أن تمشي وإما أن تركب، وهذا عمل كثير وتستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة ويفرق بين الركعتين تفريقًا كثيرًا بما ينافيها، ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمةَ بالإمام بعد سلامه، ولا يجوز أن يكون المأموم مأمومًا في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه. وأما الاحتياط للحرب: فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض، وإعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره، وإعلام الذين مع الإِمام بما يحدث، ولا يمكن هذا على قولهم؛ ولأن مبنى صلاة الخوف على التخفيف؛ لأنهم في موضع الحاجة إليه، وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن؛ لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلى مكان الصلاة، ورجوع إلى وجاه العدو، وانتظار لمضي الطائفة الأخرى ورجوعها، فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشي ميل، وانتظار الأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة، ثم تحتاج إلى تكلف الرجوع إلى موضع الصلاة لاتمام الصلاة من غير حاجة إليه والمصلحة تتعلق به فلو احتاج الأمر إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه، فكيف نكلف الخائف وهو في مظنة التخفيف والحاجة إلى الرفق به؟ ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102].

وأما مفارقة الإِمام فجائزة للعذر ولابد منها على القولين، فإنهم جوّزوا للطائفة الأولى مفارقة الإِمام والذهاب إلى وجه العدو، وهذا أعظم مما ذكرناه؛ فإنه لا نظير له في الشرع، ولا يوجد مثله في موضع آخر، والله أعلم، انتهى. قلت: في جميع ما ذكره نظر: أما قوله: أما موافقة الكتاب ... إلى آخره فليس كذلك، بل الذي ذكره يخالف الآية؛ لأن قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1) يدل على معنيين: أحدهما: أن الإِمام يجعلهم طائفتين في الأصل، طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة؛ لأنه قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} (1) وعلى قولهم يفتتح جميع الصلاة مع الإِمام. والثاني: قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) يقتضي نفي كل جزء من الصلاة، وهم يقولون: يفتتح الجميع الصلاة مع الإِمام فيكونون حينئذٍ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة، وهذا خلاف الآية. وأما قوله: "وعنده ينصرف في الصلاة ... " إلى آخره فغير مسلّم؛ وذلك لأن المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وقد مر الكلام فيه عن قريب مستقصى. وأما قوله: "ولا يجوز أن يكون المأموم مامومًا في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه" فغير مسلّم أيضًا؛ لأن الطائفة الأولى لاحقة ولهذا يُتمُّون صلاتهم بغير قراءة، فكأنهم في الحقيقة وراء الإِمام. وأما قوله: "فإنه يتمكن من الضرب والطعن" فمردود بقوله: "فإما أن يمشي وإما أن يركب"، وهذا عمل كثير؛ وذلك لأن المشي إذا كان عملًا كثيرًا فكذلك ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102].

الضرب والطعن عمل كثير، بل هو أقوى في الإفساد من ذاك، فكلما أجابوا عن ذلك فهو جوابنا عن ذاك. وأما قوله: "وعلى قولهم: تطول الصلاة ... " إلى آخره، فغير مُسلَّم، بل تطويل الصلاة فيما ذكروه؛ لأن ثبات الإِمام قائمًا لأجل الطائفة الأولى لأن يتموا صلاتهم، وثباته جالسًا لأجل الطائفة الثانية ليتموا صلاتهم حتى يسلّم معهم مما يوجب التطويل، لكون الإِمام مقيدًا بالصلاة لأجل تكميل الطائفتين صلاتهم فيحتاج ذلك إلى زمن مديد، وفيما ذكرنا لا يلبث الإِمام في الصلاة إلا زمنًا يسيرًا فهذا أولى؛ لأن الإِمام هو الأصل في إعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره. وأما قوله: "فإنه لا نظير له في الشرع" فباطل؛ لما قلنا: إن الراكب المنهزم يصلي وهو سائر، فكذلك الطائفة الأولى إذا فارقوا الإِمام وذهبوا إلى وجه العدو ويكونون سائرين فسيرهم لا يضر صلاتهم، وهم وإن فارقوا الإِمام ظاهرًا ولكنهم وراء الإِمام حكمًا لأنهم لاحقون، والله أعلم. ص: فقيل لهم: إن هذا الحديث فيه زيادة أنهم قد قضوا وهم مأمومون قبل فراغ الإمام من الصلاة في حديث يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات. وقد روينا من حديث شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات خلافًا لذلك؛ لأن في حديث يزيد بن رومان أنه ثبت بعدما صلى الركعة الأولى قائمًا وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، ثم جاءت الأخرى بعد ذلك، وفي حديث شعبة، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن صالح بن خوات أنه صلى بطائفة منهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء ولم يذكر أنهم صلّوا قبل أن ينصرفوا، فقد خالف القاسم يزيد بن رومان. فإن كان هذا يؤخذ من طريق الإسناد فإن عبد الرحمن، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام -، أحسن من يزيد بن رومان، عن صالح، عمن أخبره، فإن تكافئا تضادَّا، فإن تضادَّا لم يكن لأحد الخصمين في أحدهما حجة على خصمه؛ لأن لخصمه عليه مثل ما له على خصمه.

فإن قال قائل: فإن يحيى بن سعيد قد روى عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوات، عن سهل ما يوافق ما روى يزيد بن رومان، ويحي بن سعيد ليس بدون عبد الرحمن بن القاسم في الضبط والحفظ. قيل له: يحيى بن سعيد كما ذكرت، ولكن لم يرفع الحديث إلى النبي - عليه السلام - وإنما أوقفه على سهل، فقد يجوز أن يكون ما روى عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح هو الذي كان كذلك عند سهل عن النبي - عليه السلام - خاصةً، ثم قال: هو من رأيه ما بقي وصار ذلك رأيًا منه لا عن النبي - عليه السلام -؛ ولذلك لم يرفعه يحيى إلى النبي - عليه السلام -. فلما احتمل ذلك ما ذكرنا ارتفع أن تقوم به حجة أيضًا. والنظر يدفع ذلك؛ لأنا لم نجد في شيء من الصلوات أن المأموم يصلي شيئًا منها قبل الإِمام، وإنما يفعله المأموم مع فعل الإمام أو بعد فعل الإمام، وإنما يُلْتَمسُ علم ما اختلف فيه مما أُجمِع عليه. فإن قالوا: قد رأينا تحويل الوجه عن القبلة قد يجوز في هذه الصلاة ولا يجوز في غيرها، فما تُنكرُون أن يكون قضاء المأموم قبل فراغ الإِمام كذلك جُوّز في هذه الصلاة ولم يجوز في غيرها؟ قيل لهم: إن تحويل الوجه عن القبلة قد رأيناه أبيح في غير هذه الصلاة للعذر، فأبيح في هذه الصلاة كما أبيح في غيرها، وذلك أنهم أجمعوا أن مَنْ كان منهزمًا فحضرت الصلاة أنه يصلي وإن كان على غير القبلة، فلما كان قد يُصلّي كل الصلاة إلى غير قبلة لعلة العذر ولا يُفسد ذلك عليه صلاته، كان انصرافه على غير قبلةٍ في بعض صلاته أحرى أن لا يضره ذلك، فلما وجدنا أصلًا في الصلاة إلى غير القبلة مجمعًا عليه أنه قد يجوز بالعذر؛ عطفنا عليه ما اختلف فيه من استدبار القبلة في الانصراف للعدو. ولما لم نجد لقضاء المأموم قبل أن يفرغ الإمام من الصلاة أصلًا فيما أُجْمِعَ عليه يدلَّ عليه فنَعطفَه عليه؛ أبطلنا العمل به، ورجعنا إلى الآثار الأُخَر التي قدمنا ذكرها التي معها التواتر وشواهد الإجماع.

ش: أي فقيل لأولئك الذين ذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث صالح بن خَوّاتٍ، فهذا جَوابٌ عما احتجوا به من هذا الحديث، تقريره: أن في هذا الحديث زيادة وهي أنهم قد قضوا صلاتهم والحال أنهم مأمومون قبل فراغ الإِمام من الصلاة؛ لأنه ذكر في حديث يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات: "ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا ... " إلى آخر الحديث، فهذا صريح أنهم أتموا قبل فراغ الإِمام، ويخالف هذا حديث شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات؛ لأن فيه "أنه صلى بطائفة منهم ركعةً" ولم يذكر فيه أنهم قد صلوا قبل أن ينصرفوا، فوقع بين الروايتين تضادّ وتعارض ظاهرًا. ثم لا يخلو إما أن نقول بالتساوي بينهما، أو نذهب إلى الترجيح. فإن كان الترجيح؛ فخبر عبد الرحمن، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام - أحسن وأولى وأرجح من خبر يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات عمّن أخبره؛ لأن يزيد بن رومان لا يعادل القاسم. وإن كان القول بالتساوي فهو عين التضادّ بين الخبرين وهو معنى قوله: "فإن تكافئا" أي: فإن تساويا وتنظرا -من الكفؤ وهو النظير- تضادّا لعدم المرجح، فإذا تضادّا لم يكن لأحد الخصمين حجة؛ لأن أحدهما إذا احتج على الآخر بأحد الخبرين، يحتج الآخر عليه بالآخر. قوله: "فإن قال قائل: فإن يحيى بن سعيد ... " إلى آخره، اعتراض من جهة الخصم، تقريره أن يقال: (إن يحيى بن سعيد الأنصاري) (¬1) قد روى عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوات، عن سهل ما يوافق ما روى يزيد بن رومان وهو الذي رواه مالك بن أنس عنه عن القاسم كما مرَّ، ويحيى بن سعيد ليس بأدنى من عبد الرحمن بن القاسم في الضبط والإتقان والحفظ، فحينئذٍ يرجح خبر يزيد بن رومان. ¬

_ (¬1) تكررت "بالأصل".

وتقرير الجواب أن يقال: سلَّمنا أن يحيى بن سعيد كما ذكرتم ليس بأدنى من عبد الرحمن، بل هو يفوق عليه، ولكنه لم يرفع الحديث إلى النبي - عليه السلام - وإنما ذكره موقوفًا على سهل، ولا شك أن الموقوف لا يعادل المرفوع، ويحتمل أيضًا أن يكون ما رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات هو الذي كان عند سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه السلام - خاصةً ثم يكون ما بقي منه قولًا بالرأي منه لا عن النبي - عليه السلام - فلذلك لم يرفعه يحيى بن سعيد إلى النبي - عليه السلام -، فلقد كان هذا الاحتمال موجودًا، فارتفذع أن تقوم به حجة. وقال أبو بكر الرازي: حديث يزيد بن رومان مضطرب. وقال صاحب "البدائع": الرواية عن سهل بن أبي حثمة متعارضة؛ فإن بعضهم روى عنه مثل مذهبنا أيضًا فكان الأخذ برواية ابن مسعود وابن عمر وحذيفة أولى؛ لأن الرواية عن هؤلاء لم تتعارض مع أن في حديث سهل بن أبي حثمة ما يدل على كونه منسوخًا؛ لأن فيه أن الطائفة الثانية يقضون ما سُبقوا به قبل فراغ الإِمام ثم يُسلّمون معه، وكان هذا في ابتداء الإِسلام أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم يتابع الإِمام، فهذا قد نسخ، ولهذا لم يأخذ أحد من العلماء برواية أبي هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "والنظر يدفع ذلك" أي وجه النظر والقياس يدفع ما ذكره الخصم من كيفية صلاة الخوف؛ لأن فيما ذكروه أنهم قد قضوا وهم مأمومون قبل فراغ الإِمام من الصلاة، ونحن لم نجد في شيء من الصلوات أن المأموم يصلي شيئًا من الصلاة قبل الإِمام، وإنما الذي يفعله المأموم إما أن يكون مع فعل الإِمام أو بعد ما يفرغ الإِمام، ولذلك قال صاحب "البدائع": إن ما ذكروه منسوخ لما ذكرناه الآن. قوله: "وإنما يُلتمس علم ما اختلف فيه مما أجمع عليه" أراد بهذا أن الذي يختلف فيه ينبغي أن يكون له نظير مما فيه الإجماع حتى يقاس ذلك المختلف فيه على الأمر المجمع عليه، فهذا الذي ذكروه لا نظير له فيما أجمع عليه، فإذا كان كذلك فقد ظهر فساده.

فإن قالوا: لا يلزم ذلك، فإنا قد نجد صورة في موضع يجوز فعلها مع أنه لا نظير لها في موضع من المواضع كتحويل الوجه عن القبلة فإنه يجوز ذلك في هذه الصلاة مع أنه لا يجوز في غيرها أصلًا، فلم تنكرون أن يكون قضاء المأموم صلاته قبل فراغ الإِمام كذلك يكون جائزًا في هذه الصلاة مع عدم جوازه في غيرها من الصلوات؟ والجواب عنه ما ذكره بقوله: "قيل لهم ... " إلى آخره، تقريره أن يقال: لا نسلّم اختصاص جواز تحويل الوجه عن القبلة بهذه الصلاة، بل قد أبيح ذلك في غير هذه الصلاة أيضًا لأجل العذر وذلك أنهم أجمعوا أن من كان منهزمًا فحضرت الصلاة أنه يصلي وإن كان على غير القبلة، فظهر من ذلك أن جميع الصلاة تُصلَّى إلى غير جهة القبلة لأجل العذر ولا يُفسد ذلك عليه صلاته، فإذا كان هذا لا يُفسد في جميع الصلاة ولا يضرّه ذلك ففي بعض الصلاة وهي صلاة الخوف بالطريق الأولى أن لا يفسدها ولا يضره ذلك، فلما وجدنا هذا الأصل وهو جواز الصلاة إلى غير جهة القبلة لأجل العذر مجمعًا عليه؛ عطفنا عليه ما اختلف فيه من استدبار القبلة في الانصراف لأجل العذر؛ لأنا قد ذكرنا أن علم ما اختلف فيه إنما يُلتَمس مما أجمع عليه، ولما لم نجد لما ذكروه -وهو قضاء المأموم صلاته قبل فراغ الإِمام- منها أصلًا أبطلنا العمل به ورجعنا إلى الأحاديث التي معها التواتر وشواهد الإجماع، وأراد بالتواتر التكاثر والتوارد، ولم يُردْ به التواتر المصطلح عليه في الأصول، وأراد بشواهد الإجماع: وجود الأصل الصحيح المجمع عليه ليقاس عليه المختلف فيه. قوله: "يدل عليه" جملة وقعت صفة لقوله: "أصلًا" فأصلًا منصوب على أنه مفعول لقوله: "ولما لم نجد". قوله: "فنَعْطِفَه" بنصب الفاء بتقدير "أن". وقوله: "أبطلنا العمل به" جواب لقوله: "ولما لم نجد". ص: وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك كله كما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا حيوة وابن لهيعة، قالا: ثنا

أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن الأسدي، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم، أنه سأل أبا هريرة: "هل صليت مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف؟ قال: نعم. قال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله - عليه السلام - لصلاة العصر، وقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلوا العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبَّر رسول الله - عليه السلام - وكبّروا جميعًا الذين معه والذين مقابلوا العدو، ثم ركع رسول الله - عليه السلام - ركعةً واحدةً، وركعت معه الطائفة التي تليه، ثم سجد، وسجدت معه الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلوا العدو، ثم قام رسول الله - عليه السلام -، وقامت الطائفة الذين معه، فذهبوا إلى العدو، فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا، وسجدوا، ورسول الله - عليه السلام - قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله - عليه السلام - ركعةً أخرى، وركعوا معه، ثم سجد، وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله - عليه السلام - قاعدٌ ومن معه، فسلّم رسول الله - عليه السلام - وسلّموا جميعًا، فكانت لرسول الله - عليه السلام - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمَّد بن إسحاق حدثه، قال: حدثني محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة قال: "صلّى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف فصلى الناس صَدْعَيْن، فصلَّت طائفة خلف النبي - عليه السلام -، وطائفة وجاه العدو، فصلَّى النبي - عليه السلام - بِمَنْ خلفه ركعةً، وسجد بهم سجدتين، ثم قام وقاموا معه، فلما استووا قيامًا، ورجع الذين خلفه وراءهم القهقرى، فقام وراء الذين بإزاء العدو، وجاء الآخرون، فقاموا خلف النبي - عليه السلام -، فصلوا لأنفسهم ركعةً والنبي - عليه السلام - قائم، ثم قاموا، فصلى النبي - عليه السلام - بهم ركعة أخرى، فكانت لهم ولرسول الله - عليه السلام - ركعتان، وجاء الدين بإزاء العدو فصلّوا لأنفسهم ركعةً وسجدتين، ثم جلسوا خلف النبي - عليه السلام -، فسلّم بهم جميعًا".

ففي هذا الحديث تحوُّل الإِمام إلى العدو بالطائفة التي صلّت معه الركعة، وليس ذلك في شيء من الآثار غير هذا الحديث، وفي كتاب الله -عز وجل- ما يدل على دفع ذلك؛ لأن الله -عز وجل- قال: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1) ففي هذه الآية معنيان موجبان لدَفْع هذا الحديث. أحدهما قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1)، فهذا يدل على أن دخولهم في الصلاة إنما هو في حين مجيئهم لا قبل ذلك. والثاني قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (1) ثم قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) وذكر الإتيان للطائفتين إلى الإمام، وقد وافق ذلك من فعل النبي - عليه السلام - الآثار المتواترة التي بدأنا بذكرها، فهي أولى من هذا الحديث. ش: أي قد روي عن أبي هريرة في كيفية صلاة الخوف خلاف ما روي عن غيره في هذا الباب؛ لأنه ذكر فيه تحوُّل الإِمام إلى العدو بالطائفة التي صلت معه الركعة حيث قال: "ثم قام رسول الله - عليه السلام - وقامت الطائفة الذين معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم"، فهذا خلاف ما ذكر في أحاديث غيره كلها، وقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (1) الآية، يدفع هذا الحديث من وجهين، وهو معنى قوله: "ففي هذه الآية مَعْنيان مُوجبان لدفع هذا الحديث ... " إلي آخره، وهو ظاهر غني عن مزيد البيان. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي عبد الرحمن المقرئ -واسمه عبد الله بن يزيد القصير روى له الجماعة- عن حيوة بن شريح بن صفوان أبي زرعة المصري الزاهد العابد روى له الجماعة، وعن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال، ذكر ها هنا متابعًا- كلاهما يرويان عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن ابن ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102].

نوفل بن الأسود القرشي الأسدي المدني روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبي عبد الله المدني، روى له الجماعة، عن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، نا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا حيوة وابن لهيعة، قالا: نا أبو الأسود ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "ولكل واحد من الطائفتين ركعةً ركعةً". وأخرجه النسائي أيضًا (¬2): عن عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، وعن محمَّد بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن حيوة، كلاهما عن أبي الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "قال مروان: متى؟ " أي: متى صليت مع رسول الله - عليه السلام -؟ قوله: "عام غزوة نجد" هي غزوة ذات الرقاع؛ لأن ذات الرقاع من النجد، فهذا يقتضي أن تكون غزوة نجد بعد الخندق، وكذا ذهب البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها، وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه - رضي الله عنهم -، ومما يدل على أنها كانت بعد الخندق أن ابن عمر - رضي الله عنهما - إنما أجازه رسول الله - عليه السلام - في القتال أول ما أجازه يوم الخندق، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "غزوت مع رسول الله - عليه السلام - قِبل نجد" فذكر صلاة الخوف، وقد ذكر ابن هشام حديث صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ولكن لم يذكر غزوة نجد ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا لمكان. قلت: أسلم أبو هريرة عام خيبر وكانت خيبر سنة سبع في المحرم، فدلّ ذلك على أن غزوة نجد كانت في سنة سبع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 14 رقم 1240). (¬2) "المجتبى" (3/ 173 رقم 1543).

قوله: "مقابلوا العدو" أصله: مقابلون فسقطت النون للإضافة، وفي بعض الرواية "مقابلَ العدو" بنصب اللام، ومعناه بحذائهم. قوله: "والآخرون قيام" أي قائمون. قوله: "تقابلهم" بالباء الموحدة من المقابلة وهي المواجهة. الطريق الثاني: عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن بكير بن واصل الكوفي الجمال روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن محمَّد بن إسحاق المدني استشهد به البخاري وروى له مسلم في المتابعات واحتج به الأربعة، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث ابن إسحاق، نا محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - بالناس صلاة الخوف، فَصَدَع الناس صَدْعين، فقامت طائفة خلفه وطائفة تجاه العدو ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غيى أن في روايته ذكر "الرسول" موضع "النبي - عليه السلام -" في جميع المواضع. قوله: "فصدع الناس" أي: فرق الناس نصفين، وأصله من صَدَعْتُ الرداء صَدْعًا إذا شققته، والاسم الصِّدع بكسر الصاد، والصَّدع في الزجاجة بالفتح، وأراد به ها هنا: جعلهم فرقتين. قوله: "قيامًا" جمع قائم، ونصبه على الحال من الضمير الذي في "استووا". قوله: "القهقَرى" وهو الرجوع إلى وراء، وانتصابه من قبيل قولهم: قعدت جلوسًا، وفي مشيهم هكذا لا يكون استدبار القبلة. ص: وذهب آخرون في صلاة الخوف إلى ما حدثناأبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة: "أن النبي - عليه السلام - صلّى بهم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (3/ 264 رقم 5835).

صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، فصلى رسول الله - عليه السلام - أربعًا، وكل طائفة ركعتين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بذات الرقاع فأقيمت الصلاة ... " فذكر مثله. وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشْر، عن سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبي - عليه السلام - يُحارِبُ خَصفَةَ، فصلى صلاة الخوف ... " فذكر مثل ذلك. ش: أي ذهب جماعة آخرون في كيفية صلاة الخوف إلى حديث أبي بكرة وجابر ابن عبد الله - رضي الله عنهما -، وأراد بهم: الحسن البصري والأشعث وسليمان بن قيس. وقال أبو داود بعد أن أخرج حديث أبي بكرة: وبذلك كان يفتي الحسن البصري؛ وذلك لأنه على قضية التعديل وعبرة التسوية بين الصلاتين لا تفضل فيها طائفة على الأخرى، بل كلّ يأخذ قسطه من فضيلة الجماعة وحصته من بركة الأسوة. ثم إنه أخرج حديث أبي بكرة -وهو نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي - رضي الله عنه -- من طريقين صحيحين. الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن الأشعث بن عبد الملك الحُمراني أبي هانئ البصري، وثقه النسائي، وروى له البخاري تعليقًا، واحتج به الأربعة. عن الحسن البصري، عن أبي بكرة.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خوفٍ الظهرَ، فصفّ بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدوّ، فصلى ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلّوا خلفه، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلّم، فكانت لرسول الله - عليه السلام - أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين". الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حُرّة واصل بن عبد الرحمن، عن الحسن البصري، عن أبي بكرة نُفَيْع، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلّى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين، والذين جاوءا بَعدُ ركعتين، فكانت للنبي - عليه السلام - أربع ركعات ولهؤلاء ركعتين ركعتين" انتهى. وقال المنذري في "مختصر السنن": قال بعضهم: كان النبي - عليه السلام - في غير حكم سفر، وهم مسافرون، وقال بعضهم: هذا خاص بالنبي - عليه السلام -؛ لفضيلة الصلاة خلفه. وقال الخطابي والنووي: وفيه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتفل، ويُعترض عليه بأنه لم يُسلّم من الفرض كما في حديث جابر. وقيل: إنه - عليه السلام - كان مخيَّرًا بين القصر والإتمام في السفر فاختار الإتمام واختار لمن خلفه القصر. وقال بعضهم: كان في حَضر ببطن نخلة على باب المدينة ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فمنع منه محترسًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 17 رقم 1248). (¬2) "المجتبى" (3/ 179 رقم 1555).

قلت: يتقوى هذا بحديث أخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬1) من طريق الشافعي: أخبرنا الثقة ابن عيينة أو غيره، عن يونس، عن الحسن، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخلة، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلَّم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم". وأخرج الدارقطني (¬2): عن عنبسة، عن الحسن، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - كان محاصرًا لبني محارب، فنودي بالصلاة ... " فذكر نحوه. والأول أصحّ، إلا أن فيه شائبة الانقطاع؛ فإن شيخ الشافعي مجهول، وأما الثاني ففيه عنبسة بن سعيد القطان ضعفه غير واحد. وقال غيره: لم نجد عن النبي - عليه السلام - أنه صلى صلاة الخوف قط في حضر، ولم يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف بعد، والله أعلم. وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين أيضًا: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم مطولًا (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عفان، قال: نا أبان، قال: نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: "أقبلنا مع رسول الله - عليه السلام - حتى إذا كنا بذات الرقاع قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (4/ 331 رقم 1540). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 60 رقم 10). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 576 رقم 843).

- عليه السلام -، قال: فجاء رجل من المشركين وسيفُ رسول الله - عليه السلام - معلّقٌ بشجرة، فأخذ سيف النبي - عليه السلام - واخترطه، فقال لرسول الله - عليه السلام -: أتخافني؟ قال: لا، قال: فَمَنْ يمنعك مني؟ قال: الله يَمْنعني منك. قال: فتهدَّده أصحاب النبي - عليه السلام - فأغمد السيف وعلقه، قال: فنُودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله - عليه السلام - أربع ركعات وللقوم ركعتان". وأخرجه البخاري تعليقًا (¬1) وقال: قال أبان: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة ... " إلى آخره نحوه. وكذلك أخرجه أبو داود (¬2) معلقًا وقال: وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -. واستدل بهذا الحديث صاحب "الهداية" من أصحابنا أن الإِمام إذا كان مقيمًا يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعتين. وقال ابن قدامة: وتأول القاضي هذا الحديث على أن النبي - عليه السلام - صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة قضت ركعتين، وهذا ظاهر الفساد جدًّا؛ لأنه يخالف صفة الرواية، وقول أحمد، ومحَمْله محملٌ فاسدٌ، أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء، ثم قال في آخره: وللقوم ركعتين ركعتين، وأما قول أحمد فإنه ستة أوجه أو سبعة يروي فيها كلها جائز، وعلى هذا التأويل لا يكون ستة ولا خمسة، ولأنه قال: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو جائز، وهذا مخالف لهذا التأويل، وأما فساد المحمل، فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها ك ما قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1515 رقم 3906). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 17 رقم 1248).

الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) وعلى هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعًا ويتم الصلاة المقصورة، ولم ينقل عن النبي - عليه السلام - أنه أتم صلاة السفر فكيف يحمل ها هنا على أنه أتمها في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف؟ قلت: هذا الكلام لا يخلو عن نوع نظر، فإن قوله: "فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها". غير صحيح إن أراد العموم؛ لأن المقيمن إذا صلوا صلاة الخوف لا يجوز لهم أن يقصروا. وكذا قوله: "ولم ينقل عن النبي - عليه السلام - أنه أتم الصلاة في السفر". فيه نظر؛ لأنا قد ذكرنا عن البعض أنه - عليه السلام - كان مخيرًا في السفر بين القصر والإتمام، فعلى هذا يمكن أن يكون في حديث جابر مسافرًا ويكون قد أتم الصلاة، والله أعلم. الطريق الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب البصري شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي عوانة الوضّاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري الكوفي، عن سليمان بن قيس اليشكري الكوفي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، نا أبو عوانة، نا أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله قال: "قاتل رسول الله - عليه السلام - محاربَ خصفَة بنَخْلٍ، فرأوا من المسلمين غِرّةً، فجاء رجل منهم يُقال له: غَوْرث بن الحارث حتى قام على رسول الله - عليه السلام - بالسيف فقال: مَنْ يمنعك مني؟ [قال: الله -عز وجل-. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله - عليه السلام - فقال: من يمنعك مني؟] (¬3) قال: كن كخير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلّى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه، ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [101]. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 364 رقم 14971). (¬3) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "مسند أحمد".

قال: قد جئتكم من عند خير الناس، فلما كان الظهر والعصر صلى بهم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء عدوهم، وطائفة صلوا مع رسول الله - عليه السلام - فصلى بالطائفة الذين كانوا معه ركعتين، ثم انصرفوا، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم، وجاء أولئك فصلى بهم رسول الله - عليه السلام - ركعتين، فكان للقوم ركعتان ركعتان، ولرسول الله - عليه السلام - أربع ركعات". وقال البخاري (¬1): قال مسدد: عن أبي عوانة، عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، وقاتل فيها محاربَ خَصَفة. قوله: "كان النبي - عليه السلام - يحارب خَصَفَة" هكذا وقع في نسخ الطحاوي "يحارب" بالياء آخر الحروف، وهو جملة تقع خبرًا لـ"كان"، ورأيت في بعض النسخ "محارب خصفة" بالميم، فإن صح فوجهه أن يكون اسم فاعل من حَارَبَ، ويكون مضافًا إلى "خصفة" منصوبًا لأنه خبر كان، والذي في رواية البخاري وأحمد كما ذكرنا آنفًا "قاتل النبي - عليه السلام - مُحاربَ خصفة". قال في "العباب" وغيره: مُحاربٌ قبيلةُ من فهرٍ، وخَصَفَة -بفتح الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة- أبو حيّ من العرب، وهو خصفة بن قَيْس غيلان. وفي "مطالع الأنوار": خصفة والد محارب. فالمعنى على روايتهما: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحاربَ التي هي قبيلة من خصفة، فتكون الإضافة؛ للبيان والتمييز، فافهم. قوله: "بنَخْل" في رواية أحمد أي: في نَخْلٍ، وهو موضع بنجد من أرض غطفان. ص: فقال قوم بهذا وزعموا أن صلاة الخوف كذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومن تبعه ممن ذكرناهم عن قريب، فإنهم زعموا أن صلاة الخوف تصلى على نحو ما ذكر في أحاديث أبي بكرة وجابر - رضي الله عنه -، وفي بعض النسخ، فقال قوم بهذا وأوجبوا صلاة الخوف، كذلك قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1515 رقم 3906).

أبو داود، وبذلك كان يفتي الحسن، وقال أيضًا: وبالطريق المذكور يكون في صلاة المغرب للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث؛ وذلك لأنها تصلى مرتين. ص: ولا حجة لهم عندنا في هذه الآثارة لأنه يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - صلاّها كذلك لأنه لم يكن في سفر تَقَصرُ في مثله الصلاة، فصلى بكل طائفة ركعتين، ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين. وهكذا نقول نحن إذا حضروا العدو في مصرٍ فأراد أهل ذلك العصر أن يصلوا صلاة الخوف فعلوا هكذا، يعني بعد أن تكون تلك الصلاة ظهرًا أو عصرًا أو عشاء، قالوا: فإن القضاء ما ذكر. قيل لهم: قد يجوز أن يكونوا قد قَضْوا ولم يُنقل ذلك في الخبر، وقد يجيء في الأخبار مثل هذا كثير، وإن كانوا لم يقضوا فإن ذلك لا حجة لهم فيه عندنا أيضًا؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك كان من النبي - عليه السلام - والفريضة حينئذٍ تُصلّى مرتين، فيكون كل واحد منهما فريضةً، وقد كان يفعل ذلك في أول الإِسلام ثم نسخ. كما حدثنا حُسَين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا حسين المُعلّم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة - رضي الله عنها - قال: "أتيت المسجد فرأيت ابن عمر - رضي الله عنه - جالسًا والناس في الصلاة، فقلتُ: ألا تُصلّي مع الناس؟ فقال: قد صلّيت في رحلي، إن رسول الله - عليه السلام - نهى أن تُصلّى فريضةً في يوم مرتين". والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون هكذا يصنعون في بدء الإِسلام، يُصلّون في منازلهم ثم يأتون المسجد فيصلون تلك الصلاة التي أدركوها على أنها فريضة، فيكونوا قد صلوا فريضة في يوم مرتين، حتى نهاهم النبي - عليه السلام - عن ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد فأدْركَ تلك الصلاة أن يُصلّيها ويجعلها نافلة. وترك ابن عمر - رضي الله عنهما - الصلاة مع القوم يحتملُ عندنا ضَرْبين: يَحْتملُ أن تكون تلك الصلاة صلاةً لا يُتطوَّعُ بعدَها، فلم يكن يجوز أن يصليها إلا على أنها فريضة

فقال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن تُصلّى صلاةُ فريضة في يوم مرتين" أي: فلا يجوز أن أصليها فريضة؛ لأني قد صلّيتُها مرةً، ولا أدخلُ معهم لأني لا يجوز لي التطوع في ذلك الوقت. ويحتمل أن يكون سمع من النبي - عليه السلام - النهي عن إعادتها على المعنى الذي نهى عنه، ثم رخص رسول الله - عليه السلام - بعد ذلك أن تُصلى على أنها نافلة، فلم يَسْمَعْ ذلك ابنْ عمر. فنظرنا في ذلك، فإذا ابنُ أبي داود حدثنا، قال: ثنا الوَهْبِيُّ، قال: ثنا الماجشون، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال: "أرسلني مُحَرَّر بن أبي هريرة بلى ابن عمر أسأله: إذا صَلَّى الرجل الظَّهرَ في بَيْته ثم جاء إلى المسجد والناس يُصلّون فصلى معهم، أيّتُهما صلاته؟ قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: صلاته الأول". ففي هذا الحديث أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد رأى أن الثانية تكون تطوعًا، فدل ذلك على أن تركه للصَّلاة في حديث سُلَيْمان إنما كان لأنها صلاة لا يجوز أن يُتطوَّعَ بعدَها، وإن كان حديثا أبي بكرة وجابر الذين ذكرنا كانا والحكم على ما وصَفْنا: أن مَنْ صلى فريضةً جاز أن يُعيدها فتكون فريضة، فلذلك صلاها رسول الله - عليه السلام - مرتين بالطائفتين، وذلك هو جائز لو بقي الحكم على ذلك، فأما إذا نُسِخ ونُهِىَ أن تُصلّى فريضةٌ مرتين؛ فقد ارتفعَ ذلك المعنى الذي له صَلّى بكُلّ طائفة ركعتَيْن، وبطل العمل به، فلا حجة لهم في حديث أبي بكرة وجابر؛ لاحتمالهما ما ذكرناه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حَبّان -يعني ابن هلال- قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافِريّ قال: "كان أهل العَوالي يُصلّون في منازلهم ويُصلّون مع النبي - عليه السلام -، فنهاهم النبي - عليه السلام - أن يُعيدوا الصلاة في يوم مرتين. قال عمروٌ: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: صدق". ش: أي: ولا حجة لهؤلاء القوم الذين ذهبوا إلى حديثي أبي بكرة وجابر - رضي الله عنهما -، وذلك لأنه يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - صَلاّها كذلك -أي ركعتين ركعتين- لأنه -أي

لأن النبي - عليه السلام -- لم يكن في سفر تُقصر في مثله الصلاة، يعني كان مقيمًا، فلذلك صلى بكل طائفة ركعتين، وهكذا هو الحكم فيما إذا حضر العدو مصرًا من أمصار المسلمين وأراد أهل العصر أن يصلّوا صلاة الخوف، فلهم أن يُصلوا كذلك إذا صلّوا صلاة رباعيةً. قوله: "قالوا: فإن القضاء ما ذكر" سؤال من جهة هؤلاء القوم، تقريره أن يُقال: كيف قلتم: إنه يحتمل أن يكون مقيمًا وصلى بكل طائفة ركعتين ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين، والحال أن القضاء ما ذكر في الحديث؟ وتقرير الجواب ما أشار إليه بقوله: قيل لهم -أي لهؤلاء القوم-: قد يجوز أن يكون قد قضوا ركعتين ركعتين ولم يُنقل ذلك في الخبر اكتفاء لدلالة مرأى الحال عليه، وهذا الباب واسع شائع ذائع. قوله: "وإن كانوا لم يقضوا ... " إلى آخره، جواب على تقدير عدم القضاء، بيانه: وإن سلمنا أنهم لم يقضوا شيئًا؛ فكذلك لا حجة لكم فيه أيضًا؛ لأنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - قد فعل ذلك حين كان يُصلي الفريضة مرتين، فتكون كلتا الصلاتين فريضةً، فلما نسخ ذلك انتسخ ذاك أيضًا. قوله: "وقد كان يُفعل ذلك ... " إلى آخره، إشارة إلى بيان ما ذكره من قوله: "والفريضة حينئذٍ تُصلّي مرتين" أي: قد كان يُفعل تكرار أداء الفريضة في ابتداء الإِسلام، ثم نسخ. واستدل عليه بما أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد روى له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم البصري روى له الجماعة، عن عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص احتج به الأربعة، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب المدني مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام - أخي عطاء بن يسار ... إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو كامل، ثنا يزيد -يعني ابن زريع- عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة قال: "أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، قلت: ألا تُصلي معهم؟ قال: قد صليتُ (قد صليت) (¬2) إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: لا تصلوا في يوم مرتين". وأخرجه النسائي (¬3): أنا إبراهيم بن محمَّد التيمي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة قال: "رأيت ابن عمر جالسًا على البلاط والناس يصلون، قلت: يا أباعبد الرحمن، ما لك لا تُصلِّي؟ قال: إني قد صليت، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: لا تعاد الصلاة في يوم مرتان". قوله: "ألا تصلي؟ " استفهام على سبيل الإنكار عليه. قوله: "في رحلي" أي: في منزلي. قوله: "على البَلاط" بفتح الباء الموحدة وهي ضرب من الحجارة تُفرشُ به الأرضُ، ثم سُمِّي المكانُ بلاطًا اتساعًا، وهو موضع معروف بالمدينة. قوله: "نهى أن تُصلَّى فريضة في يوم مرتين" قال الخطابي: هذا محمول على صلاة الاختيار دون ما لها سبب كالرجل يدرك جماعةً فيصلي معهم في غير العصر والصبح وقد كان صلى؛ ليدرك فضيلة الجماعة جمعًا بين الأحاديث. قلت: هذا محمول على أن يصلي الفرض مرتين بنية الفرض في كل منهما، أو هو محمول على صلاة العصر والصبح؛ لأن تكرارهما منهي لورود النهي بعد الصلاة العصر والصبح، ويكون سؤال سليمان عن ابن عمر وجوابه إياه عند صلاة العصر أو الصبح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 158 رقم 579). (¬2) تكررت في "الأصل"، ووضع المؤلف -رحمه الله- فوق الثانية "صح" أي أنه قصدها هكذا وليست في "سنن أبي داود". (¬3) "المجتبى" (2/ 114 رقم 860).

قوله: "والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة"؛ لأن النهي هو الحظر والمنع وذا لا يكون إلا بعد الإطلاق والإباحة. قوله: "في بَدْء الإسلام" أي في ابتداء الإِسلام. قوله: "وتركُ ابن عمر - رضي الله عنهما -" كلام إضافي مبتدأ، وقوله: "يحتمل عندنا" خبره، وأشار بهذا إلى بيان معنى ترك ابن عمر الصلاة مع القوم، وهو أن ذلك يحتمل مَعْنَيَيْن. الأول: أن تكون تلك الصلاة التي كان ابن عمر تركها صلاةً لا يتُطوع بعدها نحو صلاة العصر أو الصبح، فحينئذٍ لا يجوز أن يُصليها إلا على أنها فريضة لعدم جواز التطوع، والصلاة على أنها فريضة أيضًا لا يجوز لنهيه - عليه السلام - أن تُصلى فريضة في يوم مرتين. والثاني: يحتمل أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - قد سمع من النبي - عليه السلام - النهي عن إعادة الفريضة وتكرارها مرتين مطلقًا، ثم إن النبي - عليه السلام - قد رخص بعد ذلك أن تُصلّى على أنها نافلة، فلم يبلغ ذلك ابن عمر - رضي الله عنهما -، فترك الصلاة مع القوم بناءً على ما سمعه من النهي عن إعادة الفريضة. فلما تحقق ها هنا احتمالان، نَحْتاجُ إلى نظر في ذلك، هل يوجد شيء من الآثار يحقق أحد الاحتمالين؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا إبراهيم بن أبي داود البُرلسي قد حدّث عن أحمد بن خالد بن موسى بن وهب الوَهْبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون أبي عبد الله روى له الجماعة -وقد ذكرنا أن الماجشون لقب لُقِّب به لحمرة خدَّيه- عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع مولى سعيد بن العاص المدني وثقه ابن حبان، عن محرّر -براءين مهملتين الأصلين مفتوحة مشددة- ابن أبي هريرة وثقه ابن حبان وروى له النسائي وابن ماجه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ربيعة بن عمار وأبي العميس، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن عمر قال: "صلاته الأولى" انتهى. فهذا الحديث قد دلّ على تحقق الاحتمال الثاني؛ لأنه قد رأى أن الصلاة الثانية تكون تطوعًا، فدلّ على أن تركه الصلاة مع القوم في حديث سليمان مولى ميمونة إنما كان لأن تلك الصلاة كانت صلاة لا يجوز أن يتطوع بعدها فكانت، إما عصرًا أو صبحًا. قوله: "وإن كان حديثا أبي بكرة وجابر اللذين ذكرنا كانا والحكم ما وصفنا" أي: وُجدا ووقعا، و"كان" ها هنا تامّة و"الحكم" مبتدأ، وما وصفنا خبره، والجملة وقعت حالًا. قوله: "جاز أن يعيدها" جواب "إنْ" في قوله: "وإن كان حديث أبي بكرة". وباقي الكلام ظاهر. قوله: "حدثنا أبو بكرة ... " إلى آخره، إشارة إلى تأكيد ما ورد من النهي عن إعادة الصلاة في يوم مرتين. أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حَبّان -بالفتح وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي روى له الجماعة، عن همام بن يحيى العَوْذي أبي بكر البصري روى له الجماعة، عن قتادة بن دعامة، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المُعَافري ذكره ابن أبي حاتم في الصحابة، وأنكر عليه أبو عمر بن عبد البرّ وقال: لا يُعرف هذا في الصحابة ولا ذكره فيهم غيره. قلت: هذا مجرد إنكار فلا يُسَمعُ ذلك؛ لأنه لا يلزم من عدم ذكر غيره إياه في الصحابة أن لا يكون هو صحابيًّا، فقد يمكن أن يكون قد ثبت عند ابن أبي حاتم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 75 رقم 6643).

كونه من الصحابة، ويفهم من كلام الطحاوي أيضًا أنه صحابي، فإذا اتفق إمامان مثلهما على شيء لا يبقى فيه مجال للإنكار والرد. وقد أخرج ابن أبي حاتم هذا الحديث في ترجمة خالد بن أيمن المعافري (¬1)، ونسبته إلى المَعافر -بفتح الميم- بن يَعفر بن مالك بن الحارث بن قرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان قبيل ينسب إليه كثيرٌ، عامّتُهم بمصْر. قوله: "كان أهل العوالي" وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عُلْوِيّ على غير قياس. قوله: "قال عمرو" أي: عمرو بن شعيب. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله في هذا ما يَدُلّ على غير هذا المعنى. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: "أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة في الخوف أيّ يوم أنزل؟ وأين هو؟ قال: انطلقنا نَتَلَقّى عير قريش آتيةً من الشام حتى إذا كنا بنَخْل جاء رجل من القوم إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: أنت محمَّدٌ؟ قال: نعم. قال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك. قال: فسَلّ السَيْفَ، فتهدده القوم وأوعدوه، فنادى النبي - عليه السلام - بالرحيل، وأخذوا السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى النبي - عليه السلام - بطائفة من القوم وطائفةُ أخرى يَحْرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم سلم، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصافّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم ثم سلم، فكان للنبي - عليه السلام - أربع ركعات، وللقوم ركعتان ففي يومئذٍ أنزل الله تعالى إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح". ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (3/ 320 رقم 1435).

ففي هذا الحديث ما يَدُلّ على أن النبي - عليه السلام - صلى بهم أربعًا يومئذٍ قبل إنزال الله -عز وجل- في قصر الصلاة ما أنزل عليه، وأن قصر الصلاة إنما أمر الله به بعد ذلك فكانت الأربع يومئذٍ مفروضة على النبي - عليه السلام - وكان المؤتمون به فرضهم أيضًا كذلك؛ لأن حكمهم حينئذٍ كان في سفرهم كحكمهم في حضرهم، ولابد إذا كان ذلك كذلك من أن تكون كل طائفة من هاتين الطائفتين قد قضت ركعتين ركعتين كما يُفعَل لو كانت في الحضر. ش: أي قد روي عن جابر بن عبد الله في هذا الباب ما يدل على غير المعنى المذكور في الرواية السابقة؛ وذلك لأنه أخبر في هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - صلى بالقوم أربع ركعات؛ لأن الله تعالى لم يكن أنزل بَعدُ في قصر الصلاة، وأنه إنما أنزل القصر بعد ذلك، فكانت الأربع حينئذٍ مفروضة عليهم؛ لأن السفر كان كالحضر قبل نزول القصر، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن تكون كل واحدة من الطائفتين قد قضت ركعتين ركعتين كما كان يجب عليهم ذلك لو كانوا في الحضر. ثم إسنادُ حديث جابر صحيح، وقال البخاري: ويقال إن سليمان اليشكري مات في حياة جابر بن عبد الله ولم يسمع منه قتادة. والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا عبد الله بن محمَّد الأزدي، نا إسحاق بن إبراهيم، نا معاذ بن هشام، نا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: "أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة في الخوف، أين أنزل وأين هو؟ فقال: خرجنا نتلقى عيرًا لقريش أتت من الشام، حتى إذا كنا بنخلٍ جاء رجل إلى رسول الله - عليه السلام - وسيفه موضوع، فقال: أنت محمَّد؟ قال: نعم ... " إلى آخره نحوه. قوله: "عِير قريش" أي: إبلهم بأحمالها وهو بكسر العين. قال ابن الأثير: العير: الإبل بأحمالها، فِعل من عَارَ يَعِيرُ إذا سار، وقيل: هي قافلة الحمير فكثرت ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (7/ 136 رقم 2882).

حتى سميت بها كل قافلة كأنها جمع عَير، وكان قياسُها أن تكون فُعُلا بالضم كسُقُف في سَقْف، إلا أنه حوفظ على الياء بالكسر نحو عِين. قوله: "آتيةً" بالنصب على أنها حال من "العير". قوله: "بنخل" أي في نَخْل، وهو بفتح النون وسكون الخاء المعجمة على لفظ جمع نخلة، قال يعقوب: هي قرية بوادي يُقال لها شَرْح لفزارة وأشجع وأنمار وقريش والأنصار. وقال ابن حبيب: هي لبني فزارة. وقال ابن عوف: على ليلتين من المدينة. وقال غيره: ما بين القَصير والثاملية حضَر محارب. قوله: "جاء رجل" واسمه غورث بن الحارث. قوله: "على أعقابهم" جمع عَقِب -بفتح العين وكسر القاف- وهي مؤخر الرحل، والمعنى: تأخروا إلى ورائهم. قوله: "في مَصافّ أصحابهم" بفتح الميم وتشديد الفاء جمع مَصَفٍّ وهو موضع الحرب الذي تكون فيه الصفوف. قوله: "إقصار الصلاة" بكسر الهمزة. ص: فإن قال قائلٌ: ففي هذا الحديث ما يَدُلّ على خروج النبي - عليه السلام - من الصلاة بعد فراغه من الركعتين اللتين صلاهما بالطائفة الأولى، واستقباله الصلاة في وقت دخول الطائفة الثانية معه فيها؛ لأن في الحديث "ثم يُسَلّم". قيل له: قد يحتملُ أن يكون ذلك السلام المذكور في هذا الموضع هو سلام التشهد الذي لا يُراد به قطع الصلاة، ويحتمل أن يكون سلامًا أراد به إعلام الطائفة الأولى بأوان انصرافها، والكلام حينئذٍ مباح له في الصلاة غير قاطع لها على ما قد رُوي في ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعن أبي سعيد الخدري، وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنهم - على ما قد رويناه عن كل واحد منهم في الباب الذي ذكرنا فيه وجوه حديث ذي اليدين في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف قلتم: فكان الأربعُ يومئذٍ مفروضةً على النبي - عليه السلام - وعلى المأمومين به، والحديث يدل على أنه - عليه السلام - خرج من الصلاة بعد فراغه من الركعتين اللتن صلاهما بالطائفة الأولى، وعلى أنه استقبل الصلاة في وقت دخوله فيها مع الطائفة الثانية، والذي دلّ على ذلك هو قوله: "ثم سلّم". والتسليم قاطع؛ لقوله - عليه السلام -: "وتحليلها التسليم" (¬1). وتقرير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون سلامه بين الأربع لم يكن لأجل قطع الصلاة، وإنما كان سلام التشهد لأن في التشهد على رأس الركعتين الأولتين من ذوات الأربع تسليمًا في تشهده، ويحتمل أن يكون التسليم حيئنذٍ لم يكن ممنوعًا؛ لكون الكلام مباحًا حينئذٍ غير قاطع للصلاة على ما بيّن ذلك في باب "سجود السهو" على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - أنه صلاّها على غير هذا المعنى. حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البَرْقيُّ، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني يزيدُ بن الهاد، قال: حدثني شرحبيل بن سَعْد، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف قال: "قام النبي - عليه السلام - وطائفة من خلفه من وراء الطائفة التي خلف النبي - عليه السلام - قعودٌ ووجوههُم كلُهم إلى النبي - عليه السلام -، فكبَّر - صلى الله عليه وسلم - وكبرت الطائفتان، وركع وركعت الطائفة التي خلفه والأخرَى قعُودٌ، ثم سجد فسجدوا أيضًا والآخرون قعودٌ، ثم قام وقاموا فنكصوا خلفه، حتى كانوا مكان أصحابهم، وأتت الطائفة الأخرى فصلى بهم النبي - عليه السلام - ركعةً وسجدتين والآخرون قعود، ثم سلم، فقامت الطائفتان كلتاهما فصلوا لأنفسهم ركعةً وسجدتين، ركعةً وسجدتين". ¬

_ (¬1) تقدم.

فهذا الحديث عندنا من المحال الذي لا يجوز كونه؛ لأن فيه أنهم دخلوا في الصلاة وهم قعود. وقد أَجْمَع المسلمون أن رجلًا لو افتتح الصلاة قاعدًا، ثم قام فأتّمها قائمًا ولا عذر له في شيء من ذلك؛ أن صلاته باطلة، فكان الدخول لا يجوز إلا على ما يكون عليه الركوع والسجود، واستحال أن يكون الذي خلف النبي - عليه السلام - في الصفّ الثاني دخلوا في الصلاة قعودًا، فثبت عن جابر بن عبد الله ما رويناه عنه عن النبي - عليه السلام - في غير هذا الحديث. ش: أشار بهذا إلى أنه قد روي عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف وجه آخر غير ما ذكر فيما مضى من الوجوه، ولكنه وجه محال؛ لأنه يذكر فيه أن القوم دخلوا في الصلاة وهم قعود وهذا لا يجوز؛ لأن العلماء قد أجمعوا على أن من افتتح الصلاة قاعدًا من غير عذر ثم أتمها قائمًا فإن صلاته باطلة؛ لأن فيه بناء القوي على الضعيف، والدخول في الصلاة إنما يجوز إذا كان على ما يكون عليه الركوع والسجود، فإذا كان كذلك فمن المحال أن يكون الذين خلف النبي - عليه السلام - في الصف الثاني قد دخلوا في الصلاة قعودًا، فثبت عن جابر بن عبد الله ما روي عنه عن النبي - عليه السلام - من غير هذا الوجه، وهذا الوجه لم يصح من جهة المعنى ومن جهة أن في سنده شرحبيل بن سعد، فإنه ضعيف على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فإن قيل: يحتمل أن يكون افتتاحهم الصلاة وهم قعود لأجل شدة الخوف، وكانوا مضطرين إلى ذلك فصاروا معذورين فيه. قلت: هذا لا يتمشى ها هنا؛ لأنه لو كان كما ذكر لكانوا كلهم على هذه الهيئة، فلم يكونوا كذلك حتى لو كان الإِمام مع القوم جميعهم افتتحوا الصلاة وهم قعود في حالة إلجائهم إلى هذه الهيئة يجوز، وكذا لو صلّوا ركبانًا عند شدة الخوف أو بالإيماء يجوز، كما عرف في موضعه. ثم رجال الحديث المذكورون كلهم ثقات إلا شرحبيل بن سعد الخطميم المدني مولى الأئصار، فإن مالكًا قال فيه: ليس بثقة. وقال يحيى: ليس

بشيء، ضعيف. وقال ابن سَعْد: وله أحاديث وليس يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود وابن ماجه. والحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، ثنا أبو حاتم محمَّد بن إدريس الرازيّ، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب، حدثني يزيد بن الهاد، حدثني شرحبيل بن سَعْد، عن جابر بن عبد الله ... إلى آخره نحوه. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد عرفتَ تساهل الحاكم في باب التصحيح. ص: وذهب أخرون في صلاة الخوف إلى ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قَبيصةُ، قال: ثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُرَقي قال: "صلى النبي - عليه السلام - الظهر بعُسفان، والمشركون بينه وبين القبلة فيهم أو عليهم خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد كانوا في صلاة لو أصَبْنا منهم لكانت الغنيمة، فقال المشركون إنها ستجيء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، قال: ونزل جبريل - عليه السلام - بالآيات فيما بين الظهر والعصر، قال: فصلى النبي - عليه السلام - العصر وصفّ الناس صفين، فكبّر وكبّروا معه جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا، ثم رفع ورفعوا معه جميعًا، ثم سجد وسجد معه الصفُّ الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يَحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا، ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، وتأخر الصف المقدم وتقدّم الصفّ المؤخر، فكبّر وكبّروا معه جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا، ثم رفع ورفعوا معه جميعًا، ثم سجد وسجد الصفُّ الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا جميعًا، ثم سجد الصف المؤخر، ثم سلم عليهم، وصلاّها مرّةً أخرى في أرض بني سُلَيْم". ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 486 رقم 1249).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلاّها ... " فذكر نحو هذا. وكان ابن أبي ليلى ممن ذهب إلى هذا الحديث، وتركه أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله؛ لأن الله -عز وجل- قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1) ففي هذا الحديث أنهم صلوا جميعًا، وفي حديث ابن عمر، وعبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، وفي حديث حذيفة وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - دخول الطائفة الثانية في الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك، فالقرآن يدل على ما جاءت به الرواية عنهم عن النبي - عليه السلام - في ذلك، فكانت عنده أولى من حديثي أبي عياش وجابر بن عبد الله هَذَيْن. ش: أي ذهب قوم آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبا يوسف في رواية، فإنهم ذهبوا في كيفية صلاة الخوف إلى حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله في حديثه الذي نحوه. أما حديث أبي عياش فأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة السوائي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد بن جبر، عن أبي عياش -بالياء المشددة آخر الحروف وفي آخره شين معجمة، قيل اسمه: زيد بن الصامت، وقيل: زيد بن النعمان، وقيل: عبيد، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية- ابن الصامت، شهد مع النبي - عليه السلام - بعض غزواته. وأخرجه أبو داود (¬2): نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصَبنا غِرّةً، لقد أصَبْنا غَفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة. فنزلت آية القصر بين الظهر ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 11 رقم 1236).

والعصر، فلما حضرت العصر، قام رسول الله - عليه السلام - مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصفّ خلف رسول الله - عليه السلام - صف، وصَفّ بعد ذلك الصفّ صَفُّ آخر، فركع رسول الله - عليه السلام - وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذين بإزائه، وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا؛ سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصفُّ الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصفّ الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - عليه السلام - وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يَحْرسونهم، فلما جلس رسول الله - عليه السلام - والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلّم عليهم جميعًا، فصلاّها بعَسْفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم". وأخرجه النسائي (¬1)، والإمام أحمد (¬2) والبيهقي (¬3) وقال: هذا إسناد صحيح إلا أن بعض أهل العلم بالحديث يشُكك في سماع مجاهد من أبي عياش. ثم ذكر الحديث بإسناد جيد، عن مجاهد، قال: ثنا أبو عياش، وبيّن فيه سماع مجاهد من أبي عياش، وبهذه الصورة أخذ سفيان الثوري. ولما أخرج أبو داود حديثه قال: وهو قول الثوري. وهو أحوط الصور، وإنما كانت أحوط الصور لأنها رويت بطرق كثيرة، والفقهاء لما رجح بعضُهم بعضَ الروايات على بعضٍ احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح، فتارةً يرجحون بموافقة ظاهر القرآن، وتارة بكثرة الرواية، وتارةً بكونها موصولًا وبعضها موقوفًا، وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة، وتارة بالمعاني، كما أن أبا حنيفة اختار حديث ابن عمر وروايته؛ لأنها تُوافقُ الأصول في أن قضاء الطائفة بعد سلام الإِمام. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 177 رقم 1550). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 59 رقم 16630). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 256 رقم 5821).

وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله: "وتركه أبو حنيفة ومحمد". أي تركا الحديث المروي عن أبي عياش وجابر نحوه؛ لأن فيه مخالفةً لظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1)، فهذا يقتضي أن يكون القوم طائفتين: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، وعلى ما ذهب إليه الثوري وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي يكون القوم جميعهم يفتتحون الصلاة مع الإِمام، فهذا خلاف ظاهر القرآن، والذي يُوافق ظاهر القرآن هو حديث عبد الله ابن عمر، وحديث عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وحديث حذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، فلذلك كانت أحاديث هؤلاء عنده -أي عند أبي حنيفة- أولى من حديثي أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله هذين، وأشار به إلى المذكورَيْن من حديثَيْهما. وأما حديث جابر فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله عن النبي - عليه السلام -. ولما أخرج أبو داود (¬2) حديث أبي عياش الزُّرقي قال: وروى أيوب وهشام، عن أبي الزبير، عن جابر هذا المعنى عن النبي - عليه السلام -، وكذلك رواه داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وكذلك عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، وكذلك قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن أبي موسى فعله، وكذلك عكرمة بن خالد، عن مجاهد، عن النبي - عليه السلام -، وكذلك هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. قلت: رواية عكرمة وعطاء موقوفة، ورواية مجاهد وعروة مرسلة، فالحاصل أن الحديث المذكور روي بطرق مختلفة ما بين مرفوع وموقوف ومرسل. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 11 رقم 1236).

قوله: "بعُسفان" بضم العين وسكون السين المهملة وبالفاء بعدها ألف ثم نون، وهي قرية جامعة بها منبر، على ستة أميال من مكة، وذكرت في كتاب "البلدان" أنها على مرحلة من خُلَيص في الجنوب، ومن عُسْفان إلى بطن مرّ ثلاثة وثلاثون ميلًا، وسُمِّيت عسفان لتعسف السيول فيها، وكانت صلاته - عليه السلام - بعسفان صلاة الخوف سنة أربع من الهجرة، وكانت هي غزوة بني لحيان، وهكذا ذكر البيهقي في "الدلائل". وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أنها كانت في جمادى الأولى من سنة ست للهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو الأشبه مما ذكره البيهقي. وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: "أول ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعُسفان بينهما أربع سنين" قال: وهذا عندنا أثبت. قوله: "فيهم" أي: في المشركين. قوله: "أو عليهم" شك من الراوي، أي: أو على المشركين. قوله: "بالآيات" أراد بها آيات القصر وهي قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬1) الآية، وقال علي - رضي الله عنه -: "نزل قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} (1) بعد قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1) بسنة في غزوة بني أسد؛ صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر قال بعضهم: هلًا شدَدْتم عليهم وقد أمكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا: بعدها صلاة أحبّ إليهم من آبائهم وأولادهم؛ فنزل {إِنْ خِفْتُمْ} (1) إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا} (¬2) ليشرع صلاة الخوف". قوله: "وصلاها مرةً أخرى في أرض بني سُلَيم" وسُلَيم -بضم السين- قبيلة من قيس غيلان، وهو سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان، وسُلَيم أيضًا قبيلة في جذام من اليمن. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [101]. (¬2) سورة النساء، آية: [102].

ص: وذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان في القبلة فالصلاة كما رَوَى أبو عياش وجابرٌ - رضي الله عنهما -، وإن كانوا في غير القبلة فالصلاة كما رَوَى ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -؛ لأن في حديث أبي عياش أنهم كانوا في القبلة، وحديث حذيفة وابن عمر وزيد لم يُذكر فيه شيءٌ من ذلك، إلا أنه قد روي عن ابن مسعود في ذلك ما يوافق ما رَوَوْا، وقال: كان العدوّ في غير القبلة. وقال أبو يوسف: فأصحِّح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود وما يوافقه إذا كان العدو في غير القبلة، وحديث أبي عياش وجابر إذا كان العدو في القبلة، وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} إذا كان العدو في غير القبلة، ثم أوحى الله تعالى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا في القبلة، ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران، وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك وأولاها؛ لأن تصحيح الآثار يشهد له. وقد دلّ على ذلك أيضًا أن عبد الله بن عباس قد رُوي عنه، عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف ما ذكرنا في أول هذا الباب مما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي - عليه السلام - في ذلك بذي قرد، وكان ذلك موافقًا لما روى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيدٌ - رضي الله عنهم - عن النبي - عليه السلام - في ذلك. ثم رُوي عن عبد الله بن عباس في ذلك من رأيه ما قد حدّثنا سليمان بن شُعَيْب، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن صالح الهاشمي أبو بكر، قال: ثنا ابن لهيعة، عن الأعرج أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن عباس يقول: "كان ابن عباس يقول في صلاة الخوف ... " فذكر مثل ما فعل النبي - عليه السلام - في حديث أبي عياش، وحديث جابر بن عبد الله الذي وافقه. فلما كان ابن عباس قد علم من فعل النبي - عليه السلام - على ما رويناه عنه في حديث عبيد الله وقال: "وكان المشركون بينه وبين القبلة" ثم قال هذا برأيه، واستحال أن يكونوا يصلون هكذا والعدو في غير القبلة، ويصلون إذا كان العدو في

القبلة كما روى عنه عبيد الله؛ لأنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعَدوُّ في ظهورهم كان أحرى أن لا يَسْتدبروها إذا كانوا في وجوههم. ولكن ما ذكرنا عنه من ترك الاستدبار هو إذا كان العدوّ في القبلة، ويحتمل أيضًا أن يكون كذلك إذا كان العدو في غير القبلة كما قال ابن أبي ليلى، فقد أحاط علمنا بقوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله، عن النبي - عليه السلام - إذا كان العدوّ في القبلة ولم نَكُن لِنقُول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدّمه عنده، ولم نَعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فجعلنا هذا الذي رَوْيناه عنه من قوله هو في العدو إذا كانوا في القبلة، وتركنا حكم العدوّ إذا كانوا في غير القبلة على مثل ما رواه عنه عبيد الله عن النبي - عليه السلام -. ش: اعلم أنه رُوي عن أبي يوسف ثلاث روايات في صلاة الخوف. الأولى: أنها لا تُصلى بعد النبي - عليه السلام - على ما يأتي والثانية: مثل قول أبي حنيفة ومحمد. والثالثة: بالتفصيل، وهو أن العدو إذا كانوا في القبلة تُصلّى كما في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله، وهو أن يجعل الإِمام الناس صفين، فيكبرّ ويكبّرون معه جميعًا، ثم إذا ركع يركعون معه جميعًا وإذا رفع رأسه يرفعون رءوسهم معه جميعًا، ثم إذا سجد يسجد معه الصف الذين يلونه ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، ثم إذا رفع الإِمام رأسه من السجدة يرفع معه الصف الذين يلونه، ثم يَسْجد الصَفّ الآخر، فإذا رفعوا رءوسهم من السجود يتأخر الصف المقدم ويتقدم الصف المؤخر، فيكبر الإِمام ويكبرون معه جميعًا، وإذا ركع يركعون معه جميعًا وإذا رفع رأسه يرفعون معه جميعًا، ثم إذا سجد الإِمام سجد معه الصف الذين يلونه، ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، فإذا رفع الإِمام رأسه يرفعون معه جميعًا، ثم يسجد الصف الآخر، ثم يسلم الإِمام معهم جميعًا. وإن كان العَدُو في غير القبلة تُصلّى كما في حديث عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وهو أن يجعل الإِمام الناس طائفتين، طائفة بإزاء

العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعةً إن كان مسافرًا أو كانت صلاة الصبح، وركعتين إن كان مقيمًا والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة. وإنما فصَّل أبو يوسف بهذا التفصيل؛ لأن في حديث أبي عياش أنهم -أي العدو- كانوا في القبلة؛ لأنه قال فيه: "والمشركون بينه وبين القبلة"، وأما في حديث ابن عمر وحذيفة وزيد - رضي الله عنهم - فلم يذكر شيء من ذلك، غير أنه قد روي عن عبد الله بن مسعود في ذلك ما يُوافق ما رَوَوْا، وقال في روايته: "كان العَدّو في غير القبلة"، وهو صَرّح بأنهم لم يكونوا في القبلة، وهو خلاف ما روي في حديث أبي عياش وجابر - رضي الله عنهما -، فإذا وقع خلاف بين الروايتين، الأصل فيه التوفيق ما أمكن وإليه أشار أبو يوسف بقوله: "فَأُصَحِّح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود ... " إلى آخره، وأراد بتصحيح الحديثين العمل بهما بالتوفيق بينهما؛ وذلك أنه حمل حديث ابن مسعود وما يوافقه من أحاديث ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت على ما إذا كان العدو في غير القبلة وحمل حديث أبي عياش الزرقي وجابر على ظاهره على ما إذا كان العدو في القبلة، وبهذا التصحيح يكون العمل بالحديثين، بخلاف ما إذا عمل بأحدهما حيث يلزم الإهمال للآخر. ولما كان ها هنا سؤال وهو أن يقال: إن ما ذكرتم خلاف لما في الآية، فلا يجوز العمل بخبر يخالف ظاهره ظاهر القرآن. أجاب عنه بقوله: "وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا". وتقريره أن يقال: لا نسلم أن ما في حديث أبي عياش وجابر يخالف ظاهر الآية؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} (¬1) إذا كان العدو ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102].

في غير القبلة، فتكون الآية مُبينة لصورة الصلاة إذا كان العدو في غير القبلة، ثم بعد ذلك أوحى الله إلى نبيه - عليه السلام - كيف يكون حكم الصلاة إذا كان العدو في القبلة، فيكون النبي - عليه السلام - قد فعل الفعلين جميعًا في الحمالتين وبهما جاء الخبران. واختار الطحاوي أيضًا ما ذهب إليه أبو يوسف من التوفيق المذكور حيث قال: "وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك" أي في باب صلاة الخوف و"أولاها" أي أحقها بالقبول والعمل؛ "لأن تصحيح الآثار يشهد له" يعني: إذا جُمِعَت الأحاديث التي رُوِيَتْ في هذا الباب وكشف معناها ترجع كلها إلى المعنى الذي ذكره أبو يوسف، فيكون أولى الأقوال وأحقها بالعمل. قوله: "وقد دل على ذلك" أي على ما قاله أبو يوسف أن عبد الله بن عباس قد روى عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي - عليه السلام - بذي قرد ما يوافق ما رواه عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، وأراد بالموافقة المذكورة هي الموافقة في كيفية الصورة؛ وذلك أن المذكور فيما رواه عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، هو أن النبي - عليه السلام - جعل الناس صفين صفًّا خلفه، وصفًّا بإزاء العدو ... إلى آخر ما ذكره، وهذا كالمذكور في أحاديث عبد الله بن مسعود وابن عمر وحذيفة وزيد، ثم روى عن عبد الله بن عباس من رأيه واجتهاده أنه ذهب في صلاة الخوف إلى ما ذكر في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الله بن محمَّد بن صالح بن قيس الهاشمي، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس. وذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش بعد روايته عن النبي - عليه السلام - ما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله يدل على أنهم كانوا يصلون هكذا والعدو في القبلة كما ذكر أيضًا عبيد الله بن عبد الله في روايته عن عبد الله بن عباس: "والمشركون بينهم وبين القبلة؛ لأنه يستحيل أن يكونوا يصلون على ما في حديث أبي عياش والعدو في غير القبلة"؛ وذلك أنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعدو في ظهورهم فبالطريق

الأولى أن لا يستدبروها إذا كانوا في وجوههم، ولكن المذكور عنه من ترك الاستدبار هو ما إذا كان العدو في القبلة. قوله: "ويحتمل أيضًا ... " إلى آخره، إشاره إلى توجيه آخر لذهاب ابن عباس برأيه إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي، بيان ذلك أن يقال: يحتمل أن يكون ذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي سواء كان العدو في القبلة أو غيرها، كما ذهب إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، فحينئذٍ يكون قوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله عن النبي - عليه السلام - إذا كان العدو في القبلة، ولكن لا يمكن أن نقول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدم ذلك عنده -أي عند ابن عباس- ولا نعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فإذا كان كذلك حملنا قوله من رأيه على ما إذا كان العدو في القبلة، وتركنا روايته عن النبي - عليه السلام - التي رواها عنه عبيد الله بن عبد الله على مثل ما روى إذا كان العدو في غير القبلة، فافهم فإنه موضع دقيق مأخذه. ص: وقد كان أبو يوسف -رحمه الله- قال مرةً: لا تُصلَّى صلاةُ خوف بعد النبي - عليه السلام -، وزعم أن الناس إنما صلّوْها لفضل الصلاة معه، وهذا القول عندنا ليس بشيء؛ لأن أصحاب النبي - عليه السلام - قد صلوها بعده، قد صلاها حذيفة بطبرستان، وما في ذلك فأشهر من أن نحتاج إلى نذكره ها هنا. فإن احتج في ذلك بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1) الآية، فقال: إنما أمر بذلك إذا كان فيهم، فإذا لم يكن فيهم انقطع ما أمر به من ذلك. قيل له: فقد قال -عز وجل-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬2) الآية. فكان الخطاب ها هنا له - صلى الله عليه وسلم -، وقد أُجمع أن ذلك معمول به بعده كما كان يُعمل به في حياته. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [102]. (¬2) سورة التوبة، آية: [103].

ولقد حدثني ابن أبي عمران أنه سمع أبا عبد الله محمَّد بن شجاع الثلجيَّ يَعيبُ قول أبي يوسف هذا فيقول: إن الصلاة مع النبي - عليه السلام - وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا فإنه لا يجوز لأ حد أن يتكلم فيها بكلام يقطعها، ولا ينبغي أن يفعل فيها شيئًا لا يَفْعله في الصلاة مع غيره، وأنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره من الأحداث كلها، فلما كانت الصلاة خلفه لا يقطعها الذهاب والمجيء واستدبار القبلة إذا كانت صلاة خوف، كانت خلف غيره أيضًا كذلك، والله أعلم. ش: قد ذكرنا أن أبا يوسف روي عنه ثلاث روايات في صلاة الخوف إحداها أتى قال: لا تُصلَّى بعد النبي - عليه السلام - لأنهم إنما صلوها لأجل فضل الصلاة معه؛ إذ الفضل الذي يكون وراءه لا يوجد في الصلاة وراء غيره، فلا تصلى بعده إلا بإمامين؛ لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة ونحوها مما هو منافٍ للصلاة. وقال الطحاوي: هذا القول عندنا ليس بشيء؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد صلوها بعده - أي بعد النبي - عليه السلام -- منهم حذيفة بن اليمان قد صلاها بطبرستان. وروى البيهقي (¬1) من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبد السلولي قال: "كنت مع سعيد بن العاص بطبرستان وكان معه نفر من أصحاب النبي - عليه السلام -، فقال لهم سعيد: أيكم شهد مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، مُرْ أصحابك فليقوموا طائفتين ... " الحديث، وقال الذهبي: سُلَيْم لا يعرف. وأخرج عن مسلم (¬2)، عن عبد الصمد بن حبيب، عن أبيه: "أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سَمُرة كابل، فصلّى بهم صلاة الخوف". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 252 رقم 5802). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 261 رقم 5841).

وعن أبي جعفر الرازي (¬1)، عن قتادة، عن أبي العالية قال: "صلى بنا أبو موسى بأصبهان صلاة الخوف". وعن أبي جعفر الباقر (1): "أن عليًّا - رضي الله عنه - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير". وكذلك روى (1) عن جماعة من الصحابة جواز فعلها بعد النبي - عليه السلام - منهم: ابن عباس، وابن مسعود وزيد بن ثابت، وآخرون من غير خلاف يحكى عن أحد منهم، ومثله يكون إجماعًا لا يسعُ خلافه. قوله: "فإن احتج في ذلك" أي فإن احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه من منعه صلاة الخوف بعد النبي - عليه السلام - بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (¬2)؛ وذلك أن الله تعالى قد خصّ هذه الصلاة يكون النبي - عليه السلام - فيهم، فإذا خرج من الدنيا عُدِمَ الشرط، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط. وأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي: لأبي يوسف، وتقريره أن يقال: إن الآية ليس فيها أن الرسول إذا لم يكن معهم لا تجوز، ألا ترى إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3) الآية، فإنه لم يوجب كون النبي - عليه السلام - مخصوصًا به دون غيره من الأئمة بعده، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به بعده كما هو معمول به في حياته، وكذلك قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} (¬4)، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬5)، وقوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} (¬6)، ففي هذه الآيات تخصيص النبي - عليه السلام - بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم؛ لأنهم قائمون مقامه؛ فكأنه - عليه السلام - فيهم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 252 رقم 5804). (¬2) سورة النساء، آية: [102]. (¬3) سورة التوبة، آية: [103]. (¬4) سورة الممتحنة، آية: [12]. (¬5) سورة المائدة، آية: [49]. (¬6) سورة المائدة، آية: [42].

قوله: "ولقد حدثني ابن أبي عمران ... " إلى آخره. إشارة إلى أن النظر والقياس أيضًا يقتضي جوازها بعد النبي - عليه السلام -، ووجهه ظاهر. وابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي الثقة المثبت، وأبو عبد الله محمَّد بن شجاع البغدادي المشهور بابن الثلجي -بالثاء المثلثة وبالجيم - من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي العابد الزاهد رحمهم الله.

ص: باب: الرجل يكون في الحرب فتحضره الصلاة وهو راكب، هل يصلى أم لا؟

ص: باب: الرجل يكون في الحرب فتحضره الصلاة وهو راكب، هل يصلى أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الراكب في الحرب تحضره الصلاة، هل يُصلّي وهو راكب أم لا؟ وإذا صلّى كيف يصلّي. والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى. ص: حدثنا علي بن مَعبد بن نوح، قال: ثنا علي بن مَعبد بن شداد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن زرّ، عن حذيفة قال: سمعت النبي - عليه السلام - يَقولْ يوم الخندق: "شغلونا عن صلاة العصر -قال: ولم يصلها يومئذٍ حتى غابت الشمس- ملأ الله قبورهم نارًا وقلوبهم نارًا وبيوتهم نارًا". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا سلمة بن شبيب، نا عبد الله بن جعفر الرقي، نا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، عن عديّ بن ثابت، عن ززّ، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا- يعني صلاة العصر". وهذا الحديث رواه عاصم، عن زر، عن علي - رضي الله عنه -، وقال عدي عن زر، عن حذيفة. انتهى. قلت: أخرجه الطحاوي في باب "الصلاة الوسطى" من حديث عاصم، عن زر، عن عليّ - رضي الله عنه -. وكذا نحوه أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6) ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (7/ 308 رقم 2906). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1071 رقم 2773). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 436 رقم 627). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 112 رقم 409). (¬5) "جامع الترمذي" (5/ 217 رقم 2984). (¬6) "المجتبى" (1/ 236 رقم 473).

وأحمد (¬1) والدارمي (¬2) والعدني، وقد ذكرنا رواياتهم كلها هناك. قوله: "يوم الخندق" هو يوم الأحزاب ويوم بني قريظة، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل: في الرابعة، والخندق فارسي معرب، وأصله: كَنْده أي: محفور. قوله: "ملأ الله" جملة دُعائية في صورة الإخبار، والمعنى: اللهم املأ قبورهم نارًا، وإنما جمع في الدعاء بين القبور والقلوب والبيوت؛ ليعمّ ذلك ظواهرهم وبواطنهم في دنياهم وآخرتهم. وفيه: أن الصلاة قد فاتت من النبي - عليه السلام -، وعدم جوازها راكبًا في حالة الحرب، وجواز الدعاء على الأعداء بما شاء من الأدعية. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الراكب لا يُصلّى الفريضة على دابته وإن كان في حال لا يمكنه فيها النزول، قالوا: لأن النبي - عليه السلام - لم يصل يومئذٍ راكبًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى، والحكم بن عُتَيبة والحسن بن حي؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الراكب لا يصلي الفريضة على دابته وإن كان لا يمكنه النزول. قوله: "قالوا" أي القوم المذكورون؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يصلّ -أي العصر- حال كونه راكبًا فدل على منع ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: إن كان هذا الراكب يُقاتِل فلا يصلّ، وإن كان راكبًا لا يقاتل ولا يمكنه النزول صلّى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: إن كان الراكب في الحرب يقاتل لا يصلي، وإن كان راكبًا لا يقاتل ولا يمكنه النزول صلّى، وعند الشافعي يجوز له أن يقاتل وهو في الصلاة من غير تتابع الضربات والطعنات. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 79 رقم 591). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 306 رقم 1232).

وتحقيق مذاهب العلماء فيه ما ذكره أبو عمر: أما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة فساقطة عنه عند أهل المدينة والشافعي إذا اشتد خوفه، كما يسقط عنه النزول إلى الأرض لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1) قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "مستقبل القبلة وغير مستقبلها" وهذا لا يجوز لمصلي الفرض في غير الخوف، وأما قول ابن عمر: "فإن كان خوفًا هو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" فإليه ذهب مالك والشافعي وأصحابهما وجماعة غيرهم. قال مالك والشافعي: يصلي المسافر والخائف على قدر طاقته مستقبل القبلة ومستدبرها وبذلك قال أهل الظاهر. وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة، ولا يصلي أحد في حال المسايفة. وقول الثوري نحو قول مالك، ومن قول مالك والثوري: أنه إن لم يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائمًا ويومئ بجعل السجود أخفض من الركوع حيث كان وجهه، وذلك عند السلة، والسلة: المسايفة. قال النووي: وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة أو يطعن الطعنة في الصلاة وإن تابع الضرب أو الطعن أو عمل عملًا بطلت صلاته، وقال الشافعي: لا يجوز لأحدٍ أن يصلي صلاة الخوف إلا بأن يعاني عدوّا قريبًا غير مأمون أن يحمل عليه من موضع يراه، أو يأتيه من يُصدّقه بمثل ذلك من قرب العدو منه ومسيرهم جادّين إليه، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف، فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب لم يُعيدوا. وقال أبو حنيفة: يعيدون. وقال الشافعي: الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالًا وركبانًا إظلال العدو عليهم، فيتراءون معًا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرَمْي إذا كثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [239].

واختلفوا في بناء الصلاة إذا أمن، فقال مالك: إن صلّى آمنًا ركعةً ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعةً راكبًا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنًا ثم خاف استقبل ولم يبن، وإن صلى خائفًا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبني في شيء من هذا كله، انتهى. وقال أبو بكر الرازي: قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: لا يصلي في حال القتال، فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته. وقال مالك والليث والثوري: يُصلي إيماءً إذا لم يقدر على الركوع والسجود. وقال الحسن بن صالح: إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبرّ بدل كل ركعة. ص: وقد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - لم يصل يومئذٍ؛ لأنه كان يقاتل، فالقتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وقد يجوزأن يكون لم يصل يومئذٍ؛ لأنه لم يكن أمر حينئذٍ ن يصلي راكبًا، فنظرنا في ذلك. فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا أبو عامر، وبشر بن عمر، عن ابن أبي ذئب (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المَقبريّ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: "حُبِسْنا يومُ الخندق حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل حتى كُفِينا، وذلك قول الله -عز وجل-: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (¬1) قال: فدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالًا فأقام الظهر، فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاّها كذلك، ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [25].

ثم أمرَه فأقام المغرب، فصلاّها كذلك، وذلك قبل أن يُنزل الله -عز وجل- في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1) ". فأخبر أبو سعيد - رضي الله عنه - أن تركهم للصلاة يومئذٍ ركبانًا إنما كان قبل أن يباحَ لهم ذلك، ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن الرجل إذا كان في الحرب لا يمكنُه النزول عن دابته من خوف العدو، وكذا من سبعٍ، أن له أن يصلي عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلًا كان على الأرض وهو يخاف إن سجد أن يَفْترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصليّ قاعدًا إن كان يخاف ذلك في القيام، ويومئ إيماءً، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: هذا جواب عما قاله أهل المقالة الأولى، وتقريره من وجهين: أحدهما: أن ترك النبي - عليه السلام - الصلاة يومئذٍ إنما كان لأجل كونه مشغولًا بالقتال، فالقتال عمل، وكل عمل يُفسد الصلاة، فالقتال يُفسد الصلاة. والآخر: يجوز أنه لم يُصلّ حينئذٍ لأنه لم يكن مأمورًا حينئذٍ بالصلاة راكبًا، فلذلك لم يصلّ، ثم أكد صحة الوجه الثاني من التأويل بحديث أبي سعيد الخدري، فإنه صرّح فيه أن تركهم للصلاة ركبانًا يومئذٍ إنما كان لأجل عدم إباحة ذلك لهم، وإنما أبيح ذلك بعد ذلك. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وبشر بن عمر الزّهراني، كلاهما عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد سعد بن مالك الخدريّ. وأخرجه النسائي (¬2) نحوه، ولفظه: "شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [239]. (¬2) "المجتبى" (2/ 17 رقم 661).

الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله -عز وجل- {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬1) فأمر رسول الله - عليه السلام - بلالًا فأقام لصلاة الظهر، فصلاها كما كان يُصليها في وقتها، ثم أقامَ للعصر، فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للمغرب، فصلاها كما كان يُصليها في وقتها". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا يحيى، نا ابن أبي ذئب، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: "حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلوات حتى كان بعد المغرب هُوِيًّا، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فلما كفينا القتال وذلك قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (1) أمر النبي - عليه السلام -، بلالًا فأقام الظهر ... " إلى آخره نحو رواية النسائي. قوله: "حُبِسْنا" على صيغة المجهول، أي: منعنا عن الصلوات. "حتى كان بعد المغرب بهُوِيّ من الليل" أي الزمان الطويل منه، وقال ابن الأثير: يقال: هَوَى يَهْوي هَويًّا -بالفتح- إذا هبط، وهَوَى يَهْوي هُوِيًّا -بالضم- إذا صعد، وقيل بالعكس، وهو يهوي هُويًّا أيضًا إذا أسرع في السير، والهَوِيّ -بالفتح- الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص بالليل. وقال الجوهري: مضى هَوِيٌّ من الليل -على فعيل- أي هزيع منه. وفي "المطالع": الهُوِيّ قطعة من الليل وقال أيضًا: والهَوِيُّ والهُوِي -يعني بالفتح والضم- المضي والإسراع. وقال الخليل: هما لغتان بمعنىً، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [25]. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 25 رقم 11214).

ص: باب: الاستسقاء كيف هو؟ وهل فيه صلاة أم لا؟

ص: باب: الاستسقاء كيف هو؟ وهل فيه صلاة أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الاستسقاء، هل تصلّى فيه صلاة؟ أم هو دعاء فقط؟ وهو طلب السُّقْيا -بضم السين- وهو المطر. وقال ابن الأثير: هو من طلب السُّقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم السُّقيا -بالضم- واستسقيتَ فلانًا إذا طلبت منه أن يُسْقِيك. وفي "المطالع": يقال: سَقَى وأَسْقَى بمعنى واحدٍ وقرئ: "يُسقيكم مما في بطونها" (¬1) بالوجهن، وكذا ذكره الخليل وابن القوطية: سقرى الله الأرض وأسقاها. وقال آخرون: سقيته: ناولته فشرب، وأسقيته: جعلت له سُقْيا يشرب منه، وسُقيا على فُعلى، والاستسقاء: الدعاء لطلب السُّقْيا. وجه المناسبة بين البابين من حيث أن المستسقي لا يخلو عن خوف أيضًا على ما لا يخفى. ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود -وهو أبو بشر البغدادي- قال: ثنا سعيد بن كثير، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك يذكر: "أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وُجَاهَ المنبر، ورسولُ الله - عليه السلام - قائم يَخطُب، فاستقبل النبي - عليه السلام - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله - عليه السلام -، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يُغِثْنا. فرفع النبي - عليه السلام - يَدَيْه فقال: اللهم اسْقِنا. قال أنسٌ: فوالله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعةٍ وما بيَننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابةٌ مثل التُّرْس، فلما توسَّطت السماءَ انتشَرتْ، ثم أمطرت، قال: فوالله ما رأينا الشمس سَبْتًا، قال: ثم دخل رجل من الباب في الجمعة المقبلة، والنبي - عليه السلام - يَخطب الناس، ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [66].

فاستقبله قائمًا ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يُمْسكها عنا. فرفع النبي - عليه السلام - يَدَيْه وقال: اللهم حَوْلنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب. قال: فأَقْلَعَتْ، وخرج يمشي في الشمس". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وسعيد بن كثير بن عفير أبو عثمان المصري شيخ البخاري. والحديث أخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن سلام، نا أبو ضمرة، نا شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنسًا يذكر: "أن رجلًا دخل يوم الجمعة ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فادع الله أن يغيثنا" وقوله: "اللهم اسقنا" ثلاث مرات، وفي آخره: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس" قال شريك: فسألت أنسًا: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري". وللبخاري فيه روايات متعددة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حُجْر -قال يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك: "أن رجلًا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - عليه السلام - قائم يخطب ... " إلي آخره نحو رواية البخاري، غير أن في لفظه: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات موضع قوله: "اللهم اسقنا"، وفي لفظه أيضا: "اللهم حولنا" كرواية الطحاوي، وليس فيها ذكر الجبال. وأخرجه أبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 343 رقم 967). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 613 رقم 897). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 304 رقم 1174). (¬4) "المجتبى" (3/ 161 رقم 1518).

قوله: "من باب كان وُجاه المنبر" بضم الواو وكسرها، قال ابن التين: يعني مستدبر القبلة. قلت: إن كان يريد بالمستدبر المنبر فصحيح، ولكن لا معنى لذكره، وإن كان أراد الباب فلا يتجه لباب يُواجه المنبر أن يستدبر القبلة. وقوله في رواية مسلم: "من باب كان نحو دار القضاء" قال عياض: دار القضاء؛ سميت بذلك لأنها أبيعت في قضاء دين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، كان أنفقه من بيمت المال وكتبه على نفسه، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله فإن عجز ماله استعان ببني عديّ ثم بقريش، فباع عبد الله هذه الدار لمعاوية وقضى دَينه، وكان ثمانية وعشرين ألفًا، فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر بن الخطاب، ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء. وهي دار مروان بن الحكم، وقيل: هي دار الإمارة. قلت: الصحيح أن دينه كان ستةً وثمانين ألفًا. قوله: "وانقطعت السبل" أراد: الطرق، وفي رواية: "تقطعت السبل"، وقال ابن التين: والأول أشبه. واختلف في معناه، فقيل: ضعفت الإبل لقلة الكلأ أن يُسَافَر بها، وقيل: إنها لا تجد في سفرها من الكلأ ما يبُلّغها، وقيل: إن الناس أمسكوا ما عندهم من الطعام ولم يجلبوه إلى الأسواق. قوله: "فادع الله يغثْنا" يجوز فيه الأوجه الثلاثة. الأول: بالجَزْم لأنه جواب الأمر. والثاني: بالرفع على تقدير: هو يُغيثُنا. والثالث: بالنصب بتقدير "أَنْ" كما في رواية البخاري "أن يُغِيثَنَا" وهو بضم الياء. و"اللهم أغثنا" بالألف من أغاث يُغيث، والمشهور في كتب اللغة أنه يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض يُغيثَهُم، بفتح الياء.

قال عياض: قال بعضهم: هذا المذكور في الحديث من الإغاثة بمعنى المعونة، وليس من طلب الغيث. قال أبو الفضل: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث أي هَبْ لنا غيثًا، أو ارزقنا غيثًا، كما يقال: سقاه وأسقاه أي: جعل له سُقيا على لغة من فرق بينهما. ويقال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "اللهم أغثنا" أي: فَرِّج عنا وأدرِكْنا. وقال القزاز: غاثه يغوثه غوثًا وأغاثه يُغيثه إغاثةً، فأميتَ غاث واستُعمل أغاث وفي "النبات" لأبي حنيفة: وقد غيثت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة. وقال أبو الحسن اللحياني: أرض مغيثة ومَغْيُوثة أي: مَسْقِيّة. وفي "المحكم": أغاثه وغاثه غوثًا وغِياثًا، والأول أعلى: ويقول الواقع في بليَّة: اللهم أغثني أي: فرِّج عَنِّي. وقال الفراء: الغَيْث والغَوْث متقاربان في المعنى والأصل. وفي "المطالع": والغيث المطر، وقد يُسَمَّي الكلأ غيثًا كما سُمي سماء، وغيثت الأرض فهي مغيثة. قوله "ولا قَزَعَة" بفتح القاف والزاي المعجمة والعين المهملة مثل شَجَرَة، وهي قطعة من السحاب رقيقة كأنها ظل إذا مرّت من تحت السحاب الكثير. وقال أبو حاتم: القزع السحاب المتفرق، وعن الباهلي يقال: ما على السماء قزعة أي: شيء من غير. قوله: "سَلْع" بفتح السين المهملة وسكون اللام بعدها عين مهملة، قال ابن قُرقول: هو جبل بشرق المدينة، ووقع عند أبي سهل بفتح اللام وسكونها، وذكر أن بعضهم رواه بغين معجمة، وكله خطًا. وقال في "المحكم": سَلع موضع. وقيل: جبل، وقال البكراوي هو جبل متصل بالمدينة، وقال الجوهري: السَّلْع جبل بالمدينة، وزعم الهروي أن سلعًا معرفة لا يجوز إدخال الألف واللام عليه، ويعارضه ما في "دلائل النبوة" للبيهقي و"الإكليل" للحاكم وكتاب أبي نعيم الأصبهاني: "فطلعت سحابة من وراء السلع".

قوله: "ثم أمطرت" يقال: مطرف السماء تُمطر ومَطَرتهم تُمْطرهُم مَطْرًا، وأمطرتهم: أصابتهم بالمطر، وأمطرهم الله: في العذاب خاصةً. وقال الفراء: قطرت السماء وأقطرت مثل مطرت وأمطرت. وفي "الجامع": مطرت السماء تُمطر مَطْرًا أو مَطَرًا، فالمطْر بالسكون المصدر، والمطر الاسم، وفيه لغة أخرى مَطِرت تُمطر مطَرًا وكذا أَمْطرت السماء تمطر. وفي "الصحاح": مطرت السماء، وأمطرها الله، وناس يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنىً. قوله: "ما رأينا الشمس سَبْتًا" بسين مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق، وعند الداودي: "سِتًّا" بسين مكسورة، وفسَّره: ستة أيام، وَوُهِّم في ذلك، وليس جيّدًا، بل الواهم مَنْ وهَّمَهُ؛ لأن في "الصحيح": "فما زلنا نُمطر حتى كانت الجمعة الأخرى" فهذا يُبيِّن صحة ما ذهب إليه الداودي ويُوهن قول مَنْ قال: أراد بالسبت القطعة من الزمان؛ لأنه قال: أصل السَّبْت: القطع، وإنما أراد: اليوم المسّمى بالسّبْت. قوله: "اللهم حولنا" وكذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: "حوالينا" وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره: اللهم أنزل -أو أمطر- حولنا ولا تنزل علينا. قلت: حاصل المعنى: أَنْزِلْه حوالي المدينة حيث مواضع النبات، فلا تنزله علينا في المدينة ولا في غيرها حيث الأبنية والمساكن. يقال: رأيت الناس حوله وحواليَه وحَوالَه وحَوليه أي: مُطيفين به من جوانبه، وهو من الظروف اللازمة للإضافة. وقال ركن الدين شارح "مختصر ابن الحاجب": ومن الظروف اللازمة للإضافة: حوال وتثنيته، وحَوْل وتثنيته، وجمعه، نحو: أمشي حوله، وقوله - عليه السلام - "حوالينا

ولا علينا" وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} (¬1) وأمشي حوليه وأحواله. قوله: "على الآكام" بالفتح والمدّ جمع أَكَمَة وهي الموضع الغليظ لا يبلغ أن يكون حجرًا يرتفع ما حوله. وقال الخليل: هو تَلّ من حجر واحد، ويقال إكام بكسر الهمزة، وأَكَم وأُكُم بفتحهما وضمهما. وقال الجوهري: الأَكمَةُ معروفة والجمع أَكَمَات وَأَكَم، وجمع الأَكَم إِكَامٌ مثل جَبَل وجِبَال، وجمع الإكام أُكُم مثل: كِتَاب وكُتُب، وجمع الأُكُم آكَام مثل عُنُق وأَعْناق. قوله: "والظِّراب" بكسر الظاء المعجمة، قال القزاز: هي جمع ظَرْب -ساكن الراء- جبل متوسط على الأرض، وقيل: هو الظَرِب على فَعِل، ويقال: ظِرَاب وظرُب كما يقال: كِتَاب وكُتُب، ويخفف فيقال: ظُرْب، ويقال: وأصل الظراب ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض خَرِبَة، وكان أصله الناتئ محددًا، وإذا كان خِلْقة الجبل كذلك سمي ظِربًا، وفي "المحكم": الظِّرب كل ما نتأ من الحجارة وحُدّ طرفه، وقيل: هو الجبل الصغير. وفي "المنتهى" للبرمكي: الظِّرابُ الروابي الصغار دون الجبل، وفي "الغريبين": الأظرب جمع ظرب. ويستفاد منه أحكام: استحباب قيام الخطيب في الخطبة يوم الجمعة، والخطبة على المنبر أو على موضع مرتفع، وطلب الدعاء في المهمات من الصلحاء والزهاد، ومواجهة الخطيب إلى الناس، ورفع اليدين في الدعاء، وقد اختلف العلماء فيه، فكرهه مالك في رواية، وأجازه غيره في كل الدعاء، وبعض العلماء جوَّزه في الاستسقاء فقط. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [17].

وقال جماعة من العلماء: السنة في دعاء رفع النبلاء أن يرفع يديه ويجعل ظهرهما إلى السماء، وفي دعاء سؤال شيء وتحصيله يجعل بطنهما إلى السماء، وقد روي أحادث في السنن في رفع اليدين. وفيه: أن الخطبة قبل الصلاة. واستدل به أبو حنيفة على أن الاستسقاء دعاء واستغفار وليس فيه صلاة معينة. ص: حدثنا بَحر بن نصر، قال: قرئ على شعيب بن الليث: أخبرك أبوك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن شريك، فذكر بإسناده نحوه. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عيسى بن حماد، أنا الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله، عن أنس، أنه سمعه يقول: وذكر نحو حديث عبد العزيز، قال: "فرفع رسول الله - عليه السلام - يديه حذاء وجهه وقال: اللهم اسقنا" وساق نحوه. قلت: أخرج أبو داود (¬2) حديث أنس: عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك ويونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس. ثم أخرجه بالطريق المذكور. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ظفر عبد السلام بن مُطَهّرْ، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: "إني لقائمٌ عند المنبر يوم الجمعة، ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فقال بعض أهل المسجد: يا رسول الله - عليه السلام -، حُبِسَ المطر، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 305 رقم 1175). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 403 رقم 1174).

وهلكت المواشي، فادعُ الله يَسْقنا، فرفع يدَيْه وما في السماء من سحاب، فألَّف الله بين السحاب، فَوَبَلَتْنا حتى إن الرجل لَتهمَّه نَفسُه أن يأتي أهله، فمطرنا سبعًا. قال: ورسول الله - عليه السلام - يخطب في الجمعة الثانية إذ قال بعضُ أهل المسجد: يا رسول الله تهدّمت البيوت فادع الله يَرْفعها عنا. قال: فرفع يدَيْه وقال: اللهم حوالَيْنا ولا علينا، فتَقوّر ما فوق رعوسنا منها حتى كأنَّا في إكليل تمطر ما حَوْلنا ولم نُمطَرْ". حدثنا ابن مرزوق وأبو بكرة، قالا: ثنا عبد الله بن بكر، عن حميد، قال: "سُئِلَ أنسٌ - رضي الله عنه -: هل كان النبي - عليه السلام - يرفع يديه؟ قال: قيل له يوم الجمعة: يا رسول الله قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال. قال: فمد يده حتى رأيت بياض إبطيه" ثم ذكر نحو حديث ابن أبي داود. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق أخرى وهي صحيحة: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي ظفر عبد السلام بن مُطهّر بن حسام الأزدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن سليمان بن المغيرة القيسي أبي سعد البصري، عن ثابت البناني، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بنحوه، وزاد: "فألَّف الله بين السحاب وملأتنا حتى رأيت الرجل الشديد تُهِمّه نفسه أن يأتي أهله". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار البصري، وأبي بكرة بكار القاضي، كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 615 رقم 897).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا مروان، عن حميد، قال: سُئِلَ أنس: "هل كان رسول الله - عليه السلام - يرفع يدَيْه إذا دعى؟ فقال: قيل: يا رسول الله، قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال، قال: فرفع يديه حتى نرى بياض إبطيه واستسقى". الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) نحوه. قوله: "إني لقائم" بفتح اللام لأنها للتأكيد. قوله: "يَسْقِنَا" مجزوم؛ لأنه جواب الأمر. قوله: "فوبلتنا" أي: مطرتنا، من وَبل السماء تَبِلُ إذا مطرت وهو من الوابل، وهو المطر، وفي رواية مسلم "ملأتنا" بميم وهمزة، وكذا قيده القاضي التميمي، عن الجياني، وقال القاضي عياض: "وهّلتنا" كذا رويناه بالهاء عن الأسدي، ومعناه: أمطرتنا، قال الأزهري: يقال: هلّ السحاب بالمطر هللًا، والهلل المطر، ويقال: انهلت أيضًا، وقيَّده بعضهم "مَلَتْنا" بالميم مخففة اللام مكان "هلتنا" فإن لم يكن تصحيفًا من هلتنا فلعلّ معناه أوسَعتنا مطرًا وسَقْيًا، أو يكون ملّتنا بتشديد اللام من الملل، ومعناه أكثر ذلك حتى شق علينا وكرهناه، والله أعلم. قوله: "حتى إن الرجل لتهمّه نفسُه أن يأتي أهله" أي يهتم لذلك من شدة المطر ومشقته، يقال همّه وأهمّه، وقيل: هَمَّني: آذاني، وأَهَمَّني: أغمّني. قوله: "فَمُطِرنا سبعًا" أي سبعة أيام، ومُطِرْنا على صيغة المجهول. قوله: "فتقور ما فوق رأسنا" أي تقطع وتفرق فِرَقًا مستديرةً ومنه قوارة الجَيْب. قوله: "في إكليل" بكسر الهمزة، وهو التاج. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 104 رقم 12038).

قوله: "يُمْطَر ما حولنا" على صيغة المجهول، وكذا قوله: "ولم نُمْطر". قوله: "قَحَطَ المطر" بفتح القاف والحاء، وقَحِطَ الناس بفتح القاف وكسر الحاء، ويقال كلاهما في المطر، وحكي قَحُط الناس بضم الحاء، وفي "المطالع": قحِطت السماء وقحَطت وقُحطت إذا لم تمطر. قلت: بكسر الحاء وفتحها، وضم القاف وكسر الحاء، وقال أبو علي: قحِطُ المطر، وقحُط الناس وقحِط الناس والأرض. قلت: بكسر الحاء في الأول والثالث وضمها في الثاني، ويقال: أُقحِطوا على صيغة المجهول، وقحَطوا بفتح الحاء وأقحطوا بزيادة الهمزة. قوله: "وأجدبت الأرض" أي قحطت وغلت الأسعار، من الجَدْب ضد الخصْب. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شَرَحبيل بن السمط قال: "قلنا لكعب بن مرة أو مرة بن كعب: حدِّثنا حديثًا سمعته مِنْ رسول الله - عليه السلام - -لله أبوك- واحذر. قال: دعَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على مُضَر، فأتَيتُه، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد نصرك واستجاب لك، وإن قومك هلكوا فادع الله لهم. فقال: اللهم اسقنا غَيْثا مُغِيثًا مَرِيئًا مَريعًا طبقًا غدَقًا عاجلًا غير رايث نافعًا غير ضارٍّ. قال: فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مُطرِوُا". ش: رجاله كلهم ثقات، وسالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي الكوفي روى له الجماعة، وقال أبو داود: سالم لم يسمع من شرحبيل. وشرحبيل بن السمط بن الأسود أبو السمط الشامي يختلف في صحبته، ذكره عبد الغني في التابعين، وقال: ويقال: له صحبة من النبي - عليه السلام -. روى له الجماعة سوى البخاري.

وكعب بن مرة -وقيل: مرة بن كعب- البهْزي الصحابي، لم يخرِّج له الشيخان شيئًا، وقال ابن أبي حاتم: كعب بن مُرّة البَهْزي له صحبة، سكن الأردن من مدن الشام، ومات بها سنة تسع وخمسين، روى عنه شرحبيل بن السمط. وقال ابن عبد البر: له أحاديث يرويها أهل الكوفة، عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مُرّة، وأهل الشام يَرْوونها عن شرحبيل، عن عمرو ابن عبسة، والله أعلم. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شرحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرة أو مرة بن كعب: "حَدِّثْنا حديثًا سمعتَه من رسول الله - عليه السلام -. قال: سمعتُ رسول الله - عليه السلام - دعَا على مُضَر، فأتيتُه، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد أعطاك واستجاب لك ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "حتى سقوا" موضع "حتى مُطروا". قوله: "غيثًا" أي مطرًا. قوله: "مغيثًا" من الإغاثة وهي الإعانة. قوله: "مريئًا" أي هنيئًا صالحًا كالطعام يمرر، معناه الخلوّ عن كل ما ينُغّصه كالهدم والغرق ونحوهما، ويقال: مرأني الطعام، وأمرأني إذا لم يثقل على المعدة، وانحدر عنها طيبًا، قال الفراء: يقال: هنأني الطعام ومرأني بغير ألف، فإذا أفردوها عن هنأني قالوا: أمرأني. قلت: يحتمل أن يكون هنا بلا همز ومعناه: مِدرارًا، من قولهم: ناقة مَرِي. أي كثيرة اللبن، ولا أُحَقِّقَه روايةً. قوله: "مَريعًا" بفتح الميم وكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها عين مهملة: أي مخصبًا ناجعًا من مَرع الوادي مَراعةً، يقال: مكان مريع أي خصيبُ، ويُروى بضم الميم من أمرع المكان إذا أخصب، ويُرْوى بالباء الموحدة من أربع ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 355 رقم 6233).

الغيث إذا أنبت الربيع، ويروى بالتاء المثناة من فوق أي: يُنبت الله فيه ما ترتع فيه المواشي، ومن كلامهم غيث مُربْع مُرْتِع. قوله: "طبَقًا" بفتح الطاء والباء الموحدة، أي: مالئًا للأرض مغطيًا لها، يقال: غيث طبق أي: عام واسع. قوله: "غَدَقًا" بفتح الغين المعجمة والدال المهملة وهو المطر الكبار القطر، يقال: أَغْدَق المطر يُغْدِقُ إغداقًا فهو مغدق، وفي بعض الروايات "اسقنا غيثًا غدقًا مُغْدِقًا". قوله: "غير رائث" أي: غير آجلٍ من راث يريث إذا أبطأ، قال ابن الأثير: معناه: غير بطيء متأخرٍ. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن سنة الاستسقاء هي الابتهال إلى الله -عز وجل- والتضرع إليه كما في هذه الآثار، وليس في ذلك صلاة، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف في رواية ذكرها صاحب "المحيط". وقال: النوويّ: لم يقل أحد غير أبي حنيفة هذا القول. قلت: هذا ليس بصحيح؛ لأن ابن أبي شيبة روى بسند صحيح (¬1) وقال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: "أنه خرج مع المغيرة بن عبد الله الثقفى يستسقي، قال: فصلى المغيرة، فرجع إبراهيم حيث رآه يُصلّي". وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا. قال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا وكيع، عن عيسى بن حفص بن عاصم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه قال: "خرجنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نَسْتسقي، فما زاد على الاستغفار". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 222 رقم 8345). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 61 رقم 29486).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون منهم أبو يوسف؛ فقالوا: بل السنَّة في الاستسقاء أن يخرج الإمام بالناس إلى المُصلي، ويصلّي بهم هناك ركعتين ويَجْهر فيهما بالقراءة، ثم يخطبُ، ويُحوّلُ رداءه فيَجْعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه إلا أن يكون رداؤه ثقيلًا لا يمكنه قلبه كذلك، أو يكون طيلسانًا فيجعل الشق الأيمن منه على الكتف الأيسر، والشق الأيسر منه على الكتف الأيمن. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا يوسف ومحمّدًا وجماهير أهل العلم، فإنهم قالوا: بل السنة ... إلى آخره. قوله: "هناك" أي في المصلى. قوله: "فيجعل ... " إلى آخره تفسير لتحويل الرداء. قوله: "أو يكون طَيْلَسَانًا" بفتح الطاء واللام، وفي "العباب": الطيلسان بفتح اللام واحد الطيالسة، والهاء في الجمع للعجمة؛ لأنه فارسيّ معرّب. وقال الأصمعي: أصله: قالشان. وقال ابن دُريد: الطيلسان معروف بفتح اللام وكسرها، والفتح أعلى، والجمع: طيالس. وقال غيره: الطيلس: الطيلسان، وقال ابن الأعرابي: الطَلْس -بالفتح-: الطيلسان الأسود، والطِّلس -بالكسر-: الذئب الأمعط. وصفة صلاة الاستسقاء: أن يكبّر في الركعتين كتكبير العيد سَبْعًا في الأولى وخمسًا في الثانية، وهو قول سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وداود والشافعي وأحمد في رواية، وحكي عن ابن عباس؛ وذلك لقول ابن عباس (¬1): "وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد". وروى جعفر بن محمَّد، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء، يكبِّرون فيها سَبعًا وخَمسًا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 445 رقم 558).

وعند مالك والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وأحمد في رواية: يصلي ركعتين كصلاة التطوع. وهو مذهب أبي يوسف ومحمد. ولا يُسنّ لها أذان ولا إقامة، ولا نعلم فيه خلافًا، وقالت الحنابلة: يُنادى لها: الصلاة جامعة، كقولهم في صلاة العيد والكسوف. وليس لها وقت معيّن إلا أنها لا تقام في أوقات النهي بغير خلاف. وقال ابن قدامة: والأولى فعلها في وقت صلاة العيد لما روت عائشة - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج حين بدا حاجب الشمس" رواه أبو داود (¬1). وقال ابن عبد البر: الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء إلا أبا بكر بن حزم، وهذا على سبيل الاختيار لا أنه يتعين فعلها فيه. والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة، فإن قرأ فيها بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فحسن وبذلك ورد الأثر. وقال ابن قدامة: والمشهور أن فيها خطبة بعد الصلاة، وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن. قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء لقول أبي هريرة: "فصلى ركعتين ثم خطبنا". والرواية الثائية: أنه يخطب قبل الصلاة، روي ذلك عن عمر، وابن الزبير، وأبان ابن عثمان، وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وذهب إليه الليث بن سَعْد وابن المنذر. والرواية الثالثة: أنه غير بين الخطبة قبل الصلاة وبعدها لورود الأخبار بكلا الأمرين. والرابعة: أنه لا يخطب، وإنما يدعو ويتضرع. وأما تحويل الرداء فإن صفته ما ذكره الطحاوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 304 رقم 1173).

وقال ابن قدامة: وصفته بأن يجعل ما على اليمين على اليسار وما على اليسار على اليمين. روي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز، وهشام بن إسماعيل، وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، ومالك وكان الشافعي يقول به ثم رجع فقال: يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، ويجعل ما على شقه الأيمن على الأيسر. وقال أحمد: يجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين. قال ابن قدامة: وشمتحب تحويل الرداء للإمام والمأموم في قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يُسنّ لأنه دعاء، فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية. وحكي عن سعيد بن المسيب، وعروة، والثوري: أن تحويل الرداء مختص بالإمام دون المأموم، وهو قول الليث وأبي يوسف ومحمد بن الحسن. وفي "التلويح شرح البخاري": واختلف قول مالك متى يستقبل القبلة ويحول رداءه، ففي رواية ابن القاسم: "إذا فرغ من الخطبة"، وروي عنه: "في أثناء الخطبة"، وعنه أيضًا: "في آخر الخطبة الثانية". وقال ابن بَزيَزة عن مالك: يحول قبل استقبال القبلة. وقال القرطبي: وأنكره أبو حنيفة، وضعفه ابن سلام من قدماء علماء الأندلس، وعند غيرهما هو سنة يفعله الإمام والمأمومون. وقال الليث، وأبو يوسف، ومحمد، وابن عبد الحكم وابن وهب: يقلب الإِمام وحده وليس ذلك على من خلفه. وعن مالك: إذا حوّل الإِمام حوّل الناس قعودًا. وقال ابن الماجشون: ليس على النساء تحويل. وقيل: يحول الناسُ قيامًا كالإمام. وقال المهلب: قلبه على جهة التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه.

وقال ابن بزيزة: ذكر أهل الآثار أن رداءه - عليه السلام - كان طوله أربعة أذرع وشبر، في عرض ذراعين وشبر. وقال الواقدي: كان طوله ستة أذرع في ثلاثة وشبر وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعن وشبر، وقال ابن العربي: قال محمَّد بن علي: حوّل رداءه ليتحول القحط. قال القاضي أبو بكر: هذه أمارة بينه وبين ربه لا على طريق الفأل، فإن من شرط الفأل أن لا يكون يقصد، وإنما قيل له: حوّل رداءك ليتحول حالك. فإن قيل: لعل رداءه - عليه السلام - سقط فردّه، وكان ذلك اتفاقًا. قيل له: الراوي المشاهِد للحال أعرف، وقد قرنه بالصلاة والخطبة والدعاء، فدل أنه من السنة، والله أعلم. ص: وقالوا: ما ذكر في هله الآثار من فعل النبي - عليه السلام - وسؤاله ربّه فهو جائز أيضًا يَسْأل الله ذلك، فليس فيه دفع أن يكون من سنة الإمام إذا أراد أن يستسقي بالناس أن يفعل ما ذكرنا. فنظرنا فيما ذكروا من ذلك، هل نجد له من الآثار دليلًا؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: نا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - خرج إلى المصلى فاستسقى، فقلب رداءه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا هُشيْم، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - استسقى فحوّل رداءه، واستقبل القبلة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عباد بن تميم، أن عمّه -وكان من أصحاب النبي - عليه السلام -- أخبره: "أن النبي - عليه السلام - خرج بالناس إلى المصلى يستسقي لهم، فقام فدعا الله -عز وجل- قائمًا ثم توجه قِبَل القبلة وحول رداءه فسُقوا".

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا المَسْعوديُّ، عن أبي بكر ابن محمَّد بن عمرو بن حَزْم، عن عبّاد بن تميم، عن عمه قال: "خرج النبي - عليه السلام - فاستسقى فقلب رداءه، قال: قلتُ: جَعل الأعلى على الأسفل والأسفل على الأعلى؟ قال: لا، بل جعل الأيسر على الأيمن والأيمن على الأيسر". حدثنا محمَّد بن النعمان السَّقَطيُّ، قال: ثنا الحُميديُّ، قال: ثنا الدراورديُّ، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - يَسْتَسْقِي وعليه خمَيصَةُ سوداء، فأراد النبي - عليه السلام - أن يأخذها بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه أن يحولها قلبها على عاتقِه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن رسول الله - عليه السلام - استسقى فقلب رداءه". ففي هذه الآثار قلبه لردائه، وصفة قلب الرداء كيف كان وأنه إنما جعل ما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه لما ثقل عليه أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فكذلك نقول: ما أمكن أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه فقلبه كذلك هو، وما لا يمكن ذلك فيه حُوِّل لجعل الأيمن منه على الأيسر والأيسر منه أيمن. فقد زاد في هذه الآثار على ما في الآثار الأُوَل، فينبغي أن يُسْتعمل ذلك ولا يُترك. ش: أي قال الآخرون المذكورون ما ذكر في هذه الآثار، وأراد بها الأحاديث التي رويت عن أنس وكعب بن مرة - رضي الله عنها -، بيانه أنه لا يلزم من دعاء النبي - عليه السلام - في خطبته في الأحاديث المذكورة واقتصاره عليه؛ منع الصلاة بالناس ركعتين، ثم الخطبة وتحويل الرداء، ولكن لما لم يثبت ذلك بمنع الملازمة المذكورة، أشار إلى ما روي فيه من الأحاديث التي تدل على ما ذكروا من الصلاة في الاستسقاء والخطبة وتحويل الرداء، منها: حديث عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المدني الصحابي، فإن فيه ذكر قلب الرداء وصفته، وزاد بذلك على ما في الأحاديث الأَوُل المذكورة في أول الباب، فينبغي أن يستعمل ذلك ولا يترك.

وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، عن عباد بن تميم بن غزيّة الأنصاري المدني ابن أخي عبد الله بن زيد، عن عبد الله بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه سمع عبّاد بن تميم يقول: سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول: "خرج رسول الله - عليه السلام - إلى المصلى فاستسقى، وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة". وأخرجه البخاري (¬2): عن إسحاق، عن وهب، عن شعبة، عن محمَّد بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - استسقى فقلب رداءه". وأخرجه (¬3) أيضًا عن أبي نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه قال: "خرج النبي - عليه السلام - يستسقى وحوّل رداءه". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الله بن أبي بكر ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا محمَّد بن الصباح، أنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو، عن عباد بن تميم، عن عمه، عن النبي - عليه السلام - بمثله. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 611 رقم 894). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 343 رقم 965). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 343 رقم 966). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 403 رقم 1267).

وأخرجه البخاري (¬1)، وقال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عباد بن تميم، أن عمه -وكان من أصحاب النبي - عليه السلام -- أخبره: "أن النبي - عليه السلام - خرج بالناس ليَسْتسقي لهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قِبَل القبلة وحوّل رداءه، فسقوا". وأخرجه الطبراني في "الكبير": عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، ثنا أبو اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري ... إلى آخره. الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغُداني، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المَسْعودي الكوفي، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد، ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، سمع عباد بن تميم، عن عمه قال: "خرج النبي - عليه السلام - إلى المُصلّى يَسْتسقي، واستقبل القبلة، فصلَّى ركعتين، وقلب رداءه". قال سفيان: فأخبرني المَسْعودي، عن أبي بكر قال: "جعل اليمين على الشمال". الخامس: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة بن عبد الله بن حميد الحُمَيدي المكي، عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تميم ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، نا عبد العزيز، عن عمارة بن غزّية، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد قال: "استسقى رسول الله - عليه السلام - وعليه خميصة له سوداء فأراد رسول الله - عليه السلام - أن يأخذها بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 347 رقم 977). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 348 رقم 981). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 302 رقم 1164).

قوله: "يستسقي" في محل النصب على الحال من الأحوال المقدرة، وكذلك قوله: "وعليه خميصة" جملة حالية، والخميصة بفتح الخاء المعجمة ثوب خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصةً إلا أن تكون سوداء مُعلَّمةً، وجمعها الخمائصُ. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسحاق، قال: ثنا وهب، قال: أنا شعبة، عن محمَّد ابن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - استسقى فقلب رداءه". ص: وقد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسَد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة من بني مالك بن حسْل، قال: حدثني أبي قال: "أرسلني الوليد بن عقبة أسألُ له عن صلاة النبي - عليه السلام - في الاستسقاء، فأتيتُ ابن عباس - رضي الله عنهما - فقلت: إنا تمارَيْنا في المسجد في صلاة النبي - عليه السلام - في الاستسقاء. قال: لا، ولكن أَرْسلك ابن أخيكم الوليد بن عقبة -وهو أمير المدينة- ولو أنه أرسل وسأل ما كان بذلك بأس، ثم قال: قال ابن عباس: خرج رسول الله - عليه السلام - مُتبذلًا متواضعًا متضرعًا حتى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبر، فصلّى ركعتين كما يُصلِّي في العيدين". فقوله: "كما يُصلِّي في العيدين" يحتمل أنه جهر فيهما كما يجهر في العيدين. حدثنا فهد، قال: ثنا عبيد بن إسحاق العطار، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل ... فذكر بإسناده مثله، وزاد: "فصلّى ركعتين ونحن خلفه يَجْهر فيهما بالقراءة، ولم يؤذن ولم يقم"، ولم يقل: "مثل صلاة العيدين". فدل ذلك أن قوله: "مثل صلاة العيدين" في الحديث الأول إنما أراد به هذا المعنى: أنه صلى بلا أذان ولا إقامة كما يُفعل في العيدين. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 343 رقم 965).

حدثنا فهدٌ قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه ... فذكر مثل حديث ربيع، عن أسيد. "قال سفيان: فقلت للشيخ: الخطبة قبل الصلاة أو بعدها؟ قال: لا أَدْري". ففي هذا الحديث ذكر الصلاة والجهر فيها بالقراءة، ودلّ جهره فيها بالقراءة أنها كصلاة العيدين التي تُفْعَل نهارًا في وقتٍ خاصٍّ فحكمها الجهرُ، وكذلك أيضًا صلاة الجمعة هي من صلاة النهار، ولكنها مفعولة في وقت خاصٍ، فحكمها الجهر، فثبت بذلك أن كذلك حكم الصلوات التي تُصلّى بالنهار لا في سائر الأيام ولكن لعارض، ولا في وقت خاصٍّ فحكمها المخافتة؛ فثبت بما ذكرنا أن صلاة الاستسقاء سنة قائمة لا ينبغي تركها. ش: لما ذكر الأحاديث التي فيها بيان خروج النبي - عليه السلام - إلى المصلى واستسقائه وتقليب ردائه؛ شرع يبيِّن الأحاديث التي فيها بيان كيفية الصلاة فيه. فأخرج حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أولًا: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وراوي أمهات الكتب عنه، عن أسد بن موسى -الذي يقال له: أسد السنة- عن حاتم بن إسماعيل المدني أبي إسماعيل روى له الجماعة، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة المدني، قال أبو حاتم: شيخ. روي له الأربعة. عن أبيه إسحاق بن عبد الله المدني- قال أبو زرعة: ثقة. روى له الأربعة. عن الوليد بن عقبة -بالقاف- والصواب: ابن عتبة بالتاء المثناة من فوق عوض القاف. كذا قال أبو داود (¬1). وأخرجه عن النفيلي، وعن عثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 372 رقم 1165).

ففي رواية النفيلي: عتبة بالتاء، وفي رواية عثمان: عقبة بالقاف. فقال أبو داود عقيب روايته: والصواب: ابن عتبة، وقول عثمان: بالقاف. خطأ، وهو الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان والي المدينة لعمّه معاوية بن أبي سفيان ولابن عمه يزيد وكان جوادًا حليمًا. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) نحو رواية الطحاوي: من حديث إبراهيم بن موسى، نا حاتم بن إسماعيل، ثنا هشام بن إسحاق، ثنا أبي قال: "أرسلني الوليد ابن عقبة أمير المدينة إلى ابن عباس، أسأله عن صلاة النبي - عليه السلام - في الاستسقاء، فأتيته، فقلت: إنا تمارينا في الاستسقاء. فقال: لا، ولكن أرسلك ابن أخيكم، ولو أنه أرسل فسأل ما كان بذلك بأس، خرج رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا: ثنا قتيبة، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن إسحاق، عن أبيه قال: "أرسلني الوليد بن عقبة وهو أمير المدينة إلى ابن عباس أسأله عن استسقاء رسول الله - عليه السلام - فأتيتهُ فقال: إن رسول الله - عليه السلام - خرج متبذلًا متواضعًا متضرعًا حتى أتى المصلى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يُصلي في العيد". قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمود بن غيلان، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه قال: "أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الاستسقاء، فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ خرج رسول الله - عليه السلام - متواضعًا متبذلًا متخشعًا متضرعًا، فصل ركعتين كما يُصلي في العيدين، ولم يخطب خطبتكم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 347 رقم 6195). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 445 رقم 558). (¬3) "المجتبى" (3/ 163 رقم 1521).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد ومحمد بن إسماعيل، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن هشام بن إسحاق ... إلى آخره نحو رواية النسائي سواء. قوله: "إنا تمارينا" من التماري وهو المجادلة على مذهب الشك والريبة، وكذلك المماراة، ويقال للمناظرة: مماراة؛ لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع. قوله: "متبذلًا" حال من الضمير الذي في "خرج"، من التبذل وهو ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة؛ على جهة التواضع. قوله: "متواضعًا متضرعًا" حالان أيضًا إما من المتداخلة أو من المترادفة. واستدل به الشافعي على أنه يُكبّر كما يكبّر في العيدين؛ لأنه قال: "كما يُصلى في العيدين". والجواب عنه: أن المراد من التشبيه في العدد والجهر بالقراءة، وفي كون الركعتين قبل الخطبة. فإن قيل: قد روي الحكم في "المستدرك" (¬2) والدارقطني (¬3) ثم البيهقي (¬4): عن محمَّد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن طلحة قال: "أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله - عليه السلام - قلب ردائه، فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه، وصلى ركعتين كبّر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وكبّر فيها خمس تكبيرات". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 403 رقم 1266). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 473 رقم 1266). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 66 رقم 4). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 348 رقم 6198).

قال الحكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: الجواب عنه من وجهين: الأول: أنه ضعيف؛ فإن محمَّد بن عبد العزيز هذا قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس له حديث مستقيم. وقال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": يروي عن الثقات المعضلات ويتفرد بالطامات عن الأثبات حتى سقط الاحتجاج به. وقال ابن قطان في كتابه: هو أحد ثلاثة إخوة كلهم ضعفاء: محمَّد، وعبد الله، وعمران، بنو عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، وأبوهم عبد العزيز مجهول الحال، فاعتل الحديث بهما. والثاني: أنه مُعارَض بحديث رواه الطبراني في "الأوسط" (¬1): نا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر، نا محمَّد بن فليح، حدثني عبد الله بن حسين بن عطاء، عن داود بن بكر بن أبي الفرات، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - استسقى، فخطب قبل الصلاة، واستقبل القبلة، وحوّل رداءه، ثم نزل، فصل ركعتين، لم يكبر فيهما إلا تكبيرة". ويستفاد منه أحكام: استحباب خروج المستسقي إلى الصحراء على وجه التبذل والخضوع والتضرع؛ لأن هذه الحالة تقتضي هذه الأشياء، وهي الملائمة لتلك الحالة، واستحباب الدعاء والتضرع والتكبير. وفيه: دلالة على أن صلاته ركعتان كصلاة العيد يجهر بالقراءة فيهما. وأنها بلا أذان ولا إقامة نحوها. ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (9/ 51 رقم 9108).

قوله: "كما يُصلّي في العيدين يحتمل أنه جهر فيهما ... " إلى آخره: إشارة إلى بيان وجه هذا التشبيه أي: فقدل ابن عباس: "كما يصلي في العيدين" يحتمل أنه جهر فيهما بالقراءة كما كان يجهر في صلاة العيدين. واستدل على هذا بما أخرجه عن فهد بن سليمان، عن عبيد بن إسحاق العطار، ضعفه يحيى بن معين والدارقطني، ورضيه أبو حاتم. عن حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن إسحاق، عن أبيه ... إلى آخره نحو الحديث المذكور، وزاد في روايته هذه: "فصلى ركعتين ونحن خلفه ... " إلى آخره. فدلّ هذا الحديث أن قوله في الحديث الأول: "مثل صلاة العيدين" معناه: أنه صلى بلا أذان ولا إقامة كما يفعل في العيدين. ثم أخرج عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن هشام بن إسحاق، عن أبيه مثل حديث ربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى. قال سفيان: فقلت للشيخ ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: "أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الاستسقاء، فقال ابن عباس: خرج رسول الله - عليه السلام - متواضعًا متضرعًا متذللًا، فخطب، ولم يخطب كخطبتكم هذه، فدعا وصلى ركعتين، فقلت له: أقبل الخطبة صلّى أم بعدها؟ فقال: لا أدري" انتهى. فقد ذكر في هذا الحديث الصلاة والجهر فيها بالقراءة، فجهره - عليه السلام - بالقراءة فيها قد دلّ على أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين التي تفعل في النهار في وقت مخصوص، فحكمها الجهرُ كما أن صلاة الجمعة من صلاة النهار أنها تفعل في وقت مخصوص، فيكون حكمها الجهر. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 314 رقم 36428).

فثبت بذلك أمور ثلاثة: الأول: أن كل صلاة تُفعل في نهار لأجل عارض من العوارض أو في يوم خاص؛ فحكمها الجهر بالقراءة فيها. الثاني: أن كل صلاة تفعل في سائر الأيام لا لعارض ولا في وقت خاص؛ فحكمها المخافتة بالقراءة فيها. الثالث: أن صلاة الاستسقاء سنة قائمة لا ينبغي تركها، فافهم. ص: وقد روي ذلك عن النبي - عليه السلام - أيضًا من غير وجه. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا هارون بن سعيدٍ بن الهيثم الأيلي، قال: ثنا خالد بن نزار، عن القاسم بن مبرور، عن يونس بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "شكى الناس إلى النبي - عليه السلام - قُحُوطَ المطر، فأمرَ النبي - عليه السلام - بمنبر فوضع في المُصلّى، ووعد الناسَ يخرجون يومًا، قالت: عائشة - رضي الله عنها -: وخرج النبي - عليه السلام - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنكم شكوتُمْ إليّ جَدْبَ جَنابكم واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله -عز وجل- أن تَدْعوه ووعَدكم أن يَسْتجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مَلِك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعلُ ما يُريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغَيْث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغًا إلى حين. ثم رفع يَديْه، فلم يزل في الرفع حتى رأينا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلَّب -أو حَوّل- رداءه وهو رافع يَديْه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلَّى ركعتين، وأنْشأ الله سحابةً، فَرَعَدَتْ، وبَرَقَتْ، وأمطرَتْ بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سألت السيول، فلما رأى لثق الثياب على النّاسِ وتَسَرُّعَهم إلى الكنِّ، ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أن الهَ على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يُحدِّثُ، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "خرج النبي - عليه السلام - يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فصَلَّى بنَا ركعتين بغير أذان ولا إقامة. قال: ثم خطبنا ودعا الله، وحوّل وجهه نحو القبلة صرَفع يديه، وقلَب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن". حدثنا محمد بن النعمان السقطي، قال: ثنا الحُمَيدي، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك وخالد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه وكان من أصحاب النبي - عليه السلام -: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يومًا خرَج يَسْتَسقِي، فحوّل إلى النَّاسِ ظهرَه واسْتَقبلَ القِبلة يَدعُو، ثم حوّل رداءه، ثم صَلَّى ركعتَيْن يَقرا فيهما وجَهرَ". حدثنا يونس، قال: أبنا ابن وهب، قال: أَخْبرني ابن أبي ذئب ... ثم ذكر مثله بإسناده، غير أنه لم يذكر الجَهْرَ. ففي هذه الآثار ذكر الخطبة مع ذكر الصلاة، فثبت بذلك أن في الاستسقاء خطبةً غير أنه قد اختلف في خطبة النبي - عليه السلام - متى كانت؟ ففي حديث عائشة، وعبد الله بن زَيْدٍ - رضي الله عنهما - أنه خطب قبل الصلاة، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه خَطَبَ بعد الصلاة، فنظرنا في ذلك فوجدنا الجمعة فيها خطبة، وهي قبل الصلاة، ورأينا العيدين فيهما الخطبة، وهي بعد الصلاة كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَفْعل، فأردنا أن ننظر في خطبة الاستسقاء بأي الخطبتين هي أشبه فنعطفَ حُكمَها على حكمها؟ فرأينا خطبة الجمعة فرضًا وصلاة الجمعة بها مُضمّنة لا تجزئ إلا بإصابتها، ورأينا خطبة العيدين ليست كذلك؛ لأن صلاة العيدين تجزئ وإن لم يكن معها خطبة، ثم رأينا صلاة الاستسقاء تجزئ أيضًا وإن لم يُخطَبْ بعدها، ألا ترى أن إمامًا لو صلى بالناس في الاستسقاء ولم يخطب كانت صلاته مجزئة غير أنه قد

أساء في تركه الخطبة، فكانت بخطبة العيدين أشبه منها بحكم خطبة الجمعة، فالنظر على ذلك أن يكون موضعها من صلاة الاستسقاء مثل موضعها من صلاة العيدين، فدلَّ ذلك أنها بعد الصلاة لا قبلها، وهذا مذهب أبي يوسف -رحمه الله-. ش: أي قد روي الاستسقاء عن النبي - عليه السلام - أيضًا من غير وجه واحد، أراد أنه روي على وجوه متعددة، ولما كان المذكور في الرواية السابقة عدم الخطبة؛ شرع يذكر ها هنا أحاديث تُصرِّحُ بأنه - عليه السلام - خطبَ فيه، فثبت بذلك أن في الاستسقاء خطبة، ولكن اختُلف في الروايات في وقت الخطبة، ففي حديث عائشة وعبد الله ابن زيد الأنصاري أنه خطب قبل الصلاة، وفي حديث أبي هريرة أنه خطب بعد الصلاة، وتعلق بكل منهما قوم، فذهب أبان بن عثمان، وهشام بن إسماعيل، وأبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، والليث بن سعد، وابن المنذر إلى حديث عائشة وعبد الله بن زيد، ويُروى ذلك عن عمر وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -. وذهب جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم إلى أنها بعد الصلاة، وتعلقوا بحديث أبي هريرة، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، وإليه أشار الطحاوي بقوله: وهذا مذهب أبي يوسف ولم يذكر محمدًا معه، وفي غالب فروع الحنفية محمدٌ مذكور مع أبي يوسف، ولكن المرجع إلى قول الطحاوي، فإنه أعلم الناس بمذاهب العلماء. ثم إن الطحاوي قد رجَّح قَولَ مَنْ يقول بأنها بعد الصلاة بوجه النظر والقياس، وهو أن خطبة الاستسقاء أشبه بخطبة العيدين من خطبة الجمعة؛ لأن الخطبة في العيدين سنة حتى إنها لو تُركت لم تَضُرّ الصلاة، فكذلك خطبة الاستسقاء، حتى إن الإِمام إذا صلى صلاة الاستسقاء من غير الخطبة جاز ولكنه أساء لتركه السنة، بخلاف صلاة الجمعة، فإن الخطبة فيها فرض لأنها إنما شطرت لمكان الخطبة، حتى لو تركها لم تصح صلاة الجمعة، وهو معنى قوله: "وصلاة الجمعة بها مُضمّنَة" بفتح الميم الثانية "لا تجزئ" أي الجمعة "إلا بإصابتها" أي بإصابة الخطبة. هدًا ما ذكره. ولو قيل بأنه

مخيَّر بين أن يخطب قبل الصلاة وبين أن يخطب بعدها فله وجه، كما روي ذلك عن أحمد بن حنبل -رحمه الله-؛ لأن بكل واحد من ذلك وردت السنة. أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن هارون بن سعيد بن الهيثم بن محمَّد بن الهيثم بن فيروز السَّعْدي أبي جعفر الأيلي شيخ مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن نزاربن المغيرة أبي يزيد الأيلي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي، عن القاسم بن مبرور الأيلي أحد الفقهاء روى له أبو داود والنسائي، عن يونس بن يزيد الأيلي روى له الجماعة، عن هشام بن عروة روى له الجماعة، عن أبيه عروة بن الزبير روى له الجماعة، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا هارون بن سعيد الأيلي، نا خالد بن نزار ... إلي آخره نحوه، غير أنه ليس في لفظه: "وأثنى عليه"، ولا قوله: "فلما رأى لثق الثياب على الناس"، وإنما لفظه: "فلما رأى سرعتهم إلى الكِنّ"، وكذلك لفظه: "جَدْبَ دياركم" عوض قوله: "جنابكم". ثم قال أبو داود: هذا حديث إسناده جيِّد، أهل المدينة يقرءون "مَلِكْ يوم الدين"، وإن هذا الحديث حجة لهم. قلت: إنما قال إسناده جيد وأراد به أنه صحيح؛ لأن رواته ثقات، ولهذا قال الحاكم في "مستدركه" بعد أن أخرجه (¬2): حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬3): في النوع الثاني عشر من القسم الخامس، وقال: ثنا أحمد بن يحيى بن زهير، قال: ثنا طاهر بن خالد بن نزار الأيلي، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 304 رقم 1173). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 476 رقم 1225). (¬3) "صحيح ابن حبان" (3/ 271 رقم 991).

أبي، قال: ثنا القاسم بن مبرور، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "شكا الناسُ إلى رسول الله - عليه السلام - قحوط المطر ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "قحوط المطر" أي: حبسه وإقلاعه، والقحط: الجدْب. قوله: "حين بدا حاجب الشمس" أي: حرفها الأعلى من قَرْنَيْها، وحواجبها: نواحيها، وقيل: سُمي بذلك لأنه أول ما يبدو منها كحاجب الشمس، وعلى هذا يختص الحاجب بالحرف الأعلى البادئ أولًا، ولا تُسمى جميع نواحيها حواجب. قوله: "جَدْب جَنَابكم" بفتح الجيم والنون، وبعد الألف باء موحدة أي: جَدْب ناحيتكم، والجناب: الناحية ومنه حديث الشعبي: "أجْدَبَ بنا الجناب". قوله: "واستئخار المطر" أي: تأخره، من استأخر استئخارًا. قوله: "عن إبَّان زمانه" بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف نون أي: وقت زمانه، والنون أصلية، وقيل: هي زائدة من أبَّ الشيء إذا تهيأ للذهاب. قوله: "عنكم" متعلق بقوله: "واستئخار المطر". قوله: "ووعدكم أن يستجيب لكم" هو قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1). قوله: "مَلِك يوم الدين" بقصر الألف، وهي قراءة أهل المدينة. قوله: "الغيث" أي: المطر. قوله: "قوة" أراد بها المطر النافع؛ لأنه سبب لنبات الأرزاق، والأرزاق سبب لقوة بني آدم. قوله: "وبلاغًا إلى حين" أراد به المطر الكافي إلى وقت انقطاع الحاجة والاستغناء عنه. ¬

_ (¬1) سورة غافر، آية: [60].

قوله: "فرعدت ويرقت" رعدت السماء وبرقت، وأرعدت وأبرقت لغتان، ومعنى رعدت: صوّتت، وأسند صوت الرعد إلى السحابة مجازّا باعتبار كونه مجاوزًا لها، والرعدُ ملك يزجر السحاب، وزجره تسبيحه، قال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} (¬1) ومعنى برقت: خرج منها برق، والبرق للرعد أيضًا، قال الشافعي: أخبرنا الثقة أن مجاهدًا قال: الرعد ملك والبرق أجنحته. قوله: "ثم أمطرت" هكدًا هو بالألف مطرت وأمطرت لغتان، ولا التفات إلى قول من قال: لا يقال: أمطر بالألف إلا في العذاب. قوله: "لثق الثياب" أي: بلل الثياب، يقال: لثقَ الطائر إذا ابتَلّ ريشُه من باب فعل يفعل بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل، ويقال للماء والطين لثق بفتحتين. قوله: "إلى الكِنُّ" بكسر الكاف وتشديد النون، وهو ما يَردُّ الحرَّ والبرد من الأبنية والمساكن، وقد كننتُه كنّه كَنَّا بفتح الكاف، والكِنُّ بالكسر: الاسم. قوله: "ضحك"، وضحكه - عليه السلام - تعجبًا منهم حيث اشتكوا أولًا من عدم المطر، فلما سُقوا هربوا طالبين الكنِّ. قوله: "حتى بدت نواجذه" أي حتى ظهرت أنيابه وهي بالذال المعجمة، ويقال: النواجذ: الضواحك وهي التي تبدو عند الضحك، وقيل: الأضراس والأنياب والأشهر أنها أقصى الأسنان وهي أضراس العقل، ولكن المراد ها هنا الأضراس والأنياب كذا قال في "المطالع": وفي الحديث "عضوا عليها بالنواجذ" (¬2) أي: بالأنياب. قوله: "أشهد أن الله على كل شيء قدير" استعظام منه لقدرة الله تعالى حيث أنزل الغيث حتى سالت السيول بعد ما كانت الأرض جدباء. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، آية: [13]. (¬2) رواه أبو داود (2/ 610 رقم 467)، والترمذي (5/ 44 رقم 2676)، وابن ماجه (1/ 15 رقم 42) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -.

قوله: "وأني عبد الله" اعتراف بالعبودية وإظهار للتذلّل والخضوع. قوله: "ورسوله" إظهار بأن قبول دعائه في ساعته لأجل أنه رسول الله - عليه السلام - وأنه مؤيد من عند الله تعالى. ويستفاد منه أحكام وهي: أن الإِمام الأعظم يخرج بالناس إلى المصلى في زمن القحط ويستسقي، ويخرج معهم وكبيرهم الذي اشتهر بينهم بالزهد والورع؛ لأن من هذه صفته يكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وأن تعيين اليوم ليس بشرط، وأنهم يخرجون بالنهار، وأن يخطب لهم الإِمام على المنبر أو على موضع مرتفع، وأن يكون وجه الإِمام وقت الدعاء إلى الجماعة، وأن الخطبة قبل الصلاة وقد ذكرنا وجهه، وأن ذكر الغيث في الدعاء مستحب، وأن ترفع الأيدي فيه غاية الرفع، وأن يحول الإِمام ظهره إلى الناس بعد الدعاء، ويقلب رداءه، وأن يصلي بهم ركعتين، وأن الضحك إلى بدوّ النواجذ جائز. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري روى له الجماعة، عن أبيه جرير بن حازم بن زيد البصري روى له الجماعة، عن النعمان بن راشد الجزري، عن أحمد: مضطرب الحديث. وعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري روى له الجماعة، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أحمد بن الأزهر والحسن بن أبي الربيع، قالا: ثنا وهب بن جرير، نا أبي، قال: سمعت النعمان يحدث، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 403 رقم 1268).

فهذا يدل كل أن في الاستسقاء صلاة، وهي ركعتان بلا أذان ولا إقامة، وأن الخطبة بعد الصلاة. وأما حديث عبد الله بن زيد الأنصاري فأخرجه من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن محمد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الحميدي شيخ البخاري، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار المدني روى له الجماعة، وعن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن سلمة المكي قال أبو حاتم: ذاهب الحديث. ولا يضر ذلك؛ لأنه ذكر متابعًا. وكلاهما يرويان عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عباد بن تميم بن غزية الأنصاري روى له الجماعة، عن عمه عبد الله بن زيد المازني الأنصاري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، في الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قال: "شهدت النبي - عليه السلام - خرج يَسْتسقي، فاستقبل القبلة، وولّى ظهره الناس، وحول رداءه، وصلى ركعتين وجهر بالقراءة". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن محمَّد بن ثابت المروزي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج بالناس يستسقي، فصلّى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما، وحوّل رداءه واستسقى، واستقبل القبلة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 221 رقم 8340). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 301 رقم 1161).

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن محمَّد بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه ... إلى آخره، فذكر الحديث مثله غير أنه لم يذكر فيه الجهر. وأخرجه النسائي (¬1): وقال: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع: عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، قال: أخبرني عباد بن تميم، أنه سمع عمه -وكان من أصحاب رسول الله - عليه السلام -- يقول: "خرج رسول الله - عليه السلام - يومًا يستسقي، فحول إلى الناس ظهره يَدْعو الله ويستقبل القِبْلة وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين - قال ابن أبي ذئب في الحديث:- وقرأ فيهما". ص: وقد روي في ذلك عَمَّنْ بعد النبي - عليه السلام - أنه صلى في الاستسقاء وجهر بالقراءة. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غَسّان، قال: ثا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق قال: "خرج عبد الله بن يزيد يَسْتسقي، وكان قد رأى النبي - عليه السلام -، قال: وخرج فيمَنْ كان معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم -قال أبو إسحاق: وأنا معهم يومئذٍ- فقام قائمًا على راحلته على غير مِنْبر، فاستسقى واستغفر، وصلَّى ركعتين ونحن خلفه، فجهر بالقراءة، ولم يؤذن يومئذٍ ولم يقم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجَعْد، قال: ثثا زهير ... فذكر مثله بإسناده، غير أنه لم يذكر في حديثه أن عبد الله بن يزيد قد كان رأى النبي - عليه السلام -. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: "خرج عبد الله بن يزيد يستسقي بالكوفة فصلَّى ركعتين". ش: أي قد روي في الاستسقاء عمَّنْ بعد النبي - عليه السلام - من الصحابة أنه صلى في الاستسقاء وجهر بالقراءة في الصلاة، وهم: عبد الله بن يزيد الخِطْمي، شهد ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 163 رقم 1519).

الحديبية مع رسول الله - عليه السلام - وهو ابن سبع عشرة سنةً، وشهد الجمل وصفين والنهروان مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان أميرًا على الكوفة. والبراء بن عازب وزيد بن أرقم؛ فإنهم صلوا صلاة الاستسقاء ركعتين بجهر القراءة، وكان الإِمام هو عبد الله بن يزيد الخطمي. وأخرج أثره من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسّان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق قال: "خرجنا مع عبد الله بن يزيد الأنصاري نستسقي، فصلى ركعتين وخلفه زيد بن أرقم". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلَّسي، عن علي بن الجَعْد بن عبيد الجوهري البغدادي أحد أصحاب أبي حنيفة، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق السبيعي ... إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شعبة، عن أبي إسحاق: "أن عبد الله ابن يزيد الأنصاري خرج يستسقي، فصلى ركعتين، ثم استسْقى، فلقيت يومئذٍ زيد بن أوقم وليس بيني وبينه غير رجل، قلت: كم غزا رسول الله - عليه السلام-؟ قال: تسع عشرة. قلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة. قلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العُسيرة". انتهى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 221 رقم 8338). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 348 رقم 6200).

ومنهم: أبو موسى الأشعري، قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حارثة بن مضرب العَبدي قال: "خرجنا مع أبي موسى نستسقي فصلَّى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة". ومنهم: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، استسقى عام الرمادة، وكذلك معاوية استسقى، وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 221 رقم 8337).

ص: باب: صلاة: الكسوف كيف هي؟

ص: باب: صلاة: الكسوف كيف هي؟ ش: أي هذا باب في بيان صلاة الكسوف كيف صفتها؟ روى جماعة أن الكسوف يكون في الشمس والقمر، وروى جماعة فيهما بالخاء، وروى جماعة في الشمس بالكاف وفي القمر بالخاء، والكثير في اللغة -وهو اختيار الفراء-: أن يكون الكسوف للشمس والخسوف للقمر، فيقال: كسفت الشمس وكسفها الله وانكسفت وخسف القمر وخسفه الله، وانخسف وذكر ثعلب في "الفصيح" انكسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلام. وفي "التهذيب" لأبي منصور: خسف القمر وخسفت الشمس إذا ذهب ضوؤها. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: خسف القمر وكسف واحد: ذهب ضوؤه. وقيل: الكسوف أن يكسف ببعضها، والخسوف أن يخسف بكلها، قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (¬1). وقال شِمْرٌ: الكسوف في الوجه الصفرة والتغير. وقال ابن حبيب في "شرح الموطأ": الكسوف تغيّر اللون، والخسوف انخسافهما، وكذلك تقول في عين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين وذهب نورها وضياؤها. وفي "نوادر اليزيدي" و"الغريبين": انسكفت الشمس، وأنكر ذلك القزاز والجوهري، قال القزاز: كسفت الشمس والقمر تكسف كسوفًا فهي كاسفة وكُسِفت فهي مكسوفة وقوم يقولون: انكسفت، وهو غلط. وقال الجوهري: العامة تقول: انكسفت، وفي "المحكم": كسفها الله وأكسفها، والأولى أعلى، والقمر كالشمس. ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: [81].

وقال اليزيدي: خسف القمر وهو يخسف خسوفًا فهو خسِفٌ وخَسِيف وخَاسِف وانخسف انخسافًا قال: وانخسف أكثر في ألسنة الناس. وفي "شرح الفصيح" لأبي العباس أحمد بن عبد الجليل: كسفت الشمس أي اسودت في رأي العين من ستر القمر إياها عن الأبصار، وبعضهم يقول: كُسفت على ما لم يُسم فاعله، وانكسفت. وعن أبي حاتم: إذا ذهب ضوء بعض الشمس لخفاء بعض جرْمها فذلك الكسوف. وزعم ابن التين وغيرُه أن بعض اللغويين قال: لا يقال في الشمس إلا: كسفت، وفي القمر إلا خسف، وذكر هذا عن عروة بن الزبير أيضًا. وحكى عياض عن بعض أهل اللغة عكسه وكأنه غير جيّد؛ لقوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (¬1). وعند ابن طريف: كسفت الشمس والقمر والنجوم والوجوه كسوفًا، وفي "المغيث" لأبي موسى: روى حديث الكسوف عليٌّ وابن مسعود وأبي بن كعب وسَمُرة وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو والمغيرة وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو شريح الكعبي والنعمان بن بشير وقبيصة الهلالي - رضي الله عنهم - جميعًا: بالكاف، ورواه أبو موسى وأسماء وعبيد الله بن عدي بن الخيار: بالخاء. وروي عن جابر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - باللفظين جميعًا، كلهم حكوا عن النبي - عليه السلام - عليه السلام - "ينكسفان" بالكاف، فسمي كسوف الشمس والقمر كسوفًا. قلت: أغفل حديث أبي مسعود من عند البخاري (¬2) "لا ينكسفان". والله أعلم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "انكسفت الشمس على عهد النبي ¬

_ (¬1) سورة القيامة، آية: [8]. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 353 رقم 994).

- عليه السلام -، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القيام وهو دون قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون ركوعه الأول، ثم رفع رأسه، فسجد ثم قام ففعل مثل ذلك؛ غير أن الركعة الأولى منهما أطول". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النعيم - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عروة -وهشام بن عروة، عن أبيه- عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه الجماعة بوجوه متعددة وألفاظ مختلفة مطولة ومختصرة. وأخرجه بهذا الإسناد مسلم (¬1) مطولًا: حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس. قال: وحدثني أبو الطاهر ومحمد بن سلمة المرادي، قالا: نا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "خسفت الشمس في حياة رسول الله - عليه السلام -، فخرج رسول الله - عليه السلام - إلى المسجد، فقام وكبّر، وصفّ الناسُ وراءه فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبرّ فركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبَّر فركع ركوعًا طويلًا هو أدنى من الركوع ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 619 رقم 901).

الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد -ولم يذكر أبو الطاهر ثم سجد- ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس، فأثني على الله بما هو أهله ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة". وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا ابن السَّرْح، نا ابن وهب. ونا محمَّد بن سلمة المرادي، نا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - عليه السلام - قالت: "خسفت الشمس ... " نحو رواية مسلم إلى قوله: "أن ينصرف". الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله - عليه السلام - بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام -وهو دون القيام الأول- ثم ركع فأطال الركوع -وهو دون الركوع الأول- ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس ... " الحديث. وأخرجه مسلم (¬3): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 307 رقم 1180). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 354 رقم 997). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 618 رقم 901).

وأخرجه البخاري (¬1) مطولًا جدًّا: ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام -: "أن يهوديةً جاءت تسألها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر. فسألت عائشة - رضي الله عنها -أَيُعَذّبُ الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله - عليه السلام - عائذًا بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله - عليه السلام - ذات غداةٍ مركبًا، فخسفت الشمس فرجع ضُحى، فمرّ رسولُ الله - عليه السلام - بين ظهراني الحجر ثم قام يُصلّي، وقام الناس وراءه، فقام قيامًا طويلًا، ثم ركع ركوعًا طويلًا -وهو دون الركوع الأول- ثم رفع فسجد، ثم قام فقام قيامًا طويلًا -وهو دون القيام الأول- ثم ركع ركوعًا طويلًا -وهو دون الركوع الأول- ثم رفع فسجد وانصرف، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عروة. وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. والحديث يدل على أن للكسوف صلاة، وأنها ركعتان بأربع ركعات وأربع سجدات كما ذهب إليه الشافعي وآخرون، واستحباب تطويل الركوع فيها، واستحباب الجماعة فيها، واستحباب فعلها في المسجد الذي تُصلَّى فيه الجمعة، وقيل: إنما لم يخرج رسول الله - عليه السلام - إلى المصلى لخوف فواتها بالانجلاء لسنة المبادرة إليها. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس - رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 356 رقم 1002). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 357 رقم 1004).

عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام -، فصلى رسول الله - عليه السلام - فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع، فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلّت الشمس". وأخرجه مسلم (¬1): عن سويد بن سعيد، عن حفص بن مَيسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فصلى رسول الله - عليه السلام - والناس معه، فقام قيامًا طويلًا قدر نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع، فقام قياما طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد انجلت الشمس ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائبم (¬4) بعبارات مختلفة وأسانيد متغايرة. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يَعْقوب بن حميد، قال: ثنا يحيى بن سُلَيم، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - نحوه، إلا أنه لم يذكر أن الركوع الثاني كان دون الركوع الأول، ولكنه ذكر بأنه مثله. قال: "وذلك يوم مات إبراهيم - عليه السلام -". ش: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ البخاري في غير "الصحيح" وابن ماجه، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وعن ابن معين: ليس بشيء. وعنه: ليس ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 626 رقم 907). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 307 رقم 1181). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 446 رقم 446). (¬4) "المجتبى" (3/ 129 رقم 1469).

بثقة. وقال النسائي: ليس بشيء. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: وربما أخطأ في الشيء بعد الشيء. ويحيى بن سُلَيم ويقال: ابن أبي سليم، ويقال: ابن أبي الأسود الكوفي، روى له الجماعة غير البخاري. وإسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، روى له الجماعة. وأخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده": ثنا داود بن عمرو، نا مسلم بن خالد الزنجي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر قال: "انكسفت الشمس في زمن النبي - عليه السلام - في اليوم الذي مات فيه إبراهيم، فخرج النبي - عليه السلام - فصلّى بالناس، فقام فأطال القيام حتى قيل: إنه لم يركع من طول قيامه، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لم يرفع صلبه من طول ركوعه، ثم انتصب قائمًا، فقام كنحو قيامه الأول أو أدنى شيئًا، ثم ركع كنحو ركوعه الأول أو أدنى شيئًا، ثم انتصب فسجد، ثم قام إلى الركعة الأولى ففعل مثل ذلك، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إن كسوف الشمس والقمر ليس لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة". وأخرجه البزار أيضًا في "مسندة": ثنا عبد الأعلى بن حماد، نا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. وحدثنا يحيى بن وَرْد بن عبد الله، حدثني أبي، نا عدي بن الفضل، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر: "أن الشمس انكسفت لموت عظيم من العظماء، فخرج النبي - عليه السلام - فصلى بالناس، فأطال القيام حتى قيل: لا يركع من طول القيام، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع من طول الركوع، ثم رفع فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع كنحو ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد، ثم رفع فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل لا يرفع من طول الركوع ثم رفع

فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع كنحو ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هكذا صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور وعلماء الحجاز، فإنهم ذهبوا إلى الأحاديث المذكورة وقالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجودان، فتكون الجملة أربع ركعات وأربع سجدات في ركعتين، وسواء تمادى الكسوف أو لا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هي ثمان ركعات في أربع سجدات. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم طاوس بن كيسان وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك بن جريج؛ فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة أربع ركوعات وسجدتان، فتكون الجملة ثمان ركعات وأربع سجدات، ويحكى هذا عن عليّ وابن عباس - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الخسوف، فقام فافتتح، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم سجد، ثم فعل مثل ذلك مرة أخرى". حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، قال: ثنا زهير بن حَرْب، قال: ثنا يحيى القطان، عن سفيان ... فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: ثنا حبيب بن أبي ثابت ... فذكر بإسناده مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن طاوس بن كيسان، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلادً، كلاهما عن يحيى القطان، قال ابن المثنى: نا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا حبيب، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلّى في كسوف، قرأ ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد، قال: والأخرى مثلها". وأخرجه النسائي (¬2): أبنا محمَّد بن المثنى، عن يحيى، عن سفيان، قال: ثنا حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلّى في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد، والأخرى مثلها". الثاني: عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي إمام أهل الشام وشيخ الطبراني أيضًا، عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلى ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 627 رقم 909). (¬2) "المجتبى" (3/ 129 رقم 1468). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 446 رقم 560).

في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد سجدتين، والأخرى مثلها". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا زهير، عن الحسن بن الحر، قال: ثنا الحكم، عن رجل يُدْعَى حَنْشًا، عن علي - رضي الله عنه - "أنه صلى بالناس في كسوف الشمس كذلك، ثم حدثهم أن النبي - عليه السلام - كذلك فعل". ش: رجاله ثقات، غير أن في حنشٍ مقالًا، وهو بالحاء المهملة والنون، ابن المعتمر الكناني، روى له أبو داود والترمذي والنسائي. والحكم هو ابن عُتَيْبَة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث زهير بن معاوية، عن الحسن بن حر، عن الحكم، عن رجل يقال له حنش، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: "كسفت الشمس فصلّى عليّ للناس، فقرأ {وَالْقُرْآنِ} وونحوها، ثم ركع نحوًا من قراءته السورة، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ثم قام قدر السورة يدعو ويكبر، ثم ركع قدر قراءته، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام أيضًا قدر السورة، ثم ركع قدر ذلك أيضًا، حتى ركع أربع ركعات، ثم قال: سمع الله لمن حمده. ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انكشفت الشمس، ثم حدثهم أن رسول الله - عليه السلام - كذلك فعل" انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 308 رقم 1183). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 330 رقم 6120).

وقال ابن قدامة: وحكي عن إسحاق أنه قال: وجه الجمع بين هذه الأحاديث: أن النبي - عليه السلام - إنما كان يزيد في الركوع إذا لم يرَ الشمس قد انجلت، فإذا انجلت سجد، فمن ها هنا صارت زيادة الركعات، ولا تجاوز أربع ركعات في كل ركعة؛ لأنه لم يأتنا عن النبي - عليه السلام - أكثر من ذلك. قلت: فيه نظر؛ لأن أبا عمر ذكر في "التمهيد": روي عن أبي بن كعب، عن النبي - عليه السلام - عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات. ثم قال: وهو حديث لين. ص: وخالف هؤلاء آخرون فقالوا: بل هي ست ركعات في أربع سجدات. ش: أي خالف الفريقين المَذْكورين جماعة آخرون وأراد بهم: قتادة وعطاء بن رباح وإسحاق وابن المنذر، فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ثلاث ركعات وسجدتان، فالجميع ست ركعات وأربع سجدات. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبى - عليه السلام - يَقومُ فيركع يعني ثلاث ركعات، ثم يَسْجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات، ثم يسجد سجدتين- يعني في صلاة الخسوف". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة في صلاة الآيات قال: "ستّ ركعات وأربع سجدات". ش: أي احتج الآخرون المذكورون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها -، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن قتادة بن دعامة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد المكي روى له الجماعة، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا محمَّد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول: سمعت عبيد بن عمير، حدثني مَنْ أصدق -حسبته يريد عائشة-: "أن الشمس تكسفت على عهد رسول الله - عليه السلام - فقام قيامًا شديدًا، يقوم قائمًا، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع، ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات، فانصرف وقد تجلت الشمس ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا إسماعيل بن عُليّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: أخبرني من أصدق -فظننا أنه يريد عائشة- قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام -، فقام النبي - عليه السلام - قيامًا شديدًا، يقوم بالناس، ثم يركع ثم يقوم، ثم يركع ثم يقوم، ثم يركع، فركع ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركعات، يركع الثالثة ثم يسجد، حتى إن رجالًا يومئذٍ ليُغشى عليهم، فأقام بهم حتى إن سجال الماء لَتُصبّ عليهم، يقول إذا ركع: الله أكبر، وإذا رفع: سمع الله لمن حمده. حتى تجلت الشمس، ثم قال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوّف بهما عباده، فإذا كسفا فافزعوا إلى الصلاة". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وقال أبو عُمر: وسَماع قتادة عندهم من عطاء غير صحيح، وقتادة إذا لم يقل: سمعتُ، وخولف في نقله فلا تقوم به حجة؛ لأنه يدلس كثيرًا عمن لم يسمع منه، وربما كان بينهما غير ثقة. قلت: أراد بهذا الكلام سقوط الاحتجاج بالحديث المذكور، ولكن الذي أخرجه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 620 رقم 901). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 305 رقم 1177). (¬3) "المجتبى" (3/ 129 رقم 1470).

مسلم في الرواية المذكورة ليس فيه كلام؛ لأنه أخرجه من حديث ابن جريج عن عطاء، وكذلك أخرجه أبو داود والنسائي. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن مثنى، قالا: نا معاذ وهو ابن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن عائشة: "أن نبي الله صلى ست ركعات وأربع سجدات". وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: نا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة في صلاة الآيات، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة: "أن النبي صلى عشر ركعات في أربع سجدات. قلت لمعاذ: عن النبي - عليه السلام -؟ قال: لا شك ولا مِرْية". قوله: "في صلاة الآيات" أي العلامات مثل الخسوف والكسوف والظلمة الشديدة والريح الشديد والزلزلة ونحو ذلك. ص: حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي، قال: ثنا أسباط بن محمَّد، قال: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن الشمس انكسف يوم مات إبراهيم - عليه السلام - ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس ... " فذكر مثل حديث ربيع عن أسد وزاد أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلّوا حتى تنجلي". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأسباط بن محمَّد بن عبد الرحمن الكوفي روى له الجماعة، وعبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العَززمي أبو محمَّد الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 621 رقم 901). (¬2) "سنن النسائي الكبري" (1/ 570 رقم 1855).

والحديث أخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا عبد الله بن نمير. ونا محمد بن عبد الله بن نمير -وتقاربا في اللفظ- قال: نا أبي، قال: نا عبد الملك، عن عطاء عن جابر - رضي الله عنه - قال: "انكسفت الشمس في عهد رسول الله - عليه السلام - يوم مات إبراهيم بن رسول الله عليهما السلام، فقال الناسُ: إنما انكسفت لموت إبراهيم. فقام النبي - عليه السلام - فصلّى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر، ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود، فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضًا ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحوًا من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا -وقال أبو بكر: حتى انتهينا إلى النساء- ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه، فانصرف حين انصرف وقد أضاءت الشمس، وقال: يا أيها الناس، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس -وقال أبو بكر: لموت بشر- فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلوا حتى تنجلي ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2): نا أحمد بن حنبل، نا يحيى، عن عبد الملك، نا عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام -، وكان ذلك اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن رسول الله - عليه السلام -، فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم، فقام النبي - عليه السلام -، فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات، كبّر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه، فقرأ دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه، فقرأ قراءة الثالثة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوًا مما ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 623 رقم 904). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 306 رقم 1178).

قام، ثم رفع رأسه فانحدر للسجود، فسجد سجدتين، ثم قام فركع ثلاث ركعات قبل أن يسجد، ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها إلا أن ركوعه نحو من قيامه، قال: ثم تأخر من صلاته، فتأخرت الصفوف معه، ثم تقدم فقام في مقامه وتقدمت الصفوف، فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، فقال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله -عز وجل- لا ينكسفان لموت بشر، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلوا حتى تنجلي ... " وساق بقية الحديث. قوله: "إبراهيم بن رسول الله عليهما السلام" أمه مارية القبطية، وُلد في ذي الحجة سنة ثمان، وتوفي سنة عشر وهو ابن ثمانية عشر شهرا، هذا هو الأشهر، وقيل: ستة عشر شهرًا، وقيل: سبعة عشر شهرًا، وقيل: ستة عشر شهرًا وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وتوفي يوم الثلاثاء لعشر ليالٍ خلت من ربيع الأول سنة عشر، وقد صحَّت الأحاديث أن الشمس كسفت يوم وفاته. فإن قيل: الكسوف في الشمس إنما يكون في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين في آخر الشهر العربي فكيف تكون وفاته في العاشر؟ قلت: هذا التاريخ يحكي عن الواقدي، وهو ذكر ذلك بغير إسناد، وقد تكلموا فيما يُسنده الواقدي، فكيف فيما يرسله؟! وقال البيهقي: باب "ما يدل على جواز الاجتماع للعيد وللخسوف لجواز وقوع الخسوف في العاشر"، ثم روى عن الواقدي ما ذكرناه من تاريخ وفاة إبراهيم. وقال الذهبي في "مختصر السنن": لم يقع ذلك، ولن يقع، والله قادر على كل شيء لكن امتناع وقوع ذلك كامتناع رؤية الهلال ليلة الثامن والعشرين من الشهر. قوله "آيتان" أي: علامتان. قوله: "لموت أحد" أي: لأجل موت أحد، وهذا ردّ لما قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم. وقد كان صادف كسوفها يوم موته كما قلنا، ويقال: هذا ردٌّ لكلام

الضلاّل من المنجمين وغيرهم أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم أو لحدوث أمر عظيم ونحو ذلك. قوله: "ولا لحياته" أي: ولا ينكسفان لأجل حياته، وهي عبارة عن ولادة أحد. قوله: "تنجلي" أي: تنكشف. ص: قالوا: وقد فعل ابن عباس مثل هذا بعد النبي - عليه السلام -؛ فذكروا ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث قال: "زلزلت الأرض على عهد ابن عباس فقال: ما أدري أبي أرض -أي رعشة، يعني به ما كان به من النقرس، هكذا ذكر الخَصِيب- أو زلزلت الأرض؟ فقيل له: زلزلت الأرض، فخرج فصلى بالناس، فكبّر أربعًا ثم قرأ فأطال القراءة، وكبَّر وركع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبّر أربعًا، ثم قرأ فأطال القراءة ثم كبر فركع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر أربعًا، ثم قرأ فأطال القراءة، ثم كبر فركع، ثم سجد، ثم قام ففعل مثل ذلك، فلما سلم قال: هكذا صلاة الآيات، وقرأ في الركعة الأول سورة البقرة، وفي الأواخر سورة آل عمران". ش: أي قال هؤلاء الآخرون: وقد فعل عبد الله بن عباس مثل ما قلنا من ست ركعات في أربع سجدات بعد النبي - عليه السلام -. وأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيسْاني، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر -وثقه ابن حبان- عن همام في يحيى روى له الجماعة، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث معمر، عن قتادة وعاصم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس: "أنه صلى في زلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع وسجد، ثم قام في الثانية ففعل ذلك، فصارت صلاته ست ركعات وأربع ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 343 رقم 6175).

سجدات -قال قتادة في حديثه: هكذا الآيات- ثم قال ابن عباس: هكذا صلاة الآيات". قوله: "ما أدري؟ أبي أَرْضٌ؟ " أي: ما أعلم أي رعدة ورعشة، والأرض بسكون الراء: الرعدة قاله ابن الأثير، قال الجوهري: الأرض: النفضة والرعدة. وقال ابن عباس: أزلزلت الأرض؟ أم بي أرضٌ؟ قوله: "من النقرس" بكسر النون داء معروف. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يطيل الصلاة كذلك أبدًا يركع ويسجد، لا توقيت في شيء من ذلك حتى تنجلي الشمس. ش: أي خالف الفِرَقَ الثلاثة المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير، وإسحاق بن راهويه في رواية، ومحمد بن جرير الطبري، وبعض الشافعية؛ فإفهم قالوا: لا توقيت في ركوع صلاة الكسوف بل يطيلها أبدًا، يركع ويسجد إلى أن تنجلي الشمس. وقال القاضي عياض: قال بعض أهل العلم: إنما ذلك على حسب مكث الكسوف، فما طال مكثه زاد تكرير الركوع فيه، وما قصر اقتصر فيه، وما توسط اقتصد فيه. قال: وإلى هذا نحا الخطابي وإسحاق بن راهويه وغيرهما. وقد يُعترض عليه بأن طولها ودوامها لا يُعلم من أول الحال ولا من الركعة الأولى، والله أعلم. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن يَعْلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لو تجلت الشمس في الركعة الرابعة لركع وسجد". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا سعيد بن جبير يخبر عن ابن عباس أنه قال: لو تجلت الشمس في الركعة الرابعة لركع وسجد، والرابعة هي الأولى من الركعة الثانية، فهذا يدل على أنه لم يكن يقصد في ذلك ركوعًا معلومًا، وإنما يركع ما كانت الشمس

منكسفةً حتى تنجلي فيقطع الصلاة، وذهبوا في ذلك إلى قول النبي - عليه السلام -: "فصلوا حتى تنجلي". ش: أي احتج هؤلاء الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه من عدم التوقيت في ركوع صلاة الكسوف بقول ابن عباس: "لو تجلَّت الشمس ... " إلى آخره، وبقوله - عليه السلام -: "فصلوا حتى تنجلي" أي إلى أن تنجلي الشمس أي تنكشف. وفيه نظر؛ لأن قوله - عليه السلام -: "فصلوا حتى تنجلي" لا يدل على أنه يكثر الركعات في كل ركعة إلى أن تنجلي الشمس، بل يجوز أن يكون المراد تطويل الصلاة بتطويل القراءة إلى أن تنجلي الشمس". ورجال أثر ابن عباس هذا قد ذكروا غير مرة، وهمام هو ابن يحيى، ويعلي بن حكيم الثقفي المكي روى له الجماعة سوى الترمذي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: صلاة الكسوف ركعتان كسائر صلاة التطوع، إن شئت طولتهما، وإن شئت قصّرتهما، ثم الدعاء من بعدهما حتى تنجلي الشمس. ش. أي خالف الفِرقَ الأربعة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان كسائر صلاة التطوع، في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ويروى ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وأبي بكرة، وسمُرة بن جندب، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة الهلالي، والنعمان بن بشير، وعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمروى - رضي الله عنهما - قال: "كُسفت الشمس على عَهْد النبي - عليه السلام - فقام بالناس فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الثانية مثل ذلك، فرفع رأسه وقد أمحصت الشمس".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه وعطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فصلى ركعتين". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحجاج بن إبراهيم، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي - عليه السلام - صلى في كسوف الشمس ركعتين وأربع سجدات، أطال فيهن القراءة والركوع والسجود". ش: أي احتج هؤلاء الجماعة الآخرون بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه من خمس طرق: الأول: بإسنادٍ جيّدٍ صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب -قالوا: إنه اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح وما سمع منه جرير فليس بصحيح. قاله يحيى بن معين. وأما السائب فهو ابن مالك الثقفي الكوفي وثقه ابن حبان. والدليل على صحة إسناده: أن الحكم أخرجه في "مستدركه" (¬1) وقال: صحيح ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب. قلت: قد أخرج البخاري لعطاء هذا حديثًا مقرونًا بأبي بشر، وقال أيوب: هو ثقة. ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 478 رقم 1229).

وأخرج أبو داود (¬1) أيضًا هذا الحديث وسكت عنه، فهذا دليل على صحته عنده كما هو قاعدته (¬2) فقال: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فقام رسول الله - عليه السلام - فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال: أفْ، أفْ. ثم قال: ربِّ، ألم تعِدْني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعِدْني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟! ففرغ رسول الله - عليه السلام - من صلاته وقد أمحصت الشمس ... " وساق الحديث. قوله: "على عهد النبي - عليه السلام -" أي في زمانه وأيامه. قوله: "فلم يكد يركع" يعني لم يكد في القيام واقفًا زمانًا طويلًا، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه يعني أنه أطال في الركوع. قوله: "ثم رفع" أي ثم رفع رأسه من الركوع فلم يكد يسجد ووقف زمانًا طويلًا، ثم سجد، فلم يكد يرفع رأسه من السجدة وقعد زمانا طويلًا، ثم رفع رأسه، وفعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى. قوله: "وقد أمحصت الشمس" معناه: انجلت من الإمْحاص، وأصل المَحص: الخلوص، وقد مَحَّصْتُه مَحْصًا إذا خَلَّصْته، والمحص هو إذا خلص، وقد يدغم فيقال امّحص، ومنه تمحيص الذنوب وهو التطهير منها، وتمحص الظلمة: انكشافها وذهابها، وفي رواية "محضت الشمس" بالضاد المعجمة والمعنى: نصع لونها وخلص نورُها، وكل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء يخالطه فهو محضٌ. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 310 رقم 1194). (¬2) قد ذكرنا غير مرة في هذا الكتاب أن سكوت أبي داود ليس تصحيحًا منه للحديث، فنص كلامه: "ما فيه ضعف شديدٌ بيَّنته وما سكتُّ عنه فهو صالح". وهذا يقتضي أن ما فيه ضعف ليس بشديد يسكت عنه أيضًا، فسكوت أبي داود لا يفيد إلا أنه ليس فيه ضعف شديد.

الثاني: أيضًا مثله، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فقام وقمنا معه، فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس براكع ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سَجَد فلم يكد يرفع رأسه، ثم جلس فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى ... " الحديث بطوله. الثالث: كذلك أيضًا عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن يَعْلى بن عطاء، عن أبيه، وعن عطاء بن السائب عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث العَقَدي، عن سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، وعطاء بن السائب عن أبيه، جميعًا عن عبد الله بن عمرو: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فأطال القيام حتى قيل: لا يركع، فركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع، ورفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد حتى قيل: لا يرفع، ثم جلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، وجعل في الأخرى مثل ذلك حتى انجلت الشمس" ثم قال: رواه مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان فزاد: "ثم رفع رأسه فأطال القيام حتى قيل: لا يركع، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع". وأخرجه ابن خزيمة في "مختصره الصحيح" (¬3). ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 159 رقم 6483). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 324 رقم 6106). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 323 رقم 1393).

الرابع: أيضًا كذلك، عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة، عن الثوري ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني: من حديث شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "كسفت الشمس، فصلى النبي - عليه السلام - ركعتين". الخامس: أيضًا كذلك، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق أبي محمَّد البغدادي نزيل طرسوس، وثقه أبو حاتم والعجلي وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي. وهو يروي عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان، روى له الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي - عليه السلام - يوم كسفت الشمس -يوم مات إبراهيم ابنه- فقام بالناس فقيل: لا يركع، وركع فقيل: لا يرفع، ورفع فقيل: لا يسجد، وسجد فقيل: لا يرفع، وجلس فقيل: لا يسجد، وسجد فقيل: لا يرفع، ثم قام في الثانية ففعل مثل ذلك وتَجلّت الشمس". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر، أنه سمع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "فرض النبي - عليه السلام - أربع صلوات، صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الكسوف ركعتين، وصلاة المناسك ركعتين". ش: عمرو بن خالد بن فروخ أبو الحسن الجزري الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، قال العجلي: مصري ثبت ثقة. وعبد الله بن لهيعة المصري وإن كان فيه مقال فقد وثقه أحمد وكفى به شاهدًا. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 103 رقم 4938).

وموسى بن أيوب بن عامر الغافقي المصري، وثقه يحيى وأبو داود وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي في "مسند علي" وابن ماجه. وإياس بن عامر الغافقي المصري، وثقه ابن حبان، وروى له هؤلاء. قوله: "فرض النبي - عليه السلام -" معناه: قدّر، وهو معناه اللغوي، وهو المراد ها هنا، وأراد بصلاة المناسك الركعتين اللتين تُصليان عقيب الأطوفة السبعة. فإن قيل: ما وجه الاستدلال به على أن صلاة الكسوف مثل ما ذهب إليه هؤلاء الآخرون الذين خالفوا الفِرق الأربعة المذكورين، وليس فيه ما يدلّ على ما قالوا؟ قلت: وجه ذلك من وجهين: أحدهما: أنه نصّ على صلاة الكسوف بأنها ركعتان مطلقًا، والمطلق ينصرف إلى الصلاة المعهودة وهي أن يكون في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان. والآخر: أنها قرنت في الذكر بصلاة السفر وصلاة المناسك وفي ركعة كل واحدة من هاتين الصلاتين ركوع واحد بلا خلاف، فكذلك صلاة الكسوف، ولاسيّما على قول مَنْ يقول: إن القِران في النظم يُوجب القِران في الحكم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود ابن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، عن سَمُرة بن جُنْدَب - رضي الله عنه - قال: "تكسفت الشمس على عهد النبي - عليه السلام - ... " فذكر عن النبي - عليه السلام - أنه صلّى بهم مثل ما ذكر عبد الله بن عمرو سواءً. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير قال: حدثنا الأسود ... ثم ذكر بإسناده مثله. ش: أخرج حديث سمرة بن جندب من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضّاح بن عبد الله اليشكري،

عن الأسود بن قيس العبدي الكوفي روى له الجماعة، عن ثعلبة بن عِبَاد -بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة- العبدي البصري، روى له الأربعة. وأخرجه الأئمة الأربعة (¬1): قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2) بهذا الإسناد، فقال: ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، نا الأسود بن قيس، حدثني ثعلبة بن عِبَاد العَبدي ثم من أهل البصرة: "أنه شهد خطبة يومًا لسمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلامٌ من الأنصار نَرْمي غَرَضيْن لنا حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت كأنها تَنُّومَةُ، فقال أحدنا لصاحبه: انطلق بنا إلى المسجد فوالله لَيُحدثنَّ شأن هذه الشمس لرسول الله - عليه السلام - في أمته حدثًا، قال: فدفعنا فإذا هو بارز، فاستقدم فصلَّى، فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، قال: فوافق تجلّي الشمس جلوسُه في الركعة الثانية، قال: ثم سلّم، فحمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبد الله ورسوله ... " ثم ساق أحمد بن يونس خطبة النبي - عليه السلام -. قوله: "قِيد رمحين" بكسر القاف أي قدر رمحين. قوله: "حتى آضت" أي رجعت من آض يئض أيضًا. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 541 رقم 562)، و"المجتبى" (3/ 152 رقم 1501)، و"سنن ابن ماجه" (1/ 402 رقم 1264). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 308 رقم 1184).

قوله: "تَنُّومَة" بفتح التاء ثالثة الحروف وتشديد النون وضمها وبعدها واو ساكنة وميم: نوع من نبات الأرض فيها وفي ثمرها سواد قليل، ويقال: هو شجر له ثمر كمِدُ اللون. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن يونس ابن عُبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "انكسفت الشمس على عهد النبي - عليه السلام - فصلّى ركعتين". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا المُعلّى بن منصور، قال: أنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "كنا عند النبي - عليه السلام - فكُسفت الشمس، فقام بلى المسجد يجرُّ ردائه من العجلة، وثار الناس إليه، فصلّى كما تصلون". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشَيم، قال: أنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة: "أن الشمس أو القمر انكسفت على عهد النبي - عليه السلام - قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم ذلك كذلك فصلّوا حتى تنجلي". ش: أخرج حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي - رضي الله عنه - من ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، ولكن ذكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" عن يحيى: أن الحسن لم يسمع من أبي بكرة، وفي كتاب "التعديل والتجريح" عن الدارقطني: الحسن عن أبي بكرة مرسل. وقال أبو الوليد في كتاب "الجرح والتعديل": أخرج البخاري (¬1) حديثًا فيه الحسن سمعت أبا بكرة. وزعم الدارقطني وغيره من الحفاظ على أن الحسن هذا هو الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -؛ لأن الحسن البصري لم يسمع عندهم من أبي بكرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 962 رقم 2557) وقال البخاري: قال لي علي بن عبد الله -وهو ابن المديني-: إنما ثبت سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.

وفي "التلويح شرح البخاري": والصحيح أن الحسن في هذا الحديث هو الحسن بن علي بن أبي طالب، وكذا قاله الداودي فيما ذكره ابن بطال في شرحه. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن الحسن، إما البصري وإما الحسن بن علي كما ذكرنا. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فصلى ركعتين". فإن قلت: كيف يدل هذا على ما ذهب إليه الفرقة الخامسة من أن الركوع في كل ركعة واحد؟ غاية ما في الباب أنه يدل على أن صلاة الكسوف ركعتان. قلت: المراد منه ركعتان كل ركعة بركوع واحد، يدل عليه حديثه الآخر "فصلى كما تصلون" وما كانوا يصلون هو كل ركعة بركوع واحد، وبهذا يُردُّ ما زعمه البيهقي من أن المراد ركعتان، في كل ركعة ركوعان كما بَيّنه ابن عباس وغيره. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري ... إلى آخره. ويونس هو ابن عبيد. وأخرجه البخاري (¬2) بأتمّ منه: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فخرج يجرّ ردائه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس، فقال: إن القمر والشمس آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذاك فصلُّوا وادْعوا حتى يكشف ما بكم. وذاك أن ابنًا للنبي مات يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذاك". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 361 رقم 1013). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 361 رقم 1014).

قوله: "وثار الناس إليه" بالراء من ثار يثور إذا انتشر وارتفع، وأراد به: بادر إليه الناس بالرجوع. وفي رواية البخاري: "وثاب" بالباء الموحدة من ثاب يثوب إذا رجع، وهو أيضًا رجوع إليه بالمبادرة. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "انكسفت الشمس أو القمر على عهد رسول الله - عليه السلام - فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا كان كذلك فصلوا حتى تنجلي". ص: حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصري، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي في كسوف الشمس كما تصلون، ركعة وسجدتين". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير قال: "انكسفت الشمس على عهد النبي - عليه السلام - فكان يركع ويسجد". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير: "أن النبي - عليه السلام - صلى في كسوف الشمس نحوًا من صلاتكم، هذه فيركع ويسجد". حدثنا ابن أبي داود وفهدٌ، قالا: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير أو غيره قال: "كسفت الشمس على عهد النبي - عليه السلام - فجعل يُصلّي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت، ثم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 218 رقم 8308).

قال: إن رجالًا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وليس ذلك كذلك، ولكنهما آيتان من آيات الله -عز وجل-، فإذا تجلى الله -عز وجل- لشيء من خلقه خشع له". ش: أخرج حديث النعمان بن بشير الصحابي - رضي الله عنه - من أربع طرق صحاح. فإن قلت: كيف حكمت بالصحة لحديث النعمان هذا وقد قال البيهقي: أبو قلابة لم يسمع من النعمان والحديث مرسل؟ قلت: صرّح في "الكمال" بسماعه من النعمان، وقال ابن حزم: أبو قلابة أدرك النعمان وروى هذا الخبر عنه. وصرّح ابن عبد البر بصحة هذا الحديث وقال: من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة، عن النعمان. الطريق الأول: عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصري، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شريك بن عبد الله، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجَرْمي أحد الأعلام. وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: ثنا أبو نعيم، عن الحسن بن صالح، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير: "أن رسول الله - عليه السلام - صلّى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا، يَركعُ ويَسْجُد". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي ... إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى في كسوف نحوًا من صلاتهم، يركع ويسجد". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 145 رقم 1489).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" و"مصنفه" (¬1). الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي وفهد بن سليمان، كلاهما عن علي بن مَعْبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرَّقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن النعمان بن بشير. وأخرجه أبو داود (¬2) مختصرًا: ثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثني الحارث بن عمير البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير قال: "كُسِفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - فجعل يصلى ركعتين ويسأل فيهما حتى انجلت". وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمَّد بن بشار، قال: نا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن النعمان بن بشير، عن النبي - عليه السلام - "أنه خرج يومًا مستعجلًا إلى المسجد وقد إنكسفت الشمس، فصلى حتى انجلت، ثم قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يُحْدِثُ الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلّوا حتى تنجلي أو يحدث الله أمرًا". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، عن زائدة، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة قال: "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال - عليه السلام -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلّوا وادعوا حتى تنكشف". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 217 رقم 8298). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 310 رقم 1193). (¬3) "المجتبى" (3/ 145 رقم 1490).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق قال: "انكسفت الشمس، فصلى المغيرة بن شعبة بالناس ركعتين وأربع سجدات". فدلّ ذلك أن ما كان عَلِمَه من صلاة النبي - عليه السلام - وحضره مثل ذلك. ش: هذه ثلاث طرق: أولها: مرفوع صحيح جدًّا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن زائدة بن قدمة الثقفي أبي الصلت الكوفي روى له الجماعة، عن زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي أبي مالك الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد، قال: ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا شيبان أبو معاوية، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلّوا وادْعوا الله". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا مُصعَب -وهو [ابن] (¬3) المقدام- قال: نا زائدة، قال: ثنا زياد بن علاقة -وفي رواية أبي بكر قال: قال زياد بن علاقة-: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - يوم مات إبراهيم فقال رسول الله - عليه السلام - إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلّوا حتى تنكشف". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 354 رقم 996). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 630 رقم 915). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

الثاني: موقوف، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ... إلى آخره. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن إسماعيل بن عبد الله، عن زكرياء بن أبي زائدة، عن النبي - عليه السلام - قال: "كسفت الشمس والمغيرة بن شعبة على الكوفة، فقام فصل بالناس، فكنت حيث لا أسمع قراءته، فحزرت قدر سورة من المئين، ثم ركع، ثم رفع فقرأ، ثم ركع، وتجلت الشمس، فركع وسجد، ثم قام في الثانية فقرأ قراءة خفيفة، ثم ركع وسجد". الثالث: نحوه، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". قوله: "فدل ذلك ... " إلى آخره، إشارة إلى وجه استدلال الفرقة الخامسة بحديث المغيرة بن شعبة، بيانه: أنه روي عن النبي - عليه السلام - أنه أمر بصلاة الاستسقاء ثم إنه لما صلّى صلاها ركعتين بركوعين وأربع سجدات، فدلّ ذلك أنه إنما صلاّها هكذا؛ لأنه شاهد صلاته - عليه السلام - هكذا، إذ لو صلاها - عليه السلام - غير هذا الوجه لما صلاها المغيرة بخلاف ذلك، فافهم. فإن قلت: حديث عبد الرزاق يدلُّ على أن المغيرة قد صلّى كل ركعة بركوعين. قلت: يحتمل أن يكون قد صلاها مرتين على الوجهين؛ إذ الروايات في هذا الباب مضطربة، ولكن وجه ترجيح ما ذكرنا سيأتي إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن قبيصة البجلي قال: "انكسفت الشمس على عهد النبي - عليه السلام - فصلى كما تصلون". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 104 رقم 4939).

حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا ابن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي، أو غيره: "أن الشمس كُسفت على عهد رسول الله - عليه السلام - فخرج فزعًا يجرّ ثوبه وأنا معه يومئذٍ بالمدينة، فصلى ركعتين أطالهما ثم انصرف وتجلت الشمس، فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة". ش: أخرج أولًا: عن قبيصة البجلي، ثم عن قبيصة الهلالي، وكل منهما صحابي على ما ذكره البعض، وذكر أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" أولًا قبيصة الهلالي فقال: سكن البصرة وروى عن النبي - عليه السلام - أحاديث. ثم ذكر قبيصة آخر فقال: قبيصة يقال: إنه البجلي، ويقال: الهلالي، سكن البصرة، وروى عن النبي - عليه السلام - حديثًا. حدثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام -، فنادى في الناس، فصلى بهم ركعتين فأطال فيهما حتى انجلت الشمس فقال: إن هذه الآية تخويفٌ يُخوّف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأخفّ صلاة صليتموها من المكتوبة". قال أبو القاسم: روى هذا الحديث عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة وزاد في إسناده: هلال بن عامر، عن قبيصة الهلالي، حدثنيه إبراهيم بن سعيد الطبري، ثنا ريحان بن سعيد، ثنا عباد بن منصور، عن أيوب ... وذكر الحديث. قال أبو القاسم: ولا أعلم لقبيصة الهلالي غير هذا الحديث، انتهى. وقال أبو نعيم: ذكر بعض المتأخرين قبيصة البجلي وهو عندي قبيصة بن المخارق الهلالي، والبجلي وَهْم. قلت: كلام البغوي والطحاوي يدل على أنهما اثنان، وأن قبيصة الهلالي هو قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن معاوية بن أبي ربيعة بن نُهيك بن

هلال بن عامر بن صعصعة الهلالي البصري، وفي "التكميل": روى عنه ابنه قطن وكنانة بن نعيم وهلال بن عامر وأبو عثمان النَّهْدي وأبو قلابة الجَرْمي. أما حديث قبيصة البجلي فأخرجه عن أبي خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- عبد الحميد بن عبد العزيز، عن محمَّد بن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن قبيصة البجلي، وهذا إسناد صحيح. وأما حديث قبيصة الهلالي فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البُرلّسي وفهد بن سليمان، كلاهما عن علي بن مَعْبد بن شداد، عن عبيد الله ابن عمرو الرّقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي. وأشار بقوله: "أو غيره" إلى النعمان بن بشير، كما قال هكذا في حديث النعمان ابن بشير: أو غيره، وأشار به إلى قبيصة الهلالي، وإسناد كل منهما واحدٌ برواة مذكورين في كل منهما. وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، نا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "وانجلت". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا عمرو بن عاصم، أن جده عبيد الله بن الوازع حدثه حديث أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: "كسفت الشمس ونحن إذْ ذاك مع رسول الله - عليه السلام - بالمدينة، فخرج فزعًا يجر ثوبه، فصلى ركعتين أطالهما، فوافق انصرافه انجلاء الشمس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 308 رقم 1185). (¬2) "المجتبى" (3/ 144 رقم 1486).

وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم من ذلك شيئًا فصلّوا كأحدث صلاة مكتوبة صليتموها". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1)، والحكم في "مستدركه" (¬2): وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال البيهقي: سقط بين أبي قلابة وقبيصة رجل وهو هلال بن عامر، انتهى. قلت: أشار بذلك إلى أن الحديث منقطع، وهو صرّح أيضًا بأن أبا قلابة لم يسمع قبيصة، ولكنه غير صحيح؛ لأنه صرّح في "الكمال" وغيره أنه سمع قبيصة، وقال النووي في "الخلاصة": وهذا لا يقدح في صحة الحديث. قوله: "فَزِعًا" بفتح الفاء وكسر الزاي من الصفات المشبهة. قوله: "يجر ثوبه" جملة حالية، وكذا قوله: "وأنا معه". قوله: "إنما هذه العلامات" وهي إشارة إلى كسوف الشمس وغيره نحو خسوف القمر والزلزلة وهبوب الريح الشديدة والظلمة الشديدة، ففي هذه كلها تشرع الصلاة. وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يصلى للزلزلة كصلاة الكسوف، نصّ عليه أحمد، وهو مذهب إسحاق وأبي ثور. قال القاضي: ولا يصلى للرجفة والريح الشديدة والظلمة ونحوها. وقال الآمدي: يُصلّى لذلك ولرَمْي الكواكب والصواعق وكثرة المطر، وحكاه عن ابن أبي موسى. وقال أصحاب الرأي: الصلاة لسائر الآيات حسنة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 334 رقم 6131). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 482 رقم 1238).

وقال مالك والشافعي: لا يُصلّى لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأنه - عليه السلام - لم يصلِّ لغيره. قلت: الحديث حجة عليهما؛ لأن قوله: "فإذا رأيتموها" أي الآيات عام يتناول كل ما ذكرنا، وقد أمر النبي - عليه السلام - بالصلاة عند هذه الأشياء، وأمره أقوى من فعله. وقال أبو عمر: وروي عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة. وقال ابن مسعود: إذا سمعتم هادًّا من السماء فافزعوا إلى الصلاة. وقال أيضًا: لم يأت عن النبي - عليه السلام - من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة، وقد كانت أول ما كانت في الإِسلام على عهد عمر - رضي الله عنه - فأنكرها وقال: أحْدَثْتم والله، لئن عادَتْ لأخرُجنّ من بين أظهركم" رواه ابن عيينة. قوله: "فصلّوا كأحدث صلاة ... " إلى آخره يعني كأقرب صلاة، أن حَدَثَ يَحْدُثُ حُدُوثًا وحِدْثَانَا، والحَدَث ضد القدم. وقال بعضهم: معناه: أن آيةً من هذه الآيات إذا وقعت مثلا بعد الصبح تُصلى ويكون في كل ركعة ركوعان. وإن كانت بعد المغرب يكون في كل ركعة ثلاث ركوعات، وإن كانت بعد الرباعية يكون في كل ركعة أربع ركوعات. وقال بعضهم: معناه: أن آيةً من هذه الآيات إذا وقعت عقيب صلاة جهرية تصلى ويُجْهَرُ فيها بالقراءة، وإن وقعت عقيب صلاة سرية تُصلَّى ويُخافَت فيها بالقراءة. قلت: رواية البغوي "كأخف صلاة" تدل على أن المراد كأوقع صلاة من المكتوبة إلى الخفة وهي صلاة الصبح، وأراد به أنها تصلى ركعتان كصلاة الصبح، فافهم، والله أعلم.

ص: فكان أكثر الآثار في هذا الباب هي الموافِقة لهذا المذهب الأخير، فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأوَل، فكان النعمان بن بشير قد أخبر في حديثه أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ويُسلِّم ويَسألُ، فاحتمل أن يكون النعمان علِم من النبي - عليه السلام - السجود بعد كل ركعة، وعلمه مَنْ وافقه على أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتَين ولم يَعْلمه الذين قالوا: ركع ركعتين أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد؛ لما كان من طول صلاته، فتصحيح حديث النعمان هذا مع هذه الآثار هو أن يجعل صلاته كما قال النعمان؛ لأن ما روي عن عليّ وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - يدخل في ذلك ويَزيدُ عليه حديث النعمان فهو أولى من كل ما خالفه. ثم قد شَدَّ ذلك ما حكاه قبيصة من قول رسول الله - عليه السلام -: "فإذا كان كذلك فصلّوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة فأخْبَرَنا أنه إنما يُصلَّى في الكسوف كما تُصلَّى المكتوبة. ثم رجعنا إلى قول الذين لم يُوَقِّتُوا في ذلك شيئًا لما رَوَوْه عن ابن عباس، فكان قول النبي - عليه السلام - في حديث قُبَيصة: "فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" دليلًا على أن الصلاة في ذلك موقتة معلومة لها وقت معلوم وعددٌ معلوم، فبطل بذلك ما ذهب إليه المخالفون لهذا الحديث. ش: أشار بهذا إلى ترجيح المذهب الأخير وهو المذهب الخامس الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه، أي: فكان أكثر الأحاديث التي وردت في باب صلاة الكسوف هي الموافقة لهذا المذهب الأخير وهو مذهب الفرقة الخامسة؛ وذلك لأن أحاديث عبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب وأبي بكرة نفيع، والنعمان بن بشير، والمغيرة بن شعبة وقبيصة البجلي، وقبيصة الهلالي؛ كلها توافق مذهب هؤلاء كما ذكرنا. قوله: "فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأُوَل" إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين الأحاديث الواردة في هذا الباب المتضادة بعضها بعضًا، بيان ذلك أن من جملة رواة

صلاة الكسوف النعمان بن بشير؛ فإنه قد أخبر في حديثه أنه - عليه السلام - كان يُصلي ركعتين ويُسلم، ويسأل حتى انجلت، فيدل ذلك على أنه قد علم من النبي - عليه السلام - أنه سجد بعد كل ركوع واحد في كل ركعة من الركعتين كما هو كذلك في سائر الصلوات، وعلمه أيضًا كذلك كل مَنْ وافقه من الصحابة في نحو روايته أنه صلى ركعتين. وأما الذين خالفوه وقالوا: إنه ركع ركوعين أو ثلاثًا أو أربعًا أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد فلم يكونوا علموا ذلك من النبي - عليه السلام -؛ لأجل ما كان يطول صلاته، فإذا كان الأمر كذلك توجّه لنا أن نجعل صلاة النبي - عليه السلام - في الكسوف كما قال النعمان، وتكون روايته أصلًا في ذلك؛ لأن ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - يدخل فيما قاله النعمان؛ لأن أحاديث الكل تدل على أنه - عليه السلام - قد صلاها ركعتين، ومع هذا يزيد على أحاديثهم حديث النعمان من قوله: "نحوًا من صلاتكم هذه فيركع ويسجد" وفي رواية: "كما تصلون ركعةً وسجدتين"، وفي رواية: "فجعل يصلي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت"، فإذا كان كذلك يكون الأخذ بحديث النعمان أولى من الأخذ بما خالفه. فإن قيل: يحتمل أيضًا أن يكون قد ركع ركوعين في كل ركعة في حديث النعمان، ولئن سلمنا عدم احتماله ذلك وتعارض حديثه بأحاديث غيره؛ فالأخذ بأحاديث غيره مثل حديث علي وابن عباس وعائشة أولى لصحتها وشهرتها واشتمالها أيضًا على الزيادة التي ليست في حديث النعمان؛ والزيادة من الثقة مقبولة. وقد روي عن عروة أنه قيل له: "إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة". قلت: صريح قول النعمان بن بشير: "صلى في كسوف الشمس نحوًا من صلاتكم هذه، فيركع ويسجد" يقطع الاحتمال المذكور، ولانسلم أولوية الأخذ بأحاديث غيره؛ لما علَّلتم بأنها صحيحة مشهورة؛ لأن حديث النعمان أيضًا صحيح مشهور، وقد ذكرنا أن جماعة من العلماء منهم أبو عمر صححوا حديثه هذا، وأما

الزيادة التي في أحاديث غيره فقد ذكرنا أن رواتها قد ظنوا ذلك لطول قيام النبي - عليه السلام - فيها، وأما الزيادة التي في حديث النعمان فصريحة ليس فيها مجال للظن والوهم، فحينئذٍ يجب قبول هذه الزيادة لكونها من الثقة. وأما قول عروة، فقد قال ابن حزم في "المحلى": عروة أحق بالخطأ من أخيه عبد الله الصاحب الذي عمل بعلم، وعروة أنكر ما لم يعلم. وقد ذهب ابن حزم إلى العمل بما صح ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة غير سنة. قلت: الصواب عندي أيضًا أن لا يقال: اختلفوا في صلاة الكسوف، بل تخيروا، فكل واحد منهم تعلّق بحديث ورآه أولى من غيره بحسب ما أدى اجتهاده إليه في صحته وموافقته للأصول المعهودة في أبواب الصلاة، فأبو حنيفة تعلّق بأحاديث من ذكرناهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ورآها أولى من رواية علي وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - لموافقتها القياس في أبواب الصلاة، على أن في روايتهم احتمالًا وهو ما ذكره محمَّد بن الحسن في "صلاة الأثر" فقال: يحتمل أنه - عليه السلام - أطال الركوع زيادة على قدر ركوع سائر الصلوات، فرفع أهل الصف الأول رءوسهم ظنًّا منهم أنه - عليه السلام - رفع رأسه من الركوع فمَن خلفهم رفعوا رءوسهم، فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله - عليه السلام - راكعًا ركعوا فمَن خلفهم ركعوا، فلما رفع رسول الله - عليه السلام - رأسه من الركوع رفع القوم رءوسهم ومَنْ خلف الصف الأول ظنوا أنه ركع ركوعين فرووه على حسب ما وقع عندهم، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة - رضي الله عنها - كانت واقفةً في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فنقلا كما وقع عندهما، فيحمل على هذا توفيقًا بين الروايات، انتهى. وفيه نظر؛ لأن هذا الذي ذكره يمكن أن يتمشى في رواية مَنْ روى ركوعين، وأما من روى ثلاث ركوعات أو أربع ركوعات فكيف يتمشى فيه هذا؟! وقد ذكرنا

أنه روي عن أبي بن كعب أنه روى عن النبي - عليه السلام - عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات، ففي هذا ما ذكره من المحال على ما لا يخفى، ولئن سلمنا نقل عائشة وابن عباس لكونهما في صف النساء والصبيان فلا نسلم ذلك في نقل عبد الله بن عمر وغيره. وقد قال مناظرٌ لمحمد بن الحسن -رحمه الله-: ألم تعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أولى؛ لأن الجائي بها أثبت من الذي نقص الحديث؟ قال: نعم، قال المناظر: ففي حديثنا من الزيادة ما ينبغي أن يرجع إليه، قال محمَّد: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين. قال المناظر: قبلت، فالنعمان يزعم أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجلِ الشمس فقام فصل ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، أفنأخذ به؟ قال: لا. قلت: فأنت إذا تخالف قول النعمان وحديثنا. انتهى. قلت: لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواءً: أنت تأخذ بحديث عائشة وجابر وابن عباس؟ فإن قال نعم. قيل له: قد صحّ عنهم ما ذكر من ثلاث ركعات في كل ركعة وست ركعات، وهذه زيادة، أتأخذ بها؟ فإن قال: لا. قيل له: فأنت إذًا تخالف ما ذكرت أنك اعتمدته، وتخالف أيضًا ما ذهبنا إليه من حجتنا. وقد رأينا حديث أبي بن كعب حديثًا فيه زيادة. رواه الحكم (¬1): من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: "انكسفت الشمس فصلى النبي - عليه السلام -، فقرأ سورة من الطُّوَل وركع خمس ركعات وسجد سجدتين"، وقال: الشيخان لم يخرجا لأبي جعفر الرازي، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة ورواته صادقون، وصححه أيضًا أبو محمَّد الأشبيلي، وأقره الحافظان ابن القطان وابن الموَّاق؛ فكان ينبغي أن يَعْمَل بها من قال بقبول الزيادة من الثقة. ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 481 رقم 1237).

قوله: "ثم قد شدّ ذلك" أي قد قوّى وأيّد ما ذكرناه من ترجيح حديث النعمان: ما حكاه قبيصة الهلالي من قوله - عليه السلام -: "فإذا كان كذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" فإنه أخبر في حديثه أن الذي يُصلي في الكسوف هو كالذي يُصلي من المكتوبة، والباقي ظاهر، والله أعلم. ص: وأما قولهم: إن النبي - عليه السلام - قال: "فإذا رأيتم ذلك فصلّوا حتى تنجلي". فقالوا: ففي هذا دليل على أنه لا ينبغي أن يَقطع الصلاة إذا كان ذلك حتى تنجلي. فيقال لهم: فقد قال في بعض هذه الأحاديث: "فصلّوا وادعوا حتى تنكشف". وقد حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد -أراه قال: ولا لحياته- فإذا رأيتم ذلك فعليكم بذكر الله والصلاة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو كريب قال: ثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بُردة، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: "خسفت الشمس على زمان النبي - عليه السلام -، فقام فزعًا -يخْشى أن تكون الساعة- حتى أتى المسجد، فقام فصلى أطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسل الله -عز وجل- لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يُخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا منها فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره". فأمر النبي - عليه السلام - بالدعاء عندها والاستغفار كما أمر بالصلاة، فدل ذلك أنه لم يُرد منهم عند الكسوف الصلاة خاصّةً، ولكن أريد منهم ما يتقربون به إلي الله -عز وجل- من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك.

وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الربيع بن يحيى الأُشْنَاني، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء قالت: "أمر النبي - عليه السلام - بالعتاقة عند الكسوف"، فدل ذلك على ما ذكرناه. ش: هذا جواب عما أوردوه على قوله: "فكان قول النبي - عليه السلام - في حديث قبيصة ... " إلى آخره. تقرير السؤال أن يقال: إن قوله - عليه السلام -: "فإذا رأيتم ذلك فصلّوا حتى تنجلي" يدل على أنه لا ينبغي أن تقطع الصلاة عند الكسوف ونحوه حتى تنجلي الشمس؛ لأن كلمة "حتى" للغاية، فينبغي أن يكون انتهاء الصلاة عند الانجلاء فتصلّى إلى أن تنجلي، ولا يكون ذلك إلا بتكرار الركوع وتطويل الصلاة وعدم قطعها إلى الانجلاء. وتقرير الجواب أن يقال: قد ورد أيضًا في بعض الأحاديث "فصلُّوا وادعوا حتى تنكشف"، وفي بعضها: "فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره"، فأمر - عليه السلام - بالصلاة ثم بالدعاء إلى الانجلاء؛ فدل ذلك على أنه - عليه السلام - لم يُرِد منهم مجرد الصلاة، بل أراد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك نحو الصدقة والعتاقة ونحوهما، ودل أيضًا على أن الصلاة في ذلك موقتة معلومة لها وقت معلوم وعدد معلوم كما نص عليه حديث قبيصة، فبطل بذلك ما ذهب إليه مَنْ خالفه. ثم إنه أخرج ها هنا ثلاثة أحاديث -عن ثلاثة من الصحابة وهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وأسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -- تدل على ما ذكرنا من أنه - عليه السلام - لم يُرِد مجرد الصلاة. أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش الأسدي المقرئ الحناط -بالنون- الكوفي روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه، عن أبي إسحاق

عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن عبد الله بن السائب الشيباني، ذكره ابن أبي حاتم، وقال: يروي عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، وسمعت أبي يقول: هو مجهول. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" مطولًا: ثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفا فافزعوا إلى، ذكر الله" مختصر من المطول. قوله: "فإذا رأيتم ذلك" أي كسوف الشمس والقمر. قوله: "فعليكم" أي الزموا ذكر الله تعالى والصلاة. وأما حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن أبي كريب محمَّد بن العلاء الهمداني الكوفي شيخ الجماعة في الكتب الستة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي روى له الجماعة، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني روى له الجماعة، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري روى له الجماعة، عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن العلاء، قال: ثنا أبو أسامة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه مسلم (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. قوله: "فزعًا" حال، وكذا قوله: "يخشى". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 360 رقم 1010). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 628 رقم 912). (¬3) "المجتبى" (3/ 153 رقم 1503).

قوله: "فافزعوا" بالزاي المعجمة أي: الجئوا إلى الذِّكر والدعاء والاستغفار، واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث، وأصل الفزع: الخوف ويوضع موضع الإغاثة والنصر والالتجاء؛ لأن مَنْ شأنه الإغاثة والنصر والالتجاء يكون مُراقِبًا حَذِرًا. وأما حديث أسماء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الربيع بن يحيى الأُشْناني أبي الفضل البصري شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى بيع الأُشْنان، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوجة هشام بن عروة، روى لها الجماعة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا ربيع بن يحيى، ثنا زائدة ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "كان النبي - عليه السلام - يأمرنا بالعَتاقة في صلاة الكسوف". قوله: "بالعَتاقة" بفتح العين، يقال: أعتق العبد يُعتِق -بكسر التاء- عِتقًا وعَتاقًا وعتاقةً، وأعتقتُه أنا. ص: وروي في ذلك عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي - عليه السلام -. ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلّوا". فَأُمِروا في هذا الحديث بالقيام عند رؤيتهم ذلك للصلاة، وأُمِروا في الأحاديث الأُوَل بالدعاء والاستغفار بعد الصلاة حتى تنجلي الشمس، فدل ذلك على أنهم لم يؤمروا ألَّا يقطعوا الصلاة حتى تنجلي الشمس، وثبت بذلك أن لهم أن يطيلوا الصلاة إن أحبوا، وإن شاءوا قصّروا ووصلوها بدعاء حتى تنجلي الشمس. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 359 رقم 1006).

ش: أي قد روي أيضًا في الكسوف ما روي عن أبي مسعود الأنصاري واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة، وأراد بتخريج حديثه أن يوفق بينه وبين الأحاديث التي فيها الأمر بالدعاء والاستغفار إلى انجلاء الشمس، وفي حديث أبي مسعود أمر بالقيام إلى الصلاة عند رؤية الكسوف، وجه التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث أن هذا الحديث يدل على أن لهم أن يطيلوا الصلاة إلى الانجلاء إذا أحبوا ذلك، وتلك الأحاديث تدل على أن لهم أن يُقصِّروا الصلاة ولكن يَصِلونها بالدعاء والذكر إلى الانجلاء، والمقصود أنه لم يُرِد مجرد الصلاة ولا مجرد الدعاء، بل المراد إشغال الوقت بهما إلى الانجلاء. فإن قيل: إذا طوّلوا الصلاة إلى الانجلاء لم يكن عملًا بالأحاديث الآخر. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الصلاة لا تطول إلا بطول القراءة، أو بكثرة الذكر والثناء في الركوع والسجود، أو بكثرة الأدعية في القعدة، فافهم. ثم إسناد حديث أبي مسعود صحيح؛ لأن رجاله رجال الجماعة ما خلا ابن مَعْبد. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا شهاب بن عباد، قال: ثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت أبا مسعود - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - عليه السلام -: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلّوا". وأخرجه مسلم (¬2) والنسائي (¬3) نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظيُّ، قال: ثنا إسحاق بن يحيى الكلبي، قال: ثنا الزهري، قال: كان كُثيرُ بن العباس يُحَدِّث: "أن عبد الله بن عباس ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 353 رقم 994). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 628 رقم 911). (¬3) "المجتبى" (3/ 126 رقم 1462).

- رضي الله عنهما - كان يُحدِّث عن صلاة النبي - عليه السلام - يوم خسفت الشمس مثل ما حدَّث به عروة عن عائشة، فقال الزهري: فقلت لعروة: إن أخاك يوم خسفت الشمس بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل صلاة الصبح، فقال: أجل، إنه أخطأ السنة". فهذا عروة والزهري قد ذكرا عن عبد الله بن الزبير أنه صلى لكسوف الشمس ركعتين، وعبد الله بن الزبير رجل له صحبة، وقد حضره أصحاب رسول الله - عليه السلام - حينئدٍ فلم ينكر ذلك عليه منهم منكر. فأما قول عروة: "إنه أخطأ السنة" فإن ذلك عندنا ليس بشيء. ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لقوله: فكان قول النبي - عليه السلام - في حديث قبيصة ... إلى آخره، وتأييدًا له، بيان ذلك: أن عروة بن الزبير ومحمد بن مسلم الزهري قد ذكرا عن عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما -: "أن النبي صلّى لكسوف الشمس ركعتين"، وعبد الله بن الزبير صحابي مشهور جليل، وقد فعل ذلك كذلك بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - فلم ينكر ذلك عليه أحد منهم، فصار كالإجماع على أن صلاة الكسوف ركعتان. قوله: "فأما قول عروة ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: كيف يكون ما ذكرتم عن عبد الله بن الزبير سُنة والحال أن أخاه عروة قد قال: إنه أخطأ السنة؟ والجواب: أن هذا القول من عروة ليس بشيء؛ لأن عبد الله بن الزبير ما فعل ذلك إلا عن علم، وعروة أنكر ما لم يَعْلم، وقد استوفينا الكلام فيه عن قريب. ثم إسناد حديث ابن عباس صحيح. والوُحَاظِيُّ هو يحيى بن صالح أبو زكرياء الدمشقي شيخ البخاري، ونسبته إلى وُحاظة بن سَعْد بضم الواو وبالحاء المهملة والظاء المعجمة. وإسحاق بن يحيى الكلبي الحمْصي روي له أبو داود والبخاري مستشهدًا، والزهري هو محمَّد بن مسلم بن شهاب، وكثير بن العباس بن عبد المطلب ابن عم

النبي - عليه السلام -، ممن وُلد على عهد النبي - عليه السلام - وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه البخاري (¬1) بعد إخراجه حديث عائشة من حديث ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قال: وكان يُحدِّث كثير بن عباس: "أن عبد الله بن عباس كان يحدث يوم خسفت الشمس بمثل حديث عروة عن عائشة، فقلت لعروة: إن أخاك يوم خسفت بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل الصبح، قال: أجل؛ لأنه أخطأ السنة". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. ص: وجميع ما بيّناه في هذا الباب من صلاة الكسوف أنها ركعتان، وأن المصلي إن شاء طوّلهما، وإن شاء قصّرهما إذا وصلهما بالدعاء حتى تنجلي الشمس؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو النظر عندنا؛ لأنا رأينا سائر الصلوات من المكتوبات والتطوع مع كل ركعة سجدتان فالنظر على ذلك أن تكون صلاة الكسوف كذلك، والله أعلم. ش: [قوله:] (¬5) "وجميع ما بيناه" كلام إضافي مبتدأ، وخبره هو قوله: "قول أبي حنيفة". قوله: "وهو النظر عندنا" أي: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه هو الذي يقتضيه وجه النظر والقياس؛ وذلك لأن سائر الصلوات من الفرائض والسنن والنوافل في كل ركعة منها ركوع واحد وسجدتان، فكذلك ينبغي أن تكون صلاة الكسوف؛ نظرًا وقياسًا عليه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 355 رقم 999). (¬2) صحيح مسلم (2/ 620 رقم 902). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 307 رقم 1181). (¬4) "المجتبى" (3/ 129 رقم 1469). (¬5) ليست في "الأصل، ك".

ص: باب: القراءة؛ في صلاة الكسوف كيف هي؟

ص: باب: القراءة؛ في صلاة الكسوف كيف هي؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية القراءة في صلاة الكسوف، ووجه المناسبة بين البابن ظاهر لا يخفى. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما سمعت من النبي - عليه السلام - في صلاة الكسوف حرفًا". ش: عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال، وقد تكرر الكلام فيه. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث زيد بن الحباب، عن ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - صلى صلاة الكسوف فلم نسمع له صوتًا". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2)، والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية" وأبو يعلى المَوْصلي في "مسنده". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - في صلاة الكسوف لا نسمع له صوتًا". حدثنا حسين، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ابن عِبَاد -رجل من بني عبد القيس- عن سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (3/ 335 رقم 6134). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 350 رقم 1/ 350 رقم 3278).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة، عن سمرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: أخرج حديث سمرة من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن الأسود بن قيس العَبدي الكوفي، عن ثعلبة بن عِباد -بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة- عن سمرة بن جندب. وأخرجه الطبراني (¬1) مطولًا: من حديث أبي عوانة، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، وفيه: "ما نسمع له صَوْتًا". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: من حديث زهير، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، وفيه: "ما نسمع له صوتًا". الثالث: عن حسين أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن منصور، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ابن عِبَاد -رجل من عبد القيس- عن سمرة: "أن النبي - عليه السلام - صلّى بهم في كسوف الشمس لا نسمع له صوتًا". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، عن سفيان ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 190 رقم 6798). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 191 رقم 6799). (¬3) "المجتبى" (3/ 148 رقم 1495).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: نا وكيع، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، عن سمرة بن جندب قال: "صلى بنا النبي - عليه السلام - في كسوف لا نسمع له صوتًا". قال أبو عيسى: حديث سمرة بن جندب حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: هكذا صلاة الكسوف لا يُجْهر فيها بالقراءة؛ لأنها من صلاة النهار، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سَعْد ومالكًا والشافعي وآخرين؛ فإنهم ذهبوا إلى الآثار المذكورة، وقالوا: لا يُجْهر فيها بالقراءة؛ لأنها من صلاة النهار، وصلاة النهار عجماء لا يجهر فيها بالقراءة، وممن ذهب إلى هذا القول الإِمام أبو حنيفة -رحمه الله-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يُجْهر فيها بالقراءة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا يوسف ومحمدًا وأحمد وإسحاق وابن المنذر ومالكًا في رواية؛ فإنهم قالوا: يُجهر في صلاة الكسوف بالقراءة، ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وعبد الله بن يزيد - رضي الله عنهم - وهو مذهب الظاهرية أيضًا. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون ابن عباس وسمرة - رضي الله عنهم - لم يسمعا من النبي - عليه السلام - في صلاته تلك حرفًا -وقد جهر فيها- لبُعْدهما منه، فهذا لا ينفي الجهر؛ إذ كان قد روي عنه أنه قد جهر فيها بالقراءة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 451 رقم 562). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 402 رقم 1264).

ومما روي عنه في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - جَهرَ بالقراءة في كسوف الشمس". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو إسحاق الفزاريّ، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها، عن النبي - عليه السلام - مثله. فهذه عائشة تُخْبر أنه قد جهر فيها بالقراءة، فهي أولى لما قد ذكرنا. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين على الطائفة الأولى في ذلك، أي فيما ذهبوا إليه من جهر القراءة في صلاة الكسوف، وهذا في الحقيقة جوابٌ عن حديثي ابن عباس وسمرة اللَّذيْن تمسك بهما الطائفة الأولى، بيانه أنه يجوز أن يكون ابن عباس وسمرة لم يسمعا من النبي - عليه السلام - في صلاته تلك حرفًا، والحال أنه - عليه السلام - قد كان جهر فيهما ولكنهما لم يسمعا ذلك لبعدهما عن النبي - عليه السلام -، فحكيا على ما شاهداه من ذلك، فإذا كان كذلك فهذا لا ينفي جهرَه - عليه السلام - بالقراءة فيها؛ لأنه قد روي عنه أنه قد جهر فيها بالقراءة، وهو معنى قوله: "إذْ كان قد روي عنه أنه قد جهر فيها بالقراءة"، وكلمة "إذْ" ها هنا للتعليل. ثم بيَّن ذلك بما أخرجه عن عائشة - رضي الله عنها - من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، وهو إن كان فيه مقال فقد وثقه أحمد وغيره، على أن حديثه ها هنا متُابع لآخر قد رواه بطريق صحيح جدًّا على ما يجيء الآن، وبهذا يندفع ما قاله البيهقي أن الطحاوي قد يحتج في كتابه بابن لهيعة. وهو يَرْوي عن عُقَيل -بضم العين وفتح القاف- بن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأيلي روى له الجماعة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -.

والثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان البجلي الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمَّد بن الحارث الكوفي سكن المصيصة روى له الجماعة، عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (¬1) مطولًا: عن محمَّد بن مهران، عن الوليد، عن ابن نمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مطولًا، ثم قال في آخره: تابعه سفيان بن حسين وسليمان بن كثير، عن الزهري في الجهر. ومسلم (¬2) أيضًا: عن محمَّد بن مهران الرازي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أنا عبد الرحمن بن نمر، أنه سمع ابن شهاب يخبر، عن عروة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - جهر في صلاة الخسوف بقراءته، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات". وأبو داود (¬3): عن العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، ثنا الأوزاعي، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ قراءةً طويلةً فجهر بها. يعني في صلاة الكسوف". والترمذي (¬4): عن أبي بكر محمَّد بن أبان، قال: نا إبراهيم بن صدقة، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - صلّى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 362 رقم 1016). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 620 رقم 901). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 309 رقم 1188). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 452 رقم 563).

والنسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا الوليد، قال: ثنا عبد الرحمن ابن نمر، أنه سمع الزهريُّ يحدث، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات وجهر فيها بالقراءة، كلما رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد". ص: وقد كان النظر في ذلك لما اختلفوا: أنَّا رأينا الظهر والعصر يُصَلَّيَان نهارًا في سائر الأيام ولا يجهر فيها بالقراءة، ورأينا الجمعة تُصلى في خاصٍّ من الأيام ويجهر فيها بالقراءة، وكانت الفرائض هكذا حكمها، ما كان منها يُفعل في سائر الأيام نهارًا خُوفِتَ فيه، وما كان منها يفعل في خاصً من الأيام جُهِرَ فيه، وكذلك جُعل حكم النوافل، ما كان منها يُفعَل في سائر الأيام نهارًا خُوفِتَ فيه بالقراءة، وما كان منها يُفعل في خاصٍّ من الأيام مثل صلاة العيدين يُجْهر فيها بالقراءة، هذا ما لا اختلاف فيه بين الناس، وكانت صلاة الاستسقاء في قول من يرى في الامشسقاء صلاةً هكذا حكمها عنده يجهر فيها بالقراءة. وقد شَدَّ قوله في ذلك ما روينا عن النبي - عليه السلام - فيما تقدم منا في كتابنا هذا في جهر القراءة في صلاة الاستسقاء. فلما ثبت ما وصَفْنا في الفرائض والسنن؛ ثبت أن صلاة الكسوف كذلك أيضًا، لَمَّا كانت من السنن المفعولة في خاصٍّ من الأيام، وجب أن يكون حكم القراءة فيها كحكم القراءة في السنن المفعولة في خاص من الأيام وهو الجهر لا المخافتة قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله. ش: أي: وقد كان القياس في حكم القراءة في الكسوف حين اختلفوا فيها هل يجهر أو يخافت؟ أنَّا رأينا صلاتي الظهر والعصر يُخافت فيهما بالقراءة لكونهما من الصلوات النهارية غير المخصوصة، ورأينا الجمعة يُجهر فيها بالقراءة لكونها في يوم ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 148 رقم 1494).

خاصٍّ، فهذا حكم الفرائض، وكذلك حكم النوافل فإن بعضها تُجهر فيه القراءة كصلاتي العيدين؛ لأنهما في يومين خاصِّين وبعضها لا تجهر فيه القراءة كسائر النوافل التي تُصلّى في النهار من غير تخصيص. فهذان الفصلان لا خلاف فيهما للعلماء، فالنظر على ذلك ينبغي أن يكون حكم صلاة الكسوف في القراءة التي هي في وقت خاص كحكم سائر السنن التي تفعل في الأوقات الخاصة، وهو الجهر فيها لا الإسرار؛ قياسًا على ذلك، والله أعلم. قوله: "أنا رَأَيْنَا" بفتح الهمزة؛ لأنه في محل النصب على أنه خبر لكان في قوله: "وقد كان النظر". قوله: "يُصلَّيان" على صيغة المجهول، وكذلك قوله: "تُصلَّى". قوله: "وقد شدّ" أي ثَبَّت وقوَّى. قوله: "في ذلك" قول من يرى في الاستسقاء صلاةً. وقوله: "ما رويناه" في محل الرفع على أنه فاعل لقوله: "شدّ" و"قَوْله" منصوب؛ لأنه مفعوله. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن الشّيْبَانيّ، عن الحكم، عن حنشٍ: "أن عليًّا - رضي الله عنه - جهر بالقراءة في كسوف الشمس". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد صلّى عليّ - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف فيما رويناه فيما تقدم من كتابنا هذا. ش: أي: وقد روي الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف عن علي - رضي الله عنه -. وبيّن ذلك بما أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري وأحمد، عن سفيان الثوري، عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني روى له الجماعة عن الحكم بن عُتَيْبَة أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، عن حَنَش بن المعتمر -ويقال: ابن ربيعة- الكناني الكوفي، وثقه أبو داود واحتج به، وكذا النسائي والترمذي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم، عن حنش الكناني: "أن عليًّا - رضي الله عنه - جهَر بالقراءة في الكسوف". قوله: "وقد صلّى عليٌّ مع النبي - عليه السلام - ... " إلى، آخره، أشار به إلى أن عليًّا - رضي الله عنه - إنما جهر بالقراءة في الكسوف لإقامة سنة القراءة فيها؛ وذلك لأنه قد صلَّى مع النبي - عليه السلام - صلاة الكسوف ورآه قد جهر فيها بالقراءة فعلم أنه السنة؛ فلذلك هو جهر لما صلّى، ولو كان النبي - عليه السلام - خافت فيها بالقراءة وعلم عليٌّ بذلك لما كان هو يَجْهر حين صلى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 220 رقم 8330).

ص: باب: التطوع بالليل والنهار كيف هو؟

ص: باب: التطوع بالليل والنهار كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان التطوع كيف يُصلّى في الليل وفي النهار، هل يثنى أو يُربّع؟ والتطوع: ما يفعله الرجل على وَجْه طوعه واختياره من غير إلزام من أحد، ولا موجب له. والمناسبة بين البابين: من حيث أن كلًا منهما مشتمل على صلاة يؤتى بها على وجه التنفل والتطوع من غير إلزام. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت علي بن عبد الله البارقي يُحدّث، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وَأُرَاه قد رفعه إلى النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل والنهار مَثْنى مَثْنى". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحُنَيْنِي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا طريقان: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن يَعْلى بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن علي بن عبد الله الأزدي البارقي روى له الجماعة سوى البخاري، ونسبته إلى "بارق" جَبل نَزله بَنُو سَعْد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد؛ فسُمّوا به. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 29 رقم 1295).

والترمذي (¬1): نا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬2): عن محمَّد بن بشار أيضًا ... إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع. وثنا محمَّد بن بشار وأبو بكر بن خلاد، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قالا: نا شعبة، عن يعلى بن عطاء ... إلى آخره. وقال النسائي (2): هذا الحديث عندي خطأ. وقال الترمذي (1): اختلف أصحاب شعبة في حديث ابن عمر، فرفعه بعضهم وأوقفه بعضهم وقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وروى الثقات عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام - ولم يذكروا فيه صلاة النهار. وقال الخطابي: روى هذا عن ابن عمر: نافعٌ وطاوس وعبد الله بن دينار ولم يذكر فيها أحدٌ "صلاة النهار"، وإنما هو "صلاة الليل مثنى مثنى" إلا أن سبيل الزيادات أن تقبل، وقد قبل. وسئِل البخاري عن حديث يعلى بن عطاء أصحيح هو؟ فقال نعم. قلت: لا يلزم من ذلك صحة هذه الزيادة، فيكون قوله: نعم. راجعًا إلى، قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى". والطريق الآخر: عن فهد بن سليمان، عن إسحاق بن إبراهيم الحُنَيْني -فيه مقال، وروى له أبو داود وابن ماجه- وهو يروي عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - والقرشي العَدَويّ العُمريُّ أبي عثمان المدني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 491 رقم 597). (¬2) "المجتبى" (3/ 227 رقم 1666). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 419 رقم 1322).

وقد رواه الترمذي مُعلقًا وقال: وقد روي عن عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه السلام - نحو هذا. قوله: "مَثْنى" خبر عن قوله: "صلاة الليل"، و"مثنى" الثاني تأكيد؛ لأنه داخل في حده؛ إذْ معناه اثنين، اثنين، اثنين، اثنين، فعن هذا قالت النحاة: إن مثنى معدول عن اثنين ففيه العدل والصفة. ص: قال أبو جفر: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلّم في كل ركعتين، واحتجوا بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور وقالوا: صلاة الليل والنهار ركعتين ركعتين. وقال ابن قدامة: وصلاة التطوع مثنى مثنى يسلّم من كل ركعتين، والتطوع قسمان: تطوع ليل، وتطوع نهار، فأما تطوع الليل فلا يجوز إلا مثنى مثنى، هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس، والأفضل في تطوع النهار أن يكون مثنى مثنى. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، واختلفوا في صلاة الليل فقال بعضهم: إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وإن شئت ستًّا، وإن شئت ثمانيًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا وممن قال ذلك: أبو حنيفة - رضي الله عنه -، وقال بعضهم: صلاة الليل مثنى مثنى يُسلّم في كل ركعتين، وممن قال ذلك: أبو يوسف، فإما ما ذكرناه في صلاة النهار فهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق؛ فإنهم قالوا: صلاة النهار إن شاء يصليها ركعتين وإن شاء يصليها أربعًا، ولكن الأربع أفضل.

ثم اختلف هؤلاء في صلاة الليل، فقال بعضهم -وهم أبو حنيفة وسفيان والحسن بن حي-: إن شئت صليت بتكبيرة واحدة ركعتين وإن شئت صليت أربع ركعات، وإن شئت ست ركعات، وإن شئت ثمان ركعات، وكرهوا أن يزيد على ذلك أي على الثمان. وقال بعضهم -وهم: أبو يوسف ومحمد وأبو ثور-: صلاة الليل مثنى مثنى، يسلّم في كل ركعتين، وهو قول الطائفة الأولى. وقال ابن قدامة: وكان إسحاق يقول: صلاة النهار أختار أربعًا، وإن صلى ركعتين جاز، ويشبهه قولُ الأوزاعي وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحابنا: ولا يزاد في الليل على اثنتيْن ولا في النهار على أربع، ولا يصح التطوع بركعة ولا بثلاث، وهذا ظاهر كلام الخرقي. وقال القاضي: ولو وصل ستًّا في ليل أو نهار كُرهَ وصحّ. وقال أبو الخطاب: في صحة التطوع بركعة روايتان: إحداهما: يجوز؛ لما روى سعيد، قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال: "دخل عمر المسجد، فصلى ركعة ثم خرج، فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعةً. قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص". قلت: روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "أنه نهى عن البُتَيْراء" أخرجه أبو عمر (¬1)، وقد ذكرناه بإسناده في باب "الوتر". وفي "التلويح شرح البخاري": قال الثوري: صلِّ ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين. وهو قول الحسن بن حيّ. وقال الأوزاعي: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار أربع، وبه قال النخعي. ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: وكان من حجتهم على أهل المقالة الأولى: أن كل من روى حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - سوى عليّ البارقي وسوى ما روى العمريُّ، عن نافع، عن ابن عمر- إنما يُقصد إلى صلاة الليل خاصةً دون صلاة النهار، وقد ذكرنا ذلك في باب "الوتر". ش: أي وكان من دليلهم -أي دليل أهل المقالة الثانية- على أهل المقالة الأولى، وأشار به إلى الجواب عن الحديث المذكور، وهو أن كل من روى هذا الحديث عن عبد الله بن عمر -غير علي البارقي، وغير عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر لم يذكروا في رواياتهم: "النهار" وإنما ذكروا: "الليل" فقط؛ ولهذا قال الترمذي: ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام - ولم يذكروا فيه: "صلاة النهار". ولأجل ذلك أيضًا قال النسائي: وهذا الحديث عندي خطأ. وقال الدارقطني: هذا غير محفوظ، وإنما تعرف: "صلاة النهار" عن يعلى بن عطاء، عن علي البارقي، عن ابن عمر، وقد خالفه نافع -وهو أحفظ منه- فذكر أن صلاة الليل مثنى مثنى والنهار أربعًا، وفي رواية يحيى، عن عبيد الله، عن نافع: "أن ابن عمر كان يصلي بالليل مثنى مثنى وبالنهار أربعًا" ورواه وهب بن وهب القاضي -وهو متروك- عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ووهم فيه والمحفوظ عن عبيد الله ما ذكرناه. وروى إبراهيم الحُنيني، عن مالك والعمري، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" وكذلك روي عن عبد الله، عن نافع. ولا يثبت عنه، وإنما تعرف هذه اللفظة من رواية الحُنيني. قال ابن عبد البر: ورواية الحنيني خطأ لم يتابعه عن مالك أحد. وفي سؤالات "مضر بن محمد": سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل والنهار

فقال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن، وصلاة [الليل] (¬1) ركعتان، فقلت: إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال: بأيّ حديث؟ قلت: بحديث شعبة، عن يعلى، عن علي الأزدي، عن ابن عمر. فقال: ومَنْ علي الأزدي حتى أقبل منه هذا؟! أَدَعُ يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا لا يفصل بينهن" وآخذ بحديث علي الأزدي؟! لو كان حديث علي صحيحًا لم يخالفه ابن عمر. قال يحيى: وكان شعبة يتقي هذا الحديث وربما لم يرفعه، وقال الفضل بن زياد: قيل لأحمد: رواه أحدٌ عن ابن عمر غير عليّ؟ قال: نعم، إلا أنه أوقفه. ص: وقد روي عن ابن عمر مِنْ فعله بعد النبي - عليه السلام - ما يدل على فَسادِ هَذيْن الحَدِيثَيْن أيضًا اللّذَيْن ذكرناهما في أول هذا الباب. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يُصلّي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا". وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن زيْدٍ، عن جَبَلَة بن سُحيم، عن عبد الله بن عمر: "أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا لا يفصل بينهن بسلام، ثم بعد الجمعة ركعتين، ثم أربعًا". فاستحال أن يكون ابن عمر يَرْوي عن النبي - عليه السلام - ما رواه عنه عليٌّ البارِقيُّ، ثم يفعل هو خلاف ذلك. ش: هذا جواب آخر عن الحديث المذكور الذي احتجت به الطائفة الأولى، بيانه: أنه قد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يُصَلي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا وذلك بعد النبي - عليه السلام -، وهذا يدل على فساد الحديث المذكور الذي روي من حديث علي البارقي، عن ابن عمر، ومن حديث العمري، عن نافع، عن ابن عمر؛ وذلك ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": النهار. والمثبت هو الصواب.

لأنه يستحيل أن يكون ابن عمر يَرْوي عن النبي - عليه السلام - ذلك ثم يفعل هو بخلاف ذلك، فلو كان ابن عمر حفظ عن النبي - عليه السلام -: "صلاة النهار مثنى" لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعًا. وقال أبو داود: وفي هذا توهين لحديث علي الأزدي البارقي. ثم إنه أخرج أثر ابن عمر من طريقين صحيحين: أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عَمْرو الرقي روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر. والآخر: عن فهد أيضًا، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عَمْرو الرقي، عن زيد بن أبي أُنَيْسة الجَزَرِي، عن جبلة بن سُحَيم التَيْمي، عن عبد الله ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يصلي بالنهار أربعًا أربعًا". ص: وأما ما روى في ذلك عن غير ابن عُمَر، عن النبي - عليه السلام -: فحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عُبَيدة الضبّيُ (ح). وحدثنا ربيعٌ الجيزيُّ، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زبد بن أبي أُنَيْسة، عن عبيدة (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عبيدة، عن إبراهيم النخعي، عن سهم بن منجاب، عن قزَعة، عن القَرْثعَ، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "أدمن رسول الله - عليه السلام - أربع ركعات بعد زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله - عليه السلام - إنك تُدمِنُ هؤلاء الأربع ركعات؟ فقال: يا أبا أيوب، إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء فلم تُرْتَجْ حتى يُصلَّى ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 74 رقم 6635).

الظهرُ، فأحب أن يصعد لي فيهن عمل صالح قبل أن تُرْتَجَ. فقلت: يا رسول الله - عليه السلام -، في كلهن قراءة؟ قال: نعم، قلت: بينهن تسليمٌ فاصل؟ قال: لا، إلا التشهد". فقد ثبت بهذا الحديث أنه قد يجوز أن يتطوع بأربع ركعات بالنهار لا يُسلَّم بينهن، مثبت بذلك قول مَنْ ذكرنا أنه ذهب إلى ذلك. ش: أي: وأما ما روي من التطوع في النهار بأربع ركعات عن غير عبد الله بن عمر من الصحابة - رضي الله عنهم - فحديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدوسي، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد روى له الجماعة، عن عُبَيْدة -بضم العين وفتح الباء- بن مُعَتّب الضبي الكوفي روى له الجماعة سوى مسلم والنسائي، ولكن البخاري مستشهدًا، وفيه كلام كثير، عن إبراهيم النخعي، عن سَهْم بن مَنْجاب بن راشد الضبي الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن قَزَعة بن يحيى -ويقال: ابن الأسود- أبي الغادية البصري روى له الجماعة، عن القَرْثَع -بفتح القاف وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة وفي آخره عين مهملة- الضبي، وكان من القراء الأولين، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وقال ابن حبان: يروي أحاديث يخالف فيها الثقات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو معاوية، نا عُبَيْدة، عن إبراهيم، عن سَهْم ابن مَنْجَاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: "أدْمَن رسول الله - عليه السلام - أربع ركعات عند زوال الشمس، قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الركعات التي أراك قد أَدْمَنْتها؟ قال: إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس فلا تُرْتَجُ حتى يُصلّى الظهر فأُحبُّ أن يَصْعد لي فيها خيرٌ. قال: قلت: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 416 رقم 23579).

يا رسول الله، تقرأ فيهن كلهن؟ قال: قال: نعم. قال: قلت: ففيها سلامٌ فاصل؟ قال: لا". وأخرجه أبو داود (¬1) مختصرًا، وليس في روايته ذكر قَزَعة، وقال: ثنا ابن المثنى، نا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، قال: سمعت عُبَيْدة، عن إبراهيم، عن ابن مَنْجَاب، عن قَرْثَع، عن أبي أيوب، عن النبي - عليه السلام - قال: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبوابُ السماء" قال أبو داود: بلغني عن يحيى بن سعيد القطان، قال: لو حَدَّثت عن عُبَيْدة بشيء لحَدّثْتُ بهذا الحديث. قال أبو داود: عُبيدة ضعيف، وابن منجاب هو سهم. وقال: البيهقي: وجاء هذا الحديث عن شعبة، وفيه عن سَهْم، عن قزعة، عن قَرْثَع. وقيل: عن قَرْثعَ، عن قزعة. قوله: "أَدْمَن رسول الله" من قولهم: فلان يُدمن كذا أي يُديمُه. وقوله: "أربع ركعات" مفعول لقوله: "أدمن". قوله: "فلم ترتج" أي: فلم تغلق من ارْتَجْتُ الباب إذا أغلقته، والإِرْتاج: الغَلْقُ، ويُرْوَى: "فلن ترتج" ويروى: "فلا تُرتج". الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي البصري الأعرج شيخ أبي داود والنسائي -وثقه ابن يونس والخطيب- عن علي بن معبد بن شداد العبدي -وثقه أبو حاتم- عن عُبَيد لله بن عَمرو الرَّقّي روى له الجماعة، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري روى له الجماعة، عن عبيدة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث هشيم وإسماعيل بن زكرياء، كلاهما عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم بن منجاب، عن قزعة، عن قرثع، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 23 رقم 1270). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 488 رقم 4356).

أبي أيوب الأنصاري قال: "أدمن رسول الله - عليه السلام - أربع ركعات يُصلّيهن حين تزول الشمس في منزل أبي أيوب، فقلت: يا رسول الله - عليه السلام -، ما هذه الصلاة؟ قال: إن أبواب السماء تفتح حين تزول الشمس فلا تُرتَج حتى يُصلّى الظهر، فأحب أن يَصْعَدَ لي فيهن خيرٌ قبل أن تُرتَج أبواب السماء. قال: يا رسول الله - عليه السلام -، تقرأ فيهن -أو يقرأ فيهن- كلهن؟ قال: نعم. قال: فيهن سلام فاصل؟ قال: لا، إلا في آخرهن". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدِي روى له الجماعة، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني روى له الجماعة، عن عبيدة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن سهل الرازي، عن سهل بن عثمان، ثنا محمد بن فضيل، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم بن منجاب، عن القَرْثعَ الضبي، عن أبي أيوب قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي أربع ركعات قبل الظهر حين تزول الشمس، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الصلاة؟ قال: إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس حتى يُصلّى الظهر، وإني لأحب أن يرفع لي فيهن عمل صالح". وفي رواية أخرى له: "قال: تقرأ فيهن؟ قال: نعم. قال: تفصل فيهن بسلام؟ قال: لا". الرابع: عن عبد العزيز بن معاوية القرشي، عن فهد بن حَيَّان -بالياء آخر الحروف المشددة- النهشلي البصري -ضعفه ابن المديني وأبو حاتم- عن شعبة بن الحجاج، عن عُبَيْدة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن ابن المثنى، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة ... إلى آخره وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (4/ 168 رقم 4031). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 23 رقم 1270).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن عبيدة بن مُعَتّب الضبي، عن إبراهيم، عن سهم بن مِنْجاب، عن قزعة، عن قَرْثَع، عن أبي أيوب الأنصاري: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي قبل الظهر أربعًا، إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بسلام، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس". قوله: "فقد ثبت بهذا الحديث" أي بحديث أبي أيوب الأنصاري، أنه قد يجوز أن يتطوع الرجل بالنهار بأربع ركعات بتسليمة واحدةٍ في آخرهن، فثبت بذلك -أي بحديث أبي أيوب- قول مَنْ ذكرنا أنه ذهب إلي ذلك أي إلى أن التطوع بالنهار هو أربع ركعات بتسليمة واحدة، وهو قول أصحابنا، فإذا كان حجة لهم يكون حجة على مَنْ خالفهم في ذلك. فإن قيل: قال أبو جعفر المعروف بالإمام: رأيت أبا عبد الله وإسحاق بن أبي إسرائيل في المسجد الجامع قبل الصلاة، فصلى أبو عبد الله عشر ركعات ركعتن ركعتين، وصلى إسحاق ثمان ركعات أربعًا أربعًا لم يفصل بينهن بسلام. فقلت لإسحاق، فقال: حديث أبي أيوب أن النبي - عليه السلام - كان يصلي قبل الظهر أربعًا لا يفصل بينهن بسلام. فجئت إلى أبي عبد الله فسألته فقال: حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، فذكر الحديث الذي مضى ذكره في أول الباب، قال: فقلت: فحديث أبي أيوب في الأربع؟ قال: هذا رواه قَرْثعَ وقَزْعة، ومن قَرْثَع وقَزْعة؟! انتهى. وفي "صحيح ابن خزيمة" (¬2): وأما الخبر الذي احتج به بعض الناس في الأربع قبل الظهر بتسليمة -حديث أبي أيوب- فإنه روي بسند لا يَحتَجُّ بمِثله مَنْ له معرفة برواية الآثار، وروي شبيهًا به عن المسيب بن رافع، عن علي بن الصلت، عن أبي أيوب مرفوعًا إلا أنه ليس فيه: "لا يسلم بينهن" ولست أعرف عليًّا هذا ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 365 رقم 1157). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 223 رقم 1215).

ولا أدري من أيّ بلاد الله تعالى، ولا أفهم أَلقِيَ أبا أيوب أم لا؟ ولا يحتج بمثل هذه الأسانيد إلا معاند أو جاهل. قلت: الجواب عليه من وجهين: الأول: بطريق المنع، فنقول: قول أبي عبد الله: "مَنْ قَرْثَع وقَزْعة؟ " لا يلزم منه تضعيفهما ولا تضعيف الحديث بهما؛ لأن قزعة روى له الجماعة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأما قَرْثَع فإنه تابعي، ولما أخرج أبو داود حديثه عن أبي أيوب لم يضعفه بقرثع وإنما ضَعّفه بعُبَيْدة بن معتب. فإن قيل: فحينئذٍ ثبت المدعى، وصار الحديث ضعيفًا وهو الوارد عليكم. قلت: يحتمل أن يكون عبيدة ثقة عند الطحاوي، وقال أبو زرعة: ليس بقوى. وقال ابن عدي: يكتب حديثه. وأما تشنيع ابن خزيمة فغير رائج ولا طائل؛ لأنه متحامِلٌ فيما قاله، وقد قال أبو نعيم الحافظ في كتاب "قربان المتقين": روى حديث أبي أيوب عنه أبو أسامة، عن ابن زَحْر، عن علي بن القاسم، والشعبي من حديث السريّ بن إسماعيل ومحمد بن أيوب من حديث السكن بن أبي كريمة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. ورواه ثوبان عن النبي - عليه السلام - كرواية أبي أيوب من حديث صالح بن جبير، ثنا أبو أسماء الرحبي، عنه. وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من رواية عبد الله بن محمَّد بن فاختة، ثنا هارون، ثنا علي بن عاصم، عن يحيى البكاء، عن ابن عمر، عنه. وعبد الله بن السائب من رواية ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عنه. والعباس بن عبد المطلب من رواية موسى بن عبيدة، عن سعيد بن أبي سعيد مولى أبي بكر، ثنا محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبي رافع، عنه.

والفضل بن عباس من رواية عبد الرحمن بن حميد الطائي، عن أبيه، عن أبي رافع، عنه. وأم سلمة من رواية عمر بن قيس، عن ابن جبير، عنها. الجواب الثاني: بطريق التسليم وهو أن نقول: ولئن سلمنا ضعف هذا الحديث، فالأحاديث الضعيفة يحتج بها في أبواب الفضائل والرغائب، وما نحن فيه من هذا القبيل، وأيضًا يجوز أن يكون ذُكِرَ هذا الحديث متابعة لا روى في هذا الباب من الصحيح، فافهم. ص: وقد روي هذا أيضًا عن جماعة من المتقدمين، حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عُبَيدة، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله يُصلي أربع ركعات قبل الظهر، وأربع ركعات بعد الجمعة، وأربع ركعات بعد الفطر والأضحى، ليس فيهن تَسليم فاصل، وفي كلهن القراءة". حدثنا أبو بشر الرّقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن مُحِلّ الضبي، عن إبراهيم: "أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا لا يفصل بينهن بتسليم". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حُصَيْن، عن إبراهيم قال: "ما كانوا يسلّمون في الأربع قبل الظهر". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، قال: "سأل محل الضَبيٌّ إبراهيم عن الركعات قبل الظهر أيُفْصَلُ بينهن بتسليم؟ فقال: إن شئت اكتفيت بتسليم التشهد وإن شئت وصلت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أبي معشر، أن إبراهيم قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، إلا أنك إن شئت صليت من النهار أربع ركعات لا تسلم إلا في آخرهن".

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد ثبت حكم صلاة النهار على ما ذكرنا وروينا في هذه الآثار، لم يَدْفع ذلك ولم يعارضه شيء، وأما صلاة الليل فقد ذكرنا فيها من الاختلاف ما ذكرنا في أول هذا الباب. ش: أي وقد روي التطوع بالنهار بأربع ركعات بتسليمة واحدة في آخرهن عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأخرج عن الصحابة: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من طريقين: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن إبراهيم بن طهمان الخراساني، عن عُبَيْدة بن مُعَتّب الضبي الكوفي، عن إبراهيم النخعي قال: كان عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عباد بن عوّام، عن حصين، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: "أربع قبل الظهر لا يُسلّم بينهن إلا أن يتشهد" انتهى. قلت: رواية إبراهيم عن عبد الله مرسلة. والآخر: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد ابن خازم روى له الجماعة، عن مُحِل -بضم الميم وكسر الحاء المهملة- بن محرز الضبي الأعور الكوفي -وثقه ابن معين وأحمد، وقال النسائي: ليس به بأس. وأخرج عن إبراهيم من ثلاث طرق: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة، عن مغيرة بن مقسم الضبي روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 17 رقم 5945).

قوله: "أَيُفْصلُ" الهمزة فيه للاستفهام. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضُّبَعي، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي معشر زياد بن كليب الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قوله: "لم يدفع ولم يعارضه" تنازعا في قوله: شيء، وقد عُرِفَ أن الإعمال في مثل هذا للثاني عند البصرية، وللأول عند الكوفية. ص: وكان من حجة الذين جعلوا له أن يُصلي بالليل ثمانيًا لا يَفْصِل بينهن بتسليم: حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة منها الوتر ثلاث". فقيل لهم: فقد روى الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنه كان يُسَلِّم بين كل اثنين منهن". وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لِمَا فعل النبي - عليه السلام - وأمر به وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله ولا من فعله أنه أباح في الليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، فبذلك نأخذ، وهو أصح القولين عندنا في ذلك، والله أعلم. ش: أراد بهؤلاء الذين جعلوا للمتطوع أن يُصلي بالليل ثمان ركعات بتسليمة واحدة: الثوري والحسن بن حيّ وأبا حنيفة رحمهم الله؛ فإنهم استدلوا على ذلك بما روي عن النبي - عليه السلام - أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعةً منها الوتر ثلاث. وقد أخرجه مسندًا في باب الوتر، ولما كان اختيار الطحاوي في هذا ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد من أن التطوع بالليل لا يزاد على ركعتين بتسليمة واحدة، ذكر استدلال هؤلاء، ثم أجاب عنه بقوله: "فقيل لهم" أي لهؤلاء الذين جعلوا له أن يصلي بالليل ثمانيًا بتسليمة واحدة: "فقد روى الزهري، عن عروة، عن عائشة ... " إلى آخره.

وقد أخرجه في باب "الوتر" بقوله: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث وابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أخبرهم، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُصلّى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يُسلِّم بين كل ركعتين ... " الحديث. وقد ذكرنا هناك أن مسلمًا (¬1) وأبا داود (¬2) أخرجاه أيضًا. قوله: "وهذا الباب" أشار به إلى باب كيفية إقامة النوافل. قوله: "فبذلك نأخذ" أي بما روي عن النبي - عليه السلام - أنه كان يسلم بين كل ركعتين من النوافل. قوله: "وهو أصح القولين عندنا في ذلك" أي هذا الذي أخذنا هو أصح القولين، وأراد بهما قول أبي حنيفة ومن تبعه، وقول أبي يوسف ومحمد، وبقولهما قال الشافعي ومالك وأحمد أيضًا كما ذكرناه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 508 رقم 736). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 39 رقم 1336).

ص: باب: التطوع بعد الجمعة كيف هو؟

ص: باب: التطوع بعد الجمعة كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية التطوع بعد صلاة الجمعة، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَنْ كان مُصلّيًا منكم بعد الجمعة فليصلّ أربعًا". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وسفيان هو ابن عُيَيْنة، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات المدني، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: نا جرير. ونا عمرو الناقد وأبو كريب، قالا: نا وكيع، عن سفيان، كليهما عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَنْ كان منكم مصلّيًا بعد الجمعة فليصلّ أربعًا". وليس في حديث جرير "منكم"، وفي لفظٍ له: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا"، وفي لفظٍ آخر: "إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعًا". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، ونا محمَّد بن الصباح البزاز، نا إسماعيل بن زكرياء، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال ابن الصباح-: "مَنْ كان مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا" وتمّ حديثه -وقال ابن يونس-: "إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 600 رقم 881). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 294 رقم 1131).

وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. فإن قيل: ينبغي أن يكون هذا واجبًا؛ لوجود الأمر. قلت: نبّه - عليه السلام - على عدم الوجوب بقوله: "مَنْ كان منكم مُصلِّيًا" وهو القرينة الصارفة عن الوجوب فيكون سنة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه هو أربع ركعات لا يُفصل بينهن بسلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة ومحمدًا وأحمد في رواية وإسحاق، فإنهم قالوا: السنة بعد صلاة الجمعة أربع ركعات، ويحكى ذلك عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي، وقال القاضي عياض: قال أبو حنيفة وإسحاق: يصلي أربعًا لا يفصل بينهن بسلام. قوله: "واحتجوا في ذلك بهذا الحديث" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه: ركعتان كالتطوع بعد الظهر. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مالكًا وأحمد في رواية ويحيى بن يحيى والزهري؛ فإنهم قالوا: بل التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه ركعتان. ويحكى ذلك عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 399 رقم 523). (¬2) "المجتبى" (3/ 113 رقم 1426). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 358 رقم 1132).

وقال عياض: أخذ مالك برواية ابن عمر وجعله في الإِمام أشدّ، ووسَّع لغيره في الركوع في المسجد مع استحبابه أن لا يفعلوا، ووجه ذلك أن لا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرًا أربعًا، أو يظن جاهل ممَّنْ رآه يتنفل بعدها بركعتين أنها ظهرٌ. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بشْرٍ الرَقّى، قال: ثنا حجاج بن محمَّد، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان لا يصلي الركعتين بعد الجمعة إلا في بيته". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارِمٌ، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "رأى رجلًا يصلي ركعتين بعد الجمعة فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعًا؟ قال: وكان ابن عمر يصلي الركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل النبي - عليه السلام -". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه من وجهين صحيحين: أحدهما: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقّي، عن حجاج بن محمَّد المصيصي الأعور روى له الجماعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته". وأخرجه الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وليس في حديثه: "في بيته". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 259 رقم 1132). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 399 رقم 523). (¬3) "المجتبى" (3/ 113 رقم 1428). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 358 رقم 1130).

وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أنه وصف تطوع صلاة النبي - عليه السلام - فقال: وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلّي ركعتين في بيته". والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم -وهو محمَّد بن الفضل السَّدُوسي البصري شيخ البخاري- عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): حدثنا محمَّد بن عبيد وسليمان بن داود -المعنى- قالا: ثنا حماد بن زيد، نا أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - رأى رجلًا يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعًا؟ وكان عبد الله يصلي ركعتين يوم الجمعة في بيته ويقول: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -". قلت: وإنما أنكر ابن عمر على ذلك الرجل لأنه أوصل الركعتين بالجمعة من غير فصل بكلام ونحوه، ولأنه خالف فعل الرسول - عليه السلام - في زعمه؛ لأنه كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته ويقول هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه ستٌ، أربعٌ ثم ركعتان. ش: أي خالف الفريقن المذكررَيْن جماعة آخرون؛ وأراد بهم: عطاء ومجاهدًا وحميد بن عبد الرحمن والثوري والشافعي وأبا يوسف، فإنهم قالوا: التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه ست ركعات، أربع بتسليمة، ثم ركعتان بعدها، ويحكى ذلك عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري. ص: وقالوا: قد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - قال ما رواه عنه أبو هريرة أولًا، ثم فعل ما رواه عنه ابن عمر، فكان ذلك زيادة فيما تقدم من قوله، والدليل على ما ذهبوا إليه من ذلك: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 600 رقم 882). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 294 رقم 1127).

أن سليمان بن شعيب حدثنا، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عطاء -قال أبو إسحاق: حدثني غير مرة- قال: "صليت مع ابن عمر يوم الجمعة، فلما سلم قام فصلّى ركعتين، ثم قام فصلى أربع ركعات، ثم انصرف". فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - قد كان يتطوع بعد الجمعة بركعتين، ثم أربع، فيحتمل أن يكون فعل ذلك لما كان قد ثبت عنده من قول النبي - عليه السلام - في ذلك وفعله، على ما ذكرناه. ش: أي قال هؤلاء الآخرون، وهذه إشارة إلى الجواب عن حديث أبي هريرة والتوفيق بين الأحاديث، بيانه: أن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - يَحْتملُ أن يكون متأخرًا عن حديث أبي هريرة، مشتملًا عليه وعلى زيادة؛ فيجب قبولها والعمل بها. والدليل على هذا التوفيق: ما قاله عطاء بن أبي رباح أنه قال: "صليت مع ابن عمر يوم الجمعة، فلما سلم قام، فصلى ركعتين، ثم قام فصل أربع ركعات، ثم انصرف" ففعله هذا يدلُّ على أنه قد ثبت عنده ذلك من قول النبي - عليه السلام - وفعله. ثم إنه أخرج حديث عطاء هذا عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن ابن زياد الثقفي الرصاصي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عطاء. وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عطاء قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا صلَّى الجمعة صلَّى بعدها ست ركعات، ركعتين ثم أربعًا". ص: وقد روي عن علي - رضي الله عنه - مثل ذلك: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي حَصِين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "مَنْ كان مصليًا بعد الجمعة فليصل ستًّا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 464 رقم 5370).

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: "علّم ابن مسعود الناس أن يُصلُّوا بعد يوم الجمعة أربعًا، فلما جاء عليٌّ - رضي الله عنه - علمهم أن يُصلُّوا ستًّا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: "قدم علينا عبد الله، فكان يُصلّي بعد الجمعة أربعًا، فقدم بعده عليٌّ - رضي الله عنه - فكان إذا صلّى الجمعة صلى بعدها ركعتين وأربعًا، فأعجبنا علي - رضي الله عنه - فاخترناه". ش: أي قد روي عن علي بن أبي طالب مثل ما روي عن عبد الله بن عمر من فعل التطوع بعد الجمعة بستّ ركعاتٍ. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي حَصِين بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، واسمه عثمان بن عاصم الكوفي، روى له الجماعة، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلمي الكوفي القاري ولأبيه صحبة، روى له الجماعة. وأخرج عبد الرزاق (¬1) من حديث أبي إسحاق أنه قال: "كان علي - رضي الله عنه - يصلي بعد الجمعة ست ركعات" قال: وبه نأخذ. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن حبيب قال: "كان عبد الله يصلي أربعًا، فلما قدم عليٌّ - رضي الله عنه - صلّى ستًّا، ركعتي وأربعًا". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 247 رقم 5524). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 464 رقم 5369).

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيمُ، قال: أنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: "قدم علينا ابن مسعود - رضي الله عنه - فكان يأمرنا أن نصلي بعد الجمعة أربعًا، فلما قدم عليٌّ - رضي الله عنه - أمرَنا أن نصلّي ستًّا، فأخذنا بقول عليّ - رضي الله عنه - وتركنا قول عبد الله، قال: كنَّا نصلي ركعتين ثم أربعًا". ص: وثبت بما ذكرنا أن التطوع الذي لا ينبغي تركه بعد الجمعة ستٌّ، وهو قول أبي يوسف إلا أنه قال: أحبُّ إليَّ أن يُبدأ بالأربع ثم يُثنَّى بالركعتين؛ لأنه هو أبْعد من أن يكون قد صلّى بعد الجمعة مثلها على ما قد نُهِيَ عنه، فإنه قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مُسهِر، عن خَرشة بن الحر "أن عمر - رضي الله عنه - كان يكره أن يُصلّى بعد صلاة مثلها". قال أبو جعفر: فلذلك استحبّ أبو يوسف -رحمه الله- أن يُقدِّم الأربع قبل الركعتين؛ لأنهن لسْن مثل الركعتين، وكره أن تُقدَّم الركعتان لأنهما مثل الجمعة. وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فكان يذهب في ذلك إلي القول الذي بدأنا بذكره في أول هذا الباب، والله أعلم. ش: أي وثبت بما ذكرنا من الآثار المذكورة أن المستحب أن يصلي بعد صلاة الجمعة ستّ ركعات، وهو قول أبي يوسف والشافعي والثوري وآخرين -الذين ذكرناهم فيما قبل- إلا أن أبا يوسف قال: أحب إليَّ ... إلى آخره. ثم إسناد الأثر المذكور صحيح، أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري البصري روى له الجماعة، عن سفيان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 464 رقم 5368).

الثوري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن سليمان بن مُسْهِر الفزاري الكوفي روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن خَرَشَة -بفتح الخاء المعجمة والراء المهملة والشين المعجمة- ابن حُرّ الفزاري، وكان يتيمًا في حجر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويقال: له صحبة، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مُسْهِر، عن خَرَشة قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يكره أن يُصلَّى خلف صلاة مثلها". ونا هشيم (¬2)، عن الأعمش، عن سليمان بن مُسْهِر، عن خرشة بن الحر، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كره أن يُصلّى بعد المكتوبة مثلها" انتهى. وذلك أنه إذا تنفل بعد الفرض مثله لا يتميز الفرض من النفل، وللفرض مزية كبيرة على النفل، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 22 رقم 5998). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 22 رقم 6003).

ص: باب: الرجل يفتتح الصلاة قاعدا هل يجوز له أن يركع قائما؟

ص: باب: الرجل يفتتح الصلاة قاعدًا هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ ش: أي هذا باب في بيان من شرع في الصلاة قاعدًا هل يجوز له أن يركع حال كونه قائمًا؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى. ص: حدثنا سليمان بن شُعَيْب، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُكبِّر للصلاة قائمًا وقاعدًا، فإذا صلى قائمًا يركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسّان، عن محمَّد، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها - أنه سألها عن ذلك فحدثته عن النبي - عليه السلام - مثله سواء. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي، قال: ثنا أبو هلال، عن محمَّد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بكُير، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا بُدَيل بن مَيْسرة، عن ابن شقيق، عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن سنان، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُدَيْل ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمّل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة ... " فذكر مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل المنقري، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن بُدَيل بن مَيْسرة وحميد، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا المَسْعوديّ، عن يونس بن عُبَيْد، عن عبد الله بن مغفل، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثمان طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيْساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي نزيل مصر، عن يزيد بن إبراهيم التُّسْتري أبي سعيد البصري، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق العُقَيلي -بضم العين- أبي عبد الرحمن البصري، عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها -. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عَبْدة بن عبد الرحيم، قال: أنا وكيع، قال: حدثني يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي قائمًا وقاعدًا، وإذا افتتح الصلاة قائمًا ركع قائمًا وإذا افتتح قاعدًا ركع قاعدًا". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو معاوية، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق قال: "سألنا عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - يُكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا فإذا افتتح الصلاة قائمًا ركع قائمًا، وإذا افتتح الصلاة قاعدًا ركع قاعدًا". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عبد الله بن أبي بكر واسمه السَّكَنُ بن الفضل الأَزْدي العَتكي -بفتح العين المهملة والتاء المثناة من فوق- نسبة إلى عَتِيك أب حَيٍّ من العرب، وهو عتيك بن أسد بن عمران بن عَمْروُ مزيقياء ابن ماء السماء. ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (1/ 427 رقم 1355)، و"المجتبى" (3/ 219 رقم 1647). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 505 رقم 730).

وهو يروي عن أبي هلال محمَّد بن سليم الراسِبي، عن محمَّد بن سيرين ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا الحسن بن موسى، نا أبو هلال، عن محمَّد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا، فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا". الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن بُكَير القرشي المصري، عن حماد بن زيد، عن بُدَيْل بن ميسرة العقيلي البصري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا حماد، عن بديل وأيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُصلّي ليلًا طويلًا، وإذا صلّى قائمًا يركع قائمًا وإذا صلّى قاعدًا ركع قاعدًا". وأخرجه أبو داود (¬3): عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن بديل وأيوب يحدثان عن عبد الله بن شقيق ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن سنان الباهلي شيخ البخاري ومسلم، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة. وأخرجه أحمد (¬4) أيضًا من حديث بديل، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 262 رقم 26300). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 504 رقم 730). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 251 رقم 955). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 227 رقم 25946، 261/ 6 رقم 26296).

السادس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة. وأخرجه أحمد (¬1): عن إسماعيل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام -، قالت: كان يُصلي أربعًا قبل الظهر وثنتين بعدها، وثنتين قبل العصر، وثنتين بعد المغرب، وثنتين بعد العشاء، ثم يُصلّي من الليل تسعًا. -قلت: أقائمًا أم قاعدًا؟ قالت: يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا. قلت: كيف يصنع إذا كان قاعدًا؟ قالت: إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا- وركعتين قبل الصبح". السابع: عن أحمد بن داود المكي، عن موسى بن إسماعيل المِنقري البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن بُدَيل بن ميسرة وحميد الطويل ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن حميد الطويل، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - عليه السلام - بالليل فقالت: كان يصلّي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا، وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا". الثامن: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المَسعْودي الكوفي، عن يونس بن عبيد ابن دينار البصري، عن عبد الله بن مَعْقِل بن مُقرن المزني الكوفي، عن عائشة - رضي الله عنها -. ص: فذهب قوم إلى كراهة الركوع قائمًا لمن افتتح الصلاة قاعدًا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 216 رقم 25861). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 505 رقم 10 - 505 رقم 730).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: محهمد بن سيرين وأشهب من المالكية وبعض الظاهرية؛ فإنهم ذهبوا إلى كراهة الركوع قائمًا لمن شرع في الصلاة قائمًا، واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا به بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: الحسن البصري والثوري والنخعي وأبا حنيفة وأصحابه والشافعي ومالكًا وأحمد فإنهم لم يروا به -أي بما ذكر من الصورة- بأسًا. ثم اعلم أن الصلاة قاعدًا من غير عذر في الفرض لا تجوز إجماعًا وفي النفل تجوز إجماعًا؛ لأن باب النفل أوسع؛ لأنه جاء عنه - عليه السلام - أنه كان يصلي في شيخته قاعدًا وإذا شرع في النفل قائمًا ثم أراد التخفيف على نفسه بالجلوس. فقال القاضي عياض: مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وعامة العلماء جواز تمام صلاته جالسًا، وكره ذلك محمد بن الحسن وأبو يوسف في آخرين، واختلف كبراء أصحاب مالك إذا نَوَى القيام فيها كلها هل له أن يجلس؟ فأجازه ابن القاسم، ومنعه أشهب، ثم اختلف في صفة جلوسه في حال القيام والركوع، فقيل: متربعًا، وهو قول مالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق واحد قولي الشافعي ووافق أبو يوسف إلا أنه قال: يثني رجليه عند الركوع كالتشهد. وقيل: جلوسه كله كهيئة جلوسه في التشهد. قاله ابن المنكدر، وهو قول ابن أبي حازم ومحمد بن عبد الحكم وأحد قولي الشافعي وربيعة. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬1): لا نعلم خلافًا في إباحة التطوع جالسًا وأنه في القيام أفضل ويكون في حال القيام متربعًا ويثني رجليه في الركوع والسجود، روي ذلك عن ابن عمر وأنس وابن سيرين ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي وإسحاق، وعن أبي حنيفة كقولنا، وعنه: يجلس كيف شاء، وروي عن ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 811).

ابن المسيب وعروة وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وعطاء الخراساني أنهم كانوا يحتبون في التطوع، واختلف فيه عن عطاء والنخعي، ثم قال: وهو مخيرّ في الركع والسجود، إن شاء من قيام، وإن شاء مِن قعود، ثم روى الحديث المذكور والحديث الذي يأتي، ثم قال: قال أحمد وإسحاق: العمل على كلا الحديثين. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أخبرته: "أنها لم تر النبي - عليه السلام - يصلي صلاة الليل قاعدًا قط حتى أسنَّ، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد الركوع قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية أو أربعين آيةً ثم ركع". حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هشام، قال: حدثني أبي، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود وأبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - عليه السلام - مثله. ففي هذا الحديث غير ما في حديث عبد الله بن شقيق؛ لأن في هذا أنه كان يركع قائمًا بعد ما افتتح الصلاة قاعدًا، وهذا أولى من الحديث الأول الذي رواه ابن شقيق؛ لأن صبره على الركوع حتى يركع قاعدًا لا يدل ذلك على أنه ليس له أن يقوم فيركع قائمًا بعد ما افتتح قاعدًا، فلهذا جعلنا هذا الحديث أولى مما قبله، وهو قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه حديث عروة، عن عائشة، فإنه ذكر في حديثه عن عائشة خلاف ما ذكره عبد الله بن شقيق عنها، ولكن

الحديثين صحيحان، ولكن الطحاوي رجَّح الحديث الثاني على الأول في حق العمل بالوجه الذي ذكره. وقال أحمد -رحمه الله-: الحديثان صحيحان والعمل عليهما. وكذا قال إسحاق بن راهويه. ثم إنه أخرج هذا الحديث من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن هشام ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا زهير، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسًا قط حتى دخل في السنّ، فكان يجلس فيقرأ، حتى إذا بقي أربعين أو ثلاثين آية قام فقرأها ثم سجد". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني زهير بن حرب، قال: نا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسًا حتى إذا كبر قرأ جالسًا، حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن، ثم ركع". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 376 رقم 1067). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 250 رقم 953). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 505 رقم 731).

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود، وأبي النضر -بالضاد المعجمة- مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن عبد الله بن يزيد وأبي النضر مولى عُمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالسٌ، فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك، فإذا قضى صلاته نظر فإن كنت يَقْظى تحدث معي وإن كنت نائمة اضطجع". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك إلى قوله: "مثل ذلك". وأخرجه أبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك نحو مسلم، فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 376 رقم 1068). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 505 رقم 731). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 250 رقم 954).

ص: باب: التطوع في المساجد

ص: باب: التطوع في المساجد ش: أي هذا باب في بيان حكم التطوع في المساجد، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير، قال: ثنا محمَّد بن موسى، عن سعد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده: "أن النبي - عليه السلام - صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ رأى الناس يُسبِّحون، فقال: يا أيها الناس، إنما هذه الصلاة في البيوت". ش: رجاله ثقات، وأبو بكرة بكار، وأبو المطرف محمَّد بن عمر بن مطرف القرشي الهاشمي البصري، ومحمد بن موسى بن أبي عبد الله الفِطْري -بالفاء المكسورة- روى له الجماعة إلا البخاري، وسعد بن إسحاق روى له الأربعة، وأبوه إسحاق بن كعب وثقه ابن حبان، وجدّه كعب بن عُجْرة الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي الأسود، حدثني أبو مطرف محمَّد بن أبي الوزير، نا محمَّد بن موسى الفطري، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده: "أن النبي - عليه السلام - أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلّى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يُسبِّحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت". وأخرجه الترمذي (¬2)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلّي الركعتين بعد المغرب في بيته". وأخرجه ابن ماجه (¬3) أيضًا. قوله: "عبد الأشهل" بالشين المعجمة بطن من الأنصار. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 31 رقم 1300). (¬2) "سنن الترمذي" (2/ 500 رقم 604). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 368 رقم 1165).

قوله: "يُسبِّحون" أي يتنفلون، وأراد بها سنة المغرب، وإنما قال: "إنما هذه الصلاة في البيوت" لأنها أبعد من الرياء، ولئلا تخلى البيوت عن ذكر الله تعالى. ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وَهْب، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حَرَام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سَعْد قال: "سألت النبي - عليه السلام - عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال: قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد؛ فلأن أصلي في بَيْتي أحبُّ إليّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاةً مكتوبةً". ش: رجاله ثقات، وحرام -بفتح الحاء والراء المهملتين- ضد حلال، بن حكيم بن خالد بن سعد بن حكيم الأنصاري روى له الأربعة، ووثقه العجلي. وعبد الله بن سعد الأنصاري الحَرَامِي عدادُه في الصحابة، سكن دمشق. وأخرجه الطبراني بأتمّ منه: ثنا بكر بن سهل، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حرام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سَعْد قال: "سألت رسول الله - عليه السلام - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، وعن الصلاة في بيتي، والصلاة في المسجد، وعن مؤاكلة الحائض، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن الله لا يستحيي من الحق -وعائشة إلى جَنْبه- أما أنا فإذا كان مني وطء، قمت فتوضأت ثم اغتسلت، فأما الماء يكون بعد الماء فذاك المَذْي وكل فحل يُمْذِي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة، وأما الصلاة في المسجد والصلاة في بيتي فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد؛ فلأن أصلي في بيتي أحبَّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة، وأما مؤاكلة الحائض فواكلها". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن التطوع لا ينبغي أن يُفْعل في المساجد إلا الذي لا ينبغي تركه مثل الركعتين بعد الظهر والركعتين بعد المغرب، والركعتين عند دخول المسجد، وأما ما سوى ذلك فلا ينبغي أن يُصَلّى في المساجد ولكن يُؤَخر ذلك إلى البيوت.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: السائب بن يزيد والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وإبراهيم النخعي وعُبَيْدة؛ فإنهم قالوا: لا ينبغي أن يفعل التطوع في المساجد إلا تحية المسجد وركعتا الظهر والمغرب. وقال عياض: وذهب بعضهم إلى ترك التنفل بعد الفرائض في المسجد جملةً، وإليه ذهب النخعي وعبيدة؛ لئلا تخلى بيوتهم من الصلاة، ولئلا يختلط أمرها على الجُهّال فيَعدُّونها من الفرائض، وذهب بعضهم إلى كونها في المسجد أجمع، وذهب مالك والثوري إلى كونها في النهار في المسجد وبالليل في البيوت. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: التطوع في المساجد حسنٌ غيرأن التطوع في المنازل أفضل منه. ش: أي خالف القومَ المذكورين في الحكم المذكور جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وآخرين من العلماء، فإنهم قالوا: التطوع في المساجد حسن لكونها بنيت لأجل إقامة الصلوات، ولكنها في البيوت والمنازل أحسن وأفضل لكونها أبعد من الرياء، ولئلا تُخلى المنازل عن بركتها وعن نزول الملائكة فيها. وقال ابن قدامة: الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السر وفعله في المسجد علانية والسر أفضل. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي العباس: "بِت الليلة بآل النبي - عليه السلام -، قال: فصلى النبي - عليه السلام - العشاء، ثم صلى بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره". فهذا رسول الله - عليه السلام - قد كان يتطوع في المسجد هذا التطوع الطويل، فذلك عندنا حسن، إلا أن التطوع في البيوت أفضل منه لقوله: "خيرُ صلاة المرء في بيْته إلا المكتوبة".

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس. أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي روى له الجماعة، عن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبِيعي الكوفي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي روى له الجماعة سوى مسلم، عن علي بن عبد الله بن عباس روى له الجماعة البخاري في "الأدب". وأخرجه الطبراني في "الكبير" بهذا الإسناد، وقد ذكرناه في باب الوتر؛ لأن الطحاوي أخرج هناك طرفًا منه. قوله: "لقوله - عليه السلام -: خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" هذا حديث صحيح قد أخرجه معلقًا ها هنا. وأخرجه الترمذي (¬1): عن زيد بن ثابت، عن النبي - عليه السلام - قال: "أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة". وأخرجه أبو داود (¬2): عن زيد بن ثابت أن النبي - عليه السلام - قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي إلا المكتوبة". وأخرجه الجماعة (¬3): عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 312 رقم 450). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 274 رقم 1044). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 166 رقم 422)، و"صحيح مسلم" (1/ 538 رقم 777)، و"سنن أبي داود" (1/ 273 رقم 1043)، و"جامع الترمذي" (2/ 313 رقم 451)، و"المجتبى" (3/ 197 رقم 1598)، و"سنن ابن ماجه" (1/ 438 رقم 1377).

وأخرج الطبراني: من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه يَرْفَعه: "نَوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بسند جيد: عن زيد بن خالد الجهني يرفعه: "صلّوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 258 رقم 5278).

ص: باب: التطوع بعد الوتر

ص: باب: التطوع بعد الوتر ش: أي هذا باب في بيان حكم التطوع بعد الوتر، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدُ، قال: ثنا أسباط، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - عليه السلام - يوتر أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ثم ثبت له الوتر في آخره". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر وعفان، قالا: ثنا شعبة، قال: أبو إسحاق أنبأني غير مرة، قال: سمعت عاصم بن ضمرة يحدث، عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيعٌ الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا إسرائيل. وقال مرةً أخرى: أخبرنا أبو إسرائيل، عن السُّدِّيِّ، عن عبد خير قال: "خرج علينا عليّ - رضي الله عنه - ونحن في المسجد فقال: أين السائل عن الوتر؟ فانتهينا إليه، فقال: إن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر أول الليل، ثم بدا له فأوتر وَسْطَه، ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة. قال: وذاك عند طلوع الفجر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وهذا عندنا على قرب طلوع الفجر قبل أن يطلع الفجر؛ حتى يَسْتوى معنى هذا الحديث ومعنى حديث عاصم بن ضمرة. ش: هذه أربعة أسانيد: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أسد بن موسى الثقة، عن أسباط بن محمَّد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق

عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي روى له الأربعة، ووثقه العجلي وابن المديني. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن فضيل، نا مطرف، عن أبي إسحاق ... إلى آخره نحوه. قوله: "يوتر في أول الليل" أراد به بعد صلاة العشاء الآخرة، وقد علم بذلك أن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، ففِعْلُه - عليه السلام - أول الليل وأوسطه؛ بيان للجواز، وتأخيرُه إلى آخر الليل؛ تنبيه على الأفضل لمن يثق بالانتباه، وكان بعض السلف يوترون أول الليل، منهم: أبو بكر وعثمان وأبو هريرة ورافع بن خديج. وبعضهم يوترون آخر الليل، منهم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وغيرهم من التابعين. وأما أمره - عليه السلام - لأبي هريرة قبل النوم بالوتر فهو اختيار منه له حين خشي أن يستولي عليه النوم، فأمره بالأخذ بالثقة. والترغيب في الوتر في آخر الليل هو لمن قوي عليه ولم تكن عادته أن تغلبه عيناه. قوله: "وفي وسْطه" بسكون السين، والفرق بينه وبين الوسَط بالتحريك أن الوسْط بالسكون يقال في مكان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، وقيل: كل ما يصلح فيه "بين" فهو بالسكون، وما لا يصلح فيه "بنين" فهو بالفتح، وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه الأشبه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي وعفان بن مسلم كلاهما، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 78 رقم 580).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، وثنا محمَّد بن بشار، نا محمَّد ابن جعفر، قالا: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: "من كل الليل قد أوتر رسول الله - عليه السلام -، من أوله وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن يعقوب بن إسحاق بن عباد العبدي البصري، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وهذا أيضًا إسناد صحيح. الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري وأحمد، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أبي محمَّد الكوفي الأعور روى له الجماعة إلا البخاري، كان يقعد في سُدَّة باب الجامع بالكوفة فسُمِّي السُّدّي. وهو يروي عن عبد خير بن يزيد أي عمارة الكوفي روى له الأربعة، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا غسّان بن الربيع، نا أبو إسرائيل، عن السدي، عن عبد خير قال: "خرج علينا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونحن في المسجد، فقال: أين السائل عن الوتر؟ فمن كان منا في ركعة شفع إليها أخرى حتى اجتمعنا إليه، فقال: إن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر في أول الليل ثم أوتر في وسطه، ثم أثبت الوتر في هذه الساعة. قال: وذلك عند طلوع الفجر". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 375 رقم 1186). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 120 رقم 974).

قوله: "وقال مرة أخرى: أبو إسرائيل" أي قال عبيد الله بن موسى مرة: أخبرنا إسرائيل، ومرة أخرى قال: أبو إسرائيل. وكذا وقع في رواية أحمد كما ذكرنا، وأبو إسرائيل اسمه إسماعيل بن أبي إسحاق وهو إسماعيل بن خليفة العَبْسي، قال أبو زرعة: يُعدّ في الكوفيين، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: أبو إسرائيل يكتب حديثه، وعن يحيى: صالح. وعن أبي زرعة: صدوق كوفي إلا أنه كان في رأيه غلو. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه ويكتب حديثه وهو سيء الحفظ. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الوقت الذي ينبغي أن يُجعل فيه الوتر هو السحر، وأنه لا يتطوع بعده، وأن من تطوع بعده فقد نقضه وعليه أن يعيد وترًا آخر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن ميمون ومكحولًا وإسحاق؛ فإنهم قالوا: وقت الوتر الذي ينبغي أن يفعل فيه هو وقت السحر ولا يتطوع بعده، فلو تطوع بعده فقد نقض وتره وعليه أن يعيد وترًا آخر، ويحكى ذلك عن علي، وأسامة، وأبي هريرة، وعمر، وعثمان، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود - رضي الله عنهم -. وحاصل ما ذهبوا إليه: أن من أوتر أول الليل، ثم قام للتهجد ينبغي له أن يصلي ركعةً يشفع الوتر الأول، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر في آخر التهجد. ص: واحتجوا في ذلك بتأخير النبي - عليه السلام - الوتر إلى آخر الليل، ربما روي عن جماعة من أصحابه - عليه السلام - من بعده أنهم كانوا يَروْن أن كل مَنْ تطوع بعد وتره فقد نقضه. وذكروا في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، أن عثمان - رضي الله عنه - قال: "إني أوتر أول الليل، فإذا قمت من أخر الليل صليت ركعةً فما شبهتها إلا بقلوص أضمها إلى الإبل".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وَهْب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن حِطّان بن عبد الله، قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: "الوتر على ثلاثة أنواع: رجل أوتر أول الليل، ثم استيقظ فصلى ركعتين، ورجل أوتر أول الليل ثم استيقظ فوصل إلى وتره ركعةً، فصلى ركعتين ركعتين ثم أوتر، ورجل أَخَّرَ وتره إلى آخر الليل". حدثنا محمَّد بن بحر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام، عن قتادة ومالك بن دينار، عن خلاس قال: "كنت جالسًا عند عمار - رضي الله عنه -، فأتاه رجل فقال له: كيف توتر؟ قال: أترضى بما أصنع؟ قال: نعم. قال: أحسب قتادة قال في حديثه-: فإني أوتر بليلٍ خمس ركعاتٍ ثم أرقد، فإذا قمتُ من الليل شفعتُ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن زيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "من أوتر فبدا له أن يُصلّى، فليشفع إليها بأخرى حتى يوتر بَعْدُ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن مسروق، قال: قال ابن عمر: "شيء أفعله برأي لا أرويه ... " ثم ذكر نحوًا من ذلك. قال مسروق: وكان أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه - يَتَعجّبُون من صنيع ابن عمر - رضي الله عنهما -.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة: "أن رجلًا استفتاه عن رجل أوتر أول الليل ثم نام، ثم قام، كيف يصنع؟ قال: يُتمَّها عشرًا". وقد روي عن أبي هريرة خلاف هذا القول وسنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. ش: أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بتأخير النبي - عليه السلام - وتره إلى آخر الليل، واحتجوا أيضًا بما روي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرون أن كل من صلى تطوعًا بعد أن صلى وتره فقد نقض وتره، وممن روي ذلك عنهم: عثمان بن عفان وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. أما أثر عثمان فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير بن سُوَيْد الكوفي المعروف بالقبطي روى له الجماعة، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التَيمي المدني نزيل كوفة روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان وشعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن عثمان - رضي الله عنه -: "أنه كان يشفع بركعة ويقول: ما أشبهها إلا بالغربية من الإبل". قوله: "إلا بقَلُوص" بفتح القاف وهي الناقة الشابة. والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة ... إلى آخره. وأما أثر أبي بكر - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد حسن جيد، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 82 رقم 6730).

عمران بن بشير بن محرر وثقه ابن حبان، عن أبيه بشير بن محرر -براء مهملة مكررة- روى له أبو داود عن سعيد بن المسيب: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك" وأشار به إلى ما روي عن عثمان - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي (¬1) بأتمّ منه: من حديث سعيد بن المسيب قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يوتر أول الليل، فإذا قام، نقض وتره ثم صلى، ثم أوتر آخر صلاته -أو آخر الليل- وكان عمر - رضي الله عنه - يوتر آخر الليل، وكان خيرًا مني ومنهما أبو بكر - رضي الله عنه - يوتر أول الليل ويشفع آخره". وأما أثر علي - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد جيد أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي هارون إبراهيم بن العلاء الغَنَوي البصري ونسبته إلى غني بن يعصر -قبيلة- عن حِطان -بكسر الحاء- بن عبد الله، روى له البخاري وأبو داود والنسائي. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث شعبة، عن أبي هارون الغنوي، سمعتُ حطان، سمع عليًّا يقول: "الوتر ثلاثة أنواع ... " إلى آخره. وأما أثر عمار - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن بحر بن مطر البغدادي، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، عن قتادة ومالك بن دينار البصري الزاهد المشهور الثقة الكبير، روى له البخاري مستشهدًا والأربعة كلاهما، عن خِلاس -بكسر الخاء المعجمة- بن عمرو الهجري روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو الهجري، عن عمار قال: "أما أنا فأوتر، فإذا قمتُ صليت مثنى مثنى وتركت وتري الأول كما هو". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 36 رقم 4623). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 37 رقم 4627). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 83 رقم 6734).

وأما أثر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه من طريقين بإسناد صحيح أيضًا. الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن زيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان كلاهما، عن ابن عمر. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن حصين، عن الشعبي، عن ابن عمر. والثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير ابن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". وأما أثر أبي هريرة: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود أيضًا، عن حرب بن شداد اليشكري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي الحارث الغفاري، ذكره أبو أحمد فيمن لم يقف على اسمه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه وعن اسمه. وأخرجه الطيالسي في "مسنده": عن حرب بن شداد اليشكري ... إلى آخره نحوه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالتطوع بعد الوتر، ولا يكون ذلك ناقضًا للوتر. شْ: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا وعلقمة وأبا مجلز والنخعي والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وعبد الله بن المبارك والشافعي ومالكًا وأحمد وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالتطوع بعد الوتر ولا يكون ذلك ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 82 رقم 6726).

ناقضًا للوتر، ويروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعمار وسعد بن أبي وقاص وعائذ بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم -. وقال ابن حزم في "المحلى": والوتر آخر الليل أفضل، ومن أوتر أوله فحسَنٌ، والصلاة بعد الوتر جائزة ولا يعيد وترًا آخر ولا يشفع بركعة. ص: وروَوْا عن النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن عبد الله البَابُلْتي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - ركع ركعتين بعد الوتر فقرأ فيهما وهو جالسٌ، فلما أراد أن يركع قام فركع". وقد ذكرنا مثل ذلك أيضًا عن عائشة في باب الوتر في حديث سعد بن هشام. ش: أي: روى هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه عن النبي - عليه السلام - حديث عائشة - رضي الله عنها -. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بَابُلْت البَابُلْتي أبي سعيد الحراني ابن امرأة الأوزاعي، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: أنه لم يسمع والله من الأوزاعي شيئًا. وقال ابن عدي: وليحيى البابلْتي عن الأوزاعي أحاديث صالحة (¬1). وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات يَهِم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به. قلت: استشهد به البخاري في كتاب الحج في باب نزول النبي - عليه السلام - بمكة. وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن مثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، نا هشام، عن ¬

_ (¬1) وبقية كلامه كما في "الكامل" (7/ 250): وفي تلك الأحاديث أحاديث ينفرد بها عن الأوزاعي، ويروي عن غير الأوزاعي من المشهورين والمجهولين، والضعف على حديثه بَيِّن. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 509 رقم 738).

يحيى، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله - عليه السلام - فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعةً، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح". وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه دلالة على إباحة التطوع بعد الوتر، وهو حجة على من منع ذلك. الثاني: احتج به الأوزاعي، وأباح ركعتين بعد الوتر جالسًا، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع مَنْ فعله. وأنكره مالك. قلت: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما - عليه السلام - بعد الوتر جالسًا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وبيان جواز النفل جالسًا، ولم يُواظب على ذلك، بل فعله مرةً أو مرتين أو مرات قليلة، ولا يغترّ بقول عائشة - رضي الله عنها -: "كان يصلي" فإن المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين: أن "كان" لا يلزم منها الدوام والتكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرةً، فإن دلّ دليل على التكرار عُمل به وإلا فلا يقتضيه بوضعها، كذا قالوا، وفيه نظر، وقد مرّ تحقيق هذا في باب الوتر فليعاود إليه. الثالث: فيه بيان جواز النفل كما ذكرناه، والله أعلم. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يَقرأ في الركعتين بعد الوتر بالرحمن والواقعة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 42 رقم 1350). (¬2) "المجتبى" (3/ 256 رقم 1781).

ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النَّهْدي شيخ البخاري، وعمارة بن زاذان الصيدلاني أبو سلمة البصري فيه مقال، فقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالمتين. وقال الدارقطني: ضعيف. ووثقه ابن حبان، وأحمد في رواية، وعن يحيى: صالح. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث محمَّد بن بزيع، عن إسحاق الأزرق، نا عمارة بن زاذان، نا ثابت البناني، عن أنس: "كان رسول الله - عليه السلام - يوتر بتسع ركعات، فلما أسنّ وثقل أوتر بسبع، ويصلّي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما الرحمن والواقعة. قال أنس: ونحن نقرأ بالسور القصار: {إِذَا زُلْزِلَتِ} (¬2) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬3) ونحوها". وقال مرة: "نقرأ فيهن". وقال: تفرد به عمارة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا عبد الوارث، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: "أن النبي - عليه السلام - كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ". ش: عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله الطفاوي أبو بكر البصري شيخ البخاري وأبي داود، وعبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة البصري روى له الجماعة، وأبو غالب البصري اختلف في اسمه، فقيل: حَزوّر، وقيل: سعيد بن حزور، وقيل: نافع، وقال الترمذي في بعض حديثه: هذا حسن، وفي بعضه: هذا حديث صحيح. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ثقة. وروى له الأربعة. وأبو أمامة الباهلي اسمه صُدَي بن عجلان. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 33 رقم 4605). (¬2) سورة الزلزلة. (¬3) سورة الكافرون.

وأخرجه البيهقي (¬1) بأتمّ منه من حديث أبي غالب، عن أبي أمامة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر بسبع حتى إذا بدّن وكثر لحمه أوتر بثلاثٍ وصلى ركعتين وهو جالس فقرأ فيهما {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ". ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن شريح بن عُبَيْد، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفَيْر، عن أبيه، عن ثوبان مولى النبي - عليه السلام - قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سَفرٍ فقال: إن هذا السفر جَهْدٌ وثِقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له". ش: عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، ومعاوية بن صالح بن حُدَير الحِمْصي قاضي الأندلس روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وشريح بن عبيد الحضرمي أبو الصلت الشامي الحِمْصي، قال العجلي: تابعي ثقة، وروى له أبو داود وابن ماجه. وعبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي أبو حُميد الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأبوه جبير بن نفير الحضرمي الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا إسماعيل بن عياش الوراق، ثنا محمَّد بن إسحاق، نا أبو صالح، أخبرني معاوية بن صالح، عن شريح بن عبيد، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في السفر فقال: إن السفر جَهْد وثِقَلٌ، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 33 رقم 4605). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 36 رقم 1).

قوله: "جَهْد" بفتح الجيم أي مشقة وتعب، ولا تستعمل في هذا المعنى إلا بالفتح، وأما الجُهد -بالضم- فهو الوِسْع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة. قوله: "وثِقَل" بكسر الثاء وفتح القاف ضد الخِفَّة، وأما الثِّقْل -بكسر الثاء وسكون القاف- فهو واحد الأثقال مثل حِمْل وأَحْمَال، ومنه قولهم: أعط ثِقْلَه أي وزنه، وأما الثَّقَل-بفتحتين- فهو متاع المسافر وحشمه، والثقلان: الإنس والجن، والثَّقلةُ -بزيادة الهاء- هي الفتور والكسل في الجسم. قوله: "فإن استيقظ" جوابه محذوف تقديره: فإن انتبه أحدكم فيها "وإلا" أي وإن لم يستيقظ كانت الركعتان له من صلاة الليل، فدل الحديث على إباحة الصلاة بعد الوتر وأنها لا تنقض وتره. ص: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تطوع بعد الوتر بركعتين وهو جالس، ولم يكن ذلك ناقضًا لوتره المتقدم، فهذا أولى مما تأوّله أهل المقالة الأولى وادّعوه من معنى حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - عليه السلام - انتهى وتره إلى السحر مع أن ذلك أيضًا ليس فيه خلاف عندنا لهذا؛ لأنه قد يجوز أن يكون وتره ينتهي إلى السحر ثم يتطوع بعده قبل طلوع الفجر. فإن قال قائل: فيحتمل أن تكون تانك الركعتان هما ركعتا الفجر فلا يكون ذلك من صلاة الليل. قيل له: لا يجوز ذلك من جهتين: أما إحداهما: فلأن سعد بن هشام إنما سأل عائشة عن صلاة النبي - عليه السلام - بالليل، فكان ذلك منها جوابًا لسؤاله، وإخبارًا منها إياه عن صلاته بالليل كيف كانت. والجهة الأخرى: أنه ليس لأحد أن يُصلّي ركعتي الفجر جالسًا وهو يُطيق القيام؛ لأنه بذلك تارك لقيامها، وإنما يجوز أن يُصلّي قاعدًا وهو يطيق القيام ما

له أن لا يصليه البتّة ويكون له تركه، فيكون كما له تركه بكماله يكون له ترك القيام فيه، فأما ما ليس له تركه فليس له ترك القيام فيه، فثبت بذلك أن تينك الركعتين اللتين تطوع بهما النبي - عليه السلام - بعد الوتر كانتا من صلاة الليل، وفي ذلك ما يجب به قول الذين لم يَرَوْا بالتطوع في الليل بعد الوتر باسًا ولم ينقضوا الوتر، وقد روي عن النبي - عليه السلام - في ذلك من قوله- ما يدل على هذا أيضًا - ما قد ذكرنا عنه في حديث ثوبان - رضي الله عنه -. ش: نبّه بقوله: "فهذا رسول الله - عليه السلام -" على أنه - عليه السلام - قد تطوع بعد وتره كما صرَّح به في حديث عائشة وأنس وأبي أمامة - رضي الله عنهم -، وأنه قد دل على أن ذلك لم يكن ناقضًا لوتره المتقدم، وكذا أمره بالركعتين في حديث ثوبان يدلّ على ذلك. ثم إنه رجَّح هذا المعنى الذي احتج به أهل المقالة الثانية على المعنى الذي تأوّله أهل المقالة الأولى من قول علي - رضي الله عنه - في حديثه: "ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة. قال: وذاك عند طلوع الفجر". وقد أوّل الطحاوي هذا فيما مضى بقوله: "وهذا عندنا على قرب طلوع الفجر قبل أن يطلع الفجر"، فيكون المعنى: عند مشارفة الوقت الذي صلّي فيه على طلوع الفجر كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} (¬1) أي: فإذا أشرفن على بلوغ الأجل، وإنما أوّل بهذا التأويل ليرتفع الخلاف بين حديثي علي: أحدهما: ما رواه عنه عاصم بن ضمرة: "كان النبي - عليه السلام - يوتر أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ثم ثبت له الوتر في آخره". والآخر: ما رواه عنه عبد خير: "كان يوتر أول الليل، ثم بدا له فأوتر وسطه، ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة. قال: وذاك عند طلوع الفجر". قوله: "مع أن ذلك أيضًا ... " إلى، آخره، جواب آخر بطريق التسليم، يعني: ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [2].

سلمنا أن وتره - عليه السلام - قد انتهى إلى السَّحَر، ولكن هذا لا يمنع عن تطوعه بعد طلوع الفجر؛ فإنه يجوز أن يكون وتره ينتهي إلى السَّحَر، ثم يتطوع بعد طلوع الفجر. قوله: "فإن قال قائل ... " إلى آخره ظاهرٌ غنيٌّ عن مزيد البيان. قوله: "تانك الركعتان" أراد بهما الركعتين اللتين صلاهما النبي - عليه السلام - بعد وتره في حديث عائشة وهو من أسماء الإشارة في تثنية المؤنث، ويجوز فيه تخفيف النون وتشديدها فتقول: تانك وتانّك وجمعها أولئك من غير لفظ واحده، وتقول في تثنية المذكر: ذانك وذانّك بالتخفيف والتشديد، قال الله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} (¬1) فقرئ بالتشديد والتخفيف، وتقول في مفرد المؤنث: تلك وتالك وتيك وتاك، ويقال أيضًا: هاتيك وهاتاك وهاتلك وهاتالك، وفي مفرد المذكر: ذلك وذاك، وكل هذه إشارات لغير الحاضر، فافهم. قوله: "فلأن سعد بن هشام إنما سأل عائشة ... " إلى آخره، قد مرَّ حديثه مستوفى في باب الوتر. قوله: "وهو يطيق القيام" جملة حالية في الموضعين. قوله: "ما له أن لا يصليه" في محل النصب على أنه مفعول لقوله: "وإنما يجوز أن يصلي قاعدًا". قوله: "البتةَ" نصب على المصدر من بتّ يبتّ، وهو مصدر معرف باللام نحو ضربت الضربَةَ. قوله: "فيكون كما له تركه" أي: كما للمصلي ترك ما له أن لا يصليه بكماله يكون له ترك القيام فيه؛ لكونه نفلًا محضًا بخلاف سنة الفجر فإنها سنة مؤكدة كادت أن تكون واجبة، فلا يجوز ترك القيام فيها عند القدرة عليه، ألا ترى أن الحسن البصري قد ذهب إلى وجوب ركعتي الفجر، وهو مذهب بعض الظاهرية أيضًا. ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: [32].

ص: وقد حدثنا عمران بن موسى الطائي وابن أبي داود، قالا: نا أبو الوليد (ح) وحدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا وتران في ليلة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم وأبو الوليد، قالا: ثنا ملازم، عن عبد الله ابن بدر ... فذكر مثله بإسناده. ش: ذكر حديث طلق بن علي بن المنذر الحنفي السُّحَيْمي اليمامي الصحابي - رضي الله عنه -، لكونه حجة لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية فيما إذا تطوع بعد الوتر لا يكون ذلك نقضًا لوتره، فلا يعيد وتره؛ لأنه - عليه السلام - قال: "لا وتران في ليلة"، يعني: لا يُصلّى وترٌ مرتين في ليلة واحدة. وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن عمران بن موسى الطائي وإبراهيم بن أبي داود البرلّسي كلاهما، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن أيوب بن عتبة اليمامي قاضي اليمامة، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو النضر، قال: ثنا أيوب -يعني ابن عتبة- قال: ثنا قيس بن طلق، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا وتران في ليلة". ومعناه: أن من أوتر ثم صلى بعد ذلك لا يعيد الوتر. الثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن علي بن الجعد بن عبيد الجَوْهري الثقة المتقين المثبت، عن أيوب بن عتبة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 23 رقم 22 رقم 16327).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1). الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن ملازم بن عمرو بن عبد الله السُّحَيمي أبي عمرو اليمامي، عن عبد الله ابن بدر بن عميرة السُّحَيْمي اليمامي، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي - عليه السلام - مثله. وأخرجه أبو داود (¬2) بأتمّ منه: ثنا مسدد، ثنا ملازم بن عمرو، نا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق قال: "زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان وأمسى عندنا وأفطر، ثم قام بنا تلك الليلة وأوتر بنا، ثم انحدر إلى مسجده، فصلى بأصحابه حتى إذا بقيَ الوتر قدّم رجلًا فقال: أوتِرْ بأصحابك، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقولُ: لا وتران في ليلة". الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، كلاهما عن ملازم بن عمرو ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا هناد بن السَّرِي، عن ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق قال: "زارنا أي طلق بن علي في يوم من رمضان فأمسى بنا وقام بنا تلك الليلة ... " إلى آخره نحو رواية أبي داود. فإن قيل: كيف استدل بهذا الحديث للطائفة الثانية، وفي إسناده أيوب بن عتبة وقد قال فيه يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال مسلم: ضعيف. وقال البخاري: هو عندهم ليّن. وفي إسناده أيضًا قيس بن طلق وقد ضعّفَه غير واحد؟ ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 36 رقم 4622). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 67 رقم 1439). (¬3) "المجتبى" (3/ 229 رقم 1679).

قلت: أما أيوب فقد قال ابن عدي: يكتب حديثه، وعن يحيى: لا بأس به. وأما قيس بن طلق فقد قال العجلي: يمامي تابعي ثقة، وهكذا وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج الترمذي (¬1) حديثه هذا: عن هناد، عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر، عنه. وقال: هذا حديث حسن غريب. والحديث الحسن يجوز الاحتجاج به، ولئن سلمنا إجماع ضعف أيوب بن عتبة، فقد أخرج الحديث من طريقين ليس فيهما أيوب، فافهم. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، أن النبي - عليه السلام - قال لأبي بكر - رضي الله عنه -: "متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة. قال: أخذتَ بالوُثْقَى، وقال لعمر - رضي الله عنه -: متى توتر؟ قال: آخر الليل. قال: أخذتَ بالقوة". حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: "أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنه - تذاكرا الوتر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر: أما أنا فأصلي ثم أنام على وترٍ، فإذا استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، فقال عمر - رضي الله عنه -: لكني أنام على شفع ثم أوتر من آخر السَّحَر. فقال - عليه السلام - لأبى بكر: حَذِرَ هذا، وقال لعمر: قَوِي هذا". فدل قول النبي - عليه السلام -: "لا وتران في ليلة" على ما ذكرنا من نفي إعادة الوتر، ووافق ذلك قول أبي بكر: "أما أنا فأوتر أول الليل، فإذا استيقظت صليتُ شفعًا حتى الصباح". وتركُ النبي - عليه السلام - النكيرَ عليه دليل على أن حكم ذلك كما كان يَفعلُ، وأن الوتر لا تَنقُضُه النوافل التي يُتنفّلُ بها بعده. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 333 رقم 470).

ش: لما كان الأثران اللذان رواهما جابر وسعيد بن المسيب يوافقان في المعنى قول النبي - عليه السلام -: "لا وتران في ليلة"؛ ذكرهما. وأخرج الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب القرشي المدني، ضعفه بعضهم ووثقه آخرون. عن جابر بن عبد الله. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو داود سليمان بن توبة، ثنا يحيى بن أبي بكير، نا زائدة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام - لأبي بكر: "أيّ حينٍ توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة. قال: فأنت يا عمر؟ قال: آخر الليل. فقال النبي - عليه السلام -: أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة". قوله: "بعد العتمة" أي بعد العشاء. قوله: "بالوُثْقَى" بضم الواو على وزن فُعْلى مؤنث وثيق وهو الأمر المحكم، وهو في الحقيقة صفة لمحذوف، والتقدير: أخذت بالفَعْلة الوثقة أو نحو ذلك. وأخرج الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب سيد التابعين ولم يسمع من أبي بكر - رضي الله عنه - ولا أَدركه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) مختصرًا: ثنا هشيم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: "كان أبو بكر يوتر أول الليل، وكان عمر يوتر آخر الليل". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 379 رقم 1202). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 80 رقم 6706).

وأخرج أبو داود (¬1): نا محمَّد بن أحمد بن خلف، نا أبو زكرياء السَّيْلَحيني، نا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة "أن النبي - عليه السلام - قال لأبي بكر: متى توتر؟ قال: أوتر من أول الليل. وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخر الليل. قال لأبي بكر: أخذ هذا بالحذر، وقال لعمر: أخذ هذا بالقوة" انتهى. قوله: "حَذِرَ هذا" أي: احتاط حيث أوتر أول الليل خوفًا من عدم الانتباه، وهو معنى قوله أيضًا: "أخذ هذا بالحذر". قوله: "قوي هذا" أي أخذ بالقوة والحزم حيث أوتر آخر الليل؛ لأنه كان متوثقًا من نفسه بالانتباه. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام -: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: "سألت ابن عباس عن الوتر فقال: إذا أوترت أول الليل فلا توتر آخره، وإذا أوترت آخره فلا توتر أوله. قال: وسألت عائذ بن عمرو فقال مثله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثثا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة ومالك بن دينار، أنهما سمعا خلاسًا قال: "سمعت عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وسأله رجل عن الوتر فقال: أما أنا فأوتر ثم أنام، فإن قمتُ صليت ركعتين". وهذا عندنا معنى حديث همام، عن قتادة الذي ذكرناه في الفصل الأول، كان في ذلك: "إذا قمت شفعت"، فاحتمل ذلك أن يكون يشفع بركعة كما كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يفعل. ويحتمل أن يكون يُصلّي شفعًا، ففي حديث شعبة قد بَيَّن أن معنى قوله: "شفعت" أي صلّيتُ شفعًا شفعًا ولم أنقض الوتر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 66 رقم 1434).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير قال: "ذكر عند عائشة - رضي الله عنها - نقض الوتر، فقالت: لا وتران في ليلة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبس الله بن حُمران، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمران بن أبي أنس، عن عمر بن الحكم، أن أبا هريرة قال: "لو جئتُ بثلاثة أبعرة فَأَنَخْتُها، ثم جئتُ بَبعيرَيْن فأنختهما، أليس كان يكون ذلك وترًا؟ قال: وكان يضرب ذلك مثلًا لنقض الوتر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وهذا عندنا كلام صحيح، ومعناه: أن ما صليت بعد الوتر من الإشفاع فهو مع الوتر الذي أوترتُه وترًا". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن أبي مُرَّة مولى عقيل بن أبي طالب: "أنه سأل أبا هريرة: كيف كان النبي - عليه السلام - يوتر؟ فقال: إن شئت أخبرتك كيف أصنع أنا؟ قلت: أخبرني. قال: إذا صليتُ العشاء صليت بعدها خمس ركعات، ثم أنام، فإن قمتُ من الليل صليتُ مثنى مثنى، فإن أصبحت أصبحت على وترٍ". فهذا ابن عباس وعائذ بن عمرو وعمار وأبو هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - لا يرون التطوع بعد الوتر ينقض الوتر، فهذا أولى عندنا مما روي عمن خالفهم؛ إذ كان ذلك موافقًا لما روي عن النبي - عليه السلام - من فعله وقوله، والذي روى عن الآخرين أيضًا فليس له أصل في النظر؛ لأخهم إذا كانوا أرادوا أن يتطوعوا صلّوا ركعةً فيشفعون بها وترًا متقدمًا قد قطعوا فيما بينه وبين ما شفعوا به بكلام وعمل ونوم، وهذا لا أصل له في الإجماع فَيُعْطَف عليه هذا الاختلاف، فلما كان ذلك كذلك وقد خالفه من أصحاب النبي - عليه السلام - من ذكرنا، وروي عن النبي - عليه السلام - أيضًا خلافه؛ انتفى ذلك ولم يجز العمل به. وهذا القول الذي بينّا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: قد روي نفي إعادة الوتر وتكراره عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم: ابن عباس وعائذ بن عمرو، وعمار، وأبو هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم -.

أما أثر ابن عباس وعائذ بن عمرو فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم- واسمه نصر بن عمران بن عاصم، وثقه ابن معين وابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس وعائذ بن عمرو قالا: "إذا أوترت أول الليل فلا توتر آخره، وإذا أوترت آخره فلا توتر أوله". قوله: "وسألت عائذ بن عمرو" السائل هو أبو جمرة، وعائذ بن عمرو بن هلال المزني أبو هُبَيرة البصري، شهد بيعة الرضوان مع رسول الله - عليه السلام -. وأما أثر عمار - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة، عن قتادة، ومالك بن دينار البصري الزاهد المشهور، كلاهما عن خلاس بن عمرو الهجري، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو الهجري، عن عمار قال: "أما أنا فأوتر، فإذا قمت صليت مثنى مثنى؟ وِتري الأول كما هو". قوله: "وهذا عندنا" أي معنى هذا الحديث الذي رواه شعبة، عن قتادة، عن خلاس معنى الحديث الذي رواه همام بن يحيى، عن قتادة عن خلاس المذكور في الفصل الأول في هذا الباب، وهو قوله: حدثنا محمَّد بن بحر، قال: ثنا يزيد هارون، قال: أنا همام، عن قتادة ومالك بن دينار، عن خلاس قال: "كنت جالسًا عند عمار - رضي الله عنه - فأتاه رجل فقال له: كيف توتر؟ قال: أترضى بما أصنع؟ قال: نعم. قال: -أحسب قتادة قال في حديثه-: فإني أوتر بليل خمس ركعات ثم أرقد، فإذا قمت من الليل شفعتُ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 83 رقم 6735). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 83 رقم 6734).

ويحتمل هذا أن يكون يشفع بركعة كما كان عبد الله بن عمر يفعل؛ فإنه روي عنه أنه قال: "من أوتر فبدا له أن يصلي، فليشفع إليها بأخرى حتى يوتر بعد"، ويحتمل أن يكون يصلي شفعًا، ويؤيد هذا الاحتمال حديث شعبة عن قتادة، عن خلاس؛ لأنه يبيّن أن معنرل قوله: "فإذا قمت من الليل شفعت" أي صليت شفعًا شفعًا ولم أنقض الوتر؛ وذلك لأن شعبة صرَّح في حديثه: "فإن قمت صليت ركعتين ركعتين". وأما أثر عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية اليشكري، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. وأما أثر أبي هريرة - رضي الله عنه -: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان، روى له مسلم وأبو داود. عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري المدني روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. عن عمران بن أبي أنس المصري العامري روى له مسلم والأربعة، عن عمر بن الحكم بن رافع الأنصاري أبي حفص المدني روى له البخاري مستشهدًا، والباقون سوى ابن ماجه، عن أبي هريرة. قوله: "أبعرة" جمع بعير، ويجمع أيضًا على أباعر وأباعير وبُعْران وبَعْران، والبعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون الأنثى، وحكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعيرٌ لي. وفي "الجامع": البعير بمنزلة الإنسان، يَجْمَع المذكر والمؤنث من الناس، إذا رأيت جملًا على البُعْد قلتَ: هذا بعير، وإذا استثبته قلت: جمل أو ناقة.

والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي مرة واسمه يزيد مولى عقيل بن أبي طالب، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي أيضًا (¬1): من حديث مالك -رحمه الله-. قوله: "إذْ كان" كلمة "إذْ" للتعليل. قوله: "من فعله وهو ما روي من حديث عائشة أنه صلى الركعتين بعد الوتر. قوله: "من قوله" وهو قوله: "لا وتران في ليلة". قوله: "والذي روي عن الآخرين" مبتدأ، وخبره قوله: "فليس له أصل في النظر" أي في القياس. قوله: "فَيُعْطَفَ عليه" بنصْب الفاء، وتقديره: فإن يعطف. قوله: "انتفى" جواب قوله: "فلما كان ذلك كذلك" والباقي ظاهر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 36 رقم 4625).

ص: باب: القراءة في صلاة الليل

ص: باب: القراءة في صلاة الليل ش: أي هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة الليل هل يُجْهر بها أوْ يُخافَتْ؟ والمناسبة بين البابين اشتمال كل منهما على صلاة يتنفل بها. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان النبي - عليه السلام - يصلي من الليل فتسمع قراءته من وراء الحُجَر وهو في البيت". ش: إسناده صحيح، وابن أبي الزناد -بالنون- هو عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، وعمرو بن أبي عمرو -واسمه ميسرة- مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي أبو عثمان المدني روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن جعفر الوركاني، نا ابن أبي الزناد، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كانت قراءة رسول الله - عليه السلام - على قدر [ما]، (¬2) يسمعه مَنْ في الحجرة وهو في البيت". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن هلال بن خباب، عن يحيى بن جَعْدة، عن جدته أم هانئ قالت: "كنت أسمع صوت النبي - عليه السلام - في جوف الليل وأنا نائمة على عريشي، وهو يُصلّي يُرجّع بالقرآن". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مِسعرٌ، عن أبي العلاء، عن يحيى بن جعدة قال: قالت أم هانئ: "إني كنت لأسمع صوت النبي - عليه السلام - وأنا على عريشي". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 37 رقم 1327). (¬2) في "الأصل، ك": مَنْ، وضبطها المؤلف في "الأصل" بالشكل، والمثبت من "سنن أبي داود".

ش: هذا إسنادان: أحدهما: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد السنة، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف لا يكتب حديثه. وعنه: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وعن عفان: ثقة. وثقه الثوري وشعبة وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن هلال بن خباب العبدي أبي العلاء البصري وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ ويخالف. وروى له الأربعة. عن يحيى بن جعدة بن هبيرة، قال أبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له الأربعة الترمذي في "الشمائل". عن أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي - رضي الله عنها -، واسمها فاختة، وهي جدّة يحيى بن جعدة أم أبيه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا الحسين بن إسحاق التستري، نا يحيى الحماني، نا قيس بن الربيع، عن هلال بن خبَّاب، عن يحيئ بن جعدة، عن أم هانئ قالت: "كنت أسمع قراءة النبي - عليه السلام - يُرجّع بها في جوف الليل وأنا متكئة على عريشي". والآخر: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر بن كدام، عن أبي العلاء هلال بن خباب العبدي، عن يحيى بن جعدة ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو معاوية، نا مسعر، عن أبي العلاء العبدي، عن جعدة بن هبيرة، عن أم هانئ قالت: "كنت أسمع قراءة رسول الله - عليه السلام - وأنا علي عريشي". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 411 رقم 999). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 424 رقم 27422).

وأخرجه النسائى (¬1): عن الدَّوْرقي، عن وكيع، عن مسعر ... إلى آخره نحوه. و"العريش": السرير. و"الترجيع": ترديد القراءة، وقيل: هو تقارب ضروب الحركات في الصوت. ص: فذهب قوم إلى أن القراءة في صلاة الليل هكذا هي، وكرهوا المخافتة فيها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعلقمة وعكرمة؛ فإنهم استحبوا جهر القراءة في صلاة الليل وكرهوا المخافتة فيها. وقال ابن قدامة: ويستحب أن يقرأ جزأه من القرآن في تهجده، وهو مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها إلا أنه إن كان الجهر أنشط له في القراءة أو بحضرته من يسمع قراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل، وإن كان قريبًا منه مَنْ يتهجد أو من يَسْتَضِرّ برفع صوته فالإسرار أولي، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن شاء خافت وإن شاء رفع. واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عمران بن زائدة بن نشيط، عن أبيه، عن أبي خالد الوالبي، عن أبي هريرة قال: "كانت قراءة النبي - عليه السلام - بالليل يرفع طورًا ويخفض طورًا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن عمران بن زائدة (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبيد الله بن نمير، قال: ثنا حفص بن غياث، عن عمران ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، عن عمران بن زائدة، عن أبيه، عن أبي خالد عن النبي - عليه السلام - مثله، ولم يذكر أبا هريرة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 2/ 178 رقم 1013).

فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يخبر عن النبي - عليه السلام - أنه كان يرفع صوته في قراءته بالليل طورًا ويخفض طورًا، فدل ذلك على أن للمصلي في الليل أن يرفع إن أحبَّ ويخفض إنْ أحبّ، وقد يجوز أن يكون ما ذكرت أم هانئ وابن عباس - رضي الله عنه - مِنْ رفع رسول الله - عليه السلام - صوته بالقراءة في صلاته بالليل هو رفعٌ قد كان يفعل بِعَقبِهِ الخفض، فحديث ابن عباس وأم هانئ لا ينفي الخفض، وحديث أبي هريرة يبيِّن أن للمصلي أن يخفض إن أحب ويرفع إن أحبّ، فهو أولى من هذه الأحاديث، وبه يقول أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء من الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أصحابهم؛ فقالوا: هو مخير بين المخافتة ورفع الصوت بها، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة، فإن حديثه يخبر بالتخيير. قوله: "وقد يجوز أن يكون ما ذكرت أم هانئ ... " إلى آخره إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين حديث أبي هريرة، وحديثي أم هانئ وابن عباس؛ لأن بينهما مخالفة بحسب الظاهر، ووجه ذلك أن يقال: يجوز أن يكون رفع الصوت بالقراءة المذكور في حديثهما هو الرفع الذي كان - عليه السلام - يَخفِض عُقَيْبَه، فتكون أم هانئ وابن عباس قد حكيا ما كان منه - عليه السلام - من رفع الصوت بالقراءة فقط، وهو لا ينافي الخفض، وحديث أبي هريرة يُخبر بالرفع والخفض؛ ففيه زيادة على ذلك، والأخذ به أولى، فافهم. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من أربع طرق. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلُّسي، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك العالم الزاهد المشهور، عن عمران ابن زائدة بن نشيط الكوفي، وثقه يحيى والنسائي، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

عن أبيه زائدة بن نشيط الكوفي، وثقه ابن حبان وروى له هؤلاء. عن أبي خالد الوالبي واسمه هرمز ويقال: هرِم الكوفي قال أبو حاتم: صالح الحديث. وروى له هؤلاء أيضًا، ونسبته إلى والبة بن الحارث، بطن من بني أسد. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن بكار بن الريان، نا عبد الله بن المبارك ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عمران بن زائدة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث عيسى بن يونس، عن عمران ابن زائدة بن نشيط، عن أبيه، عن أبي خالد الوالبي قال: "كان أبو هريرة إذا قام من الليل رفع طورًا وخفض طورًا، وكان يذكر أن النبي - عليه السلام - كان يفعل ذلك". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير الهمداني شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن حفص بن غياث، عن عمران بن زائدة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن حفص بن غياث ... إلى آخره نحوه. وكذا أخرجه أحمد في "مسنده" (¬4). الرابع: مُرْسل: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عمران ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 37 رقم 1328). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 12 رقم 4487). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 322 رقم 3680). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 167 رقم 25383).

وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه مرسلًا: من حديث وكيع، عن عمران بن زائدة، عن أبي خالد، عن النبي - عليه السلام -. قوله: "يرفع طورًا" انتصاب "طورًا" على المصدرية من غير لفظة فعله، يقال: فَعَلَ هذا طورًا، وطَوْرى، وأطوارًا، كما يقال: فعل مرةً، ومرتين، ومرات، ومرارًا، ومعنى يرفع طورًا: يرفع صوته بالقراءة مرةً ويخفضه مرةً أخرى. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (3/ 12 رقم 4487).

ص: باب: جمع السور في ركعة

ص: باب: جمع السور في ركعة ش: أي هذا باب في بيان حكم جمع السور من القرآن في ركعة واحدة، والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي العالية، قال: أخبرني مَنْ سمع النبي - عليه السلام - يقول: "لكل سورة ركعة". ش: إسناده صحيح، وعاصم هو ابن سليمان الأحول. وأبو العالية الرياحي اسمه رُفَيْع بن مهران البصري، أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي - عليه السلام - بسنتين، روى له الجماعة، وجهالة الصحابي لا تضر صحة الإسناد. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبدة، عن عاصم، عن أبي العالية، قال: حدثني من سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "أعط كل سورة حظها من الركوع والسجود". فهذا يدل على أن المصلي لا ينبغي له أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة واحدة مع فاتحة الكتاب كما ذهب إليه جماعة من السلف، ويمكن أن يكون قوله: "لكل سورة ركعة" من باب القلب من قولهم: عرضت الحوض على الناقة، والمعنى: لكل ركعة سورة واحدة لا يُزاد عليها. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: أنا عاصم الأحول، عن أبي العالية، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لكل سورة ركعة. قال: فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: أَسَمَّى لك مَنْ حَدَّثه؟ قلت: لا. قال: أفلا تسأله، فسألته، فقلت: من حدثك؟ فقال: إني لأَعْلمُ مَنْ حدثني وفي أيّ مكانٍ حدثني، وقد كنت أُصَلِّي بين عشرين حتى بلغني هذا الحديث". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 324 رقم 3710).

ش: هذا مرسل، ورجاله ثقات، وعبد الرحمن بن زياد هو الثقفي الرصاصي، وثقه أبو حاتم. قوله: "قال: فذكرت ذلك لابن سيرين" القائل هو عاصم الأحول، وابن سيرين هو محمَّد بن سيرين. قوله: "فقال: أسمَّى لك" أي قال ابن سيرين: والهمزة للاستفهام. قوله: "قال: أفلا تسأله؟ " أي: قال ابن سيرين لعاصم: أفلا تسأل أبا العالية عمن حدثه بهذا الحديث. قوله: "كنت أصلي بين عشرين" (¬1). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا ينبغي للرجل أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة مع فاتحة الكتاب، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ورفيع بن مهران وآخرين، فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث، وقالوا: لا ينبغي للمصلي أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة واحدة مع فاتحة الكتاب، واحتجوا فيما ذهبوا إليه بهذا الحديث، ويحكى ذل ذلك عن زيد بن خالد الجهني. ص: وبما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعتُ ابْنَ لَبِبية قال: "قال رجل لابن عمر - رضي الله عنهما -: إني قرأت المفصل في ركعة -أو قال: في ليلة- فقال ابن عمر: إن الله تبارك وتعالى لو شاء لأنزله جملةً واحدةً، ولكن فَصّله لتُعْطَى كل سورة حظها من الركوع والسجود". ش: أي: واحتجوا أيضًا بما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) بيَّض له المؤلف في "الأصل، ك".

أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح، عن عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الحجازي، وثقه ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وقال: عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي. والأثر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن ابن لبيبة قال: "قلت لابن عمر -أو قال غيري-: إني قرأت المفصل في ركعة، قال: أفعلتموها؟! إن الله لو شاء أنزله جملة واحدة؛ فأعطوا كل سورة حظها من الركوع والسجود". والمفصل السُّبْع السابع، سُمِّي به لكثرة فصوله، وهو من سورة "محمَّد"، وقيل: من "الفتح"، وقيل: من "قاف" إلى آخر القرآن. قوله: "تبارك" تفاعل من البركة، ومعناه تعاظم. قوله: "ولكن فصَّله" أي فَرَّقَه، وأراد به أنه أنزله مفرَّقًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس للرجل أن يقرأ في الركعة الواحدة ما بدا له من السور. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير وعطاء ابن أبي رباح وعلقمة وسُوَيْد بن غفلة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: لا بأس للمصلي أن يجمع بين السورتين أو السور في ركعة واحدة، ويروى ذلك عن عثمان بن عفان وحذيفة وابن عمر وتميم الداريّ - رضي الله عنهم -. وذكر في "المبسوط": إذا قرأ سورة واحدةً في ركعتين اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يُكرَه، ولكن ينبغي أن لا يفعل، ولو فعل لا بأس به. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 149 رقم 2855).

وكذا لو قرأ بوسط السورة أو آخر سورة أجزأ، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة كاملة في المكتوبة، وإن جمع بين السورتين في ركعة واحدة لا ينبغي أن يفعل، ولو فعل لا بأس به. وذكر في "الخلاصة": وإن قرأ في ركعة سورة وفي ركعة أخرى سورة فوق تلك السورة أو فعل ذلك في ركعة فهو مكروه، وهذه كلها في الفرائض، أما النوافل لا يكره فيها شيء من ذلك. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها -: "أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرن السُوَرَ؟ قالت: المفصل". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها -. أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن كهمس بن الحسن التميمي البصري، عن عبد الله بن شقيق العُقيلي البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا كهمس، عن عبد الله ابن شقيق العقيلي، قال: قلت لعائشة: "كان رسول الله - عليه السلام - يجمع بين السور في ركعة؟ قالت: نعم، المفصل". قوله: "أكان" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "يَقْرن" من قولهم: قَرَنْتُ البعيرَيْن أَقْرْنُهُما قَرْنًا إذا جمعتهما في حبل واحد، وقَرَنْتُ الشيء بالشيء وصلتُه، واقْتَرَنَ الشيء بغيره، والقِرَان أن تقرن بين تمرتين تأكلهما. قوله: "المفصل" بالنصب أي: نعم يقرن المفصَّل، وقد ذكرنا أنه السُّبع السابع. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 323 رقم 3702).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا هشام بن عبد الملك، قال: ثنا أبو عوانة، عن حصين، قال: أخبرني إبراهيم، عن نهيك بن سنان السُلَمي، أنه أتى عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: "قرأت المفصَّل الليلة في ركعة. فقال: أهذًّا مثل هذِّ الشعر؟! أوَ نثرًا مثل نثر الدقل؟! وإنما فُصِّل لتفصلوه، لقد علمنا النظائر التي كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ؛ عشرين سورة: الرحمن والنجم على تأليف ابن مسعود كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة، فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك كيف أصنع؟ قال: ربما قرأت أربعًا في ركعةً". ش: إِسناده صحيح، وهشام بن عبد الملك هو أبو الوليد الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، وأبو عوانة اسمه الوضاح اليشكري، وحُصن -بضم الحاء- ابن عبد الرحمن السلمي روى له الجماعة، وإبراهيم هو النخعي، ونهيك بن سنان السلمي، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن أبي وائل قال: "جاء رجل من بني بجيلة يقال له: نهيك بن سنان إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفًا تجده أم ياء؟ "من ماء غير ياسن"؟ {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} (¬2)؟ قال: فقال لي عبد الله: وكل القرآن أَحْصَيتَ غير هذا؟ قال: فقال: إني لأقرأ المفصّل في ركعة، قال: هذًّا كهذِّ الشعر؟! إن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن القرآن إذا وقع في القلب فرسخ؛ نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود. قال: وقال عبد الله: إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه مسلم في "صحيحه" (¬3) عن ابن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 256 رقم 8727). (¬2) سورة محمَّد، آية: [15]. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 565 رقم 822).

قوله: "أهذًّا" الألف فيه للاستفهام أي: أتهذّ هذًّا كهذّ الشعر، والهَذّ: سرعة القراءة أي: أسرعة كسرعة من يسرع في قراءة الشعر. وقال النووي: الهذّ -بتشديد الذال- هو شدة الإسراع والإفراط في العجلة، ففيه النهي عن الهذِّ، والحث على الترسل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء. قال القاضي: وأباحت طائفة قليلة الهذّ، وقال: في مثل هذّ الشعر معناه في تحفظه وروايته لا في إنشاده وترنّمه. قوله: "أوَ نثرًا" عطف على قوله: "أهذَّا"، وانتصاب "أهذًّا" على المصدرية. قوله: "مثل نثر الدقل" الدَّقَل -بفتح الدال والقاف، وفي آخره لام- ثمر الدَّوْم وهو يشبه النخل وله حب كبير وفيه نوى كبير عليه لحيمة عَفِصَةٌ تؤكل رطبة، فإذا يَبس صار شبه الليف. وقيل: الدقل أردأ التمر، والبَرْني أجوده، وتراه ليبسه وردائته لا يجتمع ويكون منثورًا، وقيل: شبهه بتساقط الرطب اليابس من العِذْق إذا هُزّ. قوله: "وإنما فُصِّل" على صيغة المجهول أي: وإنما فُصِّل المفصَّل وهو السُّبع السابع، يعني أكثر فصوله لتفصلوه؛ أراد به لتفرقوه وتتأنوا في قراءته وتراعوا الترسل والترتيب ولا تسرعوا فيه. قوله: "النظائر" جمع نظيرة وهي السُوَر التي يشبه بعضها بعضًا في الطول والقصر. قوله: "عشرين سورةً" بدل من قوله "النظائر" وليس هو بمفعول لقوله: "يقرأ" وإنما مفعول "يقرأ" محذوف تقديره: التي كان رسول الله - عليه السلام - يقرأها. قوله: "الرحمن والنجم" بيان لقوله "النظائر"؛ لأن كلًا منهما تشبه الأخرى في مقدار الطول والقصر؛ لأن سورة الرحمن ست وسبعون آية وسورة النجم ثنتان وستون آية، وهي قريبة من سورة الرحمن نظيرة لها.

قوله: "على تأليف ابن مسعود" أراد أن سورة النجم كانت بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان الذي هو المشهور اليوم. قوله: "كل سورتين في ركعة" مفعول لمحذوف تقديره: كان - عليه السلام - يقرأ كل سورتين من النظائر التي هي عشرون سورة؛ في كل ركعة واحدة من الصلاة، ويجوز أن يكون مفعولًا لـ "يقرأ" الظاهر، فلا يحتاج إلى تقدير "يقرأ" أخرى، فافهم. قوله: "وذكر الدخان وعم يتساعلون" هذا أيضًا على تأليف ابن مسعود، فسورة الدخان سبع أو تسع وخمسون آية، وسورة عم يتساءلون أربعون أو إحدى وأربعون آية، وهما متقاربان في المقدار. قوله: "فقلت لأبراهيم" القائل هو حصين بن عبد الرحمن السلمي. قوله: "ما دون ذلك" إشارة إلى ما ذكر من السور المذكورة، وذَكَرَ الضمير باعتبار المذكور. قوله: "أربعًا" أي أربع سور في ركعة واحدة، وهي السورة التي هي أقصر في المقدار من السور المذكورة، أعني: الرحمن والنجم والدخان وعم يتساءلون. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل: "أن رجلًا قال لعبد الله: إني قرأت المفصل في ركعة فقال: هذًّا كهذِّ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - عليه السلام -" يقرن بينهن". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا سيّارُ، عن أبي وائل، عن عبد الله مثله غير أنه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرن بين سورتين في كل ركعة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قالا: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: "جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني قرأت المفصل في

ركعة، فقال: نثرًا كنثر الدَّقَل أو هذًّا كهذِّ الشعر؟! لكن رسول الله - عليه السلام - لم يكن يفعل ما فعلت، كان يَقرنُ بين سورتين، في كل ركعة سورتين في ركعة؛ النجم والرحمن في ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات". ش: هذه خمس طرق أخرى وهي أيضًا صحيحة: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة: "أن رجلًا قال لعبد الله ابن مسعود ... ". وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا وائل قال: "جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذًّا كهذّ الشعر؟! لقد عرفت النظائر التي كان النبي - عليه السلام - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورةً من المفصل؛ سورتين في كل ركعة". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن مثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، أنه سمع أبا وائل يحدث "أن رجلًا جاء إلى ابن مسعود فقال: "إني قرأت المفصل ... " إلى آخره نحو رواية البخاري. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشر، عن سَيّار -بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره راء مهملة- العَنزي الواسطي ويقال: البصري، عن أبي وائل شقيق بن سلمة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا هشيم، أنا سيّار، عن أبي وائل قال: "جاء رجل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 269 رقم 742). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 563 رقم 822). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 427 رقم 4062).

إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني قرأت البارحة المفصل في ركعة، فقال عبد الله: أنثرًا كنَثْر الدَّقَل وهذًّا كهذّ الشعر؟! إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - عليه السلام - يقرن بينهن سورتين في كل ركعة". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد النخعيين، قالا: "جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ... " إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (2): ثنا يحيى بن آدم، نا زهير، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد وعلقمة، عن عبد الله أن رجلًا أتاه فقال: "قرأت المفصل في ركعة، فقال: بل هذَذْتَ كهذِّ الشعر أو كنثر الدَّقَل، لكن رسول الله - عليه السلام - لم يفعل كما فعلت، كان يقرأ النظائر {الرَّحْمَنِ} والنجم في ركعة"، قال: فذكر أبو إسحاق عشر ركعات بعشرين سورة على تأليف عبد الله، آخرهن: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {وَالْكِتَابِ}. قوله: "في كل ركعة" متعلق بقوله: "كان يقرن". قوله: "سورتين في ركعة" منصوب بفعل محذوف تقديره: يقرن بين سورتين في ركعة. قوله: "النجم والرحمن" بيان عن السورتين فلذلك انتصبا. قوله: "في ركعة" بدون حرف العطف، حال من النجم و {الرَّحْمَنِ} أي كائنين في ركعة واحدة. قوله: "عشرين سورة" بالنصب في كثير من النسخ، وفي بعضها "عشرون" بالرفع، والظاهر أن الرفع هو الصحيح، أما النصب فعلى عامل مقدر تقديره: يقرأ عشرين سورة في عشر ركعات، في كل ركعة سورتان، وأما وجه الرفع فعلى الابتداء وخبره قوله: "في عشر ركعات"، فعلى التقديرين حذف العاطف؛

لأنها جملة بيانية وتفسيرية، فمثل هذه الجملة لا يفصل بينها وبين ما قبلها بحرف العطف؛ لأن العطف ينبئ عن معنى المغايرة، فافهم. الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عباد بن موسى، نا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: "أتي ابن مسعود رجل فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر ونثرًا كنثر الدَّقَل؟! لكن النبي - عليه السلام - كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة {الرَّحْمَنِ} والنجم في ركعة، و {اقْتَرَبَتِ}، والنجم في ركعة، و {الطُّورَ} و {فَالْحَامِلَاتِ} في ركعة، و {إِذَا وَقَعَتِ} و {ن} في ركعة، و {سَأَلَ سَائِلٌ} و {وَالنَّاشِطَاتِ} في ركعة، و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و {عَبَسَ} في ركعة، و {قُمْ} و {قُمْ} في ركعة، و {هَلْ أَتَى} و {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في ركعة، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} و {فَالْعَاصِفَاتِ} في ركعة، و {وَالْكِتَابِ} و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وفي ركعة". قلت: رواية أبي داود هذه كالتفسير لرواية الطحاوي. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن سَعْد بن عُبَيدة، عن المُستورد بن الأحنف، عن صلة، عن حذيفة ابن اليمان - رضي الله عنه - قال: "صليت إلى جنب النبي - عليه السلام - ذات ليلة فاستفتح سورة البقرة فلما فرغ منها استفتح سورة آل عمران، وكان إذا أتى على آيه فيها ذكر الجنة أو النار وقف فسأل أو تعوَّذ أو قال كلامًا هذا معناه". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكار، وأبو عمر الضرير حفص بن عمر الحَوْضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، قال أحمد: ثبت ثبت متقن؛ لا يؤخذ عليه حرف واحد. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 56 رقم 1396).

وأبو عوانة الوضاح، والأعمش هو سليمان بن مهران، وصلة بن زفر العَبْسي الكوفي. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني محمَّد بن آدم، عن حفص بن غياث، عن العلاء ابن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة والأعمش، عن سعد بن عُبَيدة، عن المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة "أن النبي - عليه السلام - قرأ البقرة، وآل عمران، والنساء في ركعة لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استجار". وأخرجه أبو داود (¬2): نا حفص بن عمر، نا شعبة، قال: قلت لسليمان: أدعو في الصلاة إذا مررت بآية تخوّف؟ فحدثني عن سعد بن عبيدة، عن مستورد، عن صلة بن زفر، عن حذيفة: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام - فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى. وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ". وأخرجه ابن ماجه (¬3) والترمذي (¬4) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن حذيفة هذا الحديث من غير هذا الوجه "أنه صلى [بالليل مع النبي]- عليه السلام - (¬5) " فذكر الحديث. ويستفاد منه: جواز قراءة السورتين أو أكثر في ركعة واحدة من غير كراهة، واستحباب سؤال المصلي الرحمة من الله عند مروره بآية رحمة، واستحباب تعوذه من النار ومن عذاب الله عند مروره بآية النار أو العذاب. وقال أصحابنا: هذا محمول على التطوع. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 177 رقم 1009). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 230 رقم 871). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 287 رقم 888). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 48 رقم 262). (¬5) في "الأصل، ك": بالنبي، والمثبت من "جامع الترمذي".

وقال صاحب "المحيط": من صلى منفردًا تطوعًا فمر بذكر النار فاستعاذ أو بذكر الجنة فسأل؛ جاز ويستحب لما روى حذيفة ... الحديث، وإن كان إمامًا يكره له ولمن خلفه، أما الإِمام فلأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة والتثقيل على القوم، وأما المؤتم فلأنه مأمور بالسكوت والاستماع، وإن كان منفردًا يصلي المكتوبة يكره أيضًا خلافًا للشافعي؛ لأن الاشتغال بالدعاء يقطع نظم القرآن وأنه مكروه، ولكن تركنا هذا في التطوع بالنّص. ص: ففي هذه الآثار أن النبي - عليه السلام - كان يقرن بين السورتين في ركعة، فقد خالف هذا ما روى أبو العالية، وهو أولى؛ لاستقامة طريقه وصحة مجيئه، فأما قول ابن مسعود - رضي الله عنه - بعد ذلك: "إنما سمي المفصل لتُفصّلوه" فإن ذلك لم يذكره عن النبي - عليه السلام -، وقد يحتمل أن يكون ذلك من رأيه، فإن كان ذلك من رأيه فقد خالفه في ذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ لأنه كان يختم القرآن في ركعة، وسنذكره في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي ففي هذه الأحاديث المذكورة آنفًا عن عائشة وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - كان يقرن بين السورتين في ركعة واحدة في الصلاة، ففعله هذا يخالف ما رواه أبو العالية رفيع بن مهران، عمن سمع النبي - عليه السلام - يقول: "لكل سورة ركعة" على ما مر في أول الباب. فإذا ثبتت المخالفة بين هذه الآثار وبين أثر أبي العالية؛ تركنا أثر أبي العالية وصرنا إلى تلك الآثار؛ لترجحها عليه بقوة الصحة واستقامة الطريق، يظهر لك ذلك إذا نظرت في طرقها وأحوال رواتها، وقد علم أن التعارض بين الأثرين إنما يعتبر إذا تساويا في الصحة وقوة الطريق، وإلا فالمرجوح كالمعدوم بالنسبة إلى الراجح. قوله: "فأما قول ابن مسعود بعد ذلك ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: كيف تستدلون على مدّعاكم بحديث ابن مسعود؟! وقد قال: "إنما سُمّي المفصل لتفصلوه" بمعنى: لتجعلوا كل سورة في ركعة؟

وتقرير الجواب: أن ابن مسعود لم يذكر هذا القول عن النبي - عليه السلام - ولا أسنده إليه، فيحتمل أن يكون ذلك من رأيه واجتهاده، فإذا كان كذلك فقد عارضه في ذلك فعل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فإنه كان يختم القرآن في ركعة واحدة على ما سيجيء مسندًا في آخر الباب، فإذا كان معارضًا بفعل عثمان لم تبق به حجة ولا اعتراض متوجه، فافهم. ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - "أنه قرأ في ركعةٍ من صلاة الصبح ببعض سورة". حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا ابن جريج (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن محمَّد بن عباد بن جعفر، عن أبي سلمة بن سفيان، عن عبد الله بن السائب، قال: "حضرت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غداة الفتح صلاةُ الصبح، فاستفتح بسورة المؤمن، فلما أتى على ذكر موسى وعيسى صلى الله عليهما أو موسى وهارون عليهما السلام أخذته سعلة فركع". فإن قال قائل: إنما فعل ذلك للسعلة التي عرضت له. قيل له: فإنه قد روي عنه أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بآيتين من القرآن، قد ذكرنا ذلك في باب "القراءة في ركعتي الفجر". وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر، عن رجل، عن جَسرة بنت دجاجة قالت: سمعت أبا ذر قال: "جعل رسول الله - عليه السلام - يقرأ آية من كتاب الله -عز وجل-، بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو". حدثنا عبد العزيز بن معاوية، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن قدامة بن عبد الله، عن جسرة بنت دجاجة، عن أبي ذر: "أن النبي - عليه السلام - قام بأية حتى أصبح {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬1) ". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [118].

حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشَيش، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثني قدامة بن عبد الله، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، أنها سمعت أبا ذر يحدث عن النبي - عليه السلام - مثله. فهذا دليل على أنه لا بأس بقراءة بعض سورة في ركعة، وقد ثبت أنه لا بأس بقراءة السورة في الركعة؛ لما قد ذكرنا مما جاء في ذلك عن النبي - عليه السلام -، وقد جاء عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أفضل الصلاة طول القيام" وذلك أيضًا ينفي ما ذكر أبو العالية؛ لأنه يوجب أن الأفضل من الصلوات ما أطيلت القراءة فيه، وذلك لا يكون إلا بالجمع بين السور الكثيرة في ركعة، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بهذا الكلام إلى منع ما قاله أهل المقالة الأولى من تعيين سورة واحدة لكل ركعة، وتأكيد لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من جواز القران بين السورتين أو أكثر في ركعة واحدة بلا كراهة؛ وذلك لأنه قد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قرأ في ركعة من صلاة الصبح ببعض سورة واحدة، فلو كانت لكل ركعة سورة واحدة لما فعل النبي - عليه السلام - ذلك، وحيث فعل ذلك دل على صحة ما ذكره أهل المقالة الثانية. قوله: "فإن قال قائل ... " إلى آخره اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى, تقريره أن يقال: لا نسلم أن حديث عبد الله بن السائب يدل على ما ذكرتم؛ لأن اقتصاره - عليه السلام - على بعض سورة المؤمن إنما كان لأجل السَعْلة التي عرضت له لا لأجل ما ذكرتم. وتقرير الجواب: أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بآيتين من القرآن، فهذا يدل على اقتصاره على بعض السورة من غير علة، وقد ذكر ذلك الحديث في باب "القراءة في ركعتي الفجر"، وهو ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (¬1) الآية، وفي الثانية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2) " وكذلك روي عن أبي هريرة مثله، وقد مر هناك مستقصى، ثم إنه أكد كلامه ذلك أيضًا بحديث أيضًا ذر الغفاري حيث قال: "فهذا دليل علي أنه لا بأس بقراءة بعض سورة في ركعه"، وهو أيضًا تأييد للجواب المذكور عن الاعتراض المذكور. قوله: "وذلك ينفي أيضًا" أي قوله - عليه السلام -: "أفضل الصلاة طول القيام"، أيضًا ينفي ما رواه أبو العالية رفيع بن مهران، وهذا ظاهر؛ لأن هذا الحديث يقتضي طول القراءة لطول القيام، وذلك لا يكون إلا بالجمع بين السورتين أو سور كثيرة، وحديث أبي العالية يقتضي الاقتصار على سورة واحدة في ركعة، وبينهما تعارض ظاهرًا, ولكن الحديث الأول أقوى وأصح إسنادًا، وقد ذكرنا في باب "القراءة في ركعتي الفجر" أن مسلمًا أخرجه، فلا يُعارض بحديث أدنى منه في الصحة والقوة؛ لما ذكرنا. ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن السائب المخزومي الصحابى - رضي الله عنه - بإسناد صحيح من طريقين رجالهما ثقات. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر المكي، عن أبي سلمة بن سفيان، واسمه عبد الله بن سفيان القرشي المخزومي، مشهور بكنيته روى له مسلم وآخرون. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني هارون بن عبد الله، قال: نا حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج. وحدثني محمَّد بن رافع -وتقاربا في اللفظ- قال: نا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: سمعت محمَّد بن جعفر بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [136]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [52]. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 336 رقم 455).

أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن السائب قال: "صلى لنا رسول الله - عليه السلام - الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى عليهم السلام -محمَّد بن عباد شك أو اختلفوا عليه- أخذت النبي - عليه السلام - سعلة فركع، وعبد الله بن السائب حاضر ذلك". وفي حديث عبد الرزاق: "فحذف فركع". وفي حديثه: "وعبد الله بن عمرو", ولم يقل: ابن العاص. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن ابن جريج ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): نا الحسن بن علي، نا عبد الرزاق وأبو عاصم، قالا: أنا ابن جريج قال: سمعت محمَّد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن المسيب العابدي وعبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن السائب قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى -ابن عباد شك أو اختلفوا- أخذت النبي - عليه السلام - سعلة فحذف فركع، وعبد الله بن السائب حاضر لذلك". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. قوله: "غداة الفتح" أي: فتح مكة، وفي رواية الطبراني: "يوم الفتح". قوله: "أخذته سَعْلة" بفتح السين وسكون العين المهملتين، وهي مرة من السعال، وفي رواية ابن ماجه: "أو قال: شهقة" وفي رواية: "شرقة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 175 رقم 649). (¬2) "المجتبى" (2/ 176 رقم 1007). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 269 رقم 820).

ويستفاد منه: استحباب القراءة الطويلة في صلاة الصبح ولكن على قدر حال الجماعة. وجواز قطع القراءة، وهذا لا خلاف فيه ولا كراهة إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن لعذر فلا كراهة أيضًا، وهذا مذهب الجمهور، وعن مالك في المشهور كراهته. وجواز القراءة ببعض السورة. وأخرج حديث أبي ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة من ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سليمان ابن حيان -بالياء آخر الحروف- وكنيته أبو خالد الأحمر، عن رجل وهو مجهول، ويمكن أن يكون هذا فُليتا العامري، كما قد جاء هكذا في رواية أحمد في "مسنده" على ما نذكره الآن، وقد قيل: اسمه قدامة بن عبد الرحمن أو عبد الله. وهذا الرجل يروي عن جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية، قال العجلي: تابعية ثقة. روى لها أبو داود والنسائي وابن ماجه، وجَسْرَة -بفتح الجيم وسكون السين المهملة- وقال الشيخ تقي الدين في "الإِمام": ورأيت في كتاب "الوهم والإيهام" لابن القطان المقرَّر عليه دِجَاجة -بكسر الدال- وعليها صحّ، بخلاف واحدة الدَّجاج. قلت: ذكر الصغاني أن الدَّجاج -بفتح الدال- أفصح من كسرها، فيفهم من ذلك أن الكسر لغة فيه ولكن الفصحي الفتح. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن فضيل، حدثني فليت العامري، عن جسرة العامرية، عن أبي ذر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - ليلةً فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 149 رقم 21366).

فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها وتسجد بها؟ قال: إني سألت ربي -عز وجل- الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا". الثاني: عن عبد العزيز بن معاوية القرشي العتابي، قال الدارقطني: لا بأس به عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن قدامة بن عبد الله بن عبدة ويقال: ابن عبد البكري أبو رَوْح الكوفي، قيل: إنه فليت العامري؛ ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى له النسائي وابن ماجه. وأخرجه النسائي (1): أنا نوح بن حبيب، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا قدامة بن عبد الله، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت أبا ذر يقول: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أصبح بآية، والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ". الثالث: عن عبد الله بن محمَّد بن خُشَيْش، بضم الخاء المعجمة وبشينين معجمتين بينهما ياء آخر الحروف ساكنة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا محمَّد بن فضيل، حدثني فليت العامري ... إلى آخره، وقد ذكرناه عن قريب. ص: وقد رَوَيْنا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - خلاف ما روينا عنه في الفصل الأول. حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر، قال: ثنا داود بن قيس، عن نافع قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يجمع بين السورتين في الركعة الواحدة من صلاة المغرب". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [118]. (¬2) "مسند أحمد" (5/ 149 رقم 21366).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عُمَر، وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقرأ بالسورتين والثلاث في ركعة واحدة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر مثله وزاد: "وكان يقسم السورة الطويلة في الركعتين من المكتوبة". ش: أراد بهذا الجواب عما رواه أهل المقالة الأولى -فيما ذهبوا إليه- عن ابن عمر من حديث يعلى بن عطاء، عن ابن لبيبة قال: "قال رجل لابن عمر ... " إلى آخره. وقد أخرجه في معرض استدلالهم وهو معنى قوله في الفصل الأول. بيان ذلك أن يقال: إن الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما قالوا من كراهة الجمع بين السورتين أو السور في ركعة واحدة بما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - يعارضه ما رواه عنه نافع: "أنه كان يجمع بين السورتين في الركعة الواحدة من صلاة المغرب". فإذًا سقط احتجاجهم بما رواه يعلى بن عطاء، وقد ذكرنا غير مرة أن الحديثين إذا تعارضا ظاهرًا يكون الحكم لأصحهما إسنادًا, ولا شك أن ما رواه نافع أعلى إسنادا وأصح طريقًا مما رواه يعلى بن عطاء ولئن سلمنا تساويهما في الصحة فإنهم إذا احتجوا على خصمهم برواية يعلى بن عطاء، فخصمهم يحتجون عليهم برواية نافع، وفي هذا أيضًا ردٌّ لما قال بعض أصحابنا الحنفية من كراهة الجمع بين السورتين أو أكثر في ركعة من الفرائض؛ فافهم. ثم إنه أخرج ما روي عن ابن عمر في ذلك من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن داود بن قيس الفراء الدباغ روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن نافع مولى ابن عمر.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الوليد بن كثير عن نافع "أن ابن عمر كان يجمع بين السورتين والثلاث من المفصل في السجدة الواحدة من الصلاة المكتوبة". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر كان يقرأ في ركعة الثلاث سور في بعض ذلك". وأخرج (¬3) عن معمر، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان يقرأ بالسورتين والثلاث في ركعة". وأخرج (¬4) عن داود بن قيس قال: سمعت رجاء بن حيوة يسأل نافعًا: "هل كان ابن عمر يجمع بين سورتين في ركعة؟ قال: نعم، وسور". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبي عمر الحمصي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي غاية في الشاميين واختلط عن المدنيين، قاله دحيم، وروى له الأربعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العمري المدني، روى له الجماعة، وعن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة، كلاهما عن نافع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقرن بين السورتين في ركعة واحدة من الصلاة المكتوبة". الثالث: عن ابن أبي داود أيضًا، عن خطاب بن عثمان أيضًا، عن إسماعيل ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (2/ 60 رقم 2295). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 148 رقم 2846). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 148 رقم 2847). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 148 رقم 2848). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 323 رقم 3694).

ابن عياش أيضًا، عن محمَّد بن إسحاق المدني صاحب السيرة المشهور، إمام ثقة لكنه مدلس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): مقتصرًا على تلك الزيادة التي ذكرها ابن أبي داود في روايته هذه، وقال: ثنا عبدة، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يقسم السورة في الركعتين". ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عمر وغيره ما يدل على هذا المعنى. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمكة الفجر، فقرأ في الركعة الأول بسورة يوسف حتى بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (¬2) ثم ركع". ش: أي: قد روي فيما ذكرنا من عدم كراهة قراءة بعض السورة في الركعة الواحدة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد ذكر الأثر المذكور في باب "الوقت الذي يصلى فيه الفجر". وأبو الأحوص سلام بن سليم، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. قوله: "ما يدل" في محل الرفع؛ لاستناد قوله: "وقد روي" إليه، مفعول ناب عن الفاعل. وأراد بقوله: "على هذا المعنى" قوله: "فهذا دليل على أنه لا بأس بقراءة بعض السورة ... " إلى آخره. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق حدثه، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صليت مع عبد الله العشاء ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 325 رقم 3717). (¬2) سورة يوسف، آية: [84].

الآخرة، فافتتح الأنفال حتى انتهى إلى {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬1) ثم ركع". ش: إسناده صحيح، وعمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحراني شيخ البخاري، وزهير هو ابن معاوية بن حُديج أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبو بكر الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله هو ابن مسعود. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد: "أن ابن مسعود صلى بهم العشاء فقرأ بأربعين من الأنفال، ثم قرأ في الثانية بسورة من المفصل". ص: حدثنا رَوحٌ، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: "حججت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقرأ في الركعة الآخرة من المغرب {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ". ش: هذا بعينه هو الإسناد الأول غير أن موضع عبد الرحمن بن يزيد: عمرو بن ميمون الكوفي الأَوْدي أدرك الجاهلية ولم يلق النبي - عليه السلام -، وروى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب صلاة المغرب فقرأ في الركعة الأولى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وفي الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ". وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4) أيضًا. وفيه ردٌّ صريح على من يكره من أصحابنا الجمع بين السورتين في ركعة من الفرض. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [40]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 103 رقم 2668). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 314 رقم 3593). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 109 رقم 2697).

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير ابن معاوية، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال: "كان تميم الداريّ - رضي الله عنه - يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعةٍ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا الضحى يُحدِّث، عن مسروق، قال: "قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح -أو كاد أن يصبح- يقرأ آيةً يركع بها ويسجد ويبكي؛ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (¬1) الآية". ش: هذان طريقان رجالهما ثقات، وعبد الرحمن بن زياد هو الرصاصي الثقفي، وابن سيرين هو محمَّد، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو الضحى مسلم بن صُبَيْح -بضم الصاد- الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين: "أن تميمًا الداريّ كان يقرأ القرآن كله في ركعة". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحِماني، قال: ثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -: "أنه قرأ القرآن في ركعة". ش: الحماني هو يحيى بن عبد الحميد أبو زكرياء الكوفي، فقال يحيى: صدوق ثقة (¬3). وقيل: إنه أول من صنف المسند، وإسحاق بن سعيد بن عمرو بن العاص بن أمية ثقة من رجال الصحيحين، وأبوه سعيد بن عمرو روى له الجماعة سوى الترمذي. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، آية: [21]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 323 رقم 3691). (¬3) قد ذكرنا غير مرة أن الجمهور على تضعيفه. وقال الذهبي في "المغني في الضعفاء": حافظ منكر الحديث، وقد وثقه ابن معين وغيره، وقال أحمد بن حنبل: كان يكذب جهارًا، وقال النسائي: ضعيف.

ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حمادٍ، عن سعيد بن جبير "أنه قرأ القرآن في ركعة، في البيت- يعني الكعبة". ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وحماد هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري وأبي حنيفة، عن حماد، عن سعيد بن جبير قال: "سمعته يقرأ القرآن في جوف الكعبة في ركعة، وقرأ في الركعة الأخرى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا أبو الأحوص، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: "أمّنا في صلاة المغرب، فوصل سورة الفيل ولإيلاف قريش في ركعة". ش: إسناده صحيح أيضًا، ويوسف هو ابن عدي بن زريق شيخ البخاري، وأبو الأحوص اسمه سلام بن سليم الكوفي، والمغيرة بن مقسم الضبّى الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة، وإبراهيم هو النخعي. ص: وهذا الذي ذكرنا مع تواتر الرواية فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثرة من ذهب إليه من بعده من أصحابه وتابعيهم هو النظر؛ لأنا قد رأينا فاتحة الكتاب تقرأ هي وسورة غيرها في ركعة ولا يكون بذلك بأس، ولا تجب لفاتحة الكتاب -لأنها سورة- ركعة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك ما سواها من السور لا يجب أيضًا لكل سورة فيه ركعة، وهذا مذهب أبي حنيفة وأيضًا يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار به إلى ما ذكره في هذا الباب من الأحاديث عن النبي - عليه السلام - والآثار من الصحابة والتابعين، من عدم كراهة قراءة بعض السورة في الركعة الواحدة وعدم كراهة الجمع بين السورتين أو أكثر في ركعة واحدة، سواء كانت في مكتوبة أو نفل، ثم قال: هذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 148 رقم 2850).

والعجب من بعض المتأخرين ذكروا في كتبهم أن الجمع بين السورتين في ركعة واحدة مكروه، ونسبوا ذلك إلى مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وبعضهم ينسب ذلك إلى محمَّد، وهذا كلام صادر عن غير صحة ولا استناد على دليل، والحق ما ذكره الإِمام الطحاوي، فإنه أعلم الناس بمذاهب العلماء ولا سيما بمذهب أبي حنيفة. قوله: "هو النظر" أي القياس، وجه ذلك: أن المصلي يجمع في ركعة واحدة بين سورة الفاتحة وسورة أخرى في أي صلاة كانت، وهذا غير مكروه بلا خلاف، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك إذا جمع بين سورتين غير الفاتحة أو بين سُوَر كثيرة.

ص: باب: القيام في شهر رمضان هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام؟

ص: باب: القيام في شهر رمضان هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم القيام في شهر رمضان -وهو صلاة التراويح- هل هو أفضل في المنازل والبيوت أم الأفضل قيامه مع الإِمام في المسجد؟ والمناسبة بينه وبين ما قبله من الأبواب: أن فيما قبله تُذكر أحوال صلاة الليل وأحكام القراءة في الصلوات وهذا أيضًا من صلوات الليل. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا داود -وهو ابن أبي هندٍ- عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جُبير بن نُفَير الحضرمي، عن أبي ذرِّ قال: "صمت مع النبي - عليه السلام - رمضان، فلم يقم بنا حتى بقي سَبعٌ من الشهر، فلما كانت الليلة السابعة خرج، وصلى بنا حتى مضي ثلث الليل، ثم لم يُصَلّ بنا السادسة، ثم خرج ليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا. فقال: إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة. ثم لم يصلّ بنا الرابعة، حتى إذا كانت ليلة الثالثة خرج، وخرج بأهله فصلى بنا حتى خَشِينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور". ش: إسناد صحيح، وعفان هو ابن مسلم الصفار شيخ البخاري وأحمد، وأبو ذر جندب بن جنادة. وأخرجه أبو داود (¬1): قال: ثنا مسدد، ثنا يزيد بن زريع نا داود بن أبي هند ... إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "إن الرجل إذا صلى مع الإِمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة". وبعد قوله: "قال: السحور": "ثم لم يقم بنا بقية الشهر". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: ثنا محمَّد بن الفضل، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 50 رقم 1375). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 169 رقم 806).

داود بن أبي هند ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "إنه مَنْ قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعيد، عن محمَّد بن الفضيل، عن داود بن أبي هند ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن سلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند ... إلى آخره نحوه. قوله: "حتى بقي سبع من الشهر" أي سبع ليال. قوله: "فلما كانت الليلة السابعة" وهي الليلة الثالثة والعشرون من الشهر. قوله: "ثم لم يُصلّ بنا السادسة" أي الليلة السادسة وهي الليلة الرابعة والعشرون. قوله: "حتى إذا كانت ليلة الثالثة" وهي ليلة السابع والعشرين ليلة القدر عند الجمهور. قوله: "الفلاح" وأصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحًا؛ إذْ كان سببًا لبقاء الصوم ومعينًا عليه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن القيام مع الإِمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، واحتجوا في ذلك بقول النبي - عليه السلام -: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قنوت بقية ليلته". ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سَعْد وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: القيام مع الإِمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 203 رقم 1605). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 420 رقم 1327).

وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: القيام في المسجد أحبَّ إليّ وأفضل من صلاة المرء في بيته. وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي، فمن أصحاب أبي حنيفة: عيسى بن أبان، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبي عمران، ومن أصحاب الشافعي: إسماعيل بن يحيى المزني، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي - عليه السلام -: "إن الرجل إذا قام مع الإِمام حتى ينصرف حُسب له قيام ليلة". قال الأثرم: كان أحمد يُصلّي مع الناس التراويح كلها -يعني الأشفاع إلى آخرها- ويوتر معهم، ويحتج بحديث أبي ذر. وقال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يُصلّونها في جماعة، انتهى. قلت: ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاوس، وهو مذهب أصحابنا الحنفية أيضًا. وقال صاحب "الهداية" (¬1): يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء، فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، ثم قال: والسنة فيها الجماعة لكن على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل المسجد كلهم عن إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة روي عنهم التخلّف. انتهى. قلت: الذي يفهم من كلام الإِمام الطحاوي -رحمه الله- أنه اختار مذهب أهل المقالة الثانية، وهم الذين ذهبوا إلى أن صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام، وأشار إلى هذا أيضًا في آخر هذا الباب بقوله: "وذلك هو الصواب"، وإنما لم يتعرض إلى ذكر أبي حنيفة وصاحبيه في آخر الباب على عادته في غالب الأبواب حيث يقول: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وإذا كان خلاف بينهم بَيّنه؛ إما أن مذهبهم مثل ما ذهب إليه هو بنفسه، وإما الرواية عنهم مختلفه في ذلك. ¬

_ (¬1) "الهداية" (1/ 70).

قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بقوله - عليه السلام -: "إنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف؛ كتب له قنوت بقية ليلته" أي قيام بقية ليلته، والمراد من القنوت ها هنا القيام، وهذا الحديث هو بعض حديث أبي ذر المذكور ولكن لفظه عنده كما مرّ: "إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة". وهذه اللفظة قريبة من لفظة الترمذي: "أنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلته". فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقال: واحتجوا في ذلك يقول النبي - عليه السلام -: "أنه من قام ... " إلى آخره. قلت: لما كان موضع الاحتجاج من الحديث هو قوله: "إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة" خصَّ ذلك بالذكر، ولكنه ذكره بغير لفظه الذي ذكره في الحديث؛ فلا يخلو إما نقل بالمعنى، أو روايته ثبتت عنده كذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مالكًا والشافعي وربيعة وإبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة؛ فإنهم قالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام. قال أبو عمر: اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان؟ فقال مالك والشافعي: صلاة المنفرد في بيته أفضل. قال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وقال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله - عليه السلام - إلا في بيته، وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع؛ أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس.

وقال الترمذي: واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئًا. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن ما احتجوا به من قول رسول الله - عليه السلام -: "أنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قنوت بقية ليلته" كما قال - عليه السلام - ولكنه قد روي عنه أيضًا أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" في حديث زيد بن ثابت، وذلك لما كان قام بهم في رمضان ليلةً، فأرادوا أن يقوم بهم بعد ذلك فقال لهم هذا القول، فأعلمهم به أن صلاتهم في منازلهم وحدانًا أفضل من صلاتهم معه وفي مسجده، فصلاتهم تلك في منازلهم أحرى أن تكون أفضل من الصلاة مع غيره وفي غير مسجده. فتصحيح هذين الأثرين يُوجبُ أن حديث أبي ذر هو على أن يكتب لهم بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته. وحديث زيد بن ثابت يوُجبُ أن ما فعل في بيته هو أفضل من ذلك، حتى لا يتضادّ هذان الأثران. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه أن ما احتجوا به أي أن ما احتج به أهل المقالة الأولى من قوله - عليه السلام - ... إلى آخره. حاصله أن يقال: إن ما احتججتم به من قوله - عليه السلام -: "إنه من قام ... " إلى آخره صحيح كما قلتم، ولكن روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" فهذا يعارض ذلك ظاهرًا، ويجب التوفيق بينهما حتى يرتفع ذلك التعارض ولا يقع التضاد بينهما، وهو أن نقول: إن حديث أبي ذر يوجب أن يكتب لهم بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته، وحديث: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبه" الذي رواه زيد بن ثابت -على ما يجيء عن قريب إن شاء الله- يوجب أن يكون ما يفعل في البيت أفضل من ذلك. قوله: "فتصحيح هذين الأثرين" أي أثر أبي ذر المذكور وأثر زيد بن ثابت الذي أخرجه معلقًا ويُسنده عن قريبٌ إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا ابن مرزوق وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عفان، قال: ثنا وهيبٌ، قال: حدثني موسى بن عقبة، قال: سمعت أبا النضر يحدث، عن بُسر ابن سعيد، عن زيد بن ثابت: "أن النبي - عليه السلام - احتجر حجرةً في المسجد من حصير، فصلى فيها النبي - عليه السلام - ليالي حتى اجتمع إليه ناسٌ، ثم فقدوا صوته، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم منذ الليلة حتى خشيت أن يكتب عليكم قيام الليل، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني بَرْدان إبراهيم ابن أبي فلان، عن أبيه، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مَسْجدي هذا إلا المكتوبة". حدثنا ربيع الجيزيّ، قال: ثنا أسدٌ وأبو الأسود قالا: أنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن أفضل صلاة المرء: صلاته في بيته إلا المكتوبة". ش: أخرج حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بيانًا لقوله: "وقد روي عنه أيضًا أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وذلك من ثلاث طرق: الأول: بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، وعلي بن عبد الرحمن بن محمَّد ابن المغيرة الكوفي، كلاهما عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب بن خالد، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، عن أبي النَضْر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي عن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد. وهؤلاء كلهم من رجال الجماعة ما خلا شيخي الطحاوي.

وأخرجه النسائي (¬1): عن أحمد بن سليمان، عن عفان بن مسلم ... إلى آخره نحوه سواء سندًا ومتنًا، غير أن لفظه: "فظنوا أنه نائم" و"إلا الصلاة المكتوبة". وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله - عليه السلام - اتخذ حجرةً -قال: حسبت أنه قال: من حصير- في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وأخرجه مسلم (¬3): نا محمد بن مثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن سعيد، قال: ثنا سالم أبو النضر مولي عمر بن عبيد الله، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: "احتجر رسول الله - عليه السلام - حُجَيْرةً بخصفة أو حصيرٍ، فخرج رسول الله - عليه السلام - يصلي فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلةً فحضروا، فأبطأ رسول الله - عليه السلام - عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - عليه السلام - مُغْضَبًا، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه ستُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا هارون بن عبد الله البزاز، ثنا مكي بن إبراهيم، نا عبد الله -يعني ابن سعيد- بن أبي هند، عن أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت أنه قال: "احتجر رسول الله - عليه السلام - في المسجد حجرة فكان رسول الله - عليه السلام - يخرج من الليل فيصلي فيها، قال: فصلوا معه بصلاته -يعني رجال- وكانوا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 197 رقم 1599). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 256 رقم 698). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 539 رقم 781). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 69 رقم 1447).

يأتون كل ليلة، حتى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله - عليه السلام -، فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه، قال: فخرج إليهم رسول الله - عليه السلام - مغضبًا فقال: أيها الناس، ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أن سَتُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". قوله: "احتجر" افتعل من الحجرة وهي الموضع المنفرد، والمعنى: اتخذ حجرة أو اقتطع موضعًا حَجَرهُ عن غيره، والحجر: المنع، ومنه سميت الحجرة. قوله: "من حصير" وهو الذي يُصْنَع من خوص المقل والنخل، قال عياض في "شرح مسلم": الخصفة والحصير بمعنًى. وفي "المحكم": أن الحصير يُصْنع من برديّ وأسل، ثم يفترش؛ سُمّي بذلك لأنه يلي وجه الأرض، ووجه الأرض يسمى حصيرًا. وفي "الجمهرة": الحصير عربي؛ سُمي حصيرًا لانضمام بعضه إلى بعض. ومما يستفاد منه: جواز اتخاذ الحجرة في المسجد إذا لم تضر بالمصلين، وجواز صلاة النفل فيه، والأفضل في النفل إقامته في المنازل والبيوت. الثاني: أيضًا إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن يحيى بن صالح الشامي الدمشقي -ويقال: الحمصي- الوُحَاظي -نسبة إلى وُحَاظة- بن سعد أحد مشايخ البخاري، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة، عن بردان -بفتح الباء الموحدة وسكون الراء- وهو لقب إبراهيم ابن أبي فلان، ولهذا ترك العاطف بين بردان وبين إبراهيم؛ لأن إبراهيم وقع عطف بيان عن بردان، وإبراهيم بن أبي فلان هو إبراهيم بن أبي النضر سالم بن أبي أمية القرشي المدني، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود، وهو يروي عن أبيه أبي النضر سالم، وقد مرَّ ذكره في الطريق السابق، وهو يروي عن بُسْر بن سعيد ... إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) وقال: ثنا علي بن المبارك الصنعاني وعلي بن جبلة الأصبهاني ومحمد بن نصر الصائغ، قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي أُوَيس، حدثني سليمان بن بلال، عن إبراهيم بَرْدان بن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبيه، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزيّ شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن أسد بن موسى وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي كلاهما، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن أبي النضر سالم بن أبي أمية ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في"مسنده" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن سالم أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". ص: وقد روي عن غير زيد بن ثابت في ذلك عن النبي - عليه السلام - أيضًا ما ذكرناه في باب "التطوع في المساجد"، فثبت بتصحيح معاني هذه الآثار ما ذكرنا. ش: أي قد روي عن النبي - عليه السلام - في كون صلاة المرء في بيته أفضل ما خلا المكتوبة؛ من حديث غير زيد بن ثابت ما قد ذكرناه في باب "التطوع في المساجد"، وهو ما رواه عن سعد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده: "أن النبي - عليه السلام - صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ رأى الناس يُسبِّحون، فقال: أيها الناس، إنما هذه الصلاة في البيوت". وما رواه عن حرام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد قال: "سألت رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال: قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد؟! فلأن أصلي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 144 رقم 4893). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 182 رقم 21622).

قوله: "فثبت بتصحيح معاني هذه الآثار ما ذكرنا" أي بتصحيح معاني هذه الأحاديث ما ذكرناه من أفضلية إقامة الصلوات غير المكتوبة في البيوت والمنازل. ص: وقد روي في ذلك عن مَنْ بعد النبي - عليه السلام - ما يوافق ما صححناها عليه، فمن ذلك: ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يصلي خلف الإِمام في شهر رمضان". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمِّل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: "قال رجل لابن عمر - رضي الله عنهما -: أصلّي خلف الإِمام في رمضان؟ فقال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: صلّ في بيتك". ش: أي: وقد روي في كون صلاة المرء في بيته أفضل سوى المكتوبة عن بعض الصحابة وغيرهم من التابعين - رضي الله عنهم - أيضًا ما يوافق ما صححنا معاني الآثار عليه، فمن ذلك: ما رواه عن ابن عمر. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن نمير، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان، قال: وكان القاسم وسالم لا يقومان مع الناس". والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 166 رقم 7714).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر: "أنه قال له رجل: أُصلي خلف الإِمام في رمضان؟ قال -يعني ابن عمر-: أليس تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: أَفَتُنْصِت كأنك حمار؟! صلّ في بيتك". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حمزة ومغيرة، عن إبراهيم قال: "لو لم يكن معي إلا سورتين لرددتهما؛ أحبُّ إليّ من أن أقوم خلف الإِمام في رمضان". حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "كان المتهجدون يصلّون في ناحية المسجد والإمام يصلي بالناس في رمضان". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "كانوا يصلون في رمضان فيؤمهم الرجل وبعض القوم يصلي في المسجد وحده. قال شعبة: فسألت إسحاق بن سويد عن هذا فقال: كان الإِمام ها هنا يؤمنا، وكان لنا صف يقال له صَفُّ القراء، فنصلي على حدة، والإمام يصلي بالناس". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال: "لو لم يكن معي إلا سورة واحدة لكنتُ أردّدُها أحبّ إليّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان". ش: أخرج أثر إبراهيم النخعي من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين الكوفي، عن سفيان الثوري، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه عمران بن أبي عطاء الأسدي القصاب الواسطي، روى له مسلم، عن مغيرة بن مقسم الضبيّ الكوفي الفقيه الأعمى، عن إبراهيم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 494 رقم 4383).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال: "لو لم يكن معي إلا سورة أو سورتان؛ لأن أرددهما أحب إليّ من أن أقوم خلف الإِمام في شهر رمضان". الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن مغيرة، عن إبراهيم. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم ... إلى آخره. وإسحاق بن سويد بن هبيرة البصري ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن أبي حمزة عمران المذكور آنفًا، عن إبراهيم. ومتنه كمتن الطريق الأول غير أن ها هنا: "سورة" وهناك: "سورتين"، وكليهما في "مصنف ابن أبي شيبة" (1). ص: حدثنا يونس وفهدٌ، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: "أنه كان يصلي مع الناس في رمضان، ثم ينصرف إلى منزله فلا يقوم مع الناس". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة، أنه قال: لا أعلمه إلا عن أبي بشر: "أن سعيد بن جبير كان يصلي في رمضان في المسجد وحده والإِمام يصلي بهم فيه". حدثنا يونس، قال: ثنا أنس، عن عبيد الله بن عمر قال: "رأيت القاسم بن محمَّد وسالمًا ونافعًا ينصرفون من العشاء في رمضان ولا يقومون مع الناس". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 166 رقم 7716).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: "أتيت مكة وذاك في رمضان في زمن ابن الزبير - رضي الله عنه -، فكان الإِمام يصلي بالناس في المسجد وقومٌ يُصلّون على حدة في المسجد". فهؤلاء الذين روينا عنهم ما روينا من هذه الآثار كلهم يُفضّل صلاته وحده في شهر رمضان على الصلاة مع الإِمام، وذلك هو الصواب، والله أعلم. ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري وثقه قوم وضعفه آخرون، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، وعروة هو ابن الزبير بن العوام، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو عوانة الوضاح اليشكري، وأبو بشر جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي، وأنس هو ابن عياض بن ضمرة أبو ضمرة المدني روى له الجماعة، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. قوله: "وذلك هو الصواب" أشار به إلى أن الصلاة وحده في شهر رمضان هو الصواب، ونبَّه به على أن هذا مختاره كما ذكرنا، والله أعلم.

ص: باب: المفصل هل فيه سجود أم لا؟

ص: باب: المفصل هل فيه سجود أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن المفصل -وهو السُّبع السابع من القرآن- هل فيه سجدة التلاوة أم لا؟ ولما كان المذكور في بعض الأبواب التي قبله حكم القراءة؛ ناسب أن يذكر هذا الباب عقيبها لكونه مشتملًا على بعض أحكام القراءة، والقدر اليسير في مثل هذا كافٍ. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيْط، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال: "عرضت على النبي - عليه السلام - النجم فلم يسجد أحدٌ منا". حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: أنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة بن شريح، قال: أنا أبو صخر ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن أبي ذئب (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن يزيد بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أبي صخر حميد بن زياد الخراط صاحب العباء نزيل مصر، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، والنسائي في "مسند علي - رضي الله عنه -". عن يزيد بن قسيط هو يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي المدني الأعرج، روى له الجماعة. عن خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة. عن أبيه زيد بن ثابت الأنصاري.

وأخرجه الدارقطني بهذا الإسناد (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي داود، ثنا سليمان بن داود، ثنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد عن أبي صخر حُمَيْد بن زياد الخَرّاط، عن يزيد بن قُسَيْط ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا سليمان بن داود أبو الربيع، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أنا يزيد بن خُصَيْفة، عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، أنه أخبره: "أنه سأل زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فزعم أنه قرأ على النبي - عليه السلام - {وَالنَّجْمِ} (¬3) فلم يسجد فيها". الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة البصري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت. وأخرجه أبو داود: ثنا هناد بن السري، ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت قال: "قرأت على رسول الله - عليه السلام - (النجم) فلم يسجد فيها". وأخرجه الترمذي (¬4): عن يحيى بن موسى، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه، وقال: حديث زيد بن ثابت حديث حسن صحيح. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن أبي كثير، عن يزيد بن قسيط ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (5/ 183 رقم 21631). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 364 رقم 1022). (¬3) سورة النجم. (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 466 رقم 576).

وأخرجه النسائي (¬1) بأتمّ منه، قال: أنا علي بن حُجْر، قال: أبنا إسماعيل، عن يزيد بن خُصَيْفة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار أنه أخبره: "أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإِمام فقال: لا قراءة مع الإِمام في شيء، وزعم أنه قرأ على رسول الله - عليه السلام - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب إلى هذا الحديث قوم فتقلدوه فلم يَرَوا في (النجم) سجدةً. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير والحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة وطاوسًا ومالكًا؛ فإنهم قالوا: ليس في سورة النجم سجدة، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث، ويحكى ذلك عن ابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، وكذا مذهب هؤلاء نفي السجدة في المفصل وهو سورة (النجم) و (الانشقاق) و (العلق)، وروي ذلك عن ابن عمر أيضًا، وإليه ذهب مجاهدٌ. ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: بل فيها سجدة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الله بن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك؛ فإنهم قالوا: بل في سورة (النجم) سجدة، وكذا في باقي المفصل، ويروى ذلك عن عثمان وعمار وعمرو بن العاص، وعمر بن العزيز، ومحمد بن سيرين. وفي "التلويح شرح البخاري": واختلف في عدد سجدات التلاوة؛ فعند أبي حنيفة أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، {الم (1) تَنْزِيلُ}، وص، وحم السجدة، و (النجم)، و (إذا السماء انشقت)، و (اقرأ باسم ربك). ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 160 رقم 960). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 406 رقم 577).

وذهب مالك إلى أنها إحدى عشرة سجدةً بإسقاط آخر الحج وثلاث المفصل. وذهب المدنيون في روايتهم عن مالك والليث وإسحاق ورواية عن أحمد وأبي المنذر، واختاره المروزي وابن سريج الشافعيان، إلى أنها خمس عشرة سجدةً بثانية الحج. وذهب الشافعي إلى أنها أربعة عشر بسقوط (ص) وهو أصح قوليه وأحمد. وذهب أبو ثور إلى أنها أربعة عشر فأسقط سجدة (النجم). وذهب مسروق فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة (¬1) بسند صحيح إلى أنها ثنتي عشرة سجدة، أسقط ثانية الحج، وص، والانشقاق. وذهب عطاء الخراساني إلى أنها ثلاث عشر، أسقط ثانية الحج، والانشقاق. وذهب ابن مسعود إلى أن عزائم السجود: الأعراف، وبنو إسرائيل، و (النجم) والانشقاق، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. رواه ابن أبي شيبة (¬2): عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عنه. وذهب علي بن أبي طالب إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ}، وحم السجدة، والنجم، و {اقْرَأْ}. رواه ابن أبي شيبة (¬3): عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عنه. وذهب سعيد بن جبير إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ}، والنجم، و {اقْرَأْ}. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 377 رقم 4344). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 369 رقم 4242). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 377 رقم 4349).

رواه أبو بكر (¬1)، عن داود -يعني: ابن أبي إياس- عنه. وذهب عبيد بن عمير (¬2) إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ}، والأعراف، و {حم (1) تَنْزِيلٌ}، وبنو إسرائيل. وذهب جماعة إلى أنها عشر سجدات. وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬3): ثنا أبو أسامة، ثنا ثابت بن عمارة، عن أبي تميمة الهجيمي: "أن أشياخنا من الهجيم بعثوا رائيًا لهم إلى المدينة وإلى مكة شرفهما الله يسأل لهم عن سجود القرآن، فأخبرهم أنهم أجمعوا على عشر سجدات". وذهب ابن حزم إلي أنها تُسْجَد للقبلة ولغير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة، قال: وثانية الحج لا نقول بها أصلًا في الصلاة وتبطل الصلاة بها -يعني إذا سجدت فيها- قال: لأنها لم تصح بها سنة عن رسول الله - عليه السلام -, ولا أُجمع عليها وإنما جاء فيها أثر مرسل. انتهى. قلت: فيه نظر؛ لأن الحاكم روى فيها حديثًا صحيحًا (¬4): عن عمرو بن العاص: "أن رسول الله - عليه السلام - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن العظيم منها ثلاثة في المفصل". ص: وليس في هذا الحديث دليل عندنا على أن لا سجود فيها؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ترك النبي - عليه السلام - السجود فيها حينئذٍ؛ لأنه كان على غير وضوء، فلم يسجد لذلك، ويحتمل أن يكون تركه لأنه كان وقتٌ لا يحل فيه السجود، ويحتمل أن يكون تركه لأن الحكم كان عنده في سجود التلاوة أن من شاء سجده ومن شاء تركه، ويحتمل أن يكون تركه لأنه لا سجود فيها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 378 رقم 4350). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 377 رقم 4348). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 378 رقم 4351). (¬4) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 345 رقم 811).

فلما احتمل تركه السجود كل معنى من هذه المعاني لم يكن هذا الحديث بمعنًى منها أولى من صاحبه إلا بدلالة تدل عليه من غيره، ولكنا نحتاج إلى أن نفتش ما بعد هذا الحديث من الأحاديث لنلتمس حكم هذه السورة، هل فيها سجود أم لا سجود فيها؟ فنظرنا في ذلك فإذا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة. (ح) وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله: "أن النبي - عليه السلام - قرأ {وَالنَّجْمِ}، فلم يبق أحد إلا سجد فيها، إلا شيخٌ كبيرٌ أخذ كفًّا من تراب وقال: هذا يكفيني. قال عبد الله: فلقد رأيته بَعدُ قتُل كافرًا". ش: هذا جواب عن حديث زيد بن ثابت الذي احتج به أهل المقالة الأولى، تقريره أن يقال: هذا الحديث لا يتم به الاستدلال على نفي السجدة في النجم؛ لأنه يحتمل أمورًا: الأول: يجوز أن يكون ترك النبي - عليه السلام - السجود فيها حينئذٍ لأنه كان على غير وضوء، ويُبنى على هذا أن سجدة التلاوة ليست على الفور وإنما هي على التراخي، وينبني عليه أيضًا أن الطهارة شرط لسجدة التلاوة، وهو مذهب جمهور العلماء؛ فإنهم اشترطوا الطهارة لها من الأحداث والأنجاس بدنًا ومكانًا وثيابًا وستر العورة واستقبال القبلة، وأن كل ما يفسد الصلاة يفسدها. وقال ابن حزم وطائفة: لا يشُترط لها الطهارة. وقد ذكرناه عن قريب. وقال البخاري (¬1): وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 364) تعليقًا قبل الحديث رقم 1021 في باب: "سجود المسلمين مع المشركين".

وفي "المصنف" (¬1): عن الحسن: "في الرجل يسمع السجدة وهو على غير وضوء، قال: لا سجود عليه". وعن الشعبي (¬2): "في الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه". وعن إبراهيم (¬3): "إن لم يكن عنده ماء تيمم وسجد". وقال ابن بطال: فإن ذهب البخاري إلى الاحتجاج بقول ابن عمر وابن عباس: "سجد معه - عليه السلام - المشركون" فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان لما قيل في الحديث الضعيف أنه ذكر آلهتهم، ولا يستنبط من سجودهم جواز السجود على غير وضوء لأن المشرك نجس لا وضوء له إلا بعد إسلامه. الثاني: يجوز أن يكون ترك السجود حينئذٍ لكون الوقت وقت كراهة لا يحل فيه السجود، ويُبنى على هذا كراهة السجود للتلاوة في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وهي طلوع الشمس وغروبها واستوائها في كبد السماء، حتى لو تلاها في وقت غير مكروه فأداها في الوقت المكروه لا يجوز. الثالث: يجوز أن يكون تركه لكون الحكم فيها عنده على التخيير على معنى أن مَنْ شاء سجد ومَنْ شاء ترك، ويبُنى على هذا أن سجدة التلاوة ليست بواجبة، واختلف العلماء في هذا الباب، فذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد؛ لقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬4)، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 375 رقم 4323). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 375 رقم 4325). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 375 رقم 4326). (¬4) سورة النجم، آية: [62].

وقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬1)، ولدلائل أخرى ذُكرت في موضعها. وذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود إلى أنها سنة. وعن مالك كقول أبي حنيفة، وعنه فضيلة. الرابع: يجوز أن يكون إنما تركه لكون أنها لا سجود فيها كما ذهبت إليه أهل المقالة الأولى. فلما وجد ها هنا أربع احتمالات وليس أحدها أولى من الآخر إلا بدليل يوجب ترجيحه على غيره، احتجنا في ذلك إلى أن نلتمس حديثا آخر يؤخذ منه حكم هذه السورة هل فيها سجدة للتلاوة أم لا؟ فنظرنا في ذلك، فرأينا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قد روى حديثًا يدل على أن فيها سجدة، فرجَّح هذا الحديث الاحتمالين الأولين، فوجب العمل بالحديثين، فبحديث عبد الله وجوب السجدة في هذه السورة، وبحديث زيد بن ثابت تركها عند عدم الوضوء إلى وقت الوضوء، وعند الوقت المكروه إلى وقت غير مكروه. وقال الترمذي: وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث وقال: إنما ترك النبي - عليه السلام - السجود لأن زيد بن ثابت حين قرأ فلم يسجد فلم يسجد النبي - عليه السلام -. وقالوا: السجدة واجبة على مَنْ سمعها ولم يرخصوا في تركها. وقالوا: إن سمع الرجل وهو على غير وضوء فإذا توضأ سجد، وهو قول سفيان وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق. وقال بعض أهل العلم: إنما السجدة على مَن أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها، ورخّصوا في تركها. وقال الطبري في "تهذيب الآثار": هذا الحديث محمول على أن زيدًا القارئ لم يسجد، وجماعة من العلماء عندهم إذا لم يسجد القارئ لا يسجد المستمع، بيان ذلك ¬

_ (¬1) سورة العلق، آية: [19].

ما في "مراسيل أبي داود" (¬1): عن زيد بن أسلم: "قرأ غلام عند النبي - عليه السلام - السجدة، فانتظر الغلام النبي - عليه السلام - أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس فيها سجدة؟ قال: أنت قرأتها فلو سجدتَ سجدنا". وقال ابن حزم: إن راويه ابن قسيط صح عن مالك أنه قال: لا يُعتمد على روايته. قال أبو محمَّد: وصح بطلان هذا الخبر بحديث أبي هريرة يرفعه: "أنه سجد في النجم"، وأبو هريرة متأخر الإِسلام. ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا غُندر، نا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت الأسود، عن عبد الله قال: "قرأ رسول الله - عليه السلام - النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفًّا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. فرأيته بعد قُتِلَ كافرًا". وأخرجه مسلم (¬3): نا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا حفص بن عمر، نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن ¬

_ (¬1) "المراسيل" لأبي داود (1/ 112 رقم 76). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 363 رقم 1017). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 405 رقم 576). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 59 رقم 1406).

الأسود، عن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ سورة النجم فسجد فيها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفًّا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قُتِلَ كافرًا". قوله: "قرأ {وَالنَّجْمِ} " أي سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}. قوله: "إلا شيخ" قيل: هو أمية بن خلف، وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عتبة بن ربيعة، وقيل: هو أبو أحيحة سعيد بن العاص، والأول أصح، وهو الذي ذكره البخاري في "التفسير"، وأما قول ابن بزيزة: "كان منافقًا" ففيه نظر؛ لأن السورة مكية وإنما كان المنافقون بالمدينة، قال أبو العباس الضرير في "مقامات التنزيل": إنها مكية بالإجماع. فإن قيل: من المراد من قوله: "وسجد مَنْ معه"؟ قلت: المسلمون والمشركون جميعًا. لأنه جاء في البخاري (¬1): عن ابن عباس: "سجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس". وروى الدارقطني: من حديث أبي هريرة: "سجد النبي - عليه السلام - بآخر النجم والجن والإنس والشجر". وزعم النووي أن ذلك محمول على من كان حاضرًا، والذي ذكرناه يعكر عليه. وقال عياض: وسجودهم كان لأنها أول سجدة نزلت. قلت: فيه نظر؛ لأن أول ما نزل سورة "أقرأ" وفيها سجدة والنجم بعد ذلك بأعوام. وأيضًا قد روى الحاكم (¬2) حديثا صحيحا على شرط الشيخين: من حديث ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 364 رقم 1021). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 342 رقم 803).

أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله: "أول سورة نزلت فيها السجدة: الحج، فقرأها النبي- عليه السلام - فسجد، وسجد معه الناس إلا رجل أخذ التراب فسجد عليه , فرأيته قُتِل كافرًا". وقال عياض أيضًا: وأما ما يَرْويه الإخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان النبي - عليه السلام - من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيها شيء لا من طريق النقل ولا من طريق العقل؛ لأن مدح آلهة غير الله كفر، ولا يصح أن ينزل على النبي - عليه السلام - من الله كفر، ولا أن يقول النبي - عليه السلام - من قِبَل نفسه مداراة لهم، ولا أن يقوله الشيطان على لسانه؛ إذ لا يصح أن يقول - عليه السلام - شيئًا خلاف ما هو عليه فكيف من طريق القرآن، وما هو كفر لا يسلط الشيطان على ذلك؛ لأنه داعية إلى الشك في المعجزة وصدق النبي - عليه السلام -، وكل هذا لا يصح. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ بـ (النجم) فسجد معه المسلمون والمشركون، حتى سجد الرجل على الرجل، وحتى سجد الرجل على شيء يرفعه إلى وجهه بكفه". ش: أبو مصعب الزهري اسمه أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني الفقيه، قاضي مدينة رسول الله - عليه السلام -، روى عنه الجماعة سوى النسائي، وروى له النسائي. وعبد العزيز بن محمَّد الدَراوَرْدي. ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبيد العجلي، قال: ثنا أبو مصعب ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 365 رقم 13358).

الزهري، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - قرأ {وَالنَّجْمِ} بمكة فسجد وسجد معه الناس حتى أن الرجل ليرفع إلى جبهته شيئًا من الأرض يسجد عليه، وحتى يسجد الرجل على الرجل". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر وبشر بن عمر، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة "أن النبي - عليه السلام - قرأ {وَالنَّجْمِ} فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة". حدثنا أحمد بن مسعود الخياط، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مَخْلدُ بن حُسَين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ النجم فسجد وسجد من حضره من الجن والإنس والشجر". حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا أبو ثابت المدني، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أنه رأى أبا هريرة - رضي الله عنه - سجد في خاتمة النجم، قال أبو سلمة: يا أبا هريرة، رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها؟ قال: لولا أني رأيتُ رسول الله - عليه السلام - يسجد فيها ما سجدت". ش: أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث وجوه: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي وبشر بن عمر الزهراني أبي محمَّد البصري روى له الجماعة كلاهما، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي المدني خال ابن أبي ذئب، قال النسائي: ليس به بأس. ووثقه ابن حبان وروى له الأربعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري أبي عبد الله المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث ابن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سجد رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 370 رقم 4253).

والمسلمون في (النجم) إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة". الثاني: عن أحمد بن مسعود الخياط، عن محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي نزيل مصيصة، وعن أحمد: ضعيف. وعنه: منكر الحديث. وعن ابن معين: كان صدوقًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، ويذكرون أنه اختلط في آخر عمره. عن مخلد بن حسين الأزدي أبي محمَّد البصري نزيل مصيصة، قال العجلي: ثقة رجل صالح. روى له مسلم في مقدمة كتابه، والنسائي. عن هشام بن حسان الأزدي القُرَدْوسي البصري، روى له الجماعة، عن محمَّد بن سيرين. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ثنا محمَّد بن آدم، ثنا مَخلد بن الحسين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "سجد رسول الله - عليه السلام - بآخر النجم والجنُّ والإنس والشجرُ" انتهى. ثم اعلم أن السجود في الجن والإنس حقيقة، وهو وضع الجبهة على الأرض لتعظيم الله تعالى، وفي الشجر مجاز، وهو كناية عن الانقياد لله تعالى، ويجوز أن يكون حقيقة أيضًا في الشجر؛ لأن الله تعالى قادر على إسجادها كسجود بني آدم؛ فافهم. الثالث: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن أبي ثابت محمَّد بن عبيد الله بن محمَّد بن زيد القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان، شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني روى له الجماعة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أبي شبل المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبيه عبد الرحمن روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 409 رقم 11).

وأخرجه ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬1)، وذكر سورة النجم و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي}. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن مَنْ أخبره، عن أبي الدرداء قال: "سجدت مع النبي - عليه السلام - إحدى عشرة سجدة منها النجم". ش: رجاله رجال "الصحيح"، ولكن فيه مجهول، وأبو الدرداء اسمه عُويمر بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) نحوه: من حديث عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن مَنْ أخبره، عن أبي الدرداء: "أنه سجد مع رسول الله - عليه السلام - إحدى عشرة سجدة منهن النجم". وقال الترمذي (¬3): ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هذيل، عن عمر الدمشقي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: "سجدت مع النبي - عليه السلام - إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم". وقال (¬4): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: نا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن حيان الدمشقي، قال: سمعت مُخبرًا يُخْبر عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي - عليه السلام - نحوه. قال أبو عيسى: وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع عن عبد الله بن وهب. ¬

_ (¬1) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 165 رقم 468). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 313 رقم 3522). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 457 رقم 568). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 458 رقم 568).

وقال: حديث أبي الدرداء حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن أبي هلال، عن عمر الدمشقي. وقال ابن ماجه (¬1): ثنا حرملة بن سعيد المصري، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن أبي هلال، عن عمرو الدمشقي، عن أم الدرداء، قالت: حدثني أبو الدرداء: "أنه سجد مع النبي - عليه السلام - إحدى عشرة سجدة منهن النجم". وقال أبو داود (¬2): روي عن أبي الدَّرْداء، عن النبي - عليه السلام - إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن المطلب بن أبي وداعة قال: "رأيت النبي - عليه السلام - قرأ النجم بمكة فسجد ولم أسجد معه؛ لأني كنت على غير الإسلام فلن أَدَعَها أبدًا". ش: إسناده صحيح، والحِمَّاني يحيى بن عبد الحميد أبو زكرياء الكوفي -وهو بتشديد الميم بعد الحاء المهملة، نسبة إلى بني حِمَّان من تميم، وحمان بن عبد العزيز ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم- وابن المبارك هو عبد الله، ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري روى له الجماعة، وابن طاوس هو عبد الله، وعكرمة بن خالد المكي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، والمطلب بن أبي وداعة واسمه الحارث بن صُبَيْرة بن سُعَيْد (¬3) بن سَعْد بن سهم القرشي له ولأبيه صحبة وهما من مسلمة الفتح. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 335 رقم 1055). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 58 رقم 1401). (¬3) كذا في "الأصل" ووضع المؤلف فوقها "صح" إشارة إلى صحة هذا الضبط.

وأخرجه عبد الرزاق (¬1) عن معمر نحوه. وقال النسائي (¬2): أنا عبد الملك بن عبد الحميد، قال: ثنا ابن حنبل، قال: ثنا إبراهيم بن خالد، قال: ثنا رباح، عن معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة، عن أبيه قال: "قرأ رسول الله - عليه السلام - بمكة سورة النجم فسجد وسجد مَن عنده، فرفعت رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن يومئذٍ أسلم المطلب". ص: قال أبو جعفر: ففي هذه الآثار تحقيق السجود، فيها وليس فيما ذكرنا في الفصل الأول ما ينفي أن يكون فيها سجدة، فهذه أولى؛ لأنه لا يجوز أن يسجد في غير موضع سجود، وقد يجوز أن يترك السجود في موضعه لعارض من العوارض التي ذكرنا في الفصل الأول. ش: أي: ففي هذه الأحاديث المذكورة تصريح بالسجدة فيها أي في سورة النجم، وأراد بما ذكره في الفصل الأول حديث زيد بن ثابت الذي ذكره في أول الباب. قوله: "لعارض من العوارض التي ذكرنا في الفصل الأول". أراد بها ما ذكره من قوله؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ترك النبي - عليه السلام - السجود فيها حينئذٍ؛ لأنه كان على غير وضوء، أو يكون تركه لأن الوقت كان من الأوقات المكروهة. ص: فقال قائل: فإن في ذلك دلالة أيضًا تدل على أن لا سجود فيها. فذكر ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن الحسين اللهبي، قال: حدثني ابن أبي فديك، قال: حدثني داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أنه سأل أبي بن كعب - رضي الله عنه -: هل في المفصل سجدة؟ قال: لا، ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 342 رقم 5893). (¬2) "المجتبى" (2/ 160 رقم 958).

قال: فَأُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - قد قرأ عليه النبي - عليه السلام - القرآن كله، فلو كان في المفصل سجود إذًا لعلمه بسجود النبي - عليه السلام - فيه لما أتى عليه في تلاوته". ولا حجة له في هذا عندنا؛ لأنه قد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - ترك ذلك لمعنًى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول. ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى، بيانه: أن القائل منهم اعترض بأن في الحديث دلالةً أيضًا على نفي السجدة في النجم؛ وذلك لأن عطاء بن يسار لما سأل أُبيًّا: هل في المفصل سجدة؟ قال له: لا. فقوله هذا يدل على نفي السجدة فيها؛ إذ لو كان فيها سجدة لكان قد علم ذلك بسجود النبي - عليه السلام - حين قرأها عليه. وأخرج حديثه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن الحسين اللهبي -من ذرية أبي لهب بن عبد المطلب- ثقة، عن محمَّد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار المدني روى له الجماعة، عن داود بن قيس الفراء الدباغ المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن زيد بن أسلم القرشي المدني روى له الجماعة، عن عطاء بن يسار الهلالي المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن داود بن قيس، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي بن كعب قال: "ليس في المفصل سجود". والجواب ما ذكره بقوله: "ولا حجة له" أي لهذا القائل المعترض؛ لأنه قد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - ترك ذلك لمعنى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول، وهو أن يكون تركه إما لكونه حينئذٍ على غير وضوء، أو لكون الوقت وقت كراهة. وفيه نظر لا يخفى على الفطِن. ص: وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - في سجود التلاوة إلى أنه غير واجب، وإلى أن التالي لا يضرّه أن لا يفعله، فمما روي عنهم في ذلك: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 368 رقم 4233).

ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح). وحدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد وسجدوا معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود، فقال عمر: على رِسْلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: "مرّ سلمان - رضي الله عنه - بقوم قد قرءوا بالسجدة فقيل له: ألا تسجد؟ فقال: إنا لم نقصد لها". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة قال: "لقد قرأ ابن الزبير - رضي الله عنه - السجدة وأنا شاهد فلم يَسْجد، فقام الحارث بن عبد الله فسجد فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تَسْجُدَ إذ قرأت السجدة؟ فقال: إني إذا كنت في صلاة سجدت، وإذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد". فهؤلاء الجلّة لم يروها واجبة، وهذا هو النظر عندنا؛ لأنا رأيناهم لا يختلفون أن المسافر إذا قرأها وهو على راحلته أو في جهاد لم يكن عليه أن يسجدها على الأرض، فكانت هذه صفة التطوع لا صفة الفرض؛ لأن الفرض لا يُصلّى إلا على الأرض والتطوع يُصلّى على الراحلة. وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله يذهبون في السجود إلى خلاف ذلك ويقولون: هي واجبة. فثبت بما وصفنا أن ما ذكروا عن أبي لا دلالة فيه على أن لا سجود في المفصل؛ لأنه قد يجوز أن يكون الحكم كان في السجود عند رسول الله - عليه السلام - على واحد من المعاني التي ذكرناها في ذلك عن عمر وسلمان وابن الزبير - رضي الله عنهم - فترك السجود في

المفصل لذلك، ولعله أيضًا لم يسجد في تلاوة ما فيه سجود أيضًا من غير المفصل. ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان شيئين: الأول: بيان الخلاف الواقع في صفة سجدة التلاوة هل هي واجبة أم سنة؟ والثاني: إلى بيان عارض من تلك العوارض التي ذكرها في جواب ذلك المعترض حيث قال: لأنه قد يحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - ترك ذلك لمعنًى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول، وأراد بالمعاني: العوارض التي ذكرها هناك. بيان ذلك: أن بعض الصحابة قد ذهبوا إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب، وأن القارئ مخيّر بين أن يسجد وبين أن يترك، فإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن يكون قول أبي بن كعب: "ليس في المفصل سجود" على معنى سجود فرض أو واجب، وليس في ذلك نفي أصل السجدة، والمدعى أن في (النجم) سجدة، ثم كون هذا السجود واجبًا أو سنة شيء آخر لا يتعلق بالمدعى، وممن ذهب من الصحابة إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب: عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن الزبير. وأخرج ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة عن أبيه "أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة ... " إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وقال البخاري (¬2): ثنا إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة، عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدَير التَّيْمي- قال أبو بكر: وكان ربيعة من خيار ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 206 رقم 484). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 366 رقم 1027).

الناس-: "حضر ربيعة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نَمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر - رضي الله عنه -". وزاد نافع عن ابن عمر: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء". والطريق الآخر: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام: "أن عمر بن الخطاب ... " إلى آخره. قوله: "على رِسلكم" بكسر الراء وسكون السين المهملة، أي على هيئتكم لا تستعجلوا. وأخرج عن سلمان أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقدي البصري، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلَمي الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: "دخل سلمان الفارسي - رضي الله عنه - المسجد وفيه قوم يقرءون، فقرءوا السجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم، فقال: ما لهذا غدونا". وأخرجه البخاري (¬2): وقال: "قال سلمان: ما لهذا غدونا". وأخرج عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أيضًا بإسنادٍ صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري روى له الجماعة، عن حاتم بن أبي صغيرة وهو ابن مسلم القشيري وأبو صغيرة أبو أمه، وقيل: زوج ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 367 رقم 4233). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 365) معلقًا في باب: "من رأى أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود".

أمه، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير ومؤذنًا له، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بأتم منه: ثنا إسماعيل بن عُلية، عن حاتم بن أبي صغيرة، قال: "قلت لعبد الله بن أبي مليكة: قرأتُ السجدة وأنا أطوف بالبيت فكيف ترى؟ قال: آمرك أن تسجد. قلت: إذا تركني الناس وهم يطوفون فيقولون: مجنون أفأستطيع أن أسجد وهم يطوفون؟ فقال: والله لئن قلت ذلك، لقد قرأ ابن الزبير السجدة فلم يسجد فقام الحارث بن أبي ربيعة فقرأ السجدة ثم جاء، فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تسجد قبيل حيث قرأت السجدة؟ فقال: لأي شيء أسجد؟ إني لو كنتُ في صلاة سجدت، فأما إذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد". قال: "وسألت عطاء عن ذلك فقال: استقبل البيت وأومئ برأسك". قوله: "فهؤلاء الِجلّة" أشار به إلى عمر وسلمان وابن الزبير، وهو بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جليل بمعنى عظيم كصِبية جمع صبي، أي: فهؤلاء العظماء من الصحابة لم يَروْها -أي سجدة التلاوة- واجبةً، وممن ذهب إلى مذهبهم: عبد الله بن عباس، وعمران بن حصين. وهو مذهب الأوزاعي أيضًا، والشافعي، ومالك في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وداود، وإليه مال البخاري والطحاوي أيضًا حيث قال: وهذا هو النظر عندنا، أي: وكون سجدة التلاوة سنة غير واجبة هو القياس عندنا، ثم بيَّن وجه النظر بقوله: "لأنا رأيناهم ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ولكن لقائل أن يقول: إنما لم يجب على المسافر أن يسجدها على الأرض إذا قرأها على راحلته؛ لأنها وجبت ناقصة فجاز له أن يؤديها ناقصةً، وعدم الأمر بالسجدة على الأرض مبني على هذا لا على أنها واجبة أو سنة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 381 رقم 231).

قوله: "وكان أبو حنيفة ... " إلى آخره، وممن ذهب إلى ما ذهب إليه هؤلاء: حمادُ بن أبي سليمان وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو العالية والأعمش وإبراهيم التيمي والحكم بن عُتَيْبة وأصحاب عبد الله بن مسعود. ويحكى ذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقالوا: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم، ومنها ما هو إخبار عن استنكاف الكفرة عن السجود فيجب علينا مخالفتهم بتحصيله، ومنها ما هو إخبار عن خشوع المطيعين فيجب علينا متابعتهم بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، ولأن الله ذم أقوامًا بترك السجود فقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (¬2)، وإنما يُستحقُّ الذم بترك الواجب، وأجابوا عن قول عمر - رضي الله عنه - بأنا نقول بموجبه؛ لأنها لم تكتب علينا بل وجبت، وفرق بين الواجب والفرض على ما عرف في مَوْضعه، وعن أثرَيْ سلمان وابن الزبير بأنه يحتمل أن يكونا حينئذٍ على غير وضوء، أو كانا في وقت كراهة السجدة، والله أعلم. قوله: "فثبت بما وصفنا" أي من قوله: "وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي - عليه السلام - ... إلى آخره" يعني هذه الأشياء تدل على أنه لا دليل فيما ذكروا عن أبي على نفي السجدة في المفصل؛ لأنه قد يجوز أن يكون حكم السجدة عند رسول الله - عليه السلام - في حديث أبي بن كعب على واحد من المعاني التى ذكرها في ذلك عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة وهم: عمر وسلمان وعبد الله بن الزبير، وهو أن يكون محمولًا على قول عمر بأنه لم تُكْتب علينا، أو على قول سلمان بأنه لم يقصد لها، أو على قول ابن الزبير بأنه لم يكن في صلاة، وأيًّا ما كان لا يدل واحد من ذلك على نفي أصل السجدة في المفصل، فافهم. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) سورة الانشقاق، آية: [21].

قوله: "ولعله أيضًا" أي: ولعل النبي - عليه السلام - أيضًا لم يسجد في تلاوة آية سجدة من غير المفصل لأجل معنى من المعاني التي ذكرناها فإن ذلك أيضًا لا يدل على نفي أصل السجدة؛ وإنما ذكر هذا لأنه لو فرض هذا الحكم في سجدة تلاوة من سجدات غير المفصل كان الخِصْم أيضًا يقول: هذا محمول على معنى من المعاني التي ذكرناها، فهذا مجمع عليه، فكذا الجواب فيما إذا كان ذلك في المفصل. ص: وقد خالف أبي بن كعب - رضي الله عنه - فيما ذهب إليه من ذلك جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عاصم بن بَهْدلة، عن زرٍّ، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: "إن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ} و {حم}، والنجم، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". حدثنا حُسَيْن بن نَصْر، قال: ثنا أبو نُعَيْم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الفجر بمكة، فقرأ في الركعة الثانية بالنجم، ثم سجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ}. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووَهْبٌ وَرْوحٌ، قالوا: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم، أنه سمع إبراهيم التيمي يُحدِّث، عن أبيه قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب ... فذكر مثله، واللفظ لروح. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن عمران بن عبيد الله ابن عمران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن زرارة بن أوفى، عن مَسْروق قال: "صليتُ خلف عثمان - رضي الله عنه - الصبح فقرأ النجم وسجد فيها، ثم قام فقرأ سورة أخرى". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود: "أن عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - سجدا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} قال منصور: أو أحدهما". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة ... فذكر مثله بإسناده. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: "رأيت عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يَسْجدان في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". حدثنا روح، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله ... بذلك. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "رأيت عمر بن الخطاب يَسْجدُ في النجم في صلاة الصبح، ثم استفتح بسورة أخرى". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن الزهريّ، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا عمر - رضي الله عنه - فقرأ النجم فسجد فيها". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا بكر بن مضر، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن بُكَيْر، أن نافعًا حدثه: "أنه رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} في غير صلاة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن إسحاق بن سُوَيْد قال: "سُئِل نافع: أكان ابن عمر - رضي الله عنه - يسجد في الحجّ

سجدتين؟ قال: مات ابن عمر ولم يقرأها , ولكنه كان يَسْجُد في {وَالنَّجْمِ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يسجد في {وَالنَّجْمِ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن: "أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة والثوري وحماد، عن عاصمٍ، عن زرٍّ: "أن عمارًا - رضي الله عنه - سجد فيها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: "أنه كان يسجد فيها". فكل هؤلاء قد خالفوا أبي بن كعب في قوله: "لا سجود في المفصل". وقد حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: قال لي ابن عباس: "أيُّ قراءة تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد. فقال: هي القراءة الآخرة؛ إن رسول الله - عليه السلام - كان يعرض عليه القرآن في كل عام أراه قال: في كل شهر رمضان، فلما كان في العام الذي مات فيه عرض عليه مرتين فشهد عبد الله ما نُسِخَ وما بُدِّل". فهذا عبد الله بن عباس قد أخبر أن عبد الله بن مسعود حضر قراءة رسول الله - عليه السلام - القرآن مرتين في العام الذي قُبِض فيه، فعلِم ما نُسخ وما بُدِّل، فإن كان في قراءة رسول الله - عليه السلام - على أبي بن كعب ما قد دلّ على أن أبيًّا قد علم ما فيه من السجود في القرآن حتى صار قوله: "لا سجود في المفصل" دليلًا على أنه كان كذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن في حضور ابن مسعود - رضي الله عنه - قراءة النبي - عليه السلام -

القرآن مرتين دليلًا على أنه قد علم ما فيه من السجود في القرآن، فصار قوله: "إن في المفصل من السجود ما رويناه عنه" حجة. ش: أي خالف أبي بن كعب - رضي الله عنه - في قوله: "لا سجود في المفصل" جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - وهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وأبو هريرة - رضي الله عنه -؛ فإنهم كلهم قد خالفوا أبي بن كعب في قوله: "لا سجود في المفصل"، والأخذ بقولهم أولى، وقد أخبر ابن عباس - رضي الله عنه - في حديثه الذي رواه عنه أبو ظبيان -على ما نُبيّنه- أن عبد الله بن مسعود حضر قراءة رسول الله - عليه السلام - القرآن مرتين في العام الذي قبُض فيه، فَعَلِمَ ابن مسعود ما نُسخ من ذلك وما بُدِّل من التلاوة والحكم. فإن قيل: كيف يُحتجّ بهذا وأبي بن كعب - رضي الله عنه - قد علم حين قرأ النبي - عليه السلام - عليه القرآن ما فيه من السجود وما ليس فيه، فلذلك قال: "لا سجود في المفصل"، فيكون هذا دليلًا على أنه كان كذلك عند رسول الله - عليه السلام -؟ قلت: أجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: "فإن كان في قراءة النبي - عليه السلام - على أبي بن كعب ... " إلى آخره. بيانه أن يقال: إذا كان في قراءة النبي - عليه السلام - على أبي بن كعب القرآن دليلٌ على عدم السجود في المفصل لكونه كذلك عند رسول الله - عليه السلام -، ففي حضور ابن مسعود قراءة النبي - عليه السلام - القرآن مرتين في العام الذي قبُض فيه أدلّ دليل على أنه قد علم ما فيه من السجود في القرآن وما ليس فيه، فيكون العمل به والاعتماد عليه أقوى، وقد أخبر هو أن في المفصل سجودًا، فصار أولى بالعمل به. ثم إنه أخرج أثر ابن عباس بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان الجَنْبي واسمه حُصَيْن بن جندب الكوفي روى له الجماعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن محمَّد بن سابق، عن إسرائيل، عن إبراهيم ابن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال (¬2): "أي القراءتين كانت أجزأ؟ قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟ قال: قلنا: قراءة زيد. قال: لا، إن رسول الله - عليه السلام - كان يعرض القرآن على جبريل - عليه السلام - كل عام مرةً، فلما كان في العام الذي قبُض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد الله". قوله: "قراءة ابن أم عبد" هو عبد الله بن مسعود، وأم عبد أمه، وهي أم عبد بنت عبد وُدّ بن سواء من هذيل، ولها صحبة. قوله: "ما نسخ" أي من تلاوته. قوله: "وما بدل" أي وما غُيّر من القراءة، وهو كالتفسير لقوله: "ما نسخ"؛ لأن معنى النسخ هو التبديل. ويستفاد منه أحكام: الأول: جواز النسخ، سواء كان في التلاوة أو في الحكم. الثاني: فيه دليل على أن في المفصل سجودًا؛ وذلك لأن عبد الله بن مسعود كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} كما ذكر عنه مسندًا, ولو لم يعلم ذلك من النبي - عليه السلام - حين عرض القرآن عليه لما سجد هو، وكان العرض على جبريل - عليه السلام - كما صرَّح به في رواية أحمد وهو المراد من قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "فلما كان العام الذي مات فيه عرض عليه مرتين" أي عُرض القرآن على رسول الله - عليه السلام - مرتين، وكان العارض هو النبي - عليه السلام - ولكن أسند العرض هنا إلى القرآن وهو مفعول ناب عن الفاعل. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 275 رقم 2494). (¬2) تكررت في "الأصل".

الثالث: فيه دلالة على فضيلة ابن مسعود - رضي الله عنه - ولهذا جاء في حديث أخرجه الترمذي (¬1) من حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لو كنت مؤمِّرًا أحدًا منهم من غير مشورة لأمّرت عليهم ابن أم عبد". وأخرج الطبراني (¬2) من حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "مَنْ سَرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". وأخرج الطبراني (¬3) أيضًا بإسناده إلى عبد الله قال: "لقد قرأت القرآن من فيّ النبي - عليه السلام - سبعين سورة وزيد بن ثابت ذو ذؤابة يَلْعب مع الصبيان". وبقي الكلام في أثر هؤلاء. أما أثر علي بن أبي طالب فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن عاصم بن بَهْدلة -وهو عاصم بن أبي النَّجودُ- عن زِرِّ -بكسر الزاي وتشديد الراء- عن عليّ - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا هشيم، عن شعبة، عن عاصم، عن زر، عن علي - رضي الله عنه - قال: "عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {حم (1) تَنْزِيلُ} , والنجم , و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". والآخر: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن زِرِّ بن حُبَيْش عن علي - رضي الله عنه -. قوله: "إن عزائم السجود" أي إن واجبات السجود، والعزائم: جمع عزيمة، ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 673 رقم 3809). (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 71 رقم 8425). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 74 رقم 8436). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 369 رقم 4244).

والعزيمة والعَزْمة بمعنى الحق والواجب، وهذا حجة لمن يذهب إلى وجوب سجدة التلاوة. وأما أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأخرجه من ثمان طرق صحاح، ولكن الطريق الرابع والخامس والسادس فيها عبد الله بن مسعود أيضًا على ما نُبيّنه عن قريب إن شاء الله تعالى. الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن [أبي] (¬1) ليلى، عن عمر - رضي الله عنه -. وبنحوه أخرج مالك في "موطئه" (¬2) عن ابن شهاب، عن الأعرج: "أن عمر بن الخطاب قرأ بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فسجد فيها، ثم قام فقرأ بسورة أخرى". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير، وروح بن عبادة، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، أنه سمع إبراهيم التيمي يُحدّث، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التَّيْمي -تيم الرباب- الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سَبْرة قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب، فقرأ في الركعة الأولى بسورة {يُوسُفُ}، ثم قرأ في الثانية بـ {وَالنَّجْمِ}، فسجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} ثم ركع". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمران ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل، ك". (¬2) "موطأ مالك" (1/ 206 رقم 483). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 312 رقم 3564).

ابن عبيد الله بن عمران التميمي ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقيل: عبيد الله بن عمران. عن أبي رافع الصائغ اسمه نُفيع المدني نزيل البصرة مولى ابنة عمر بن الخطاب، روى له الجماعة. وهذه الثلاثة [...] (¬1) الأخرى مشتركة كما ذكرنا [...] (¬2) فيما بعد ونذكرهما ها هنا لاقتضاء المناسبة. فالأول منهما الذي هو السابع من الجملة: أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "رأيت عمر - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. والثاني الذي هو الثامن من الجملة: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "صلى عمر - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬3). وأما أثر عثمان - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري روى له الجماعة عن شعبة، عن علي بن زيد بن جدعان أبي الحسن البصري المكفوف، عن زرارة بن أوفى، عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا إسماعيل بن عُلية، عن علي بن زيد، ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك". (¬2) طمس في "الأصل، ك". (¬3) "موطأ مالك" (1/ 206 رقم 483). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 370 رقم 4252).

عن زرارة بن أوفى، عن مسروق بن الأجدع: "أن عثمان - رضي الله عنه - قرأ في العشاء بالنجم فسجد". وأما أثر عبد الله بن مسعود فأخرجه من خمس طرق صحاح. الأول: فيه عمر بن الخطاب أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "رأيت عمر وعبد الله يسجدان في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، أو أحدهما". الثاني: فيه عمر أيضًا، عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد فذكر مثل المذكور بإسناده. الثالث: فيه عمر أيضًا، عن أبي بكرة أيضًا، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عديّ بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سُليم الحنفي، عن ليث بن أبي سليم القرشي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 369 رقم 4239). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 340 رقم 5884). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 146 رقم 8728).

عمرو، ثنا زائدة، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "كان عبد الله يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". الخامس: عن أبي بكرة، عن أبي داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب، عن ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن ابن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود: "أنه كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم بن محمَّد بن سالم المعروف بابن أبي مريم أبي محمَّد المصري شيخ البخاري، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". عبد الرزاق (¬3): عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، قال: حدثني نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان إذا قرأ بـ {وَالنَّجْمِ} سجد، وإذا قرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} في الصلاة كبَّر وركع وسجد، وإذا قرأ بهما في غير الصلاة سجد فيهما". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 369 رقم 4240). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 342 رقم 5896). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 342 رقم 5897).

عن إسحاق بن سُوَيْد العدوي التميمي البصري روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: "أكان ابن عمر" الهمزة فيه للاستفهام. الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى، عن العَوْذي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن نافع. وأما أثر عمار بن ياسر - رضي الله عنه - فأخرجه من طريق صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة، ثلاثتهم عن عاصم بن بَهْدلة، عن زر بن حُبَيش عن عمار. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِزّ قال: "قرأ عمار على المنبر {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثم نزل إلى القرار فسجد بها". قوله: "فيها" أي في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. وأما أثر أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: "أنه كان يسجد فيها". وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا أبو يحيى البزار، ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: "أنه كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فإذا صلى خلف مَنْ يَذرها أومأ برأسه إيماءً". ص: وقد قال قوم: قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في المفصل بمكة، فلما هاجر ترك ذلك، ورَوْوا ذلك عن ابن عباس من طريق ضعيف لا يثبت مثله، ورووا عنه من قوله: "أنه لا سجود في المفصل". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 370 رقم 4251).

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن ابن جريج، عن عطاء "أنه سأل ابن عباس عن سجود القرآن، فلم يَعُدّ عليه في المفصل شيئًا". وهذا عندنا لو ثبت لكان فاسدًا؛ وذلك أن أبا هريرة قد روينا عنه في هذا الباب أن رسول الله - عليه السلام - قد سجد في {وَالنَّجْمِ} وأنه كان حاضرًا ذلك، وأن النبي - عليه السلام - سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، وإسلام أبي هريرة ولقاؤه رسول الله - عليه السلام - إنما كان بالمدينة قبل وفاته بثلاث سنين، قد روينا ذلك عنه في موضعه من كتابنا هذا، فدل ذلك على فساد ما ذهب إليه أهل تلك المقالة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا والحسن البصري وعطاء وابن جريج وبعض أصحاب الشافعي؛ فإنهم قالوا: قد كان رسول الله - عليه السلام - يسجد في المفصل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة ترك ذلك، واستدلوا في ذلك بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق ضعيف. وهو ما رواه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن رافع، نا أزهر بن القاسم -قال محمَّد: رأيته بمكة- نا أبو قدامة، عن مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة". فهذا هو الحديث الذي أشار إليه الطحاوي بقوله: "من طريق ضعيف لا يثبت مثله". وقال عبد الحق في "أحكامه": إسناده ليس بقوي، ويروى مرسلًا. وقال ابن القطان في كتابه: وأبو قدامة الحارث بن عبيد قال فيه ابن حنبل: مضطرب الحديث. وضعفه ابن معين، وقال الساجي: صدوق وعنده مناكير، ومطر الوَرّاق كان سيء الحفظ حتى كان يشبه في سوء الحفظ محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه. قوله: "ورووا عنه" أي روى هؤلاء القوم من قول ابن عباس أنه لا سجود في ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 58 رقم 1403).

المفصل، وأشار بهذا إلى أنهم احتجوا أيضًا في عدم السجود في المفصل بقول ابن عباس أيضًا. أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخَصِيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن همام بن يحيى، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: "أنه سأل عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - عن سجود القرآن، فلم يعدّ عليه -أي على عطاء- في المفصل -وهو السُّبع السابع- شيئًا من السجود". قوله: "وهذا عندنا" أشار به إلى الحديث الذي رووا عن ابن عباس من طريق ضعيف، وهو الذي أخرجه أبو داود الذي ذكرناه آنفًا، يعني: ولئن سلمنا أن هذا الحديث ثابت من حيث الإسناد ولكنه فاسد من حيث الدلالة على الحكم؛ وذلك لأن أبا هريرة قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه سجد في {وَالنَّجْمِ} وأنه كان حاضرًا ذلك، وأنه سجد أيضًا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، وإسلام أبي هريرة ولقيه رسول الله - عليه السلام - إنما كان بالمدينة سنة سبع من المهجرة، فظهر بهذا فساد ذلك الحديث. وقال عبد الحق: والصحيح حديث أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} " وإسلامه متأخر، قدم على النبي - عليه السلام - في السنة السابعة من الهجرة. وقال ابن عبد البر: حديث ابن عباس حديث منكر، وأبو قدامة ليس بشيء، وأبو هريرة لم يصحب النبي - عليه السلام - إلا في المدينة، وقد رآه يسجد في الانشقاق و {الْقَلَمِ}. ص: وقد تواترت الآثار أيضًا عن النبي - عليه السلام - بسجوده في المفصل، فمن ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب وصفوان بن سليم، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:

"سجدت مع رسول الله - عليه السلام - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} سجدتين". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن بكير بن عبد الله، عن نُعَيْم المُجْمر أنه قال: "صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها وقال: رأيت النبي - عليه السلام - يسجد فيها". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد، عن أبي رافع قال: "صلَّيتُ خلف أبي هريرة بالمدينة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها فلما فرغ من صلاته لقِيتُه فقلت: أتسجدُ فيها؟ فقال: رأيت النبي - عليه السلام - يَسجُد فيها؛ فلن أدع ذلك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا حماد، قال: ثنا علي بن زيد، قال: ثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه، غير أنه لم يذكر قوله: "فلن أدع ذلك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن مروان الأصفر، حدثه عن أبي رافع ... فذكر مثله بإسناده وزاد: "فلن أدع ذلك حتى ألقاه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا الثوري وابن جريج وابن عيينة، عن أيوب بن موسى، قال: ثنا عطاء بن مينا، عن أبي هريرة قال: "سجدنا مع النبي - عليه السلام - في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أيوب بن موسى، قال: ثنا عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: "سجدنا مع رسول الله - عليه السلام - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ورَوْحُ -واللفظ لأبي داود- قالا: ثنا هشام، عن يحيى، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة: "أنه رآه يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وقال: لو لم أر النبي - عليه السلام - يسجد فيها لم أسجد".

حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قالا: ثنا مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة: "أن أبا هريرة قرأ بهم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فلما انصرف حدثهم أن رسول الله - عليه السلام - سجد فيها". حدثنا ابن خزيمة وفهدٌ، جميعًا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أنه رأى أبا هريرة وهو يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، قال أبو سلمة: فقلتُ له حين انصرف: سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها؟! فقال: لو لم أر النبي - عليه السلام - يسجد فيها لم أسجد". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز ابن عياش، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن رجلين كلاهما خير من أبي هريرة: "أن أحدهما سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكان الذي سجد أفضل من الذي لم يسجد، فإن لم يكن عمر فهو خير من عمر - رضي الله عنه -". فهذا أبو هريرة قد تواترت عنه الروايات أنه سجد مع النبي - عليه السلام - أيضًا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وإسلامه إنما كان بالمدينة، فكيف يجوز أن يقال له: إن رسول الله - عليه السلام - بعدما هاجر لم يسجد في المفصل؟!. ش: أي قد تكاثرت الأحاديث أيضًا عن النبي - عليه السلام - بأنه سجد في المفصل، ولم يُرِدْ به التواتر المصطلح عليه.

قوله: "فمن ذلك ما حدثنا" أي: فمما تكاثر: حديث أبي هريرة، وأخرجه من أربعة عشر طريقًا: الأول: إسناده على شرط مسلم: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن بن حَيْوئيل أبي حيوئيل المصري وثقه ابن حبان، وروى له مسلم مقرونًا بغيره وروى له الأربعة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، وصفوان بن سليم المدني القرشي الزهري الفقيه روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن سَعْد المدني، وثقه ابن حبان. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، نا أحمد بن صالح، نا ابن وهب ... إلى آخره نحوه، وزاد في آخره: "سجدتين". الثاني: إسناده صحيح أيضًا: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سَعْد، عن بكير بن عبد الله، عن نعيم بن عبد الله المُجْمر، وقد ذكرنا مرةً أن الصحيح أن المجمر هو صفة عبد الله، وبه جزم ابن حبان، وقال النووي: ويطلَقُ على ابنه نعيم مجازًا، ونعيم هذا روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حجاج، نا ليث، حدثني بكير بن عبد الله، عن نعيم بن عبد الله المُجمر أنه قال: "صليتُ مع أبي هريرة ... " إلى آخره نحوه. الثالث: إسناده صحيح أيضًا عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن علي بن زيد، عن أبي رافع نفيع الصائغ. وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائي بألفاظ مختلفة: فالبخاري (¬3): عن مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت أبي، قال: حدثني بكر، عن أبي رافع قال: "صليتُ مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 409 رقم 14). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 451 رقم 9829). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 265 رقم 732).

فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه". ومسلم (¬1): عن عبيد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى، قالا: ثنا المعتمر ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن مسدد ... إلى آخره نحو رواية البخاري. والنسائي (¬3): عن حميد بن مسعدة، عن سليم بن أخضر، عن التيمي، قال: حدثني بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع قال: "صليت خلف أبي هريرة صلاة العشاء -يعني العتمة- فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فلما فرغ قلت: يا أبا هريرة، هذه يعني سجدة ما كنا نسجدها! قال: سجد بها أبو القاسم - عليه السلام - وأنا خلفه، فلا أزال أسجد بها حتى ألقى أبا القاسم - عليه السلام -". الرابع: مثله أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع نفيع الصائغ. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع قال: "صليتُ خلف أبي هريرة بالمدينة العشاء الآخرة، قال: فقرأ فيها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت: تسجد فيها؟ فقال: رأيت خليلي أبا القاسم سجد فيها". الخامس: عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن شعبة، عن مروان الأصفر، ويقال له: مروان بن خاقان، وقيل: إنهما اثنان، وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 407 رقم 578). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 59 رقم 1407). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 333 رقم 1040). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبه" (1/ 369 رقم 4236).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرحمن، نا شعبة، عن مروان الأصفر وعطاء بن أبي ميمونة، أنهما سمعا أبا رافع قال: "رأيت أبا هريرة يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}: قلت: تسجد فيها؟ قال: رأيت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه". السادس: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن سفيان الثوري وعبد الملك بن جريج وسفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة. وميناء -بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف بعدها النون- مولى ابن أبي ذباب المدني. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: "سجدنا مع النبي - عليه السلام - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد، نا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة نحوه. وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا قتيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح. السابع: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة النَّهْدي موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬5): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 459 رقم 9917). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 406 رقم 578). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 59 رقم 1407). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 462 رقم 573). (¬5) "السنن الكبرى" (1/ 333 رقم 1039).

ووكيع، عن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: "سجدت مع رسول الله - عليه السلام - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". وأخرجه ابن ماجه (¬1) أيضًا نحوه. الثامن: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، وروح بن عبادة كلاهما، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسلم ومعاذ بن فضالة، قالا: أنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "رأيت أبا هريرة - رضي الله عنه - قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ قال: لو لم أرا النبي - عليه السلام - يَسُجد لم أسجد". وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا. التاسع: صحيح أيضًا، عن محمَّد بن عبد الله، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬4): ثنا محمَّد بن يوسف، نا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "رأيت أبا هريرة يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فقال: لو لم أر رسول الله - عليه السلام - يسجد فيها لم أسجُدْ". العاشر: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد القرشي المدني المقرئ الأعور، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 336 رقم 1058). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 365 رقم 1024). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 406 رقم 578). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 408 رقم 1469).

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). الحادي عشر: نحوه، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني عشر: صحيح أيضًا، عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، جميعًا عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أبي سلمة عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا الحسن بن سلام، ثنا أبو نعيم، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "رأيت أبا هريرة قرأ بنا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أراك سجدت؟ قال: بلى، لو لم أر رسول الله - عليه السلام - يسجد فيها لم أسجد". الثالث عشر: نحوه، عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- عن عمر بن العزيز بن مروان بن الحكم، عن أبي سلمة. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمَّد بن رافع، قال: نا ابن أبي فديك، قال: أبنا ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش، عن ابن قيس، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سجد رسول الله - عليه السلام - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". الرابع عشر: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 205 رقم 480). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 406 رقم 578). (¬3) "المجتبى" (2/ 161 رقم 962).

شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرج البيهقي (¬1): من حديث مسلم بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن بكر المزني، نا ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: "حدثني رجلان كلاهما خير مني إن لم يكن -أظنه قال:- أبو بكر وعمر فلا أدري من هو، أن أحدهما سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". وأخرج أيضًا ما يشابه هذا (¬2) من حديث مرة، عن ابن سيرين، نا أبو هريرة قال: "سجد أبو بكر وعمر في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ومن هو خيرٌ منهما". قلت: أراد به النبي - عليه السلام -. قوله: "عن رجلين كلاهما خير من أبي هريرة" أراد بهما أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -. قوله: "فهذا أبو هريرة قد تواترت عنه الروايات" أي تكاثرت وتتابعت، أنه سجد مع النبي - عليه السلام - أيضًا في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، والحال أن إسلامه كان بالمدينة في السنة السابعة من الهجرة كما ذكرنا عن قريب، فإذا كان كذلك؛ كيف يجوز أن يقال: إن رسول الله - عليه السلام - لم يسجد في المفصل -وهو السُّبع السابع- بعد هجرته؟! فدل ذلك كله على فساد ذلك القول، والله أعلم. ص: وقد روي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - في سجود المفصل أيضًا: ما حدثنا ربيعٌ الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن العلاء بن كثير، عن الحارث بن سعيد الكندي، عن عبد الله بن مُنَيْنٍ اليَحْصبي: "أن عمرو ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (2/ 323 رقم 3583). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 316 رقم 3543).

ابن العاص سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فقيل له في ذلك، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يسجد فيهما". ش: ذكر حديث عمرو بن العاص تأكيدًا لبيان بطلان ما روَوْه عن ابن عباس من أنه - عليه السلام - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحوّل إلى المدينة؛ وذلك لأن عمرو بن العاص قد سجد في هاتين السورتين، ثم أخبر أنه - عليه السلام - كان يسجد فيهما، وإسلام عمرو إنها كان في السنة الثامنة من الهجرة قبل الفتح بأشهر، قدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة - رضي الله عنه -. وقيل: أسلم بين الحديبية وخيبر. فإن قيل: كيف يَسْتدل بهذا الحديث على إثبات مطلوبه وفي سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف؟!. قلت: قد قلت لك مرارًا: إنه ثقة عند الطحاوي كما هو كذلك عند أحمد بن حنبل الإِمام، وتضعيف خصمه إياه لا ينافي توثيقه، بل الأصل العدالة وقبول الخبر، ولئن سلمنا ذلك؛ فإنه قد أخرج حديثه [متابعًا] (¬1) لحديث أبي هريرة الذي أخرجه من طرق كثيرة كلها صحيحة. ثم إنه أخرجه عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج المصري، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن العلاء بن كثير الإسكندراني وثقه أبو زرعة، عن الحارث بن سعيد الكِنْدي العُتْقِي المصري، قال في "الميزان": مصري لا يعرف. عن عبد الله بن مُنَيْن -بضم الميم وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون أيضًا- اليَحْصُبي المصري من بني عبد كلال روى له أبو داود وابن ماجه، قال ابن القطان: عبد الله بن مُنَيْن مجهول. وقال عبد الحق في "أحكامه": لا يحتج به. ¬

_ (¬1) لعل الصواب: "شاهدًا" كما هو معلوم في علم أصول الحديث.

قلت: ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه (¬1). وأخرج أبو داود (¬2): عن محمَّد بن عبد الرحيم البَرقي، نا ابن أبي مريم، أنا نافع بن يزيد، عن الحارث بن سعيد العتقي، عن عبد الله بن منين من بني عبد كلال، عن عمرو بن العاص: "أن النبي - عليه السلام - أقرأه خمسة عشر سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان". وأخرجه ابن ماجه (¬3) والطبراني في "الكبير" (¬4) نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله - عليه السلام - بالسجود في المفصل، فبها نقول، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: قد تكاثرت وتتابعت هذه الأحاديث عن رسول الله - عليه السلام - بالسجود في المفصل -وهو السُّبع السَّابع- فدلت على أن فيها السجود، وهي حجة على أهل المقالة الأولى. قوله: "فبها" أي: فبهذه الآثار نقول، أشار بذلك إلى أنه اختار قول من يقول: في المفصل سجود، وهو أيضًا قول أبي حنيفة النعمان وأبي يوسف يعقوب ومحمد بن الحسن الشيباني رحمهم الله. ص: فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى؛ وذلك أنا رأينا السجود المتفق عليه هو عشر سجدات: منهن: الأعراف، وموضع السجود منها قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) وذكر الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (6/ 40) أن يعقوب بن سفيان قد وثقه. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 58 رقم 1401). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 335 رقم 1057). (¬4) "المعجم الكبير" (الجزء المفقود). (¬5) سورة الأعراف، آية: [206].

ومنهن: الرعد، وموضع السجود منها قوله -عز وجل-: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬1). ومنهن: النحل، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} إلى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2). ومنهن: سورة بني إسرائيل، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} إلى قوله: {خُشُوعًا} (¬3). ومنهن: سورة مريم، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬4). ومنهن: سورة الحج فيها سجدة في أولها عند قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} إلى آخر الآية (¬5). ومنهن: سورة الفرقان، وموضع السجود منها عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} إلى آخر الآية (¬6). ومنهن: سورة النمل فيها سجدة عند قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلي آخر الآية (¬7). ومنهن: {الم (1) تَنْزِيلُ}، فيها سجدة عند قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الرعد، آية: [15]. (¬2) سورة النحل، آية: [49 - 50]. (¬3) سورة الإسراء، آية: [107 - 109]. (¬4) سورة مريم، آية: [58]. (¬5) سورة الحج، آية: [18]. (¬6) سورة الفرقان، آية: [60]. (¬7) سورة النمل، آية: [25]. (¬8) سورة السجدة، آية: [15].

ومنهن: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وموضع السجود منها فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه {تَعْبُدُونَ} (¬1)، وقال بعضهم: موضعه {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬2). وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله إلى هذا المذهب الأخير يذهبون. وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك: فحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا فِطْر بن خليفة، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنه كان يسجد في الآية الأخيرة من {حم (1) تَنْزِيلٌ} ". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فِطْر، عن مجاهد قال: "سألت ابن عباس عن السجدة التي في {حم} قال: اسجد بآخر الآيتين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد قال: "سجد رجل في الآية الأولى من {حم} , فقال ابن عباس: عجل هذا بالسجود". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن أبي وائل: "أنه كان يسجد في الآخرة من {حم} ". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن عون، عن ابن سيرين مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد مثله. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: [37]. (¬2) سورة فصلت، آية: [38].

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن قتادة مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يذكر: "أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يسجد في الآية الأولى من حم". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن رجل، عن نافع، عن ابن عمر مثله. فكانت هذه السجدة التي في {حم} مما قد اتفق عليه، واختلفوا في موضعها، وما قد ذكرنا قبل هذا من السجود في السور الأخرى قد اتفقوا عليها وعلى مواضعها التي ذكرناها، وكان موضع كل سجدة فيها فهو موضع إخبار وليس بموضع أمر، وقد رأينا السجود مذكورًا في مواضع أمر منها قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (¬1)، ومنها قوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬2) فكلٌّ قد اتفق أن لاسجود في شيء من ذلك. فالنظر على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا أن نَنْظر فيه، فإن كان موضع أمر فإنما هو تعليم فلا سجود فيه، وكل موضع فيه خبر عن السجود فهو موضع سجدة التلاوة، فكان الموضع الذي اختلف فيه من سورة {وَالنَّجْم} فقال قوم: هو موضع سجود التلاوة، وقال آخرون: ليس هو موضع سجدة تلاوة، وهو قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬3) فذلك أمر وليس بخبر. فكان النظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختُلف فيه أيضًا من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هو قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [43]. (¬2) سورة الحجر، آية: [98]. (¬3) سورة النجم، آية: [62].

وَاقْتَرِبْ} (¬1) فذلك أمر وليس بخبر، فالنظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختُلف فيه من {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} هل هو موضع السجود أو لا؟ وهو قوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (¬2)، فذلك موضع إخبار لا موضع أمر، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون موضع سجود التلاوة، ويكون كل شيء من السجود يُردُ إلى ما ذكرنا، فما كان منه أمر رُدَّ إلى شكله مما ذكرنا فلم يكن فيه سجود، وما كان منه خبر رُدَّ إلى شكله من الإخبار فكان فيه سجودٌ، فهذا هو النظر في هذا الباب. وكان يجيء على ذلك أن يكون موضع السجود من {حم} هو الموضع الذي ذهب إليه ابن عباس؛ لأنه عند خبر وهو قوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬3)، لا كما ذهب إليه مَنْ خالفه؛ لأن أولئك جعلوا السجدة عند أمرٍ وهو قوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬4)، فكان ذلك موضع أمر، وكان الموضع الآخر موضع خبر، وقد ذكرنا أن النظر يوجب أن يكون السجود في موضع الخبر لا في موضع الأمر، وكان يجيء على ذلك أن لا يكون في سورة الحج غير سجدة واحدة؛ لأن الثانية المختلف فيها إنما موضعها في قول مَن يجعلها سجدة موضع أمر وهو قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (¬5) الآية، وقد بيّنا أن مواضع سجود التلاوة هي مواضع الإخبار لا مواضع الأمر، فلو خُلِّينا والنظر لكان القول في سجود التلاوة أن ننظر، فما كان منه موضع أمر لم نجعل فيه سجودًا، وما كان منه موضع خبر جعلنا فيه سجودًا؛ ولكن اتباع ما قد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - أولى. ¬

_ (¬1) سورة العلق، آية: [19]. (¬2) سورة الانشقاق، آية: [20 - 21]. (¬3) سورة فصلت، آية: [38]. (¬4) سورة فصلت، آية: [37]. (¬5) سورة الحج، آية: [77].

ش: أي: فأما وجه النظر والقياس في كون السجود في المفصل فعلى غير هذا المعني، وهو وجوب السجود في المفصل وغيره وعدم الوجوب، وبيّن ذلك بقوله: "إنا رأينا السجود المتفق عليه ... " إلى آخره، ملخصه محرّرًا: أن السجدات المتفق عليها عشر، وهي: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، و {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وفي موضع السجدة فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه {تَعْبُدُونَ} (¬1)، وأراد بهم: مالكًا وبعض الشافعية، ويحكى ذلك عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، وطلحة، ويحيى، وزبيد اليامي، وأبي عبد الرحمن السلمي، والأعمش، ومسروق، وأصحاب عبد الله؛ فإن هؤلاء كلهم يذهبون إلى أن موضع السجود في حم السجدة عند قوله {تَعْبُدُونَ}. وقال بعضهم: موضعه {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬2) وأراد بهم: سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين في رواية, والنخعي في رواية, وشقيق بن سلمة، وابن أبي ليلى، وأبا حنيفة، وأصحابه؛ فإنهم ذهبوا إلى أن موضع السجود في هذه السورة عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}، ويحكى ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وهو مذهب الشافعي في الصحيح ومذهب الجمهور؛ لأن في ذلك أخذًا بالاحتياط عند اختلاف مذاهب الصحابة، فإن السجدة لو وجبت عند قوله: {تَعْبُدُونَ} فالتأخير أولى إلى قوله: {لَا يَسْأَمُونَ} لنخرج عن الواجب باليقين، ولو وجبت عند قوله: {لَا يَسْأَمُونَ} لكانت السجدة المؤداة قبله حاصلةً قبل وجوبها. ثم أشار إلى بيان اختلاف الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - بقوله: "وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك" أي في موضع السجود في سورة {حم (1) تَنْزِيلُ}. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: [37]. (¬2) سورة فصلت، آية: [38].

وأخرج عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من ثلاث طرق صحاح: أحدها: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن فطر بن خليفة، عن مجاهد، عن ابن عباس. والثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة ... إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمَّد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه كان يسجد في آخر الآيتين من {حم} السجدة". والثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد- اسمه محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد ... إلى آخره. قوله: "عجَّل هذا بالسجود" كالإنكار عليه بأن الآية الأولى ليست موضع السجدة، وأن محلها: الآية الأخيرة. وأخرج أيضًا: عن عبد الله بن مسعود بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد. وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن أبي إسحاق، قال: سمعته يذكر عن بعضهم: "أنه كان لا يسجد في الأولى {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬3) ". وأخرج أيضًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 372 رقم 4276). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 339 رقم 5879). (¬3) سورة فصلت، آية: [37].

ابن منصور، عن هشيم بن بشير، عن رجل، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يسجد في الآية الأول من {حم} ". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يسجد بالأولى". قلت: لعل الرجل المجهول في رواية الطحاوي هو حجاج المذكور في رواية ابن أبي شيبة. وأخرج عن أبي وائل شقيق بن سلمة بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عنه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن أبي وائل: "أنه كان يسجد في الآخرة -أي في الآية الآخرة- في سورة {حم} السجدة". وأخرج عن ابن سيربن أيضًا بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن عون، عن محمَّد بن سيرين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين: "أنه كان يسجد في الآخرة". وأخرج عن مجاهد أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخلد النبيل، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد. وأخرج عن قتادة أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن قتادة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 372 رقم 4282). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 372 رقم 4277). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 372 رقم 4278).

وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن قتادة نحوه. قوله: "فكانت هذه السجدة التي في {حم} " أشار بالفاء التفسيرية إلى بيان قوله: "فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى"، بيانه: أن السجدة في {حم (1) تَنْزِيلُ} متفق عليها، والاختلاف في موضعها، والسُّوَر العشر التي ذكرناها غير حم تنزيل متفق عليها في السجود فيها وفي مواضعها، ثم إن موضع كل سجدة من هذه السور موضع إخبار يعني في صورة الإخبار وليست في صورة أمرٍ، وقد جاء في مواضع من القرآن لفظ السجود مذكورًا بصورة الأمر كما في قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (¬2)، وقوله تعالى: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬3)، والعلماء كلهم قد اتفقوا أن لا سجود في شيء من ذلك، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا؟ غير موضع للسجود إن كان في صورة الأمر؛ لأنه تعليم، فلا سجود فيه، وإن كان في صورة خبر يكون فيه السجود، فالنظر والقياس على ذلك أن تكون سورة {وَالنَّجْمِ} غير موضع السجود كما ذهب إليه الخصم؛ لأنه في صورة الأمر، وكذلك سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؛ لأنه في صورة الأمر، ولكن يُترك القياس عند وجود الآثار, وأما سورة الانشقاق فكان ينبغي للخصم أن يقول بالسجود فيها , لأنها في موضع الإخبار، وقد قلنا: إن السجدة إنما تجب إذا كان في موضع الإخبار على ما ورد من الآثار في السجود فيها، فوجد فيها الآثار والقياس جميعًا. قوله: "ويكون كل شيء من السجود يرد إلى ما ذكرنا" يعني: إن كان من صورة الأمر يُردّ إلى ما اتفق عليه من عدم السجدة مما هو في صورة الأمر، وإن كان من صورة الخبر -وهو مما اختلف فيه- يرد إلى ما اتفق عليه من وجوب السجدة مما هو ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 338 رقم 5875). (¬2) سورة آل عمران، آية: [43]. (¬3) سورة الحجر، آية: [98].

في صورة الخبر، ثم بيّن ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: "فما كان منه أمرٌ رُدّ إلى شَكْله" بفتح الشين أي رُدّ إلى نظيره ومثله. قوله: "وكان يجيء على ذلك" أي على وجه النظر والقياس الذي ذكره، وأراد بهذا تقوية ما ذهب إليه ابن عباس الذي ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من جهة النظر والقياس، وقد بيّن وجه ذلك في الكتاب فلا حاجة إلى التطويل. قوله: "ولو خُلّينا" على صيغة المجهول. قوله: "والنظر" بنصب الراء على أنه مفعول معه. قوله: "لكان القول" جواب لوْ، والباقي ظاهر. ثم اعلم أن ما ذكره الطحاوي يُعكّر على ما قاله شُرّاح كتب الحنفية من قولهم: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم. وهذا كلام غير سديد؛ إذ لو كان وجوب سجدة التلاوة في هذا الموضع لأجل كونه في صورة الأمر لوجبت أيضًا عند قوله: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وقوله: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (¬1)، فظهر من هذا أن الحق مع الطحاوي. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام ص: وقد اختلف في سورة ص، فقال قوم: فيها سجدة، وقال آخرون: ليست فيها سجدة، فكان النظر في ذلك عندنا أن يكون فيها سجدة؛ لأن الموضع الذي جعله من جَعَل فيه سجدةً هو موضع خبر لا موضع أمرٍ، وهو قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬2) فذلك خبر، فالنظر فيه أن يُردّ حكمه إلى حكم أشكاله من الأخبار، فيكون فيه سجدة كما يكون فيها. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [43]. (¬2) سورة ص، آية: [24].

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير والحسن البصري ومسروقًا والثوري وابن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد وإسحاق ومالكًا؛ فإنهم قالوا: في {ص} سجدة تلاوة، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. وقال الترمذي: واختلف أهل العلم في ذلك، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - وغيرهم أن يسُجَد فيها، وهو قول سفيان، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال بعضهم: إنما هي توبة نبي، ولم يروا السجود فيها. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعي وأحمد في رواية, وعلقمة، ويروى ذلك عن عبد الله وأصحابه. وعن الشعبي قال: كان بعض أصحاب النبي - عليه السلام - يَسْجد في {ص} وبعضهم لا يسجد، فأيُّ ذلك شئت فافعل. ثم السجدة عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا} (¬1) وكذا قاله مالك، وعنه عند قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} (¬2). وقال أبو بكر الرازي: قال محمَّد بن الحسن: معناه: خر ساجدًا، فعبرّ عن السجود بالركوع. وفي "شرح المهذب": إن قرأها في الصلاة فينبغي أن لا يسجد، فإن خالف وسجد ناسيًا أو جاهلًا لم تبطل صلاته على أصح الوجهين، ولو سجد إمامه الذي يعتقد السجود فيها فثلاثة أوجه أصحها لا يتابعه، وإن انتظره لم يسجد للسهو؛ لأن المأموم لا سجود عليه، والثالث: يتابعه. ¬

_ (¬1) سورة ص، آية: [24]. (¬2) سورة ص، آية: [25].

وفي بعض شروح "الهداية": قال بعض الشيوخ: ينوب الركوع عن سجدة التلاوة في الصلاة وخارج الصلاة، وكذا حكي عن ابن حبيب المالكي. قوله: "فكان النظر في ذلك" أي: فكان القياس في حكم سجدة {ص} ... إلى آخره. ص: وقد روي ذلك عن رسول الله - عليه السلام -. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - سجد في (ص) ". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا العَوّام بن حوشب، قال: "سألت مجاهدًا عن السجود في {ص} فقال: سألت عنها عن ابن عباس فقال: اسجد في {ص} فتلا عليَّ هؤلاء الآيات من الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، فكان داود - عليه السلام - ممن أُمِر نبيكم أن يقتدي به". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد قال: "سُئل ابن عباس عن السجود في (ص) فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ". فبهذا نأخذ، ونرى السجود في {ص} اتباعًا لما قد روي فيها عن النبي - عليه السلام -، ثم لما قد أوجبه النظر، ونرى أن السجود في المفصل في {وَالنَّجْمِ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لما قد ثبتت فيه الرواية بالسجود في ذلك عن رسول الله - عليه السلام -، ونرى أن لا سجود في أخر الحج لما قد نفاه ما قد ذكرناه من النظر، ولأنه موضع التعليم لا موضع خبر، ومواضع التعليم لا سجود فيها للتلاوة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [84 - 90].

ش: أي قد روي السجود في سورة {ص} عن النبي - عليه السلام -، ثم بين ذلك بقوله: "حدثنا يونس ... " إلى آخره. فأخرج في ذلك عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -. أما أثر أبي سعيد فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، عن سعيد بن أبي هلال المصري روى له الجماعة، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا أحمد بن صالح، نا ابن وهب، أخبرني عمرو، عن ابن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قرأ رسول الله - عليه السلام - وهو على المنبر {ص} , فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود، فقال رسول الله - عليه السلام -: إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل وسجد وسجدوا". وأخرجه الحكم في "المستدرك" (¬2) في تفسير سورة {ص}، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال النووي في "الخلاصة": سنده صحيح على شرط البخاري. قوله: "تشزن الناس" أي تأهبوا للسجود وتهيئوا له. قوله: "إنما هي توبة نبي" أراد به داود - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 59 رقم 1410). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (2/ 469 رقم 3615).

وأما أثر ابن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب الشيباني الواسطي روى له الجماعة سوي أبي داود، عن مجاهد، عن ابن عباس. والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن مجاهد ... إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا حصين والعوام، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنه كان يسجد في {ص}، وتلا هذه الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2) ". ثنا (¬3) وكيع، عن مسعر، عن عمرو بن مرة عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: "فيها سجدة، ثم قرأ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ". قوله: "سألت عنها عن ابن عباس" وفي بعض النسخ: "سألت عنها ابن عباس". قوله: "فقال: السجدة في {ص} "، وفي رواية فقلت "أتسجد في {ص} "، وإنما قرأ هذه الآية إشعارًا بأن في {ص} سجدة. قوله: "فبهذا نأخذ" أي فبوجوب السجدة في {ص} نأخذ، وذلك من وجهين: أحدهما: اتباعًا لما قد روي عن النبي - عليه السلام -. والثاني: لإيجاب وجه النظر والقياس ذلك، وقد مر بيان وجه النظر عن قريب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 370 رقم 4259). (¬2) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 371 رقم 4268).

قوله: "ونرى أن السجود في المفصل" أي أن السجود واجب في المفصل -وهو السُّبع السَّابع- وبيَّن ذلك بقوله: "في {وَالنَّجْمِ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} " بطريق البدل والبيان عن قوله: "في المفصل". قوله: "لما قد ثبتت فيه الرواية" اللام فيه للتعليل متعلق بقوله: "ونرى"، والباقي ظاهر. ص: وقد اختلف في ذلك المتقدمون، فروي عنهم في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ورَوْحٌ، قالا: ثنا شعبة، قال: أنبأني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت ابن أختٍ لنا يقال له: عبد الله بن ثعلبة قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الصبح فيما أعلم. ثم قال سَعْدٌ: صلى بنا الصبح فقرأ بالحج وسجد فيها سجدتين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عليُّ بن زيد، عن صفوان بن محرز: "أن أبا موسى الأشعري سجد فيها سجدتين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَيْر قال: سمعت عبد الرحمن بن جبير بن نفير وخالد بن معدان يحدثان، عن جبير بن نفير: "أنه رأى أبا الدرداء يسجد في الحج سجدتين". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في سجود الحج: "الأولى عَزْمة والأخرى تعليم". فبقول ابن عباس هذا نأخذ إلا ما خالفه النظر أن السجدة في نفسها ليست بواجبة، وجميع ما ذهبنا إليه في هذا الباب مما جاءت به الآثار قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي قد اختلف المتقدمون من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - في سجدة الحج هل هي واحدة أم سجدتان، فروي عن ابن عباس وعلى بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وأبي العالية وزر بن حبيش وأن في الحج سجدتين، وإليه ذهب مالك في رواية وأحمد في قول والشافعي وعبد الله بن وهب وابن سريج. وروي عن ابن عباس أن فيها سجدة واحدةً وهي الأولى، وإليه ذهب سعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب والأعمش وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله. قوله: "فروي عنهم في ذلك" أي روي عن المتقدمين في سجود الحج، فأخرج في ذلك عن عمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وابن عباس - رضي الله عنهم -. أما أثر عمر - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي وروح بن عبادة، كلاهما عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر -ويقال: ابن أبي صُعَيْر- بن عمرو الشاعر العذري الصحابي، عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن ثعلبة: "أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصبح، فسجد في الحج سجدتين". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن غُندر، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. وأما أثر أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (2/ 317 رقم 3547). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 373 رقم 4288).

علي بن زيد بن جدعان، عن صفوان بن محرز المازني البصري روى له الجماعة سوى أبي داود. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث بكر بن عبد الله المزني، عن صفوان ابن محرز: "أن أبا موسى سجد في الحج سجدتين". وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2) والبيهقي في "سننه" (¬3): من حديث مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه سجد في الحج سجدتين". وأما أثر أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يزيد بن خُمَيْر بن يزيد الرحَبي الهمداني أبي عمر الشامي الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي أبي حمير الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". وعن خالد بن معدان بن الحارث الكلاعي أبي عبد الله الشامي الحمصي روى له الجماعة، كلاهما عن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي أبي عبد الرحمن الشامي الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن أبي الدرداء. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث شعبة، عن يزيد بن خمير، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (2/ 318 رقم 3552). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 205 رقم 481). (¬3) "سنن البيهقي" (2/ 317 رقم 3549). (¬4) "سنن البيهقي" (2/ 318 رقم 3556).

خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء: "أنه كان يسجد في الحج سجدتين"، رواه عاصم بن علي، عن شعبة، فقال: عن يزيد، سمعت عبد الرحمن ابن جبير، عن أبيه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع، عن شعبة، عن يزيد بن خمير، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه: "أن أبا الدرداء سجد في الحج سجدتين". وأما أثر ابن عباس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة والعين المهملة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. فإن قلت: كيف تقول: إنه صحيح الإسناد وقد روي عن أحمد: أن عبد الأعلى الثعلبي ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي؟! قلت: وثقه يحيى بن معين والطحاوي وروى له الأربعة. قوله: "عزمةٌ" أي حقٌّ وواجب، وبه يحتج من يذهب إلى وجوب سجدة التلاوة. وقال الطحاوي: "فبقول ابن عباس نأخذ" يعني في كون السجدة في الأولى من الحج إلا ما خالفه النظر -أي: القياس- من أن السجدة في نفسها ليست بواجبة لما أقام عليه من البرهان فيما مضى، والله أعلم.

ص: باب: الرجل يصلي في رحله ثم يأتي المسجد والناس يصلون

ص: باب: الرجل يصلي في رحله ثم يأتي المسجد والناس يصلون ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يصلي الفرض في منزله وبيته، ثم يأتي المسجد فيجد الناس وهم يصلون تلك الصلاة، فهل يدخل معهم أم لا؟ والمناسبة بين البابين: من حيث اشتمال كل منهما على حكم فيه خلاف بين المذاهب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن بشر بن محجن الديلي، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه رآه وقد افتتحت الصلاة، قال: فجلستُ ولم أقم للصلاة، فلما قضى صلاته قال لي: ألست مُسْلمًا؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي معنا؟ فقلت: قد كنت صليت مع أهلي، فقال: صلّ مع الناس وإن كنت قد صليت مع أهلك". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني زبد بن أسلم، عن بُسْر بن مِحْجن الدؤلي، عن أبيه قال: "صليت في بيتي الظهر أو العصر، ثم خرجت إلى المسجد، فوجدت رسول الله - عليه السلام - جالسًا وحوله أصحابه، ثم أقيمت الصلاة ... " ثم ذكر نحوه. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابيُّ (ح). وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن بشر بن محجن الدؤلي، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - نحوه، غير أنه لم يذكر أي صلاة هي. حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد ابن أسلم، عن بشر بن محجن الدؤلي، عن أبيه -أو عن عمه- عن رسول الله - عليه السلام - نحوه.

ش: هذه خمس طرقٍ صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن زيد بن أسلم القرشي المدني، عن بشر -بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة، وقال مالك: بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- ابن محجن. قال في "الميزان": بُسْر بن محجن الدُؤَلي، حدث عنه زيد بن أسلم، غير معروف، ولأبيه صحبة. فإن قلت: على هذا كيف يكون الحديث صحيحًا؟ قلت: ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" فقال: بُسْر بن محجن الدِّيَلي، ويقال بشر، وبُسْر أصح، روى عن أبيه، وروى عنه زيد بن أسلم، سمعت أبي يقول ذلك. وسكت عنه، والأصل العدالة، وروى له أبو داود والنسائي وسكتا عنه؛ فسكوتهما يدل على صحة حديثه (¬1)، وكذا ذكره ابن ماكولا وسكت عنه، وقال: بُسر بن محجن الديلي، عن أبيه، روى عنه زيد بن أسلم، وكان الثوري يقول: عن زيد، عن بشر، ثم رجع عنه، يعني كان يقول بالشين المعجمة ثم رجع عنه إلى السين المهملة، ومالك أيضا اعتمد على حديثه فدل على صحته. وهو يروي عن أبيه محجن بن أبي مِحْجَن -بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وفي آخره نون- وله صحبة. قوله: "الدَّيلي" بكسر الدال وسكون الياء آخر الحروف نِسبةً إلى بني الديل في عبد القيس، وجاء في رواية مالك والنسائي: الدُّؤَلي بضم الدال وفتح الهمزة، وهو نسبة إلى الدُّئِل -بضم الدال وكسر الهمزة- ويقع التغيير في النسبة كما يقال في النسبة إلى نَمِر: نَمَري بالفتح. ¬

_ (¬1) في هذا نظر لا يخفى، وقد نبهنا على هذه المسألة مرارًا.

والحديث أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج وداود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن ابن محجن الديلي، عن أبيه ... إلى آخره نحوه. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي أحد مشايخ البخاري، ونسبته إلى وُحَاظة بن سَعْد، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز ومحمد بن يحيى بن المنذر، قالا: ثنا القعنبي، ثنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن بُسْر بن محجن، عن أبيه قال: "صليت في بيتي الظهر أو العصر، ثم خرجت إلى المسجد، فوجدت رسول الله - عليه السلام - جالسًا وحوله ناسٌ فجلست معهم، ثم أقيمت الصلاة فدخل رسول الله - عليه السلام - فصلى للناس، ثم خرج فوجدني جالسًا في مجلسي الذي عهدني فيه، فقال: ألست رجلًا مسلما؟ فقلت: بل يا رسول الله إني لمسلم. قال: فما منعك أن تدخل فتصلي مع الناس؟ قلت: إني صليت في أهلي، فقال رسول الله - عليه السلام -: إذا صليت في أهلك ثم جئت إلى المسجد فوجدت الناس يصلون، فصلّ معهم". الثالث: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، ونسبته إلى فرياب قصبة ببخارى، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، نا زيد بن أسلم، عن ابن محجن الديلي، عن أبيه قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فأقيمت الصلاة، فجلست، فلما صلّى قال: ألستَ بمسلم؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 420 رقم 3932). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 295 رقم 700). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 34 رقم 16440).

مع الناس؟ قال: قلت: صليت في أهلي، قال: فصلّ مع الناس وإن كنت قد صليت في أهلك". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان، عن زيد ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، نا سفيان ... إلى آخره نحو رواية أحمد المذكورة آنفًا. الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني الديل يقال له: بسر بن محجن، عن محجن: "أنه كان في مجلس مع رسول الله - عليه السلام - فأُذِّن بالصلاة، فقام رسول الله - عليه السلام -، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - عليه السلام -: ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى، ولكني كنت قد صليت في أهلي. قال له رسول الله - عليه السلام -: إذا جئت فصلّ مع الناس وإن كنت قد صليت". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير. وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا شعبة، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي - عليه السلام - أن أصلي الصلاة لوقتها، وإن أدركت الإِمام وقد سبقك فقد أجزأتك صلاتك، وإلا فهي نافلة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، قال: ثنا بديل، عن أبي العالية، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر فرفعه، قال: "فضرب فخذي فقال لي: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 293 رقم 696). (¬2) "المجتبى" (2/ 112 رقم 857).

وقتها؟ ثم قال لي: صلّ الصلاة لوقتها ثم اخرج، وإن كنت في المسجد فأقيمت الصلاة فصلّ معهم ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي عمران الجوني عبد الملك بن حبيب الأزدي الكندي البصري، عن عبد الله بن الصامت الغفاري البصري ابن أخي أبي ذر، عن أبي ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن جعفر وحجاج، قالا: ثنا شعبة، عن أبي عمران، عن عبد الله بن صامت، عن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي - عليه السلام - بثلاث: اسمَعْ وأَطِعْ ولو لعَبْد مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، وإذا وجدت الإِمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك وإلا فهي نافلة". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن شعبة ... إلي آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمَّد بن بشار، نا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي - عليه السلام - قال: "صلّ الصلوات لوقتها فإن أدركت الإِمام يصلي بهم فصلِّ معهم وقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة لك". وأخرجه مسلم (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5) وأبو داود (¬6) بألفاظ مختلفة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 161 رقم 21465). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 398 رقم 1256). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 448 رقم 648). (¬4) "جامع الترمذي" (1/ 333 رقم 176). (¬5) "المجتبى" (2/ 113 رقم 859). (¬6) "سنن أبي داود" (2/ 655 رقم 4759).

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن بديل بن ميسرة العُقَيْلي البصري روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي العالية البراء البصري مولى قريش كان يُبْري النبل قيل: اسمه زياد بن فيروز، وقيل: زياد بن أذينة، وقيل: كلثوم، وقيل: أذينة، روى له البخاري ومسلم والنسائي. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن عبد الأعلى، ومحمد بن إبراهيم -واللفظ له- عن خالد بن الحارث، قال: ثنا شعبة، عن بُدَيل، قال: سمعت أبا العالية يحدث، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب فخذي: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: ما تأمر؟ قال: صل الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصلّ". قوله: "لوقتها" أي وقتها المختار المستحب. قوله: "وإلا فهي نافله" أي: وإن لم يسبقك الإِمام فصلّ معه فهي -أي فصلاتك هذه- نافلة لك؛ لأن الفرض هو الأولى، فتصير الثانية نفلًا، وهذا مذهب الجمهور: أن الرجل إذا صلى الفرض مرتين تكون الأولى فرضًا والثانية نفلًا؛ لأن صريح الحديث يدل على هذا، وعن الشافعي أربعة أقوال الصحيح كمذهب الشافعي. والثاني: أن الفرض أكملها. والثالث: كلاهما فرض. والرابع: الفرض أحدهما على الإبهام يحتسب الله بأيهما شاء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت جابر بن يزيد بن الأسود السوائي، عن أبيه قال: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 113 رقم 859).

"صلى بنا النبي - عليه السلام - في مسجد الخيف صلاة الصبح، فلما قضى صلاته إذا رجلان جالسان في مؤخر المسجد، فأتي بهما رسول الله - عليه السلام - تَرْعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما الناس وهم يصلون فصلِّيا معهم؛ فإنها لكما نافلة. قال: أو تطوع". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وجابر بن يزيد السوائي، وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، وأبوه يزيد بن الأسود الصحابي - رضي الله عنه -. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، أخبرني يعلى ابن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه: "أنه صلى مع رسول الله - عليه السلام - وهو غلام شاب، فلما صلَّى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعى بهما تَرْعدُ فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصلِّيا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا. فقال: لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإِمام ولم يصل؛ فليصل معه فإنها له نافلة". وأخرجه الترمذي (¬2): نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا يعلى بن عطاء، قال: ثنا جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال: "شهدت مع النبي - عليه السلام - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصلِّيا معه، فقال: عليّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصلِّيا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا. فقال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 157 رقم 575). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 424 رقم 219).

وقال أبو عيسى: حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا. قوله: "فأتي بهما رسول الله - عليه السلام -" فيه حذف، والتقدير: فطلبهما رسول الله - عليه السلام - فأتي بهما. قوله: "ترعد فرائصهما" حال عن الضمير الذي في "بهما". و"الفرائص" بالفاء والصاد المهملة جمع الفريصة وهي لحمة وسط الجنب عند منبض القلب، تفترص عند الفزع أي ترتعد، وقال ابن الأثير: الفريصة: اللحمة التي بَيْن جَنْب الدابة وكتفها لا تزال ترعد، وتَرْعُدُ من باب نَصَرَ يَنْصُرُ. قوله: "في رحالنا" جمع رَحْل، وهو منزل الإنسان ومسكنه. قوله: "فإنها لكما" أي فإن الصلاة التي تصليانها مع الناس ثانيًا نافلة أي تطوع لكما؛ لأن الفرض قد أُدّي بالأولى. وقال الخطابي: ظاهر الحديث حجة على من منع عن شيء من الصلوات كلها؛ لأنه لم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه - عليه السلام - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس فقد تأولوه على وجهين. أحدهما: أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداءً من غير سبب، فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قومًا يصلون جماعةً فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر: أنه منسوخ؛ لأن حديث جابر بن يزيد بن الأسود متأخر؛ لأن في قصته: أنه شهد مع رسول الله - عليه السلام - حجة الوداع ... " ثم ذكر الحديث. وفي قوله: "فإنها نافلة" دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 112 رقم 858).

قلت: أما قوله: "إن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداءً من غير سبب"، فغير مسلم؛ لأنه تخصيص من غير مخصص، وهو باطل، فعامة ما في الباب أنهم احتجوا على ذلك بأنه - عليه السلام - قضى سنة الظهر بعد العصر، وقاس عليها كل صلاة لها سبب حتى قال النووي: هو عمدة أصحابنا في المسألة، وليس لهم أصح دلالة منه. ولكن يَخْدشُه ما ذكره الماوردي منهم وغيره أن ذلك مخصوص بالنبي - عليه السلام -. وقال الخطابي نفسه أيضًا: كان النبي - عليه السلام - مخصوصًا بهذا دون الخلق. وقال ابن عقيل: لا وجه له إلا هذا الوجه. وقال الطبري: فعل ذلك تنبيها لأمته أن نهيه كان على وجه الكراهة لا التحريم. وأما قوله: "فإنه منسوخ" فغير صحيح؛ لأن عمر - رضي الله عنه - ما برح مع النبي - عليه السلام - إلى أن توفي، ولو كان منسوخا لعمل بناسخه مع أنه كان يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير، فدل هذا على أن النهي ليس بمنسوخ، وأن الركعتين بعد العصر مخصوصة به دون أمته، بل الظاهر أن حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "أن النبي - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب" هو الناسخ لكل ما ورد على خلافه. وأما قوله: "دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس"، فترده الأحاديث الصحيحة منها: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس" (¬1)، وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا الباب، على أن حديث جابر بن يزيد المذكور حكى البيهقي (¬2) عن الشافعي فيه أنه قال: إسناده مجهول. ثم قال البييقي: وإنما قال ذلك لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه جابر ولا لجابرٍ راوٍ غير يعلى بن عطاء. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 301 رقم 3462).

فإن قيل: قد صححه الترمذي كما ذكرناه وذكره ابن منده في "معرفة الصحابة"، ورواه بقية، عن إبراهيم بن يزيد بن ذي حماية، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه. فهذا راوٍ آخر لجابر غير يعلى ابن عطاء وهو ابن عمير. قلت: لو كان ما كان فلا يساوي حديث عمر - رضي الله عنه -، ويعارض كلام ابن منده ما قاله علي بن المديني: روى عن جابر بن يزيد بن الأسود يعلى بن عطاء، ولم يرو عنه غيره. كما ذكرناه في ترجمته، والنفي مقدم على الإثبات، فيكون يعلى متفردًا بهذه الرواية , فلا يتابع عليها. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار , فقالوا: إذا صلى الرجل في بيته صلاة مكتوبة -أيّ صلاة كانت- ثم جاء إلى المسجد فوجد الناس وهم يصلون؛ صلاها معهم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري والزهري والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا صلى الرجل في بيته صلاته الفرض ثم جاء إلى المسجد فوجد الناس يصلون؛ يدخل معهم في صلاتهم أي صلاة كانت. وقال الأوزاعي والنخعي: لا يصلي في المغرب والصبح ويصلي في غيرهما. وقال مالك: لا يصلي في المغرب فقط. وهو قول الثوري في رواية. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل صلاة يجوز التطوع بعدها فلا بأس بان يفعل فيها ما ذكرتم من صلاته إياها مع الإِمام على أنها نافلة، غير المغرب فإنهم كرهوا أن تُعاد؛ لأنها إن أُعيدت كان تطوعًا، والتطوع لا يكون وترًا إنما يكون شفعًا، وكل صلاة لا يجوز التطوع بعدها فلا ينبغي أن يُعيدها مع الإِمام؛ لأنها لا تكون تطوعًا في وقت لا يجوز التطوع فيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا قلابة وأبا مجلز ومسروقًا وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: كل صلاة يجوز التطوع بعدها كالظهر والعشاء فإنه يصليهما مع الإِمام أيضًا، وكل صلاة يكره

التطوع بعدها كالعصر والصبح فإنه لا يفعلها، وأما المغرب فإنه استثناها عن حكم الصلاة التي يتطوع بعدها لكونها إذا أعيدت تصير تطوعًا، والتطوع لا يكون وترا , ولكن ذكر جماعة من الحنفية أنه إذا أراد أن يصليها فينبغي أن يضم إليها ركعةً رابعةً لورود النهي عن التنفل بالبتيراء. وقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن جابر، عن سعيد بن عبيد، عن صلة بن زفر قال: "أعدت الصلوات كلها مع حذيفة، وشفع في المغرب بركعة". ثنا وكيع (¬2)، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "إذا صلى المغرب وحده ثم صلى في جماعة؛ شفع بركعة". ثنا أبو معاوية (¬3)، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "يشفع بركعة إذا أعاد المغرب". ص: واحتجوا في ذلك بما قد تواترت به الروايات عن رسول الله - عليه السلام - في نهيه عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وذلك عندهم ناسخ لما رويناه في أول هذا الباب، وقالوا: إنه لما بيّن في بعض الأحاديث الأول فقال: "فصلوها فإنها لكم نافلة" أو قال: "تطوع" ونهى عن التطوع في هذه الآثار الأخر وأُجمع على استعمالها؛ كان ذلك داخلًا فيها ناسخًا لما قد تقدمه مما قد خالفه، ومن تلك الآثار ما لم يُقل فيه "فإنهما لكم تطوع"، فذلك يحتمل أن يكون معناه معنى هذا الذي بيَّن فيه فقال: "فإنها لكم تطوع" ويحتمل أن يكون ذلك كان في وقت كانوا يصلون فيه الفريضة مرتين فتكونا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 76 رقم 6653). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 76 رقم 6655). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 76 رقم 6659).

جميعًا فريضتين، ثم نُهوا عن ذلك، فعلى أي الأمرين كان فإنه قد نسخه ما قد ذكرنا، وممن قال بأنه لا يعاد من الصلوات إلا الظهر أو العشاء الآخرة: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - عليه السلام -، وهذا مما قد تواترت -أي تتابعت وتكاثرت- به الروايات حيث أخرجه أصحاب الصحاح والحسان وهو ما رووه عن ابن عباس أنه قال: "شهد عندي رجال مَرضيّون وأرضاهم عندي عمر أن النبي - عليه السلام - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب" ذكره مسندًا في باب (¬1) أشار إليه بقوله: "وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من كتابنا هذا". وقال ابن بطال: تواترت الأخبار والأحاديث عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وهذا بعمومه يتناول الصورة التي فيها النزاع، وقد روي عن أبي طلحة: أن المراد بذلك كل صلاة. قوله: "وذلك" أي الحديث المذكور الذي رواه ابن عباس "عندهم" أي عند هؤلاء الآخرين "ناسخ لما رويناه في أول هذا الباب" وهو حديث محجن الديلي وأبي ذر الغفاري ويزيد بن الأسود السوائي، ثم بيَّن ذلك بقوله: "وقالوا: إنه" أي: وقال هؤلاء الآخرون أن التبيان لما بين في بعض الأحاديث الأُوَل وهي أحاديث هؤلاء الثلاثة من الصحابة. والباقي ظاهر غني عن مزيد من البيان وقد أشبعنا الكلام فيه عن قريب. ص: وقد روي في ذلك عن جماعة من المتقدمين ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف في "الأصل". والحديث أخرجه الطحاوي في باب: "الركعتين بعد العصر" (1/ 303).

ناعم بن أُجَيْل مولى أم سلمة - رضي الله عنها - قال: "كنت أَدخُل المسجد لصلاة المغرب فأرى رجالًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - جلوسًا في آخر المسجد والناس يصلون فيه؛ قد صلوا في بيوتهم". فهؤلاء من أصحاب النبي - عليه السلام - كانوا لا يصلون المغرب في المسجد لما كانوا قد صلّوها في بيوتهم ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم من أصحاب النبي - عليه السلام - أيضًا؛ فذلك دليل عندنا على نسخ ما قد كان تقدمه من قول النبي - عليه السلام -؛ لأنه لا يجوز أن يكون مثل ذلك من قول رسول الله - عليه السلام - قد ذهب عليهم جميعًا حتى يكونوا على خلافه، ولكن كان ذلك منهم لما قد ثبت عندهم فيه نسخ ذلك القول. ش: أي قد روي فيما ذكرنا من انتساخ الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه عن جماعة من التابعين منهم ما رواه مولى أم سلمة ناعم بن أُجَيْل الهمداني المصري أبي عبد الله روى له مسلم والنسائي. أخرجه الطحاوي: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن ناعم المذكور أنه قال: "كنت أدخل المسجد". فقد أخبر في حديثه هذا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يصلون المغرب في المسجد لأجل كونهم قد صلوها في بيوتهم، ولم ينكر عليهم ذلك غيرهم من الصحابة؛ فهذا دليل على نسخ أحاديث أهل المقالة الأولى؛ لأنه لا يجوز أن تفوت عنهم هذه الأحاديث ثم يعملون بخلافها وإنما كان ذلك منهم لأجل ما قد ثبت عندهم انتساخ الأحاديث المذكورة. فإن قيل: كيف يُستدل بهذا الحديث وفي سنده ابن لهيعة وفيه مقال؟ قلت: قد بينت لك غير مرة أن أحمد والطحاوي وآخرين قد وثقوه، ولئن سلمنا تضعيفه ولكن إنما ذكر حديثه متابعَّاَ ومؤيدًا لما ذكره من الحديث المجمع على صحته.

فإن قيل: هذا يدل أيضًا على أن المغرب لا يُعادُ، وكيف قال من قال من الحنفية أنه يعيدها مع الإِمام ثم يضم إليها ركعةً رابعةً؟ قلت: قد ذكرنا عن ابن أبي شيبة أنه قد أخرج عن جماعة منهم حذيفة - رضي الله عنه - مثل ما ذكر هؤلاء. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن ابن عمر وغيره - رضي الله عنهم - ما قد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، أن ابن عمر قال: "إن صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة فصلها؛ إلا الصبح والمغرب فإنهما لا تعادان في اليوم". ش: أي: قد روي أيضًا فيما ذهب إليه أهل المقالة الثانية عن عبد الله بن عمر. أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر قال: "إذا صلى الرجل في بيته ثم أدرك جماعةَّ صلى معهم؛ إلا المغرب والفجر". قلت: وبه قالت طائفة من أهل العلم منهم الأوزاعي؛ فإنهم قالوا: تعاد الصلوات إلا المغرب والفجر، وقالت أصحابنا: لا يعاد الصبح والعصر، وأما المغرب فيه اختلاف الرواية كما ذكرناه. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم: "أنه كان يكره أن تعاد المغرب إلا أن يخشى رجل سلطانًا؛ فيصليها ثم يشفع بركعة". ش: هذا بيان ما روي عن غير ابن عمر من المتقدمين كما أشار إليه بقوله: "وغيره" أي وغير ابن عمر، وهو إبراهيم النخعي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 76 رقم 6663).

أخرجه بإسناد صحيح: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: "يُعيد الصلاة كلها إلا المغرب، فإن خاف سلطانًا فليصل معه، فإذا فرغ فليشفع بركعة". حدثثا وكيع (¬2)، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "إذا صلى المغرب وحده ثم صلى في جماعة؛ شفع بركعة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 77 رقم 6666). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 76 رقم 6655).

ص: باب: الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب هل ينبغي له أنه يركع أم لا؟

ص: باب: الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب هل ينبغي له أنه يركع أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الرجل الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والحال أن الإِمام يخطب، هل ينبغي له أن يصلي ركعتين أم يتركهما؟ والمناسبة بين البابين: اشتمال كل منهما على حكم تطوع فيه خلاف. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: "جاء سُلَيك الغطفاني في يوم الجمعة ورسول الله - عليه السلام - على المنبر فقعد سُلَيكٌ قبل أن يُصلي، فقال له النبي - عليه السلام -: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما". ش: إسناده صحيح، وربيع هو ابن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وراوي أمهات الكتب عنه، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره -وسُليك بضم السين المهملة، وفتح اللام- ابن عمرو الغطفاني. وهذا الحديث أخرجه الجماعة بأسانيد مختلفة وألفاظ: فقال البخاري (¬1): ثنا أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع" وفي رواية له: "فصل ركعتين". وقال مسلم (¬2): ثنا أبو الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد، قالا: نا حماد وهو ابن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "بَيْنا النبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 315 رقم 888). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 596 رقم 875).

يخطب يوم جمعة إذْ جاء رجل، فقال له النبي - عليه السلام -: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا، قال: فقم فاركع" وفي لفظ له: "قم فصلّ الركعتين" وفي لفظ: "قال: اركع". وقال أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب، نا حماد، عن عمرو -هو ابن دينار- عن جابر: "أن رجلًا جاء يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع". وقال أيضًا (¬2): ثنا محمَّد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم -المعنى- قالا: نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. وعن أبي صالح، عن أبي هريرة قالا: "جاء سليك الغطفاني ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فقال له: أصليتَ؟ قال: لا. قال: صل ركعتن تجوَّز فيهما". وقال الترمذي (¬3): ثنا قتيبة، قال: نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "بينا النبي - عليه السلام - يخطب يوم الجمعة إذْ جاء رجل فقال النبي - عليه السلام -: أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع" قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. وقال النسائي (¬4): أنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد ... إلى آخره نحو رواية الترمذي. وقال أيضًا (¬5): أنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد، قال: ثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "جاء رجل يوم الجمعة- والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب- بهيئة بذة، فقال له رسول الله - عليه السلام - أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 291 رقم 1115). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 291 رقم 1116). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 384 رقم 510). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 384 رقم 510). (¬5) "المجتبى" (3/ 106 رقم 1408).

وقال ابن ماجه (¬1): ثنا هشام بن عمار، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع جابرًا. ونا أبو الزبير، سمع جابر بن عبد الله قال: "دخل سليك الغطفاني المسجد والنبي - عليه السلام - يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين". وأما عمرو فلم يذكر سليكًا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب ... " ثم ذكر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ... فذكر مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن إشكاب الكوفي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فجلس، فقال له رسول الله - عليه السلام -: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم ليجلس". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يذكر حديث سليك الغطفاني، ثم سمعت أبا سفيان بَعد يقول: سمعت جابرًا يقول: "جاء سليك الغطفاني في يوم جمعة ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فقال له رسول الله - عليه السلام -: قم يا سليك، فصلِّ ركعتين خفيفتين تجوّز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين يتجوز فيهما". حدثنا يزيد بن سنان، ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن سليك بن هدبة الغطفاني: "أنه جاء والنبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 353 رقم 1112).

يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقال له: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا. قال: صلّ ركعتين وتجوّز فيهما". ش: هذه خمس طرق أخرى في الحديث المذكور: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البُرلُّسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن يزيد بن إبراهيم التُسْتُري البصري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، نا أبو الزبير، عن جابر قال: "جاء رجل إلى النبي - عليه السلام - وهو يخطب فقال: صليتَ الركعتين؟ فقال: لا. قال: فصلهما". الثاني: وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "جاء رجل والنبي - عليه السلام - على المنبر يوم الجمعة يخطب، فقال له النبي - عليه السلام -: أركعت ركعتين؟ فقال: لا. قال: اركع". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن عبد الرزاق. الثالث: وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن أحمد بن إشكاب الحضرمي الكوفي نزيل مصر شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع المكي الإسكاف، عن جابر بن عبد الله ... إلي آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 363 رقم 14949). (¬2) "مسند عبد الرزاق" (3/ 244 رقم 5513). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 369 رقم 15009).

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا علي بن حرب، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "جاء سُلَيك الغطفاني ورسول الله - عليه السلام - يخطب الناسَ، فجلس، فقال النبي - عليه السلام -: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلّ ركعتين خفيفتين ثم ليجلس". وأخرجه أيضًا أبو داود (¬2) نحوه. الرابع: أيضًا صحيح، عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (2): عن محمَّد بن محبوب، وإسماعيل بن إبراهيم كلاهما، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وقد ذكرناه عن قريب. الخامس: مرسل، ورجاله ثقات أيضًا، عن يزيد بن سنان القزاز، عن صفوان بن عيسى القرشي البصري القسام، عن هشام بن حسان، عن الحسن البصري، عن سليك بن هُدْبَة -بضم الهاء وسكون الدال وفتح الباء الموحدة- ويقال له أيضًا: سليك بن عمرو كما ذكرناه في أول الباب. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا هشيم، قال: أنا منصور وأبو حرة ويونس، عن الحسن قال: "جاء سليك الغطفاني والنبي - عليه السلام - يخطب يوم الجمعة، ولم يكن صلى الركعتين، فأمره النبي - عليه السلام - أن يصلي ركعتين يتجوز فيهما". ص: حدثنا محمَّد بن حُمَيد، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله أخبره، عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 13 رقم 2). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 291 رقم 1116). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 51624).

الخدري: "أن رجلًا دخل المسجد ورسول الله - عليه السلام - على المنبر، فناداه رسول الله - عليه السلام -، فما زال يقول: ادن. حتى دنا، فأمره فركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلَقٌ، ثم صنع مثل ذلك في الثانية فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة فأمره بمثل ذلك، فقال رسول الله - عليه السلام - للناس: تصدقوا، فألقوا الثياب، فأمره رسول الله - عليه السلام - بأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه، فغضب رسول الله - عليه السلام -، ثم أمره أن يأخذ ثوبه". ش: إسناده مصري صحيح، ومحمد بن حميد بن هشام الرعيني وثقه ابن يونس، وسعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، ويحيى بن أيوب الغافقي المصري، وابن عجلان هو محمَّد بن عجلان المدني، وعياض بن عبد الله بن أبي سَرْح. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد، قال: ثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، قال: سمعت أبا سعيد الخدريَّ - رضي الله عنه - يقول: "جاء رجل يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب بهيئة بذّة فقال له رسول الله - عليه السلام -: أصلّيتَ؟ قال: لا. قال: صلّ ركعتين، وحَثّ الناس على الصدقة فألقوا ثيابًا فأعطاه منها ثوبين، فلما كانت الجمعة الثانية جاء ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فحث الناس على الصدقة، قال: فألقى أحد ثوبَيْه، فقال رسول الله - عليه السلام -: جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذّة فأمرتُ الناسَ بالصدقة، فألقوا ثيابًا فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن، فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما؛ فانتهره وقال: خذ ثوبك". قوله: "وعليه خرقة خلق" الواو للحال، وخَلَق -بفتحتين- صفة للخرقة أي عتيقة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 106 رقم 1408).

قوله: "في الثانية" أي في الجمعة الثانية. قوله: "بهيئة بذة" يتعلق بقوله: "جاء رجل"، والبذة: بفتح الباء الموحدة وتشديد الذال المعجمة من البذاذة وهي رثاثة الهيئة، يقال: بَذّ الهيئة، وباذّ الهيئة أي رَثُّ اللبسة. ومما يستفاد منه: كراهة صدقة المحتاج، وأنها لا تستحب إلا عن ظهر غني، واستحباب الصدقة يوم الجمعة على المحتاجين من الكسوة والطعام ونحوهما. ص: فذهب قوم إلى أن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب فينبغي له أن يركع ركعتين يتجوز فيهما، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وابن عيينة ومكحولًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وابن المنذر؛ فإنهم ذهبوا إلى أن من دخل المسجد يوم الجمعة والحال أن الإِمام على المنبر يخطب فينبغي له أن يصلي ركعتين خفيفتين، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال ابن حزم في "المحلى": ومن دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلّ ركعتين قبل أن يجلس، ثم روى هذه الأحاديث، ثم قال: وهو قول سفيان بن عيينة ومكحول وعبد الله بن يزيد المقرئ، والحميدي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجمهور أصحاب الحديث، وهو قول للشافعي وأبي سليمان وأصحابهما، وقال الأوزاعي: إن كان صلاهما في بيته جلس، وإن كان لم يصلهما في بيته ركعهما في المسجد والإمام يخطب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يجلس ولا يركع والإمام يخطب. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: شريحًا، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، ومالكًا، والليث بن سعد؛ فإنهم قالوا: ينبغي للداخل أن يجلس ولايصلي شيئًا

والحال أن الإِمام يخطب. وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، ويروي ذلك عن عمر وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم -، كذا قاله القاضي عياض. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - أمر سُلَيكًا بما أمره به من ذلك فقطع خطبته إرادةً منه أن يُعلّم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة، ويجوز أيضًا أن يكون بني على خطبته، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم نسخ الكلام في الصلاة، فنسخ أيضًا في الخطبة. وقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك كما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولًا بها. فنظرنا هَلْ روي شيء يخالف ذلك؟ فإذا بحر بن نصر قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يُحدّث، عن أبي الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال: "كنت جالسًا إلى جنبه يوم الجمعة، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول الله - عليه السلام -: اجلسْ فقد آذَيْتَ وآنيت. قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام". أفلا تَرَى أن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، فهذا بخلاف حديث سليك، وفي حديث أبي سعيد الخدري الذي قد رويناه في الفصل الأول ما يدل على أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن يُنْهى عنها، ألا تراه يقول: "فألقى الناس ثيابهم" وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وأن مَسّه الحصى والإمام يخطب مكروه، وأن قوله لصاحبه: أنصت والإمام يخطب مكروه، فدل ذلك على أن ما كان أمر به النبي - عليه السلام - سُليكًا والرجل الذي أمر بالصدقة عليه كان في حالٍ الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه "أنه" أي أن الشأن "قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر سليكًا الغطفاني بما أمره به" أي بالذي أمره به "من ذلك" أي من أن يصلي ركعتين خفيفتين. تقرير هذا الجواب: أن حديث سُليك يحتمل ثلاث معانٍ: الأول: يحتمل أن يكون أمره إياه بذلك بعد قطع خطبته لإرادة تعليمه الناسَ كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة بعد ذلك. الثاني: يحتمل أن يكون بني على خطبته ولم يستأنفها والحال أن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضًا في الخطبة؛ لأنها شطر صلاة الجمعة وشرطها. الثالث: يحتمل أن يكون ما أمر به النبي - عليه السلام - سُليكًا من الصلاة بركعتين كما قال أهل المقالة الأولى، ويكون سنةً معمولًا بها. وإذا احتمل هذا الحديث هذه الاحتمالات نحتاج أن ننظر، هل ورد شيءٌ يبيّن أن المراد أحد الاحتمالات المذكورة؟ وهل ورد شيء يخالف صريحًا حديث سليك المذكور؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - المذكور عن قريب الذي احتج به أهل المقالة الأولى يبيّن الاحتمال الثاني ويؤكده؛ لأنه ذكر فيه أن رسول الله - عليه السلام - قال للناس: "تصدقوا" فألقوا ثيابهم، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه في حال خطبة الإِمام مكروه، وكذلك مسَّه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت، فدل ذلك على أن أمر النبي - عليه السلام - سليكًا بما أمره به إنما كان ذلك في حال إباحة الكلام وسائر الأفعال في الخطبة، ثم لما حرم الكلام وغيره فيها منع من الصلاة أيضًا على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وقد قال بعضهم: إنما كان ذلك قبل شروعه - عليه السلام - في الخطبة، والدليل عليه أن

النسائي بَوّب في "سننه الكبرى" (¬1) على حديث سليك فقال: باب الصلاة قبل الخطبة، ثم أخرج عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "جاء سُليك الغطفاني ورسول الله - عليه السلام - قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له - عليه السلام -: أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما" انتهى. وقد روي عن أنس ما يبُيّن الاحتمال الأول ويؤكده، وهو ما رواه الدارقطني في "سننه" (¬2) من حديث عبيد بن محمَّد العبدي، ثنا معتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال: "دخل رجل المسجد ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فقال لي النبي - عليه السلام -: قم فاركع ركعتين، وأمْسَكَ عن الخطبة حتى فرغ من صلاته". ثم قال: أسنده عبيد بن محمَّد ووهم فيه. ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل (¬3): ثنا معتمر، عن أبيه قال: "جاء رجل والنبي - عليه السلام - يخطب، فقال: يا فلان، أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل، ثم انتظره حتى صلى". قال: وهذا المرسل هو الصواب. وقال ابن أبي شيبة (¬4): حدثنا هشيم، أنا أبو معشر، عن محمَّد بن قيس: "أن النبي - عليه السلام - حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه ثم عاد إلى خطبته". وأما الحديث الذي ورد وهو يخالف حديث سُليك صريحًا فهو ما أخرجه عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية ابن صالح بن حُدَير الحمصي قاضي الأندلس، عن أبي الزاهرية حُدَير بن ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 528 رقم 1705). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 15 رقم 9). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 16 رقم 10). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 447 رقم 5163).

كريب الحضرمي الحمصي، عن عبد الله بن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- الصحابي - رضي الله عنه -. وإسناده صحيح، ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا بحر بن نصر. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا هارون بن معروف، نا بشر بن السَّرِيّ، نا معاوية ابن صالح، عن أبي الزاهرية قال: "كنا مع عبد الله بن بُسْر صاحب النبي - عليه السلام - يوم الجمعة فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال عبد الله بن بُسْر: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب، فقال له رسول الله - عليه السلام -: اجلِسْ فقد آذَيْتَ". وأخرجه النسائي (¬2) (¬3) نحوه: عن وهب بن بيان، عن عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح. انتهى. فهذا يدل على أن الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب يقعد ولا يصلي شيئًا؛ لأن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، ولو كانت الصلاة مفعولة في هذا الوقت لأمره بها ونسبه أيضًا إلى الإيذاء حيث قال له: "آذيت" أي آذيت الناس بتخطي رقابهم، ونسبه أيضًا إلى التقصير في فعله هذا حيث قال له: "وآنيت" أي أخّرت المجيء وأبطأت فيه، ومنه قيل للمتمكّث في الأمر: مُتأنٍّ، فدل هذا كله أن ما كان من حديث سليك في حالة كان الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد ذلك وهو معنى "فدل ذلك على أن ما كان ... " إلى آخره. قوله: "في حالٍ الحكمُ فيها" بتنوين "حال"، وقوله: "الحكم" بالرفع مبتدأ وخبره قوله: "بخلاف الحكم". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 292 رقم 1118). (¬2) "المجتبى" (3/ 103 رقم 1399). (¬3) كلمة مقطوعة.

فإن قيل: فقد قال ابن حزم: وهذا الحديث لا حجة لهم لوجوهٍ أربعة: أولها: أنه لا يصح لأنه من طريق معاوية بن صالح، لم يروه غيره، وهو ضعيف. والثاني: أنه ليس في الحديث أنه لم يكن ركعهما، وقد يمكن أن يكون ركعهما ثم تخطى، ويمكن أن لا يكون ركعهما، فإذْ ليس في الخبر لا أنه ركع ولا أنه لم يركع؛ فلا حجة لهم فيه ولا عليهم. والثالث: أنه حتى لو صح الخبر وكان فيه أنه لم يكن ركع؛ لكان ممكنًا أن يكون قبل أمر النبي - عليه السلام - مَنْ جاء والإمام يخطب بالركوع، وممكن أن يكون ركع؛ فإذ ليس فيه بيان بأحد الوجهين فلا حجة لهم ولا عليهم. والرابع: أنه لو صح الخبر وصح أنه لم يكن ركع، وصح أن ذلك كان بعد أمره - عليه السلام - مَن جاء والإمام يخطب بأن يركع -وكل ذلك لا يصح منه شيء- لَمَا كانت لهم فيه حجة؛ لأننا لم نقل: إنهما فرض، وإنما قلنا: إنهما سنة يكره تركهما وليس فيه حكم صلاتهما فبطل تعلقهم بهذا الخبر الفاسد جملة. قلت: كل هذا كلام فاسد ناشئ عن قلة فطانة ويُبس دماغ، وكيف يكون هذا الخبر فاسدًا وقد أخرجه أبو داود وسكت عنه وهو دليل الصحة عنده (¬1)، وكيف يضعف معاوية بن صالح وقد وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة الإمامان في هذا الشأن، ووثقه العجلي والنسائي أيضًا، واحتج به مسلم في "صحيحه"، واحتجت به الأربعة أيضًا، وباقي كلامه خلط لا يستحق الجواب لسقوطه، والله أعلم. ص: ولقد تواترت الروايات عن رسول الله - عليه السلام - بأن مَنْ قال لصاحبه: أَنْصت. والإمام يخطبُ يوم الجمعة فقد لغى، حدثنا بذلك يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب فقد لَغَوْت". ¬

_ (¬1) في هذا نظر نبهنا عليه مرارًا.

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا القاسم بن معن، عن ابن جريج، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وعن سعيد بن المسيب أنهما حدثاه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - أنه سمعه يقول: "إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". فإذا كان قول الرجل لصاحبه والإمام يخطب: أنصت لَغْوًا، كان قول الإمام للرجل: قم فصل لغوًا أيضًا، فثبت بذلك أن الوقت الذي كان فيه من رسول الله - عليه السلام - الأمر لسُليك بما أمره به إنما كان قبل النهي وكان الحكم فيه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جُعِل مثل ذلك لغوًا. ش: أي: لقد تكاثرت وتتابعت الروايات عن النبي - عليه السلام - بأن من قال لصاحبه: أنصت والإمام يخطب فقد لغى. أخرجه عن أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح، وأخرج هذا وأمثاله لكونها حجة لأهل المقالة الثانية، ولدلالة ما فيها من كون قول الرجل لصاحبه: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة لغوًا على كون قول الإِمام أيضًا لغيره: قم فصلّ، لغوًا، فإذا كان كذلك، يكون الوقت الذي أمر النبي - عليه السلام - فيه سليكًا أن يركع غير الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوًا، فكان ذاك حينما كان الكلام مباحًا في الصلاة، ثم نُسخ بعد ذلك كما قد قررناه. الطريق الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة غير الترمذي.

فقال البخاري (¬1): ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". وقال مسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح بن المهاجر، كلاهما عن الليث، قال ابن رمح: أنا الليث، عن عقيل ... إلى آخره نحوه. وقال أبو داود (¬3): نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. وقال النسائي (¬4): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن عُقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "مَنْ قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت فقد لغى". وقال ابن ماجه (¬5): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شبابة بن سوَّار، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت". الثاني: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النَّهْدي شيخ البخاري، عن القاسم بن مَعْن بن عبد الرحمن المسعودي الكوفي، عن عبد الملك بن جريج، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عمر بن عبد العزيز ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 316 رقم 892). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 583 رقم 851). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 290 رقم 1112). (¬4) "المجتبى" (3/ 103 رقم 1401). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 352 رقم 1110).

وأخرجه النسائي (¬1): نا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وعن سعيد بن المسيب، أنهما حدثاه أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" انتهى. فهذا كما رأيت في رواية الطحاوي: عمر بن عبد العزيز، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وفي رواية النسائي: عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ. وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" في باب من اسمه إبراهيم فقال: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، روى عن عمر وعلي وأبي هريرة، روى عنه عمر بن عبد العزيز وسَعْد بن إبراهيم، سمعت أبي يقول ذلك. وقال في باب "العبادلة": عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري روى عن أبي هريرة، روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز وأبو أمامة ابن سهل وأبو صالح ذكوان وعبد الكريم أبو أمية، سمعت أبي يقول ذلك. قلت: كلاهما واحد، وقد قال في "التكميل": إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، ويقال: عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، واسمه خالد بن الحارث الكناني المدني تابعي رأى عمر وعليًّا - رضي الله عنهما -، انتهى. وأخرج لإبراهيم بن عبد الله بن قارظ: مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد بن حنبل، والبخاري في كتاب "الأدب"، وأخرج لعبد الله بن إبراهيم بن قارظ: أحمد، ومسلم، والنسائي. والحاصل: أنه في رواية مسلم والنسائي وأحمد بالوجهين المذكورين، وفي رواية أبي داود والترمذي والبخاري في كتاب "الأدب" بالوجه الأول، وكلاهما واحد كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 104 رقم 1402).

قوله: "والإمام يخطب" جملة حالية. قوله: "فقد لغوت" أي: قلت اللغو، وهو الكلام الملغي الساقط الباطل المردود، وقيل: معناه مِلْت عن الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي. وفي رواية لمسلم: "فقد لغيت" قال أبو الزناد: هي لغة أبي هريرة، وإنما هو: "فقد لغوت". قال أهل اللغة: لَغَى يَلْغُو لغْوًا، كغزا يغزو غزوًا، ويقال: لَغَى يَلْغِي لَغَى كعمى يعمي لغتان، والأول أفصح، وظاهر القرآن يقتضي الثانية التي هي لغة أبي هريرة قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيه} (¬1) وهذا من لغى يلغي، ولو كان من الأولى لقال: والْغوا -بضم الغين- وقال ابن السكيت وغيره: ومصدر الأول اللغو، ومصدر الثاني لغيٌ. ثم اعلم: أن في هذا الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا عما سواه؛ لأنه إذا قال: أنصت -وهو في الأصل أمر بمعروف وسماه لغوًا- فغيره من الكلام أولى، وإنما طريقته إذا أراد أن ينهى غيره عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذّر فهمُه فلينبهه بكلام مختصر ولا يزيد على أقل ممكن، واختلفوا فيه، هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ فهما قولان للشافعي. قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة. وحكي عن النخعي والشعبي وبعض السلف أنه لا يجب إلا إذا تلا فيها آية القرآن. قال: واختلفوا إذا لم يسمع الإِمام، هل يلزمه الإنصاف كما لو سمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد وهو أحد قولي الشافعي: لا يلزمه. وقال ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: [26].

صاحب "المحيط": وإن كان بعيدًا عن الخطيب لا يستمع، قيل: يقرأ القرآن في نفسه، وقيل: يسكت، وهو الأصح؛ لأنه مأمور بالاستماع والإنصات، فإن عجز عن الاستماع لم يعجز عن الإنصات فيلزمه، والحكم بن زهير كان يناظر في الفقه وهو من كبار أصحابنا (¬1). ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - في مثل ذلك ما قد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا مكيّ بن إبراهيم، قال: ثنا عبد بن سعيد وهو ابن أبي هند، عن حرب بن قيس، عن أبي الدرداء أنه قال: "جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم جمعة على المنبر يخطب الناس، فتلا آيةً وإلى جنبي أبي بن كعب - رضي الله عنه - فقلت له: يا أُبيّ، متى أنزلت هذه الآية؟ فأبي أن يكلمني، حتى إذا نزل رسول الله - عليه السلام - عن المنبر قال: ما لك من جمعتك إلا ما لغوتَ، ثم انصرف رسول الله - عليه السلام -، فجئته، فأخبرته، فقلت: يا رسول الله، إنك تلوت آيةً وإلى جنبي أبي بن كعب فسألته متى نزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني، حتى إذا نزلت زعم أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغوت. فقال: صدق، فإذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى ينصرف". ش: أي: قد روي عن النبي - عليه السلام - في منع الكلام وقت الخطبة ووجوب الإنصات ولغو المتكلم مثل ما روي عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -. أخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن مكيّ بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري أبي بكر المدني روى له الجماعة، عن حرب بن قيس المدني وثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا مكي بن إبراهيم، نا عبد الله بن سعيد، عن حرب بن قيس، عن أبي الدرداء قال: "جلس رسول الله - عليه السلام - يومًا على المنبر ¬

_ (¬1) انظر "بدائع الصنائع" (1/ 592). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 198 رقم 21778).

فخطب الناس وتلا آية ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "فأنصت حتى يفرغ". وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي ذر قال: "دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب، فجلست قريبًا من أبي بن كعب، فقرأ النبي - عليه السلام - سورة براءة، فقلت لأبيّ: متى نزلت هذه السورة؟ فحُصِر ولم يكلمني، فلما صلى رسول الله - عليه السلام - صلاته قلت لأبيّ: إني سألتك فبَجَهْتَنِي ولم تكلمني؟ فقال أبي: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فذهبت إلى النبي - عليه السلام - فقلت: يا نبي الله، كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى أنزلت هذه السورة؟ فبجهني ولم يكلمني، فقال أُبيّ: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت. فقال: صدق أبيّ". ثم قال البيهقي (¬2): رواه عبد الله بن جعفر، عن شريك، عن عطاء، فقال: عن أبي الدرداء وأبي بن كعب وجعل القصة بينهما، وكذا رواه حرب بن قيس عن أبي الدرداء، ورواه عيسى بن حارثة عن جابر بن عبد الله فذكر معناه بين ابن مسعود وأبي بن كعب، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أنها تمت بين رجل وبين ابن مسعود، وجعل المصيب ابن مسعود بدل أُبيّ، وليس في الباب أصح من الأول. قلت: لكنه مرسل؛ لأن عطاء بن يسار لم يدرك أبا ذر. وأخرجه ابن ماجه (¬3) بوجه آخر: نا محرز بن سلمة العدني، نا عبد العزيز ابن محمَّد الدراوردي، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي بن كعب: "أن رسول الله - عليه السلام - قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم، فذكر بأيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة؟ إني لم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 219 رقم 5623). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 219 رقم 5623). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 352 رقم 1111).

أسمعها إلا الآن. فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني؟ فقال أبي: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهب إلى رسول الله - عليه السلام - فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال أُبي، فقال رسول الله - عليه السلام -: صدق أبي". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التَّيْمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - كان يخطبُ يوم الجمعة، فقرأ سورة، فقال أبو ذر لأبيّ بن كعب: متى نزلت هذه السورة؟ فأعرض عنه، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته، قال أبي لأبي ذر: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فدخل أبو ذر على النبي - عليه السلام - فأخبره بذلك فقال رسول الله - عليه السلام -: صدق أبيّ". ش: إسناده صحيح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا حماد، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "بينما رسول الله - عليه السلام - يخطب يوم الجمعة إذْ قال أبو ذر لأبيّ: متي أنزلت هذه السورة؟ فلم يُجبْه، فلما قضى صلاته قال له: ما لك في صلاتك إلا ما لغوت، فأتى أبو ذر النبي - عليه السلام -، فذكر ذلك له، فقال: صدق أبي". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث الطيالسي نحوه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا هشيم، قال: أنا داود بن أبي هند، عن الشعبي: "أن أبا ذر أو الزبير بن العوام سمع أحدهما من النبي - عليه السلام - أنه يقرأ وهو على المنبر يوم الجمعة، قال: فقال لصاحبه: متي أنزلت هذه ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 312 رقم 2365). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 220 رقم 5624). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 458 رقم 5304).

الآية؟ قال: فلما قضى صلاته قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا جمعة لك. فأتى النبي - عليه السلام -، فذكر ذلك له، قال: فقال: صدق عمر". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد أمر رسول الله - عليه السلام - بالإنصات عند الخطبة، وجعل حكمها في ذلك كحكم الصلاة وجعل الكلام فيها لغوًا، فثبت بذلك أن الصلاة فيها مكروهةُ، فإذا كان الناس منهيين عن الكلام ما دام الإِمام يخطب كان كذلك الإمام منهيًّا عن الكلام ما دام يخطب بغير الخطبة. ألا ترى أن المأمومين ممنوعون عن الكلام في الصلاة، فكذلك الإِمام، فكان ما منع عنه غير الإمام من ذلك فقد منع منه الإمام، فكذلك لما منع غير الإمام من الكلام في الخطبة كان الإِمام قد مُنع بذلك أيضًا من الكلام في الخطبة بما هو من غيرها. ش: "الباء" في "بغير الخطبة" تتعلق بقوله: "منهيًّا عن الكلام" لا بقوله: "يخطب" فافهم، و"الباء" في "بما هو من غيرها" تتعلق بقوله: "من الكلام" أي بالذي هو من غير الخطبة. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن مرزوق ومحمد بن سليمان الباغندي، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قرثع، عن سَلْمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرون ما الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، ثم قال: أتدرون ما الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم. ثم قال: أتدرون ما الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم. ثم قال: أتدرون ما الجمعة؟ قلت في الثالثة أو الرابعة: هو اليوم الذي جمع فيه أبوك قال: لا, ولكن أخبرك عن الجمعة، ما من أحدٍ يتطهر ثم يمشي إلى الجمعة ثم ينصت حتى يقضي الإِمام صلاته إلا كان كفارةً ما بينه وبين الجمعة التي قبلها ما اجتنبت المقتلة". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا الحمّاني، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي مَعْشر، عن إبراهيم، ثم ذكر بإسناده مثله.

ش: أي قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في منع الكلام وقت الخطبة ووجوب الإنصات أيضًا ما حدثنا ... إلى آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، ومحمد بن سليمان الباغندي كلاهما، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح ابن عبد الله اليشكري عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس النخعي، عن قرثع الضبي الكوفي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمَّد بن محمَّد التمار البصري، نا أبو الوليد الطيالسي، ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن زياد بن كليب، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قرثع، عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - عليه السلام -: "يا سلمان، هل تدري ما يوم الجمعة؟ قلت: هو الذي جمع الله فيه أبويكم. قال: لا, ولكن أحدثك عن يوم الجمعة، ما من مسلم يتطهر ويلبس أحسن ثيابه ويصيب من طيب أهله إن كان لهم طيب وإلا فالماء، ثم يأتي المسجد، فيُنصت حتى يخرج الإِمام، ثم يُصلي، إلا كانت كفارة له بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله". وأخرجه النسائي (¬2) مختصرًا. والآخر: عن أحمد بن داود المكي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي عوانة الوضاح، عن مغيرة بن مقسم، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن قرثع الضبيّ، عن سلمان ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عفان، قال: نا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قرثع الضبي، عن سلمان الفارسيّ ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 237 رقم 6089). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 518 رقم 1665). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 440 رقم 23780).

قال: قال رسول الله - عليه السلام - أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم. ثم قال: أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم. ثم قال: أتدري ما يوم الجمعة؟ زعم سأله الرابعة قال: قلت: هو اليوم الذي جُمِع فيه أبوه أو أبوكم. قال النبي - عليه السلام -: ألا أحدثك عن يوم الجمعة، لا يتطهر رجل مسلم ثم يمشي إلى المسجد ثم ينصت حتى يقضي الإِمام صلاته إلا كان كفارة لما بينها وبن الجمعة التي بعدها ما اجتنبت المقتلة". قوله: "أتدرون" الهمزة فيه للاستفهام وهو بصيغة الجمع هكذا، وفي رواية أحمد والطبراني كما ذكرناها "أتدري" بصيغة الإفراد، وهذه أصوب. قوله: "هو اليوم الذي جمع فيه أبوك" أراد أنه اليوم الذي جمع الله فيه بين آدم وحواء عليهما السلام، والدليل عليه ما جاء في رواية الطبراني: "هو الذي جمع الله فيه أبويكم"، وهذا جواب من سلمان عن سبب تسمية يوم الجمعة بالجمعة ولم يكن قصد النبي - عليه السلام - هذا فلذلك قال: "لا" وإنما كان قصده بيان فضيلة هذا اليوم، وبيان ما يحصل من الأجر والثواب لمنْ يتوجه إليها ويقضي حقوقها، فلذلك قال بالاستدراك "ولكن أخبرك عن الجمعة ... " إلى آخره. قوله: "إلا كان كفارةً ما بينه" أي إلا كان فعله المذكور من التطهر والمشي إلى الجمعة والإنصات إلى قضاء الإِمام صلاته كفارةً أي ساترةً لما يرتكبه من الذنوب فيما بينه وبين الجمعة التي كانت قبل هذه الجمعة. قوله: "ما اجْتَنَبتَ المقتلة" وفي رواية "ما اجْتُنِبَت المقتلة" بتأنيث الفعل ورفع المقتلة، وهكذا هي في روايتي أحمد والطبراني، والمقتلة -بالميم- مصدر ميمي بمعنى القتل. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن أبي أمامة حدثاه، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من اغتسل يوم الجمعة واستنّ ومسّ من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج

وابتكر حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس، ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإِمام، كانت له كفارة ما بينها وبين الجمعة التي قبلها". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسيّ، عن أحمد بن خالد بن موسى الوَهبي الكنْدي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التَّيْمي المدني روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، قيل: اسمه أسعد, وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته، والأول هو المشهور، روى له الجماعة، كلاهما عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومسّ من طيبٍ إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فلم يتخط رقاب الناس، ثم ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإِمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها". والآخر: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد التيمي المعروف بالعَيْشي شيخ أحمد وأبي داود، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 81 رقم 11785).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من اغتسل يوم الجمعة، واستاك، ولبس أحسن ثيابه، وتطيب من طيب أهله، ثم أتى المسجد فلم يتخط رقاب الناس، وصلى، فإذا خرج الإِمام أنصت، كان له كفارة ما بينها وبين الجمعة الأخرى". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من طريق الطيالسي نحوه. قوله: "واستنّ" أي: استاك من الاستياك، وهو استعمال السواك، وهو افتعال من الاستنان، أراد أنه يُمِرّ السواك عليها. واشتمل هذا الحديث على فوائد لا تخفى على مَنْ يستخرجها. ص: حدثنا إبراهيم بن مُنقذٍ، قال: ثنا ابن وَهْب، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة ثم مسّ من طيب امرأته، ولبس أصلح ثيابه، ولم يتخط رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما". ش: رجاله ثقات، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه" وبعد قوله: "لما بينهما": "ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له طهرًا". وأخرجه أبو داود (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 312 رقم 2364). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 231 رقم5680). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 231 رقم 5679). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 95 رقم 347).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مُسْهر، قال: ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من غسَّل واغتسل، وغدا وابتكر، ودنا من الإمام، فإنصت ولم يلغ، كان له مكان كل خطوة عمل سنة، صيامها وقيامها". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن يحيى بن الحارث، فذكر بإسناده مثله. ش: هذان إسنادان رجالهما ثقات: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغسّاني الدمشقي روى له الجماعة، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي الدمشقي فقيه الشام بعد الأوزاعي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن يحيى بن الحارث الذماري أبي عمرو الدمشقي قارئ أهل الشام وإمام جامع دمشق، وثقه يحيى وغيره، وروى له الأربعة، ونسبته إلى ذِمار بكسر الذال المعجمة وقيل بالفتح، وهي مدينة باليمن على مرحلتين من صنعاء، عن أبي الأشعث الصنعاني واسمه شراحيل بن آدة روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، عن أوْس بن أوس الثقفي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمود بن خالد، قال: حدثني عمر بن عبد الواحد، قال: سمعت يحيى بن الحارث يحدث، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس ابن أوس الثقفي، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "من غسَّل ... " إلى آخره نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي، عن يحيى بن الحارث الذماري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 102 رقم 1398).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: أنا وكيع، عن سفيان وأبي جناب يحيى بن أبي حبيب، عن عبد الله بن عيسى، عن يحيى بن الحارث، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اغتسل يوم الجمعة وغسَّل، وبكر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة؛ صيامها وقيامها". قال أبو عيسى: حديث أوس بن أوس حديث حسن. قوله: "من غسّل" قال ابن الأثير في "النهاية": ذهب كثير من الناس أن غسّل أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة؛ لأن ذلك يجمع غضّ الطرف في الطريق، يقال: غسَّل الرجل امرأته -بالتشديد والتخفيف- إذا جامعها وقد روي مخففًا، وقيل: أراد غسّل غيره واغتسل هو؛ لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلى الغسل، وقيل: أراد بغسّل غسّل أعضائه للوضوء ثم يغتسل للجمعة، وقيل: هما بمعنى واحد كرره للمبالغة. قوله: "وغدا" بالغين المعجمة من الغدو وهو سير أول النهار نقيض الرواح وقد غَدَا يَغْدُو غدوًّا، والغُدوة -بالضم- ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. قوله: "وابتكر" وقد وقع في بعض الروايات، "وبكر وابتكر" كما في رواية الترمذي، أما بَكَّر -بالتشديد- فمعناه أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيءٌ فقد بكّر إليه، وأما ابتكر فمعناه أدرك أول الخطبة، وأول كل شيء باكورته، وقيل: معنى اللفظتين واحد فعل وافتعل، وإنما كرر في بعض ألفاظ الحديث لأجل المبالغة. قوله: "ودنا من الإمام" أي قرب منه، من الدنوّ. قوله: "فأنصت" أي أصغى واستمع. قوله: "ولم يلغ" أي ولم يتكلم باللغو. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 367 رقم 496).

قوله: "صيامُها وقيامُها" بالرفع فيهما كلاهما على البدلية من "عملُ سَنَةٍ"، فافهم. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي، عن عبد الله بن وديعة، عن سلمان الخير، أن النبي - عليه السلام - قال: "لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ثم ادّهن من دهنٍ أو مسّ من طيب بيته، ثم راح فلم يفرق بين اثنين وصلّى ما كُتِب له، ثم يُنصت إذا تكلم الإِمام إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وابن أبي ذئب هو محمَّد بن الحارث بن أبي ذئب، وسعيد هو ابن أبي سعيد المقبري، ونسبته إلى مقبرة لسكناه بها، وأبوه كيْسان المقبري، وسلمان الخير هو سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبدان، قال: أنا عبد الله، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادّهن أو مسّ من طيبٍ، ثم راح، فلم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإِمام أنصت، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2). وابن ماجه (¬3) أيضًا بهذا الإسناد ولكن عن أبي ذر - رضي الله عنه -. قوله: "ويتطهر ما استطاع" أي قدر طاقته واستطاعته، من الطهارة الصغرى أو الكبرى. قوله: "ثم راح" معناه: ثم مشى إلى الصلاة وذهب إليها, ولم يُرد رواح آخر النهار، يقال: راح القوم وتروّحوا إذا ساروا أيّ وقت كان. قوله: "ما بينه" أي ما بين يومه ذلك وبين يوم الجمعة الأخرى، والمراد ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 308 رقم 868). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 177 رقم 21579). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 349 رقم 1097).

الذنوب التي لا مُطالب لها من جهة العباد، والله أعلم. ص: ففي هذه الآثار أيضًا الأمر بالإنصات إذا تكلم الإمام، فذلك دليل أن موضع كلام الإمام ليس بموضع صلاة، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأيناهم لا يختلفون أن من كان في المسجد قبل أن يخطب الإمام، فإن خطبة الإِمام تمنعه من الصلاة، فيصير بها في غير موضع صلاة؛ فالنظر على ذلك أن يكون كذلك داخل المسجد والإمام يخطب داخلًا له في غير موضع صلاة، فلا ينبغي أن يصلي، وقد رأينا الأصل المتفق عليه أن الأوقات التي تمنع من الصلوات يستوي فيها من كان قبلها في المسجد ومن دخل فيها المسجد في منعها إياهما من الصلاة، فلما كانت الخطبة تمنع مَن كان قبلها في المسجد من الصلاة كانت كذلك أيضًا تمنع من دخل المسجد بعد دخول الإمام فيها من الصلاة، فهذا وجه النظر في ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن سلمان وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص وأوس بن أوس. قوله: "فذلك" أي الأمر بالإنصات. قوله: "من طريق النظر" أي القياس. قوله: "فإنا رأيناهم" أي أهل المقالة الأولى وأهل المقالة الثانية. قوله: "ومن دخل فيها المسجد" أي في الأوقات التي تمنع من الصلوات. وقوله: "المسجد" منصوب؛ لأنه مفعول "دخل". وقوله: "فيها" حال، وهو من قبيل دخلت الدار، وكان القياس أن يؤتى بكلمة "في" ولكنهم تركها توسعًا.

قوله: "في منعها" أي في منع الأوقات المذكورة. قوله: "إياهما" يرجع إلى قوله: "مَن كان" وقوله: "ومَن دخل". قوله: "بعد دخول الإمام فيها" أي في الخطبة. قوله: "من الصلاة" يتعلق بقوله: "يمنع". ص: وقد رويت في ذلك آثار عن جماعة من المتقدمين. ثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وَهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن تَوْبة العنبري، قال: "قال لي الشعبيُّ: أرأيت الحسن حين يجيء وقد خرج الإمام فيصلي، عمّن أخذا هذا؟ لقد رأيت شريحًا إذا جاء وقد خرج الإِمام لم يصل". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: أخبرني عقيل، عن ابن شهاب: "في الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإِمام يخطبُ قال: يجلس ولا يُسبِّح". حدثنا أحمد بن الحسن، قال: ثنا علي بن عاصم، عن خالد الحذاء: "أن أبا قلابة الجَزميّ جاء يوم الجمعة والإمام يخطب فجلس ولم يُصل". حدثنا روح بن الفرج -رحمه الله-، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد الفهمي، قال: أنا ابن لهيعة، عن ابن هُبَيْرة، عن أبي المُصْعَب، عن عقبة بن عامر قال: "الصلاة والإمام على المنبر معصية". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القرظي: "أن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، وقال: إنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر حتى يسكت المؤذن، فإذا قام عمر - رضي الله عنه - على المنبر لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما، ثم إذا نزل عمر - رضي الله عنه - عن المنبر وقضى خطبتيه تكلموا".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسماعيل بن الخليل، قال: ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة قال: "رأيت عبد الله بن صفوان بن أمية دخل المسجدَ يوم الجمعة، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - يخطبُ على المنبر، وعليه إزار ورداء ونعلان وهو معتمّ بعمامة، فاستلم الركن، ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم جلس ولم يركع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم قال: "قيل لعلقمة: أتتكلم والإمام يخطب أو قد خرج الإمام؟ قال: لا. قال: فقال له رجل: أقرأ حزبي والإمام يخطب؟ قال: عسى أن يضرك ولعلك أن لا يضرك". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا عطاء قال: "كان ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - يكرهان الكلام والصلاة إذا خرج الإمام يوم الجمعة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: "أنه كره أن يُصلَّى والإمام يخطب". فقد روينا في هذه الآثار أن خروج الإمام يقطع الصلاة، وأن عبد الله بن صفوان جاء وعبد الله بن الزبير يخطب فجلس فلم يركع، فلم ينكر عليه عبد الله بن الزبير ولا مَن كان بحضرته من أصحاب رسول الله - عليه السلام - وتابعيهم، ثم قد كان شريح يفعل ذلك، ورواه الشعبي واحتج به على من خالفه، وشدَّ ذلك من الرواية عن رسول الله - عليه السلام - ما قدمنا ذكره، ثم النظر الصحيح ما قد وصفنا، فلا ينبغي ترك ما قد ثبت كذلك إلى غيره. ش: أي قد رويت في منع الصلاة للداخل والإمام يخطب آثار عن جماعة من المتقدمين من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -.

فمن الصحابة: عقبة بن عامر الجهني، وثعلبة بن أبي مالك القرظي حليف الأنصار أبو يحيى المدني إمام مسجد بني قريظة له رؤيةُ من النبي - عليه السلام -، وعبد الله ابن صفوان بن أمية المكي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. ومن التابعين: عامر بن شراحيل الشعبي، عن شريح القاضي، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام الثقات، وعلقمة ومجاهد بن جبر المكي. أما أثر عقبة بن عامر: فأخرجه عن روح بن الفرج القطان، عن عبد الله بن محمَّد بن إسحاق بن عبيد الفهمي المعروف بالبيطاري المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن عبد الله بن هبيرة الشيباني أبي هبيرة المصري روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي المُصعب واسمه مشرح بن هاعان المعافري المصري وثقه يحيى، عن عقبة بن عامر. قوله: "الصلاة" مبتدأ وخبره قوله: "معصية". وقوله: "والإمام على المنبر" جملة حالية معترضة، وإنما أطلق على هذه الصلاة معصيةً مبالغةً، وجه ذلك أن الصلاة في هذا الوقت تخلُّ بالإنصات المأمور به فيكون فيها تاركًا للأمر، وتارك الأمر يُسمّى عاصيًا، وفعله يُسمّى معصية. وأما أثر ثعلبة بن أبي مالك فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي المصري، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن ثعلبة بن أبي مالك ... إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبّاد بن العوام، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن عبد الله، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "أدركت عمر وعثمان - رضي الله عنه -، فكان الإِمام إذا خرج يوم الجمعة تركنا الصلاة، فإذا تكلم تركنا الكلام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 458 رقم 5296).

وأما أثر عبد الله بن صفوان: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن إسماعيل بن الخليل الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن علي بن مسهر عن هشام بن عروة ... إلى آخره. قوله: "وعبد الله بن الزبير يخطب" جملة اسمية وقعت حالًا، وكذا قوله: "وعليه إزار ورداء"، وكذا قوله: "وهو معتم بعمامة"، فافهم. وأما أثر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الله بن محمَّد بن علي النُفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء بن أبي رباح ... إلى آخره. وهؤلاء ثقات، ولكن تُكلم في الحجاج. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن نمير، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن عمر: "أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة يوم الجمعة بعد خروج الإِمام". وأما أثر الشعبي عن شريح: فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن توبة بن أبي الأسد العَنْبري، عن الشعبي وهو عامر بن شراحيل. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن نمير، قال: ثنا سفيان، عن توبة، عن الشعبي قال: "كان شريح إذا أتى الجمعة، فإن لم يكن خرج الإِمام صلى ركعتين، وإن كان خرج جلس واحتبى واستقبل الإِمام، فلم يلتفت يمينًا ولا شمالًا". وأما أثر الزهري: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 448 رقم 5175). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 448 رقم 5176).

البرلسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، عن الليث، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري "في الرجل يجيء يوم الجمعة والإمام يخطب: يجلس ولا يصلي". قوله: "ولا يُسبِّح" أي: ولا يصلي، من السُّبحة وهي الصلاة النافلة. وأما أثر أبي قلابة: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي ... إلى آخره. وأما أثر علقمة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: "قلت لعلقمة: متى يكره الكلام يوم الجمعة؟ قال: إذا صعد الإِمام المنبر، وإذا خطب الإِمام، وإذا تكلم الإِمام". وقال (¬3): ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: "قلت لعلقمة: أقرأُ في نفسي؟ قال: لعل ذلك أن لا يكون به بأس". قوله: "عسى أن يضرك" أراد به: إذا قرأ حزبه بغير إخفاء في نفسه، وأراد بقوله: "ولعلك أن لا يضرك" إذا قرأه في نفسه كما صرح به في رواية ابن أبي شيبة. وأما أثر مجاهد: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 447 رقم 5171). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 457 رقم 5293). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 456 رقم 5280).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، وعن سفيان، عن أبي إسحاق عن الحارث، عن علي، وعن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: "أنهم كرهوا الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة". وهي الآثار المذكورة عن جماعة من المتقدمين. قوله: "واحتج به على من خالفه" أراد به أن الشعبي احتج بما فعله شريح من تركه الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة على من خالفه وهو الحسن البصري، فافهم. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" فذكر في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان، سمع عامر بن عبد الله بن الزبير يخبر، عن عمرو بن سُلَيم، عن أبي قتادة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا أبو الأسود، قال: أخبرني بكر بن مضر، عن ابن عجلان، عن عامر بن عبد الله ... فدكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثني القعنبي، قال: ثنا مالك، عن عامر بن عبد الله ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير -يعني إبراهيم بن زكرياء- قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - مثله. قال: فهذا يدل على أنه ينبغي لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 447 رقم 5167).

قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت، إنما هذا على من دخل المسجد في حالٍ تحلُّ فيها الصلاة، وليس على من دخل المسجد في حالٍ لا تحل فيها الصلاة، ألا ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس، أو عند غروبها، أو في وقت من هذه الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أنه لا ينبغي له أن يُصلّى، وأنه ليس ممن أمره النبي - عليه السلام - أن يصلي ركعتين لدخوله المسجد؛ لأنه قد نهي عن الصلاة حينئذٍ، فكذلك الذي دخل المسجد والإمام يخطب ليس له أن يصلي، وليس ممن أمره النبي - عليه السلام - بذلك، وإنما يدخل في أمر رسول الله - عليه السلام - الذي ذكرت كل مَن لو كان في المسجد قبل ذلك، فآثر أن يصلي كان ذلك له، وأما مَن لو كان في المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلي حينئذٍ فليس بداخل في ذلك، وليس له أن يصلي؛ قياسًا على ما ذكرنا من حكم الأوقات المنهي عن الصلاة فيها التي وصفنا. ش: تقرير السؤال: أن قوله - عليه السلام -: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين" عام يتناول كل داخلٍ في المسجد سواء كان يوم الجمعة والإمام يخطب أو غيره، فإذا كان كذلك ينبغي لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن لا يجلس حتى يركع ركعتين. وتقرير الجواب: أن هذا الحديث مخصوص بحال من دخل المسجد في وقت تحلُّ له فيه الصلاة، وليس بمطلق، وذلك كالأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة نحو طلوع الشمس وغروبها واستوائها في الظهيرة، فإنه ليس لأحد أن يصلي تحية المسجد إذا دخله في وقت من هذه الأوقات، فلا يكون الداخل في المسجد في هذه الأوقات داخلًا تحت الأمر، وكذلك الداخل في حالة خطبة الإِمام ليس بداخل تحت هذا الأمر؛ لكون هذا الوقت غير صالح للصلاة كالأوقات المكروهة، وباقي الكلام ظاهر. قوله: "فآثر" بالمد أي اختار أن يصلي. ثم الحديث المذكور أخرجه من حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي، ومن حديث جابر بن عبد الله الأنصاري.

أما حديث أبي قتادة فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيَيْنة، عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم المكي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، والترمذي في "الشمائل". وهو يروي عن عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي المدني روى له الجماعة غير الترمذي، عن عمرو بن سليم بن عمرو الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المصري، عن بكر بن مضر، عن محمَّد بن عجلان، عن عامر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم، عن أبي قتادة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سُلَيْم، عن أبي قتادة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليصل ركعتين من قبل أن يجلس". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قَعْنب القعنبي، عن مالك بن أنس، عن عامر بن عبد الله، عن عمرو بن سُلَيم، عن أبي قتادة. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن عامر ابن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سُلَيْم الزرقي، عن أبي قتادة السُّلَمي، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 269 رقم 22582). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 170 رقم 433).

وأخرجه مسلم (¬1): عن القعنبي وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن القعنبي أيضًا، عن مالك. والترمذي (¬3): عن قتيبة، عن مالك. والنسائي (¬4) أيضًا: عن قتيبة، عن مالك. وابن ماجه (¬5): عن العباس بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬6) أيضًا والطبراني (¬7) وابن أبي شيبة (¬8)، وله زيادة حسنة بإسنادٍ جَيّدٍ: "أعطوا المساجد حقها، قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: ركعتين قبل أن يجلس". وزاد أبو أحمد الجرجاني: "وإذا دخل بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله -عز وجل- جاعل له من ركعتيه خيرًا" وإسناده منكر، وقال البخاري: هذه الزيادة لا أصل لها، وأنكر ذلك أيضًا ابن القطان. وأما حديث جابر بن عبد الله: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق الضرير إبراهيم بن زكرياء المعلم، فيه مقال كثير، فقال أبو حاتم: حديثه منكر. وقال ابن عدي: حدّث بالبواطيل. وقال الدارقطني: ضعيف. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 495 رقم 714). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 127 رقم 467). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 129 رقم 316). (¬4) "المجتبى" (2/ 53 رقم 735). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 324 رقم 1013). (¬6) "سنن الدارقطني" (2/ 13 رقم 2). (¬7) "المعجم الكبير" (3/ 241 رقم 3281). (¬8) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 299 رقم 3422).

وهو يروي عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح ذكوان، عن عامر ابن عبد الله بن الزبير ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1) معلقا، وقال: روى سُهيل بن أبي صالح هذا الحديث عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حديث غير محفوظ، والصحيح حديث أبي قتادة. ثم اعلم أن ركعتي المسجد سنة بإجماع المسلمين إلا ما روي عن داود وأصحابه وجوبها بظاهر الأمر. وليس كذلك؛ لأن الأمر محمول على الاستحباب والندب لقوله - عليه السلام - للذي سأله عن الصلوات: "هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع" وغير ذلك من الأحاديث، ولو قلنا بوجوبهما لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل به، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء لزم منه أن لا يجب عليه سجودهما عند دخوله، ثم إنه يصليهما إلا في وقت النهي عند أبي حنيفة وأصحابه وهو قول الأوزاعي والليث، وحكي ذلك أيضًا عن الشافعي، ومذهبه الصحيح أنه يصليهما في كل وقت، وهو قول أحمد وإسحاق والحسن ومكحول، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 130).

ص: باب: الرجل يدخل السجد والإمام في صلاة الفجر ولم يكن ركع, أيركع أم لا يركع؟

ص: باب: الرجل يدخل السجد والإمام في صلاة الفجر ولم يكن ركع, أيركع أم لا يركع؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم من يَدْخل المسجد والحال أن الإِمام في صلاة الصبح، والحال أنه ما صلى ركعتي الصبح، هل يصليهما ثم يدخل في صلاة الإِمام أم يتركهما فيدخل؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا عبد العزيز -قال أحمد الأصبهاني: إبراهيم بن إسماعيل- عن إسماعيل بن إبراهيم بن مجمّع الأنصاري، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: أخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح، ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا إبراهيم بن مرزوق، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد شيخ البخاري. والثاني: فيه إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع الأنصاري، ويقال: إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع أبو إسحاق المدني، وعن يحيى: ضعيف جدّا. وعنه: ليس بشيء. وأبو مُصْعب اسمه أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث الزهري المدني الفقيه قاضي المدينة النبوية وشيخ الجماعة سوى النسائي، وعبد العزيز هو الدراوردي. وهذا كما ترى قد أخرجه الطحاوي في الأول عن سليمان بن يسار، وفي الثاني عن عطاء بن يسار.

وأخرجه الجماعة غير البخاري كلهم عن عطاء بن يسار. فقال مسلم (¬1): حدثني يحيى بن حبيب الحارثي، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت عطاء بن يسار يقول: عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". وقال الترمذي (¬2): حديث أبي هريرة حديث حسن، وهكذا رواه أيوب وورقاء بن عمر وزياد بن سَعْد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن جحادة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، ورواه حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ولم يرفعاه، والحديث المرفوع أصح عندنا. وقال القاضي عياض: ولأجل هذا الاختلاف لم يخرّجه البخاري، وسيأتي الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا للرجل أن يركع ركعتي الفجر في المسجد والإمام في صلاة الفجر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وعروة بن الزبير، وعبد الله بن المبارك، والشافعي وأحمد، وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور، وكرهوا للرجل أن يركع ركعتي الفجر في المسجد والإمام في صلاة الفجر. وقال القاضي عياض: أخذ قوم بظاهر هذا الحديث، وهو قول أبي هريرة، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة، وإليه ذهب بعض الظاهرية ورأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة، وكلهم يقولون: لا يبتدئ نافلة بعد الإقامة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 493 رقم 710). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 282 رقم 421).

وذهب مالك إلى أنه إذا أقيمت عليه وهو في نافلة فإن كان ممن يخفّ عليه ويتمها بقراءة أم القرآن وحدها قبل أن يركع الإِمام أتمها وإلا قطع. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتمها. واختلفوا في صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصبح، فذهب جمهور السلف والعلماء إلى أنه لا يصليهما في المسجد، ثم اختلفوا هل يخرج لهما ويصلي خارجه أم لا؟ وهو قول جماعة من السلف جملة ويدخل في المكتوبة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد والطبري، إذا أقيمت عليه وهو في المسجد، وقول ابن سيرين: متى أقيمت عليه دون تفصيل. واختلف من أباح له الخروج لصلاتهما هل ذلك ما لم يخش فوات الركعة الأولى فإذا خشيها دخل مع الإِمام ولم يخرج، وهو قول مالك والثوري إذا أقيمت قبل أن يدخل المسجد. وقيل: إنما يُراعى فوات الآخرة، وقد روي هذا أيضًا عن مالك: أنه يصليهما وإن فاتته صلاة الإِمام إذا كان الوقت واسعًا، قاله ابن الجلاب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بان يركعهما غير مخالطٍ للصفوف ما لم يخف فوت الركعتين مع الإِمام. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد رحمهم الله. وقال القاضي عياض: وذهبت طائفة من السلف والفقهاء إلى أنه يصليهما في المسجد ما لم يخش فوات الركعة الأولى، فإن خشيها دخل مع الإِمام، وهذا قول الثوري، وقيل: يركعهما ما لم يخش فوات الركعة الثانية، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، وقد حكي عن أبي حنيفة أنه يركعهما عند باب المسجد. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأول أن ذلك الحديث الذي احتجوا به أصله عن أبي هريرة لا عن النبي - عليه السلام -، هكذا رواه الحفّاظ، عن عمرو بن دينار.

حدثثا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد بن سلمة وحماد ابن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة بذلك ولم يرفعه. فصار أصل هذا الحديث عن أبي هريرة لا عن النبي - عليه السلام -، وقد خالف أبا هريرة في ذلك جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، وسنذكر ما روي عنهم من ذلك في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، عن عبد الله بن عياش بن عباس القتباني، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت لها". فقد يجوز أن يكون أراد بهذا النهي أن يصلى غيرها في موطنها الذي تُصلّى فيه، فيكون مصليها قد وصلها بتطوع، فيكون النهي من أجل ذلك لا من أجل أن تُصلى في آخر المسجد ثم يتنحّى الذي يصليها من ذلك المكان فيخالط الصفوف ويدخل في الفريضة. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين -وهم أهل المقالة الثانية- على أهل المقالة الأولى: أن أصل حديث أبي هريرة الذي احتجوا به عن نفس أبي هريرة يعني هو موقوف عليه وليس بمرفوع إلى النبي - عليه السلام -؛ لأن الحفاظ من الرواة الأثبات روَوه عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة موقوفًا عليه، فإذا كان موقوفًا عليه ولم يكن من النبي - عليه السلام - وقد خالف أبا هريرة فيه جماعة من الصحابة - عليه السلام - على ما يجيء بيانه في آخر الباب، فإذن لا تقوم به حجة لأهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. ثم بيّن طريق الوقف بما أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عمر الضرير وهو حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، وهو يروي عن الحافظين الكبيرين حماد بن سلمة وحماد بن زيد، وكلاهما يرويان عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة بذلك ولم يرفعاه.

وقال البزار في "مسنده": حدثنا محمَّد بن عبد الملك القرشي، نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة موقوفًا. قلت: وكذا رواه أيوب، عن عمرو بن دينار موقوفًا. فقال البزار: حدثنا أحمد بن مالك القَسْري، نا عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة موقوفًا. ورواه عبد الوهاب الثقفي عن أيوب موقوفًا. فقال البزار: حدثنا به محمَّد بن المثنى، نا عبد الوهاب بن عبد المجيد، نا أيوب، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة موقوفًا. وكذا رواه سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار موقوفًا. وقال البزار: نا أحمد بن عَبْدة، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". فهذا كما رأيت قد رواه موقوفًا مثل هؤلاء الحفاظ، وهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأيوب السختياني وسفيان بن عيينة، كلهم قد رووه عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ولم يرفعوه. فإن قيل: قد رواه الجماعة غير البخاري: مرفوعًا، وقال الترمذي: الرفع أصح. قلت: يكفيك أن البخاري لم يُخرّجه لأجل هذا الاختلاف؛ إذ لو كان الرفع فيه صحيحًا لأخرجه، والحفاظ المذكورون أوقفوه فالمرجع إليه أولى. ولما كان ها هنا إيراد من أهل المقالة الأولى بما رواه أبو سلمة، عن أبي هريرة ذكره ها هنا ليجيب عنه، تقريره أن يقال: إنكم قد دفعتم الاحتجاج بما رواه عمرو بن دينار، عن عطاء، عن أبي هريرة بأنه موقوف عليه، فما تقولون فيما رواه أبو سلمة، عن أبي هريرة فإنه مرفوع بلا خلاف.

أخرجه الطحاوي: عن فهد بن سليمان، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، عن الليث بن سعد، عن عبد الله بن عياش -بالياء المشددة آخر الحروف وبالشين المعجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القتباني -بكسر القاف وسكون التاء المثناة من فوق وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف نون- عن أبيه عياش بن عباس القِتْباني الحِمْيري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حَسن، نا ابن لهيعة، نا عياش بن عباس القتباني، عن أبي تميم الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت". وتقرير الجواب: هو ما أشار إليه بقوله: "فقد يجوز أن يكون أراد ... " إلى آخره، وهو ظاهر. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه معلول بعبد الله بن عياش؛ فإن أبا حاتم قال فيه: ليس بالمتين، صدوق يكتب حديثه، وهو قريب من ابن لهيعة. وقال أبو داود والنسائي: ضعيف. وفيه نظر؛ لأن مسلمًا أخرج له حديثًا واحدًا وكفى به توثيقًا، وكذا روى له ابن ماجه. ص: وكان مما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا: ما قد حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا حماد، عن سعد بن إبراهيم، عن حفص بن عاصم، عن مالك بن بُحَينة أنه قال: "أقيمت صلاة الفجر، فأتى النبي - عليه السلام - على رجل يصلي ركعتي الفجر، فقام عليه ولاث به الناس، فقال: أتصليها أربعًا؟ ثلاث مرات". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 352 رقم 8608).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن سَعْد ... فذكر مثله بإسناده، غير أنه لم يقل: "ولاث به الناس". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده نحوه غير أنه لم يقل: "ثلاث مرات". فلأهل المقالة الأخرى على أهل هذه المقالة أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - إنما كره ذلك لأنه صلى الركعتين ثم وصلهما بصلاة الصبح من غير أن يكون تقدم أو تكلم، فإن كان لذلك قال له ما قال؛ فإن هذا حديث يجتمع فيه الفريقان جميعًا عليه، فأردنا أن ننظر هل روي في ذلك شيء من ذلك؟ فإذا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن عبد الرحمن: "أن رسول الله - عليه السلام - مرّ بعبد الله بن مالك بن بحينة وهو منتصبٌ يصلي بين يدي نداء الصبح فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها واجعلوا بينهما فَصْلًا". فبيّن هذا الحديث أن الذي كرهه رسول الله - عليه السلام - لابن بُحينة هو وَصْله إياها بالفريضة في مكان واحدٍ لم يفصل بينهما بشيء؛ ليس لأنه كره له أن يُصليهما في المسجد إذا كان فرغ منهما تقدَّم إلى الصفوف فصلى الفريضة مع الناس. ش: أي: وكان من الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه: حديث مالك بن بُحينة، قال أبو عمر: هو مالك بن القشب الأزدي والد عبد الله بن مالك بن بُحَيْنة، وبُحَيْنة أمه، ولعبد الله بن مالك ولأبيه صحبه، وبُحَينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤذن روى له الجماعة، عن حماد بن سلمة، عن سعد بن إبراهيم بن

عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبي إسحاق المدني روى له الجماعة، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - روى له الجماعة، عن مالك بن بحينة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: ثنا إبراهيم بن سَعْد، عن أبيه، عن حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالك بن بحينة قال: "مرَّ النبي - عليه السلام - برجل. قال: وحدثني عبد الرحمن، قال: ثنا بهز بن أسد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت حفص بن عاصم قال: "سمعت رجلًا من الأزد يقال له مالك بن بحينة أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - عليه السلام - لاث به الناس وقال له رسول الله - عليه السلام -: الصبح أربعًا؟! الصبح أربعًا؟! ". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حفص بن عاصم، عن مالك بن بحينة ... فذكر الحديث مثله بإسناده ولم يقل فيه: "ولاث به الناس". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، نا أبو عوانة، عن سَعْد بن إبراهيم، عن حفص بن عاصم، عن ابن بُحَينة قال: "أقيمت الصلاة الصبح، فرأى رسول الله - عليه السلام - رجلًا يصلي والمؤذن يقيم، فقال النبي - عليه السلام -: أتصلى الصبح أربعًا؟ ". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سَعْد بن إبراهيم ... إلى آخره مثله، ولم يقل فيه: "مرات". وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن أبي عوانة ... إلى آخر ما رواه مسلم، وليس فيه: "مرات". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 235 رقم 632). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 494 رقم 711). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 301 رقم 939).

وقال عبد الغني: روى النسائي حديثًا في سجود السهو بإسناده إلى محمَّد بن يحيى بن حيان، عن مالك بن بحينة. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب عبد الله بن مالك بن بحينة. وقال صاحب "التهذيب": مالك بن بحينة حديث: "أتصلي الصبح أربعًا" روى له البخاري والنسائي، وقال: هذا خطأ والصواب: عبد الله بن مالك بن بحينة. وقال ابن الأثير: قال القعنبي: عبد الله بن مالك بن بحينة، عن أبيه، قال: وقولهم في هذا الحديث: عن أبيه. خطأ. وقد ذكرنا أن البخاري (¬1) أخرج الحديث المذكور من حديث حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالك بن بحينة قال: "مرّ النبي - عليه السلام -". ثم قال: عن حفص بن عاصم: سمعمت رجلًا من الأزد يقال له مالك بن بحينة أن رسول الله - عليه السلام - ... ثم قال في آخره: تابعه غندر ومعاذ عن شعبة في مالك. وكذا أخرجه مسلم (¬2): من حديث حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالك ابن بحينة: "أن رسول الله - عليه السلام -"، وقال أيضًا: عن حفص بن عاصم، عن ابن بحينة كما ذكرناه. وقال أبو مسعود الدمشقي: أهل العراق يقولون: عن مالك بن بحينة، وأهل الحجاز قالوا في نسبه: عبد الله بن مالك بن بُحَيْنة، وهو الأصح. وقال الجياني: قول أصحاب شعبة: مالك بن بحينة والد عبد الله. قوله: "ولاث به الناس" أي اجتمعوا حوله يقال: لاث به يَلُوثُ وأَلَاث بمعنًى، والمَلاث: السيد ثلاث به الأمور، أي: تُقْرَن به وتعقد. قوله: "أتصليها" الهمزة فيه للاستفهام. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 235 رقم 632). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 493 رقم 711).

قال القاضي عياض: هذه إشارة إلى علة المنع حماية للأربعة؛ لئلا يطول الأمر ويكثر ذلك فيظن الظانّ أن الفرض قد تغير. قوله: "ولأهل المقالة الأخرى ... " إلى آخره جواب عن الحديث المذكور. تقريره أن يقال: إن إنكار النبي - عليه السلام - على ذلك الرجل الذي صلى ركعتي الفجر حين أقيمت صلاة الفجر وكراهته إياها يحتمل أن يكون ذلك لكونه صلى الركعتين ثم وصلهما بصلاة الصبح من غير فصل بينهما بتقدم إلى الصفوف أو كلام أو نحو ذلك، فإذا كان هذا الاحتمال هو العلة في ذلك يكون الحديث مما يجتمع عليه الفريقان وهم الأخصام؛ لأن كلا منهما يكره هذا الفعل فلا يكون حينئذٍ حجةً لأحدهما على الآخر. ثم أقام الدليل علي كون هذا الاحتمال الذي ذكره علة، وأن النهي لأجل هذا الاحتمال بقوله: "فأردنا أن ننظر ... " إلى آخره؛ فإنه أخرج حديثًا يدلك على ذلك عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري روى له الجماعة سوى أبي داود، عن علي بن المبارك الهنائي البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي أبي نصر اليمامي روى له الجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري المدني روى له الجماعة: "أن رسول الله - عليه السلام - مرّ بعبد الله بن مالك بن بُحَيْنة ... " إلى آخره. وهذا كما رأيت ذكر الطحاوي في روايته الأولى مالك بن بحينة، وفي هذه الرواية عبد الله بن مالك بن بحينة، وقد ذكرنا عن قريب ما قالوا فيه. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن يحيى ابن أبي كثير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عبد الله بن مالك بن بحينة: "أن النبي - عليه السلام - مَرّ به وهو يصلي يطَوِّل في صلاته أو نحو هذا بين ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 345 رقم 22977).

يدي صلاة الفجر، فقال له النبي - عليه السلام -: لا تجعلوا هذه مثل صلاة الظهر قبلها وبعدها، اجعلوا بينهما فَصْلًا" انتهى. فبيّن في هذا الحديث أن الذي كرهه رسول الله - عليه السلام - لمالك بن بحينة في الحديث السابق هو وصله إياها بالفريضة في فرد مكان ولم يفصل بينهما بشيء من المتقدم أو الكلام، وليس ذلك لكونه قد صلاهما في المسجد بحيث إنه إذا فرغ منهما يتقدم إلى الصفوف ويصلي الفرض مع القوم. قوله: "وهو منتصب" جملة حالية، وكذلك قوله: "يصلي". قوله: "بين يدي نداء الصبح" أراد به إقامة صلاة الفجر، وفي رواية "بين يدي صلاة الصبح". قوله: "واجعلوا بينهما" أي بين ركعتي الفجر وبين صلاة الفجر، وأراد بالفصل مثل الكلام، ومثل المتقدم من آخر المسجد إلى الصفوف حين يصلي ركعتي الفجر في آخر المسجد. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن رسول الله - عليه السلام - في غير هذا الحديث. حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، قال: ثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة البكراويُّ، قال: ثنا ابن جريج، عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار: "أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد يسأله: ماذا سمع من معاوية في الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما فرغت قمت لأتطوع، فأخذ بثوبي فقال: لا تفعل حتى تَقَدّم أو تَكَلَّمُ، فإن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا عبيد الله بن المغيرة، عن صفوان مولى عمرو، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تُدَابروا

الصلاة المكتوبة بنافلة حتى يكون بينهما فاصلٌ من تقدم إلى مكان آخر أو غير ذلك". ش: أي قد روي مثل الحديث المذكور مما يدلّ على أنه ينبغي من الفصل بين الفرض والنفل الذي يصلى بعده، وأخرج ذلك عن اثنين من الصحابة وهما معاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. أما حديث معاوية: فأخرجه من طريقين: أحدهما: عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ شيخ أبي داود والطبراني أيضًا، عن أبي الأشهب هوذة بن خليفة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكرة الثقفي البكراوي الأصم البصري، فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له ابن ماجه. عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار -بضم الخاء المعجمة- المكي، وثقه يحيى وأبو زرعة وروى له مسلم وأبو داود، عن نافع بن جبير بن مطعم المدني روى له الجماعة، عن السائب بن يزيد بن سعيد الأسدي له ولأبيه صحبة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق وابن بكرٍ، قالا: نا ابن جريج، أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار: "أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، قال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلّم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليّ فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج، فإن نبي الله - عليه السلام - أمر بذلك". والطريق الآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 95 رقم 16912).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج (ح). وحدثنا علي بن عبد العزيز، نا هوذة بن خليفة، نا ابن جريج، أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار: "أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد يسأله عن شيء رآه منه معاوية ... " إلى آخره نحو رواية أحمد. قوله: "في المقصورة" أراد بها مقصورة الجامع. قوله: "حتى تقدّمُ" بضم الميم، وأصله: تتقدم فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، وكذلك قوله: "تكلم" أصله: تتكلم. قوله: "كان يأمر بذلك" أي بالفصل بين صلاة الجمعة وبين السنة التي بعدها، وذلك لئلا يظن الجاهل أنها من الفرض كما ذكرناه. وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن عبد الله بن المغيرة بن مُعَيْقيب السَّبائي المصري، قال أبو حاتم: صدوق. روى له الترمذي وابن ماجه. عن صفوان مولى عمرو بن علي وثقه ابن حبان، عن أبي هريرة. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". قوله: "لا تُدَابِرُوا الصلاة المكتوبة بمثلها من التسبيح" أي لا تجعلوا دبر الصلاة المفروضة مثلها من صلاة التطوع، وأراد أنه لا يُصلّى عقيب الفرض مثله من التطوع في مقام واحد، وأراد بالتسبيح: صلاة النفل، من السُّبْحة وهي النافلة. قوله: "فنهى رسول الله - عليه السلام -" أي: نهى رسول الله - عليه السلام - عن وصل الفرض بنافلة مثل الفرض حتى يكون بينهما فاصل إما بكلام أو تقدم إلى مكان آخر أو تأخر إلى ورائه، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 315 رقم 712).

وأخرج الحديثين المذكورين في المتابعات تأكيدًا لمعنى حديث مالك بن بحينة، فافهم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عبد الله ابن سَرجس: "أن رجلًا جاء ورسول الله - عليه السلام - في صلاة الصبح، فركع ركعتين -في حديث حماد بن سلمة: خلف الناس- ثم دخل مع النبي - عليه السلام - في الصلاة، فلما قضى النبي - عليه السلام - صلاته فقال: نافلة؟ " أي: أجعلت صلاتك التي صليت معنا أو التي صليت وَحْدَك. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم ... فذكر بإسناده مثله. قالوا: ففي هذا الحديث أنه صلاهما خلف الناس، وقد نهاه رسول الله - عليه السلام - عنهما. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن سرْجس. أخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، وحماد بن زيد كلاهما، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرْجس ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو كامل الجَحْدري، قال: نا حماد -يعني ابن زيد- وحدثني حامد بن عمر البكراوي، قال: ثنا عبد الواحد -يعني ابن زياد-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 494 رقم 712).

ونا ابن نمير، قال: نا أبو معاوية، كلهم عن عاصم الأحول. وحدثني زهير بن حرب واللفظ له، قال: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال: "دخل رجل المسجد ورسول الله - عليه السلام - في صلاة الغداة، فصل ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله - عليه السلام -، فلما سلَّم رسول الله - عليه السلام - قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ ". وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب، نا حماد، عن عاصم، عن عبد الله بن سرْجس قال: "جاء رجل والنبي - عليه السلام - يصلي الصبح، فصلى الركعتين ثم دخل مع النبي - عليه السلام - في الصلاة، فلما انصرف قال: يا فلان، أيتهما صلاتك؟ التي صليت وحدك؟ أو التي صليت معنا؟ ". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضُبَعي، عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس. وأخرجه النسائي (¬2): أنا يحيى بن حبيب بن عربي، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عاصم، عن عبد الله بن سرجس قال: "جاء رجل ورسول الله - عليه السلام - في صلاة الصبح، فركع الركعتين ثم دخل، فلما قضي رسول الله - عليه السلام - صلاته قال: يا فلان أيهما صلاتك؟ التي صليت معنا؟ أو التي صليت لنفسك؟ ". الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن عاصم. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس: "أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا يصلي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 22 رقم 1265). (¬2) "المجتبى" (2/ 117 رقم 868). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 364 رقم 1152).

الركعتين قبل صلاة الغداة وهو في الصلاة، فلما صلى قال له: بأي صلاتيك اعتددت؟ ". قوله: "قالوا" أي أهل المقالة الأولي "ففي هذا الحديث" أي حديث عبد الله بن سرجس "أنه" أي أن ذلك الرجل "صلاهما" أي ركعتي الصبح خلف الناس "وقد نهاه رسول الله - عليه السلام - عنهما" فهذا يرد ما ذهبتم إليه من أنه يصليهما خلف الناس ثم يدخل في صلاة القوم مع الإِمام. ص: فمن الحجة عليهم للآخرين أنه قد يجوز أن يكون قوله: "كان خلف الناس" أي كان خلف صفوفهم لا فصل بينه وبينهم، فكان شبه المخالط لهم، فذلك أيضًا داخل في معنى ما بان من حديث ابن بُحَيْنة، وذلك مكروه عندنا، وإنما يجب أن يصليهما في مؤخر المسجد ثم يمشي من ذلك المكان إلى أول المسجد فأما أن يصليهما مخالطًا لِمَنْ يُصلي الفريضة فلا. وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة، قال: كان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: "يا أيها الناس، ألا تتقون الله، افصلوا بين صلاتكم. قال: وكان ابن عباس لا يصلي الركعتين بعد المغرب إلا في بيته"، فأراد عبد الله بن عباس منهم الفصل بين الفريضة والتطوع. وذلك الذي أريد في حديث أبي هريرة وابن بُحَينة وعبد الله ابن سرجس - رضي الله عنه -، ونحن نستحب أيضًا الفصل بين الفرائض والنوافل بما أمر به رسول الله - عليه السلام - فيما روينا في هذا الباب، ولا نرى بأسًا لمن يكن ركع ركعتي الفجر حتى جاء المسجد وقد دخل الإمام في صلاة الصبح أن يركعهما في مؤخر المسجد، ثم يمشي إلى مُقدّمه فيصلي مع الناس، ألا ترى أن ذلك لو كان في ظهرٍ أو عصرٍ أو عشاء لم يكن به بأسٌ ولا يكون فاعلُ ذلك واصلًا بين فريضة وتطوع، فكذلك إذا كان في صبحٍ فلا بأس به ولا يكون فاعله واصلًا بين فريضة وتطوع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا جواب عن الحديث المذكور، أي: فمن الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى للجماعة الآخرين وهم أهل المقالة الثانية. تقريره أن يقال: قد يجوز أن يكون قوله: "كان خلف الناس" أي كان خلف صفوفهم كالمخالط لهم، فنحن أيضًا نقول بمنع مثل هذا كما قلنا في حديث مالك بن بحينة، وإنما الواجب أن يصليهما في آخر المسجد ثم يمشي من ذلك المكان إلى أول المسجد ويختلط بالصفوف، وأما أنه إذا صلاها مخالطًا بآخِر الصفوف فليس له ذلك ولا يقول به أحد، فبان أن إنكاره - عليه السلام - إنما كان لأجل وصله إياهما بالفريضة في مكان واحد دون أن يفصل بينهما بشيء يسيرٍ، وهذا مثل ما نهى من صلى الجمعة أن يصلي بعدها تطوعًا في مكان واحدٍ حتى يتكلم أو يتقدم. على أنه قد روي ما يدل على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية وهو ما رواه البيهقي (¬1) من طريق حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر". فإن قيل: قد قال البيهقي: إن هذه الزيادة لا أصل لها، وحجاج وعباد ضعيفان. قلت: قال عثمان بن شيبة عن يحيى بن معين: كان شيخًا صدوقًا. يعني الحجاج، وأما عباد فقد وثقه يحيى بن معين فقال: عباد الرملي الخوَّاص ثقة، والله أعلم. قوله: "وقد حدثنا ابن مرزوق ... " إلى آخره، ذكر هذا تأييدًا للتأويل الذي ذكره في حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه -؛ لأن قول ابن عباس: "افصلوا بين صلواتكم" يدل على أن المنع الذي ذكره أهل المقالة الأولى مستدلين بالأحاديث ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 483 رقم 4326).

المذكورة إنما هو إذا كان واصلًا بين الفريضة والتطوع، وأما إذا كان فاصلًا بينهما فلا يُمنع من ذلك؛ لأن معنى قوله: "افصلوا بين صلاتكم" فرَّقوا بين الفريضة والتطوع لئلا يشتبه على الجاهل أن التطوع من الفرض، ولأجل هذا المعنى كان عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - يصلي ركعتي المغرب في بيته ليكون فاصلًا بين الفرض والسنة، وهذا المعنى هو المراد في حديث أبي هريرة ومالك بن بحينة وعبد الله بن سرجس - رضي الله عنهم -. وأخرج الأثر المذكور عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب، عن شعبة ابن دينار القرشي الهاشمي مولى ابن عباس، فيه مقال، فعن مالك: ليس بثقة. وعن النسائي: ليس بالقوي. وعن يحيى بن معين: ليس به بأس، وروى له ابن ماجه حديثًا واحدًا في الغسل من الجنابة. ص: وقد روي ذلك عن جلة من المتقدمين: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي موسى، عن أبيه: "أنه حين دعاهم سعيد بن العاص دعا أبا موسى وحذيفة وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - قبل أن يصلي الغداة، ثم خرجوا من عنده وقد أقيمت الصلاة، فجلس عبد الله إلى اصطوانة من المسجد فصلى ركعتين، ثم دخل في الصلاة". فهذا عبد الله قد فعل هذا ومعه حذيفة وأبو موسى لا ينكران ذلك عليه، فدل ذلك على موافقتهما إياه. حدثنا سليمان، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي موسى، عن عبد الله: "أنه دخل المسجد والإمام في الصلاة، فصلى ركعتي الفجر".

حدثنا أحمد بن عبد المؤمن الخراساني، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: أنا الحسين بن واقدٍ، قال: ثنا يزيدُ النحوي، عن أبي مجلز قال: "دخلت المسجد في صلاة الغداة مع ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - والإمام يصلي، فأمّا ابن عمر فدخل في الصفِّ، وأما ابن عباس فصلّى ركعتين، ثم دخل مع الإِمام، فلما سلم الإِمام قعد ابن عمر مكانه حتى طلعت الشمس، فقام فركع ركعتين". فهذا ابن عباس قد صلى الركعتين في المسجد والإمام في صلاة الصبح، وقد روى شعبة مولاه عنه أنه كان يأمر الناس بالفصل بين الفرائض والنوافل، وقد عد نفسه إذ صلى ركعتي الفجر في بعض المسجد ثم دخل مع الناس في الصلاة فاصلًا بينهما، فكذلك نقول. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: أنا مُطرِّف بن طَرِيفٍ، عن أبي عثمان الأنصاري قال: "جاء عبد الله بن عباس والإمام في صلاة الغداة ولم يكن صلّى الركعتين، فصلى عبد الله بن عباس الركعتين خلف الإِمام ثم دخل معهم". وقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثل ذلك أيضًا: حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهدٌ، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن محمَّد بن كعْبٍ أنه قال: "خرج عبد الله بن عمر من بَيْته، فأقيمت الصلاة، فركع ركعتين قبل أن يدخل المسجد وهو في الطريق، ثم دخل المسجد فصلى الصبح مع الناس". فهذا وإن كان لم يصلهما في المسجد فقد صلاهما بعد علمه بإقامة الصلاة في المسجد، فذلك خلاف قول أبي هريرة: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" إن كان معناه ما صرفه إليه أهل المقالة الأولى. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مالك بن مِغْول، قال: سمعت نافعًا يقول: "أيقظتُ ابن عُمر لصلاة الفجر وقد أقيمت الصلاة، فقام فصلى ركعتين".

حدثنا عليُّ بن شيبة، قال: ثنا الحسن بن موسى، قال: ثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: "أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة - رضي الله عنها -، ثم إنه صلى مع الإمام". ففي هذا الحديث عن ابن عمر أنه صلاهما في المسجد؛ لأن حجرة حفصة - رضي الله عنها - من المسجد. فقد وافق ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن مسْعر، عن عبيد بن الحسن، عن أبي عبيد الله، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "أنه كان يدخل المسجد والناس صفوفٌ في صلاة الفجر، فيصلي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل مع القوم". حدثنا أبو بشر الرقي، ثنا أبو معاوية، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أنه كان يفعل ذلك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن أبي عبد الله، عن جَعْفر، عن أبي عثمان النهدي قال: "كنا نأتي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل أن نصلي الركعتين قبل الصبح وهو في الصلاة، فنصلي الركعتين في آخر المسجد ثم ندخل مع القوم في صلاتهم". حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بُكير، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: حدثني عاصم، عن أبي عثمان قال: "كنا نجيء وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاة الصبح فنركع الركعتين في جانب القوم، ثم ندخل معه في الصلاة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حُصَين، قال: سمعت الشعبي يقول: "كان مَسْروق يجيء إلى القوم وهم في الصلاة ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فيصلي الركعتين في المسجد ثم يَدْخل مع القوم في صلاتهم".

حدثنا أبو بشرٍ، قال: ثنا أبو معاوية عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن مسروق: أنه فعل ذلك، غير أنه قال: "في ناحية المسجد". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، أنه كان يقول: "إذا دخلت المسجد ولم تُصل ركعتي الفجر فصلهما وإن كان الإمام يصلي، ثم ادخل مع الإمام". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، قال: كان الحسن يقول: "ليصلهما في ناحية ثم يدخل مع القوم في صلاتهم". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حُصين وابن عون، عن الشعبي، عن مسروق: أنه فعل ذلك. ش: أي قد روي ما ذكرنا من أن الرجل إذا جاء المسجد وقد دخل الإِمام في صلاة الصبح أنه يصلي ركعتي الفجر في مؤخر المسجد، ثم يمشي إلى مقدمه فيصلي مع الناس؛ عن جلة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. و"الِجلَّة" بكسر الجيم وتشديد اللام: جمع جليل بمعنى عظيم، كصبية جمع صبي. وأخرج ذلك عن أربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمر وأبو الدرداء، وعن أربعة من التابعين (¬1)، وهم: أبو عثمان النهدي، ومسروق بن الأجدع، والحسن البصري. أما أثر ابن مسعود فأخرجه من ثلاث طرق صحيحة: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرّصاصي الثقفي وثقه أبو حاتم، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله ¬

_ (¬1) بل هم ثلاثة فقط من التابعين.

السبيعي الهمداني، عن عبد الله بن أبي موسى (¬1). وأخرج عبد الرزاق مختصرًا (¬2): عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي موسى، عن ابن مسعود: "أنه جاء والإمام يصلي الفجر، فصلى ركعتين إلى سارية ولم يكن صلى ركعتي الفجر". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب: "أن ابن مسعود وأبا موسى خرجا من عند سعيد بن العاص، فأقيمت الصلاة، فركع ابن مسعود ركعتين ثم دخل مع القوم في الصلاة، وأما أبو موسى فدخل في الصفّ". قلت: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، قتل أبوه كافرًا يوم بدرٍ قتله عليُّ - رضي الله عنه -، ونشأ سعيد في حجْر عثمان - رضي الله عنه - وكان عمره يوم مات رسول الله - عليه السلام - تسع سنين، وكان من سادات المسلمين والكرام المشهورين، وكان من عمال عمر - رضي الله عنه - على السواد، توفي في سنة ثمان وخمسين من الهجرة. الثاني: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن أبي موسى، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه عبد الرزاق (¬4): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي موسى قال: "جاءنا ابن مسعود والإمام يصلي الفجر، فصلى ركعتين إلى سارية، ولم يكن صلى ركعتي الفجر". ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقد ذكر الإِمام مسلم -رحمه الله- في "المنفردات والوحدان" (1/ 128) فيمن تفرد عنه أبو إسحاق السبيعي بالرواية. ونسبه بالأشعري. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 444 رقم 4022). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 57 رقم 1415). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 444 رقم 4021).

الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرّقي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن أبي مالك الأشجعي واسمه سَعْد بن طارق، عن أبي عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود. قوله: "كان يفعل ذلك" أي ما ذُكِرَ في الأثر الذي قبله، وهو أن أبا الدرداء كان يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر، فيصلي ركعتين ثم يدخل مع القوم في الصلاة. وأما أثر عبد الله بن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أحمد بن عبد المؤمن الخراساني، عن علي بن الحسن بن شقيق، عن الحسن بن واقد، عن يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي ونسْبته إلى نَحوْ قبيلة من الأزد يقال لهم بنو نحوْ، وليس من نحو العربية، عن أبي مجلز لاحق بن حميد ... إلى آخره. قوله: "وقد روى شعبة مولاه عنه" أي شعبة الذي هو مولى ابن عباس روى عن ابن عباس. قوله: "وقد عدّ نفسه" أي ابن عباس، و"الواو" للحال. وقوله: "فاصلًا" مفعول ثانٍ لقوله: "عدّ"، فافهم. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عمر الضرير واسمه حفص بن عمر شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي أبي زيد المروزي روى له الجماعة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي عثمان الأنصاري المدني ثم الخراساني قاضي مرو، واسمه عمرو بن سالم، وقيل: ابن سلم، وقيل: ابن سُلَيْم، وقيل: ابن سَعْد، وقيل: اسمه عمرو. قال الحاكم أبو أحمد: هو معروف بكنيته ولا أحق في اسمه واسم أبيه شيئًا، وثقه ابن حبان وأبو داود وروى له والترمذي أيضًا.

وأما أثر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن محمَّد ابن كعب بن سليم بن أسد القرظي المدني روى له الجماعة. الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن مالك بن مِغْول، عن نافع. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن دلهم بن صالح، عن وَبْرَة قال: "رأيت ابن عمر يفعله، أو حدثني من رآه فعله مرتين، جاء مرةً وهم في الصلاة فصلاهما في جانب المسجد، ثم دخل مرةً أخرى فصلى معهم ولم يصلهما". الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن الحسن بن موسى الأشيب البغدادي قاضي طبرستان روى له الجماعة، عن شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن زيد بن أسلم. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن عبد الله بن عمر، عن نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنه - بينما هو يلبس للصبح إذ سمع الإقامة فصلى في الحجرة ركعتي الفجر ثم خرج فصلى مع الناس". وأما أثر أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن مِسعر بن كدام، عن عبيد بن الحسن المزني الكوفي، عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم الخزاعي الدمشقي كاتب أبي الدرداء. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 57 رقم 6419). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 443 رقم 4019).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن مسعر، عن الوليد بن أبي مالك، عن أبي عبيد الله، عن أبي الدرداء قال: "إني لأجيء إلى القوم وهم صفوف في صلاة الفجر فأصلي الركعتين ثم أنضم إليهم". وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن موسى، قال: بلغنا عن أبي الدرداء أنه كان يقول: "نعم، والله لئن دخلت والناس في الصلاة لأعمدن إلى سارية من سواري المسجد ثم لأركعنهما، ثم لأكمِلنَّهما، ثم لا أعجل عن إكمالهما، ثم أمشي إلى الناس فأصلي مع الناس الصبح". وأما أثر أبي عثمان النَّهْدي واسمه عبد الرحمن بن ملّ، ونسبته إلى نَهْد بالنون وسكون الهاء (¬3). فأخرجه من طريقين: أحدهما: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي روى له الجماعة، واسم أبي عبد الله سُنْبَر، عن جعفر بن ميمون الأنماطي بياع الأنماط أبي علي، فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس بذاك. وعنه: صالح الحديث. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. الثاني: عن روح بن الفرج القطان ... إلى آخره. ورجاله ثقات ذكروا غير مرة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 57 رقم 6421). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 443 رقم 4020). (¬3) بيض له المؤلف -رحمه الله- وقد ذكره السمعاني في "الأنساب" (5/ 542) وقال: وأبو عثمان بن ملّ بن عمرو بن عدي بن وهب بن ربيعة بن سعد بن خزيمة -وقيل: حذيمة- بن كعب بن رفاعة بن مالك بن نهد بن زيد ... إلخ. ثم قال: أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يلقه، ولقي عدة من الصحابة، ونزل الكوفة، وصار إلى البصرة بعد.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو أسامة، عن عثمان بن غياث، قال: حدثني أبو عثمان قال: "رأيت الرجل يجيء وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاة الفجر، فيصلي الركعتين في جانب المسجد ثم يدخل مع القوم في صلاتهم". وأما أثر مسروق فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حُصَيْن بن عبد الرحمن السُّلَميّ الكوفي، عن عامر بن شراحيل الشّعْبىِّ، عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هُشيم، قال: أنا حُصَيْن وابن عون، عن الشعبي، عن مسروق: "أنه دخل المسجد والقوم في صلاة الغداة ولم يكن صلى الركعتين، فصلاهما في ناحيةٍ ثم دخل مع القوم في صلاتهم". الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عامر الشعبي، عن مسروق. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى وعاصم، عن الشعبي: "أن مسروقًا كان يصليهما والإمام قائم يصلي في المسجد". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن وعبد الله بن عون، كلاهما عن الشعبي، عن مسروق. قوله: "أنه فعل ذلك" أي أن مسروقًا صلى ركعتي الفجر في ناحية المسجد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 57 رقم 6414). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 56 رقم 6412). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 444 رقم 4024).

وأما أثر الحسن البصري فأخرجه من طريقين رجالهما ثقات: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن حجاج بن المنهال، عن يزيد بن إبراهيم التُّستري أبي سعيد البصري. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: "إذا دخلت المسجد والإمام في الصلاة ولم تكن ركعت ركعتي الفجر، فصلهما ثم ادخل مع الإِمام". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري روى له الجماعة. ص: فهؤلاء جميعًا قد أباحوا ركعتي الفجر أن يركعهما في مؤخر المسجد والإمام في الصلاة، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. وأما وجهه من طريق النظر، فإن الذين ذهبوا إلى أنه يَدْخل في الفريضة ويَدَعُ الركعتين فإنهم قالوا: تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع وأفضل، فكان من الحجة عليهم في ذلك: أنهم قد أجمعوا أنه لو كان في منزله فعلم دخول الإمام في صلاة الفجر أنه ينبغي له أن يركع ركعتي الفجر ما لم يخفْ فوت صلاة الإِمام، فإن خاف فوت صلاة الإِمام لم يصلهما؛ لأنه إنما أمر أن يجعلهما قبل الصلاة ولم يُجْمِعُوا أن تشاغله بالسَّعْي إلى الفريضة أفضل من تشاغله بهما في منزله، وقد أُكِّدتا ما لم يُؤكد شيء من التطوع، وروي أن رسول الله - عليه السلام - لم يكن على شيء من التطوع أَدْوَم منه عليهما، وأنه قال: "لا تتركوهما وإن طردتكم الخيل"، فلما كانتا قد أكدتا هذا التأكيد ورغِّب فيهما هذا الترغيب ونُهي عن تركهما هذا النهي، وكانتا تركعان في المنازل قبل الفريضة؛ كانتا أيضًا في النظر تركعان في المساجد قبل الفريضة قياسا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 445 رقم 4025).

ش: أشار بهؤلاء إلى المذكورين من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. قوله: "والإمام في الصلاة" جملة حالية. قوله: "فكان من الحجة عليهم" أي على الذين ذهبوا إلى أنه يدخل في الفريضة، وهم أهل المقالة الأولى. قوله: "ولم يجمعوا" بضم الياء من الإجماع. قوله: "وقد أُكدتا" علي صيغة المجهول أي ركعتا الفجر. قوله: "وروي أن رسول الله - عليه السلام - لم يكن على شيء من التطوع أدوم منه عليهما" قد ذكره مسندًا في باب: "القراءة في ركعتي الفجر"، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن رسول الله - عليه السلام - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدةً منه على الركعتين قبل الفجر". وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2)، وقد ذكرناه هناك مستقصًى. قوله: "وأنه قال: لا تتركوهما" أي وأن النبي - عليه السلام - قال: "لا تتركوهما وإن طردتكم الخيل". قد أخرجه هناك مسندًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتركوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل". وأخرجه أبو داود (¬3) ولفظه: "لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل ". وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 393 رقم 1116). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 501 رقم 724). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 20 رقم 1258).

ص: باب: الصلاة في الثوب الواحد

ص: باب: الصلاة في الثوب الواحد ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلاة في الثوب الواحد، ويجمع الثوب على أثواب وثياب، وجمع القلة: أثوب، والمناسبة بين البابين من حيث أن ما سبق في حكم الصلاة في المسجد قبل صلاة الصبح هل تصلى فيه؟ وهذا في حكم الصلاة في ثوب المصلي ولا غنى للمصلي عن ذلك، ومن هذه الحيثية تناسبا، وهذا القدر كافٍ، على أن المقصود معرفة الأحكام لا مناسبة الأبواب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر - رضي الله عنه - كساه وهو غلام، فدخل المسجد فوجده يُصلّي متوشّحًا فقال: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى. قال: أرأيت لو استعنت بك وراء الدار أكُنْتَ لابسهما؟ قال: نعم. قال: فالله أحق أن تزين له أم الناس؟ قال نافع: بل الله -فأخبره عن النبي - عليه السلام - أو عن عمر قال نافع: قد اسَتْيقَنْتُ أنه عن أحدهما وما أراه إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- لا يَشْتملُ أحدكم في الصلاة اشتمال اليهود، مَن كان له ثوبان فليتَّزر وليرْتدِ، ومن لم يكن له ثوبان فليتَّزر ثم ليصلّ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع ... فذكر بإسناده مثله سواء. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا شَيْبان بن فروخ، قال: ثنا جرير بن حازم، عن نافع قال: حدّث ابن عمر فلا أدري أرفعه إلى النبي - عليه السلام - أم حدث به عن عمر؟ شك نافع، ثم ذكر مثل ما حدث به نافع عن ابن عمر من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من كلام عمر في الحديث الأول. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت نافعًا، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنه -. فذكر مثله.

ش: هذه أربع طرق رجالها كلهم ثقات: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر كساه ثوبين وهو غلام، قال: فدخل المسجد فوجده يصلي متوشحًا في ثوب، فقال: أليس لك ثوبان تَلْبَسُهما؟ فقلت: بلى. فقال: أرأيتَ لو أني أَرْسلتُكَ إلى وراء الدار أُكنْتَ لابسهما؟ قال: نعم. قال: فالله أحقُّ أن تتزين له أم الناس؟ قال نافع: فقلت: بل الله، فأخبره عن رسول الله - عليه السلام - أو عن عمر - رضي الله عنه - قد استيقن نافع أنه عن أحدهما وما أراه إلا عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: لا يشتمل أحدكم في الصلاة اشتمال اليهود ليتوشح به، من كان له ثوبان فليتزر ثم ليصلِّ. قال لي نافع: وكان عبد الله لا يرى لأحد أن يصلي بغير إزار وسراويل وإن كانت جبة ورداء دون إزار وسراويل". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجَبي أبي محمَّد البَصْري شيخ البخاري وأبي مسلم الكجّي، عن حماد بن زيد، عن أيوب السَخْتياني، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: "تخلّفت يومًا في علف الركاب، فدخل عَليَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - وأنا أصلِّي في ثوب واحد، فقال لي: ألم تكْسَ ثوبين؟ قلت: بلى. قال: أرأيت لو بَعَثْتُك إلى بعض أهل المدينة أكنت تذهب في ثوب واحد؟ قلت: لا. قال: فالله حقٌّ أن تجمل له أم الناس؟ ثم قال: قال رسول الله - عليه السلام - أو قال عمر - رضي الله عنه -: "من كان له ثوبان فليصلّ فيهما، ومَنْ كان له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل كاشتمال اليهود". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 357 رقم 1390). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 236 رقم 3090).

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن شيبان بن فروخ ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن عبد الرزاق ... إلى آخره كما ذكرناه. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا إسماعيل بن مسعود، نا فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر -قال: إما عن رسول الله - عليه السلام - وإما عن عمر - رضي الله عنه - قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تُزُيِّن له". وزاد فضيل عن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: "فإن لم يكن لأحدكم ثوبَيْن فليصلّ في ثوب ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود". قوله: "وهو غلام" جملة اسمية وقعت حالًا. قوله: "يصلي متوشحا" جملة في محل النصب على أنه مفعول ثان لقوله: "وجده"، وقوله: "متوشحا" حال من الضمير المنصوب الذي في "فوجده"، والتوشح بالثوب التغشي به، والأصل فيه من الوشاح وهو شيء ينسج عريضًا من أديم وربما رُصِّع بالجوهر والخرز وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها ويقال فيه: وشاح وإشاح. قال البخاري: قال الزهري في حديثه: الملتحف المتوشح وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على منكبيه. وقال ابن سيده: التوشح: أن يتوشح بالثوب ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمني ثم يعقد طرفيهما على صدره، وقد وشحه الثوب. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 148 رقم 6356). (¬2) ورواه الطبراني في "الأوسط" (9/ 144 - 145 رقم9368) من طريق حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، به مرفوعًا بلا شك.

قوله: "أرأيت" معناه أخبرني. قوله: "استيقنتُ" من اليقين. قوله: "وما أُراه" بضم الهمزة أي: وما أظن ذلك إلا عن رسول الله - عليه السلام -. قوله: "لا يشتمل أحدكم ... " إلى آخره، الاشتمال المنهي عنه هو أن يجلل بدنه الثوب ويسبله من غير أن يشيل طرفه. وقال ابن الأثير: الاشتمال افتعال من الشملة وهو كساء يُتغطَّى به ويتلفف فيه، والمنهي عنه هو التجلل بالثوب وإسباله من غير أن يرفع طرفه. قلت: أما اشتمال الصماء الذي جاء في الحديث فهو أن يجلل بدنه الثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر. ص: فذهب إلى هذا قومٌ فكرهوا الصلاة في ثوب واحد إن كان قادرًا على ثوبين، وكرهوا الصلاة لمن لم يكن قادرًا إلا على ثوب واحدٍ مشتملًا به ملتحفًا. قالوا: ولكن ينبغي له أن يتزر به، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: هو عن النبي - عليه السلام - لا شك فيه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وطاوس وإبراهيم النخعي وأحمد في رواية وعبد الله بن وهب من أصحاب مالك ومحمد بن جرير الطبري؛ فإنهم كرهوا الصلاة في ثوب واحد إذا كان قادرًا على ثوبين، وإن لم يكن قادرًا إلا على ثوب واحد كرهوا له أيضًا أن يصلي مشتملًا به ملتحفا، بل السنة أن يأتزر به، واحتجوا فيما ذهبوا إليه بالحديث المذكور عن نافع، وقالوا: هو عن النبي - عليه السلام - لا شك فيه بمعنى أنه لا يشك فيه أنه هل هو عن النبي - عليه السلام - أو عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذكر فيما مضى بالشك. وقد قال الدارقطني فيه: إنه حديث غريب صحيح، وذكره ابن القطان من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رفعه بلا شك.

وقد ذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن مجاهد: "لا تصلّ في ثوب واحد إلا أن لا تجد غيره". وعن (¬2) ابن مسعود: "لا تصلين في ثوب وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض". وقال القاضي عياض: الصلاة في الثوب الواحد جائزة بغير خلاف بين العلماء إلا شيء روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، كما أنه لا خلاف أن الصلاة في الثوبين وجمع الثياب أفضل، وهو معنى ما روي عن ابن عمر في ذلك وغيره لا على أنه لا يجزئ. ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا زهير بن عبّاد، قال: ثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا صلّى أحدكم فليَلْبَس ثوبَيْه؛ فإن الله أحق من تُزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن توبة العَنْبري، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إذا صلى أحدكم فليأتزر ولْيَرتَد". قالوا: فهذا موسى بن عقبة وهو من جِلة أصحاب نافع وقدمائهم قد ذكر ذلك عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -، فلم يشك، ووافقه على ذلك توبة العنبري. ش: أي: وذكر هؤلاء القوم في قولهم أن الحديث المذكور عن النبي - عليه السلام - لا شك فيه ما حدثنا ابن أبي داود ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 279 رقم 3204). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 279 رقم 3205).

وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي من طريقين صحيحين: الأول: عنه، عن زهير بن عباد ابن عم وكيع بن الجراح الكوفي نزيل مصر وثقه جماعة، عن حفص بن ميسرة العقيلي أبي عمر الصنعاني وثقه أحمد، روى له أبو داود في "المراسيل" والباقون سوى الترمذي، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبد الله ولا يرى نافع إلا عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوَبْيه؛ فإن الله أحق مَنْ تُزيِّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليأتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود" (¬2). والثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه معاذ، عن شعْبة، عن توبة العنبري، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬3): من حديث معاذ بن معاذ، نا شعبة، عن توبة العنبري، سمع نافعًا، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم فليأتزر ولْيَرْتد". قوله: "قالوا" أي هؤلاء القوم: "فهذا موسى بن عقبة وهو من جلة" -بكسر الجيم- جمع جليل أي من عظماء "أصحاب نافع وقدمائهم قد ذكر" الحديث المذكور "عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -، ولم يشك، ووافقه على ذلك" أي وافق موسى بن عقبة على رفعه إلى النبي - عليه السلام - من غير شك توبه العَنْبري. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 235 رقم 3088). (¬2) وقد ذكرنا عن قريب أن الطبراني أخرجه في "الأوسط" من طريق حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، به. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 235 رقم 3086).

ص: قيل لهم: فقد [روى] (¬1) هذا الحديث عن ابن عمر غير نافع، فذكره عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - لا عن النبي - عليه السلام -. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر قال: "رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلًا يصلّي ملتحفًا، فقال له عمر حين سلَّم: لا يُصلّين أحدكم ملتحفًا ولا تشبّهوا باليهود، فإن لم يكن لأحدكم إلا ثوبٌ واحد فليتزر به". فهذا سالمٌ وهو أثبت من نافع وأحفظ إنما روى ذلك عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - لا عن النبي - عليه السلام -، فصار هذا الحديث عن عمر لا عن النبي - عليه السلام -، ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر من قوله، ولم يذكر فيه رسول الله - عليه السلام - ولا عمر - رضي الله عنه -. حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كسا نافعًا ثوبَيْن، فقام يصلي في ثوب واحدٍ، فعاب ذلك عليه ثم قال: احذر ذاك؛ فإن الله -عز وجل- أحق أن يتجمل له". ش: أي قيل لهؤلاء القوم في جواب ما ذكروه. بيانه أن يقال: إن هذا الحديث رواه غير نافع، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا عن النبي - عليه السلام -. وذلك ما أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: "رأى عمر - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب رأى رجلًا يصلي ملتحفًا فقال: لا تشبَّهوا باليهود، مَنْ لم يجد منكم إلا ثوبًا واحدًا فليتزر به" انتهى. فهذا سالم رواه موقوفًا على عمر - رضي الله عنه -، ولا شك أن سالمًا أثبت من نافع وأحفظ لما روي عن عبد الله بن عمر، فظهر من ذلك أن أصل هذا الحديث عن عمر بن الخطاب لا عن النبي - عليه السلام -، على أن مالكًا قد روى هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر من قوله ولم يذكر في روايته عن رسول الله - عليه السلام - ولا عن عمر بن الخطاب، ولئن سلمنا أن هذا الحديث مرفوع إلى النبي - عليه السلام - فهو محمول على الأفضل لا على أن لا يجزئ، وقد قيل: إن ما ورد من النهي عن الصلاة في الثوب الواحد محمول على التنزيه لا على التحريم. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "رأيت سبعين من أهل الصُّفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتَيْه ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع قبض عليه يخاف أن تبدو عورته". وأخرج عبد الرزاق (¬3): عن ابن عُيَيْنة، عن عمرو، عن الحسن قال: "اختلف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد، فقال أُبيّ: لا بأس به. وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذا كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها فالصلاة في ثوبين، فقام عمر - رضي الله عنه - على المنبر فقال: الصوابُ ما قال أبي لا ما قال ابن مسعود". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 278 رقم 3196). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 278 رقم 3192). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 356 رقم 1385).

وعن ابن وهب: "صلاة الرجل في ثوب واحدٍ رخصة، وفي ثوبين مأمور به". قوله: "ملتحفًا" حال من الضمير الذي في "يصلي"، والالتحاف بالثوب التغطي به، يقال: التحفت بالثوب أي تغطيت به، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به. قوله: "فعاب ذلك عليه" أي عاب عليه كونه يصلّي في ثوب واحد مع قدرته على ثوبين؛ لأنه ترك التجمل وهو واقف بين يدي الله -عز وجل-. قوله: "احذَرْ ذاك" أي الفعل المذكور، وهو أن يصلي في ثوب واحدٍ مع قدرته على أكثر من ذلك، فهذا كله محمول على اكتساب الفضيلة، وأما الجواز فحاصل ولو كان بثوبٍ واحد. ص: وخالف ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالصلاة في ثوبٍ واحدٍ. ش: أي خالف الحكم المذكور الذي ذهب إليه القوم المذكورون جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وسعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن الحنفية وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وأبا حنيفة والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالصلاة في ثوب واحد، ويُروى ذلك عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وأنس بن مالك وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعمار بن ياسر وأبي بن كعب وعائشة وأسماء وأم هانئ - رضي الله عنهم -. وقال ابن عبد البر: وروي عن جابر وابن عمر وابن عباس ومعاوية وسلمة بن الأكوع وأبي أمامة وطاوس ومجاهد وإبراهيم وجماعة من التابعين أنهم أجازوا الصلاة في القميص الواحد إذا كان لا يَصْفُو، وهو قول عامة فقهاء الأمصار في جميع الأقطار، ومن العلماء من استحب الصلاة في ثوبين، وأجمع

جميعهم أن صلاة من صلى بثوب واحد يستر عورته جائزة، وكان الشافعي يقول: إذا كان الثوب ضيِّقًا يُزرّه أو يخلله بشيء لئلا يتجافي القميص فتُرى من الجيب العورة، فإن لم يَفْعل ورأيت عورته أعاد الصلاة، وهو قول أحمد، وقد رخّص مالك في الصلاة في القميص محلول الإزرار ليس عليه سراويل وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور، وكان سالم يُصلّي محلول الإزرار، وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به، وحكى معناه الأثرم عن أحمد. وقال ابن التين: لا خلاف بين العلماء أن المصلي إذا تقلص مئزره أو كشفت الريح ثوبه وظهرت عورته ثم رجع الثوب في حينه وفوره أنه لا يضر ذلك المصلي شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى من العورة مثل ذلك، إنما يحرم النظر معالعمد ولا يحرم النظر فجأة، وإن صحت صلاة الإِمام فأحرى أن تصحّ صلاة المأموم، وقال ابن القاسم: إن فرّط في ردّ إزاره فصلاته وصلاة من تأمل عورته باطلة. وعن سحنون: إن رفع الريح ثوب الإِمام فانكشف عن دبره فأخذه مكانه أجزأه ويعيد كل من نظر إلى عورته ممن خلفه ولا شيء على من لم ينظر. وروي عنه أيضًا: أن صلاته وصلاة من خلفه باطلة وإن أخذه مكانه. وعن الشافعي: لو انكشف شيء من العورة في الصلاة بطلت صلاته، ولا يُعْفى عن شيء منها ولو شعرةً من رأس الحرة أو ظفرها، وعند أحمد: يُعْفى عن القليل ولم يحُدّه. وفي بعض شروح "الهداية": الانكشاف القليل عندنا لا يمنع، وكذا الكثير في الزمن القليل وهو أن لا يؤدي فيه ركنًا من أركان الصلاة، حتى لو انكشفت عورته في الصلاة فغطاها في الحال لا تفسد صلاته، وإذا أدى ركنًا فسدت ولا يصح شروعه في الصلاة مع الانكشاف.

وذكر ابن شجاع: أن من نظر في زنقة فرجه لم تصح صلاته. وفي "نوادر هشام": وإذا كان قميصه محلول الجيب فانفتح حتى رأى عورة نفسه بطلت صلاته، قال: وإن لم ينظر فإن التزق الثوب بصدره حتى لا يراها لو نظر لا تفسد، فعلى هذه الرواية جعل سترها شرطا من نفسه، وعامة أصحابنا جعلوا السَّتْر شرطًا عن غيره لا عن نفسه؛ لأنها ليست عورةً في حق نفسه، وبالأول قال الشافعي وأحمد، وروى ابن شجاع نصًّا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورة نفسه لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى عورة غيره لا تفسد صلاته عند أبي حنيفة قال المرغيناني: وهو قولهما , ولو صلى في قميصٍ واحدٍ لا يري أحد عورته، لكن لو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشيء، والثوب الرقيق الذي لا يصفو ما تحته لا يجوز الصلاة فيه، وهو قول الشافعي وأحمد. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "قام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أَنُصلِّي في ثوبٍ واحدٍ؟ فقال: أو كُلكُمْ يجد ثوبين؟ ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهبٌ (ح). وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قالا: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عُبادة، قال: ثنا ابن جريج ومالك ومحمد بن أبي حفصة، قالوا: ثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدثه، عن رسول الله - عليه السلام -. قال أبو هريرة: فلعَمْري إني لأترك ثيابي في المِشْجَب وأُصلِّي في الثوب الواحد". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله ولم يذكر قول أبي هريرة عن النبي - عليه السلام -.

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: أي: واحتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة وغيره على ما يجيء. وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي المعروف بالسُوسي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن محمَّد ابن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "سئل النبي - عليه السلام - عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: أولكلكم ثوبان؟ ". وأخرجه الجماعة إلا الترمذي على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن وهب بن جرير، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬2): أنا سعيد بن عامر، عن هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة: "أن رجلًا قال: يا رسول الله، أيُصلّي الرجل في الثوب الواحد؟ قال: أوكلكم يجد ثوبين؟ أولكلكم ثوبان؟ ". الثالث: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الله بن بكر السهمي، عن هشام ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3) نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 275 رقم 3163). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 367 رقم 1370). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 236 رقم 3092).

الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روْح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي ومالك بن أنس ومحمد بن أبي حفصة وهو محمد بن ميسرة البصري، كلهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة ... إلى آخره نحو الحديث المذكور، ولم يذكر قول أبي هريرة: "فلعمري إني لأترك ثيابي ... " إلى آخره عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه مسلم (¬2): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: "أن سائلًا سأل رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: أولكلكم ثوبان؟! ". حدثني (¬3) حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس. وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل بن خالد كلاهما، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬4): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب نحوه. وأخرجه أبو داود (¬5): عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 140 رقم 319). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 367 رقم 515). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 368 رقم 515). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 141 رقم 351). (¬5) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 625).

والنسائي (¬1): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك. وابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار كلاهما، عن سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة نحوه. السادس: عن حُسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3). قوله: "أولكلكم" الهمزة فيه للاستفهام، واعلم أن اللفظ وإن كان لفظ الاستفهام ولكن المعنى الإخبار عما كان يعلمه - عليه السلام - من حالهم في العدم وضيق الثياب، يقول: فإذا كنتم بهذه الصفة وليس لكل واحد منكم ثوبان، والصلاة واجبة عليكم، فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة. وقال القاضي عياض: وقول النبي - عليه السلام -: "أو لكلكم ثوبان" أو "يجد ثوبين" صيغته صيغة الاستفهام ومعناه التقرير والإخبار عن معهود حالهم، وضمنه دليل على الرخصة، وتنبيه على أن الثوبين أفضل وأتمّ، وهو المفهوم منه عند أكثر العلماء. قلت: ذهب الطحاوي والتاجي أيضًا إلى أن مفهومه التسوية بين الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره أو عدمه في الإجزاء. قوله: "في المِشْجب" بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم، وهو واحد المشاجب، وهي عيدان تُنصب وتُعلّق عليها الثياب وقِرَب الماء. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 69 رقم 763). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 333 رقم 1047). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 265 رقم 7595).

قال ابن الأثير: المِشْجب -بكسر الميم- عيدان تُضمّ رءوسها وينفرّج بين قوائمها وتوضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء، وهو من تشاجب الأمر إذا اختلط، انتهى. قلت: هي بالفارسية تسمى: سِرَياني وهو الذي يقال له بين الترك: سيِبَهُ، فافهم. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن عيسى بن خثيم، عن قيس بن طلق، عن أبيه: "أنه شهد النبي - عليه السلام - وسأله رجل عن الرجل يُصلّي في ثوب واحد، فلم يقُل له شيئًا، فلما أقيمت الصلاة طارق النبي - عليه السلام - بين ثوبَيْه فصلى فيهما". ش: هذان طريقان في حديث طلق بن علي الحنفي السحيمي اليمامي الصحابي - رضي الله عنه - وهما حسنان جيّدان: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن ملازم بن عمرو الحنفي اليمامي وثقه أحمد وروى له الأربعة، عن عبد الله بن بدر الحنفي جد ملازم بن عمرو لأبيه وقيل لأمه، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي وروى له الأربعة، عن قيس بن طلق الحنفي وثقه العجلي وغيره وروى له الأربعة، عن أبيه طلق بن علي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مُسدّد، نا ملازم بن عمرو الحنفي، ثنا عبد الله ابن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "قدمنا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فقال: يا نبي الله، ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: فأطلق ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 170 رقم 629).

رسول الله - عليه السلام - إزاره، فطارق له رداءه، فاشتمل بهما ثم قام يصلي بنا نبي الله - عليه السلام -، فلما أن قضى الصلاة قال: أوكلكم يجد ثَوْبين؟! ". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، عن أبان بن يزيد العطار البصري روي له البخاري ومسلم وآخرون، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن عيسى بن خُثيم -بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة- الحنفي اليمامي، وثقه ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه. عن قيس بن طلق، عن أبيه ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمَّد بن يحيى القزاز البصري، نا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، ثنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عيسى بن خُثَيْم، عن قيس بن طلق، عن أبيه ... إلى آخره نحوه، غير أن في روايته: "طابق النبي - عليه السلام -". قوله: "طارق النبي - عليه السلام -" من قولهم: طارق الرجل بين الثوبين إذا ظاهر بينهما أي لبس أحدهما على الآخر، وطارق بين نعليه إذا خصف أحدهما على الآخر. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن القعقاع بن حكيم قال: "دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب واحد وقميصه ورداؤه في المشجب، فلما انصرف قال: أما والله ما صنعت هذا إلا من أجلكم، إن النبي - عليه السلام - سئل عن الصلاة في ثوب واحد فقال: نعم، ومتى يكون لأحدكم ثوبان؟! ". ش: إسناده صحيح، وابن أبي ذئب هو محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، والقعقاع بن حكيم الكناني المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 335 رقم 8255).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني ابن أبي الموالي، عن محمَّد بن المنكدر قال: "دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحفًا به، ورداؤه موضوع، فلما انصرف قلنا: يا أبا عبد الله، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببت أن يراني الجُهّال مثلكم، رأيت النبي - عليه السلام - يصلي هكذا". وقال أيضًا (¬2): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا عاصم بن محمَّد، قال: حدثني واقد بن محمَّد، عن محمَّد بن المنكدر قال: "صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب، قال له قائل: تُصلي في إزارٍ واحدٍ؟ فقال: إنما صنعتُ ذلك ليراني أحمق مثلك، وأيُّنا كان له ثوبان على عهد النبي - عليه السلام -". ومما يستفاد منه: أن للعالم أن يأخذ بأيسر الشيء مع قدرته على أكثر منه؛ توسعة على العامة ليقتدى به، وهو قول جماعة الفقهاء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا زمعة بن صالح قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثل ما ذكر جابر عن النبي - عليه السلام -. ش: أبو بكرة بكار، وروح هو ابن عبادة، وزمعة بن صالح الجَنَدي اليمامي نزيل مكة روي عن يحيى أنه ضعيف، وعنه: صويلح الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوى، كثير الغلط عن الزهري. روى له مسلم مقرونًا بمحمد بن أبي حفصة وأبو داود في "المراسيل" والباقون سوى البخاري. ص: فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - قد روى عن النبي - عليه السلام - إباحة الصلاة في ثوب واحد. ش: إنما قال ذلك لأن أهل المقالة الأولى كانوا قد احتجوا لما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر كما ذكر مفصلًا , ولما أخرج هذا الحديث عنه أيضًا قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 145 رقم 363). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 139 رقم 345).

هذا القول تنبيها على أن المراد من حديثه ذاك هو استعمال الأفضل؛ ليرتفع الخلاف بين روايتيه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: أنا شعبة، قال: أنا هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم وعبد الله بن صالح، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت النبي - عليه السلام - يصلي في ثوب واحدٍ ملتحفًا به". ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عمر بن أبي سلمة -واسم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المدني- ربيب النبي - عليه السلام -، مات النبي - عليه السلام - وهو ابن تسع سنين وتوفي هو سنة ثلاث وثمانين. والحديث أخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عبيد الله بن موسى، عن هشام بن عروة ... إلى آخره، ولفظه: "أن النبي - عليه السلام - صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه". وفي لفظ: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقيه". وفي لفظ: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد مشتملًا به في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقيه". ومسلم (¬2): عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 140 رقم 347، 348). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 368 رقم 517).

أن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد مشتملًا به في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقه". وفي لفظ: "يصلي في بيت أم سلمة في ثوب قد خالف بين طرفيه". وفي لفظ: "يصلي في ثوب ملتحفًا مخالفًا بين طرفيه". وفي لفظ: "على منكبيه". والترمذي (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في بيت أم سلمة مشتملًا في ثوب واحدٍ". والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقيه". وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد متوشحًا به، واضعًا طرفيه على عاتقيه". والطريق الآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري وعبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث ابن سعد، عن يحيى بن عبد الله الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري واسمه أسْعَد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته، والأول هو المشهور، روى له الجماعة، قال أبو عمر: هو من كبار التابعين. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 166 رقم 339). (¬2) "المجتبى" (2/ 70 رقم 764). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 333 رقم 1049).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد ملتحفًا مخالفًا بين طرفيه على منكبيه". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي قتيلة، قال: أنا الدراورديُّ، عن موسى بن محمَّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع قال: قلت: "يا رسول الله إني أعالج الصيد، أفاصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وزرّه ولو بشوكة". ش: ابن أبي قُتَيلة هو يحيى بن إبراهيم بن عثمان أبو إبراهيم المدني، وثقه ابن حبان وأبو حاتم، وروى له النسائي. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمَّد روى له الجماعة البخاري مقرونا بغيره. وموسي بن محمَّد بن إبراهيم هذا قد قيل فيه: موسى بن إبراهيم، بدون ذكر محمَّد، وهكذا هو في رواية أبي داود على ما يجيء وهو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، قال أبو داود: موسى ضعيف وله أحاديث مناكير، وذكره ابن حبان في الثقات، وقد يَشْتبه هذا بموسى بن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني وهو ضعيف جدًّا، ثم إن موسى المذكور ها هنا يَرْوي عن أبيه محمَّد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والأصح أن موسى هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن، وهكذا وقع في رواية أبي داود والنسائي على ما يجيء، وإبراهيم هذا روى له البخاري والنسائي وأبن ماجه، وهو يروي عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، نا عبد العزيز -يعني ابن محمَّد- عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 828). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 170 رقم 632).

موسى بن إبراهيم، عن سلمة بن الأكوع قال: قلت: "يا رسول الله، إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره ولو بشوكة". وأخرجه النسائي (¬1) نحوه. فهذا كما رأيت المخالفة بين رواية الطحاوي ورواية أبي داود من وجهين: الأول: روى الطحاوي عن الدراوردي، عن موسى بن محمَّد بن إبراهيم، وروى أبو داود عن موسى بن إبراهيم. والثاني: روى الطحاوي عن موسى بن محمَّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، وروى أبو داود: عن موسى بن إبراهيم، عن سلمة بدون ذكر أبيه، وذكر في "التكميل" أن موسى بن إبراهيم روى عن أبيه وروى عن سلمة بن الأكوع أيضًا في الصلاة في الثوب الواحد. قوله:"وزِرَّه" أمر من زرّ يزرّ من باب نصر ينصر، وتجوز فيه الحركات الثلاث كمدّ ويجوز فيه فك الإدغام كما في رواية أبي داود فيكون فيه أربعة أحوال، وإنما أمر بالزرّ ليأمَن من وقوع النظر على عورته من زنقة حالة الركوع، ومن هذا أخذ ابن شجاع من أصحابنا أن من نظر إلى عورته من زنقة؛ تفسد صلاته. قوله: "ولو بشوكة" الباء فيه تتعلق بمحذوف تقديره: ولو أن تزرّه بشوكة. ص: ففي هذه الآثار إباحة الصلاة في الثوب الواحد، فذلك يضادّ ما منع الصلاة في ثوب واحد ويدُلّ أن ذلك لا بأس به على حال الوجود وحال الإعواز؛ وذلك أن السائل سأل النبي - عليه السلام -: "أيصلي أحدنا في ثوب واحدٍ؟ " فأجابه النبي - عليه السلام - جوابًا مطلقًا فقال: "أوكلكم يجد ثوبين؟ " أي: لو كانت الصلاة مكروهةً في الثوب الواحد لكُرهَتْ لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا، ففي جوابه ذلك ما يَدُلّ على أن حكم الصلاة في الثوب الواحد لمن يجد الثوبين كهو في الصلاة في الثوب الواحد لمن لا يجد غيره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 70 رقم 765).

ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رواها عن أبي هريرة وطلق بن علي وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعمر بن أبي سلمة وسلمة بن الأكوع - رضي الله عنهم -، أي ثبت في هذه الأحاديث إباحة الصلاة في الثوب الواحد، وهذه تخالف ما روي من المنع عن الصلاة في الثوب الواحد، ويدل أيضًا أن ذلك أي فعل الصلاة في الثوب الواحد لا بأس به مطلقًا، يعني على الوجود أي وجود الثوبين وأكثر. وحال الإعواز -بكسر الهمزة- أي حال العدم يعني عدم الثوبين، ثم أشار إلى بيان ذلك بقوله: "وذلك أن السائل ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ص: ثم أردنا أن نَنْظر كيف ينبغي أن يَفْعَل بالثوب الواحد الذي يصلي فيه؟ أيَشْتملُ به أو يتزر؟ فنظرنا في ذلك فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا أبو عامر العقَديُّ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، عن أم هانئ بنت أبي طالب - رضي الله عنها - في حديث طويل قالت: "فأمر رسول الله - عليه السلام - فاطمةَ فسكبَتْ له غسلًا فاغتسل، ثم صلى في ثوبٍ واحدٍ مخالفًا بين طرفيه ركعات". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن محمَّد بن عمرو، قال: ثنا إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مُرّة ... فذكر بإسناده في الصلاة مثله، وقال: "ثمان ركعات". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن موسى بن ميسرة وأبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة أخبرهما، أن أم هانئ ابنة أبي طالب أخبرته، عن النبي - عليه السلام - بمثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند، أن أبا مرة حدثه ... ثم ذكر مثله بإسناده.

ش: لما أثبت جواز الصلاة في الثوب الواحد؛ شرع يُبيِّن كيف يصلي فيه وأورد أحاديث عن الصحابة تدل على أنه ينبغي له أن يشتمل به، فأخرج أولًا حديث أم هانئ بنت أبي طالب واسمها فاختة، وقيل: هند. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي -وقد تكرر ذكره- عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب -واسمه يزيد- روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا زيد بن الحباب، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، عن فاختة أم هانئ قالت: "لما كان يوم فتح مكة أجَرْتُ حَموين لي من المشركين إذ طلع رسول الله - عليه السلام - وعليه رهجة الغبار في ملحفة متوشحًا بها، فلما رآني قال: مرحبا بفاختة أم هانئ. قلت: يا رسول الله أجرت حموين لي من المشركين. فقال: قد أجرنا مَنْ أجرت وأمنا من أمَّنْت. ثم أمر فاطمة فسكبت له ماء فتغسّل به، فصلى ثمان ركعات في الثوب متلّبّبٌ به، وذلك يوم فتح مكة ضحى". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا آدم بن أبي إياس، نا أبو معشر، عن سعيد المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ: "أن النبي - عليه السلام - دخل عليها يوم الفتح فاغتسل، فصلى الضحى ثمان ركعات في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه ... " الحديث. وفي رواية له (¬3): "أمر فاطمة فسكبت له غسلًا، ثم سُتِر فاغتسل، وقام ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 341 رقم 26936). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 417 رقم 1016). (¬3) "المعجم الكبير" (24/ 416 رقم 1014).

فصلى الضحى ثمان ركعات في ثوب واحد مخالفًا بين طرفيه، لم أره صلى قبل ولا بعد". قوله: "غُسلًا" بضم الغين وهو الماء الذي يُغتسل به كالأكُل اسم لما يؤكل، وهو الاسم أيضًا من غسلته، والغَسل بالفتح: المصدر، وبالكسر: ما يغسل به من خطمي ونحوه. قوله: "متلبّب به" في رواية أحمد: أي متحزم به عند صدره، يقال: تلبّب بثوبه إذا جمعه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري القاضي شيخ البخاري وأحمد، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين الهاشمي أبي إسحاق المدني مولى العباس بن عبد المطلب، عن أبي مرة مولى عقيل. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا محمَّد -يعني ابن عمرو- عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مرة مولى أم هانئ- قال محمَّد: ورأيت أبا مرة وكان شيخًا قد أدرك أم هانئ- عن أم هانئ قالت: "أتيت رسول الله - عليه السلام - عام الفتح فقلت: يا رسول الله، قد أجرت حموًا لي فزعم ابن أمي أنه قاتله -تعني عليًّا - رضي الله عنه -- قالت: فقال رسول الله - عليه السلام -: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. فصُبّ لرسول الله - عليه السلام - ماءٌ فاغتسل، ثم التحف بثوب عليه وخالفه بين طرفيه على عاتقه، فصلى ثمان ركعات". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن موسى بن ميسوة الديلي أبي عروة المدني، وعن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 342 رقم 26941).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: "ذهبت إلى رسول الله - عليه السلام - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه فقال: مَنْ هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبًا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلًا قد أجرته فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - عليه السلام -: قد أجرنا مَنْ أَجرتِ يا أم هانئ. قالت أم هانئ: وذاك ضُحًى". الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن رمح بن المهاجر، قال: أنا الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه، أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته: "أنه لما كان عام الفتح أتت رسول الله - عليه السلام - وهو بأعلى مكة، قام رسول الله - عليه السلام - إلى غُسله فسترت عليه فاطمة - رضي الله عنها -، ثم أخذ ثوبه فالتحف به، ثم صلى ثمان ركعات سُبْحَة الضحى". ص: حدثنا محمَّد بن علي بن مُحرزٍ، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سَعْد، قال: ثنا أبي، عن أبي إسحاق، قال: حدثني سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنها - قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في بُرد له حَضْرمي متوشحًا به ما عليه غيره". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 141 رقم 350). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 266 رقم 336).

ش: رجاله ثقات، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يعقوب، نا أبي، عن أبي إسحاق: حدثني سلمة بن كهيل الحضرمي، ومحمد بن الوليد بن نويفع مولى آل الزبير، كلاهما عن كريب مولى عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل في بُرد له حضرمي متوشحًا به ما عليه غيره". قوله: "في بُرد" بضم الباء: نوع من الثياب معروف، والجمع أبراد وبرود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صغر تلبسه الأعراب وجمعها بردُ، والحضرمي نسبه إلى حضرموت بلدة باليمن. قوله: "متوشحًا" حال من الضمير الذي في "يصلي"، وقد مر تفسير التوشح. ص: حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا يعلى بن الحارث المحاربي قال: سمعت غيلان بن جامع يحدث، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن ابنٍ لعمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قال أبي - رضي الله عنه -: "أمَّنا رسول الله - عليه السلام - في ثوبٍ واحدٍ متوشحًا به". ش: يعلى بن الحارث بن حرب أبو حرب الكوفي روى له الجماعة سوى الترمذي، وغيلان بن جامع بن أشعث المحاربي أبو عبد الله الكوفي قاضيها، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وإياس بن سلمة بن الأكوع الأسلمي أبو سلمة المدني روى له الجماعة. وابن لعمار بن ياسر لم أقف على التصريح باسمه، ولكن لعمار ابنٌ يسمّى محمَّد ولعله هذا والله أعلم، ذكره ابن حبان في الثقات. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا يعلى بن الحارث المحاربي ... إلى آخره نحوه سندًا ومتنًا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 265 رقم 2384). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 277 رقم 3186).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، قال: ثنا أبو سفيان، عن جابر، قال: حدثني أبو سعيد: "أنه دخل على رسول الله - عليه السلام - فرآه يصلي في ثوبٍ واحدٍ متوشحًا به". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار ويحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني أبو محمَّد البصري ختن أبي عوانة، روى له الجماعة أبو داود في غير كتاب "السنن"، وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري روى له الجماعة، وسليمان هو الأعمش، وأبو سفيان طلحة بن نافع الواسطي روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري، وأبو سعيد اسمه سعد بن مالك الخدري. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو كريب، نا عمر بن عُبَيْد، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، حدثني أبو سعيد الخدري: "أنه دخل ... " إلى آخره نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: أخبرني إدريس بن يحيى، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، أن أبا الزبير المكيّ أخبره: "أنه دخل على جابر بن عبد الله وهو يصلي ملتحفٌ بثوبٍ وثيابه قريبة منه، ثم التفت إلينا فقال: إنما صنعت هذا لكي ما تروا، وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك". ش: إسناده صحيح، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني حرملة بن يحيى، قال: نا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، أن أبا الزبير المكي حدثه: "أنه رأى جابر بن عبد الله يصلي في ثوبٍ متوشحًا وعنده ثيابه، وقال جابر: إنه رأى رسول الله - عليه السلام - يَصْنع ذلك". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 333 رقم 1048). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 369 رقم 518).

ص: حدثنا يزيد بن سنان وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليتعطف به". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وأسامة ابن زيد الليثي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد مخالفًا بين طرفَيْه على عاتقه، وثوبه على المشجب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا أبو غسان، عن عاصم بن عبيد الله: "إنه دخل على جابر بن عبد الله، فلما حضرت الصلاة قام فصلى وهو متوشح بإزار، وثيابه على المشجب، فلما صلى انصرف إلينا فقال: رأيت رسول الله - عليه السلام - صلّى هكذا". ش: هذه ثلاث طرق أخرى في حديث جابر: الأول: إسناده صحيح، عن يزيد وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فليتعطف به" أي فليشتمل به، يقال: تعطّف بالرداء واعتطف وتعطفه واعتطفه، والعِطاف -بكسر العين- الرداء، وكذلك المعطف. الثاني: أيضًا صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الله بن وهب، أنا أسامة وعمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن جابر ... إلى آخره نحوه سوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 237 رقم 3097).

قوله: "على عاتقه" العاتق: موضع الرداء من المنكب، يذكر ويؤنث. قوله: "وثوبه على المِشْجب" وقعت حالًا، والمِشْجب -بكسر الميم- قد فسرناه عن قريب. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسّان محمَّد بن مطرف بن داود الليثي المدني ثقة مشهور، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي المدني، فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بذاك. وعن يحيى: ضعيف. وقال الدارمي: مدني يُترك وهو مغفل. وقال ابن خزيمة: لست أحتج به لسوء حفظه. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يُحتج به. وقد ذكرنا أن البخاري أخرج هذا الحديث (¬1). ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوبٍ واحدٍ في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقَيْه". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوبٍ واحدٍ ملتحفًا به مخالفًا بين طرفيه على منكبَيْه". ش: قد أخرج الطحاوي هذين الحديثين عن قريب. ولكن الأول: عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة. والثاني: عن ابن أبي داود، عن ابن أبي مريم وعبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمر بن أبي سلمة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 139 رقم 345).

وأخرجه أبو داود (¬1) نحوه، وقد ذكرناه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - وهو متكئ على أسامة متَوشّحًا ببُرْدٍ فصلَّى بهم". ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد الأزدي أبي شهيد البصري، عن الحسن البصري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حسين، نا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس. والحسن، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج متوكئًا على أسامة بن زيد وعليه ثوبٌ قِطْرِي قد خالف بين طرفيه، فصلى بهم". ثنا سليمان بن حرب (¬3)، نا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج وهو يتوكأ على أسامة بن زيد وعليه ثوب قطري فصلى بهم" أو قال: "مشتملًا فصلى بهم". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبيد الله بن محمَّد التيمي شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 628). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 262 رقم 13788). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 262 رقم 13789).

وأخرجه أحمد (¬1) أيضًا: ثنا عبيد الله بن محمَّد، نا حماد بن سلمة، عن حبيب ابن الشهيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج وهو يتوكأ على أسامة بن زيد متوشحًا في ثوب قطري فصلَّى بهم- أو قال: مشتملًا فصلَّى بهم". قوله: "متوشحًا"، حال من الرسول - عليه السلام - , وقد ذكرنا أن التوشح هو الاشتمال على منكبيه. قوله: "في ثوب قِطْري" بكسر القاف وهو ثوب من البرود فيه حمرة ولها أعلام فيها بعض الخشونة، وقيل: هي حُلَلَ جياد تحمل من قرية من البحرين يقال لها: قَطَر بفتحتين، فإذا نسب إليها الثوب تكسر القاف للتخفيف فيقال: ثوب قِطريُّ. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم وبشر بن المفضل ويحيى بن سعيد، قالوا: أخبرنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم في ثوب فليخالف بين طرفيه". ش: إسناده صحيح، وإسماعيل بن إبراهيم هو إسماعيل بن عُلَيّة -وهي أمه- روى له الجماعة، وهشام هو الدستوائي. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، نا يحيى. ونا مسدد، قال: ثنا إسماعيل المعنى، عن هشام ... إلى آخره نحوه. وأخرج البخاري (¬3): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة -قال: سمعته أو كنت سألته- قال: سمعت أبا هريرة يقول: أشهد ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 262 رقم 13787). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 627). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 141 رقم 353).

أني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه". وأراد بالمخالفة بطرفيه على عاتقيه: هو التوشح، وهو الاشتمال على منكبيه، وإنما أمر بذلك ليستر أعالي البدن وموضع الزينة. وقال ابن بطال: وفائدة المخالفة في الثوب أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع. قلت: يجوز أن تكون الفائدة أن لا يسقط إذا ركع وإذا سجد، ثم هذا الأمر للندب عند الجمهور حتى لو صلى وليس على عاتقه شيء صحت صلاته، وسواء قدر على شيء يجعله على عاتقه أم لا، وبه قال مالك والشافعي. وقال أحمد وبعض السلف: لا تصح صلاته إذا قدر على وضع شيء على عاتقه إلا بوضعه؛ لظاهر قوله - عليه السلام -: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شيء"، وعن أحمد أنه تصح صلاته ولكنه يأثم بتركه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا هشام بن حسان وشعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحدٍ مخالف بين طرفيه". ش: قد أخرج الطحاوي هذا فيما مضى من هذا الباب عن أبي بكرة، عن أبي داود، عن شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة". وأخرجه أيضًا: عن يونس، عن ابن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقيه". ولا يقال: إنه تكرار؛ للاختلاف في السند والمتن، ولكن لو ذكر الجميع في موضع واحد لكان أضبط وأصوب.

ص: فقد تواترت هذه الآثار عن النبي - عليه السلام - بالصلاة في الثوب الواحد متوشحًا به في حال وجود غيره، قد ذكرنا ذلك في بعض هذه الأحاديث أنه صلى -وثيابه على المشجب- في ثوبٍ واحدٍ متوشحًا به، فقد يجوز أن يكون ذلك على ما اتسع من الثياب خاصة لا على ما ضاق منها، ويجوز أن يكون على كل الثياب، ما ضاق منها وما اتسع. فنظرنا في ذلك فإذا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قد حدثنا، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن شرحبيل بن سَعْدٍ، قال: ثنا جابر، أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول: "إذا اتسع الثوب فتعطَّف به على عاتقك، وإذا ضاق فاتّزر به ثم صلِّ". فثبت بهذا الحديث أن الاشتمال هو المقصود، وأنه هو الذي ينبغي أن يفعل في الثياب التي يُصلِّي فيها، فإذا لم يقدر عليه لضيق الثوب اتّزر به. ش: أي: فقدْ تكاثرت هذه الأحاديث وتتابعت بجواز الصلاة في الثوب الواحد حال كونه متوشحًا به في حال وجود غيره من الثياب. وهذا كما قد رأيت قد أخرجها عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: أبو هريرة، وطلق بن علي وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وعمر بن أبي سلمة وسلمة ابن الأكوع وأم هانئ وعبد الله بن عباس وأبي بن كعب وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي (¬1) حديث عمر بن أبي سلمة في الصلاة في ثوب واحد قال: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وسلمة بن الأكوع وأنس وعمرو بن أبي أسد وأبي سعيد وكيسان وابن عباس وعائشة وأم هانئ وعمار بن ياسر وطلق بن علي وعبادة بن الصامت. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 167 رقم 339).

قلت: وفي الباب أيضًا عن حذيفة وعبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وأبي أمامة وأبي عبد الرحمن حاضن عائشة وأم حبيبة وأم الفضل ورجل لم يُسمّ. أما حديث عمرو بن أبي أسد فأخرجه أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة"، والحسن بن سفيان في "مسنده" من رواية محمَّد بن بشر العبدي، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن شهاب الزهري، عن عمرو بن أبي أسد قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد واضعًا طرفيه على عاتقه". وأما حديث كَيْسان فأخرجه ابن ماجه (¬1): من رواية معروف بن مشكان، عن عبد الرحمن بن كيسان، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي بالبئر العليا في ثوب" وكيسان هو ابن جرير مولى خالد بن أبي أسيد الأموي. وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود (¬2): من رواية أبي صالح، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - صلى في ثوب بعضه عليّ". وأما حديث عبادة بن الصامت: فأخرجه الطبراني في "الكبير": من رواية إسحاق بن يحيى، عن عبادة: "أن رسول الله - عليه السلام - سئل عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: إن كان واسعًا فليضمّه، وإن كان عاجزًا فليتّزر به". وإسحاق بن يحيى لم يسمع من جده عبادة. وأما حديث حذيفة: فأخرجه أحمد في"مسنده" (¬3): من رواية الوليد بن عيزار، قال: قال حذيفة: "بتُّ بآل رسول الله - عليه السلام - فقام رسول الله - عليه السلام - يصلي وعليه طرف لحاف، وعلى عائشة طرفه وهي حائض لا تُصلِّي". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 333 رقم 1050). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 170 رقم 631). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 400 رقم 23444).

وأما حديث عبد الله بن أبي أمية: فأخرجه الطبراني في "الكبير": من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، قال: أخبرني عبد الله ابن أبي أمية: "أتى رأى النبي - عليه السلام - يصلي في بيت أم سلمة في ثوب واحد ملتحفًا به مخالفًا بين طرفيه". وأما حديث عبد الله بن أُنَيْس: فأخرجه الطبراني أيضًا في "الكبير": من رواية أبي الحسن، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أُنيس قال: "أتيتُ النبي - عليه السلام - وهو يصلي فقمت عن يساره، فأخذني رسول الله - عليه السلام - فأقامني عن يمنيه وعليّ ثوب متمزق لا يواري، فجعلت كلما سجدتُ أمسكته بيدي مخافة أن تنكشف عورتي وخلفي نساء، فلما انصرف رسول الله - عليه السلام - دعا لي بثوب فكسانيه وقال: تدرع بخلقك". وأما حديث عبد الله بن سرجس: فأخرجه الطبراني أيضًا: من رواية مسلم ابن أبي مريم، عن عبد الله بن سرجس: "أن نبي الله - عليه السلام - صلي يوما وعليه نمرة له ... " الحديث. وأما حديث عبد الله بن عبد الله بن المغيرة: فأخرجه أحمد (¬1): من طريق محمَّد بن إسحاق، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الله بن المغيرة المخزومي قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في بيت أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - في ثوب واحد ما عليه غيره". وقال ابن عبد البر: ذكره جماعة من الصحابة، وفيه نظر قال: ولا يصح له عندي صحبة؛ لصغره. وأما حديث علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: فأخرجه الطبراني (¬2): من ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 27 رقم 16385). (¬2) كذا عزاه المؤلف في "الأصل" ولم أجده، وقد عزاه الهيثمي في "المجمع" (2/ 51) للبزار في "مسنده" وقال: وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو ضعيف.

رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي فَروة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنَيْن، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا كان إزارك ضيقًا فاتّزر به، وإن كان واسعًا فاشتملْ به، يعني في الصلاة". وأما حديث معاذ: فأخرجه الطبراني (¬1): من رواية محمَّد بن صبيح، عن معاذ قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - في ثوب واحد مؤتزرًا به". وأما حديث معاوية بن أبي سفيان: فأخرجه الطبراني (¬2): من رواية طلحة ابن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، عن معاوية بن أبي سفيان: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي في الثوب الواحد". وأخرجه أبو يعلى (¬3) أيضًا. وأما حديث أبي أمامة: فأخرجه الطبراني (¬4) أيضًا: من رواية سويد بن سعيد، عن موسى بن عمير، عن مكحول، عن أبي أمامة قال: "أمَّنا رسول الله - عليه السلام - في قطيفة خالف بين طرفيها". وأما حديث أبي عبد الرحمن حاضن عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه الطبراني في "الأوسط": من رواية يحيى بن أبي محمَّد، عن أبي عبد الرحمن حاضن عائشة - رضي الله عنها - قال: "رأيت النبي - عليه السلام - وعائشة يصليان في ثوب واحد نصفه على النبي - عليه السلام - ونصفه على عائشة". وفي إسناده ضرار بن صرد وهو متروك. وأما حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -: فأخرجه أحمد (¬5): قال: نا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، حدثني ضمرة بن حبيب، أن محمَّد بن أبي سفيان الثقفي ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 161 رقم 335). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 331 رقم 761). (¬3) "مسند أبي يعلى" (13/ 364 رقم 7373). (¬4) "المعجم الكبير" (22/ 292 رقم 746). (¬5) "مسند أحمد" (6/ 325 رقم 26804).

حدثه، أنه سمع أم حبيبة زوج النبي - عليه السلام - تقول: "رأيت النبي - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد". وأما حديث أم الفضل: فأخرجه أحمد (¬1) أيضًا: من رواية أنس، عن أم الفضل بنت الحارث قالت: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - في بيته متوشحًا بثوبٍ". وأما حديث الرجل الذي لم يُسَمّ: فأخرجه أحمد (¬2) أيضًا: من رواية أبي مالك الأشجعي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: "أخبرني مَنْ رأى النبي - عليه السلام - يصلي في ثوب واحد وقد خالف بين طرفيه". وإسناده صحيح. قوله: "فقد يجوز ذلك" أي ما فعله النبي - عليه السلام - من الصلاة في ثوب واحد وثيابه على المشجب، بيانه أن فعل النبي - عليه السلام - يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك على شرط أن يكون الثوب واسعًا لا ضيقًا. والآخر: أن يكون ذلك مطلقًا سواء كان الثوب واسعًا أو ضيقًا. فإذا احتمل الوجهين المذكورين نحتاج أن ننظر هل ورد شيء من الأحاديث يدل على معنى معين؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا جابر بن عبد الله قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقول: "إذا اتسع الثوب فتعطّف به على عاتقك" أي: فاشتمل به، والعاتق موضع الرداء من المنكب وإذا ضاق -أي الثوب- فاتّزر به ثم صلّ، فدلّ هذا أن المعنى المقصود هو الاشتمال، وأنه ينبغي أن يفعل به في الثوب الذي يصلي فيه وإذا لم يقدر عليه لضيق الثوب فإنه يتزر به. وأخرجه بإسناد حسن جيد: عن عبد الرحمن بن عمرو أبي زرعة الدمشقي الحافظ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن فطر بن خليفة القرشي الكوفي الحناط -بالنون- روى له البخاري مقرونًا بغيره والأربعة، عن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 338 رقم 26913). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 462 رقم 15240).

شرحبيل بن سَعْد المدني، فهو وإن ضعفه يحيى والدراقطني فقد وثقه ابن حبان وروى له أبو داود وابن ماجه. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن أحمد، نا محمَّد بن مسلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد، عن شرحبيل، عن جابر قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - في إزار مؤتزرًا به، فقلت: يا رسول الله. تصلى في إزار؟ فقال: نعم، إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه، فإن عجز أو ضاق فاتَّزر به". وأخرج البخاري (¬1): ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: "سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: خرجت مع رسول الله - عليه السلام - في بعض أسفاره، فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي، وعليّ ثوب واحدٌ فاشتملت به وصليت إلى جانبه، فلما انصرف قال: ما السُّرَى يا جابر؟ فأخبرته بحاجتي، فلما فرغتُ قال: ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب يعني ضاق. قال: فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيّقا فاتّزر به". وأخرج أبو داود (¬2): من حديث عبادة بن الصامت، عن جابر حديثًا طويلًا، وفي آخره قال: "يا جابر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقًا فاشدُدْه على حَقْوكُ". الحَقْو: موضع عقد الإزار، ويجمع على أُحْق وأَحْقاء. ص: واحتجنا أن ننظر في حكم الثوب الواسع الذي يستطيع أن يتّزر به ويشتمل، هل يشتمل به أو يتّزر فكيف يفعل؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 142 رقم 354). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 171 رقم 634).

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قالا: ثنا سفيان، عن أبي الزناد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن منقذ، قال: حدثني إدريس بن يحيى، عن عبد الله بن عياش، عن ابن هرمز، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم في ثوب فليجعل على عاتقه منه شيئًا". فنهى - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي الزناد عن الصلاة في الثوب الواحد متَّزرًا به، وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا أنه نهى أن يُصلّي الرجل في السراويل وحده ليس عليه غيره. حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني زيد بن الحباب، عن أبي المنيب، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فهذا مثل ذلك، وهذا عندنا على الوجود معه لغيره، وإن كان لا يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة في الثوب الصغير متَّزرًا به، فهذا تصحيح معاني هذه الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - في هذا الباب. ش: لما بيّن إباحة الصلاة في الثوب الواحد مطلقًا -يعني في حال قدرته على غيره، وفي حالة عدم قدرته- وبين أن المراد من ذلك الاشتمال به لورود الأحاديث المتكاثرة بصلاة النبي - عليه السلام - في الثوب الواحد متوشحًا، وبيّن أيضًا أن ذلك يجوز أن يكون في حق الثياب مطلقًا يعني سواء كانت واسعةً أو ضيقة، ويجوز أن يكون في حق الثياب الواسعة، ثم بيَّن التفصيل فيه بأنه إذا كان الثوب واسعًا يتعطّف به يعني يشتمل به، وإذا كان ضيقًا يتّزر به؛ شرع يُبيّن حكم الثوب الواسع الذي يمكن الاشتمال والاتِّزار به كلاهما، هل يقتصر على الاشتمال به أو على الاتزار به؟

فأخرج عن أبي هريرة ما يدل على النهي عن الصلاة في الثوب الواحد متزرًا به كما جاء النهي أيضًا عن الصلاة في السراويل وحده، ثم ذكر أن هذا محمول على ما إذا وجد معه غيره، فإذا وجد غيره فإنه يكره له أن يصلي فيه متزرًا، وأما إذا لم يجد غيره فإنه لا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة في الثوب الصغير متَّزرًا به، والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله ابن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، عن ابن عيينة -قال زهير-: ونا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): عن أبي عاصم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن أبي الزناد ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد، نا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شيء". الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن أبي الزناد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 368 رقم 516). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 141 رقم 352). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 169 رقم 626).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن منصور، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يُصلِّيّن أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". الرابع: عن إبراهيم بن منقذ العُصْفري، عن إدريس بن يحيى الخولاني، عن عبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وفي آخره شين معجمة- القتباني المصري روى له مسلم وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد في "مسنده" (¬2). وأما حديث بريدة بن الحُصيب - رضي الله عنه -: فأخرجه عن عيسى بن إبراهيم الغافقي أبي موسى المصري شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن عبد الله بن وهب المصري، عن زيد بن الحُبَاب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة وفي آخره باء أخرى- بن الريان الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي السِّنْجي، فعن يحيى: ثقة، وقال البخاري: عنده مناكير. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. عن عبد الله بن بريدة بن الحُصَيب الأسلمي روى له الجماعة، عن أبيه بُرَيْدة. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمَّد بن يحيى بن فارس، نا سعيد بن محمَّد، نا أبو تُمَيْلة، نا أبو المنيب عبد الله العتكي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن تُصلّي في لحاف ولا توشِّح به، والآخر أن تصلي في سراويل ليس عليك رداء". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 71 رقم 769). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 255 رقم 7459). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 172 رقم 636).

قوله: "في السراويل" زعم ابن سيده أنه فارسي معرب يذكر ويؤنث، ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث، وجمعه: سراويلات. وقال سيبويه: لا يكسّر؛ لأنه لو كسّر لم يرجع إلا إلى لفظ الواحد فترك. وقد قيل: سراويل جمع واحده سروالة. ويقال فيه: السرواين، زعم يعقوب أن النون فيها بدل من اللام. وفي "الجامع" للقزاز: سراويل وسِروال وسَرْويل ثلاث لغات، وفي "الصحاح": وهي مصروفة في النكرة، والعمل على هذا القول، وعدم الصرف أقوي منه. وقال أبو حاتم السجستاني: السراويل مؤنثة لا يذكّرها أحد علمناه، وبعض العرب يظن السراويل جماعةً، وسمعت مَن الأعراب من يقول: الشِروال، بالشين المعجمة. قلت: الشْروال مثل السراويل ولكنه يُلبس فوق القماش كله لأجل حفظه عن نحوالطين والوسخ، ولأجل التشمير وحفظ القماش وجمعه، وغالبًا يَلْبسه المسافرون ركّاب الخيل، والعجم تقول للسراويل: شلوار. وبظاهر هذا الحديث أخذ بعض أصحابنا وكرهوا الصلاة في السراويل وحدها، والصحيح أنه إذا ستر عورته لا تكره الصلاة فيه وحده. ص: وقد رُوِيَت عن أصحابه في ذلك آثار منها: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مُسَدّد، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: "أن رجالًا من المسلمين كانوا يشهدون الصلاة مع رسول الله - عليه السلام - عاقدين ثيابهم في رقابهم ما على أحدهم إلا ثوبٌ واحدٌ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا محمَّد بن حِمير، قال: ثنا ثابت بن العجلان، قال: ثنا أبو عامر سليم الأنصاري: "أنه صلى مع أبي بكر - رضي الله عنه - في خلافته سبعة أشهر، فرأى أكثر من يصلي معه من الرجال في ثوب واحد -يدعى بُرْد- ليس عليهم غيره".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلى بنا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يوم اليرموك في ثوب واحدٍ قد خالف بين طرفيه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن قيس بن أبي حازم قال: "أَمَّنَا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يوم اليرموك في ثوبٍ واحدٍ قد خالف بين طرفيه، وخلفه أصحاب محمَّد - عليه السلام -". ففيما روينا عمَّن ذكرنا من أصحاب النبي - عليه السلام - من الصلاة في الثوب الواحد ما يضادّ ما روينا عن عمر - رضي الله عنه -، ثم قد ثبت عن النبي - عليه السلام - في الآثار المتقدمة ما قد وافق ذلك، فذلك أولى أن يؤخذ به مما روي عن عمر - رضي الله عنه -، وهذا -الذي صحَّحنا- قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: قد رويت عن أصحاب رسول الله - عليه السلام - في الصلاة في ثوب واحدٍ آثار، منها -أي من الآثار- ما أخرجه عن أبي بكرة بكار، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن بشر بن المفضل بن لاحق البصري، عن عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث المدني، عن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سَعْد قال: "كان رجال يصلون مع النبي - عليه السلام - عاقدي أُزُرِهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 142 رقم 355).

وأخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3). قوله: "عاقدي ثيابهم" أصله: عاقدين، سقطت النون للإضافة، ونصبه على الحال. ومنها: ما أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البُرلُّسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفَوْزي شيخ البخاري، عن محمَّد بن حِميَر -بكسر الحاء وسكون الميم وفتح الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن أنيس القضاعي روى له البخاري والنسائي وابن ماجه، عن ثابت بن عجلان الأنصاري الحمصي روى له هؤلاء أيضًا، عن أبي عامر سُليم -بضم السين- الشامي، وثقه ابن حبان. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): عن محمد بن عمرو الأسلميّ، قال: أنا الضحاك بن عثمان، عن حبيب مولي عروة، قال: سمعت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - تقول: "رأيت أبي يصلي في ثوبٍ واحد، فقلت: يا أبَهْ، تصلي في ثوب واحد وثيابك موضوعة؟! فقال: يا بنية إن آخر صلاة صلاها رسول الله - عليه السلام - في ثوبٍ واحدٍ". ومنها ما أخرجه عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز -وقيل: سعد، وقيل: كثير- الكوفي روى له الجماعة، عن قيس بن أبي حازم حصين بن عوف البجلي الأحمسي أبي عبد الله الكوفي، أدرك الجاهلية وهاجر إلى النبي - عليه السلام - ليبايعه فقُبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه وهو يخطب، ولم يثبت ذلك، وأبو حازم له صحبة، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 326 رقم 441). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 170 رقم 630). (¬3) "المجتبى" (2/ 70 رقم 766). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 287 رقم 3195).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن طارق، عن قيس بن أبي حازم قال: "كان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يخرج فيصلي بالناس في ثوبٍ واحدٍ". والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن قيس بن أبي حازم. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا غُندر، عن شعبة، عن الحكم، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلى بنا خالد بن الوليد في ثوبٍ واحدٍ في الوفود، وقد خالف بين طرفيه، وخلفه أصحاب رسول الله - عليه السلام -". قوله: "يوم اليَرْمُوك" بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء وضم الميم وفي آخره كاف. قال الجوهري: يرموك: موضع بناحية الشام. وقال غيره: هو نهر، وكانت عليه الوقعة بين الصحابة والروم في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وذكر سيف بن عمر أن وقعة اليرموك كانت في سنة ثلاث عشرة من الهجرة قبل فتح دمشق، وتبعه على ذلك ابن جرير الطبري. وقال محمَّد بن إسحاق: كانت في رجب سنة خمس عشرة. ونقل ابن عساكر عن أبي عبيد وابن لهيعة والليث وأبي معشر أنها كانت في سنة خمس عشرة بعد فتح دمشق. وقال ابن الكلبي: كانت وقعة اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 276 رقم 3168). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 276 رقم 3171).

وقال ابن عساكر: وهذا هو المحفوظ، وما قاله سيفٌ من أنها قبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة، فلم يتابع عليه، والله أعلم. قوله: "ما يضاد" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "ففيما روينا". وقوله: "ما روينا عن عمر" مفعول "يضاد". قوله: "فذلك أولى" أي الذي روينا عن الصحابة والذي ثبت عن النبي - عليه السلام - أولى وأحق أن يؤخذ به مما روي عن عمر - رضي الله عنه - الذي مضى ذكره في أول الباب؛ وذلك لتواتر الروايات عن النبي - عليه السلام - ثم مَنْ بعده من الصحابة في إباحة الصلاة في الثوب الواحد، فصار كالإجماع على هذا الحكم. وقال الطحاوي: صلاة النبي - عليه السلام - في الثوب الواحد في حال وجود غيره من الأخبار المتواترة.

ص: باب: الصلاة في أعطان الإبل

ص: باب: الصلاة في أعطان الإبل ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلاة في أعطان الإبل، والأعطان جمع عطن وهو مَبْرك الإبل. قال الجوهري: العَطَن والمَعْطَن واحد الأعْطَان والمَعَاطن، وهي مبارك الإبل عند الماء ليشْرب علَلًا بعد نَهَل، فإذا استوفت رُدّت إلى المراعي والأظماء، ويقال: عَطَنَت الإبل -بالفتح- تُعْطِن وتَعْطِن عُطُونًا: إذا رويت ثم بَرَكَت فهي إبل عَاطِنة وعَوَاطِن وقد ضربت بعطن أبي بركت، وقد أعطنتها أنا. قال ابن السكيت: وكذلك تقول: هذا عَطَن الغنم ومَعْطَنِها: لمرابضها حول الماء. وجه المناسبة بين البابين: من حيث وجود الكراهة في كل منهما، أما في الأول فلوجود كراهة الصلاة في الثوب الواحد عند البعض، وأما في هذا فلوجود كراهة الصلاة في عطن الإبل. ص: حدثنا يزيد بن سنان وصالح بن عبد الرحمن وبكر بن إدريس، قالوا: ثنا أبو عبد الرحمن المُقْرئ، قال: ثنا يحيى بن أيوب أبو العباس المصري، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحُصين، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن الصلاة في سَبْع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق بيت الله -عز وجل-". ش: أبو عبد الرحمن المقرئ اسمه عبد الله بن يزيد القصير شيخ البخاري، ويحيى بن أيوب الغافقي روى له الجماعة، وزيد بن جَبيرة بفتح الجيم وكسر الباء والموحدة بن محمود بن أبي جُبَير بن الضحاك الأنصاري المديني أبو جبيرة، قال يحيى بن معين: لا شيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث جدًّا لا يكتب حديثه، روى له الترمذي وابن ماجه، وداود بن الحصين القرشي المدني روى له الجماعة.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: نا المقرئ، قال: نا يحيى ابن أيوب ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "وفوق ظهر بيت الله". قال أبو عيسى: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي؛ قد تُكُلِّمَ في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا: عن محمَّد بن إبراهيم الدمشقي، عن عبد الله ابن يزيد، عن يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة ... إلى آخره نحوه. قوله: "في سَبْع مواطن" كذا في رواية ابن ماجه، وفي رواية الترمذي: "في سبعة مواطن"، والظاهر رواية الطحاوي؛ لأن المواطن جمع موطن وهو مؤنث؛ لأنه اسم لبقعة من الأرض معينة، وقد عرف أن العدد يذكر في المؤنث ويؤنث في المذكر إلى العشرة. قوله: "في المَزْبَلَة" وهي موضع رمي الزبالات، وهي بفتح الميم والباء، وحكى الجوهري فيها ضم الباء. قوله: "والمجزرة" بفتح الميم والزاي موضع جزر الإبل أي ذبحها، وقال ابن الأثير: المجزرة الموضع الذي تُنحر فيه الإبل وتذبح فيه البقر والشاء، وجمعها المجازر. قوله: "والمَقْبُرة" بفتح الميم وضم الباء، وقد تفتح، وقال ابن الأثير: المقبرة موضع دفن الموتى وتضم باؤها وتفتح. قلت: المَقْبَرة -بفتح الميم والباء- اسم مكان من قَبَر يَقْبُر، والمقبُرة -بضم الباء- اسم موضوع للمكان الذي يدفن فيه الموتى، وذكر في شرح "الهادي" أن ما جاء على مفعُلة -بالضم- يراد بها أنها موضوعة لذلك ومتخذة له، فإذا قالوا: المقبَرة بالفتح أرادوا مكان الفعل، وإذا ضموا أرادوا البقعة التي من شأنها أن يقبر فيها الموتى. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 177 رقم 346). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 246 رقم 746).

وذكر بعضهم أن المقبرة بالفتح أو الضم ليس بمقياس، أما الفتح فلأنه لم يُرد بها مكان الفعل -يعني موضع وقوع الفعل- ولا زمانه، بل أريد المكان المخصوص، والفتح لمكان الفعل أو زمانه، وأما الضم فظاهر؛ لأن مضارعها مضموم العين، فالقياس الفتح. وفيه نظر؛ لأن الضم إنما يكون غير قياس إن لو أريد بها مكان الفعل، أما لو أريد بها المكان الخاص فلا يكون خارجًا عن القياس. وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": وقد يدخل على بعضها تاء التأنيث مع جريها على القياس كالمزلّة والمقبرة، ومع مخالفته كالمظنة، وأما ما جاء على مَفْعُلة -بالضم- فأسماء غير جارية على الفعل ولكنها بمنزلة قارورة وشبهها. قلت: معنى كلامه أنها أسماء غير مذهوب بها مذهب الأفعال، فإذا ضموا أرادوا اسم المكان مع قطع النظر عن كونه من الفعل كالقارورة فإنه اسم مع قطع النظر عن فعله فإنه لا يسمى كل ما يقر فيه الشيء قارورة وإن كان معنى القرار موجودًا فيه، وشبهها، فافهم. قوله: "وقارعة الطريق" قال الجوهري: قارعة الطريق أعلاه. قوله: "ومعاطن الإبل" المَعَاطِن جمع مَعْطَن وهو مبرك الإبل، وقد مرّ الكلام فيه مستوفى عن قريب. قوله: "وفوق بيت الله -عز وجل-" أراد بها فوق الكعبة شرفها الله تعالى. ويستنبط منه أحكام: كراهة الصلاة في المزبلة؛ لأنها موضع الزبالات ولا تخلو عن النجاسات، وكراهتها في مجازر الإبل والبقر والشاء؛ لأجل النجاسة التي فيها من دماء الذبائح وأرواثها، فإن وجد هناك موضعًا طاهرًا وصُلي فيه فلا بأس به. قال ابن حزم في "المحلى": والصلاة في البيعة والكنيسة وبيت النار والمجزرة -ما اجتنب البول والروث والدم- وعلى قارعة الطريق وبطن الوادي ومواضع

الخسف وإلى البعير والناقة والمتحدث والقيام وفي كل موضع جائزة ما لم يأت نص أو إجماع متيقن في تحريم الصلاة في مكان ما، فيوقف عند النهي في ذلك. وقد روينا عن رسول الله - عليه السلام - من طريق أبي هريرة وجابر وحذيفة وأنس - رضي الله عنهم -: أن من فضائلنا أن الأرض جُعلت لنا مسجدًا، وكل ما ذكرنا من الأرض فالصلاة فيه جائزة حاشى ما جاء النص بالمنع من الصلاة فيه كعطن الإبل والحمام والمقبرة وإلي قبر وعليه والمكان المغصوب والنجس ومسجد الضرار، وإنما جاء النهي عن الصلاة في المجزرة وظهر بيت الله الحرام من طريق زيد بن جبيرة وهو لا شيء، ومن طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف، وجاء النهي عن الصلاة في موضع الخسف من طريق ابن لهيعة وهو لا شيء، وجاء النهي عن الصلاة على قارعة الطريق من طريق الحسن عن جابر، ولا يصح سماع الحسن عن جابر - رضي الله عنه -. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬1): وزاد أصحابنا: المجزرة والمزبلة ومحجة الطريق وظهر الكعبة؛ لأنها في خبر عمر وابنه - رضي الله عنهما -، وقالوا: لا يجوز فيها الصلاة، ولم يذكرها الخرقي فيحتمل أنه جوّز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم؛ لعموم قوله: "جُعلت لي الأرض مسجدًا" وهو صحيح متفق عليه (¬2)، واستثني منها المقبرة والحمام ومعاطن الإبل بأحاديث صحيحة خاصة، ففيما عدا ذلك يبقى على العموم، وحديث ابن عمر وأبيه يرويهما العُمريُّ وزيد بن جَبيرة، وقد تكلَّم فيهما من قبل حفظهما فلا يترك الحديث الصحيح بحديثيهما، وهذا أصح، وأكثر أصحابنا فيما علمت عملوا بخبر عمر وابنه في المنع من الصلاة في المواضع السبعة. ومعنى "محجة الطريق": الجادة المسلوكة التي يسلكها السابلة، وقارعة الطريق يعني التي تقرعها الأقدام فاعلة بمعني مفعولة مثل الأسواق والمشارع ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 754). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 168 رقم 427)، و"صحيح مسلم" (1/ 370 رقم 521).

والجادّة للسَفر، ولا بأس بالصلاة فيما علا منها يمنةً ويسرةً ولم يكثر قرع الأقدام له، وكذلك لا بأس بالصلاة في الطريق التي يقل سالكوها. و"المجزرة": الموضع الذي تذبح فيه البهائم للقصابين وشبهها معروفًا بذلك معدًّا. و"المزبلة": الموضع الذي يجمع فيه الزبل ولا فرق في هذه المواضع بين ما كان منها طاهرًا أو نحبسًا, ولا بين كون الطريق فيه سالكًا أو لم يكن، ولا في المعاطن بين أن يكون فيها إبل أو لم يكن في ذلك الوقت. ثم قال: يكره أن يصلى إلى هذه المواضع، فإن فعل صحت صلاته، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي طالب، انتهى. وفيه دلالة أيضًا على كراهة الصلاة في المقبرة، واختلف العلماء في ذلك، فكان الشافعي يقول: إذا كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته. ورخص عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الصلاة في المقبرة، وحكي عن الحسن البصري أنه صلى في المقابر. وعن مالك: لا بأس بالصلاة في المقابر. وقال أبو ثور: لا يصلى في حمام ولا مقبرة؛ على ظاهر الحديث. وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك، ورُويت الكراهة فيه عن جماعة من السلف. وقال أصحابنا: إنما تخرج المقبرة عن كونها مسْجدًا إذا ظهرت فيه صدايد الموتي ونحوها، حتى إذا صلى في موضع طاهر منها يجوز. وفي "المغني" (¬1) لابن قدامة: وقد سئل أحمد عن الصلاة إلى المقبرة والحمام ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 754).

والحش، قال: لا ينبغي أن يكون في القبلة قبر ولا حشّ ولا حمام، فإن كان يجزئه. وقال أبو بكر: يتوجه في الإعادة قولان: أحدهما: يعيد لموضع النهي، وبه أقول. والثاني: يصح؛ لأنه لم يصلّ في شيء من المواضع المنهي عنها. وقال أبو عبد الله بن حامد: إن صلى إلى المقبرة والحشّ فحكمه حكم المصلى فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل. ثم قال: والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة. وقال أيضًا: ولا فرق في المقبرة بين الحديثة والقديمة وما نقلت أتربتها أو لم تنقل؛ لأنه يتناولها اسم المقبرة، وإن نقلت القبور منها جازت الصلاة فيها، وإن كان في الموضع قبر أو قبران لم يمنع من الصلاة فيها؛ لأنها لا يتناولها اسم المقبرة، وممن روي عنه أنه كره الصلاة في المقبرة علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وابن المنذر، انتهى. وفيه دلالة أيضًا على كراهة الصلاة في قارعة الطريق، قيل: النهي في ذلك لكونها مظنة النجاسات، وقيل: لئلا يعوق المارُّ فيها. قلت: فعلى الأول: إذا صلى في مكان طاهر منها أجزأته صلاته من غير كراهة. وعلى الثاني: إذا لم يكن فيها مارٌّ لا يكره أيضًا. وفيه دلالة أيضًا على كراهة الصلاة في الحمام، قال أصحابنا: إنما يخرج الحمام عن كونه مسجدًا إذا كانت النجاسة فيه ظاهرةً، أو صلى في موضع فيه غسالات، حتى لو صلى فيه في مكان طاهر أو غسل موضعًا منه وصلى فيه يجوز بلا كراهة. وكذا قال الشافعي: إذا صلى في الحمام في موضع نظيف منه فلا إعادة عليه. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في الصلاة في الحمام، فعنه: أنها لا تصح فيها بحال.

وعنه: أنها تصح ما لم يكن على موضع نجس. وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وكذلك اختلفت الرواية عن أحمد في الحشّ والمقبرة وأعطان الإبل. وفي "المغني": وإن صلى على سطح الحشّ أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها فذكر القاضي أن حكمه حكم المصلى فيها؛ لأن الهواء تابع للقرار. وفيه دلالة على كراهة الصلاة على سطح الكعبة. وفي "المغني" (¬1): ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها، وجوّزه الشافعي وأبو حنيفة؛ لأنه مسجد، ولأنه محلّ لصلاة النفل فكان محلًا للفرض كخارجها، وتصح النافلة في الكعبة وعلى ظهرها لا نعلم فيه خلافًا، والله أعلم. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الخضر بن محمَّد الحراني، قال: ثنا عباد بن العوام، قال: أنا الحجاج، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله مولى بني هشام وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُسَيْد بن حُضَيْر، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صلّوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، والحجاج بن أرطاة النخعي روى له الجماعة البخاري في "الأدب"، ومسلم مقرونًا بغيره، وعبد الله بن عبد الله -كلاهما مكبّر- الرازي قاضي الريّ، وثقه أحمد والعجلي وروى له الأربعة النسائي في "مسند عليّ - رضي الله عنه -". وأسيد بن حُضَير -كلاهما بالتصغير- الأنصاري الصحابي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبو معمر القطيعي إسماعيل بن إبراهيم، نا عباد بن العوام، عن حجاج بن أرطاة، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير ¬

_ (¬1) "المغني" (1/ 757 - 758). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 206 رقم 559).

قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صلوا في مرابض الغنم ولا توضئوا من ألبانها، ولا تصلوا في معاطن الإبل وتوضئوا من ألبانها". قوله: "في مرابض الغنم" جمع مَربض -بفتح الميم- من رَبَضَ في المكان يَرْبِضُ إذا ألصق بها وأقام ملازمًا لها. وفي "الصحاح": وربوض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل وجثوم الطير، يقال: ربضت الغنم تربض بالكسر ربوضًا، وأربضها أنا. و"الأعطان" جمع عطن، وقد مرّ تفسيره. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله ابن إدريس، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: قال رجل للنبي - عليه السلام -: "أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أتوضأ من لحومها؟ قال: لا. قال: أصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا. قال: أتوضأ من لحومها؟ قال: نعم". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، والأعمش هو سليمان، وعبد الله بن عبد الله هو المذكور في السند السابق. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: أنا أبو معاوية، قال: أنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن الوضوء من لحوم الإبل، قال: توضئوا منها. وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضئوا منها. وسئل عن الصلاة في مَبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطن. وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة". وأخرجه الترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3) مختصرًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 47 رقم 184). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 123 رقم 81). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 166 رقم 494).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قالا: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم ومعاطن الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل". ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الله بن بكر السهمي، عن هشام بن حسان العنبري، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أبو كريب، قال: نا يحيى، عن أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صلّوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا يزيد بن هارون، وثنا أبو بشر بكر بن خلف، نا يزيد بن زريع، قالا: نا هشام بن حسان، عن محمَّد ابن سيرين، عن أبي هريرة: قال قال رسول الله - عليه السلام -: "إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين". ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن سماك بنحرب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، أن رجلًا قال: "يا رسول الله، أصلي في مَبَاءة الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 180 رقم 348). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 252 رقم 768).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذا إسنادان صحيحان: أحدهما: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن المنهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا يوسف القاضي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور بن جابر بن سمرة، عن جده جابر بن سمرة، أن رجلًا قال: "يا رسول الله أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. قال: أصلي في مباءة الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا". قوله: "في مَبَاءة الإبل" أي في منزلها الذي تأوي إليه وهو المتبوّأ أيضًا، يقال: بوأه منزلًا أي أسكنه، وتبوأت منزلًا أي اتخذته، والمَبَاءة -بفتح الميم- اسم الموضع منه. والآخر: عن ابن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري ... إلى آخره. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا محمَّد بن سليمان لُوَيْنٌ، نا أبو عوانة، عن عثمان بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة قال: "كنت جالسًا عند النبي - عليه السلام - فسألوه: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ فقال: إن شئتم فتوضئوا وإن شئتم لا توضئوا. فقالوا: يا رسول الله أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضئوا. قالوا: يا رسول الله، نصلى في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قالوا: نصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 210 رقم 1860). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 98 رقم 20963).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بطرق متعددة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن، عن عبد الله بن مُغفل قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". ش: أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، ومبارك بن فضالة القرشي البصري فعن يحيى: ضعيف. ووثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: يدلس كثيرًا، فإذا قال: حدثنا فهو ثقة. استشهد به البخاري، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. والحسن هو البصري. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا نعيم، عن يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل المزني ... إلى آخره نحوه. ص: فذهب قوم إلى أن الصلاة في أعطان الإبل مكروهة واحتجوا بهذه الآثار، حتى غلَّظ بعضهم في حكم ذلك فأفسد الصلاة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: الصلاة في أعطان الإبل مكروهة، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، ويروى هذا عن عبد الله بن عمر وجابر بن سمرة. قوله: "حتى غلَّظ بعضهم" أي بعض هؤلاء القوم وأراد به أحمد؛ فإنه قال في رواية مشهورة عنه: إنه إذا صلى في أعطان الإبل فسدت صلاته وعليه أن يعيدها، وعنه: إنها صحيحة وليس عليه الإعادة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فأجازوا الصلاة في ذلك الموطن. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة ومالكًا ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 92 - 108 رقم 20899، 20907، 20992، 20993، 21018، 21053، 21082) وغير ذلك. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 253 رقم 769).

والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا وجمهور العلماء؛ فإنهم أجازوا الصلاة في أعطان الإبل لعموم قوله - عليه السلام - "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، ويأتي الجواب عن الحديث المذكورة الآن إن شاء الله تعالى. ص: وكان من الحجة لهم: أن هذه الآثار التي نهت عن الصلاة في أعطان الإبل قد تكلم الناس في معناها وفي السبب الذي من أجله كان النهي، فقال قوئم: أصحاب الإبل من عادتهم التغوط بقرب إبلهم والبول فينجِّسون بذلك أعطان الإبل، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل لذلك لا لعلة الإبل، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت، وأصحاب الغنم من عادتهم تنظيف مواضع غنمهم وترك البول فيه والتغوط فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك. هكذا روي عن شريك بن عبد الله أنه كان يفسّر هذا الحديث على هذا المعنى. وقال يحيى بن آدم: ليس من قبل هذه العلة عندي جاء النهي، ولكن من قِبَل أن الإبل يُخاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذٍ، ألا ترى أنه يقول: إنها جنّ ومن جنٍّ خلقت، وفي حديث رافع بن خديج، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش" وهلا فغير مخوف من الغنم؛ فأمر باجتناب الصلاة في معاطن الإبل خوف ذلك من فعلها, لا لأن لها نجاسة ليس للغنم مثلها، وأبيحت الصلاة في مرابض الغنم لأنه لا يُخاف منها ما يخاف من الإبل. حدثني خلاد بن محمَّد، عن ابن الثلجي، عن يحيى بن آدم بالتفسيرين جميعًا. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أن عياضًا قال: "أنما نهي عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأن الرجل يستتر بها ليقضي حاجته". فهذا التفسير موافق لتفسير شريك.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين وهم أهل المقالة الثانية، وأشار بذلك إلى أن الأحاديث المذكورة محمولة على معاني يمنع الاحتجاج بها لما ذهب إليه أهل المقالة الأول على الإطلاق، وذكر فيها ثلاثة معاني أسند الاثنين عن خلاد بن محمَّد الواسطي، عن محمد بن شجاع بن الثلجي -بالثاء المثلثة- البغدادي من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي أبي زكرياء الكوفي روى له الجماعة، ذكره أصحابنا في جملة الأئمة الحنفية رحمهم الله، وأسند المعنى الثالث عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عياض، ذكره غير منسوب، والظاهر أنه عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، وثقه ابن معين والنسائي وابن حبان، ويحتمل أن يكون عياض بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر القرشي الفهري المدني، نزيل مضر، وثقه ابن حبان، وعلَّل الخطابي أيضًا بالعلة الثانية، وذكر القاضي عياض في "شرح مسلم" العلة الثالثة. وذكر الخطابي عن بعضهم علة أخرى وهي أن معنى النهي عن الصلاة في أعطان الإبل: أن المراد بذلك ما سَهُل من الأرض؛ لأنها مبوأ الإبل إذ لا تألف الحرونة، ومثل ذلك لا تظهر فيها النجاسة لإثارة ترابها وكثرته واختلاطها به فلا يؤمن كونها فيه. قال القاضي عياض: وهذا بعيد في الفقه والتأويل. والصواب ما قاله يحيى بن آدم, لأن ما جاء أنها جِنّ ومن جِنٍّ خلقت يساعد هذا؛ لأنه يدل صريحًا أن سبب النهي عن الصلاة في أعطان الإبل هو كونها مخلوقة من الجن؛ لأنه - عليه السلام - عَلّل بقوله: "فإنها خُلِقَتْ من الشياطين"، هذا في لفظ أبي هريرة، رواه ابن ماجه كما ذكرناه.

وفي رواية أبي داود عن البراء بن عازب: فإنها من الشياطين، فهذا يدل على [أن] (¬1) الإبل مخلوقة من الجن؛ لأن الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال التي ذكرت عن العلماء، وكذا حديث رافع بن خديج يؤيد هذا التأويل. أخرجه البخاري (¬2)، وقال: حدثني موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جده رافع بن خديج قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصبنا إبلًا وغنمًا، وكان النبي - عليه السلام - في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع إليهم النبي - عليه السلام - فأمر بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرةً من الغنم ببعير، فندَّ منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي - عليه السلام -: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ندَّ [عليكم منها] (¬3) فاصنعوا به هكذا ... " الحديث. وأخرجه مسلم (¬4) وأبو داود (¬5) والتزمدي (¬6). قوله: "أوابد" جمع آبدة وهي التي قد تأبدت أي توحشت ونفرت من الإنس، وقد أَبَدَتْ تأبِد وتأبَدُ من باب نَصَرَ يَنْصُرُ وضَرَبَ يَضْرِبُ. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي إلى بعيره". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك". (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2095 رقم 5179). (¬3) في "الأصل، ك" "عليهم"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1558رقم 1968). (¬5) "سنن أبي داود" (3/ 102 رقم 2821). (¬6) "جامع الترمذي" (4/ 82 رقم 1492).

ش: إسناده صحيح، ومحمد بن سعيد بن سليمان الكوفي أبو جعفر الأصبهاني شيخ البخاري، وأبو بكر عبد الله بن أبي شيبة محمَّد بن إبراهيم الكوفي الحافظ شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه. وأبو خالد الأحمر اسمه سليمان بن حيان روى له الجماعة، وعبيد الله بن عمر العمري. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا صدقة بن الفضل، ثنا سليمان بن حيان، نا عبيد الله، عن نافع قال: "رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره وقال: رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعله". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير، قالا: نا أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - كان يصلي إلى راحلته" وقال ابن نمير: "إن النبي - عليه السلام - صلى إلى بعيره". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا عثمان بن أبي شيبة ووهب بن بقية وابن أبي خلف وعبد الله بن سعيد -قال عثمان-: نا أبو خالد، قال: أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - يصلي إلى بعيره". وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - صلى إلى بعيره أو راحلته، وكان يصلي على راحلته حيث ما توجهت به". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. واعلم أن البخاري أخرج هذا الحديث في باب "الصلاة في مواضع الإبل". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 166 رقم 420). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 359 رقم 552). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 184 رقم 692). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 183 رقم 352).

وقال أبو بكر الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث بيان أنه صلى في موضع الإبل وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه، وليس إذا أنيخ بعير في موضع صار ذلك عطنًا أو مأوى للإبل. فإن قيل: فهذا الطحاوي أيضًا قد أخرجه في باب "الصلاة في أعطان الإبل" كالبخاري فما قيل فيه فهو وارد فيه. قلت: ليس كذلك؛ لأن الطحاوي لم يبوِّب على هذا الحديث كالبخاري، وإنما ذكره في هذا الباب لبيان إباحة الصلاة إلى البعير، وليدل على أن النهي عن الصلاة في أعطان الإبل لا لأنه لا يجوز الصلاة بحذائها كما يصرح به هكذا، على ما يجيء عن قريب. ثم اعلم أن القرطبي قال: في هذا الحديث دلالة أن أبوال الإبل ليست بنجسة وكذا روثها, ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطنها؛ لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء. وقال ابن التين: عن مالك: ولا يُصلّى إلى الخيل والحمير؛ لأن أبوالها نجسة. قلت: عند محمَّد بن الحسن: أبوال الفرس طاهرة فيصلى إليها. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا يحيى بن أبي بكير العَبدي، قال: ثنا إسرائيل، عن زياد المُصَفّر، عن الحسن، عن المقدام الرهاوي قال: "جلس عبادة بن الصامت وأبو الدرداء والحارث بن معاوية - رضي الله عنهم - فقال أبو الدرداء: أيكم يحفظ حديث رسول الله - عليه السلام - حين صلّى بنا إلى بعير من المغنم؟ فقال عبادة: أنا. قال: فحدِّث. قال: صلَّى بنا رسول الله - عليه السلام - إلى بعير من المغنم ثم مدَّ يده فأخذ وَبَرةَ من البعير فقال: ما يحلَّ لي من غنائمكم هذه إلا الخُمس وهو مردود فيكم".

ش: يحيى بن أبي بكير واسمه بشر، ويقال: نسر -بالنون والسين المهملة- ويقال: بشير بن أسيد العبدي القيسي أبو زكرياء الكرماني، روى له الجماعة. وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة. وزياد المصَفِّر مولى مصعب، كنيته أبو عثمان، وثقه ابن حبان. والحسن هو البصري، والمقدام الرهاوي ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. والحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬1): قال: حدثني يحيى بن عثمان أبو زكرياء البصري الحربي، نا إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبي سلام، عن المقدام بن معدي كرب الكندي: "أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله - عليه السلام - في غزوة كذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: قال إسحاق -يعني ابن عيسى- في حديثه: إن رسول الله - عليه السلام - صلى بهم في غزوتهم إلى بعير من المقسم، فلما سلَّم قام رسول الله - عليه السلام - فتناول وَبَرةً بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخَيْط والِمخْيط وأكبر من ذلك وأصغر، لا تغلّوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله -عز وجل- فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم". وأخرجه أحمد أيضًا (¬2): عن أبي اليمان وإسحاق بن عيسى، كلاهما عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلام- قال ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 326 رقم 22828). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 316 رقم 22751).

إسحاق الأعرج-: عن المقدام بن معدي كرب الكندي: "أنه جلس مع عبادة ابن الصامت ... إلى آخره نحوه. ص: ففي هذين الحديثين إباحة الصلاة إلى البعير، فثبت بذلك أن الصلاة إلى البعير جائزة، وأنه لم يُنْه عن الصلاة في أعطان الإبل. لأنه لا يجوز الصلاة بحذائها، واحتمل أن تكون الكراهة لعلة ما يكون من الإبل في معاطنها من أرواثها وأبوالها. فنظرنا في ذلك فرأينا مرابض الغنم كلٌّ قد أجمع على جواز الصلاة فيها، وبذلك جاءت الروايات التي رويناها عن رسول الله - عليه السلام - , وكان حكم ما يكون من الإبل في أعطانها من أبوالها وغير ذلك حكم ما يكون من الغنم في مرابضها من أبوالها وغير ذلك لا فرق بين شيء من ذلك في نجاسة ولا طهارة؛ لأن مَن جعل أبوال الغنم طاهرةَّ جَعل أبوال الإبل كذلك، ومن جعل أبوال الإبل نجسة جعل أبوال الغنم كذلك، فلما كانت الصلاة قد أبيحت في مرابض الغنم في الحديث الذي نهي فيه عن الصلاة في أعطان الإبل؛ ثبت أنَ النهي عن ذلك ليس لعلة نجاسة ما يكون منها؛ إذ كان ما يكون من الغنم حكمه مثل ذلك. ولكن العلة التي لها كان النهي هو ما قال شريك أو ما قال يحيى بن آدم، فإن كان لِمَا قال شريك فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول كان عطنًا أو غيره، وإن كان لِما قال يحيى ابن آدم فإن الصلاة مكروهة حيث يُخاف على النفوس كان عطنًا أو غيره. فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما حكم ذلك من طريق النظر، فإنا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا في أعطان الإبل، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها فكان يجيء في النظر أيضا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل كهو

في مواضع الغنم قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أراد بهذين الحديثين: حديث ابن عمر وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهم -. قوله: "وأنه" أي: وثبت أنه، أي: أن الشأن. قوله: "لم يُنْهَ" على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم، يعني: وأن النبي - عليه السلام - لم يَنْهَ عن الصلاة في أعطان الإبل لكون عدم جواز الصلاة بحذائها. قوله: "كلٌّ قد أجمع" أي كل واحد من الفريقين. قوله: "لأن من جعل أبوال الغنم طاهرةً" وهو قول عطاء والنخعي والثوري ومالك وأحمد ومحمد بن الحسن. وفي "المغني": قال مالك: لا يرى أهل العلم أبوال ما يؤكل لحمه ويشرب لبنه نجسًا، ورخّص في أبوال الغنم الزهري ويحيى الأنصاري. قال ابن المنذر: أجمع كلُ من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه اشترط أن تكون سليمةً من أبعارها وأبوالها. وعن أحمد: أن ذلك نجس. وهو قول الشافعي وأبي ثور، ونحوه عن الحسن؛ لأنه دخل في عموم قوله - عليه السلام -: "تنزهوا من البول". قوله: "ومن جعل أبوال الإبل نجسة" وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وأحمد في رواية, والباقي ظاهر. ص: وقد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا الليث بن سَعْد قال: هذه نسخة رسالة عبد الله بن نافع إلى الليث بن سعد يذكر فيها: أما ما ذكرت من معاطن الإبل فقد بلغنا أن ذلك يكره، وقد كان رسول الله - عليه السلام - يصلي على راحلته، وقد كان ابن عمر ومَن أدركنا من خيار أرضنا يُعْرِضُ أحدُهم ناقته بينه وبين القبلة فيُصلّي إليها وهي تَبْعُر وتَبول.

ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من قوله: فثبت بذلك أن الصلاة إلى البعير جائزة ... إلى آخره. وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري. وعبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ القرشي المخزومي المدني، روى له الجماعة، البخاري في "الأدب".

ص: باب: الإمام تفوته صلاة العيد هل يصليها من الغد أم لا؟

ص: باب: الإمام تفوته صلاة العيد هل يصليها من الغد أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الإِمام إذا فاتته صلاة العيد يوم العيد هل له أن يصلِّيها من غد يوم العيد أم لا؟ وجه المناسبة بين البابين: مِنْ أن في الباب الأول المنع عن الصلاة في المكان المخصوص، وفي هذا الباب المنع عنها في الزمان المخصوص. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا هشيم بن بشر، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن أبي عمير بن أنس بن مالك، قال: أخبرني عمومتي من الأنصار: "أن الهلال خَفِيَ على الناس في آخر ليلة من شهر رمضان في زمن النبي - عليه السلام - فأصبحوا صيامًا، فشهدوا عند النبي - عليه السلام - بعد زوال الشمس أنهم رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفطر فأفطروا تلك الساعة وخرج بهم من الغد فصلى بهم صلاة العيد". ش: عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، وهشيم بن بشير السلمي أبو معاوية الواسطي روى له الجماعة، وأبو بشر جعفر بن إياس اليشكري وهو جعفر بن أبي وحشية الواسطي روى له الجماعة. وأبو عمير بن أنس بن مالك اسمه عبد الله، قاله الحاكم أبو أحمد، وكان أكبر ولد أنس بن مالك، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وعمومته من الأنصار الصحابة منهم، وهو جمع عم كالخؤولة جمع خال. وأخرجه الدارقطني في "علله"، وقال: هذا حديث اختلف فيه، فرواه سعيد بن عامر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، وخالفه غيره من أصحاب شعبة، فرووه عن شعبة، عن أبي بشر، عن أبي عُمَير بن أنس، عن عمومته، عن النبي - عليه السلام -. وكذلك رواه أبو عوانة وهشيم، عن أبي بشر، وهو الصواب.

وقال ابن القطان في كتابه: وعندي أنه حديث يجب النظر فيه، ولا نقبل إلا أن تثبت عدالة أبي عمير فإنه لا يعرف له كثير شيء، وإنما له حديثان أو ثلاثة لم يروها عنه غير أبي بشر، ولا أعرف أحدًا عرف من حاله ما يوجب قبول روايته ولا هو من المشاهير المختلف في انتفاء مزيد العدالة على إسلامهم، وقد ذكر الماوردي حديث هذا وسماه في "مسنده" عبد الله، وهذا لا يكفي في التعريف بحاله، وفيه مع الجهل بحال أبي عمير كون عمومته لم يُسَمَّوْا، فالحديث جدير بأن لا يقال فيه: صحيح. قلت: قال النووي في "الخلاصة": هو حديث صحيح، وعمومة أبي عمير صحابة لا يضر جهالة أعيانهم؛ لأن الصحابة كلهم عدول، واسم أبي عمير عبد الله. وقال الخطابي: وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب. وقال ابن حزم في "المحلى": هذا مسند صحيح، وأبو عمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه مَنْ صحت صحبته مع النبي - عليه السلام - ممن لم تصح صحبته، والصحابة كلهم عدول. ويستفاد منه: أن الجماعة إذا شهدت برؤية الهلال بالأمس وجب الإفطار، وأنهم يصلون صلاة العيد من الغد على ما نبينه مع الخلاف فيه، وأن شهر رمضان يجيء تسعة وعشرين يومًا. ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: إذا فاتت الناس صلاة العيد في صدر يوم العيد صلوها من غد ذلك اليوم في الوقت الذي يصلونها فيه يوم العيد، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وابن المنذر؛ فإنهم قالوا: إذا فاتت صلاة العيد من يومه تصلى من غده، وذهب إليه أيضًا أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، والخطابي من أصحاب الشافعي.

وقال صاحب "الهداية": فإن غُم الهلال وشهدوا عند الإِمام بالهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد؛ لأن هذا تأخير بعذر، وقد ورد فيه الحديث، فإن حدث عذر منع الناس من الصلاة في اليوم الثاني لم يصلها بعده, لأن الأصل فيها أن لا تقضي إلا أنّا تركناه بالحديث، وقد ورد بالتأخير إلى اليوم الثاني عند الغد. قلت: أشار بقوله: "وقد ورد فيه الحديث" إلى حديث أبي عمير هذا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا فاتت الصلاة يوم العيد حتى زالت الشمس من يومه لم تُصلّ في ذلك اليوم ولا فيما بعده، وممن قال ذلك أبو حنيفة -رحمه الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مالكًا والشافعي وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: إذا فاتت الصلاة يوم العيد حتى زالت الشمس من يوم العيد لم تُصلّ بعد ذلك لا في هذا اليوم ولا فيما بعده، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة -رحمه الله-. وقال الخطابي -رحمه الله-: قال الشافعي: إن علموا بذلك قبل الزوال خرجوا وصلى الإِمام بهم صلاة العيد، وإن لم يعلموا إلا بعد الزوال لم يصلوا يومهم ولا من الغد؛ لأنه عمل في وقت إذا جاز ذلك الوقت لم يعمل في غيره، وكذلك قال مالك وأبو ثور. وقال صاحب "البدائع": فإن ترك الناس صلاة العيد في اليوم الأول في عيد الفطر بغير عذر حتى زالت الشمس لم تُصلّ من الغد، وإن تركوها لعذر صلي من الغد قبل الزوال، فإن تركها من الغد حتى زالت الشمس سقطت أصلًا سواء تركها لعذر أو لغير عذر. انتهى. وهذا كما ترى لم يذكر فيه خلافًا عن أبي حنيفة ولا ذكره صاحب "الهداية"، والذي يفهم من كلام الطحاوي: أن أبا حنيفة لا يرى صلاة العيد أن تُصلّى في غد العيد سواء فاتت عن يوم العيد بعذر أو بغير عذر، وهذا خلاف ما ذكره

أصحابنا الحنفية كصاحب "الهداية" و"البدائع" وغيرهما من الكتب المشهورة، وكذلك ذكر ابن حزم في "المحلى" عن أبي حنيفة موافقًا لما ذكر هؤلاء، ولكن القول ما ذكره الطحاوي؛ لأنه أعلم الناس باختلاف العلماء. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن الحفاظ ممن روى هذا الحديث عن هشيم لا يذكرون فيه أنه صلى بهم من الغد، فممن روى ذلك: هشيم ولم يذكر فيه يحيى بن حسان وسعيد بن منصور وهو أضبط الناس لألفاظ هُشَيم وهو الذي ميّز للناس ما كان هُشَيم يُدَلس به من غيره. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو بشر، عن أبي عمير بن أنس، قال: أخبرني عمومتي من الأنصار من أصحاب النبي - عليه السلام - قالوا: "أُغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صيامًا، فجاء ركبٌ من آخر النهار فشهدوا عند النبي - عليه السلام - أنهم رأوا الهلال بالأَمْس، فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يفطروا من يومهم، ثم ليخرجوا لعيدهم من الغد". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر ... فذكر بإسناده مثله. فهذا هو أصل هذا الحديث لا كما رواه عبد الله بن صالح، وأمرُه إياهم بالخروج من الغد لعيدهم قد يجوز أن يكون أراد بذلك أن يجتمعوا فيدعوا أو لتُرَى كثرتهم فيتناهى ذلك إلى عدوهم فيَعظم أمرهم عنده، لا لأنِ يصلوا كما يُصلى العيدُ. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه أن الحُفَّاظ -بضم الحاء جمع حافظ- بيان ذلك أن أصل هذا الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى رواه الحفاظ ممن رواه عن هشيم من غير ذكر أنه صلى بهم من الغد، فممن روى ذلك عن هشيم ولم يذكر هذه اللفظة: يحيى بن حسان بن حيان البكري أبو زكرياء البصري نزيل بلبيس أحد مشايخ الشافعي، وأحد رجال

"الصحيحين" وأبي داود والترمذي والنسائي، بيّن ذلك بقوله: "حدثنا سليمان ابن شعيب، وهو الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني يروي عن يحيى بن حسان المذكور، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن أبي عمير بن أنس بن مالك، قال: أخبرني عمومتي من الأنصار ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) نحوه: من حديث هشيم، عن أبي بشر، قال: أخبرني أبو عمير بن أنس بن مالك قال: وكان أكبر ولده، قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قال: "أغمي علينا هلال شوال فأصبحوا صيامًا، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله - عليه السلام - أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" وقال: هذا إسناد صحيح. وممن رواه عن هشيم ولم يذكر هذه اللفظة أيضًا سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، بيَّن ذلك بقوله:"حدثنا صالح" وهو صالح بن عبد الرحمن بن الحارث، عن سعيد بن منصور ... إلى آخره. قوله: "فهذا هو أصل هذا الحديث" أي أصل هذا الحديث هو الذي رواه الحافظان يحيى بن حسان وسعيد بن منصور، كلاهما عن هشيم لا كما رواه عبد الله بن صالح، عن هشيم، فإن عبد الله بن صالح انفرد بهذه اللفظة في روايته عن هشيم فلا يتابع عليه. قوله: "وأمرُه إياهم بالخروج" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: سلمنا أن أصل هذا الحديث مثل ما رواه الحفاظ عن هشيم بدون هذه اللفظة أعني: "فصلى بهم من الغد" لا كما رواه عبد الله بن صالح عنه بهذه اللفظة، ولكنه - عليه السلام - أمرهم أن يخرجوا لعيدهم من الغد، فدل ذلك على ما يدعيه أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 316 رقم 6077).

وتقرير الجواب أن يقال: إن أمره - عليه السلام - إياهم بالخروج من الغد لأجل عيدهم قد يجوز أن يكون لأحد المعنيين: الأول: أن يجتمعوا ويدعوا الله تعالى؛ لأنه يوم مجاور ليوم شريف وفيه مظنة الإجابة، ولا يلزم من الاجتماع هذا فعل الصلاة. الثاني: أن يكون المراد من ذلك اجتماعهم في ذلك اليوم لتظهر كثرتهم وقوتهم ويبلغ ذلك إلى أعداء الدين فيعظم أمرهم عندهم ويقع رعبهم في قلوبهم، لا لأن يصلوا كما تُصلّى صلاة العيد، والله أعلم. قوله: "أغمي عليه" على صيغة المجهول، يقال: أغمي علينا الهلال، وغمّي فهو مُغمّى ومُغمّى إذا حال دون رؤيته غيم أو قترة كما يقال: غم علينا يقال: صُمنا للغُمّى والغَمّى -بالضم والفتح- أي: صمنا عن غير رؤية وأصل التغمية الستر والتغطية ومنه أغمي على المريض إذا غشي عليه كأن المرض ستر عقله وغطاه. قوله: "فأصبحنا صيامًا" أي صائمين وهو جمع صائم كالقيام جمع قائم والنيام جمع نائم. قوله: "فجاء ركب" أي جماعة، وهو جمع راكب، ويقال: الركب اسم من أسماء الجمع كالنفر والرهط. ص: وقد رأينا المصلي في يوم العيد قد كان أُمر بحضور من لا يصلّي. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: أنا هشيم، قال: أنا منصور، عن ابن سيرين، عن أم عطية. وهشام، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يُخرِج الحُيّض وذوات الخدور يوم العيد، فأما الحُيّض فيعتزلن ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين". وقال هشيم: فقالت امرأةٌ: "يا رسول الله إن لم يكن لإحدانا جلبابٌ؟ قال: فلْتُعِرها أختُها جلبابها".

فلما كنّ الحُيَّض يخرجن لا لأجل الصلاة، ولكن لأن تصِيَبهُنّ دعوةُ المسلمين احتمل أن يكون النبي - عليه السلام - أمر الناس بالخروج من غد العيد لأن يجتمعوا فيَدْعوا فتُصيبهم دعوتهم لا للصلاة. ش: أشار بهذا الكلام إلى تأييد ما ذكره من قوله: "قد يجوز أن يكون أراد بذلك أن يجتمعوا فيدعو لا لأن يصلوا كما يصلى العيد"، بيان ذلك أن الخروج إلى المصلى في غد العيد لا يلزم منه أن يصلوا كما يصلون يوم العيد، ألا ترى أنه - عليه السلام - كان يُخرج الحُيّض وذوات الخدور يوم العيد مع أنهن لم يكنّ يصلّين! وإنما كان القصد من ذلك أن يشهدن الخير وتصيبهن دعوة المسلمين. فعلم أن ذلك أنه لا يلزم من الخروج ولا من الأمر به فعل الصلاة؛ فدلّ ذلك أن أمره - عليه السلام - بالخروج من غد العيد للمعنى الذي أمر به الحُيَّضَ وذوات الخدور لا لفعل الصلاة، والله أعلم. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا صالحًا. وحفصة هي ابنة سيرين أخت محمَّد بن سيرين روي لها الجماعة. وأم عطية اسمها نُسَيْبَة بنت كعب -ويقال: بنت الحارث- الأنصارية الصحابية. وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين قالت: "كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف فأتيتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي - عليه السلام - ثنتي عشرة غزوة فكانت أختها معه في ست غزوات فقالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكَلْمى، فقالت: يا رسول الله، على إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ فقال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين. قالت حفصة: فلما قدمَتْ أمُّ عطية أتيتها ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 333 رقم 937).

فسألتها: أسمعت في كذا وكذا؟ قالت: نعم، بأبي -وقلّ ما ذكرت النبي - عليه السلام - إلا قالت: بأبي- قال: ليخرج العواتق ذوات الخدور. أو قال: العواتق وذوات الخدور -شك أيوب- والحُيَّض، وتعتزل الحُيَّض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين. قالت: فقلت لها: الحُيَّض؟ قالت: نعم، أليس الحائض تشهد عرفات وتشهد كذا وكذا. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عمرو الناقد، قال: نا عيسى بن يونس، قال: ثنا هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيَعْتزلن الصلاة ويَشْهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتُلْبسها أختُها من جلبابها". وقال أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن أيوب ويونس وحبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين، عن محمَّد، أن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرِج ذوات الخدور يوم العيد، قيل: فالحُيَّض؟ قال: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. قال: فقالت امرأة: يا رسول الله، إن لم يكن لإحداهن ثوب كيف تصنع؟ قال: تلبسها صاحبتها طائفةً من ثوبها". وقال الترمذي (¬3): نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا منصور -وهو ابن زاذان- عن ابن سيرين، عن أم عطية: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيّض في العيدين، فأما الحيض فيَعْتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين، قالت إحداهن: يا رسول الله، إن لم يكن لها جلباب؟ قال: فلتعرها أختُها من جلابيبها". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 606 رقم 890). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 296 رقم 1136). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 419 رقم 539).

وقال (¬1): نا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم، عن هشام بن حسّان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية بنحوه. وقال النسائي (¬2): أنا عمرو بن زرارة، قال: أبنا إسماعيل، عن أيوب، عن حفصة قالت: "كانت أم عطية لا تذكر رسول الله - عليه السلام - إلا قالت: يا أباه فقلت: أَسَمِعْتِ رسول الله - عليه السلام - يذكر كذا وكذا؟ فقالت: نعم بأباه قال: قالت: لتخرج العواتق وذوات الخدود والحُيَّض ويشهدن العيد ودعوة المسلمين ولتعتزل الحُيَّض المصلى". وقال ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرجهن في يوم الفطر والنحر، قال: قالت أم عطية: فقلنا: أرأيت إحداهن لا يكون لها جلبابٌ؟ قال: فتُلْبُسها أختها من جلبابها". قوله: "الحُيَّض" بضم الحاء وتشديد الياء جمع حائض. قوله: "وذوات الخدور" الخدور جمع خِدْر، قال ابن سيده: هو ستر يُمدّ للجارية في ناحية البيت، ثم صار كل ما واراك من بيت ونحوه خِدْرًا، والجمع خدُور وأخدار، وأخادير جمع الجمع، والخدر خشبات تُنصب فوق فقر البعير مستورة بثوب، وهودج مخدور ومخدر ذو خدر، وقد أخدر الجارية وخدّرها وتخدرت هي واختدرت. وفي "المخصص": الخدر: ثوب يمد في عرض الخباء فتكون فيه الجارية. وفي "المغيث" عن الأصمعي: الخدر: ناحية البيت تقطع للستر فتكون فيه الجارية البكر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 420 رقم 540). (¬2) "المجتبى" (1/ 193 رقم 390). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 414 رقم 1307).

وقال غيره: هو ستر يُمَدّ للجارية في ناحية البيت والهودج. وقال ابن قرقول: الخدر سرير عليه ستر، وقيل: الخدر البيت. قوله: "جلباب" الجلباب بالكسر جلد واسع كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصَدْرها وتَجَلْبَبَتْ المرأة وجَلْبَبها غيرها, ولم يدغم لأنه ملحق. وفي "المحكم": الجلباب القميص، وقيل: ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل: ما تغطى به الثياب من فوق كالملحفة، وقيل: هو الخمار. وفي "الصحاح": الجلباب الملحفة، والمصدر الجلببة ولم تدغم لأنها ملحقة بِدَحْرَجَة. وفي "الغريبين": الجلباب: الإزار، وقيل: هو الملاءة التي يشتمل بها. وقال عياض: هو أقصر من الخمار وأعرض وهي المقنعة، وقيل: دون الرداء تغطي به المرأة ظهرها وصدرها. ويستفاد منه أحكام: استدلت به طائفة على جواز خروج النساء للعيدين. قال القاضي: واختلف السلف في خروجهن للعيدين، فرأى ذلك جماعة حقًّا عليهن، منهم: أبو بكر وعلي وابن عمر - رضي الله عنهم -، ومنهم من منعهن ذلك منهم: عروة والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك وأبو يوسف، وأجازه أبو حنيفة مرةً ومنعه مرةً. وقال الترمذي: وروي عن ابن المبارك: أكره اليوم خروجهن في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فلتخرج في أطمارها بغير زينة، فإن أبت ذلك فللزوج أن يمنعها. ويروى عن الثوري أنه كره اليوم خروجهن. قلت: وهذا كان في ذلك الزمان لأمنهن عن المفسدة بخلاف اليوم، ولهذا صح عن عائشة - رضي الله عنها -: "لو رأى رسول الله عليه السلام - ما أحدث النساء لمنعهن عن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل"، فإذا كان الأمر قد تغير في زمن عائشة حتى قالت هذا القول فماذا يكون اليوم الذي ظهر فيه الفساد في الصغير والكبير

والبر والبحر، وعندي الفتوى على المنع، وأن خروجهن حرام ولا سيما في الديار المصرية. وفيه: منع الحُيَّض من المصلى منع تنزيه لا تحريم، وعن أبي الفرج الدارمي الشافعي عن بعض الأصحاب: تحريم المكث على الحائض في المصلى كالمسجد. وقال النووي: والصواب الأول. واستدل به بعضهم على وجوب صلاة العيدين. وقال القرطبي: لا يستدل به على الأمر بوجوب صلاة العيدين؛ لأن هذا إنما توجه لمن ليس بمكلف للصلاة باتفاق، وإنما المقصود التدرب على الصلاة والمشاركة في الخير وإظهار جمال الإِسلام. وفيه جواز استعارة الثياب للخروج إلى الطاعات، والله أعلم. ص: وقد روى هذا الحديث شعبة، عن أبي بشر كما رواه سعيد ويحيى لا كما رواه عبد الله بن صالح. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وُهيب، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت أبا عمير بن أنس (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر ... فذكر مثله بإسناده غير أنه قال: "وأمرهم إذا أصبحوا أن يخرجوا إلى مصلاهم". فمعنى ذلك أيضًا معنى ما روى يحيى وسعيد عن هشيم، وهذا هو أصل الحديث. ش: أشار به إلى الحديث الذي رواه أبو عمير عن عمومته الأنصار من الصحابة، وأراد بهذا تأييد ما ذكره من أصل هذا الحديث هو الذي رواه الحافظان يحيى بن حسان وسعيد بن منصور، عن هشيم لا كما رواه عبد الله بن صالح، عن هشيم؛ وذلك أن شعبة الحافظ أيضًا الذي يُسمّى أمير المؤمنين في الحديث قد روى هذا الحديث عن أبي بشر جعفر بن إياس مثل ما رواه يحيى وسعيد لا مثل مارواه عبد الله بن صالح.

وأخرج ذلك بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق من طريقين: الأول: عنه، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن أبي عمير بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر النَيْسابوري، ثنا أحمد بن سعيد بن صخر، ثنا النضر بن شميل. وثنا أبو بكر، نا إبراهيم بن مرزوق، نا وهب بن جرير وروح بن عبادة. وثنا أبو بكر، ثنا محمَّد بن إسحاق، ثنا أبو النضر، قالوا: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت أبا عمير بن أنس يحدث، عن عمومته من الأنصار، وقال أبو النضر: عن عمومة له من الأنصار: "أنهم كانوا عند رسول الله - عليه السلام - من آخر النهار، فجاء ركب فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". الثاني: عنه، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن أبي بشر ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا حفص بن عمر، نا شعبة، عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي عمير بن أنس، عن عمومةٍ له من أصحاب النبي - عليه السلام -: "أن ركبًا جاءوا إلى النبي - عليه السلام - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا. وأخرج ابن حبان في "صحيحه" (¬5): من حديث سعيد بن عامر، ثنا سعيد، ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 170 رقم 14). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 305 رقم 1157). (¬3) "المجتبى" (3/ 180 رقم 1557). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 529 رقم 1653). (¬5) "صحيح ابن حبان" (8/ 237 رقم 3456).

عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن عمومةً له شهدوا عند النبي - عليه السلام - على رؤية الهلال فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يخرجوا للعيد من الغد". ص: ولما لم يكن في الحديث ما يَدّلنا على حكم ما اختلفوا فيه من الصلاة في الغد فنظرنا في ذلك فرأينا الصلوات على ضربين: فمنها ما الدهر كله لها وقتٌ غيرَ الأوقات التي لا تُصلّى فيها الفريضة، فكان ما فات منها في وقته فالدهر كله وقتٌ تُقْضَى فيه غير ما نهي عن قضائها فيه من الأوقات. ومنها ما جُعل له وقت خاص ولم يُجعل لأحدٍ أن يُصليَه في غير ذلك الوقت، من ذلك الجمعة حكمها أن تُصلى يوم الجمعة من حين تزول الشمس إلى أن يدخل وقت العصر فإذا خرج ذلك الوقت فاتت ولم يجز أن تُصلّى بعد ذلك في يومها ذلك ولا فيما بعده، فكان ما لا يُقضي في بقية يومه بَعْد فوات وقته لا يُقضي بعد ذلك، وما يُقضى بعد فوات وقته في بقية يومه ذلك قضي من الغد وبعد ذلك، وكل هذا مُجمع عليه. وكانت صلاة العيد جُعِل لها وقت خاص في يوم العيد آخره زوال الشمس، وكلٌّ قد أجمع أنها إذا لم تُصلّ يومئذٍ حتى زالت الشمس أنها لا تُصلّى في بقية يومها ذلك، فلما ثبت أن صلاة العيد لا تقضى بعد خروج وقتها في يومها ذلك؛ ثبت أنها لا تُقضى بعد ذلك في غدٍ ولا غيره؛ لأنّا رأينا ما للذي فاته أن يقضيه من غد يومه جائز له أن يقضيه في بقية اليوم الدي وقته فيه، وما ليس للذي فاته أن يقضيه في بقية يَومْه ذلك فليس له أن يقضيه من غده، فصلاة العيد كذلك لما ثبت أنها لا تقضى إذا فاتت في بقية يومها؛ ثبت أنها لا تُقْضَى في غده، فهذا هو النظر في هذا الباب. وهو قول أبي حنيفة فيما روِى عنه بَعْضُ الناس، ولم نجده في رواية أبي يوسف عنه هكذا، والله أعلم.

ش: أي: لما لم يكن في حديث أبي عمير بن أنس بن مالك المذكور ما يدل على فعل الصلاة من غد يوم العيد كما ذهب إليه أهل المقالة الأولى وذلك بما ذكره من الوجوه، نظرنا في حكم ذلك فوجدنا القياس يقتضي عدم فعل الصلاة من الغد، وبيّن ذلك بقوله: "فرأينا الصلوات ... " إلى آخره. وملخص ذلك: أن الصلوات على نوعين: نوع منها الدهر كله وقت له أداء وقضاء غير الأوقات التي منع فيها فعل الفرائض، ونوع منها جعل له وقت معين لا تفعل في غيره كالجمعة فإن وقتها وقت الظهر، فإذا خرج لا تُصلى أبدًا، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك صلاة العيد؛ لأن لها وقتًا معينا، فإذا فات لا تصلى قياسًا عليه. قوله: "وهو قول أبي حنيفة" أي وجه النظر المذكور هو قول أبي حنيفة "فيما روى عنه بعض الناس" قيَّد به لأن منهم من روى أنها تقضى من الغد، وعلى هذه الرواية شحنت كتب الحنفية ولكن الذي يفهم من كلام الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة هو ما ذكره أولًا فلذلك قال: ولم نجده في رواية أبي يوسف عنه.

ص: باب: الصلاة في الكعبة

ص: باب: الصلاة في الكعبة ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلاة في جوف الكعبة، وجه المناسبة بين البابين أن فيما مضى يذكر حكم الصلاة في الزمان وهذا في حكم الصلاة في المكان. واشتقاق الكعبة من الكعب، وكل شيء علا وارتفع فهو كعبة، فمن ذلك سمي البيت الحرام كعبة، وقيل: سُمي بذلك لتكعيبه وهو تربيعه. وقال الجوهري: الكعبة البيت الحرام فسمّي بذلك لتربيعه. ص: حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة القاضي البكراوي، قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: ثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "أسمعت ابن عباس يقول: إنما أُمِرنا بالطواف ولم نؤمر بدخوله -يعني البيت-؟ فقال: لم يكن يَنْهاه عن دخوله، ولكن سمعته يقول: أخبرني أسامةُ بن زيد: أن رسول الله - عليه السلام - لما دخل البيتَ دعا في نواحيه كلها ولم يُصلّ فيه شيئًا حتى خرج، فلما خرج صلى ركعتين وقال: هذه القبلة". ش: إسناده صحيح، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك المكي، وعطاء هو ابن أبي رباح أحد مشايخ أبي حنيفة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعًا، عن أبي بكر -قال عبدٌ: أنا محمَّد بن أبي بكر- قال: أنا ابن جريج، قال: "قلت لعطاء: أَسمعْتَ ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله؟ قال: لم يكن ينهى عن دخوله، ولكنه سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يُصلّ فيه حتى خرج، فلما خرج ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 968 رقم 1330).

ركع في قُبل البيت ركعتين وقال: هذه القبلة، قلت له: ما نواحيها أي -زواياها- قال: بل في كلٍّ قبلةٌ من البيت". وأخرج البخاري (¬1) بنحوه عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - ولم يذكر أسامة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن الفضل بن عباس أخبره: "أن النبي - عليه السلام - دخل البيت ولم يُصلّ، ولكنه لما خرج صلى عند باب البيت ركعتين". ش: إسناده صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أن ابن عباس كان يُخبر، أن الفضل بن عباس - رضي الله عنه - أخبره: "أنه دخل مع النبي - عليه السلام - البيت وأن النبي - عليه السلام - لم يصلّ في البيْت حين دخل ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت". ص: حدثنا علي بن زيد الفرائضي، قال: أنا موسى بن داود، قال: ثنا همام، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل الكعبة وفيها ستّ سواري فقام إلى كل سارية كذا ولم يُصلّ". ش: إسناده صحيح أيضًا، وعلي بن زيد بن عبد الله الفرضي أبو الحسن الطرسوسي، وموسى بن داود أبو عبد الله الضَّبّي قاضي طرسوس وشيخ أحمد، وهو مصنف مكثر مأمون روى له مسلم وأبو داود، وهمام هو ابن يحيى بن دينار أبو بكر البصري روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا همام، قال: نا عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - دخل الكعبة وفيها ستّ سواري، فقام عند سارية فدعا ولم يصل". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 155 رقم 389). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 212 رقم 1819). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 968 رقم 1313).

ص: فذهب قوم إلى أنه لا يجوز الصلاة في الكعبة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار, وبقول رسول الله - عليه السلام - حين صلّى خارجًا من الكعبة: "إن هذه القبلة". ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكًا وأحمد وبعض الظاهرية، ولكن في مذهبهم تفصيل. فقال القاضي عياض: اختلف العلماء في الصلاة في الكعبة، فقال مالك: لا يُصلّى فيها الفرض ولا الوتر ولا ركعتا الفجر ولا ركعتا الطواف، ويُصلّى فيها التطوع. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: يُصلّى فيها كل شيء. وهو قول جماعة من السلف وبعض أهل الظاهر، وقال بعض الظاهرية: لا يُصلّى فيها نافلة ولا فريضة، ونحوه مذهب ابن عباس وأصبغ من أصحابنا يجعل المصلي في البيت يُعيد أبدًا. وفي "المغني": ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها، وجوَّزه أبو حنيفة والشافعي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالصلاة في الكعبة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالصلاة في جوف الكعبة فرضًا كانت أو تطوعًا. ص: وقالوا: قد يحتمل قول النبي - عليه السلام -: "هذه القبلة" ما ذكرتم، ويحتمل أن يكون أراد به القبلة التي يُصلّي إليها إمامكم الذي تأتمون به وعندها يكون مقامه، فأراد بذلك تعليمهم ما أمر الله به -عز وجل- من قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وليس في ترك النبي - عليه السلام - الصلاة فيها دليل على أنه لا يجوز الصلاة فيها. ش: أي: وقال الآخرون في جواب ما احتج به القوم المذكورون بقوله - عليه السلام -: "هذه القبلة".

بيانه: أن قوله: "هذه القبلة" يحتمل ما ذكرتم، ويحتمل أن يكون النبي - عليه السلام - أراد به: أن هذه القبلة التي يصلي إليها إمامكم الذي تأتمون به، فعندها يكون مقام الإمام، فأراد - عليه السلام - بذلك تعليمهم ما أمر الله -عز وجل- من قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) فإذا كان كذلك لا يتم به الاستدلال. قوله: "ولكن في ترك النبي - عليه السلام - الصلاة فيها" إشارة إلى الجواب عن الحديث المذكور. بيانه: أن ترك النبي - عليه السلام - الصلاة في الكعبة في الحديث المذكور ليس دليلًا على عدم جواز الصلاة فيها؛ لأنه يجوز أن يكون ترك الصلاة فيها في ذلك الوقت وصلى في وقت آخر. على أن حديث أسامة بن زيد المذكور مُعَارض بما رواه أحمد في "مسنده" (¬2) وابن حبان في "صحيحه" (¬3) في النوع الخامس عشر من القسم الخامس عن عمارة ابن عُمَيْر، عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، أخبرني أسامة بن زيد: "أن النبي - عليه السلام - صلى في الكعبة بين الساريتين". وأما حديث ابن عباس فإنه معلل بإلإرسال؛ فإنه رواه عن أخيه الفضل بن عباس. وقال السهيلي في "الروض الأنف": أخذ الناس بحديث بلال لأنه مثبت، وقدموه على حديث ابن عباس لأنه نافي، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت، ومَنْ تأول قول بلال أنه صلى أبي دَعَا فليس بشيء؛ لأن في حديث ابن عمر: "أنه صلى ركعتين" رواه البخاري. ص: وقد رُوِيَت عن النبي - عليه السلام - آثار متواترة أنه صلى فيها، فمن ذلك: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [125]. (¬2) "مسند أحمد" (5/ 207 رقم 21849). (¬3) "صحيح ابن حبان" (7/ 480 رقم 3205).

ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحَجَبي، وأغلقها عليهم ومكث فيها، قال ابن عمر: فسألتُ بلالًا حين خرج: ماذا صنع النبي - عليه السلام -؟ قال: جعل عمودًا عن يساره وعَموديْن عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، ثم صلى وجعل بينه وبين الجدار نحوًا من ثلاثة أذرع". ش: أي قد رُويت عن النبي - عليه السلام - أحاديث متكاثرة أنه صلى في جوف الكعبة. فمن ذلك ما أخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة؛ فالبخاري (¬1): عن قتيبة بن سعيد، عن الليث على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحوه، وله روايات متعددة. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره. والترمذي (¬4): عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن بلال: "أن النبي - عليه السلام - صلى في جوف الكعبة". والنسائي (¬5): عن محمَّد بن [عبد] (¬6) الأعلى، عن خالد، عن ابن عون، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 579 رقم 1521). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 966 رقم 1329). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 213 رقم 2023). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 223 رقم 874). (¬5) "المجتبى" (5/ 216 رقم 2905). (¬6) سقطت من "الأصل"، والمثبت من المجتبى.

نافع، عن عبد الله بن عمر: "أنه انتهى إلى الكعبة وقد دخلها النبي - عليه السلام -، وبلال وأسامة بن زيد، وأجاف عليه عثمان بن طلحة الباب فمكثوا فيها مليًّا ثم فتح الباب فخرج النبي - عليه السلام -، وركبت الدرجة ودخلتُ البيت، فقلتُ: أين صلى النبي - عليه السلام -؟ قالوا: ها هنا. ونسيت أن أسألهم كم صلى في البيت". وابن ماجه (¬1) عن (¬2). ص: حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا الليث بن سَعْد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام - مثله، و"أنه صلى بين العَمُودين اليمانيين" إلا أنه لم يذكر كيف جعل العُمُد التي ذكرها مالك في حديثه. حدثنا محمدُ بن عزيز الأيلي، قال: ثنا سلامةُ بن رَوْح، عن عُقيَل، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، أن ابن عمر أخبره، فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا دُحَيْمُ بن اليتيم، قال: ثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعيّ، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر مثله، غير أنه قال: "أخبرني أنه صلى في جوف الكعبة بين العَمُودين اليمانيين". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل يومَ فتح مكة ورديفه أسامة بن زيد، فأناخ في ظل الكعبة، قال ابن عمر: فسبقتُ الناسَ وقد دخل رسول الله - عليه السلام - وبلال وأسامةُ في البيت، فقلت لبلال من وراء الباب: أين صلى النبي - عليه السلام -؟ قال: صلّى بحيالك بين الساريتين". حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا موسى بن داود, قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن بلال: "أن النبي - عليه السلام - صلى في الكعبة". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1018 رقم 3063). (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-، والحديث عند ابن ماجه كما في العزو السابق، ولكن من طريق الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن نافع، به.

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني محمَّد بن جعفر، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن قال: "كنت مع أبي، فلقِينا عبد الله ابن عمر، فسأله أبي وأنا أسمع: أين صلى النبي - عليه السلام - حين دخل البيت؟ فقال ابن عمر: دخل النبي - عليه السلام - بين أسامة بن زيد وبلال، فلما خرجا سألتُهما: أين صلى يعني النبي - عليه السلام -؟ فقالا: على جهته". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن إشكاب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن أبي الشعثاء، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رأيته دخل البيت حتى إذا كان بين الساريتين مضى حتى لزق بالحائط فقام يُصلّي، فجئتُ فقمتُ إلى جنبه، فصلى أربعًا، فقلت: أخبرني أين صلى النبي - عليه السلام - من البيت؟ فقال ها هنا: أخبرني أسامةُ أنه رأى النبي - عليه السلام - صلى في البيت". ش: هذه سبعة طرق أخرى عن عبد الله بن عمر، غير أن منها طريقًا عن ابن عمر، عن بلال - رضي الله عنهم -، وطريقًا آخر عن ابن عمر، عن أسامة - رضي الله عنه -، وكلها صحاح: الأول: عن علي بن زيد الفرضي الطرسوسي، عن موسى بن داود قاضي طرسوس، روى له مسلم، عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أنه قال: "دخل رسول الله - عليه السلام - البيت هو وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا كنت أول مَنْ وَلج، فلقيت بلالًا، فسألته: هل صلى فيه رسول الله - عليه السلام -؟ قال: نعم، بين العمودين". وله في رواية أخرى (¬2): "فسألت بلالًا حين خرج: ما صنع رسول الله - عليه السلام -؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 579 رقم 1521). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 189 رقم 483).

قال: جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، ثم صلى". وفي رواية أخرى (¬1): "جعل عمودين عن يمينه". في رواية أخرى (¬2): "فسألته، فقلت: صلى النبي - عليه السلام - في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتن اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين". الثاني: عن محمَّد بن عُزيز الأيلي، عن سلامة بن رَوْح بفتح الراء، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد، وبلال وعثمان بن طلحة، ولم يدخلها معهم أحد، ثم أغلقت عليهم، قال عبد الله بن عمر: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة أن رسول الله - عليه السلام - صلى في جوف الكعبة بين العَمُودَيْن اليمانيين". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن دُحَيم بن اليتيم -هو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي قاضي الأردن وشيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه- عن عمر بن عبد الواحد بن قيس السُّلَمي الدمشقي، ثقة، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 189 رقم 483). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 155 رقم 388). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 967 رقم 1329).

الرابع: عن يزيد بن سنان القزاز أيضًا، عن موسى بن إسماعيل المنقري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "دخل رسول الله - عليه السلام - مكة، ورديفُه أسامة بن زيد، فأناخ في أصل الكعبة فقال ابن عمر: وسعى الناسُ فدخل النبي - عليه السلام - وبلال وأسامة، فقلت لبلال من وراء الباب: أين صلى رسول الله - عليه السلام -؟ فقال: بين الساريتين". الخامس: عن علي بن زيد الفرضي، عن موسى بن داود قاضي طرسوس، عن حماد بن زيد ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن حماد بن زيد ... إلى آخره نحوه، وقد ذكرناه. وأخرجه الطبراني (¬3) أيضًا: ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن بلال - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى في جوف الكعبة". وله في رواية أخرى (¬4): "صلى في البيت". وأخرج عبد الرزاق (¬5): عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه أخبر عن بلال: "أن النبي - عليه السلام - صلى فيه ركعتين". ¬

_ (¬1) "سنن الدرامي" (2/ 75 رقم 1866). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 75 رقم 874). (¬3) "المعجم الكبير" (1/ 343 رقم 1033). (¬4) "المعجم الكبير" (1/ 343 رقم 1034). (¬5) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 79 رقم 9063).

وأخرجه الطبراني (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عنه. السادس: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري روى له الجماعة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي أبي شبل المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، قال: "كنت مع أبي ... " إلى آخره. السابع: عن محمَّد بن خزيمة، عن أحمد بن إشكاب الحضرمي الصفار الكوفي نزيل مصر وشيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن عُمَارة بن عُمَيْر -بضم العين فيهما- التيمي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي الشعثاء سليم بن الأسود بن حنظلة المحاربي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو معاوية، نا الأعمش، عن عمارة، عن أبي الشعثاء قال: "خرجت حاجًّا فدخلت البيت، فلما كنت عند الساريتين مضيتُ حتى لزِقتُ بالحائط، قال: وجاء ابن عمر حتى قام إلى جنبي فصلى أربعًا، قال: فلما صلّى قلت له: أين صلى رسول الله - عليه السلام - من البيت؟ قال: فقال: ها هنا أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى. قال: فقلت: كم صلى؟ قال: على هذا أجدني ألُوم نفسي أني مكثت معه عُمرًا ثم لم أسأله كم صلى. قال: فلما كان العام المقبل قال: خرجتُ حاجًّا قال: فجئت حتى قمتُ في مقامه. قال: فجاء ابن الزبير حتى قام إلى جنبي، فلم يزل يُزاحمني حتى أخرجني منه ثم صلى فيه أربعًا". ص: فهذا أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قد روى عنه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه رأى النبي - عليه السلام - صلى في البيت، فقد اختلف هو وابن عباس - رضي الله عنهم - فيما روياه عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 343 رقم 1032). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 207 رقم 21849).

أسامة من ذلك، وروى ابن عمر أيضًا عن بلال مثل ما روى عن أسامة، فكان ينبغي لما تضادّت الروايات عن أسامة وتكافئت؛ أن ترتفع ويثبت ما روى بلال؛ إذ كان لم يختلف عنه في ذلك. ش: ملخص كلامه: أن عبد الله بن عمر روى في هذا الحديث عن أسامة بن زيد: "أنه رأى النبي - عليه السلام - صلى في البيت"، وقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن أسامة بن زيد أيضًا أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه لم يُصلّ في البيت على ما مرّ في أول الباب، فوقع التضاد بين روايتي ابن عمر وابن عباس عنه وتساوتا، فينبغي أن ترتفعا لوجود الاختلاف، وينبغي أن يثبت ما رواه ابن عمر عن بلال لعدم الاختلاف فيما روي عن بلال، وهو معنى قوله: "إذ كان لم يختلف عنه في ذلك"، وكلمة "إذْ" للتعليل والضمير في "عنه" يرجع إلى بلال - رضي الله عنه -، فلذلك صارت رواية بلال أولى بالأخذ والعمل. وقد قيل: إنه اجتمع في روايتي ابن عمر وابن عباس عن أسامة النفي والإثبات، والأخذ بقول المُثْبِت أولى، وقد مَرَّ الكلام فيه مستقصًى. قوله: "وتكافأت" أي: تساوت، من الكفؤ وهو النظير. قوله: "أن ترتفع" في محل الرفع؛ لأنه فاعل لقوله: "فكان ينبغي"، وكلمة "أن" مصدرية، والتقدير: فكان ينبغي ارتفاع الروايات حين تضادت وتكافأت في قوة الإسناد والصحة. ص: وقد رُوي عن ابن عمر مطلقًا أن رسول الله - عليه السلام - صلى في الكعبة. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سماك الحنفي، قال: سمعتُ ابن عمر- رضي الله عنهما - يقول: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في البَيْت، وسيأتيك مَنْ ينهاك فتسمع قوله- يعني ابن عباس- رضي الله عنهما -". ش: أي قد روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مطلقًا من غير أن يرويه عن أحد من الصحابة بل هو روى بنفسه عن النبي - عليه السلام - من غير ذكر أحد وعدد وتعيين موضع.

أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سماك بن الوليد الحنفي أبي زُمَيل الكوفي، روى له الجماعة البخاري في "الأدب". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد، نا شعبة، عن سماك -يعني الحنفي- سمعت ابن عمر يقول: "صلى رسول الله - عليه السلام - في البيت ركعتين". وقال عبد الله بن أحمد (¬2): وجدت في كتاب أبي: ثنا محمَّد بن جعفر وحجاج، قال محمَّد: نا شعبة، وقال حجاج: حدثني شعبة، عن سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: "إن رسول الله - عليه السلام - صلى في البيت وسيأتي مَنْ يَنْهاكم عنه". ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مِسْعرُ، عن سماك الحنفي، قال: سمعتُ ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "لا تجعل شيئًا من البيت خلفك وائتم به جميعًا". وسمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "صلى النبي - عليه السلام - فيه". ش: أخرج هذا الحديث ليدل على أن ابن عباس قد رجع إلى قول ابن عمر في جواز الصلاة في الكعبة بعد ما كان ينهى الناس عنه. وأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر بن كدام، عن سماك ... إلى آخره. وأخرج الطبراني بهذا الإسناد مقتصرًا على ذكر ابن عمر، ولفظه: "صلى فيه رسول الله - عليه السلام - يعني في البيت" أخرجه عن علي بن عبد العزيز، عن أبي نعيم به. ص: وقد روي عن غير ابن عمر في ذلك عن رسول الله - عليه السلام - مثل ما روى ابن عمر عن أسامة وبلال - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 46 رقم 5065). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 46 رقم 5066).

فمن ذلك ما حدثنا ربيعٌ الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن الزبير الحميديُّ، ثنا محمَّد بن فضيل بن غزوان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن أبي صفوان أو عبد الله بن صفوان قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يوم الفتح قد قدم، فجمعتُ عليّ ثيابي فوجدته قد خرج من البيت، فقلت: أين صلى رسول الله - عليه السلام - في البيت؟ فقالوا: تجاهك. قلت كم صلّى؟ قالوا: ركعتين". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلتُ لعمر - رضي الله عنه -: "كيف صنع النبي - عليه السلام - حين دخل الكعبة؟ فقال: صلى ركعتين". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد ... فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: عبد الله بن صفوان. فهذا عمر - رضي الله عنه - قد حُكي عنه في ذلك ما يُوافِق ما حكى ابن عمر عن أسامة وبلال من صلاة النبي - عليه السلام - في البيت. ش: أي قد روي عن غير عبد الله بن عمر في صلاة النبي - عليه السلام - في البيت مثل ما روى ابن عمر عن أسامة بن زيد وبلال: "أنه صلى فيه". وأخرج ذلك من ثلاث طرق صحاح: الطريقان منها عن عبد الله بن صَفْوان، والطريق عن عبد الرحمن بن صفوان. أما عبد الله بن صفوان فهو أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجُمحي المكي، أدرك النبي - عليه السلام - وروى عنه مرسلًا. وأما عبد الرحمن بن صَفْوان، ويقال له: صفوان بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن ابن صفوان بن قدامة الجمحي له ولأبيه صحبة، ولم يَرو عنه غير مجاهد، روى له أبو داود وابن ماجه.

أما الطريق الأول: فعن ربيع بن سليمان الجيزيّ المصري الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري، عن محمَّد ابن فضيِل بن غزوان بن جرير الضبي، روى له الجماعة، عن يزيد بن أبي زياد -بالياء آخر الحروف- القرشي الهاشمي روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة، عن مجاهد بن جبر المكي، عن أبي صفوان أو عبد الله بن صفوان، وأبو صفوان كنية عبد الله بن صفوان، والشك في أن الراوي هل قال في روايته: عن أبي صفوان وذكره بكنيته، أو قال: عن عبد الله بن صفوان وذكره باسمه؟ والطريق الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الله بن صفوان". والطريق الثالث: عن علي بن شيبة بن الصَّلْت، عن إسحاق بن إبراهيم الحَنْظلي المعروف بإسحاق بن راهويه شيخ الجماعة غير ابن ماجه، عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: "قلت لعمر - رضي الله عنه -: ... " إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أحمد بن الحجاج، نا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: "لما افتتح رسول الله - عليه السلام - مكة قلت: لألبسنّ ثيابي وكان داري على الطريق فلأنظرن ما يصنع رسول الله - عليه السلام -، فانطلقت، فوافيتُ رسول الله - عليه السلام - قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله - عليه السلام - وسطهم، فقلت لعمر - رضي الله عنه -": كيف صنع رسول الله - عليه السلام - حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 431 رقم 15591).

وأخرجه الطبراني أيضًا: عن الحُسين بن إسحاق، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير ... إلى آخره نحوه وليس فيه سؤاله عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضًا: عن أحمد بن يحيى الحلواني، عن سعيد بن سليمان، عن أبي بكر ابن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وأصحابه مستلمين ما بين الحجر إلى الحجر واضعي خدودهم عليه، فدخلت بين رجلين منهم، قلت: كيف صنع رسول الله حين دخل البيت؟ قال: صلى ركعتين بين الأسطوانتين عن يمين البيت". قوله: "فهذا عمر- رضي الله عنه - (¬1) قد حكي عنه في ذلك" أي فيما ذكرنا من أنه - عليه السلام - صلى في البيت ما يوافق ما حكى عبد الله بن عمر، عن أسامة ابن زيد وبلال المؤذن من أنه - عليه السلام - صلى في البيت، فهؤلاء الثلاثة الأجلاء من الصحابة وهم عمر بن الخطاب وأسامة وبلال قد اتفقوا على أنه - عليه السلام - صلى في البيت، فهذا أحق بالأخذ مما رواه ابن عباس، عن أسامة أنه لم يصل لما قد ذكرنا. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مثل ذلك. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا شبابةُ، عن مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "دخل النبي - عليه السلام - البيت يوم الفتح فصلى فيه ركعتين". ش: أي: قد روي عن جابر مثل ما روي عن عمر وأسامة وبلال من أنه - عليه السلام - صلى في البيت. أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة بن سوار الفزاري المدائني روى له الجماعة، عن مغيرة بن مسلم القسملي أبي سلمة السراج، وثقه يحيى وروى له أبو داود والترمذي، عن أبي الزبير محمَّد ابن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) وقع خطأ في ترتيب أوراق المخطوط، وقد قمت بترتيبه وإعادة كل ورقة إلى موقعها.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) نحوه. ص: وقد روي أيضًا عن شيبة بن عثمان، وعثمان بن أبي طلحة مثل ذلك. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن الصّباح، قال: ثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن بن الزجاج قال: أتيتُ شَيْبَة بن عثمان فقلتُ: يا أبا عثمان، إن ابن عباس يَقولُ: إن رسول الله - عليه السلام - دخل الكعبة فلم يُصلّ. قال: بلى، صلى ركعتين عند العَمُودَيْن المُقدّمين ثم ألزق بهما ظهره". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عثمان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا هشامُ بن عروة، عن عثمان بن طلحة: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل البيت فصلى فيه ركعتين وجاهك بين السَّاريتَينْ". ش: أي قد روي أيضًا عن هذين الصحابيين مثل ما روي عن جابر: "أنه - عليه السلام - صلى في البيت": أحدهما: شيبة بن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقيل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي العبدي الحجبي حاجب الكعبة، وهو جدّ بني شيْبة حجبة الكعبة إلى اليوم، أسلم يوم الفتح، وقيل يوم حنين، وهو الأشهر. وأخرج حديثه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمَّد بن الصَبّاح الدولابي البغدادي البزاز شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد وأبي يعلى وأبي زرعة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 403 رقم 36905).

الرازي والدمشقي وآخرين، عن أبي إسماعيل اسمه إبراهيم بن سليمان بن رزيق الشامي المؤدب مؤدب آل عبيد الله، وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف ليس بشيء. وعن أبي داود والنسائي: ضعيف. وقال عمرو بن علي: ليس بشيء. روى له ابن ماجه، عن عبد الرحمن بن الزجاج، وثقه ابن حبان. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن بن الزجاج قال: "قلت لشيبة بن عثمان: يا أبا عثمان، إنهم يزعمون أن رسول الله - عليه السلام - دخل الكعبة فلم يُصلّ فيها. فقال: كذبوا، لقد صلى ركعتين بين العمودين، ثم ألصق بهما بطنه وظهره". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني، عن عبد الرحيم ابن سليمان الأشلّ الكناني، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (1) بهذا الإسناد كما ذكرناه. والثاني: عثمان بن أبي طلحة واسمه عبد الله بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي العَبدري حاجب الكعبة له صحبة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان المذكور. وأخرج حديثه بإسناد صحيح، عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي ثم المصري المعروف بعلان، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن أبي طلحة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 297 رقم 7190).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا حماد ... إلى آخره نحوه سواء. ص: فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق تواتر الآثار, فإن الآثار قد تواترت أن رسول الله - عليه السلام - قد صلى في الكعبة ما لم يَتواترَ مثلُه أنه لم يُصلّ. وإن كان يُؤخذ بأن يُلْقَى ما يُضَادّ منها عن ما يُضَادّ ذلك عنه ويُعمل بما سوى ذلك، فإن أسامة بن زيد الذي حكى عنه ابن عمر أن رسول الله - عليه السلام - حين دخل الكعبة خرج منها ولم يُصَلّ، فقد روى عنه ابن عمر أن النبي - عليه السلام - حين دخلها صلى فيها، فقد تضادّ ذلك عنه فتنافيا، ثم قد روي عن عمر وبلال وجابر وشيبة بن عثمان، وعثمان بن أبي طلحة ما يُوافقُ مَا رَوى ابنُ عمر عن أسامة - رضي الله عنهم -، فذلك أولى مما تفرّد به ابن عباس عن أسامة - رضي الله عنهم -. ش: أراد بهذا الباب باب الاستدلال والاحتجاج بالأحاديث، بيان ذلك: أن العمل بالآثار لا يخلو إما أن يكون لكونها قد تكاثرت وتواترت عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما أن يكون بحيث يترك ما يضادّ منها ويعمل بما سواه. فإن كان الأول، فقد تواترت الآثار وتكاثرت عن النبي - عليه السلام - أنه قد صلى في الكعبة ولم تتواتر بمثل ذلك أنه لم يُصل. وإن كان الثاني، فينبغي أن نترك خبر ابن عباس لأنه روى عن أسامة بن زيد أنه - عليه السلام - حين دخل الكعبة خرج منها ولم يصل، ثم روى ابن عمر عنه أنه حين دخلها صلى فيها، فقد تضادت روايتاهما فتنافتا، فحينئذٍ يؤخذ برواية ابن عمر عن أسامة أنه - عليه السلام - صلى فيها؛ لأنه لم ينفرد بروايته تلك كما انفرد ابن عباس؛ لأن الذي رواه عمر بن الخطاب وبلال وجابر بن عبد الله وشيبة بن عثمان، وعثمان بن أبي طلحة يُوافق ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهم - فالأخذ بما رواه الجماعة أولى، على أن الإثبات مقدم على النفي في مثل هذه الصورة كما ذكرنا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 410 رقم 15424) ولكن من طريق عبد الرحمن بن مهدي وحسن بن موسى، عن حماد، به نحوه سواء.

ص: ثم قد روي عن النبي - عليه السلام - عليه من قوله ما يدلّ على جواز الصلاة فيها. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن منصور بن صفية، عن صفية بنت شيبة أم منصور، قالت: أخبرتني امرأة من بني سُلَيم ولّدَتْ عامَّة أهل دارنا قالت: "أرسل النبي - عليه السلام - إلى عثمان بن أبي طلحة فقال: إني كنتُ رأيتُ قرنَي الكبْش حين دخلتُ البيت فنَسيِتُ أن آمرك أن تُخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيءُ يُشْغِلُ مُصلّيًا". ش: لما أثبت جواز الصلاة في البيت بما روى بروايات كثيرة من فعل النبي - عليه السلام -، أكّدَ ذلك بما رُوِي من قوله - عليه السلام - ما يَدلّ على جواز الصلاة فيه، بأن قوله - عليه السلام - في حديث امرأة من بني سُلَيم: "لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يُشغل مصلّيًا" يدل على جواز الصلاة فيه. وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن صفية وهو منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الحجبي المكي، وأمه صفية بنت شيبة الحاجب بن عثمان بن أبي طلحة لها رؤية، قال الدارقطني: لا تصح لها رؤية وقال ابن الأثير: اختلف في صحبتها، وهي ترْوي عن امرأة من بني سُلَيم وهي صحابية لا تضر جهالتها. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن صفية، عن خالد، عن أمّه، عن امرأة من بني سُلَيم قالت: "سألت عُثْمانَ: لِمَ أَرسل إليك النبي - عليه السلام - بعد خروجه من الكعبة؟ [قال: بعث إليّ] (¬2) فقال: إني رأيت قرني الكبش، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يُشْغِل مصليًا". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 88 رقم 9083). (¬2) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "مصنف عبد الرزاق".

قوله: "ولّدت" بتشديد اللام وأراد بها أنها كانت قابلة؛ لأن القابلة تُسمّى المُولِّدة، يقال: ولَّدت الشاة توليدًا إذا حضرت ولادتها فعالجتها حتى يبين الولد منها. قوله: "رأيت قرني الكبش" أراد بهما قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل - عليه السلام - وكانا معلقين في جوف الكعبة. قوله: "أن تخمرهما" من التخمير بالخاء المعجمة وهو التغطية من خمّرتُ الإناء إذا غطيته بشيء. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن أبي الزناد، قال: ثنا علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنتُ أحبَّ أن أدخل البيت فأُصلّي فيه، فاخد النبي - عليه السلام - بيدي، فأدخلني الحجر، وقال: إن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا في بنائها فأخرجوا الحجر من البيت، فإذا أردت أن تُصلّي في البيت فصلّي في الحجر، فإنما هو قطعةُ منه". ش: أي قد روي عن النبي - عليه السلام - أيضًا في ما ذكرنا من قوله ما يدلّ على جواز الصلاة في البيت. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- وأبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان المدني، عن علقمة بن أبي علقمة واسمه بلال المدني مولى عائشة أم المؤمنين، روى له الجماعة، عن أمه -أعني أم علقمة المذكور- واسمها مرجانة وثقها ابن حبان وروى لها أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا القعنبي، ثنا عبد العزيز، عن علقمة، عن أمه، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 214 رقم 2028).

عائشة أنها قالت: "كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله - عليه السلام - بيدي فأدخلني في الحجر فقال: صلّي في الحجر إذا أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه عن البيت". وأخرجه الترمذي (¬1): عن قتيبة، عن عبد العزيز ... إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. قوله: "فأدخلني الحِجْر" بكسر الحاء وسكون الجيم وهو اسم للحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي؛ سُمّي به لأنه حجر من البيت، أي منع من دخوله في بنائه ولكنه في حكم البيت حتى إذا طاف من داخل الحجر لا يعتد به، وسُمّي الحطيم أيضًا لأنه حُطم من البيت أي كُسر. ص: فهذا رسولُ الله - عليه السلام - قد أجاز الصلاة في الحجر الذي هو من البيت، فقد ثبت بما ذكرنا تصحيح قول مَنْ ذهب إلى إجازة الصلاة في البيت، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما حكمه من جهة النظر، فإن الذين يَنْهون عن الصلاة فيه إنما نهوا عن ذلك لأن البيت كله عندهم قبلة، قالوا: فمَنْ صلى فيه فقد استدبر بعضه فهو كمُسْتدبر بعض القبلة فلا تجزئه صلاته، فكان من الحجة عليهم في ذلك: أنَّا رأينا من استدبر القبلة أو ولاها يمينه أو شماله أن ذلك كله سواء، وأن صلاته لا تجزئه، وكان مَنْ صلى مُسْتقبل جهةٍ من جهات البيت أجزأته الصلاة باتفاقهم، وليس هو في ذلك مستقبل جهة القبلة كلها؛ لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت، وما عن يساره ليس هو مُسْتقِبله، فلما كان لم يتعبد باستقبال جهات كل البيت في صلاته وإنما يتعبد باستقبال جهة من جهاته ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 225 رقم 876). (¬2) "المجتبى" (5/ 219 رقم 2912).

ولا يضره ترك استقبال ما بقي من جهاته بعدها كان النظر على ذلك أن من صلى فيه فقد استقبل إحدى جهاته، واستدبر غيرها، فما استدبر من ذلك فهو في حكم ما كان عن يمين ما استقبل من جهات البيت وعن يساره إذا كان خارجًا منه؛ فثبت بذلك أيضًا قول الذين أجازوا الصلاة في البيت؛ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بقوله: "فهذا" إلى ما أجازه رسول الله - عليه السلام - عليه السلام - من الصلاة في الحجر، ولما كان الحجر من البيت كانت الصلاة فيه كالصلاة في البيت، فدل ذلك قطعًا على جواز الصلاة فيه. قوله: "وأما حكمه" أي حكم هذا الباب من جهة النظر والقياس. قوله: "فكان من الحجة عليهم في ذلك" أي فكان من الدليل على أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وهذا جواب عما قالوه من طريق النظر. قوله: "فلما كان لم يُتعبّد" بتشديد الباء على صيغة المجهول، والتعبُّد إظهار العبادة لله والقيام بعُبوديته. قوله: "كان النظر" جواب لقوله: "فلما كان"، والباقي ظاهر. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمرو الحَوْضِيّ، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن عمرو بن دينار قال: "رأيتُ ابن الزبير يُصلّي في الحجر". ش: أي قد روي أيضًا أداء الصلاة في الحجر الذي هو من البيت عن عبد الله ابن الزبير بن العوام. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن يزيد بن إبراهيم التستري البصري، عن عمرو بن دينار المكيّ. وهذا إسناد صحيح، والله أعلم.

ص: باب: من صلى خلف الصف وحده

ص: باب: من صلى خلف الصف وحده ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة من يصلي خلف الصف حال كونه وحده، وجه المناسبة بين البابين: أن كلاًّ منهما مشتمل على حكم صلاة في مكان مخصوص. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت هلال بن يَسَاف يُحدِّث، عن عمرو بن راشد، عن وابصة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يُصلّي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشيم، عن حُصَين، عن هلال بن يَساف، قال: "أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد فأقامني على وابصة بن مَعْبد بالرقة فقال: هذا حدثني: أن رجلًا صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - عليه السلام - أن يعيد الصلاة". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة بن عبد الله المرادي الجملي الكوفي الأعمى الفقيه روى له الجماعة، عن هلال بن يَسَاف -بفتح الياء آخر الحروف، وقيل: إساف بالهمزة- الأشجعي أبي الحسن الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عمرو بن راشد الأشجعي الكوفي وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والترمذي هذا الحديث، عن وابصة بن مَعْبد الأسديّ. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر، قالا: ثنا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 182 رقم 682).

شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة: "أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد- قال سليمان: الصلاة". الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد واسم أبي الجعد رافع الأشجعي الكوفي وثقه ابن حبان. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن هلال بن يساف قال: "أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد ونحن بالرقة، فقام بي على شيخ يقال له: وابصة بن مَعْبد من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ أن رجلًا صلى خلف الصف وحده -والشيخ يسمع- فأَمَرهُ النبي - عليه السلام - أن يعيد الصلاة". قال أبو عيسى: حديث وابصة حديث حسَنٌ، واختلف أهل العلم فقال بعضهم: حديث عمرو بن مرة أصحّ، وقال بعضهم: حديث حصين أصح، وهو عندي أصحّ من حديث عمرو؛ لأنه روي من غير وجه عن هلال عن زياد، عن وابصة. انتهى. وقال ابن حبان (¬3): سمع هذا الخبر هلال، عن عمرو، عن وابصة، وسمعه ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 104 رقم 4988). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 445 رقم 230). (¬3) "صحيح ابن حبان" (5/ 577 رقم 2200).

من زياد عن وابصة، فالطريقان جميعًا محفوظان، وليس هذا الخبر مما تفرد به هلال بن يساف. ثم أخرجه عن يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن عم عبيد الله بن أبي الجعد، عن أبيه زياد بن أبي الجعد، عن وابصة فذكره. وذكره البزار في "مسنده" بالأسانيد الثلاثة المذكورة، ثم قال: أما حديث عمرو بن راشد فإن عمرو بن راشد رجل لا نعلم حدَّث إلا بهذا الحديث وليس معروفًا بالعدالة فلا يحتج بحديثه. وأما حديث حصين فإن حصينًا لم يكن بالحافظ فلا يحتج بحديثه في الحكم. وأما حديث يزيد بن أبي زياد فلا نعلم أحدًا من أهل العلم إلا وهو يضعّف أخباره فلا يحتج بحديثه، وقد روي عن شمْر بن عطية، عن هلال بن يساف، عن وابصة، وهلال لم يَسْمَع من وابصة، فأمسكنا عن ذكره لإرساله. انتهى. وقال الشافعي: سمعت بعض أهل العلم بالحديث يذكر أن بعض المحدثين يُدْخِل بين هلال ووابصة رجلًا، ومنهم مَنْ يَروْيه عن هلال، عن وابصة سمعه منه. قلت: كأنه يُوهِّنه بذلك. وقال البيهقي: لم يخرجاه لما حكاه الشافعي من الاختلاف في سنده. وقال الشافعي في موضع آخر: لو ثبت الحديث لقلت به. وقال الحاكم: إنما لم يخرج الشيخان لوابصة في كتابَيْهما لفساد الطريق إليه. وقال ابن المنذر: ثَبَّتَه أحمد وإسحاق. وقال أبو عمر: فيه اضطراب ولا يثبتُه جماعة. وقال الإشبيلي: غيرُ أبي عمر يقول: الحديث صحيح؛ لأن حصينًا ثقة وهلالًا مثله وزيادًا كذلك وقد أسندوه، والاختلاف فيه لا يضره.

وذكر ابن حزم في "المحلى" (¬1): حديث علي بن شيبان، عن أبيه الآتي ذكره ثم صحح هذا الحديث، ثم قال: ورواية هلال بن يساف حديث وابصة مرة عن زياد بن أبي الجعد ومرةً عن عمرو بن راشد قوةً للخبر، وعمرو بن راشد ثقة وثقه أحمد بن حنبل وغيره. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن بدر السُّحيمي، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان السُّحَيمي، عن أبيه -وكان أحد الوَفْد- قال: "صليت خلف رسول الله - عليه السلام -، فقضى صلاته ورجل فرد يُصلّي خلف الصَفِّ، فقام رسول الله - عليه السلام - حتى قضي صلاته ثم قال: استقبل صلاتك فلا صلاة لفَرْد خلف الصفِّ". ش: إسناد صحيح، وحَبّان بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة بن هلال الباهلي أبو حبيب البصري، روى له الجماعة، وملازم بن عمرو بن عبد الله بن بدر السُّحَيْمي الحنفي وثقه أحمد وابن حبان وروى له الأربعة، وعبد الله بن بدر بن عُمَيرة بن الحارث بن شمر الحنفي السُّحَيمي اليمامي جدّ ملازم بن عمرو لأبيه، وقيل: لأمه، وثقه يحيى والعجلي وابن حبان وروى له الأربعة. وعبد الرحمن بن علي بن شيبان الحنفي السُّحَيْمي وثقه ابن حبان وروى له أبو داود وابن ماجه. وعلي بن شيبان الحنفي له صحبة، وقد على النبي - عليه السلام -. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، حدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه علي بن شيبان -وكان من الوفد- قال: "خرجنا حتى قدمنا على النبي - عليه السلام - فبايعناه وصلينا خلفه، قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى فقضى الصلاة، فرأى ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 53 - 54). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 320 رقم 1003).

رجلًا فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله - عليه السلام - حتى انصرف، قال: استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصفِّ". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، (¬1) والبزار في "مسنده". وقال البزار: عبد الله بن بدر ليس بالمعروف، إنما حدث عنه ملازم بن عمرو ومحمد بن جابر، فأما ملازم فقد احْتُمِلَ حديثُه وإن لم يُحتج به، وأما محمَّد بن جابر فقد سكت الناس عن حديثه، وعلي بن شيبان لم يحدث عنه إلا ابنه وابنه هذا غير معروف وإنما ترتفع جهالة المجهول إذا روى عنه ثقتان مشهوران، فأما إذا روى عنه من لا يحتج بحديثه لم يكن ذلك الحديث حجةً ولا ارتفعت الجهالة. ص: فذهب قوم إلى أن من صلى خلف صف منفردًا فصلاته باطلة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى ووكيعًا والحكم والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وابن المنذر؛ فإنهم قالوا: صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم في "المحلى": وأيما رجل صلّى خلف الصف بطلت صلاته ولا يضر ذلك المرأة شيئًا. انتهى. وعن بعض أصحاب أحمد: إذا افتتح صلاته منفردًا خلف الإِمام فلم يلحق به أحد من القوم حتى رفع رأسه من الركوع فإنه لا صلاة له، ومن تلاحق به بعد ذلك فصلاتهم كلهم فاسدة وإن كانوا مائة أو أكثر. وفي "المغني": ومن صلى خلف الصف وحده أو قام بجنب الإِمام عن يساره أعاد الصلاة. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (5/ 579 رقم 2202).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: مَنْ فعل ذلك فقد أساء وصلاته مجزئة عنه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وعبد الله ابن المبارك والحسن البصري والأوزاعي وأبا حنيفة والشافعي ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله؛ فإنهم قالوا صلاة المنفرد خلف الصف جائزة ولكنه يأثم , أما الجواز فلأنه متعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك وهو قوله - عليه السلام -: "لا صلاة لفرد خلف الصف". ومعناه: لا صلاة كاملة على ما نقرره إن شاء الله تعالى. ص: وقالوا: ليس في هله الآثار ما يدل على خلاف ما قلنا؛ وذلك أنكم رويتم أن النبي - عليه السلام - أمر الذي صلى خلف الصف أن يعيد الصلاة، فقد يجوز أن يكون أمره بذلك لأنه صلى خلف الصف، ويجوز أن يكون أمره بذلك لمعنى آخر كما أمر النبي - عليه السلام - الذي دخل المسجد فصلى أن يعيد الصلاة، ثم أمره أن يعيدها حتى فعل مرارًا في حديث رفاعة وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، فلم يكن ذلك لأنه دخل المسجد فصلى ولكنه لمعنًى غير ذلك وهو تركه إصابة فرائض الصلاة فيحتمل أيضًا ما رَوْيتم من أمر النبي - عليه السلام - الرجل الذي صلى خلف الصف أن يعيد الصلاة لا لأنه صلى خلف الصف ولكن لمعنى آخر كان منه في الصلاة، وفي حديث علي بن شيبان معنًى زيادة على المعنى الذي في حديث وابصة، وذلك أنه قال: "صلينا خلف رسول الله - عليه السلام -، فقضى صلاته ورجل فرد يصلي خلف الصف، فقام عليه نبي - عليه السلام - حتى قضى صلاته، ثم قال: استقبل فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف". ففي هذا الحديث أنه أمره أن يعيد وقال: "لا صلاة لفرد خلف الصف" فيحتمل أن يكون أَمْرُهُ إياه بإعادة الصلاة كان للمعنى الذي وصفنا في حديث وابصة.

وأما قوله: "لا صلاة لفرد خلف الصف" فيحتمل أن يكون ذلك كقوله: "لا وضوء لمن لم يُسم الله"، وكالحديث الآخر: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وليس ذلك على أنه إذا صلى كذلك كان في حكم من لم يصل، ولكنه قد صلى صلاةً مجزئةً، ولكنها ليست متكاملة الأسباب في الفرائض والسنن؛ لأن من سنة الصلاة مع الإِمام اتصال الصفوف وسدِّ الفرج هكذا ينبغي للمصلي خلف الإِمام أن يفعل، فإن قصر عن ذلك فقد أساء وصلاته مجزئة ولكنها ليست بالصلاة المتكاملة في فرائضها وسننها، فقيل لذلك: لا صلاة له. أي: لا صلاة له متكاملةً كما قال - عليه السلام -: "ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يُعرف فيُتَصدق عليه ولا يَسْأل الناس". فكان معنى قوله: "ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان" إنما معناه: ليس هو بالمسكين المتكامل في المسكنة؛ إذ هو يَسْأل فُيْعطي ما يقوته ويواري عورته، ولكن المسكين: الذي لا يسأل الناس ولا يعرفونه فيتصدقون عليه، فنفى في هذا الحديث من كان مسكينًا غير متكامل أسباب المسكنة أن يكون مسكينًا، فيحتمل أن يكون أيضًا إنما نفى بقوله: "لا صلاة لمن صلّى خلف الصف وحده" أن يكون مصليًّا؛ لأنه غير متكامل أسباب الصلاة وهو مُصَلٍّ صلاةً تُجزئه. ش: أي وقال الآخرون في جواب احتجاج أهل المقالة الأولى بالأحاديث المذكورة: ليس في هذه الآثار أي أحاديث وابصة وعلي بن شيبان ما يدل على خلاف ما قلنا من جواز صلاة المنفرد خلف الصف. وأراد أن الأحاديث المذكورة ليست بحجة علينا؛ لأنها تحتمل معنًى آخر غير المعنى الذي تعلق به هؤلاء. أما حديث وابصة فإنه يحتمل أن يكون معناه كمعنى حديث رفاعة بن رافع الذي أخرجه الأربعة (¬1) حيث قال - عليه السلام - لذلك الرجل الذي كالبدوي صلى ¬

_ (¬1) أبو داود (1/ 288 رقم 857)، والترمذي (2/ 100 رقم 302)، والنسائي (2/ 193 رقم 1053)، وابن ماجه (1/ 156 رقم 460).

فأخف صلاته ثم انصرف فسلَّم على النبي - عليه السلام - فقال - عليه السلام -: "وعليك، فارجع فصلّ فإنك لم تُصَلّ"، وحديث أبي هريرة الذي أخرجه الجماعة (¬1) حيث قال - عليه السلام - لذلك الرجل الذي دخل المسجد ثم جاء فسلّم على رسول الله - عليه السلام - فقال: "ارجع فصل فإنك لم تُصلِّ" فإن أمره - عليه السلام - لم يكن لكونه دخل المسجد فصلّى وحده وإنما كان لتركه إصابة فرض من فرائض الصلاة. وأما حديث علي بن شيبان فإنه أيضًا يحتمل أن معناه كالذي ذكرناه في حديث وابصة ويكون معنى قوله: "لا صلاة لفرد خلف الصف" معنى قوله - عليه السلام -: "لا وضوء لمن لم يُسم الله" (¬2) و"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (2)، وهو أن يكون محمولًا على نفي الفضيلة والكمال، فيكون معناه: لا صلاة كاملةً لفرد خلف الصف ومثل هذا شائع سائغ في الكلام. فإن قيل: ما الدليل على صحة هذا الحمل؟ قلت: هو أنه قد أتى بأركان الصلاة التي يتعلق بها الجواز، فدل أن صلاته جائزة وإنما دخلها النقص بارتكابه المنهيِّ، فتكون صلاته صلاة غير كاملة، ولهذا قلنا: يستحب إعادته، وقد حقق هذا الكلام مرةً في باب: "التسمية على الوضوء". وقال بعضهم: إن أمره - عليه السلام - إياه بالإعادة للاستحباب لا للإيجاب، والدليل عليه: حديث المرأة المصلية خلفه في حديث أنس منفردةً، وحكم الرجل والمرأة في هذا واحد. وروى الطبراني في الأوسط (¬3) من حديث يونس بن عبيد، عن ثابت، عن ¬

_ (¬1) البخاري (5/ 2307 رقم 5897)، ومسلم (1/ 298 رقم 397)، وأبو داود (1/ 287 رقم 856)، والترمذي (2/ 103 رقم 303)، والنسائي (2/ 124 رقم 884)، وابن ماجه (1/ 336 رقم 1060). (¬2) تقدم. (¬3) "المعجم الأوسط" (3/ 134 رقم 2711).

أنس: "أنه صلى خلف النبي - عليه السلام - وحده ووراءه امرأة حتى جاء الناس" وقال: تفرد به إسماعيل. ص: فإن قال قائل: فهل تجدون عن النبي - عليه السلام - في هذا شيئًا يدل على ما قلتم؟ قيل له: نعم. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا حماد بن سلمة، أن زيادًا الأعلمَ أخبرهم، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "جئتُ ورسول الله - عليه السلام - راكعٌ وقد حفزني النفَس، فركعت دون الصف، ثم مشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - الصلاة قال: أيكم الذي ركع دون الصف؟ قال أبو بكرة: أنا. قال: زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ". حدثنا الحسين بن الحكم الحِبَريُّ، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحمانيُّ، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن زيادٍ الأعلمِ، قال: ثنا الحسن: "أن أبا بكرة ركع دون الصف فقال له النبي - عليه السلام - زادك الله حرصا ولا تعد". ففي هذا الحديث أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله - عليه السلام - بإعادة الصلاة، فلو كان من صلّى خلف الصف لا تجزئه صلاتُه لكان مَنْ دخل في الصلاة خلف الصف لا يكون داخلًا فيها، ألا ترى أن من صلّى على مكان قَذرٍ أن صلاته فاسدة، ومن افتتح الصلاة على مكان قذر ثم صار إلى مكان نظيف أن صلاته فاسدة، فكان كل من افتتح الصلاة في مَوْطنٍ لا يجوز له فيه أن يأتي الصلاة فيه بكمالها لم يكن داخلًا في الصلاة، فلما كان دخول أبي بكرة في الصلاة دون الصف دخولًا صحيحًا كانت صلاة المُصلّي كلها دون الصفّ صلاةً صحيحة. ش: تقرير السؤال أن يقال: هل ورد شيء في الحديث يدل على ما قلتم من التأويل المذكور في الحديث المذكور لتصح صلاة المنفرد خلف الصف؟ فأجاب

بقوله: نعم، وَرَدَ حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه -، فإنه ركع دون الصف فلم يأمره - عليه السلام - بإعادة الصلاة. ثم بيّن ذلك مشروحًا بقوله: "فلو كان مَنْ صلى ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ثم إنه أخرج حديث أبي بكرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن زياد بن حسان بن قرة الباهلي البصري وهو زيادٌ الأعلم نسيب عبد الله بن عون، قال أحمد: ثقة ثقة. روى له البخاري وأبو داود والنسائي. عن الحسن البصري، عن أبي بكرة نفيع ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا همام، عن الأعلم -وهو زياد- عن الحسن، عن أبي بكرة: "أنه انتهى إلى النبي - عليه السلام - وهو راكع فركع قبل أن يَصِلَ إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - عليه السلام - فقال: زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ". الثاني: عن الحُسَيْن بن الحكم بن مسلم الحبَرِيّ بكسر الحاء وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة نسبة إلى بيع الحِبَر جمع حِبَرة، والحِبَرة مثل العِنَبة: برد يماني، وهو من أهل الكوفة يروي عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا زياد الأعلم، عن الحسن: "أن أبا بكرة جاء ورسول الله - عليه السلام - راكع، فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فلما قضى النبي - عليه السلام - صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بكرة: أنا، فقال النبي - عليه السلام -: زادك الله حرصًا ولا تعد". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 271 رقم 750). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 182 رقم 684).

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن زياد الأعلم، قال: ثنا الحسن، أن أبا بكرة حدثه: "أنه دخل المسجد والنبي - عليه السلام - راكع فركع دون الصف، فقال النبي - عليه السلام -: زادك الله حرصًا ولا تعد". قوله: "ورسول الله - عليه السلام - راكع" جملة اسمية وقعت حالًا , وكذلك قوله: "وقد حفزني النفَس" جملة حالية، وحَفَزَني من الحَفْز وهو الحثّ والإعجال. وقال الجوهري: حَفَزَه أي: دَفَعَه من خلفه يَحْفِزُه حَفْزًا، والمعنى ها هنا النَّفَس الشديد المتنابع الذي كأنه يُحْفَزُ أي: يُدْفعَ من سياق والليل يحفز النهار أي يسوقه، وحفزته بالرمح أي طعنته، ومادته: "حاء مهملة، وفاء، وزاي معجمة". قوله: "دون الصف" أي وراءه. قوله: "زادك الله حرصًا" أي في الخير والمبادرة إليه؛ لأنه استعجل في الركوع قبل أن يتساوى مع من في الصف. قوله: "ولا تعد" إرشاد له في المستقبل إلى ما هو الأفضل. ويستفاد منه أحكام وهي: أن المشي إلى الصف بعد الشروع في الصلاة غير مفسد ولكنه مقدر، فقدره بعض أصحابنا بخطوة حتى لو مشى خطوتين أو أكثر فسدت صلاته، وقدره بعضهم بموضع سجوده، كذا في "المحيط". وأن الصلاة خلف الصف وحده تكره وإن كانت جائزة، وعن أبي حنيفة: إذا لم يجد فرجةً في الصف ينتظر حتى يجيء آخر فيقوم معه، فإن لم يجد أحدًا حتى ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 118 رقم 871).

أراد الإِمام الركوع يجذب واحدًا من الصف فيقوم معه لئلا يصير مرتكبًا للمنهي عنه، وإن كان في الصحراء، قيل: يكبر أولًا ثم يجذب أحدًا من الصف حتى تأخذ تلك البقعة حرمة الصلاة فلا تفسد صلاة المجذوب. وقيل: وإن لم يُكَبِّر لا تفسد صلاته لأنه متى أراد الصلاة فقد أخذت تلك البقعة حرمة الصلاة فلا تفسد صلاة المجذوب، وقيل: وإن لم يكبر لا تفسد صلاته؛ لأنه متى أراد الصلاة فقد أخذت تلك البقعة حرمة الصلاة. وأن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة؛ لأن جزءًا من الصلاة إذا جاز في حال الانفراد جاز سائر أجزائها, ولو لم تكن جائزة لأمره - عليه السلام - بالإعادة، فعلم أن الأمر بالإعادة في حديث وابصة على الاستحباب دون الوجوب، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فما معنى قوله: "ولا تَعُدْ"؟ قيل له: ذلك عندنا يحتمل مَعْنَيين: يحتمل ولا تَعُد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف كما قد روى عنه أبو هريرة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المُقدّميُّ، قال: ثنا عمر بن علي، قال: حدثني ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخد مكانه من الصف". ويحتمل قوله: "ولا تَعُدْ" أي ولا تَعُد أن تسعى إلى الصف سعيًا يحفزك فيه النفس كما جاء عنه في غير هذا الحديث. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمّي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن سَعْد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعون وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلّوا، وما فاتكم فأَتِمُّوا".

حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهدٌ، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "فاقضوا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول - عليه السلام - مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيبُ، قال: ثنا همامٌ، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمَّد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القَعْنبي، قال: ثنا مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا ثُوِّبَ بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعون وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن العلاء، عن أبيه، وعن إسحاق بن عبد الله، أنهما سمعا أبا هريرة يقول: قال رسول الله - عليه السلام - ... ثم ذكر مثله، وزاد: "فإن أحدكم في صلاة ما كان يَعْمِدُ إلى الصلاة". ش: تقرير السؤال أن يقال: لو كانت صلاة المنفرد خلف الصفّ صحيحةً بهذا الحديث لما كان لقوله: "ولا تعد" معنى.

وتقرير الجواب: أن قوله: "ولا تعد" يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون معناه: ولا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف، فيكون هذا الكلام إرشادًا له في المستقبل إلى ما هو الأفضل. والدليل عليه: حديث أبي هريرة الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم ابن داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدّمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أتى أحدكم الصلاة ... " الحديث. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان ... إلى آخره. وكذا قال ابن أبي شيبة في معنى هذا الحديث: وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن البصري. وعن الزهري (¬2): " أنه يركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم يمشي راكعًا" وهكذا روى أبو أمامة عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. والمعنى الآخر: أن يكون معناه ولا تعد أن تسعى إلى الصف بحيث أن يحفزك النفس ويتوالى عليك مع النفخ. والدليل عليه حديث أبي هريرة أيضًا الذي أخرجه من عشر طرق صحاح: الأول: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب أبي عبد الله المصري بَحْشَل بن أخي عبد الله بن وهب، وثقه عبد الله بن عبد الحكم، عن عمه عبد الله بن وهب، عن إبراهيم بن سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 230 رقم 2636). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 229 رقم 2624).

روى له الجماعة، عن أبيه سعد بن إبراهيم روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): من حديث سعد بن إبراهيم، قال: سمعت أبا سلمة يحدث، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "ائتوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما سُبقتم فاقضوا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا سلمة يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سُبِقْتُم". قوله: "وأنتم تسعون" جملة اسمية حالية من الضمير المرفوع الذي في "فلا تأتوها" وكذلك "تمشون" حال، والمعنى: لا تأتوا الصلاة حال كونكم ساعين يعني جارين، وائتوها حال كونكم ماشين مستكنين يقال: سعيت في كذا وإلى كذا: إذا ذهبت إليه وعملت فيه، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬3) وفي "الصحاح": سَعَى الرجل يَسْعَى سعيًا أي عمدًا، والحكمة في إتيانها بسكينة والنهي عن السعي: أن الذاهب إلى الصلاة عامل في تحصيلها ومتوصل إليها، فينبغي أن يكون متأدبًا بآدابها، ويكون على أكمل الأحوال. قوله: "عليكم السكينة" أي التأني والوقار، ومعنى "عليكم": الزموا. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 308 رقم 2350). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 382 رقم 8951). (¬3) سورة النجم، آية: [39].

وأخرجه أحمد (¬1): عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة: "وما فاتكم فاقضوا". وأخرج (¬2) من حديث ليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "وما فاتكم فأتموا". وقال أبو داود (¬3): قال الزُبَيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة، عن الزهري: "وما فاتكم فأتموا". وقال ابن عيينة عن الزهري وحده: "فاقضوا". وفي رواية أبي نعيم الأصبهاني: "وما فاتكم فاقضوا"، وكذا ذكره الإسماعيلي من حديث سيار، عن يحيى. فإن قيل: حكى البيهقي، عن مسلم أنه قال: لا أعلم هذه اللفظة رواها عن الزهري غير ابن عيينة وأخطأ. قلت: تابعه ابن أبي ذئب فرواها عن الزهري كذلك، وكذا أخرج هذا الحديث أبو نعيم في "المستخرج على الصحيحين"، وفي مسند أبي قرة: عن ابن جريج، أُخبرت عن أبي سلمة، عن أبيه، عنه بلفظ: "وليقض ما سبقه"، وكذا في رواية مسلم: "واقض ما سبقك". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن محمَّد بن عبد الله الأنصاري ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود مُعلقًا؛ وقال: قال محمَّد بن عمرو: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وجعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "فأتموا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 238 رقم 7249). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 270 رقم 7650). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 156 رقم 572).

وابن مسعود، عن النبي - عليه السلام -. وأبو قتادة وأنس عن النبي - عليه السلام - كلهم: "فأتموا". الخامس: عن محمَّد بن خزيمة، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن سفيان ابن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، أبنا الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا". السادس: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا آدم، قال: ثنا ابن أبي ذئب، قال: ثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وعن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". السابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 114 رقم 861). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 228 رقم 610).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الفضيل -يعني ابن عياض- عن هشام (ح). وحدثني زهير بن حرب -واللفظ له- قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: نا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ثُوِّب بالصلاة فلا يَسْعى إليها أحدكم، ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، صلّ ما أدركت واقض ما سبقك". الثامن: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن محمَّد بن سيرين، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أتى أحدكم -يعني الصلاة- فلا يَسْعَ إليها , وليمشِ عليه السكينة والوقار، فليصل ما أدرك، وليقض ما سبقه". التاسع: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2). قوله: "إذا ثوّب" من التثويب وهو إقامة الصلاة، والأصل في التثويب: أن يجيء الرجل مستصرخًا فيلوّح بثوبه ليرى ويَشْتهر فسُمّي الدعاء تثويبًا لذلك، وكل داع مثوِّب. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 421 رقم 602). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 68 رقم 150).

وقيل: إنما سُمِّي تثويبًا من ثَابَ يَثُوب إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال: حيّ على الصلاة. فقد دعاهم إليها، فإذا قال بعده: الصلاة خير من النوم. فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها. العاشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1): ثنا عبد الله بن عمير، أنا مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا ثُوّب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتمّوا، فإن أحدكم في صلاة ما كان يَعْمد إلى الصلاة". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن [أيوب] (¬3)، وقتيبة بن سعيد وابن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر -قال ابن أيوب: نا إسماعيل- قال: أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. قوله: "ما كان يعمد" أي يقصد إلى الصلاة. ويستفاد منه أحكام: استحباب السكينة والتأني عند التوجه إلى الصلاة، وترك الجري والعدْو. جواز قول الرجل: فاتتنا الصلاة، وأنه لا كراهة فيه عند جمهور العلماء، وكرهه ابن سيرين وقال: يقال: إنما لم ندركها، والحديث حجة عليه. وأن الإتمام والقضاء المذكور في قوله: "أتموا واقضوا" هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ وترتب على ذلك خلاف فيما يدركه الداخل مع الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 529 رقم 10859). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 421 رقم 602). (¬3) في "الأصل، ك" "يحيى"، وهو وهم أو سبق قلم، والمثبت من "صحيح مسلم".

أحدها: أنه أول صلاته، وأنه يكون بانيًا عليه في الأفعال والأقوال، وهو قول الشافعي وإسحاق والأوزاعي وهو مرويّ عن علي وابن المسيب والحسن وعطاء ومكحول ورواية عن مالك وأحمد، واستدلوا بقوله: "وما فاتكم فأتموا"؛ لأن لفظ الإتمام واقع على باقٍ من شيء قد تقدم سائره. وروى البيهقي (¬1): من حديث عبد الوهاب بن عطاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "ما أدركت فهو أول صلاتك". وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - بسند جيد مثله (1). الثاني: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها، وهو قول مالك. قال ابن بطال عنه: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة. وقال سحنون: هذا الذي لم نعرف خلافه، دليله: ما رواه البيهقي (¬2) من حديث قتادة، أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قال: "ما أدركت مع الإِمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به من القرآن". الثالث: أن ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيها بالحمد وسورة مع الإِمام، وإذا قام للقضاء قضى بالحمد وحدها؛ لأنه آخر صلاته. وهو قول المزني وإسحاق وأهل الظاهر. الرابع: أنه آخر صلاته وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية , وسفيان ومجاهد وابن سيرين. وقال ابن الجوزي: الأشبه بمذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه آخر صلاته. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 298 رقم 3447). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 298 رقم 3448).

قال ابن بطال: روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي والشعبي وأبي قلابة، ورواه القاسم عن مالك، وهو قول أشهب وابن الماجشون واختاره ابن حبيب، واستدلوا على ذلك بقوله - عليه السلام -: "وما فاتكم فاقضوا". ورواه ابن أبي شيبة (¬1) بسند صحيح عن أبي ذر. وابن حزم (¬2) بسند مثله عن أبي هريرة. والبيهقي (¬3) بسند لا بأس به على رأي جماعة عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. والجواب عما استدل به الشافعي ومن معه وهو قوله: "فأتموا" أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإِمام، فحمل قوله: "فأتموا" على أَنَّ من قضى ما فاته فقد أتم؛ لأن الصلاة تنقص بما فات، فقضاؤه إتمام لما نقص. وقال الشيخ محيي الدين: وحجة الجمهور أن أكثر الروايات "وما فاتكم فأتموا"، وأجابوا عن رواية "فاقض ما سبقك" أن المراد بالقضاء الفعل لا القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد كثر استعمال القضاء بمعنى الفعل، فمنه قوله تعالي: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬4) وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (¬5)، و {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} (¬6)، ويقال: قضيت حق فلان، ومعنى الجميع الفعل. قلنا: أما الجواب عن قوله: "فأتموا" فقد ذكرناه آنفًا. وأما قوله: المراد بالقضاء الفعل فمشترك الدلالة؛ لأن الفعل يطلق على الأداء والقضاء جميعًا، ومعنى {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: قدرهنّ، ومعنى ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 138 رقم 7402). (¬2) "المحلى" (5/ 74). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 296 رقم 3433). (¬4) سورة فصلت، آية: [12]. (¬5) سورة البقرة، آية: [200]. (¬6) سورة الجمعة، آية: [10].

{قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}: فرغتم عنها، وكذا معنى قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}، ومعنى قضيت حق فلان: أنهيتُ إليه حقه، ولئن سلمنا أن القضاء بمعنى الأداء فيكون مجازا، والحقيقة أولى من المجاز ولا سيما على أصلهم: المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة والتعذر. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: أنا حُميد الطويل، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إذا جاء أحدكم -يعني إلى الصلاة- فليمش علي هينةٍ، فليصلِّ ما أدرك وليقض ما سُبِق به منها". ش: إسناده صحيح، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف العجلي البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح" (¬1). والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) بأتم منه: ثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف، عن حميد، عن أنس قال: "أقيمت الصلاة، فجاء رجل يسْعى وقد حَفَزه النَفسُ أو انتهر، فلما انتهى إلى الصف قال: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته قال: أيكم المتكلم؟ فسكت القوم، فقال: أيكم المتكلم فإنه قال خيرًا أو لم يقل بأسًا؟ قال الرجل: يا رسول الله، أنا أسرعت المشي فانتهيت إلى الصف فقلت الذي قلت. فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرون بها أيهم يرفعها، ثم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليمش على هينته، فليصل ما أدرك وليقض ما سبقه". ص: فالنظر عندنا يدلُّ على أن من صلّى خلف الصفّ فصلاته جائزة؛ وذلك أنهم لا يختلفون في رجل كان يصلي وراء الإمام في صف فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغي له أن يمشي إليه حتى يقوم فيه، وكذلك روي عن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) ضعفه البخاري والنسائي والعقيلي وغيرهم ووثقه ابن معين. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 106 رقم 12053).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عمرو بن مرة، قال: سمعتُ خيثمة بن عبد الرحمن يقول: "صليت إلى جنب ابن عمر - رضي الله عنها -، فرأى في الصَفِّ خللًا، فجعل يَغمزني أن أتقدم إليه وجَعلتُ إنما يَمْنَعني أن أتقدم الضِّنُ بمكاني إذا جلس أن أَبعُدَ منه، فلما أن رأى ذلك تقدَّم هو". والذي يتقدم من صَفٍّ إلى صفٍّ على ما ذكرنا هو فيما بين الصفين في غير صف فلم يضره ذلك ولم يخرجه من الصلاة، فلو كانت الصلاة لا تجوز إلا لقائم في صف لفسدت على هذا صلاته لما صار في غير صفٍّ، وإن كان ذلك أقل القليل، كما أن من وقف على مكان نجس وهو يصلي أقل القليل أفْسَدَ ذلك عليه صلاته، فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا الرجل بالتقدم إلى ما قد خلا أمامه من الصفّ ولا يُفسُد عليه صلاته كونه فيما بين الصفين في غير صف؛ دلّ ذلك أن مَنْ صلّى دون الصف أن صلاته مجزئة عنه. ش: تقرير وجه النظر: أن الأخصام كلهم اتفقوا على أن الرجل الذي يصلي وراء الإِمام في صف إذا رأى موضع رجل قد خلا من بين يديه ينبغي له أن يتقدم إلى ذلك الموضع ويقف فيه، ويسدُّ ذلك الخلل، فهذا بالاتفاق لا يضره ذلك ولا يفسد صلاته، فهذا في حالة تقدمه يكون بين الصَّفّين لا في صفّ بعيْنه، ومع هذا لا تفسد صلاته، فلو كانت الصلاة لا تجوز إلا لمن يقوم في صف؛ لكان ينبغي أن تفسد صلاة هذا الرجل حين صار في غير صف في حالة تقدمه، وإن كان ذلك في مدة يسيرة لما كان تفسد صلاة من وقف على مكان نجس وإن كان وقوفه عليه في مدة يسيرة، فلما أجمعوا أن هذا الرجل متقدم إلى الموضع الذي خلا بين يديْه، وأن كونه بين الصفّين في حال تقدّمه لا يفسد عليه صلاته لكونه صار في غير صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته لا تفسد وإن كان في غير صفّ قياسًا على ما ذكرنا. قوله: "أمامه" بفتح الهمزة بمعنى قدامه.

قوله: "ينبغي له أن يمشي إليه" عام يتناول الخطوة والخطوتين وأكثر، ولكن قَدَّره بعض أصحابنا بخطوة حتى لو مشى خطوتين أو أكثر فسدت صلاته، وقدره بعضهم بموضع السجود، كذا في "المحيط" , ولكن كلام الطحاوي يدل على أن صلاته لا تفسد وإن كان بين الصفّين أكثر من خطوة مطلقًا. قوله: "وكذلك روي" أي كما ذكرنا أن المصلي إذا رأى موضعًا خاليًا بين يديه ينبغي له أن يتقدم؛ روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنها -. أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة المرادي الجملي الكوفي الأعمى روى له الجماعة، عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة الكوفي، لأبيه صحبة ولجدّه أيضًا روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن خيثمة قال: "صليت إلى [جنب] (¬2) ابن عمر - رضي الله عنهما - فرأى في الصف فرجةً، فأومأ إليّ فلم أتقدم, قال: فتقدم هو فَسدَّها". قوله: "خللًا" أي فرجةً في الصف، وأصل الخلل: من التخلل بين الشيئين وهي الفرجة والثُّلْمة التي بينهما، وخلال الشيء: وسَطه. قوله: "يَغْمزني" من غمزت الشيء بيدي وغمزته بَعيْني، والغمز الإشارة. قوله: "أن أتقدم" مفعول لقوله: "إنما يمنعني" و"أن" مصدرية. وقوله: "الضِّنُّ" مرفوع؛ لأنه فاعل لقوله: "يَمْنعني"، والمعنى إنما يمنعني الضِّنُّ التقدمَ، والضِّنّ -بكسر الضاد المعجمة- يقال: ضَنَنْتُ بالشيء أَضِنُّ به ضِنًّا وضنانةً إذا بخلتَ به، وهو ضَنِين به من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، قال الفراء: ضَنَنْت بالفتح أَضِنُّ لغة يعني من باب ضرب يضرب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 333 رقم 3822). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة".

قوله: "أن أبعد منه" أي لأن أبعد منه، أي لأجل البُعْد. ص: وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم ركعوا دون الصف ثم مشوا إلى الصفّ، واعتدُّوا بتلك الركعة التي ركعوها دون الصف، فمن ذلك ما حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن منصور، عن زيد بن وهب قال: "دخلتُ المسجد أنا وابن مسعود، فأدركنا الإِمام وهو راكع فركعنا، ثم مشينا حتى استوينا بالصفّ، فلما قضى الإِمام الصلاة قمت لأقضي، فقال عبد الله: قد أدركت الصلاة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا بشير بن سليمان، قال: حدثني سيَّار أبو الحكم، عن طارق قال: "كنا مع ابن مسعود - رضي الله عنه - جلوسًا، فجاء آذنه فقال: قد قامت الصلاة، فقام وقمنا، فدخلنا المسجد، فرأى الناس ركوعًا في مقدم المسجد فكبّر وركع ومشى، ففعلنا مثل ما فعل به". ش: أشار بهذا إلى أن المشي إلى الصف بعد الشروع في الصلاة غير مفسد، وأن الركعة التي يركعها الرجل دون الصفّ ثم يدخل في الصف مُعْتد بها، وأنه يدل على أن الانفراد دون الصف غير مفسد للصلاة. وأخرج في ذلك عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: أحدهما: عن محمَّد بن عمرو بن يونس، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي أبي زكرياء الكوفي الجزار روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي رحل إلى النبي - عليه السلام - فقبض وهو في الطريق. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن زيد بن وهب قال: "خرجت مع عبد الله من داره إلى المسجد، فلما توسطنا المسجد ركع الإِمام فكبر عبد الله، ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 229 رقم 2622).

انتهينا إلى الصف، حتى رفع القوم رءوسهم، قال: فلما قضى الإِمام الصلاة قمتُ وأنا أرى أني لم أدرك، فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: إنك أدركت". والطريق الآخر: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن بَشِير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة بعدها الياء آخر الحروف- بن سَلْمان -بفتح السين- أبي إسماعيل النَّهْدي الكوفي والد الحكم، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن سَيّار -بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- أبي الحكم العنزي الواسطي، ويقال البصري، روى له الجماعة، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني (¬1): عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود نحوه. ص: فإن اعتل في هذا معتل أن عبد الله إنما فعل ذلك لأنه صار هو وأصحابه صفًّا. قيل له: ففد روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل قال: "رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والناس ركوع، فمشى حتى إذا أمكنه أن يصل الصف وهو راكع كبَّر فركع، ثم دبَّ وهو راكع حتى وصل الصف". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك وابن أبي ذئب، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن أبي الزناد، قال: أخبرني أبي، عن خارجة بن زيد بن ثابت: "أن زيد بن ثابت كان يركع على عتبة المسجد ووجهه إلى القبلة، ثم يمشي معترضًا على شقه الأَيْمن، ثم يَعْتد بها إن وصل إلى الصف أو لم يَصِلْ". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 271 رقم 9353).

ش: أي: فإن اعتل في ما روي من أثر ابن مسعود معتل أن عبد الله بن مسعود إنما فعل ذلك أي ما روي عنه من ركوعه دون الصف ثم مشيه إلى الصف واعتداده بتلك الركعة التي وقعت دون الصف؛ لأنه صار هو أي عبد الله وأصحابه صفًّا واحدًا. بيانه: أن ما رويتم من ذلك لا يصلح حجةً لما ذهبتم إليه؛ لأن عبد الله بنمسعود وأصحابه كانوا صفًّا واحدًا، فيكون ركوعهم في صفٍّ، وهذا خلاف ما ذهبتم إليه. والمعتل ها هنا اسم فاعل من اعتل، وأصله مُعْتلل -بكسر اللام وبفتحها- يكون اسم مفعول، فأدغمت اللام في اللام للموجب لذلك، ولا يفرق بين الفاعل والمفعول في مثل ذلك لفظًا ويفرق بالقرينة، فافهم. وأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي لهذا المعتل: "فقد روي عن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - في ذلك" أي فيما ذكرنا. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري من كبار التابعين روى له الجماعة، واسمه سعد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي أمامة: "أن زيد ابن ثابت ركع قبل أن يصل إلى الصف ثم مشى راكعًا". الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 229 رقم 2624). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (؟؟؟).

ابن سهل بن حنيف قال: "رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع، فاستقبل، ثم ركع ثم دَبّ راكعًا حتى وصل إلى الصف". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أبي الزناد -بالنون- اسمه عبد الله بن ذكوان، عن خارجة بن زيد بن ثابت: "أن زيد بن ثابت ... " إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن موهب، عن كثير بن أفلح، عن زيد بن ثابت: "أنه دخل والقوم ركوع فركع دون الصف، ثم دخل في الصف". قوله: "ثم يَعتدّ بها" أي بتلك الركعة التي ركعها على عتبة المسجد سواء وصل إلى الصف أو لم يصل. ص: فإن قال قائل: فأنتم تخالفون ما رويتموه عن ابن مسعود وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - وتقولون: لا ينبغي لأحد أن يركع دون الصف، قيل له: نعم، ولكن احتججنا بذلك عليك لِنُعْلِمَ أن أصحاب النبي - عليه السلام - كلهم لا يبطلون صلاة مَنْ دخل في الصلاة قبل وصوله إلى الصفِّ. فإن قال قائل: فما الذي ذهبتم إليه حتى خالفتم عبد الله وزيدًا - رضي الله عنهما -؟ قيل له: ما قد رويناه في هذا الباب من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا يركع أحدكم دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف". وقد قال بذلك الحسن - رضي الله عنه -: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريريُّ، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن: "أنه كره أن يركع دون الصف". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 229 رقم 2625).

وكل ما بيّنا في هذا الباب من هذا من إجازة صلاة مَنْ صَلّى خلف الصفّ هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: تقرير السؤال أن يقال من جهة الخصم: إنكم قد رويتم أثرَيْ عبد الله وزيد بن ثابت المذكورين آنفًا، ثم قد خالفتم حكمهما، فإنهما يدلان على جواز الركوع دون الصف من غير كراهة وأنتم قلتم: لا ينبغي لأحد أن يركع دون الصف. وتقرير الجواب أن يقال: إنما نحن روينا أثرَيْ عبد الله وزيد لأجل الإعلام بأن الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم لا يبطلون صلاة من دخل في الصلاة قبل وصوله إلى الصف فالمصلي خلف الصف وحده كذلك، فلا تبطل (¬1) صلاته، وهذه هي صورة النزاع. ولكن ذهبنا فيما قلنا من كراهة الركوع دون الصفّ إلى ما روي عن أبي هريرة الذي مرّ ذكره في هذا الباب، وهو قوله - عليه السلام -: "إذا أتي أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه"، وهو مذهب الحسن البصري أيضًا. أخرجه عنه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عبيد الله ابن عمر بن مَيْسرة القواريري البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن أشعث بن عبد الملك الحُمْراني، عن الحسن البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن أبي العلاء قال: "سئل الحسن عن الرجل يركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال: لا يركع". وإليه ذهب إبراهيم النخعي أيضًا. ¬

_ (¬1) حدث خلط في ترتيب المخطوط فكان [ق 168 - أ] مع [ق 169 - ب] والعكس. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 230 رقم 2634).

فقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا جرير، عن مغيرة قال: "قلت لإبراهيم: إذا دخلتُ المسجد والإمام راكع أأركع قبل أن أنتهي إلى الصفِّ؟ قال: أنت لا تفعل ذلك". وهو مذهب أبي هريرة أيضًا، وقد قدمنا أن ذلك رُويَ عنه مرفوعًا وموقوفًا: فالمرفوع أخرجه الطحاوي، والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 230 رقم 2635). (¬2) تقدم.

ص: باب: الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمس

ص: باب: الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمسُ ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الرجل الذي يصلي من صلاة الصبح ركعةً ثم تطلع الشمس، هل تبطل صلاته أم لا؟ أم كيف يكون الحكم في ذلك؟ وجه المناسبة بين البابين: أن الأول مشتمل على فساد صلاة المنفرد خلف الصف عند البعض، وهذا أيضًا مشتمل على فساد صلاة من تطلع عليه الشمس وهو في الصلاة عند البعض. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: روى عطاء بن يسار وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من أدرك من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة". وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب: "مواقيت الصلاة". ش: أخرجه في باب: "مواقيت الصلاة" من حديث عطاء بن يسار وبُسْر بن سعيد وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، ومن حديث أبي صالح عن أبي هريرة، ومن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة، وقد ذكرناه هناك (¬1). ص: فذهب قوم إلى أن مَنْ صلّى [من] (¬2) صلاة الصبح ركعةً قبل طلوع الشمس ثم طلعت عليه الشمس صلّى إليها أخرى، واحتجوا في ذلك بهذا الأثر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: مَنْ صلى مِنْ صلاة الصبح ركعةً ثم طلعت الشمس فصلى إليها أخرى فلا تفسد صلاته بطلوع الشمس في أثنائها، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة المذكور. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا طلعت عليه الشمس وهو في صلاته فسدت عليه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله، فإنهم قالوا: إذا طلعت على المصلي الشمسُ وهو في صلاته فسدت صلاته؛ لأنه شرع فيها في الوقت الكامل، فاعتراض طلوع الشمس يفسد؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدى بالناقص، كالصوم المنذور المطلق أو صوم القضاء لا يتأدى في أيام النحر والتشريق بخلاف صلاة العصر فإنها لا تفسد باعتراض غروب الشمس عليها؛ لأن ما بعد الغروب وقت كامل وقد كان شرع في الوقت الناقص فيتأدى بالكامل. فإن قيل: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدّها إلى أن غربت. قلت: لما كان الوقت متسعًا جاز له شغل كل الوقت فيُعفى للفساد الذي يتصل فيه بالبناءة؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر. ص: وقالوا: ليس في هذا الأثر دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأصل؛ لأن قول النبي - عليه السلام -: "مَنْ أدرك من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" قد يحتمل ما قال أهل المقالة الأولى، ويحتمل أن يكون عَنى به الصبيان الذي يبلغون قبل طلوع الشمس، والحُيَّض اللاتي يَطْهرن، والنصارى الذين يسلمون؛ لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة، فيكون هؤلاء الذي سميناهم ومن أشبههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الذي بقي عليهم من وقتها أقل من المقدار الذي يصلونها فيه. قالوا: وهذا الحديث هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والنصارى إذا أسلموا والحيض إذا طهرن وقد بقي عليهم من وقت الصبح

مقدار ركعة أنهم لها مدركين فلم نخالف هذا الحديث، وإنما خالفنا تأويل أهل المقالة الأولى. ش: أي قال الآخرون: ليس في هذا الحديث دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ لأنه محتمل للمعنيين المذكورين، وبالاحتمال لا يتم الاحتجاج. فإن قيل: ما الدليل على الاحتمال الثاني؟ قلت: ذكر لفظة الإدراك وهو قوله: "أدرك" بدون أن يقول: أدرك الصلاة، فيكون المعنى حينئذٍ: فقد أدرك وجوب الصلاة، فيكون الصبيان والحيض والكفار ومن شابههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الباقي من الوقت أقل من وقت أداء الصلاة فيه. وقال أبو عمر (¬1): اختلف العلماء في معنى قوله: "فقد أدرك"، فقالت طائفة من أهل العلم: أراد بقوله ذلك: أدرك وقتها، حُكي ذلك عن داود بن علي وأصحابه قالوا: إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام فصلى الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة وثوابه على الله -عز وجل-. وقال الآخرون: من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة؛ لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها، واستدلوا على ذلك من أصولهم بأنه لا يُعتدُّ في جماعة من أدرك ركعةً من صلاة الجماعة. وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإِمام وسجوده لسهوه، ولو أدرك الركعة مسافر من صلاة مقيم لزمه حكم صلاة المقيم، وكان عليه الإتمام، ونحو من هذا في حكم الصلاة. قال أبو عمر -رحمه الله- (1): ظاهر قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة" يوجب الإدراك للوقت والحكم والفضل إن شاء الله تعالى إذا صلى ¬

_ (¬1) "التمهيد" (7/ 66).

تمام الصلاة، ألا ترى أن من أدرك الإِمام راكعًا فدخل معه وركع قبل أن يرفع الإِمام رأسه من الركعة أنه يدرك عند الجمهور حكم تلك الركعة، وأنه كمن ركعها من أول الإحرام مع إمامه، وكذلك مدرك ركعة من الصلاة مدرك لها، وقد أجمع علماء المسلمين أن مدرك ركعة من صلاته لا تُجزئه ولا تغنيه عن إتمامها، ودلّ أن قوله: "فقد أدرك الصلاة" ليس عك ظاهره وأن فيه مضمرًا بَيَّنَهُ الإجماع والتوقيف، وهو إتمام الصلاة، والذي عليه مدار هذا الحديث وفقهه: أن مدرك ركعةً من الصلاة مدرك لحكمها في السهو وغيره، وأما الفضل فلا يدرك بقياس ولا نظر؛ لأن الفضائل لا تقاس. انتهى. ثم اعلم أن قوله: "لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة" إشارة إلى أن هذا الحديث قد روي على وجهين، في وجه روي: "فقد أدرك الصلاة"، وفي وجه روي: "فقد أدرك" فقط بدون لفظة الصلاة. وقال أبو عمر في "التمهيد": لا أعلم اختلافًا في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه عند رواة "الموطأ" عن مالك، وكذلك رواه سائر أصحاب ابن شهاب، إلا ابن عُيَيْنة رواه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" لم يقل الصلاة. قوله: "قالوا: وهذا الحديث ... " إلى آخره، أي قال الآخرون: هذا الحديث -أعني حديث أبي هريرة- هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والكفار إذا أسلموا والحيض -بضم الحاء جمع حائض- إذا طهرن، والحال أنه قد بقي عليهم من وقت الصبح مقدار ركعة أنهم يكونون لها مدركين، وأشار بهذا الكلام إلى أنهم عملوا بهذا الحديث في هذه الصورة وما تركوه، وهو معنى قوله: "فلم نخالف هذا الحديث" وإنما خالفوا تأويل أهل المقالة الأولى في قولهم: إن المدرك من صلاة الصبح ركعة قبل طلوع الشمس يضم إليها ركعة ولا يضره طلوع الشمس في أثنائها.

ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: ما قد حدثنا علي بن مَعْبد، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام - أنه قال: "مَنْ أدرك من صلاة الغداة ركعةً قبل طلوع الشمس فليصل إليها أخرى". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا علي بن المبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد تمت صلاته، فإذا أدرك ركعةً من صلاة الصبح فقد تمت صلاته". ففيما روينا ذكر البناء بعد طلوع الشمس على ما قد دخل فيه قبل طلوعها، فكان من الحجة على أهل هذه المقالة أن هذا قد يجوز أن يكون كان من النبي- عليه السلام - قبل نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس؛ فإنه قد نهى عن ذلك، وتواترت عنه الآثار بِنَهيْه عن ذلك وقد ذكرنا تلك الآثار أيضًا في باب مواقيت الصلاة، فيحتمل أن يكون ما كان فيه الإباحة هو منسوخ بما فيه النهي. ش: هذا إيراد من أهل المقالة الأولى على ما قاله أهل المقالة الثانية. بيانه: أن يقال: إنكم حَمْلتم قوله - عليه السلام -: "من أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" على مَنْ لم يكن أهلًا إذا صاروا أهلًا قبل طلوع الشمس كما ذكرناه، فما تقولون فيما رواه أبو رافع، عن أبي هريرة. وأبو سلمة عنه أيضًا؛ فإنه صريح على ذكر البناء بعد طلوع الشمس على ما قد دخل فيه قبل الطلوع؟ وتقرير الجواب أن يقال: إن الآثار قد تواترت عن النبي - عليه السلام - بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ما لم يتواتر بإباحة الصلاة عند ذلك، فدل ذلك أن ما كان فيه الإباحة كان منسوخًا بما كان فيه التواتر بالنهي.

فإن قيل: ما حقيقة النسخ في هذا؟ والذي ذكره الطحاوي نسخ بالاحتمال، وهل يثبت النسخ بطريق الاحتمال؟ قلت: حقيقة النسخ ها هنا أنه اجتمع في هذا الموضع محرِّم ومبيح، وقد تواترت الآثار والأخبار في باب المحرِّم ما لم تتواتر في باب المبيح، وقد عرف من القاعدة أن المحرِّم والمبُيح إذا اجتمعا يكون العمل للمُحَرِّم، ويكون المبُيح منسوخًا؛ وذلك لأن الناسخ هو المتأخر، ولا شك أن الحرمة متأخرة عن الإباحة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة والتحريم عارض، ولا يجوز العكس؛ لأنه يلزم النسخ مرتين؛ فافهم فإنه كلام دقيق قد لاح لي من الأنوار الربانية. وقد يجاب عن الأول بأنه محمول على أنه إذا طلعت الشمس بعد صلاته ركعةً واحدة يتوقف إلى أن تطلع الشمس ثم يصلي إليها ركعة أخرى. وإليه ذهب أبو يوسف في هذا الباب على ما عرف في الفروع، ووجه ذلك: أنه يكون في هذه الصورة مؤديًا بعض الصلاة في وقتها، ولو أفسدنا صلاته في هذه الحالة يكون مؤديًا جميع صلاته خارج الوقت، فحينئذٍ أداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت. وعن الثاني: بأن معنى قوله: "فقد تمت صلاته" يعني تم وجوبها في ذمته بإدراك ذلك القدر في الوقت، فالكلام ليس على ظاهره، ألا ترى أنه لا تتم صلاته حقيقة بإدراك ركعة واحدة، وإنما تمامها بالركعتين جميعًا؟ فعلمنا أن قوله: "فقد تمت صلاته" معناه: تم وجوبها لا حقيقة الصلاة. ثم إنه أخرج الحديثين المذكورين بإسناد صحيح: أحدهما: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبي نصر العجلي البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري روى له الجماعة، عن قتادة بن

دعامة، عن خلاس -بكسر الخاء- بن عمرو الهجري البصري روى له الجماعة، عن أبي رافع الصائغ واسمه نفيع المدني روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "مَنْ صلّى من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فطلعت؛ فليصل إليها أخرى". والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك ابن عمرو، وقد تكرر ذكره- عن علي بن المبارك الهنائي البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته". قلت: أراد بالسجدة الركعة، من قَبِيل ذكر الشيء باسم جزئه. ص: فقالوا: إنما النهي على التطوع خاصّة لا على قضاء الفرائض، ألا ترون أن النبي- عليه السلام - قد نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فلم يكن ذلك عندنا وعندكم بمانع أن تقضى صلاة فائتة في هذين الوقتين، فكذلك ما رويتم عنه من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لا يكون مانعًا عندنا؛ لأن تُقضى حينئذٍ صلاة فائتة، إنما هو مانع من صلاة التطوع خاصة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 379 رقم 1652). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 204 رقم 531).

وكان من الحجة للآخرين عليهم: أنه قد روي عن النبي- عليه السلام - ما يدل على أن الصلوات المفروضات الفائتات قد دخلت فيما نهى عنه رسول الله - عليه السلام - من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها. وذلك أن علي بن شيبة حدثنا، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "سَرْينا مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة -أو قال: في سرية- فلما كان آخر السحَر عَرَّسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حرُّ الشمس، فجعل الرجل منا يَثبُ فزعًا دهشًا، واستيقظ رسول الله - عليه السلام -، فأمرنا فارتحلنا من مسيرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم، وأمر بلالًا - رضي الله عنه - فأذن، فصلينا ركعتين، فأقام فصلى الغداة، فقلنا: يا نبي الله، ألا نَقْضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي - عليه السلام -: أينْهاكم الله عن الربا ويَقْبله منكم؟! ". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان في سفرٍ فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فأمر مؤذنًا فأذن، ثم انتظر حتى استعلت الشمس، ثم أمر فأقام، فصلى الصبح". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عباد بن ميسرة المنقري، قال: سمعت أبا رجاء العُطارديَّ، قال: ثنا عمران بن حصين قال: "أَسْرَى بنا رسول الله - عليه السلام - وعَرَّسْنا معه، فلم نَستَيقظ إلا بِحَرِّ الشمس، فلما استيقظ رسول الله - عليه السلام - قالوا: يا رسول الله، ذهبت صلاتُنا. فقال النبي - عليه السلام -: لم تذهب صلاتكم، ارتحلوا من هذا المكان، فارتحلنا قريبًا، ثم نزل فصلى". حدثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عوفٌ، عن أبي رجاء، عن عمران، عن النبي - عليه السلام - نحوه.

ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى، تقريره أن يقال: إن ما ورد من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إنما هو عن التطوع خاصة، وليس ذلك بنهي عن قضاء الفرائض، والدليل على ذلك: ما ورد من النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، فإن هذا النهي لا يمنع عندنا وعندكم عن قضاء الصلوات الفائتة في هذين الوقتين، وإنما يمنع عن التطوع فيهما خاصة، فإذا كان كذلك؛ لا تفسد صلاة الصبح بطلوع الشمس في أثنائها، حتى إذا طلعت بعد أداء ركعة يضم إليها ركعة أخرى ويجزئ ذلك عنه. وتقرير الجواب: ما أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة للآخرين عليهم" أي على أهل المقالة الأولى أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - على أن الصلوات الفائتة قد دخلت في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وذلك في حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -؛ لأن فيه أنه - عليه السلام - أخَّر صلاة الصبح حين فاتت عنهم إلى أن ارتفعت الشمس ولم يصلها قبل الارتفاع، فدل ذلك أن نهيه - عليه السلام - عن الصلاة عند طلوع الشمس عَامٌّ، فشمل الفرائض والنوافل، وتخصيص ذلك بالتطوع ترجيح بلا مرجح، ودَلّ ذلك أيضًا على أن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها مع قوله - عليه السلام -: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها". ثم إنه أخرج حديث عمران - رضي الله عنه - من أربع طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري، عن هشام بن حسان الأزدي البصري، عن الحسن البصري. وكلهم رجال الجماعة ما خلا شيخ الطحاوي. فإن قيل: كيف تقول: طرق صحاح. وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما أن الحسن البصري لم يسمع من عمران بن حصين.

قلت: الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1)، وقال: حديث صحيح. وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (¬2). وقد قدمنا من صحة سماع الحسن عن عمران بن حصين، على أن الطحاوي ما اكتفى في تخريجه عن الحسن عن عمران حتى أخرجه من طريقين عن أبي رجاء العطاردي عن عمران؛ على ما يجيء عن قريب إن شاء الله. وبهذا الطريق أخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا يزيد، أنا هشام. وثنا روح، نا هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: "سِرْينا مع رسول الله - عليه السلام -، فلما كان من آخر الليل عرّسنا، فلم نستيقظ حتى أيقظتنا الشمسُ، فجعل الرجل يقوم منا دَهشًا إلى طهوره، قال: فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يَسكنوا، ثم ارتحلنا، فسرْنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا، فقالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم؟! ". وأخرجه أبو داود (¬4) مختصرًا: من حديث يونس، عن الحسن، عن عمران ابن حصين. الطريق الثالث: عن علي بن معبد بن نوح ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬5): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل والحسن بن إسحاق التستري، أنا وهب بن بقية، ثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، عن ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 408 رقم 1016). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 319 رقم 1461). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 441 رقم 19978). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 121 رقم 443). (¬5) "المعجم "الكبير" (18/ 152 رقم 332).

عمران بن حصين: "أن رسول الله - عليه السلام - كان في مسير فناموا عن صلاة الصبح، فاستيقظوا بحرّ الشمس، فارتفعوا قليلًا حتى استقلت الشمس ثم أمر مؤذنًا فأذن، فصل ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلى الفجر". قوله: "استقلت" أي ارتفعت واشتدت. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عباد بن ميسرة المِنْقري، عن أبي رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) مطولًا من رواية أبي رجاء العطاردي، عن عمران - رضي الله عنه -. قوله: "ارتحلوا من هذا المكان" وفي رواية: "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة" وفي رواية مسلم: "فإن هذا منزل حَضَرَنَا فيه الشيطان". الرابع: عن علي بن معبد، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن عمران بن حصين. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: نا النضر بن شميل، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن الحصين قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فسرنا ليلةً حتى إذا كان من آخر الليل قبيل الصبح وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس ... " الحديث بطوله. قوله: "سَرَيْنا" من سرى يسري سُرًى وهو السير بالليل، وكذلك أسرى يسْري إسراء. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 130 رقم 337). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 474 رقم 682). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 476 رقم 682).

قوله: "أو سرية" وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تُبعث إلى العَدوّ، وجمعها: السرايا؛ سُمّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَرِيّ: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سِرًّا وخفيةً وليس بالوجه؛ لأن "لام" السر "راء" وهذا "ياء". قوله: "عرَّسنا" من التعريس وهو نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قال الخليل والجمهور. وقال أبو زيد: وهو النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار، وفي الحديث: "يعرسون في نحو الظهيرة" (¬1). قوله: "يَثِبُ" من الوثبة، أصله: يَوْثب. قوله: "فزعًا دهشًا" حالان مترادفان أو متداخلان من الضمير الذي في "يثب"، وفزعًا -بفتح الفاء وكسر الزاي- بمعنى قائمًا من نومه على خوف، وهو من فَرعَ يَفْزَعُ من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، يقال: فزع من نومه وأفزعته أنا، وكأنه من الفزع وهو الخوف؛ لأن الذي يُنَبَّه لا يخلو من فزعٍ ما. وقوله: "دهشًا" بفتح الدال وكسر الهاء معناه متحيرًا، من الدهشة. قوله: "أينهاكم الله" الهمزة فيه للاستفهام، والمعنى: أن الله تعالى أمركم بصلاة واحدة، فإذا فأتت عنكم بنومٍ أو نسيان أو غير ذلك فائتوا ببدلها ومثلها ولا تصلوها مرتين، فإن ذلك يكون زيادة، والزيادة على الجنس ربًا، فالله تعالى قد نهاكم عن الربا ثم هو كيف يقبله منكم، وهذا يدل على أن الفائتة تقضى مرة واحدة ليس إلا؛ خلافًا لمن ذهب أنه يقضيها مرةً ثم يصليها من الغد في الوقت الذي فاتت فيه، على ما يجيء بيانه في باب "الرجل ينام عن الصلاة أو ينسى كيف يقضيها" إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/ 943 رقم 2518) من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه: "أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة". وانظر "شرح النووي لمسلم" (5/ 182).

ويستنبط منه أحكام: ففيه دليل على أن الفائتة يؤذن لها، وأنها يُقام لها، وعلى أن ركعتى الفجر تُقضيان بعد طلوع الشمس إذا فاتتا مع الفرض، وكذا عند محمد إذا فاتتا بدونه، وأن الجماعة مستحبة فيها. وأن قضاء الفائتة بعذر ليس على الفور -على الصحيح- ولكن يستحب قضاؤها على الفور، وقيل: إنه على الفور. حكاه البغوي وجهًا عن الشافعي. وأما الفائتة بلا عذر فالأصح قضاؤها على الفور، وقيل: له التأخير كما في الأول. وفيه دليل أيضًا على أن قضاء الفائتة يمنع عند طلوع الشمس كما ذكرناه، ثم اختلف أصحابنا في قدر الوقت الذي تباح فيه الصلاة بعد الطلوع. قال في الأصل: حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين. وقال أبو بكر محمد بن الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تُباح. وقال الفقيه أبو حفص السفكردري: يُؤتي بطَسْتٍ ويوضع في أرض مستوية، فما دامت الشمس تقع في حيطانه فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة. فإن قيل: قد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" فكيف ذهب عنه الوقت ولم يشعر به؟ قلنا: إن ذلك خاص في أمر الحدث؛ لأن النائم قد يكون منه الحدث وهو لا يشعر به، وليس كذلك رسول الله- عليه السلام - فإن قلبه لا ينام حتى يشعر بالحدث إذا كان منه، ويقال: إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي لقلبه أن ينام، فأما معرفة الوقت وإثبات رؤية الشمس طالعةً فإن ذلك إنما يكون دركه ببصر العين دون القلب، فليس فيه مخالفة للحديث الآخر، فافهم.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن الجراح، قال: ثنا أبو يوسف، عن حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي قتادة الأنصاري، عن أبيه قال: "أَسْرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من غزواته ونحن معه، فقال بعض القوم: لو عرستَ، فقال: إني أخاف أن تناموا عن الصلاة، قال بلالٌ: أنا أوقظكم، فنزل القوم فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته وألقى عليهم النوم، فاستيقظ القوم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: أين ما قلت يا بلال؟ قال: يا رسول الله - عليه السلام -، ما ثَقُلَتْ عليَّ نومة مثلها قط. قال رسول الله - عليه السلام -: إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردّها إليكم حيث شاء، فأذن الناس بالصلاة، فآذنهم فتوضئوا، فلما ارتفعت الشمس صلى رسول الله - عليه السلام - ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حُصَين ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رَبَاحٍ، عن أبي قتادة، عن النبي - عليه السلام - فذكر مثل حديثه عن روح الذي ذكرنا في أول هذا الباب غير أنه لم يذكر سؤالهم النبي- عليه السلام -. قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟ فقلت: عبد الله بن رباح الأنصاري. فقال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدِّث؟ فإني أحد السَّبْعة تلك الليلة. فلما فرغتُ قال: ما كنت أحْسب أن أحدًا يحفظ هذا غيري. قال حمادٌ: وحدثنا حميد الطويل، عن بكر، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي- عليه السلام - مثله. ش: أخرج حديث أي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله - عليه السلام - من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن إبراهيم بن جراح مولى بني مازن، أحد أصحاب أبي حنيفة واحد قضاة مصر، أثنى عليه يونس بن عبد الأعلى.

عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أكبر أصحاب أبي حنيفة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري روى له الجماعة، عن أبيه أبي قتادة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو زُبَيْد -واسمه عَبْثر بن القاسم- عن حُصَين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - إذ قال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله - عليه السلام -؟ قال: إني أخاف أن تناموا عن الصلاة. قال بلال: أنا أحفظكم، فاضطجعوا فناموا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فاستيقظ رسول الله - عليه السلام - وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال أين ما قلت؟ قال: ما ثقلت عليَّ نومة مثلها قط. قال رسول الله - عليه السلام -: إن الله -عز وجل- قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء، قم يا بلال فآذن الناس بالصلاة، فقام بلال فأذن فتوضئوا -يعني: حين ارتفعت الشمس- ثم قام فصلى". وأخرجه مسلم (¬2) بأتم منه. قوله: "ما ثقلت عليّ"، وفي رواية: "ما ألقيت عليّ" من الإلقاء. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن هشيم بن بشير، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أبي قتادة. وأخرجه أبو داود (¬3): عن عمرو بن عون، عن خالد، عن حُصَين، عن ابن أبي قتادة، عن أبي قتادة نحوه. الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 105 رقم 846). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 474 رقم 681). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 120 رقم 439).

حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري، روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي قتادة. وأخرجه أحمد (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر فقال: إنكم إن لا تدركوا الماء غدًا تَعْطشوا. وانطلق الناسُ سراعًا يريدون الماء، ولزمتُ رسول الله - عليه السلام - فمالَتْ برسول الله - عليه السلام - راحلته، فنعس رسول الله - عليه السلام - فدعمْته فادّعم، ثم مال فدعَمْتُه فادّعم ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته، فدعَمْته فانتبه فقال: من الرجلُ؟ قلت: أبو قتادة. قال: منذ كم كان سيُرك؟ قلتُ: منذ الليلة. قال: حفظك الله كما حفظت رسوله، ثم قال: لو عرّسْنا. فمال إلى شجرة، فنزل، فقال: انظر هل ترى أحدًا؟ قلت: هذا راكبٌ، هذان راكبان، حتى بلغ سبعةً، فقال: احفظوا علينا صلاتنا، فنمنا، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، فانتبهنا، فركب رسول الله - عليه السلام - فسار وسرنا هنية، ثم نزل فقال: أمعكم ماء؟ قال: قلت: نعم، في ميضأةٍ فيها شيء من ماء. قال: ائت بها. فأتيتُه بها، فقال: مسُّوا منها، مسُّوا منها. فتوضأ القوم وبقيت جرعة، فقال: لا تهرقها يا أبا قتادة، فإنه سيكون لها نبأ. ثم أذن بلال، فصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا، فقال بعضهم لبعض: فرطنا في صلاتنا، فقال رسول الله - عليه السلام -: ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإليّ. قلنا: يا رسول الله، فرَّطنا في صلاتنا. قال: لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقطة، فإذا كان ذلك فصلوها ومن الغد وقتها، ثم قال: ظنُوا بالقوم. قالوا: إنك قلت بالأمس: إن لا تدركوا الماء غدًا فتعطشوا والناس بالماء، فلما أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله - عليه السلام - بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فقالا: يا أيها ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 298 رقم 22599).

الناس، إن رسول الله - عليه السلام - لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم؛ وإن يُطِع الناسُ أبا بكر وعمر يرْشدوا قالها ثلاثًا، فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله - عليه السلام -، فقالوا: يا رسول الله - عليه السلام -، هلكنا عطشًا، انقطعت الأعناق. فقال: لا يهلك عليكم، ثم قال: يا أبا قتادة، أئت بالميضأة فأتيته بها، فقال: أحلل لي غَمَري -يعني قدحه- فحللته، فأتيته به، فجعل يصبّ فيه ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه، فقال رسول الله - عليه السلام - يا أيها الناس، أحسنوا الملء فكلكم سَيَصْدُر عن الريّ. فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله - عليه السلام -، فصبّ لي، فقال: اشرب يا أبا قتادة. قال: قلت: اشرب أنت يا رسول الله. فقال إن ساقي القوم آخرهم شربًا. فشربتُ، وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحوٌ مما كان فيها، وهم يومئذٍ ثلاثمائة". قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أُحدّث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟ قلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري. قال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث؛ فإني أحد السَّبْعة تلك الليلة، فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أن أحذا يحفظ هذا الحديث غيري (¬1). قال حماد: ونا حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي- عليه السلام - مثله، وزاد: قال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا عرس وعليه ليل توسّد يمينه، وإذا عرّس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى وأقام ساعده". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا مطولًا: عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "خطبنا رسول الله - عليه السلام - فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدًا ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 298 رقم 22599). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 474 رقم 681).

قوله: "فدعمته" أي أسندته. قوله: "فادَّعم" أي استند، وأصله: اتدعم، فأدغمت التاء في الدال. قوله: "حتى كاد أن ينجفل" أي ينقلب عنها ويسقط، يقال: ضربه فجفله أي ألقاه على الأرض. قوله: "مِيضأة" بكسر الميم والقصر وقد يُمدّ، وهي مطهرة كبيرة يُتوضأ منها، ووزنها: مِفْعلة ومفعالة والميم زائدة. قوله: "نبأ" أي شأن عظيم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العَقديّ، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - كان في سفر، فقال: مَنْ يكلأ لنا الليلة لا ينام حتى الصبح؟ فقال بلالٌ: أنا. فاستقبل مطلع الشمس، فَضُرِبَ على آذانهم حتى أيقظهم حرُّ الشمس، فقام النبي - عليه السلام - فتوضأ وتوضئوا، ثم قعدوا هنيَّةً، ثم صلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر". ش: إسناده صحيح، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي قد تكرر ذكره، وجُبَيْر بن مطعم النوفلي القرشي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الصمد وصفان، قالا: نا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار -قال عفان: ثنا عمرو بن دينار- عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - في سفرٍ فقال: من يكلؤنا الليلة لا يرقد حتى صلاة الفجر؟ فقال بلال: أنا، فاستقبل مطلع الشمس، فَضُرِبَ على آذانهم، فما أيقظهم إلا حرُّ الشمس، فقاموا ثم توضئوا، فأذن بلال فصلوا الركعتين، ثم صلوا الفجر". قوله: "من يكلأ" أي من يحرس الليلة ويحفظها من كلأته أكلأه كلاءة، فأنا كالئ وهو مكلوء، وقد تخفف همزة الكلاءة وتقلب ياء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 81 رقم 16792).

قوله: "حتى الصبح" بالجر؛ لأن "حتى" ها هنا جارَّة بمعنى إلى. قوله: "فَضُرِبَ على آذانهم" على صيغة المجهول، وهي كناية عن النوم، ومعناه: حُجِبَ الصوت والحس أن يلجا آذانهم فينتبهوا فكأنها قد ضرب عليها حجاب. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - عَرَّس ذات ليلةٍ بطريق مكة، فلم يستيقظ هو ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فاستيقظ رسول الله - عليه السلام - فقال: هذا منزل به شيطان. فاقتاد رسول الله - عليه السلام - واقتاد أصحابه حتى ارتفع الضحى، فأناخ رسول الله - عليه السلام - وأناخ أصحابه، فأمهم، فصلى الصبح". فلما رأينا النبي - عليه السلام - أخّر صلاة الصبح لما طلعت الشمس -وهي فريضة- فلم يصلها حينذٍ حتى استوت الشمس، وقال في غير هذا الحديث: "فمن نسيَ صلاةً أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها". دلّ ذلك أن نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس قد دخل فيه الفرائض والنوافل، وأن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها. ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة الزهري المدني الفقيه قاضي مدينة الرسول الله - عليه السلام -، شيخ الجماعة سوى النسائي، وابن أبي حازم هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة ابن دينار المدني روى له الجماعة، والعلاء بن عبد الرحمن المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه مسلم (¬1) بغير هذا الإسناد: حدثني محمد بن حاتم ويعقوب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 471 رقم 680).

الدورقي، كلاهما عن يحيى، قال ابن حاتم: نا يحيى بن سعيد، قال: نا يزيد بن كيسان، قال: نا أبو حازم، عن أبي هريرة قال: "عرسنا مع نبي الله - عليه السلام -، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال - عليه السلام -: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حَضَرَنَا فيه الشيطان. قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء، فتوضأ، ثم سجد سجدتين -وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين- وأقيمت الصلاة فصلى الغداة". وأخرج مسلم (¬1) أيضًا بأطول منه: عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرَّس ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا بهذا الإسناد والمتن. وقد قال بعضهم: "حين قفل من غزوة حنين" موضع "خيبر"، وهذه الرواية مناسبة لرواية الطحاوي؛ لأن في روايته: "عرس ذات ليلة بطريق مكة" فالظاهر أن هذا إنما كان حي قفل - عليه السلام - من غزوة حنين، وكانت غزوة حنين بعد الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وغزوة خيبر كانت في السنة السادسة من الهجرة. قوله: "عرّس" من التعريس وقد فسرناه. قوله: "هذا منزل به شيطان" وفي رواية مسلم: "هذا منزل حضرنا فيه شيطان"، وإنما قال ذلك لكون صلاة الفجر قد فأتت عنهم، فكأن الشيطان هو الذي تسبب في ذلك؛ لأنه لا يَسْعى إلا في الشر. قوله: "فاقتاد رسول الله - عليه السلام -" أي اقتاد راحلته واقتاد أصحابه أيضًا رواحلهم إلى أن ارتفع الضحى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 471 رقم 680). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 118 رقم 435).

ويستفاد منه أحكام: استدل به أصحابنا على وجوب الترتيب بين الصلوات الفائتة؛ لأن النبي - عليه السلام - جعل وقت التذكير وقتًا للفائتة فمن ضرورته أن لا يكون وقتًا للوقتية، واستدل به بعضهم على أن تأخير قضاء الفائتة بعذر لا يجوز، والصحيح أنه يجوز، وأن الأمر محمول على الاستحباب وقد مَرَّ مرّةً. واستدل بقوله - عليه السلام -: "من نسي صلاةً أو نام عنها ... " الحديث بعضُهم على قضاء السنن الراتبة. قلت: استدلال غير صحيح؛ لأن قوله: "من نسي صلاة" صلاة الفرض بدلالة القرينة. وفيه دليل على أن الناسي يقضي، وقد شذّ بعض الناس فقال: من زاد على خمس صلوات لم يلزم قضاؤها. وأما من ترك الصلاة متعمدًا حتى خرجت أوقاتها فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي، وشذّ بعض الناس فقال: لا يقضي. قال القاضي عياض: ويحتج له بدليل الخطاب في قوله: "مَن نسي صلاةً أو نام عنها فليصلها"، ودليله أن العامد بخلاف ذلك، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجه، وإن قلنا بإثباته قلنا: ليس هذا ها هنا في الحديث من دليل الخطاب بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا وجب القضاء على الناسي مع سقوط الإثم فأحرى أن يجب على العامد. وقال القاضي: سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولةٌ شاذة في المفرِّط كقول داود، ولا تصح عنه ولا عن أحدٍ من الأئمة ولا مَنْ يُعْتَزَى إلى علم سوى داود وأبي عبد الرحمن الشافعي، وقد اختلف الأصوليون في الأمر بالشيء المؤقت هل يتناول قضاءه إذا خرج وقته أو يحتاج إلى أمرٍ ثانٍ؟.

وقال بعض المشايخ: إن قضاء العامد مستفاد من قوله: "فليصلها إذا ذكرها" لأنه تَغَفَّل عنها بجهله وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها، والله أعلم. قوله: "فلما رأينا النبي - عليه السلام - أخَّر صلاة الصبح لما طلعت الشمس" أي حين طلعت الشمس ليلة التعريس، والحال أنها فريضة "فلم يصلها حينئذٍ" أي حين استيقظوا في حالة طلوع الشمس "حتى استوت الشمس" أي ارتفعت وعلت، "وقال في غير هذا الحديث"، أي والحال أنه - عليه السلام - قد قال في غير حديث ليلة التعريس: "من نسي صلاة ... " الحديث "دَلّ ذلك" أي فعله - عليه السلام - هذا وهو جوابٌ لما رأينا. فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديثين؟ فالحديث الأول يدل على أن وقت طلوع الشمس لا يصلح للفائتة، وهذا الحديث يدل على أنه إذا ذكر الفائتة في وقت الطلوع فإنه يصليها في ذلك الوقت، وكذا إذا ذكرها وقت الغروب أو وقت الاستواء؟ قلت: تواترت الآثار بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة، وهي عامة في جنس الصلوات، وبها يثبت تخصيص هذه الأوقات من هذا الحديث، أعني قوله - عليه السلام -: "من نسي صلاة ... " إلى آخره، وقد أخرج هذا الحديث ها هنا معلقًا، وعقد له بابًا فيما بعد على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ص: فإن قال قائل: فلم قلت ببَعْض ذلك الحديث وتركت بعضه؟ فقلت: من صلى من العصر ركعةً ثم غربت له الشمس أنه يصلي بقيتها؟ قيل له: لم نقل ببعض هذا الحديث ولا بشيء منه، بل جعلناه كله منسوخًا بما روي عن رسول الله - عليه السلام - من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، ومما قد دل عليه: ما ذكرنا من حديث جُبَيْر وعمران وأبي قتادة وأبى هريرة - رضي الله عنهم - أن الفريضة قد دخلت في ذلك وأنها لا تُصلّى حينئذٍ كما لا تُصلّى النافلة، وأما الصلاة عند غروب الشمس لعصر يومه فإنا قد ذكرنا الكلام في ذلك في باب المواقيت.

ش: تقرير السؤال أن يقال: حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب يدل على شيئين: الأول: من أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فعليه أن يتم صلاته. الثاني: مَن أدرك من صلاة العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فعليه أن يتم صلاته أيضًا، فكيف أنتم عملتم ببعض هذا الحديث حيث جوَّزتم لمن صلى من العصر ركعة ثم غربت الشمس أن يصلي بقيتها، وتركتم العمل ببعضه حيث لم تجوّزوا لمن صلى من الصبح ركعةً ثم طلعت الشمس أن يصلي بقيتها، بل حكمتم بفساد صلاته، وهذا تحكم والتحكم باطل؟. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم ما ذكرتم؛ لأنا لم نقل بهذا الحديث كله فضلًا عن بعضه؛ لأن هذا الحديث عندنا منسوخ بحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وبما روي في هذا الباب أيضًا من حديث جبير بن مطعم وعمران بن حصين وأبي قتادة وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وقد بيّنا حقيقة النسخ في ذلك في هذا الباب. قوله: "وأما الصلاة عند غروب الشمس" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إذا كان الحديث المذكور منسوخًا كله عندكم، فكيف جوزتم لمن يصلي ركعةً من العصر ثم غربت الشمس أن يصلي بقية صلاته؟ وجوابه ما ذكره في باب "مواقيت الصلاة" وهو أنه - عليه السلام - نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، وروي عنه أنه قال: "من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر"، فكان في ذلك إباحة الدخول في العصر في ذلك الوقت، فجعل النهي في الحديث الأول عن غير الذي أبيح في الحديث الآخر؛ حتى لا يتضاد الحديثان.

قلت: هذا الجواب لا يخلو عن مناقشة؛ لأنه قد ذكر أن هذا الحديث كله منسوخ، فإذا كان كله منسوخًا لا يعارض حديث النهي فلا يحتاج إلى التوفيق لأجل انقطاع التضاد، والجواب القاطع ها هنا أن الجزء الذي يتصل به طلوع الشمس من الوقت سبب صحيح تام، فيثبت به الوجوب بصفة الكمال، فإذا طلعت الشمس وهو في خلال الفجر يفسد الفرض؛ لأن الكامل لا يتأدى مع النقصان، وأما الجزء الذي يتصل به الغروب من الوقت في معنى سبب فاسدة للنهي الوارد عن الصلاة بعد ما تحمرّ الشمس فيثبت الوجوب مع النقصان بحسب السبب، فإذا غربت الشمس وهو في خلال صلاة العصر يُتم عصره؛ لأنه يوجد الأداء بتلك الصفة المذكورة، ولا يلزم إذا أداها في اليوم الثاني بعد ما احمرت الشمس حيث لا يجوز؛ لأن ضعف السبب ما لم يصر دَيْنًا في الذمة فإذا تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينًا في ذمته، فثبت بصفة الكمال فلا يتأدى بالنقصان، فافهم. ص: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع قد نُهي فيه عن الصلاة، فاردنا أن ننظر في حكم الأوقات التي يُنْهى فيها عن الأشياء هل يكون على التطوع منها دون الفرائض أو على ذلك كله؟ فرأينا يوم الفطر ويوم النحر قد نهى النبي - عليه السلام - عن صيامهما وقامت الحجة عنه بذلك، فكان ذلك النهي عند جميع العلماء على أن لا يُصام فيهما فريضة ولا تطوع، فكان النظر على ذلك في وقت طلوع الشمس الذي قد نهي عن الصلاة فيه أن يكون كذلك أن لا يُصلّى فيه فريضة ولا تطوع، وكذلك يجيء النظر عند غروب الشمس، وأما نهي النبي- عليه السلام - عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس فإن هذين الوقتين لم يُنْه عن الصلاة فيهما للوقت، وإنما نهي عن الصلاة فيهما لأجل الصلاة لا للوقت، وقد رأينا

ذلك الوقت يجوز لمن لم يصلّ عصر يومه أن يصلي فيه الفرائض والصلوات الفائتة، ولما كان النهي لأجل الصلاة كان إنما ينهى عن غيرهما مما لا يشاكلهما من النوافل لا من الفرائض، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وقد قال بذلك الحكم وحمّاد. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: "سألت الحكم وحمادًا عن الرجل ينام عن الصلاة فيستيقظ وقد طلع من الشمس شيء، قالا: لا يصلي حتى تَنْبَسط" والله أعلم. ش: أي هذا الذي ذكرناه وجه هذا الباب من طريق التوفيق بين الأحاديث والأخبار. وأما وجهه من طريق النظر والقياس، فإنا قد رأينا ... إلى آخره. تقريره: أن الأوقات التي ورد النهي فيها عن الأشياء تارةً تكون على سبيل العموم وتارةً تكون على سبيل الخصوص. فالأول: كيومي العيدين؛ فإنه ورد النهي عن صيامهما، وأجمع العلماء على أن ذلك عامّ سواء كان صوم الفرض كالمنذور وقضاء رمضان أو صوم التطوع؛ فإن كل ذلك يكره؛ فكان النظر والقياس على ذلك أن يكون معنى النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها عامًّا شاملًا للصلاة الفرض والصلاة التطوع. والثاني: أن يقتصر النهي على النوافل كالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وبعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فإن النهي عن ذلك ليس بعام؛ لأن النهي ليس لمعنى في الوقت بل لأجل الصلاة تعظيمًا لها، فحينئذٍ يمنع عن الصلاة التي ليست بمشاكلة لها كالنوافل لا الفرائض بخلاف القسم الأول، فإن النهي فيه لأجل معنىً في الوقت وهو كون وقت الطلوع ووقت الغروب منسوبًا إلى الشيطان حيث قال في الحديث: "فإنها تطلع بين قرني الشيطان" وقد ذكرنا تحقيق ذلك في باب المواقيت.

قوله: "وقد قال بذلك الحكم وحماد" أي: قد قال بما ذكرنا من ترك الصلاة وقت طلوع الشمس إلى حين ارتفاعها سواء كانت فرضا أو نفلًا: الحكم بن عُتَيْبَة وحماد بن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة. أخرج ذلك عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عنهما. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن سَعْد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن رجل من ولد كعب بن عجرة: "أنه نام عن الفجر حتى طلعت الشمس قال: فقمت أُصلِّي. قال: فدعاني فأجلسني -يعني كعبًا- حتى ارتفعت الشمس وابيضت ثم قال: قم فصَلِّ". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 4 رقم 2251).

ص: باب: صلاة الصحيح خلف المريض

ص: باب: صلاة الصحيح خلف المريض ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الرجل الصحيح خلف الإِمام الضعيف. وجه المناسبة بين البابين: أن كلاًّ منهما مشتمل على حكم صلاة فاسدة، أما الأول فلأن فيه حكم الصلاة وقت طلوع الشمس، وأما هذا فلأن فيه حكم صلاة القائم خلف القاعد، وهي فاسدة عند الأكثرين على ما يجيء إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قالا: ثنا حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرُّؤَاسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وأبو بكر - رضي الله عنه - خلفه، فإذا كبَّر رسول الله - عليه السلام - كبّر أبو بكر - رضي الله عنه - ليُسْمِعَنا، فبَصُر بنا قيامًا، فقال: اجلسوا أومأ بذلك إليهم، فلما قضى الصلاة قال: كدتم أن تفعلوا فِعْل فارس والروم بعظمائهم، ائتموا بأئمتكم، فإن صلوا قيامًا فصلوا قيامًا، وإن صلوا جلوسًا فصلوا جلوسًا". ش: إسناده صحيح وأخرجه من طريقين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي -بضم الراء وتخفيف الواو، وبالسين المهملة- نسبة إلى رُؤَاس بن كلاب، وأصله بالهمزة، روى له الجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن حميد وثقه يحيى وروى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا حميد بن عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن حميد بن عبد الرحمن ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن قتيبة ويزيد بن خالد، أن الليث حدثهم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "اشتكى النبي- عليه السلام - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُكبّر يُسمع الناس تكبيره ... " ثم ساق الحديث. وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا. قوله: "فبَصُر بنا" من بَصُر بَصارةً من باب كَرُمَ يَكْرُم، قال الجوهري: البَصر: العلم، وبَصُرت بالشيء: عَلِمْته، قال تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} (¬5)، والبصير: العالم، والتبصر: التأمل. قوله: "قيامًا" حال من المجرور في قوله: "بنا" وهو جمع قائم كالصيام جمع صائم. قوله: "أومأ بذلك" أي أشار بالجلوس إليهم. قوله: "كدتم" أي قاربتم من فعل (الفارس) (¬6) والروم بعظمائهم وهو جمع عظيم، وأراد أكابرهم وساداتهم. قوله: "قيامًا" و"جلوسًا" في الموضعين نَصْب على الحال، والجلوس جمع جالس. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 309 رقم 413). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 606). (¬3) "المجتبى" (3/ 9 رقم 1200). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 393 رقم 1240). (¬5) سورة طه، آية: [96]. (¬6) كذا في "الأصل، ك".

ومما يستفاد منه: جواز تبليغ أحد من القوم إلى مَن خلفه بالناس. وأن الإشارة في الصلاة لا تفسدها. وأن الإِمام إذا صلى قاعدًا يجب على القوم أن يصلوا قعودًا نحوه، وإليه ذهبت طائفة من أهل العلم؛ على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - ركب فرسًا فصُرع عنه، فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعدٌ، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: إنما جُعِل الإِمام ليؤتمّ به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث ويونس، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حُميد، قال: ثنا أنس بن مالك، عن رسول الله - عليه السلام - ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن عُيَيْنة، عن الزهري، عن أنس قال: "سقط رسول الله - عليه السلام - من فرس، فخدش -أو فجحش- شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى قاعدًا فصلينا قعودًا، وقال: إنما جعل الإِمام ليْؤتمَّ به، فإذا كبرّ فكبروا، إذا ركع ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 375 رقم 1063).

فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" وفي رواية له: "وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا". وقال مسلم (¬1): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - صُرع عن فرسٍ فجحش شقه الأيمن ... " إلى آخره نحوه. وقال أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - ركب فرسًا فصرع عنده؛ فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون". وقال الترمذي (¬3): حدثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن كتاب، عن أنس بن مالك قال: "خرّ رسول الله - عليه السلام -، عن فرس، فجحش، فصلى بنا قاعدًا فصلينا معه، ثم انصرف، فقال: إنما الإِمام أو إنما جعل الإمامُ ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون". وقال النسائي (¬4): أنا قتيبة، عن مالك ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 308 رقم 411). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 164 رقم 601). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 194 رقم 361). (¬4) "المجتبى" (2/ 98 رقم 832).

وقال ابن ماجه (¬1): ثنا هشام بن عمار، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن النبي- عليه السلام - صُرع عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا نعوده، فحضرت الصلاة فصل بنا قاعدًا، وصلينا وراءه قعودًا ... " إلى آخره نحو رواية البخاري. قوله: "فصرع عنه" أي سقط. قوله: "فجحش" بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وبالشين المعجمة، من الجَحْش وهو مثل الخدش، وقيل: فوقه، وقال الخطابي: معناه: قد انسحج جلده، وقد يكون ما أصاب رسول الله - عليه السلام - من ذلك السقوط مع الخدش رَضّ في الأعضاء وتوجع فلذلك منعه القيام للصلاة. وقال ابن الأثير: فجحش، أي: انخدش جلده وانسحج. فإن قيل: وقع في رواية أبي داود من حديث جابر - رضي الله عنه -: "ركب رسول الله - عليه السلام - فرسًا بالمدينة، فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه ... " الحديث، فإنه يقتضي انفكاك قدمه - عليه السلام -، وحديث أنس يقتضي قشر الجلد. قلت: لا مانع من حصول فك القدم وقشر الجلد معًا، ويحتمل أنهما واقعتان، والله أعلم. قوله: "وهو قاعد" جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير الذي في "فصلى". قوله: "إنما جعل الإمام" لفظة "إنما" تدل على الحصر عند الإِمام فخر الدين وأتباعه، ومعنى الحصر: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر وإنما تفيد تأكيد الإثبات فقط، ونقله أبو حيان عن البَصْريين ونقل بعضهم أن الاتفاق على أنها تفيد الحصر، وقد استدل به من يقول: لا تتوقف صحة صلاة المأموم على صحة صلاة الإِمام إذا ظهر جنبًا أو ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 392 رقم 1238).

محدثًا أو عليه نجاسة، وهذا استدلال فاسد لكونه غير مطرد حتى أنه لو ظهر كافرًا أو امرأةً أو خنثى أو مجنونًا، قالوا: يجب الإعادة. قوله: "قعودًا" جمع قاعد، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "وصلينا". قوله: "قائمًا"، و "قيامًا"، و"جالسا"، و"جلوسا" كلها أحوال. قوله: "أجمعون" تأكيد للضمير المرفوع الذي في قوله: "فصلوا"، فافهم. الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن الليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا حميد، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - انفكت قدمه فقعد في مشربة له درجها من جذوع، وآلى مِن نسائه شهرًا، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم قاعدًا وهم قيام، فلما حضرت الصلاة الأخرى قال لهم: ائتموا بإمامكم فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا معه قعودًا، قال: ونزل في تسع وعشرون، فقالوا: يا رسول الله - عليه السلام -، إنك آليت شهرًا؟ قال: الشهر تسع وعشرون". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: صلى رسول الله - عليه السلام - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى خلفه قومٌ قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا ... " ثم ذكر مثله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 200 رقم 13093).

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه -، عن النبي- عليه السلام - مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "صلى رسول الله - عليه السلام - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإِمام ليُؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا". قوله: "وهو شاك" أي مريض، من شكى شكوًا وشكوى وشكاةً وشكايةً. والآخر: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن علي بن مُسهر الكوفي قاضي الموصل واحد أصحاب أبي حنيفة، الثقة الكبير العالم، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "اشتكى رسول الله - عليه السلام -، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلى رسول الله - عليه السلام - جالسًا فصلوا بصلاته قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صل جالسًا فصلوا جلوسًا". وأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 374 رقم 1062). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 309 رقم 412). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 165 رقم 605).

"مَنْ أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيبُ بن ناصح، قال: ثنا وُهَيبٌ، عن مصعب بن محمد القرشي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيدُ بن عامر، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي علقمة المصري مولي بني هاشم، ويقال: مولى عبد الله بن عباس روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا شعبة، ثنا يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. وبعد قوله: "فصلوا قعودًا": "فإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد. وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬2) فقولوا: آمين؛ فإنه إذا وافق قول أهل السماء قول أهل الأرض غفر للعبد ما مضى من ذنوبه". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح، عن وهيب بن خالد البصري، عن مصعب بن محمد القرشي، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 336 رقم 2577). (¬2) سورة الفاتحة، آية: [7].

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم -المعنى- عن وُهَيب، عن مصعب بن محمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال النبي - عليه السلام -: "إنما جعل الإِمام ليُؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، ولا تُكبِّروا حتى يُكبّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد -قال مسلم: ولك الحمد- وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين". قوله: "أجمعين" بالنصب، وكذا في رواية أبي داود، ووقع في بعض رواية أبي داود: "أجمعون" بالرفع، وجه النصب: أن يكون تأكيدًا لقوله: "قعودًا"، ووجه الرفع: أن يكون تأكيدًا للضمير الذي في قوله: "فصلوا"، فافهم. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام -. وأخرجه العدنيَّ في "مسنده": ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إنما الإِمام ليؤتَم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حُمْران (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قالا: ثنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت سالمًا يقول: حدثني عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان يومًا من الأيام عند النبي - عليه السلام - وهو في نفر من أصحابه، فقال لهم: ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى نشهد أنك رسول الله. قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 164 رقم 603).

أفلستم تعلمون أن الله قد أنزل في كتابه أن من أطاعني، فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله. قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تُطيعوا أئمتكم، فإن صلُّوا قعودا فصلوا قعودًا". ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، عن يحيى بن معين: صدوق صالح. وقال ابن حبان: ثقة يخطئ، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عقبة بن صهيب بن أبي الصبهاء النافطي، وثقه ابن حبان، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم ابن علي، ثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سمعت سالمًا، قال: حدثني ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان عند النبي - عليه السلام - جالسًا في نفرٍ من أصحابه، فقال النبي- عليه السلام -: يا هؤلاء، أليس تعلمون أني رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "أليس" في كل المواضع موضع "ألستم". الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء، عن عقبة بن أبي الصهباء ... إلى آخره. ص: فذهب قومٌ إلى هذا فقالوا: من صلى بقوم قاعدًا من علة صلوا خلفه قعودًا وإن كانوا يطيقون القيام. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وداود الظاهري؛ فإنهم قالوا: إذا صلى الإِمام قاعدًا من أجل علة صلى القوم خلفه قعودًا وإن كانوا يطيقون القيام، فذهبوا في ذلك إلى الأحاديث المذكورة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 321 رقم 13238).

وقال أبو عمر: ذهب إلى ذلك داود في رواية عنه. قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعده: أُسَيدُ بن حُضَير، وقيس بن فهد، وجابر، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. وفي "المغني": إذا صلى إمام الحيّ جالسًا صلى من وراءه جلوسًا، فإن صلوا وراءه قياما ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح صلاتهم، أومأ إليه أحمد؛ فإنه قال: إن صلى الإِمام جالسًا والذين خلفه قيامًا لم يقتدوا بالإمام، إنما اتباعهم له إذا صلى جالسًا أن يصلوا جلوسًا. والثاني: تصح، والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يصلون خلفه قيامًا ولا يسقط عنهم فرض القيام لسقوطه عن إمامهم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا ثور، وجمهور السلف؛ فإنهم قالوا: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا. وقال المرغيناني: الفرض والنفل سواء. وقال أبو عمر (¬1): قال جمهور أهل العلم: لا يجوز لأحد أن يصلي في شيء من الصلوات المكتوبات جالسًا وهو صحيح قادر على القيام لا إمامًا ولا منفردًا ولا خلف إمام، ثم اختلفوا، فمنهم من أجاز صلاة القائم خلف المريض؛ لأن كلًا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيًّا برسول الله - عليه السلام - إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدًا وأبو بكر إلى جنبه قائمًا يُصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشُر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته جالسًا ¬

_ (¬1) "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 141 - 144).

وهم خلفه قيام، وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة: الشافعي وداود بن علي وهي رواية الوليد بن مسلم، عن مالك أنه أجاز للإمام المريض أن يصلي بالناس جالسًا وهم قيام، قال: وأحبُّ إليّ أن يقوم إلى جَنْبه مَنْ يعلم الناسَ بصلاته. وهذه الرواية غريبة عن مالك، ومذهبه عند أصحابه على خلاف ذلك، ذكره أبو المصعب في "مختصره" عن مالك، قال: لا يؤم الناس أحدٌ قاعدًا، فإن أمهم قاعدًا فسدت صلاتهم وصلاته، فإن كان الإِمام عليلًا تمت صلاته وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدًا من غير علة أعاد الصلاة. قال أبو عمر: فعلى رواية أبي مصعب يجب عليهم الإعادة في الوقت وبعده. وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة. وقال الحسن: إذا صلى الإِمام المريض جالسا بقومٍ أصحاء ومرض جلوسًا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن كان حكمه القيام باطلة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة، وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم يركعون ويسجدون لم يجزهم في قولهم جميعًا، وأجزأت الإِمام صلاته. وقال ابن القاسم: لا يأتم القائم بالجالس لا في فريضة ولا في نافلة، ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم. واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسًا، فأجازها بعضهم وكرهها أكثرهم. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بشر الرَّقي، قال: ثنا الفريابي (ح). وحدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قا لا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل قال: "سافرتُ مع ابن عباس - رضي الله عنهما - من المدينة إلى الشام

فقال: إن رسول الله - عليه السلام - لما مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة - رضي الله عنها - فقال: ادعوا لي عليًّا. فقالت: ألا نَدعو لك أبا بكر؟ قال: ادعوه، فقالت حفصة: ألا ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، فقالت: أم الفضل: ألا ندعو لك العباس عمَّك؟ قال: ادعوه، فلما حضروا رفع رأسه ثم قال: ليُصلّ للناس أبو بكر، فتقدم أبو بكر - رضي الله عنه - يصلي بالناس، ووجد رسول الله - عليه السلام - من نفسه خفة فخرج يهادَى بين رجلين، فلما أحسه أبو بكر - رضي الله عنه - سَبّحوا، فذهب أبو بكر يتأخر، فأشار إليه النبي - عليه السلام - مكانك، فاستتم رسول الله - عليه السلام - من حيث انتهى أبو بكر من القراءة، وأبو بكر قائم ورسول الله - عليه السلام - جالس، فائتم أبو بكر بالنبي، وائتم الناس بأبي بكر، فما قضى النبي - عليه السلام - الصلاة حتى ثقل، فخرج يُهادَى بين رجلين وإن رجليه لتخطان بالأرض، فمات رسول الله - عليه السلام - ولم يوص". ففي هذا الحديث أن أبا بكر ائتم بالنبي - عليه السلام - قائمًا والنبي - عليه السلام - قاعدٌ، وهذا من فعل النبي- عليه السلام - بعد قوله ما قال في الأحاديث في الباب الأول. ش: أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، فإن فيه أن أبا بكر - رضي الله عنه - اقتدى بالنبي - عليه السلام - وهو قائم والنبي قاعد، وفعله - عليه السلام - هذا متأخر عن قوله: "فإن صلوا قيامًا فصلوا قيامًا، وإن صلوا جلوسًا فصلوا جلوسًا" ونحو ذلك مما ذكر في أول الباب، فدل ذلك أن هذه الأحاديث المذكورة في أول الباب منسوخة؛ لأن المتقدم يرفعه المتأخر. فإن قيل: كيف وجه هذا النسخ وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أن هذا الحديث الذي ذكره ابن عباس فيه أنه - عليه السلام - كان إمامًا وأبو بكر مأموم، وقد ورد فيه العكس كما أخرجه الترمذي والنسائي والطحاوي أيضًا -على ما يأتي- عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: "صلى رسول الله - عليه السلام - في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرج النسائي والطحاوي أيضًا -على ما يأتي- عن حميدٍ، عن أنس قال: "آخر صلاة صلاها رسول الله - عليه السلام - مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر - رضي الله عنه -". قلت: مثل هذا لا يعارض ما وقع في "الصحيح"، مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في "المعرفة": ولا تعارض بين الخبرين؛ فإن الصلاة التي كان فيها النبي- عليه السلام - إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الإثنين، وهي آخر صلاة صلاها النبي - عليه السلام - حتى خرج من الدنيا. قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري، عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه - عليه السلام - الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه وجد في نفسه خفة، فخرج فأدرك معه في الركعة الثانية. وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد جملة بقوله - عليه السلام -: "لا يَؤمنّ أحد بعدي جالسًا"، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي- عليه السلام - فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه - عليه السلام - عن إمامة القاعد بعده. قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني (¬1) ثم البيهقي (¬2) في "سننهما": عن جابر الجعفي، عن الشعبي. وقال الدارقطني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجُعْفي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. وقال عبد الحق في "أحكامه": ورواه عن الجعفي مجالد وهو أيضًا ضعيف، وقد يجاب عن الأحاديث الأُوَل بأنه كان مخصوصًا بالنبي - عليه السلام -، وفيه نظر؛ لأن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 398 رقم 6). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 80 رقم 4854).

الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل كما عرف في الأصول، وقد قالوا: إن قوله: "فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" محمول على أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه في القيام، وكذلك "إذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا" أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله: "فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". ثم إنه أخرج حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريقين حسنين جيدين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمد بن يوسف الفِرْيابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أرقم بن شرحبيل الأَوْدي الكوفي وثقه أبو زرعة، وروى له الترمذي وابن ماجه. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس قال: "لما مرض رسول الله - عليه السلام - مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة فقال: ادعوا لي عليًّا. قالت عائشة: يا رسول الله - عليه السلام -، نَدْعُو لك أبا بكر؟ فقال: ادْعُوه. قالت حفصة: يا رسول الله، ندْعُو لك عمر؟ قال: نعم. فلما اجتمعوا رفع رأسه فنظر، فسكت فقال عمر - رضي الله عنه -: قوموا عن رسول الله - عليه السلام -، ثم جاء بلال - رضي الله عنه - يؤذن بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فلْيصلِّ بالناس. فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن أبا بكر رجل رقيق حَصِرٌ، ومتى لا يراك يبكي والناس يبكون، فلو أمَرْتَ عمر يُصلي بالناس، فخرج أبو بكر فصلى بالناس، فوجد رسولُ الله - عليه السلام - من نفسه خفةً فخرج يُهادَى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، فلما رآه الناسُ سبَّحوا بأبي بكر، فذهب ليتأخر، فأومى إليه النبي - عليه السلام - أيْ مكانك، فجاء رسول الله - عليه السلام - فجلس عن يمينه، وقام أبو بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبي - عليه السلام - والناس يأتمون بأبي بكر. قال ابن عباس: وأخذ رسول الله - عليه السلام - من ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 391 رقم 1235).

القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر -قال وكيع: وكذا السنة- فمات رسول الله - عليه السلام - في مرضه ذلك". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الله بن رجاء، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "مَرَضَه الذي مات فيه" منصوب بقوله: "مَرِضَ" وقد عُرِفَ أن المصدر ينتصب بفعله سواء كان مُنَكَّرًا أو معرّفا. قولى: "ادعوا لي عليًّا" أي اطلبوا لي عليًّا - رضي الله عنه -. قوله: "عمك" بالنصب؛ لأنه بدل من قوله: "العباس" أو عطف بيان. قوله: "يهادى بين رجلين" أي يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها إذا تمايلت، وكل من فعل ذلك بأحدٍ فهو يهاديه، وأراد بالرجلين العباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، وقد جاء مصرحًا بهما في رواية مسلم. قوله: "يتأخر" جملة فعلية مضارعة وقعت حالًا من أبي بكر. قوله: "مكانك" منصوب بفعل محذوف تقديره: الزم مكانك ولا تفارقه. قوله: "وإن رجليه لتخطان بالأرض" إخبار عن مبلغ ضعف قواه، وأن رجليه لم تُقِلاّه، بل كان يجرّهما بالأرض ولا يعتمد عليهما. ويستفاد منه: جواز تسبيح المُصلي في صلاته لأمر يحدث. وفيه: دليل لمن ائتم في الصلاة بمأموم على القول أن النبي - عليه السلام - كان الإِمام. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 81 رقم 4857).

قال عياض: وفي المذهب عندنا فيها قولان: الصحة، والفساد. وعلي هذا أيضًا فيه جواز الائتمام في صلاة واحدة بإمامين واحدًا بعد آخر، وهو أصل في الاستخلاف وجوازه، وحجة على داود والشافعي في منعه. وعلي أن الصلاة لا تصح بإمامين لغير عذر مذهب الجمهور والطبري والبخاري وبعض الشافعية؛ استدلالًا بهذا الحديث. وعندنا العذر في هذا المتقدم بين يدي النبي - عليه السلام - المنهي عنه، وأن هذا خصوصٌ له. وقد وقع لابن قاسم من أئمتنا في إمام أحدث فاستخلف ثم انصرف أنه يجوز للمستخلف أن يتأخر له ويتم الأول بهم الصلاة، كأنه أخذ بظاهر هذا الحديث وهو غير جار على أصولنا. انتهى. قلت: استدل أصحابنا أيضًا بهذا الحديث على جواز الاستخلاف في الصلاة، وقالوا: هذا أصل في حق كل إمام عجز عن الإتمام أن يتأخر ويسخلف غيره، ويتم الخليفة صلاته، فإن حضر المستخلف قبل إتمام الخليفة الصلاة لا يتأخر لأجله، بل يمضي على إتمامه؛ لأنه لا عذر له في ذلك، بخلاف تأخر أبي بكر - رضي الله عنه -، فإنه كان معذورًا لعدم جواز المتقدم على النبي - عليه السلام - بخلاف غيره، فافهم. وفيه: عظيم قدر أمر صلاة الجماعة وتأكيدها لتكلّف النبي - عليه السلام - الخروج إليها بتلك الحال. وفيه: أنه - عليه السلام - صلى وهو جالس والقوم وراءه قيام، وأن هذا آخر الآمرين. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة، قال: ثنا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "دخلتُ على عائشة - رضي الله عنها - فقلتُ: ألا تحدثيني عن مرض النبي - عليه السلام - فقالت: بلى، كان الناس عكوفًا في المسجد يَنْتظرون رسول الله - عليه السلام - لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل رسول الله - عليه السلام - إلى

أبي بكر - رضي الله عنه - أن يصلّي بالناس، فكان يُصلّي لهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله - عليه السلام - وجد في نفسه خفّةً فخرج يُهادى بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي للناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وقال لهما: أَجْلِسَاني إلى جَنْبه. فأَجْلساه إلى جَنْب أبي بكر، فجعل أبو بكر يُصلّي وهو قائم بصلاة النبي- عليه السلام -، والناسُ يُصَلّون بصلاة أبي بكر والنبي - عليه السلام - قاعدٌ. قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس، فعرضت حديثها عليه، فما أنكَر من ذلك شيئًا". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما ثَقُل رسول الله - عليه السلام - جاءه بلالٌ - رضي الله عنه - يُؤذنه للصلاة، فقال: ائتوا أبا بكر فليُصَلّ للناس. قالت: فقلت: يا رسول الله لو أمرت عُمر أن يُصلّي بهم، فإن أبا بكر رجل أَسيفٌ ومتى يَقوم مقامك لا يُسْمِع النَّاسَ. قال: مُرُوا أبا بكر فليُصل بالناس. فأمروا أبا بكر فصلّى بالناس، فلما دخل في الصلاة وَجد رسول الله - عليه السلام - خفة فقام يُهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض، فلما سمع أبو بكر حسَّه ذهبَ ليتأخر، فأومأ إليه أنْ صَلَّ كما أَنْتَ، فجاء رسول الله - عليه السلام - حتى جَلَس على يسار أبي بكر، فكان رسول الله - عليه السلام - يُصلّي بالناس، وأبو بكر يقتدي بالنبي - عليه السلام - وهو قائم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر - رضي الله عنه -". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، وكثيرًا ما يُنسبُ إلى جدّه. عن زائدة بن قدامة الكوفي روى له الجماعة، عن موسى بن أبي عائشة الهمداني أبي الحسن الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى له الجماعة.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زائدة، قال: نا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - عليه السلام -؟ قالت: بلى، ثقل رسولُ الله - عليه السلام - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم يَنْتظرونك يا رسول الله - عليه السلام -. قال: ضعوا لي ماءً في المخضب. ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، قالت: والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله - عليه السلام - لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله - عليه السلام - أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله - عليه السلام - يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر -وكان رجلًا رقيقًا-: يا عمر، صلَّ بالناس. فقال عمر: أنت أحقُ بذلك. قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله - عليه السلام - وجد من نفسه خفةً فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي - عليه السلام - أن لا تتأخر وقال لهما: أجْلساني إلى جَنْبه، فأجلساه إلى جَنْب أبي بكر - رضي الله عنه -، وكان أبو بكر يُصلي وهو قائم بصلاة النبي - عليه السلام -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - عليه السلام - قاعدٌ، قال عبيد الله: فدخلتُ على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعْرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي - عليه السلام -؟ قال: هات. فعَرضْتُ حديثها عليه، فما أنكر منه شيئًا غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي - رضي الله عنه -". وأخرجه البخاري (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 311 رقم 418). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 243 رقم 655). (¬3) "المجتبى" (2/ 101 رقم 834).

قوله: "عكوفًا" أي عاكفين ومعناه ملتزمن ومجتمعين، من عكف يعكِف ويعكُف من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ ونَصَرَ يَنْصُرُ، والعكوف: الإقامة على الشيء وبالمكان ولزومهما، ومنه المعتكف في المسجد. قوله: "ينتظرون" جملة حالية. قوله: "يُهادى" على صيغة المجهول، وقد فسرناه عن قريب. قوله: "في المخضب" في رواية مسلم بكسر الميم هو مثل الأجّانة والمِرْكن. قوله: "ذهب لينوء" أي ليقوم وينهض. قوله: "رقيقًا" أي رقيق القلب كثير الخشية سريع الدمعة. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم -بالمعجمتين- عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثني أبي، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: الأسود قال: "كنا عند عائشة - رضي الله عنها - فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها، قالت: لما مرض رسول الله - عليه السلام - مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاةُ فأذّن فقال: مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس. فقيل له: إن أبا بكر رجل أسِيفٌ إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس. وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة، فقال: إنكن صواحبُ يوسف؛ مُرُوا أبا بكر فليصلَّ بالناس، فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي - عليه السلام - من نفسه خفّةً فخرج يُهادى بين رجلين، فكأني انظر رجليه يخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي - عليه السلام - أنْ مكانك، ثم أُتيَ به حتى جلَس إلى جَنْبه. قيل للأعمش: وكان النبي- عليه السلام - يُصلّي وأبو بكر يُصلّي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 236 رقم 633).

رواه أبو داود (¬1): عن شعبة، عن الأعمش بعضه، وزاد أبو معاوية: "جلس عن يسار أبي بكر - رضي الله عنه - فكان أبو بكر يصلي قائمًا". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية ووكيع، ونا يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "لما ثقل رسول الله - عليه السلام - جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس. قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أَسِيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقال: مروا أبا بكر فليصلَّ بالناس. قالت: فقلت قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسمع الناسَ، فلو أمرت عمر (¬3) فقالت له، فقال رسول الله - عليه السلام -: إنكن لأَنتُنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: فأمروا أبا بكر - رضي الله عنه - فصلى بالناس، قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - عليه السلام - من نفسه خفة، فقام يُهادَى بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجدَ سمع أبو بكر حسَّه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - عليه السلام -: أَقِمْ مكانك. فجاء رسول الله - عليه السلام - حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله - عليه السلام - يصلّي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - عليه السلام - ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر - رضي الله عنه -". قوله: "يؤذنه" أي يُعْلمه، من الإيذان وهو الإعلام. قوله: "رجل أسيف" أي سريع الحزن والبكاء وهو الأسوف أيضًا، والأسيف في غير هذا الموضوع: العبد، والآسِفُ الغضبان، ومنه قوله تعالى: ¬

_ (¬1) هذا باقي كلام البخاري في "صحيحه"، وأبو داود هذا هو الطيالسي. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 313 رقم 418). (¬3) حدث خلط في أوراق المخطوط فكان [ق 179 - أ] مع [ق 199 - ب] و [ق 199 - أ] مع [ق 179 - ب].

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (¬1) وفيه دليل على فضيلة أبي بكر وتقدمه، وتَنْبيةٌ على أنه أولى بخلافته كما قال الصحابة - رضي الله عنهم -: "رضينا لدنيانا مَنْ رَضِيَه رسول الله - عليه السلام - لديننا". ص: فقال قائلون: لا حجة لكم في هذا الحديث؛ لأن النبي- عليه السلام - كان في تلك الصلاة مأمومًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله - عليه السلام - في مرضه الذي تُوفيَ فيه خلف أبي بكر قاعدًا". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني حميد، قال: حدثني ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن النبي - عليه السلام - صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد بُرْدٍ يخالف بين طرفَيْه، فكانت آخر صلاة صلاها". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا معاوية بن عمرو الأزدي، قال: ثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: "مرض النبي - عليه السلام - فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس. فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن أبا بكر رجل رقيق. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فإنكن صواحب يوسف. قال: فقام أبو بكر في حياة النبي- عليه السلام -". وكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد روي هذا الذي قد ذكروه، ولكن أفعال النبي - عليه السلام - في صلاته تلك تَدلّ على أنه كان إمامًا، وذلك أن عائشة - رضي الله عنها - قالت في حديث الأسود عنها: "فقعد رسول الله - عليه السلام - عن يسار أبي بكر" وذلك قعود الإمام لا قعود المأموم؛ ولأنه لو كان أبو بكر إمامًا له لكان النبي - عليه السلام - يقعد عن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: [150].

يمينه، فلما قعدَ عن يساره وكان أبو بكر عن يمينه، دل ذلك على أن النبي- عليه السلام - كان هو الإِمام، وأن أبا بكر هو المأموم. ش: أي فقال جماعة قائلون من أهل المقالة الأولى: لا حجة لكم في حديثي ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -، وهذا منع يصعب الاستدلال به. تقريره: أن يُقال: إنكم تحتجون بحديثي ابن عباس وعائشة أن الإِمام إذا صلى قاعدًا لعذرٍ به يجب على القوم أن يصلوا وراءه قيامًا، وليس لكم حجة في هذا الحديث، لأن النبي - عليه السلام - لم يكن في تلك الصلاة إمامًا وإنما كان مأمومًا، والدليل علي رواية مسروق عن عائشة، ورواية أنس بن مالك، ورواية أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. وتقرير الجواب ما أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة عليهم في ذلك" أي وكان من الدليل والبرهان وهو الجواب على هؤلاء القائلين فيما ذهبوا إليه: أنا سلمنا هذه الأحاديث قد جاءت هكذا ولكن أفعال النبي - عليه السلام - في صلاته التي ذكرت في حديث عائشة الذي رواه عنها الأسود تدل على أنه - عليه السلام - كان إمامًا؛ لأنه ذكر فيه: "فقعد رسول الله - عليه السلام - عن يسار أبي بكر"، فهذا يدل على أنه - عليه السلام - كان إمامًا؛ إذ لو كان أبو بكر إمامًا لكان النبي - عليه السلام - يقعد عن يمينه؛ لأن هذا وظيفة المأموم، فلما كان قعود النبي - عليه السلام - عن يسار أبي بكر وكان أبو بكر عن يمينه؛ دل ذلك على أنه - عليه السلام - كان هو الإِمام وأن أبا بكر هو المأموم. وأيضًا قولها في الحديث: "ويقتدي أبو بكر بصلاة النبي - عليه السلام - ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" يدل على أنه - عليه السلام - كان إمامًا، وكذا قولها: "فجلس رسول الله - عليه السلام - يصلي بالناس وأبو بكر يُسْمع الناس". وقال القاضي عياض: وقد رُوي عنها خلافه، وذكر الآخرون أن ذكر صلاته عن يسار أبي بكر - رضي الله عنه - لم يَقُله غير أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وسائر رواة هذا الحديث ممن هو أحفظ من أبي معاوية من أصحاب

الأعمش وأصحاب الزهري وهشام لم يذكروا: "عن يساره" وقالوا: قد روى ابن إسحاق عن الزهري هذا الحديث وفيه: "فصل عن يمين أبي بكر". وقال المهلّب: إن صححنا الروايتين فقد يحتمل أن جلوسه أولًا عن يساره كما قال في رواية أبي معاوية؛ لأنه أقرب إلى خروج النبي - عليه السلام - من بيته من الجهة اليُسْرى من المسجد وأرفق به لمرضه، ثم يحتمل أن النبي - عليه السلام - أدار بأبي بكر إلى يمينه كما فعل بابن عباس إما قبل إحرامه من أمامه أو بعده من خلفه لا سيما ولم يذكر أبو معاوية غير جلوسه أول صلاته عن يساره، وابن شهاب قد بَيّن فقال: "فصلى يومئذٍ عن يمين أبي بكر"، فأخبر عن الصلاة كلها في ظاهر قوله، فتجمع الروايتان على هذا ولا تطرح إحداهما للأخرى. وقال بعضهم: كان النبي - عليه السلام - قد استخلف أبا بكر على الصلاة مدة مرضه وصلى بالناس صلوات كثيرة، وقد قال أنس في "البخاريّ": "إن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي - عليه السلام - حتى كان يوم الاثنين ... " وذكر الحديث، وقالت عائشة: "فصلى أبو بكر تلك الأيام". فهذا يدل على أنها لم تكن صلاة واحدة. قيل: صلى اثني عشر يومًا إلا أن يجد النبي - عليه السلام - خفةً في بعضها ويطيق الصلاة قائمًا فيخرج ويصلي على ما جاء في بعض الروايات عن عائشة. وقد جاء في حديث أنس في "الأم": "أنه خرج عليهم آخر يوم، وأنه لم يصل معهم، وقال: أتموا صلاتكم. ثم أرخى الستر". وهذا حديث آخر وخروج ثانٍ غير حديث عائشة وقصتها فلا يَبْعد أن يكون في إحداها إمامًا وفي بعضها مأمومًا لنجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، وإلا فالصحيح والأشهر والأكثر أنه كان هو الإِمام، والله أعلم. وقد مرّ الكلام فيه مرة عن قريب.

أما إسناد حديث عائشة فصحيح، وشبابة بن سوار الفزاري قيل اسمه مروان، وإنما غلب عليه شبابة روى له الجماعة، ونعيم بن أبي هند روى له مسلم، واسم أبي هند النعمان بن أشيم الأشجعي، وأبو وائل اسمه شقيق ابن سلمة. والحديث أخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا شبابة ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن المثنى، قال: ثنا بكر بن عيسى صاحب البصري، قال: سمعته يذكر عن أبي نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة: "أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله - عليه السلام - في الصف". وأما إسناد حديث أنس فكذلك صحيح وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري، وحميد هو الطويل. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: نا شبابة بن سوار، قال: ثنا محمد بن طلحه، عن حميد، عن ثابت، عن أنس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - في مرضه خلف أبي بكر قاعدًا في ثوب متوشحًا به". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قال أبو عيسى: وهكذا رواه يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ثابت، عن أنس، وقد روى غير واحد عن حميد، عن أنس ولم يذكروا فيه: عن ثابت. ومن ذكر فيه: عن ثابت. فهو أصح. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 196 رقم 362). (¬2) "المجتبى" (2/ 79 رقم 786). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 197 رقم 363).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حجر، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا حميد، عن أنس قال: "آخر صلاة صلاها رسول الله - عليه السلام - مع القوم؛ صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر - رضي الله عنه -". وأما إسناد حديث أبي موسى الأشعري -واسمه عبد الله بن قيس- فصحيح أيضًا، ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي المَعْنِي أبو عمرو البغدادي شيخ البخاري، وزائدة هو ابن قدامة، وعبد الملك بن عمير بن سُوَيْد اللخمي أبو عمرو الكوفي المعروف بالقبطي روى له الجماعة، وأبو بودة اسمه الحارث، ويقال: عامر بن أبي موسى الأشعري، ويقال: اسمه كنيته، له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد الملك ابن عمير ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فإنكن صواحب يوسف" أراد من هذا الكلام: أني أريد أمرًا وتُردْن خلافه كما كان صواحب يوسف - عليه السلام -، ومن المعلوم أن صواحب يوسف أردن منه ما عصمه الله منه بفضله، وليس كذلك ها هنا، وقيل: إنما كرهت عائشة - رضي الله عنها - تقدم أبيها لئلا يتشاءم الصحابة بموقفه بعد رسول الله - عليه السلام -، فأبى الله سبحانه إلا ذلك. ص: وحجة أخرى أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنها - قال في حديثه: "فأخذ النبي - عليه السلام - في القراءة من حيث انتهى أبو بكر - رضي الله عنه -". ففي ذلك ما يدل أن أبا بكر قطع القراءة وقرأ النبي - عليه السلام -، فذلك دليل أنه كان الإِمام ولولا ذلك لم يقرأ. لأن تلك الصلاة كانت صلاة يُجهرُ فيها بالقراءة، ولولا ذلك لَمَا عَلِمَ النبي - عليه السلام - الموضع الدي انتهى إليه أبو بكر من القراءة ولا علمَه مَنْ خلف أبي بكر، فلما ثبت بما وصفنا أن تلك الصلاة كانت مما يُجْهَرُ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 79 رقم 785). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 212 رقم 19715).

فيها بالقراءة وقرأ النبي - عليه السلام - فيها، وكان الناس جميعًا لا يختلفون أن المأموم لا يقرأُ خلفَ الإِمام، كما يقرأُ الإمامُ ثبت بذلك أن النبي - عليه السلام - كان في تلك الصلاة إمامًا، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أراد بها دليلًا آخر يقع جوابا أيضًا عمّا قاله القائلون المذكورون، وهو ظاهر. وقال أبو عمر: أكثر الآثار الصحاح المسندة في هذا الباب أن رسول الله - عليه السلام - كان المقدم وأن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله - عليه السلام - قائمًا. انتهى قلت: فلذلك لم يلتفت الطحاوي إلى الرواية التي فيها كان النبي - عليه السلام - مأمومًا، ولا إلى الرواية التي فيها جلس رسول الله - عليه السلام - عن يمين أبي بكر، فافهم. ص: وأما وجهه من طريق النظر؛ فإنا رأينا الأصل المجمع عليه: أن دخول المأموم في صلاة الإِمام قد يُوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله ولم نَرَه يُسْقِطُ عنه فرضًا كان عليه قبل دخوله؛ فمن ذلك أنّا رأينا المسافر يدخل في صلاة المقيم فيجب عليه أن يُصلّي صلاة المقيم أربعًا ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه، وإنما أَوجبَه عليه دخُوله مع الإِمام، ورأينا مقيمًا لو دخل في صلاة مسافرٍ صلى بصلاته حتى إذا فرغ أتى بتمام صلاة المقيم فلم يسقط عن المقيم فرضًا بدخوله مع المسافر وكان فرضه على حاله غير ساقطٍ منه شيء. والنظر في ذلك أن يكون كذلك صحيح الذي عليه فرض القيام إذا دخل مع المريض الذي سقط عنه فرض القيام في صلاته أن لا يكون ذلك الدخول مُسْقطًا عنه فرضًا كان عليه قبل دخوله في الصلاة. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، فإنا رأينا .... إلى آخره.

بيان ذلك أن ها هنا أصلًا مجمعًا عليه بَيْن الفريقين الذين اختلفوا في هذا الباب، وهو أن المأموم إذا دخل في صلاة الإِمام يجب عليه فرض لم يكن عليه قبل دخوله ولا يَسْقط عنه فرضٌ كان عليه قبل الدخول كالمسافر إذا دخل في صلاة المقيم يجب عليه أن يُتم -لأجل المتابعة- مع أنه لم يكن الإتمام واجبًا عليه قبل ذلك، والمقيم إذا دخل في صلاة المسافر يجب عليه أن يتم صلاته بعد فراغ الإِمام ولم يسقط عنه دخوله مع الإِمام المسافر الفرض الذي كان عليه قبل ذلك، والقياس يقتضي أن يكون كذلك الصحيح القادر على القيام أنه إذا دخل في صلاة المريض الذي سقط عنه القيام أن لا يَسْقط عنه القيام الذي كان فرضًا عليه قبل دخوله في الصلاة مع المريض، والله أعلم. ص: فإن قال قائلٌ: فإنا قد رأينا العبد الذي لا جمعة عليه يدخل في الجمعة فتجزئه من الظهر، ويخرج عنه فرض قد كان عليه قبل دخوله مع الإمام فيها. قيل له: هذا يؤيد ما قلنا؛ وذلك أن العبد لم يكن عليه جمعة قبل دخوله فيها، فلما دخل فيها مع مَنْ هي عليه كان دخوله إياها يوجب عليه ما هو واجبٌ على إمامه، فصار بذلك إذ وجب عليه ما هو واجب على إمامه في حكم مسافر لا جمعة عليه دخل في الجمعة، فقد صارت واجبةً عليه لوجوبها على إمامه، وصارت مُجْزئة عنه من الظهر؛ لأنها صارت بدلًا منها، فكللك العبد لما وجبت عليه الجمعة بدخوله فيها أجزأته من الظهر لأنها صارت بدلًا منها؛ فقد ثبت بما ذكرنا أن دخول الرجل في صلاة غيره قد يوجب عليه ما لم يكن واجبًا عليه قبل دخوله فيها، ولا يُسقط عنه ما كان واجبًا عليه قبل دخوله، فثبت بذلك أن الصحيح الذي القيام في الصلاة واجبٌ عليه إذا دخل مع مريض قد سقط عنه فرض القيام في صلاته لم يَسْقط عنه بدخوله في القيام ما كان واجبًا عليه قبل ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله.

ش: تقرير السؤال: إن ما ذكرتم من قولكم: إن دخول المأموم في صلاة الإِمام يوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله ولا يسقط عنه فرض كان عليه قبل دخوله، ومثّلتم بالمقيم والمسافر؛ ينتقض بالعبد الذي لا جمعة عليه، فإنه إذا دخل في الجمعة تجزئه من الظهر وتسقط عنه الفرض الذي قد كان عليه قبل دخوله مع الإِمام في الجمعة. وتقرير الجواب أن يقال: هذا الذي ذكرتم لا ينقض ما قلنا، بل يُؤيدُه ويُقوّيه، وذلك أن العبد لم يكن عليه جمعة قبل دخوله مع الإِمام فيها، ولكنه لما دخل فيها وجَبتْ عليه لوجوبها على إمامه كالمسافر الذي دخل في الجمعة وجبت عليه لوجوبها على إمامه، فصارت الجمعة بدلًا من ظهرهما مجزئةً عنهما من الظهر؛ لأن الجمعة صارت بدلًا من الظهر بالشروع في صلاة من كانت تجب عليه من الأول، فثبت من ذلك أن دخول الرجل في صلاة غيره قد يوجب عليه ما لم يكن واجبًا عليه قبل دخوله ولا يسقط عنه ما كان واجبًا عليه قبل ذلك كما قد بيناه، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح الذي يجب عليه القيام في الصلاة إذا دخل في صلاة المريض الذي قد سقط عنه القيام لم يَسْقط عنه القيام الذي كان واجبًا عليه قبل دخوله. قوله: "ويخرج عنه فرضٌ قد كان عليه" وفي بعض النسخ "ويسقط عنه فرض" وهو الصحيح. قوله: "إذْ وجب عليه" أي حين وجب عليه. قوله: "أنَّ الصحيح" بفتح "أن"؛ لأنه فاعل لقوله: "فثبت"، وقوله: "القيام" مبتدأ وخبره قوله: "واجب عليه" والجملة صلة للموصول. قوله: "قد سقط عنه فرض القيام" جملة وقعت صفةً لقوله: "مع مريضٍ" وقوله: "لم يسقط عنه بدخوله في القيام" في محل الرفع؛ لأنها خبر "أن". وقوله: "ما كان واجبًا عليه" فاعل لقوله: "لم يسقط"

قوله: "وهذا" أي الذي ذكرناه من صحة اقتداء القائم بالقاعد وعدم سقوط القيام عن القادر على القيام هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف على ما مر مستوفى. ص: وكان محمد بن الحسن -رحمه الله- يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريضٍ يُصلي قاعدًا، وإن كان يركع ويَسجُد، فذهب إلى أن ما كان من صلاة النبي - عليه السلام - قاعدًا في مرضه بالناس وهم قيام مخصوصًا لأنه فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله من القراءة من حيث انتهى أبو بكر - رضي الله عنه -، وخروج أبي بكر من الإمامة إلى أن صار مأمومًا في صلاة واحدة، وهذا لا يجوز لأحد من بعده باتفاق المسلمين جميعًا، فدل ذلك أن النبي - عليه السلام - قد كان خُصّ في صلاته تلك بما مُنع منه غيرُه، والله أعلم. ش: مذهب محمد بن الحسن عدم جواز اقتداء الصحيح القادر على القيام بالمريض الذي لا يقدر عليه وإن كان يقدر على الركوع والسجود، واستدل في ذلك بقوله - عليه السلام -: "لا يَؤمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا". أخرجه الدارقطني، وإليه ذهب الشعبيّ ومالكٌ في رواية" وقالوا أيضًا: إن القيام ركن فلا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان، وأجابوا عما كان من صلاة النبي - عليه السلام - قاعدًا في مرضه بالناس وهم قيام بأنه كان مخصوصًا بالنبي - عليه السلام -، وأشار إلى دليل الخصوص بقوله: "لأنه فعل فيها ... " إلى آخره، أي لأن النبي - عليه السلام - فعل في الصلاة ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله، وقد أنكر بعضهم الخصوص وادّعوا فيه النسخ، وقد بسطنا الكلام فيه فيما مضى.

ص: باب: الرجل يصلي الفريضة خلف من يصلي تطوعا

ص: باب: الرجل يصلي الفريضة خلف مَنْ يصلي تطوعًا ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يصلي الفرض خلف من يصلي التطوع؛ هل يجوز له ذلك أم لا؟ وجه المناسبة بين البابين: أن كلًا منهما مشتمل على بيان صلاة فاسدة؛ أما الأول فلأنه في بيان فساد صلاة الصحيح قاعدًا خلف من يصلي قاعدًا لعجزٍ، وهذا في بيان فساد صلاة المفترض خلف المتنفل. ص: روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - عليه السلام - العشاء، ثم يرجع فيصليها بقومه في بني مسلمة". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في باب "القراءة في صلاة المغرب". ش: أخرج الطحاوي هذا الحديث في باب "القراءة في صلاة المغرب" عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يرجع فيؤمنا ... " الحديث، وقد ذكرنا هناك أن البخاري (¬1) ومسلمًا (¬2) وأبا داود (¬3) والنسائي (¬4) أخرجوه بألفاظ مختلفة وطرق متباينة. ص: فذهب قومٌ إلى أن الرجل له أن يصلي النافلة ويأتمّ به مَنْ يصلي الفريضة واحتجوا في ذلك بهذا الأثر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوسًا والأوزاعيّ وأبا رجاء والشافعي وسليمان بن حرب وأبا ثور وابن المنذر وأبا إسحاق الجوْزجاني وأحمد ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 248 رقم 669). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 339 رقم 465). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 163 رقم 600). (¬4) "المجتبى" (2/ 102 رقم 835).

في أصح روايتَيْه؛ فإنهم قالوا: تجوز صلاة المفترض خلف المتنفل، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز لرجل أن يُصلي فريضةً خلف مَنْ يُصلي نافلةً. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعةً آخرون، وأراد بهم: الزهريّ والنخعي وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومجاهدًا وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا وأبا قلابة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري وأحمد في رواية ابن الحارث وحنبلٍ؛ فإنهم قالوا: لا تجوز صلاة المفترض خلف المتنفل. وقال ابن بطال: ولا اختلاف أعظم من اختلاف النيات؛ ولأنه لو جاز بناء المفترض على صلاة المتنفل لما شرعت صلاة الخوف مع كل طائفة بعضها، وارتكاب الأعمال التي لا تصح الصلاة معها في غير الخوف؛ لأنه - عليه السلام - كان يمكنه أن يصلي مع كل طائفة جميع صلاته وتكون الثانية له نافلة وللطائفة الثانية فريضة. ص: وقالوا: ليس في حديث معاذ - رضي الله عنه - هذا إنما كان يُصلي بقومه نافلةً أو فريضةً، فقد يجوز أن يكون كان يصلي مع النبي - عليه السلام - نافلة ثم يأتي قومَه فيصلي بهم فريضة فإن كان ذلك كذلك فلا حجة لكم في هذا الحديث ويحتمل أن يكون كان يصلي مع النبي - عليه السلام - فريضة ثم يُصلي بقومه تطوعًا كما ذكرتم، فلما كان الحديث يحتمل الأمرين لم يكن أحدهما أولى من الآخر، ولم يكن لأحد أن يصرفه إلى أحد المعنيين دون المعنى الآخر إلا بدلالةٍ تدل على ذلك. ش: أي قال الآخرون: ليس في حديث معاذ المذكور ...... إلى آخره. حاصله: أن هذا له احتمالان كما ذكرهما، فلا يمكن الاحتجاج به متمسكًا بأحد الاحتمالين لعدم دليل يدل على ذلك، فإذًا سقط الاحتجاج به؛ لأن الذهاب إلى أحدهما بدون دليل ترجيح بلا مرجح فهو باطل.

فإن قيل: لا يُظن بمعاذ أنه يترك فضيلة فرضه خلف النبي - عليه السلام - ويأتي بها مع قومه. قلت: قال ابن العربي: فضيلة النافلة خلفه لتأدية فريضة لقومه يقوم مقام أداء الفريضة معه، وامتثال أمره - عليه السلام - في إمامة قومه زيادة طاعة، وهذا الكلام مما يرجح الاحتمال الأول من الاحتمالين الذين ذكرهما الطحاوي، فحينئذٍ لم يبق في الحديث حجة أصلًا لهؤلاء الطائفة. ص: فقال أهل المقالة الأولى: فإنا قد وجدنا في بعض الآثار أن ما كان يُصلّيه بقومه هو تطوع وأن ما كان يصليه مع النبي - عليه السلام - هو فريضة، وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو، قال: أخبرني جابرٌ: "أن معاذًا كان يُصلّي مع النبي - عليه السلام - العشاء ثم ينصرف إلى قومه فيصلّي بهم هي له تطوّع ولهم فريضةٌ. فكان من حجة الآخرين عليهم أن ابن عُيَيْنة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تامًّا وساقَه أحسن من سياقة ابن جريج، غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج: "هي له تطوع ولهم فريضة"، فيجوز أن يكون ذاك من قول ابن جريج، ويجوز أن يكون من قول عمرو بن دينار، ويجوز أن يكون من قول جابرٍ - رضي الله عنه -، فمن أي هؤلاء الثلاثة كان؟ القول فليس فيه شيء دليل على حقيقة فعل معاذ - رضي الله عنه - أنه كذلك؛ لأنهم لم يحكوا ذلك عن معاذ، إنما قالوا قولًا على أنه عندهم كذلك، وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك، ولو ثبت ذلك أيضًا عن معاذ لم يكن في ذلك دليل أنه كان بأمر النبي - عليه السلام -، ولا أن النبي - عليه السلام - لو أخبره به لأقرّه أو غيّره، وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أخبره رفاعة بن رافع أنهم كانوا يجامعون على عهد النبي - عليه السلام - ولا يغتسلون حتى يُنْزِلوا، فقال له عمر: أفاخبرتم النبيّ - عليه السلام - بذلك فَرضِيهُ لكم؟ قال: لا. فلم يجعل ذلك عمر - رضي الله عنه - حجةً، فكذلك هذا الفعل لو ثبت أن معاذًا فعله في عهد النبي - عليه السلام - لم يكن في ذلك دليل أنه بأمر النبي - عليه السلام -.

ش: هذا جواب عن أهل المقالة الأولى عما قاله أهل المقالة الثانية من قولهم: "فلما كان هذا الحديث يحتمل الأمرين ...... " إلى آخره. بيانه أن يقال: إنكم قلتم إن هذا الحديث لا يتم به الاحتجاج؛ لاحتماله الأمرين اللذين لم يكن أحدهما أولى من الآخر لعدم المرجح، فها نحن قد وجدنا في بعض الأحاديث أن ما كان يصليه معاذ بقومه كان تطوعًا له، وأن ما كان يصليه مع النبي - عليه السلام - كان فريضة. وذكروا في ذلك ما أخرجه إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ... إلى آخره وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الشافعي أيضًا في "مسنده" (¬2): بسند صحيح، عن عبد المجيد، عن ابن جريج، عن عَمرو. قال البيهقي: هذا حديث ثابت، لا أعلم حديثًا يُرْوى من طريق واحدة أثبت من هذا ولا أوثق رجالًا. وأجاب عنه بقوله: فكان من حجة الآخرين عليهم، أي فكان من دليل الجماعة الآخرى وهم أهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى. تقريره: أن هذه الزيادة التي ذكرها ابن جريج في روايته وهي قوله: "هي له تطوع ولهم فريضة" يحتمل أن يكون قولًا من رأيه، أو يكون من عمرو بن دينار، أو يكون من جابر بن عبد الله، وأيًّا ما كان فليس فيه دليل على حقيقة فعل معاذ - رضي الله عنه -؛ لأن النية أمر باطن لا يطلع عليه أحد إلا بإخبار الناوي، فجاز ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 274 رقم 1). (¬2) "مسند الشافعي" (1/ 57).

أن تكون نيته مع النبي - عليه السلام - فرضًا وجاز أن تكون نفلًا، ولم يرد عن معاذ ما يدل على أحدهما، وإنما يُعرف ذلك بإخباره. وزعم أبو البركات بن تيمية أن الإِمام أحمد ضعف هذه الزيادة، وقال: أخشى ألا تكون محفوظة. وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح، ولو صحّت كان ظنًّا من جابر - رضي الله عنه -. وكذا ذكره ابن العربي في "العارضة". وقال الطحاوي: الدليل على عدم صحة هذه الزيادة: أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار ولم يذكرها في روايته. قلت: أخرج حديثه مسلم (¬1) بدون هذه الزيادة. حدثني محمد بن عباد، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر- رضي الله عنه - قال: "كان معاذ - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - عليه السلام -، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلةً مع النبي - عليه السلام - العشاء، ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجلٌ فسلّم، ثم صلى وحده، وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله - عليه السلام - فلأُخبرنّه، فأتى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله - عليه السلام -، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - عليه السلام - على معاذ، فقال: يا معاذ، أفتّانٌ أنت؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا". قال سفيان: فقلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا، عن جابر أنه قال: "اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (¬2)، {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (¬3)، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬4). فقال عَمرو: نحو هذا". انتهى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 339 رقم 465). (¬2) سورة الشمس. (¬3) سورة الضحى. (¬4) سورة الأعلى.

قلت: ورواه أيوب أيضًا، عن عمرو بدون هذه الزيادة. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) أيضًا: من حديث أيوب، عن عمرو، عن جابر: "أن معاذًا كان يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يأتي قومه فيصلّي بهم". ورواه شعبة أيضًا، عن عمرو. وأخرجه البخاري (¬3) أيضًا: عنه، عن عمرو، عن جابر: "أن معاذًا كان يصلي مع النبي - عليه السلام -، ثم يرجع فيؤم قومه". ورواه منصور بن زاذان أيضًا عن عمرو. وأخرجه مسلم (2) أيضًا: عنه، عن عمرو، عن جابر نحوه. قوله: "ولو ثبت ذلك أيضًا ... " إلى آخره، جواب بطريق التسليم، بيانه أن يقال: سلمنا أن ما ذكرتم من الزيادة ثبتت في حديث معاذ - رضي الله عنه -، ولكن لا نُسلَّم أن فيه دليلًا على أنه كان ذلك عن معاذ بأمر النبي - عليه السلام -، فإذا لم يقم دليل على أن هذا كان بأمر النبي - عليه السلام - لم تقم به حجة على المدّعى، ولا فيه دليل على أنه لو أخبر ذلك للنبي - عليه السلام -؛ لكان أقرّه أو غيّره. ونظير ذلك قضية رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - فإنه أخبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "أنهم كانوا يجامعون على عهد النبي - عليه السلام - ولا يغتسلون إلا عند الإنزال، فقال له عمر - رضي الله عنه -: أفأخبرتم النبي - عليه السلام - بذلك فَرَضِيَه لكم؟ قال رفاعة: لا". فلم يجعل عمر - رضي الله عنه - ذلك حجة في ترك الغسل بالإيلاج من غير إنزال، فكذلك فعل معاذ -لو سلمنا أنه فعلهُ- في عهد النبي - عليه السلام -، ولكن ليس فيه دليل على أنه كان بأمر النبي - عليه السلام - فلا تقوم به حجة. على أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "الإِمام ضامن". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 250 رقم 679). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 340 رقم 465). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 248 رقم 668).

أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1)، يعني: يضمن الصلاة صحةً وفسادًا، والفرض ليس مضمونًا في النفل، وقد يجاب بأن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلّي مع النبي - عليه السلام - صلاة النهار ومع قومه صلاة الليل، فأخبر الراوي في قوله: "فهي لهم فريضة وله نافلة" بحال معاذ في وقتين لا في وقت واحد، والله أعلم. ص: وقد روينا عن النبي - عليه السلام - ما يدلّ على خلاف ذلك: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظيّ (ح). وحدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مَسْلمَة بن قَعْنب، قالا: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عمرو بن يحيى المازني، عن معاذ بن رفاعة الزُّرَقيّ: "أن رجلًا من بني سلمة يقال له سُلَيْم أتى النبي - عليه السلام - فقال له: إنا نظَلّ في أعمالنا، فنأتي حين نُمْسِي فنُصلّي، فيأتي معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فينادي بالصلاة، فَنأتيه فيُطوَّلُ علَيْنا. فقال النبي - عليه السلام -: يا معاذ، لا تكن فتانًا، إما أَنْ تصلّي معي، وإما أن تُخفّف على قومك". فقول النبي - عليه السلام - هذا لمعاذ يدلّ على أنه عند رسول الله - عليه السلام - كان يَفْعَلُ أحدَ الأَمرين؛ إما الصلاة معه وإما الصلاة لقومه، وأنه لم يكن يجمعها؛ لأنه قال: "إما أن تُصلّي معي" أي ولا تصلي مع قومك "وإما أن تخفّف بقومك" أي ولا تصلي معي. فلما لم يكن في الآثار الأُوَل من قول النبي - عليه السلام - شيءٌ، وكان في هذا الأثر ما ذكرنا، ثبت بهذا الأمر أنه لم يكن من النبي - عليه السلام - في ذلك المعنى شيء مُتقدمٌ، ولا علمنا أنه كان في ذلك أيضًا منه شيء متأخرٌ فَتَجبُ به الحجةُ عَليْنَا، ولو كان في ذلك من رسول الله - عليه السلام - أمرٌ كما قال أهل المقالة الأولى لاحتملَ أن يكون ذلك من رسول الله - عليه السلام - في وقت ما كان الفريضة تُصلّى مرتين، فإن ذلك قد كان ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (4/ 559 رقم 1671).

يُفعلُ في أول الإِسلام حتى نهى عنه النبي - عليه السلام -، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب صلاة الخوف. ففعل معاذ الذي ذكرنا يحتمل أن يكون كان قبل النهي عن ذلك، ثم كان النهي لنسخه، ويحتمل أن يكون بعد ذلك، فليس لأحد أن يجعله في أحد الوقتين إلا كان لمخالفه أن يجعله في الوقت الآخر، فهذا حكم هذا الباب من طريق معاني الآثار. ش: أي وقد روينا عن النبي - عليه السلام - في حديث معاذ - رضي الله عنه - ما يدلّ على خلاف ما روينا عنه من حديثه الذي مضى فيما سلف. وهو ما أخرجه من طريقين رجالهما ثقات، ولكن معاوية بن رفاعة لم يدرك سُلَيْمان، فيكون الحديث مُرسلًا وسُلَيم هو ابن الحارث بن ثعلبة - رضي الله عنه - الطريق الأول: عن فهد بن سليمان الكوفي نزيل مصر، عن يحيى بن صالح الوُحَاظِي الدمشقي شيخ البخاري، عن سليمان بن بلال القرشي المدني روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى المازني المدني روى له الجماعة، عن معاذ بن رفاعة ابن رافع الأنصاري الزُرَقي المدني روى له الجماعة غير مسلم وابن ماجه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن عَفّان، عن وُهَيْب، عن عمرو بن يحيى ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود ومسلم، عن سليمان بن بلال ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا محمد بن علي الصائغ المكي، ثنا القعنبي، ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة الزُّرَقي: "أن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 74 رقم 20718). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 67 رقم 6391).

رجلًا من بني سلمة يُقال له: سُلَيم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إنا نَظَلُّ في أعمالنا، فنمشي حين نُمسي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة، فنأتيه، فيطوّل علينا. فقال رسول الله - عليه السلام -: يا معاذ، لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف عن قومك. ثم قال: يا سُليم، ما معك من القرآن؟ قال: معي أن أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ -قال رسول الله - عليه السلام -: وهل دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار- ولكن سترون غدًا إذا لقينا القوم -والناس يتجهزون إلى أُحد- فخرج الرجل فاستُشْهد". قوله: "من بني سلِمة" بكسر اللام. قوله: "إنا نظلّ" من ظَلِلْتُ أَعمل -كذا بالكسر- ظُلُولًا إذا عملته بالنهار دون الليل، ومنه قوله تعالى {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (¬1) وهو من شواذ التخفيف. قوله: "فينادي بالصلاة" أراد فيؤذن لها؛ لأن النداء إلى الصلاة هو الأذان. قوله: "لا تكن فتَّانًا" فعَّال -بالتشديد- مبالغة فاتن، وأراد به: لا تكن سببًا لتفريق الجماعة بتطويل الصلاة. قوله: "ما أُحسن دندنتك" الدندنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تُسْمع نغمتَه ولا يُفهم، وهو أرفع من الهَينمة قليلًا. قوله: "فقول النبي - عليه السلام - هذا لمعاذ" إشارة إلى قوله - عليه السلام -: "معاذ لا تكن فتّانًا، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك"، وهذا دليل على أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يفعلُ أحد الأمرين، إما الصلاة مع النبي - عليه السلام -، وإما الصلاة لقومه، وأنه لم يكن يجمع بين الأمرين؛ لأن معنى قوله: "إما أن تصلي معي": لا تُصلّ مع قومك، ومعنى قوله: "إما أن تخفف بقومك": لا تُصلّ معي، وهذا المعنى لم يكن في الأحاديث الأولى، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لم يكن من النبي - عليه السلام - في ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [65].

ذلك المعنى شيء متقدم، وأراد بـ"ذلك المعنى" هو قوله: "لم يكن في ذلك دليل أنه كان بأمر النبي - عليه السلام - ولا أن النبي - عليه السلام - لو أخبره به لأقره أو غيَّره"، فحاصل الكلام: ظهر من هذا الحديث أنه لم يكن من النبي - عليه السلام - شيء دل على أن معاذًا لو أخبر النبي - عليه السلام - بصلاته مع النبي - عليه السلام - على نيّة الفرض ومع قومه على نية التطوع له أنه قرّره على ذلك، ولا شيء دلّ على أنه قد غيَّر ذلك في المستقبل فحينئذٍ لا تجب به الحجة علينا، وإنما كان تجب به الحجة علينا أن لو كان قرره على ذلك بعد إخباره إليه. قوله: "ولو كان في ذلك من رسول الله - عليه السلام - أمرٌ ... " إلى آخره، جواب بطريق التسليم، تقريره أن يقال: ولئن سلمنا أنه كان من النبي - عليه السلام - شيء يدل على ما يدعيه أهل المقالة الأولى من جواز صلاة المفترض خلف المتنفل بالحديث المذكور، ولكن لا نسلم أنه كان مستمر الحكم إلى آخر الوقت، بل إنما كان في ذلك الوقت الذي كان الفريضة تصل فيه مرتين، فإن هذا كان يفعل في ابتداء الإِسلام ثم نهى النبي - عليه السلام - عن ذلك، فإذا كان الأمر كذلك يكون ما ذكروه من جواز صلاة المفترض خلف المتنفل منسوخًا. فإن قيل: هذا الذي ذكره الطحاوي احتمال، وإثبات النسخ بالاحتمال لا يجوز. قلت: هذا واقع، وأدل الدليل على ما ذكره من النسخ هو أن إسلام معاذ بن جبل - رضي الله عنه - متقدّم، وقد صلى النبي - عليه السلام - بعد سنتين من الهجرة صلاة الخوف غير مرةٍ من وجه وقع فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إيقاع الصلاة مرتين على وجه لا تقع فيه المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة، وحيث صُلَّيتْ على هذا الوجه مع إمكان دفع المفسدات على تقدير جواز اقتداء المفترض بالمتنفل دل على أنه لا يجوز ذلك، وقد يقال: يحتمل أن يكون حديث معاذ كان في أول الإِسلام وقت عدم القرّاء

ووقت لا عوض للقوم عن معاذ، فكانت حال ضرورة فلا تجعل أصلًا يُقاس عليه، والله أعلم. ص: وأما حكمه من طريق النظر: فإنا قد رأينا صلاة المأمومين مُتَضمَّنةً لصلاة إمامهم في صحتها وفسادها، من ذلك: أنا رأينا الإمام إذا سهَا وجب على مَنْ خلفه بسهوه ما وجب عليه، وإن سَهَوْا هم ولم يَسْهُ هو لم يجب عليهم ما يجب على الإمام إذا سها فيها، فلما ثبت أن المأمومين يجب عليهم حكم السهو بسَهْو الإِمام ويَنتفي عنهم حكم السهو بانتفائه عن الإِمام؛ ثبت أن حكمهم في صلاتهم حكم الإمام في صلاته، وأن صلاتهم مُضمّنة لصلاته، ولما كانت صلاتهم مضمنة لصلاته لم يجزن تكون صلاتهم خلاف صلاته، فثبت بذلك أن المأموم لا يجوز أن تكون صلاته خلاف صلاة إمامه. ش: أي: وأما حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس، فإنا قد رأينا ... إلى آخره. تقريره أن يُقال: لا شك أن الإمام ضامن لما ذكرنا من قوله - عليه السلام -: "الإِمام ضامن". أخرجه ابن حبان في "صحيحه". ثم معنى الضمان أنه يضمن صلاة المأمومين صحةً وفسادًا، فتكون صلاتهم مضمنة لصلاته؛ ولهذا إذا سها الإِمام يجب على القوم ما يجب عليه بسهوه، فإذا كان كذلك لم يجز أن تكون صلاتهم خلاف صلاته؛ لأن الإِمام إذا كان متنفلًا لم تكن تحريمته منعقدةً لما يبني عليه المقتدي وزيادة لصلاة الفرض. والفرضية وإن لم تكن صفة زائدة على ذات الفعل فليست راجعةً إلى الذات أيضًا بل هي من الأوصاف الإضافية، فحينئذٍ لا يصح البناء من المقتدي بخلاف اقتداء المتنفل بالمفترض؛ لأن النفلية ليست من باب الصفة؛ إذْ النفل عبارة عن أصل لا وصف له فكانت تحريمة الإِمام منعقدة لما يبني عليه المقتدي وزيادة، فيصح البناء.

قوله: "مُضمَّنة" بفتح "الميم" الثانية. قوله: "فثبت بذلك أن المأموم ... " إلى آخره، نتيجة المقدمتين المذكورتين. ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأيناهم لم يختلفوا أن للرجل أن يصلي تطوعًا خلف من يصلي فريضةً فكما كان للمصلي تطوعًا يجوز أن يأتم بمن يُصلي فريضةً كان كذلك يجوز للمُصلّي فريضةً أن يُصلّيها خلف من يصلّي تطوعًا. قيل له: إن سبب التطوع هو سبب بعض الفريضة؛ وذلك أن الذي يدخل في الصلاة ولا يريد شيئًا عن ذلك من نافلة ولا فريضة يكون ذلك داخلًا في نافلة، وإذا نوى الدخول في الصلاة ونوى الفريضة كان بذلك داخلًا في الفريضة فصار يكون داخلًا في الفريضة بالسبب الذي به دخل في النافلة، وبسبب آخر، فلما كان ذلك كذلك كان الذي يصلي تطوعًا وهو يأتم بمن يُصلّي فريضة هو في صلاة له في كلها إمام، والذي يُصلّي فريضةً ويأتم بمن يُصلّي نافلة هو في صلاةٍ له في بعض سببها الذي يدخل فيها إمام، وليس له في بقيته إمام، فلم يجز ذلك. ش: هذا السؤال وارد على النتيجة المذكورة وهي قوله: "فثبت بذلك أن المأموم لا يجوز أن يكون في صلاته خلاف صلاة إمامه". تقريره أن يقال: صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة إجماعًا، ومع هذا بَيْن صلاتيهما مغايرة، فعلى هذا ينبغي أن تجوز أيضًا صلاة المفترض خلف المتنفل. وتقرير الجواب أن يقال: إن المتطوع يُريد مطلق الصلاة لله تعالى؛ لأنه ليس لصلاة التطوع صفَة زائدة على أصل الصلاة ليحتاج إلى أن ينويها، والمفترِض يريدُ صلاة مخصوصةً؛ لأن الفريضة صفة زائدة على أصل الصلاة ولهذا لا تكفيه نية مطلق الصلاة، حتى قالوا: لا يكفيه مطلق نية الفرض أيضًا بل ينوي فرض الوقت أو طهر الوقت مثلًا؛ لأن غيرها من الصلوات المفروضة مشروعة في

الوقت ولا بد من التعيين، فظهر من ذلك أن الذي يدخل الفريضة يَصيرُ داخلًا بشيئين: الأول: هو الذي يدخل به في النافلة. والثاني: هو القدر الزائد عليه، والذي يدخل في النفل يصير داخلًا بشيء واحد: وهو إرادته مطلق الصلاة، ومطلق الصلاة نفل، فإذا كان كذلك يكون المتنفل خلف المفترض داخلًا في صلاة له في كلها إمام، والمفترض خلف المتنفل يكون داخلًا في صلاة له ليس في كلها إمام، بل هو إمام في بعضها وهو بعض سبب الفريضة وليس بإمام في بقيته، فلا يجوز ذلك، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فإنا قد روينا عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه صلى بالناس جُنبًا وأعاد ولم يعيدوا"، فدل ذلك أن صلاتهم لم تكن مضمنةً لصلاته. فقال مخالفهم: إنما فعل ذلك لأنه لم يشعر بأن الجنابة كانت من قبل الصلاة فأخذ لنفسه بالحَوْطة، فأعاد ولم يأمر غيرَه بإعادةٍ، فقد ذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زُيَيْد بن الصلت قال، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "قد احتلمتُ وما شعرتُ، وصليتُ وما اغتسلتُ، ثم قال: أغسِلُ ما رأيتُ وأنضح ما لم أَرَ، ثم قام وصلّى متمكنًا وقد ارتفع الضحى". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زُيَيْد بن الصَلْت أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فنظر فإذا هو قد احتلم فصلى ولم يغتسل، فقال: والله ما أدري إلا وقد احتلمت وما شعرت وصليت وما اغتسلت قال: فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه ونضح ما لم يَرَ، فأذن فأقام الصلاة، ثم صلى بعد ما ارتفع الضحى متمكنًا". فدل هذا على أن عمر - رضي الله عنه - لم يكن تيقن بالحدث الجنابة كانت منه قبل الصلاة.

ش: هذا اعتراض أورده أهلُ المقالة الأولى على ما قاله أهل المقالة الثانية من قولهم: إنا قد رأينا صلاة المأمومين مضمنة لصلاة إمامهم في صحتها وفسادها. تقريره أن يقال: ما ذكرتم من قولكم: إن صلاة المأمومين مضمنةً لصلاة إمامهم غير صحيح؛ وذلك لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى بالناس جنبًا ثم أعاد صلاته والقوم لم يُعيدوا، فلو كانت صلاتهم مضمنةً لصلاته لأمرهم بالإعادة، فحيث لم يعيدوا دل على أن صلاتهم لم تكن مضمنةً لصلاته. وتقرير الجواب أن يُقال: إنما فعل عمر ذلك لأنه لم يعلم ولم يتيقن بأن الجنابة كانت منه قبل الصلاة فاحتاط في ذلك وأخذ بالحزم فأعاد صلاته، وهو معنى قوله: "فأخذ لنفسه بالحَوْطة فأعاد" أي بالاحتياط ولم يأمر غيره بالإعادة لعدم التيقن بكونها قبل الصلاة، والدليل على ذلك ما رواه زُبَيْد بن الصلت عنه أنه قال: "أراني قد احتلمتُ وما شعرتُ، وصليتُ وما اغتسلتُ" أي أظن أني قد احتلمتُ، فهذا يدل على أنه لم يكن متيقنًا بالجنابة قبل الصلاة. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاريّ ونسبته إلى غُدَّانة -بضم الغين المعجمة- بن يربوع بن حنظلة، عن زائدة بن قدامة الكوفي، روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن زُيَيْد بضم الزاي المعجمة وباليائين آخر الحروف أولاهما مفتوحة والأخرى ساكنة- ابن الصلت بن معاوية أبي كثير الكِنْدي، يقال: إنه وُلد في عهد النبي - عليه السلام -، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مختصرًا وقال: ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زُيَيْد بن الصلت: "أن عمر - رضي الله عنه - غسل ما رأى في ثوبه ونضح ما لم يَرَ، وأعاد بعد ما ارتفع الضحى متمكنًا" ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 345 رقم 3971).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). قوله: "أراني" أي أرى نفسي، والمعنى: أظن أني قد احتلمتُ وما شعرت أي وما علمتُ. قوله: "أغسل ما رأيت" أي أغسل من ثوبي الموضع الذي رأيت فيه الجنابة. قوله: "وأنضح ما لم أَرَ" أي أرش الماء على الموضع الذي لا أرى فيه شيئًا من الجنابة. قوله: "وقد ارتفع الضحى" جمله حاليةٌ. وجواب آخر: أن هذا يعارضه ما رُويَ عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، رواه أبو يوسف في "الأمالي" عنه: "أنه صلى بأصحابه يومًا ثم علم أنه كان جُنبًا، فأمر مؤذنه يُنادي: ألا إن أمير المؤمنين كان جنبًا فأعيدوا صلاتكم". ولأن معنى الاقتداء وهو البناء هنا لا يتحقق لعدم تصور التحريمة مع قيام الحدث والجنابة، والله أعلم. ص: والدليل على أن عمر - رضي الله عنه - قد كان يرى أن صلاة المأموم تَفسدُ بفساد صلاة الإمام أن محمد بن نعمان السقطي حدثنا،، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: "أن عمر - رضي الله عنه - نسِيَ القراءة في المغرب، فأعاد بهم الصلاة". فلما أعاد بهم الصلاة لتركه القراءة -وفي فساد الصلاة بترك القراءة في المغرب اختلاف- كان إذا صلى جنبًا أَحْرى أن يُعيد بهم الصلاة. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 49 رقم 111).

ش: ذكر هذا تأكيدا لصحة ما ذكره من أن صلاة المأمومين مضّمنة لصلاة الإِمام وأنّ ما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تأويله على أنه لم يتقن كما ذكرناه، بيان ذلك: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أعاد بالقوم الصلاة حين نسي القراءة في صلاة المغرب مع اختلاف العلماء في فساد الصلاة بترك القراءة، فإعادتها مع القوم حين صلاها وهو جنب أولى وأحرى؛ لكون هذه الحالة أشد تأثيرًا في فساد الصلاة من تلك الحالة وهي حالة ترك القراءة؛ وذلك أن الصلاة قط لا تجوز بدون الطهارة سواء كانت طهارة حقيقية أو طهارة حكمية، وأما بدون القراءة فقد تجوز في بعض الصُوَر، كالأمي الذي لا يقدر على تعلم القراءة، والأخرس الذي لا يقدر على تحريك لسانه بحروف القرآن. ثم إسناد أثر عمر - رضي الله عنه - صحيح، ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، وأبو معاوية الضرير محمد بن خازم، والأعمش هو سليمان بن مهران، وإبراهيم هو النخعي، وهمام بن الحارث النخغي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بأتم منه: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام قال: "صلى عمر- رضي الله عنه - المغرب فلم يقرأ فيها، فلما انصرف قالوا له: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ. فقال: إني قد حدثت نفسي وأنا في الصلاة بعير وجهتها من المدينة فلم أزل أجهزها حتى دخلت الشام. قال: ثم أعاد الصلاة والقراءة". ص: فإن قال قائل: فقد روي عن عمر - رضي الله عنه - خلاف ذلك فذكر ما حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا أدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أن عمر - رضي الله عنه - قال له رجل: "إني صليت صلاةً لم أقرأ فيها شيئًا؟ فقال له عمر- رضي الله عنه -: أليس قد أتممتَ الركوع والسجود؟ قال: بلى. قال: تمت صلاتك" قال شعبةُ: فحدثني عبد الله بن عمر العُمري ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 349 رقم 4012).

قال: قلت لمحمد بن إبراهيم: مِمّن سمعتَ هذا الحديث؟ فقال: من أبي سلمة عن عمر. قيل لهم: فقد روي هذا عن عمر - رضي الله عنه - من حيث ذكرتم ولكن الذي رويناه عنه فيما بدأنا بذكره متصل الإسناد عن عُمرَ وهمامٌ حاضرٌ ذلك منه، فما اتصل إسناده عنه فهو أصلى أن يقبل عنه مما خالفه. ش: تقرير السؤال أن يقال: قد رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما يخالف ما رويتم من أنه أعاد الصلاة لتركه القراءة فيها، وهو ما رواه بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني روى له الجماعة: "أن عمر - رضي الله عنه - قال له رجلٌ ... " إلى آخره. فإنه حكم بتمام صَلَاةِ مَنْ ترك القراءة فيها. وجوابه ظاهر وهو: أن ما روينا إسناده متصل؛ لأن همام بن الحارث كان حاضرًا عند عمر - رضي الله عنه - وقت سؤال الرجل، وما رويتم غير متصل الإسناد؛ لأن محمد بن إبراهيم المذكور لم يسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولم يكن حاضرًا عنده حين قال له رجل: إني صليتُ صلاةً لم أقرأ فيها شيئًا. فما كان متصل الإسناد هو أولى بالعمل وأحق بالقبول. فإن قلتَ: أليس قال شعبة: قلت لمحمد بن إبراهيم: ممن سمعت هذا الحديث؟ فقال: من أبي سلمة عن عمر - رضي الله عنه -؟ فهذا أيضًا متصل ورجاله ثقات فما الترجيح بين الحديثين؟ قلتُ: رواية همام أرجح من وجه آخر وهو أنه يحكي ما شاهده من فعل عمر - رضي الله عنه -، وأما أبو سلمة فإنه يحكي عن إفتاء عمر - رضي الله عنه - لذلك الرجل، وفعله أقوى من إفتائه، فافهم.

فإن قلتَ: قد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) ما فيه حكايته عن فعل عمر - رضي الله عنه - فقال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن عمر، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال: "صلى عمر - رضي الله عنه - المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قال له الناس: إنك لم تقرأ. قال: فكيف كان الركوع والسجود؟ تامٌ هو؟ قالوا: نعم. فقال: لا بأس، إني حدثت نفسي بعيرٍ جهّزتُها بأقتابها وحقائبها". قلت: هذه الرواية تدل على أنه لم يُعد صلاته لتركه القراءة، وتلك الرواية تدل على أنه قد أعادها لأجل ترك القراءة، فالإثبات أولى من النفي ها هنا؛ لموافقته النَصّ الدالّ على فرضيّة القراءة في الصلاة، وقد علم أن بترك فرض من فروض الصلاة تفسد الصلاة. ص: وهذا أيضًا مما يدلُّ عليه النظرُ؛ وذلك أنهم أجمعوا أن رجلًا لو صلى خلف جنب وهو يعلمُ بذلك أن صلاته باطلة، وجعلوا صلاته مضمنةً لصلاة إمامه، فلما كان ذلك كذلك إذا كان يَعلمُ بفساد صلاة إمامه كان كذلك هو في النظر إذا كان لاَ يَعلمُ بها، ألا ترى أن المأموم لو صلى وهو جنب وهو يَعلَمُ أو لا يَعلمُ كانَتْ صلاتُه باطلةً فكان ما يُفسدُ صلاته في حال علمه هو الذي يُفسِدُ صلاته في حال جَهْله به، وكان علمه بفساد صلاة إمامِه يُفْسِدُ صلاته، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جَهْلهُ بفساد صلاة إمامه، فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بهذا إلى ما ذكره من فساد صلاة المأموم بفساد صلاة الإِمام. قوله: "وذلك" إشارة إلى وجه النظر والقياس، والباقي ظاهر. قوله: "ألا ترى" توضيح لما ذكره من قياس فساد صلاة المأموم عند جهله بفساد صلاة إمامه على فساد صلاته مع علمه بفساد صلاة الإِمام، فتساوى ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 348 رقم 4006).

العلم والجهل ها هنا في حكم الفساد كما تساويا فيما إذا صلى وهو جنب في حكم الفساد، فافهم. ص: وقد قال بذلك طاوس ومجاهد. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن جابر الجُعْفي، عن طاوس ومجاهد "في إمام صلى بقوم وهو على غير وضوء، قالا: يُعيدُون جميعًا". ش: أي وقد قال بما ذكرنا من فساد صلاة المأموم بفساد صلاة الإِمام مطلقًا: طاوس بن كيْسان اليماني ومجاهد بن جبر المكي. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن جابر الجعفي، عنهما. فإن قيل: جابر قد تُكلّم فيه. قلت: وثقه جماعة، ولئن سلمنا ضعفه مطلقًا فإنه قد أخرجه استشهادًا للذي يقتضيه النظر الصحيح والقياس. ص: وقد رُوي عن جماعة من المتقدمين ما يُوافِقُ ما ذهَبْنا إليه في اختلاف صلاة الإمام والمأمومين، فمن ذلك: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: "في الرجل يُصلّي بقَوْمٍ هي له الظهر ولهم العصر، قال: يُعيدُون ولا يُعيد". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: سمعتُ يونسَ بن عبيد يَقولُ: "جاء عبادٌ الناجي إلى المسجد في يوم مطرٍ فَوجَدهم يصلون العصر، فصلى معهم وهو يَظنُّ أنهما الظهر، ولم يكن صلى الظهر، فلمّا صلّوا فإذا هى العصر، فأتى الحسن، فسأله عن ذلك فأمره أن يصليهما جميعًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، قال: كان الحسن وابن سيرين يقولان: "يصليهما جميعًا"

قال: وحدثنا أبو مَعْشر، عن النخعي قال: "يصليهما جميعًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيدٌ، قال: عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "يصلي الظهر ثم يُصَلّي العصر". ش: أي: قد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين ما يوافق ما ذهبنا إليه في اختلاف صلاة الإِمام والمأمومين وفساد صلاة المأمومين عند الاختلاف. فأخرج من الصحابة عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، ومن التابعين عن إبراهيم النخعي والحسن البصري ومحمد بن سيرين. أما أثر النخعي فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المُعتمر، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن مغيرة، عن إبراهيم "في رجل يصلي بقوم الظهر وهي له العصر، قال: تمت صلاته ويعيد من خلفه". وأما أثر الحسن البصري فأخرجه من طريقين: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضُّبعَي، عن يونس ابن عُبَيد، عن عباد بن منصور الناجي -بالنون والجيم نسبة إلى ناجية بن سامة قبيلة كبيرة- أبي سلمة البصريّ، فعن يحيى: ليس بشيء وكان يُرمى بالقدر. وقال أبو حاتم: كان ضعيف الحديث. وقال النسائي: ضعيف وليس بحجة استشهد به البُخاري وروى له الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن علية، عن عبّاد بن منصور ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 414 رقم 4766). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 414 رقم 4768).

قال: "انتهيت إلى المسجد الجامع وأنا أرى أنهم لم يصلوا الظهر، فقمتُ أتطوّعُ حتى أقيمت الصلاةُ، فلما صلّوا إذا هي العصرُ، فقمتُ فصليتُ معهم الظهر ثم صليت العصر، ثم أتيت الحسن، فذكرتُ ذلك له، فأمرني بمثل الذي صَنعْتُ". والآخر: فيه عن ابن سيرين أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضُّبعي، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي أسامة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا: "في رجل دخل مع قوم في صلاة العصر وهو يَحْسبهم في صلاة الظهر فإذا هم في صلاة العصر، قالا: يستقبل الصلاتين جميعًا". قوله: "كان يصليهما" أي الظهر والعصر جميعًا، أراد أنه إذا صلى الظهر وراء من يصلي العصر يعيدهما جميعًا. قوله: "وحدثنا أبو معشر" وهو زياد بن كليب أحد مشايخ أبي حنيفة ثقة كبير روى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه بإسناد حسن، عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضُّبعي، عن عبد الله بن عمر بن حَفْص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبي عبد الرحمن القرشي العَدوي العمري المدني. وعن أحمد: لا بأس به يُكتب حديثه. وعن ابن معين: صُويلح، روى له مسلم مقرونًا بغيره، والأربعة. قوله: "يُصلّي الظهر ثم يُصلّي العصر" أراد أنه إذا صلى الظهر وراء من يصلّي العصر فإنه يعيد الظهر والعصر جميعًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 415 رقم 4773).

ص: باب: التوقيت في القراءة في الصلاة

ص: باب: التوقيت في القراءة في الصلاة ش: أي هذا بابٌ في بيان التوقيت في القراءة في الصلاة، وأراد بالتوقيت: التعيين، وهو أن يُعيّن سُورةً لصلاة. والمناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله: أن ما قبله من الأبواب كلها في أحكام الصلوات، والصلوات لا بد لها من قراءة، وهذا الباب في بيان القراءة الموقتة. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن موسى بن عُبَيْدة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في الأضحى والفطر؟ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". ش: أبو عاصم هو النبيل الضحاك بن مخلد، وموسى بن عبيدة بن نشيط الرَّبَذي أبو عبد العزيز المدني، فيه مقال؛ فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وعنه: ليس بثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث وليس بحجة، روى له الترمذي وابن ماجه. ومحمد بن عمرو بن عطاء بن عياش أبو عبد الله المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا وكيع بن الجراح، نا موسى بن عبيدة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬2) و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬3) ". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 408 رقم 1283). (¬2) سورة الأعلى. (¬3) سورة الغاشية.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وإذا اجتمع يوم عيد ويوم جمعة قرأ بهما فيهما". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر فذكر بإسناده مثله. حدثنا روحٌ، قال: ثنا حامدٌ، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شبعة، عن إبراهيم ابن محمد بن المنتشر، عن أبيه محمد بن المنتشر، عن حبيب بن سالم الأنصاري مولى النعمان بن بشير وكاتبه روى له الجماعة، عن النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي الصحابي - رضي الله عنه -، كان أميرًا على الكوفة في عهد معاوية، وقال أبو زرعة الدمشقي: وُلّي قضاء دمشق بعد فضالة بن عُبَيْد، قتُل يومَ راهط سنة خمس وستين. والحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري. وأخرجه النسائي (¬1) بهذا الطريق: عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمع العيد والجمعة فيقرأ بهما فيهما جميعًا". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 112 رقم 1424).

الثاني: عن رَوْح بن الفرج القطان، عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس وشيخ أبي داود، قال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان، عن جرير بن عبد الحميد ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا، عن جرير، قال يحيى: أنا جرير، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يومٍ واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين". الثالث: عن رَوْح أيضًا، عن حامد بن يحيى أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمد بن الصباح، أنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم ابن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". وأخرجه أبو داود (¬3): عن قتيبة بن سعيد، عن أبي عوانة، عن إبراهيم بن محمد ... إلى آخره نحو رواية مسلم. والترمذي أيضًا (¬4): عن قتيبة بن سعيد، عن أبي عوانة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 598 رقم 878). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 408 رقم 1281). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 293 رقم 1122). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 413 رقم 533).

ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا المَسْعودي، عن مَعبد بن خالد، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جُنْدب، عن النبي - عليه السلام - في العيدين مثله، ولم يذكر الجمعة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبيّ، قال: ثنا المَسْعوديّ، فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، عن مَعْبد بن خالدٍ، عن زيد بن عقبة الفزاري .... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق أيضًا وهي صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي، عن مَعْبد بن خالد الجَدلى الكوفي القاضي روى له الجماعة، عن زيد بن عقبة الفزاري الكوفي، قال العجلي والنسائي وابن حبان: تابعيّ ثقة. روى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا المَسْعودي. وحدثنا أبو نعيم، قال: نا المسعودي، عن معبد بن خالد، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جُندب قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب الوهبيّ، عن المسعودي ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث مسْعر، عن معبد بن خالد، عن زيد بن عقبة، عن سمرة: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ}، والغاشية. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 14 رقم 20173). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 201 رقم 5517).

ورواه المسعودي، عن معبد فقال: "في العيدين". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1) أيضًا: عن محمد بن جعفر، عن شعبة بن معبد بن خالد ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: ثنا الحُسين بن إسحاق التستري، نا يحيى الحماني، ثنا هشيم، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سَمرة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". ص: فذهب قوم إلى أن هاتين السورتين هما اللتان ينبغي للإمام أن يقرأ بهما في صلاة العيدين وفي الجمعة مع فاتحة الكتاب ولا يجاوز ذلك إلى غيره، واحتجوا بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكًا، وأحمد، وأبا ثور؛ فإنهم قالوا؛ ينبغي للإمام أن يقرأ بهاتين السورتين في صلاة العيدين، ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وقال أبو عمر في "التمهيد": قال مالك: يقرأ في صلاة العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والشمس ونحوهما، وفي "المغني" ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ}، وفي الثانية بالغاشية، نص عليه أحمد. وقال الشافعي: يقرأ بـ {ق}، و {اقْتَرَبَتِ}؛ ولحديث أبي واقد الليثي على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. وقال ابن حزم في "المحلى": واختيارنا هو اختيار الشافعي وأبي سليمان. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 7 رقم 20092). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 183 رقم 6773).

وأما صلاة الجمعة فقد قال أبو عمر: اختلف الفقهاء فيما يقرأ في صلاة الجمعة؛ فقال مالك: أَحبُّ إليَّ أن يقرأ الإِمام في الجمعة بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع سورة الجمعة، وقال مرة أخرى: أما الذي جاء به الحديث فـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع سورة الجمعة، والذي أدركت عليه الناس بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. قال أبو عمر: تحصيل مذهب مالك أن كلتا السورتين قراءتهما حسنة مستحبة مع سورة الجمعة في الركعة الثانية، وأما الركعة الأولى فسورة الجمعة ولا ينبغي للإمام عنده أن يترك سورة الجمعة، فإن فعل وقرأ بغيرها فقد أساء وبئس ما صنع، ولا تفسد عليه بذلك صلاته. وقال الشافعي وأبو ثور: يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬1). واستحب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وداود بن علي، أن لا تترك سورة الجمعة على كل حال. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس في ذلك توقيت بعينه لا ينبغي أن يُجاوز إلى غيره ولكن للإمام أن يقرأ بهما وله أن يُغيرهما. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأصحابه والثوري؛ فإنهم قالوا: ليس في العيدين ولا في الجمعة قراءة بسورةٍ مُعينةٍ بحيث لا تُجاوز إلى غيرها، ولكن للإمام أن يقرأ في العيدين وفي الجمعة بالسورتين المذكورتين وله أن يقرأ غيرهما، وكذا في الجمعه له أن يقرأ بسورة الجمعة و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (1) وله أن يقرأ غيرهما؛ وذلك لاختلاف الآثار عن النبي - عليه السلام - باختلاف السور في هذه الصلوات، وكذلك عن الصحابة ومن بعدهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ} ¬

_ (¬1) سورة المنافقون.

{اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من المفصل"، وكان أبان بن عثمان - رضي الله عنهما - يقرأ فيهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن أبا بكرة وابن مرزوق قد حدّثانا، قالا: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي واقد قال: "سألني عمر- رضي الله عنه -: بم قرأ رسول الله - عليه السلام - في العيدين؟ قلت: {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ضمرة، عن عبيد الله بن عبد الله: "أن عمر - رضي الله عنه - سأل أبا واقد ... " فذكر مثله. فهذا أبو واقد قد أخبر عن النبي - عليه السلام - أنه قرأ في العيد بغير ما أخبر به من روى الآثار الأُوَل. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه من عدم التوقيت في القراءة في صلاة العيدين، حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث؛ وذلك لأن أبا واقد قد أخبر في حديثه أن النبي - عليه السلام - قرأ في العيدين بقاف و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}، وهذا خلاف ما رُوي في الأحاديث الأُوَل، فدل ذلك على عدم التوقيت. واحتج الشافعي لهذا الحديث على تعيين هاتين السورتين في العيدين، فكأنه نظر إلى أن هذا الحديث أصح من الحديث الذي فيه ذِكر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وإليه ذهب ابن حزم، وقال: لم يصح عن رسول الله - عليه السلام - شيء غير هذا الحديث. وأراد به حديث أبي واقد المذكور، ولكن الذي ذكره ابن حزم غير

صحيح؛ لأن حديث النعمان بن بشير قد أخرجه مسلم والأربعة كما ذكرناه (¬1)، وقال أبو عمر: وليس في هذا الباب أثر مرفوع إلا حديث أبي واقد، وحديث سمره بن جندب، وحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهم -، وفي اختلاف الآثار في هذا الباب دليل على أن لا توقيت فيه، والله أعلم. ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقين رجالهما رجال الصحيح ما خلا مشايخ الطحاوي، ولكن الأول متصل الإسناد والثاني مرسل. الأول: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق كلاهما، عن أبي عامر العَقدي عبد الملك بن عمرو، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة أبي يحيى المدني روى له الجماعة، عن ضمرة بن سعيد بن أبي حُنّة -بالنون، وقيل: بالباء الموحدة- الأنصاري المدني روى له الجماعة سوى البخاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬2): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: نا أبو عامر العقدي، قال: نا فليح، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي واقد الليثي قال: "سألني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عمّا قرأ به رسولُ الله - عليه السلام - في يوم العيد، فقلتُ: بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ". الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وهذا مرسل؛ لأن عبيد الله لا سماع له من عمر بن الخطاب. وقال ابن حزم في "المحلى": عبيد الله أدرك أبا واقد الليثي وسمع منه، ولكن لا سماع له من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 607 رقم 891).

وكذا أخرجه الأربعة مرسلًا. فأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبا واقدٍ الليثي ماذا كان يقرأ به رسول الله - عليه السلام - في الأضحى والفطر؟ قال: كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ". والترمذي (¬2): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن مَعْن بن عيسى، عن مالك ... إلى آخره. والنسائي (¬3): عن محمد بن منصور، عن سفيان، قال: حدثني ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "خرج عمر - رضي الله عنه - يوم عيدٍ، فسأل أبا واقد الليثي: بأي شيء كان النبي - عليه السلام - يقرأ في هذا اليوم؟ فقال: بـ {ق}، و {اقْتَرَبَتِ} ". وابن ماجه (¬4): عن محمد بن الصباح، عن سفيان، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "خرج عمر يوم عيدٍ، فأرسل إلى أبي واقد الليثي: بأي شيء كان النبي - عليه السلام - يقرأ في مثل هذا اليوم؟ قال: بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ} ". فإن قيل: كيف سأل عُمرُ - رضي الله عنه - عن هذا ومثله لا يخفى عليه هذا؟ قلنا: لعله اختبار له هل حفظ ذلك أم لا؟ أو يكون دخل عليه شك أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والغاشية، فأراد عمر- رضي الله عنه - الاستشهاد عليه بما سمعه أيضًا أبو واقد - رضي الله عنه -. فإن قيل: ما الحكمة في قراءتهما - عليه السلام - في العيدين؟ ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 300 رقم 1154). (¬2) "جامع الترمذي" (415/ 2 رقم 534). (¬3) "المجتبى" (3/ 183 رقم 1567). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 408 رقم 1282).

قلت: لكونهما مشتملتين على الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر، والله أعلم. ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قرأ في الجمعة بغير ما ذكرنا عنه أيضًا في الآثار الأُوَل، فمما روى عنه في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله: "أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: ماذا كان يَقرأُ به النبي - عليه السلام - يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال: كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ضمرة ابن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله: "أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: ما كان النبي - عليه السلام - يَقرأُ به في الجمعة؟ قال: سورة الجمعة و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان عن مخوّل بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي - عليه السلام - مثله. فلما جاء عن النبي - عليه السلام - في هذه الآثار أنه قرأ في العيدين والجمعة غيرَ ما جاء في الآثار الأُوَل لم يجب أن نحمل ذلك على التضادّ والتكاذب، ولكنا نحمله على الاتفاق والتصادق، فنجعل ذلك كله قد كان من النبي - عليه السلام -، فقرأ بهذا مرةً وبهذا مرةً، فحَكَى عنه كل فريقٍ من الفريقين ما حضره منه، ففي ذلك دليل على أن لا توقيت للقراءة في ذلك، وأن للإمام أن يقرأ في ذلك مع فاتحة الكتاب أيَّ القرآن شاء.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الآثار في هذا الباب مختلفة، فينبغي أن نحمل ذلك على اختلاف الأوقات؛ دفعًا للتضاد والتخالف، فإذا حملنا على ذلك ينفى أن يكون توقيتٌ للقراءة، ويدل على أن للإمام أن يقرأ ما شاء من القرآن مع فاتحة الكتاب. قوله: "فمما روي عنه في ذلك" أي فمن الذي روى عن النبي - عليه السلام - في القراءة في الجمعة وأخرج في ذلك عن النعمان بن بشير وأبي هريرة وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -. أما حديث النعمان فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن الضحاك بن قيس بن خالد الفهري وُلد قبل وفاة النبي - عليه السلام - بست سنين أو نحوها، وكان عاملًا لعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، قُتِل بمرج راهط من أرض دمشق في قتاله لمروان سنة سبع وعشرين ومائة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عمرو الناقد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ضمرة ... إلى آخره نحوه. والآخر: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن مالك بن أنس ... إلي آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 598 رقم 878). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 293 رقم 1123). (¬3) "المجتبى" (3/ 112 رقم 1432). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 355 رقم 1119).

وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيَينة، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبي عبد الله المدني الصادق أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أبي جعفر الباقر روى له الجماعة، عن أبي رافع مولى رسول الله - عليه السلام - واسمه إبراهيم، وقيل: أسلم. ثم اعلم أنه قد وقع في رواية الطحاوي كما ترى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي رافع، وهكذا وقع في بعض نسخ مسلم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": ذكر في سند هذا الحديث: ثنا عبد الله ابن مسلمة، ثنا سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، عن ابن أبي رافع كذا لهم. وعند العذريّ في كتاب "الصَّدَفي "وبعض النسخ الماهانية: عن أبي رافع، وهو وهم والصواب ابن أبي رافع، واسمه عبيد الله، وهو ابن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام - كما جاء مسمًّى في حديث قتُيْبة بعده. قلت: حديث قتيبة هو ما رواه مسلم (¬1): نا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: نا حاتم بن إسماعيل. ونا قتيبة، قال: نا عبد العزيز -يعني الدراورديّ- كلاهما، عن جعفر، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: "استخلف مروان أبا هريرة ... " بمثله، غير أن في رواية حاتم: "فقرأ بسورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} "، ورواية عبد العزيز مثل حديث سليمان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 598 رقم 877).

قوله: "بمثله" أي بمثل الحديث الذي ذكره أولًا، وهو ما رواه عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا سليمان -وهو ابن بلال- عن جعفر، عن أبيه، عن ابن أبي رافع قال: "استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلتُ: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقرأ بهما يوم الجمعة"، وأخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا، وفي رواية الجميع: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع. وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن مُخوّل بن راشد -وهو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو- عن مُسْلم البطين -بفتح الباء الموحدة ... - إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عَبْدَة بن سليمان، قال: ثنا سفيان، عن مخول، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} (¬5) السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬6)، وأن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 293 رقم 1124). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 396 رقم 519). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 355 رقم 1118). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 599 رقم 879). (¬5) سورة السجدة. (¬6) سورة الإنسان.

ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحمانيُّ، قال: ثنا أبو عَوانةَ وشريك، عن مُخوّل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (ح). وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحمانيّ، قال: ثنا شريكٌ، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح {الم (1) تَنْزِيلُ} (¬1) و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬2) ". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن أسلم، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عَزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. فليس في ذلك دليلٌ على أنه كان لا يجاوز ذلك إلى غيره؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يُحْكَ عنه أنه قال: لا تقرؤا القرآن في صلاة الغداة يوم الجمعة مع فاتحة الكتاب غير هاتين السورتين، حتى لا يجوز خلاف ذلك، ولكن إنما أخبر مَنْ رواها عن النبي - عليه السلام - أنه كان يَقْرأ بهما فيهما كما أخبر النعمانُ وابنُ عباس أن رسول الله - عليه السلام - كان يقرأ في العيدين بما ذكرنا، ثم قد جاء عن غيرهما أنه قرأ بخلاف ذلك؛ لأنه قرأ بهذه مرةً وهذه مرةً فكذلك ما حُكي عنه من القراءة في صلاة الصبح يوم الجمعة يحتمل أن يكون قرأ به مرةً أو قرأ به مرارًا، ثم قرأ بغيره، فيحكي كلُّ مَنْ حضره بما سمع من قراءته، وليس في ذلك دليل على حكم التوقيت، وجميع ما ذهبنا إليه في هذا الباب هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: هذه ثلاث طرق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورجالها كلهم ثقات، إلا أن في روح بن أسلم الباهلي مقالًا (¬3). الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي عَوانة الوضاح اليشكري وشريك النخعي كلاهما، عن مخول بن راشد، عن مسلم البطين ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة السجدة. (¬2) سورة الإنسان. (¬3) وفي شريك والحماني أيضًا مقال كثير.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبةُ، قال: ثنا أبو عوانة. وأنا علي بن حُجْر، قال: أنا شريك -واللفظ له- عن المخوّل بن راشد، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة (¬2) و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬3) ". الثاني: عن فهد أيضًا، عن الحمّاني أيضًا، عن شريك أيضًا، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السِبيعي، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4) نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن أسلم، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن عزْرَة بن عبد الرحمن الكوفي الأعور، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، نا عبد الصمد بن عبد الوارث، نا همام، عن قتادة، عن عَزْرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة بـ {تَنْزِيلُ} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} ". قوله: "فليس في ذلك ... " إلى آخره، ظاهرٌ غنيّ عن مزيد البيان، ملخصه: أن الراوي أخبر مثل ما شاهده عن النبي - عليه السلام - ثم جاء راوٍ آخر بخلاف ذلك بحسب ما شاهده أيضًا، وليس بينهما تنافي؛ لأنه - عليه السلام - قد قرأ بهذه مرةً، وبهذه أخرى، فليس في ذلك دليل على التعيين لا قولًا ولا فعلًا، فإذا كان الأمر كذلك تكون دعوى التوقيت والتعيين في ذلك دعوى لا برهان عليها، فافهم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 159 رقم 956). (¬2) سورة السجدة. (¬3) سورة الإنسان. (¬4) "مسند أحمد" (1/ 307 رقم 2800).

ص: باب: صلاة المسافر

ص: باب: صلاة المسافر ش: أي هذا باب في بيان صلاة المسافر، وهو على وزن مفاعل ولكنه بمعنى فاعل؛ لأن مسافر بمعنى سفَر وليْس هذا الباب على أصله؛ لعدم المعنى المقتضي لمشاركة اثنين كما هو وضع باب المفاعلة، ولما كان للمكلّف حالتان: حالة الإقامة، وحالة السفر، وبيّن أحكام صلاته في حالة الإقامة، شرع يُبين أحكام صلاته في حالة السفر. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المُعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء بن أبي رياح، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قصر النبي - عليه السلام - في السفر وأتمّ". ش: الحَسنُ بن بشر بن سلم البجلي الكوفي شيخ البخاري، والمُعافى بن عمران الأزدي أبو مسعود الموصلي، قال يحيى والعجلي وأبو حاتم: ثقة. روى له البخاري وأبو داود والنسائي، ومغيرة بن زياد البجلي أبو هشام الموصلي قال وكيع: كان ثقة. وعن أحمد: مضطرب الحديث. وعن يحيى: ثقة. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: شيخ لا يحتج بحديثه. وروى له الأربعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): نا المحاملي، نا سعيدُ بن محمد بن ثواب، ثنا أبو عاصم، ثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يَقصر في السفر ويُتم، ويفطر ويصوم". وقال الدارقطني: إسناده صحيح. وقال البيهقي بعد أن أخرجه في "سننه" (¬2): وله شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمرو، وكلهم ضعيف. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 189 رقم 44). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 141 رقم 5206).

ثم أخرج (¬1) من حديث عبيد الله بن موسى، نا دلهم بن صالح الكندي، عن عطاء، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنا نصلي مع النبي - عليه السلام - إذا خرجنا إلى مكة أربعًا حتى نرجع". ومن حديث الكديمي (¬2)، عن الخُرَيبي، عن المغيرة بن زياد عن عطاء، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقصر في السفر ويتم" وقال: وكذا رواه وكيع وغيرُه عن المغيرة. قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) بأتمّ منه: ثنا وكيع، قال: ثنا المغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يُتم الصلاة في السفر ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء". ص: فذهب قوم إلى أن المسافر بالخيار إن شاء أتم صلاته وإن شاء قصرها واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وبما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن مُنيَّة قال: "قلت: لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما قال الله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4) فقد أمِن الناس. فقال: إني عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله - عليه السلام -، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا قلابة عبد الله بن زيد الجرْميَّ وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: القصر رخصة والمسافر مخيّر بين الإتمام، واحتجوا في ذلك بحديث عائشة المذكور. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 141 رقم 5207). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 141 رقم 5207). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 206 رقم 8187). (¬4) سورة النساء: آية [101].

وقال ابن قدامة في "المغني": المشهور عن أحمد أن المسافر إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أتم. وروى عنه أنه توقف وقال: أنا أحب العافية من هذه المسألة. وممن رُوي عنه الإتمام في السفر: عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -، وبه قال الأوزاعي والشافعي، وهو المشهور عن مالك. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له الإتمام في السفر. وهو قول الثوري وأبي حنيفة، وأوجب حماد الإعادة على من أتمّ. قوله: "وبما حدثنا أبو بكرة" أي واحتجوا أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي بكرة بكار الذي رواه عن رَوْح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن، بن عبد الله بن أبي عمار القرشي المكي، وكان يُلقّب بالقس؛ لعبادته، روى له الجماعة سوى البخاري، عن عبد الله بن باباه -ويقال بَابَيْ، ويقال: بابَيْه- المكي روى له الجماعة سوى البخاري، عن يَعْلى بن مُنَيّة وهي أمه، وهو يعلى بن أُميّة بن أبي عبيده أبو صفوان المكي أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينًا وتبوك مع رسول الله - عليه السلام -، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم- قال إسحاق: أنا وقال الآخرون: ثنا- عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمّار، عن عبد الله بن بابَيْه، عن يعلى بن أُميّة قال: قلت لعمر بن الخطاب ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 478 رقم 686).

أخرجه الأربعة (¬1) وابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬2) ولفظه: "فاقبلوا رخصته". قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (¬3) أي إثم وخطيئة، وقال الزمخشري: لما كانوا ألفوا الإتمامَ فكانوا مظنة لأن يخطروا ببالهم أن عليهم نقصانًا في القصر، فنفى الله عنهم الجناح؛ لتطيب أنفسهم بالقَصْر ويطمئنوا إليه وقرئ: "تقصروا" من أقصر، وقرأ الزهري: تقصّروا بالتشديد. والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصةً وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) وأما في حال الأمن فبالسنّة، وسيجيء مزيد كلام في هذه الآية الكريمة عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: "صدقة" قال الجوهري: الصدقة ما تصدق به على الفقراء. ويستفاد منه أحكام: احتج به القوم المذكورين أن القصر رخصة وليس بعزيمة. قلنا: الحديث دليل لنا؛ لأنه أمر بالقبول فلا يبقى له خيار الردّ شرعًا؛ إذ الأمر للوجوب. فإن قيل: المتصدق عليه يكون مختارًا في قبول الصدقة كما في المتصدق عليه من العباد. قلنا: معنى قوله: "تصدق الله بها عليكم" حكم عليكم؛ لأن التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط كالعفو من الله. وفيه: جواز قول الرجل: تصدق الله علينا، واللهم تصدق علينا، وهذه النعمة صدقة الله تعالى، وقد كره ذلك بعض السلف وهو غلط ظاهر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 3 رقم 1199)، و"جامع الترمذي" (5/ 242 رقم 3034)، و"المجتبى" (3/ 116 رقم 1433)، و "سنن ابن ماجه" (1/ 339 رقم 1065). (¬2) "صحيح ابن حبان" (6/ 449 رقم 2740). (¬3) سورة النساء، آية: [101].

وفيه: جواز القصر في غير الخوف وأن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل عملًا يُشْكِل عليه دليله يَسأله عنه، فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي له أن يزيد على اثنتين، وإن زاد تكون نفلًا، فإن أتم الصلاة فإن كان قعد في الثنتين من الظهر والعصر والعشاء قدر التشهد فصلاته تامّة، وإن كان لم يقعد منهما قدر التشهد فصلاته باطلةً. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: حماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية ومالكًا في قولٍ؛ فإنهم قالوا: القصر عزيمة وليس برخصة حتلى لو أتمها ولم يقعد على آخر الثانية من ذوات الأربع مقدار التشهد تكون صلاته باطلة. وقال الجصاص في "أحكامه": فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث، فإن صلى المسافر أربعًا ولم يقعد في الاثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيها مقدار التشهد تمت صلاته، بمنزلة من صلى الفجر أربعًا بتسليمة، وهو قول الثوري. وقال حماد بن أبي سليمان: إذا صلى أربعًا أعاد. وقال الحسن: إذا صلى أربعًا متعمدًا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإذا طال في سفره لم يُعِدْ. قال: فإذا افتتح الصلاة على أنه يصلي أربعًا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على الركعتين، وإن صلى ركعتين وتشهد ثم قام بَدا له أن يُتم فيصلي أربعًا أعاد، وإن نوى أن يصلي أربعًا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزأته وقال مالك: إذا صلى المسافر أربعًا فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه.

وقال الأوزاعي: يصلي المسافر ركعتين، فإن قام إلى الثالثة وصلاّها فإنه يُلغيها ويسجد سجدتي السهو. وقال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبو الفرج عن مالك قال: ومن أتم في السفر أعادها مقصورة ما دام في وقتها إلا أن ينوي مقامًا فيعيدها كاملة ما دام في وقتها. قال: ولو صلى مسافر بمسافرين فسها فقام ليُتمها، فليجلسْ من وراءه حتى يسلموا بسلامه وعليه إعادة الصلاة ما دام في الوقت. قال القاضي أبو الفرج: أحسب أنه ألزم هذه الإعادة لأنه سبّح به فتمادى في صلاته عامدًا عالمًا بذلك، وأما إن كان ساهيا فلا وجه بالأمر بإعادته؛ لأنه بمنزلة مقيم صلى الظهر خمسا ساهيًا فلم يكن عليه إعادة، وذكر ابن خوازمنداد أن مالكًا قال: إن القصر في السفر مسنون غير واجب وهذا قول الشافعي. قال أبو عمر: في قول مالك: إن من أتم في السفر لم تلزمه الإعادة إلا في الوقت. دليل على أن القصر عنده ليس بفرض. وقد حكى أبو الفرج في كتابه عن أبي المصعب، عن مالك قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة. وقال أبو عمر: وهذا أصح ما في هذه المسألة عن مالك، وذلك أصح الأقاويل فيها من جهة النظر والأثر، وبالله التوفيق. انتهى. قلت: ذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار إلى، أن القصر واجب وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس - رضي الله عنهم -، ورُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن، وقال الخطابي: والأولى أن يقصر المسافر الصلاة؛ لأنهم أجمعوا على جوازها إذا قصروا، واختلفوا فيها إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من الحديثين اللذين ذكرناهما في أول هذا الباب: أن ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أبو عمر الحوضيّ، قال: ثنا مُرجّى بن رجاء، قال: ثنا داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "أولُ ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله - عليه السلام - إلى المدينة صلى إلى كل صلاةٍ مثلها إلا المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى". فهذه عائشة - رضي الله عنها - تخبر أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ركعتين حتى قدم المدينة فصلى إلى كل صلاة مثلها، وقد كان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى، فأخبرت أنه كان يصلي في سفره كما كان يصلي قبل أن يؤمر بتمام الصلاة وذلك ركعتان، فذلك خلاف حديث فهدٍ الذي ذكرناه في الفَصْلِ الأول "أن رسول الله - عليه السلام - أتمّ اصلاة في السفر وقصر". ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى في الذي احتجوا به على الآخرين من حديث عائشة وحديث يَعْلى بن منيّة: أن إبراهيم بن أبي داود البرلسي قد حدثنا، قال: ثنا أبو عمر حفص بن عمر الحوضيّ شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض محلة بالبصرة، عن مُرجَّى بن رجاء اليشكري أبي رجاء البصري، فعن يحيى: ضعيف. وعن أبي زرعة: ثقة. واستشهد له البخاري بحديث واحد في أكل التمر يوم العيد. عن داود بن أبي هند أبي محمد البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة - رضي الله عنها - وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 363 رقم 1579).

قالت: "إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم نبيُّ الله - عليه السلام - المدينة واطمأنَّ زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر النهار وصلاة الغداة لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى". وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": هو من رواية بكار بن عبد الله السَّيريني، وهو واهٍ. انتهى. قلت: طريق الطحاوي جيّد حسن. فإن قيل: كيف يكون جيدًا وقد ضعف يحيى مُرجّى بن رجاء. قلنا: فقد وثقه أبو زرعة، وقال أبو داود: صالح. واستشهد له البخاري وبهذا تثبت الجودة والحسن لحديثه، وهذا القدر كافٍ في الاحتجاج به. على أنه يُؤيده ما رواه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) بأسانيدهم، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". قوله: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" قيل: معناه أي أول ما قُدِّرت قُدِّرت ركعتين، ثم تُركت صلاة السفر على هيئتها في المقدار لا في الإيجاب، والفرض في اللغة بمعنى التقدير. وقال أبو إسحاق الحربيُّ: إن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاةً قبل طلوعها، ويشهد له قوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬5). وقال يحيى بن سلام مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1431 رقم 3720). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 478 رقم 685). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 3 رقم 1198). (¬4) "المجتبى" (1/ 225 رقم 455). (¬5) سورة غافر، آية: [55].

وقد كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام، فعلى هذا يُحمل قول عائشة - رضي الله عنها - في رواية البخاري ومن معه: "وزيد في صلاة الحضر" أي زيد فيها حتى تكملت خمسًا، فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات، ويكون قولها: "فرضت الصلاة ركعتين" أي قبل الإسراء. وقد قال بهذا طائفة من السلف منهم ابن عباس، وقال بعضهم: لم يُوجَد هذا في أثر صحيح. وقال بعضهم: يجوز أن يكون معنى "فرضت الصلاة" أي ليلة الإسراء حين فرضت الصلوات الخمس فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك كما تشير إليه رواية الطحاوي هذه، وممن قاله هكذا: الحسن والشعبي فقالا: إن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقد قيل: فرضت الصلاة ركعتين يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أربعًا فله ذلك. وقال الخطابي: هذا قول عائشة عن نفسها وليست برواية عن رسول الله - عليه السلام - ولا حكايته عن قوله - عليه السلام - وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك عن قوله، فيحتمل أن يكون الأمر في ذلك كما قالاه؛ لأنهما عالمان فقيهان قد شهدا زمان رسول الله - عليه السلام - وصحباه، وإن لم يكونا شهدا أول زمان الشريعة وقت فرض الصلاة على النبي - عليه السلام - فإن الصلاة فرضت علية بمكة، ولم تلق عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - عليه السلام - إلا بالمدينة، ولم يكن ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك الزمان مَنْ يعقل الأمور ويعرف حقائقها، ولا يَبْعد أن يكون قد أخذ هذا الكلام عن عائشة فإنه قد يفعل ذلك كثيرًا في حديثه، وإذا فتّشت عن أكثر ما يَرْويه كان ذلك سماعًا من الصحابة - رضي الله عنهم -، وإذا كان كذلك فإن عائشة نفسها قد ثبت عنها أنها كانت تُتم في السفر فتصلي أربعًا.

وقال النووي -رحمه الله-: معنى فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وثبتت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع، ثم ذكر تتميم عائشة الصلاة في السفر، وكذلك عثمان، وقول عروة: إنها تأولت كما تأول عثمان - رضي الله عنه -. وقال: اختلف العلماء في تأويلهما، فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزًا والإتمام جائزًا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام. وقيل: لأن عثمان - رضي الله عنه - إمام المؤمنين وعائشة أمّهم فكأنهما في منازلهما. وأبطله المحققون بأن النبي - عليه السلام - كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وقيل: لأن عثمان تأهل مكة، وأُبطل بأن النبي - عليه السلام - سافر بأزواجه وقصر، وفيه نظر. وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنون أن فرض الصلاة ركعتان ابتداءًا حضرًا وسفرًا. وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودًا في زمن النبي - عليه السلام - بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان. وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج. وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث. وقيل: كان لعثمان أرض بمنى. وأبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة. وقال أبو عمر: قول عائشة - رضي الله عنها -: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" قولٌ ظاهر العموم والمراد به الخصوص، ألا ترَى أن المغرب غير داخلة في قوله:

"فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"، وكذلك الصبح؛ لأنه معلوم أن الصبح لم يَزد فيها ولم ينقص منها وأنها في الحضر والسفر سواء قوله: "فهذه عائشة تخبر ... " إلى آخره، أراد أن الذي يفهم من كلام عائشة أن الأصل في الصلاة هو ركعتان وأنه هو كان عزيمةَ، وأن الرجل إذا سافر يأخذ بتلك العزيمة ويرى القصر عزيمة كما كان في الأصل، ألا ترى كيف تقول عائشة: "وقد كان - عليه السلام - إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى" يعني عاد إلى تلك العزيمة، فأخبرت أنه - عليه السلام - كان يُصلّي في حالة السفر كما كان يصلي قبل أن يؤمر بإتمام الصلاة وهي ركعتان. قوله: "فذلك خلاف حديث فهد" أي ما روته عائشة خلاف ما رواه فهد، عن الحسن بن بشر، عن المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة، أراد أن بين حديثي عائشة تخالف وتضادّ، ولم يذكر الطحاوي وجه التوفيق بينهما ولا وجه ترجيح أحدهما على الآخر، فنقول: إن حديث فهد لا يساوي حديث ابن أبي داود هذا؛ لأن في حديث فهد المغيرة بن زياد؛ وقد قال أبو زرعة وأبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه. وقال أحمد: مضطرب الحديث. فإن قيل: ففي حديث ابن أبي داود مُرجّى بن رجاء وهو أيضًا ضعيف عند قوم. قلت: هو فوق المغيرة بن زياد ولهذا استشهد به البخاري كما ذكرناه، ولئن سلمنا أنهما متساويان أو أن المغيرة فوق مُرجَّى بن رجاء، أو أن حديث فهد أصح من حديث ابن أبي داود، ولكن معناه قصر في الفعل وأتم في الحكم، كقول عمر- رضي الله عنه - في صلاة السفر: "ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم - عليه السلام -" فافهم. ص: وأما حديث يَعْلى بن مُنْيَة فإن أهل المقالة الأولى احتجوا بالآية المذكورة فيه، وهى قول الله -عز وجل-: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا

مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1)، قالوا: فذلك على الرخصة من الله -عز وجل- لهم في التقصير لا على الحَتْم عليهم بذلك، وهي كما في قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (¬2) فذلك على التوسعة منه لهم في المراجعة لا على إيجاب ذلك عليهم، فكان من حجتنا عليهم لأهل المقالة الأخرى أن هذا اللفظ قد يكون على ما ذكروا وقد يكون على غير ذلك، قال الله -عز وجل-: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬3) وذلك على الحتم عند جميع العلماء؛ لأنه ليس حجَّ أو اعتمر مَنْ لا يطوف بهما، فلما كان نفي الجناح قد يكون على التخيير وقد يكون على الإيجاب؛ لم يكن لأحد أن يَحْمل ذلك على أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليلٍ عليه من كتاب الله أو سنة أو إجماع. ش: بيان احتجاج أهل المقالة الأولى بالآية الكريمة المذكورة في حديث يعلى بن منية هو أن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1) دليل الرخصة؛ لأن لفظة: "لا جناح" تستعمل في المباحات والرُّخص دون الفرائض والعزائم، وذلك كما في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (¬4) فإن ذلك أيضًا على التوسعة والإباحة في المراجعة لا على الإيجاب واللزوم. وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "فكان من حجتنا عليهم" أي على أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية، وتقريره أن يقال: لا نُسلِّم أن لفظة: "لا جناح" تستعمل في المباحات دائمًا، وإنما هي تستعمل في الإباحة، وتستعمل في الإيجاب أيضًا كما في قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3)، فإن ذلك على الحتم والإيجاب عند جميع العلماء؛ لأنه ليس ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [101]. (¬2) سورة البقرة، آية: [230]. (¬3) سورة البقرة، آية [158]. (¬4) سورة البقرة، آية: [230].

لأحد ممن يحج أو يعتمر أن يترك الطواف بهما، فإذا كان قوله: "لا جناح" دائرًا بين الإيجاب ونفيه؛ لم يكن لأحد أن يحمل معناه على الوجوب أو على عدم الوجوب إلا بدليل يدل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فنظرنا في ذلك؛ فوجدنا الآثار والأحاديث قد تواترت وتكاثرت بأنه - عليه السلام - قد قصر الصلاة في أسفاره؛ فباتت قرينةً على أن نفي الجناح في الآية المذكورة على الإيجاب. ص: وقد جاءت الآثار المتواترة عن رسول الله بتقصيره في أسفاره كلها، فمما رُوي عنه في ذلك: ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَير، قال: سمعت حبيبَ بن عبيد يُحدِّث عن جبير بن نفير، عن ابن السمط قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "رأيتُ رسول الله - عليه السلام - صلى بذي الحليفة ركعتين". ش: أي: قد جاءت الأحاديث المتكاثرة عن النبي - عليه السلام - بأنه كان يقصر في الصلاة في جميع أسفاره. فمما روي عن النبي - عليه السلام - في ذلك حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يزيد بن حميد بن يزيد الرحبي، أبي عمر الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن حبيب بن عبيد الرحبي، أبي حفص الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن جبير بن نفير -كلاهما بالتصغير- الحضرمي أبي عبد الله الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن شرحبيل بن السمط الكندي، أبي السمط الشامي، مختلف في صحبته، ذكره في "الكمال" من التابعين، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، روى له الجماعة سوى البخاري.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا زهير بن حرب ومحمد بن بشار جميعًا، عن ابن مهدي- قال زهير: ثنا عبد الرحمن بن مهدي- قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَير، عن حبيب بن عبيد، عن جُبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعل". وحدثنيه (¬2) محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة بهذا الإسناد وقال: عن ابن السمط ولم يُسمّ شرحبيل وقال: "إنه أتى أرضًا يقال لها دومين، من حمص على رأس ثمانية عشر ميلًا" وأخرجه النسائيُّ (¬3) أيضًا. قوله: "بذي الحليفة" هي ميقات أهل المدينة وأهل الشام اليوم، بينها وبين المدينة ستة أميال، ويقال سبعة. وقد احتج به بعض الظاهرية أنه يجوز التقصير في السفر الطويل وقصيره. وقال ابن حزم: ومن خرج عن بيوت مدينته أو قريته أو موضع سكناه، فمشى ميلًا فصاعدًا صلى ركعتين، فإن مشى أقل من ميل صلى أربعًا. وقال القاضي عياض: ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذا إنما كان في - عليه السلام -، وهو مفسر في الأحاديث الصحيحة في تمام هذا الحديث عن أنسٍ وغيره، فإنما قصر في سفرٍ طويل، والله أعلم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني سليمان، عن عمارة بن عمير أو إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: "صلينا مع رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 481 رقم 692). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 481 رقم 692). (¬3) "المجتبى" (3/ 118 رقم 1437).

ومع عمر ركعتين، فليتَ حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله مثله، غير أنه لم يذكر قول عبد الله: "فليت حظي ... " إلى آخر الحديث. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم في السفر ويُفطِر ويصلي الركعتين لا يَدعهما" يعني لا يزيد عليهما. ش: هذه ثلاث أسانيد وهي صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عُمارة بن عمير التَّيمي الكوفي روى له الجماعة. أو عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا عبد الواحد، عن الأعمش، قال: ثنا إبراهيم، قال: سمعمت عبد الرحمن بن يزيد يقول: "صلى بنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، فليتَ حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 368 رقم 1034). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 483 رقم 695). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 199 رقم 1960).

قوله: "بمنى" وهي قرية تذبح بها الضحايا وترمى بها الجمرات. وقال أبو بكر الحازمي: هي تقع قرب مكة. وقال أبو نصر: موضع بمكة مقصور مذكر يُصرف، وقد امتنى القوم إذا أتوا منى. وقال ابن الأعرابي: أمنى القوم. وقال ابن خزيمة: ليست مني ولا عرفات من مكة بل هما خارجان من مكة. قلت: إذا وقع اسم مكة على جميع الحرم تكون مني من مكة؛ لأن مني داخل في الحرم، وإذا وقع على نفس البنيان المتصل بعضه ببعض خاصةً يكون منى خارجًا عنها؛ ولكن الأول أظهر، ولهذا الحرم كله قبلة لأهل الآفاق. وقال الكلبي: سميت مني لأنه مني بها الكبش الذي فُديَ به إسماعيل - عليه السلام - فيكون من المنية، ويقال: سميت مني لما يمنى فيها من الشعر والدم. ويقال: إن جبريل - عليه السلام - لما أتى آدم - عليه السلام - بمنى قال له: تَمَنَّ. وقال أبو علي الفارض: لامه "ياء" من منيت الشيء إذا قدرته، وهي تذكر وتؤنث، فمن أنّثَ لم يجره ويقول هذه مني، وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير. وذكره القزاز وصاحب الوافي وصاحب "الصحاح" في المعتل بالألف. وبين مني ومكة ثلاثة أميال، وبين مني والمزدلفة فرسخ وبين المزدلفة وبين عرفات فرسخ فتكون المزدلفة متوسطة بين مني وعرفات، وبين عرفات وبين مكة أربعة فراسخ، ويقال: الأصح ثلاثة فراسخ. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ... إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صلى عثمان بمنى أربعًا، فقال عبد الله: صليتُ مع النبي - عليه السلام - ركعتين ومع أبي بكر - رضي الله عنه - ركعتين ومع عمر- رضي الله عنه - ركعتين". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام بن حرب روى له الجماعة، عن حماد بن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): عن محمد بن عبد الرحيم ومحمد بن سعيد كلاهما، عن روح بن عبادة ... إلى آخره، ولكنه اقتصر على حكم الصوم، وقال: هذا الحديث لا نعلم رواه عن عبد السلام هذا إلا ابن أبي عروبة ولا نعلم يُرْوَى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "سافرت مع رسول الله - عليه السلام - فأقام تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن شُفَيِّ قال: "جعل الناسُ يسألون ابن عباس عن الصلاة، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا خرج من أهله لم يصل إلا ركعتين حتى يَرْجع إليهم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أقام حيث فتح مكة خمسَ عشرةَ يقصر الصلاة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 378 رقم 3593). (¬2) "مسند البزار" (4/ 350 رقم 1549).

ش: هذه أربعة أسانيد صحاح: الأول: عن محمد بن عمرو، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه الجماعة غير مسلم. فقال البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبو عوانة، عن عاصم، وحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "أقام النبي - عليه السلام - تسعة عشر يومًا يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدْنا أتممنا". وقال أبو داود (¬2): نا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة -المعنى واحد- قالا: نا حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة، قال ابن عباس: ومن أقام سبع عشرة قصرَ ومن أقام أكثر أتمّ". قال أبو داود (1): قال عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "أقام تسع عشرة". وقال الترمذي (¬3): وقد روي عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلّي ركعتين، قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة". وقال النسائي (¬4): أنا عبد الرحمن بن الأسود البصري، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن حبيب، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - أقام بمكة خمس عشرة يصلي ركعتين ركعتين". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 367 رقم 1030). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 10 رقم 1230). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 431 رقم 548). (¬4) "المجتبى" (3/ 121 رقم 1453).

وقال ابن ماجه (¬1): نا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد الواحد ابن زياد، نا عاصم الأحول، عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أقام رسول الله - عليه السلام -[سبعة] (¬2) عشر يومًا يصلي ركعتين ركعتين، فنحن إذا أقمنا [سبعة] (¬3) عشر نصلي ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعًا". قوله: "فأقام تسعة عشر يومًا" أراد أنه أقام بمكة زمن الفتح كما هو مصرح في رواية أبي داود وقد جاء في رواية لأبي داود: "سبع عشرة" كما ذكرنا، وفي أخرى له "خمس عشرة" (¬4) وفي أخرى له (¬5) عن عمران بن حصين: "شهدت مع النبي - عليه السلام - يوم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين" وقال أبو داود: وأكثر الروايات "تسع عشرة". فإن قيل: ما التوفيق بين هذه الروايات؟ قلت: التوفيق بينها أن يكون من قال: "سبعة عشر يومًا" لم يعد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن قال "تسعة عشر" عدّهما، ومن قال: "ثمانية عشر" عدّ أحدهما. ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام على أقوال: الأول: ما ذكره ابن حزم، عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا وضعت رحلك بأرض فأتم. وكذا أخرج ابن أبي شيبة "مصنفه" (¬6) بسند صحيح عن عائشة وطاوس، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 341 رقم 1075). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجة": "تسعة". (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجة": "تسعة". (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 342 رقم 1076). (¬5) ليس عند أبي داود، وإنما هو عند الترمذي (4/ 100 رقم 1512). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 209 رقم 8221 - 8223).

وقال أيضًا: ثنا داود، عن عبد الأعلى، عن أبي العالية قال: "إذ اطمأن صلى أربعًا" يعني نزل. وعن ابن عباس (¬1) بسند صحيح مثله. الثاني: إقامة يوم وليلة حكاه ابن عبد البر عن ربيعة. الثالث: ثلاثة أيام، قاله ابن المسيب في قول. الرابع: أربعة أيام، روي ذلك عن الشافعي وأحمد، وروى مالك (¬2)، عن عطاء الخراساني أنه سمع سعيد بن المسيب قال: "من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة، قال مالك: وذلك أحب ما سمعتُ إليَّ" قال أبو عمر: وإلى هذا ذهب الشافعي وهو قوله وقول أصحابه، وبه قال أبو ثور. وقال الشافعي: ولا يُحسب يوم ظعنه ولا يوم نزوله، وحكى إمام الحرمين عن الشافعي: أربعة أيام ولحظة. الخامس: أكثر من أربعة أيام، ذكره ابن رشد في "القواعد" عن أحمد وداود. السادس: (¬3) إقامة اثنين وعشرين صلاةً، قاله ابن قدامة في "المغني" وهو مذهب أحمد. السابع: عشرة أيام، رُوي ذلك عن علي بن أبي طالب والحسن بن صالح ومحمد بن علي بن حسين. الثامن: اثني عشر يومًا، قال أبو عمر: روى مالك (¬4) عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أنه كان يقول: "أقل صلاة المسافر ما لم يجمع مكثًا اثنتي عشرة ليلة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 209 رقم 8224). (¬2) الموطأ مالك" (1/ 149 رقم 345). (¬3) علامة حاشية. (¬4) "موطأ مالك" (1/ 148 رقم 343).

قال: وروي عن الأوزاعي مثله. ذكره الترمذي في "جامعه". التاسع: ثلاثة عشر يومًا، قال أبو عمر: روي ذلك عن الأوزاعي. العاشر: خمسة عشر يومًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والليث ابن سَعْد. وحكاه ابن أبي شيبة (¬1) عن سعيد بن المسيب بسندٍ صحيح. وقال أيضًا (¬2): ثنا وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد: "كان ابن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة صلى أربعًا". الحادي عشر: ستة عشر يومًا، روي ذلك عن الليث أيضًا. الثاني عشر: سبعة عشر يومًا، وهو قول الشافعي في قول. الثالث عشر: ثمانية عشر يومًا، وهو قول للشافعي أيضًا. الرابع عشر: تسعة عشر يومًا، قاله إسحاق بن إبراهيم فيما ذكره الطوسي عنه. الخامس عشر: عشرون يومًا، وبه قال ابن حزم. السادس عشر: يقصر حتى يأتي مصرًا من الأمصار، قال أبو عمر: قاله الحسن بن أبي الحسن، قال: ولا أعلم أحدًا قاله غيرُه. السابع عشر: إحدى وعشرون صلاة، ذكره ابن المنذر عن الإِمام أحمد. الثامن عشر: يقصر مطلقًا، ذكره أبو محمد النصري. التاسع عشر: قال ابن أبي شيبة (¬3): ثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس قال: "إذا أقمتَ في بلد خمسة أشهر فقصر الصلاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 208 رقم 8212). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 208 رقم 8217). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 207 رقم 8199).

العشرون: قال أبو بكر (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا مسعر وسفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عبد الرحمن قال: "أقمنا مع سعد بن مالك شهرين بعمان يَقْصر الصلاة ونحن نتم، فقلنا له، فقال: نحن أعلمُ". الحادي والعشرون: قال أبو بكر (¬2): ثنا وكيع، ثنا شعبة، ثنا أبو التياح، عن أبي المنهال رجل من عنزة قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولًا لا أشد على سَيْر، قال: صلِّ ركعتين". الثاني والعشرون: روى أبو بكر (¬3) بسند صحيح، عن سعيد بن جبير: "إذا أراد أن يقيم أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة". الإسناد الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن شفيٍّ ذكره ابن حبان في "الثقات". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن شفيٍّ قال: قلت لابن عباس: "إنا قومٌ كنا إذا سافرنا كان معنا من يكفينا الخدمة من غلماننا فكيف نصلّي؟ فقال: كان رسول الله - عليه السلام - إذا سافر صلى ركعتين حتى يرجع، قال: ثم عدتُ فسألته، فقال مثل ذلك، ثم عدتُ، فقال لي بعض القوم: أما تعقل؟ أما تسمع ما يقول لك؟! ". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 207 رقم 8200). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 207 رقم 8201). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 209 رقم 8218). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 203 رقم 8157).

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن محمد بن إدريس بن يزيد الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم في المتابعات، عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود المدني أحد الفقهاء السبعة روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا النُّفَيْلي، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: "أقام رسول الله - عليه السلام - عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة". وابن ماجه (¬2): عن أبي يوسف بن الصيدلاني محمد بن أحمد، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس: "أن رسول الله - عليه السلام - أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وقال أبو داود (1): روى عبدة بن سليمان، وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة ابن الفضل، عن ابن إسحاق هذا الحديث؛ لم يذكروا فيه ابن عباس. قلت: أشار بهذا إلى أن هذا الحديث اختلف عن ابن إسحاق، فروي عنه مسنذا وروي عنه مرسلًا، وقال البيهقي: الصحيح مرسل. قلت: الصحيح أنه مسند كما أخرجه الطحاوي والنسائي وابن ماجه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 10 رقم 1231). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 342 رقم 1076). (¬3) "المجتبى" (3/ 121 رقم 1453).

ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبو بكر - رضي الله عنه - ركعتين، وعثمان ركعتين صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلاها بعد أربعًا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإِمام صلّى أربعً ا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يُحدّث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صليتُ مع رسول الله بمنى ركعتين ومع أبي بكر - رضي الله عنه - ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - ركعتين، ومع عثمان - رضي الله عنه - ركعتين ست سنين -أو ثمان- ثم أتمها بعد ذلك". ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ الشيخين، عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب روى له الجماعة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو أسامة، نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعًا، فكان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا صلى مع الإِمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 482 رقم 694).

وأخرجه البخاري (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. الثاني: عن سليمان بن شُعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي وثقه ابن حبان، عن شعبة، عن خُبَيبْ -بضم الخاء المعجمة- بن عبد الرحمن بن خُبَيبْ بن يساف الأنصاري المدني، روى له الجماعة، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬3): نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، سمع حفص بن عاصم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صلى النبي - عليه السلام - بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان ثمان سنين، أو قال: ست سنين". قوله: "صدرًا" نصب على الظروف، وأراد به في أول خلافته، قال الجوهري: صدر كل شيء: أوله. قوله: "بعدُ" مبني على الضم، وأصله: بعد ذلك، فلما قطع عن الإضافة بني على الضم. ثم اعلم أن صلاة عثمان - رضي الله عنه - بعد ذلك أربعًا كان اجتهادًا منه، وأخذ بالأفضل في زعمه؛ لأنه اعتقد واجبًا وفرضًا. وقال عمران بن حُصَين: "حججتُ مع عثمان سبعًا من إمارته لا يصلي إلا ركعتين، ثم صلى بمنى أربعًا، ولا خلاف أن هذا حكم الحاج من غير أهل مكة بمنى وعرفة يقصرون". وكذلك عند مالك حكم الحاج من أهل مكة يقصرون بعرفة ومنى كتقصيرهم مع النبي - عليه السلام -، وكذلك أهل عرفة ومنى بمكة، ولخطبة عمر- رضي الله عنه - أهل مكة بالتمام دونهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 367 رقم 1032). (¬2) "المجتبى" (3/ 121 رقم 1451). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 483 رقم 694).

وذهب أبو حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء إلى أن أهل مكة بمنى وعرفة، وأهل عرفة ومنى بمكة يتمون كغير الحاج منهم؛ إذْ ليس في المسافة مدة قصر الصلاة. وقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة شرفها الله تعالى يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهدة لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار الإقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم ينوِ رسول الله - عليه السلام - الإقامة بها ولا بمنى. قال: واختلف العلماء في صلاة المكيّ بمنى. فقال مالك: يتم بمكة، ويقصر بمنى، وكذلك أهل مني يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات. قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي - عليه السلام - لما قصر بعرفة لم يميز مَنْ وَرَاءَهُ ولا قال: يا أهل مكة، أتموا وهذا موضع بيان؛ ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - بعده لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ. قال: وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى طاوس والأوزاعي وإسحاق، قالوا: القصر سنة المواضع، وأتم بمنى ومكة مَنْ كان مقيمًا بهما. وقال أكثر أهل العلم -منهم عطاء والزهري، وهو قول الثوري، والكوفين، وأبي حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور-: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لأنه ليس بينهما مسافة القصر. قالوا: وفي قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: "أتموا صلاتكم" ما أغني أن يقول ذلك بمنى. واختلفوا في المسافة التي تُقصر فيها الصلاة، فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: المسافة التي تُقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام ولياليهن بسَيْر الإبل ومشي الأقدام، وقال أبو يوسف: يومان وأكثر.

الثالث: وهي رواية الحسن، عن أبي حنيفة، ورواية أبي سماعة عن محمد، ولم يريدوا به السَيْر ليلًا ونهارًا؛ لأنهم جعلوا النهار للسَيْر والليل للاستراحة، فلو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليها في يومٍ من طريق آخر قصر، ثم قَدَّروا ذلك بالفراسخ. فقيل: إحدى وعشرون فرسخًا. وقيل: ثمانية عشر وعليه الفتوى. وقيل: خمسة عشر فرسخًا إلى ثلاثة أيام، وعلى هذا عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والثوري، والحسن بن حيّ، وأبو قلابة، وشريك بن عبد الله، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن عبد الله بن عمر. وعن مالك: لا يقصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي وذلك ستة عشر فرسخًا، وهو قول أحمد، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع: ست شعيرَات معترضات معتدلات. وذلك يومان وهو أربعة برد، هذا هو المشهور عنه، وعنه أيضًا: خمسة وأربعون ميلًا، وعنه: اثنان وأربعون ميلًا، وعنه: أربعون ميلًا، وعنه: ستة وثلاثون ميلًا. وقال ابن حزم: ذكر هذه الروايات عنه إسماعيل القاضي، قال: ورأى لأهل مكة خاصةً القصر إلى مني، فما فوقها وهي أربعة أميال. وللشافعي سبعة نصوص في المسافة التي تقصر فيها الصلاة: ثمانية وأربعون ميلًا، ستة وأربعون، أكثر من أربعين، أربعون يومان، ليلتان، يوم وليلة. وهذا الآخر قال به الأوزاعي. وقال أبو عمر: قال الأوزاعي: عامة العلماء يقولون به.

وعن داود: يقصر في طويل السفر وقصيره. زاد ابن حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصّر. وزعم أبو محمد أنه لا يقصر عندهم في أقل من ميل، قال: ولا يجوز لنا أن نوقع اسم سفر وحكم سفر إلا على ما سمّاه به مَنْ هو حجة في اللغة سفرًا، فلم نجد ذلك في أقل من ميل. وروينا الميل أيضًا عن ابن عمر، رُوي عنه أنه قال: "لو خرجت ميلًا لقصرت". قال: وعنه: "إني لأسافر الساعة من النهار فأقصّر"، وعنه: "ثلاثة أميال". وعن ابن مسعود: "أربعة"، وعنه: "ثلاثة أميال". وفي "المحلى": عن أبي حذيفة: "لا يقصّر في نيف وستين ميلًا"، وعن شقيق ابن سلمة وسئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط فقال: "لا تُقْصَر الصلاة في ذلك" وبينهما مائة وخمسون ميلًا. وعن الحسن بن حيّ: "لا يقصّر في أقل من اثنين وثمانين ميلًا". وعن ابن عمر: "اثنان وسبعون ميلًا". وعن الثوري: نحو نيفٍ وستين ميلًا، يتجاوز ثلاثة وستين ولا ينتقص عن أحد وستين. وعن أبي الشعثاء: ستة أميال. وعن ابن المسيب: بريدٌ. وقال ابن حزم: صحّ عن كلثوم بن هانئ وقبيصة بن ذؤيب وابن مُحيريز القصر في بضعة عشر ميلًا. وقال أبو بكر بن في شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن أبي هارون، عن أبي سعيد: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا سافر فرسخًا قصّر الصلاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 200 رقم 8113).

ثنا (¬1) هشيم، عن جُويبر، عن الضحاك، عن النزّال: "أن عليًّا - رضي الله عنه - خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه وقال: أردتُ أن أعلمكم سنة نبيّكم". وكان حذيفة يصلي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن. وعن ابن عباس: يقصّر الصلاة في مسيرة يومٍ وليلةٍ. وعن ابن عمر وسُويد بن غفلة وعمر بن الخطاب: ثلاثة أميال. وعن أنس: "كان النبي - عليه السلام - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شعبةُ الشاكّ- قصر" رواه مسلم (¬2). وعن الحسن: يقصّر في مسيرة ليلتين. وعن أبي الشعثاء: ستة أميال. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نَضْرة: "أن فتًى سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله - عليه السلام - في السفر، فعدل إلى مجلس العَوَقة فقال: إن هذا الفتى سألني عن صلاة رسول الله - عليه السلام - في السفر فاحفظوها عني، ما سافر رسول الله - عليه السلام - سفرًا إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة يصلي ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخراوين؛ فإنّا قومٌ سفرٌ. ثم غزا حُنين والطائف فصلى ركعتين ركعتين، ثم رجع إلى الجعْرانَة فاعتمر منها في ذي القعدة، ثم غزوت مع أبي بكر- رضي الله عنه - وحججتُ واعتمرتُ، فصلى ركعتين ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - فصلى ركعتين ركعتين، ومع عثمان - رضي الله عنه - صدرًا من إمارته فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان - رضي الله عنه - بعد ذلك صلى أربعًا بمنى". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 200 رقم 8114). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 691 رقم 691).

ش: رجاله ثقات، غير أن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بالقوى. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس بحجة. وقال العجلي: كان يتشيع، لا بأس به. وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، فيه ميل عن القصد، لا يحتج بحديثه. روى له مسلم -مقرونًا بثابت البناني- والأربعة. وأبو نضرة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة اسمه المنُذر بن مالك العَبدي ثم العَوقي البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا علي بن زيد، عن أبي نضرة ... إلى آخره نحوه. ثم قال (¬2): وحدثنا يونس بن محمد بهذا الحديث وزاد فيه: "إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة قوموا ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬3) مختصرًا: نا موسى بن إسماعيل، نا حماد. وحدثنا إبراهيم بن موسى، أنا ابن علية -وهذا لفظه- أنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: "غزوتُ مع رسول الله - عليه السلام -، وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلةً لا يُصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد، صلوا أربعًا فإنا سَفْر" وأخرجه الترمدي (¬4): نا أحمد بن مَنيع، قال: نا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة قال: "سُئل عمران بن حصين عن صلاة المسافر، فقال: حججتُ مع رسول الله - عليه السلام - فصلى ركعتين، وحججت مع ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 430 رقم 19878). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 430 رقم 19878). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 9 رقم 1229). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 430 رقم 545).

أبي بكر - رضي الله عنه - فصل ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - فصلى ركعتين، ومع عثمان - رضي الله عنه -ستَّ سنين من خلافته أو ثمان سنين- فصلى ركعتين". قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الطبرانيُّ في "معجمه" (¬1)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2)، وإسحاق بن راهويه، والطيالسي (¬3)، والبزار (¬4) في "مسانيدهم". قوله: "إلي مجلس العَوَقَة" أي إلى مجلس فيه عوَقةٌ وهم بطن من عبد القيس، وهو بفتح العين المهملة والواو والقاف. قوله: "فإنا قومٌ سَفْرٌ " بفتح السين وسكون الفاء جمع سافر كصحب جمع صاحب ويجمع على أسفار أيضًا، والسَفْر والمسافرون بمعنى واحدٍ. قوله: "ثم غزا حنين" وهو موضع يُذَكَّر ويؤنث، فإن قصدت به البلد والموضع ذكّرتَه وصرفته كقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} (¬5)، وإن قصدت به البلدة أو البُقْعَة أنّثْته ولم تصرّفه، وقال أهل السيرة: حنين وادٍ بينه وبين مكة ثلاثة أميال. وغزوة حنين هي غزوة هوازن، وكانت بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان من الهجرة، وكان الفتح لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه - عليه السلام - إليهم بخمس عشرة ليلة، وكانت غزوة الطائف بعد فراغه - عليه السلام - من حنين. قوله: "إلي الجعرانة" عمرة الجعرانة: كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسّم غنائم حنين في السنة الثامنة من الهجرة، والجعرانة: موضع قريب من ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 209 رقم 515). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 205 رقم 8174). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 115 رقم 858). (¬4) "مسند البزار" (9/ 77 رقم 3608). (¬5) سورة التوبة، آية: [25].

مكة، وهي من الحل، وميقات للإحرام، وهي بتسكين العين والتخفيف في الراء، وقد تكسر العين وتشدد الراء. وبهذا الحديث أستدل أصحابنا أن المسافر لا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلد أو قرية خمسة عشر يومًا أو أكثر، وإن نوى أقل من ذلك قصّر، فإن قيل: استدلالكم بهذا لا يتم. قلت: استدلالنا بهذا أن المسافر إفا دخل بلدًا أو قويةً لا يزال على حكم السفر ما لم ينو الإقامة. وأما تعيين المدة بخمسة عشر يومًا، فلما روى الطحاوي عن ابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهم - قالا: "إذا اقدمت بلدةً وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر ليلةً فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها". وبما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يومًا؛ أتم الصلاة". وبما رواه محمد بن الحسن في كتابه "الآثار" (¬2): عن أبي حنيفة، عن موسى ابن مسلم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: "إذا كنت مسافرًا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يومًا فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فأقصر". ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصيبُ بن ناصح، قال: ثنا وُهَيْبٌ، عن ابن جريج (ح). وحدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب، قال: ثنا عمّي، قال: حدثني عمرو بن الحارث، وأسامة بن زيد، وابن جريج أن محمد بن المنكدر حدثهم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "صلّى رسول الله - عليه السلام - الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 208 رقم 8217). (¬2) "الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 241 رقم 187).

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وُهَيْب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا مُبَشّر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعتُ أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ركعتين، حتى رجع، قلت: كم أقمتم؟ قال: عشرًا". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نُعَيْم، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن أبي إسحاق ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر سؤاله لأنس - رضي الله عنه -. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكَيرْ، قال: ثنا اللَّيْثُ: أن بكُيْرًا حدثه، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "صلينا مع رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان ركعتين شطر إمارته ثم أتمها بعد ذلك". ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق أبي الفتح العُتْقي، عن الخصِيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد البصري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن المنكدر، عن أنس. وأخرجه الجماعة غير ابن ماجة. فقال البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن مَيسرة، عن أنس قال: "صليت الظهر مع النبي - عليه السلام - بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 369 رقم 1039).

وقال مسلم (¬1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا سفيان، قال: نا محمد بن المنكدر إبراهيم بن مَيْسرة، سمعا أنس بن مالك يَقولُ: "صليتُ مع رسول الله - عليه السلام - الظهر بالمدينة أربعًا، وصليتُ معه العصر بذي الحليفة ركعتين". وقال أبو داود (¬2): ثنا زهير بن حرب، نا ابن عُيَيْنة، عن محمد بن المنكدر، إبراهيم بن مَيْسرة، سمعا أنس بن مالك ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وقال الترمذي (¬3): ثنا قتيبة، قال: نا ابن عيينة ... إلى آخره نحوه. وكذا أخرجه النسائي (¬4). قوله: "بذي الحليفة" قد ذكرنا أنها ميقات أهل المدينة والشام اليوم، بينها وبين المدينة ستة أميال ويقال: سبعة. وهذا مما احتج به أهل الظاهر في جواز القصر في طويل السفر وقصيره، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن المراد به حين سافر - عليه السلام - إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعًا ثم سافر، فأدركته العصر وهو مسافر بذي الحليفة فصلاها ركعتين، وليس المراد أن ذا الحليفة عامّة سفره، فلا دلالة فيه قطعًا. وأما ابتداء القصر فيجوز من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه إن كان من أهل الخيام، هذا مذهب العلماء كافة إلا رواية ضعيفة عن مالك أنه لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال، وحكي عن عطاء وجماعة من أصحاب ابن مسعود أنه إذا أراد السفر قصر قبل خروجه. وعن مجاهد أنه لا يقصر في يوم خروجه حتى يدخل الليل. الثالث: عن أحمد بن عبد الرحمن بَحْشَلْ، عن عمه عبد الله بن وهب، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 480 رقم 690). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 4 رقم 1202). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 431 رقم 546). (¬4) "المجتبى" (1/ 235 رقم 469).

عمرو بن الحارث المصري وأسامة بن زيد وعبد الملك بن جريج، ثلاثتهم عن محمد بن المنكدر، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن معمر، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أُخبرت عن محمد بن المنكدر، عن أنس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - صلاة الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما أصبح ركب ناقته واستوت راحلته قائمة أَهَلّ". وثنا محمد بن معمر، نا روح بن عبادة، نا أساعة بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن أنس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بالعقيق ركعتين". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال البصري روى له الجماعة، عن وُهَيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا وهيب بن خالد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "صلى النبي - عليه السلام - الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين وبات بها حتى أصبح فلما صلى الصبح، ركب راحلته، فلما انبعثت به سبَّح وكبّر حتى استوت به البيداء، ثم جمع بينهما، فلما قدمنا مكة أمرهم رسول الله - عليه السلام - أن يحلوا، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، ونحر رسول الله - عليه السلام - سبع بدنات بيده قائمًا، وضحى رسول الله - عليه السلام - بالمدينة بكبشين أقَرنيْن أملحين". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: ثنا خلف بن هشام، وأبو الربيع الزَهراني وقتيبة بن سعيد، قالوا: نا حماد -وهو ابن زيد-. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 268 رقم 13858). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 480 رقم 690).

وحدثني زهير بن حرب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: نا إسماعيل كلاهما عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين". الرابع: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم ابن مَيْسرة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال: "صليت مع النبي - عليه السلام - الظهر بالمدينة أربعًا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين". وأخرجه البخاري (¬1) نحوه وقد ذكرناه. الخامس: عن مُبشر بن الحسن بن مُبَشّر بن مُكسّر القَيْسي أبي بشر البصري، وثقه ابن يونس، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي -وقد تكرر ذكره- عن شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق الحَضْرمي البصري روى له الجماعة، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه الجماعة: فقال البخاري (¬2): ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: نا يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعت أنسًا يقول: "خرجنا مع النبي - عليه السلام - عن المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا". وقال مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - من المدينة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (9/ 369 رقم 1039). (¬2) "صحيح البخاري" (9/ 367 رقم 1031). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 481 رقم 693).

إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرًا". وقال أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم -المعنى- قالا: أنا وُهَيْب، نا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - من المدينة إلى مكة، فكان يُصلّي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. فقلنا: هل أقمتم بها شيئًا؟ قال: أقَمْنا بها عشرًا". وقال الترمذي (¬2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: أنا أنس بن مالك قال: "خرجنا مع النبي - عليه السلام - من المدينة إلى مكة، فصل ركعتين. قال: قلت لأنس: كم أقام رسول الله - عليه السلام - بمكة؟ قال: عشرًا". قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح. وقال النسائي (¬3): أنا حُمَيد بن مسعدة، قال: أبنا يزيد، قال: أبنا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - من المدينة إلى مكة، فكان يصلّي بنا ركعتين حتى رجعنا. قلت: هل أقام بمكة؟ قال: نعم، أقمنا بها عشرًا". وقال ابن ماجه (¬4): ثنا نصر بن علي الجهضمي، نا يزيد بن زريع وعبد الأعلى، نا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - من المدينة إلى مكة نصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا. قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشْرًا". قوله: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام -" أي من المدينة إلى مكة كما هو مفسر في رواية غيره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 10 رقم 1233). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 431 رقم 548). (¬3) "المجتبى" (3/ 121 رقم 1452). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 342 رقم 1077).

قوله: "فجعل يصلي" أي فجعل رسول الله - عليه السلام - يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، فوقع قوله: "ركعتين" في رواية الطحاوي مكررًا ثلاث مرات، وفي رواية غيره مرتين، وفي رواية النسائي مرة واحدة. قوله: "قلت: كم أقمتم؟ " القائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، أي كم يوم أقمتم بمكة. قوله: "قال: عشرًا" أي عشر ليال، وهذا الحديث حجة على الشافعي في تقديره مدة الإقامة بأربعة أيام؛ لأنه يخبر عن مدة مقامه - عليه السلام - بمكة في حجة الوداع فإنه دخل مكة في صبح رابعة من ذي الحجة وهو يوم الأحد، وخرج صبح يوم الأربعاء الرابع عشر. ولا يقال: يحتمل أنهم عزموا على السفر في اليوم الثاني أو الثالث، واستمر بهم ذلك إلى عشر؛ لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع، فتعين أنهم نووا الإقامة أكثر من أربعة أيام لأجل قضاء النسك، نعم كان يَسْتقيم هذا أن لو كان الحديث في قصة الفتح. والحاصل: أن ها هنا حديثان: أحدهما: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - أقام بمكة تسع عشرة يقصر الصلاة". رواه البخاري (¬1)، وكان في الفتح، صرح بذلك في بعض طرقه "أقام بمكة عام الفتح". والآخر: حديث أنس هذا وكان في حجة الوداع. وقال الحافظ المنذري في "حواشيه": حديث أنس يُخْبر عن مدة مقامه - عليه السلام - بمكة شرفها الله تعالى في حجة الوداع، فإنه دخل مكة في صبح رابعة من ذي ¬

_ (¬1) تقدم.

الحجة وهو يوم الأحد، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة - رضي الله عنها - من التنعيم، ثم طاف النبي - عليه السلام - طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وخرج صبيحته وهو الرابع عشر، فأما حديث ابن عباس وغيره فهو إخبار عن مدة مقامه - عليه السلام - بمكة زمن الفتح. انتهى. وقال النووي في شرح هذا الحديث: معناه أنه أقام بمكة وما حواليها لا في نفس مكة فقط، قدم مكة في اليوم الرابع فأقام بها الخامس والسادس والسابع، وخرج منها في الثامن إلى مني وذهب إلى عرفات في التاسع، وعاد إلى مني في العاشر فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر، ونفر في الثالث عشر إلى مكة، وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر، فمدة إقامته في مكة وحواليها عشرة أيام، وكان يقصر الصلاة فيها كلها، ففيه دليل على أن المسافر إذا نوى إقامته دون أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج يقصر، وأن الثلاثة ليست مدة إقامة. قلت: هذا الكلام الذي، قرره لا ينهض حجةً لمذهبهم بل في نفس الأمر حجة عليهم، سلمنا أنه إذا نوى إقامةً دون الأربعة أيام لا تصح نيته فمقصّر، ولكن لا تسلم صحتها أيضًا إذا نوى أربعةً أو خمسة أو ستةً فمن أين يفهم من الحديث أنه إذا نوى أربعة أيام أو خمسة أن نيته صحيحة، وكذلك استثناء يومي الدخول والخروج لا يفهم من الحديث بل هو مجرد كلام من الخارج، بل صريح الحديث يردُّ صحة نية الإقامة بأربعة أيام. وقال الحسن بن صالح: إذا نوى إقامة عشرة أيام يُتم. واستدل بهذا الحديث، وهذا أنسب من غيره مِنْ وجه تأمل. السادس: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري ... إلى آخره.

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): ثنا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن يحيى -هو ابن أبي إسحاق- عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع النبي - عليه السلام -، فجعل يُقصّر حتى قدمنا مكة، فأقام بها عشرة أيام يُقصّر حتى رجع، وذلك في حجّه". السابع: عن محمد بن خزيمة، عن يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، عن الليث بن سَعْد، عن بُكَيْر بن عبد الله بن الأشج، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، وثقه ابن حبان وروى له النسائي، وفي بعض نسخ الطحاوي: محمد بن عبد الله ابن أبي سُلَيْم، وهكذا وقع في بعض نسخ النسائي. وذكر في "التكميل": محمد بن عبد الله بن أبي سُلَيْم المدني، عن أنس: "صليت مع رسول الله - عليه السلام - بمنى ... " الحديث. وعنه: بكير بن عبد الله بن الأشج، قال النسائي: ثقة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن بُكير، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "صليتُ مع رسول الله - عليه السلام - بمنى ومع أبي بكر ومع عمر ركعتين، ومع عثمان ركعتين صدرًا من إمارته". وأخرجة أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3): عن حجاج، عن ليث ... إلى آخره نحوه. قوله: "شطر إمارته" أي نصف أيام خلافته. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن العَوْفي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "صليت مع رسول الله - عليه السلام - العصر أربعًا وليس بعدها شيء، وصلى المغرب ثلاثًا وبعدها ركعتين، وقال: هي وتر صلاة النهار ولا تنقص في سفر ولا حضر، وصلى العشاء أربعًا وصلى ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 425 رقم 1510). (¬2) "المجتبى" (3/ 120 رقم 1447). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 168 رقم 12741).

بعدها ركعتين، قال: وصلى في السفر الظهر ركعتين وصلى بعدها ركعتين، وصلى العصر ركعتين وليس بعدها شيء، وصلى المغرب ثلاثا وبعدها ركعتين، وصلى العشاء ركعتين وبعدها ركعتين". ش: أحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس وغالبًا يُنْسب إلى جدّه، وهو شيخ البخاري. وأبو شهاب الحناط -بالنون- الصغير الكناني الكوفي نزيل المدائن، واسمه عبد الله بن نافع روى له الجماعة سوى الترمذي. وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بذاك. وعن العجلي: كان فقيهًا صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وروى له الأربعة. والعَوْفي -بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالفاء- هو عطية بن سعد بن جنادة الجدلي القَيْسي العَوْفي أبو الحسن الكوفي، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن يحيى: صالح. وعن النسائي: ضعيف. وقال أبو زرعة: لين. وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. والحديث أخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمد بن عبيد المحاربي الكوفي، قال: ثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطية ونافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صليتُ مع النبي - عليه السلام - في الحضر والسفر، فصليتُ معه في الحضر الظُهْر أربعًا وبعدها ركعتين، وصليتُ معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يُصلّ بعدها شيئًا، والمغرب في الحضر والسفر، سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار وبعدها ركعتين". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 437 رقم 552).

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، سمعت البخاري يقول: ما روى ابن أبي ليلى حديثًا أعجب إليّ من هذا ولا أروي عنه شيئًا. ومما يستفاد منه: أن السنن المؤكدة لا تترك في السفر. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عون ابين أبي جُحَيْفة، قال: سمعتُ أبي يُحدّث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبَطْحاء -وبين يَديْه عَنزةٌ- الظهرَ ركعتين والعَصْر ركعتين، تمرُّ بين يديه المرأةُ والحمارُ" حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي قال، حدثني ابن أبي ليلى، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - خرج مسافرًا فلم يزل يُصلّي ركعتين ركعتين حتى رجع". ش: هذان إسنادان: أوّلهما: صَحيحٌ، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن عون بن أبي حجيفة الكوفي روى له الجماعة، عن أبيه أبي جُحَيفة -بضم الجيم وفتح الحاء المهملة- وَهْب بن عبد السُوَائي الصحابيّ. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، ثنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعتُ أبي قال: "خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبن يَدْيه عَنزةٌ، والمرأة والحمار يمران من ورائها". ثنا (¬2) سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جُحَيفة قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصرَ ركعتين، ونصبَ بين يديه عنزةً وتوضأ، فجعل الناسُ يتوضئون بوضوئه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 188 رقم 477). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 188 رقم 479).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا جُحَيفة قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يَديْه عنزةٌ". قال شعبة: وزاد عون، عن أبيه أبي جحيفة: "وكان يمرُّ من ورائها المرأة والحمار". وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. وهذا الحديث له طرق عدّة. قوله: "بالبطحاء" بالمدّ وهي الحصى الصغار، وبطحاء الوادي وأبطحه: حصاه الليّن في بطن المَسِيل، ومنه سمّوا بطحاء مكة وأبطحها، وهو مسيل واديها، من قبيل ذكر الشيء باسم ما يحله ويُجاوره، ويجمع على البطاح والأباطح. قوله: "عَنَزَة" بفتح العين والنون والزاي، وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا، وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكّازة قريب منها، والهاجرة وقت اشتداد حر النهار وأراد بها وقت الظهر. ويستفاد منه: جواز إمامة المسافر للمسافرين ولغيرهم. واستحباب اتخاذ العنزة للإمام. وأن الإِمام إذا صلى بقوم في الصحراء ينبغي أن ينصب بين يديه عنزة أو نحوها ليصلي إليها، وكذلك المنفرد. وأن مرور المرأة والحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، وفيه دليل قاطع على أنه - عليه السلام - قصّر الظهر والعصر في سفره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 361 رقم 503). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 183 رقم 688). (¬3) "المجتبى" (1/ 235 رقم 470).

والطريق الثاني: حسن، عن محمد بن علي بن داود البغدادي نزيل مصر، عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب"، قال أبو حاتم: كوفي صدوق. ووثقه ابن حبان، وروى له الترمذي. عن أبيه عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الأزدي: ليس بذاك. وروى له الترمذي وابن ماجه، وهو يروي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي القاضي، عن عون ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سفيان وابن أبي ليلى، عن عون بن أبي جُحَيفة السُّوائي، عن أبيه قال: "صليت مع النبي - عليه السلام - بمنى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب (ح). وحدثنا حُسين بن نَصْر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وَهْب قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين ونحن أكثر ما كنا وآمُنُه". ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حارثة بن وهب الخزاعي الصحابي أخي عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، وفي "التهذيب": أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأمهما أم كلثوم بنت جَرْول الخزاعي. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 204 رقم 8165). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 367 رقم 1033).

قال: سمعت حارثة بن وهب قال: "صلى بنا النبي - عليه السلام -آمنُ ما كان- بمنى ركعتين". والآخر: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: حدثني حارثة بن وهب الخزاعي قال: "صليتُ خلف رسول الله - عليه السلام - بمنزل والناسُ أكثر ما كانوا، فصل ركعتين في حجة الوداع". وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. قوله: "وآمُنُهُ" أي آمن ما كنا، وأراد بذلك دفع خلاف مَنْ يقول: إنما تقصر الصلاة في خوف أو حرب، وتحقيق معنى هذا الكلام: أنا كنا أكثر ما كنا قبل ذلك وكنا آمن ما كنا قبل ذلك. وآمن أفعل للتفضيل من الأَمْن ضد الخوف. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله - عليه السلام - يخبرون عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان في سفره يَقصر الصلاة حتى يَرجعَ إلى أهلِه. ش: أشار بهؤلاء إلى الصحابة الذين روى عنهم أنهم رووا عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقصر صلاته في السفر، وهم: عائشة، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأنس ابن مالك، وأبو جُحَيفة، وحارثة بن وهب - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 484 رقم 696). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 200 رقم 1965). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 228 رقم 882). (¬4) "المجتبى" (3/ 119 رقم 1445).

ص: ثم قد روي عن أصحابه من بعده أنهم كانوا في أسفارهم يَفْعلون ذلك أيضًا، فمن ذلك: ما قد ذكرنا في هذا الفصل عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما -. ومنه أيضًا: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة، قال، ثنا سليمان، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: "أن عمر- رضي الله عنه - صلى بمكة ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم؛ فإنا قومٌ سَفْرٌ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق وروح ووهب، قالوا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر .... مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابنُ وهب، أن مالكًا حدّثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ومالك، عن زيد بن أسلم، عن أسلم مولى عمر - رضي الله عنه -: "أن عمر كان إذا قدم مكة ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا مالك بن أنس وصالح بن الأخضر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عمر .... مثله. ش: أي: ثم قد روي عن أصحاب النبي -عليه السلام - (¬1) من بعده أنهم كانوا في أسفارهم يفعلون ذلك. أي قصر الصلاة. ثم أخرج عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من خمس طرق صحاح: الأول: ما ذكره فيما مضى مع أبي بكر- رضي الله عنه -. الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن سُلَيمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث. وأخرجه محمد في "آثاره" (¬2) منقطعًا: عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنه صلى بالناس بمكة الظهر ثم انصرف، فقال: يا أهل مكة إنا سَفْرٌ؛ فمن كان من أهل البلد فليُكمل. فأكمل أهل البلد" ¬

_ (¬1) وقع خلط في ترتيب المخطوط هنا. (¬2) كتاب "الآثار" (1/ 30 رقم 145).

قال محمد: وبه نأخذ، إذا دخل المقيم في صلاة المسافر فقضى المسافر صلاته قام المقيم فأتم صلاته. وهو قول أبي حنيفة. قوله: "سَفر" أي مسافرون، وهو جمع كصحب جمع صاحب، وقد مرّ مرةً. الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي المقرئ، وروح بن عبادة، ووهب بن خالد، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عمر. الرابع: عن يُونُس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وَهْب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر. وروى مالك (¬1) أيضًا: عن زيد بن أسلم، عن أسلم مولى عمر: "أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا قدم مكة صلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ". وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2). وعبد الرزاق في "مصنفه" (¬3): عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، مثله. الخامس: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله، عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرج عبد الرزاق (3): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صلى عمر - رضي الله عنه - بأهل مكة الظهر أو العصر، فسلم في ركعتين، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة؛ فإنا قوم سَفْرٌ". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 149 رقم 347). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 149 رقم 346). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 540 رقم 4370).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن زَيْد قال: "خرجنا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى صِفّين، فصلى بنا ركعتين بين الجسر والقنطرة". ش: ابن مرزوق هو إبراهيم، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعي، وعبد الرحمن بن زَيْد الفائشي -بالفاء- الكوفي. قال ابن المديني: مجهول. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن زيد الفائشي قال: "خرجنا مع علي - رضي الله عنه - إلى صِفين، فصلى بين الجسْر والقنطرة ركعتين". قوله: "إلى صِفّين" بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء، وهو موضع كانت به وقعةٌ بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وكانت وقعة صِفين في سنة سبع وثلاثين من الهجرة. و"الجسر": وإحد الجسور معروف، وهو ما يكون من الحجر والخشب ونحوهما. و"القنطرة" لا تكون إلا من الحجر فكل قنطرة جسر وليس كل جسر قنطرة. وقال الجوهري: القنطرة الجسر. ولم يفرق بينهما، والصحيح ما ذكرناه. وأراد بالجسر: جسر المدينة التي خرج منها عليٌّ - رضي الله عنه -، والظاهر أنها الكوفة، وكذلك قنطرة المدينة التي خرج منها عليٌّ - رضي الله عنه - إلى صفّين. ويستفادُ منه حكمان: أحدهما: أن عليًّا كان ممن يقصر الصلاة في السفر. والآخر: أن ابتداء القصر من حين مفارقة بيوت المصر؛ وذلك لأن جسر المدينة وقنطرتها لا يكونان إلا في آخر عمارتها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 202 رقم 8145).

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكنْدي قال: "خرج سلمان - رضي الله عنه - في ثلاثة عشر رجلًا من أصحاب النبي - عليه السلام - في غزاة، وكان سلمان أسنّهم، فحضرت الصلاةُ، فقالوا: تقدّمْ يا أبا عبد الله. فقال: ما أنا بالذي أَتَقدّم، أنْتم العَربُ ومنكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فليتقدم بعضكم. فتقدّم بعضُ القوم، فصلى أربع ركعات، فلما قضى الصلاة قال سلمان: ما لنا وللمُرّبعة؟! إنما يكفينا نصف المربعة". ش: يوسف بن عديّ بن زريق شيخ البخاري، وأبو الأحوص سَلاّم بن سُلَيم الكوفي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعي، وأبو ليلى الكندي مشهور بكنيته وقد اختُلف في اسمه، قال ابن معين: ثقة مشهور. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكنْدي قال: "أقبل سلمان - رضي الله عنه - في اثني عشر راكبًا -أو ثلاثة عشر راكبًا- من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدَّمْ يا أبا عبد الله، قال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم، إن الله هدانا بكم. قال: فتقدم رجل من القوم، فصل أربع ركعات، فلما سلّم قال سلمان: ما لنا وللمربعة؟! إنما كان يكفينا ركعتان نصف المربعة، ونحن إلى الرخصة أحوجُ ". قال عبد الرزاق: يعني في السفر. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬2): عن أبي الأحوص ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "ما لنا وللمربّعة" إنكارٌ من سلمان على إتمام الصلاة في السفر، وعدم إنكار بقية الصحابة على سلمان دليل على أنهم مجمعون على القصر. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 520 رقم 4283). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 204 رقم 8160).

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن المِسْورُ قال: "كنا مع سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قرية من قرى الشام، فكان يصلّي ركعتين فنصلي نحن أربعًا، فنسأله عن ذلك فيَقولُ سَعدٌ: نحن أعلم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهريّ، أن رجلًا أخبره، عن عبد الرحمن بن المِسْور بن مَخْرمة: "أن سَعْد ابن أبي وقاص، والمِسْور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعًا في سفرٍ، فكان سعد يقصر الصلاة ويفطر، وكانا يُتمّان الصلاة ويَصوُمان، فقيل لِسَعْدٍ: نراك تَقْصر الصلاة وتُفْطر ويُتمّان؟ فقال سَعْد: نحن أعلم". ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن خالد، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن المسْور بن مخرمة بن نوفل بن أُهَيْب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري المدني روى له مسلم. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن المسور، عن سعد - رضي الله عنه - قال: "كنا معه بالشام شهرين، فكنَّا نُتمّ وكان يقصر، فقلنا له، فقال: إنا نحن أعلم". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد بن مخارق أبي عبد الرحمن البصري ابن أخي جويرية بن أسماء، شيخ الشيخين وأبي داود. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 535 رقم 4350).

عن جويرية بن أسماء بن عبيد أبي أسماء البصري روى له الجماعة سوى الترمذي، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن رجل مجهول، عن عبد الرحمن بن المسور وقد مرّ ذكرهُ الآن، والمسور بن مخرمة بن نوفل القرشي له ولأبيه صحبة، وعبد الرحمن بن عبد يغوث هو عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهريّ، وأمه آمنة بنت نوفل أُهَيب بن عبد مناف بن زهرة، وهو ابن خال النبي - عليه السلام -، وابن عم عبد الله بن أرقم، أدرك النبي - عليه السلام - ولا تصح له رؤية ولا صحبة، قاله ابن الأثير، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، ثم قال: وهو يُعدُّ في الصحابة أيضًا. وهذا يدلّ على أن القصر عزيمة، ألا ترى أن سَعْدًا - رضي الله عنه - لم يعذر المِسْور وعبد الرحمن بن عبد يغوث في إتمامهما، ولو كان رخصة لأعذرهما. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أنه قال: "جاء عبد الله بن عمر يَعودُ عبد الله بن صَفْوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف، فأتممنا لأنفسنا". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر: "كان يُصلّي وراء الإِمام بمنًى أربعًا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين". حدثنا يونسُ، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "أصلي صلاة سفرٍ ما لم أُجْمِع إقامةً وإن مكثت اثنتي عشرة ليلةً". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال: "أتيت سالمًا أسألهُ وهو عند باب المسجد، فقلت: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان إذا صدر الظهر، وقال: نحن ماكثون. أتم الصلاة، وإذا قال: اليوم وغدًا. قصر وإن مكث عشرين ليلةً".

ش: هذه أربع طرق صحاح كلها، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وابن وهب هو عبد الله، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وسفيان هو ابن عُيَيْنة، وابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح، وأبو نجيح اسمه يسار روى له الجماعة. وصفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجُمحي المكي، قال العجلي: تابعيّ ثقة. روى له مسلم والنسائي وابن ماجه. وعبد الله بن صفوان بن أمية صحابيّ، ولأبيه أيضًا صحبة. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وإنما كان عبد الله يصلي أربعًا وراء الإِمام لكون الإِمام مقيمًا، والمسافر يجب عليه الإتمام إذا اقتدى بالمقيم، وكان يصلي ركعتين إذا كان وحده لأخذه بالعزيمة. والأثر الثالث: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عيد الله قال: "لو قدمتَ أرضًا لصليت ركعتين ما لم أجمع مَكْثًا وإن أقمت أثنى عشر ليلةً". قوله: "ما لم أُجمع" بضم الهمزة من الإجماع وهو إحكام النية والعزيمة، يقال: أجمعتُ الرأي وأزمعته وعزمت عليه؛ بمعنًى. قوله: "وإن مكثت" واصل بما قبله، أي: وإن أقمت اثنى عشر ليلة، وهذا يدل على أنه إذا نوى إقامة أثنى عشر ليلةً يُتمّ؛ لأنه يصير مقيمًا. وجاء عنه أيضًا: أنه لا يتم حتى ينوي خمسة عشر يومًا وهو الذي ذهب إليه أصحابنا. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 150 رقم 349). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 533 رقم 4340).

قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا أجمع على إقامة خمس عشرة سرّح ظهره وصلى أربعًا". والأثر الرابع: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نجيح قال: "سألت سالم بن عبد الله كيف ما كان ابن عمر يَصنعُ؟ قال: كان إذا صدر الظهر وقال: نحن ماكثون، أتم الصلاة، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة وإن مكث عشرين ليلةً". قوله: "إذا صدر" من الصَدَر -بالتحريك- وهو رجوع المسافر من مقصده. قوله: "الظهرَ" منصوب على الظرفية. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا أبو عامر الخزاز، قال: ثنا ابن أبي مليكه قال: "صحبت ابن عباس - رضي الله عنهما - من مكة إلى المدينة، فكان يصلي الفريضة ركعتين". ش: إسناده صحيح، ورَوْح هو ابن عبادة، وأبو عامر الخزاز اسمه صالح بن رستم المزني البصري، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، والخزاز -بالخاء والزائين المعجمات-. وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير، روى له الجماعة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين قال: "خرجنا مع أنس بن مالك - رضي الله عنه - بثق شيرين فامّنا في السفينة على بساط فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى بعدها ركعتين". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 208 رقم 8217). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 539 رقم 4365).

وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق حماد بن زيد، ثنا أنس بن سيرين قال: "خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببثق شيرين وهي رأس خمسة فراسخ، فصلى بنا العصر في سفينة وهي تجر بنا في دجلة قاعدًا على بساطٍ ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم" انتهى. و"بَثَق شيرين" بفتح الباء الموحدة، وسكون الثاء المثلثة بعدها قاف مضاف إلى شيرين -بكسر الشين المعجمة -وهو اسم نهر تحت نهر الديْر بستة فراسخ، ونهر الدَيْر في غربيّ دجلة، وعند فوّهته مشهد محمد بن الحنفية - رضي الله عنه -، وكلاهما من أنهر البصرة، والآن بثق شيرين قد خُرِبَ ودُثِرَ. ويستفاد من هذا: أن أنسًا كان يأخذ بالعزيمة، وجواز الصلاة في السفينة، واستحباب إقامة السنن المؤكدة في السفر. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا الأزرق بن قيْس قال: "رأيت أبا بَرْزة الأسلميَّ بالأهْواز صلّى العصر، فقلت: كم صلى؟ قال: صلى ركعتين". ش: يحيى بن سعيد القطان، والأزرق بن قيس الحارثي البصري روى له البخاري وأبو داود والنسائي، وأبو بَززة اسمه نَضْلة بن عبيد الصحابيّ - رضي الله عنه -. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله - عليه السلام - كانوا يُقَصّرون الصلاة في السفر، وينكرون على من أتم. ألا ترى أن سعدًا - رضي الله عنه - لما قيل له: إن المِسْورَ وعبد الرحمن بن عبد يغوث يُتمّان، قال: "نحن أعلم" ولم يعذرهما في إتمامهما، وأن الرجل الذي قدّمه سلمان - رضي الله عنه - ومعه ثلاثة عشر من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فصلى أربعًا قال له سلمان: "ما لنا وللمربعة؟! إنما يكفينا نصف المربع"، ولم يُنكر ذلك عليه من ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 7).

كان بحضرته من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فدل ذلك أن مذهبهم لم يكن إباحة الإتمام في السفر. ش: أشار بهؤلاء إلى جماعة الصحابة الذين روي عنهم قصر الصلاة، وهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك وأبو برزة الأسلمي - رضي الله عنهم -، والباقي ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد أتمّ ذلك الرجل الذي قدمه سلمان والمسور وهما صاحبان، فقد ضاد ذلك ما رواه سلمان ومَنْ تابعه على ترك الإتمام في السفر. قيل له: في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون المسور وذلك الرجل أتمّا لأنهما لم يكونا يَريان في ذلك السفر قصرًا؛ لأن مذهبهما لا تقصر الصلاة إلا في حج، أو عمرة، أو غزو، فإنه قد ذهب إلى ذلك غيرهما، فلما احتمل ما روي عنهما ما ذكرنا، وقد ثبت التقصير عن أكثر أصحاب رسول الله - عليه السلام - لم يجعل ذلك مضادًّا لما قد روي عنهم؛ إذ كان قد يجوز أن يكون على خلاف ذلك، وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قد صلى بمنى أربعًا، فأنكر ذلك عليه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومن أنكره معه من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، وإن كان عثمان - رضي الله عنه - إنما فعله لمعنًى رأى به إتمام الصلاة مما سنصفه في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى، فلما كان الذي ثبت لنا عن رسول الله - عليه السلام -، وعن أصحابه هو تقصير الصلاة في السفر لا إتمامها؛ لم يجز لنا أن نخالف ذلك إلى غيره. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الرجل الذي قدمه سلمان في الصلاة قد أتمّ صلاته وهو صحابي، وكذلك المسور بن مخرمة في حديث الزهري المذكور عن قريب قد أتم صلاته، وهو أيضًا صحابي، فقد وقع بين فعلهما وبين ما روي عن سلمان ومَنْ تابعه من الصحابة على ترك الإتمام في السفر تضاد وتخالف؛ فحينئذٍ لا يتم الاستدلال بقول مَنْ يرى القصر.

وتقوير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون مذهب هذين الصحابيين أن لا تقصر الصلاة في حج أو عمرة أو غزوة، ولم يكونا يريان القصر في تلك السفرة التي كانا فيها؛ لأنها لم تكن سفرة الحج، ولا سفرة العمرة، ولا سفرة الغزوة، وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضًا غيرهما من الصحابة وغيرهم، فعلى هذا يكونان ممن يرى القصر في السفر ولكن في سفر مخصوص وهو أن يكون سفرًا من هذه الثلاث، فإذا كان الأمر كذلك لم يبق فيه تضادّ ولا تخالف. قوله: "فإنه قد ذهب" أي: فإن الشأن: قد ذهب إلى أن القصر مخصوص بسفرٍ من هذه السَّفْرات الثلاث غيرهما أي غير الرجل الذي قدمه سلمان والمسور بن مخومة. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود: "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد". وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنما يقصر الصلاة مَن كان حاجّا أو بحضرة عدو". ورُوي ذلك أيضًا عن أبي قلابة وعن إبراهيم اليتمي. وفي "الاستذكار" عن عطاء: "ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الله تعالى" وكان طاوس يسأله الرجل فيقولُ: "أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة؟ فيسكت، ويقولُ: حُجّاجًا أو عُمّارًا صلينا ركعتين". وقال أبو عمر: ذهب داود في هذا إلى قول ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو نقض لأصله في ترك ظاهر الكتاب إذ لم يخصّ ضربًا من ضرب، واختلف أهل الظاهر ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 202 رقم 8149).

في هذه المسألة، فطائفة تقول بقول داود، وقال أكثرهم بقصر كل مسافر العاصي والمطيع كمذهب أبي حنيفة، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى. قوله: "وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ...... " إلى آخره، ذكر هذا تأكيدًا لما ذكره من أمر القصر، بيانه: أن القصر في السفر لو لم يكن عزيمةً لما أنكر عبد الله بن مسعود على أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين صلى بمنى أربعًا، ومن عامة إنكاره عليه استرجع فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك لكراهيته خلاف ما عهد من النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وخلاف ما عهد من عثمان أيضًا قبل ذلك، ولكن إنكار ابن مسعود عليه ليس على أنه رآه خالف الفرضَ وإنما خالف النفل؛ إذ لو اعتقد أن فرضه ركعتان لم يستبح أن يصليهما خلفه. وقوله: "فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" يدلُّ على هذا؛ لأن الأربع لو لم تكن مشروعةً ولا مباحةً في السفر لم يكن فيها حظ جملةً ولا تبعيض، وإنما أشار إلى التخفيف والأخذ بالعزيمة واتباع سنة النبي - عليه السلام - بذلك. وقال الداودي: خشي ألا تجزئه الأربع. قال القاضي عياض: وفيه بعد، والله أعلم. قوله: "وإن كان عثمان إنما قبله لمعنًى" واصل بما قبله، وسيذكر معنى هذا إن شاء الله تعالى. ص: فإن قال قائل: فهل رويتم عن رسول الله - عليه السلام - شيئًا يدلكم على أن فرض الصلاة ركعتين في السفر فيكون ذلك قاطعًا لما ذهب إليه مُخالفكَم؟ قلنا: نعم، حدثنا ربيعٌ المؤذنُ، قال: ثنا أسدٌ (ح). وحدثنا عبد العزيز بن معاوية، قال: ثنا يحيى بن حماد (ح).

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير، قالوا: ثنا معاوية، عن بُكير بن الأَخْنس، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "فرض الله على لسان نبيكم - عليه السلام - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين". ش: السؤال والجواب ظاهران: والحديث أخرجه من ثلاث طرق؛ الأول والثاني صحيحان: فالأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أسد بن موسى صاحب "المسند"، عن معاوية بن صالح الحمصي قاضي الأندلس، عن بُكير بن الأخنس السَّدُوسي الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد -قال يحيى: أنا، وقال الآخرون-: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة". الثاني: عن عبد العزيز بن معاوية القرشي البصري، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيْباني أبي محمد البصري، عن معاوية بن صالح ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا يعقوب بن ماهان، قال: ثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إن الله -عز وجل- فرض الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق إبراهيم بن زكرياء الضرير -فيه مقال كثير- عن معاوية بن صالح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 479 رقم 687). (¬2) "المجتبى" (3/ 119 رقم 1442).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وجُبَارَة بن المُغلّس، قالا: نا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "افترض الله الصلاة على لسان نبيكم - عليه السلام - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين"، انتهى. وهذا دليل قاطع على أن فرض الصلاة ركعتان في السفر. وقد تقدم ما ذكرنا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزَيدَ في صلاة الحضر"، وقد بسطنا الكلام فيه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو معاوية ورَوحٌ، قالا: ثنا الثوريّ، عن زُبيْدٍ اليامي. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زُبيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، والجمعة ركعتان، وصلاة السفر ركعتان؛ تمامٌ ليس بقَصْرٍ، على لسان النبي - عليه السلام -". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر ومسلم بن إبراهيم، قالا: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "خطبنا عمر - رضي الله عنه - ... " فدكر مثله. حدثنا يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، جميعًا قالا: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال عمر - رضي الله عنه - ... فذكر مثله. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زُبَيْد ... فذكر مثله بإسناده. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 339 رقم 1068).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريريّ، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر ... فذكر مثله. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسّان، قال: ثنا شريك، عن زُبَيْد ... فذكر مثله، غير أنه لم يذكر: عن الثقة. ش: هذه سبعُ طُرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم ورَوْح بن عبادة، كلاهما عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد بن الحارث اليامي- ويقال: الأيامي روى له الجماعة، وزُبَيد بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قال مهملة، واليامي بالياء آخر الحروف نسبة إلى يام بن أَصْبَى من همدان، وهو يَرْوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. فإن قيل: هو منقطع؛ لأن ابن أبي ليلى لم يَسْمع من عمر - رضي الله عنه - على ما زعمه النسائي. قلت: حَكَمَ مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر- رضي الله عنه -، وصرّح في بعض طرقه فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فذكره. يؤيد ذلك ما أخرجه أبو يَعلى المَوْصلي في "مسنده" (¬1): عن الحُسين بن واقد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" (¬2): ولم يَقْدحه بشيء، وقال: أنا ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (1/ 186 رقم 211). (¬2) "صحيح ابن حبان" (7/ 22 رقم 2783).

أبو يعلى، قال: نا أبو خيثمة، قال: نا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "صلاة السفر وصلاة الفطر وصلاة الأضحى وصلاة الجمعة ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم". ولئن سلمنا ما زعمه النسائي، فهذا البيهقي قد أخرجه (¬1) بسندٍ لا غبار فيه ولا طعن، من حديث محمد بن بشر، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن زبيد اليامي، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر". ثم قال: رواه الثوري، عن زُبَيد، فأسقط من سنده كعبًا، إلا أنه رفعه بآخره. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي المطرف بن أبي الوزير محمد بن عمر بن مطرف، عن محمد بن طلحة، عن زبيد اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر - رضي الله عنه -. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬2): أنا حميد بن مَسْعدة، عن سفيان -وهو ابن حبيب- عن شعبة، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "صلاة الجمعة ركعتان، والفطر ركعتان، والنحر ركعتان، والسفر ركعتان؛ تمامٌ غير قصر على لسان النبي - عليه السلام -". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ومسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن محمد بن طلحة، عن زُبَيْد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 199 رقم 5509). (¬2) "المجتبى" (3/ 118 رقم 1440).

وهذا أيضًا إسناد صحيح، وفيه تصريح بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر- رضي الله عنه -. الرابع: عن يزيد أيضًا، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: قال عمر- رضي الله عنه -. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه العدني في "مسنده": عن وكيع، عن سفيان عن زُبَيْد الأيامي، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - عليه السلام -". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق إبراهيم بن زكرياء الضرير المعلم الواسطي، فيه مقال كثير حتى كذبه بعضهم، عن محمد بن طلحة، عن زُبَيْد بن الحارث ... إلى آخره. السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البُرلسّي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريرى شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد بن الحارث اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر - رضي الله عنه -. ورواه البيهقي هكذا مُعلقًا (¬1)، فقال: ورواه يحيى القطان، عن سفيان، عن زُبَيْد، عن ابن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر - رضي الله عنه -. قلت: لعل المراد من قوله: "عن الثقة" هو كعب بن عجرة؛ على ما صرّح بروايته عنه عن عمر في رواية البيهقي التي ذكرناها آنفًا. السابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسّان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن زُبَيْد بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عمير. ولم يذكر فيه: عن الثقة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى للبيهقي" (3/ 200 بعد رقم 5510).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شريك، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر- رضي الله عنه - قال: "صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان؛ تمام غير قصر على لسان محمد - عليه السلام -". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - فقلتُ: إني أقُيم بمكة فكم أُصلّي؟ قال: ركعتان؛ سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -". ش: إسناده صحيح، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث روى له الجماعة، وموسى بن سلمة بن المحبق، روى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يُحدّث، عن موسى بن سلمة الهذلي قال: "سألتُ ابن عباس - رضي الله عنهما - كيف أُصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أُصلّ مع الإِمام؟ قال: ركعتين؛ سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -". قوله: "إني أقيم بمكة" أراد به الإقامة من غير نية الإقامة فإنه يصلّي ركعتين وإن أقام سنين، أو نيته الإقامة ولكن أقل من خمسة عشر يومًا فإنه يصلي ركعتين أيضًا. قوله: "ركعتان" خبر مبتدأ محذوف أي: صلاتك ركعتان، أو فرضك ركعتان، ويجوز ركعتين بالنصب كما في رواية مسلم، على تقدير: صلَّ ركعتين. قوله: "سنةُ أبي القاسم" بالرفع؛ خبر مبتدأ محذوف، أي: صلاتك ركعتان هي سنة أبي القاسم، ويجوز أن يكون مبتدأ وركعتان مقدمًا خبره، ويجوز النصْب في "السنة" على معنى خُذْ سُنّةَ أبي القاسم، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 338 رقم 1063). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 479 رقم 688).

ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - قالا: "سَنَّ رسولُ الله - عليه السلام - صلاةَ المسافر ركعتين، وهي تمامٌ". ش: الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب بن إبراهيم أبو علي الأنطاكي المعروف بالبالِسي شيخ محمد بن إسحاق بن خزيمة، والهيثم بن جميل البغدادي أبو سهل الحافظ نزيل أنطاكية، قال الدارقطني: ثقة حافظ. روى له ابن ماجه. وشريك وهو ابن عبد الله النخعي. وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجُعفي فيه مقال كثير. وعامر هو ابن شراحيل الشعبي. والحديث أخرجه الحافظ الإسماعيلي: ثنا محمد بن الفضل، ثنا عبد الله بن مسلم الدمشقي، ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - قالا: "سنّ رسول الله - عليه السلام - الصلاة في السفر ركعتين، وهي تمام". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنا قتادة، عن صفوان بن مُحرّز: "أنه سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الصلاة في السفر، فقال: أخشى أن يُكذَب عليّ، ركعتان، من خالف السّنة كفر". ش: جابر هو الجُعْفيّ فيه مقال، وصفوان بن مُحْرز المازني البصري روى له الجماعة سوى أبي داود. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي التيّاح، عن مورق العجلي، عن صفوان بن مُحْرز قال: "سألتُ ابن عمر - رضي الله عنهما - عن صلاة السفر، قال: ركعتان، من خالف السنة كفر". قوله: "ركعتان" خبر مبتدأ محذوف، أي: صلاة المسافر ركعتان. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 140 رقم 5202).

قوله: "مَنْ خالف السنة" أي سنة الرسول، وهي تعمّ قوله وفعله، وإنما يكفر إذا خالفها معتقدًا، وأما إذا خالفها بأن تركها تهاونًا وكسلًا فإنه يطلق عليه بأنه كفر بالنعمة، فافهم. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو التياح، عن مُوَرّق قال: سأل صفوان بن محرز ابن عمر - رضي الله عنهما - ... فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر وهو صحيح، وأبو التيّاح يزيد بن حُمَيد الضُّبَعي، ومُوَرِّق -بتشديد الراء المكسورة- العجلي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن قتادة، عن مورّق العجلي قال: "سُئل ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: ركعتين ركعتين، من خالف السنة كفر". ص: حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أسامة بن زيد قال: "سألت طاوسًا عن التطوع في السفر، فقال: وما يمنعك؟ فقال الحَسن بن مُسْلم: أنا حدثتك، أنا سألت طاوسًا عن هذا فقال: قال ابن عباس: فرضَ رسول الله - عليه السلام - الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين، فكما يتطوع ها هنا قبلها ومن بعدها، فكذلك يُصلّي في السفر قبلها وبعدها". ش: إسناده صحيح، والحسن بن مسلم بن يناق المكي روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" في باب: "تطوع السفر" (¬2): من حديث أسامة ابن زيد الليثي، حدثني حسن بن مسلم، حدثني طاوس، حدثني ابن عباس قال: "سنّ رسول الله - عليه السلام -يعني صلاة السفر- ركعتين، وسنّ صلاة الحضر أربعًا، فكما الصلاة قبل صلاة الحضر وبعدها حسن، فكذلك الصلاة في السفر قبلها وبعدها". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 519 رقم 4281). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 158 رقم 5294).

واستفيد منه: أن فرض المسافر ركعتان. وأن إقامة السنن المؤكدة في السفر مستحبة، فكما أنها لا تترك في الحضر فكذلك في السفر. وفي "المغني" لابن قدامة: ولا بأس بالتطوع نازلًا وسائرًا على الراحلة، فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس. ورُوي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله - عليه السلام - يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر وجماعة من التابعين كثير، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسن - رضي الله عنهم -. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزِيدَ في صلاة الحضر". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبيُّ، قال: ثنا مالك ... فدكر بإسناده مثله. ش: هذان إسنادان صحيحان، ويونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وغيره.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - أنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر" وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك، وقد بسطنا الكلام فيه في أول الباب. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حمّادٌ، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر: "أنه أتى النبي - عليه السلام - وهو يَطْعَمُ، فقال: هلمّ فكُلْ. فقال: إني صائم. فقال: ادْن حتى أخبرك عن الصوم، فإن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر والصومَ عن الحُبْلى والمُرضِع". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن الجُرَيْريّ، عن أبي العلاء عن رجل من قومه: "أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " فذكر مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا نُعَيْم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن رجلٍ قال: "أتيتُ النبي - عليه السلام - لحاجةٍ فإذا هو يتغدى، فقال: هَلُمّ إلى الغداء. فقلتُ: إني صائم، فقال: إن الله وضع عن المسافر نصف فريضة الصلاة والصوم". حدثنا نَصْرُ، قال: ثنا نُعَيمٌ، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، قال: حدثني أبو قلابة، عن شيخ من بني قشُيْر، عن عمّه "ثم لقيناه يومًا فقال له أبو قلابة: حَدَّثْهُ -يعني أيّوب- فقال الشيخ: حدثني عمي: أنه ذهب إلى إبل له فانتهى إلى النبي - عليه السلام - ... " ثم ذكر مثله وزاد: "عن الحامل والمرضع". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 478 رقم 685). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 137 رقم 343). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 225 رقم 455).

حدثنا نَصْر، قال: ثنا نُعَيم، قال: ثنا ابن المُبارك، قال: ثنا محمدُ بن سُلَيْم، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب بن مالك قال: "أغارت علينا خيل رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، عن أبي عوانة، عن أبي بشْر، عن هانئ بن عبد الله بن الشخّير، عن رجل من بَلْحريش، عن أبيه قال: "كنا نُسافر، فأتَيْنا رسول الله - عليه السلام - وهو يَطْعَمُ، فقال: هَلُمّ. فقلت: إني صائم، فقال: هَلُمّ أحدثك عن الصوم، إنّ الله وضع عن المسافر الصيام وشَطْرَ الصلاة". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليدُ، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، قال: ثنا أبو قلابة، قال: حدثني أبو أُميّة - رضي الله عنه - قال: "قدمتُ على رسول الله - عليه السلام - من سفرٍ فقال: ألا تنتظر الغداء يا أبا أمية؟ فقلت: إني صائم ... " ثم ذكر مثله. ش: هذه سبع طرق عن أنس بن مالك القشيري -وقيل: الكعبي- من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن صعصعة، وذكر في "التكميل": أنس بن مالك الكعبي القُشَيْري، أبو أمية ويقال: أبو أُمَيمَة، ويقال: أبو ميّة، صحابي كان ينزل بالبصرة، روى عن رسول الله - عليه السلام - حديثًا واحدًا: "إن الله وضع عن المسافر الصيام وشطر الصلاة"، وفيه قصة. وعنه عبد الله بن سوادة القشيري، وأبو قلابة الجرمي، وقيل: عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبيه أو عمه، وقيل غير ذلك في إسناده، انتهى. وفي "الكمال": أنس بن مالك الكعبي، ويقال: القشيري، وقيل: إنه من بني عُقيل بن كعب، وقيل: إنه من بني عبد الله بن كعب، يُكنّى أبا أمية، روى له الأربعة، انتهى.

قلت: فلوجود الاختلاف المذكور أخرجه الطحاوي بالاختلاف، فقال في الطريق الأول: عن رجل من بني عامر، وفي الثاني: عن رجل من قومه، وفي الثالث: عن رجل، عن النبي - عليه السلام -، وفي الرابع: عن شيخ من بني قشير، عن عمّه، وفي الخامس: عن أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب بن مالك، وفي السادس: عن رجل من بني بَلْحريش، عن أبيه، وفي السابع: حدثني أبو أمية. أما الأول: فإسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجزمي، عن رجل من بني عامر ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا موسى بن هارون والحسن بن إسحاق التُّسْري، قالا: ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر يقال له: أيوب، قال لي أبو قلابة: هو حي فالقَه واسمع. قال أيوب: فلقيتُ العامري فحدثني: "أن رسول الله - عليه السلام - بعث خيلًا فأغارت على إبل جارٍ لنا فذهبت بها، فانطلق في ذلك -إما قال أبي، وإما قال عمّي، أو قال قرابةٌ قريبةٌ منه- فأتى رسول الله - عليه السلام - في ذلك، قال: فأتيته وهو يأكل، فقال: هلم للغداء. فقلت: إني صائم. قال: هَلُمّ أحدثك عن ذلك؛ إن الله -عز وجل- وضع عن المسافر الصيام وشطر الصلاة، وعن الحبلى -أو قال: المرضع- وأمر بالإبل فرُدّت، فكان إذا حدّث بهذا الحديث تَلهَّف ويقول: ألا كنتُ أكلتُ من طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "وهو يَطعم" جملة حالية من طَعِم يَطْعَمُ طُعْمًا فهو طَاعم إذا أكل أو ذاق، مثل غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فهو غانم، قال الله تعالى {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (¬2)، وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬3) أي من لم يذقه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 262 رقم 764). (¬2) سورة الأحزاب، آية: [53]. (¬3) سورة البقرة، آية: [249].

قوله: "هَلُمَّ" بفتح الميم، معناه: تعال، قال الخليل: أصله لُمَّ من قولهم لمَّ الله شعثه أي جمعه، كأنه أراد لم نفسك إلينا، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هَلمّا، وللجمع: هَلمّوا، وللمرأة: هلمِّي، وللنساء هلممن، والأول أفصح، وقد توصل بالكلام فيقال: هلم لك وهلم لكما. قوله: "ادن" أي تقرَّب من دنا يدنو. قوله: "فإن الله وضع شطر الصلاة" أي أسقط نصف الصلاة الرباعية عن المسافر تخفيفًا، وأسقط الصوم عن الحبُلى والمرضع خوفًا على ولدهما، ولكن أسقط عن المسافر لا إلى خلف بخلاف الحبلى والمرضع، فإن الصوم يسقط عنهما عند الخوف على ولدهما إلى خلفٍ وهو القضاء. و"المرضع" من أرضعت المرأة ولدها. قال الجوهري: وامرأة مرضع أي لها ولدٌ ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلتَ: مُرضعة، وهو من رَضِعَ الصبيُّ أمّه يَرضَعُها رِضَاعًا مثل سَمِع يَسْمع سَمَاعًا، وأهل نجد يقولون: رَضَعَ يَرْضِعُ مثل ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا. وأما الثاني: فإسنادة صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجُريري -بضم الجيم- البصري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، عن رجل من قومه وهو أنس بن مالك القشيري، وأراد بقومه: بني عامر. وأخرجه النسائي (¬1): أنا سُويدٌ، قال: أنا عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي العلاء بن الشخير، عن رجلٍ نحوه. وأما الثالث: فإسناده جيد حسن، عن نصر بن مرزوق، عن نعيم بن حماد ابن معاوية المروزي الفارض الأعور، عن عبد الله بن المبارك أحد الأئمة الأعلام، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 181 رقم 2278).

عن خالد بن مهران الحذاء البصري، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد التابعين الأعلام، عن رجل ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا سُوَيد بن نصر، أنا عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن رجلٍ قال: "أتيت النبي - عليه السلام - لحاجة، فإذا هو يتغدى، قال: هلمّ إلى الغداء. فقلت: إني صائم. قال: هلمّ أخبرك عن الصوم؛ إنه وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم، ورخص للحبلى والمرضع". قوله: "فريضة الصلاة" أراد به الفريضة التي قررت في الحضر وهي الركعتان في ذوات الأربع، وليس المراد منه أنه وضع أصل الفريضة. قوله: "والصومَ" بالنصب عطفًا على المضاف في قوله: "فريضة الصلاة"، والمعنى: وضع الصوم في السفر تخفيفًا، بمعنى أسْقَط إمساكه إلي خلف لا أنه أسقط أصل الصوم. وأما الرابع: ففيه مجهول، عن نصر بن مرزوق، عن نُعَيْم بن حماد، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن شيخ من بني قشير، عن عمه وهو أنس بن مالك. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن حاتم، قال: أنا حبان، قال: أنا عبد الله، عن ابن علية، عن أيوب، عن شيخ من قشير، عن عمه، حدثنا ثم ألفيناه في إبل، فقال له أبو قلابة: حدثه. فقال الشيخ: حدثني عمي: "أنه ذهب في إبل له فانتهى إلى النبي - عليه السلام - وهو يأكل -أو قال: يطعم- فقال: ادن فَكُلْ -أو قال: ادن فاطعم- فقلت: إني صائم. فقال: إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام، وعن الحامل والمرضع". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 181 رقم 2277). (¬2) "المجتبى" (4/ 180 رقم 2275).

قوله: "ثم لقيناه" الضمير المنصوب فيه يرجع إلى "شيخ" وكذلك في "له"، فافهم. وأما الخامس: فإسنادُه حسن لا بأس به، عن نصر بن مرزوق، عن نعيم بن حماد، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن سليم الراسبي، ضعفه البخاري، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس كذلك. وقال النسائي: ليس بالقوي، وعن يحيى: صدوق. عن عبد الله بن سوادة القشيري روى له الجماعة سوى البخاري، عن أنس بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا أبو هلال الراسبي، قال: نا ابن سوادة القشيري، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشُير قال: "أغارت علينا خيل رسول الله - عليه السلام - فأنتهيت -أو قال: فانطلقت- إلى رسول الله - عليه السلام - وهو يأكل، فقال: اجلس، فأصب من طعامنا هذا. فقلت: إني صائم. فقال: اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام، إن الله -عز وجل- وضع شطر الصلاة -أو نصف الصلاة- والصوم عن المسافر، وعن المرضع أو الحبلى. والله لقد قالهما جميعًا أو إحداهما، قال: فتلهفت نفسي ألا أكون أكلت من طعام رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه الترمذي (¬2): نا أبو كريب ويوسف بن عيسى، قالا: ثنا وكيع، قال: نا أبو هلال، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب قال: "أغارت علينا خيل رسول الله - عليه السلام -، فأتيتُ رسول الله - عليه السلام - فوجدته يتغدى، فقال: ادْن فَكُلْ. فقلتُ: إني صائم. فقال: ادْن أحدثك عن الصوم أو الصيام، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام. والله لقد قالهما النبي - عليه السلام - كليهما أو إحداهما، فيا لهف نفسي أن لا أكون طعمت من طعام النبي - عليه السلام -". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 317 رقم 2408). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 94 رقم 715).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: نا وكيع، عن أبي هلال، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الأشهل وقال على بن محمد: من بني عبد الله بن كعب، قال: "أغارت علينا خيلُ رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره نحوه. قوله: "من بني عبد الله بن كعب" وقيل: من بني عقيل بن كعب، وقيل: من بني عبد الأشهل كما في رواية ابن ماجه، وقيل: من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير كما في رواية أبي داود. قال ابن الأثير: قولهم: إن كعبًا أخو قشير ليس كذلك، فكعب هو أبو قشير، فإنه قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فكيف يقولون: إن كعبًا أخو قشير، والذي جاء في إسناد أبي داود أنه من بني عبد الله بن كعب إخوة قشير فصحيح؛ لأن قشيرًا وعبد الله أَخَوَانِ، وكعب أبو قشير، فقولهم: قشيري وكعبي كقولهم: عباسيّ وهاشمي، وكقولهم: سَعْدي وتميمى، فهاشم جد للعباس وتميم جد لسعد، والله أعلم. قوله: "أغارت" من أَغَارَ يُغِيرُ إذا أَسْرع في العدو. و"الخيل": الفرسان، ومنه قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (¬2) أي بفرسانك ورَجّالتك. وأما السادس: ففيه مجهول، عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق كلاهما، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن هانئ بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش العامري الجَرشي البصري، وثقه ابن حبان، عن رجل من بَلْحريش، عن أبيه قال: "كنا نسافر ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 533 رقم 1667). (¬2) سورة الإسراء، آية: [64].

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام، قال: نا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "من بلحريش" أصله من بني الحريش كما يقال في بني الحارث: بلحارث؛ وذلك لأن "النون" و"اللام" قريبا المخرج، فلما لم يمكنهم الإدغام لسكون "اللام" حذفوا "النون" كما قالوا: ظلَّت، وكذلك يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها "لام" المعرفة نحو بلْعَنْبر وبَلْهُجيم، فأما إذا لم تظهر "اللام" فلا يكون ذلك، وأراد بالرجل المذكور: ابن أنس بن مالك الكعبي المذكور في الروايات السابقة، وذكر ها هنا أنه من بني الحريش؛ لأن بني الحريش قبيلة من بني عامر. وقال ابن الأثير: أنس بن مالك الكعبي، ويقال له: القُشَيري، والعقيلي، والحرشي، والعامري. قلت: فلذلك وقع الاختلاف في نسبته والله أعلم، ولذا أيضًا قال ها هنا: عن رجل من بلحريش، عن أبيه، وفي رواية: عن شيخ من بني قشير، عن عمه كما ذكرت فيما مضى، وقد أشار إليه صاحب "التكميل" بقوله: عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبيه أو عن عمه، والله أعلم. وأما السابع: فإسناده صحيح، عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روَى له الجماعة، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أبي أمَية هو أنس بن مالك الكعبي المذكور، وقد قلنا: إنه يكنى بأبي أمية، وأبي أميمة وأبي مَيَّة. وأخرجه البغوي في "معجم الصحابة" (¬2): ثنا شيبان، نا أبان العطار، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 180 رقم 2280). (¬2) "معجم الصحابة" (1/ 273).

يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أمية: "أنه قدم على رسول الله - عليه السلام - من سفر، فلما أراد أن يرجع قال له رسول الله - عليه السلام -: ألا تنتظر الغداء؟ قال: إني صائم. ثم قال: ألا أخبرك عن المسافر، إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة" وقال البغوي في باب "الكنى" منه: أبو ميّة، ويقال: أبو أمية، ويقال: إنه عمر بن أمية، والله أعلم. وقال البيهقي (¬1) بعد أن أخرج الحديث المذكور: أبو أمية هو أنس بن مالك القشيري الكعبي. وقيل: الظاهر أن هذا وهمٌ من البيهقي؛ لأن النسائي (¬2) صرّح في روايته بأبي أمية عمرو بن أمية الضمري حيث قال: أخبرني عَبْدَة بن عبد الرحيم، عن محمد بن شعيب، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: أخبرني عمرو بن أمية الضمري قال: "قدمتُ على رسول الله - عليه السلام - من سفر، فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. فقلت: إني صائم. فقال: تعال، ادْن مني حتى أخبرك عن المسافر، إن الله -عز وجل- وضع عنه الصيام ونصف الصلاة". أخبرني عمرو بن عثمان (¬3)، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه قال: "قدمتُ على رسول الله - عليه السلام -، فقال لي رسول الله - عليه السلام -: ألا تنتظر الغداء يا أبا أمية؟ قلت: إني صائم. قال: تعال، أخبرك عن المسافر؛ إن الله وضع عنه -يعني- الصيام ونصف الصلاة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 231 رقم 7871). (¬2) "المجتبى" (4/ 178 رقم 2267). (¬3) "المجتبى" (4/ 178 رقم 2268).

أنا إسحاق بن منصور (¬1)، قال: أنا المغيرة، قال: نا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن أبي أمية الضمري قال: "قدمتُ على رسول الله - عليه السلام - من سفر، فسلمتُ عليه، فلما ذهبتُ لأخرج قال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلتُ: إني صائم يا نبي الله. قال: تعال أخبرك عن المسافر؛ إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة". أنا أحمد بن سليمان (¬2)، قال: أنا موسى بن مروان، قال: ثنا محمد بن حرب، عن الأوزاعي قال: أخبرني يحيى، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني أبو المهاجر، قال: حدثني أبو أمية -يعني الضمرى-: "أنه قدم على النبي - عليه السلام - ... " فذكر نحوه. أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق (¬3)، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني أبو قلابة الجرمي، أن أبا أُميّة الضمري حدثهم: "أنه قدم على رسول الله - عليه السلام - من سفر فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلت: إني صائم. قال: إذًا أخبرك عن المسافر؛ إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة". قلت: ليس هذا بِوَهْمٍ من البيهقي لأنه يجوز أن يكون الحديث مرويًّا عن كليهما، أعني أبا أميّة أنس بن مالك القشيري، وأبا أمية عمرو بن أمية الضمري، على أنه قد قيل: إن أبا أمية -فيما رواه الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة- قد يحتملُ الوجهين؛ يحتمل أن يكون أنس بن مالك القشيري، ويحتمل أن يكون عمرو بن أمية الضمري على ما أشار إليه أبو القاسم البغوي، فافهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 179 رقم 2269). (¬2) "المجتبى" (4/ 179 رقم 2270). (¬3) "المجتبى" (4/ 179 رقم 2271).

ص: فهذه الآثار التي رويناها عن رسول - عليه السلام - تدلّ على أن فرض المسافر ركعتان، وأنه في ركعتّيْه كالمقيم في أربعته، فكما ليس للمقيم أن يزيد في صلاته على أربعته شيئًا فكذلك ليس للمسافر أن يزيد في صلاته على ركعتيه شيئًا. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن عبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعائشة الصِّديقة، وأنس بن مالك القشيري وعمرو بن أمية الضمري على احتمال، فإن أحاديث هؤلاء تدلّ صريحًا على أن فرض المسافر ركعتان، وأن الركعتين في حقه كالأربع في حق المقيم، فكما لا يجوز للمقيم أن يزيد على الأربع فكذلك لا يجوز للمسافر أن يزيد على الركعتين إلا تطوعًا، فافهم، فإذا كان فرضه ركعتين؛ تفسد صلاته بترك القعدة على رأس الركعتين، كما تفسد صلاة المقيم بتركه القعدة الأخيرة. فعلم من ذلك أن القصر عزيمة، والإكمال رخصة، وقد قال بعض أصحابنا: هذا التلقيب على أصلنا خطأ؛ لأن الركعتين من ذوات الأربع في حق المسافر ليستا قصرًا حقيقة عندنا، بل هما تمام فرض، والإكمال ليس برخصة في حقه بل هو إساءة ومخالفة للسنة. كذا رُوي عن أبي حنيفة أنه قال: مَنْ أتم الصلاة في السفر؛ فقد أَثِمَ وأساء وخالف السنة؛ وهذا لأن الرخصة اسم لما تغيّر عن الحكم الأصلي بعارض إلى تخفيف ويُسْر -ما عرف في الأصول- ولم يوجد معنى التغيير في حق المسافر رأسًا؛ إذ الصلاة في الأصل فرضت ركعتين في حق المسافر والمقيم جميعًا، ثم زيدت في حق المقيم ركعتان وأقرت الركعتان على حالهما في حق المسافر كما كانتا في الأصل، فعدم معنى التغيير في حقه أصلًا، وفي حق المقيم وُجد التغيير لكن إلى الغلظ والشدة لا إلى السهولة واليسر، فلم يكن ذلك أيضًا رخصةً في حقه حقيقة، فإن سمّي فإنما سمي مجازًا لوجود بعض معاني الحقيقة، وهو التغيير.

ص: وكان النظر عندنا في ذلك أنَّا رأينا الفروض المجتمع عليها لابد لمن هي عليه من أن يأتي بها ولا يكون له خيارٌ في أن لا يأتي بما عليه منها، وكان ما أُجْمِع عليه: أن للرجل أن يأتي به إن شاء، وإن شاء لم يأت به، فهو التطوع، إن شاء فعله، وإن شاء تركه، فهذه هي صفة التطوع، وما لا بد من الاتيان به فهو الفرض، وكانت الركعتان لابد من المجيء بهما وما بعدهما ففيه اختلاف، فقوم يقولون: لا ينبغي أن يؤتى به، وقومٌ يقولون: للمسافر أن يجيء به إن شاء وله أن لا يجيء، فالركعتان موصوفتان بصفة التطوع، فهو تطوع، فثبت بذلك أن المسافر فرضه ركعتان، وكان الفرض على المقيم أربعًا فيما يكون فرضه على المسافر ركعتين، فكما لا ينبغي للمقيم أن يصلي بعد الأربع شيئًا بغير تسليم، فكذلك لا ينبغي للمسافر أن يُصلّي بعد الركعتين شيئًا من غير تسليم. فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: ملخص هذا: أن ما كان فرضًا بالإجماع لا بد من إتيانه كله وليس له خيار في تركه، وما كان تطوعًا بالإجماع فله الخيار فيه إن شاء أتى به وإن شاء تركه، والركعتان من الرباعية لابد للمسافر من الإتيان بهما بالإجماع وما بعدهما من الآخريين فيه خلاف: فقدم يقولون: لا ينبغي أن يؤتى به -وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأصحابه- فإن أتى به يكون نفلًا. وقوم يقولون: له أن يجيء به إن شاء وإن شاء لا يجيء به، وأراد بهم: عطاء، والشافعي، ومالكًا، وأحمد؛ على ما ذكرناه في صدر الباب، فإذا كان الأمر كذلك تكون تلكما الركعتان موصوفتين بصفة التطوع، وما كان موصوفًا بصفة التطوع فهو تطوع، فالركعتان الأخيرتان من الرباعية للمسافر تطوع، فإذا كان كذلك كان ينبغي أن لا يصلي بعد الركعتين الأولين شيئًا من غير تسليم، كما كان لا ينبغي

للمقيم أن يصلّي بعد الأربع شيئًا بغير تسليم، فهذا هو وجه النظر والقياس، والله أعلم. ص: فإن قال قائلٌ: فقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يُتمّون، وذكروا في ذلك ما قد فعله عثمان - رضي الله عنه - بمنًى، وما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بُكير، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم أكملت أربعًا وأُثبتت للمسافر". قال صالح: فحدثتُ بذلك عمر بن عبد العزيز فقال: عروة حدثني، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنها كانت تصلي في السفر أربعًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكم، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "استَأْذنتُ حذيفة من الكوفة إلى المدائن، ومن المدائن إلى الكوفة في رمضان، فقال: آذن لك على أن لا تُفْطر ولا تُقصّر. فقلت: وأنا أكفل لك أن لا أُقصر ولا أفطر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا ابن عون قال: "قدمتُ المدينة، فأدركت ركعةً من العشاء، فصنَعْتُ شيئًا برأيي، فسألت القاسم بن محمد، فقال: كنتَ ترى أن الله يعذبك لو صليت أربعًا؟ كانت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - تُصلّي أربعًا وتقول: المسلمون يصلون أربعًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "أيُّ أصحاب رسول الله - عليه السلام - كان يُوَفّي الصلاة في السفر؟ فقال: لا أعلمه إلا عن عائشة وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنها -". فهذا عطاء قد حكى عن سَعْد، وقد رُوي عنه خلاف ذلك في حديث الزهري، وحبيب بن أبي ثابت.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة، عن حيان البارقي، قال: قلت لابن عمر: "إني من بَعْث أهل العراق، فكيف أُصلي؟ قال: إن صليت أربعًا فأنت في مصْر، وإن صليتَ ركعتين فأنت مسافر". فهذا عثمان بن عفان، وحديفة بن اليمان وعائشة وابن عمر - رضي الله عنهم -، قد رُوي عنهم في إتمامهم الصلاة في السفر ما قد ذكرنا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم وإن رويتم أحاديث تدلّ على القصر ولكن لا نزاع لنا فيه، وإنما النزاع في الإتمام، وقد روي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يتمون صلاتهم في السفر. وأخرج في ذلك عن عثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. أما مارُوي عن عثمان - رضي الله عنه -: فسيجيء إن شاء الله تعالى مع بيان معناه. وأما ما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي ... إلى آخره. ورجاله كلهم ثقات قد ذُكِرُوا غير مرة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الله بن صالح، حدثني الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد، حدثني ربيعة، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة: "أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر على ركعتين، وأتمت صلاة الحضر أربعًا". قال صالح: فأخبرت عمر بن عبد العزيز فقال: إن عروة قد أخبرني: "أن عائشة كانت تصلي أربع ركعات في السفر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 143 رقم 5261).

قال: فوجدت عروة عنده يومًا، فقلتُ: كيف أخبرتني عن عائشة؟ فحدّث بما حدثني به، فقال عمرُ - رضي الله عنه -: أليس حدثتني أنها كانت تُصلّي أربعًا في السفر؟ قال: بلى". قوله: "وأثبتت" أي قررت ركعتين للمسافر مثل ما فرضت ركعتين. قوله: "قال صالح" هو صالح بن كيْسان الراوي. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، عن عبد الله بن عون البصري قال: "قدمتُ المدينة ... " إلى آخره. الثالث: فيه عن سَعْد أيضًا، أخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي ... إلى آخره. قوله: "فهذا عطاء" أي: عطاء بن أبي رباح، قد حكى عن سعد هذا، والحال أنه قد روي عنه خلاف ذلك في حديث محمد بن مسلم الزهري وحبيب بن أبي ثابت. أما حديث الزهري فهو ما رواه أن رجلًا أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة: "أن سعد بن أبي وقاص والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعًا في سفرٍ، فكان سَعْد يقصّر الصلاة ويفطر" (¬1). وأما حديث حبيب بن أبي ثابت فهو ما رواه عن عبد الرحمن بن المسْور قال: "كنا مع سَعْد بن أبي وقاص في قريةٍ من قرى الشام فكان يصلي ركعتين" (1). وأما ما روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم ابن عُتيبة، عن إبراهيم بن يزيد التيمي روى له الجماعة، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التيمي -تيم الرباب- الكوفي روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) تقدم.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "كنت مع حذيفة بالمدائن، فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة، فأذن لي وشرط عليّ أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه، وبين الكوفة والمدائن سبعة وعشرون فرسخًا". وأما ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد حسن جيد، عن أبي بكرة، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن حَيّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن إياس البارقي الأزدي، ذكره بن حبان في "الثقات"، ونسبته إلى بارق جبل باليمن نزله سَعْد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء. قوله: "من بَعْث أهل العراق" أي من جيشهم، والبعوث: الجيوش، يقال: كنت في بعث فلان، أي: في جيشه الذي بُعث معه. ص: ولكل واحدٍ منهم في مذهبه الذي ذهب إليه معنًى سنُبيّنهُ في هذا الباب ونذكر مع ذلك ما يجب له من طريق النظر وما يجب عليه أيضًا من طريق النظر إن شاء الله تعالى. فأما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فالذي ذكرنا عنه من ذلك هو إتمامه الصلاة بمنى، فلم يكن ذلك لأنه أنكر التقصير في السفر، كيف يتُوهم ذلك عليه وقد قال الله -عز وجل- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2) الآية. فأباح الله لهم القصر في هذه الآية إذا خافوا أن يفتنهم الذين كفروا، ثم أخبرهم رسول الله - عليه السلام - أن ذلك واجبٌ لهم، وإن أمنوا في حديث يعلى بن مُنية الذي روينا عنه عن عمر- رضي الله عنه - في أول هذا الباب، وصلى رسول الله - عليه السلام - بمنى ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 527 رقم 4308). (¬2) سورة النساء، آية: [101].

ركعتين وهم أكثر ما كانوا وآمنه وعثمان - رضي الله عنه - معه، فلم يكن إتمامه الصلاة بمنًى لأنه أنكر التقصير في السفر ولكن لمعنًى قد اختلف فيه. فحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان بمنى أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحج". فأخبر الزهري في هذا الحديث أن إتمام عثمان - رضي الله عنه - إنما كان لأنه نوى الإقامة، فصار إتمامُه ذلك وهو مقيم قد خرج مما كان فيه من حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، فليس في فعله ذلك دليل على مذهبه كيف كان في الصلاة في السفر هل هو الإتمام أو التقصير؟ وقد قال الزهري أيضًا غير ذلك. فحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، عن حماد بن سلمة، قال: أنا أيوب، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان - رضي الله عنه - بمنى أربعًا لأن الناس كانوا أكثر في ذلك العام، فأحبّ أن يخبرهم أن الصلاة أربعٌ". فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليُعلمَ الأعراب أن الصلاة أربع، فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يُريَهم ذلك نوى الإقامة، فصار مقيمًا فرضه أربع فصلى أربعًا وهو مقيم بالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري في الفصل الذي قبل هذا، ويحتمل أن يكون فعل هذا وهو مسافر لتلك العلة. والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم؛ لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - عليه السلام - أجهل منهم منها وبحكمها في زمن عثمان - رضي الله عنه -، وهم بأمر الجاهلية حينئذٍ أحدث عهدًا، فهم كانوا في زمن رسول الله - عليه السلام - إلى العلم بفرض الصلاة أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان - رضي الله عنه -، فلما كان رسول الله - عليه السلام - لم يُتمّ الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلّوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها ويُعلِّمهم كيف حكمها في

الحضر، فقد عاد حكم معنى ما صحّ من تأويل حديث أيوب عن الزهري إلى معنى حديث معمر عن الزهري. وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يَذهَبُ إلى أنه لا يقصرها إلا مَنْ حَلّ وارتحل، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا حمادٌ، قال: ثنا قتادة، قال: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عباس بن عبد الله: "أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتب إلى عُمَّاله أن لا يُصَلّين الركعتين جابي ولا نائي ولا تاجر، وإنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ وأبو عمر، قالا: ثنا حماد بن سلمة، أن أيوب السختياني أخبرهم، عن أبي قلابة الجرمي، عن عمه أبي المهلب قال: "كتب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة واما لجباية وإما لجشر ثم يقصرون الصلاة، وإنما يَقْصر الصلاة مَنْ كان شاخصًا أو بحضرة عدو. فقالوا: فكان مذهب عثمان - رضي الله عنه - أن لا يقصر الصلاة إلا من كان يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصًا، فأما من كان في مصر مستغنٍ به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يُتم الصلاة. قالوا: ولهذا أتم هو الصلاة بمنًى؛ لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صاروا مصرًا يستغنى من صلى به عن حمل الزاد والمزاد. وهذا المذهب عندنا فاسدٌ؛ لأن مني لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - عليه السلام - فقد كان رسول الله - عليه السلام - يُصلّي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد في بكر - رضي الله عنه - كذلك، فإذا كانت مكة مع عدم احتياج مَنْ حلّ بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة، فما دونها من المواطن أَحْرى أن يكون كذلك.

فقد اتفقت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان - رضي الله عنه - أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري، فإنه يحتمل أن يكون من أجله أتمها، وفي ذلك الحديث أن إتمامه كان لنية الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه. ش: أي لكل واحد من الصحابة المذكورين الذين أتموا صلاتهم في السفر معنًى فيما ذهب إليه من الإتمام في السفر. وأراد بهذا الكلام الجواب عما رُوي عن هؤلاء من الإتمام في السفر؛ فلذلك شرع فيه بكلمة "أما" التفصيلية بقوله: "فأما عثمان - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. تقرير ذلك أن عثمان - رضي الله عنه - لم يتم صلاته بناءً على أنه كان ينكر التقصير في السفر، وكيف يتوهم ذلك في حقه وقد شاهدَ التنزيل يخبر أن الله تعالى قد أباح لهم القصر عند خوفهم من فتنة الكفار، وأن رسول الله - عليه السلام - أخبرهم أن القصر واجب لهم وإن كانوا في حالة الأمن بقوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وذلك في حديث يعلى بن كمية الذي ذكر في أول الباب، وأيضًا لما صلى رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين والناس أكثر ما كانوا وآمنه أي آمن ما كانوا، كان عثمان معه - عليه السلام -، فكيف يتوهم حينئذٍ أنه كان ينكر التقصير؟! فإذا بطل هذا؛ تعين تأويلُ إتمامه وحمله على معنًى من المعاني. وقد اختلف العلماء فيه، فقال الزهري وجماعة: إنما أتم لأنه عزم على الإقامة بعد الحج. أخرج ذلك بإسنادٍ رُواتها ثقات ولكنه منقطع عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن مهدي بن مالك البصري شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق صاحب "المسند" و"المصنف"، عن معمر بن راشد الأزدي، عم محمد بن مسلم الزهري.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا ابن العلاء، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري: "أن عثمان - رضي الله عنه - إنما صلّى بمنًى أربعًا؛ لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج". فقد أخبر الزهري فيه أن إتمامه - رضي الله عنه - إنما كان لأنه أزمع على المقام، يقال: أزمَع على أمر كذا إذا ثبت عليه، وقال الفراء: يقال: أزمعته وأزمعتُ عليه بمعنًى مثل أجمعته وأجمعت عليه. وقال ابن فارس: هذا له وجهان: أحدهما: أن يكون مقلوبًا من عزم. والآخر: أن تكون الزاي بدلًا من الجيم كأنه من إجماع الرأي. وقال الكسائي: أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه. وما ورد في الأثر يردُّ عليه. فإذا كان كذلك كان إتمام عثمان - رضي الله عنه - والحال أنه مقيم قد خرج بذلك عن حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، ولكن ليس فيه دليل على مذهبه كيف كان في صلاته في السفر؟ هل هو يرى الإتمام أو يرى القصر؟ وقد رُوي عن الزهري معنى آخر في إتمام عثمان غير المعنى الذي ذكره. أخرجه أيضًا برواةٍ ثقات ولكنه منقطع أيضًا عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن مسلم الزهري. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن أيوب، عن الزهري: "أن عثمان - رضي الله عنه - أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذٍ، فصل بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 199 رقم 1961). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 199 رقم 1964).

فهذا المعنى خلاف المعنى المذكور أولًا، ولكن له احتمالان: أحدهما: أن يكون لما أراد أن يُريَهم ذلك نوى الإقامة، فصار حينئذٍ مقيمًا، فصار فرضه أربعًا، فصل أربعًا. والآخر: يحتمل أن يكون فعل ما فعل والحال أنه مسافر لتلك العلة المذكورة. ثم قال الطحاوي -رحمه الله -: والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم. [3/ ق 208 - أ] (¬1) ثم بيّن وجه ذلك بقوله: "لأن الأعراب ... " إلى آخره. فإن قيل: بل التأويل الثاني أشبه وأقرب إلى الصواب. والدليل عليه ما قاله البيهقي في "المعرفة" (¬2): قد روينا بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه: "أن عثمان أتمّ بمنى، ثم خطب الناس فقال: أيها الناس، إن السنة سنة رسول الله - عليه السلام - وسنة صاحبيه، ولكن حدث العام من الناس فخفت أن يستنوا". ثم قال البيهقي: وهذا يؤيد رواية أيوب عن الزهري: "أن عثمان أتم بمنى لأجل الأعراب لأنهم كثروا عامئذٍ" ويُضعّف ما رواه معمر عنه: "أن عثمان - رضي الله عنه - إنما صلى بمنى أربعًا لأنه أجمع الإقامة بعد الحج". وقال أبو عمر: قال ابن جريج: "إن أعرابيًّا نادى عثمان في مني: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين، فخشي عثمان - رضي الله عنه - أن يظن جهال الناس أن الصلاة ركعتان". قلت: الذي يظهر لي أن كلاًّ من التأويلين بعيد. ¬

_ (¬1) حدث خلط في ترتيب المخطوط. فكان [ق 208 أ] مع [ق 210 ب] و [ق 210 أ] مع [ق 209 ب] و [ق 209 أ] مع [ق 208 ب] وتم الترتيب الصحيح ولله الحمد. (¬2) "معرفة السنن والآثار" (4/ 473 رقم 1650).

أما الأول: فلأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاثة أيام، ويعارضه أيضًا ما قاله أبو عمر بن عبد البر: المعروف عن عثمان أنه ما كان يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رُحّلت، فهذه الحالة ليست حالة من ينو الإقامة. وأما الثاني: فلما ذكرنا من إتمامه لو كان للعلة التي ذكرت لكان النبي - عليه السلام - أولى به؛ لأن جهالة الأعراب كانت أشد وأكثر في زمن النبي - عليه السلام -، وكانوا أحوج إلى ذلك في زمنه من زمن عثمان - رضي الله عنه -؛ لأن أمر الصلاة أشتهر في زمنه أكثر مما كان في زمن النبي - عليه السلام - ومع هذا لم يتم النبي - عليه السلام -. وقال جماعة آخرون في تأويل إتمام عثمان ما أشار إليه الطحاوي بقوله: "وقد قال آخرون ... " إلى آخره، وأراد بهم: محمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وقتادة؛ فإنهم قالوا: المعنى في إتمام عثمان الصلاة بمنى: من أجل أنه كان يذهب إلى أنه لا يقصر الصلاة إلا من حل وارتحل، وأراد به المسافر الذي يحل في أرض -أي: ينزل- ثم يرتحل ويحمل معه الزاد والمزاد فإنه هو الذي يقصر الصلاة، وأما الذي يدخل مصرًا من الأمصار ويستغني عن حمل الزاد والمزاد فإنه لا يقصر، وقد يقال: المراد من الحال المرتحل: المغازي الذي لا يقفل عن غزوٍ إلا عقّبه آخر. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما قالوا من المعنى في إتمام عثمان الصلاة بما رواه قتادة وعباس بن عبد الله وأبو المهلب. أما ما رواه قتادة: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص ابن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن قتادة ... إلى آخره. وهو منقطع. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن عاصم، عن ابن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 203 رقم 8153).

سيرين قال: "كانوا يقولون في السفر الذي تقصر فيه الصلاة: الذي يحمل فيه الزاد والمزاد". قلت: "الزاد" معروف وهو الذي يتزود به المسافر أي يتقوّت. و"المَزَاد": بفتح الميم: جمع مزادة وهي الراوية، وقال أبو عبيد: لا يكون إلا من جلدين يُقام بجلد ثالث بينهما ليتسع. قال الجوهري: وكذلك السطيحة والشعيب، والجمع: المزاد والمزايد. وقال ابن الأثير: المزادة الظرف الذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة والسطيحة، والجمع المزاود والميم زائدة. وأما ما رواه عباس بن عبد الله: فأخرجه أيضًا عن أبي بكرة، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عباس بن عبد الله الجشمي، هكذا وقع في رواية الطحاوي عباس -بالباء الموحدة- وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين وقال: يروي عن عثمان وأبي هريرة، وروى عنه قتادة، وفي "الكمال": روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1)، وفي روايته: "عياش" بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عياش ابن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: "أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتب إلى عماله لا يصلي الركعتين جابيًا ولا تانيًا، إنما يصلي الركعتين مَنْ كان معه الزاد والمزاد". قال علي: التاني هو صاحب الضيعة. قال علي: هكذا في كتابي، والصواب عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة. قلت: الصواب ما قاله الطحاوي. ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 5).

وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن قتادة: "أن عثمان - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله: أنه لا يصلي الركعتين المقيم ولا التاني ولا التاجر، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد". قلت: هذا منقطع وما رواه الطحاوي متصل. قوله: "جابي" فاعل من الجباية، وهو استخراج الأموال من مظانّها. قوله: "ولا تاني" من تَنَاءَ، ذكره الجوهري في باب المهموز، وقال: تناءت بالبلد تُنوءًا إذا أقمت به وقطنته، والتاني من ذلك، وهم تُنَاء البلد. وأما ما رواه أبو المهلب: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة وابن عمر حفص بن عمر الضرير كلاهما، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الملهب الجرمي عم أبي قلابة، قال النسائي: أبو المهلب عمرو بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية. وقال غيره: اسمه معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2): من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن المهلب: "أن عثمان بن عفان كتب: إنه بلغني أن رجالًا يخرجون إما لجباية وإما لتجارة وإما لجشر ثم لا يتمون الصلاة، فلا تفعلوا فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدوٍّ". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدثني رجل ممن قرأ كتاب عثمان - رضي الله عنه - أو قرئ عليه فقال: "أما بعد، فإنه بلغني أن رجالًا منكم يخرجون إلى سوادهم إما في جَشْر وإما في جباية وإما ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 520 رقم 4284). (¬2) "المحلى" (2/ 5). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 203 رقم 8151).

في تجارة فيقصرون الصلاة -أو لا يتمون الصلاة- لا تفعلوا، فإما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: أخبرني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه: "أن عثمان - رضي الله عنه - كتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإنه بلغني أن بعضكم يكون في جشره أو في تجارته أو يكون جابيًا فيقصر الصلاة، إنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو". قوله: "وإما لجَشْرٍ" قال ابن الأثير: الجَشَر قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرًا فقصروا الصلاة، فنهاهم عثمان عن ذلك؛ لأن المقام في المراعي وإن طال فليس بسفر". وقال الجوهري: قال الأصمعي: يقال: أصبح بنو فلان جَشَرًا إذا كانوا يبيتون مكانهم في الإبل لا يرجعون إلى بيوتهم، قال: وكذلك قال: جشر: يرعى في مكانه ولا يرجع إلى أهله، قال: يقال جشرنا دوابنا: أخرجناها إلى المرعى نجشرها جشرًا بالإسكان ولا تروح، وخيل مجشرة بالحمى أي مرعيّة. قلت: قوله: "وإما لجشر" بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة مصدر من جشر كما أشار إليه الجوهري وقول ابن الأثير: الجَشَر قوم -بفتحتين- وكذلك قول الأصمعي: أصبح بنو فلان جَشَرًا. فافهم. قوله: "من كان شاخصًا" أي مسافرًا، وشخوص المسافر خروجه عن منزله. قوله: "فقالوا" أي: فقال هؤلاء الآخرون الذين قالوا: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا مَن حلّ وارتحل. قوله: "وهذا المذهب" أشار به إلى مذهب هؤلاء الآخرين، وفساده ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 521 رقم 4285).

قوله: "فقد انتفت" أي: إذا كان الأمر كذلك فقد انتفت، من الانتفاء ومن النفي، والباقي ظاهر. وقد ذكر آخرون في إتمام عثمان - رضي الله عنه - صلاته وجوهًا أُخَر. مِنْها: ما قاله بعضهم: إن عثمان - رضي الله عنه - إنما أتم بمنى لأنه تأهل بمكة شرفها الله تعالى، وروى عبد الله بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا عثمان أربع ركعات فلما سلّم أقبل على الناس فقال: إني تأهلت بمكة وقد سمعتُ رسول الله - عليه السلام - يقول: من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليُصلَّ أربعًا". وفي مسند محمد بن سنجر بِسَندٍ ضعيف: "أن عثمان - رضي الله عنه - لما أنكروا عليه قال: أيها الناس إني لما قدمتُ تأهلتُ بها، إني سمعتُ رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا تأهل الرجل ببلدٍ فليصلّ بهم صلاة المقيم". ورُدَّ هذا بأنه كان يسافر بزوجاته ويُقصّر، وأيضًا المسافر إذا دخل مصرًا وتزوج بها لا يصير مقيمًا بنفس التزوج بخلاف المرأة، نصَّ عليه صاحب "الغنية" أيضًا. ومنها: ما قاله بعضهم: كان أهله بمكة فلذلك أتمها. ورُدَّ هذا أيضًا بما ذكرناه. ومنها: ما قاله ابن حزم: قيل: إنه تأول أنه إمام الناس فحيث حلّ هو منزله. ورُدَّ هذا أيضًا بأن النبي - عليه السلام - كان أولى بذلك ولم يفعله. ومنها: ما ذكره القرطبي: أن الوجه في أمر عثمان أنه هو وعائشة - رضي الله عنهما - تأولا أن القصر رخصة غير واجب فأخذ بالأكمل الأتم، ولولا ذلك ما أقروا عثمان عليه.

وفيه نظر؛ لما في "صحيح مسلم" (¬1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "صحبتُ رسول الله - عليه السلام - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبُض، وصحبتُ أبا بكر - رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبُض، وصحبتُ عمر- رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبض، وصحبتُ عثمان - رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله". وفي "صحيح ابن خزيمة" (¬2): "سافرتُ مع النبي - عليه السلام - ومع أبي بكر ومع عمر وعثمان - رضي الله عنهم - فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها". فإن قيل: هذا مخالف لما رواه البخاري (¬3): عن ابن عمر: "صحبت عثمان - رضي الله عنه - فكان يصلي ركعتين صدرًا من خلافته". قلت: وجه التوفيق بين الروايتين: أن ابن عمر أخبر عن عثمان في أسفاره كلها إلا بمنى فإن عثمان - رضي الله عنه - إنما أتم بمنى لا في أسفاره كلها على ما فسره عمران بن حصين - رضي الله عنه -، على ما رواه الترمذي (¬4): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، قال: سئل عمران بن حصين - رضي الله عنه - عن صلاة المسافر فقال: "حججتُ مع رسول الله - عليه السلام - فصلى ركعتين، وحججتُ مع أبي بكر- رضي الله عنه - فصلى ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - فصلى ركعتين، ومع عثمان - رضي الله عنه - ست سنين من خلافته -أو ثماني سنين- فصل ركعتين". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ومنها: ما قاله أبو عمر بن عبد البر: قال قوم: أخذ عثمان - رضي الله عنه - بالمباح في ذلك؛ إذ للمسافر أن يقصر ويتم كما له أن يصوم ويفطر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 479 رقم 689). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 72 رقم 947). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 596 رقم 1572). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 430 رقم 545).

قلت: هذا عندي أقربُ وأوجه وأشبه بالصواب، والله أعلم. ص: وأما ما رويناه عن حذيفة - رضي الله عنه - فليس فيه دليل أيضًا على الإتمام في السفر، كان ذلك السفر طاعةً أو غير طاعة؛ لأنه قد يجوز أن يكون من رأيه أن لا يقصر الصلاة إلا حاجٌّ أوْ معتمرٌ أو مجاهدٌ. كما قد روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شُعبةُ، قال: ثنا سليمان، عن عمارة بن عمير، عن الأسود قال: "كان عبد الله لا يرى التقصير إلا لحاج أو مجاهد". فقد يجوز أن يكون مذهب حذيفة كذلك، فأمر التَّيْمي إذ كان يُريد سفرًا لا لحج ولا لجهاد أن لا يقصر الصلاة، فانتفى أن يكون في حديثه ذلك حجة لمِنْ يرى للمسافر إتمام الصلاة في السفر". ش: هذا عطف على قوله: "فأما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فالذي ذكرناه عنه ... " إلى آخره، وأراد بذلك الجواب عما رُوي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - المذكور فيما مضى، وهو ظاهر. قوله: "كما قد روي عن ابن مسعود" أي كما ذكر روي عن عبد الله بن مسعود. أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة، عن رَوْح، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي روى له الجماعة، عن الأسود بن يزيد النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمد بن فضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 202 رقم 8149).

وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن ابن مسعود قال: "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد" انتهى. وإليه ذهب عطاء وطاوس وإبراهيم النخعي. وروى عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج، عن عطاء قال: "ما أرى أن تُقْصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الله". وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا القول، كان يقول: تقصر في كل ذلك. قال: وكان طاوس يسأله الرجل فيقول: أسافر لبعض حاجتي أقصر الصلاة؟ فسكت، وقال: إذا خرجنا حجاجًا أو عمّارًا صلينا ركعتين. وقال ابن أبي شيبة (¬3): ثنا هشيم، عن العوام قال: "كان إبراهيم لا يرى القصر إلا في حج أو جهاد أو عمرة". قوله: "فأمرَ التيمي" وهو يزيد بن شريك بن طارق التيمي تيم الرباب- وقد ذكرناه. قوله: "إذ كان يريد سفرًا" أي حين كان يريد سفرًا. ص: وأما ما روينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فإن حديث حيان هو على أنه سأله وهو في مصر من الأمصار فقال له: "إني من بَعْث أهل العراق فكيف أصلي؟ فأجابه ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: فإن صليت أربعًا فأنت في مصر، وإن صليت اثنتين فأنت مسافر". فذلك أن مذهبه كان في صلاة المسافر في الأمصار هكذا، وقد روى عنه صفوان بن محرز حين سأله عن الصلاة في السفر، فكان جوابه له أن قال: "هي ركعتان، من خالف السنة فقد كفر". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 521 رقم 4286). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 522 رقم 4289) (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 203 رقم 8152).

فذلك على الصلاة في غير الأمصار حتى لا يتضاد ذلك وما روى حيان، فيكون حديث حيان على صلاة المسافر في الأمصار وحديث صفوان على صلاته في غير الأمصار وسنبين الحجة في هذا الباب في آخره إن شاء الله تعالى. ش: هذا عطف على قوله: "وأما ما رويناه عن حذيفة - رضي الله عنه -" وأراد بذلك الجواب عما رواه حيان بن إياس البارقي المذكور فيما مضى. تقريره: أن يقال: إن حيان البارقي إنما سأل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - والحال أنه كان في مصر من الأمصار فقال له: "كيف أصلي وأنا من جيش أهل العراق؟ فقال له عبد الله بن عمر: إن صليت أربع ركعات فأنت في مصر، وإن صليت ركعتين فأنت مسافر". وإنما قال ذلك لأن مذهب ابن عمر أن المسافر إنما كان له أن يقصر ما دام في السفر، فإذا دخل مصرًا من الأمصار فلا يقصر وإن كان هو على سفره، وإليه ذهب جماعة أيضًا من السلف كالحسن البصري وقتادة وطاوس، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن في هذا حجة لمن يرى الإتمام في السفر. قوله: "وقد روى عنه صفوان بن محرز ... " إلى آخره، إشارة إلى وجه التوفيق بين رواية حيّان البارقي ورواية صفوان بن محرز لأن بينهما تضادًّا من حيث الظاهر؛ وذلك لأن حديث حيّان يدل على أنه يُتم في مصر ويقصر في سفر، وحديث صفوان مطلق يدل على أن المسافر يقصر سواء كان في مصر أو سفر. ووجه التوفيق: أن حديث صفوان محمول على الصلاة في غير الأمصار؛ لأنه سأله عن الصلاة في السفر فكان جوابه له: "هي ركعتان، من خالف السنة فقد كفر" وحديث حيان البارقي محمول على صلاة المسافر وهو في مصر من الأمصار، فكان جوابه له: "إن صليت أربعًا فأنت في مصر، وإن صليت ركعتين فأنت مسافر"، فافهم.

ص: وأما ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك فإن أبا بكرة حدثنا، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا ابن جريج، قال: أنا ابن شهاب، قال: "قلت لعروة: ما كان يحمل عائشة - رضي الله عنها - على أن تُصلّي في السفر أربعًا؟ قال: تأولت ما تأول عثمان - رضي الله عنه - إتمام الصلاة بمنى". وقد ذكرنا ما تأول في إتمام عثمان الصلاة بمنى، فكان ما صحّ من ذلك هو أنه كان من أجل نيته للإقامة، فإن كان من أجل ذلك كانت عائشة تبع الصلاة؛ فإنه يجوز أن يكون كانت لا تحضرها صلاة إلا نَوَتْ إقامةً في ذلك المكان يجب عليها بها إتمام الصلاة، فتتم الصلاة لذلك، فيكون إتمامها وهي في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين. ش: هذا عطف على قوله: "وأما ما روينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما -"، وأراد بذلك الجواب عما رُوي عن عائشة في إتمامها الصلاة في السفر. وقوله: "فإن أبا بكر" جواب "أما"، وتقريره ما أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن علي بن خشرم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر". قال الزهري: فقلت لعروة: "ما بال عائشة - رضي الله عنها - تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان - رضي الله عنها -". وقال عياض في "شرح مسلم": وأشبه ما يقال في فعل عثمان وفعل عائشة: أنهما تأولا أن القصر رخصة غير واجبة، وأخذا بالأتم والأكمل، ومن تأول أنها اعتقدت أنها أمّ المؤمنين، وعثمان أنه إمامهم فحيث حلاّ فكأنهما في منازلهم؛ يرده ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 478 رقم 685).

أن النبي - عليه السلام - كان أولى بذلك ولم يتم، وما ذكر في إتمام عائشة أيضًا أنها كانت لا ترى القصر إلا في الخوف فهو بعيدة؛ لأنها أتقى لله أن تخرج في سفرٍ لا يرضاه، وإنما خرجت مجتهدةً محتسبةً في خروجها للدين أصابت أو أخطأت. قوله: "فكان ما صح من ذلك" أي مما تأول في إتمام عثمان الصلاة بمنى هو أنه كان من أجل نيته للإقامة، وأشار بذلك إلى أنه اختار هذا الوجه من التأويلات التي أوَّلُوها في إتمام عثمان الصلاة بمنى. فإن قيل: كيف اختار هذا وحكم بصحته، وقد ردُّوا هذا بأن الإقامة للمهاجر بمكة أكثر من ثلاثٍ حرام؟ قلت: لا يلزم من صحة نية الإقامة الإقامة، فإذا كانت النية صحيحة يكون الإتمام في حال الإقامة. فإن قيل: كيف ينو عثمان - رضي الله عنه - الإقامة بمكة مع علمه بأن الإقامة فيها أكثر من ثلاثة أيام حرام للمهاجرين وهو منهم ومن خيارهم؟ قلت: يمكن أن تكون نيته للإقامة بمدة لا تنتهي إلى المدة التي يحرم على المهاجرين الإقامة فيها. فإن قيل: هذا الذي ذكرته إنما يكون إذا كانت نيته للإقامة أقل من ثلاثة أيام، والمسافر إذا نوول الإقامة في بلده أقل من خمسة عشر يومًا لا تصح نيته، ولا يصير بذلك مقيمًا. قلت: هذا على مذهبك، أما على مذهب غيرك فتجوز نية الإقامة في أقل من ذلك حتى عند الشافعي ومالك وأحمد، وأبي ثور يجوِّز نية الإقامة بأربعة أيام، وعن سعيد بن المسيب: تصح نية الإقامة بثلاثة أيام، وعن ربيعة: بيومٍ وليلةٍ، وعن سعيد بن جبير: "إذا وضعت رحلك بأرض فأتم" وروي ذلك عن ابن عباس وعائشة وطاوس - رضي الله عنهم -.

قوله: "فإن كان من أجل ذلك" أي: فإن كان إتمام عثمان الصلاة بمنى من أجل نيته للإقامة وكانت عائشة - رضي الله عنها - لا تحضرها صلاة إلا وهي تنوي الإقامة في ذلك المكان فتتم الصلاة لذلك، فإذا كان كذلك يكون إتمامها والحال أنها في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين، ومَنْ كانت حالته حالة المقيمين يتم صلاته، والله أعلم. ص: وقد قال قومٌ: كان ذلك منها لمعنًى غير هذا المعنى، وهو أني سمعت أبا بكرة يقول: قال أبو عمر: "كانتْ عائشة أمَّ المؤمنين - رضي الله عنها -، فكانت تقول: كل موضع أنزله فهو منزل بعض بنا، فتعتدّ ذلك منزلا لها وتتم الصلاة من أجله، وهذا عندي فاسد؛ لأن عائشة وإن كانت هي أم المؤمنين فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين وهو أولى بهم من عائشة بهم، فقد كان ينزلُ في منازلهم فلا يخرج بذلك من حكم السفر الذي تُقصر فيه الصلاة إلى حكم الإقامة التي تكمل فيها الصلاة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي بكرة بكار القاضي وغيرهما ومن تبعه؛ فإنهم قالوا: كانت عائشة أم المؤمنين ... إلى آخره، وهو ظاهر. وقوله: "أمَّ المؤمنين" بنصب "أم"؛ لأنه خبر كانت وليس بصفة لعائشة ها هنا لفساد المعنى. قوله: "وهذا عندي فاسد" أي هذا التأويل عندي فاسد، وبيّن وجه الفساد بقوله: "لأن عائشة - رضي الله عنها - ... " إلى آخره، وهو ظاهر. وقد ذكرنا أن ابن حزم نقل هذا الوجه عن طائفة من السلف، ثم رده بما ذكره الطحاوي -رحمه الله -. ص: وقال قومٌ: كان مذهب عائشة - رضي الله عنها - في قصر الصلاة أنه يكون لمن حمل الزاد والمزاد على ما روينا عن عثمان - رضي الله عنه -، وكانت تسافر بعد النبي - عليه السلام - في كفايةٍ من ذلك؛ فتركت لهذا المعنى قصر الصلاة.

ش: أراد بالقوم: هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين وقتادة وإبراهيم النخعي؛ فإنهم قالوا: كان مذهب عائشة - رضي الله عنها - في قصر الصلاة في السفر: أنه إنما كان يكون لمن حمل الزاد والمزاد، فلذلك كانت تتم الصلاة؛ لأنها كانت في كفاية من ذلك بعد النبي - عليه السلام -، وهؤلاء الجماعة ذهبوا إلى هذا المذهب أيضًا كما ذكرناه. ص: فلما تكافأت هذه التأويلات في فعل عثمان وعائشة- رضي الله عنها - لَزِمَنا أَنْ ننظر حكم قصر الصلاة ما يُوجِبُه فكان الأصل في ذلك أنا رأينا الرجل إذا كان مقيمًا في أهله فحكمه في الصلاة حكم الإقامة، وسواء كانت إقامته في طاعة أو مَعْصية لا يتغير لشيء من ذلك حكمه، فكان حكم إتمام الصلاة يجب عليه بالإقامة خاصةً لا بطاعةٍ ولا بمَعْصيةٍ، ثم إذا سافر فخرج بذلك من حكم الإقامة فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف ما قد ذكرنا. فقال قوم: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعةٍ. وقال آخرون: يجب له حكم التقصير في الوجهين جميعًا، فلما كان حكم الإتمام يجب له في الإقامة بالإقامة خاصةٍ لا بطاعةٍ ولا غيرها، كان كذلك يجيء في النظر أن يكون حكم التقصير يجب له في السفر خاصةً لا بطاعةٍ ولا بغيرها؛ قياسًا على ما بيّنا وشرحنا، ولما ثبت أن التقصير إنما يجب له بحكم السفر خاصة لا بغيره، ثبت أنه يقصر ما كان مسافرًا في الأمصار وغيرها؛ لأن العلة التي لها تُقصّر هي السفر الذي لم يخرج منه بدخوله الأمصار، وجميع ما بَيّنا في هذا الباب وصححنا قولُ أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي لما تساوت التأويلات المذكورة في إتمام عثمان وعائشة الصلاة في السفر، ولم يقم دليلٌ قاطع على ترجيح أحد التأويلات على الآخَر؛ لزمنا أن ننظر حتى نعلم السبب الموجب لقصر الصلاة في السفر، ما هو؟

فنظرنا في ذلك، فرأينا حكم المقيم في أهله إتمام الصلاة بسبب الإقامة خاصةً لا بسبب كونه مطيعًا أو عاصيًا، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكمه إذا خرج إلى السفر قصر صلاته بسبب السفر خاصةً لا بسبب كونه مطيعًا أو عاصيًا. قوله: "فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف" أي: فقد جرى فيما إذا سافر المقيم وخرج بسبب سفره عن حكم الإقامة من حكم الاختلاف ما ذكرنا، ثم بيّن ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: "فقال قومٌ: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعة لما وأراد بهم: الشافعي ومالكًا وأحمد والطبري وأصحابهم؛ فإنهم ذهبوا إلى أن السفر المبيح للقصر هو سفر الطاعة كالسفر الواجب والمندوب، والمباح كسفر التجارة، ولا يرخص له في سفر المعصية كالإباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر والمحرمات. وفي "المغني": وفي سفر التنزه والتفرج روايتان: إحداهما تبيح الترخص، والثانية لا يترخص فيه. قال أحمد: إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان متنزهًا وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة، فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص؛ لأنه نُهيَ عن السفر إليها. والصحيح إباحته وجواز القصر فيه. إذا كان السفر مباحًا فغيَّر نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه، ولو سافر لمعصية فغيَّر نيته إلى مباح صار سفره مباحًا وأبيح له ما يباح في السفر المباح، وتعتبر مسافة السفر من حين غير النية. انتهى. وقال عياض: وكره مالك التقصير للمتصيّد للهوٍ، وحُكي عنه المنع فيه في سفر النزهة.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون؛ وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم ذهبوا إلى أن السفر هو المبيح لقصر الصلاة والإفطار مطلقًا سواء كان سفر طاعة أو سفر معصية وهو معنى قوله: "في الوجهين جميعًا" لعموم الآية، وهو رواية عن مالك، وإليه ذهب أكثر الظاهرية. وقال ابن حزم في "المحلى": وكون الصلوات المذكورة في السفر ركعتين فرض، سواء كان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية أمْنًا كان أو خوفًا، فمن أتمها أربعًا عامدًا فإن كان عالمًا بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وإن كان ساهيًا سجد للسهو بعد السلام فقط. وقال ابن حزم أيضًا: واحتج من خصّ بعض الأسفار بذلك بأن سفر المعصية محرم فلا حكم له. فقلنا: أما محرم فنعم هو محرم، ولكنه سفر فله حكم السفر، وأنتم تقولون: إنه محرّم، ثم تجعلون فيه التيمم عند عدم الماء وتجيزون الصلاة فيه وترونها فرضًا، فأي فرق بين ما أجزتم من الصلاة والتيمم لها وبين ما منعتم من تأديتها ركعتين كما فرضها الله في السفر، ولا سبيل إلي فرق، وكذلك الزنا محرم وفيه من الغسل كالذي في الحلال؛ لأنه إجناب ومجاوزة ختان لختان. قوله: "ولما ثبت أن التقصير ... " إلى آخره، بيان للوعد الذي ذكره فيما مضى بقوله: "وسنبين الحجة في هذا الباب في آخره إن شاء الله تعالى". قوله: "وجميع ما بيَّنَّا" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله: "قول أبي حنيفة رحمه الله".

ص: باب: الوتر هل يصلى في السفر على الراحلة أم لا؟

ص: باب: الوتر هل يُصلّى في السفر على الراحلة أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الوتر هل يجوز فعله على الراحلة في السفر أم لا يجوز؟ والراحلة: الناقة التي يصحّ أن ترحّل، وكذلك الرحول، ويقال: الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى. قاله الجوهري، وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورَحْله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عُرفت. والمناسبة بين البابين ظاهرة وهي اشتمال كل منهما على حكم صلاةٍ في السفر. ص: حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يُصلّي على ظهر الراحلة قِبَل أيّ وَجْهٍ توجّه وهو عليها، غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن أبي بكر بن عمر ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن سعيد بن يسار أنه قال: "كنتُ أَسيرُ مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فلما خشيت الصبح نزلتُ فأوترتُ، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلتُ: خشيتُ الفجر فنزلتُ فأوترتُ. فقال: أوليس لك في رسول الله - عليه السلام - أسوة؟ قلتُ: بلى والله. قال: فإن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر على البعير". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة وإبراهيم بن أبي الوزير، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن أبي بكر بن عبيد العمري، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -: "أنه كان يُوتر على راحلته".

قال إبراهيم بن أبي الوزير: وحدثنا أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح، ورجالها رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة وأبا معشر. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يُسبِّح على الراحلة قِبَل أيّ وجه توجه، ويُوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة". وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فأوترت ثم لحقته" و"خشيت الفجر" عوض: "الصبح". وأخرجه مسلم (¬4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 487 رقم 700). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 9 رقم 1224). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 339 رقم 954). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 487 رقم 700).

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، وعن إبراهيم بن عمر بن مطرف، وهو إبراهيم بن أبي الوزير الهاشمي المكي، كلاهما عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن إسحاق، عن مالك ... إلي آخره. قوله: "أبي الحبُاب" بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة وفي آخره باء، وهو كنية سعيد بن يسار. قوله: "قال إبراهيم بن أبي الوزير ... " إلى آخره، إشارة إلى طريق آخر عنه، عن أبي معشر اسمه نجيح بن عبد الرحمن السِّنْدي المدني، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وعنه ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: صدوق في الحديث وليس بالقوي. وروى له الأربعة. وأخرج البخاري والنسائي من حديث نافع عن ابن عمر. فقال البخاري (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا جويرية، عن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان النبي - عليه السلام - يُصلِّي في السفر على راحلته حيث توجهت به يُومئ إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته". وقال النسائي (¬3): أنا عبد الله بن سعيد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن الأخنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوتر على الراحلة". ويستفاد من الحديث: جواز التطوع على الراحلة فليس فيه خلاف، قال صاحب "المحيط": الصلاة على الراحلة أنواع ثلاثة: فريضة، وواجب، وتطوع. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 113 رقم 5936). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 339 رقم 955). (¬3) "المجتبى" (3/ 232 رقم 1686).

أما الفرض: فلا يجوز على الدابة إلا من ضرورة وهو تعذر النزول لخوف زيادة مرض، أو خوف العدو، أو السبع، فيجوز أن يصلي على الراحلة خارج العصر بإيماء ويجعل السجود أخفض من الركوع. وكذلك الصلاة الواجبة: كصلاة الجنازة، والتطوع الذي وجب قضاؤه بالإفساد، وكالوتر عند أبي حنيفة، وكذلك الصلاة المنذورة، وسجدة التلاوة متى وجبت على الأرض لا تجوز على الدابة؛ لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بما هو ناقص. وأما التطوع: فيجوز على الدابة خارج العصر مسافرًا كان أو مقيمًا يومئ حيثما توجهت الدابة ولا يمنعه السرج والركابان ونحاسة الدابة مطلقًا، وأما المصر فلا تجوز فيه عند أبي حنيفة، وعند محمد تجوز وتكره، وعند أبي يوسف تجوز ولا تكره، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي، وهو محكي عن أنس بن مالك. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا بأس أن يصلي المسافر الوتر على راحلته كما يصلي سائر التطوع، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - وبفعل ابن عمر - رضي الله عنهما - من بعده. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسالم بن عبد الله ونافعًا مولى ابن عمر ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم جوّزوا للمسافر أن يصلي الوتر على راحلته واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة وبفعل عبد الله بن عمر من بعد النبي - عليه السلام -. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه صلى على راحلته فأوتر عليها، وقال: كان النبي - عليه السلام - يُوتر على راحلته". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6920).

ويروى ذلك أيضًا عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم - (¬1). وكان مالك يقول: لا يصلى على الراحلة إلا في سفرٍ تقصر فيه الصلاة. وقال الأوزاعي والشافعي: قصير السفر وطويله في ذلك سواء، يصلي على راحلته. وقال ابن حزم في "المحلى": ويوتر المرء قائمًا وقاعدًا لغير عذر إن شاء وعلى دابته. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز لأحد أن يصلي الوتر على الراحلة، ولكنه يُصليه على الأرض كما يُفعل في الفرائض. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمد بن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا فإنهم قالوا: لا يجوز الوتر إلا على الأرض كما في الفرائض، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في رواية ذكرها ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2). وقال الثوري: "صَلّ الفرض والوتر بالأرض، وإن أوترت على راحلتك فلا بأس". ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يُصلي على راحلته ويوتر بالأرض ويزعم أن رسول الله - عليه السلام - كذلك كان يفعل". فهذا خلاف ما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم مما قد رويناه عن ابن عمر عن النبي - عليه السلام -. ش: أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه من عدم جواز الوتر راكبًا على الراحلة بحديث ابن عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6921 - 6922). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6914، 6915).

أخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز البصري شيخ النسائي أيضًا، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية القرشي الجمحي المكي روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره. قوله: "ويزعم" أي ابن عمر "أن رسول الله - عليه السلام - كذلك كان يفعل" أي كما فعله من الصلاة على الراحلة والإيتار على الأرض كان رسول الله - عليه السلام - يَفْعله. قوله: "فهذا" أي هذا الحديث خلاف ما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم بجواز الوتر على الراحلة مما روي عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - المذكور فيما مضى، فإذا كان هذا معارضًا لما رووا من ذلك كان استدلالهم به غير تام. فإن قيل: إذا لم يتم استدلالهم بما رويتم من خلافه فكذلك لا يتم استدلاكم بما رووا هؤلاء من خلاف ما رويتم؛ لأنكم إذا استدللتم بما رويتم استدل هؤلاء أيضًا بما رَوَوْا. قلت: فليكن كذلك؛ لأن الغرض من إيراد هذا الحديث بيان ما روي من خلاف حديثهم الذي يخرجه عن إقامة الحجة به، على أنا نستدل على ما ذهبنا إليه بالأحاديث التي تنبئ عن وجوب الوتر وإلحاقه بالفرضية في كون حكمه كحكم الفرائض على ما يجيء إن شاء الله تعالى. ص: ثم روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من غير هذا الوجه من فعله ما يُوافق هذا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عثمان بن عمر وبكر بن بكار، قالا: ثنا عمر بن ذَرّ، عن مجاهدٍ: "أن ابن عمر- رضي الله عنهما - كان يُصلّي في السفر على بعيره أينما توجّه به، فإذا كان في السحر نزلَ فأوْتر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن حماد، عن مجاهد قال: "صحبتُ ابن عمر فيما بين مكة والمدينة ... " فذكر نحوه.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر نحوه. قالوا: ففيما روينا عن ابن عمر عن النبي - عليه السلام -، وفيما رويناه عنه من فعله ما يُخالف ما رواه عنه أهل المقالة الأولى. ش: أراد بذلك تأكيد ما روي عن حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر مخالفًا لما رُوي عن ابن عمر فيما مضى، وأراد: من غير هذا الوجه من غير الطريق المذكور فيما رواه حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. قوله: "مِن فعله" أي من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه من ثلاث وجوه: الأول: إسناده صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري روى له الجماعة، وبكر بن بكار القيسى وثقه أبو عاصم النبيل وابن حبان، كلاهما عن عمر بن ذرّ بن عبد الله بن زرارة الهمداني روى له الجماعة سوى مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن إسماعيل، عن أيوب، عن سعيد بن جُبير: "أن ابن عمر كان يُصلّي على راحلته تطوعًا، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض". الثاني: إسناده صحيح أيضًا، عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله سنْبَر الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن مجاهد ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم، قال: أنا حُصَين، عن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 4 رقم 4476). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 237 رقم 8518).

مجاهد قال: "صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة، فكان يُصلّي على دابته حيث توجهت به، فإذا كانت الفريضة نزل فصلى" انتهى. ولما كان الوتر فرضًا دخل تحت قوله: "فإذا كانت الفريضة". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري، عن عبيد الله بن أبي زياد القداح أبي الحصين المكي- فيه مقال؛ فعن يحيى القطان، كان وسطًا، لم يكن بذاك. وقال أحمد: ليس به بأس. وعن يحيى كذلك، وعنه: ضعيف. وعن أبي داود: أحاديثه مناكير. وعن النسائي: ليس بثقة. وعنه: ليس بالقوي. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن حميد، عن بكر: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا أراد أن يوتر نزل فأوتر بالأرض". قوله: "قالوا" أي الآخرون "ففيما روينا عن عبد الله بن عمر عن النبي - عليه السلام -، وفيما رويناه عن" أي: عن ابن عمر أيضًا "من فعله ما يُخالف ما رواه عنه" أي: عن ابن عمر "أهل المقالة الأولى". وأشار بذلك إلى أن أحاديثهم معارضة هذه الأحاديث فلا يتبقى لهم حجة، ولا سيما الراوي إذا فعل بخلاف ما روى فإنه يدل على سقوط ما روى، والله أعلم. ص: فكان من الحجة لأهل المقالة الأولى أنهم لا يعارضون الزهري بحنظلة، وأما ما رواه عن ابن عمر من وتره على الأرض، فقد يجوز يكون فعل ذلك وله أن يوتر على الراحلة كما يصلي تطوعًا على الأرض وله أن يصليه على الراحلة، فصلاته إياه على الراحلة وصلاته إياه على الأرض لا تنفي أن يكون له أن يصليه على الراحلة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 97 رقم 6915).

وقد حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن محمد بن إسحاق، عن نافع قال: "كان ابن عمر يوتر على راحلته وربما نزل فأوتر على الأرض". فقد يجوز أن يكون مجاهد رآه يوتر على الأرض ولم يعلم كيف كان مذهبه في الوتر على الراحلة، فأخبر بما رأى منه من وتره على الأرض، وهذا مما لا ينفي أن يكون قد كان يوتر على الراحلة، ثم جاء سالم ونافع وأبو الحباب فأخبروا عنه أنه كان يوتر على راحلته. ش: لما احتج أهل المقالة الثانية لما ذهبوا إليه بما رواه حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مخالفًا لما رواه الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام -، وبما رووه أيضًا من فعل ابن عمر مخالفًا لما روى هؤلاء؛ عارضهم أهل المقالة الأولى بأن قالوا: ما روينا عن ابن عمر عن النبي - عليه السلام - من جواز الوتر على الأرض من طريق محمد بن مسلم الزهري، وما رويتم من خلاف ذلك من طريق حنظلة بن أبي سفيان وحنظلة لا يقاوم الزهري ولا يعادله وإن كان حنظلة ثقة روى له الجماعة، فحينئذٍ لا يعارض حديث الزهري بحديثه. وقالوا أيضًا: ما رواه حنظلة، عن ابن عمر من وتره على الأرض لا ينافي ما ذهبنا إليه؛ لأنه يجوز أن يكون فعل ذلك والحال أن له أن يوتر على الراحلة، وذلك كما كان له أن يصلي تطوعًا على الأرض كان له أن يصليه على الراحلة، وحاصله أن صلاته الوتر على الأرض لا يستلزم عدم جوازه عنده على الراحلة ولا دلّ دليل على أنه لا يجوز على الراحلة عنده فحينئذٍ لا يتم الاستدلال بما رواه حنظلة من أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض. ثم أكد ما ذكروه من ذلك بما رواه عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: "كان يوتر على راحلته وربما نزل فأوتر على الأرض".

فهذا يخبر أنه تارة كان يوتر على الراحلة وتارة على الأرض، فدلّ أن ما رواه حنظلة كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض لا ينافي جواز وتره على الراحلة. قوله: "فقد يجوز أن يكون مجاهد ... " إلى آخره، جواب عما احتج به أهل المقالة الثانية بما رواه مجاهد، عن ابن عمر: "أنه كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه به، فإذا كان في السَّحَر نزل فأوتر". بيان ذلك أن ما رواه مجاهد لا يدل على عدم جواز الوتر على الراحلة؛ لأنه يجوز أن يكون رآه يوتر على الأرض والحال أنه لم يعلم كيف كان مذهب ابن عمر في الوتر على الراحلة هل يجوز عنده أم لا؟ فغاية ما في الباب أنه أخبر بما شاهد منه من وتره على الأرض، وذلك لا يستلزم نفي جوازه على الراحلة عنده، ومع هذا روى سالم ونافع وأبو الحباب سعيد بن يسار: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يوتر على راحلته" فكما أن رواية هؤلاء لا تستلزم عدم جوازه على الأرض فكذلك رواية مجاهد لا تستلزم عدم جوازه على الراحلة، فظهر أن كلا الأمرين جائز، وأن ما شاهده أحد من الرواة من فعل لا يستلزم نفي صحة ما شاهده غيره من الفعل الآخر إلا بدليل يدلّ عليه، والله أعلم. ص: والوجه عندنا في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - كان يوتر على الراحلة قبل أن يحكم الوتر ويغلظ أمره ثم أحكم من بعد ولم يُرخِّصْ في تركه فروي عنه ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني موسى بن أيوب الغافقي، عن عمه إياس بن عامر، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل وعائشة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يوتر أوْمأ إليها أن تَنَحّي، وقال: هذه صلاة زدتموها".

حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا موسى بن أيوب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن لهيعة والليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن راشد، عن عبد الله بن أبي قرة، عن خارجة بن حذافة العدوي، أنه قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله قد أمدَّكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم -ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر- الوتر الوتر؛ مرتين". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا ابن لهيعة، أن أبا تميم عبد الله بن مالك الجَيْشاني أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: أخبرني رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله قد زادكم صلاةً فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر. ألا وإنه أبو بَصْرة الغفاريّ، قال أبو تميم: فكنتُ أنا وأبو ذر قاعدَين؛ فأخذ أبو ذر بيدي فانطلقنا إلى أبي بَصرة فوجدناه عند الباب الذي يلي دار عمرو بن العاص، فقال له أبو ذر: يا أبا بَصْرة أنت سمعتَ رسول الله - عليه السلام - يقول: إن الله قد زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر، الوتر الوتر. فقال أبو بصرة: نعم. فقال: أنت سمعته يقوله: قال: نعم. قال: أنت سمعته يقوله؟ قال: نعم". فأكد في هذه الآثار أمر الوتر ولم يرخص لأحد في تركه، وقد كان قبل ذلك ليس من التأكيد كذلك، فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله - عليه السلام - من وتره على الراحلة كان ذلك من قِبَل تأكيده إياه، ثم أكده من بعد ذلك نسخ.

ش: هذا جواب عما قاله أهل المقالة الأولى وهو الذي ذكره عنهم بقوله: "فكان من الحجة لأهل المقالة الأولى ... " إلى آخره، تقريره أن يقال: إن الذي ذكرتموه ولئن سلمنا أنه كذلك، ولكن يجوز أن يكون وتر النبي - عليه السلام - على الراحلة قبل أن يحكم أمر الوتر ويغلظ شأنه؛ وذلك لأنه كان أولًا كسائر التطوعات فلذلك كانوا يصلونها على الراحلة، فلما أحكم أمره وشُدّد فصار كالفرض منع من ذلك كالفرض، ولمّا صار كالفرض صار حكمه حكم الفرض، وقد أجمعوا أن الفرض لا يجوز على الراحلة عند القدرة على النزول فكذلك الوتر. ثم أخرج عن ثلاثة من الصحابة ما يدلّ على وجوب الوتر، وهم: عليّ وخارجة بن حذافة وأبو بَصْرة الغفاري - رضي الله عنهم -. أما حديث عليّ - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري بَحْشل شيخ مسلم وأبي حاتم والطبريّ أيضًا، عن عمّه عبد الله بن وهب المصري، عن موسى بن أيوب بن عامر الغافقي المصري وثقه أحمد وأبو داود وروى له، وابن ماجه والنسائي في مسند علي - رضي الله عنه -، عن عمه إياس بن عامر الغافقي المصري، وثقه ابن حبان وروى له هؤلاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. والآخر: عن عبد الرحمن بن جارود بن عبد الله أبي بشر الكوفي، ثم البغدادي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن عمّه إياس بن عامر، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ويستفاد منه: جواز الصلاة إلى المرأة وجوازها إلى نائم، وأن المرأة لا تقطع الصلاة، وأن الإشارة في الصلاة لا تُفسدها، واستحباب صلاة الليل، ووجوب صلاة الوتر بقوله - عليه السلام -: "هذه صلاة زدتموها" وأشار بـ"هذه" إلى صلاة الوتر. وقوله: "زدتموها" بكسر الزاي من زاد، وهو يتعدّى ولا يَتعدّى، وها هنا مُتعدّ إلى مفعولين: أحدهما: الضمير الذي في زدتم الذي هو ضمير منصوب

ولكنه ناب عن الفاعل، والثاني: الهاء التي ترجع إلى صلاة الوتر، وينبغي أن تعلم أن لفظة: "زدتم" ها هنا صيغة مجهول وإن كان مثل هذه اللفظة تستوي فيها صيغة المعلوم والمجهول، والفرق بالقرينة، فافهم. وأما حديث خارجة بن حذافة فأخرجه أيضًا من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري والليث بن سعد المصري كلاهما، عن يزيد بن أبي حبيب سُوَيد المصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن راشد الزَّوفي أبي الضحاك المصري -وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه- عن عبد الله ابن أبي مرة الزَّوْفي المصري -وثقه ابن حبان وروى له هؤلاء- عن خارجة بن حذافة العدوي القرشي الصحابي المصري له هذا الحديث. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن رمح المصري، أنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا: ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث بن سَعْد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن راشد الزَّوْفي، عن عبد الله بن أبي مرة الزَّوْفي، عن خارجة بن حذافة قال: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: إن الله أمدّكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر". وقال أبو عيسى: حديث خارجة بن حذافة حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث فقال: عبد الله بن راشد الزرقي، وهو وهم. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 3 رقم 1168). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 314 رقم 452).

وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا: من حديث الليث وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وقال: ورواه ابن إسحاق عن يزيد فقال: عبد الله بن مرة. وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": وهو عند ابن لهيعة عن رزين بن عبد الله الزَّوفي، عن عبد الله بن أبي مرة الزَّوفي. ورواه أيضًا أحمد في "مسنده" (¬2)، والدارقطني في "سننه" (¬3)، والطبراني في "معجمه" (¬4)، وابن عدي في "كامله" (¬5)، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬6)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه لتفرد التابعي في الصحابي. قلت: كأنه يشير إلى أن خارجة تفرد عنه ابن أبي مرة، وليس كذلك؛ لما ذكره أبو عبيد الله محمد بن الربيع الجيزي في كتاب "الصحابة" بالبينة، روى عنه أيضًا عبد الرحمن بن جبير قال: ولم يرو عنه غير أهل مصر. وقال أبو زيد في كتاب "الأسرار": هو حديث مشهور. ولما أخرجه أبو داود سكت عنه، ومن عادته إذا سكت عن حديث أخرجه يدل على صحته عنده ورضاه به (¬7). ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 469 رقم 4249). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 397 رقم 27272). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 30 رقم 1). (¬4) "سنن الدارقطني" (2/ 30 رقم 1). (¬5) "الكامل في ضعفاء الرجال" (3/ 50). (¬6) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 448 رقم 1148). (¬7) في هذا نظر موضعه كتب مصطلح الحديث، وقد نبهنا عليه مرارًا. وغاية ما في الأمر أن أبا داود قال في رسالته إلى أهل مكة في وصفه لكتابه "السنن": ما فيه ضعف شديد بينته، وما سكت عنه فهو صالح. اهـ. وهذا يؤخذ منه أنه يسكت عما فيه ضعف غير شديد، وهذا مشاهد معاين لمن له دربة بكتابه.

فإن قيل: أعلّ ابن الجوزي في التحقيق هذا الحديث بعبد الله بن راشد، ونقل عن الدارقطني أنه ضعّفه. وقال البخاري: لا يعرف لإسناد هذا الحديث سماع بعضهم من بعض. قلت: عبد الله بن راشد وثقه ابن حبان والحاكم. والدارقطني (¬1) أخرج حديثه هذا ولم يتعرض إليه بشيء، وإنما تعرض إلى الحديث الذي أخرجه عن ابن عباس فقال: ثنا الحسين بن إسماعيل، نا محمد بن خلف المقرئ، نا أبو يحيى الحماني عبد الحميد، ثنا النضر أبو عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عليهم يُرى البِشْر أو السُّرورُ في وجهه، فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر". النضر أبو عمر الخزاز ضعيف، وهذا الحديث مما يقوي حديث خارجة المذكور ويزيده قوةً في صحته، فافهم. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أبو الوليد الطيالسي وقتيبة بن سعيد المعنى، قالا: ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن راشد الزَّوفي، عن عبد الله بن أبي مرة الزَّوفي، عن خارجة بن حذافة، قال أبو الوليد: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: "قد أمدّكم الله بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر". قوله: "أمدكم" من الإمداد، يقال: مدّ الله في عمرك وأمدَّ السلطان الجيش يعني بزيادةٍ تلحقهم، ونسب النبي - عليه السلام - زيادة الوتر إلى الله تعالى بأمره وإيجابه، ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 30 رقم 2). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 61 رقم 1418).

ولو لم يكن واجبًا لكان بمنزلة التروايح والسنن التي واظب عليها ولم يجعلها زيادة في الفرائض. فإن قيل: فقد قال الأعرابي لسيدنا رسول الله - عليه السلام - حين سأله عن الصلوات: "هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع"، وقال لمعاذ - رضي الله عنه - إذ أرسله إلى اليمن: "أخبرهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات". قلت: في قوله: "زادكم" إشارة إلى أنها متأخرة عن وجوب الخمس، وأيضًا لم يقل أحدُ بفرضيته والوجوب غير الفريضة. فإن قيل: لو كان واجبًا لما صلاه - عليه السلام - على الراحلة إذ الفرائض لا تؤدى على الراحلة إلا بشروط. قلت: أنتم تقولون بفرضيته على النبي - عليه السلام - على ما هو الصحيح عندكم، وقال ابن عقيل: صح أن الوتر كان واجبًا عليه. فإن قالوا: قال القرافي في "الذخيرة ": الوتر في السفر ليس واجبًا عليه، وصلاته إياه على الراحلة كانت في السفر. يقال لهم: يكفي في هذا أنه قول بغير استناد إلى سنة صحيحة ولا ضعيفة، هذا ابن عمر- رضي الله عنه - يروي عنه الطحاوي أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض ويزعم أن رسول الله كان يفعل ذلك. وقال الدارقطني (¬1): ثنا عبد الله بن سليمان، ثنا عيسى بن حماد، ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن رسول الله كان لا يوتر على راحلته". وسنده صحيح على شرط مسلم. فإن قيل: قال الخطابي: قوله: "أمدكم بصلاة " يدل على أنها غير لازمة لهم، ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 36 رقم 22).

ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام فيقول: ألزمكم أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام. وقد رُوي أيضًا في هذا الحديث: "إن الله قد زادكم صلاة"، ومعناه الزيادة في النوافل؛ وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم صلاةً لم تكونوا تصلونها قبل ذلك على تلك الصورة والهيئة وهي الوتر. وفيه: دليل على أن الوتر لا يقضى بعد طلوع الفجر، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد، وهو قول عطاء، وقال سفيان الثوري وأصحابه: يقضي الوتر وإن كان قد صلى الفجر. وكذلك قال الأوزاعي. قلت: لا نسلم أن قوله: "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة؛ بل يدل على أنها لازمة؛ وذلك لأنه نسب ذلك إلى الله تعالى، فلا يكون ذلك إلا واجبًا، وتعين العبارة ليس بشرط في الوجوب، وقوله: "ومعناه الزيادة في النوافل" غير صحيح؛ لأن الزيادة من الله لا تكون نفلًا وإنما يكون ذلك إذا كان من النبي - عليه السلام - بشرط عدم المواظبة؛ فحينئذٍ سقط قوله أيضًا: وفيه دليل على أن الوتر لا يقض بعد طلوع الفجر، بل الأحاديث التي تدل على وجوبه تدل على أنه يُقضى، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف: لا قضاء عليه، وعن محمد: أحبّ إليّ أن يقضيه، وعن الشافعي: لا يجب عليه القضاء، وعن أحمد وأبي مصعب واللخمي المالكي: لا يقضي بعد الفجر. فإن قيل: لم يقل بوجوب الوتر غير أبي حنيفة؟ حتى قال القاضي أبو الطيب: إن العلماء كافة قالت إن الوتر سنة حتى أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وحده: هو واجب. وقال أبو حامد في "تعليقه": الوتر سنة مؤكدة ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأمة كلها إلا أبا حنيفة.

قلت: لا نسلم انفراد أبي حنيفة بهذا القول. هذا القاضي أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه، وحكى ابن حزم أن مالكًا قال: من تركه أُدِّب وكانت حرجة في شهادته. وفي "المصنف" (¬1) بسند صحيح: عن مجاهد: "هو واجب ولم يكتب". وحكى ابن بطال وجوبه عن يوسف بن خالد السَّمْتي شيخ الشافعي، ووجوبه على أهل القرآن عن ابن مسعود وحذيفة وإبراهيم النخعي. وحكاه ابن أبي شيبة أيضًا: عن ابن المسيب (¬2) وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود (¬3) والضحاك (¬4). وفي "المغني": قال أحمد: من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل له شهادة. وذكر في بعض شروح "الهداية": لو اجتمع أهل قرية على ترك الوتر أدّبهم الإِمام وحبسهم، فإن امتنعوا قاتلهم. قوله: "من حمر النَّعَم" النَّعَم -بفتحتين-: واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حَمَل وحُملان، والأنعام يذكر ويؤنث. "والحُمْر" بضم الحاء وسكون الميم: جمع أحمر، ولما كانت الإبل الحُمْر أعز الأموال عند العرب ذكر ذلك - عليه السلام -. قوله: "ما بين صلاة العشاء" خبر مبتدأ محذوف، أي: هي ما بين صلاة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 92 رقم 6860). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 93 رقم 6865). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 93 رقم 6866). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 93 رقم 6867).

العشاء، وأراد: وقتها ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وعن هذا قال أصحابنا: لو صلى الوتر قبل صلاة العشاء لا يجوز وعليه أن يعيده بعد أن يصلي العشاء. وفي "المغني" لابن قدامة: فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره. وقال الثوري وأبو حنيفة: إن صلاه قبل العشاء ناسيًا لم يُعده، وخالفاه صاحباه فقالا: يعيد، وكذلك قال مالك والشافعي. وفي بعض شروح البخاري: اختلف الناس في أول وقت الوتر، فالصحيح المشهور أنه يدخل بفراغه من فريضة العشاء، سواء صلى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، وسواء أوتر بركعة أو بأكثر، فإن أوتر قبل فعل العشاء لم يصح وتره. قال النووي في "شرح المهذب" (¬1): سواء تعمده أو سها. الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء. قال إمام الحرمين وغيره وقطع به أبو الطيب، وله أن يصليه قبلها، قالوا: سواء تعمده أم سها. الثالث: أنه إن أوتر بأكثر من ركعة دخل وقته بفعل العشاء وإن أوتر بركعة فشرط صحتها أن يتقدمها نافلة بعد فريضة العشاء، فإن أوتر بركعة قبل أن يتقدمها نفل لم يصح وتره. قال إمام الحرمين: ويكون تطوعًا. ¬

_ (¬1) هذا الكلام وما قبله فيه خلط وسقط، والذي في "المجموع" (4/ 13): فرع في وقت الوتر، أما أوله ففيه ثلاثة أوجه: الصحيح المشهور: الذي قطع به المصنف والجمهور: أنه يدخل بفراغه من فريضة العشاء، سواء صلى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، أوتر بركعة أم أكثر، فإن أوتر قبل فعل العشاء لم يصح وتره، سواء تعمده أم سها ... إلخ .. والكلام قبله يشبهه، فلعله انتقال نظر أو سقط، والله أعلم.

وقال أصحابنا: أول وقته عندهما بعد العشاء، وعند الإمام إذا غاب الشفق. وفي "مختصر الطحاوي": وقته وقت العشاء فمَنْ صلاّه في أول الوقت أو آخره يكون مؤدّيًا لا قاضيًا. وأما آخر وقته: فذكر ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر. وزعم ابن التين أن أول وقته انقضاء صلاة العشاء، فإن ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح فهل يقطعها؟ فقيل: يقطع مطلقا سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو فذًّا، وقيل: لا يقطع مطلقًا، وقيل: يقطع الإِمام والفذّ، وقيل: يقطع الفذ خاصةً، وقيل: إن تذكر قبل أن يعقد ركعة قطع وإلا فلا. قوله: "الوترُ الوترُ" مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي الوتر، ويجوز الجر على أنه بدلًا من قوله: "بصلاة" وكرر "الوتر" للتأكيد، فافهم. وأما حديث أبي نضرة: فأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدُوسي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، فهو وإن كان فيه مقال ولكنه ثقة عند أحمد والطحاوي، عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجَيشاني الرعيني المصري، روى له الجماعة سوى البخاري، أبو داود في "القدر". والجيشاني -بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- نسبة إلى جَيْشان بن عَيْدان بن حجر بن ذي رُعَيْن، عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، عن أبي بصرة -بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة- واسمه حُمَيل بن بصرة -بضم الحاء المهملة وفتح الميم- وهو الصواب، وقيل: جَميل -بفتح الجيم وكسر الميم- وقال الترمذي: لا يصح.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، نا ابن لهيعة، أن أبا تميم الجيشاني عبد الله بن مالك أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص يقول: أخبرني رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله -عز وجل- قد زادكم صلاة فصلُّوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر ... " إلي آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "زادكم صلاة" يدل على وجوب الوتر؛ لأن الزيادة والإمداد يكونان من جنس اللاحق به كما قلنا فيما مضى: إنه يقال: أمدّ السلطان الجيش إذا زادهم من جيشهم. قوله: "الوتر، الوتر" بالتكرار للتأكيد، يجوز فيه الرفع والنصب كما ذكرنا أن الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأن النصب على أنه بدل من قوله "صلاة". قوله: "ألا وإنه" كلمة "ألا" للتنبيه، كأنه ينبّه السامع على ما يأتي ليكون على أُهبْة من تحفّظه، والضمير في "وأنه" يرجع إلى الرجل في قوله: "أخبرني رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -". واعلم أن الترمذي (¬2) لما أخرج حديث خارجة بن حذافة في الوتر قال: وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وبُرَيدة وأبي بصرة الغفاري. قلت: وفي الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وأبي برزة الأسلمي وعلي بن أبي طالب وأبي أيوب الأنصاري، وسليمان بن ورد وعقبة بن عامر وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 279 رقم 2167). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 314 رقم 452).

أما حديث أبي هريرة: فأخرجه أحمد في ["مسنده" (¬1)] (¬2) بسند جيد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من لم يوتر فليس منّا". وأما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3): من رواية المثنى بن الصباح وفيه ضعف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الله تعالى زادكم صلاةً فحافظوا عليها وهي الوتر". فكان عمرو بن شعيب يَري أن يُعَاد الوتر ولو بعد شهر. وأما حديث أبي بُرَيدة: فأخرجه أبو داود (¬4): ثنا محمد بن المثنى، نا أبو إسحاق الطالقاني، نا الفضل بن موسى، عن عبيد الله بن عبد الله العتكي، عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "الوتر حق فمَنْ لم يُوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬5): وقال: هذا حديث صحيح. فإن قيل: كيف يكون صحيحًا وفي إسناده أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله وقد تكلم فيه البخاري وغيره؟! قلت: قال الحاكم: هو ثقة. وكذا قال ابن مَعين، وقال أبو حاتم: هو صالح الحديث، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء. وأخرج أبو بكر الرازي هذا الحديث، ولفظه: "الوتر حق واجب". قوله: "حق" أي: واجب ثابت، والدليل على هذا المعنى قوله: "فمن لم يوتر ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 443 رقم 9715). (¬2) سقطت من "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬3) "مسند أحمد" (2/ 205 رقم 6919). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 62 رقم 1419). (¬5) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 448 رقم 1146).

فليس منا" وهذا وعيد شديد، ولا يقال مثل هذا إلا في حق تارك فرض أو واجب ولا سيما وقد تأكد ذلك بالتكرار ثلاث مرات، ومثل هذا الكلام بهذه التأكيدات لم يأت في حق السنن. وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الدارقطني (¬1) بإسناده عنه: "أن النبي - عليه السلام - خرج عليهم يُرى البِشْر أو السرور في وجهه، فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر"، وقد ذكرناه عن قريب. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه أبو زيد الدبوسي في كتاب "الأسرار" أنها قالت: قال النبي - عليه السلام -: "أوتروا يا أهل القرآن، فمَنْ لم يوتر فليس منا". وأما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: فأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2) بإسناده إلى أبي سعيد، قال: قال رسول الله: "مَن نام عن وتره أو نَسِيَه فليصلِّه إذا أصبح أو ذكره". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ونقل تصحيحه ابن الحصار أيضًا عن شيخه. وأخرجه الترمذي (¬3) أيضًا. وأما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: فأخرجه ابن ماجه (¬4): من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن. فقال أعرابي: ما تقول؟ فقال: ليس لك ولا لأصحابك". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 30 رقم 2). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 443 رقم 1127). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 330 رقم 465). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 370 رقم 1170).

وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا. وأما حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: فأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والنسائي (¬5): أن النبي - عليه السلام - قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا". فقد أمر بجعل الوتر، والأمر للوجوب. وأما حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬6): من رواية عبيد الله بن زحر، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية: "أن معاذ بن جبل قدم الشام وأهل الشام لا يوترون، [فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟!] (¬7) فقال معاوية: وواجبٌ ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعتُ رسول الله - عليه السلام - يقول: زادني ربي -عز وجل- صلاةً وهي الوتر فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر". قلت: عبد الله بن زحر ضعيف جدًّا، ومعاوية لم يتأمَّر في حياة معاذ - رضي الله عنه -، فافهم. وأما حديث أي بَرْزة: فأخرجه أبو عمر في "الاستذكار" (¬8): أن رسول الله قال: "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا". وأما حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فأخرجه أبو داود (¬9): ثنا إبراهيم بن موسى، أنا عيسى، عن زكرياء، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 61 رقم 1417). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 339 رقم 953). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 517 رقم 751). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 67 رقم 1438). (¬5) "المجتبى" (3/ 230 رقم 1682). (¬6) "مسند أحمد" (5/ 242 رقم 22148). (¬7) ليس في "الأصل، ك" والمثبت من "مسند أحمد". (¬8) "الاستذكار" (2/ 112) ولكن عن حديث بريدة الأسلمي. (¬9) "سنن أبي داود" (2/ 61 رقم 1416).

قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر". وأخرجه الترمذي (¬1) وقال: حديث حسن. وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4) والحاكم في "مستدركه" (¬5) وصححه أيضًا أبو محمد الإشبيلي، وحسّنه الطوسي. فإن قيل: قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبًا لكان عامًّا، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العَوَامّ. قلت: أهل القرآن بحسب اللغة يتناول كل من معه شيء من القرآن ولو كان آية، فيدخل فيه الحفاظ وغيرهم، على أن القرآن كان في زمنه - عليه السلام - مفرقًا بين الصحابة، وبهذا التأويل الفاسد لا يبطل مقتضى الأمر الدالّ على الوجوب. وأما حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: فأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬6): ثنا إسماعيل بن العباس الوراق، نا محمد بن حسان الأزرق، نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، عن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر حق واجب، فمن شاء أن يوتر بثلاث فليوتر، ومن شاء أن يوتر بواحدة فليوتر بواحدة". قوله: "واجب" ليس بمحفوظ، لا أعلم تابع ابن حسان عليه أحدٌ. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 316 رقم 453). (¬2) "المجتبى" (3/ 228 رقم 1675). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 370 رقم 1169). (¬4) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 136 رقم 1567). (¬5) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 441 رقم 1118). (¬6) "سنن الدارقطني" (2/ 22 رقم 1).

وأما حديث سليمان بن صُرَد - رضي الله عنه -: فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬1): من رواية إسماعيل بن عمرو الحلبي، عن الحسن بن صالح، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن ورد قال: قال النبي - عليه السلام -: "استاكوا وتنظفوا وأوتروا فإن الله وتر يحب الوتر". وإسماعيل بن عمرو وثقه ابن حبان وضعفه الدارقطني وابن عدي. وأما حديثا عقبة بن عامر وعمرو بن العاص: فأخرجهما الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" (¬2) من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الله زادكم صلاة خيرٌ لكم من حمر النعم، الوتر، وهي فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر". وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى: فأخرجه البيهقي في "الخلافيات": من رواية أحمد بن مصعب، ثنا الفضل بن موسى، ثنا أبو حنيفة، عن أبي يعفور، عن عبد الله بن أبي أوفى، عن النبي - عليه السلام -: "إن الله زادكم صلاةً وهي الوتر". ص: وقد رأينا الأصل المجتمع عليه أن الصلاة المفروضة ليس للرجل أن يصليها قاعدًا وهو يُطيق القيام، وليس له أن يُصلّيها على راحلته في سفره وهو يطيق النزول، ورأيناه يصلي التطوع على الأرض قاعدًا وهو يطيق القيام، ويصليه في سفره على راحلته، فكان الذي يصليه قاعدًا وهو يطيق القيام هو الذي يصليه في السفر على راحلته، والذي لا يُصليه قاعدًا وهو يطيق القيام هو الذي لا يصليه في السفر على راحلته، هكذا الأصول المتفق عليها، ثم كان الوتر باتفاقهم لا يصليه الرجل على الأرض قاعدًا وهو يطيق القيام؛ فالنظر على ذلك أن لا يصليه في السفر على راحلته وهو يطيق النزول، فمن هذه ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (7/ 259 رقم 7442). (¬2) "المعجم الأوسط" (8/ 64 رقم 7975).

الجهة -عندي- ثبت نسخ الوتر على الراحلة، وليس في هذا دليل على أنه فريضة أو تطوع. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: هذه إشارة إلى بيان وجه النظر والقياس، بيانه: أنا الصلاة المفروضة لا يجوز أداؤها قاعدًا مع القدرة على القيام، فكذا لا يجوز أداؤها في السفر على الراحلة عند القدرة على النزول، والصلاة التطوع يجوز أداؤها قاعدًا مع القدرة على القيام، فكذا يجوز أداؤها في السفر على الراحلة مع القدرة على النزول، هذا أصلُ مجمع عليده، ثم الوتر لا يجوز أداؤه قاعدًا على الأرض مع القدرة على القيام بلا خلاف، فالقياس على ذلك أن لا يُصلَّي في السفر على الراحلة مع القدرة على النزول؛ لأن كل ما له أن يصل قاعدًا مع القدرة على القيام كان له أن يصليه في السفر على الراحلة، وكل ما ليس له أن يصليه قاعدًا مع القدرة على القيام ليس له أن يصليه في السفر على الراحلة، فافهم. قوله: "فمن هذه الجهة" أشار به إلى جهة النظر الذي ذكره. فإن قيل: ما حقيقة وجه نسخ الوتر على الراحلة حتى قال: فمن هذه الجهة عندي ثبت نسخ الوتر على الراحلة. قلت: وجه ذلك أن يكون بدلالة التاريخ وهو أن يكون أحد النصين موجبًا للمنع والآخر موجبًا للإباحة، فإن التعارض بينهما ثابت من حيث الظاهر، ثم ينتفي ذلك بالمصير إلى دلالة التاريخ وهو أن النص الموجب للمنع يكون متأخرًا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى وأحق. بيان ذلك: أن الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الأولى توجب إباحة الوتر على الراحلة، والآثار التي احتجت بها أهل المقالة الثانية توجب منع ذلك، وذلك لأنها تخبر عن وجوب الوتر وإلحاقه بالفرائض، وكان الحكم في الفرائض أن لا تُصلّى على الراحلة عند القدرة على النزول، فكذلك يكون حكم ما أُلحق

بها، فتكون الآثار المذكورة دالة على انتساخ ما رُوي من جوازه على الراحلة من هذه الجهة، وهو تحقيق ما ذكره الطحاوي. فإن قيل: كيف يكون النسخ وقد صح عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته بعد النبي - عليه السلام - ويقول: "كان رسول الله يفعل ذلك". قلت: يجوز أن يكون الوتر عنده كالتطوع، فحينئذٍ له أن يصلي على الراحلة إن شاء وإن شاء على الأرض كما في التطوع. على أن مجاهدًا قد رُوي عنه أنه كان ينزل للوتر، فعلى هذا يجوز أن يكون ما فعله من وتره على الراحلة قبل علمه بالنسخ ثم لمّا علمه رجع إليه وترك الوتر على الراحلة، فافهم. قوله: "وليس في هذا دليل على أنه ... " أي أن الوتر فريضة أو تطوع، وأشار بذلك إلى أن الوتر له منزلة بين المنزلتين وهو أنه ليس بفرض قطعيّ كسائر الفرائض القطعية ولا هو يقصو عن السنن المؤكدة ولهذا يجب قضاؤه أبدًا ولا يكفر جاحده. وعن هذا قال أبو حنيفة: الوتر فرض عملًا -واجبٌ علمًا- سُنّةُ سببًا، والله أعلم.

ص: باب: الرجل الذي يشك في صلاته فلا يدري أثلاثا صلى أم أربعا

ص: باب: الرجل الذي يشك في صلاته فلا يدري أثلاثًا صلّى أم أربعًا ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الرجل الذي يَشكُّ في صلاته ولا يعلم هل صلّى ثلاث ركعات حتى يضيف إليها رابعةً أو صلى أربعًا حتى يقعد ويتشهد ويُسلِّم؟ "الشك" في اللغة خلاف "اليقين"، وفي الاصطلاح: الشكّ: ما يستوي فيه طرف العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر فهو ظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو أكبر الظن وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان. وجه المناسبة بين البابين أن فيما مضى بيان الصلوات المقطوعة وفي هذا بيان الصلاة المشكوكة، فالمناسبة من حيث التضاد. ص: حدثنا محمد بن علي بن محرز، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا زمعة، عن الزهري، عن سعيد وأتيت سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء أحدَكم الشيطانُ فخلط عليه صلاته فلا يَدْري كم صلى؛ فليسجد سَجْدتين وهو جالسٌ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن ابن شهاب، عن أتيت سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا إدريس بن يحيى، عن بكر بن مضر، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم فلم يَدْر أثلاثًا صلى أم أربعًا ... " فذكر مثله.

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: حدثني أبو سلمة ... ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عمرو بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله وزاد: "ثم يسلم". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن عبد ربه ابن سعيد، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الشيطان إذا ثُوّب بالصلاة وَلَّى وله ضراط، فإذا أقيمت الصلاة يَلْتمسُ الخِلاط، فإذا أتى أحدكم مَنَّاه، وذكّره من حاجته ما لم يكن يذكر حتى لا يدري كم صلّى، فإذا وَجَد ذلك أحدكم فلْيَسجُد سجدتين وهو جالس". ش: هذه ثمان طرق: الأول: عن محمد بن علي بن محرز البغدادي، وثقه ابن يونس، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي الزبيري الكوفي روى له الجماعة، عن زمعة بن صالح الجندي اليماني، فيه مقال، فقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، كثير الغلط عن الزهري. وعن أحمد: صويلح الحديث. روى له مسلم مقرونًا بمحمد بن أبي حفصةً وروى له الأربعة، أبو داود في "المراسيل". وهو يروي عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن عَبْدة، أنا سفيان بن عُيَيْنة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "يأتي أحدَكم الشيطان فيُلَبِّس عليه صلاته حتى لا يَدْري كم صلّى، فمن وجد منكم من ذلك شيئًا فَليسْجد سجدتين وهو جالس". وأخرجه الجماعة على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قوله: "فخلط عليه صلاته" من خلطت الشيء لغيره خلطًا فاختلط، وهو من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ. وفي "الدُسْتور": خلط: معناه مزج، والمراد ها هنا: لبّس عليه كما في رواية البخاري وغيره، وهو من اللَّبْس بفتح اللام. قوله: "وهو جالس" جملة اسمية في محل النصب على الحال. الثاني: بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن أحدكم إذا قام يصلّي جاءه الشيطان فلبَس عليه حتى لا يدري كم صلّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 413 رقم 1175). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 398 رقم 389). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 271 رقم 1030).

والنسائي (¬1): عن قتيبة، عن مالك. قوله: "لبَس عليه" بتخفيف الباء كما في قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (¬2) وضبطها بعضهم بالتشديد لأجل التكثير، والتخفيف أفصح. الثالث: بإسناد حسن جيد، عن إبراهيم بن منقذ العُصفري، عن إدريس ابن يحيى بن إدريس الخَوْلاني المصري، عن بكر بن مُضر بن محمد المصري، عن عمرو بن الحارث المصري، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى (¬3) في "مسنده". الرابع: بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬4): ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا نودي بالصلاة أَدْبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء، فإذا قُضي النداء أقبل، فإذا ثُوِّب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، حتى يقول: اذكر كذا ما لم يذكر، فإذا لم يَدْر أحدكم صلى ثلاثًا أو أربعًا فليسجد سجدتن وهو جالس". الخامس: بإسناد صحيح أيضًا، عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 30 رقم 1252). (¬2) سورة الأنعام، آية: [9]. (¬3) "مسند أبي يعلى" (10/ 373 رقم 5964). (¬4) "مسند الطيالسي" (1/ 308 رقم 2345).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من طريق الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه. السادس: بإسناد صحيح أيضًا، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد ابن يوسف الفِرْيَابي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، نا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "إذا نادى المنادي أدبر الشيطان له ضراط، فإذا قضي -يعني النداء- أقبل، فإذا ثوّب بها أدبر، فإذا قضى أقبل حتى يخطر بين الرجل وبين نفسه فيقول: اذكر كذا وكذا لما لم يذكر حتى لا يدري ثلاثًا صلى أو أربعًا، فإذا لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا فليسجد سجدتين وهو جالس". قلت: هذا موقوف. وأخرجه أيضًا مرفوعًا: عن بشر، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. السابع: بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عمر بن يونس ابن القاسم الحنفي، عن عكرمة بن عمار العجلي، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر بن بكر، ثنا محمد بن مرزوق، ثنا عمر بن يونس، ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى ابن أبي كثير، ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله: "إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يُسلّم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 340 رقم 3647). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 374 رقم 25).

الثامن: بإسناد صحيح أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عبد ربه بن سعيد، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حرملة بن يحيى، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن عبد ربه بن سعيد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الشيطان إذا ثوب بالصلاة ولى وله ضراط ... " فذكر نحوه. قوله: "يلتمس الخِلاط" بكسر الخاء أي الخلط، والمعنى يخالط قلب المصلي بالوسوسة، وهو مصدر من خَالطَهُ يُخَالِطُهُ مُخَالَطَةً وخِلَاطًا. قوله: "منّاه" بالتشديد من التمني وهو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. قوله: "وذكَّره" بالتشديد أيضًا من التذكير. ص: حدثنا يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، قالا: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني هلال بن عياض، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال لنا رسول الله - عليه السلام -: "إذا صلى أحدكم فلم يَدْر أثلاثًا صَلّى أم أربعًا فليسجد سجْدَتَيْن وهو جالس". ش: إسناده حسن جيد، وهلال بن عياض ويقال له عياض بن هلال ذكره ابن حبان في الثقات وقال: عياض بن هلال، ومن قال أنه هلال بن عياض فقد وهم. وفي "التكميل": عياض بن هلال وقيل: هلال بن عياض، وقيل: عياض ابن عبد الله، وقيل: عياض بن أبي زهير. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 399 رقم 389).

وقال محمد بن يحيى الذهلي: الصواب عياض بن هلال. وقال أبو حاتم: وهو أشبه. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عياض -يعني ابن هلال- قال: قلت لأبي سعيد: "أحدُنا يُصلّي فلا يدري كيف صلّى؟ فقال: قال رسول الله - عليه السلام -: إذا صلى أحدكم فلم يَدْر كيف صلى فليسجد سجدتين وهو جالس". وقال: حديث أبي سعيد حديث حسن، وقد روي هذا الحديث من غير وجه. ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هذا حكم من دخل عليه الشك في صلاته فلم يدر أزاد أم نقص سجد سجدتين وهو جالس ثم يُسلِّم ليس عليه غير ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وعطاء بن أبي رباح وأبا عبيدة معمر بن المثنى؛ فإنهم قالوا: من شكّ في صلاته ولم يدر أزاد أم نقص سجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم، وليس عليه شيء غير ذلك، واحتجوا في ذلك بظاهر الأحاديث المذكورة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يَبْني على الأقل حتى يعلم أنه أتى بما عليه يقينًا، وقالوا: ليس في الحديث دليل على أنه ليس على المصلي غير تَيْنك السجدتين؛ لأنه روي عنه ما قد زاد على ذلك وأوجب عليه قبل السجدتين البناء على اليقين حتى يعلم يقينًا زوال ما كان قد علم وجوبه عليه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وسعيد ابن جبير، وسالم بن عبد الله، وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوري والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: مَنْ شك في صلاته ولم يَدْر أزاد أم نقص يبني على الأقل؛ لأنه متيقن، والمعنى أنه إذا كان الشك ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 243 رقم 396).

بين الواحدة والثنتين يجعلها واحدةً، وإذا كان بين الثنتين والثلاث يجعلها ثنتين، وإذا كان بين الثلاث والأربع يجعلها ثلاثًا. وقال ابن قدامة في "المغني": ومن كان إمامًا فشكّ فلم يَدْر كم صلّى تحرّى فبنى على أكثر وهمه ثم سجد بعد السلام. قوله: "على أكثر وهمه" أي على ما يغلب على ظنه أنه صلاها، وهذا في الإِمام خاصة. وعن أبي عبد الله رواية أخرى: أنه يبني على غالب ظنّه إمامًا كان أو منفردًا، "إنما يبني على اليقين إذا استوى عنده الأمران ولم يكن له غالب ظن سواء كان إمامًا أو منفردًا، روي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وبنحوه قال النخعي، وقاله أصحابُ الرأي إن تكرّر ذلك عليه، وإن كان أول ما أصابه أعاد الصلاة. والرواية الثالثة عن أحمد: أنه يبني على اليقين ويسجد قبل السلام إمامًا كان أو منفردًا اختارها أبو بكر، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وعبد الله ابن عمرو وشريح والشعبي وعطاء وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله وهو قول ربيعة ومالك وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والأوزاعي وإسحاق، انتهى. قلت: وروي عن الشعبي والأوزاعي وجماعة كبيرة من السلف: إذا لم يدر كم صلّى لزمه أن يعيد الصلاة مرة أخرى أبدًا حتى يستيقن، وقال بعضهم: يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه. قوله: "وقالوا ... " إلى آخره، أي قال هؤلاء الآخرون: ليس في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري دليل على أنه ليس على من يشك في صلاته ولم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا غير هاتين السجدتين؛ وذلك لأنه قد روي عن النبي - عليه السلام - ما قد زاد على ذلك على ما يجيء الآن في الأحاديث الآتية أنه أوجب عليه قبل

السجدتين البناء على اليقين حتى يخرج عن العهدة بيقين. قوله: "تَيْنك" من أسماء الإشارة للمؤنث تقول للمذكر: "ذا" وتدخله "الهاء" فتقول: "هذا"، وللمؤنث "تا" وتلحقه "الهاء" فتقول: "هاتا"، ولتثنية المذكر "ذان" و"هذان" وللمؤنث "تان" و"هاتان"، ولجمعهما جميعا "أولاء" و"هؤلاء". ص: فمما روي عنه في ذلك ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا إسماعيل المكي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: "كنت أذاكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمرَ الصلاة، فأتى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله - عليه السلام -؟ قلنا: بلى. قال: أشهد أني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا صلى أحدُكم فشك في النقصان فليصلّ حتى يشك في الزيادة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن مكحول، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "جلست إلى عمر بن الخطاب فقال: يا ابن عباس هل سمعتَ عن رسول الله - عليه السلام - في الرجل إذا نسي صلاته فلم يَدْر أزاد أم نقص ما أمر فيه؟ قلت: ما سمعتَ أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله - عليه السلام - فيه شيئًا؟ قال: لا، والله ما سمعتُ فيه شيئًا ولا سألتُ عنه؛ إذ جاء عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما؟ فأخبره عمر - رضي الله عنه - فقال: سألت هذا الفتى عن كذا فلم أجده عنده علمًا فقال عبد الرحمن: لكن عندي، لقد سمعتُ ذلك من النبي - عليه السلام -، فقال عمر- رضي الله عنه -: أنت عندنا العدل الرِضَا فمإذا سمعتَ؟ فقال: سمعت النبي - عليه السلام - قال: إذا شك في صلاته، فشك في الواحدة والثنتين فليجعلهما واحدةً، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". ش: أي: فمن الذي روى "عن النبي - عليه السلام - في ذلك" أي فيما زاد على ما احتج

به أهل المقالة الأولى من الأحاديث المذكورة: "ما حدثنا" وهو في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "فمما روي عنه". وهو ما أخرجه من طريقين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدُوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن مسلم المكي أصله بصريّ فسكن مكة، فكثرت مجاورته فيها فقيل له المكي، فيه مقال؛ فعن يحيى: لا شيء وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه وليس بمتروك. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، روى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة، عن عبد الله بن عباس ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس:"أنه كان يُذاكر عُمر - رضي الله عنه - شأن الصلاة، فانتهى إليهم عبد الرحمن بن عوف فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله - عليه السلام -؟ قالوا: بلى، قال: أشهد أني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من صلاةً فشك في النقصان فليصل حتى يشك في الزيادة". وأخرجه الترمذي (¬2) معلقًا. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أحمد بن خالد الوَهْبي الكندي، عن محمد بن إسحاق ... إلى آخره. وهذا إسناد حَسنٌ جيد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 195 رقم 1689). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 244 رقم 398).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسماعيل، نا محمد بن إسحاق، حدثني مكحول، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم فشك في صلاته، فإن شك في الواحدة والثنتين فليجعلهما واحدةً، وإن شك في ثنتين والثلاث فليجعلهما ثنتين، وإن شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم يسلم". قال محمد بن إسحاق: وقال لي حسين بن عبد الله: هل أسنده لك؟ فقلت: لا. فقال: لكنه حدثني أن كريبًا مولى ابن عباس حدّثه، عن ابن عباس قال: "جلستُ إلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا ابن عباس، إذا اشتبه على الرجل في صلاته فلم يَدْر أزاد أم نقص؟ فقلتُ: والله يا أمير المؤمنين ما أدري، ما سمعت في ذلك شيئًا. فقال عمر - رضي الله عنه -: والله ما أدري. فبَيْنا نحن على ذلك إذْ جاء عبد الرحمن بن عوف وقال: ما هذا الذي تذكران؟ فقال له عمر- رضي الله عنه -: ذكرنا الرجل يشكُّ في صلاته كيف يصنع؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: ... " هذا الحديث. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا. ص: حدثنا ربيعٌ الجيزيُّ، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أنا حَيْوَة، عن محمد بن عجلان أن زيد بن أسلم حدثه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم فلم يَدْر أثلاثًا صلى أم أربعًا فليَبْن على اليقين ويدَعُ الشكَّ، فإن كانت صلاته نقصت فقد أتمها وكانت السجدتان ترغمان الشيطان، وإن كانت صلاته تامة كان ما زاد والسجدتان له نافلة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 193 رقم 1677). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 381 رقم 1209).

عن زيد بن أسلم ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا الماجشون، عن زيد ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يقل: "قبل التسليم". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه. وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن زيد ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر أبا سعيد - رضي الله عنه -. ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزيّ، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحَجْري المصري المؤذن -قال أبو حاتم: محله الصدق- عن حيوة بن شريح بن صفوان بن مالك التجيبي أبي زرعة المصري الفقيه الزاهد العابد روى له الجماعة، عن محمد بن عجلان المدني، عن زيد بن أسلم المدني، عن عطاء بن يسار الهلالي المدني روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن العلاء، نا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا شك أحدكم في صلاته فَلْيُلْقِ الشك وَلْيَبْنِ على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتن، فإن كانت صلاته تامّةً كانت الركعة نافلة والسجدتين، وإن كانت ناقصةً كانت الركعة تمامًا لصلاته وكانت السجدتان مُرغِمَتَي الشيطان". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف، قال: نا موسى بن داود، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 269 رقم 1024). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 400 رقم 571).

أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وَلْيَبْنِ على اليقين ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان". وأخرجه النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2) أيضًا. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن هشام بن سعد المدني القرشي يتيم زيد بن أسلم ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): نا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: ثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم ... بهذا الإسناد، وفي معناه قال: "يسجد سجدتين قبل السلام" كما قال سليمان بن بلال، وحديث سليمان بن بلال قد مرّ آنفًا. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن الماجشون عبد العزيز بن أبي سلمة، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬4): ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا بشر بن الوليد، ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا لم يَدْر أحدكم كم صلّى، ثلاثًا أو أربعًا فليقم فليصلّ ركعةً ثم يسجد بعد ذلك سجدتي السهو وهو جالس، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كانت أربعًا أرغمتا الشيطان". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 27 رقم 1238). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 382 رقم 1210). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 400 رقم 571). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 371 رقم 18).

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار ... فذكر الحديث المذكور نحوه، غير أنه لم يذكر في روايته أبا سعيد الخدري فأخرجه مرسلًا. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1): عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدْر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا فليُصلّ ركعةً، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شافعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا نحوه مرسلًا: من حديث مالك. وقال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث عن مالك جميع رواة "الموطأ" عنه، ولا أعلم أحدًا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم وتابعه على ذلك يحيى بن راشد -إن صح- عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام -، وقد تابع مالكًا على إرساله: الثوري، وحفص بن ميسرة الصَنْعاني، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، وداود بن قيس الفراء فيما رواه عنه القطان، وأسنده من الثقات على حسب رواية الوليد بن مسلم له عن مالك: عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال، ومطرف أبو غسان، وهشام ابن سعد، وداود بن قيس في غير رواية القطان، والحديث متصل مسند صحيح لا يضرّه تقصير من قصّر به في اتصاله؛ لأن الذين وصلوه حُفّاظ مقبولة زيادتهم. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 95 رقم 214). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 338 رقم 3641).

قوله: "ويدع الشك" أي يتركه، والمعنى إذا شك في صلاته فلم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثًا أم أربعًا فليترك الشك وليبن علي اليقين. قوله: "وكانت السجدتان ترغمان الشيطان" أي السجدتان اللتان سجدهما مرغمتي الشيطان أي مغيظتَيْن له ومُذلّتَين له، مأخوذ من الرغام وهو التراب، ومنه: أرغم الله أنفك؛ وذلك لأنها في حالة النقصان جبرٌ له، وفي حالة الزيادة والتمام تكون إرغامًا للشيطان؛ لأنه يبغض السجدة؛ لأنه ما لُعِن إلا من إبائه عن سجود آدم - عليه السلام -. قوله: "والسجدتان" عطف على قوله: "ما زاد". وقوله: "نافلةً" بالنصب خبر كان. وقال الخطابي: وفي هذا الحديث بيان فساد قول مَنْ ذهب في من صلّى خمسًا إلى أنه يضيف إليها سادسة إن كان قعد في الرابعة، واعتلوا بأن النافلة لا تكون ركعة واحدة وقد نصّ فيه من طريق ابن عجلان على أن تلك الركعة تكون نافلة، ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها. قلت: بل الفساد فيما قاله؛ لأن أصحابنا ما ألزموا بإضافة الركعة السادسة، بل قالوا: الأولى أن يضيف إليها ركعةً سادسة، ولا نسلم أن المنصوص من طريق ابن عجلان هو أن الركعة وحدها تكون نافلةً، بل ما كانت الركعة نافلة والسجدتين يعني مع السجدتين، فأجاب أصحابنا عن هذا الحديث أنه محمول على ما إذا وقع له مرارًا ولم يقع تحرّيه على شيء، والله أعلم. ص: فهذه الآثار تزيد على الآثار الأُوَل؛ لأن هذه توجب البناء على الأقل والسجدتين بعد ذلك، فهي أولى منها لأنها قد زادت عليها. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رُويت عن عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد الخدري.

فقالت أهل المقالة الثانية: في هذه الآثار زيادة على الآثار الأُوَل -وهي الأحاديث التي رويت عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - وهي أنها توجب البناء على الأقل لكونه مُتيقنًا، وتوجب السجدتين بعد ذلك، فهي أولى من الآثار الأُوَل لكونها زائدة عليها، والعمل بما زاد أولى؛ لكونها أكثر فائدة، والله أعلم. ص: وقال آخرون: الحكم في ذلك أن ينظر المصلي إلى أكبر رأيه في ذلك فيعمل على ذلك، ثم يسجد سجدتي السهو بعد التسليم، وإن كان لا رأي له في ذلك بني على الأقل حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى ما عليه. ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر بن الهذيل؛ فإنهم قالوا: الحكم فيمن شك ولم يَدْر أصلّى ثلاثًا أم أربعًا: أن ينظر إلى غالب ظنه في ذلك فيعمل بحسب ذلك ثم يسجد سجدتي السهو بعد السلام، وإن كان لا رأي له في ذلك بحيث إنه لا يستقر قلبه على شيء، أخذ في ذلك بالأقل وبنى عليه؛ لأنه هو المتيقن، ليخرج عن عهدة التكليف باليقين. وقد قال أصحابنا الحنفية في كتبهم: إن الشك إن كان عرض له أول مرة يَسْتقبل صلاته وإن كان يَعْرض له كثيرًا بني على أكبر رأيه، وقد طعنت الشافعية والمالكية والحنابلة وأصحابنا في هذا وقالوا: ليس في شيء من الآثار عن النبي - عليه السلام - تفرقة بين أول مرة وغيرها، فلا معنى لقول أبي حنيفة في ذلك. وقال ابن قدامة في "المغني": فأما قولُ أصحاب الرأي فيخالف السنة الثابتة عن رسول الله - عليه السلام -. وقال ابن حزم: تقسيم أبي حنيفة في هذا بأن كان إن عرض له ذلك أول مرة أعاد الصلاة، وإن كثر ذلك يتحرى أغلب ظنه. فاسد باطل؛ لأنه بلا برهان.

قلت: هذا الطحاويّ أعلم الناس باختلاف العلماء وأعلم أصحاب أبي حنيفة بفقه أبي حنيفة لم يذكر هذه التفرقة، ولو كانت هذه التفرقة عن أبي حنيفة نفسه لذكرها الطحاوي، فظهر من هذا أن ذلك عن أصحاب أبي حنيفة لا عن أبي حنيفة، فكيف يطعنون أبا حنيفة بهذا؟! ولئن سلمنا أن ذلك من أبي حنيفة فمُسْتنده حينئذٍ قوله - عليه السلام -: "لا غرار في صلاة ولا تسليم". أخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. و"الغِرار": بكسر الغين المعجمة وتخفيف الراء الأولى: النقصان، وأراد بها: نقصان هيئاتها وأركانها. قوله: "ولا تسليم" روي بالنصب والجرّ، فمن جرّه كان معطوفًا على الصلاة ويكون المعنى: لا غرار في تسليم أيضًا، وغرار التسليم أن يقول المجيب: وعليك، ولا يقول: السلام. ومن نصبه يكون معطوفًا على الغرار، ويكون المعنى: لا نقص ولا تسليم في صلاة؛ لأن الكلام في الصلاة بغير كلامها لا يجوز. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، عن منصور، قال: "سألت سعيد بن جبير عن الشك في الصلاة فقال: أما أنا فإن كانت التطوع استقبلتُ، وإن كانت فريضة سلمتُ وسجدتُ. قال: فذكرته لإبراهيم فقال: ما نَصْنعُ بقول سعيد بن جبير، حدثني علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا سها أحدكم في صلاته فليتحرّ وليسجُدْ سجدتين". حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وُهَيبٌ، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 244 رقم 928).

صلى أحدكم فلم يَدْر أثلاثًا صلى أم أربعًا فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب فليُتّمه، ثم ليُسَلّمْ، ثم ليسجد سجدتين للسهو، ويتشهد ويُسلّم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن منهال، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا رَوْح بن القاسم، عن منصور ... فذكر مثله بإسناده، غير أنه لم يقل: "ويتشهد". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن منصور ... فذكر بإسناده مثله. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن محمد بن عبد الله بن الزبير أبي أحمد الزبيري الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جُبير - رضي الله عنه -. ثم عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأصل هذا الحديث عند الجماعة. وأخرجه الدارقطني (¬1) مقتصرًا على ما روي عن النبي - عليه السلام -: ثنا القاضي حسين بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا وكيع، ثنا مسعر بن كدام، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي - عليه السلام -: "إذا شك أحدكم في الصلاة فليتحرّ الصواب ثم يسجد سجدتي السهو". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن يحيى بن حسان، عن وُهَيْبٌ بن خالد البصري، عن منصور ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 376 رقم 2).

وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن يحيى بن حسان، عن وُهَيبْ ... إلى آخره نحوه. ثم قال: وفي رواية ابن بشر: "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب" وفي رواية وكيع: "فليتحرّ الصواب"، وفي أخرى: "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب"، وفي أخرى: "فليتحر الذي يرى أنه الصواب". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمد بن منهال التميمي البصري شيخ الشيحين، عن يزيد بن زريع ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2) بأتمّ منه: أنا أحمد بن يحيى بن زهير بتستر، قال: ثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا رَوْح بن القاسم، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - صلاةً زاد فيها أو نقص منها، فلما أتمّ قلنا: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيءٌ؟ قال: فثَنى رِجليْه، فسجد سجدتين، ثم قال: لو حدث في الصلاة شيء أخبرتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنْسَى كما تَنْسَوْن، فإذا نَسيتُ فذكّروني، وإذا أحدكم شك في صلاته فليتحر الصواب، ولْيَبْن عليه، ثم ليسجد سجدتين". الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، عن منصور بن المعتمر ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬3) نحوه. قوله: "فليتحرّ" أمر من التحرّي، وهو: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 401 رقم 572). (¬2) "صحيح ابن حبان" (6/ 380 رقم 2652). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 36 رقم 271).

قوله: "فلينظر أحرى ذلك" أي أولى ذلك وأقربه إلى الصواب. وفيه من الفوائد: وجوب الأخذ بالتحري عند وقوع الشك بين الثلاث والأربع، وكذلك بين الثنتين والثلاث والواحدة والثنتين، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل والإتيان بالزيادة كما ذهب إليه الخصم. فإن قيل: التحرّي في حديث عبد الله محمول على الأخذ بالأقل الذي هو اليقين؛ لأن التحري هو القصد، ومنه قوله تعالى: {تَحَرَّوْا رَشَدًا} (¬1) ومعنى قوله: "فليتحر": فليقصد الصواب فيعمل به، وقصد الصواب هو ما بيّنه في حديث أبي سعيد الخدريّ وغيره على ما مضى ذكره. قلت: حديث أبي سعيد محمول على ما إذا تحرّى ولم يقع تحريه على شيء، فنقول: إذا تحرى ولم يقع تحرِّيه على شيء بني على الأقل. وحديث أبي سعيد لا يخالف ما قلنا؛ لأنه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه، ومن شك ولم يترجح له أحد الطرفين يَبْني على الأقل؛ بالإجماع. وقول الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله- في دفع هذا: إن تفسير الشك بمستوي الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصولين، وأما في اللغة: فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يُسمّى شكًّا سوى المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يُحمل على اللغة ما لم تكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح؛ لأن المراد الحقيقة العرفية وهي أن الشك ما استوى طرفاه. ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأن صاحب "الصحاح" فسر الشك في باب: "الكاف" فقال: الشك خلاف اليقين. ثم فسر اليقين في باب: "النون" فقال: اليقين: العلم. فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يُسمّى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يُسمّى شاكًا، ¬

_ (¬1) سورة الجن، آية: [14].

فَعُلِمَ أن قوله: "وأما في اللغة فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يُسمّى شكًّا" هو الحقيقة العرفية لا اللغوية. وفيه: وجوب سجدتي السهو، وأنهما بعد السلام، وأن سجدتي السهو لهما سلام وتشهد. ص: ففي هذا الحديث العمل بالتحري، وتصحيح الآثار يُوجب ما يَقُولُ أهلُ هذه المقالة؛ لأن هذا إن بطل ووجب أن لا يَعْمل بالتَحْرّي انتفى هذا الحديث، وإن وَجب العمل بالتحري إذا كان له رأي، والبناء على الأقل إذا لم يكن رأي، استوى حديث عبد الرحمن وحديث أبي سعيد وحديث ابن مسعود، فصار كل واحد منها قد جاء في معنى غير المعنى الذي جاء فيه الآخر، وهكذا ينبغي أن تُخرّج الآثار وتحمل على الاتفاق ما قُدِرَ على ذلك، ولا تُحمَل على التضاد إلا أن لا يوجد لها وجه غيره، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي ففي حديث ابن مسعود: الواجب العمل بالتحري؛ للأمر به الدالّ على الوجوب، فتصحيح الأحاديث المتضادة يُوجبُ ما ذهب إليه أهل هذه المقالة، وهم أهل المقالة الثالثة؛ وذلك لأن ما ذهبوا إليه إذا بطل ووجب أن لا يعمل بالتحري لزم إلغاء هذا الحديث، وهو معنى قوله: "انتفى هذا الحديث" أي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، والحال أنه مما ينبغي أن يُعمل بالآثار كلها مهما أمكن وقُدِر على ذلك؛ لأن الإعمال بجميعها عند الإمكان خير من إعمال بعضها وإهمال بعضها، وها هنا إذا عملنا بالتحري عند وجود الرأي، وبالبناء على الأقل عند عدم الرأي؛ تَسْتَوي أحاديث هذا الباب كلها التي رواها عبد الرحمن بن عوف، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فإذا عملنا هكذا يكون كل واحد من هذه الأحاديث لمعنًى غير معنى الآخر، فلا يكون بين معانيها تضاد، وهكذا ينبغي أن تُخرّج الآثار حملًا على التوافق ودفعًا للتضاد مهما أمكن، اللهم إلا إذا لم يوجد لها وجه غير ذلك كما عرف في موضعه.

فإن قيل: المصير إلى التحري لضرورة، ولا ضرورة ها هنا؛ لأنه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل فلا حاجة إلى التحري. قلت: قد يتعذر عليه الوصول إلى ما اشتبه عليه بدليل من "الدلائل" والتحري عند عدم الأدلة مشروع كما في أمر القبلة. فإن قيل: يستقبل. قلت: لا وجه لذلك؛ لأنه عسى أن يقع له ثانيًا وثالثًا إلى ما لا يتناهى. فإن قيل: يبني على الأقل. قلت: لا وجه لذلك أيضًا؛ لأن ذلك لا يوصله إلى ما عليه فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء كما ذكرنا، والله أعلم. ص: ومما يُصحح ما ذهبوا إليه: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد روينا عنه عن النبي - عليه السلام - في أول هذا الباب ما ذكرنا، ثم قال هو برأيه أنه يتحرّى. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا شيخٌ أحسبه أبا زيد الهروي، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني إدريس، عن أبيه سمعه يُحدث، قال: "قال أبو هريرة في الوهم: يتحرى". ش: أي ومن الذي يصحح ما ذهب إليه أهل المقالة الثالثة -وهم: أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله- من وجوب التحري عند وجود الرأي: أن أبا هريرة روي عنه أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إذا جاء أحدكم الشيطان فخلط عليه صلاته فلا يدري كم صلى؛ فليسجد سجدتين وهو جالس". ثم قال أبو هريرة برأيه من نفسه: "أنه يتحرى". ولو لم يكن التحري معمولًا به عند وجود الرأي لما قال به أبو هريرة مع كون حديثه ثابتًا عنده. وأبو زيد الهروي اسمه سعيد بن الربيع الجرشي العامري البصري كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها، قال أبو حاتم: صدوق. وروى له مسلم والترمذي والنسائي.

وإدريس هو ابن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْدي الزعافري من أهل الكوفة والد عبد الله بن إدريس، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يروي عن أبيه، عن أبي هريرة. وأبوه يزيد بن عبد الرحمن أبو داود الأوْدي، ذكره ابن حبان في "الثقات". قوله: "في الوهم" من وهمت في الحساب بالكسر أوهم وَهْمًا إذا غلطت فيه وسهوت، وأما وهمت في الشيء فهو بالفتح أهَم وَهْمًا إذا ذهب وهمك إليه وأنت تُريد غيرَه، وتوهمتُ أي ظننتُ. ص: وقد روي عن أبي سعيد مثل ذلك أيضًا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، قال: ثنا سفيان بن عُيَيْنة، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: "سُئل ابن عمر وأبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنهما - عن رجل سَهَا فلم يَدْر كم صلّى ثلاثًا أم أربعًا فقالا: يتحرّى أصوَبَ ذلك فيُتمّه، ثم يسجد سجدتين وهو جالس". حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا شبابةُ بن سَوار، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن سليمان اليَشكرِي، عين أبي سعيد الخدري: "أنه قال في الوهم: يتحرى. قال: قلت: عن النبي - عليه السلام -؟ قال: عن النبي - عليه السلام -". فدلّ ما ذكرنا أن ما رواه أبو سعيد عن النبي - عليه السلام - إنما هو إذا كان لا يدري أثلاثًا صلّى أم أربعًا ولم يكن أحدهما أغلب في ظنّه من الآخر، وأما إذا كان أحدُهما أغلب في قلبه من الآخر عمل على ذلك، فقد وافق ما روي عن أبي سعيد لما جُمعَ ما رواه عن النبي - عليه السلام - وما أجاب به الذي سأله بعد النبي - عليه السلام - ما قال أهل هذه المقالة الآخرة لا ما قال مَنْ خالفهم. ش: أي قد روي عن أبي سعيد الخدري سَعْد بن مالك - رضي الله عنه - مثل ما رُوي عن أبي هريرة من قوله في الوَهْم: "يتحرى"، ولما سأله سليمان اليشكري: أهو عن النبي - عليه السلام -؟ قال: عن النبي - عليه السلام -، فدلّ هذا أن ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - إنما هو

محمول على ما إذا كان لا يدري أثلاثًا صلّى أم أربعًا ولم يكن أحدهما أغلب في ظنه من الآخر، وأما إذا كان أحدهما -أي: أحد الأمرين وهما الشك في الثلاث والأربع- أغلب في قلبه من الآخر عمل على ذلك، أراد أنه يعمل به على ما صرّح به من قوله: "فليبن علي اليقين ويدع الشك"، فإذا كان الأمر كذلك فقد وافق ما روي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - لما جُمِعَ -أي حين جُمِعَ- ما رواه عن النبي - عليه السلام - وما أجاب به الرجل الذي سأله بعد النبي - عليه السلام - ما قال أهل المقالة الآخرة وهم أهل المقالة الثالثة. فقوله: "ما روي" فاعل لقوله: "فقد وافق"، وقوله: "ما قال أهل هذه المقالة" مفعوله، والعامل في "لما جُمع" هو قوله: "وافق" و"جُمِع" على صيغة المجهول وهو مسند إلى قوله: "ما رواه" أي: ما رواه أبو سعيد. وقوله: "وما أجاب به" عطف على قوله: "ما رواه" أي: والذي أجاب به أبو سعيد لمن سأله بعد النبي - عليه السلام -. ص: وقد روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في التحري مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة وأبو عوانة، عن قتادة، عن أنس مثله. ش: أي مثل ما روي عن أبي سعيد الخدري. أخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي عوانة الوضاح اليشكري كلاهما، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا عبيد الله بن سعيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "إذا وهم الرجل في صلاته فلم يَدْر كم صلّى، قال: ينتهي إلى وهمه ويسجد سجدتين".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي معاوية، عن زياد بن سعد، عن ضمرة بن سَعْد، عن أنس: "أنه سجد سجدتي السهو بعد السلام". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن عمر بن محمد بن زَيْد، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخّ الذي يظنُّ أنه نسيَ من صلاته فليصلّه وليَسْجد سجدتين وهو جالس". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن محمد، عن سالم ... ثم ذكر مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن النسيان في الصلاة يقول: ليتوخ أحدُكم الذي ظن أنه قد نسي من صلاته فليصلّه". حدثنا محمد بن العباس بن الربيع، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل ابن عُلية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في التحري في الشك في الصلاة مثل ما في حديث ابن وهب، عن مالك، عن عمر بن محمد، وعن ابن وهب، عن عمر نفسه. ش: هذه أربع طرق صحاح، ورجاله قد ذكروا غير مرة. ويونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو عبد الله، وأيوب هو السختياني. والأثر أخرجه مالك في "موطئه" (¬2). وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1): عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "يتوخى الذي يرى أنه قد نقص فيُتمّه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 386 رقم 4436). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 96 رقم 217).

قوله: "فليتوخ" أي فليقصد، من توخّيت الشيء أتوَخَّاه توخّيًّا إذا قصدت إليه وتعمدت فعله وتحريت فيه. قوله: "مثل ما في حديث ابن وهب" أراد به الحديث الذي رواه عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس المذكور آنفًا. قوله: "وعن ابن وهب، عن عمر نفسه" أي وبمثل ما في حديث يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب نفسه، وأشار به إلى طريق آخر عن يونس، عن ابن وهب، عن عمر نفسه. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأصل في ذلك: أن هذا الرجل قبل دخوله في الصلاة قد كان عليه أن يأتي بأربع ركعات، فلما شك في أن يكون جاء ببعضها؛ وجب النظر في ذلك ليُعلم كيف حكمه؟ فرأيناه لو شك في أن يكون قد صلى؛ لكان عليه أن يُصلّي حتى يَعلم يقينًا أنه قد صلى، ولا يعمل في ذلك بالتحري. فكان النظر على هذا أن يكون كذلك هو في كل شيء من صلاته، كل ذلك عليه فرض، وعليه أن يأتي به حتى يعلم يقينًا أنه قد جاء به. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس: هو أنَّا رأينا الأصل في هذا الباب: أن هذا الرجل الذي شك في صلاته أصلّى ثلاثا أم أربعًا، كان الواجب عليه قبل دخوله في الصلاة أن يأتي بأربع ركعات، فكذلك إذا دخل وشكّ في أنه قد أتي ببعضها؛ لأن الشيء على أصله المعروف حتى يزيله يقينٌ لا شك معه، وأن الذي يدخل في شيء بيقين لا يجوز له أن يخرج عنه إلا بيقين أنه قد حل له الخروج من ذلك الشيء، ولما جاء الشكّ في إتيان بعضها؛ وجب النظر فيه لنعلم كيف حكمه.

فرأينا المصلي لو شك في أنه هل صلى أم لا كان الواجب عليه أن يصلي حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى، ولا يجوز العمل في ذلك بالتحري؛ لما قلنا: إن الشيء مبنيّ على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه. فالنظر والقياس على ذلك: أن يكون حكمه كذلك في كل جزء من أجزاء صلاته؛ لأن كل ذلك فرض عليه، وعليه أن يأتي بكل ذلك حتى يتيقن أنه قد أتى به، ألا ترى أن العلماء قد أجمعوا أن مَنْ أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكه لا يفيده فائدة، وأن عليه الوضوء فرضًا، وهذا يدلك أن الشك ملغي، وأن العمل على اليقين عندهم، وهذا أصل كبير في الفقه، ألا ترى إلى قوله - عليه السلام -: "وإذا أتى أحدكم الشيطان وهو في صلاته فقال له: إنك قد أحدثت، فلا ينصرف حتى يسمع بأذنيه صوته أو يجد ريحه بأنفه"، فإنه - عليه السلام - لم يَنْقله من يقين طهارته إلى شكٍّ، بَلْ أمره أن يبني على يقينه في ذلك حتى يصحّ عنده يقينٌ يصيرُ إليه. ص: فإن قال قائل: إن الفرض عليه غيرُ واجب حتى يعلم يقينًا أنه واجبٌ. قيل له: ليس كذلك وجدنا العبادات كلها؛ لأنَّا تُعبدْنا أنه إذا أغمي علينا في يوم ثلاثين من رمضان فاحتمل أن يكون من شهر رمضان فيكون علينا صومه، واحتمل أن يكون من شوال فلا يكون علينا صومُه، أمرنا أن نصومه حتى نَعْلمَ يقينًا أنه ليس علينا صومه، فكان من دخل في شيء بيقين لم يخرج منه إلا بيقين، فالنظر على ذلك أن يكون أول من دخل في صلاته بيقين أنها عليه، لم يحل له الخروج منها إلا بيقين أنه قد حلّ له الخروج منها. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد فرضتم على الذي شك في صلاته أصلى ثلاثًا أم أربعًا مثلًا أن يأتي به حتى يعلم يقينًا أنه قد جاء به، والفرض عليه غير واجب حتى يعلم يقينًا أنه واجب، وأراد أن الفرضية لا تثبت إلا باليقين.

وتقرير الجواب أن يقال: ليس الأمر كذلك في جميع العبادات، بل في بعضها يثبت الوجوب وإن لم يكن ثمة يقين، ألا ترى أنه إذا أغمي عليهم في يوم ثلاثين من رمضان فإنه يقع فيه الشك؛ لأنه إن كان هذا اليوم من رمضان يجب عليهم صومه، وإن كان من شوال يحرم عليهم صومه؛ لأنه يوم عيد، ومع هذا يجب عليهم صومُه حتى يعلموا يقينًا أنه ليس عليهم صومه بأن يعلموا أنه من شوال حقيقةً، وكذلك إذا أغمي عليهم الهلال في اليوم الثلاثين من شعبان، فإنه إن كان يحتمل أنه من شعبان فلا يجب الصوم، وإن كان من رمضان فيجب الصوم، فلا يجب حتى يتحققوا أنه من رمضان. قوله: "فكان من دخل في شيء بيقين ... " إلى آخره مترتب على قوله: "وعليه أن يأتي به حتى يَعلم يقينًا أنه قد جاء به". وقوله: "فالنظر على ذلك" نتيجة تلك المقدمة، فافهم. ص: وقد جاء ما استشهدنا به من حكم الإغماء في شعبان وشهر رمضان عن النبي - عليه السلام - متواترًا كما ذكرنا، فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا زكرياء، عن عمرو بن دينار، أن محمد بن جُبَير أخبره، أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "إني لأعجب من الذين يصومون قبل رمضان، إنما قال رسول الله - عليه السلام -: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بَشّار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو، عن محمد، عن ابن عباس قال: سمعته يقول ... فذكر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن بكر وروح، قالا: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب قال: "دخلت على عكرمة فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعتُ رسول الله - عليه السلام - يقول ... فذكر مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: نا وَهْبٌ، عن شعبة، عن عمرو، عن أبي البختري، قال: "رأينا هلال رمضان، فأرسلنا رجلًا إلى ابن عباس فسأله، فقال: قال رسول الله - عليه السلام -: إن الله قد مدّه لرؤيته، فإن أغمي عليكم فكملوا العده". ش: لما استشهد في جواب السؤال المذكور بمسألة إغماء الهلال في اليوم الثلاثين من شعبان ورمضان، ذكر ما رُويَ فيه عن النبي - عليه السلام - متواترًا، وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف أي جاء مجيئًا متواترًا، أراد به متكاثرًا؛ وليس المراد به التواتر المصطلح عليه. وأخرج في ذلك عن ابن عباس من ستة طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة، عن زكرياء بن إسحاق المكي روى له الجماعة، عن عمرو بن دينار المكي روى له الجماعة، عن محمد بن جبير بن مطعم المدني روى له الجماعة، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث روح ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "إني لأعجب من هؤلاء" أراد ابنُ عباس من كلامه هذا الإنكار على مَن كان يصوم قبل رمضان بيوم من غير رؤية الهلال ولا عدّ شعبان ثلاثين يومًا. قوله: "إذا رأيتم الهلال" أي هلال رمضان، والهلال أول ليلة والثانية والثالثة، ثم هو قمرٌ، والجمع: الأهلة. قال الكسائي: يُقال أَهلّ الهلال وأُهل الهلال واستُهل الهلال، ولا يقال: هلّ ولا أهللنا الهلال، والعرب تقول: أهلّ الشهر واستهل لا يقال غيره، والعرب تقول: أهلّ الصبي واستهل ولا تقول غيره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 207 رقم 7735).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي وثقه ابن حبان، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن عبد الله بن زيد، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن جبير، عن ابن عباس قال: "عجبتُ ممن يتقدم الشهرَ وقد قال رسول الله - عليه السلام -: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا أحمد بن عثمان أبو الجوزاء وهو ثقة بصري أخو أبي العالية، قال: أنا حبان بن هلال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري روى له الجماعة، وروح بن عبادة، كلاهما عن حاتم بن أبي صغيرة روى له الجماعة، وأبو صغيرة أبو أمّه، وقيل: زوج أمه، وهو حاتم بن مسلم أبو يونس القيسيري، وهو يروي عن سماك بن حرب بن أوس الكوفي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) بأتم منه: من حديث عبد الله بن بكر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك قال: "دخلت على عكرمة في يوم قد أُشْكِلَ عليَّ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 135 رقم 2125). (¬2) "المجتبى" (4/ 135 رقم 2124). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 207 رقم 7736).

أَمِنْ رمضان هو أَمْ منْ شعبان؟ فأصبحت صائمًا، فقلت: إن كان من رمضان لم يسبقني، وإن كان من شعبان كان تطوعًا، فدخلت على عكرمة وهو يأكل خبزًا وبقلًا ولبنًا، فقال: هلم إلى الغداء. قلتُ: إني صائم. فقال: أحْلِف بالله لتفطرنه. قلتُ: سبحان الله. قال: أحلف بالله لتفطرنه. فلما رأيته لا يستثني أفطرتُ، فغدوتُ ببعض الشيء وأنا شبعان ثم قلت: هات. فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حَالَ بينكم وبينه سحابة أو غياية فأكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا، لا تستقبلوا رمضان بيومٍ من شعبان". وأخرجه النسائي (¬1) مختصرًا: أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: نا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، قال: حدثنا ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة، ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا". الخامس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البَخْتَري -بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة من فوق- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري قال: "أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلًا إلى ابن عباس يسأله فقال ابن عباس: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن الله قد أمدّه لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العده". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 136 رقم 2129). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 284 رقم 9028).

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا محمد بن مخلد، ثنا علي بن أبي داود، ثنا آدم بن أبي إياس، نا شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري الطائي يقول: "أهللنا هلال رمضان ونحن بذات الشقوق، فشككنا في الهلال، فبعثنا رجلًا إلى ابن عباس، فسأله فقال ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -: "إن الله أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا". صحيح عن شعبة، ورواه حصين وأبو خالد الدالاني، عن عمرو بن مرة، ولم يقل فيه: "عدة شعبان" غير آدم، وهو ثقة. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا". حدثنا يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 162 رقم 26).

ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى: أنا. وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل -وهو ابن جعفر- عن عبد الله ابن دينار، أنه سمع عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الشهر تسع وعشرون ليلة، لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تَرَوْهُ إلا أن يغم عليكم، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا. قوله: "فاقدروا" أي قدّروا له عدد الشهر حتى تكملوا ثلاثين يومًا، وقيل: قدّروا له منازل القمر فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون، قال ابن سريج: هذا خطاب لمن خصَّه الله بهذا العلم. وقوله: "فأكملوا العدة" خطاب للعامة التي لم تعن به، يقال: قدرتُ الأمر أَقدُرُهُ وأقَدِره -بضم الدال وكسرها- إذا نظرت فيه ودبرته. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬3): عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله قال: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". الثالث: عن يونس أيضًا ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4) نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 760 رقم 1080). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 674 رقم 1808). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 286 رقم 631). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 284 رقم 9023).

الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرِّقّي، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن علي، قال: نا يحيى، قال: نا عبيد الله، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". وأخرجه مسلم (¬2): عن زهير بن حرب، عن إسماعيل عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: "إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". الخامس: عن محمد بن حميد الرعيني، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني، نا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له. وكان ابن عمر يصوم قبل الهلال بيوم". ص: حدثنا ابن معبد، قال: ثنا رَوحٌ، قال: ثنا زكرياء، قال: ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - عليه السلام - ... فذكر مثله، غير أنه قال: "فعدّوا له ثلاثين". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 134 رقم 2122). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 759 رقم 1080). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 529 رقم 1654).

ش: إسناده صحيح، وابن مَعْبد هو علي بن معبد بن نوح المصري، وروح هو ابن عبادة، وزكرياء هو ابن إسحاق المكي روى له الجماعة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث زكرياء بن إسحاق، ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين يومًا". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا إبراهيم بن حُمَيْد الرؤاسي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا جاء رمضان فصم ثلاثين إلا أن ترى الهلال قبل ذلك". ش: إسناده حسن، والحسن بن الربيع بن سليمان البجلي القَسْري الكوفي شيخ البخاري ومسلم، وإبراهيم بن حميد بن عبد الرحمن أبو إسحاق الكوفي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، والرؤاسي بضم الراء نسبة إلى بني رُؤاس قبيلة. ومجالد بن سعيد بن عمير أبو سعيد الكوفي فيه مقال، روى له مسلم -مقرونًا بغيره- والباقون سوى البخاري، والشعبي هو عامر بن شراحيل. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا على بن عبد العزيز، ثنا الحسن بن الربيع الكوفي ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا إبراهيم ابن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن ألى هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعُدّوا ثلاثين". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 529 رقم 1654). (¬2) "المعجم الكبير" (17/ 78 رقم 171).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقولُ: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحاظيّ، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ابن خزيمة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا إبراهيم بن سعد ... إلى آخره نحوه سندًا ومتنًا، غير أن في لفظه: "فصوموا ثلاثين يومًا". وأخرجه البخاري (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. الثاني: عن ابن خزيمة أيضًا. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا عبد الرحمن بن سلام الجمحي، قال: ثنا الربيع -يعني ابن مسلم- عن محمد وهو ابن زياد، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن عَمِي عليكم فأكملوا العدد". وثنا (¬5) عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن عمِيَ عليكم الشهر فعُدّوا ثلاثين". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن يحيى بن صالح الوُحاظيّ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 762 رقم 1081). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 674 معلقًا). (¬3) "المجتبى" (4/ 133 رقم 2119). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 762 رقم 1081). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 762 رقم 1081).

شيخ البخاري، عن سليمان، بن بلال، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا ابن صاعد وابن غيلان، قالا: ثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "لا تعجلوا شهر رمضان بيوم ولا يومين، فعدوا ثلاثين ثم أفطروا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن حسان، عن محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: سمعت رجلًا قال: "يا رسول الله، أرأيت اليوم الذي يُختلف فيه تقول فرقة: من شعبان وتقول فرقة: من رمضان؟ فقال رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكره مثله. ش: أصبغ بن الفرج، الفقيه المصري، وراق عبد الله بن وهب، شيخ البخاري، مصري ثقة. وحاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة. ومحمد بن جابر بن سيّار الحنفي اليمامي فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، كان أعمى، اختلط عليه حديثه، وقال أبو زرعة: ساقط الحديث عند أهل العلم. وقال أبو داود: ليس بشيء وقال النسائي: ضعيف. روي له أبو داود وابن ماجه حديثا واحدًا في مسّ الذكر. وقيس بن طلق بن علي بن المنذر الحنفي اليمامي، روى عن أبيه طلق بن علي الصحابي، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 160 رقم 16).

والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث محاضر، ثنا هشام بن حسان، عن قيس بن طلق، عن أبيه، "سمعت رجلًا سأل النبي - عليه السلام - عن اليوم الذي يشكُّ فيه، فيقول بعضهم: هذا من شعبان، وبعضهم: هذا من رمضان، فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا". وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا لُوَينٌ، ثنا محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: قال رسول الله: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين". محمد بن جابر ليس بالقوي. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تتقدموا هذا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة". ش: إسناده حسن جيد، وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، وثقه أبو حاتم. وزهير هو ابن معاوية، ومنصور هو ابن المعتمر، وربعي بن حراش، -بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وفي آخره شيخ معجمة- روى له الجماعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه": ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا عبيد بن حميد التيمي، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 208 رقم 7740). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 163 رقم 29).

ص: فلما لم يأمر النبي - عليه السلام - بالخروج من الإفطار الذي قد دخلوا فيه إلا بيقين أنهم قد خرجوا منه، ثم لم يخرجهم بعد ذلك أيضًا من الصوم الذي قد دخلوا فيه إلا بيقين أنهم قد خرجوا منه؛ كذلك أيضًا يجيء في النظر أن يكون كذلك مَنْ دخل في صلاته وهو متيقن أنها عليه أن لا يخرج منها إلا بيقين منه أنها ليست عليه. ش: هذا مترتب على قوله: "من دخل في شيء بيقين لم يخرج منه إلا بيقين"؛ وذلك لأن اليقين لا يزيله إلا اليقين مثله، والشك لا يعارض اليقين ولا يزيله، والله أعلم.

ص: باب: سجود السهو في الصلاة هل هو قبل التسليم أو بعده؟

ص: باب: سجود السهو في الصلاة هل هو قبل التسليم أو بعده؟ ش: أي: هذا باب في بيان سجود السهو في الصلاة هل يكون قبل السلام أو بعده؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن مالك -هو ابن بُحَينة-: "أنه أبْصر النبي - عليه السلام - قام في الركعتين ونسي أن يقعد، فمضى في قيامه، ثم سجد سجدتين بعد الفراغ من صلاته". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بُحَينة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان بإسناد صحيح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي البصري روى له الجماعة، وعبد الله بن مالك بن القِشْب الأزدي الصحابي صحب النبي - عليه السلام - قديمًا، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، وبُحَينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح النون وفي آخره هاء، وهي أم عبد الله، وهي بنت الأرتّ وهو الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا معاذ بن المثنى، نا أبو عمر الحوضي، ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأعرج، عن ابن بُحَيْنة: "أن النبي - عليه السلام - قام في الركعتين ... " إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ويستفاد منه: أن في السهو سجدتين. وأن التشهد الأول والجلوس له ليْسا بركنين في الصلاة؛ إذ لو كانا ركنين لم يَجْبرهما السجود وغيره، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور. وقال أحمد في طائفة قليلة: هما ركنان، وإذا سها جبَرهما بالسجود على مقتضى الحديث. وأن سجدة السهو ثنتان كسجدة الصلاة وليست بواحدة كسجدة التلاوة. ص: ولم يُبَيّن في هذا الحديث الفراغ ما هو، فقد يجوز أن يكون الفراغ هو السلام، وقد يجوز أن يكون الفراغ من التشهد قبل السلام. فنظرنا في ذلك فإذا يونس قد حدثنا، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب أخبرهم، عن عبد الرحمن الأعرج، أن عبد الله بن بُحَيْنة حدثه، عن رسول الله - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "فلما قضى صلاته سجد سجدتين، كبّر في كل سجدةٍ وهو جالسٌ قبل أن يُسلّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالكٌ وعمرو، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج، عن ابن بحَينة، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. حدثنا ربيعٌ الجيزيُّ، قال: ثنا أسَدٌ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبد الله بن بُحَينة قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً يظن أنها العصر، فقام في الثانية ولم يجلسْ، فلما كان قبل أن يُسلّم سجد سجدتين وهو جالسٌ. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 96 رقم 218).

قال أبو جعفر -رحمه الله -: فثبت بما ذكرنا في هذه الأحاديث أن الفراغ المذكور في الأحاديث التي في أول هذا الباب هو قبل السلام. ش: أي لم يُبَيّن في حديث عبد الله بن بحينة في الطريقين المذكورين الفراغ المذكور في قوله: "بعد الفراغ من صلاته" ما هو؟ فهل هو الفراغ الذي هو السلام؟ أو هو الفراغ من التشهد قبل السلام؟ قد ما احتمل الأمرين نظرنا فيه، فوجدنا رواية أخرى تدل على أن الفراغ المذكور هو الفراغ من التشهد قبل السلام. وأخرجها من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بُحَيْنة. وأخرجه الترمدي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة الأسدي حليف بني عبد المطلب: "أن النبي - عليه السلام - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يُسلّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس". الثاني: عن يونس أيضًا، عن ابن وهب أيضًا، عن مالك بن أنس وعمرو ابن الحارث المصري، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبد الله بن بُحَينة، عن رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بُحَينة قال: "صلى بنا ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 235 رقم 391). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 399 رقم 570).

رسول الله - عليه السلام - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبّر فسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام، ثم سلَّم". وأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب. والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. والبخاري (¬3): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن الأعرج، عن عبد الله بن بُحَيْنة أنه قال: "إن رسول الله - عليه السلام - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلَّم بعد ذلك". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي المصري الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة وهشام بن عمار، قالوا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الأعرج، عن ابن بُحَيْنة: "أن النبي - عليه السلام - صلى صلاةً أظن أنها العصر، فلما كان الثانية قام قبل أن يجلس، فلما كان قبل أن يسلِّم سجد سجدتين". الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في مسنده" (¬5): ثنا سفيان، عن الزهري، عن الأعرج، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 271 رقم 1034). (¬2) "المجتبى" (3/ 19 رقم 1222). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 411 رقم 1166). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 381 رقم 1206). (¬5) "مسند أحمد" (5/ 345 رقم 22970).

ابن بحينة: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - صلاة يظن أنها العصر، فقام في الثانية فلم يجلس، فلما كان قبل أن يسلم سجد سجدتين". وأخرجه الدارقطني أيضًا في "سننه" (¬1) من هذا الطريق. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، من محمد بن عجلان مولى فاطمة حدثه، عن محمد بن يوسف مولى عثمان حدثه، عن أبيه: أن معاوية بن أبي سفيان صلى بهم، فقام وعليه جلوس فلم يجلس، فلما كان في آخر السجدة من صلاته سجد سجدتين قبل أن يُسلّم، وقال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يَصْنع". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب وابن لهيعة، قالا: ثنا محمد بن عجلان ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان حسنان جيّدان: الأول: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي ثم المصري، المعروف بعلان. قال ابن أبي حاتم: صدوق. عن عبد الله بن صالح المصري شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمد أبي عبد الملك المصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عمرو بن الحارث ابن يعقوب المصري روى له الجماعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني نزيل مصر روى له الجماعة، عن محمد بن عجلان المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن محمد بن يوسف مولى عثمان بن عفان، وثقه أبو زرعة والدارقطني وروي له النسائي. عن أبيه يوسف القرشي الأموي المدني مولى عثمان وثقه ابن حبان، عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 377 رقم 2).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عمرو بن الحارث، عن بكير، عن ابن عجلان مولى فاطمة، عن محمد بن يوسف مولى عثمان حدثه، عن أبيه، أن معاوية ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن سعيد بن الحكم بن محمد المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري وعبد الله بن لهيعة المصري، كلاهما عن محمد بن عجلان ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن يوسف مولى عثمان، عن أبيه يوسف: "أن معاوية صلى إمامهم، فقام في الصلاة وعليه جلوس، فسبّح الناس، فتمّ على قيامه ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد أن أتم الصلاة، ثم قعد على المنبر فقال: إني سمعت رسول الله يقول: من نسي شيئًا من صلاته فليسجد مثل هاتين السجدتين". ص: فذهب إلى هذه الآثار قوم، فقالوا: هكذا سجود السهو قبل السلام من الصلاة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري ومكحولًا ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد في رواية" فإنهم قالوا: سجود السهو قبل السلام من الصلاة. وقال ابن قدامة في "المغني": السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام وهما: إذا سلم من نقص في صلاته، أو تحرى الإِمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، نصّ هذا في رواية الأثرم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 344 رقم 3631). (¬2) "المجتبى" (3/ 33 رقم 1260).

وقال القاضي: لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام، واختلف قوله فيمن سها فصل خمسًا هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ على روايتن، وما عدا هذه المواضع الثلاثة يسجد لها قبل السلام روايةً واحدةً". وبهذا قال سليمان بن داود وأبو خيثمة وابن المنذر. وحكى أبو الخطاب عن أحمد روايتين أخريين: إحداهما: أن السجود كله قبل السلام؛ لحديث ابن بُحَينْة وأبي سعيد. والثانية: أن ما كان من نقصٍ سجد له قبل السلام؛ لحديث ابن بحينة، وما كان من زيادة سجد لها بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود حين صلى النبي - عليه السلام - خمسًا، وهذا مذهب مالك وأبي ثور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: ما كان من سجود سهو لنقصانٍ كان في الصلاة فهو قبل السلام كما في حديث ابن بُحَينْة، وكما في حديث معاوية. وما كان من سجود سهو وَجَبَ لزيادةٍ زيدت في الصلاة فهو بعد التسليم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون. وأراد بهم: مالكًا وأبا ثور ونفرًا من أهل الحجازة فإنهم قالوا: سجود السهو للنقصان قبل السلام كما في حديثي ابن بحينة ومعاوية، وللزيادة بعد السلام كما في حديث ذي اليدين وغيره مما هو مثله. وقال أبو عمر في "التمهيد": قال مالك وأصحابه: كل سهو كان نقصانًا من الصلاة فالسجود له قبل السلام، وإن كان لزيادة فالسجود له بعد السلام. قال أبو عمر: هو الصحيح في هذا الباب من جهة الآثار؛ لأن في قول مالك ومن تابعه على ذلك استعمال الخبرين جميعًا في الزيادة والنقصان، واستعمال الأخبار على وجوهها أولى من ادعاء النسخ فيها، ومن جهة النظر الفرق بين النقصان في ذلك وبين الزيادة؛ لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال

أن يكون الجبر والإصلاح بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما ذلك ترغيم للشيطان وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ. قلت: هذا الفرق غير سديد؛ لأنه سواء نقص أو زاد كل ذلك نقصان؛ لأن الزيادة في غير محلها نقصان كالإصبع الزائدة، فإذا كان كذلك ينبغي أن يكون قبل السلام في الحالتين على مقتضى ما قاله؛ ولأنه لو سها مرتين إحداهما بالزيادة والأخرى بالنقصان ماذا يفعل، وتكرار سجدتي السهو غير مشروع، وقد روي أن أبا يوسف ألزم مالكًا بين يدي الخليفة بهذا الفصل فقال: أرأيت لو زاد ونقص كيف يصنع؟ فتحير مالك، وقيل: قال: هكذا أدركنا مشايخنا. ص: واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة في خبر ذي اليدين، وبحديث الخرباق وابن عمر - رضي الله عنهم - في سجود سهو النبي - عليه السلام - يومئذٍ بعد السلام. فمن ذلك: ما حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، عن الليث، عن زيد ابن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه سجد يوم ذي اليدين -يعني سجدتي السهو- بعد السلام". وسنذكر حديث ذي اليدين وكيف هو في باب: "الكلام في الصلاة" إن شاء الله تعالى. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن سجدتي السهو في الزيادة بعد السلام بحديث أبي هريرة في خبر ذي اليدين. وخبر ذي اليدين أخرجه الجماعة كما نذكره في باب: "الكلام في الصلاة" إن شاء الله تعالى. قوله: "وبحديث الخرباق" أي: واحتجوا أيضًا بحديث خرباق السُّلَمي وخرباق هو ذو اليدين على ما يجيء مستقصى إن شاء الله تعالى. قوله: "وابن عمر" أي: واحتجوا أيضًا في ذلك بحديث عبد الله بن عمر.

أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمد وأبو كريب وأحمد بن شيبان، قالوا: أنا أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - سها فسلم في الركعتين، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسِيتَ؟ قال: ما قصرت وما نِسيتُ. قال: إنك صليت ركعتين. قال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فتقدّم، فصلّي ركعتين، ثم سلّم، ثم سجد سجدتي السهو". وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا. وأخرجه الطحاوي أيضًا مسندًا في باب: "الكلام في الصلاة" على ما يجيء إن شاء الله تعالى. قوله: "فمن ذلك" أي فمن الذي احتجوا [به] (¬3) في ذلك: ما حدثنا ربيع ابن سليمان المؤذن المصري صاحب الشافعي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن الليث بن سعد المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سُوَيد المصري، عن عراك ابن مالك الغفاري المدني، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬4): أخبرني عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو، قال: أبنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - سجد يوم ذي اليدين سجدتين بعد السلام". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 383 رقم 1213). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 264 رقم 1008). (¬3) ليست في "الأصل، ك". (¬4) "المجتبى" (3/ 25 رقم 1233).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل سهو وجب في الصلاة لزيادة أو نقصان فهو بعد السلام. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: سجدتا السهو بعد السلام سواء كانت لزيادة أو نقصان، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وسَعْد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعمار بن ياسر وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وذهبت طائفة أخرى أن الاحتياط في هذا أن يتتبع ظواهر الأخبار على الأحاديث؛ إن نهض من ثنتين سجد قبل السلام على حديث ابن بُحَينة، وإذا شك فرجع إلى اليقين سجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري، وإذا سلم من اثنتين سجد بعد السلام على حديث أبي هريرة، وإذا شك فكان ممن يرجع إلى التحري سجد بعد السلام على حديث ابن مسعود، وكل سهو يدخل عليه سوى ما ذكرناه يسجد قبل السلام سوى ما روي عن النبي - عليه السلام -، وإليه ذهب أحمد في رواية وسليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي وأبو خيثمة. وقال أهل الظاهر: لا يَسْجد إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله - عليه السلام - فقط، وغير ذلك إن كان فرضًا أتي به، وإن كان ندبًا فليس عليه شيء، وكذا قاله ابن سيرين وقتادة، وهو قولى غريب عن الشافعي، وجمهور العلماء على أن التطوع كالفرض. فإن قيل: لو سجد في السهو قبل السلام كيف يكون حكمه عند الحنفية؟ قلت: قال القدوري: لو سجد للسهو قبل السلام جاز عندنا. هذا في رواية الأصول، وروي عنهم أنه لا يجوز؛ لأنه أدّاه قبل وقته.

وفي "الهداية": وهذا الخلاف في الأولوية، وكذا قاله الماوردي في "الحاوي" وابن عبد البر وغيرهم. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا المسعودي، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - فسها فنهض في الركعتين، فسبَّحنا به، فمضى، فلما أتم الصلاة وسلم سجد سجدتي السهو". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، عن زياد بن علاقة قال: "أَمَّنا المغيرة بن شعبة ... " فذكر نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا بكر بن بكار، قال: ثنا علي بن مالك الرؤاسي من أنفسهم، قال: سمعت عامرًا يحدث: "أن المغيرة سها في السجدتين الأولين، فسُبِّح به، فاستتم قائمًا حتى صلى أربعًا، ثم سجد سجدتي السهو وقال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -". حدثنا مبشر، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن جابر بن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة ... مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن المغيرة بن شُبَيْل، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلى بنا المغيرة بن شعبة، فقام في الركعتين فسبّح الناس خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما قضى صلاته سلّم وسجد سجدتي السهو، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استتم أحدكم قائمًا فليصل وليسجد سجدتي السهو، وإن لم يستتم قائمًا فليجلس ولا سهو عليه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن إبراهيم بن طهمان، عن المغيرة ابن شُبَيْل، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلّى بنا المغيرة بن شعبة فقام من

الركعتين قائمًا، فقلنا: سبحان الله، فأومَأَ وقال: سبحان الله، فمضى، فلما قضى صلاته وسلم سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: صلى بنا رسول الله - عليه السلام - فاستوى قائمًا من جلوسه فمضى في صلاته، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس فإن لم يستتم قائمًا فليجلس وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائمًا فليمض في صلاته وليسجد سجدتين وهو جالس". فهذا المغيرة - رضي الله عنه - يحكي عن رسول الله - عليه السلام - أنه سجد للسَّهو لِمَا نقصه من صلاته بعد السلام، وهذه الأحاديث قد تحتمل وجوهًا، فقد يجوز أن يكون ما ذكرنا من حديث ابن بُحْيَنة ومعاوية من سجود رسول الله - عليه السلام - للسهو قبل السلام على كل سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، ويجوز أن يكون ما في حديث المغيرة من سجود رسول الله - عليه السلام - بعد السلام على كل سهوٍ أيضًا يكون في الصلاة يجب له السجود من نقصان أو زيادة، ويجوز أن يكون ما في حديث عمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - من سجود النبي - عليه السلام - لِمَا زاده في الصلاة ساهيًا يكون كذلك كل سجود وجب لسهو فهناك يسجد، ولا يكون قصد بذلك إلى التفرقة بين السجود للزيادة وبين السجود للنقصان، ويجوز أن يكون قد قصد بذلك إلى التفرقة بينهما. فنظرنا في ذلك فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حضر سجود سهو النبي - عليه السلام - في يوم ذي اليدين للزيادة كان زادها في صلاته من تسليمه فيها، وكان سجوده ذلك بعد السلام، فوجدناه قد سجد بعد النبي - عليه السلام - لنقصانٍ كان منه في الصلاة بعد السلام. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن ضمضم بن جَوْس الحنفي، عن عبد الله ابن حنظلة بن الراهب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى صلاة المغرب فلم

يقرأ في الركعة الأولى شيئًا فلما كانت الثالثة قرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة مرتين، فلما سلَّم سجد سجدتي السهو". فصار سجود رسول الله - عليه السلام - الذي قد علمه عمر- رضي الله عنه - للزيادة التي كان زادها في صلاته، وسجوده لها بعد السلام، دليلًا عنده على أن حكم كل سهو في الصلاة مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -؛ فإنه يحكي في حديثه عن رسول الله - عليه السلام - أنه سجد للسهو لأجل نقصانه من صلاته بعد السلام، ولما لم يتم الاستدلال بهذا لكونه صريحًا في أن سجود السهو بعد السلام لأجل النقصان، ومذهب هؤلاء أنه بعد السلام مطلقًا، أشار إلى تمام الاستدلال لمذهبهم مع بيان التوفيق بين أحاديث هذا الباب حيث قال: وهذه الأحاديث قد تحتمل وجوهًا، وأراد بها الأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيره، وهي أحاديث: عبد الله بن بحَينة، ومعاوية ابن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن الحصين، وأبي هريرة، وعبد الله ابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعبد الرحمن بن عوف، وثوبان مولى النبي - عليه السلام -، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن جعفر، وأنس بن مالك، والمنذر بن عمرو، وعمر بن عبيد الله بن أبي الرّقاد، وعبد الله بن مسعود، وعائشة (¬1) - رضي الله عنهم -. ولكن الطحاوي ما ذكر في تصحيح معاني هذه الأحاديث إلا أحاديث ابن بحينة ومعاوية والمغيرة وعمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - حيث قال: فقد يجوز أن يكون ما ذكرنا في حديث ابن بحينة ... إلى آخره. بيانه: أن حديث عبد الله بن بُحَينة وحديث معاوية بن أبي سفيان يحتمل أن يكون يصرفه على كل سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، وكذلك يجوز ¬

_ (¬1) قطع في الحاشية.

أن ما في حديث المغيرة من سجود رسول الله - عليه السلام - على كل سهو أيضًا سواء كان لنقصان أو زيادة، وكذلك يجوز أن يكون ما في أحاديث عمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - من سجوده لأجل زيادته في صلاته ساهيًا على كل سجود وجب للسهو فيسجد هناك، ولا يقصد بذلك التفرقة بين السجود للزيادة وبين السجود للنقصان، ويحتمل أيضًا أن يكون قد قصد بذلك إلى التفرقة بينهما، ولكن رأينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حضر سجود سهو النبي - عليه السلام - في يوم ذي اليدين، وكان ذلك لأجل الزيادة التي زادها في صلاته وهي تسليمه فيها، وكان سجوده ذلك بعد السلام، ثم رأينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد سجد بعد النبي - عليه السلام - لأجل نقصان كان منه في الصلاة بعد السلام، فدلّ ذلك أن سجود رسول الله - عليه السلام - بعد السلام الذي قد كان عمر- رضي الله عنه - علمه لأجل الزيادة التي كان زادها في صلاته على حكم كل سهو في الصلاة سواء كان للزيادة أو للنقصان، والله أعلم. وأخرج الأثر المذكور بإسناد حسن جيد، عن سليمان بن شعيب الكيْساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي وثقه أبو حاتم وغيره، عن شعبة بن الحجاج، عن عكرمة بن عمار العجلي اليمامي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن ضمضم بن جَوْس -بالجيم المفتوحة والواو الساكنة والسين المهملة- وثقه ابن حبان وروى له الأربعة- عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب أبي عبد الرحمن المدني، له رؤية من النبي - عليه السلام -، وأبوه حنظلة غِسيل الملائكة غسلته يوم أحد؛ لأنه قُتِل وهو جنب. فهذا الذي ذكره الطحاوي من تصحيح معاني الآثار فنقول: أما حديث ابن بحينة ومعاوية فإنهما وإن كانا قد صرّحا بأنه قد سجد للسهو قبل السلام ولكن حديث المغيرة بن شعبة يعارض حديثهما؛ لأنه يدل على أنه - عليه السلام - قد سجد للسهو بعد السلام، فكل واحد من أحاديث هؤلاء يجوز أن يكون على

سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، فصارت رواية الفعل متعارضة، فبقي لنا رواية القول سالمة من التعارض وهي رواية ثوبان - رضي الله عنه -. وأخرجها أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2)، وأحمد (¬3) وعبد الرزاق (¬4) والطبراني (¬5). قال أبو داود (¬6): ثنا عمرو بن عثمان والربيع بن نافع وعثمان بن أبي شيبة وشجاع بن مخلد -بمعنى الإسناد- أن ابن عياش حدثهم، عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي، عن زهير -يعني: ابن سالم العنسي- عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير -قال عمرو وحده-: عن أبيه، عن ثوبان، عن النبي - عليه السلام - قال: "لكل سهو سجدتان بعد ما يُسلّم". ولم يذكر عن أبيه غير عمرو. واستدل صاحب "الهداية" من أصحابنا بهذا الحديث في قوله: يسجد للسهو للزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ثم يسلم. فإن قيل: ذكر البيهقي هذا الحديث ثم قال: إسناده فيه ضعف. قلت: سكوت أبي داود يدل على أن أقل أحواله أن يكون حسنًا عنده على ما عرف (¬7)، وليس في إسناده من تُكلم فيه سوى ابن عياش، وبه علل البيهقي الحديث في كتاب "المعرفة" فقال: تفردّ به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 272 رقم 1038). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 385 رقم 1219). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 280 رقم 22470). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 322 رقم 3533). (¬5) "المعجم الكبير" (2/ 92 رقم 1412). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 272 رقم 1038). (¬7) نبهنا أكثر من مرة على أن هذا الأمر فيه نظر.

قلنا: هذه العلة ضعيفة فإن ابن عياش روى هذا الحديث عن شامي وهو عبيد الله الكلاعي، وقد قال البيهقي في باب: "ترك الوضوء من الدم" (¬1): ما روى ابن عياش عن الشاميين صحيح. فلا نَدْري من أين حصل الضعف لهذا الإسناد. ثم معنى قوله: "لكل سهو سجدتان" أي سواء كان من زيادة أو نقص كقولهم: لكل ذنب توبة، وحمله على هذا أولى من حمله على أنه كلما تكرر السهو ولو في صلاة واحدة لكل سهو سجدتان كما فهمه البيهقي حتى لا تتضاد الأحاديث، وأيضًا فقد جاء هذا التأويل مصرّحًا به في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "سجدتا السهو تجزئان عن كل زيادة ونقصان". ذكره البيهقي في باب: "من كثر عليه السهو" (¬2)، على أن البيهقي فهم من هذا اللفظ أيضًا ما فهمه في هذا الباب، وبهذا لا يظهر لك أنه لا اختلاف بين حديث ثوبان وبين حديث أبي هريرة وعمران وغيرهما. فإن قيل: روايات القول أيضًا متعارضة، ألا ترى إلى ما رواه عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "إذا كنت في صلاةٍ فشككت في ثلاث وأربع وأكبر ظنك على أربع؛ تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت أيضًا، ثم تسلم". أخرجه أبو داود (¬3). قلت: لا يضر ما ذكرت؛ لأن هذا الخلاف في الأولوية فللمصلي أن يختار أي قولٍ شاء؛ لأن الأحاديث صحّت في الأقوال والأفعال جميعًا، على أن صاحب "البدائع" قد ذكر أن ما رواه الخصم من أنه سجد للسهو قبل السلام مجمل، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 142 رقم 653). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 346 رقم 3676). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 270 رقم 1028).

يحتمل أنه سجد قبل السلام الأول ويحتمل أنه سجد قبل السلام الثاني، وما رويناه نحن محكم، فينصرف ما رواه إلى موافقة المحكم، وهو أنه سجد قبل السلام الأول وبعد السلام الأول؛ ردًّا للمحتمل إلى المحكم. قلت: حديث عبد الله بن مسعود هذا رواه عنه ابنه أبو عبيدة، وقد قالوا: إنه لم يسمع من أبيه، وقال أبو داود عقيب ذكره هذا الحديث: وكذا رواه عبد الواحد عن خُصيف ولم يرفعه. ووافق عبد الواحد أيضًا سفيان وشريك وإسرائيل، واختلفوا في الكلام في متن الحديث ولم يسندوه. وقال البيهقي: هذا الحديث غير قوي واختلفوا في رفعه ومتنه. وأما حديث عمران بن حصين: فأخرجه الطحاوي في الباب الذي يلي هذا الباب على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي هريرة: فقد أخرجه الطحاوي على ما مرّ. وأما حديث عبد الله بن عمر: فأخرجه أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2)، وقد ذكرناه فيما مضى. وأما حديث أبي سعيد الخدري: فقد ذُكر في الباب الذي قبله. وأما حديث عبد الله (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 270 رقم 1017). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 383 رقم 1213). (¬3) هذا آخر ما وقع لنا من المجلد الثالث من "الأصل، ك".

ص: باب: الكلام في الصلاة لما يحدث فيها من السهو

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي ص: باب: الكلام في الصلاة لما يحدث فيها من السهو ش: أي هذا باب في بيان أن الكلام في أثناء الصلاة لأمر يحدثُ فيها من السَّهو هل يبطل الصلاة أم لا، وكيف الحكم في ذلك؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا شيخ أحسبه أبا زيد الهروي قال: ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، قال: سمعت أبا قلابة يحدث، عن عمه أبي المهلب، عن عمران ابن حصين: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر ثلاث ركعات، ثم سلم وانصرف، فقال له الخرباق: يا رسول الله، إنك صليت ثلاثًا، قال: فجاء فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين للسهو، ثم سلم". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح قال: ثنا وهيب، عن خالد الحذاء ... فذكر بإسناده مثله إلا أنه قال: "فقام إليه الخرباق وزعم أنها صلاة العصر". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا معلَّى بن أسد، قال: ثنا وهيبٌ عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "سلم رسول - عليه السلام - في ثلاث ركعات، فدخل الحجرة مُغضَبًا، فقام الخرباق -رجل بسيط اليدين- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: فخرج يجر رداءه فسأل؛ فأخبر؛ فصلى الركعة التي كان ترك وسلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي زيد الهروي، واسمه سعيد بن الربيع الجرشي العامري البصري، روى له مسلم والترمذي والنسائي.

عن شعبة بن الحجاج، عن خالد الحذاء روى له الجماعة، عن أبي قلابة عبد الله ابن زيد الجرمي أحد الأئمة الأحناف روى له الجماعة، عن عمه أبي المُهلّب الجرمي البصري واسمه عمرو بن معاوية قاله النسائي. وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، روى له الجماعة: البخاري في غير "الصحيح". عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر أو العصر ثلاث ركعات، ثم سلم فقال رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - يقال له الخرباق: أقصرت الصلاة؟ فسأل النبي - عليه السلام - فإذا هو كما قال، قال: فصل ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه أبو حاتم. عن وهيب بن خالد البصري، عن خالد الحذاء ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل، فقام إليه رجل يقال له: الخرباق، فقال: يا رسول الله، فذكر له الذي صنع، فخرج مغضبًا يجرُّ رداءه حتى إنتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم؛ فصلى تلك الركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 440). (¬2) "المعجم الكبير" (18/ 195 رقم 470).

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد البصري عن [...] (¬1) مسلم (¬2) قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الوهاب الثقفي، قال: ثنا خالد -وهو الحذاء- عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "سلم رسول الله - عليه السلام - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام ودخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبًا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم". وبقي الكلام فيه من وجوه: الأول: في خِرْباق -وهو بكسر الخاء المعجمة- ابن عبد عمرو السلمي، وهو الذي يقال له: ذو اليدين، وذو الشمالين أيضًا، وكلاهما لقب عليه، وقال السمعاني في "الأنساب": ذو اليدين ويقال له: ذو الشمالين؛ لأنه كان يعمل بيديه جميعًا، وقال ابن حبان في "الثقات": ذو اليدين ويقال له: ذو الشمالين أيضًا ابن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، وقال أبو عبد الله العدني في "مسنده" قال: أبو محمد الخزاعي، ذو اليدين أحد أجدادنا، وهو ذو الشمالين بن عبد عمرو بن ثور بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر. وقال: ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): حدثنا ابن فَضيل، عن حصين، عن عكرمة قال: "صلى النبي - عليه السلام - بالناس ثلاث ركعات ثم انصرف، فقال له بعض القوم: حدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: لم تصل إلا ثلاث ركعات، فقال: كذلك يا ذا اليدين -وكان يسمى ذا الشمالين- قال: نعم؛ فصلى ركعة، وسجد سجدتين". ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك"، ولعل موضعه: عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي المهلب عن عمران بن حصين، وأخرجه. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 2574). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 392 رقم 4512).

وقال ابن الأثير في "معرفة الصحابة": ذو اليدين اسمه الخرباق من بني سليم كان ينزل بذي خشب من ناحية المدينة، وليس هو ذو الشمالين، ذو الشمالين خزاعي حليف لبني زهرة، قتل يوم بدر، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وشهده أبو هريرة لما سهى رسول الله في الصلاة فقال ذو اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت؟ " وكان الزهري يقول: إنه ذو الشمالين المقتول ببدر وإن قصة ذي الشمالين كانت قبل بدر ثم أحكمت الأمور بعد ذلك. قال القاضي عياض: وأما حديث ذي اليدين فقد ذكر مسلم (¬1) في حديث عمران بن حصين أن اسمه الخرباق، وكان في يديه طول وفي الرواية الأخرى: "بسيط اليدين". وفي حديث أبي هريرة (¬2): "رجل من بني سليم" ووقع للعذري: "سلم" وهو خطأ وقد جاء في حديث عبيد بن عمير مفسرًا فقال فيه: "ذو اليدين أخو بني سليم" وفي رواية الزهري: "ذو الشمالين رجل من بني زهرة، وبسبب هذه الكلمة ذهب الحنفيون إلى أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود، قالوا: لأن ذا الشمالين قتل يوم بدر فيما ذكره أهل السير وهو من بني سليم، فهو ذو اليدين المذكور في الحديث، وهذا لا يصح لهم وإن كان قتل ذو الشمالين يوم بدر فليس هو بالخرباق وهو رجل أخر حليف بني زهره اسمه عمير بن عبد عمرو من خزاعة بدليل رواية أبي هريرة حديث اليدين ومشاهدته خبره، ولقوله: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - ... " وذكر الحديث، وإسلام أبي هريرة بخيبر بعد يوم بدر بسنتين، فهو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، وقد عدوا قول الزهري فيه هذا من وهمه، وقد عدّهما بعضهم حديثين في نازلتين وهو الصحيح؛ لاختلاف صفتهما؛ لأن في حديث الخرباق ذي الشمالين أنه سلم من ثلاث، وفي حديث ذي اليدين من ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 574). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 573).

اثنتين، وفي حديث الخرباق أنها العصر، وفي حديث ذي اليدين الظهر بغير شك عند بعضهم، وقد ذكر مسلم ذلك كله انتهى. وقال أبو عمر: ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة، وأما قول الزهري في هذا الحديث: إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه. قلت: الجواب عن ذلك كله مع تحرير الكلام في هذا الموضع. أنه وقع في كتاب النسائي (¬1) أيضًا: أنا هارون بن موسى الفرويّ، حدثني أبو ضمرة، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: "نسي رسول الله - عليه السلام - في سجدتين، فقال: ذو الشمالين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال رسول الله: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فقام رسول الله - عليه السلام - فأتم الصلاة". وهذا أيضًا سند صحيح. صرح فيه أيضًا (¬2): أن ذو الشمالين هو ذو اليدين، وقد تابع الزهري على ذلك عمران بن أبي أنس، أنا عيسى بن حماد، أنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى يومًا فسلم في ركعتين ثم انصرف، فأدركه ذو الشمالين، فقال: يا رسول الله أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم تنقص الصلاة، ولم أنس، فقال: بلى والذي بعثك بالحق، قال: رسول الله - عليه السلام - أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم فصلى بالناس ركعتين". وهذا سند صحيح على شرط مسلم: وأخرج نحوه الطحاوي عن ربيع المؤذن عن شعيب بن الليث عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب .... إلى آخره على ما يجيء إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 24 رقم 1229). (¬2) "المجتبى" (3/ 23 رقم 1228).

فثبت أن الزهري لم ينفرد بذلك وأن المخاطب للنبي هو ذو الشمالين، وأن من قال ذلك لم يهم ولا يلزم مق عدم تخريج ذلك في الصحيحين عدم صحته، فثبت أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وهذا أولى من جعله رجلين؛ لأنه خلاف الأصل في هذا الموضع. فإن قيل: أخرج البيهقي (¬1) حديثًا واستدل به على بقاء ذي اليدين بعد النبي - عليه السلام - فقال: الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة حليف بني زهرة من خزاعة، وأما ذو اليدين الذي أخبر النبي - عليه السلام - بسهوه فإنه بقي بعد النبي - عليه السلام -. كذا ذكره شيخنا (¬2) أبو عبد الله الحافظ ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان قال: حدثني شعيب بن مطير، عن أبيه ومطير حاضر فصدقه، قال شعيب: يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب، فأخبرك أن رسول الله - عليه السلام - ... " ثم قال البيهقي: وقال بعض الرواة في حديث أبي هريرة، فقال ذو الشمالين: يا رسول الله أقصرت الصلاة؟ وكان شيخنا أبو عبد الله يقول: كل من قال ذلك، فقد أخطأ، فإن ذا الشمالين تقدم موته ولم يعقب، وليس له راو. قلت: سنده ضعيف؛ لأن فيه معدي بن سليمان، فقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: يحدث عن ابن عجلان. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات، والملزوقات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وفي سنده أيضًا شعيب لم يعرف حاله، وولده مطير قال فيه ابن الجارود: سمع ذا اليدين، روى عنه ابنه شعيب، لم يصح حديثه، وفي "الضعفاء" للذهبي: لم يصح حديثه. وفي "الكاشف": مطير بن سليم عن ذي الزوائد وعنه ابناه شعيب وسليم لم يصح حديثه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 365 رقم 3742). (¬2) "سنن البيهقي الكبري" (2/ 366 رقم 3744).

ولضعف هذا السند قال: البيهقي في كتابه "المعرفة": ذو اليدين بقي بعد النبي - عليه السلام - فيما يقال، ولقد أنصف وأحسن في هذه العبارة، ثم إن قول شيخه أبي عبد الله: "كل من قال ذلك فقد أخطأ" هو خطأ غير صحيح. روى مالك في "موطأه" (¬1): عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان، عن أبي حثمة بلغني: "أن رسول الله - عليه السلام - ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار -الظهر أو العصر- فسلم من اثنتين، فقال له ذو الشمالين -رجل من بني زهرة بن كلاب- أقَصرت الصلاة ... " الحديث، وفي آخره: مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثل ذلك. فقد صرّح في هذه الرواية أنه ذو الشمالين، وأنه من بني زهرة. فإن قيل: هو مرسل. قلت: ذكر أبو عمر في "التمهيد" أنه يتصل من وجوه صحاح، والدليل عليه ما ذكرناه مما رواه النسائي آنفًا، ثم قول الحاكم، عن ذي الشمالين: "لم يعقب" يفهم من ظاهره أن ذا اليدين أعقب، ولا أصل لذلك فيما قد علمناه، والله أعلم. فإن قيل: إن ذا اليدين وذا الشمالين إذا كانا لقبًا على شخص واحد على ما زعمتم فحينئذ يدل على أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة، وذلك لأن ذا اليدين الذي هو ذو الشمالين قتل ببدر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر، وهو متأخر بزمان كثير، ومع هذا فأبو هريرة يقول: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي إما الظهر أو العصر .... " الحديث، وفيه: "فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله ... ". أخرجه مسلم (¬2) وغيره، وفي رواية: "صلى لنا رسول الله - عليه السلام - صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 94 رقم 212). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 573).

قلت: الجواب عن هذا الإشكال ما ذكره الطحاوي في هذا الباب على ما يجيء عن قريب إن شاء الله أن معناه: صلى بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة كما روي عن النزال بن سبرة قال: "قال لنا رسول الله: إنَّا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف ... " الحديث، والنزال لم يَرْ رسول الله - عليه السلام -، وإنما أراد بذلك: قال لقومنا، وروي عن طاوس قال: "قدم علينا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فلم يأخذ من الخضراوات شيئًا" وإنما أراد: قدم بلدنا؛ لأن معاذًا إنما قدم اليمن في عهد رسول الله - عليه السلام - قبل أن يولد طاوس - رضي الله عنه -، ومثله ما ذكره البيهقي في باب "البيان أن النهي مخصوص ببعض الأمكنة": عن مجاهد قال: "جاءنا أبو ذرٍّ ... " إلى آخره ثم قال البيهقي: مجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر، وقوله: "جاءنا" أي جاء بلدنا، فافهم. الوجه الثاني: فيه دليل على أن سجود السهو سجدتان. الثالث: فيه حجة لأصحابنا أن سجدتي السهو بعد السلام، وهو حجة على الشافعي ومن تبعه في أنها قبل السلام. الرابع: أن الذي عليه السهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد وقضى ما عليه هل يصح؟ فظاهر الحديث يدل على أنه يصح؛ لأنه قال: "فجاء فصلى ركعة"، وفي رواية غيره من الجماعة: "فرجع رسول الله - عليه السلام - مقامه". ولكن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة: فعند الشافعية فيها وجهان أصحهما: أنه يصح؛ لهذا الحديث؛ لأنه ثبت في "صحيح مسلم": "أنه مشى إلى الجذع وخرج السرعان"، وفي رواية: "دخل منزله"، وفي رواية: "دخل الحجرة ثم خرج، ورجع الناس وبنى على صلاته. والوجه الثاني وهو المشهور عندهم: أن الصلاة تبطل بذلك، وقال: النووي وهذا مشكل وتأويل الحديث صعب على من أبطلها، ونقل عن مالك: أنه ما لم ينتقض وضوءه يجوز له ذلك وإن طال الزمن، وكذا روي عن ربيعة مستدلين بهذا الحديث ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: إذا سلم ساهيًا على الركعتين

وهو في مكانه لم يصرف وجهه عن القبلة ولم يتكلم، يعود إلى القضاء لما عليه ولو اقتدى به رجل يصح اقتداؤه. أما إذا صرف وجهه عن القبلة فإن كان في المسجد ولم يتكلم فكذلك؛ لأن المسجد كله في حكم مكان واحد؛ لأنه مكان الصلاة، وإن كان خرج من المسجد ثم تذكر لا يعود وتفسد صلاته. وأما إذا كان في الصحراء فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من خلفه أو من قبل اليمن أو اليسار عاد إلى قضاء ما عليه وإلا فلا، وإن مشى أمامه لم يذكره في الكتاب. وقيل: إن مشى قدر الصفوف التي خلفه تفسد وإلا فلا، وهو مروي عن أبي يوسف اعتبارًا لأحد الجانبين بالآخر، وقيل: إذا جاوز موضع سجوده لا يعود وهو الأصح، وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة، فإن كان، يعود ما لم يجاوزها؛ لأن داخل السترة في حكم المسجد والله أعلم، وأجابوا عن الحديث أنه منسوخ على ما يجيء إن شاء الله تعالى. قوله: "مُغْضَبًا" بفتح الضاد. قوله: "يجر رداءه" جملة حالية. قوله: "فأخبر" على صيغة المجهول، أي: أخبر النبي - عليه السلام - أن الأمر كما قاله الخرباق. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى للناس ركعتين، فسهى فسلم، فقال له ذو اليدين ... " فذكر مثل حديث ابن عون وهشام، وحديثهما أنه قال: "أقصرت الصلاة يا رسول الله، قال: لا، قال: فصلى ركعتين أخراوين، ثم سلم، ثم سجد سجدتين للسهو، ثم سلم". ش: إسناده صحيح، وأبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي المدني، روى له الجماعة.

وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي المدني، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو أسامة ... إلى آخره سواء. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا: ثنا علي بن محمد وأبو كريب وأحمد بن سنان، قالوا: نا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله سهى فسلم في الركعتين فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت وما نسيت. قال: إنك صليت ركعتين. قال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم؛ فتقدَّم فصل ركعتين ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو". انتهى. قلت: ابن عون هو عبد الله بن عون المزني أبو عون البصري، روى له الجماعة، وهشام هو ابن حسان الأزدي البصري روى له الجماعة، وكلاهما رويا هذا الحديث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وسيجيء حديثهما إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر -وأكثر ظني أنه ذكر الظهر- فصلى الركعتين ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها إحداهما على الأخرى، فعرف في وجهه الغضب، قال: وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي الناس أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهاباه أن يكلماه، فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله - عليه السلام - سماه ذا اليدين فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنْسَ ولم تقصرْ الصلاة، قال: بلى نسيت يا رسول الله، فأقبل على القوم فقال: أصدقَ ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين ثم سلم، ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 393 رقم 4514). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 383 رقم 1213).

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن أيوب وابن عون وسلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أيوب بن أبي تميمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة؟ ... " ثم ذكر نحو ما بعد ذلك من حديث حماد بن زيد، ولم يذكر في هذا الحديث ما ذكره حماد في حديثه من قول أبي هريرة: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا، وهيبٌ، قال: ثنا هشام بن حسَّان، عن محمد، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن سيرين، قال: قال أبو هريرة: "صلى النبي - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي ... " ثم ذكر نحوه، ولم يقل أبو بكرة في هذا الحديث: "صلى بنا". حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير قال: ثنا أبو سلمة، قال: ثنا أبو هريرة قال: "صلى لنا رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سلم رسول الله - عليه السلام - في ركعتين، فقيل له: يا رسول الله، أقصرت الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ فأخبر بما صنع، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد سجدتين وهو جالس". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى يومًا فسلم في ركعتين ثم أنصرف، فأدركه ذو الشمالين فقال: يا رسول الله أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم تنقص ولم أنس. فقال: بلى والذي بعثك بالحق، فقال رسول الله - عليه السلام -: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فصلى للناس ركعتين". حدثنا إبراهيم بن منقد، قال: ثنا إدريس، عن عبد الله بن عياش، عن ابن هرمز، عن أبي هريرة مثله، وزاد: "وسجد سجدتي السهو بعد السلام". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - انصرف من ركعتين ... " فذكر نحو ذلك غير أنه لم يذكر السلام الذي قبل السجود. ش: هذه ثلاثة عشر طريقًا كلها صحاح. الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي -الظهر أو العصر- قال: صلى بنا ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 264 رقم 1008).

[يديه] (¬1) عليها -إحداهما على الأخرى- يعرف في وجهه الغضب، ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون: قصرت الصلاة [قصرت الصلاة] (¬2) وفي الناس أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهاباه أن يكلماه فقام رجل كان رسول الله - عليه السلام - يسميه ذا اليدين، فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر الصلاة، قال: بل نسيت يا رسول الله؛ فأقبل رسول الله - عليه السلام - على القوم فقال: أصدق ذو اليدين؟ فأومئوا: أي نعم؛ فرجع رسول الله - عليه السلام - إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، ثم كبر [وسجد] (2) مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر". قال: فقيل لمحمد: سلم في السهو؟ فقال: لم أحفظ من أبي هريرة، ولكن نبئت عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "ثم سلم". وأخرجه مسلم (¬3): عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة مثله. الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخطيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني وعبد الله بن عون المزني البصري وسلمة بن علقمة التميمي البصري ثلاثتهم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬4): من حديث ابن عون، عن ابن سيرين فقال: ثنا إسحاق، ثنا ابن شميل، أنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصل بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "يده"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 403 رقم 573). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 182 رقم 468).

فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كله اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر؟ فقال كما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم؛ فتقدم فصل ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وبر، فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم". وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: قال أبو هريرة: "صلى النبي - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي -قال: أبو هريرة: ولكني نسيت- قال: فصلى بنا ركعتين ... " الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2): من حديث سلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - ... " بمعنى حديث حماد كله إلى آخر قوله: "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم، قال: قلت: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد، وأَحَبَّ إلى أن يتشهد". ولم يذكر: "كان يسميه ذا اليدين" ولا ذكر: "فأومئوا" ولا ذكر الغضب" انتهى. قلت: حديث حماد بن زيد هو الذي ذكرناه، عن أبي داود عن قريب فافهم. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك بن أنس، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 20 رقم 1224). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 265 رقم 1010). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 252 رقم 682).

انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم. فقام رسول الله - عليه السلام - فصلى اثنتين أخريين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده وأطول". وأخرجه النسائى (¬1): عن محمد بن مسلمة، عن ابن القاسم، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن هشام بن حسان القردوسي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن عيسى والحسن بن قزعة قالا: ثنا عبد الأعلى، نا هشام، عن محمد، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - صلى بهم إحدى صلاتي العشي -وأكبر ظني أنها الظهر- ثم انصرف إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يديه عليها -إحداهما على الأخرى- قال: وفي الناس أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهاباه أن يكلماه، قال: وخرج سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة، قال: فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله - عليه السلام - يسميه ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس ولم تقصر الصلاة، قال: بك يا رسول الله، قال: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فرجع فصل بنا الركعتين الباقيتين، ثم سلم، ثم كبر وهو جالس وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر. الخامس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن محمد بن سير بن، قال: قال أبو هريرة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا حفص بن عمر، ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أبي هريرة قال: "صلى النبي - عليه السلام - إحدى صلاتي العشاء- قال محمد: وأكثر ظني ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 22 رقم 1225). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 412 رقم 1172).

العصر- ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر. قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر. السادس: عن محمد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الحميدي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد الثقفي المدني من رجال مسلم، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه السراج في "مسنده" نحوه. السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان اسمه قزمان -قاله الدارقطني- مولى عبد الله بن أبي أحمد بن جحش القرشي الأسدي روى له الجماعة. عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1)، والنسائي (¬2): كلاهما عن قتيبة، عن مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلى لنا رسول الله صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: كل ذلك لم يكن. فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله؛ فأقبل رسول الله - عليه السلام - على الناس، فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فأتم رسول الله - عليه السلام - ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 573). (¬2) "المجتبى" (3/ 22 رقم 1226).

الثامن: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري البصري، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حجاج بن الشاعر، قال: نا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: نا يحيل، قال: ثنا أبو سلمة، قال: ثنا أبو هريرة: "أن رسول الله صلى ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلم فأتاه رجل من بني سليم فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ .... " وساق الحديث. التاسع: عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي داود سليمان أيضًا، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬2): حدثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن سعد، سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلى الظهر -يعني النبي - عليه السلام - فسلم في الركعتين، فقيل له: نقصت الصلاة؟ فصلى ركعتين، ثم سجد سجدتين". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: عن سليمان بن عبيد الله، عن بهز بن أسد، عن شعبة ... إلى آخره. العاشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا آدم، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "صلى بنا النبي - عليه السلام - الظهر أو العصر، فسلم، فقال له ذو ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 404 رقم 573). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 331 رقم 1014). (¬3) "المجتبى" (3/ 23 رقم 1227). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 411 رقم 1169).

اليدين: الصلاة يا رسول أنقصت؟ فقال النبي - عليه السلام -: أحقٌّ ما يقول؟ قالوا: نعم. فصل ركعتين أخريين، ثم سجد سجدتين". الحادي عشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن شيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن شعيب بن الليث من رجال مسلم، عن يزيد بن أبي حبيب من رجال الجماعة، عن عمران بن أبي أنس المصري من رجال مسلم، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬1): عن عيسى بن حماد، عن الليث ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬2): عن شبابة، عن ليث إلى آخره نحوه. وهذا الحديث ينادي بأعلى صوته أن ذا اليدين وذا الشمالين كلاهما واحد وأنهما لقبان على خرباق السلمي كما قد ذكرناه، وفيه ردّ على من قال: إن الزهري وهم في قوله: "أن ذا اليدين وذا الشمالين"، واحد وأنه تفرد به، وقد مضى الكلام فيه مستقصى. الثاني عشر: عن إبراهيم بن منقذ العصفري، عن إدريس بن يحيى الخولاني المصري، عن عبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة-بالشين المعجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القتباني المصري، فهو وإن كان النسائي قد ضعفه فهو من رجال مسلم، وثقه ابن حبان وغيره. وهو يروي، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. الثالث عشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 23 رقم 1228). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 392 رقم 4510).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، نا أبو داود، نا ابن أبي ذئب، عن سعيد، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - سلم في ركعتين، فقالوا: يا رسول الله، نسيت أو قصرت الصلاة؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: لم أنس ولم تقصر الصلاة. قالوا: يا رسول الله نسيت، فركع ركعتين أخريين وسجد سجدتين". انتهى. قوله: "الظهر أو العصر" شك من الراوي، وهو ابن سيرين، والدليل عليه ما جاء في رواية البخاري: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - إحدى صلاتي العشي قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا". قوله: "وأكبر ظني أنه ذكر الظهر" هو قول ابن سيرين أي: أكبر ظني أن أبا هريرة ذكر صلاة الظهر، وكذا ذكره البخاري في كتاب "الأدب" وأطلق على الظهر والعصر صلاة العشي؛ لأن العشي يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب، وقيل: العشي من زوال الشمس إلى الصباح، وفي "الصحاح": العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة. قلت: الذي قاله الجوهري هو أصل الوضع، وفي الاستعمال: يطلق على ما ذكرنا. قوله: "مقدم المسجد" بفتح الدال المشددة. قوله: "إحداهما على الأخرى" قد فسره في رواية أخرى بقوله: "وشبك بين أصابعه ... ". قوله: "ثم خرج سرعان الناس" بفتح السين والراء والعين المهملات، أي أخفاؤهم والمستعجلون منهم وأوائلهم ويلزم الأعراب "نونه" في كل وجه، هو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة، وكذا ضبطه المتقنون، وقال ابن الأثير: "السَّرعان" -بفتح السنن والراء- أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعه، ويجوز تسكين الراء.

قلت: وكذا نقل القاضي عن بعضهم، قال: وضبطه الأصيلي في "المغازي" -بضم السين وإسكان الراء- ووجهه أنه جمع سريع كفقير وفقران وكثيب وكثبان، ومن قال: "سِرَعان" بكسر السين فهو خطأ، وقيل: يقال أيضًا: سِرْعان -كسر السين وسكون الراء-وهو جمع سريع كرعيل ورعلان وأما قولهم: سرعان ما فعلت، ففيه ثلاث لغات: الضم والكسر والفتح، مع إسكان الراء والنون مفتوحة أبدًا. قوله: "فقام رجل طويل اليدين" وفي رواية: "فقام ذو اليدين" وفي رواية: "رجل من بني سليم" وفي رواية: "رجل يقال له: الخرباق بن عمرو وكان في يده طول". وفي رواية: "رجل بسيط اليدين". هذا كله رجل واحد، واسمه: الخرباق ابن عمرو، ولقبه: ذو اليدين، وذو الشمالين، كما ذكرناه فيما مضى مستقصى. قوله: "لم أنس ولم تقصر الصلاة" وفي رواية مسلم: "كل ذلك لم يكن" وفي رواية أبي داود: "كل ذلك لم أفعل" قال النووي: فيه تأويلان: أحدهما: أن معناه لم يكن المجموع ولا ينفي وجود أحدهما. والثاني: وهو الصواب معناه: لم يكن لا ذاك ولا ذا في ظني، بل ظني أني كملت الصلاة أربعًا، ويدل على صحة هذا التأويل وأنه لا يجوز غيره، أنه جاء في رواية للبخاري في هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - قال: "لم تقصر ولم أنس" ويقال: "لم أنس" يرجع إلى السلام، أي: لم أسْهُ فيه، إنما سلمت قصدًا، ولم أَسْهُ في نفس السلام، وإنما سهوت، عن العدد؛ قال القرطبي: "وهذا فاسد؛ لأنه حينئذ لا يكون جوابًا عما سئل عنه، ويقال: بين النسيان والسهو فرق؛ فقيل: كان النبي - عليه السلام - يسهو ولا ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النسيان؛ لأن فيه غفلة ولم يغفل، قاله القاضي. وقال القشيري: يبعد الفرق بينهما في استعمال اللغة، وكأنه يتلوح من اللفظ، على أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها، ويكون النسيان: الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر، والسهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض، وقال القرطبي: لا نسلم الفرق، ولئن سلم فقد

أضاف - عليه السلام - النسيان إلى نفسه في غير مما موضع بقوله: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" (¬1). وقال القاضي: إنما أنكر - عليه السلام - نسيت المضافة إليه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت كذا، ولكنه نُسَّي" (¬2) وقد قال أيضًا: "لا أُنَسَّى" على النفي ولكن أنسى" (¬3). وقد شك بعض الرواة في روايته فقال: "أنس، أو أنسَّي" وأن "أو" للشك أو للتقسيم، وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يُغلب ويجبر عليه؛ فلما سأله السائل بذلك أنكره وقال: "كل ذلك لم يكن" وفي الأخرى "لم أنس ولم تقصر" أما القصر فبين، وكذلك "لم أنس" حقيقة من قبل نفسي ولكن الله أنساني، ويمكن أن يجاب عما قاله القاضي: أن النهي في الحديث عن إضافة نسيت إلى الآية الكريمة؛ لأنه يفتح للمؤمن أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى، ولا يلزم من هذا النهي الخاص النهي عن إضافته إلى كل شيء؛ فافهم. وذكر بعضهم أن العصمة ثابتة في الإخبار عن الله تعالى، وأما إخباره عن الأمور الوجودية فيجوز فيها النسيان. قلت: تحقيق الكلام في هذا المقام أن قوله: "لم أنس ولم تقصر الصلاة" مثل قوله: "كل ذلك لم يكن" والمعنى: كل من القصر والنسيان لم يكن، فيكون في معنى: لاشيء منهما بكائن، عك شمول النفي وعمومه لوجهين: أحدهما: أن السؤال عن أحد الأمرين بـ"أم" يكون لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم لا على التعيين، فجوابه إما بالتعيين أو بنفيهما جميعًا تخطئة ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن مسعود، فأخرجه البخاري (1/ 156 رقم 392)، ومسلم (1/ 400 رقم 572). (¬2) متفق عليه من حديث ابن مسعود أيضًا، فأخرجه (4/ 1921 رقم 4744)، ومسلم (1/ 544 رقم 790). (¬3) أخرجه مالك في "موطأه" (1/ 100 رقم 225) بلفظ: "إني لأنسى- أو أنسَّى لأسن".

للمستفهم، لا ينفي الجمع بينهما حتى يكون نفي العموم؛ لأنه عارف بأن الكائن أحدهما. والثاني: لما قال: "كل ذلك لم يكن" قال له ذو اليدين: "قد كان بعض ذلك" ومعلوم أن الثبوت للبعض إنما ينافي النفي عن كل فرد لا النفي عن المجموع. وقوله "قد كان بعض ذلك" موجبة جزئية، ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أن ذا اليدين فهم السلب الكلي لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي، وها هنا قاعدة أخرى وهي: أن لفظة كل إذا وقعت في حيز النفي كان النفي موجبها خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك: ما جاء كل القوم، ولم آخذ كل الدراهم، وقوله: ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وإن وقع النفي في حيزها اقتضى السلب عن كل فرد؛ لقوله - عليه السلام -: "كل ذلك لم يكن". قوله: "فقالوا: نعم" وفي رواية البخاري: "فقال الناس: نعم" وفي رواية أبي داود: "فأومئوا: نعم" كما ذكرنا، وأكثر الأحاديث: "قالوا: نعم" ويمكن أن يجمع بينهما بأن بعضهم أومأ، وبعضهم تكلم، ثم إذا كان كلامًا لا إشارة كان إجابة للرسول - عليه السلام - وهي واجبة قال الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (¬1) وقال بعض المالكية: لا يلزم أن تكون الإجابة بالقول، بل يكفي فيها الإيماء، وعلى تقدير أن تجب بالقول لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة، لجواز أن تجب الإجابة، ويلزمهم الاستئناف، أو يكون النبي - عليه السلام - تكلم معتقدًا للتمام والصحابة تكلموا مجوزين النسخ. انتهى. ويضعف هذا قول ذي اليدين: "قد كان بعض ذلك" وقولهم: "نعم" بعد قوله: "أصدق ذو اليدين" فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ. فإن قيل: كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم بعد في الصلاة؟. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [24].

قلت: قال النووي -رحمه الله-: فجوابه من وجهين: الأول: أنهم لم يكونوا على اليقين من البقاء في الصلاة؛ لأنهم كانوا مجوزين لنسخ الصلاة، من أربع إلى ركعتين، ولهذا قال ذو اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت". والثاني: أن هذا كان خطابًا للنبي - عليه السلام - وجوابًا، وذلك لا يبطل عندنا ولا عند غيرنا، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح "أن الجماعة أومئوا" أي: أشاروا: نعم، فعلى هذه الرواية لم يتكلموا. قلت: وفي الجواب الأول نظر كما ذكرنا الآن، وقال القاضي: وقد يجاب عن هذا بأن يقال: يمكن أن يجاوبوه إشارة إذ لم يكن استدعى منهم النطق، وفي كتاب أبي داود ما يشير إلى هذا؛ لأنه ذكر أن أبا بكر وعمر أشارا إليه أن يقوم، ولعل أن من روى عنهما أنهما قالا: نعم أي: أشار، فسمى الإشارة قولًا. ويستفاد منه أحكام: الأول: احتج به بعضهم على جواز الترجيح بكثرة العدد، قال القرطبي: لا حجه فيه؛ لأنه إنما استكشف لما وقع له من التوقف في خبره حيث انفرد بالخبر عن ذلك الجمع لكثير وكلهم دواعيهم متوفرة، وحاجتهم داعية إلى الاستكشاف عما وقع، فوقعت الريبة في خبر المخبر لهذا، وجوز أن يكون الغلط والسهو منه لا لأنها شهادة. الثاني: فيه إشكال على مذهب الشافعي؛ لأن عندهم أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا ولا يعمل إلا على يقين نفسه، واعتذر الشيخ محيي الدين النووي: عن هذا بأنه - عليه السلام - سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر بعلم السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره، لرجع ذو اليدين حين قال النبي - عليه السلام -: "لم تقصر ولم أنس". قلت: هذا ليس بجواب مخلِّص لأنه لا يخلو من الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكر أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول - عليه السلام - لا لأجل يقين نفسه، فافهم.

وقال ابن القصار: اختلفت الرواية في هذا عن مالك، فمرة قال: يرجع إلى قولهم -وهو قول أبي حنيفة- لأنه قال: يبني علي غالب ظنه، وقال مرة أخرى: يعمل على يقينه ولا يرجع إلى قولهم، كقول الشافعي. الثالث: استدلت طائفة -منهم: الأوزاعي- على جواز الكلام في الصلاة لمصلحة الصلاة. الرابع: استدلت به طائفة -منهم: الشافعي ومالك وأحمد- أن الصلاة لا تفسد بالكلام ناسيًا. وسيجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى. ص: فذهب قوم إلى أن الكلام في الصلاة من المأمومين لإمامهم إذا كان على وجه إصلاح الصلاة لا يقطع الصلاة، وأن الكلام من الإِمام ومن المأمومين فيها على السهو لا يقطع الصلاة، واحتجوا في مذهبهم في كلام المأموم للإمام لما قد تركه من الصلاة بكلام ذي اليدين لرسول الله - عليه السلام -[في هذه الآثار التي رويناها، وفي مذهبهم في الكلام السهو على أن لا يقطع الصلاة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) لذي اليدين: "لم تقصر الصلاة" في هذه الآثار التي رويناها، وفي مذهبهم في الكلام على السهو أنه لا يقطع الصلاة، فقدل رسول الله - عليه السلام - لذي اليدين: "لم تقصر ولم أنس" وهو يرى أنه ليس في الصلاة، قالوا: فلما بني رسول الله - عليه السلام - على ما قد صلى، ولم يكن ذلك قاطعًا عليه ولا على ذي اليدين الصلاة؛ ثبت بذلك أن الكلام لإصلاح الصلاة مباح في الصلاة، وأن الكلام في الصلاة على السهو غير قاطع الصلاة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ربيعة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: كلام القوم في الصلاة لإمامهم على وجه إصلاحها لا يفسد الصلاة، وكذلك كلام الكل على وجه السهو لا يفسدها. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "ش".

وقال أبو عمر بن عبد البر: وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام ساهيًا في الصلاة لا يفسدها، كقول مالك وأصحابه سواء، وإنما الخلاف بينهما أن مالكًا يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روى عنه في المنفرد، وهو قول أحمد بن حنبل، ذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم يُفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه، وذكر الخرقي عنه: أن مذهبه فيمن تكلم عامدًا أو ساهيًا بطلت صلاته إلا الإِمام خاصة؛ فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم: إن من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم تتم الصلاة وأنه فيها، أفسد صلاته، فإن تكلم ناسيًا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة؛ لأنه قد كملها عند نفسه لا تبطل، وأجمع المسلمون طرًّا أن الكلام عامدًا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في الصلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك أن الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته، وهو قول ضعيف في النظر. انتهى. وقال القاضي عياض: المشهور عن مالك وأصحابه الأخذ بحديث ذي اليدين، وروي عنه ترك الأخذ به، وأنه كان يستحب أن يعيد ولا يبني، قال: وإنما تكلم النبي - عليه السلام - وأصحابه؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت، ولا يجوز ذلك لأحدنا اليوم، ورواه عنه أبو قرة، وقاله ابن نافع وابن وهب وابن كنانة وقال الحارث بن مسكين: أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عنه، وقالوا: كان هذا أول الإِسلام، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها، وقد اختلف قول مالك وأصحابه في التعمد بالكلام لإصلاح الصلاة من الإِمام والمأموم، ومنع ذلك بالجملة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، وجعلوه مفسدًا للصلاة إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده، وسوى أبو حنيفة بين العمد والسهو انتهى.

وقال ابن قدامة في "المغني": قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا، وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة، فأما الكلام لغير ذلك فينقسم خمسة أقسام. أحدها: أن يتكلم جاهلًا بتحريم الكلام في الصلاة، فقال القاضي في "الجامع": لا أعرف عن أحد نصًّا في ذلك، ويحتمل أن لا تبطل صلاته؛ لأن الكلام كان مباحًا في الصلاة بدليل حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم، فلا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه بخلاف الناسي، فإن الحكم قد ثبت في حقه. القسم الثاني: أن يتكلم ناسيًا وذلك نوعان: أحدهما: أن ينسى أنه في الصلاة، ففيه روايتان: إحداهما: لا تبطل الصلاة وهو قول مالك والشافعي؛ لأنه - عليه السلام - تكلم في حديث ذي اليدين. والثانية: تفسد صلاته، وهو قول النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي، لعموم أحاديث المنع من الكلام. النوع الثاني: أن يظن أن صلاته قد تمت فيتكلم، فهذا إن كان سلامًا لم تبطل صلاته -رواية واحدة- لأنه - عليه السلام - وأصحابه فعلوه وبنوا علي صلاتهم، وإن لم يكن سلامًا فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه، أنه إذا تكلم بشيء مما تكمل به الصلاة أو شيء من شأن الصلاة مثل كلام النبي - عليه السلام - ذا اليدين لم تفسد صلاة، وإن تكلم في شيء من غير أمر الصلاة كقوله: يا غلام اسقني ماء، فسدت صلاته، وفيه رواية ثانية: أن الصلاة تفسد بكل حال، وهذا مذهب أصحاب الرأي، وفيه رواية ثالثة: أن الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحالٍ سواء كان من شأن الصلاة أو لم يكن، إمامًا كان أو مأمومًا، وهذا مذهب مالك والشافعي؛ لأنه نوع من النسيان، فأشبه التكلم جاهلًا، وتخرج فيه رواية رابعة: وهو أن المتكلم إن كان إمامًا تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد صلاته، وإن تكلم غيره فسدت صلاته.

القسم الثالث: أن يتكلم مغلوبًا على الكلام، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن تخرج الحروف من فيه من غير اختيار مثل أن يتثاءب فيقول: هاه. أو يتنفس: فيقول: آه. أو يسعل فنطق في السعلة بحرفين وما أشبه هذا أو يغلط في القراءة فيعدل إلى كلمة من غير القرآن، أو يجيئه البكاء فيبكي، ولا يقدر على رده، فهذا لا يفسد صلاته، نص عليه أحمد، وقال القاضي فيمن تثاءب فقال: آه آه، تفسد صلاته. النوع الثاني: أن ينام فيتكلم، فقد توقف أحمد عن الجواب فيه وينبغي أن لا تبطل صلاته. النوع الثالث: أن يكره على الكلام، فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي والصحيح إن شاء الله أن هذا تفسد صلاته. القسم الرابع: أن يتكلم بكلام واجب مثل أن يخشى على ضرير أو صبي الوقوع في هلكة، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلًا، أو نائمًا، أو يرى نارًا يخاف أن تشتعل في شيء، ونحو هذا، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح، فقال أصحابنا: تبطل الصلاة بهذا، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ويحتمل أن لا تبطل الصلاة، وهو ظاهر قول أحمد، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. القسم الخامس: أن يتكلم لإصلاح الصلاة، وجملته أن من سلم من نقص في صلاته يظن أنها قد تمت، ثم تكلم، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة، مثل كلام النبي - عليه السلام - وأصحابه في حديث ذي اليدين. والثانية: تفسد صلاتهم، وهو قول الخلال ومذهب أصحاب الرأي؛ لعموم أحاديث النهي. والثالثة: أن صلاة الإِمام لا تفسد؛ لأن النبي - عليه السلام - كان إمامًا وبني علي صلاته، وصلاة المأمومين الذين تكلموا تفسد، فإنه لا يصح اقتداؤهم بأبي بكر وعمر

- رضي الله عنهما - لأنهما تكلما مجيبين النبي - عليه السلام -، وإجابته واجبة عليهما؛ ولا بذي اليدين لأنه تكلم سائلًا عن نقص الصلاة في وقت يمكن ذلك فيها وليس بموجود في زمننا، وهذه الرواية اختيار الخرقي واختص هذا بالكلام في شأن الصلاة، فأما من تكلم في صلب الصلاة من غير سلام ولا ظن تمام، فإن صلاته تفسد، إمامًا كان أو غيره، لمصلحة الصلاة أو غيرها، وذكر القاضي في ذلك الروايات الثلاث ويحتمله كلام الخرقي لعموم لفظه، وهو مذهب الأوزاعي، فإنه قال: لو أن رجلًا قال للإمام وقد جهر بالقراءة في العصر: إنها العصر لم تفسد صلاته، والله أعلم. قوله: "وإن الكلامَ" بالفتح عطف على قوله: "إلى أن الكلام". قوله: "واحتجوا في مذهبهم" أي واحتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه. قوله: "لِما قد تركه" أي لأجل ما قد تركه الإِمام من الصلاة. قوله: "وفي مذهبهم" أي واحتج هؤلاء القوم أيضًا في مذهبهم في الكلام على جهة السهو أنه لا يفسد الصلاة، بقول رسول الله - عليه السلام - .... إلى آخره. قوله: "قالو" أي قال هؤلاء القوم. قوله: "ثبت" جواب لقوله "فلما بني" فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير والتهليل وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم فيها لشيء حدث من الإمام فيها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وعبد الله بن وهب وابن نافع من أصحاب مالك، فانهم قالوا: لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير والتهليل وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم في الصلاة لأجل شيء حدث من الإِمام في الصلاة.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد ابن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمون، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "بينما أنا مع رسول الله - عليه السلام - في صلاة إذ عطس رجل، فقلت: يرحمك الله، فحدقني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أماه، ما لكم تنظرون إليَّ؟! قال: فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت، فلما انصرف النبي - عليه السلام - من صلاته دعاني، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، والله ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، ولكن قال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وتلاوة القرآن". حدثنا يونس وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن هلال ابن علي، عن عطاء بن يسار، عق معاوية بن الحكم ... ثم ذكر نحوه وزاد: "فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك". أفلا ترى أن رسول الله - عليه السلام - لما عَلَّم معاوية بن الحكم إذ تكلم في الصلاة قال له: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسييح والتكبير وقراءة القرآن" ولما لم يقل له: أو ينوبك فيها شيء مما تركه إمامك فتكلم به، دل ذلك أن الكلام في الصلاة بغير التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن يقطعها. ش: أي أحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث معاوية بن الحكم السلمي، لأنه - عليه السلام - لما علمه حين تكلم في الصلاة قال له: "إن صلاتنا هذه ... " إلى آخره، دل أن الكلام في الصلاة بغير التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن يقطعها، وإلا لخلا كلامه عن الفائدة وذا لا يجوز.

ثم إنه أخرج حديثه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الأسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، وثقه ابن يونس وغيره. عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الإِمام المشهور، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، روى له الجماعة. عن هلال بن أبي ميمونة العامري، روى له الجماعة، عن عطاء بن يسار الهلالي أبي محمَّد القاضي المدني روى له الجماعة، عن معاوية بن الحكم السلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي بأتم منه. وقال مسلم (¬1): نا أبو جعفر محمَّد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في اللفظ، قالا: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله - عليه السلام - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - عليه السلام - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله - عليه السلام -؛ فقلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإِسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان. قال: فلا تأتهم. قال: ومنا رجال يتطيرون. قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم، وقال ابن الصباح: فلا يصدنكم، قال: فقلت: ومنا رجال يخطون، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 381 رقم 357).

قال: كان نَبيٌّ من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قِبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله - عليه السلام - فأخبرته، فعظَّم ذلك عليَّ، قلت يا رسول الله، أفلا أعتقها! قال: ائتني بها، فأتيت بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة. وقال: أبو داود (¬1): ثنا مسدد، ثنا يحيى. ونا عثمان بن أبي شيبة، نا إسماعيل يعني ابن إبراهيم -المعنى- عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه، وفيه اختلاف يسير. وقال النسائي (¬2): أنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، قال: حدثني عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "قلت يا رسول الله، أنا حديث عهد بالجاهلية، فجاء الله بالإِسلام، وإن رجالا منا يتطيرون. قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم، ورجال منا يأتون الكهان، قال: فلا يأتوهم. قال: يا رسول الله ورجال منا يخطون. قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك. قال: وبينا أنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة إذ عطس رجل من القوم ... " إلى قوله: "وتلاوة القرآن" نحو رواية الطحاوي، وبعده قال: "ثم اطلعت إلى غنيمة لي ترعاها جارية لي من قبل أحد والجوانية، وإني اطلعت فوجدت الذئب قد ذهب منها من شاة، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، فصككتها صكة، ثم انصرفت إلى رسول الله - عليه السلام - فأخبرته؛ فعظم ذلك عليّ، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ادعها فقال لها رسول الله - عليه السلام - أين الله لأ؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: إنها مؤمنة فأعتقها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 244 رقم 930). (¬2) "المجتبى" (3/ 14 - 17 رقم 1218).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي ومن رجال البخاري، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، حدثني معاوية بن الحكم، قال: "بينا أنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة المدني، عن هلال بن علي وهو هلال بن أبي ميمونة المذكور في الحديث السابق، عن عطاء بن يسار المدني ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن يونس، نا عبد الملك بن عمرو، نا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: "قدمت على رسول الله - عليه السلام - عُلِّمت أمورًا من أمور الإِسلام فكان فيما عُلِّمت: أن قيل لي: إذا عطست فأحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله، فقل: يرحمك الله. قال فبينا أنا قائم مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة إذ عطس رجل، فحمد الله، فقلت: يرحمك الله -رافعًا بها صوتي- فرماني الناس بأبصارهم، حتى احتملني ذلك فقلت: ما لكم تنظرون إلي بأعين شزر؟! قال: فسبحوا، فلما قضى النبي - عليه السلام - الصلاة، قال: من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي؛ فدعاني رسول الله - عليه السلام - فقال: إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك، فما رأيت معلمًا قط أرفق من رسول الله - عليه السلام -". قوله: "بينا" أصله "بين" فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، فقيل: "بينا" وقد تدخل فيه الميم فيقال: "بينما" وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 249 رقم 3165). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 245 رقم 931).

جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذْ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا تقول: بينما زيد جالس دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل عليه عمرو وها هنا جوابه قوله: "إذ عطس". قوله: "فحدقني القوم" بتخفيف الدال، ومعناه: رموني بأبصارهم وحدقهم، وهي جمع حدقة وهي العين، ويروى: "فحدَّقني" بتشديد الدال، من التحديق: وهو شدة النظر. قوله: "وا ثكل أماه" الثكل بضم الثاء المثلثة وإسكان الكاف، وبفتحهما جميعًا لغتان كالنُّحْل والنَّحَل، حكاهما الجوهري وغيره، وهو: فقدان المرأة ولدها، وامرأة ثكلى وثاكل، وثَكِلته أمه -بكسر الكاف- وأثكله الله أمه، وثكلت المرأة وأثكلت: فقدت ولدها، والواو في قوله: "وا ثكل" تسمى واو الندبة، نحو وا زيداه، والندبة والندب: لغة من ندبت الميت إذا بكيت عليه، وعددت محاسنه، وأصله من ندبه: إذا حَثَّه، كأن الحزن يحث النادب على مد الصوت باسم الميت، ودعاء الناس إلى التضجر معه، والأولى بالندبة: النساء لضعفهن عن تحمل المصيبة، فيبنى المفرد على ما يرفع، نحو: وا زيداه، وا زيدان وينصب المضاف وشبهه نحو: وا عبد الله، ثم يلحقونه حرف مد ليطول الصوت به فيكون أظهو للغرض، وهو التفجع وإظهار اسم المندوب، فيقال: وا زيداه واختير الألف؛ لأنه أقعد في المد من أختيها، أو لأنها أخف، وزيادتها أكثر، ولا يلحق الألف المضاف عند الإضافة لئلا يلزم الفصل بين المضاف والمضاف إليه، بل يلحق المضاف إليه نحو: وا عبد اللاه وإن كان المضاف إليه منونًا فسيبويه يحذف تنوينه نحو: وا غلام زيداه، ثم ها هنا. قوله: "وا ثكل أماه" مضاف ومضاف إليه، فدخل الألف في المضاف إليه، وهو أماه، وفي رواية: "أمِّياه" قال المُطرزي: حديث ابن الحكم: "وا ثكل أماه"، وروي "أمِّياه" الأولى بإسقاط ياء المتكلم مع ألف الندبة، والثانية بإثباتها، والهاء للسكت، ثم قيل: إن الميم مكسورة، ولقد سمعت بعض من أثق به من أهل الحديث بضم

الهمزة وفتح الميم المشددة وكذا وجدته مضبوطًا بخط المطرزي، وقد قلنا: إن الهاء للسكت، دخلت لتتبين بها الألف؛ لأنها حرف خفي، فالوقف عليه يزيدها خفاء. قوله: "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم" معناه: فعلوا هذه الفعله ليسكتوه وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته، قال عياض: يحتمل أنه كان قبل نهي النبي - عليه السلام - عن التصفيق في الصلاة والأمر بالتسبيح، وقد يحتمل أن هذا تصير التصفيق في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - على ما أشار إليه بعضهم. قوله: "فلما رأيتهم يسكتوني" جواب "لَمَّا" محذوف تقديره: ما خالفتهم لكني سكت. قوله: "يسكتوني" والأصل فيه: "يسكتونني" بنونين، فحذفت نون الوقاية للتخفيف، ويجوز أن يكون المحذوف "نون" الجمع، على لغة من يري حذفها بدون الجازم والناصب، فافهم. قوله: "فبأبي وأمي" هو هكذا في رواية النسائي، وفي رواية مسلم: "بأبي هو وأمي" فقوله: "هو" مبتدأ، وخبره قوله: "فبأبي"، وقوله: "أمي" عطف عليه، والمعنى هو مفدَّى بهما، وفي بعض نسخ الطحاوي: "بأبي وأمي هو" ومعناه أيضًا: هو مفدَّى بأبي وأمي، أو: فديته بأبي وأمي، فعلى الأول محل الياء رفع، وعلى الثاني جر، فافهم. قوله: "ولا كهرني" معناه: ولا انتهرني، ولا أغلظ لي، وقيل: الكهر: استقبالك الإنسان بالعبوس، وقرأ بعض الصحابة (فأما اليتيم فلا تكهر) وقيل: كهره ونهره بمعنى. قوله: "بالجاهلية" والجاهلية: ما قبل ورود الشرع، سموا جاهلية لكثرة جهالتهم وفحشها.

قوله: "يأتون الكُهان" بضم الكاف جمع كاهن، وهو الذي يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدَّعي معرفة الأسرار. و"العرَّاف" الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، وبهذا حصل الفرق بينهما، وإنما نهى عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك؛ لأنهم يلبسون على الناس كثيرًا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يعطون من الحلوان، وهو حرام بإجماع المسلمين، وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة، منهم: أبو محمد البغوي، وقال الخطابي: كان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من يزعم أن له رئيسًا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي استدراك ذلك بفهم أعطيه، ومنهم من سمي عرافًا وهو الذي يزعم معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها لمعرفة من سرق الشيء الفلاني ومعرفة من يتهم به ونحو ذلك، ومنهم من يسمي المنجم كاهنًا. قوله: "يتطيرون" من التطير وهو التشاؤم بالشيء، وكذلك الطيرة، وهي مصدر تطير أيضًا، يقال: تطير طيرة كتخير خيرة، ولم يجيء من المصادر هكذا غيرها، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه. قوله: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم" معناه: أن الطيرة شيء يجدونه في نفوسهم ضرورة ولا عتب عليهم في ذلك؛ فإنه غير مكتسب لهم، فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في مقاصدكم. قوله: "لا يصدهم" أي: فلا يصدهم ذلك عن التصرفات. قوله: "يخطون" من الخط، هو الضرب في الرمل على ما ذكر في كيفيته وقال ابن الأعرابي في تفسير الخط: كان الرجل يأتي العراف وبين يديه غلام، فيأمره بأن يخط

في الرمل خطوطًا كثيرة وهو يقول: ابني عيان أسرعا البيان، يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين، ثم ينظر إلى أخر ما يبقى من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها (¬1) تفسد، وفي "المحيط": رجل عطس فقال المصلى: يرحمك الله، أو يرحمك ربك تفسد صلاته؛ لأنه من كلام الناس بمنزلة قوله: أطال الله بقاءك وعافاك الله، ولو قال له: الحمد لله لم تفسد، وإن أراد به الجواب؛ لأن التحميد لا يستعمل في جواب العاطس، وإذا عطس وخاطب نفسه فقال: يرحمك الله لم يضره؛ لأنه لم يخاطب غيره، وإنما يدعو لنفسه. وقال: الشيخ محيي الدين النووي: وقال أصحابنا إن قال: يرحمك الله أو يرحمكم الله بكاف الخطاب، بطلت صلاته، وإن قال: يرحمه الله، أو اللهم ارحمه، أو رحم الله فلانًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ليس بخطاب، وأما العاطس في الصلاة فيستحب له أن يحمد الله سرًّا هذا مذهبنا وبه قال مالك وغيره، وعن ابن عمر والنخعي وأحمد: يجهر به، والأول أظهر. والخامس: فيه دليل على تحريم الكهانة والعرافة والاتيان إلى الكهان والعرافين وتصديق كلامهم كما قد ذكرناه. السادس: فيه دليل على تحريم التطير والتشاؤم كما ذكرنا. السابع: فيه دليل على جواز الفعل القليل في الصلاة، وأنه لا تبطل به الصلاة، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة، دلَّ على ذلك قوله: "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم" الثامن: فيه دليل على أن إعتاق المؤمن أفضل من إعتاق الكافر. التاسع: فيه دليل أن الكافر الذي لا يعتقد دينًا باطلًا ولا يعرف إلا الله إذا أقر بالله وبرسالة نبيه - عليه السلام - يحكم بإيمانه وإسلامه، وأما الكافر الذي يعتقد دينًا من ¬

_ (¬1) يوجد هنا سقط في "الأصل، ك" لعله بمقدار وجه أو وجهين، وباقي كلام ابن الأعرابي: كما في عون المعبود (3/ 142): فإن كان الباقي زوجًا فهو دليل الفلاح والظفر، وإن بقي فردًا فهو دليل الخيبة واليأس.

الأديان الباطلة أو كتابًا من الكتب السماوية فلا يحكم بإسلامه بمجرد الإقرار بالله ورسوله حتى يتبرأ عما يعتقده من الدين الباطل. العاضر: فيه سيرة رسول الله - عليه السلام - في التعليم من الرفق بالجاهل، وترك الغضب عليه إذا لم يقصد مخالفة، وفيه تنبيه لغيره أن يسلك مسلكه في تعليم غيره، فافهم. فإن قيل: استدلا لكم بهذا الحديث لا يتم؛ لأنه لا يدل على أن الكلام ناسيًا في الصلاة يفسدها؛ وذلك لأن النبي - عليه السلام - علمه أحكام الصلاة وتحريم الكلام فيها، ثم لم يأبيه بإعادة الصلاة التي صلاها معه، وقد كان تكلم بما تكلم به، ولا فرق بين من تكلم جاهلًا بتحريم الكلام عليه، وبن من تكلم ناسيًا لصلاته، في أن كل واحد منهما قد تكلم، والكلام مباح له عند نفسه. قلت: لا نسلم أن كلام معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - على وجه السهو والنسيان، بل كان عامدًا ولكن كان جاهلًا بتحريم الكلام، وقولكم: ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه، فيحتمل أن يكون أمره بذلك ولم ينقل إلينا، فإذا احتمل عدم أمره بالإعادة وأمره بالإعادة كان الرجوع إلى عموم قوله: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" في دلالته على بطلان الصلاة بالكلام سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، فالحديث لا يدل على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، فافهم. ص: ثم قد علَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بعد ذلك ما يفعلون لما ينوبهم ني صلاتهم، حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي - عليه السلام - قال: "من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله، فإنما التصفيق للنساء والتسييح للرجال". حدثنا ابن منقذ، قال: ثنا المقرئ، عن المسعودي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي قال: "انطلق رسول الله - عليه السلام - إلى قوم من الأنصار ليصلح بينهم، فجاء حين الصلاة وليس بحاضر، فتقدم أبو بكر - رضي الله عنه -، فبينما هو كذلك إذ جاء رسول الله - عليه السلام -، فصفح القوم فأشار إليه رسول الله - عليه السلام - أن يثبت، فأبى

أبو بكر - رضي الله عنه - حتى نكص، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، فلما قضى صلاته قال لأبي بكر: ما منعلى أن تثبت كما أمرتك؟! قال: لم يكن لابن أبي قحافة أن يتقدم أمام رسول الله - عليه السلام -، قال: فأنتم ما لكم صفحتم؟! قالوا: لنؤذن أبا بكر، قال: التصفيح للنساء والتسييح للرجال". حدثنا نصر، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن أبي حازم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من نابه في صلاته شيء فليسبح، فإن التصفيح للنساء". ش: لما لم يبين النبي - عليه السلام - في حديث معاوية بن الحكم ماذا يفعلوا إذا نابهم شيء في الصلاة، ومنعه عن الكلام بقوله: "إن صلاتنا هذه ... " الحديث، ودل أن كلام الناس مطلقًا يفسد الصلاة، علَّم بعد هذا ما يفعلون في صلاتهم إذا نابت لهم نائبة، وذلك في حديث سهل بن سعد وغيره. وأخرجه بأربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاضي الزاهد الحكيم، روى له الجماعة، عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي - رضي الله عنه -. وهذا الإسناد على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده (¬1): ثنا سفيان، عن أبي حازم، سمع سهل بن سعد، عن النبي - عليه السلام -: "من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله إنما التصفيح للنساء والتسبيح للرجال". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 330 رقم 22853).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا يحيى، أنا وكيع، عن سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال النبي - عليه السلام -: "التسبيح للرجال، والتصفيح للنساء". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن منقذ العصفري، عن عبد الله بن يزيد القرشي أبي عبد الرحمن المقرئ القصير شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي وثقه أحمد ويحيى وآخرون، عن أبي حازم ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "خرج النبي - عليه السلام - يصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة، فجاء بلال أبا بكر - رضي الله عنهما -، فقال: حبس النبي - عليه السلام -، فتؤم الناس؟ قال: نعم إن شئتم؛ فأقام بلال الصلاة، فتقدم أبو بكر - رضي الله عنه - فصلَّى، فجاء النبي - عليه السلام - يمشي في الصفوف يشقِّقها شقًّا حتى قام في الصف الأول، فأخذ الناس بالتصفيح -قال سهل: هل تدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق- وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا التفت، فإذا النبي - عليه السلام - في الصف، فأشار إليه: مكانك! فرفع أبو بكر يديه فحمد الله، ثم رجع القهقرى وراءه، وتقدم النبي - عليه السلام - فصلَّى". وفي رواية للبخاري (¬4): "فتقدم رسول الله - عليه السلام - فصلى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس، ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق! إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله؛ فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت، يا أبا بكر، ما منعلى أن تصلي بالناس حين ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 403 رقم 1146). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 316 رقم 421). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 402 رقم 1143). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 414 رقم 1177).

أشرت إليك؟! فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - عليه السلام -". وأخرجه مسلم (¬1): حدثني يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي: "أن رسول الله - عليه السلام - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم، قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - عليه السلام - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس من التصفيق التفت، فرأى رسول الله - عليه السلام - فأشار إليه رسول الله - عليه السلام - أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله - عليه السلام - من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي - عليه السلام - فصلى، ثم انصرف فقال يا أبا بكر! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - عليه السلام -. فقال رسول الله - عليه السلام -: ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيق، من نابه شيء في الصلاة فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن أبي حازم عن سهل بن سعد: "أن رسول الله - عليه السلام - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ... " إلى آخره نحو رواية مسلم. وأخرجه النسائي (¬3): أخبرنا أحمد بن عبدة، عن حماد بن زيد، ثم ذكر كلمة معناها: ثنا أبو حازم، قال سهل بن سعد: "كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ ذلك النبي - عليه السلام - فصلى الظهر، ثم أتاهم ليصلح بينهم، ثم قال لبلال: يا بلال، إذا حضر العصر ولم آت فمر أبا بكر فيصل بالناس، فلما حضرت أذن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 316 رقم 421). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 211 رقم 940). (¬3) "المجتبى" (2/ 82 رقم 793).

بلال، ثم أقام فقال لأبي بكر تقدم، فتقدم أبو بكر فدخل في الصلاة، ثم جاء رسول الله - عليه السلام - فجعل يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر وصفح القوم، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا دخل في الصلاة لم يلتفت، فلما رأى أبو بكر التصفيح لا يمسك عنه التفت، فأومأ إليه رسول الله - عليه السلام - بيده، فحمد الله -عز وجل- على قول رسول الله - عليه السلام - له امضه، ثم مشى أبو بكر - رضي الله عنه - القهقرى على عقبيه، فلما رأى ذلك رسول الله - عليه السلام -، تقدم فصلى بالناس فلما قضى صلاته، قال: يا أبا بكر، ما منعك إذْ أومأت إليك أن لا تكون مضيت؟ فقال: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله - عليه السلام - وقال للناس: إذا نابكم شيء فليسبح الرجال ولتصفح النساء. الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد البصري، عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد. إلى آخره. وأخرجه البيهقي في سننه (¬1). الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي أيضًا، عن قبيصة بن عقبة بن محمد الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا يحيى بن حسان، ثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وعبد العزيز محمد، وعبد العزيز بن أبي حازم، وسفيان بن عيينة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي - عليه السلام - مثله. قوله: "من نابه" أي: نزل به شيء من الأمور المهمة، من: نَابَه يَنُوبُه نَوْبًا. قوله: "التصفيق" مصدر من صفق إذا ضرب على يده، والتصفيح: هو التصفيق يقال: صفح بيده، وصفق، قيل: الذي بالحاء الضرب بظاهر اليدين. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 123 رقم 5090). (¬2) "سنن الدارمي" (1/ 365 رقم 1365).

إحداهما: على باطن الآخرى، وقيل: بإصبعين من إحداهما على صفحة الأخرى، وهو الإنذار والتنبيه، والتصفيق بالقاف: ضرب إحداهما الصفحتين على الأخرى، وهو اللهو واللعب، ولكن لم يرد ها هنا إلا مجرد ضرب اليد على اليد لأجل التنبيه. قوله: "إلى قوم من الأنصار" هم بنو عمرو بن عوف. قوله: "فجاء حين الصلاة" أي: صلاة العصر كما صرح بها في رواية النسائي، وكذا صرح بها في إحدى روايات البخاري. قوله: "فصفح القوم" من التصفيح وقد ذكرنا معناه. قوله: "أن يثبت" "أن" أتى هذه تفسيرية كما في رواية مسلم: "أن امكث". قوله: "حتى نكص" أي: رجع صراعه وفي رواية البخاري: "ثم رجع القهقرى". وفي رواية مسلم: "ثم استأخر" وفي رواية النسائي: "ثم مشى أبو بكر القهقرى على عقبيه" وفي رواية: نَكِصَ على عقبيه ليصل الصف، ومعنى كله الرجوع. فإن قيل: لِمَ لَمْ يثبت أبو بكر - رضي الله عنه - إذ أشار إليه سيدنا - عليه السلام - بالثبات وظاهره يقتضي المخالفة؟. قلت: علم أبو بكر - رضي الله عنه - أنها إشارة تكريم لا إشارة إلزام، والأمور تعرف بقرائنها، ويدل على ذلك شق رسول الله - عليه السلام - الصفوف حتى خلص إليه، فلولا أنه أراد الإمامة لصلى حيث انتهى. قوله: "كما أمرتك" "الكاف" فيه للتعليل و"ما" مصدرية، والمعنى: لأجل أمري إياك بالثبات في مكانك، وقد منع بعضهم كون "الكاف" للتعليل وأجازه بعضهم، وقيده بعضهم بأن تكون الكاف مكفوفة بـ "ما" وذلك كما في قول سيبويه عن العرب: كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، والحق جوازه سواء كان مجردًا عن "ما" أو

مكفوفا بـ "ما" فالأول كما في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (¬1) أي: أعجب لعدم فلاحهم، والثاني كما في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} (¬2) قال الأخفش: أي لأجل إرسالي فيكم رسولًا منكم، فاذكروني وكما في قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (¬3). قوله: "لم يكن لابن أبي قحافة" أراد به أبو بكر نفسه؛ لأن أبا قحافة أبوه، واسمه عثمان أسلم يوم الفتح، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة وهو ابن سبع وتسعين سنة، وكانت وفاة الصديق - رضي الله عنه - قبله فورث منه السدس. وهو بضم القاف وتخفيف الحاء المهملة وبالفاء. قوله: "لنؤذن" من الإيذان وهو الإعلام، أي: لنعلم أبا بكر - رضي الله عنه - بأنك حضرت يا رسول الله - عليه السلام -. ويستنبط من هذا أحكام: الأول: أن السنة لمن نابه شيء في الصلاة كإعلام من يستأذن عليه، وتنبيه إمامه ونحو ذلك: أن يسبح إن كان رجلًا فيقول: سبحان الله، وأن يصفق إن كانت امرأة فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر، ولا تضرب بطن كف على بطن كف على وجه اللهو واللعب، فإن فعلت هذا على وجه اللعب بطلت صلاتها؛ لمنافاته الصلاة، وعن هذا قال صاحب "المحيط": إذ استأذن على المصلى غيره فسبح إعلامًا أنه في الصلاة لا تفسد، ثم قال: والمرأة تصفق للإعلام وروى الحديث المذكور. الثاني: أن الإمام إذا تأخر عن الصلاة يقدم غيره إذا لم يخف فتنة ولا إنكارا من الإِمام. ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: [82]. (¬2) سورة البقرة، آية: [151]. (¬3) سورة البقرة، آية: [198].

قال السفاقسي: وفيه دليل على جواز استخلاف الإِمام إذا أصابه ما يوجب ذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وبه قال عمر وعلي والحسن وعلقمة وعطاء والنخعي والثوري. وعن الشافعي وأهل الظاهر: لا يستخلف الإمام، وقال بعض المالكية تأخر أبي بكر - رضي الله عنه - وتقدمه - عليه السلام - من خواص النبي - عليه السلام - لأنهم كانوا تَقَدَّموا النبي - عليه السلام - بالإحرام، ولا يفعل ذلك بعد النبي - عليه السلام -. قلت: هذا الحديث حجة على الشافعي في منعه صحة الاستخلاف، وأصحابنا جوزوا الاستخلاف بهذا الحديث، وبحديث عائشة - رضي الله عنها -: لما مرض مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة فأذن، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس ... " الحديث (¬1). فإن قيل: أنتم ما تجوزون الاستخلاف إلا فيمن سبقه الحدث، حتى لو تعمد ذلك أو قهقه أو تكلم لا يجوز الاستخلاف، فكيف تستدلون بالحديث؟ قلت: لأن الذي سبقه الحدث عاجز عن المضي في الصلاة فيجوز له الاستخلاف، كما أن أبا بكر - رضي الله عنه - عجز عن المضي فيها ليكون المضي من باب المتقدم على رسول الله - عليه السلام -، وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2) فصار هذا أصلًا في حق كل إمام عجز عن الإتمام أن يتأخر ويستخلف غيره. الثالث: قال النووي في تقدمه - عليه السلام -: يستدل به أصحابنا على جواز اقتداء المصلي بمن يحرم في الصلاة بعد الإِمام الأول؛ فإن الصديق - رضي الله عنه - أحرم بالصلاة أولًا ثم اقتدى بالنبي - عليه السلام - حين أحرم بعده، قال: وهو الصحيح من مذهبنا. ¬

_ (¬1) متفق عليه، من حديث عائشة - رضي الله عنها -، البخاري (1/ 236 رقم 633)، ومسلم (1/ 312 رقم 418). (¬2) سورة الحجرات، آية: [1].

الرابع: قال ابن الجوزي: فيه دليل على جواز الصلاة بإمامين وذلك أن النبي - عليه السلام - لما وقف عن يسار أبي بكر - رضي الله عنه - علم أبو بكر أنه نوى الإمامة فعندها نوى أبو بكر الإتمام. الخامس: قال الطبري: فيه دليل على أن من سبق إمامه بتكبيرة الإحرام، ثم ائتم به في صلاته أن صلاته تامة، وبيان فساد قول من زعم أن صلاته لا تجزئه؛ وذلك لأن أبا بكر - رضي الله عنه - كان قد صلى بهم بعض الصلاة، وقد كانوا كبروا معه للإحرام، فلما أحرم رسول الله - عليه السلام - لنفسه للصلاة بتكبيرة الإحرام ولم يستقبل القوم صلاتهم بل بنوا عليها مؤتمين به، وقد كان تكبيرهم للإحرام تقدم تكبيره. والجواب عن هذا: أن إمامهم كان أبا بكر - رضي الله عنه - أولًا ولم يسبق تكبيرهم على تكبيره، ثم إن النبي - عليه السلام - أتم صلاة أبي بكر ولم يبتدئها من أولها حتى يلزم ما ذكره، وهذا ظاهر لمن يتكلم بالتأمل. وقال ابن بطال: لا أعلم من يقول إن من كبر قبل إمامه فصلاته تامة، إلا الشافعي بناءً على مذهبه، وهو أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإِمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة من كبر قبل إمامه. السادس: قال السفاقسي: احتج به من الحذاق على أبي حنيفة في قوله: "إن سبح الرجل لغير إمامه لم تجزه صلاته" ومذهب مالك والشافعي: إذا سبح لأعمى خوفًا لأن يقع في بئر أو من دابة أو حية؛ أنه جائز. قلت: لا نسلم أن يكون هذا حجة على أبي حنيفة؛ لأن الذي في الحديث: "فصفق الناس" وهو غير التسبيح. وأما قوله "من نابه شيء في الصلاة فليسبح" فأبو حنيفة أيضًا يعمل به كما بينا ولئن سلمنا ذلك فمراد أبي حنيفة من قوله: "إذا سبح الرجل لغير إمامه لم يجزه" إذا كان على وجه الجواب مثل ما أخبر الرجل لمن في الصلاة بخبر يعجبه، وقال: سبحان الله، وأما إذا كان لا على وجه الجواب لا تفسد صلاته كما في المسأله المذكورة؛ لعموم قوله: "من نابه شيء ... " الحديث.

السابع: استدل به مالك أن من أخبر في صلاته بسرور فحمد لله لا يضر صلاته؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - رفع يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله - عليه السلام -، وقال ابن القاسم: ومن أُخبر بمصيبة فاسترجع، أو أُخبر بشيء فقال: الحمد لله على كل حال، أو قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات لا يعجبني وصلاته مجزئة، وقال أشهب: إلا أن يريد بذلك قطع الصلاة، وكذلك عند أبي يوسف من أصحابنا إذا أُخْبِر المصلي بما يسوءه فاسترجع، أو أُخبر بما يسره فحمد الله، لا تبطل صلاته، لفعل أبي بكر - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة ومحمد: تفسد؛ لأنه خرج مخرج الجواب، ويجاب لهما عن فعل أبي بكر - رضي الله عنه - بما قاله ابن الجوزي: إنما كان إشارة منه إلى السماء لا أنه تكلم، وفيه نظر لأنه صرح بقوله: فحمد الله على ما أمره به رسول الله - عليه السلام - والأحسن أن يقال: إن هذا لم يخرج من أبي بكر مخرج الجواب فافهم. الثامن: ينبغي أن يكون المقدم نيابة عن الإِمام أفضل القوم وأصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به. التاسع: أن المؤذن وغيره يعرض المتقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافقه. العاشر: أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة؛ لقوله: "فصفح القوم". الحادي عشر: جواز الالتفات في الصلاة للحاجة. الثاني عشر: استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة. الثالث عشر: جواز رفع اليدين بالدعاء. الرابع عشر: جواز المشي في الصلاة خطوة أو خطوتين. الخامس عشر: أن التابع إذا أمره المتبوع بشيء وفهم منه الإكرام وعدم الإلزام، وترك الامتثال لا يكون مخالفة للأمر. السادس عشر: استحباب ملازمة الآداب مع الكبار.

السابع عشر: فيه بيان فضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على سائر الصحابة - رضي الله عنهم -. الثامن عشر: أن الإمامة لا تصح إلا عند إرادة الدخول في الصلاة. التاسع عشر: جواز خرق الإِمام الصفوف ليصل إلى موضعه إذا احتاج لخرقها؛ لخروجه إلى طهارة أو لرعاف ونحوهما ورجوعه، وكذا من احتاج إلى الخروج من المأمومين لعذر، وكذا خرقها في الدخول إذا رأى قدامه فُرجةً لأنهم مقصرون بتركها. العشرون: قال النووي: فيه أن المؤذن هو الذي يقيم الصلاة فهذا هو السنة ولو أقام غيره كان خلاف السنة، ولكن يعتد بإقامته عندنا. قلت: لا يلزم من ذلك أنه إذا أقام غيره يكون خلاف السنة، وليست ها هنا دلالة على هذه الدعوى. الحادي والعشرون: قال أيضًا: فيه دليل على تقديم الصلاة لأول وقتها. قلت: هذا أيضًا لا يدل على فضيلة المتقدم؛ لأنهم ربما كانوا استعجلوا بها خوفًا على فواتها بصبرهم وانتظارهم إلى حضور رسول الله - عليه السلام -؛ لأنه - عليه السلام - قد كان ذهب إلى قباء وهي بعيدة من المدينة، وفي مثل هذا نحن أيضًا نقول بالتقديم، والله أعلم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" قال الأعمش: فذكرت ذلك لأبراهيم، فقال: كانت أمي تفعله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن عوف، قال: ثنا محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن أبي غطفان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء". وأخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يعلى بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي الكوفي، روي له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬5): من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم، فقال: قد كانت أمي تفعله. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 403 رقم 1145). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 318 رقم 422). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 247 رقم 939). (¬4) "المجتبى" (3/ 11 رقم 1207). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 247 رقم 3153).

وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا أحمد بن محمد البرتي، حدثنا أبو سلمة، ثنا أبان، ثنا قتادة أن محمد بن سيرين حدثه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن نبي الله - عليه السلام - قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء". وأخرجه أيضًا: عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن يونس بن بكير بن واصل الكوفي الحمال، عن محمد بن إسحاق. عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة الثقفي الحجازي، وثقه أبو حاتم والدارقطني. عن أبي غطفان بن طريف قيل: اسمه سعد، من رجال مسلم. عن أبي هريرة. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا محمد بن رافع والحسن بن منصور، قالا: ثنا حفص بن عبد الرحمن، ثنا محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن أبي غطفان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "التسبيح للرجال في الصلاة، والتصفيق للنساء". ص: فعلمهم رسول الله - عليه السلام - في هذه الآثار في كل نائبة تنوبهم في الصلاة التسبيح ولم يبح غيره، فدل ذلك على أن كلام ذي اليدين لرسول الله - عليه السلام - بما كلمه به في حديث عمران وابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. ش: أي فعلم رسول الله - عليه السلام - الصحابة في الآثار المذكورة، وهي التي رواها سهل بن سعد وأبو هريرة ومعاوية بن الحكم "في كل نائبة" أي: نازله تنزل بهم في الصلاة أن يقولوا سبحان الله، ولم يبح لهم أن يقولوا شيئًا غير ذلك، فدل ذلك أن كلام ذي اليدين خرباق السلمي لرسول الله - عليه السلام - بقوله: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ".

الذي ذكر في حديث عمران بن الحصين وعبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. حاصل هذا الكلام: أن حديث ذوإليدين منسوخ، وقد ذكر جماعة من المحققين أن ناسخه حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4) بأسانيدهم عن عبد الله قال: "كنا نسلم على النبي - عليه السلام - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال: "إن في الصلاة لشغلًا". وحديث زيد بن أرقم الذي أخرجه الجماعة (¬5) بأسانيدهم عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه، حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬6) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وذلك لأن ذا اليدين قتل يوم بدر، كذا روي عن الزهري وغيره على ما يجيء إن شاء الله، وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر، ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإِسلام عن بدر؛ لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي - عليه السلام - أو صحابي آخر. فإن قيل: قد روي في بعض روايات مسلم في قصة ذي اليدين أن أبا هريرة قال: "بينا أنا أصلي مع النبي - عليه السلام - صلاة الظهر، فسلم رسول الله - عليه السلام - في الركعتين، فقام رجل من بني سليم ... " الحديث وهذا تصريح منه أنه حضر تلك الصلاة، فانتفى بذلك ما ذكرته وما ذكره الطحاوي أيضًا من التأويل الذي أوله، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1407 رقم 3662). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 382 رقم 538). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 305 رقم 923). (¬4) "المجتبى" (3/ 19 رقم 1221). (¬5) تقدم (¬6) سورة البقرة، آية: [238].

قلت: يحتمل أن بعض رواة هذا الحديث فهم من قول أبي هريرة في إحدى رواياته: "صلى بنا" أنه كان حاضرًا فروى الحديث بالمعنى على زعمه وقال: "بينا أنا أصلي" هذا وإن كان فيه بعد إلا أنه يقربه ما ذكرنا من الدليل على أن ذلك كان قبل بدر، ويدل عليه أيضًا أن في حديث أبي هريرة: "ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها" وفي حديث عمران بن حصين: "ثم دخل منزله" ولا يجوز لأحد اليوم أن ينصرف عن القبلة ويمشي وقد بقي عليه شيء من الصلاة فلا يخرجه ذلك عنها. فإن قيل: فعل ذلك وهو لا يرى أنه في الصلاة. قلت: فيلزم على هذا لو أكل أو شرب أو باع أو اشترى وهو لا يرى أنه في الصلاة أنه لا يخرجه ذلك منها، وأيضًا فقد أخبر النبي - عليه السلام - ذو اليدين، وخبر الواحد يجب العمل به، ومع ذلك تكلم - عليه السلام - وتكلم الناس معه مع إمكان الإيماء؛ فدل على أن ذلك كان والكلام مباح في الصلاة ثم نسخ. فإن قيل: قد جاء في رواية حماد بن زيد أنهم أومئوا. قلت: قد اختلف على حماد في هذه اللفظة، قال البيهقي في "المعرفة": هذه اللفظة ليست في رواية مسلم عن أبي الربيع، عن حماد، وإنما هي في رواية أبي داود عن محمد بن عبيد. فإن قيل: قد سجد النبي - عليه السلام - سجدتي السهو في حديث ذي اليدين، ولو كان الكلام حينئذ مباحًا كما قلتم لما سجدهما. قلت: لم تتفق الرواية على أنه - عليه السلام - سجدهما بل اختلفوا في ذلك، فقال البيهقي: لم يحفظها الزهري لا عن أبي سلمة ولا عن جماعة، حدثوه بهذه القصة عن أبي هريرة، وخرج الطحاوي -رحمه الله-على ما يأتي- عن الزهري قال: "سألت أهل العلم بالمدينة، فما أخبرني أحد منهم أنه صلاهما -يعني سجدتي السهو- يوم ذي اليدين" فإن ثبت أنه لم يسجدهما فلا إشكال، وإن ثبت أنه سجد نقول: الكلام في

الصلاة وإن كان مباحًا حينئذٍ، لكن الخروج منها بالتسليم قبل التمام لم يكن مباحًا، فلما فعل - عليه السلام - ذلك ساهيًا، كان عليه السجود لذلك. فإن قيل: قال البيهقي: "باب ما يستدل به على أنه لا يجوز أن يكون حديث ابن مسعود في تحريم الكلام ناسخًا لحديث أبي هريرة وغيره في كلام الناسي" وذلك لتقدم حديث عبد الله وتأخر حديث أبي هريرة وغيره، قال ابن مسعود فيما روينا عنه في تحريم الكلام: "فلما رجعنا من أرض الحبشة" ورجوعه من أرض الحبشة كان قبل هجرة النبي - عليه السلام -، ثم هاجر إلى المدينة وشهد مع النبي - عليه السلام - بدرًا، فقصة التسليم كانت قبل الهجرة. قلت: ذكر أبو عمر في "التمهيد" أن الصحيح في حديث ابن مسعود أنه لم يكن إلا بالمدينة، وبها نهي عن الكلام في الصلاة، وقد روى حديث ابن مسعود بما يوفق حديث زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وهو حديث صحيح صريح في أن تحريم الكلام كان بالمدينة؛ لأن صحبة زيد - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، ثم ذكر حديث ابن مسعود من جهة شعبة، ولم يقل: إنه كان حين انصرافه من الحبشة، ثم ذكره من وجه آخر بمعنى حديث زيد سواء، ولفظه: "إن الله حدث أن لا تكلموا إلا بذكر الله، وأن تقوموا لله قانتين .... " ثم ذكر حديثًا، ثم قال: ففيه وفي حديث ابن مسعود دليل على أن المنع من الكلام كان بعد إباحته. فإن قيل: حديث ابن مسعود في سنده عاصم بن بهدلة، قال البيهقي في كتاب "المعرفة": صاحبا الصحيح توقيا روايته لسوء حفظه. وقال أبو عمر في "التمهيد": من ذكر في حديث ابن مسعود: "إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"، وقد وهم ولم يقل ذلك غير عاصم وهو عندهم سيء الحفظ كثير الخطأ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238].

قلت: الحديث رواه ابن حبان في "صحيحه" والنسائي في "سننه" وقال: البيهقي ورواه جماعة من الأئمة عن عاصم بن أبي النجود، وتداوله الفقهاء إلا أن صاحبي الصحيح يتوقيان روايته لسوء حفظه، فأخرجا من طريق آخر ببعض معناه. وقال أبو عمر: وقد روي حديث ابن مسعود بما يوافق حديث زيد بن أرقم كما ذكرناه، وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال، ثم إن حديث عاصم ليس فيه فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى مكة بل يحتمل أن يريد فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى المدينة ليتفق حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم، وقد ذكر ابن الجوزي أن ابن مسعود لما عاد من الحبشة إلى مكة رجع في الهجرة الثانية إلى النجاشي، ثم قدم على رسول الله - عليه السلام - بالمدينة وهو يتجهز لبدر، وذكر البيهقي فيما بعد في هذا الباب من كلام الحميدي: أن إتيان ابن مسعود - رضي الله عنه - من الحبشة كان قبل بدر، وظاهر هذا يؤيد ما قلنا، وكذا قول صاحب "الكمال" وغيره: هاجر ابن مسعود إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ولهذا قال الخطابي: إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة. وهذا يدل على اتفاق حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم على أن التحريم كان بالمدينة كما تقدم من كلام صاحب "التمهيد". وقد أخرج النسائي في "سننه" (¬1): من حديث ابن مسعود قال: "كنت آتي النبي - عليه السلام - وهو يصلي فأسلم عليه، فيرد علي، فأتيته فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما سلم أشار إلى القوم، فقال: "إن الله -عز وجل- حدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين". فظاهر قوله: "وأن تقوموا لله قانتين" يدل على أن ذلك كان بالمدينة بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬2) موافقًا لحديث زيد بن أرقم، فظهر بهذا كله أن قصة التسليم كانت بعد الهجرة بخلاف ما ذكره البيهقي، ثم إنه استدل على ما ذكره بحديث أخرجه عن ابن مسعود قال: "بعثنا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 18 رقم 1220). (¬2) سورة البقرة، آية: [238].

رسول الله - عليه السلام - إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلًا -وفي آخره قال:- فجاء ابن مسعود فبادر، وشهد بدرًا". قلت: ليس فيه أنه جاء إلى مكة كما زعمه، بل ظاهره أنه جاء من الحبشة إلى المدينة؛ لأنه جعل مجيئه وشهوده هذا عقيب هجرته إلى الحبشة بلا تراخ، ثم خرج عن موسى بن عقبة أنه قال: وممن يذكر أنه قدم على النبي - عليه السلام - بمكة من مهاجرة أرض الحبشة الأولى، ثم هاجر إلى المدينة فذكرهم، وذكر فيهم ابن مسعود، قال: وكان ممن شهد بدرًا مع رسول الله - عليه السلام -، وهكذا ذكره سائر أهل المغازي بلا خلاف. قلت: أما قول ابن عقبة: "قدم على النبي - عليه السلام - بمكة من مهاجرة الحبشة" أراد به الهجرة الأولى؛ فإنه - عليه السلام - كان بمكة حينئذ ولم يرد هجرة ابن مسعود الثانية فإنه - عليه السلام - لم يكن بمكة حينئذ بل بالمدينة، فلم يرد ابن عقبه بقوله: "ثم هاجر إلى المدينة" أنه هاجر إليها من مكة بل من الحبشة في المرة الثانية. وأما قول البيهقي: وهكذا ذكره سائر أهل أهل المغازي، إن أراد به شهود ابن مسعود بدرًا فهو مسلَّم، ولكن لا يثبت به مدعاه أولًا، وإن أراد به ما فهمه من كلام ابن عقبة أن رجوعه في المرة الثانية كان إلى مكة، وأنه هاجر منها إلى المدينة ليستدل بذلك على أن تحريم الكلام كان بمكة، يقال له: كلام ابن عقبة يدل على خلاف ذلك كما قررناه، ولئن أراد ابن عقبة ذلك فليس هو مما اتفق عليه أهل المغازي كما تقدم عن ابن الجوزي وغيره. فإن قيل: فقد ذكر في كتاب "المعرفة" عن الشافعي أن في حديث ابن مسعود أنه مر على النبي - عليه السلام - بمكة، قال: فوجدته يصلي في فناء الكعبة ... " الحديث. قلت: لم يذكر ذلك أحد من أهل الحديث غير الشافعي، ولم يذكر سنده لينظر فيه، ولم يجد له البيهقي سندًا مع كثرة تتبعه وانتصاره لمذهب الشافعي، وذكر الطحاوي في "أحكام القرآن": أن مهاجرة الحبشة لم يرجعوا إلا إلى المدينة، وأنكر

رجوعهم إلى دار قد هاجروا منها؛ لأنهم منعوا من ذلك، واستدل على ذلك بقوله - عليه السلام - في حديث سعد: "ولا تردوهم على أعقابهم" ثم ذكر البيهقي عن الحميدي أنه حمل حديث ابن مسعود على العمد، وإن كان ظاهره يتناول العمد والنسيان، واستدل على ذلك فقال كان إتيان ابن مسعود من أرض الحبشة قبل بدر، ثم شهد بدرًا بعد هذا القول، فلما وجدنا إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - والنبي - عليه السلام - بخيبر قبل وفاته بثلاث سنين، وقد حضر صلاة رسول الله - عليه السلام - وقول ذي اليدين، ووجدنا عمران بن حصين شهد صلاة رسول الله - عليه السلام - مرة أخرى وقول الخرباق، وكان إسلام عمران بعد بدر، ووجدنا معاوية بن حديج حضر صلاة رسول الله - عليه السلام -، وقول طلحة بن عبيد الله: "وكان إسلام معاوية قبل وفاة النبي - عليه السلام - بشهرين" ووجدنا ابن عباس يصوب ابن الزبير في ذلك ويذكر أنها سنة رسول الله - عليه السلام - وكان ابن عباس ابن عشر سنين حين قبض النبي - عليه السلام -، ووجدنا ابن عمر - رضي الله عنهما - روى ذلك، وكان إجازة النبي - عليه السلام - ابن عمر يوم الخندق بعد بدر، علمنا أن حديث ابن مسعود خُصَّ به العمد دون النسيان، ولو كان ذاك الحديث في النسيان والعمد يومئذ، لكانت صلاة رسول الله - عليه السلام - ناسخة له لا بعده. قلت: ليس للحميدي دليل على أن ابن مسعود شهد بدرًا بعد هذا القول، وعلى تقدير صحة ذلك نقول: هذا القول كان بالمدينة قبل بدر، وقضية ذي اليدين أيضًا كانت قبل بدر، لكن قضية ذي اليدين كانت متقدمة على حديث ابن مسعود وابن أرقم، فنسخت بههما، يدل على ذلك ما رواه البيهقي في آخر باب. "من قال يسجدهما قبل السلام في الزيادة والنقصان" بإسناد جيد: من حديث معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة وأبي بكر بن سليمان، عن أبي هريرة، فذكر صلاة النبي - عليه السلام - وسهوه، ثم قال الزهري: وكان ذلك قبل بدر، ثم استحكمت الأمور بعد فهذا يدل على أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة؛ لتأخر إسلامه عن هذا الوقت، وأيضًا فإن ذا اليدين قتل ببدر وأما عمران بن حصين - رضي الله عنه - فليس في شيء من كتب الحديث التي في أيدي الناس أنه حضر تلك الصلاة،

ولم يذكر البيهقي ذلك مع كثرة سوقه للطرق، بل في كتاب النسائي، عن عمران: إنه - عليه السلام - صلى بهم وسهى، فسجد ثم سلم وكذا في "صحيح مسلم" وغيره بمعناه، والأظهر أن ذلك مختصر من حديث ذي اليدين، فظاهر قوله: "صلى بهم" أنه لم يحضر تلك الصلاة. وأما حديث معاوية بن حديج ففي إسناده سويد بن قيس المصري التجيبي قال: الذهبي في كتابه "الميزان" و"الضعفاء": مجهول تفرد عنه يزيد بن أبي حبيب. وفي حديث معاوية هذا مخالفة لحديث ذي اليدين من وجوه تظهر لمن ينظر فيه، وفيه: "أنه - عليه السلام - أمر بلالًا فأقام الصلاة، ثم أتم تلك الركعة" وأجمعوا على العمل بخلاف ذلك، وقالوا: إن فعل الإقامة ونحوها يقطع الصلاة، وأما تصويب ابن عباس لابن الزبير - رضي الله عنهم - في ذلك فقد ذكره البيهقي من طريقين في أحدهما حماد بن سلمة عن عسل بن سفيان، وقال: في باب: "من مرَّ بحائط إنسان": ليس بالقوي، وعِسْل ضعفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وغيرهم. وفي الطريق الثاني: الحارث بن عبيد أبو قدامة، قال النسائي: ليس بالقوي. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وعنه قال: لا أعرفه. وقال البيهقي في باب: "سجود القرآن إحدى عشرة" ضعفه ابن معين. فأما قوله: "وكان ابن عباس ابن عشر سنين حين قبض النبي - عليه السلام -" فكأنه أراد بذلك استبعاد قول من يقول: إن قضية ذي اليدين كانت قبل بدر؛ لأن ظاهر قول ابن عباس ما أماط سنة نبيه - عليه السلام - يدل على أنه شهد تلك القضية، وقبل بدر لم يكن ابن عباس من أهل التمييز وتحمل الرواية لصغره جدًّا ونحن بعد تسليم دلالته على أنه شهد القضية نمنع كون سنه كذلك، بل قد روى عنه أنه قال: توفي النبي - عليه السلام - وأنا ابن خمس عشرة سنة، وصوب أحمد بن حنبل هذا القول، ويدل عليه ما روي في الصحيح عن ابن عباس أنه قال في حجة الوداع، وكنت يومئذ قد ناهزت الحلم، ولا يلزم من رواية ابن عمر ذلك وإجازته بعد بدر أن لا تكون القضية قبل بدر؛ لأنه كان عند ذلك من أهل التحمل.

وقوله: "علمنا أن حديث ابن مسعود خصّ به العمد دون النسيان" قلنا: لم يكن الكلام الذي صدر من ذي اليدين سهوًا، وكذا من النبي - عليه السلام - وأصحابه؛ لأن ذا اليدين لما قال: "بلى قد كان بعض ذلك" علم - عليه السلام - أن النسيان قد وقع فابتدأ عامدًا فسأل الناس فأجابوه أيضًا عامدين؛ لأنهم علموا أنها لم تقصر وأن النسيان قد وقع. ثم خرّج البيهقي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: كان إسلام معاوية بن الحكم في آخر الأمر، ثم قال: فلم يأمره النبي - عليه السلام - النبي - عليه السلام - بإعادة الصلاة، فمن تكلم في صلاته ساهيًا أو جاهلًا مضت صلاته. والجواب أن الوليد بن مسلم مدلس ولم يصرح ها هنا بالسماع من الأوزاعي، وكان معاوية جاهلًا بتحريم الكلام. ثم قال البيهقي: الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نضلة حليف لبني زهرة من خزاعة، وأما ذو اليدين الذي أخبر النبي - عليه السلام - بسهوه فإنه بقي بعد النبي - عليه السلام - كذا ذكره شيخنا أبو عبد الله، فقد ذكرنا الجواب عن هذا الفصل مستوفى فيما مضى. ص: ومما يدل على ذلك أيضًا: أن ربيعًا المؤذن حدثنا، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن سويد بن قيس أخبره، عن معاوية بن خديج: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى يومًا وانصرف، وقد بقيت من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: بقيت من الصلاة ركعة، فرجع إلى المسجد فأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أتعرف الرجل؟ فقلت: لا إلا أن أراه، فمر بي فقلت: هو هذا؛ فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله". ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - أمر بلالًا فأذن وأقام الصلاة، ثم صلى ما كان ترك من صلاته، ولم يكن أمره بلالًا بالأذان والإقامة قاطعًا لصلاته، ولم يكن أيضًا ما كان من بلال من أذانه وإقامته قاطعًا لصلاته، وقد أجمعوا أن فاعلًا لو فعل هذا الآن وهو في الصلاة كان به قاطعًا للصلاة؛ فدل ذلك أن جميع ما كان من رسول الله - عليه السلام - في صلاته في حديث معاوية بن خديج هذا، وفي حديث ابن عمر

وعمران وأبي هريرة - رضي الله عنهم - كان والكلام مباح في الصلاة، ثم نسخ الكلام فيها، فعلَّم رسول الله - عليه السلام - الناس بعد ذلك ما ذكره عنه معاوية بن الحكم وأبو هريرة وسهل بن سعد - رضي الله عنهم -. ش: أي ومن الذي يدل على أن كلام ذي اليدين لرسول الله - عليه السلام - بما كلمه به في حديث عمران بن حصين وعبد الله بن عمر وأبي هريرة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. بيان ذلك: أنه - عليه السلام - أمر بلالًا بالآذان والإقامة للصلاة في حديث معاوية بن خديج، فأذن وأقام، ثم صلى رسول الله - عليه السلام - ما تركه من صلاته، فلم يكن أمره بذلك قاطعًا لصلاته، ولا ما كان من بلال من الأذان والإقامة قاطعًا لصلاته فدل ذلك على أن جميع ما كان من النبي - عليه السلام - في أحاديث هؤلاء قد كان والحال أن الكلام مباح في الصلاة، ثم نسخ الكلام في الصلاة فعلم رسول الله - عليه السلام - الناس بعد هذا الأمر أنهم إذا نزل بهم أمر من النوائب يقولون: سبحان الله، على ما ذكره في حديث معاوية بن الحكم وأبي هريرة وسهل بن سعد - رضي الله عنهم -، ثم إن الأمة قد أجمعت على أن السنة أن الإِمام إذا نابه شيء في صلاته أن يسبح به القوم، ولم يسبح ذو اليدين برسول الله - عليه السلام -، ولا أنكره - عليه السلام - عليه، فدل على أن ما أمر به - عليه السلام - من التسبيح للنائبة في الصلاة متأخر عما كان من حديث ذي اليدين، والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث معاوية بن حديج، عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري -كل هؤلاء ثقات- عن سويد بن قيس التجيبي المصري -فيه مقال وقد ذكرناه عن قريب- عن معاوية بن حُديج -بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم- قيل: لا صحبة له، والأصح أن له صحبة والله أعلم.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره، عن معاوية بن حديج: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى يومًا فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة؛ فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا لي: أتعرف الرجل؟ قلت: لا إلا أن أراه، فمر بي، فقلت: هذا هو؛ فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله. وأخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي متنًا. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬3): ولفظه: "صليت مع النبي - عليه السلام - المغرب، فسلم في ركعتين، ثم انصرف، فقال له رجل -يعني طلحة بن عبيد الله- إنك سهوت فسلمت في ركعتين، فأمر بلالًا فأقام الصلاة، ثم أتم تلك الركعة". قال الحكم: صحيح الإسناد، وقال أبو سعيد بن يونس: هذا أصح حديث معاوية بن حُديج. قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث معاوية بن حديج. فإن قيل: الأخبار التي وردت من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر ومعاوية بن حُديج هل هي قضية واحدة أو قضيتان أو أكثر؟. قلت: الذي يظهر من كلام البخاري أن حديث أبي هريرة وعمران واحد؛ لقوله في إثر حديث أبي هريرة: فربما سألوه -يعني محمد بن سيرين- ثم سلم؟! قال: نبئت أن عمران قال: "ثم سلم" والذي يقوله ابن حبان إنه غيره، قال: لأن في حديث أبي هريرة الذي أعلم النبي - عليه السلام -: ذو اليدين، وفي خبر عمران الخرباق، وفي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 269 رقم 1023). (¬2) "المجتبى" (2/ 18 رقم 664). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 392 رقم 960).

خبر معاوية بن حديج طلحة بن عبيد الله، قال: وخبر الخرباق: "سلم في الركعة الثالثة" وخبر ذي اليدين: "من ركعتين" وخبر معاوية: "من الركعتين في صلاة المغرب" فدل أنها ثلاثة أحوال متباينة في ثلاث صلوات لا واحدة، فافهم. ص: ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد كان مع رسول الله - عليه السلام - في يوم ذي اليدين، ثم قد حدثت تلك الحادثة في صلاته من بعد رسول الله - عليه السلام - فعمل بخلاف ما كان عمل به رسول الله - عليه السلام - يومئذ. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود قال: سمعت عطاء يقول: "صلى عمر بن الخطاب - عليه السلام - صحابه فسلم في ركعتين، ثم انصرف فقيل له في ذلك؛ فقال: إني جهزت عيرًا من العراق بأحمالها وأحقابها حتى وردت المدينة، قال: فصلى بهم أربع ركعات". فدل ترك عمر - رضي الله عنه - لما قد كان علمه من فعل رسول الله في مثل هذا وعمله بخلافه على نسخ ذلك عنده، وعلى أن الحكم كان في تلك الحادثة في زمنه بخلاف ما كان في يوم ذي اليدين، وقد كان فعل عمر - رضي الله عنه - أيضًا بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - الذين قد حضر بعضهم فعل رسول الله - عليه السلام - يوم ذي اليدين في صلاته فلم ينكروا ذلك عليه ولم يقولوا له: إن رسول الله - عليه السلام - قد فعل يوم ذي اليدين خلاف ما فعلت، فدل ذلك أيضًا أنهم قد كانوا علموا من نسخ ذلك ما كان عمر - رضي الله عنه - علمه. ش: أي ومن الذي يدل على أن كلام ذي اليدين لرسول الله - عليه السلام - بما ذكر كان والكلام مباح، وأن حديثه منسوخ: أن عمر بن الخطاب عمل بعد رسول الله - عليه السلام - بخلاف ما قد كان - عليه السلام - عمله يوم ذي اليدين، والحال أنه كان فيمن حضر يوم ذي اليدين، فلولا ثبت عنده انتساخ ذلك لما عمل بخلاف ما عمل به النبي - عليه السلام -. وأيضًا فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد كان فعل هذا بحضرة الصحابة، وفيهم من قد كان حاضرًا يوم ذي اليدين، فلم ينكروا ذلك عليه، ولم يقولوا: عملت

بخلاف ما عمل به النبي - عليه السلام - يومئذ، فدل ذلك أنهم علموا أيضًا ما قد علمه عمر - رضي الله عنه - من النسخ، فصار ذلك منهم إجماعًا. وأخرج الأثر الذي دل على ذلك، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عثمان بن الأسود بن موسى روى له الجماعة، عن عطاء بن أبي رباح ... إلى آخره. وهذا مرسل. قوله: "عيرًا" بكسر العين وسكون الياء آخر الحروف: الإبل بأحمالها من: يعير، إذا سار، وقيل: هي قافلة الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة، كأنها جمع عير -بفتح العين- وكان قياسها أن تكون فُعْلًا -بالضم- كسُقُف في سَقْف، إلا أنه حوفظ على الياء بالكسرة نحو: عِين. قوله: "وأحقابها" الأحقاب: جمع حَقَب -بفتحتين- وهو الحبل الذي يشدّ على حقو البعير. ص: ومما يدل على أن ذلك منسوخ، وأن العمل على خلافه: أن الأمة قد أجمعت أن رجلًا لو ترك إمامه من صلاته شيئًا أنه يسبح به ليعلم إمامه ما قد ترك فيأتي به وذو اليدين لم يسبح برسول الله - عليه السلام - يومئذ، ولا أنكر رسول الله - عليه السلام - كلامه إياه، فدل ذلك أن ما علم رسول الله - عليه السلام - الناس من التسبيح لنائبة تنوبهم في صلاتههم كان متأخرًا عن ذلك. ش: أي: ومن الذي يدل على أن ما كان من أمر ذي اليدين منسوخ وأن العمل بعده كان على خلافه: أن أمة النبي - عليه السلام - قد أجمعوا ... إلى آخره، وهو ظاهر، وقد ذكرنا نحوًا من ذلك فيما مضى. قوله: "فدل ذلك أن ما علَّم" بتشديد اللام من التعليم. قوله: "لنائبة تنوبهم" أي: لحادثة تنزل بهم.

ص: وفي حديث أبي هريرة أيضًا وعمران ما يدل على النسخ، وذلك أن أبا هريرة قال: "سلم رسول الله - عليه السلام - في ركعتين، ثم انصرف إلى خشبة في المسجد" وقال عمران: "ثم مضى إلى حجرته". فدل ذلك أنه قد كان صرف وجهه عن القبلة وعمل عملًا في الصلاة ليس منها من المشي وغيره، أفيجوز هذا لأحد اليوم أن يصيبه ذلك وقد بقيت عليه من صلاته بقية فلا يخرجه ذلك من الصلاة؟!. ش: بيانه: أن في نفس حديث أبي هريرة وعمران بن حصين - رضي الله عنهما - ما يدل على ما ذكرنا من النسخ، وذلك لأن أبا هريرة قال في حديثه: "سلم رسول الله - عليه السلام - في ركعتين، ثم انصرف من صلاته إلى خشبة كانت في المسجد"، وعمران بن حصين قال في حديثه: "ثم مضى إلى حجرته"، يعني ما سلم في ركعتين، ففي هذه الأشياء صرف الوجه عن القبلة والعمل فيها بما ليس من فعلها نحو: المشي والتوجه إلى موضع والكلام، فهذه الأشياء مما تقطع الصلاة اليوم. أشار إليه بقوله: "أفيجوز هذا لأحد" والهمزة فيه للاستفهام، فدل ذلك كله على انتساخ حديث ذي اليدين. قوله: "وقد بقيت" الواو للحال. قوله: "فلا يخرجه" عطف على قوله: "أفيجوز" فافهم. ص: فإن قال قائل: نعم لا يخرجه ذلك من الصلاة؛ لأنه فعله ولا يرى أنه في الصلاة. قيل له: لزمه أن يقول: لو طعم أيضًا أو شرب وهذه حالته لم يخرجه ذلك من الصلاة، وكذلك إن باع أو اشترى أو جامع أهله، فكفى بقوله فسادًا أن يلزم هذا قائله، فإن كان شيء مما ذكرنا يخرج الرجل من صلاته إن فعله على أنه يرى أنه ليس فيها، كذلك الكلام الذي ليس فيها يخرجه من صلاته، وإن كان قد تكلم به وهو لا يرى أنه فيها.

ش: تقدير السؤال أن يقال: لا نسلم أن المصلي يخرج من صلاته بما ذكر في حديث ذي اليدين؛ لأنه فعل ذلك والحال أنه لا يرى أن نفسه في الصلاة، وإنما كان يخرجه ذاك أن لو رأى أنه في الصلاة. وتقرير الجواب أن يقال: إذا التزمت ذلك لزمك أن تقول: لو طعم -بكسر العين- أي: كل في الصلاة أو شرب، والحال: أنه لا يرى أنه في الصلاة أن ذلك لا يخرجه من الصلاة، وكذلك لو باع أو اشترى، أو جامع امرأته، والحال: أنه لا يرى أنه في الصلاة، كان لزمك أيضًا أن تقول: إن هذه الأشياء لا تخرجه من الصلاة، فكفى بذلك فسادًا. قوله: "فإن كان شيء ... إلى آخره" مقدمه يترتب عليها صحة ما ادعينا من انتساخ حديث ذي اليدين، بيان ذلك: أن شيئًا مما ذكرنا من الأكل في الصلاة أو الشرب أو البيع أو الشراء أو الجماع فيها إن كان يخرج الرجل من صلاته وإن كان يرى هو أنه ليس في الصلاة، فالقياس على هذا يقتضي أن يكون الكلام الذي ليس من أعمال الصلاة يخرجه من الصلاة، وإن كان قد تكلم به، والحال أنه لا يرى أنه في الصلاة، فالخصم بالضرورة يلتزم صحة المقدمة المذكورة فعليه يلزمه صحة ما يترتب عليها مما قد ذكرناه. ص: وقد زعم القائل بحديث ذي اليدين: أن خبر الواحد تقوم به الحجة، ويجب به العمل، فقد أخبر ذو اليدين رسول الله - عليه السلام - بما أخبره به، وهو رجل من أصحابه مأمون، فالتفت بعد إخباره إياه بذلك إلى أصحابه فقال: أقصرت الصلاة؟ فكان متكلمًا بذلك بعد علمه بأنه في الصلاة على مذهب هذا المخالف لنا، فلم يكن ذلك مخرجًا له من الصلاة، فقد لزمه بهذا على أصله أن ذلك الكلام كان قبل نسخ الكلام في الصلاة. ش: القائل بحديث ذي اليدين هو ربيعة ومالك والشافعي وأحمد، وقال القاضي عياض: المشهور عن مالك وأصحابه الأخذ بحديث ذي اليدين، فإذا كان معمولًا به فلا يكون منسوخًا، وإن كان كلام النبي - عليه السلام - كان على يقين

أنه أتم الصلاة، وكلام ذي اليدين على ظن أنه قصر الصلاة، وكلام القوم كان لوجوب إجابة النبي - عليه السلام - أو على تأويل ذي اليدين، أو لعلهم لم يسمعوا جواب النبي - عليه السلام - له، وعلى كل حال لم يكن كدام كل منهم قاطعًا للصلاة انتهى. ثم اعلم أن مذهب فقهاء الأمصار أن خبر الواحد تقوم به الحجة ويجب به العمل في أمور الدين، ولكن لا يثبت علم اليقن، وعند بعض أهل الحديث يثبت بخبر الواحد علم اليقين، ثم منهم من اعتبر فيه عدد الشهادة ليكون حجة، ومنهم من اعتبر أقصى عدد الشهادة وهو أربعة، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال القائل بخبر ذي اليدين: إن خبر الواحد تقوم به الحجة ويجب به الحمل، فقال الطحاوي -رحمه الله- في جواب هذا: فقد أخبر ذو اليدين رسول الله - عليه السلام - بما أخبره به أي بالذي أخبر رسول الله - عليه السلام - به "وهو رجل" أي: والحال أنه رجل "من أصحابه مأمون"، "فالتفت" أي: النبي - عليه السلام - "بعد إخباره إياه" أي: بعد إخبار ذي اليدين "إياه" أي: النبي - عليه السلام - "بذلك"، وقوله "إلى أصحابه" يتعلق بقوله: "فالتفت" فقال ذو اليدين للنبي - عليه السلام -: "أقصرت الصلاة؟ فكان متكلمًا بذلك" أي: بقوله: "أقصرت الصلاة" بعد علمه بأنه في الصلاة، على مذهب هذا المخالف" وهو القائل بحديث ذي اليدين "فلم يكن ذلك" أي: قوله: "أقصرت الصلاة" مخرجًا له من الصلاة، فقد لزمه أي: إذا كان الأمر كذلك فقد لزم هذا المخالف بهذا أي: بالذي ذكرناه على أصله: أن ذلك الكلام كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، وأنه كان حين كان الكلام مباحًا. ص: وحجة أخرى: أن رسول - عليه السلام - لما أقبل على الناس فقال: "أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم" وقد كان يمكنهم أن يومئوا إليه بذلك، فيعلمه منهم، فقد كلموه بما كلموه به مع علمهم أنهم في الصلاة، فلم ينكر ذلك عليهم، ولم يأمرهم بالإعادة، فدل ذلك أن ما ذكرنا مما في حديث ذي اليدين كان قبل نسخ الكلام. ش: أشار به إلى جواب آخر عما قاله القائل بحديث ذي اليدين، بيانه: أنه - عليه السلام - لما أقبل على الناس بعد أن قال له ذو اليدين ما قاله، فقال: "أصدق ذو اليدين؟

فقالوا: نعم". فتكلموا صريحًا، "وقد كان يمكنهم أن يومئوا" أي: أن يشيروا برأسهم "إليه" أي: إلى النبي - عليه السلام - "فيعلمه منهم" أي: فيعلم النبي - عليه السلام - ما سأله "منهم" أي: من الصحابة، ومع هذا هم كلموا النبي - عليه السلام - بالذي كلموه به مع علمهم أنهم في الصلاة ولم يخرجوا منها بعد، "فلم ينكر" النبي - عليه السلام - "ذلك" أي: كلامهم بقولهم: "نعم"، ولم يأمرهم بإعادة صلاتهم، فدل ذلك كله أن ما ذكر في حديث ذي اليدين كان حين كان الكلام مباحًا، وأن الكلام ما حرم فيها إلا بعده، فحينئذ يكون حديث ذي اليدين منسوخًا. ص: فإن قال قائل: فكيف يجوز أن يكون هلما قبل نسخ الكلام في الصلاة وأبو هريرة - رضي الله عنه - قد كان حاضرًا ذلك، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - عليه السلام - بثلاث سنين؟ وذُكِر في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: أتينا أبا هريرة فقلنا: حدثنا! فقال: "صحبت النبي - عليه السلام - ثلاث سنين" قالوا: فأبو هريرة إنما صحب رسول الله - عليه السلام - ثلاث سنين، وهو حضر تلك الصلاة، ونسخ الكلام في الصلاة كان والنبي - عليه السلام - بمكة، فدل ذلك على أن ما كان في حديث ذي اليدين من الكلام في الصلاة مما لم ينسخ بنسخ الكلام في الصلاة إذ كان متأخرًا، عن ذلك. قيل له: أما ما ذكرت من وقت إسلام أبي هريرة فهو كما ذكرت، وأما قولك: إن نسخ الكلام في الصلاة كان والنبي - عليه السلام - يومئذ بمكة فمن روى لك هذا وأنت لا تحتج إلا بمسند ولا تسوغ خصمك الحجة عليك إلا بمثله؟ فمن أسند لك هذا وعن من رويته؟ وهذا زيد بن أرقم الأنصاري - رضي الله عنه - يقول: "إنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأمرنا بالسكوت، وقد روينا عنه في غير هذا الموضع من كتابنا، هذا وصحبة زيد لرسول الله - عليه السلام - إنما كانت بالمدينة، فقد ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238].

ثبت بحديثه هذا أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد قدوم رسول الله - عليه السلام - من مكة، مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - عليه السلام - أصلًا؛ لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - عليه السلام - وهو أحد الشهداء؛ قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره وقد روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ما يوافق ذلك. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا الليث بن سعد، قال: حدثني عبد الله بن وهب، عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه ذكر له حديث ذي اليدين، فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين". وإنما قول أبي هريرة عندنا: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -" يعني: بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة، وقد روي مثل هذا عن النزال بن سبرة: حدثنا فهد وأبو زرعة الدمشقي، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا وإياكم كنا ندعى بنو عبد مناف، وأنتم اليوم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله يعني لقوم النزال" فهذا النزال يقول: "قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وهو لم ير رسول الله - عليه السلام - يريد بذلك: قال لقومه، وقد روي عن طاوس أنه قال: قدم علينا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فلم يأخذ من الخضروات شيئًا، وطاوس لم يدرك ذلك؛ لأن معاذًا - رضي الله عنه - إنما قدم اليمن في عهد رسول الله - عليه السلام - ولم يولد طاوس حينئذ، فكان معني قوله: "قدم علينا" أي: قدم بلدنا. وروي عن الحسن أنه قال: خطبنا عتبة بن غزوان" يريد خطبته بالبصرة والحسن لم يكن بالبصرة حينئذ؛ لأن قدومه لها إنما كان قبل صفين بعام. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن أبي رجاء قال: "قلت للحسن: متى قدمت البصرة؟ قال: قبل صفين بعامٍ، فكان معنى قول النزال: "قال لنا رسول الله - عليه السلام -" ومعنى قول طاوس: "قدم علينا معاذ" ومعنى قول الحسن: "خطبنا عتبة بن غزوان" إنما يريدون بذلك قومهم وبلدتهم لا أنهم حضروا ذلك ولا شهدوه، فكذلك قول أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث

ذي اليدين: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -" إنما يريد صلى بالمسلمين لا على أنه شهد ذلك ولا حضره، فانتفى بما ذكرنا أن يكون في قوله: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -" في حديث ذي اليدين ما يدل على أن ما كان من ذلك، بعد نسخ الكلام في الصلاة. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقولون: إن ما كان من أمر ذي اليدين إنما كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، والحال أن أبا هريرة قد كان حاضرًا قضية ذي اليدين، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - عليه السلام - بثلاث سنين؟ وذكروا في ذلك ما أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي، عن قيس بن أبي حازم حصين البجلي الكوفي. قوله: "قالوا: فأبو هريرة" أي قال أولئك القوم الذين ذهبوا إلى أن حديث ذي اليدين غير منسوخ: فأبو هريرة إنما صحب النبي - عليه السلام - ثلاث سنين وقد حضر تلك الصلاة؛ لأنه قال في حديثه: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -" ونسخ الكلام في الصلاة كان والحال أن النبي - عليه السلام - كان بمكة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقدثبت أن ما كان من أمر ذي اليدين في الصلاة مما لم ينسخ بنسخ الكلام في الصلاة؛ إذ كان متأخرًا، أي: لأنه كان متأخرًا عن ذلك، أي: عن نسخ الكلام. وتقرير الجواب مشتمل على ثلاثة أشياء: الأول: أن ما ذكرتم من وقت إسلام أبي هريرة مسلم لا نزل لنا فيه. الثاني: أن دعوى نسخ الكلام في الصلاة وقت كون النبي - عليه السلام - بمكة ممنوع غير مسلّم، وأيّ دليل يدل عليه، ومثل هذا لا يثبت إلا بسند صحيح؟ فمن أين الإسناد في هذا وعمن روي حتى ننظر فيهم؟ فهل هذا إلا مجرد دعوى بلا برهان؟ ثم كد الطحاوي بطلان دعواهم وصحة دعوى من يدعي أن نسخ الكلام كان والنبي - عليه السلام - بالمدينة بما رواه في باب: "الصلاة الوسطى" عن علي بن شيبة، عن يزيد بن

هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأمرنا بالسكوت" وكانت صحبة زيد بن أرقم الأنصاري - رضي الله عنه - لرسول الله - عليه السلام - بالمدينة بلا خلاف، فثبت بحديثه: أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد قدوم النبي - عليه السلام - من مكة. الثالث: أن أبا هريرة لم يكن حاضرًا قضية ذي اليدين، أشار إليه بقوله: "مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - عليه السلام - أصلًا" ثم برهن عليه بقوله: "لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - عليه السلام - وهو معدود في جملة شهداء بدر، قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق بن يسار المدني صاحب "المغازي" حيث قال في تسمية من حضر غزوة بدر: فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة بن غبشان بن سليم بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، حليف لبني زهرة، قتل يومئذ شهيدًا. وقال ابن هشام: اسمه عمير، وإنما قيل له ذو الشمالين؛ لأنه كان أعسر. وقد بينا فيما مضى أن ذا الشمالين هو ذو اليدين، وأن كليهما لقبان عليه، ولهذا كان الزهري يقول: إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر، حكاه معمر وغيره عن الزهري، قال الزهري: "ثم استحكمت الأمور بعد". قوله: "وغيره" أي: وغير محمد بن إسحاق مثل أبي معشر، قال ابن عبد البر: قال أبو معشر: إن ذا اليدين قتل يوم بدر. قوله: "وقد روي عن عبد الله بن عمر ب ... إلى آخره" تأكيد لصحة ما ذكره من عدم حضور أبي هريرة قضية ذي اليدين؛ لأن ابن عمر ب قال: "كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين" فبالضرورة لم يكن أبو هريرة حاضرًا قضيته. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [238].

أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وذكره ابن عبد البر في التمهيد (¬1): من حديث عبد الله بن وهب، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر: "أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين". فبطل بهذا قول من قال: إن ذا اليدين تأخر إلى زمن معاوية وروى عنه المتأخرون، وثبت أن أبا هريرة قد كان أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل: "من أدرك الفجر جنبًا فلا صوم له" وكان كثير الإرسال. قوله: "وإنما قول أيضًا هريرة ... إلى آخره" جواب عما يقال: كيف تقولون: إن قضية ذي اليدين كانت قبل بدر، وأن موت ذي اليدين كان قبل إسلام أبي هريرة، وأن أبا هريرة لم يحضر صلاته ولا شهدها، وأبو هريرة يقول: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام -" فهذا إخبار عن نفسه أنه كان حاضرًا تلك الصلاة مع النبي - عليه السلام -، وتقرير الجواب أن يقال: إن كلام أبي هريرة ليس على حقيقته، وإنما معنى قوله: "صلى بنا" صلى بالمسلمين، ومثل هذا سائغ زائغ في اللغة، شائع بين الناس، وذلك كما في قول النزال بن سبرة قال: "قال رسول الله - عليه السلام - إنا وإياكم ... " الحديث أراد به: قال لقومنا؛ لأن النزال بن سبرة الهلالي العامري الكوفي من كبار التابعين، والأصح أنه لم ير النبي - عليه السلام -، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، من كبار التابعين، وروايته عن النبي - عليه السلام - مرسلة، روى له الجماعة سوى مسلم، الترمذي في "الشمائل". وقد أخرج حديثه الطحاوي عن فهد بن سليمان وأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام، كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين الملائي الكوفي الأحول شيخ البخاري، عن مسعر بن كدام الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي الكوفي الزراد روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 352).

وكذلك روى عن طاوس بن كيسان اليماني أنه قال: "قدم علينا معاذ بن جبل فلم يأخذ من الخضروات شيئًا" أراد به: قدم بلدتنا؛ لأن طاوسًا لم يدرك معاذًا، لأن معاذًا توفي سنة ثماني عشر في طاعون عمواس بناحية الأردن، وقبره بغور بيسان في شرقيه، وكان عمره حين مات ثمانيًا وثلاثين سنة، ومولد طاوس بعد ذلك بزمان كثير؛ لأن وفاته سنة إحدى ومائة، وقيل: سنة ست ومائة بمكة، وكان عمره بضعًا وسبعين سنة. وأخرجه الطحاوي معلقًا، وكذلك روي عن الحسن البصري أنه قال: "خطبنا عتبة بن غزوان" وأراد به خطبته بالبصرة، والحسن لم يكن بالبصرة حينئذ؛ لأن قدومه إلى البصرة إنما كان قبل وقعة صفين بعام واحد. أخرج ذلك عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن شعبة بن الحجاج، عن أي رجاء عمران بن ملحان العطاردي، وكل هؤلاء أئمة أثبات. واعلم أن الحسن البصري ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - الممتل، واسم أبيه يسار، يقال: إنه من ميسان، وقع إلى المدينة فاشترته الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك فأعتقته، ونشأ الحسن بوادي القرى، وكان فصيحًا، رأى علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة، ولم يصح له سماع منهم، وحضر يوم الدار وله أربع عشرة سنة، وقال ابن حبان في كتاب "الثقات": احتلم الحسن سنة سبع وثلاثين، وخرج من المدينة ليالي صفين ولم يلق عليًّا - رضي الله عنه -، وقد أدرك بعض صفين، ورأى مائة وعشرين من أصحاب رسول الله - عليه السلام - وما شافه بدريًّا قط إلا عثمان بن عفان، وعثمان لم يشهد بدرًا، مات في شهر رجب سنة عشر ومائة، وقد ذكر أبو رجاء العطاردي، عن الحسن أنه قال: "قدمت البصرة قبل صفين بعام وكانت وقعة صفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة، ثم إن الحسن لقي عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - ولكن لم يحضر خطبته؛ لأن خطبته كانت بالبصرة قبل قدوم الحسن إليها؛ وذلك لأنه هو

الذي اختط البصرة، وأول من نزلها في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومات سنة سبع عشرة بطريق البصرة وهو ابن سبع وخمسين سنة، وقيل: مات بالربذة سنة خمس عشرة، وقيل: سنة أربع عشرة، وقيل: سنة عشرين، والله أعلم. وقال الترمذي (¬1): لا نعرف للحسن سماعًا من عتبة بن غزوان بن جابر المازني - رضي الله عنه -. ص: ومما يدل على نسخ الكلام في الصلاة، وأنه كان بالمدينة أيضًا: ما حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نرد السلام في الصلاة حتى نهينا عن ذلك". وأبو سعيد فلعله في السنن أيضًا دون زيد بن أرقم بدهر طويل، بل هو كذلك، فها هو ذا يخبر أنه قد كان أدرك إباحة الكلام في الصلاة. ش: أي: ومن الذي يدل على نسخ الكلام في الصلاة بعد حديث ذي اليدين، وأن نسخه كان بالمدينة: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن صالح، شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان المدني، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عنه. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمر بن الخطاب السجستاني، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: "أن رجلًا سلم على النبي - عليه السلام - وهو في الصلاة، فرد عليه النبي - عليه السلام - إشارة، فلما سلم قال له النبي - عليه السلام -: إنا كنا نرد السلام في صلاتنا، فنهينا عن ذلك". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 702 بعد رقم 2575).

قوله: "وأبو سعيد فلعله ... " إلى آخره، بيان ذلك: أن أبا سعيد الخدري أصغر من زيد بن أرقم؛ لأنه استصغر يوم أحدا وأول مشاهده الخندق، وزيد بن أرقم غزا مع رسول الله - عليه السلام - سبع عشرة غزوة، وأول مشاهده المريسيع، والله أعلم. وكانت غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة في شهر شوال، وكانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة في شوال أيضًا، وكانت غزوة المريسيع، في سنة ست، قاله محمد بن إسحاق، وعن الواقدي: أنها كانت في سنة خمس من الهجرة، وهي غزوة بني المصطلق، ويقال: كانت في سنة أربع، والله أعلم. فإذا كان كذلك يكون أبو سعيد الخدري أصغر من زبد بن أرقم في العمر بكثير، ومع هذا يخبر أنه قد كان أدرك إباحة الكلام في الصلاة، فدل ذلك أن الكلام كان مباحًا يوم ذي اليدين. ومما يستفاد من الحديث: عدم جواز رد السلام في الصلاة، حتى لو رد السلام وهو في الصلاة بطلت صلاته. وقال ابن قدامة في "المغني": إذا سُلِّم على المصلّي لم يكن له ردّ السلام بالكلام؛ فإن فعل بطلت صلاته، روي نحو ذلك عن أبي ذرّ عطاء والنخعي، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وكان سعيد بن المسيب والحسن وقتادة لا يرون به بأسًا، وروي عن أبي هريرة أنه أمر بذلك، وقال إسحاق: إن فعله متأولًا جازت صلاته. ثم قال: ويرد السلام بالإشارة، وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وإن رد عليه بعد فراغه من الصلاة فحسن، روي هذا عن عطاء والنخعي وداود. وفي "البدائع": ولا ينبغي للرجل أن يسلم على المصلي ولا للمصلي أن يرد عليه بإشارة ولا غير ذلك، ولو رد بالإشارة لا تفسد صلاته ولكنه يكره. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال:

ثنا عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: "كنا نتكلم في الصلاة، ونأمر بالحاجة، فقدمت على النبي - عليه السلام - من الحبشة وهو يصلي، فسلمت عليه فلم يرد علي، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته، قلت: يا رسول الله! نزل فيّ شيء؟ قال: لا، ولكن الله يحدث من أمره ما يشاء". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا سفيان عن عاصم ... فذكر بإسناده مثله، وزاد: "وإن مما أحدث: قضى أن لا تكلموا في الصلاة". فقد أخبر رسول الله - عليه السلام - أن الله -عز وجل- قد نسخ الكلام في لصلاة ولم يستثن من ذلك شيئًا، فدل ذلك على كل الكلام الذي كانوا يتكلمون في الصلاة، فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: أي: وقد روي فيما يدل على نسخ الكلام في الصلاة بعد حديث ذي اليدين، وأن نسخه كان بالمدينة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن حماد ابن سلمة، عن عاصم بن بهدلة المقرئ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله ابن مسعود. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، نا أبان، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي، فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - الصلاة قال: إن الله -عز وجل- يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، فرد علي السلام. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 243 رقم 924).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا. الثاني: عن المزني صاحب الشافعي وخال الطحاوي، عن الإِمام محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم بن بهدلة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2) بهذه الزيادة كما ذكرناه. فإن قلت: كيف قلت: من طريقين صحيحين وفيهما عاصم بن بهدلة، وقد قال البيهقي في "المعرفة" صاحبا الصحيح توقيا روايته لسوء حفظه. قلت: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3): وحكم عليه بصحته، ولما أخرجه أبو داود سكت عنه، فدل على صحته عنده، وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال. قوله: "فقدمت على النبي - عليه السلام - من الحبشة" وهو رجوعه من الحبشة إلى المدينة، قال ابن الجوزي: إن ابن مسعود لما عاد من الحبشة إلى مكة، رجع في الهجرة الثانية إلى النجاشي، ثم قدم على رسول الله - عليه السلام - بالمدينة وهو يتجهز لبدر. قوله: "ما قدُم وما حدُث" بضم الدال فيهما، قال ابن الأثير: يعني همومه وأفكاره القديمة والحديثة، يقال: حدث الشيء -بالفتح- يَحَدُثُ حُدُوثًا، فإذا قرن بـ"قَدُم" ضُمّ للازدواج بـ"قَدُم". قوله: "أن لا تكلموا" أصله: أن لا تتكلموا، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، كما في: {نَارًا تَلَظَّى} (¬4) أصله تتلظى. قوله: "فقد أخبر رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره" إشارة إلى أن حديث ابن مسعود هذا ناسخ لحديث ذي اليدين، وقد مر الكلام فيه مستقصى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 19 رقم 1221). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) "صحيح ابن حبان" (6/ 15 رقم 2243). (¬4) سورة الليل، آية: [14].

قوله: "فدل ذلك على كل الكلام" أراد به كلام الناسي والعامد والساهي والجاهل؛ فإن ذلك كله سواء في إفساد الصلاة. وقوله: - عليه السلام - "فلم يردّ عليّ" أعمّ من عدم الرد باللسان وبالإشارة، فدل أنه لا يرد السلام بالإشارة أيضًا. ومما يستنبط منه: أنه يرد بعد الفراغ من الصلاة، دل عليه رواية أبي داود. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا أشياء يدخل فيها العباد تمنعهم من أشياء. فمنها: الصلاة تمنعهم من الكلام والأفعال التي لا تفعل فيها. ومنها: الصيام يمنعهم من الجماع والطعام والشراب. ومنها: الحج والعمرة، تمنعانهم من الجماع والطيب واللباس. ومنها: الاعتكاف يمنعهم من الجماع والتصرف. فكان من جامع في صيامه أو أكل أو شرب ناسيًا مختلفًا في حكمه، فقوم يقولون: لا يخرجه ذلك من صيامه بتقليد آثار رووها، وقوم يقولون: قد أخرجه ذلك من صيامه. وكل من جامع في حجته أو عمرته أو اعتكافه متعمدًا أو ناسيًا فقد خرج بذلك مما كان فيه من ذلك، فكان ما يخرجه من هذه الأشياء إذا فعل ذلك متعمدًا فهو يخرجه منها إذا فعله غير متعمد. وكان الكلام في الصلاة يقطع الصلاة إذا كان على التعمد. لذلك فالنظر على ما ذكرنا من ذلك أن يكون أيضًا يقطعها إذا كان على السهو، ويكون حكم الكلام فيها على العمد والسهو سواء، كما كان حكم الجماع في الاعتكاف والحج والعمرة على العمد والسهو سواء، فهذا هو النظر أيضًا في هذا الباب، وقد وافق ما صححنا عليه معاني الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: ذكر في وجه هذا النظر والقياس أربعة أشياء إذا دخل فيها الرجل تمنعه عن أشياء: الأول: الصلاة: فإنها تمنع مَنْ يدخل فيها عن الكلام والأفعال التي تنافيها. الثاني: الصوم: فإنه يمنع مَنْ يدخل فيه عن المفطرات الثلاث وهي الأكل والشرب والجماع. الثالث: الحج والعمرة؛ فإنهما يمنعان من يدخل فيهما عن الجماع، واستعمال الطيب واللباس ونحوهما. الرابع: الاعتكاف: فإنه يمنع من يدخل فيه عن الجماع والتصرف، وقد استوى العمد والنسيان في الفصلين بلا خلاف وهما فصل الحج والاعتكاف، ووقع الخلاف في فصل الصوم، فقال: بعضهم ليس النسيان فيه كالعمد؛ فإنه إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيًا لا يفسد صومه، فلا يجب عليه القضاء والكفارة، أشار إليه بقوله: "فقوم يقولون: لا يخرجه ذلك من صيامه". وأراد بهم: الأوزاعي، والليث، والثوري، وأبا حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد في رواية؛ ومالكًا في رواية أيضًا، وبعض أهل الظاهر، فإنهم ذهبوا إلى أن من فعل شيئًا من هذه الأشياء ناسيًا لا يفسد صومه، وليس عليه شيء، قال القاضي عياض: إلا أن مالكًا قال: يلزمه القضاء لا غير، وهو مشهور مذهب مالك، وهو قول جميع أصحابه، وقول ربيعة وعطاء، وقال بعضهم: العمد والنسيان فيه سواء، حتى إنه إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيًا؛ فإنه يفسد صومه أشار إليه بقوله: "وقوم يقولون: قد أخرجه ذلك من صيامه" وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، ومالكًا في رواية، وأحمد في رواية، وبعض الظاهرية. وأما الصلاة فلم يختلفوا في أن من فعل فيها شيئًا مما هو مناف لها عمدًا -الكلام- فإنه يقطعها، فالنظر والقياس على الفصلين اللذين ليس فيهما خلاف في استواء العمدية والنسيانية، أن يكون حكم الصلاة كذلك في استواء العمدية والنسيانية. فإن قيل: لم لا يقاس على فصل الصوم؟ قلت: لأنه مختلف فيه، وما قيس عليه متفق عليه، وهو أجدر بذلك.

وأيضًا فإن في الصلاة حالة مذكرة، فقياسها على لما فيه حالة مذكرة، هو الصواب؛ فافهم. قوله: "بتقليد آثار رووها" يتعلق بقوله: "يقولون: لا يخرجه ذلك من صيامه" وأراد بالآثار: الأحاديث التي وردت في هذا الباب. منها: ما أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2): عن أبي هريرة: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". ومنها: ما أخرجه الترمذي (¬3) عنه: "من أكل أو شرب ناسيًا فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله". ومنها ما أخرجه أبو داود (¬4) عنه: "أن رجلًا جاء إلى النبي - عليه السلام -، فقال: يا رسول الله، أكلت وشربت ناسيًا وأنا صائم، فقال: الله أطعمك وسقاك". ص: فإن سأل سائل عن المعنى الذي يأمر رسول الله - عليه السلام - معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة لما تكلم فيها. قيل له: ذلك لأن الحجة لم تكن قد قامت عنده قبل ذلك بتحريم الكلام في الصلاة، فلم يأمره رسول - عليه السلام - بإعادة الصلاة، وقد يجوز أن يكون أمره النبي - عليه السلام - بإعادة الصلاة، ولكن لم ينقل ذلك في حديثه. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد سويتم في فساد الصلاة بالكلام بين ما إذا كان عامدًا أو ناسيًا وجاهلًا، وحكمتم بانتساخ حديث ذي اليدين، وأن ذلك كان بالمدينة، فلو كان الأمر كذلك لكان النبي - عليه السلام - أمر معاوية بن الحكم بإعادة صلاته لما تكلم فيها، حيث قال للعاطس: يرحمك الله، ومع هذا لم يأمره بذلك، فدل على ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 682 رقم 1831). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 809 رقم 1155). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 100 رقم 721). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 315 رقم 2398).

أن الكلام فيها جاهلًا لا يفسد صلاته، وما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، فدل ذلك على التفرقة بين الأحوال. وتقرير الجواب من وجهين: الأول: أن إسلام معاوية بن الحكم كان في آخر الأمر، وكان جاهلًا بتحريم الكلام الذي كان مباحًا في حديث ذي اليدين، فلذلك لم يأمره - عليه السلام - بإعادة الصلاة. الثاني: أنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - أمره بالإعادة، ولكنه لم ينقل ذلك في حديثه؛ لأن سكوت الحديث عنه لا ينفي أمره بالإعادة؛ فافهم. ص: وقد قال قوم: إن رسول الله - عليه السلام - لم يسجد يوم ذي اليدين. حدثنا بذلك ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: "سألت أهل العلم بالمدينة فما أخبرني أحدٌ منهم أنه صلاها -يعني سجدتي السهو- يوم ذي اليدين، فمعنى هذا عندنا -والله أعلم- أنه إنما يجب سجود السهو في الصلاة إذا فعل بها ما لا ينبغي أن يفعل فيها، مثل القيام عن القعود أو القعود في غير مواضع القعود، أو ما أشبه ذلك مما لو فعل على العمد كان فاعله مسيئًا، فأما ما فعل فيها مما ليس بمكروه فيها فليس فيه سجود سهو، وكان حكم الصلاة يوم ذي اليدين لا بأس بالكلام فيها والتصرف، فلما فعل ذلك على السهو فيها وكان فاعله على العمد غير مسيء، كان فاعله على السهو غير واجب عليه سجود السهو، فهذا مذهب الذين ذهبوا إلى أن رسول الله - عليه السلام - لم يسجد يومئذ، وهذا حجة لأهل المقالة التي ثبتناها في هذا الباب، وكان مذهب الذين ذكروا أنه سجد يومئذ: أن الكلام في الصلاة والتصرف وإن كانا مباحين في الصلاة يومئذ، فلم يكن من المباح يومئذ أن يسلم في الصلاة قبل أوان التسليم، فلما سَلَّم النبي - عليه السلام - فيها سلامًا أراد به الخروج منها، على أنه قد كان أتمها، وكان ذلك مما لو فعله فاعل على العمد كان مسيئًا، وجب فيه سجود السهو، فهذا مذهب أهل هذه المقالة في هذا الحديث.

ش: أراد بهذا بيان الاختلاف في سجود النبي - عليه السلام - للسهو يوم ذي اليدين، وبيان حجة كل واحد من الفريقين، وأراد بالقوم هؤلاء: محمد بن مسلم الزهري، وطائفة من علماء المدينة؛ فإنهم قالوا: لم يسجد النبي - عليه السلام - يوم ذي اليدين، وأسند ذلك عن الزهري بقوله: "حدثنا بذلك" أي: بما قال هؤلاء القوم ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. ثم بَيَّن معنى ما قال هؤلاء بقوله: "فمعنى هذا عندنا والله أعلم ... " إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ثبتناها" من التثبيت. قوله: "وكان مذهب الذين ذكروا أنه سجد يومئذ ... إلى آخره" وأراد بهم جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، وهو أيضًا ظاهر. قوله: "والتصرف" بالنصب عطف على قوله: "الكلام" في قوله: "أن الكلام في الصلاة". قوله:"وإن كانا مباحين" واصل بما قبله، وقال مسلم في "التمييز" قول ابن شهاب: إنه لم يسجد يوم ذي اليدين، خطأ وغلط، وقد ثبت أنه سجد سجدتي السهو من روايات الثقات. وقال أبو عمر: كان الزهري يقول: إذا عرف الرجل ما نسي من صلاته فأتمها، ليس عليه سجدتا السهو انتهى. قلت: كيف يغلط مسلم الزهري وقد أخرج ابن عدي في "الكامل" (¬1): أنا أبو يعلى، ثنا ابن معين، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا ليث وابن وهب، عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يسجد يوم ذي اليدين سجدتي السهو"؟ ¬

_ (¬1) "الكامل في ضعفاء الرجال" (4/ 142).

ص: باب: الإشارة في الصلاة

ص: باب: الإشارة في الصلاة ش: أي هذا باب في بيان حكم الإشارة في الصلاة، والمناسبة بين البابين ظاهرة، وهي أن الإشارة المفهمة في الصلاة حكمها حكم الكلام فيها عند البعض، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا يونس بن بكير، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن أبي غطفان بن طريف، عن في هريرة قال: قال: رسول الله - عليه السلام - "التسبيح للرجال والتصفيح للنساء، ومن أشار في صلاته إشارة تفهم منه فليعدها". ش: ذكر هذا الحديث بعينه متنًا وسندًا في الباب الذي قبله، ولكن فيه زيادة ها هنا وهي قوله: "ومن أشار ... إلى آخره" والتبويب عليها. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن سعيد، ثنا يونس بن بكير ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "فليعد لها" ثم قال: وهذا الحديث وهم. وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان مجهول. وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: سئل أحمد عن حديث "من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد الصلاة" فقال: لا يثبت إسناده، ليس بشيء. وكذا قال ابن الجوزي في "التحقيق" وأعله بابن إسحاق، وقال: أبو غطفان مجهول. قلت: قال صاحب "التنقيح": أبو غطفان هو ابن طريف، ويقال: ابن مالك المري، قال عباس الدوري: سمعت ابن معين يقول فيه: ثقة. وقال النسائي في "الكنى": أبو غطفان ثقة قيل اسمه سعد. وذكره ابن حبان في "الثقات" وأخرج له مسلم في "صحيحه" فحينئذ يكون إسناد الحديث صحيحًا، وأبو داود لم يبين كيفية الوهم، فلا يبنى عليه شيء، فإن كان قوله "هذا الحديث وهم" من جهة أبي غطفان، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 248 رقم 944).

فقد بينا حال أبي غطفان، وتعليل ابن الجوزي بابن إسحاق ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور. ص: فذهب قوم إلى أن الإشارة التي تفهم إذا كانت من الرجل في الصلاة قطعت عليه صلاته، وحكموا لها بحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: إن المصلي إذا أشار في صلاته إشارة مفهمه تفسد صلاته، فيكون حكمها حينئذ كحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تقطع الإشارة الصلاة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثورة فإنهم قالوا: الإشارة لا تقطع الصلاة. ويحكى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وعائشة - رضي الله عنهم -. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (¬1) عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع قال: "رأيت أصحاب رسول الله - عليه السلام - وإن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو يصلي". قال معمر: وحدثني بعض أصحابنا: "أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تأمر خادمها أن يقسم المرقة، فتمر بها وهي في الصلاة، فتشير إليها أن زيدي". ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - أتى قباء، فسمعت به الأنصار فجاءوا يسلمون عليه وهو يصلي، فأشار إليهم بيده باسط كفه وهو يصلي". حدثنا يونس، قال أنا ابن وهب، عن هشام، عن نافع، عن ابن عمر، مثله غير أنه قال: "فقلت لبلال أو صهيب: كيف رأيت رسول الله - عليه السلام - يرد عليهم وهو يصلي؟ قال: يشير بيديه". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 258 رقم 3278).

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان، قال: أنا هشام بن سعد ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "فقلت لبلال كيف كان يردُّ عليهم؟ ". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". عن هشام بن سعد المدني روى له الجماعة إلا البخاري، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حسين بن عيسى الخراساني الدامغاني، ثنا جعفر بن عون، نا هشام بن سعد، نا نافع، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: "خرج رسول الله - عليه السلام - إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال - رضي الله عنه - كيف رأيت رسول الله - عليه السلام - يردّ عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا؛ وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل وظهره إلى فوق". انتهى. قوله: "قباء" بضم القاف وبالباء الموحدة، تمد وتقصر، وهي قرية على ميلين من المدينة، وهناك مسجد التقوى. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - إلى قباء، فجاءت الأنصار يسلمون عليه، فإذا هو يصلي، فقال ابن عمر: يا بلال، كيف رأيت رسول الله - عليه السلام - يرد عليهم وهو ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 243 رقم 927). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 259 رقم 3215).

يصلي؟ قال: هكذا بيده كلها، يعني يشير" هكذا رواه وكيع وجعفر بن عون عنه، وقال ابن وهب عنه: بلال أو صهيب، ثم يقول ابن وهب في آخره، وبلغني في غير هذا الحديث أن صهيبًا الذي سأله ابن عمر. قال الترمذي: كلا الحديثين عندي صحيح، قد رواه ابن عمر عن صهيب وبلال - رضي الله عنهم -. الثالث: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الملقب بقراد، عن هشام بن سعد ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: نا وكيع، قال: ثنا هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "قلت لبلال: كيف كان رسول الله - عليه السلام - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده". قال: أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد (ح) وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن بكير، عن نابل صاحب العباء، عن ابن عمر، عن صهيب قال: "مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه وهو يصلي، فرد إليّ إشارة" قال ابن مرزوق في حديثه: قال ليث: أحسبه قال: "بإصبعه". ش: هذان طريقان حسنان: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن بكير بن الأشج، عن نابل -بالنون في أوله، ثم الباء الموحدة بعد الألف- صاحب العباء، ويقال صاحب الشمال جمع شملة، وثقه ابن حبان. عن عبد الله بن عمر، عن صهيب بن سنان الرومي - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 204 رقم 368).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا ليث بن سعد ... إلى آخره نحوه سواء. والآخر: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن بكير ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، ثنا الليث، عن بكير، عن نابل صاحب العباء، عن ابن عمر، عن صهيب صاحب رسول الله - عليه السلام - قال: "مررت برسول الله - عليه السلام - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد عليّ إشارة -ولا أعلم إلا أنه قال: بأصبعه-". ورواه أبو داود (¬3)، والترمذي (¬4). ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أن رجلًا سلم على النبي - عليه السلام - في الصلاة، فرد عليه إشارة، قال: وكنا نرد السلام في الصلاة؛ فنهينا عن ذلك". ش: ذكر هذا الحديث في الباب الذي قبله بعين هذا الإسناد، ولكن مقتصرًا على قوله: "كنا نرد السلام في الصلاة، فنهينا عن ذلك". وأخرجه البزار في "مسنده" وقد ذكرناه هناك. ص: ففي هذه الآثار ما قد دل أن الإشارة لا تقطع الصلاة، وقد جاءت مجيئًا متواترًا، غير مجيء الحديث الذي خالفها، فهي أولى منه، وليست الإشارة في النظر من الكلام في شيء؛ لأن الإشارة إنما هي حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد في الصلاة لا تقطع الصلاة، فكذلك حركة اليد. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 364 رقم 1361). (¬2) "المجتبى" (3/ 5 رقم 1186). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 243 رقم 925). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 203 رقم 367).

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن عبد الله بن عمر وصهيب وبلال وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - وقوله: "ما دل" في محل الرفع على الابتداء وخبره قوله: "ففي هذه الآثار" وقوله: "وقد جاءت" أي هذه الآثار مجيئًا متواترًا، أي مقبولًا عند أهل الحديث، ولم يُرِدْ به التواتر الاصطلاحي، وأراد أن هذه الآثار أقوى طريقًا وأصح مجيئًا وأكثر ورودًا من الحديث الذي ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وهو حديث أبي غطفان عن أبي هريرة، وأن هذا لا يساوي تلك الأحاديث ولا يقاومها، على أن أحمد بن حنبل قد قال: حديث أبي غطفان ليس بشيء كما ذكرناه فيما مضى. قوله: "وليست الإشارة ... " إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه النظر والقياس، وهو أن الإشارة لا تشابه الكلام ولا تماثله؛ لأنها حركة عضو، والكلام نطق مسموع مفهم، فلو حرك المصلي من أعضائه غير اليد في صلاته فإنه لا يقطع صلاته ولا يضرها، فكذلك لو حرك يده، نظرًا وقياسًا عليه. ص: فإن قال قائل: فإذا كانت الإشارة في المسألة عندكم قد ثبت أنها بخلاف الكلام، وأنها لا تقطع الصلاة كما يقطعها، واحتججتم في ذلك بهذه الآثار التي رويتموها عن رسول الله - عليه السلام -، فَلِمَ كرهتم رد السلام من المصلى بالإشارة؟ وقد فعل ذلك رسول الله - عليه السلام - فيما رويتموه في هذه الآثار، لئن كان ذلك حجة لكم في أن الإشارة لا تقطع الصلاة، فإنه حجة عليكم في أن الإشارة لا بأس بها: قيل له: أما ما احتججنا بهذه الآثار من أجله وهو أن الإشارة لا تقطع الصلاة فقد ثبت ذلك بهذه الآثار على ما احتججنا به منها. وأما ما ذكرت من إباحة الإشارة في الصلاة في رد السلام فليس فيها دليل على ذلك، وذلك أن الأمر الذي هو فيها هو أن رسول الله - عليه السلام - أشار إليهم فلو قال لنا رسول الله - عليه السلام -: إن تلك الإشارة أردت بها ردّ السلام على من سلم علي ثبت بذلك أن كذلك حكم المصلي إذا سُلم عليه في الصلاة، ولكنه لم يقل من ذلك شيئًا، فاحتمل أن يكون الإشارة كانت ردًا منه للسلام كما ذكرتم، واحتمل أن تكون

كانت منه نهيًا لهم عن السلام عليه هو يصلي، فلما لم يكن في هذه الآثار من هذا شيء، واحتمل من التأويل ما ذهب إليه كل واحد من الفريقين؛ لم يكن ما تأول أحد الفريقين أولى منها مما تأوله الآخر إلا بحجة يقيمها على مخالفه، إما من كتاب، وإما من سنة، وإما من إجماع. ش: ملخص السؤال: أن هذه الأحاديث وإن كانت حجة لكم في أن الإشارة في الصلاة غير قاطعة لها، فهي حجة عليكم في كراهتكم رد السلام من المصلي بالإشارة؛ لأنه - عليه السلام - قد فعل ذلك. وملخص الجواب: أن إشارة النبي - عليه السلام - تحتمل وجهين: أحدهما ما ذهب إليه المخالف في أن إشارته كانت ردًّا منه للسلام. والآخر يحتمل أن تكون إشارته تلك نهيًا منه إياهم عن السلام عليه وهو في الصلاة، فإذا كان كذلك لم يكن لأحد الفريقين أن يرجح أحد الاحتمالين إلا بمرجح من الكتاب أو السنة أو الإجماع وإلا فمتى ذهب أحد الفريقين إلى أحد الاحتمالين يذهب إلى الآخر، فافهم، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فما دليلكم على كراهة ذلك؟ قيل له: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: "كنا نتكلم في الصلاة ونأمر بالحاجة ونقول: السلام على الله وعلى جبريل وميكائيل وعلى كل عبد صالح يُعْلم اسمُه في السماء والأرض، فقدمت على النبي - عليه السلام - من الحبشة وهو يصلي، فسلمت عليه فلم يرد، وأخذني ما قَدُم وما حَدُث، فلما قفنى صلاته، قلت: يا رسول الله، أنزل فيّ شيء؟ قال: لا ولكن الله يحدث من أمره ما يشاء". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرئيل، عن أبي إسحاق، عن في الأحوص، عن عبد الله قال: "خرجت في حاجة ونحن نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فلما رجعت فسلمت فلم يرد عليّ وقال: إن في الصلاة شغلًا".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "قدمت من الحبشة وعهدي بهم وهم يسلمون في الصلاة ويقضون الحاجة، فأتيت رسول الله - عليه السلام -فسلمت عليه وهو يصلي فلم يرد عليّ فلما قضى صلاته قال: إن الله لا يحدث الشيء من أمره ما شاء، وقد أحدث لكم أن لا تكلموا في الصلاة، وأما أنت أيها المسلم فالسلام عليك ورحمة الله". حدثنا: فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن أبي الرضراض، عن عبد الله قال: "كنت أسلم على النبي - عليه السلام - في الصلاة فيرد عليّ فلما كان ذات يوم سلمت عليه فلم يرد عليّ فوحدت في نفسي فذكرت ذلك له، فقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء". ففي حديث أبي بكرة عن أبي داود أن رسول الله - عليه السلام - سلم على الذي سلم عليه بعد فراغه منها، فذلك دليل أنه لم يكن منه في الصلاة رد السلام؛ لأنه لو كان ذلك منه، لأغناه عن الرد عليه بعد الفراغ من الصلاة، كما يقول الذي يرى الرد في الصلاة بالإشارة، وأن المصلى إذا فعل ذلك لمن يسلم عليه في صلاته فلا يجب عليه الرد بعد فراغه من الصلاة. وفي حديث أبي بكرة أيضًا عن مؤمل: "فلم يرد عليّ فأخذني ما قَدُم وما حَدُث" ففي ذلك دليل أنه يكن منه ردٌّ أصلًا بالإشارة؛ لأنه لو رد عليه بالإشارة يقل: لم يرد عليّ، ولقال: رد علي إشارة، ولما أصابه من ذلك ما أخبر أنه أصابه مما قَدُم وما حَدُث. وفي حديث علي بن شيبة: "فقال: رسول الله - عليه السلام - إن في الصلاة شغلًا" فذلك دليل على أن المصلي معذور بذلك الشغل عن رد السلام على المسلم عليه، ونهي لغيره عن السلام عليه. ش: تقدير السؤال أن يقال: إنكم قد قلتم فلما احتمل الوجهين لم يكن لأحد الفريقين أن يرجح أحدهما إلا بمرجح من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فما دليلكم على أنكم كرهتم رد السلام بالإشارة في الصلاة؟ وما الذي رجح ما ذهبتم إليه؟

وتقرير الجواب أن يقال: أحاديث عبد الله بن مسعود رجحت ما ذهبنا إليه؛ وذلك لأن في بعض أحاديثه -وهو الذي رواه أبو بكرة عن أبي داود الطيالسي- سلم على الذي سلم عليه بعد فراغه منها، وذلك دليل على أنه لم يكن منه في الصلاة رد السلام لا باللفظ ولا بالإشارة؛ لأنه لو كان ذلك منه؛ لا غناه عن الرد عليه بعد الفراغ من صلاته فحيث ردّ عليه السلام بعد فراغه من الصلاة؛ دل على أنه لا رد في نفس الصلاة لا لفظًا ولا إشارة. وفي بعضها -وهو الذي رواه أبو بكرة عن مؤمل بن إسماعيل- فلم يرد عليّ". وهو عام يتناول الرد باللسان والرد بالإشارة ولأنه لو رد عليه بالإشارة لما قال عبد الله: "فأخذني ما قَدُم وما حَدُث" فدل أنه لم يكن منه ردٌّ أصلًا لا باللسان ولا بالإشارة. وفي بعضها -وهو الذي رواه علي بن شيبة عن عبيد الله بن موسى: "إن في الصلاة شغلًا" أي ما يشغل المصلي عن مباشرة ما ليس من الصلاة؛ فدل على أنه معذور بذلك الشغل عن رد السلام على المسلّم عليه -بكسر اللام- والضمير في "عليه" يرجع إلى المصلي، وفيه دليل أيضًا على النهي لغيره عن السلام على المصلي فافهم. ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة المقرئ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وقد ذكر هذا في الباب الذي قبله إسنادًا ومتنًا، غير أنه زاد ها هنا. قوله: "ونقول السلام على الله وعلى جبريل وميكائيل وعلى كل عبد صالح يُعلم اسمُهُ في السماء والأرض" وقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا النضر بن شميل، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "كنا نسلم في الصلاة، فقيل لنا: إن في الصلاة شغلًا" انتهى أي شغلًا للمصلي، معناه وظيفته أن يشتغل بصلاته فيتدبر ما يقوله ولا يعرج على غيرها، ولا يرد سلامًا ولا غيره. الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي. وهذا مرسل لأن إبراهيم لم يسمع من أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - وقال العجلي: لم يحدث عن أحد من أصحاب النبي - عليه السلام - وقد أدرك منهم جماعة، ورأى عائشة - رضي الله عنها - رؤيا. وقال: يحيى بن معين: مراسيل إبراهيم أحب إلى من مراسيل الشعبي. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2). وأخرج السراج في "مسنده": ثنا عبيد الله بن سعيد، ثنا عبد الرحمن (ح) وحدثنا عبد الله بن عمر، ثنا حسين بن علي، جميعًا عن زائدة، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله قال: "كنا نتكلم في الصلاة ويسلم بعضنا على بعض ويومئ أحدنا بالحاجة، قال: فجئت ذات يوم والنبي - عليه السلام - يصلي، فسلمت عليه فلم يرد علي، قال: فأخذني ما قَدُم وحَدُث، فلما فرغ قال: إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإنه قد أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة، وأما أنت أيها المسلم قال: فرد عليّ". انتهى. استدّل عطاء والنخعي والثوري بهذا الحديث على أن المصلي إذا سُلم عليه يرده بعد فراغه من الصلاة، وقالت طائفة -منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق-: يرده في الصلاة نطقًا. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 325 رقم 1019). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 33 رقم 245). من طريق أبي وائل شقيق عن عبد الله بن مسعود.

وقال الشافعي ومالك: يرده إشارة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يرده لا نطقًا ولا إشارة بكل حال، وعن أبي حنيفة: يرده في نفسه. وعن محمد: يرده بعد الصلاة؛ لظاهر هذا الحديث. وعن أبي يوسف: لا يرده لا في الحال ولا بعد الفراغ. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، عن أبي الجهم سليمان بن الجهم الحارثي الجوزجاني مولى البراء بن عازب، وثقه ابن حبان. عن أبي الرضراض بن أسعد، ويقال: رضراض بن أسعد، وثقه ابن حبان. عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن فضيل، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن أبي الرضراض، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنت أسلم على رسول الله - عليه السلام - في الصلاة فيرد علي، فلما كان ذات يوم سلمت عليه فلم يرد علي؛ فوجدت في نفسي، فلما فرغ قلت: يا رسول الله، كنت إذا سلمت عليك في الصلاة رددت عليّ، قال: فقال: إن الله -عز وجل- يحدث في أمره ما يشاء". ص: وقد روي عن عبد الله من قوله بعد رسول الله - عليه السلام - ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله: "أنه كره أن يسلم على القوم وهم في الصلاة". ش: أي قد روي عن عبد الله بن مسعود من قول نفسه بعد رسول الله - عليه السلام - أنه كره السلام على المصلي. أخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 409 رقم 3885).

وأخرج محمد بن الحسن في "آثاره": عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، نحوه. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله في ذلك نظير ما روي عن ابن مسعود عن النبي - عليه السلام -. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - في سفر، فبعثني في حاجة فانطلقت إليها ثم رجعت إليه وهو على راحلته، فسلمت عليه فلم يرد علي ورأيته يركع ويسجد، فلما سلم رد علي". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل:"فلم يرد علي" وقال: "فلما فرغ من صلاته قال: أما إنه لم يمنعني أن أرّد عليك إلا أني كنت أصلي". فهذا جابر بن عبد الله أيضًا قد أخبر أن رسول الله - عليه السلام - لم يرد عليه، وأنه لما فرغ من صلاته ردّ عليه، فالكلام في هذا مثل الكلام فيما رويناه قبله عن ابن مسعود، وفي حديث جابر أن رسول الله - عليه السلام -قال: "أما إنه لم يمنعني أن أرّد عليك إلا أني كنت أصلي" فأخبر رسول الله - عليه السلام - أنه لم يكن رد عليه شيء، فذلك ينفي أن يكون رد عليه بإشارة أو غيرها. وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - بعثه لبعض حاجته فجاء وهو يصلي على راحلته، فسلم عليه فسكت، ثم أومئ بيده، ثم سلم عليه فسكت -ثلاثًا- فلما فرغ قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". فهذا جابر - رضي الله عنه - قد أخبر في هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - أومأ إليه بيده حين سلم، ثم قال: رسول الله - عليه السلام - بعد ما فرغ من الصلاة: "أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". فأخبر رسول الله - عليه السلام - أنه لم يكن رد عليه في الصلاة، فدل

ذلك أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن ردًّا، وإنما كانت نهيًا، وهذا جابر فقد روى هذا عن النبي - عليه السلام - كما ذكرنا، وقد روي عنه ما حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي قال: نا الأعمش، قال: حدثني أبو سفيان، قال: سمعت جابرًا يقول: "ما أحب أن أسلم على الرجل وهو يصلي، ولو سلم علي لرددت عليه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن إشكاب، قال: ثنا أبو معاوية عن الأعمش، فذكر بإسناده مثله. فهذا جابر بن عبد الله قد كره أن يسلم على المصلي، وقد كان سلم على رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي، فأشار إليه، فلو كانت الإشارة التي كانت من النبي ردًا للسلام عليه إذا لما كره ذلك؛ لأن رسول الله - عليه السلام - لم ينهى عنه، ولكنه إنما كره ذلك؛ لأن إشارة النبي - عليه السلام - تلك كانت عنده نهيًا منه له عن السلام عليه وهو يصلي. ش: أي قد روي عن جابر بن عبد الله في كراهة رد السلام على المسلم في الصلاة مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا. وأخرج عنه من خمس طرق: ثلاثة منها مرفوعة، واثنان موقوفان عليه: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن إسماعيل بن إبراهيم وهو إسماعيل بن علية روى له الجماعة، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه مسلم (¬1): عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "أرسلني رسول الله - عليه السلام - وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فكلمته، فقال لي بيده هكذا -وأومأ زهير بيده- ثم كلمته، فقال لي هكذا- ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 383 رقم 540).

فأومأ زهير أيضًا بيده نحو الأرض -وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: ما فعلت في الذي أرسلتك له؛ فإنه لم يمنعني أن كلمك إلا أني كنت أصلي". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمد بن رمح المصري، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "بعثني النبي - عليه السلام - لحاجة، ثم أدركته وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي، فلما فرغ دعاني فقال: إنك سلمت علي آنفًا وأنا أصلي". وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن رمح أيضًا نحوه، وفي آخره: "وهو موجه حينئذ قبل المشرق". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر - رضي الله عنه -. وهذه الأسانيد كلها صحاح. وأخرجه البيقهي في "سننه" (¬3): من حديث سليمان بن حرب، عن يزيد بن إبراهيم، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي الإسكاف، عن جابر ابن عبد الله. الخامس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن أحمد بن إشكاب الحضرمي شيخ البخاري، عن أبي معاوية محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان ... عن جابر ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 325 رقم 1018). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 383 رقم 540). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 258 رقم 3211).

وإسنادهما صحيح. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "ما كنت لأسلم على رجل وهو يصلي- زاد أبو معاوية: ولو سلُم علي لرددت عليه". قوله: "فهذا جابر بن عبد الله ... " إلى آخره إشارة إلى تصحيح معاني هذه الأحاديث التي رويت عن جابر نظير ما روي عن عبد الله بن مسعود؛ بيانه: أن جابرًا أخبر في حديثه أن رسول الله - عليه السلام - لم يرد لما سلم عليه، وأنه إنما رد عليه بعد فراغه من صلاته، كما قد أخبر عبد الله بن مسعود في حديثه كذلك، وأخبر جابر أيضًا في حديثه أنه - عليه السلام - قال: "أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي" فهذا بعمومه يتناول عدم الرد مطلقًا سواء كان بإشارة أو غيرها، وأخبر جابر أيضًا في حديثه الآخر أنه - عليه السلام - أومأ إليه بيده حين سلم، ثم قال له بعد أن فرغ من صلاته: "أما أنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". فأخبر - عليه السلام - أنه لم يكن رد عليه في الصلاة، فدل ذلك أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن لأجل رد السلام عليه؛ وإنما كانت لأجل النهي عن السلام على المصلي ". وهذا جابر - رضي الله عنه - قد روى هكذا عن النبي - عليه السلام -، ثم قد روي عنه من نفسه أنه قال: "ما أحب أن أسلم على المصلي، ولو سُلم علي وأنا في الصلاة لرددت عليه". وقد كره السلام على المصلي، والحال أنه قد سلم على رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي فأشار إليه رسول الله - عليه السلام - فلو كانت تلك الإشارة التي كانت من النبي - عليه السلام - ردًّا لسلام جابر عليه إذًا -أي حينئذ- لما كره جابر السلام على المصلي؛ لأن رسول الله - عليه السلام - لم ينهه عن ذلك، ولكنه إنما كره ذلك لأن إشارته تلك كانت عنده نهيًا منه له -أي لجابر - رضي الله عنه - عن السلام عليه في الصلاة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 419 رقم 4815).

ص: فإن قال قائل: فقد قال جابر - رضي الله عنه - في حديثكم هذا: "ولو سُلِّم علي لرددت". قيل له أفقال جابر: لرددت في الصلاة؟ قد يجوز أن يكون أراد بقوله: "لرددت" أي بعد فراغي من الصلاة، وقد دل على ذلك من مذهبه: ما حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام، قال: سأل سليمان بن موسى عطاء: أسالت جابرًا عن الرجل يسلم عليك وأنت تصلي فقال: لا ترد عليه حتى تقضي صلاتك؟ فقال: نعم". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فدل ذلك أن الرد الذي أراد جابر في الحديث الأول هو الرد بعد الفراغ من الصلاة، فقد وافق ذلك ما روى عن رسول الله - عليه السلام -، ودل في معناه على ما ذكرنا. ش: تقرير السؤال أن يقال: في حديث جابر الذي احتججتم به لِمَا ذهبتم إليه: "ولو سُلِّم عليّ لرددت" وهو يدل على أنه ينبغي أن يرد السلام، وأنتم قد تركتم هذا حيث منعتم الرد في الصلاة مطلقًا. وتقرير الجواب أن يقال: لم يقل جابر: لرددت عليه في الصلاة، وإنما قال: "لرددت" مطلقًا، فيجوز أن مراده: لرددت بعد فراغي من الصلاة، وقد دل على أن مراده بعد الصلاة: ما أخرجه عن علي بن زيد بن عبد الله الفرضي الطرسوسي، عن موسى بن داود الضبي من رجال مسلم، عن همام بن يحيى البصري من رجال الجماعة، عن سليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأشدق فقيه أهل الشام في زمانه، ثقة كبير، روى له الجماعة إلا البخاري. عن عطاء بن أبي رباح المكي ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن عطاء نحوه. قوله: "أفقال جابر" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "وقد دل على ذلك" أي على ما ذكرنا من التأويل. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 338 رقم 3602).

ص: وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا نحو من ذلك. حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش، قال: ثنا عارم، قال: ثنا جرير بن حازم، عن قيس، عن عطاء: "أن ابن عباس سلم عليه رجل وهو يصلي فلم يرد عليه شيئًا، وغمز بيده". فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - إنما لم يردُّ في صلاته على الذي سلم عليه وهو فيها، ولكنه غمز بيده على الكراهية منه لما فعل فلما كان عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وقد كانا سلما على النبي - عليه السلام - وهو يصلي قد كرها من بعد رسول الله - عليه السلام - السلام على المصلي فثبت بذلك أن ما كان من إشارة النبي - عليه السلام - التي علماها لم تكن ردًا وإنما كانت نهيًا؛ لأن الصلاة ليست بموضع سلام؛ لأن السلام كلام، فجوابه أيضًا كذلك، فلما كانت الصلاة ليست بموضع كلام؛ لم تكن أيضًا بموضع لرد سلام، ولما لم تكن موضعًا لرد سلام لم تكن موضعًا للإشارة لرد السلام، وذلك لأن رسول الله - عليه السلام - قد أمر بتسكين الأطراف في الصلاة. حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن جابر بن سمرة قال: "دخل رسول الله - عليه السلام - المسجد فرأى قومًا يصلون وقد رفعوا أيديهم، فقال مالي أراكم ترفعون أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة". فلما أمر رسول الله - عليه السلام - بالسكون في الصلاة، وكان رد السلام بالإشارة فيه خروجًا من ذلك لأن فيه رفع اليد وتحريك الأصابع، ثبت بذلك أنه قد دخل فيما أمر به رسول الله - عليه السلام - من تسكين الأطراف في الصلاة، وهذا القول الذي بَيَّنَّا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - -فيما ذكرنا من إشارة النبي - عليه السلام - في الصلاة حين سلم عليه عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله كانت نهيًا عن ذلك ولم تكن ردًّا للسلام- نحو من ذلك، أي مثل ونظير لما ذكرنا، بيانه: أن ابن عباس لما سُلم عليه وهو في الصلاة لم يرد عليه وغمز بيده لأجل كراهته هذا الفعل منه، فثبت من ذلك أن الإشارة في الصلاة لأجل رد السلام مكروهة لا ينبغي أن تفعل،

ألا ترى أن عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله سلما على النبي - عليه السلام - وهو في الصلاة ثم كرها من بعد رسول الله - عليه السلام - السلام على المصلي، وذلك لكونهما قد علما أن الإشارة التي كانت من النبي - عليه السلام - حين سلما عليه وهو في الصلاة لم تكن لأجل الرد وإنما كانت لأجل النهي عن ذلك الفعل، وذلك لأن الصلاة ليست بمحل للسلام؛ لأن السلام كلام، فجوابه أيضًا يكون كلامًا، فلما ثبت أن الصلاة ليست بمحل للكلام، لم تكن أيضًا بمحل لرد السلام؛ لأنه كلام كالسلام، فإذا ثبت أنها ليست بمحل لرد السلام لم تكن أيضًا بمحل للإشارة التي تكون لرد السلام؛ لأنها تكون كرد السلام، وقد قلنا: إن ردَّ السلام كالكلام، فالكلام ممنوع فالسلام مثله، ورده كذلك سواء كان قولًا أو إشارة، والدليل على ذلك أيضًا أن النبي - عليه السلام - قد أمر المصلي بتسكين أطرافه في الصلاة كما في حديث جابر بن سمرة، ورد السلام بالإشارة تحريك للأطراف؛ لأن فيها رفع اليد وتحريك الأصابع، وهذا خلاف ما أمر به النبي - عليه السلام -، وذلك لا يجوز، والله أعلم. ثم إسناد أثر ابن عباس صحيح، وقد مر غير مرة أن خُشَيْشا بضم الخاء وفتح الشين الأولى وسكون الياء آخر الحروف، وكلها معجمات، وعارم -بالعين المهملة- لقب محمد بن الفضل شيخ البخاري، وقيس هو ابن سعد من رجال مسلم، وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح: "أن رجلًا سلم على ابن عباس وهو في الصلاة فأخذ بيده فصافحه، وغمز بيده". وقال أيضًا (¬2): ثنا حفص، عن ليث، عن عطاء قال: "سلمت على ابن عباس وهو في الصلاة فلم يردّ عليّ، وبسط يده إليّ وصافحني". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 419 رقم 4820). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 419 رقم 4813).

وكذلك إسناد حديث جابر بن سمرة صحيح، ومحمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك هو ابن عبد الله النخعي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. والأعمش هو سليمان بن مهران، والمسيب بن رافع الأسدي الكاهلي روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة قال: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمس؟ اسكنوا في الصلاة. قال: ثم خرج علينا فرآنًا حَلِقًا، فقال: ما لي أركم عزين؟ قال: ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصّف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله - عليه السلام -، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف". وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، قال: ثنا عبثر، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - عليه السلام - ونحن رافعو أيدينا في الصلاة، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟! اسكنوا في الصلاة". انتهى. وهذا كما رأيت قد وقع في روايتي مسلم والنسائي بين المسيب بن رافع وبن جابر بن سمرة تميم بن طرفة، وليس هو بمذكور في رواية الطحاوي، وكل منهما قد روى عن جابر بن سمرة فسنده أعلى من سندهما (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 322 رقم 430). (¬2) "المجتبى" (3/ 4 رقم 1184). (¬3) قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (1/ 208 رقم 774): "قال أبي: المسيب بن رافع روى عن جابر بن سمرة حديثا، ولا أظن سمع منه، يدخل بينه وبينه تميم بن طرفة.

قوله: "وقد رفعوا أيديهم" جملة حالية. قوله: "شُمس" بضم الشين المعجمة وسكون الميم وبضمها أيضًا جمع أشمس، وهو النَّفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته، وقال الجوهري: فرس شموس أي صعب الخلق، ولا تقل شموص قوله: "اسكنوا" أمر من سَكَنَ يَسْكُنُ، أي اثبتوا ولا تتحركوا، ولا تحركوا أطرافكم بل لازموا السكون والقرار؛ لأنكم بين يدي ربكم جلت قدرته. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن فيه دلالة على أن رد السلام بالإشارة في الصلاة مكروه؛ لأنه مأمور بالسكون وهو عدم الحركة، فإذا أشار احتاج إلى رفع اليد وتحريك الأصابع، كما ذكرناه. الثاني: استدل به بعض أصحابنا على ترك رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، واعترض عليه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين بأن هذا كان في التشهد لا في القيام، تفسره رواية عبد الله بن القبطية قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: "كنا إذا صلينا خلف النبي - عليه السلام - قلنا السلام عليكم السلام عليكم، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال: ما بال هؤلاء يومئون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله". وهذا قول معروف لا اختلاف، فيه ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات أيضًا منهيًّا عنه؛ لأنه لم يستثن رفعًا دون رفع، بل أطلق. والجواب عن هذا: أن هذين حديثان لا يُفَسَّر أحدهما بالآخر، وقد جاء في الحديث الأول: "دخل رسول الله - عليه السلام - المسجد، فرأى قومًا يصلون وقد رفعوا أيديهم" وهذا ظاهره أنهم كانوا في حالة الركوع والسجود ونحو ذلك، والراوي روى هذا في وقت كما شاهده وروى الآخر في وقت آخر كما شاهده، وقد ذكر ابن القصار أن هذا

الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدي في الصلاة، وذكر أن في ذلك نزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1). الثالث: فيه أن الإِمام إذا رأى شيئًّا منكرًا يفعله القوم في الصلاة ينهاهم عن ذلك، فبالقياس على ذلك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل أحدٍ يقدر على ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [77].

ص: باب: المرور بين يدي المصلي هل يقطع ذلك عليه صلاته أم لا؟

ص: باب: المرور بين يدي المصلي هل يقطع ذلك عليه صلاته أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان مرور [المارّ] (¬1) بين يدي المصلي هل يقطع ذلك على المصلي صلاته أم لا؟. وجه المناسبة بين البابين: أن فيما قبله كان الخلاف في الإشارة المفهمة في الصلاة هل تقطعها أم لا؟ وفي هذا الخلاف في مرور المار بين يدي المصلي هل يقطع الصلاة أم لا؟ ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن منصور، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يقطع الصلاة مرور شيء إذا كان بين يديه كآخرة الرحل، وقال: يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، قال: قلت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأبيض؟ فقال: يا ابن أخي سألتني عما سألت رسول الله - عليه السلام - فقال: "إن الكلب الأسود شيطان". ش: إسناده صحيح، ويونس هو ابن عبيد بن دينار البصري، روى له الجماعة، ومنصور هو ابن زاذان الواسطي روى له الجماعة، وحميد بن هلال بن هبيرة البصريّ روى له الجماعة، وعبد الله بن الصامت الغفاري البصري ابن أخي أبي ذر روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبو ذر جندب بن جنادة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا ابن أبي شيبة، قال: نا إسماعيل بن علية. وحدثني زهير بن حب، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن حميد ابن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا قام ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك" "المصلي"، ولعله سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-: وسيأتي بعد قليل على الصواب. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 365 رقم 510).

أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله - عليه السلام - كما سألتني، فقال: الكلب الأسود شيطان". وأخرجه الأربعة (¬1) أيضًا مطولًا ومختصرًا. قوله: "كآخرة الرحل" أي كقدر مؤخر الرَّحل، و"الرَّحل" بفتح الراء وسكون الحاء المهملتين: الذي تركب عليه الإبل، وهو الكور. وقال الجوهري: الرحل رحل البعير وهو أصغر من القتب، والجمع الرحال، وثلاثة أرحل. وقال عياض: آخرة الرحل هو العود الذي في آخر الرحل. والمؤخرة: -بضم الميم وكسر الخاء- كذا قاله أبو عبيد، وحكى ثابت فيه فتح الخاء، وأنكره ابن قتيبة، وأنكر ابن مكي أن يقال مقدِّم ومؤخِّر -بالكسر- إلا في المعين خاصة، وغيره بالفتح، ورواه بعض الرواة بفتح الواو وتشديد الخاء. قوله: "من الأبيض" معناه ما بال الأسود من الأبيض. قوله: "إن الكلب الأسود شيطان" فيه معنيان: الأول يجوز أن يكون حقيقًا ويكون الكلب الأسود جنسًا من الشياطين؛ لأن الشياطين أجناس وأنواع كالعفاريت والسفالي والغيلان، ويجوز أن يكون بمعنى تشبيه بليغ لوصف خاص فيه دون غيره من الكلاب. ويستنبط منه أحكام: الأول: أن المصلي إذا كان بينه وبين المار سترة؛ لا يضر صلاته مرور المار. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 187 رقم 702)، و "جامع الترمذي" (2/ 161 - 163 رقم 338)، و"المجتبى" (2/ 63 رقم 750)، و "سنن ابن ماجه" (1/ 306 رقم 952).

واختلفوا في المقدار الذي يكون بينه وبين السترة؛ فقيده بعض الناس بشبر، وآخرون بثلاثة أذرع وبه قال الشافعي وأحمد، وهو قول عطاء وآخرون بستة ذكر السفاقسي قال: أبو إسحاق: رأيت عبد الله بن مغفل يصلي بينه وبين القبلة ستة أذرع، وفي نسخة "بثلاثة أذرع"، وفي مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح نحوه، وقال: القرطبي لم يحد مالك في ذلك حدًّا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من يمر بين يديه. وقال: أبو داود (¬1): نا القعنبي والنفيلي، قالا نا عبد العزيز -هو ابن أبي حازم- قال: أخبرني أبي، عن سهل قال: "كان بين مقام النبي - عليه السلام - وبين القبلة ممر عنز". الثاني: أن مقدار السترة ينبغي أن يكون كقدر مؤخرة الرحل، وقال: عياض أقل ما يجزئ من ذلك: قدر عظم الذراع في غلظ الرمح عند مالك وهو التفات إلى صلاته - عليه السلام - لمؤخرة الرحل في الارتفاع وللعنزة في الغلظ. الثالث: اختلف العلماء في هذا الحديث، فقال بظاهرة جماعة من الصحابة والتابعين على ما يجيء بيانه مستقصى إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ما استطاع؛ لا يقطع الشيطان عليه صلاته". ش: إسناده صحيح، وسفيان هو ابن عيينة. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا ابن الصباح، أنا سفيان. ونا عثمان بن أبي شيبة وحامد بن يحيى وابن السرح، قالوا: ثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة يبلغ به النبي - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 185 رقم 696). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 185 رقم 695).

وأخرجه النسائي (¬1)، وابن حبان في "صحيحه" (¬2): في النوع الخامس والتسعين من القسم الأول. قوله: "فليدن منها" أي فليقرب من السترة. قوله: "لا يقطع الشيطان عليه صلاته" خرج مخرج التعليل، ومعنى قطع الشيطان صلاته عليه إذا لم يدن من السترة: أنه ربما يمر بينه وبينها أحد أو حيوان فيحصل له التشوش بذلك، ولا يدري كم صلى، فتحصل له وسوسة، فتقطع صلاته، وإنما نسب إلى الشيطان لأن قطع العبادة وإبطالها من أعمال الشيطان. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد يحدث، عن ابن عباس -رفعه شعبة- قال: "يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس -قال: أحسبه قد أسنده إلى النبي - عليه السلام -- قال: "يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب والحمار واليهودي والنصراني والخنزير، ويكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن قتادة، عن جابر بن زيد أي الشعثاء اليحمدي الجوفي -بالجيم- نسبة إلى درب الجوف بالبصرة وقيل ناحية عمان. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد ... إلى آخره نحوه، ثم قال: أوقفه سعيد وهشام وهمام عن قتادة، عن جابر بن زيد على ابن عباس. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 62 رقم 648). (¬2) "صحيح ابن حبان" (6/ 136 رقم 2373). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 187 رقم 703).

والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود إلبرلسي، عن محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري، شيخ الأربعة، ووثقه النسائي وابن حبان. عن معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي روى له الجماعة، عن أبيه هشام روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير روى له الجماعة، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن إسماعيل البصري، ثنا معاذ، نا هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس -قال: أحسبه عن رسول الله - عليه السلام -- قال: "إذا صلى أحدكم إلى غير السترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة حجر". وقال أبو داود: في نفسي من هذا الحديث شيء؛ فلم أر أحدًا جاء به عن هشام ولا يعرفه، ولم أر أحدًا يحدث به عن هشام وأحسب الوهم من ابن أبي سمينة وهو شيخه محمد بن إسماعيل، والمنكر فيه ذكر المجوسي وفيه على قذفة بحجر، وذكر الخنزير وفيه نكارة. قال: ولم أسمع هذا الحديث إلا من ابن أبي سمينة وأحسبه وهم لأنه كان يحدثنا عن حفظه. وقال ابن القطان: ليس في سنده متكلم فيه، غير أن علته بادية، وهي الشك في رفعه، فلا يجوز أن يقال: إنه مرفوع. وفي "العلل" (¬2) لابن أبي حاتم: سُئِل أبو زرعة عن حديث رواه عبيس بن ميمون، عن ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة يرفعه: "يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير" فقال: هذا حديث منكر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 187 رقم 704). (¬2) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 177 رقم 507).

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا معاذ، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل أن رسول الله - عليه السلام - قال: "يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة". ش: إسناده صحيح، وابن أبي عروبة هو سعيد بن مهران أبو النضر البصري. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا جميل بن الحسن، ثنا عبد الأعلى، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل، عن النبي - عليه السلام -قال: "يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار". ص: فذهب قوم إلى هله الآثار، فقالوا: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار إذا مروا بين يدي المصلي. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وعكرمة وأبا الأحوص ومكحولا وأحمد بن حنبل وإسحاق وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار. ويحكى ذلك عن أبي ذرٍّ وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ماذا يقطع الصلاة؟ قال: المرأة الحائض والكلب الأسود". وأخرج (¬3): عن معمر، عمن سمع عكرمة يقول: "يقطع الصلاة الكلب والخنزير واليهودي والنصراني والمجوسي والمرأة الحائض". وأخرج (¬4): عن ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس مثله. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 306 رقم 951). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 26 رقم 2347). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 27 رقم 2352). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 27 رقم 2353).

وأخرج (¬1): عن ابن التيمي، عن أبيه، عن عكرمة وأبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: "يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود". وأخرج (¬2): عن ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "الكلب الأسود البهيم شيطان، وهو يقطع الصلاة". وأخرج ابن أبي شيبة (¬3): عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الكلب الأسود البهيم شيطان، وهو يقطع الصلاة". وأخرج (¬4): عن غندر، عن شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس قال: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب". وأخرج (¬5): عن غندر، عن شعبة، عن زياد بن فياض، عن أبي الأحوص مثله. وأخرج (¬6): عن أبي داود، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: "يقطع الصلاة الكلب، قيل له: فالمرأة؟ قال: لا إنما هن شقائق أخواتكم وأمهاتكم". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬7): ويقطع صلاة المصلي كون الكلب بين يديه مارًّا، وغير مارٍّ، صغيرًا أو كبيرًا، حيًّا أو ميتًا، أو كون الحمار بين يديه كذلك أيضًا، وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة إلا أن تكون مضطجعة معترضة فلا تقطع الصلاة حينئذ، ولا تقطع النساء بعضهن صلاة بعض. انتهى. فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الكلب الأسود والمرأة والحمار عند من يرى قطع الصلاة بمرورها؟ ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 28 رقم 2354). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 28 رقم 2355). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 252 رقم 2897). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 252 رقم 2899). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 252 رقم 2900). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 252 رقم 2905). (¬7) "المحلى" (4/ 8).

قلت: أما الكلب الأسود فإنه صرح في الحديث أنه شيطان، وأن الشياطين كثيرًا ما يتصورون في صور الكلاب السود، ولأن الملائكة لا تحضر موضعها. وأما المرأة فلأجل جريان الحيض ونجاسته عليها؛ ولهذا جاء في حديث ابن عباس "والحائض" مكان "المرأة". وأما الحمار فلاختصاص الشيطان به في قصة نوح - عليه السلام - في السفينة وتعلقه له، لنهاقته عند رؤيته وقد يقال في المرأة من هذا المعنى أيضًا لأنها تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، وأنها من مصائد الشيطان وحبائله. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يقطع الصلاة شيء من هذا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعبيدة والشعبي، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وابن سيرين والنخعي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا يقطع الصلاة شيء من هذا، ويحكى هذا عن عثمان وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وحذيفة وعائشة - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: "جئت أنا والفضل ونحن على أتان، ورسول الله - عليه السلام - يصلي بالناس بعرفة، فمررنا على بعض الصف، فنزلنا عنها وتركناها ترتع، فلم يقل لنارسول الله - عليه السلام -". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل: "ورسول الله - عليه السلام - يصلي بالناس بمنى". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر وروح ووهب، قالوا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: "مررت برسول الله - عليه السلام - وهو يصلي وأنا على حمار ومعي غلام من بني هاشم، فلم ينصرف".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه المدني. وأخرجه الجماعة، وأبو داود (¬1) أخرج نحوه: عن عثمان بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: عن محمد بن منصور، عن سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرني عبيد الله، عن ابن عباس قال: "جئت أنا والفضل على أتان لنا، ورسول الله - عليه السلام - يصلي بالناس بعرفة -ثم ذكر كلمة معناها- فمررنا على بعض الصف فنزلنا وتركناها ترتع، فلم يقل لنا رسول الله - عليه السلام - شيئًا". وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن هشام بن عمار، عن سفيان، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - عليه السلام - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليّ أحد". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 190 رقم 715). (¬2) "المجتبى" (2/ 64 رقم 752). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 392 رقم 1238). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 294 رقم 823).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. وقال أيضًا (1): حدثني حرملة بن يحيى، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن عباس أخبره: "أنه أقبل يسير على حمار ورسول الله - عليه السلام - قائم يصلي بمنرل في حجة الوداع يصلي بالناس، قال: فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس". حدثنا (1) يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، عن الزهري بهذا الإسناد قال: "والنبي - عليه السلام - يصلي بعرفة". حدثنا (¬2) إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، قالا: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد ولم يذكر فيه منى ولا عرفة، وقال: "في حجة الوداع أو يوم الفتح". وأخرجه الترمذي (¬3): نا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: "كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي - عليه السلام - يصلي بأصحابه بمنى، قال: فنزلنا عنها فوصلنا بالصف، فمرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم". قال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. وأخرجه البزار بسند صحيح ولفظه عن ابن عباس: "أتيت أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله - عليه السلام - بعرفة وهو يصلي المكتوبة ليس شيء يستره يحول بيننا وبينه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 361 رقم 504). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 362 رقم 504). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 160 رقم 337).

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1) ولفظه: "جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار ... " الحديث. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي وروح بن عبادة ووهب بن جرير بن حازم، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار العرني الكوفي، عن صهيب أبي الصهباء البكري البصري، ويقال: المدني، مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه النسائي (¬2): أنا أبو الأشعث، قال: ثنا خالد، قال: ثنا شعبة، أن الحكم أخبره، قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن صهيب، قال سمعت ابن عباس يحدث: "أنه مرّ بين يدي رسول الله - عليه السلام - هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي، فنزلوا ودخلوا معه فصلوا، فلم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب فأخذتا بركبتيه ففرع بينهما ولم ينصرف". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد، نا أبو عوانة، عن منصور، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء قال: "تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس فقال: جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار ورسول الله - عليه السلام - يصلي، فنزل ونزلت، فتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف فما بالى ذلك". وأخرجه الطيالسي في "مسنده": ثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب- قلت: من صهيب؟ قال: بصري قال: عن ابن عباس: "أنه كان على حمار هو وغلام من بني هاشم، فمر بين يدي النبي - عليه السلام - وهو يصلي، فلم ينصرف ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 24 رقم 836). (¬2) "المجتبى" (2/ 65 رقم 754). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 190 رقم 716).

لذلك، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فأخذتا بركبتي رسول الله - عليه السلام - ففرغ بينهما -يعني فرق بينهما- ولم ينصرف لذلك". وأخرجه البيهقي في "سننه (¬1): بهذا الطريق. وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2). قوله: "ونحن على أتان" جملة اسمية وقعت حالًا، قال عياض: الأتان أنثى الحمير، وقد جاء في الحديث الآخر: "على حمار" أراد به الجنس ولم يرد الذكورية، كما يقال إنسان للذكر والأنثى، وقال البخاري في روايته: "على حمار أتان". قلت: الأَتَان بالفتح الحمارة، والجمع: آتُن، أُتْن وأُتُن ويقال: بالكسر لغة أيضًا ذكره ابن عديس في "المثنى"، وفي "المحكم" الأتان: الحمار، والمأتوناء اسم للجمع، واستأتن الحمار صار أتانا، وفي "الصحاح": ولا تقل: أتانة، وقال ابن قرقول: جاء في بعض الحديث أتانة وضبط الأصيلي حمارٍ أتانٍ على النعت أو البدل منونين، "وجاء على حمار" "وجاء على أتان فالأولى الجمع بينهما، وقال: سراج بن عبد الملك أتان وصف للحمار ومعناه صلب قوي، مأخوذ من الأتانة وهي الحجارة الصلبة قال: وقد يكون بدل غلط قال: وقد يكون البعض من الكل؛ لأن الحمار يشمل الذكر والأنثى كالبعير، وقال ابن سراج: وقد يكون على حمار أتان على الإضافة، أي على حمار أنثى. وكذا وجدته مضبوطًا في بعض الأصول. قوله "بعرفة" وقد جاء "بمنى" كما ذكرنا في رواية البخاري وأبي داود والترمذي، وقد جاء اللفظان في "صحيح مسلم"، وقد ذكرناه. والمشهور أن هذه القضية كانت في حجة الوداع، وقد ذكرنا في رواية مسلم: "في حجة الوداع أو يوم الفتح" فلعلها كانت مرتين ويكون اختلاف لفظ مني وعرفة على هذا، فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 277 رقم 3317). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (2/ 23 رقم 835).

قوله: "ترتع " أي ترعى، يقال: رتعت الإبل إذا رعت. قوله: "فما بالاه" أي فما أكترث له، من بالى يبالي مبالاة. ويستفاد منه أحكام: فيه دليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، وزعم ابن القصار أن من قال: إن الحمار يقطع الصلاة قال: إن مرور حمار عبد الله كان خلف الإِمام بين يدي بعض الصف. قلت: هذا كلام جيد لولا روايته البزار من أن ذلك كان بين يدي النبي - عليه السلام - كما ذكرناها آنفا. وفيه حجة على أن الإِمام سترة لمن خلفه، لقوله: "فلم يقل لنا رسول الله - عليه السلام - شيئا" ولأن سكوت النبي - عليه السلام - -إن كان رآه- حجة في جواز ذلك، وإن كان لم يره فقد رآه جملة أصحابه فلم ينكروه عليه ولا أحد منهم. وفيه جواز الارتداف على الحمير. ص: ففي حديث عبيد الله عن ابن عباس أنهما مرا على الصف، فقد يجوز أن يكونا مرا على المأمومين دون الإمام وكان ذلك غير قاطع على المأمومين، ولم يكن في ذلك دليل على حكم مرور الحمار بين يدي الإِمام، ولكن في حديث صهيب عن ابن عباس: أنه مر برسول الله - عليه السلام - فلم ينصرف؛ فدل ذلك على أن مرور الحمار بين يدي الإمام غير قاطع للصلاة، وقد روي عن ابن عباس في الحديث الذي ذكرناه عنه في الفصل الأول من حديث ابن أبي داود: أن الحمار يقطع الصلاة ... في أشياء ذكرها معه في ذلك الحديث قال: وأحسبه قد أسنده. فهذا الحديث الدي رويناه عن عبيد الله وصهيب عن ابن عباس مخالف لذلك؛ فأردنا أن نعلم أيهما نسخ الآخر؟ فنظرنا في ذلك فإذا أبو بكرة قد حدثنا قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا سماك، عن عكرمة قال: "ذكر عند ابن عباس ما يقطع الصلاة؟ فقالوا: الكلب والحمار، فقال ابن عباس: إليه يصعد الكلم الطيب، وما يقطع هذا ولكنه يكره".

فهذا ابن عباس قد قال: بعد رسول الله - عليه السلام -: إن الحمار لا يقطع الصلاة؛ فدل ذلك على أن ما روى عنه عبيد الله وصهيب كان متاخرًا عما رواه عنه عكرمة من ذلك. ش: أراد بهذا تصحيح معاني الأحاديث المذكورة، وبيان النسخ فيها. بيانه: أن ما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس المذكور فيما مضى ليس فيه دليل على حكم مرور الحمار بين يدي الإِمام؛ لأنه قال: فمررنا على بعض الصف، فقد يجوز أن يكون مرورهما على المأمومين دون الإِمام، وكان ذلك غير قاطع على المأمومين؛ وهذا قال من يري أن الحمار يقطع الصلاة: إن مرور حمار عبد الله كان خلف النبي - عليه السلام - بين يدي بعض الصف، وليس فيه دليل على أن مروره بين يدي الإِمام غير قاطع للصلاة. ولكن روي عن ابن عباس في الحديث الذي رواه إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن المقدمي، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس -قال: أحسبه قد أسند إلى النبي - عليه السلام -- قال: "يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب والحمار ... " الحديث. فهذا الحديث يدل على أن مروره يقطع الصلاة مطلقًا؛ ولكن يعارضه ما رواه عبيد الله بن عبد الله وصهيب، عن ابن عباس؛ لأن فيه أن ذلك لا يقطع الصلاة، فقد حصل التعارض والتخالف بين حديثي ابن عباس، فيحتاج فيه أن نتظر حتى نعلم أيهما الناسخ، فنظرنا في ذلك فوجدنا عكرمة قد روى عن ابن عباس أنه قال: "ما يقطع هذا ولكنه يكره". أخرجه بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، وثقه ابن حبان ويحيى وآخرون. عن سفيان الثوري، عن سماك بن حرب روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عكرمة مولى ابن عباس، عنه.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الثوري، عن سماك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن سماك، نحوه. فدل ذلك أن ما رواه عبيد الله وصهيب عنه كان متأخرًا عما رواه عنه عكرمة المذكور في الفصل الأول، والمتأخر ناسخ للمتقدم؛ وذلك لأن قول ابن عباس هذا بعد النبي - عليه السلام - يدل على أنه قد ثبت عنده ارتفاع حكم ما رواه قيل ذلك، فيكون قوله دلالة للتأريخ، وقد أجاب بعضهم عن أحاديث القطع بأن المراد بالقطع: المبالغة في الخوف على فسادها بالشغل بهم، كما يقال للمادح: قطعت عنق أخيك. أي فعلت به فعلًا يخاف عليه هلاكه منه كمن قطع عنقه، وقد يجاب بأن الحديث الأول لا يساوي هذا الحديث ولا يدانيه على ما ذكرنا، ثم معنى قول ابن عباس: "إليه يصعد الكلم الطيب" إشارة إلى أن المصلى مشتغل بذكر ربه متوجه إليه فكلمه وذكره الطيب يصعدان إلى الله تعالى، والعمل الصالح يرفعه فلا يقطع صلاته مرور الحمار ولا الكلب ولا المرأة. وقال: ابن حزم احتجِ بعض المخالفين بقول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬3) قال: "فما يقطع هذا"، قال علي: يقطعه عند هؤلاء المشغبين قبلة الرجل امرأته ومسه ذكره وأكثر من قدر الدرهم من بول، ويقطعه عند الكل رويمة تخرج من الدبر متعمدة. قلت: هذا كلام سخيف لأن بهذه الأشياء يرتفع الوضوء فيبقى المصلي بلا طهارة فكيف لا تقطعها هذه الأشياء، بخلاف مرور الحمار والكلب والمرأة فإن لا يرفع الوضوء بالإجماع، والمصلي بذلك على طهارته في ذكره وكلمه الطيب، وعمله الصالح يرفعه فلا يضره ولا يقطعه ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 279 رقم 3328). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 29 رقم 360). (¬3) سورة فاطر، آية: [10].

ص: وقد روي عن الفضل بن عباس عن النبى - عليه السلام - ما يدل على أن الحمار أيضًا لا يقطع الصلاة: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن محمد بن عمر، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس - رضي الله عنهم - قال: "زارنا رسول الله - عليه السلام -في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى فصلى العصر وهما بين يديه فلم تزجرا ولم تؤخرا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا معاذ بن فضالة، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ... فذكر بإسناده نحوه. حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن يحيى بن أيوب (ح). وحدثنا محمد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال عبد الله بن صالح في حديثه: عن محمد بن عمر، وقال ابن أبي مريم في حديثه: قال: حدثني محمد بن عمر ... ثم ذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "زار رسول الله - عليه السلام - عباسًا - رضي الله عنه -". فقد وافق هذا الحديث حديث صهيب وعبيد الله عن ابن عباس الذي قدمنا ذكرهما في الفصل الذي قبل هذا. ثم رجعنا إلى حكم مرور الكلب بين يدي المصلي كيف هو، وهل يقطع الصلاة أم لا؟ فكان أحد من روينا عنه عن النبي - عليه السلام - أنه يقطع الصلاة ابن عباس، قد روينا ذلك عنه في أول هذا الباب، ثم قد روي في حديث الفضل الذي ذكرنا ما قد خالفه، ثم روينا عن ابن عباس بعد من قوله بعد رسول الله - عليه السلام - في حديث عكرمة عنه أن الكلب لا يقطع الصلاة؛ فدل ذلك على ثبوت نسخ ذلك عنده، وعلى أن ما رواه الفضل عن النبي - عليه السلام - من ذلك كان متأخرًا لما رواه ابن عباس عن النبي - عليه السلام -.

ش: أخرج ما روي عن الفضل بن عباس من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي. عن عباس بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وثقه ابن حبان. عن الفضل بن عباس بن عبد المطلب - رضي الله عنهما -. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الرحمن بن خالد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قال: أخبرني محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس قال: "زار رسول الله - عليه السلام - عباسًا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - عليه السلام - العصر ... " إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن معاذ بن فضالة الزهراني شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمد بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن العباس، عن الفضل بن عباس قال: "أتانا رسول الله - عليه السلام - ونحن في بادية ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك". الثالث: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن محمد بن عمر، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 65 رقم 753). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 191 رقم 718).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) نحوه. الرابع: عن محمد بن حميد أيضًا، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬2): ثنا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب، حدثني محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، أن عباس بن عبيد الله بن عباس حدثه، عن الفضل بن عباس قال: "أتى رسول الله - عليه السلام - عباسًا في بادية لنا، فصلى العصر وبين يديه كليبة لنا أو حمارة لنا فما ينهاها ولا يؤخرها". وقد طعن ابن حزم في هذا الحديث: أن العباس بن عبيد الله بن العباس لم يدرك عمه الفضل. قلت: ذكر جماعة من الثقات أنه روى عن عمه الفضل بن عباس فيدل هذا على أنه أدركه. قوله: "كليبة" تصغير كلبة. قوله: "فلم تزجرا" على صيغة المجهول أي الكليبة والحمارة وكذا قوله: "ولم تؤخرا" على صيغة المجهول. قوله: "تعبثان" أي تلعبان، من العبث وهو الإفساد، وفي بعض نسخ أبي داود "تعيثان" من عاث الذئب في الغنم تعوث عيثًا: إذا أفسد، ويجوز أن تكون عثي يعثي عيثا إذا أفسد، من باب عَلِمَ يَعْلَم، ويقال: عَثَا يَعْثو من باب نَصَرَ يُنْصُر، وتكون التثنية تعثيان بتقديم الثاء المثلثة. ومما يستفاد من هذا الحديث: أنه إذا صلى في الصحراء بلا سترة لا بأس عليه، قال الأبهري: لا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن من ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 211 رقم 1797)، (1/ 212 رقم 1817). (¬2) "المعجم الكبير" (18/ 295 رقم 756).

المرور بين يديه واختلفوا في موضع يأمن، فعن مالك قولان، وعند الشافعي هي مشروعة مطلقًا، فإن كان في الفضاء هل يصلي إلى غير سترة؛ فأجازه ابن القاسم لهذا الحديث، وقال مطرف وابن الماجشون: لا بد من السترة، وذكر عن عروة وعطاء وسالم والقاسم والشعبي والحسن أنهم كانوا يصلون في الفضاء إلى غير سترة. قوله: "فقد وافق هذا الحديث" أي قد وافق حديث الفضل بن عباس هذا حديث صهيب البكري البصري وحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة اللذين ذكرا فيما مضى في الفصل الذي قبل هذا، وهما رويا عن ابن عباس في حديثيهما حكم الحمار، وأنه لا يقطع الصلاة فكذلك روى الفضل في حديثه المذكور حكم الحمار وأنه لا يقطع الصلاة، وزاد هو في روايته هذه "الكلب" بأنه لا يقطع الصلاة، وقد كان روي عن ابن عباس أن مرور الكلب بين يدي المصلي يقطع الصلاة، وهو المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وروي عنه أيضًا ما يخالفه، وهو الذي احتج به أهل المقالة الثانية، وقد ذكرنا أن بينهما تعارضًا ظاهرًا، وذكرنا أيضًا أن روايته الثانية ناسخة للأولى؛ لأنه روي عنه من بعد النبي - عليه السلام -فيما رواه عكرمة عنه- أن الكلب لا يقطع الصلاة، وفتواه هذه تدل على انتساخ ذلك الحديث الذي فيه القطع؛ لأنه لو لم يعلم ذلك ولم يثبت عنده لما قال بعد النبي - عليه السلام - قولًا يخالف ما رواه عنه، ودل ذلك أيضًا على أن ما رواه الفضل عن النبي - عليه السلام - من ذلك كان متأخرًا عما رواه عبد الله بن عباس عن النبي - عليه السلام -، والمتأخر ناسخ للمتقدم بلا خلاف. ص: غير أن أبا ذر - رضي الله عنه - روى عن النبي - عليه السلام - أنه فصل بين الكلب الأسود من غيره من الكلاب، فجعل الأسود يقطع الصلاة، وجعل ما سواه بخلاف ذلك، وأن رسول الله - عليه السلام - سئل عن ذلك فقال: "الأسود شيطان". فدل ذلك على أن المعنى الدي وجب به قطعه إنما هو لأنه شيطان، فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شيء؟

فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع، فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ظفر، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار. وعن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن في سعيد، جميعًا عن النبي - عليه السلام - مثله. ففي هذا الحديث أن كل مارٍّ بين يدي المصلي شيطان وقد سوى في هذا بني آدم والكلب الأسود إذا مروا بين يدي المصلي. ش: استثنى هذا الكلام عما قبله؛ ليبين وجه التوفيق بين ما روي عن ابن عباس والفضل وبن ما روي عن أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة المذكور في أول الباب؛ وذلك لأن أبا ذر روى أن الكلب الأسود هو الذي يقطع الصلاة، وأن خلافه من الكلاب بخلاف ذلك، وهما رويا أن الكلب مطلقًا لا يقطع الصلاة. وجه التوفيق في ذلك: هو أن النبي - عليه السلام - لما سئل عن الكلب الأسود قال: الأسود شيطان، فعلل بأن المعنى الموجب لقطع الأسود هو كونه شيطانًا، فإذا كانت العلة هذه فقد وجدنا في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - جعل كل مارٍّ بين يدي المصل شيطانًا، وهو بعمومه يتناول بني آدم والكلب الأسود والأبيض والأحمر وغير ذلك، فعلم من ذلك أن الكلب على سائر ألوانه حكمه في هذا الأمر كحكم غيره من بني آدم والحمار، في عدم القطع؛ لأنه - عليه السلام - أمر بالدرء في حق كل مارٍّ ولم يخص مارًّا عن مارٍّ. فإن قيل: إذا سلم ذلك، فما وجه التخصيص بذكر الأسود؟

قلت: قد قيل: إن الكلب الأسود جنس من الشياطين أو إن الشياطين غالبًا يتمثلون بصورة الكلب الأسود؛ فلذلك خصصه بالذكر، مع أن حكم الكل سواء كما ذكرناه. ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم القرشي، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬3): عن قتيبة، عن مالك نحوه، غير أنه ليس في روايته: "فإنما هو شيطان". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي ظفر عبد السلام بن مطهر شيخ البخاري وأبي داود، عن سليمان بن المغيرة القيسي البصري روى له الجماعة، عن حميد بن هلال بن هبيرة العدوي روى له الجماعة، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - نحوه. وأخرجه البزار في "مسنده": حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، حدثني أبي، عن أبيه، عن يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا كان أحدكم يصلي فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه، فإن أبي فليقاتله فإنه شيطان" وهذا الحديث لا نعلم رواه عن يونس، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، عن أبي سعيد إلا عبد الوارث، وقد رواه سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، عن أبي سعيد. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 362 رقم 505). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 185 رقم 697). (¬3) "المجتبى" (2/ 66 رقم 757).

الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة، شيخ البخاري في "أفعال العباد"، وعن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق وذكره ابن حبان في "الثقات". عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن صفوان بن سليم المدني روى له الجماعة، عن عطاء بن يسار. عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، جميعًا عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، ثنا عبد العزيز -وهو ابن محمد- عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه، فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان". قوله: "فلا يدعن" بنون التأكيد المشددة، أي فلا يتركن. قوله: "وليدرأه ما استطاع" أي وليدفعه قدر استطاعته. قال القاضي عياض: أي ليدفعه ويمنعه عن ذلك، ولا يسامحه في المرور، وهو معنى قوله: "ما استطاع". قوله: "فإن أبي" أي امتنع. "فليقاتله" قال القاضي: أي إن أبى بالإشارة ولطيف المعنى؛ فليمانعه، وليدافعه بيده عن المرور، وليعنف عليه في ردّه. قال أبو عمر: هذا لفظ جاء على وجه التغليظ والمبالغة. وقال الباجي: يحتمل أن يكون بمعنى فليلعنه، فالمقاتلة بمعنى اللعن موجودة، قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬1) قال: ويحتمل أن تكون بمعنى: فليعنفه على فعله ذلك، وليؤاخذه، وخرج من ذلك معنى المقاتلة المعلومة بالإجماع. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: [10].

قوله: "فإنما هو شيطان" قال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: الحامل له على ذلك شيطان، يؤيده حديث ابن عمر عند مسلم: "لا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أي فليقاتله، فإن معه القرين". وعند ابن ماجه: "فإن معه العُزَّى" (¬1) وقيل: معناه فإنما هو فعل الشيطان لشغل قلب المصلي كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه من قولهم: بئر شطون أي بعيدة، ومنه سمي الشيطان لبعده عن رحمة الله، فسماه شيطانًا لاتصافه بوصفه، كما يقال: فلان الأسد، أي يبطش ويقوى كبطشه وقوته. قلت: فعل هذا يكون هذا من باب التشبيه البليغ، نحو زيد أسد، شبه المارّ بين يديه بالشيطان لاشتراكهما في شغل قلب المصلي والتشويش عليه. ثم اعلم أن الشيطان اسم لكل متمرد، قال الجوهري: كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب فهو شيطان، فعل هذا يجوز حمل الكلام على ظاهره. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن المصلي لا يُمَكن أحدًا من المرور بين يديه لقوله: "فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه". الثاني: أنه يدفع المار مهما أمكن، فإن امتنع عليه فليقاتله بمعنى فليعنف في المنع عنه كما ذكرنا. وقال النووي: هذا أمر ندب متأكد، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أوجبه قال القاضي عياض: وأجمعوا أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدي إلى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل تجب ديته أم تكون هدرًا فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك. قال: ابن شعبان عليه الدية في ماله كاملة وقيل: هي على عاقلته، وقيل: هدر. ذكره ابن التين. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 307 رقم 955).

قال عياض: واتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده، وإنما يدافعه ويرده من موقفه؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه، وإنما يرده إذا كان بعيدًا منه بالإشارة والتسبيح، واتفقوا على أنه إذا مر لا يرده كَيْلَا يصير مرورًا ثانيًا، وقد روي عن البعض: يرده. واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا؟ فقال ابن مسعود: يرده وروي ذلك عن سالم والحسن، وقال أشهب: يرده بإشارة ولا يمشي إليه؛ لأن مشيه أشد من مروره؛ فإن مشي إليه ورده لم تفسد صلاته. فإن قيل: المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي أو هو من أجل مرور المار؟ قلت: الظاهر أنه من أجل مرور المار، يدل عليه قوله - عليه السلام -: "لأن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه" (¬1) وقال في حق المصلي: "إن الصلاة لا يقطعها شيء" (¬2). الثالث: أن المقاتلة المذكورة إنما تكون بعد الدفع لاحتمال أن يكون المار ساهيًا أو لم ير المصلي أو لم يتبين له أنه يصلي أو فعله عامدًا؛ فإن رجع حصل المقصود، فإن لم يرجع قوتل وحكى السفاقسي عن أبي حنيفة بطلان الصلاة بالدفع، وهو قول الشافعي في القديم وقال ابن المنذر: يدفع في نحوه أولًا مرة، ويقاتله في الثانية، وقيل: يؤاخذه على ذلك بعد إتمام الصلاة ويؤنبه، وقيل: يدفعه دفعًا شديدًا أشد من الرد منُكِرًا عليه، وهذا كله ما لم يكثر، فإن أكثر فسدت صلاته وضَمَّن عمر بن عبد العزيز رجلًا دفع آخر وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام -. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن صدقة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه فإن أبي فليقاتله فإن معه القرين". ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي جهيم، البخاري (1/ 191 رقم 488)، ومسلم (1/ 363 رقم 507). (¬2) رواه أبو داود في "سننه" (1/ 249 رقم 720) من حديث أبي سعيد الخدري من قوله.

ومعنى هذا معنى حديث أبي سعيد سواء، وأن ابن آدم في مروره بين يدي أخيه المصلي مرور بقرينه أيضًا بين يديه، وهو شيطان. ثم قد أُجْمع على أن مرور بني آدم بعضهم ببعض في صلاتهم لا يقطعها؛ قد روي ذلك عن النبي - عليه السلام - من غير وجه. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن كثير بن كثير، عن بعض أهله سمع المطلب يقول: "رأيت النبي - عليه السلام - يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه ليس بينه وبين القبلة شيء". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت ابن جريج، يحدث عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن جده المطلب بن أبي وداعة فذكر مثله غير أنه قال: "ليس بينه وبين الطوّاف سترة". قال سفيان فحدثنا كثير بن كثير بعد ما سمعته من ابن جريج قال: أخبرني بعض أهلي، ولم أسمعه من أبي. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا هشام -أراه- عن ابن عم المطلب بن أبي وداعة عن كثير بن كثير بن المطلب بن وداعة، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام - بذلك. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عمر مثل ما روى عن أبي سعيد الخدري في درء المصلي المار بين يديه ومقاتلته معه لكونه شيطانًا، ومعنى الحديثين في الحقيقة سواء؛ لأنه قال في حديث أبي سعيد: "فإنما هو شيطان" وفي حديث ابن عمر: "فإنه معه القرين" أي الشيطان، ولا شك أنه إذا مر بين يدي المصلي يمر بقرينه أيضًا لأنه لا يفارقه، فعلى هذا يكون في حديث أبي سعيد مجاز من قبيل ذكر الشيء باسم مجاوره؛ لأنه أطلق عليه الشيطان وأراد قرينه، فيكون حديث ابن عمر مفسرًا لحديث أبي سعيد - رضي الله عنهم - فحينئذ اتفق معنى الحديثين، ولكنهم لما أجمعوا على أن مرور بني آدم بعضهم ببعض في صلاتهم لا يقطع الصلاة كما روي ذلك في أحاديث كثيرة على

ما يأتي؛ ثبت بذلك أن مرور غير بني آدم من الحيوانات كذلك لا يقطعها؛ لأن النبي - عليه السلام - أمر بالدرء في حق كل مارّ ولم يخص مارّا دون مارّ، وأخبر أن كل مارّ بين يدي المصلي شيطان، فكانت العلة الموجبة للدرء والمقاتلة عامة في حق الكل، فكما أنه لا يبطل الصلاة في بني آدم فكذلك في غيرهم. ثم حديث عبد الله بن عمر صحيح ورجال إسناده ثقات، غير أن في يعقوب بن حميد اختلافًا، والأكثرون على توثيقه كما ذكرناه. وابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني روى له الجماعة، والضحاك بن عثمان بن عبد الله أبو عثمان المدني الكبير روى له الجماعة سوى البخاري، وصدقة بن يسار الجزري ثقة روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع، قالا: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبي فليقاتله فإن معه القرين". انتهى. أي المصاحب من الشياطين، والقرين يكون في الخير والشر، وفي الحديث ما من أحد إلا وُكِّل به قرينه أي مصاحبه من الملائكة والشياطن، وكل إنسان فإن معه قرينًا منهما فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه، وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه. وأما حديث المطلب بن أبي وداعة السهمي الصحابي - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة بن صبيرة السهمي المكي من رجال البخاري، عن بعض أهله وهو مجهول، سمع المطلب بن أبي وداعة إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 363 رقم 506).

وأخرجه أبو داود (¬1) في كتاب الحج: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، قال لي بعض أهلي يحدثني عن جده: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يقرون بين يديه وليس بينهما سترة، قال سفيان: ليس بينه وبين الكعبة سترة، وقال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه، قال: ثنا كثير، عن أبيه فسألته فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن أبيه كثير بن المطلب وثقه ابن حبان، عن جده المطلب بن أبي وداعة ... إلى آخره. وهذا إسناد حسن جيد. وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عيسى بن يونس، قال: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - طاف بالبيت سبعًا، ثم صلى ركعتين بحزائه في حاشية المقام وليس بينه وبين الطُوَّاف أحد، وقال ابن المديني: قال سفيان: سمعت ابن جريج يقول: أخبرني كثير بن كثير، عن أبيه، عن جده، فذهبت إلى كثير فسألته، فقال: لم أسمعه من أبي، حدثني بعض أهلي عن جدي. ذكره البيهقي في "سننه" (¬3): عن ابن المديني. الثالث: عن يزيد بن سنان شيخ النسائي أيضًا، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، عن هشام بن حسان، عن ابن عم المطلب بن أبي وداعة، عن كثير بن كثير بن المطلب بن وداعة، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 211 رقم 2016). (¬2) "المجتبى" (2/ 67 رقم 758). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 273 رقم 3296).

وفيه أيضًا مجهول. وأخرجه الطبراني (¬1): من حديث هشام بن حسان، عن سالم الخياط، عن كثير بن المطلب. وقال: ثنا محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني، ثنا زيد بن أخرم، ثنا عبد القاهر بن شعيب، عن هشام بن حسان، عن سالم بن عبد الله، عن كثير بن كثير بن المطلب، عن أبيه، عن جده: "أن النبي - عليه السلام - خرج من الكعبة فقام حيال الركن، فصلى ركعتين والناس يقرون بين يديه يطوفون بالبيت الرجال والنساء". قوله: "باب بني سهم" باب من أبواب مسجد الكعبة. قوله: "وبين الطواف" في رواية النسائي بفتح الطاء وتخفيف الواو، وقد ضبطه بعضهم من أفاضل المحدثين بضم الطاء وتشديد الواو، وأراد به جمع طائف، ولكل منهما وجه، والله أعلم. واستفيد من الحديث: أن مرور المار بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وأن درء المار ليس بشرط لصحة الصلاة، إذ لو كان شرطًا لما كان - عليه السلام - ترك الدرء في الحديث المذكور؛ لأنه لم ينقل أنه درأهم، وأن نصب السترة ليس بشرط لصحة الصلاة؛ إذ لو كان شرطًا لنصبها - عليه السلام - حينئذ. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، أنه قال: تذاكروا عند عائشة - رضي الله عنها - ما يقطع الصلاة؟ فقالوا: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت عائشة - رضي الله عنها -: لقد عدلتمونا بالكلاب والحمير، وقد كان رسول الله - عليه السلام - يصلي في وسط السرير وأنا عليه مضطجعة، والسرير بينه وبين القبلة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس بين يديه فأؤذيه فأنسل من قَبِل رجلي انسلالًا". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 290 رقم 685).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وبشر بن عمر، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي وأنا بينه وبين القبلة، فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم بين يديه، فأنسل انسلالا". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا مالك، عن أبي النضر (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب وأشهب، عن مالك عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:"كنت أمد رجلي في قبلة رسول الله - عليه السلام -وهو يصلي؛ فإذا سجد غمزني فرفعتهما فقبضتهما فإذا قام مددتهما". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: أخبرتني عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي وهي معترضة أمامه في القبلة، فإذا أراد أن يوتر غمزها برجله فقال: تنحي". حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس البصري، قال: ثنا المقرى، قال: ثنا موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر الغافقي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يسبح من الليل وعائشة معترضة بينه وبين القبلة". حدثنا محمد بن عمرو قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي يرقد عليه هو وأهله، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوتر". ش: هذه سبع طرق صحاح، ستة منها عن نفس عائشة، وواحد عن علي بن أبي طالب في قضية عائشة: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني روى له الجماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن أبي الضحى مسلم ابن صبيح -بضم الصاد وفتح الباء الموحدة- العطار الكوفي روى له الجماعة.

عن مسروق بن الأجدع روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسماعيل بن خليل، ثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مسلم -يعني بن صبيح- عن مسروق، عن عائشة: "أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، قالت: لقد جعلتمونا كلابًا؛ لقد رأيت النبي - عليه السلام - يصلي وإني لبينه وبين القبلة وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة فأكره أن أستقبله فأنسل انسلالًا". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو الناقد وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا حفص بن غياث. ونا عمر بن حفص بن غياث -واللفظ له- قال: ثنا أبي، قال: نا الأعمش، قال: نا إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -. قال: وحدثني مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة: "وذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي وأني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأؤذي رسول الله - عليه السلام -، فأنسل من عند رجليه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم وبشر بن عمر بن الحكم الزهراني، كلاهما عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "عدلتمونا بالكلاب والحمر؛ لقد رأيتني ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 192 رقم 489). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 366 رقم 512). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 367 رقم 512).

مضطجعة على السرير فيجيء رسول الله - عليه السلام - فيتوسط السرير، فيصلي فأكره أن أسنحه، فأنسل من قِبَل رجلي السرير، حتى أنسل من لحافي". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ الشيخين وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - أنها قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - عليه السلام - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز القيسي، كلاهما عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره، نحو رواية البخاري. الخامس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬3): نا عثمان بن أبي شيبة، نا محمد بن بشر. ونا القعنبي، نا عبد العزيز يعني بن محمد وهذا لفظه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها قالت: "كنت أنام وأنا معترضة في قبلة رسول الله - عليه السلام -، فيصلي رسول الله - عليه السلام - وأنا أمامه، إذا أراد أن يوتر -زاد عثمان: غمزني ثم اتفقا- فقال تنحي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 192 رقم 491). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 366 رقم 512). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 190 رقم 714).

السادس: عن إبراهيم بن محمد بن يونس البصري مولى عثمان بن عفان نذيل مصر، عن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن موسى بن أيوب الغافقي المصري وثقه يحيى وأبو داود، عن عمه إياس بن عامر الغافقي وثقه ابن حبان، عن علي بن أبي طالب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرحمن، نا موسى بن أيوب ... إلى آخره نحوه سواء. السابع: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي المعروف بالسوسي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا هشام، حدثني أبي، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: "إن النبي - عليه السلام - كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة راقدة على الفراش الذي يرقد عليه، حتى إذا أراد أن يوتر أيقظها فأوترت". وأخرجه ابن ماجه (¬4) أيضًا. قوله: "لقد عدلتمونا" أي لقد سويتمونا بالكلاب، من قولك عدلته بهذا إذا سويت بينهما، وكذلك عادلت. قوله: "وقد كان رسول الله - عليه السلام - يصلي في وسط السرير" وفي بعض النسخ: "يصلي وسط السرير، بدون كلمة "في" وكذا رواية السراج في "مسنده"، والوَسَط ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 99 رقم 772). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 192 رقم 490). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 189 رقم 711). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 307 رقم 956).

بفتح السين لأن كل ما متصل كالدار والرأس فهو بالفتح، وكل ما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك فهو بالسكون، ولهذا يسكن السين في قوله: "الجالس وَسْط الحلقة ملعون" ويقال كل ما يصلح فيه "بين" فهو بالسكون، وما لا يصلح فيه "بين" فهو بالفتح، وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر. قوله: "وأنا عليه مضطجة" جملة إسمية وقعت حالًا. قوله: "فتبدوا لي الحاجة" أي تظهر لي الحاجة، وفي رواية السراج: "فتكون لي الحاجة". قوله: "فأنسل" أي أمضي بتأن وتدريج، وهو من الانسلال وثلاثية سل، من سللت الشيء أسلُّه سلًا، يقال: سللت السيف وأستللته بمعنى؛ قاله الجوهري. قوله: "انسلالا" نصب على أنه مفعول، لقوله فأنسل. قوله: "لقد رأيتني" أي لقد رأيت نفسي. قوله: "أن أسنحه" بالحاء المهملة، أي أكره أن استقبله ببدني في صلاته، من سَنَحَ لي الشيء: إذا عَرَضَ، ومنه السانح ضد البارح. قوله: "غمزني" من غمزت الشيء بيدي، قاله الجوهري، وأُنشد (¬1): وكلنتُ إذا غَمزتُ قَنَاةَ قوم ... كَسَرتُ كُعُوبَهَا أو تَسْتَقِيما وغمزته بعيني؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (¬2) والمراد به ها هنا الغمز باليد. وفيه حجة لأصحابنا لأن الأصل في الرجل أن تكون بغير حائل؛ عرفًا وكذلك اليد؛ كذا قال ابن بطال، وقال: وقول الشافعي: كان غمزه إياها على ثوب فيه بعد. انتهى. ¬

_ (¬1) القائل، هو زياد الأعجم، كما في "لسان العرب" (مادة: غمز). (¬2) سورة المطففين، آية: [30].

وأيضًا من الجائز أن يمس منها عضوًا بغير حائل؛ لأن المكان إذا كان بغير مصباح لا يتأتى فيه الاحتراز كما إذا كان فيه مصباح، والنبي - عليه السلام - في هذا المقام في مقام التشريع لا الخصوصية إذ من المعلوم أن الله تعالى عصمة في جميع أفعاله وأقواله. وقال القاضي عياض: فيه دليل على أن محاذاة المرأة في الصلاة للمصلي غير مفسدة لصلاة الرجل سواء كانت في صلاة معه أم لا خلافًا لأبي حنيفة في أن صلاة المحاذي لها من الرجال تفسد. قلت: يالله العجب كيف يصدر مثل هذا الكلام عن مثل هذا الرجل من غير تحقيق مذهب أبي حنيفة، فأبو حنيفة: لم يقل: إن مجرد المحاذاة تفسد صلاة الرجل، بل المحاذاة المفسدة عنده أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في صلاة مطلقة تحريمة وأداء، وها هنا لم تكن عائشة - رضي الله عنها - شريكة النبي - عليه السلام - في صلاته، ولا مقيدة به، وأبو حنيفة أيضًا يقول في مثل هذا بعدم الفساد، فكيف يجعل القاضي الصورة الاتفاقية حجة على من يقول بها؛ نصرة لإمامه ومن تبعه؛ فافهم. قوله: "أمامه" بفتح الهمزة أي قدامه. قوله: "تَنَحَّي" أي تحولي وابعدي، وهو أمر من تنحى يتنحى فللمذكر تَنَحِّ وللمؤنث تَنَحِّى بفتح الحاء وإسكان الياء. قوله: "يسبح من الليل" أي يتطوع من الليل، ومنه يقال لصلاة النافلة: سبحة وهي من التسبيح، كالسخرة من التسخير، وإنما خصت النافلة بالسبحة، وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح؛ لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة سبحة لأنها نافلة كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة. قوله: "على الفراش الذي يرقد هو" أي ينام عليه النبي - عليه السلام - "وأهله". قوله: "فأُوتر" من قول عائشة إخبار عن نفسها، أي فأوتر أنا، ووقع في رواية البخاري: "فأوترت"، ووقعت الروايتان جميعًا في "مسند السراج".

ويستنبط منها أحكام: الأول: أن المرأة لا تقطع الصلاة. الثاني: جواز الصلاة إلى المرأة، وكرهه البعض النبي - عليه السلام - لخوف الفتنة بها وبذكرها، وإشغال القلب بها بالنظر إليها، والنبي - عليه السلام - منزه عن هذا كله، مع أنه كان بالليل والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، وهو المختار عندي في هذا الزمان، وحكم الصبي الأمرد كحكم المرأة في ذلك. الثالث: جواز الصلاة إلى النائم. والرابع: استحباب صلاة الليل. والخامس: جواز الصلاة على السرير من غير كراهه. والسادس: أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة. والسابع: إن تأخير الوتر إلى آخر الليل مستحب لمن يشق بالانتباه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كان يفرش لي حيال مصلى رسول الله - عليه السلام -، كان يصلي وإني حياله". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق. وعفان هو ابن مسلم الصفار، ووهيب هو ابن خالد البصري، وخالد هو الحذاء، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وزينب بنت أبي سلمة صحابية، وأم سلمة اسمها هند بنت أبي أمية. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): قال: ثنا عفان ... إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "حيال مسجد رسول الله - عليه السلام -" أي تلقاء وجهه. قوله: "وإني حياله" جملة اسمية وقعت حالًا، أي والحال أني أنا تلقاء وجهه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 322 رقم 26776)، وفيه: "حيال مصلى ... ".

ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا الشيباني، عن عبد الله بن شداد، قال: حدثتني خالتي ميمونة بنت الحارث قالت: "كان فراشي حيال مصلى رسول الله - عليه السلام -، فربما وقع ثوبه عليَّ وهو يصلي". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصالح هو ابن عبد الرحمن، وسعيد هو ابن منصور الخراساني شيخ مسلم، وأبي داود وهشيم هو ابن بشير، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن شداد بن الهاد أبو الوليد المدني روى له الجماعة، وأمه سلمى بنت عميس الخثعمية أخت أسماء بنت عميس وكانتا أختي ميمونة بنت الحارث زوج النبي - عليه السلام - لأمها. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عمرو بن عون، ثنا خالد عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخمرة". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا بكر بن عيسى الراسبي، نا أبو عوانة، نا سليمان الشيباني، نا عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: سمعت خالتي ميمونة -يعني بنت الحارث- زوج النبي - عليه السلام -: "أنها كانت تكون حائضًا وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - عليه السلام - وهو يصلي على خمرته، إذا سجد أصابني بعض ثوبه". قوله: "حيال مصلى رسول الله - عليه السلام -" أي تلقاء وجهه، والمصلى: الموضع الذي كان يصلي فيه - عليه السلام - في بيته، وهو مسجده الذي عينه للصلاة فيه. قوله: "على الخُمْرة" بضم الخاء المعجمة وسكون الميم، وهي كحصر صغير يعمل من سعف النخل وينسج بالسيور والخيوط، وهي على قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف، فإذا كبرت عن ذلك فهي حصير، وسميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 176 رقم 656). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 330 رقم 26849)

ص: فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله - عليه السلام - بما يدل على أن بني آدم لا يقطعون الصلاة، وقد جعل كل مار بين يدي المصلي في حديث ابن عمر وأبي سعيد عن النبي - عليه السلام - شيطانًا، وأخبر أبو ذر عن النبي - عليه السلام - أن الكلب الأسود إنما يقطع الصلاة لأنه شيطان؛ فكانت العلة التي لها جعلت لقطع الصلاة قد جعلت في بني آدم أيضًا، وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - أنهم لا يقطعون الصلاة؛ فدل أن كل مارٍّ بين يدي المصلي مما سوى بني آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة. ش: أي فقد تكاثرت وتتابعت، وأراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رواها عن عائشة وعلي وأم سلمة وميمونة بنت الحارث - رضي الله عنهم -، يعني أحاديث هؤلاء تواردت بدلالتها على أن مرور بني آدم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة. قوله: "وقد جعل كل مارٍّ ... " إلى آخره، بيانه أن النبي - عليه السلام - جعل كل مارٍّ بين يدي المصلي -من بني آدم وغيرهم من الحيوان- شيطانًا، وذلك في حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي سعيد الخدري، وقد كان أخبر أبو ذر الغفاري عن النبي - عليه السلام - أن الكلب الأسود إنما يقطع الصلاة لأنه شيطان فصارت العلة في الجميع كون المار شيطانًا، وقد ثبت عن النبي - عليه السلام أن بني آدم لا يقطعون الصلاة، فكذلك ينبغي أن لا يقطع مرور غيرهم من الحيوانات، نظرًا على ذلك وقياسًا عليه، لعموم علة القطع في الكل. قوله: "فكانت العلة التي لها" أي للحيوانات من غير بني آدم. وقوله: "قد جعلت في بني آدم" أيضًا خبر "كانت" فافهم. قوله: "فدل ... إلى آخره" نتيجة مترتبة على ما قبله من الكلام. ص: والدليل على صحة ما ذكرنا: أن ابن عمر -مع روايته ما ذكرنا عنه عن النبي - عليه السلام -- قد روي عنه من قوله من بعده ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم قال: "قيل لابن عمر: إن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول: يقطع الصلاة الكلب والحمار، فقال: ابن عمران - رضي الله عنهما - لا يقطع صلاة المسلم شيء".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، عن شعبة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع وسالم، عن ابن عمر قال: "لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، مثله. فهذا ابن عمر قد قال هذا بعد رسول الله - عليه السلام -، وقد سمع ذلك من النبي - عليه السلام -، فقد دل هذا على ثبوت نسخ ما كان سمعه من رسول الله - عليه السلام - حتى صار ما قال به أولى عنده من ذلك. ش: أي الدليل والحجة على صحة ما ذكرنا -من أن مرور كل مارٍّ بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة سواء كان من بني آدم أو غيرهم من الحيوانات- قول عبد الله بن عمر: "لا يقطع صلاة المسلم شيء" و: "لا يقطع الصلاة شيء" وقد قال ابن عمر هذا القول بعد النبي - عليه السلام -، والحال أنه قد كان سمع من النبي - عليه السلام - أنه قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين" فدل ما قاله من بعد النبي - عليه السلام - على انتساخ ما كان سمعه منه؛ إذ لو لم يكن كذلك لما رأى ما صار إليه أول مما سمعه. ثم إنه أخرج أثر ابن عمر من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): أنا الحاكم، نا أبو العباس، نا أحمد بن شيبان، نا سفيان، عن الزهري ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "لا يقطع الصلاة شيء". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 250 رقم 2885). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 278 رقم 3321).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث البصري، عن شعبة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع مولى ابن عمر وسالم بن عبد الله، كلاهما عن عبد الله بن عمر. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم، قال: وكان لا يصلي إلا إلى سترة". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، مثل المذكور. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا يقطع الصلاة شيء وذُبُّوا عن أنفسكم". ص: وأما القتال المذكور في حديث ابن عمر وأيى سعيد - رضي الله عنهم - من المصلي لمن أراد المرور بين يديه، فقد يحتمل أن يكون ذلك أبيح في وقت كانت الأفعال فيه مباحة في الصلاة، ثم نسخ ذلك بنسخ الأفعال في الصلاة؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: هذا جواب عما قال بعضهم بقتال المصلي للمار بين يديه بظاهر حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله - عليه السلام -: "إن أبي فليقاتله" وتقريره أن يقال: كان الأمر بالقتال حين كانت الأفعال التي ليست من جنس الصلاة مباحة في الصلاة، نحو المشي وتناول الشيء ونحوهما؛ فلما نسخ هذا الحكم نسخ ذلك أيضًا؛ لأنه من جملة الأفعال التي ليس من الصلاة، وقد قال غيره: إن الأمر على حاله ولكن المراد منه التغليظ والبالغة في الدرء، فكأنه من شدة منعه ودفعه صار مقاتلا، وقد مرَّ الكلام فيه مرة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 3 رقم 2368). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 2521 رقم 2886).

ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأيناهم لا يختلفون في الكلب غير الأسود أن مروره بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، فأردنا أن ننظر في حكم الأسود هل هو كذلك أم لا؟ فرأينا الكلاب كلها حرام أكل لحومها ما كان منها أسود، وما كان منها غير أسود، وما كان منها غير أسود فلم تكن حرمة لحومها لألوانها ولكن لعلتها في أنفسها، وكذلك كل ما نهي عن أكله من كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الأهلية؛ لا يفترق في ذلك حكم شيء منها لاختلاف ألوانها، وكذلك أسئارها كلها، فالنظر على ذلك أن يكون حكم الكلاب كلها في مرورها بين يدي المصلى سواء، فكما كان غير الأسود منها لا يقطع الصلاة فكذلك الأسود؛ ولما ثبت في الكلاب بالنظر ما ذكرنا كان الحمار أولى أن يكون كذلك؛ لأنه قد اختلف في أكل لحوم الحمر الأهلية فأجازه قوم، وكرهه آخرون، فإذا كان ما لا يؤكل لحمه باتفاق المسلمين لا يقطع مروره الصلاة، كان ما اختلف في كل لحمه أحرى أن لا يقطع مروره الصلاة؛ فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر غَنيّ عن مزيد البيان. قوله: "فأجازه قوم" وأراد بهم جماعة من المالكية والظاهرية، وقال أبو عمر: وأما لحم الحمر الإنسية فلا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها، وعلى ذلك جماعة السلف إلا ابن عباس وعائشة؛ فإنهما كانا لا يريان بائسًا بأكلها على اختلاف فيه عن ابن عباس، والصحيح عنه فيه ما عليه الناس والله أعلم. قوله: "وكرهه آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير الفقهاء والتابعين ومن بعدهم، والمراد من الكراهة كراهة التحريم، وأما البغل فإن كانت أمه حمارة فهو حرام بلا خلاف، وإن كانت فرسًا ففيه خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه كالخلاف في لحم الفرس، وإن كانت بقرة فهي تُؤكل بلا خلاف، وعن بعضهم أن البغل لا يؤكل على كل حال.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن نفر من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قد ذكرنا ما روي عنهم فيما تقدم في هذا الباب. ش: أي قد روي أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة عن طائفة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد روي في ذلك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - فيما تقدم. ص: وقد روي في ذلك أيضًا ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة وسعيد بن أبي عروبة وهشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن عليًّا وعثمان - رضي الله عنهما - قالا: "لا يقطع صلاة المسلم شيء، وادرءوا ما استطعتم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لا يقطع صلاة المسلم الكلب ولا الحمار ولا المرأة، ولا ما سوى ذلك من الدواب، وادرءوا ما استطعتم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: "أنه كان يصلي فمر بين يديه رجل، قال: فمنعته إلا أن يمر بين يدي، فذكرت ذلك لعثمان بن عفان وكان خال أبيه فقال: لا يضرك". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، أن بسر بن سعيد وسليمان بن يسار حدثاه، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثهما: "أنه كان في صلاة فمر به سليط بن أبي سليط، فجذبه إبراهيم فخر فشج، فذهب إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فأرسل إلي فقال لي: ما هذا؟! فقلت مر بين يدي فرددته لئلا يقطع صلاتي، قال: أو يقطع صلاتك؟ قلت أنت أعلم قال: لا يقطع صلاتك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا الزبرقان بن عبد الله، عن كعب بن عبد الله قال: سمعت حذيفة - رضي الله عنه - يقول: "لا يقطع الصلاة شيء".

ش: أي وقد روي في أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصل لا يقطع الصلاة عن جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم -. وأخرج عن عثمان من ثلاث طرق: في الأول: معه علي بن أبي طالب، وهو عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة وسعيد بن أبي عروبة وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي، ثلاثتهم عن قتادة، عن سعيد بن المسيب. وهؤلاء أئمة أجلاء أثبات. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبدة ووكيع، عن [سعيد] (¬2)، عن قتادة عن ابن المسيب، عن علي وعثمان قالا: "لا يقطع الصلاة شيء، فادرءوهم عنكم ما استطعتم". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، عن أبيه إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف المدني، وأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان بن عفان لأمه، وكانت من المهاجرات الأُوَل، ويقال: إنه ولد في حياة النبي - عليه السلام -. وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرج عبد الرزاق (¬3): عن ابن جريج قال: "أراد رجل أن يجوز أمام حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى عثمان - رضي الله عنه -، فقال للرجل: وما يضرك لو ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 250 رقم 2884). (¬2) في "الأصل": "شعبة"، والمثبت من "المصنف"، وشعبة وإن كان يروي عن قتادة، ويروي عنه وكيع، ولكنهم ولم يذكروا في الرواة عنه عبدة -وهو ابن سليمان الكلابي، إنما يروي عبدة عن سعيد بن أبي عروبة. والله أعلم. انظر ترجمة عبدة في "تهذيب الكمال" (18/ 530 - 534). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 29 رقم 2362).

ارتددت حين ردك؟! ثم أقبل على حميد فقال: له فما ضرك لو جاز أمامك؟ إن الصلاة لا يقطعها شيء إلا الكلام والأحداث، وكان خال أبيه أي كان عثمان خال أبي سعد بن إبراهيم؛ لأن أخت عثمان هي أم إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف كما ذكرناه الآن. الثالث: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المعروف بعلان عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن بكر بن مضر بن محمد المصري روى له المجماعة سوى ابن ماجه، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري روى له الجماعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج روى له الجماعة، عن بُسْر -بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد روى له الجماعة، وعن سليمان بن يسار الهلالي أخو عطاء بن يسار روى له الجماعة، كلاهما عن إبراهيم بن عبد الرحمن المذكور فيما مضى. وسليط بن أبي سليط قال البخاري في "تاريخه": يعد في أهل الحجاز، سمع عثمان، وعنه ابن سيرين، وذكره ابن حبان في "الثقات". وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن مالك قال: "بلغني أن رجلًا أتى عثمان بن عفان برجل كسر أنفه، فقال: له مَرَّ بين يديَّ في الصلاة وأنا أصلي، وقد بلغني ما سمعت في المارِّ بين يدي المصلي، قال له عثمان: فما صنعت أشرَّ يا ابن أخي، ضيعت الصلاة وكسرت أنفه". وأخرج عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن عبد الله الأعور، فيه مقال كثير، كذبه جماعة، وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 34 رقم 2384).

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري ومعمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرأ عن نفسك ما استطعت". وأخرج عن حذيفة - رضي الله عنه -: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الزبرقان بن عبد الله العبدي أبي الزرقاء الكوفي، وثقه ابن حبان. عن كعب بن عبد الله العبدي الكوفي، وثقه ابن حبان. عن حذيفة بن اليمان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن الزبرقان، عن كعب بن عبد الله، عن حذيفة قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرأ ما استطعت". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 29 رقم 2361). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (11/ 251 رقم 2889).

ص: باب: الرجل ينام عن الصلاة أو ينساها كيف يقضيها

ص: باب: الرجل ينام عن الصلاة أو ينساها كيف يقضيها ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي ينام عن الصلاة أو ينساها كيف يقضيها إذا ذكرها؟ والمناسبة بين هذا والتي قبله من الأبواب: أن ما مضى كان في أحكام الصلوات المؤداة في وقتها، وهذا في بيان الصلاة الفائتة. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قيس بن حفص الدارمي، قال: ثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، عن ذي مخمر بن أخي النجاشي، قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر فنمنا، فلم نستيقظ إلا بحَرِّ الشمس، فتنحينا عن ذلك المكان، قال: فصلى بنا رسول الله - عليه السلام - فلما كان من الغد حين بذغ القمر أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام، فصلى بنا الصلاة، فلما قضى الصلاة قال: هذه صلاتنا بالأمس". ش: أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الخزاعي الطرسوسي شيخ النسائي أيضًا، وقيس بن حفص بن القعقاع التميمي الدارمي شيخ البخاري، ومسلمة بن علقمة المازني أبو محمد البصري إمام مسجد داود بن أبي هند، روى له الجماعة سوى البخاري. وداود بن أبي هند دينار روى له الجماعة، والعباس بن عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وذكره في "التكميل" وسكت عنه أيضًا وقال: لم يرو عنه إلا داود بن أبي هند. وذو مِخْمَر -بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الميم الثانية- ويقال ذو مخبر بالباء الموحدة موضع الميم الثانية الحبشي خادم للنبي - عليه السلام -، وهو ابن أخي النجاشي.

والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أحمد بن داود المكي، نا قيس بن حفص الدارمي، نا مسلمة بن علقمة، نا داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، ثنا ذو مخبر بن أخي النجاشي، قال: كنت مع رسول الله - عليه السلام - في غزاة، فَسَرَوْا من الليل ما سَرَوْا، ثم نزلوا، فأتاني رسول الله - عليه السلام - فقال: يا ذا مخمر، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فأخذ برأس ناقتي فقال: أقعد ها هنا ولا تكونن لكاعًا الليلة، فأخذت برأس الناقة فغلبتني عيناي فنمت، وأنسلت الناقة فذهبت، فلم أستيقظ إلا بحر الشمس، فأتاني النبي - عليه السلام - فقال: يا ذا مخبر، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: كنت والله لكع كما قلت لك، فتنحينا عن ذلك المكان، فصلى بنا رسول الله - عليه السلام -، فلما قضى الصلاة دعى أن ترد الناقة فجاءت بها إعصار ريح تسوقها فلما كان من الغد حين برق الفجر أمر بلالًا فأذن، ثم أمره فأقام، ثم صلى بنا فلما قضى الصلاة قال: هذه صلاتنا بالأمس، ثم ائتنف صلاة يومه ذلك". قوله: "فتنحينا عن ذلك المكان" أي تحولنا عنه. قوله: "حين بزغ القمر" أي حين طلع، والبزوغ الطلوع، يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر وغيرهما إذا طلعت. ويستفاد منه: أن الفائتة يؤذن لها ويقام وأن قضاء الصلاة الفائتة واجبة وأن يصليها مرة أخرى كما ذهب إليه بعض الناس على ما يجيء مع الجواب عنه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن أبي مجلز، عن سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومن الغد للوقت". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 235 رقم 4228).

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سريج بن النعمان الجوهري، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب، سمع سمرة بن جندب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - عليه السلام - فذكر مثله. ش: هذان طريقان، أحدهما إسناده صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في مسنده نحوه. والآخر: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن سُريج -بضم السين المهملة، وبالجيم في آخره- ابن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي أي الحسن البغدادي من رجال البخاري، عن حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب الندبي الأزدي البصري، ضعفه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال أحمد: ليس هو قويّا في الحديث، وروى له الترمذي، وابن ماجه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، قال: ثنا همام، أنا بشر بن حرب، عن سمرة بن جندب -قال: أحسبه مرفوعًا-: "من نسي صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت". ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: هكذا يفعل من نام عن صلاة أو نسيها، واحتجوا في ذلك بهذين الحديثين. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من الظاهرية، ونفرًا من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: إن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مرتين، مرة عند تذكرها، ومرة أخرى في مثل الوقت الذي قد فاتت فيه الصلاة من الأمس، ويحكى أيضًا مثل هذا عن سمرة وسعد - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 22 رقم 20270).

قوله: "بهذين الحديثين" أراد بهما حديث ذي مخبر الحبشي، وحديث سمرة بن جندب. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا بل يصليها مع التي يليها من المكتوبة، وليس عليه غير ذلك، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مروان بن جعفر بن سعد السَّمُري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم بن خُبيب بن سليمان بن سمرة، عن جعفر بن سعد بن سمرة، عن خُبيب بن سليمان، عن أبيه، عن سمرة أنه كتب إلى بنيه: "أن رسول الله - عليه السلام -كان يأمرهم إذا شغل أحدهم عن الصلاة أو نسيها حتى يذهب حينها الذي تصلي فيه، أن يصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم أيضًا: طائفة من الظاهرية، ونفرًا من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: إن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة، واحتجوا في ذلك بحديث سمرة. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرسي، عن مروان بن جعفر بن سعد السمري شيخ أبي حاتم، فقال: صدوق، وقال الأزدي: يتكلمون فيه. عن محمد بن إبراهيم بن خُبيب -بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة- بن سليمان بن سمرة بن جندب، ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عن حاله، وقال: روى عن جعفر بن سعد بن سمرة رسالة سمرة، سمعت أبي يقول ذلك. وهو يروي عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب الفزاري أبي محمد السَّمُري والدمروان، قال عبد الحق: ليس هو ممن يعتمد عليه. روى له أبو داود. عن خُبيب -بضم الخاء المعجمة- بن سليمان بن سمرة بن جندب الفزاري أبي سليمان الكوفي، ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى له أبو داود.

عن أبيه سليمان بن سمرة، ذكره ابن حبان في "الثقات" وروي له أبو داود. عن أبيه سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا موسى بن هارون، قال: ثنا مروان بن جعفر السمرى، نا محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة، ثنا جعفر بن سعد بن سمرة، عن خبيب بن سليمان بن سمرة، عن أبيه، عن سمرة قال: "إن رسول الله - عليه السلام - كان يأمرنا إن شغل أحدنا عن الصلاة أو نسيها حتى يذهب حينها الذي تصلي فيه، أن يصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يصليها إذا ذكرها وإن كان ذلك قبل دخول وقت التي تليها، ولا شيء عليه غير ذلك. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء والفقهاء من التابعين ومن بعدهم، وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: بل يصلي الصلاة الفائتة إذا ذكرها أيّ وقتٍ كان عند مالك والشافعي وأحمد، وفي غير وقت الطلوع والغروب والاستواء عند أبي حنيفة وأصحابه، ثم إنهم اتفقوا أنه يصليها وإن كان ذلك قبل دخول وقت الصلاة التي تليها، ولا شيء عليه غير تلك الفائتة عندهم جميعًا. ص: واحتجوا في ذلك بحديث أبي قتادة وعمران وأبي هريرة عن رسول الله - عليه السلام - حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلاها بعد ما استوت ولم ينتظر دخول وقت الظهر، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي قتادة الحارث بن ربعي، وعمران بن الحصين، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وقد أخرج الطحاوي أحاديث هؤلاء في باب: "الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمس". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 254 رقم 7034).

أما حديث أبي قتادة: فأخرجه عن ابن أبي داود، عن إبراهيم بن الجراح، عن أبي يوسف، عن حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي قتادة، عن أبيه قال: "أسرى رسول الله - عليه السلام - في غزوة من غزواته ونحن معه ... " الحديث. وأخرجه مسلم (¬1)، والنسائي (1). وأما حديث عمران بن الحصين: فأخرجه عن عليّ بن شيبة، عن روح، عن هشام، عن الحسن، عنه قال: "سرينا مع رسول الله - عليه السلام - في غزاة -أو قال: في سرية- ... " الحديث. وأخرجه أحمد (1) والحاكم في مستدركه (1). وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه: عن روح بن الفرج، عن أبي مصعب الزهري، عن ابن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - عرس ذات ليلة بطريق مكة .... " الحديث. وأخرجه مسلم (1)، وأبو داود (1): وقد استوفينا الكلام فيها فليعاود إليه. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن خالد، عن عطاء بن السائب، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أبيه قال: "نام رسول الله - عليه السلام - وأصحابه عن صلاة الفجر، ثم طلعت الشمس، فأمر رسول الله - عليه السلام - بلالًا فأذن، ثم صلى ركعتين، ثم أمره فأقام، فصلى بهم المكتوبة. ش: إسناده صحيح. وابن أبي داود وهو إبراهيم، وسعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، وخالد هو الحذاء روى له الجماعة، وعطاء بن السائب أبو محمد الكوفي ثقة، غير أنه اختلط في آخر عمره، روى له الأربعة. وبُريد -بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم السلولي البصري، وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي، وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) تقدم.

وأبوه ابن أبي مريم واسمه مالك بن ربيعة بن مريم السلولي، من أصحاب الشجرة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أبيه قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح نزل رسول الله - عليه السلام -، فنام ونام الناس، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله - عليه السلام - المؤذن فأذن، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس، ثم حدثنا بما هو كائن حتى تقوم الساعة". وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا. ويستفاد منه أحكام: الأول: الذي فاتته صلاة لا يجب عليه قضاؤها إلا مرة واحدة، أيّ وقتٍ ذكرها غير الأوقات الثالثة. الثاني: أن الفائتة يؤذن لها ويقام، وقد اختلف فيه العلماء، فقال أبو حنيفة: إذا كانت عليه فوائت كثيرة أذن للأولى وأقام وكان مخيرًا في الباقي إن شاء أذن وأقام وإن شاء اقتصر على الإقامة، وبه قال أحمد: وقد اختلف قول الشافعي في ذلك، فأظهر أقاويله أنه يقام للفوائت ولا يؤذن لها، والأصح ما قاله أبو حنيفة؛ لأنه ذكر في الحديث الأذان والإقامة، وهذه زائدة على حديث أبي هريرة؛ لأنه لم يذكر في حديثه الأذان، ولكن الزيادة إذا صحت تقبل والعمل بها واجب. والثالث: أن ركعتي الفجر إذا فاتتا مع الفرض تقضيان معه بعد طلوع الشمس، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 297 رقم 621). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 275 رقم 602).

ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة تبوك، فلما كنا بدهاس السهل من الأرض قال رسول الله - عليه السلام -: من يكلؤنا الليلة؟ قال: بلال أنا قال إذن تنام، فنام حتى طلعت الشمس فاستيقظ فلان وفلان، فقالوا: تكلموا حتى يستيقظ: فاستيقظ رسول الله - عليه السلام - فقال: أفعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي". ش: إسناده حسن، وأبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، وعبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، وزافر بن سليمان الإيادي وثقه أحمد ويحيى وأبو داود، وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه. وجامع بن شداد المحاربي أبو صخرة الكوفي روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن علقمة -ويقال: ابن أبي علقمة- الثقفي، ويقال: له صحبة. وأنكره ابن حبان وذكره في التابعين "الثقات". وأخرجه أبو داود (¬1): نا ابن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن جامع بن شداد، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: "أقبلنا مع رسول الله - عليه السلام - من الحديبية، فقال النبي - عليه السلام -: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي - عليه السلام - فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، قال: ففعلنا، قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا غندر، عن شعبة، عن جامع بن شداد، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 122 رقم 447). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 281 رقم 36096).

قال: "أقبلنا مع رسول الله - عليه السلام - من الحديبية، فذكروا أنهم نزلوا دهاسًا من الأرض -يعني بالدهاس: الرمل- قال: فقال رسول الله - عليه السلام -: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا، فقال النبي - عليه السلام -: إذن تنام قال: فناموا حتى طلعت عليهم الشمس، قال: فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان وفيهم عمر - رضي الله عنه -، فقلنا اهضبوا -يعني تكلموا- قال: فاستيقظ النبي - عليه السلام -، فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، قال: كذلك لمن نام أو نسي". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا يحيى، نا شعبة، حدثني جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت ابن مسعود يقول: "أقبل النبي - عليه السلام - من الحديبية ليلًا، فنزلنا دهاسًا من الأرض، فقال: من يكلؤنا؟ قال بلال: أنا، قال: أذن تنام، قال: لا، فنام حتى طلعت الشمس، فاستيقظ فلان وفلان منهم عمر - رضي الله عنه -، فقال: اهضبوا، فاستيقظ النبي - عليه السلام - فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، فلما فعلوا قال: هكذا فافعلوا لمن نام منكم أو نسي". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2)، والطيالسي في "مسنده" (¬3). قوله: "في غزوة تبوك" وكانت في سنة تسع من الهجرة في شهر رجب، وفي رواية غير الطحاوي: "الحديبية" موضع تبوك كما ذكرناه، وكافت في سنة ست بلا خلاف. قوله: "فلما كنا بدَهَاس" بفتح الدال وتخفيف الهاء وفي آخره سين مهملة وهو ما سهل في الأرض ولان ولم يبلغ أن يكون رملًا، وكذلك الدهس، وقد فسره في الحديث بقوله: "السهل من الأرض" بجر السهل على أنه بدل من الدهاس، وفي بعض النسخ: "فلما كنا بدهاس من الأرض" وقد فسره في رواية ابن أبي شيبة بقوله: "يعني بالدهاس الرمل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 386 رقم 3657). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 218 رقم 2999). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 49 رقم 377).

قوله: "من يكلؤنا" أي من يحرسنا، من كَلَأَ يَكْلَأُ كِلَاءة أي حَفِظَ يَحْفَظُ حِفْظًا. قوله: "قال: إذن تنام" أي قال النبي - عليه السلام - حينئذ: تنام أنت يا بلال، وإنما قال ذلك لأنه كان ثقيل النوم. قوله: "افعلوا ما كنتم تفعلون" يعني من الطهارة وستر العورة، واستقبال القبلة، والأذان، والإقامة. قوله: "وكذلك يفعل من نام" أي مثل ما فعلتم يفعل من نام غيركم عن الصلاة أو نسيها. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك أيضًا ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله - عليه السلام قال: "من نسي صلاة فيصلها إذا ذكرها، قال همام: فسمعت قتادة يحدث من بعد ذلك فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1) ". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". ش: أي قد روي عن النبي - عليه السلام - في ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية ما حدثنا ... إلى آخره. وهذان إسنادان صحيحان: أحدهما: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن همام بن يحيى بن دينار البصري، عن قتادة. وأخرجه الجماعة، فالبخاري (¬2): عن أبي نعيم وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - عليه السلام - قال: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [14]. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 215 رقم 5712).

ومسلم (¬1): عن هداب بن خالد، عن همام .... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن محمد بن كثير، عن همام .... إلى، آخره نحوه، وليس فيه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. والترمذي (¬3): عن قتيبة وبشر بن معاذ، كلاهما عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن أبي عوانة .... إلى آخره نحو رواية الترمذي. وابن ماجه (¬5): عن نصر بن علي الجهضمي، عن يؤيد بن زريع، عن حجاج، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: "سئل النبي - عليه السلام - عن الرجل يغفل عن الصلاة أو يرقد عنها؟ قال: يصليها إذا ذكرها. والطريق الآخر: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن قتادة .... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬6): والنسائي (¬7): نحوه كما ذكرناه لأن. قوله: "إذا ذكرها" أي إذا ذكر تلك الصلاة، وهذا القيد ليس للوجوب، حتى لو صلاها بعد ذلك يجوز، وقد اختلفوا في قضاء الفائتة هل هو على الفور؟ والصحيح أن قضاء الفائتة بعذر ليس على الفور، ولكن يستحب قضاؤها على الفور، وحكى البغوي وجهًا عن الشافعي أنه على الفور، وأما الفائتة بلا عذر فالأصح قضاؤها على الفور، وقيل: له التأخير كما في الأول. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 477 رقم 684). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 121 رقم 442). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 335 - 336 رقم 178). (¬4) "المجتبى" (1/ 293 رقم 613). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 227 رقم 695). (¬6) تقدم. (¬7) "المجتبى" (1/ 293 رقم 614).

قوله: "لذكري" بكسر الراء وياء الإضافة، والمعنى لا وقات ذكري، وهي مواقيت الصلاة، أو لذكر صلاتي، وقيل: لأن أذكرك بالثناء أو لذكري خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري، وقيل: لذكري لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها. ويستفاد منه أمور: الأول: في قوله: "إذا ذكرها" دليل على وجوب قضاء الفائتة سنة سواء تركها بعذر كنوم ونسيان أو بغير عذر. فإن قلت: الحديث مقيد بالنسيان. قلت: لخروجه على سبب، ولأنه إذا وجب القضاء على العذر فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. الثاني: قال النووي: فيه دليل على قضاء السنن الراتبة. قلت: لا دليل فيه؛ لأن قوله: "من نسي صلاة" صلاة الفرض بدلالة القرينة. الثالث: فيه دليل على أن أحدًا لا يصلي عن أحد، وهو حجة على الشافعي. الرابع: فيه دليل على أن الصلاة لا تجبر بالمال كما يجبر الصوم وغيره، اللهم إذا كانت عليه صلوات فائتة فحضره الموت فأوصى بالفدية عنها؛ فإنه يجوز كما بيَّن ذلك في الفروع. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وثابت هو البناني، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن أبي قتادة قال: "ذكروا للنبي - عليه السلام - نومهم عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 334 رقم 177).

الصلاة، فقال: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها". وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة أيضًا، نحوه سواء. ص: ففي هذا الحديث من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن لا شيء عليه غير قضاؤها. ش: أشار به إلى الحديث الذي رواه أنس وأبو قتادة، وأراد أن فيه دليلًا صريحًا على أن الرجل إذا فاتته صلاة بأي وجه كان، لا يجب عليه إلا قضاء تلك الصلاة لا غير. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك في غير هذا الحديث ما قد زاد على هذا اللفظ: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك، ثم قال: سمعته يحدث ويزيد {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬2). حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - عليه السلام - قال: "من نسي صلاة أو نام عنها فإن كفارتها أن يصليها إذا ذكرها". فلما قال: لا كفارة لها إلا ذلك استحال أن يكون عليه مع ذلك غيره؛ لأنه لو كان عليه مع ذلك غيره إذن لما كان ذلك كفارة لها". ش: أي قد روي عن أنس أيضًا فيما ذهب إليه أهل المقالة الثانية غير ما روي فيما مضى من الحديث ما قد زاد على لفظ الحديث المذكور، وهو قوله: "لا كفارة لها إلا ذلك" والعمل بهذه الزيادة واجبة؛ لأنها من الثقات، فالمعنى: لا كفارة لتلك الصلاة الفائتة غير قضائها، فلما قال: هذا القول استحال أن يكون عليه مع ذلك غيره، أي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 294 رقم 615). (¬2) سورة طه، آية: [14].

مع القضاء غير القضاء؛ وذلك لأنه لو كان عليه غير القضاء لما كان ذلك القضاء كفارة لها والإشارة في "ذلك" إلى الصلاة ولكن التذكير باعتبار المذكور. ثم انه أخرج هذا الحديث بالزيادة المذكورة من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. وهذا عين الإسناد في ذاك الحديث غير أن فيه فهذا عوض أحمد بن داود. وقد أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، بهذه الزيادة وقد ذكرناه (¬1). الثاني: عن علي بن معبد بن نوح عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، وكان عبد الوهاب بن عطاء الخفاف صاحب سعيد هذا وراوي كتبه. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال نبي الله - عليه السلام -: "من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها". ص: وقد روى الحسن، عن عمران بن الحصين في حديث النوم عن الصلاة حتى طلعت الشمس "أن رسول الله - عليه السلام - صلاها بهم، فقلنا: يا رسول الله أَلَا تقضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي - عليه السلام -: أينهاكم الله عن الربا ويقلبه منكم". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، فلما سألوا النبي - عليه السلام - عن ذلك فأجابهم بما ذكرنا، استحال أن يكون عرفوا أن يقضوها من الغد إلا بمعاينتهم رسول الله - عليه السلام - فعل ذلك فيما تقدم، أو أمرهم به أمرًا فدل ذلك على نسخ ما روى ذو مخمر وسمرة - رضي الله عنهما -، وإن كان متأخرًا عنه فهو أولى منه؛ لأنه ناسخ له، فهذا هو وجه هذا الباب من طريق الآثار. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 477 رقم 684).

ش: قد ذكر الطحاوي ما رواه الحسن البصري عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - في باب: "الرجل يدخل في الصلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمس" عن علي بن شيبة، عن روح، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن الحصين قال: "سرينا مع النبي - عليه السلام - في غزاة -أو سَرّية- فلما كان آخر السَّحَر عَرّسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فَزِعًا دَهِشًا فاستيقظ رسول الله - عليه السلام - فأمرنا فارتحلنا من مسيرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالًا فأذن، فصلينا ركعتين، فأقام فصلى الغداة، فقلنا: يا نبي الله، ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي - عليه السلام -: أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم؟! " والمعنى أن الله تعالى أمركم بصلاة واحدة في كل وقت من الأوقات الخمسة، فإذا فأتت عنكم بنوم أو نسيان أو غير ذلك فأتوا ببدلها ومثلها مرة واحدة، ولا تصلوا أكثر من ذلك؛ لأن ذلك يكون زيادة، والزيادة على الجنس ربًا، فالله تعالى قد نهاكم عن الربا، ثم هو كيف يقبله منكم؟! فدل ذلك على انتساخ حديث ذي مخمر وسمرة بن جندب حيث أخبرا فيه أن القضاء يكون مرتين: مرة إذا ذكرها، ومرة من الغد للوقت. بيان ذلك: أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما قالوا: يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد، أجاب النبي - عليه السلام - عن ذلك بشيء يدل على المنع عن ذلك، ولكن لم يكن سؤالهم ذلك إلا من أحد وجهين: إما أنهم قد عاينوا النبي - عليه السلام - قد فعل ذلك قبل هذا الوقت، أو كان قد أمرهم بذلك فيما تقدم، فلذلك سألوا هذا السؤال، فبدون أحد هذين الوجهين سؤالهم مستحيل، فلما أجاب النبي - عليه السلام - في هذا الحديث بما أجاب؛ دل ذلك على أن حكم حديث ذي مخمر وسمرة قد كان قبل ذلك، وأنه انتسخ بهذا؛ لأن المتأخر ينسخ المتقدم، فهذا وجه النسخ في هذا الموضع، فافهم. وقال الخطابي -رحمه الله -: يشبه أن يكون الأمر بالصلاة حين ذكرها ومن الغد للوقت في حديث ذي مخمر وسمرة للاستحباب، ليحرز فضيلة الوقت في القضاء عند مصادفة الوقت، ويقال: ويحتمل أن يكون - عليه السلام - لم يرد إعادة الصلاة المنسية حتى

يصليها مرتين، وإنما أراد أن هذه الصلاة وإن انتقل وقتها بالنسيان إلى وقت الذكر فإنها باقية على وقتها فيما بعد مع الذكر؛ لئلا يظن ظانٌ أن وقتها قد تغير. قلت: جاء في حديث أبي قتادة في رواية أبي داود: "فليقض معها مثلها". فهذا يدفع هذا الاحتمال من التأويل، والجواب القاطع ما ذكره الطحاوي -رحمه الله-. ص: وأما من طريق النظر فإنا رأينا الله -عز وجل- أوجب الصلوات لمواقيتها، وأوجب الصيام لميقاته في شهر رمضان، ثم جعل على من لم يصم شهر رمضان عدة من أيام آخر، فجعل قضاؤه في خلافه من المشهور، ولم يجعل مع قضائه بعدد أيامه قضاء مثلها فيما بعد ذلك؛ فالنظر على ما ذكرنا أن تكون الصلاة إذا نسيت أو فأتت أن يكون قضاؤها يجب فيما بعدها وإن لم يكن دخل وقت مثلها، ولا يجب مع قضائها مرة قضاؤها ثانية؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من الصيام الذي وصفنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: مُلخّص ما قاله من وجه النظر والقياس: أن الصلاة والصوم عبادتان بدنيتان متساويتان في الفرضية والثبوت، ولما كان الواجب في الصوم إذا فات عن أيامه قضاؤه بعدد الإيام الفائتة بدون زيادة عليها؛ كان النظر والقياس على ذلك أن تكون هكذا الصلاة إذا فاتت عن وقتها أن تقضي مرة واحدة ولا يزاد على ذلك، وأن يجب قضاؤها فيما بعد وإن لم يكن دخل وقت مثلها، والله أعلم. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: "من نسي صلاة فذكرها مع الإمام فليصل التي معه ثم ليصل التي نسي ثم ليصل الأخرى بعد". حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: ثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله.

حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، عن سعيد ابن عبد الرحمن ... فذكر بإسناده مثله ولم يرفعه. وقوله: "فليصل التي معه" فذلك محتمل عندنا أن يفعل ذلك على أنها له تطوع. ش: أشار بذلك إلى قوله: "ولا يجب مع قضائها مرة قضاؤها ثانية" وأخرج ذلك عن ابن عمر من ثلاث وجوه: اثنان موقوفان، وواحد مرفوع. الأول من الموقوف: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا حفص بن غياث، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "إذا ذكرت و [أنت] (¬3) تصلي العصر أنك لم تصلى الظهر مضيت فيها ثم صليت الظهر، فإذا صليت العصر وذكرت أنك لم تصل الظهر [فصليت] (¬4) أجزأتك". قوله: "فليصل التي معه" أي فليصل الصلاة التي مع الإِمام، أراد أنه يفعل ذلك على وجه التطوع، أشار إليه الطحاوي. وقوله: "فليصل التي معه فذلك ... إلى آخره" وذلك لأن الحاضرة فسدت بذكر تلك الفائتة، فلما فسد وصف الصلاة وهو الفرضية بقي أصل الصلاة وهو كونها تطوعًا. قوله: "ثم ليصل الأخرى بعد" أي ثم ليصل الصلاة الأخرى بعد ذلك وهي الصلاة التي قد كان نسيها، فهذا يدل على وجوب الترتيب، إذ لو كان غير واجب لما أمر بإعادة الصلاة التي كانت مع الإِمام، فافهم. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 168 رقم 406). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 414 رقم 4764). (¬3) في "الأصل، ك": "أنك"، والمثبت من "المصنف". (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

الثاني وهو المرفوع: أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن أبي إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن بسام الترجماني، عن سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي المدني قاضي بغداد في عسكر المهدي زمن الرشيد، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العمري المدني، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثل المذكور. وهذا إسناد صحيح لأن رجاله ثقات. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي إبراهيم الترجماني، نا سعيد بن عبد الرحمن، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من نسي صلاة ولم يذكرها إلَّا وهو مع الإِمام فليصل مع الإِمام، فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي، ثم ليعد الصلاة التي صلى مع الإمام، قال البيهقي: تفرد برفعه الترجماني، ورواه جماعة عن نافع من قول ابن عمر، فإعادتها عند الشافعي استحباب لا إيجاب. قلت: الترجماني أخرج له الحاكم في "المستدرك" وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، وعن يحيى بن معين: ليس به بأس. وكذا قال أبو داود والنسائي، ذكر ذلك المزي في كتابه، ومشهور عن ابن معين أنه إذا قال عن شخص: ليس به بأس كان توثيقًا منه له؛ ففي رواية الترجماني زيادة الرفع، وهي زيادة ثقة فوجب قبولها على مذاهب أهل الفقه والأصول، ثم على تقدير أنه من قول ابن عمر - رضي الله عنهما - فقد قال: الطحاوي في كتاب "اختلاف العلماء": لا نعلم عن أحد من الصحابة خلافة، وكذا ذكر صاحب "التمهيد"، وذكر في "الاستذكار" (¬2) قول ابن عمر ثم قال: أوجب الترتيب أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والليث، وأوجبه ابن حنبل في ثلاث سنين وأكثر، وقال آخذ بقول ابن المسيب فيمن ذكر ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 221 رقم 3010). (¬2) "الاستذكار" (2/ 340 - 341)، بتصرف واختصار.

صلاة في وقت صلاة، كمن ذكر العشاء آخر وقت صلاة الفجر، قال: يصلي الفجر، ولا يضيع صلاتين قال الأثرم: قيل لأحمد: بعض الناس يقول: إذا ذكرت صلاة وأنت في أخرى لا تقطعها، وإذا فرغت قضيت تلك ولا إعادة عليك. فأنكره وقال: ما أعلم أحدًا قاله، وأعرف من قال: أقطع وأنا خلف الإِمام وأصلي التي ذكرت؛ لقوله - عليه السلام -: "فليصلها إذ اذكرها" قال: وهذا شنيع أن يقطع وهو وراء الإمام، ولكنه [يتمادى مع الإِمام، فإن كان وحده قطع. وقال الشافعي وداود: يتمادى مع الإِمام] (¬1) ثم يصلي التي ذكر ولا يعيد هذه، وذكر أبو عمر أنه نقض أصله المذكور (¬2) أولا: ثم ذكر أن الزهري يفتي بقول ابن عمر وهو الذي يروي قوله - عليه السلام -: "فليصلها إذا ذكرها، قال: الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) ". وبهذا الحديث يحتج من قدم الفائتة على الوقتية وإن خرج الوقت، قالوا: جعل ذكرها وقتًا لها فكأنهما صلاتان اجتمعتا في وقت، فيبدأ بالأولى. الثالث وهو موقوف أيضًا: عن محمد بن حميد، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وهو أيضًا طريق صحيح، والله أعلم. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن إبراهيم: "في رجل نسي الظهر فذكرها وهو في العصر، قال: ينصرف فيصلي الظهر، ثم يصلي العصر". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنبأنا منصور ويونس، عن الحسن أنه كان يقول: "يتم العصر التي دخل فيها، ثم يصلي الظهر بعد ذلك". ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والسياق لا يستقيم بدونها، والمثبت من "الاستذكار". (¬2) أي: "أحمد بن حنبل -رحمه الله -". (¬3) سورة طه، آية: [14].

ش: هذان إسنادان: أحدهما: عن إبراهيم النخعي، وإشارته إلى أنه يوجب الترتيب بين الفائتة والحاضرة، ولهذا حكم بفساد العصر بذكره الظهر فيها. أخرجه بإسناد صحيح: عن صالح، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي الكوفي الأعمى الفقيه، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم ... إلى آخره نحوه سواء. والأخر: عن الحسن البصري وأشار به إلى أن مذهبه اشتراط الترتيب بين الفائتة والحاضرة، ولكن عنده إذا ذكر الظهر في العصر مثلًا لا تبطل العصر بل يتمها تطوعًا، ثم يصلي الظهر الفائتة، ثم يعيد العصر. أخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان الواسطي روى له الجماعة، ويونس بن عبيد بن دينار البصري روى له الجماعة، كلاهما عن الحسن -رحمه الله-. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن نحو مذهب إبراهيم فقال: في "مصنفه" (¬2): عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: "في رجل نسي صلاة حتى يدخل في الأخرى، قال: فإن كان قد صلى منها شيئًا أتمها، ثم صلى الأولى، قال معمر: قال الحسن: ينصرف فيبدأ بالأولى". والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 414 رقم 4758). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (2/ 6 رقم 2261).

ص: باب: دباغ الميتة هل تطهر أم لا؟

ص: باب: دباغ الميتة هل تطهر أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان دباغ جلود الميتة هل تطهير بالدباغ أم لا؟ يقال: دَبغَ إهابه يَدْبَغُهُ ويَدْبَغَهُ -بضم عين الفعل وفتحها- دبغًا ودباغةً ودباغًا إذا أزال فساده بشيء كالقرظ والشبِّ والعفص ونحو ذلك أو بإلقائه في الشمس أو تعليقه في الهواء، أو بتتريبه ونحو ذلك، فالأول: دباغ حقيقي والثاني: حكمى، فكلاهما يجوز عند أصحابنا على ما بين في الفروع، وهذا الباب والبابان اللذان بعده مستدركة بعد ترتيب الأبواب؛ ولذلك لم ترل المناسبة بينها وبين ما قبلها. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر ووهب، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: "قرئ علينا كتاب رسول الله - عليه السلام - ونحن بأرض جهينة وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد، عن الشيباني، عن الحكم ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "كتب إلينا رسول الله - عليه السلام - ... ". حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا محمد بن المبارك، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم قال: "حدثني أشياخ جهينة قالوا: أتانا كتاب رسول الله - عليه السلام - أو قرئ علينا كتاب رسول الله - عليه السلام - ألَّا تنفعوا من الميتة بشيء". ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، ولكن نقل عن يحيى بن معين أنه ضعف هذا الحديث وقال: ليس بشيء، إنما هو حدثني أشياخ جهينة، رواه عنه داود بن علي. قلت: ينبغي أن يكون تضعيفه مصروفًا إلى الطريق الثالث على ما لا يخفى. الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك العقدي ووهب ابن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى

الأنصاري، عن عبد الله بن عكيم أبي معبد، إدرك النبي - عليه السلام - ولم يره، قاله: ابن مندة وأبو نعيم، وقال أبو عمر: اختلف في سماعه من النبي - عليه السلام -. وأخرجه أبو داود (¬1) في كتاب اللباس: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: "قُرئ علينا كتاب رسول الله - عليه السلام - بأرض جهينة وأنا غلام شاب: ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". وأخرجه النسائي (¬2) في كتاب الفرع والعتيرة: عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن مفضل، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عكيم نحو رواية أبي داود. الثاني: عن محمد بن عمرو، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن القرشي الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم. وأخرجه الترمذي (¬3) في كتاب اللباس: عن محمد بن طريف الكوفي، عن محمد بن فضيل، عن الأعمش والشيباني، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله - عليه السلام -: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". وأخرجه ابن ماجه (¬4) أيضًا في كتاب اللباس: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن الشيباني. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 67 رقم 4127). (¬2) "المجتبى" (7/ 175 رقم 4249). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 222 رقم 1729). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1194 رقم 3613).

وعن أبي بكر، عن غندر، عن شعبة، ثلاثتهم عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عكيم، به. ورواه البيهقي (¬1) أيضًا نحوه في كتاب الطهارة. الثالث: عن عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام، عن محمد بن المبارك بن يعلى الصوري القلانسي، عن صدقة بن خالد الدمشقي الأموي، عن يزيد -بالياء آخر الحروف المفتوحة، وكسر الزاي المعجمة- ابن أبي مريم الشامي، عن القاسم بن مخيمرة الهمداني أبي عروة الكوفي نزيل دمشق، عن عبد الله بن عكيم. قوله: "ونحن بأرض جهينة" جملة حالية، وكذلك قوله: "وأنا غلام". قوله: "بإهاب" الإهاب اسم لجلد لم يدبغ، قال الجوهري: والجمع أَهَب، على غير قياس، مثل أَدم وأَفَق عَمَدٍ، جمع أَديِم وأَفِق وعَمُود، وقد قالوا: أُهُبْ -بالضم- وهو قياس، وقال أبو عبيد: الجلد أول ما يدبغ سمي مَيتة على وزن فعيلة ثم هو أفِيق وأفِق ثم يكون أديما. وقال النضر بن شميل: الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب، وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر هذا، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهابًا، واحتجت بقول عنترة: فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريمُ على القَنَا بمحرم (¬2) ص: فذهب قوم إلى أن جلود الميتة لا تطهير وإن دبغت، ولا تجوز الصلاة عليها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وابن المبارك ومالكًا وإسحاق وأبا ثور ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل؛ فإنهم قالوا: جلود الميتة لا تطهر وإن دبغت، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 14 رقم 42، 43). (¬2) كذا بـ"الأصل، ك" وفي ديوان عنترة: فَشَككْت بالرُّمحِ الأَصَم ثيابه ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحَرَّمِ

وقال أبو عمر: الظاهر من مذهب مالك أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن ينتفع الانتفاع به في الأشياء اليابسة ولا يصلى عليه، ولا يؤكل فيه، وذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك، وقول ابن شهاب: إن جلد الميتة وإن لم يدبغ يستمتع به وينتفع، وروي ذلك عن الليث بن سعد أيضًا، وروي عنهما خلافه، ولكن الأشهر ما ذكرناه. وقال ابن حزم في "المحلى": وقال مالك: لا يصلي في شيء من جلود الميتة وإن دبغت، ولا يحل بيعها أي جلد كان، ولا يستقى فيها، لكن جلود ما يؤكل لحمه إذا دبغت جاز القعود عليها وإن يغربل عليها وكره الاستقاء فيها بأخرة لنفسه، ولم يمنع من ذلك غيره ورأى جلود السباع إذا دبغت مباحة للجلوس عليها وللغربلة، ولم ير جلد الحمار وإن دبغ يجوز استعماله، وقال: قال أحمد بن حنبل: لا يحل استعمال جلود الميتة وإن دبغت انتهى. وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ولا يطهر جلد ما لا يؤكل لحمه، ولا جلد مأكول ذكاة من لا تحل زكاته وما نجس بموته لا يطهر جلده بالدباغ، وفي جواز استعماله بعد الدبغ في اليابسات روايتان، وعنه يطهر جلد ما كان طاهرًا في الحياة وقيل: المأكول، والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا دبغ جلد الميتة أو عصبها فقد طهر، ولا بأس ببيعه والانتفاع به، والصلاة عليه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عمر بن عبد العزيز والنخعي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير والثوري وسعيد بن جبير والليث والزهري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وعبد الله بن وهب وآخرين كثيرين، فإنهم قالوا: يطهر جلد الميتة بالدباغ ويجوز بيعها والانتفاع بها من كل الوجوه، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا.

وقال ابن حزم في "المحلى": ويطهر جلد الميتة أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك بالدباغ، بأي شيء دبغ طهر، فإذا دبغ حَلَّ بيعه والصلاة عليه، وكان كجلد ما ذكي مما يحلُّ أَكله، إلا أن جلد الميتة المذكور لا يحل كله بحال حاشي جلد الإنسان فإنه لا يحل أن يدبغ ولا أن يسلخ ولا بد من دفنه، وإن كان كافرًا، وصوف الميتة وشعرها وريشها ووبرها حرام قبل الدباغ حلال بعده، وعظمها وقرنها حرام كله لا يحل بيعه ولا بيع الميتة ولا الانتفاع بعصبها ولا بشحمها، وقال: قال الشافعي: يتوضأ في جلود الميتة إذا دبغت، أي جلد كان إلا جلد كلب أو خنزير، ولا يطهر بالدباغ لا صوف ولا شعر ولا وبر ولا عظام ولا قرن ولا سن ولا ريش إلا الجلد وحده فقط. انتهى. وقال أبو عمر: وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن علي وأصحابه، واحتجوا بقوله - عليه السلام -: "أيُّما إهاب دبغ فقط طهر" حملوه على العموم في كل جلد. قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهودة الانتفاع بها، وأما جلد الخنزير فلم يدخل في المعنى؛ لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه خفف الذكاة في جلود السباع، وكره جلود الحمير مذكاة. قال ابن القاسم: أما جلد السبع والكلب إذا ذكي فلا بأس ببيعه والشرب فيه والصلاة عليه. قال أبو عمر: الذكاة عند مالك وابن القاسم عاملة في السباع لجلودها وغير عاملة في الحمير والبغال، وأما أشهب فقال: جلد الميتة إذا دبغ لا أكره الصلاة فيه ولا الوضوء منه وأكره بيعه ورهنه، فإن بيع ورهن، لم أفسخه، قال: وكذلك جلود السباع إذا ذكيت ودبغت، وهي عندي أخف لموضع الذكاة مع الدباغ، فإن لم تذك جلود السباع فهي كسائر جلود الميتة إذا دبغت، وقال عبد الملك بن حبيب: لا يجوز بيع جلود السباع ولا الصلاة فيها وإن دبغت إذا لم تذك، ولو ذكيت لمجردها حل بيعها والصلاة فيها، قال أبو عمر: قول أشهب هذا قول أكثر الفقهاء وأهل

الحديث، وقال الشافعي: جلود الميتة كلها تطهير بالدباغ وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ إلا الكلب والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما شيئًا. قال أبو عمر: لا تعمل الذكاة عند الشافعي في جلد ما لا يؤكل لحمه، وحكى عن أبي حنيفة أن الذكاة عنده عاملة في السباع والحمير لجلودها، ولا تعمل الذكاة عنده في جلد الخنزير ولا عند أحد من أصحابه. انتهى. وفي "البدائع" تطهر الجلود كلها بالدباغ إلا جلد الآدمي والخنزير، كذا ذكر الكرخي، وقال مالك: إن جلود الميتة لا تطهير بالدباغ، لكن يجوز استعماله في الجامد لا المائع، بأن جعل جرابا للحبوب دون المرق والماء والسمن والدبس وقال عامة أصحاب الحديث: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه، وقال الشافعي كما قلنا إلا في جلد الكلب، فإنه نجس العين عنده كالخنزير وكذا روي عن الحسن بن زياد، ثم قول الكرخي: "إلا جلد الإنسان" جواب ظاهر قول أصحابنا، وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهير بالدباغ؛ لعموم الحديث، والصحيح أن جلد الخنزير لا يطهر بالدباغ، وأما جلد الفيل فذكر في "العيون" عن محمد أنه لا يطهر بالدباغ، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يطهر، والله أعلم. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من حديث ابن أبي ليلى الذي ذكرنا: أن قول النبي - عليه السلام - تنتفعوا من الميتة بإهياب ولا عصب، فقد يجوز أن يكون أراد بذلك ما دام ميتة غير مدبوغ، فإنه قد كان سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب الذي سأله بمثل هذا. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "بينا أنا عند رسول الله - عليه السلام - إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول الله - عليه السلام - إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينه ميتة، فأردنا أن ندهن سفينتنا، وإنما هي عود وهي على الماء، فقال: رسول الله - عليه السلام - لا تنفعوا بالميتة". جوابًا له وأن ذلك على النهي عن الانتفاع بشحومها، فأما ما كان يدفع منها حتى يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأهب فإنه يطهر بذلك.

ش: أي وكان من الحجة والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتجت به أهل المقالة الأولى عليهم من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي رواه عن عبد الله بن عكيم، وهذا جواب عن الحديث المذكور، وهو أن قوله - عليه السلام -: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب". معناه: ما دام ميتة غير مدبوغ، ونحن نقول أيضًا: مادام إهابًا لا يجوز استعماله؛ لأن الإهاب اسم لجلد غير مدبوغ، فإذا دبغ تَغَيُّر ذاته واسمه أما تَغَيُّر ذاته فإنه تزول عنه تلك الرطوبة النجسة والنتن والفساد. وأما تَغَيُّر اسمه فإنه يسمى بعد الدباغ أديمًا بيان ذلك: أنه - عليه السلام - قد كان سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب لذلك السائل بقوله: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". رواه جابر بن عبد الله، وأخبر أن قوله - عليه السلام - كان جوابًا لذلك السائل فإن قوله: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" وإن كان عامًّا في الصورة، ولكن الراد منه النهي عن الانتفاع بشحوم الميتة؛ لأن السؤال عنه، فالجواب ينبغي أن يطابق السؤال. وأما ما يدبغ من الميتة فإنه يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأَهَب لأن جلدها ما لم يدبغ متصف بالنتن والفساد، فإذا دبغ خرج عن ذلك المعنى كما ذكرناه. وقوله: "الأَهَب" بفتحتين جمع إهاب كما ذكرناه عن قريب. ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله من طريقين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن زمعة بن صالح الجندي اليماني نزيل مكة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر. وهذا الإسناد فيه ما فيه من جهة زمعة؛ فإن أحمد ويحيى والنسائي ضعفوه. والآخر: عن إبراهيم بن محمد بن يونس بن مروان، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر.

وأخرجت الجماعة (¬1): عن جابر قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول عام الفتح بمكة: إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل له: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: هو حرام، ثم قال: رسول الله - عليه السلام - عند ذلك قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه". قوله: "يستصبح" من الاستصباح وهو استفعل من المصباح، وهو السراج، وأراد أنهم يشعلون بها الضوء. قوله: "قاتل الله" أي قتل الله، وقيل: معناه عادى الله. قوله: "أجملوه" من أجملت الشحم وجَمَّلْتُه إذا أذبته، وجملته أكثر من أجملته، وهو بالجيم. ص: وقد جاءت عن رسول الله - عليه السلام - آثار متواترة صحيحة المجيء مفسرة المعنى تخبر عن طهارة ذلك بالدباخ، فما روي في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "مر النبي - عليه السلام - بشاة ميتة لميمونة، فقال: لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا أسامة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - قال لأهل شاة ماتت: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به". ¬

_ (¬1) البخاري في "صحيحه" (2/ 779 رقم 2121)، ومسلم في "صحيحه" (3/ 1207 رقم 1581)، وأبو داود في "سننه" (2/ 301 رقم 3486)، والترمذي في "جامعه" (3/ 591 رقم 1297)، والنسائي في "المجتبى" (7/ 177 رقم 4256)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 732 رقم 2167).

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: أخبرني عطاء منذ حين، عن ابن عباس قال: "أخبرتني ميمونة عن شاة ماتت، فقال النبي - عليه السلام -: هلَّا دبغتم إهابها فاستمتعتم به". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث وأسد بن موسى، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أنه قال: سمعت ابن عباس يقول: "ماتت شاة، فقال رسول الله - عليه السلام - لأهلها: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لميمونة، فقال رسول الله - عليه السلام -: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إن دباغ الأديم طهوره". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة، عن ابن عباس، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا دبغ الأديم فقد طهر". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا أبو غسان، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، أنه قال لابن عباس: "إنا نغزوا أرض المغرب، وإنما أَسْقِيَتُنَا جلود الميتة، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: أيما مسك دبغ فقد طهر". حدثنا ربيع الجيزي، قال: حدثني إسحاق بن بكر بن مضر، قال: ثنا أبي، عن جعفر بن ربيعة، أنه سمع أبا الخير يخبر، عن ابن وعلة، أنه سأل ابن عباس فقال: "إنا نغزوا هذه المغرب ولهم قرب يكون فيها الماء وهم أهل وثن؟ قال ابن عباس: الدباغ طهور، فقال: له ابن وعلة أَعَنْ رأيك أم سمعته من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: بل سمعته من رسول الله - عليه السلام -".

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عبدة بن سليمان (ح). وحدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قالا جميعًا: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن سودة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنًّا". ش: أي قد جات أحاديث كثيرة عن رسول الله - عليه السلام - صحيحة الأسانيد ظاهرة المعاني تخبر أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، فمن الذي روي في ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه من أحد عشر طريقًا: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح"، وثقه ابن حبان. عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر وعبد الله بن محمد الزهري واللفظ لابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاةٌ لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله - عليه السلام -: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به". قوله: "لو أخذوا إهابها" جواب "لو" محذوف، أي: لو أخذوا إهاب هذه الشاة الميتة فدبغوه فانتفعوا به لكان خيرًا لهم من إلقائه ثم الانتفاع أعمُّ من أن يكون باللبس والفرش واتخاذ الآلة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 277 رقم 363).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن وهب، أخبرني أسامة بن أبي زيد الليثي، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - قال لأهل شاة ماتت: ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمتعتم به". الثالث: عن أبي بشر الرقي عبد الملك بن مروان، عن حجاج بن محمد الصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه النسائي (¬2): أخبرني عبد الرحمن بن خالد القطان الرقي، ثنا حجاج، قال: ثنا ابن جريج ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث وأسد بن موسى، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد أبي حبيب سويد المصري، عن عطاء ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث بن سعد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء متنًا وسندًا. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، عن أبيه عطاء، عن ابن عباس. عن أحمد بن يعقوب بن عطاء، منكر الحديث، وقال: يحيى وأبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (1/ 16 رقم 49). (¬2) "المجتبى" (7/ 172 رقم 4237).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن معمر، والسكن بن سعيد، قالا: نا روح بن عبادة، نا شعبة، نا يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "إن دباغ الأديم" أراد به أن دباغ الإهاب، أطلق على الإهاب أديمًا باعتبار ما يؤول؛ لأن الأديم اسم للجلد الذي دبغ، والإهاب اسم للجلد الذي لم يدبغ. قوله: "طهوره" يجوز فيه فتح الطاء وضمها، أما الفتح، فعل معنى أن الدباغ مطهر له، وأما الضم فعلى معنى أن الدباغ طهارة له. السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم القرشي المدني، عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي المصري، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، عن عبد الله بن عباس، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة وعلي بن حجر، عن سفيان، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرج الترمذي (¬4) أيضًا نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 277 رقم 366). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 66 رقم 4241). (¬3) "المجتبى" (7/ 173 رقم 4241). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 221 رقم 1728).

قوله: "أيما إهاب دبغ" يتناول سائر الأهب من جلود الميتات وغيرها، حتى إن بعضهم ذهب إلى أن جلد الخنزير أيضًا يطهر بالدباغ؛ لعموم اللفظ، وروي ذلك عن أبي يوسف أيضًا. قلنا: لم يكن من عادتهم اقتناء الخنازير حتى تموت فيدبغوا جلودها، ولأن نجاسة الخنزير ليست لما فيه من الدم والرطوبة بل هو نجس العين، فكان وجود الدباغ في حقه وعدمه بمنزلة واحدة، وقيل: إن جلده لا يحتمل الدباغ؛ لأن له جلودًا مترادفة بعضها فوق بعض كما للآدمي، وقال بعضهم: ولا يتناول الحديث الكلب أيضًا؛ لأنه لم يكن من عاداتهم استعمال جلده. قلنا: لا يلزم من ترك استعمالهم جلد الكلب أن لا يطهر جلده بالدباغ؛ فالحديث يتناول جلده أيضًا لكونه قابلًا للدباغ. فإن قيل: ما تقول في جلد الأدمي على هذا العموم؟ قلت: إنما منع ذلك في جلد الأدمي لكرامته واحترامه. وقال القاضي عياض: وقال بعضهم: بل يُخَصُّ هذا العموم بقوله: "دباغ الأديم ذكاته" فأحل الذكاة محل الدباغ، فوجب أن لا يؤثر الدباغ إلا فيما تؤثر فيه الذكاة، والذكاة إنما تؤثر عند هؤلاء فيما يستباح لحمه؛ لأن قصد الشرع بها استباحة اللحم؛ فإذا لم يستبح اللحم لم تصح الذكاة، وإذا لم تصح الذكاة لم يصح الدباغ المشبه به، وقد أشار بعض من انتصر لمذهب مالك إلى سلوك هذه الطريقة، فرأى أن التحريم يتأكد في الخنزير، واختص بنص القرآن عليه، فلهذا لم تعمل الذكاة فيه، فلما تقاصر عنه في التحريم، ما سواه لم يلحق به في تأثيرا الدباغ، وقد سلك هذه الطريقة أيضًا أصحاب الشافعي، ورأوا أن الكلب أُخصَّ في الشرع بتغليظ لم يرد فيما سواه من الحيوان وأُلحق بالخنزير. قلت: ذهب بعض أصحابنا المحققين إلى هذا، فقالوا: إن الذكاة تحل محل الدباغ فوجب أن يؤثر الدباغ فيما تؤثر فيه الذكاة، والذكاة عندهم تؤثر في التطهير لا في استباحة اللحم، حتى لو ذبح الحمار أو الكلب يطهر، فإذا كان الأمر كذلك أثر

الدباغ في جلد كل حيوان ولا يستثنى منه غير الخنزير لنجاسة عينه، والأدمي لكرامته، والله أعلم. السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) ولفظه: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". الثامن: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان محمد بن مطرف بن داود الليثي المدني نزيل عسقلان، روى له الجماعة ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): حدثني عفان، نا حماد بن سلمة، ثنا زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، قال: "قلت لابن عباس: إنا لنغزو هذا المغرب وأكثر أسقيتهم الميتة -وربما قال حماد: وعامة أسقيتهم الميتة- قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: دباغها طهورها". قوله: "وإنما أسقيتنا" الأسقية جمع سقاء -بالكسر- وهو الدلو. قوله: "أيما مَسْك" بفتح الميم، وهو الجلد. التاسع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن إسحاق بن بكر بن مضر، عن أبيه بكر بن مضر بن محمد المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله اليزني المصري، عن عبد الرحمن بن وعلة. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 498 رقم 1063). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 279 رقم 2522).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني إسحاق بن منصور وأبو بكر بن إسحاق، عن عمرو بن الربيع، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي الخير حدثه، قال: حدثني ابن وعلة السبئي، قال: "سألت عبد الله بن عباس، قلت: إنا نكون بالمغرب فيأتينا المجوس بالأسقية فيها الماء والودك؟ فقال: اشرب، فقلت: أرأي تراه؟ فقال ابن عباس: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: دباغه طهوره". وأخرجه النسائي (¬2): أخبرني الربيع بن سليمان، ثنا إسحاق بن بكر ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا بكر بن مضر ... إلى آخره نحوه. قوله: "وهم أهل وثن" وهو الصنم، والجمع: وُثْنٌ وأَوْثَان، مثل أُسْد وآساد، ويقال: الوثن: ما يعمل من الجلد ونحوهما، والصنم ما يعمل من الخشب والفضة والذهب ونحوها. العاشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن عبدة ابن سليمان الكلابي الكوفي، عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي، عن عامر الشعبي، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، أنا الفضل بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن النبي، عن عكرمة ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 278 رقم 366). (¬2) "المجتبى" (7/ 173 رقم 4242). (¬3) "المجتبى" (7/ 173 رقم 4240). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2460 رقم 6308).

الحادي عشر: عن إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي المعروف بترنجة نزيل مصر، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي -بالعين المهملة، والباء الموحدة، والسن المهملة- شيخ البخاري. عن إسماعيل بن أبي خالد ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا ابن نمير، عن إسماعيل، عن عامر، عن عكرمة عن ابن عباس ... إلى آخره نحوه. قوله: "ننبذ" من نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا وانتبذته: اتخذته نبيذًا، وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ. ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ خمر. قوله: "حتى صار شنًّا" الشَّنُّ -بفتح السنن المعجمة وتشديد النون- القربة البالية. ص: حدثنا محمد بن علي بن داود وفهد، قالا: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرئيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال النبي - عليه السلام -: "دباغ الميتة طهورها" هل لفظ محمد وأما فهد فقال: "دباغ الميتة ذكاتها". حدثنا محمد بن علي، قال: ثنا الحسين بن محمد المروزي، قال: ثنا شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال النبي: "دباغ الميتة طهورها". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا، عن عائشة - رضي الله عنها -، مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عن جلود الميتة فقالت: لعل دباغها يكون طهورها". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 429 رقم 27458).

ش: هذه أربع طرق: الأول: عن محمد بن علي بن داود البغدادي، وفهد بن سليمان الكوفي، كلاهما عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن وإبراهيم بن محمد بن دِهقان، قالوا: ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "دباغ الميتة طهورها"، وقال هارون: ذكاتها. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني إبراهيم بن يعقوب، ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "ذكاة الميتة دباغها". قوله: "دباغ الميتة ذكاتها" معناه أن كل حيوان مما يؤكل وما لا يؤكل إذا ذكي طهر جلده -إلا الخنزير كما ذكرناه لنجاسة عينه- وكذلك يطهر لحمه عندنا، ويوضح هذا التفسير رواية النسائي: "ذكاة الميتة دباغها". الثاني: عن محمد بن علي أيضًا، عن الحسين بن محمد بن بهرام المروذي، روى له الجماعة، ونسبته إلى مروذ -بضم الميم والراء وفي آخره ذال معجمة- نسبة إلى مرو الروذ بلدة بخراسان، والقياس المرو الروذي، وقد يقال المُروُذي قاله: ابن ماكولا. عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 174 رقم 4247).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا الحسين بن منصور بن جعفر النيسابوري، ثنا الحسين ابن محمد، ثنا شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة قالت: "سئل النبي - عليه السلام - عن جلود الميتة، فقال: دباغها طهورها". الثالث: عن فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش ... إلى آخره. وفيه مجاهيل، ولكن أصحاب الأعمش مثل الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأمثالهما. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي أحد أصحاب أبي حنيفة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة - رضي الله عنها -. وهذا موقوف، وإسناده صحيح. وأخرجه السراج في "مسنده". حدثنا محمد بن الصباح، أنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "قال سألتها عن الفراء، فقالت: "لعل دباغها يكون طهورها". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن كثير ابن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سبيع، أن ميمونة زوج النبي - عليه السلام - حدثتها: "أنه مَرَّ على رسول الله - عليه السلام - رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم النبي - عليه السلام -: لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث والليث، عن كثير بن فرقد ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان إسنادان حسنان جيدان: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 174 رقم 4244).

أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد المدني نزيل مصر من رجال البخاري، عن عبد الله بن مالك بن حذافة الحجازي نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث فقط. عن أمه العالية بنت سبيع، قال العجلي: مدنية تابعية ثقة، روى لها أبو داود والنسائي هذا الحديث فقط. عن ميمونة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو -يعني- ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سبيع، أنها قالت: "كان لي غنم بِأُحُدٍ فوقع فيها الموت، فدخلت على ميمونة زوج النبي - عليه السلام - فذكرت ذلك لها، فقالت لي ميمونة: لو أخذت جلودها فانتفعت بها، فقالت: قلت: أو يحل ذلك؟ قالت: نعم؛ مَرَّ على رسول الله - عليه السلام - رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: لو أخذتم إهابها، فقالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله - عليه السلام -: يطهرها الماء والقرظ". والإسناد الآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، والليث بن سعد، كلاهما عن كثير بن فرقد، عن عبد الله بن مالك بن حذافة، عن أمه العالية بنت سبيع، عن ميمونة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا سليمان بن داود، عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث والليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن العالية بنت سبيع، أن ميمونة زوج النبي - عليه السلام -حدثتها: "أنه مَرَّ برسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 66 رقم 4126). (¬2) "المجتبى" (7/ 174 رقم 4248).

رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: لو أخذتم إهاجمها، قالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله - عليه السلام -: يطهرها الماء والقرظ". قوله: "لو اخدتم إهابها" جوابه محذوف أي لو أخذتم إهابها لانتفعتم بها ونحو ذلك. "والقرظ" بفتح القاف والراء في وآخره ظاء معجمة: ورق السَّلَم (¬1) يدبغ به، ومنه أديم مقروظ. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن الحسن، عن الجَوْن بن قتادة، عن مسلمة بن المحَبق: "أن رسول الله - عليه السلام -بقربة من عند امرأة- فيها ماء، فقالت: إنها ميتة، فقال النبي - عليه السلام -: دبغتها؟ فقالت: نعم، فقال: دباغها طهورها". ش: إسناده صحيح. وأبو عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي داود، وهشام هو الدستوائي، والحسن هو البصري، والجَوْن -بفتح الجيم، وسكون الواو- بن قتادة بن الأعور التميمي البصري، قيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له. وسلمة بن المحبق -بضم الميم- وفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء المكسورة، وفي آخره قاف- أبو سنان الصحابي. وقال ابن الأثير: أهل الحديث بفتحون الباء، واسم المحبق: صخر بن عتبة، ويقال: عتيبة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عبيد الله بن سعيد، ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق: "أن نبي الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية" (2/ 395): السَّلَم: شجر من العِضَاه، واحدتها: سَلَمة -بفتح اللام- وورقها القَرَظ الذي يدبغ به. (¬2) "المجتبى" (7/ 173 رقم 4243).

في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة، قالت: ما عندي إلا في قربة لي ميتة، قال: أليس قد دبغتها؟ قالت: بلى. قال: فإن دباغها ذكاتها". وأخرجه أبو داود نحوه (¬1): وفي لفظه دباغها طهورها. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث عفان، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق: "أن النبي - عليه السلام - أتى على بيت قُدَّامه قربة معلقة، فسأل الشراب فقالوا: إنها ميتة، قال: ذكاتها دباغها". قال: وروينا من حديث حفص بن عمر، عن همام، فقال: "دباغها طهورها". وكذلك قال شعبة عن قتادة. ص: فقد جاءت هذه الآثار متواترة في طهور جلد الميتة بالدباغ، وهي ظاهرة المعنى، فهذا أولى من حديث عبد الله بن عكيم الذي لم يدلنا على خلاف ما جاءت به هذه الآثار. ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن ابن عباس، وسودة وعائشة وميمونة أزواج النبي - عليه السلام -، وسلمة بن المحبق - رضي الله عنهم -، وأراد بالتواتر التكاثر والورود بالصحة، فإذا كان كذلك يكون العمل بها أولى من العمل بحديث عبد الله بن عكيم على أن حديث عبد الله عكيم، لا يدل على خلاف ما تدل هذه الأحاديث؛ لأنا قد ذكرنا أن معناه: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ما دام غير مدبوغ، فهذا لا ينافي الانتفاع به بعد الدباغة، فحيئنذ لم يبق لأهل المقالة الأولى تعلق بهذا الحديث، فتكون معاني هذه الأحاديث -إذا صححت- دالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. فافهم. ص: فإن قال قائل: إنما كان إباحة دباغ جلود الميتة وطهارتها بذلك الدباغ إنما كان قبل تحريم الميتة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 66 رقم 4125). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 21 رقم 70).

فإن الحجة عليه في ذلك والدليل -على أن ذلك كان بعد تحريم الميتة وأن هذا كان غير داخل فيما حرم منها- أن ابن أبي داود قد حدثنا، قال: حدثنا المقدمي، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا سماك بن حرب (ح). وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة -تعني الشاة- قال: فلولا أخذتم مَسْكها، فقالت: يا رسول الله نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟! فقال النبي - عليه السلام -: إنما قال الله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (¬1) الآية، فإنه لا بأس أن تدبغوه فتنتفعوا به، قالت: فأرسلت إليها فسلخت مَسْكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت". ففي هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - لما سألته عن ذلك قرأ عليها الآية التي نزل فيها تحريم الميتة، فأعلمها بذلك أن ما حرم عليهم بتلك الآية من الشاة حين ماتت إنما هو الذي يطعم منها إذا ذكيت لا غيره، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في ذلك الذي حرم منها. ش: تقرير السؤال أن يقال: لا نسلم أن إباحة جلود الميتات وطهارتها بالدباغ مطلق، بل إنما كان ذلك قبل أن يحرم الله تعالى الميتات، فلما حرم الله الميتات حرم كل شيء منها وكل جزء من أجزائها بتحريم أصلها. وأجاب عنه بقوله: "فإن الحجة عليه في ذلك" أي فإن الحجة وأراد بها الجواب على القائل المذكور فيما قاله. قوله: "والدليلَ" بالنصب، عطف على قوله: "فإن الحجة أي وإن الدليل على أن ذلك كان قبل تحريم الميتة، "وأن جلد الميتة غير داخل فيما حرم منها" أي من الميتة. وقوله: "أن ابن أبي داود" خبر لقوله: "أن ذلك". ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [145].

بيان ذلك: أن حديث عكرمة عن ابن عباس يخبر أن النبي - عليه السلام - لما سألته ميمونة - رضي الله عنها - عن جلد تلك الشاة الميتة، قرأ - عليه السلام - عليها الآية التي بُيِّن فيها تحريم الميتة، وهي قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬1) الآية، فأعلمها - عليه السلام - بذلك أن الذي حرم عليهم بتلك الآية إنما هو الذي يؤكل منها لا غيره، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في الذي حرم منها، وكذلك حكم صوفها وشعرها ووبرها وقرنها وظلفها وحافرها وعظمها، فإن هذه الأشياء كلها لا تدخل فيما يطعم، وفي العصب. روايتان عن أصحابنا. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ الشيخين، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن سماك بن حرب بن أوس روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من طريق أبي عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لسودة ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "وأنكم لا تطعمونه، إنما تدبغونه فتنتفعون به، فأرسلت إليها ... " إلى آخره. والثاني: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، عن يوسف بن عدي ابن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة عن سماك، عن عكرمة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) نحوه، وقال الذهبي في تنقيح "سنن البيهقي" عقيب هذا الحديث. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [145]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 18 رقم 57). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 327 رقم 3027).

قلت: صحيح. قوله: "ماتت فلانة" قد ذكر أهل العربية أن فلانًا وفلانة وأبو فلان وأم فلان كنايات عن أسامي الأناسي وكناهم، وأنها قد تجئ كنايات عن أعلام البهائم أيضًا، وقال الزمخشري: وإذا كنوا عن أعلام البهائم ادخلوا اللام، فقالوا: الفلان والفلانة. قلت: لا شك أن فلانة ها هنا كناية عن علم شاة لميمونة، ولكنها ذكرتها مجردة عن اللام". قوله: "فلولا" كلمة "لولا" ها هنا للتحضيض كما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (¬1) والتحضيض: الترغيب في فعل الشيء، أو التحذير من تركه. قوله: "مَسكها" بفتح الميم أي جلدها. قوله: "فإنه لا بأس" أي فإن الشأن لا حرج عليكم بأن تدبغوا جلدها. ص: وقد روى عبيد الله بن عبد الله أيضًا، عن ابن عباس نحوًا من ذلك: حدثنا يونس، قال: أبنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله - عليه السلام -: ألا انتفعتم بجلدها، قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم كلها". فدل ذلك على أن الذي حرم من الشاة بموخها هو الذي يراد للأكل لا غير ذلك من جلودها وعصبها، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي قد روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس نظير ما رواه عكرمة؛ عنه، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [122].

وإسناد الحديث صحيح على شرط مسلم. ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4) أيضًا. وفي لفظ للبخاري (¬5): "مر النبي - عليه السلام - بعنز ميتة، فقال: ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها". وفي لفظ لمسلم (¬6): "أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله - عليه السلام - فماتت، فقال رسول الله - عليه السلام -: ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به". قوله: "أَلَّا" بفتح الهمزة وتشديد اللام مثل "هَلاّ" كلاهما للتحضيض. ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأصل المجمع عليه أن العصير لا بأس بشربه والانتفاع به ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حرامًا كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخلّ حلّ، فكان يحلّ بحدوث الصفة ويحرم بحدوث صفة غيرها، وإن كان بدنًا واحدًا. فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، فإذا دبغ فصار كالجلود ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 276 رقم 363). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 543 رقم 1421). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 220 رقم 1727). (¬4) "المجتبى" (7/ 172 رقم 4235). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2104 رقم 5212). (¬6) "صحيح مسلم" (1/ 277 رقم 364).

والأمتعة فقد حدثت فيه صفات الحلال، فالنظر على ما ذكرنا أن يحل بحدوث تلك الصفة فيه. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهذا الوجه ظاهر، ولكن قوله: "فإذا حدثت فيه صفات النحل حلّ" ليس بمجمع عليه؛ لأن عند الشافعي وأخرين أن الخمر إذا صار خلا إنما يحل إذا كان من ذاته من غير معالجة بشيء. قوله: "وإن كان بدنًا واحدًا" أراد به ذاتا واحدة. ص: وحجه أخرى: أنا قد رأينا أصحاب رسول الله - عليه السلام - لما أسلموا لم يأمرهم النبي - عليه السلام - بطرح نعالهم وخفافهم وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة أو من ذبيحة، فذبيحتهم إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي في حرمتها على أهل الإِسلام كحرمة الميتة، فلما لم يأمرهم النبي - عليه السلام - بطرح ذلك، وترك الانتفاع به ثبت أن ذلك قد كان خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ، إلى حكم سائر الامتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله - عليه السلام - إذا افتتحوا بلادًا من بلاد المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم ونعالهم وأنطاعهم وسائر جلودهم فلا يأخذوا من ذلك شيئًا، بل كان لا يمنعهم من شيء من ذلك، فذلك دليل على طهارة الجلود بالدباغ. ش: أي دليل أخر في طهارة الجلود بالدباغ، وهو ظاهر. قوله: "إنا قد رأينا" يجوز فيه الكسر والفتح، فالفتح على أنه في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "حجة أخرى" مقدمًا، والكسر على أنه ابتداء كلام. وقوله: "حجة أخرى" خبر مبتدأ محذوف، أي وهذه حجة أخرى، أو يكون التقدير: خُذ حجة أخرى، فحينئذ يتعين النصب على المفعولية. قوله: "ذبيحة أهل الأوثان" لأنهم لم يكو نوا أهل كتاب. قوله: "وكذلك كانوا" أي الصحابة - رضي الله عنهم -، وهذه إشارة إلى حجة أخرى.

قوله: "بأن يتحاموا" أي يجتنبوا. قوله: "فلا يأخذوا" عطف على قوله: "بأن يتحاموا". ص: ولقد روي في هذا عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كنا نصيب مع رسول الله - عليه السلام - في مغانمنا من المشركين الأسقية فنقسمها، وكلها ميتة، فنتنتفع بذلك". فدل ذلك على ما ذكرنا، وهذا جابر يقول هذا وقد حدث عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". فلم يكن ذلك عنده بمضاد لهذا، فثبت أن معنى حديثه عن رسول الله - عليه السلام -: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". غير معنى حديثه الآخر، وأن الشيء المحرم من الميتة في ذلك الحديث، هو غير المباح في هذا الحديث، فكذلك ما روي عن عبد الله بن عكيم، عن رسول الله - عليه السلام - مما نُهي عن الانتفاع به من الميتة هو غير ما أباح في هذه الآثار، ومن أهبها المدبوغة، حتى تتفق هذه الآثار ولا يضاد بعضها بعضًا، وهذا الذي ذهبنا إليه في هذا الباب من طهارة جلود الميتة بالدباغ قول أتيت حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: هذه إشارة إلى لي تأييد صحة ما ذكره من الحجة الأخرى؛ لأن حديث جابر بن عبد الله يصدقها ويصححها، وهذا ظاهر. وأيضًا إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين روايتي جابر بن عبد الله؛ فإنه روى في حديث: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". وهو ما رواه أبو الزبير المكي عنه المذكور فيما مضى. وروى ها هنا: "كنا نصيب مع رسول الله - عليه السلام - في مغانمنا من المشركين الأسقية". فبين الحديثين تضاد ظاهرًا، ولكن في الحقيقة إذا صحح معانيهما يتفقان؛ لأن معنى حديثه الأول غير معنى حديثه الآخر، لأن المحرم في حديثه الأول هو الشحم من الميتة على ما ذكرنا، وهو غير المباح في حديثه الآخر وهو الانتفاع بجلود الميتات

المدبوغة فيكون كل واحد من معنيي الحديثين في محل، فباختلاف المحل لا يتحقق التضاد؛ فافهم. وكذلك الكلام بين حديث عبد الله بن عكيم المذكور في أول الباب، في استدلال أهل المقالة الأولى، وبين هذه الأحاديث؛ وذلك لأن معنى حديثه: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ما دام غير مدبوغ، فإذا دبغ يجوز الانتفاع به، وهو معنى الأحاديث الأخُر، فبهذا المعنى تتفق الأحاديث كلها ولا يضاد بعضها بعضًا؛ فافهم. قوله: "من أَهَبها المدبوغة" بفتح الهمزة والهاء، جمع إهاب، وقد يضم على القياس، وقد مرّ مرة. ثم إسناد حديث جابر المذكور صحيح. وأبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، ومحمد بن راشد الخراعي أبو عبد الله الشامي المعروف بالمكحولي، وثقه أحمد ويحيى، وروى له الأربعة. وسليمان بن موسى القرشي أبو أيوب الدمشقي فقيه أهل الشام في زمانه، ثقة صدوق، وقال ابن عدي: ثبت صدوق، وروى له مسلم في مقدمة كتابه والأربعة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، نا عبد الوهاب، نا برد، نا سليمان بن موسى، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نصيب مع رسول الله - عليه السلام - الأسقية والآنية فنغسلها ونأكل فيها، يعني آنية المشركين".

ص: باب: الفخذ هل هي من العورة أم لا؟

ص: باب: الفخذ هل هي من العورة أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الفخذ هل هي من العورة أم ليست منها؟ وفيه ثلاث لغات: فتح الفاء وسكون الخاء، وكسرها، وكسر الفاء مع سكون الخاء. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو خالد، عن عبد الله بن سعيد المديني، قال: حدثتني حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخديه، فجاء أبو بكر - رضي الله عنه - فاستأذن فأذن له النبي - عليه السلام - على هيأته، ثم جاء عمر - رضي الله عنه - بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبي - عليه السلام - على هيأته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له، ثم أخد رسول الله - عليه السلام - ثوبه فتجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله - عليه السلام - جاء أبو بكر وعمر وعلي وأناسٌ من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان - رضي الله عنه - تجللت ثوبك؟! فقال: أَوَ لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟ قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحوًا من هذا". ش: أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري واحد أصحاب أبي حنيفة، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج روى له الجماعة، وأبو خالد شيخ لابن جريج لا يعرف حاله ولا اسمه، وذكره مسلم في كتابه "الكنى" وقال: أبو خالد عثمان، عن عبد الله بن أبي سعيد، روى عنه ابن جريج. وعبد الله بن سعيد المديني -ويقال: ابن أبي سعيد- أبو زيد، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا روح، نا ابن جريج، أخبرني أبو خالد، عن عبد الله بن أبي سعيد المدني، قال: حدثتني حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - ذات يوم ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 288 رقم 26509).

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬1): من حديث ابن جريج، عن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي سعيد، حدثتني حفصة ... إلى آخره. وقال: الذهبي في "مختصره" قلت: حديث غريب. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا عبد الله بن الحسن المصيصي، ثنا الحسن بن موسى الأشيب، ثنا شيبان، عن أبي يعفور، عن عبد الله بن أبي سعيد، عن حفصة بنت عمر قالت: "دخل عليّ رسول الله - عليه السلام - ذات يوم فوضع ثوبه بين فخذيه ... " الحديث نحوه. ورواه أحمد (¬3) أيضًا من هذا الطريق. وهذا كما ترى وقع في روايتهم عبد الله بن أبي سعيد، وكذا ذكره في "التكميل"، ولكن وقع في نسخ الطحاوي عبد الله بن سعيد، والله أعلم. قوله: "على هيأته" في محل النصب على الحال، والمعنى أنه لم يتحول عن هيأته تلك. قوله: "ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة" أي ثم جاء عمر - رضي الله عنه - ورسول الله - عليه السلام - بمثل تلك الصفة، وهو أيضًا حال. قوله: "فتجلله" أي علاه، قال: الجوهري يقال: تجلله أي علاه، أراد بذلك غطى فخذيه بالثوب، أو المعنى: فتجلل بدنه بثوبه، بمعنى غطاه كله، يقال: تجلل الرجل بالثوب إذا غطى بدنه به، وتجلّل: تَفَعَّل وهو متعدي بمعنى جلل كَتَبَيَّنَ بمعنى بَيَّنَ. ويستفاد منه: أن الفخذ ليست بعورة، ولهذا لم يسترها رسول الله - عليه السلام - عن أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة مما خلا عثمان - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 231 رقم 3061). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 205 رقم 355). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 288 رقم 26510).

وأن توقير من يستحقه من الناس ولا سيما من المشايخ والعلماء والصالحين واجب. وأن تعري الرجل في بيته مع ستر عورته جائز. وأن دخول الرجل على غيره بغير إذنه غير جائز. وأن الاستئذان مستحب. وفيه فضيلة عثمان - رضي الله عنه -. ص: فذهب قوم إلى أن الفخذ ليست من العورة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وإسماعيل بن علية وابن جرير الطبري وداود الظاهري وأحمد في رواية؛ فأنهم قالوا: الفخذ ليست من العورة، ويروى ذلك عن الاصطخري من أصحاب الشافعي، حكاه الرافعي عنه، وهو مذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): العورة المفترض سترها عن الناظر وفي الصلاة من الرجال الذَّكَر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ منه عورة، وهي من المرأة جميع جسمها حاشى الوجه والكفين فقط، الحُرّ والعبد، والحُرّة والأمة سواء في كل ذلك ولا فرق. ثم قال: بعد أن روى حديث أنس الذي أخرجه البخاري (¬2): "أن رسول الله - عليه السلام - غزا خيبر، ثم حصر الإزار. عن فخذه حتى أني انظر إلى بياض فخذ النبي - عليه السلام -". فصح أن الفخذ من الرجل ليست عورة، ولو كانت عورة لما كشفها الله تعالى من ¬

_ (¬1) "المحلى" (3/ 210). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 145 رقم 364).

رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى، قد عصمه من كشف العورة في حال الصبا وقبل النبوة. ثم قال: وهو قول ابن أبي ذئب وسفيان الثوري وأبي سليمان. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الفخذ عورة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: أبو حنيفة ومالك في أصح أقواله والشافعي وأحمد في أصح رواياته وأبو يوسف ومحمد وزفر بن الهذيل، حتى قال أصحابنا: إن صلاة مكشوف الفخذ فاسدة، وقال الأوزاعي: الفخذ عورة إلا في الحمام. ص: وقالوا: قد روى هذا الحديث جماعة من أهل البيت من على غير ما رواه الذين احتججتم بروايتهم، فمن الذي روي في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: أنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - استأذن على النبي - عليه السلام - ورسول الله - عليه السلام - لابس مرط أمّ المؤمنين، فأذن له فقضى إليه حاجته ثم خرج، فاستأذن عليه عمر - رضي الله عنه - وهو على تلك الحال فأذن إليه حاجته ثم خرج، فاستأذن عليه عثمان - رضي الله عنه - فاستوى جالسًا وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فلما خرج قالت له عائشة: مالك لم تفزع لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟! فقال: إن عثمان رجل كثير الحياء فلو أذنت له على تلك الحال خشيت أن لا يبلغ في حاجته". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - حدثنا محمد بن عبد العزيز الأيلي، قال: ثنا سلامة بن روح، قال: ثنا عُقَيل، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني يحيى بن سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص أخبره: "أن أبا بكر استأذن على رسول الله - عليه السلام - ... ثم ذكر مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث ابن سعد، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص أخبره: "أن عائشة زوج النبي - عليه السلام - وعثمان حدثناه: "أن أبا بكر استأذن على النبي - عليه السلام - ... ثم ذكر مثله. فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا. ش: أي قال أهل المقالة الثانية في جواب الحديث المذكور ملخصه أن يقال: إن الحديث المذكور على هذا الوجه غريب؛ لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير الوجه المذكور، وليس فيه ذكر كشف الفخذين، فحينئذ لا تثبت به الحجة. وقال أبو عمر: الحديث الذي رووه عن حفصةفيه اضطراب. وقال البيهقي: قال الشافعي: والذي يروى في قصة عثمان - رضي الله عنه - من كشف الفخذين مشكوك فيه، وقال الطبري في كتاب "تهذيب الآثار": الأخبار التي رويت عن النبي - عليه السلام - أنه دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشف فخذه واهية الأسانيد، لا تثبت بمثلها حجة في الدين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها أخبار صحاح. ثم إنه أخرج حديث أهل البيت من أربعة أوجه طرقها صحاح ورجالها ثقات: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط البصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبيه سعيد بن العاص بن أحيحة القرشي الأموي المدني الصحابي، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهما -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد بن العاص، عن عائشة قالت: "استأذن أبو بكر على رسول الله - عليه السلام - وأنا معه في مرط واحد، قالت: فأذن له فقضى إليه حاجته وهو معي في المرط، ثم ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 167 رقم 25378).

خرج، ثم استأذن عليه عمر فأذن له فقضى حاجته على تلك الحال ثم خرج، ثم استأذن عليه عثمان فأصلح عليه ثيابه، وجلس فقض إليه حاجته ثم خرج، فقالت عائشة: قلت: يا رسول الله، استأذن عليك أبو بكر فقضى إليك حاجته على حالك تلك، ثم استأذن عمر عليك فقضى إليك حاجته على حالك، ثم استأذن عليك عثمان فكأنك احتفظت؟! فقال: إن عثمان رجل حيي، وإني لو أذنت له على تلك الحال خشيت أن لا يقضي إليّ حاجته". قوله: "ورسول الله - عليه السلام - لابس مرط أم المؤمنين" جملة اسمية وقعت حالًا، و "المِرط" بكسر الميم وسكون الراء: كساء من صوف، وربما كان من خَزّ، والمراد من "أم المؤمنين" ها هنا عائشة - رضي الله عنها -. قوله: "مالك لم تفزع لأبي بكر" من قولهم فزعت لمجيء فلان إذا تأهبت له متحولًا من حال إلى حال، كما ينتقل النائم من حال النوم إلى حال اليقظة. ورواه بعضهم بالراء والغين المعجمة من الفراغ والاهتمام، والأول أكثر، وهو أن يكون بالزاي والعين المهملة، وهو في الأصل من الفزع الذي هو الخوف، ثم استعمل في معاني كثيرة بحسب الحال، وذلك كما في الحديث: "لقد فزع أهل المدينة ليلًا، فركب رسول الله - عليه السلام - فرسًا لأبي طلحة" (¬1). أي استغاثوا وكما في حديث الكسوف: "فافزعوا إلى الصلاة" (¬2). أي الجئوا إليها واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث، وكما جاء في صفة علي - رضي الله عنه -: "فإذا فزع فزع إلى ضرس حديد" (¬3). أي إذا ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -، "البخاري" (3/ 1065 رقم 2751)، و"مسلم" (2/ 1804 رقم 2307). (¬2) متفق عليه -أيضًا- من حديث عائشة - رضي الله عنها -، "البخاري" (1/ 355 رقم 999)، و"مسلم" (2/ 616 رقم 901). (¬3) رواه أحمد -أيضًا- في فضائل الصحابة (2/ 576 رقم 975) من حديث عبد الله بن عياش الزرقي، ووقع فيه: قرع -بلقاف والراء- وانظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 161) وكتب المعجم.

استغيث به التجئ، وكما في حديث آخر: "ألا أفزعتموني". أي أنبهتموني ونحو ذلك وذكره صاحب "الدستور" في باب: فَعَلَ يَفْعَلُ، بكسر العين في الماضي، وفتحها في الغابر ثم قال: فزع: خاف، وفزع إليه: التُجِئ، وفزع له: أغاثه. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن عثمان بن عمر أيضًا، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه سعيد بن العاص، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن محمد بن عزيز بن عبد الله الأيلي، عن سلامة بن روح بن خالد بن عُقيل الأيلي، عن عُقَيل -بضم العين، وفتح القاف- ابن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه سعيد بن العاص أخبره، أن أبا بكر - رضي الله عنه -. الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري، عن الليث بن سعد، عن عقيل -بالضم- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن العاص، عن عائشة وعثمان - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، قال: ثنا أبي، عن جدي، قال: أنا عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص أخبره، أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - عليه السلام - وعثمان - رضي الله عنه - حدثاه: "أن أبا بكر استأذن على رسول الله - عليه السلام - وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقض إليه حاجته ثم أنصرف، قال عثمان ثم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 231 رقم 3060). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1866 رقم 2402).

استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إلى حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟! قال: قال رسول الله - عليه السلام -: إن عثمان رجل حيى، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته". قوله: "فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا". فإن قيل: قد روى مسلم في "صحيحه" (¬1)، وأبو يعلى في "مسنده" (¬2) والبيهقي في "سننه" (¬3) هذا الحديث، وفيه ذكر كشف الفخذين. فقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال: يحيى بن يحيى أخبرنا وقال: الآخرون- ثنا إسماعيل - يعنون- بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء وسليمان ابني يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - مضطجعًا في بيته، كاشفًا عن فخذيه -أو ساقيه- فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله - عليه السلام - وسوى ثيابه -قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟! فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟! ". قلت: لما أخرجه البيهقي قال: لا حجة فيه، وقال الشافعي: إن هذا مشكوك فيه، وذلك لأن الراوي قد قال: "عن فخذيه أو ساقيه" فدل ذلك على ما قاله الطحاوي: إن أصل الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1866 رقم 2401). (¬2) "مسند أبي يعلى" (8/ 240 رقم 4815). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 230 رقم 3059).

قال أبو عمر: هذا حديث مضطرب. ص: وقد جاءت عن رسول الله - عليه السلام - آثار متواترة صحاح فيها أن الفخذ عورة، فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الفخذ عورة". ش: أي وقد جاءت عن رسول الله - عليه السلام - أحاديث متكاثرة صحاح ذكر فيها أن الفخذ عورة، فمن ذلك حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان روى له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج روى له الجماعة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن عاصم بن ضمرة السلوكي الكوفي، قال العجلي وابن المديني: ثقة وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له الأربعة. عن علي بن أبي طالب. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا أحمد بن منصور بن راشد، ثنا روح بن عبادة، ثنا ابن جريج، أخبرني حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - عليه السلام -: "لا تكشف فخذك؛ فإن الفخذ من العورة". وله في رواية أخرى (¬2): "لا تكشف عن فخذيك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميت". وأخرجه أبو داود (¬3): من حديث الحجاج، عن ابن جريج، قال فيه: ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 225 رقم 3). (¬2) "سنن الدارقطني" (1/ 225 رقم 4). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 40 رقم 4015).

أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بلفظ: "لا تكشف فخذك ولا تنظر لعورة حيّ ولا ميت". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) نحو رواية أبي داود. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده". ثنا يزيد أبو خالد القرشي، ثنا ابن جريج، أبنا حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - عليه السلام -: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت". فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: هو صحيح، فقد حكم الطحاوي بصحته لوجود شرط الصحة فيه؛ لأن رجاله ثقات كما ذكرنا، وسنده متصل. فإن قيل: قال أبو داود: هذا الحديث فيه نكارة. وقال الذهبي في "مختصر السنن": لم يصح إسناده. وقال ابن حزم: حديث علي منقطع، رواه ابن جريج عن حبيب ولم يسمعه منه وبينهما من لم يُسم، ولا يدرى من هو، ورواه حبيب عن عاصم بن ضمرة ولم يسمعه منه، قال ابن معين: بينهما رجل ليس بثقة، ولم يروه عن ابن جريج إلا أبو خالد، ولا يدري من هو. قلت: كل هذا فيه نظر؛ لما ذكرنا، وقول ابن حزم غير صحيح؛ لأن الدارقطني قد صرح في روايته بسماع ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني حبيب بن أبي ثابت، وكذا في رواية أبي يعلى كما ذكرناها. وقوله: "ولم يروه عن ابن جريج إلا أبو خالد ولا يدري من هو" غير صحيح أيضًا؛ لأن يحيى بن سعيد رواه عن ابن جريج في رواية الطحاوي، وحجاج بن محمد رواه عنه في رواية أبي داود، وروح بن عبادة رواه عنه في رواية الدارقطني. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 228 رقم 3049).

وأبو خالد غير مجهول روى عنه أبو يعلى واسمه يزيد. وكذا قوله: ورواه حبيب عن عاصم بن ضمرة ولم يسمعه منه، غير صحيح؛ لأن الطحاوي حكم بصحة هذا الحديث، والانقطاع ينافي الصحة. فإن قلت: قال البيهقي أيضًا، لم يرو حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة شيئًا فأخرج ذلك عن سفيان. قلت: أخرج أبو داود في "سننه": حديثا من روايته عنه، وأخرج ابن ماجه في سننه في موضعين روايته عنه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "خرج النبي - عليه السلام - فرأى فخذ رجل، فقال: فخذ الرجل عورته". ش: إسناده صحيح حكم بصحته الطحاوي. فشيخه عليّ بن معبد بن نوح المصري، قال العجلي: ثقة. ووثقه ابن حبان أيضًا، وروى عنه النسائي. وإسحاق بن منصور السلولي شيخ ابن المديني روى له الجماعة، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي روى له الجماعة، وأبو يحيى القَتَّات الكوفي اسمه زاذان، وقيل: دينار وقيل: عبد الرحمن بن دينار: وقيل: مسلم، وقيل: يزيد وقيل: زبان، وثقه يحيى، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. فإن قيل: قال ابن حزم: حديث ابن عباس الذي في طريقه أبو يحيى القتات ضعيف لضعف يحيى. قلت: هذا يحيى بن معين وثقه وكفاه هذا في صحة حديثه. وأخرج الترمذي (¬1) نحوه مرفوعًا، وقال: حديث حسن. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 110 رقم 2795).

وكذا أخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: "الفخذ عورة" ثم قال عقيب هذا الحديث وأحاديث أخرى نحوه: هذه أسانيد صحيحة. ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير، عن محمد بن جحش: "أن رسول الله - عليه السلام - مرّ على معمر بفناء المسجد كاشفًا عن طرف فخذه، فقال له رسول الله - عليه السلام -: خمر فخذك يا معمر، إن الفخذ عورة". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن العلاء، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش، عن محمد بن جحش، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا سليمان بن بلال وعبد العزيز، قالا: ثنا ابن أبي حازم، عن العلاء، عن أبي كثير مولى محمد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - أمشى في السوق، فمرَّ بمعمر جالسًا على بابه مكشوفة فخذه، فقال: خَمِّر فخذيك، أما علمت أنها من العورة؟ ". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، أبي عبد الله البصري، شيخ أبي عوانة الإسفرائيني، وثقه يونس بن عبد الأعلى. عن عبد الله بن وهب المصري، روى له الجماعة، عن حفص بن ميسرة العقيلي أبي عمر الصنعاني نزيل عسقلان، روى له الجماعة سوى الترمذي، أبو داود في "المراسيل". عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب المدني، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح" عن أبي كثير مولى آل جحش، يقال: إن له صحبةٌ، عن محمد بن جحش ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 228 رقم 3048).

هو محمد بن عبد الله بن جحش بن رباب أبو عبد الله، هاجر إلى المدينة مع أبيه، له صحبة ورواية، قال الواقدي: كان مولده قبل الهجرة بخمس سنين. وأخرجه الطبراني (¬1): عن يحيى بن أيوب، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش، عنه قال: "كنت أصلي" (¬2) مع النبي - عليه السلام -، فمرّ على معمر وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر غط فخذيك؛ فإن الفخذ عورة". الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب القرشي الزهري المدني الفقيه، قاضي مدينة الرسول - عليه السلام -، شيخ الجماعة سوى النسائي. عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن المدني، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش، عن محمد بن جحش، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. وأخرجه ابن شاهين في "كتابه" نحوه. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن سليمان ابن بلال القرشي وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، كلاهما عن عبد العزيز بن أبي حازم ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا يحيى الحماني، ثنا سليمان بن بلال، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن عبد الله بن جحش، عن محمد بن جحش قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - في السوق، فمّر على معمر ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 245 رقم 550). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "المعجم الكبير". (¬3) "المعجم الكبير" (19/ 246 رقم 554).

على بابه مكشوفة فخذه، فقال النبي - عليه السلام -: غط فخذك يا معمر؛ فإنها من العورة" (¬1). ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، قال: ثنا يحيى الحماني، نا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - مثله. فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: هو صحيح عند الطحاوي. فإن قيل: قال ابن حزم: أبو كثير مجهول، فكيف يكون صحيحًا؟! فلهذا أخرجه البخاري في "تاريخه" ولم يخرجه في "صحيحه". قلت: كيف يكون أبو كثير مجهولًا وقد قيل: إن له صحبة؟ وعدم إخراج البخاري إياه في "صحيحه" لا ينفي صحته؛ إذ البخاري لم يلتزم أن يخرج كل حديث صحيح في جامعه، وقد أخرج هذا الحديث ابن خزيمة في "صحيحه" عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير، عن محمد بن عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -. قوله: "خَمِّر فخذك يا معمر" أي غَطِّ، وهو أمر من التخمير وهو التغطية، ومنه خمّروا الإناء أي غطوها، والخمار لإنه يغطى الوجه، والخمر لأنه يغطي العقل. ومعمر هذا ذكره ابن الإثير غير منسوب، وقال: أورده ابن شاهين، وروى عن محمد بن جحش، قال: "مرّ النبي - عليه السلام - ... ". الحديث. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن جَرْهد، عن أبيه، أن النبي - عليه السلام - قال: "فخذ الرجل من عورته -أو قال: من العورة-". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 247 رقم 555).

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حسن -هو ابن صالح بن حي- عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن جرهد الأسلمي، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه -وكان من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قال: "جلس رسول الله - عليه السلام - عندي وفخذي منكشفة، فقال خمر عليك؛ أما علمت أن الفخذ عورة". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن معمر، قال: ثنا أبو الزناد، عن عمه زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن جده جرهد قال: "مر بي رسول الله - عليه السلام - وعلي بردة قد كشفت عن فخذي، فقال: غَطِّ فخذيك، الفخد عورة". ش: هذه أربع طرق: الأول: عن علي بن معبد بن نوح، عن إسحاق بن منصور روى له الجماعة، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ الكوفي العابد، روى له الجماعة، البخاري ذكره في كتاب "الشهادات". عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب القرشي المدني، فيه مقال، فعن يحيى: ليس حديثه حجة. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال الترمذي: صدوق. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن عبد الله بن جرهد السلمي، وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي. عن جرهد بن خويلد، وقيل: ابن رزاح بن عدي بن سهم بن مازن بن الحارث ابن سلامان بن أسلم الأسلمي، وهو من أهل الصُّفَّة وشهد الحديبية.

وأخرجه الترمذي (¬1): من طريق ابن عقيل، عن عبد الله بن جرهد، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "الفخذ عورة". وقال: حسن غريب من هذا الوجه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حسن بن صالح ابن حيّ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير": عن عبد الله بن جرهد، وعن عبد الرحمن بن جرهد، وعن عبد الملك بن جرهد. فقال (¬2): ثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي، ثنا أبو حذيفة، ثنا زهير بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عقيِل، عن عبد الله بن جرهد الأسلمي، أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "فخذ المرء المسلم من عورته". حدثنا (¬3) محمد بن عبد الله الحضرمي وعلي بن إبراهيم العامري الكوفي، قالا: ثنا أحمد بن يونس، ثنا حسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "فخذ الرجل من العورة". حدثنا (¬4) محمد بن يحيى بن سهل العسكري، ثنا محمد بن ثعلبة بن سواء، حدثني عمّي، نا سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الملك بن جرهد، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - مر به وهو كاشف فخذه، فقال: غّطها فإنها من العورة". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي النضر سالم بن أبي أمية، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه وكان من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 111 رقم 2797). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 273 رقم 2149). (¬3) "المعجم الكبير" (2/ 273 رقم 2148). (¬4) "المعجم الكبير" (2/ 272 رقم 2147).

وهكذا وقع في هذا الطريق: عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه وكان من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، وفي رواية "الموطأ" عن مالك، عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه، عن جده، قال: وكان جدي من أهل الصُّفَّة قال: "جلس رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي متنًا. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" (¬1): جرهد بن خويلد الأسلمي له صحبة، روى عنه ابنه مسلم وابنه عبد الرحمن من رواية عبد الله بن نافع، عن مالك، عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، وروى ابن عيينة عن أبي النضر فقال: عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام -. سمعت ابن الجنيد المالكي يقول: الصحيح من حديث مالك هذا، وروى ابن وهب ومعن وإسحاق بن الطباع ومحمد بن حرب المكي وابن أبي أويس فقالوا: زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -، وروى قبيصة، عن الثوري، عن أبي النضر، عن زرعة بن عبد الرحمن عن جدّه جرهد، عن النبي - عليه السلام - انتهى. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2): من حديث أبي عاصم، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن زرعة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده. وخرّجه الترمذي (¬3): عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن جده. ثم قال: حسن، وما أرى إسناده بمتصل. وقال الدارقطني: روى هذا الحديث من أصحاب "الموطأ" ابن بكير وابن وهب ومعن، وعبد الله بن يوسف، وهو عند القعنبي خارج "الموطأ" في سماعه الزيادات من مالك، ولم يذكره ابن القاسم في "الموطأ" ولا ابن عفير ولا أبو مصعب. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (2/ 539 رقم 2239). (¬2) "صحيح ابن حبان" (4/ 609 رقم 1710). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 110 رقم 2795).

ورواه عن مالك ابن مهدي وإبراهيم بن طهمان، وعمرو بن مرزوق، وأبو قرة وإسحاق بن عدي ومطرف وإسماعيل بن أبي أويس. الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن مسعر بن كدام، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن جدّه جرهد ... إلى أخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو يزيد القراطيسي ويحيى بن أيوب العلاف، قالا: ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن أبي الزناد، حدثني أبي، حدثني زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد الأسلمي، عن جدّه جرهد: "أن رسول الله - عليه السلام - مرّ عليه وفخذه مكشوفة، فقال له رسول الله - عليه السلام -: غَطِّ فخذك يا جرهد فإن الفخذ عورة". فإن قيل: بماذا تحكم في هذا الحديث؟ قلت: هذا الطحاوي حكم بصحته، ويؤيده أن البيهقي أخرجه (¬2) من حديث محمد بن سواء، نا ابن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - مرّ عليه وهو كاشف عن فخذه، فقال: غطها فإنها من العورة". وقال الذهبي: إسناده صالح. وقال البيهقي: إسناده صحيح. فإن قيل: قال ابن حزم: وأما حديث جرهد فإنه عن ابن جرهد وهو مجهول، وعن مجهولين ومنقطع. وقال ابن القطان: معلول بالاضطراب وبجهالة حال الراوي، وقال: ابن الحذاء (¬3): لم يخرّجه البخاري في صحيحة لإجل الاختلاف في إسناده. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 271 رقم 2140). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 228 رقم 3046). (¬3) هو العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أحمد التميمي القرطبي المالكي، ابن الحذاء. له كتاب في رجال موطأ مالك، سماه: "التعريف بمن ذكر في موطأ مالك من الرجال والنساء".

قلت: هذا الترمذي أخرجه (¬1): عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن جده جرهد، ثم قال: حسن. ورواه أيضًا (¬2): من طريق أبي الزناد، أخبرني ابن جرهد، عن أبيه. ثم قال: حسن. وأخرجه (1) من طريق ابن عقيل، عن عبد الله بن جرهد. ثم قال: حسن غريب من هذا الوجه. ورواه الشافعي أيضًا، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن آل جرهد، عن جرهد. وسكت عنه. وكذلك أخرجه أبو داود (1): وسكت عنه. فكل هذه إمارات الصحة، فإن لم يكن صحيحًا فلا يخرج عن حد الحسن، وقول ابن حزم: ابن جرهد مجهول غير صحيح؛ لأن ابنه الذي روى هذا الحديث عبد الله كما في رواية الطحاوي أو عبد الرحمن كما في رواية البيهقي وإحدى روايات الطبراني. وقوله: منقطع أيضًا غير صحيح؛ لأن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد يروي عن جده كما يروي عن أبيه، ووقع في رواية أبي حنيفة: عن أبي النضر، عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن أبيه، عن جده. وكذا وقع في إحدى روايات الترمذي وقال في "التكميل": زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد الأسلمي المدني، ويقال زرعة بن مسلم بن جرهد، ولا يصح. ص: فهذه الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - تخبر أن الفخذ عورة، ولم يضادها أثر صحيح، فقد ثبت بها أن الفخذ عورة تبطل الصلاة بكشفها كما تبطل بكشف ما سواها من العورات، فهذا وجه هذا الباب من طريق معاني الآثار. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 111 رقم 2798).

ش: أشار بـ"هذه" إلى الأحاديث التي أخرجها عن علي بن أبي طالب وعبد الله ابن عباس ومحمد بن عبد الله بن جحش وجرهد السلمي - رضي الله عنهم -؛ والباقي ظاهر. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الرجل ينظر من المرأة التي لا محرم بينه وبينها إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلى ما فوق ذلك من رأسها ولا إلى أسفل من بطنها وظهرها وفخذيها وساقيها. ورأيناه في ذات المحرم منه لا بأس أن ينظر منها إلى صدرها وشعرها ووجهها ورأسها وساقيها، ولا ينظر إلى ما بين ذلك من بدنها، وكذلك رأيناه ينظر من الأمة التي لا ملك له عليها ولا محرم بينه وبينها، فكان ممنوعًا من النظر من ذوات المحرم منه ومن الأمة التي ليست بمحرم له ولا ملك له عليها إلى فخذها كما كان ممنوعًا من النظر إلى فرجها، فصار حكم الفخذ من النساء كحكم الفرج لا حكم الساق، فالنظر على ذلك أن يكون من الرجال أيضًا، كذلك وأن يكون حكم فخذ الرجل في النظر إليه كحكم فرجه في النظر إليه لا كحكم ساقه، فلما كان النظر إلى فرجه محرمًا كان كذلك النظر إلى فخذه محرمًا، وكذلك كل ما كان حرامًا على الرجل أن ينظر إليه من ذوات المحرم منه فحرام على الرجال أن ينظر إليه بعضهم من بعض، وكل ما كان حلالًا أن ينظر ذو المحرم من المرأة ذات المحرم معه فلا بأس أن ينظر إليه الرجال بعضهم من بعض، فهذا هو أصل النظر في هذا الباب، وقد وافق ذلك ما جاءت به الروايات التي رويناها عن رسول الله - عليه السلام -، فبذلك نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، فقد أثبته بمقدمات "صحيحه" وهي أن النظر إلى الأجنبية إلى غير وجهها وكفيها حرام، وكذا إلى ذات المحرم منه إلى غير وجهها وكفيها وصدرها وشعرها ورأسها وساقيها حرام، وكذا إلى الأمة الغير المملوكة ولا ذات المحرم منه.

ففي الجميع كان النظر إلى الفخذ حرامًا، فكان الفخذ فيهن كالفرج، فالقياس على ذلك أن يكون حكم فخذ الرجل أيضًا حكم الفرج، فكما كان النظر إلى فرجه حرامًا كان النظر إلى فخذه أيضًا حرامًا، فنقول كل ما كان حرامًا على الرجل أن ينظر إليه من ذات المحرم منه، كان حرامًا عليه أن ينظر إليه من الرجل، وكل ما كان حلالًا أن ينظر إليه منها كان حلالًا أن ينظر إليه من الرجل، فهذا أصل القياس الذي ينتج منه تحريم النظر إلى الفخذ، فافهم. والله أعلم.

ص: باب: الأفضل في الصلوات التطوع هل هو طول القيام أو كثرة الركوع والسجود

ص: باب: الأفضل في الصلوات التطوع هل هو طول القيام أو كثرة الركوع والسجود ش: أي هذا باب في بيان أن: هل الأفضل في النوافل طول القيام أو كثرة الركوع والسجود؟ ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا أبو الأحوص وحُديج، عن أبي إسحاق، عن المخارق قال: "خرجنا حجاجًا فمررنا بالربذة فوجدنا أبا ذر قائمًا يصلي، فرأيته لا يطيل القيام ويكثر الركوع السجود، فقلت له في ذلك، فقال: ما ألوت أن أحسن، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة". ش: يحيى بن عبد الحميد صاحب "المسند" ضعفه بعضهم ووثقه الأكثرون، وأبو الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة، وحُدَيج -بضم الحاء المهملة- ابن معاوية بن حديج، ضعفه النسائي وغيره، وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرًا. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السُبيعّي روى له الجماعة، والمُخارق -بضم الميم- غير منسوب، قال الذهبي: مجهول. وفي "التكميل": وثقه ابن حبان. وأبو ذر اسمه جندب بن جنادة الغفاري - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن آدم نا زهير، عن أبي إسحاق، عن المخارق قال: "خرّجنا حُجَّاجًا، فلما بلغنا الربذة قلت لأصحابي: تقدّموا وتخلّفت فلقيت أبا ذر وهو يصلي، فرأيته [لا] (¬2) يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فذكرت له ذلك، فقال: ما ألوت أن أحسن إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من ركع ركعة أو سجد سجدة رُفع بها درجة وحطت بها عنه خطيئةٌ". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 147 رقم 21346). (¬2) ليست في "مسند أحمد".

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المخارق، قال: "مررت بأبي ذر بالربذة، فدخلت منزله فوجدته يصلي، يخفف القيام قدر ما يقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّه} ويكثر الركوع والسجود، فلما قضى صلاته قلت له: يا أبا ذر، رأيتك تخفف القيام وتكثر الركوع والسجود؟ فقال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ما من عبد يسجد لله سجدةً أو يركع لله ركعة إلا حطّ الله عنه بها خطيئة ورفعه بها درجة". قوله: "حُجاجًا" بضم الحاء جمع حاج، وإنتصابه على الحال. قوله: "بالربذة" بفتح الراء والباء الموحده والذال المعجمة، وهي قرية من قرى المدينة، وبها قبر أبي ذر - رضي الله عنه -. قوله: "ما ألوت" أي ما قصرت، قال الجوهري: ألا، يألو: أي قصرّ، وفلان لا يألوك نصحًا فهو آلِ والمرأة آلية، وجمعها أوال. قوله: "بها" الباء فيها باء المقابلة والعوض، فافهم. ص: فذهب قوم إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل في الصلوات التطوع من القيام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، والشافعي في قول، وأحمد في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل في النوافل من طول القيام، واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث المذكور، ويحكى ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: طول القيام أفضل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: جمهور أهل العلم من التابعين ومن بعدهم منهم: مسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في رواية. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 10 رقم 4472).

وقال الترمذي: قال أحمد بن حنبل: قد روي عن النبي - عليه السلام - في هذا حديثان ولم يقض فيه بشيء. وقال إسحاق: أما بالنهار فكثرة الركوع والسجود، وأما بالليل فطول القيام، إلا أن يكون رجل له جزء من الليل يأتي عليه فكثرة الركوع والسجود في هذا أحب إلى فإنه يأتي على جزءه وقد ربح كثرة الركوع والسجود. ص: وكان من الحجة لهم: ما قد رويناه فيما تقدم من كتابنا هذا عن رسول الله - عليه السلام -: "أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت" وفي بعض ما روينا في ذلك: "طول القيام". ففضل رسول الله - عليه السلام - بذلك إطالة القيام على كثرة الركوع والسجود. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للأخرين فيما ذهبوا إليه: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "أتى رجل النبي - عليه السلام - فقال: أيّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. أخرجه الطحاوي في باب "القراءة في ركعتي الفجر" عن علي بن معبد، عن شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران، وعن أبي بشر الرقي، عن الفريابي، عن مالك بن مغول، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، به. وأخرجه مسلم (¬1)، والترمذي (¬2)، وأحمد (¬3)، وقد ذكرناه هناك. وأشار بقوله: "وفي بعض ما روينا" إلى ما رواه عن علي بن معبد، عن الحجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن حبشي الخثعمي: "أن النبي - عليه السلام - سئل أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام". وأخرجه أبو داود (¬4) ولفظه: "أيّ الأعمال أفضل". وقد ذكرناه هناك مستقصى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 520 رقم 756). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 229 رقم 387). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 314 رقم 14408). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 36 رقم 1325).

ص: وليس في حديث أبي ذر الذي ذكرنا خلاف لهذا عندنا؛ لأنه قد يجوز أن يكون قول رسول الله - عليه السلام - "من ركع ركعة وسجد سجدة" على ما قد أطيُل قبله من القيام ويجوز أيضًا من ركع لله ركعة وسجد سجدة، رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، وإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيه الله من الثواب أكثر، فهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث كيلا يضاد الأحاديث الآخر التي ذكرنا. ش: هذا إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين حديث أبي ذر وبين الأحاديث التي ذكرها في باب "القراءة في ركعتي الفجر" التي تدل على أن طول القيام أفضل، وبيّن ذلك من وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون ما ذكره - عليه السلام - بقوله: "من ركع ركعة وسجد سجدةً" على إطالة القيام قبل الركوع الكثير والسجود الكثير، أراد أنه يطيل القيام مع كثرة الركوع والسجود، فيكون حائزًا للفضلتين. والآخر: أنه يكثر الركوع والسجود ليحوز ذلك الثواب العظيم، ومع هذا لو زاد عليه إطالة القيام كان له زيادة أجر آخر، فيكون ما يعطيه الله تعالى من الثواب أكثر، وبهذا التوفيق يحصل الاتفاق بين هذه الأحاديث. وقد قيل: حديث أبي ذر لا يساوي حديث جابر بن عبد الله ولا يقاومه في صحة الإسناد، فالعمل بحديث جابر أولى. قلت: هذا باب الترغيب، فالكل في القبول سواء، ولا يزول الاختلاف إلا بالتوفيق، وهو الذي ذكره، والله أعلم. ص: وممن قال بهذا القول الآخر في إطالة القيام وأنه أفضل من كثرة الركوع والسجود: محمد بن الحسن: حدثني بذلك ابن أبي عمران، عن محمد بن سماعة، عن محمد بن الحسن. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.

ش: ذكر الطحاوي مثله في باب: "القراءة في ركعتي الفجر" وقال: سمعت ابن أبي عمران، وهو أحمد بن موسى الفقيه البغدادي يقول: سمعت ابن سماعة يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول: بذلك نأخذ، هو أفضل عندنا من كثرة الركوع والسجود مع قلة طول القيام. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير "أن عبد الله بن عمر رأى فتًا وهو يصلي قد أطال صلاته، فلما انصرف منها قال: من يعرف هذا؟ قال رجل: أنا، فقال عبد الله: لو كنتُ أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا قام العبد يصلي، أتي بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه". ش: إسناده صحيح، وعبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، ومعاوية بن صالح بن حدير الحضرمي الحمصي قاضي الإندلس روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". والعلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي أبو محمد الدمشقي، روى له الجماعة سوى البخاري. وزيد بن أرطاة بن حدافه بن لوذان الفزاري أخو عدي الدمشقي، وثقه العجلي، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وجبير بن نُفير بن مالك بن عامر الحضرمي أبو عبد الله الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث معاوية بن صالح، عن العلاء بن حارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير: "أن ابن عمر رأى فتًا يصلي قد أطال صلاته وأطنب فيها، فقال: من يعرف هذا ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 10 رقم 4473).

وقال الذهبي في "مختصر السنن": إسناده قوي. وهذا الحديث يدل على أن تطويل الركوع والسجود أفضل من تطويل القيام. فإن قيل: فهذا لا يصلح حجة لما قاله أهل المقالة الثانية فلم ذكره ها هنا؟! قلت: ذكره ليجيب عن سؤال يَرد عليهم به، كما يقوله الآن. ص: فإن قال قائل: فهذا تفضيل الركوع والسجود على القيام. قيل له: ما فيه ما ذكرت، وإنما فيه ما يعطى المصلى على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك، على أن ما فيه عن ابن عمر والذي روى عن النبي - عليه السلام - من تفضيل طول القيام أولى منه، والله أعلم. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد قلتم: إن طول القيام أفضل، ورجحتم ذلك بالأحاديث الصحيحة، فهذا حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يدل على أن تطويل الركوع والسجود أفضل. وتقرير الجواب من وجهين: الأول: أن يقال: لا نسلم لزوم تفضيل تطويل الركوع والسجود على طول القيام؛ لأن المفهوم منه أن المصلى يثاب على ركوعه وسجوده بحط الذنوب عنه ولا ينافي ذلك أن يعطى بطول القيام أكثر من ذلك وأفضل منه. والثاني: أن تفضيل تطويل الركوع والسجود في هذا الحديث من كلام ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: "لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود". وتفضيل طول القيام من كلام النبي - عليه السلام - حيث قال: "طول القيام" لما سُئِل أي الصلاة أفضل؟ فالأخذ بقول النبي - عليه السلام - أولى وأحق.

ص: كتاب الجنائز

ص: كتاب الجنائز ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الجنائز. فإن قيل: لم قال: كتاب الجنائز، ولم يقل: باب الجنائز مضمومًا إلى أبواب الصلاة. قلت: لخروجها عن كثير من أحكام الصلوات، حيث لا ركوع فيها ولا سجود، ولا قراءة عند كثير من العلماء، وأيضًا هي مشتملة على أبواب شتى، فذكرها بلفظ الكتاب لتجمع تلك الأبواب، وقد عرف أن الكتاب من الكَتْب، وهو الجمع، والباب: النوع، والكتاب يجمع الأنواع. والمناسبة بين الكتابين ظاهرة؛ لأن الإنسان له حالتان: حالة الحياة، وحالة الموت، وكل واحدة منهما تتعلق بها أحكام العبادات وأحكام المعاملات، فمن العبادات: الصلاة المتعلقة بالإحياء. ولما فرغ من بيان ذلك، شرع في بيان الصلاة المتعلقة بالموتى. والجنائز: جمع جنازة، وهي بفتح الجيم، اسم للميت المحمول، وبكسرها اسم للنعش الذي يحمل عليه الميت، ويقال عكس ذلك حكاه صاحب "المطالع"، ويقال: الجنازة بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح، واشتقاقها من جَنَزَ إذا سَتَر، ذكره ابن فارس وغيره، ومضارعه: يَجْنِز بكسر النون.

ص: باب: المشي في الجنازة كيف هو

ص: باب: المشي في الجنازة كيف هو ش: أي هذا باب في بيان المشي مع الجنازة كيف هو؟ السرعة بها أفضل أو التأني؟. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا محمد بن جعفر المدائني، قال: ثنا شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: "كنا في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، أو عثمان بن أبي العاص، فكانوا يمشون بها مشيا لينًا، فكان أبا بكرة انتهرهم ورفع عليهم صوته، وقال: لقد رأيتنا نرمل بها مع النبي - عليه السلام -". ش: إسناده صحيح، ومحمد بن جعفر روى له مسلم والترمذي، وعيينة -بضم العين المهملة، وفتح الياء أخر الحروف الأولى، وسكون الثانية، وفتح النون- بن عبد الرحمن جوشن الغطفاني الجوشني البصري، وثقه ابن معين، وقال أحمد: ليس به بأس، صالح الحديث. روى له الترمذي وأبو داود وابن ماجه. وأبوه عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني صهر أبي بكرة على ابنته، وثقه أبو زرعة، وروى له الأربعة. وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: "أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيًا خفيفًا، فلحقنا أبو بكرة، فرفع سَوْطه، فقال: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله - عليه السلام - نرمل رملًا". وأخرج من طريق آخر (¬2) وفيه: "في جنازة عبد الرحمن بن سمرة". وقال النووي: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3182). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3183).

وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1): في الفضائل وسكت عنه. قوله: "انتهرهم" أي: زجرهم. قوله: "ورفع عليهم صوته" هكذا هو في نسخ الطحاوي، وفي رواية أبي داود "سوطه". وفي رواية له (¬2): "فحمل عليهم بغلته وأهوى بالسوط". وفي رواية الطيالسي: "وشد عليهم بالسوط". قال (¬3): ثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: "كنت في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، فجعل زياد ورجال من مواليه يمشون على أعقابهم أمام السرير يقولون: رويدًا رويدًا، بارك الله فيكم، فلحقهم أبو بكرة فحمل عليهم البغلة، وشد عليهم بالسوط، وقال: خلوا، والذي كرم وجه أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيتنا على عهده لنكاد أن نرمل بها رملًا". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من طريقه. قوله: "لقد رأيتُنا" بضم التاء أي رأيت أنفسنا. قوله: "نرمل بها" أي نسرع بها، من رَمَلَ يَرْمُلُ، من باب نَصَرَ يَنْصُرَ رَمَلًا وَرَمَلانًا: إذا أسرع في المشي وهز منكبيه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، أنه قال: "كنت جالسًا مع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالبقيع، فطلع علينا بجنازة، فأقبل علينا ابن جعفر يتعجب من مشيهم بها، فقال: عجبًا لما تغير من حال الناس، والله إن كان إلا الجمز، وإن كان الرجل ليلاحي الرجل، فيقول: يا عبد الله اتق الله، فوالله لكأنك قد جُمزَ بك". ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (3/ 504 رقم 5884). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3183). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 120 رقم 883). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 22 رقم 6638).

ش: إسناده صحيح، وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبوه عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد -بالنون- روى له الجماعة. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1): بسند صحيح: عن عبد الله بن جعفر الطيار: "أنه رأى جنازة، فتعجب من إبطاء مشيهم، فقال: عجبًا لما تغير من حال الناس ... ". إلى آخره نحوه، وفي آخره: "متعجبًا لإبطاء مشيهم". وأخرج الحاكم هذا شاهد الحديث أبي بكرة المقدم ذكره. قوله: "فَطُلِعَ علينا" على صيغة المجهول. قوله: "يتعجب من مشيهم" جملة حالية أي من مشي الناس بتلك الجنازة. قوله: "عجبًا" نصب على أنه مفعول مطلق تقديره: عجيب عجبًا. قوله: "والله إن كان إلا الجمز" كلمة إن للنفي، أي والله ما كان المشي بالجنازة إلا الجمز، أي الإسراع بالمشي. قال الجوهري: الجمز ضرب من السير أشد من العنق، وقد جَمَزَ البعير يَجْمِزُ جَمْزًا، ومادته جيم وميم وزاي معجمة. قوله: "وإن كان الرجل" "إن" هذه مخففة من المثقلة، وأصله وإنه كان، أي وإن الشأن كان الرجل لَيْلاحي -بفتح اللام- لأنها "لام" التأكيد من لَاحَى يُلَاحِي مُلَاحَاةً إذا نازع منازعة، ومنه حديث ليلة القدر: "تلاحى رجلان" (¬2). قوله: "فوالله لكأنك" وفي رواية الحاكم: "لكأنه". قوله: "قد جُمِز بك" على صيغة المجهول. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثنا أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 507 رقم 1312). (¬2) أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (1/ 27 رقم 49).

رسول الله - عليه السلام - يقول: "أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحه قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك كان شرًّا تضعونه عن رقابكم". حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني زمعة بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران، أن أبا هريرة حين حضرته الوفاة قال: أسرعوا بي، فإن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا وضع الرجل الصالح على سريره قال: قدموني قدموني، وإذا وضع الرجل السوء على سريره قال: يا ويلتي أين تذهبون بي؟ ". ش: هذه أربع طرق. الأول: رجاله رجال الصحيح، ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو يونس بن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وأبو أمامة قيل: اسمه أسعد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته والأول هو المشهور، وهو من كبار التابعين، روى له الجماعة. والحديث أخرجه الجماعة (¬1)، والنسائي (¬2) أخرجه بهذا الطريق: أنا سويد بن نصر، أبنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: حدثني أبو أمامة بن سهل، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - .... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فإن كانت صالحة" أي فإن كانت الجنازة صالحة، وهذا من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال، وذلك لأن الجنازة لا توصف بالصلاح ولا بغيره، وإنما يوصف به الميت. أو يكون هذا على الحقيقة إذا كان المراد من الجنازة هو الميت؛ لأنا ¬

_ (¬1) سيأتي. (¬2) "المجتبى" (4/ 40 رقم 1908).

قد ذكرنا أن الجنازة بالفتح اسم للميت، فحينئذ يكون التأنيث في الفعل باعتبار لفظ الجنازة. قوله: "قربتموها" من التقريب. قوله: "كان شرًّا" يجوز أن يكون الضمير في "كان" راجعًا إلى الجنازة، وكذلك الضمير المنصوب في "تضعونه" فيكون التذكير باعتبار معنى الجنازة؛ لأن معناه الميت كما قلنا، ويجوز أن يعود إلى قوله: "غير ذلك"، والمعنى يكون ذلك الغير شرًّا تضعونه عن رقابكم، وغير الصلاح: الفساد. والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن زمعة بن صالح الجندي اليماني، فعن أحمد، ويحيى: ضعيف. وعن يحيى: صويلح الحديث. وقال الجوزجاني: متماسك. وقال النسائي: ليس بالقوي، كثير الغلط. عن الزهري، روى له مسلم مقرونًا بمحمد بن أبي حفصة والأربعة، أبو داود في "المراسيل". عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار ومحمد بن معمر، قالا: ثنا أبو عامر، نا زمعة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة يقول: النبي - عليه السلام - قال: "أسرعوا بجنائزكم، فإن كان خيرًا فخيرًا تقدموا، وإن كان شرًّا تلقونه عن رقابكم" وهذا الحديث لا نعلم رواه عن سعيد وأبي سلمة إلا زمعة عن الزهري. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، حفظناه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 442 رقم 1252).

ومسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، جميعًا عن ابن عيينة -قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة- عن الزهري ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "غير ذلك". وابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحوه. وأبو داود (¬3): عن مُسدّد، عن سفيان ... إلى آخره. والترمذي (¬4): عن أحمد بن منُيع، عن سفيان ... إلى آخره. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه النسائى (¬5): أنا سويد، قال: أنا عبد الله، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره مقتصرًا على قوله: "إذا وضع الرجل الصالح ... " إلى آخره. والبيهقي (¬6) أيضًا: من حديث ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن مهران: "أن أبا هريرة أوصى عند موته: أن لا تضربوا على قبري فسطاطًا، ولا تتبعوني بمجمر، وأسرعوا بي، أسرعوا بي، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا وضع الميت على سريره يقول: قدموني قدموني، وإذا وضع الكافر على سريره قال: يا ويلتاه أين تذهبون بي". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 65 رقم 944). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 474 رقم 1477). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3181). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 335 رقم 1015). (¬5) "السنن الكبرى" (1/ 624 رقم 2035). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 21 رقم 6636).

وأخرج البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، ثنا سعيد، عن أبيه، أنه سمع أبا سعيد الخدري قال: "كان النبي - عليه السلام - يقول: إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع لَصَعِقَ". قوله: "وإذا وضع الرجل السَّوء" أي السيء، وهو بفتح السين وسكون الواو، وقال الجوهري: سَاَعَه يَسُوءَه سوءًا -بالفتح- نقيض سَرَّه والاسم السُّوء -بالضم- وتقول: رجل سَوْء بالإضافة، ثم تدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجل السوء قال الأخفش: ولا يقال: الرجل السوء؛ لأن السوء ليس بالرجل، ولا يقال أيضًا: هذا رجل السُوء بالضم. قلت: الحديث يُرّدُ عليه ومعنى قوله: الرجل السوء: القصد إلى المبالغة في توصيفه بالقبح والسوء، كما يقال: الرجل العدل إذا كان كثير العدل، أو يأوّل على معنى الرجل ذو السوء كما يقال في رجل عدل: ذو عدل. قوله: "يا ويلتي" كلمة تقال عند الدعاء على الإنسان، تقول: ويلك، وويل زيد. والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعى بالويل. والمعنى ها هنا يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي، أين تذهبون بي، وليس لي موضع فيه راحة؟ وقد تُبْدل الياء ألفًا فيقال: يا ويليتا وقد تدخل فيه الهاء فيقال: يا ويلتاه. ص: فذهب قوم إلى أن السرعة بالسير بالجنازة أفضل من غير ذلك، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن سيرين والحسن البصري وقتادة وعمر بن عبد العزيز وعلقمة وأبا وائل، فإنهم قالوا: الإسراع بالجنازة في مشيها أفضل، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 442 رقم 1251).

واستدلوا على ذلك بهذه الأحاديث المذكورة، ويروي ذلك عن القاسم وسالم، وإليه ذهب أهل الظاهر وقال ابن حزم في "المحلى": ويجب الإسراع بالجنازة. وقال ابن قدامة: اختلفوا في الإسراع المستحب فقال القاضي: المستحب إسراع لا يخرج عن المشي المعتاد، وهو قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي يخب ويرمل. قلت: هذا ليس بصحيح عن أصحابنا، فإنهم كرهوا الخبب. وقال ابن المتن: الإسراع هو مشي الناس على سجيتهم، ويكره الإسراع المفرط. وفي "شرح المهذب": جاء عن بعض السلف كراهة الإسراع بالجنازة ولعله يكون محمولًا على الإسراع المفرط الذي يخاف منه انفجار الميت أو خروج شيء منه، كما قالوا هكذا في حديث عطاء عن ابن عباس قال: "حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرِف، فقال ابن عباس: هذه ميمونة، إذا رفعتم نعشها فلا تزعوعوا ولا تزلزلوا". رواه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأراد به شدة الإسراع الذي يخاف منها الانفجار. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يمشي بها مشيًا لينًا، فهو أفضل من غير ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جمهور العلماء، منهم: الثوري ومالك والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: يمشون بالجنازة مشيًا قصدًا لا يتجاوزون به عن الاعتدال، وقال عياض في قوله - عليه السلام -: "أسرعوا بالجنازة" أكثر العلماء على أن معناه الإسراع بحملها إلى قبرها، وقيل: الإسراع بتجهيزها إذا تحقق موتها، والأول أظهر ومعنى هذا الإسراع عند بعضهم: ترك التراخي في المشي به والتباطؤ والزهو في المشي، ويكره الإسراع الذي يشّق على من يتبعها ويحرك الميت، وربما سبّب خروج شيء منه، وعلى هذا حملوا نهي من نهى عن الدبيب بها دبيب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1990 رقم 4780). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1086 رقم 1465).

اليهود من السلف وأمر بالإسراع، وجمعوا بينه وبين من روي عنه النهي عن الإسراع، واستدلوا بما جاء في الحديث مفسرًا عنه وهو ما دون الخبب، وفي حديث آخر: "عليكم بالقصد في جنائزكم" وهذا قول جمهور العلماء وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وابن حبيب من أصحابنا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن ليث بن أبي سليم، قال: سمعت أبا بردة يحدث، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - مُرَّ عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال: "ليكن عليكم السكينة". فلم يكن عندنا في هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى؛ لأنه قد يجوز أن يكون في مشيهم ذلك عنف يجاوز ما أمروا به في الأحاديث الأول من السرعة، فنظرنا في ذلك هل نجد في ذلك دليلًا يدلنا على شيء من ذلك؟ فإذا عبد الله بن محمد بن خشيش البصري قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا زائدة، عن ليث، عن أبي بردة، عن أبيه قال: "مر على رسول الله بجنازة يسرعون بها المشي وهي تمخض كمخض الزق، فقال: عليكم بالقصد بجنائزكم". معنى هذا الحديث أن الميت كان يمخض لتلك السرعة كمخض الزق، فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد؛ لأن تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يكون من الميت شيء، فنهاهم عن ذلك، فكان ما أمرهم به من السرعة في الآثار الأُوَل هي أفضل من هذه السرعة. فنظرنا في ذلك أيضًا هل روي فيه شيء يدلنا على شيء من هذا المعنى؟ فإذا أبو أمية قد حدثنا، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "سألنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن السير بالجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا عجل بالخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار". فأخبر رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، فذلك عندنا دون ما كانوا يفعلون في حديث أبي موسى حتى أمرهم رسول الله - عليه السلام - بما

أمرهم به من ذلك، ومثل ما أمر به من السرعة في حديث أبي هريرة؛ فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي أحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بما حدثنا مبشر ... إلى آخره، وهو حديث أبي موسى الأشعري ولكن لا حجة فيه على أهل المقالة الأولى، لأنه يحتمل أن يكون قد كان في مشيهم ذلك عنف أي شدة إسراع وإزعاج للميت قد تجاوز ما كانوا أمروا به في الأحاديث الأُوَل من السرعة، وهي الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى المذكورة في أول الباب، فإذا كان كذلك يحتاج إلى النظر فيه، هل يوجد ما يدل على شيء من ذلك؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديثًا آخر عن أبي موسى الإشعري أيضًا يخبر أن الميت كان يمخض من مشيهم وعنفهم فيه كما يمخض الزق، فلذلك قال لهم: - عليه السلام - "عليكم بالقصد بجنائزكم" ولكن هذا أيضًا يحتمل أن يكون أمره إياهم بالقصد لكون تلك السرعة سرعة يخاف منها أن يخرج من الميت شيء، فلذلك أمرهم بالقصد في المشي ونهاهم عن تلك السرعة، فيكون حينئذ ما أمرهم به من السرعة المذكورة في الأحاديث الأُوَل أفضل من هذه السرعة، ولكن يحتاج هذا إلى دليل يدل عليه، فوجدنا حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخبر أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب -وهو ما دون العدو- فهذا دون ما فعلوا من الإسراع المذكور في حديث أبي موسى، ومثل ما أمر به من السرعة المذكورة في حديث أبي هريرة. قال الطحاوي: وبهذا نأخذ أي وبما دل عليه حديث ابن مسعود من السير دون الخبب نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وعن هذا قال أصحابنا في كتبهم: ويسرعون به -أي بالميت- دون الخبب. فالحاصل أنه أشار ها هنا إلى ثلاثة مذاهب: الأول الإسراع من غير قيد، والثاني المشي اللين، والثالث الإسراع دون الخبب، وصرح بالمذهبين الأولين بقوله: فذهب قوم إلى أن السرعة بالسير بالجنازة أفضل من غير ذلك، وقوله وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا بل يمشي بها مشيًا لينًا فهو أفضل من غير ذلك، وبين المذهب

الثالث الذي هو مذهب أصحابنا في وجه التوفيق بين الأحاديث في هذا الباب بقوله: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ثم إنه أخرج حديث في موسى - رضي الله عنه - من وجهين بإسنادين رواتهما ثقات. الأول: عن مبشر بن الحسن بن مبشر بن مكسر القيسي البصري نزيل مصر وثقه ابن يونس، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو روى له الجماعة، عن شعبة، عن ليث بن أبي سليم بن زنيم الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري روى له الجماعة عن أبيه أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن عبيد بن عقيل، نا بشر بن ثابت، ثنا شعبة، عن ليث، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - عليه السلام -: "أنه رأى جنازة يسرعون بها، قال: لتكن عليكم السكينة". وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا. الثاني: عن عبد الله بن محمد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي روى له الجماعة، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي بردة عامر، عن أبيه ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث زائدة، عن ليث ... إلى آخره نحوه. قوله: "وهي تمخض" على صيغة المجهول، جملة حالية من المخض وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن ليخرج زبده، وأراد وهي تحرك تحريكًا سريعًا كتحريك الزق وهو قربة اللبن. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 474 رقم 1479). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 22 رقم 6642). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 22 رقم 6642).

قوله: "فعليكم بالقصد" أي بالاعتدال لا بالإسراع المفرط ولا بالمشي البطيء، والقصد من الأمور: الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط، ومنه الحديث: "كانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا" (¬1) وجاء في صفته - عليه السلام -: "كان أبيض مقصدًا" (¬2) وهو الذي ليس بطويل متباين ولا قصير متفاحش. وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ الثوري الكوفي العابد روى له الجماعة البخاري ذكره في كتاب الشهادات، عن يحيى بن عبد الله الجابر ويقال: المجبر أبي الحارث الكوفي وثقه الترمذي، عن أبي ماجدة ويقال: أبو ماجد واسمه عائذ بن نضلة العجلي الكوفي قال الترمذي: مجهول له حديثان. وقال النسائي: منكر الحديث. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬3) بأتم منه: ثنا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة، عن يحيى المجبر، قال: أبو داود هو يحيى بن عبد الله التميمي، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "سألنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المشي مع الجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن يك خيرًا يعجل إليه، وإن يك غير ذلك فبعدًا لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من يقدمها". وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن يحيى إمام بني تيم الله، عن أبي ماجدة، عن عبد الله بن مسعود قال: "سألنا رسول الله - عليه السلام - عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب، فإن كان خيرًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/ 591 رقم 866). (¬2) أخرجه مسلم أيضًا في "صحيحه" (4/ 1820 رقم 2340). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 206 رقم 3184). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 332 رقم 1011).

عجلتموه، وإن كان شرًّا فلا يبعد إلا أهل النار، والجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس منها من تقدمها". وأخرجه ابن ماجه (¬1): مقتصرًا على قوله: "الجنازة متبوعة ... " إلى آخره. وقال البيهقي: هذا حديث ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث -يعني حديث أبي ماجد- قال الحميدي: قال ابن عيينة قيل ليحيى: من أبو ماجد؟ قال: طائر طار فحدثنا. قال أبو عيسى: إن أبا ماجدة رجل مجهول لا يعرف، إنما يروى عنه حديثان عن ابن مسعود. وقال أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم، وقال الدارقطني: مجهول متروك. قلت: أما يحيى الجابر فإن الترمذي قال: يحيى إمام بني تيم الله ثقة يكنى أبا الحارث، ويقال له: يحيى الجابر، ويقال له: يحيى المجبر، وهو كوفي روى له شعبة وسفيان الثوري وأبو الإحوص وسفيان بن عيينة. وأما أبو ماجدة فإن أبا داود لما ذكره قال: هو بصري. ولم يقل شيئًا غير ذلك، فدل أنه رضيه، وترتفع جهالته بذلك المقدار، وقد ذكرنا أن اسمه عائذ، واسم أبيه نضلة فإذا عرف اسم الشخص واسم أبيه ونسبته إلى القبيلة والبلد لم تبق فيه جهالة (¬2). ولهذا رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3): ثنا نصر بن علي، ثنا عبد المؤمن بن عبادة، ثنا أيوب السختياني، عن أبي ماجدة، عن ابن مسعود قال: "مرت على ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 476 رقم 1484). (¬2) قلت: قال البخاري: منكر الحديث. وكذا قال النسائي. وقال الدارقطني: مجهول متروك. (¬3) وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/ 137 رقم 6020) من طريق محمد بن حسين بن مكرم، عن نصر بن علي به.

رسول الله - عليه السلام - جنازة تمخض مخض الزق، فقال: رسول الله - عليه السلام -: عليكم بالقصد في مشي جنائزكم دون الهرولة، فإن كان خيرًا أعجلتم إليه، وإن كان شرًّا فلا يُبعد الله إلا أهل النار، إن الجنازة متبعة وليست متابعة، ليس معها من تقدمها". قوله: "فإن يك مؤمنًا" أي فإن يك الميت مؤمنًا عند الله "عُجل بالخير" أي بحصول الخير له عند الله، أو بلحاقه إلى الخير. قوله: "فبعدًا لأهل النار" أي أبعد الله بعدًا، وهو منصوب بالفعل المضمر؛ لأنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة لا يستعمل إظهارها، كقولك شقيًا، وخيبةً، وجدعًا، وعقرًا، وبؤسًا، وبعدًا، وسحقًا وحمدًا وشكرًا، ومثل هذا يستعمل في الدعاء في الخير أو الشر.

ص: باب: المشي مع الجنازة أين ينبغي أن يكون منها؟

ص: باب: المشي مع الجنازة أين ينبغي أن يكون منها؟ ش: أي هذا باب في بيان المشي مع الجنازة، أمامها أفضل أو ورائها؟ والمناسبة بين البابين ظاهرة. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم أن: "عبد الله بن عمر كان يمشي أمام الجنازة، قال: وكان رسول الله - عليه السلام - يفعل ذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان - رضي الله عنهم -". حدثنا محمد بن عزيز الأيلي، قال: ثنا سلامة، عن عقيل، قال: حدثني ابن شهاب، أن سالمًا أخبره ... ثم ذكر مثله. حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل ... ثم ذكر مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر: "أنه كان يمشي أمام الجنازة، وأن رسول الله - عليه السلام - كان يمشي بين يدي الجنازة، وأبو بكر وعمر وعثمان، وكذلك السنة في اتباع الجنازة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك (حَ) وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يمشي أمام الجنازة وابن عمر والخلفاء، هلم جرّا". ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول رجاله رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر ... إلى آخره.

وأخرجه الأربعة. فأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. والترمذي (¬2): عن قتيبة وأحمد بن منيع وإسحاق بن منصور ومحمود بن غيلان، أربعتهم عن سفيان بن عيينة .... إلى آخره. والنسائي (¬3): عن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر وقتيبة، عن سفيان .... إلى آخره. وابن ماجه (¬4): عن علي بن محمد وهشام بن عمار وسهل بن أبي سهل، قالوا: ثنا سفيان .... إلى آخره نحوه. قوله: "أمام الجنازة" أي قدامها. الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح، ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي. وأخرجه أحمد في مسنده (¬5): عن حجاج، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر: "أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان يمشون أمامها". الثالث: عن محمد بن عزيز الأيلي شيخ النسائي وابن ماجه، عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬6) نحوه، من حديث زياد، عن الزهري. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3179). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 329 رقم 1007). (¬3) "المجتبى" (4/ 56 رقم 1944). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 475 رقم 1482). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 140 رقم 6254). (¬6) "المعجم الكبير" (12/ 286 رقم 13133).

الرابع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره، أن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة، وأن رسول الله - عليه السلام - كان يمشي بين يديها، وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -. الخامس: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن سعيد بن كثير بن عفير المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن الزهري .... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬2): من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم نحوه، وقال في آخره: "قال الزهري: وكذلك السنة". قلت: هذا يوضح أن قوله: "وكذلك السنة في اتباع الجنائز" في رواية الطحاوي من كلام الزهري أيضًا. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك، عن الزهري. وهذا معضل منقطع. السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن الزهري. وهذا أيضًا كذلك. وأخرجه كذلك مالك في "موطأه" (¬3): عن ابن شهاب: "أن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 140 رقم 6253). (¬2) "صحيح ابن حبان" (7/ 320 رقم 3048). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 225 رقم 526).

رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة، والخلفاء، هلم جرا، وعبد الله بن عمر". قال ابن عبد البر (¬1): هكذا هذا الحديث في "الموطأ" مرسل عند الرواة عن مالك للموطأ، وقد وصله قوم عن مالك، منهم يحيى بن صالح الوحاظي، وعبد الله بن عون الخزاز وحاتم بن سالم القزاز. وقال أبو عمر (¬2): الصحيح فيه عن مالك الإرسال، ولكنه قد وصله جماعه ثقات من أصحاب ابن شهاب، منهم: ابن عيينة ومعمر ويحيى بن سعيد وموسى ابن عقبة وابن أخي ابن شهاب وزياد بن سعد، وعباس بن [الحسن] (¬3) الجزري على اختلاف عن بعضهم. وقال الخليلي: أسنده يحيى بن صالح الوحاظي، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - عليه السلام -. وهو وإن كان ثقة فلا يتابع على هذا الحديث. قوله: "هَلُمَّ جَرًا" هو نصب على الحال عند البصرين أي هلم جارِّين، وعلى المصدر عند الكوفيين؛ لأن في هلم معنى جُرُّوا جرًّا، وهلم مركبة من "ها" و"لم" من لممت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، ويستوي فيه الواحد والتثنية والجمع، والمذكر والمؤنث، تقول: هَلُمَّ يا رجل، وَهَلَّم يا رجلان، وهَلُم يا رجال، وهَلُمَّ يا امراءة، وهَلُمَّ يا امرائتان، وهَلُمَّ يا نساء، وأما بنوا تميم فإنهم يصرفونها، ويقولون للواحد: هَلُمَّ وللمثنى هَلُمَّا وللجمع هَلُمُّوا، وللواحده هَلُمِّي، وللمثناة هَلُمَّا، وللجمع هَلُمَّنَّ، والأول أفصح ويكون لازمًا إذا كان معناه تعال كما في قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (¬4) ويكون متعديًا إذا كان ¬

_ (¬1) "التمهيد" (12/ 83). (¬2) "التمهيد" (12/ 85). (¬3) في "الأصل، ك": سعد، والمثبت من "التمهيد"، ولكن عباس هذا ليس من الثقات كما قال ابن عبد البر، وقال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن عدي: يخالف الثقات، وانظر "لسان الميزان" (3/ 239). (¬4) سورة الأحزاب، آية: [18].

معناه هات كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ} (¬1) وتدخل فيه نون التأكيد تقول: هَلُمَّنَّ هَلُمَّانَّ هَلُمُّنَّ هَلُمِّنَّ، هَلِمَّانَّ هَلِمَّنانَّ. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: القاسم وسالم بن عبد الله والزهري وشريحًا وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة والأسود وعطاء ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم ذهبوا إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، ويحكى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وسويد بن غفلة ومسروقًا وأبا قلابة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا المشي خلف الجنازة أفضل. ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي أمامة - رضي الله عنهم -. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن حديث ابن عيينة الذي ذكرناه في أول هذا الباب قد رواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يمشون أمام الجنازة" فصار في ذلك خبرًا عن ابن عمر عَمَّار رأي أي رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر يفعلونه في ذلك، وقد يجوز أن يكون كانوا يفعلون شيئًا وغيره عندهم أفضل منه للتوسعة؛ كما قد توضأ رسول الله - عليه السلام - مرة مرة والوضوء مرتين مرتين أفضل منه، والوضوء ثلاثًا ثلاثًا أفضل من ذلك كله ولكنه فعل ما فعل من ذلك للتوسعة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [150].

ثم قد خالف ابن عيينة في إسناده في هذا الحديث كل أصحاب الزهري غيره، فرواه مالكًا عن الزهري قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يمشي أمام الجنازة"، فقطعه، ثم رواه عُقيل، ويونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال: "كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان يمشون أمام الجنازة" هذا معناه، وإن لم يكن لفظه كذلك؛ لأن أصل حديثه إنما هو عن سالم قال: "كان عبد الله بن عمر يمشي أمام الجنازة، وكذلك كان رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان" فصار هذا الكلام كله في هذا الحديث إنما هو عن سالم لا عن ابن عمر، فصار حديثًا منقطعًا. وفي حديث يحيى بن أيوب، عن عُقيل، "كذلك السنة في اتباع الجنائز" زيادة على ما في حديث الليث وسلامة عن عُقيل فكذلك أيضًا لا حجة فيه؛ لأنه إنما هو من كلام سالم أو من كلام الزهري، وقد روي عن ابن عمر خلافه مما سنرويه في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي وكان من الحجة والبرهان لهؤلاء الآخرين كل أهل المقالة الأولى: أن حديث سفيان بن عيينة ... إلى آخره، وهذا جواب عن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى. وملخصه من وجهين. أحدهما: أن ما رواه الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان يمشون أمام الجنازة" لا يدل على أن هذا أفضل من المشي خلفها؛ لأنه قد يجوز أن يكون كانوا يفعلون شيئًا والحال أن غيره كان أفضل منه عندهم، ولكن إنما فعلوه لأجل التوسعة على الناس، كما في الوضوء فإن النبي - عليه السلام - توضأ مرة مرة والحال أن التوضؤ مرتين مرتين أفضل منه، وتوضأ مرتين مرتين والحال أن التوضؤ ثلاثًا ثلاثًا أفضل منه، وإنما فعل ذلك توسعًا لأمته وترفهًا لهم. والآخر: وهو الذي أشار إليه بقوله: "ثم قد خالف ابن عيينة ... إلى آخره، وهو ظاهر.

وحاصله: أن أصل الحديث منقطع معضل فلا تقوم به الحجة، على أنه روي. عن ابن عمر ما يخالف هذا على ما يجيء إن شاء الله تعالى. فإن قيل: قد قال الترمذي: روى هذا الحديث ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه نحو حديث ابن عيينة. قلت: وكذلك قال: رواه معمر ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وغيرهم من الحفاظ عن الزهري: "أن النبي - عليه السلام - .... " فذكر الحديث، ثم قال: وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح، وسمعت يحيى بن موسى يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: قال ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسلًا أصح من حديث ابن عيينة وأرى ابن جريج أخذه من ابن عيينة. ثم أخرجه الترمذي (¬1): عن [محمد بن مثنى، عن محمد بن بكر] (¬2)، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: "كان النبي - عليه السلام - يمشي أمام الجنازة وأبو بكر وعمر وعثمان". قال الترمذي: وسألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: أخطأ فيه محمد بن [بكر] وإنما يروى هذا عن يونس، عن الزهري: "أن النبي - عليه السلام - وأبا بكر كانوا يمشون أمام الجنازة". وقال النسائي: هذا حديث خطأ، وهم فيه ابن عيينة، وخالفه مالك فرواه عن الزهري مرسلًا، وهو الصواب. قال: وإنما أتي عليه فيه من جهة أن الزهري رواه عن سالم عن أبيه: "أنه كان يمشي أمام الجنازة" قال: "وكان النبي - عليه السلام - وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة" فقوله: "وكان النبي - عليه السلام - ... " إلى آخره من كلام الزهري لا من كلام ابن عمر، قال ¬

(¬1) "جامع الترمذي" (3/ 331 رقم 1010) مع اختلاف في ألفاظه. (¬2) في "الأصل، ك": محمد بن بكير، وهو خطأ من وجهين: الأول: أن محمد بن المثنى سقط من الإسناد. الثاني: أن بكر تصحفت فكتبت بكير، ومحمد بن بكر هو البرساني. والمثبت من "تحفة الأشراف" (1/ 399 رقم 1562)، و "جامع الترمذي".

ابن المبارك: الحفاظ عن الزهري ثلاثة: مالك، ومعمر، وابن عيينة، فإذا اجتمع اثنان منهم على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر. انتهى. وقال أحمد بن حنبل: هذا الحديث عن الزهري: أن رسول الله - عليه السلام - مرسل، وحديث سالم: فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة كأنه وهم فيه. فإن قيل قال المنذري: وقد قيل: إن ابن عيينة من الحفاظ الأثبات، وقد أتى بزيادة على من أرسل فوجب تقديم قوله، على أن ابن عيينة قد تابعه على رفعه ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد، وقال البيهقي: ومن وصله واستقر على وصله ولم يختلف عليه فيه -وهو سفيان بن عيينة- ثقة حجة. قلت: الجواب عن هذا ما قاله ابن المبارك، وقد ذكرناه. فإن قيل: قال أبو عمر: وقد رواه بعض أصحاب مالك عن مالك موصولا، فحينئذ يكون مالك وابن عيينة متفقين على الوصل؛ فينبغي أن يؤخذ به دون قول معمر في القطع. قلت: قال أبو عمر نفسه الصحيح عن مالك: الإرسال، وإن كان روى عنه بعض أصحابه موصولًا، وقال الخليلي: أسنده يحيى بن صالح الوحاظي، عن مالك، وهو وإن كان ثقة فلا يتابع على هذا الحديث. ص: وقال أصحاب المقالة الأولى: وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وذكروا ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر سمع ربيعة بن عبد الله بن هدير: "يقول رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقدّم الناس أمام جنازة زينب - رضي الله عنها -". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن المنكدر ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال: "سألت سعيد بن جبير، عن المشي أمام الجنازة، قال: نعم، رأيت ابن عباس يمشي أمام الجنازة".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، أن أبا راشد مولى معيقيب بن أبي فاطمة أخبره: "أنه رأى عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهم - يفعلونه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، أنه رأى أبا هريرة وعبد الله بن عمر وأبا أسيد الساعدي وأبا قتادة - رضي الله عنهم - يمشون أمام الجنازة". فقد دل هذا على أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها. قيل لهم: ما دل ذلك على شيء مما ذكرتم، لكنه أباح المشي أما الجنازة، وهذا مما لا ينكره مخالفكم أن المشي أمام الجنازة مباح، وإنما اختلفتم أنتم وأياه في الأفضل من ذلك ومن المشي خلف الجنازة، فإن كان عندكم أثر صحيح فيه أن المشي أمام الجنازة أفضل من المشي خلفها ثبت بذلك ما قلتم، وإلا فقوله إلى الآن مكافئ لقولكم. ش: أخرج أربعة آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - احتجت بها أهل المقالة الأولى في أن المشي أمام الجنازة أفضل، ثم أجاب عنها بقوله: قيل لهم .... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "وإلا فقوله" أي وإن لم يكن عندكم أثر صحيح فيما أدعيتم فقول المخالف. "إلى الآن مكافئ" أي مساوٍ لقولكم، فلا تقوم بما ذكرتم حجة. الأول: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عبد الله بن هدير القرشي المدني عم محمد بن المنكدر ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عيينة، عن ابن المنكدر، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 24 رقم 6651).

ربيعة بن عبد الله بن هدير: "أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقدم الناس أمام جنازة زينب بنت جحش". انتهى. قلت: هي أم المؤمنين زوج النبي - عليه السلام -، ماتت سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها عمر بن الخطاب. والآخر: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عبد الله نحوه. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1). الأثر الثاني: عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة- ضعفه أحمد وأبو زرعة والنسائي. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه". الثالث: عن عثمان بن عفان ومن معه. أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، السبائي المصري، عن أبي راشد مولى معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي ... إلى آخره. وهذا الإسناد فيه مقال لأن فيه ابن لهيعة قد ضعفه جماعة. وفيه أبو راشد ذكره ابن يونس في تاريخه ولم يذكر له اسمًا ولا جرحًا ولا تعديلًا. ومعيقيب صحابي شهد فتح مصر قاله: ابن يونس. الرابع: عن أبي هريرة ومن معه: أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن صالح بن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 225 رقم 527).

سهل مولى التوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي المدني، ضعفه مالك والنسائي، وعن يحيى: صالح مولى التوأمه ثقة حجة، وإنما أدركه مالك بعد أن كبر وخرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة قال: "رأيت أبا هريرة وأبا قتادة وابن عمر وأبا أسيد يمشون أمام الجنازة". قلت: أبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي، وأبو أسيد -بضم الهمزة- اسمه مالك بن ربيعة، وأبو هريرة اختلف في اسمه اختلافًا شديدًا، والأكثرون أنه عبد الرحمن. ص: وإن احتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب، قال: "ليس من السنة المشي خلف الجنازة" وقال ابن شهاب: "المشي خلف الجنازة من خطأ السنة". قيل لهم: هذا كلام ابن شهاب، فقوله في ذلك كقولكم إذ كان لمخالفه ومخالفكم من الحجة عليه وعليكم ما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي وإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بما حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .... إلى آخره. "قيل لهم" أي لهؤلاء المحتجين بقول الزهري: "إن هذا" الذي رواه مالك هو "كلام" ابن شهاب وهو محمد بن مسلم الزهري "فقوله في ذلك" أي فيما ذهبتم إليه "كقولكم" حين كان لمخالفه أي لمخالف الزهري "ومخالفكم من الحجة عليه" أي على الزهري "وعليكم ما سنذكره في هذا الباب" أراد أنه يذكر آثارًا تدل على إباحة المشي أمام الجنازة وخلفها، وعن يمينها وعن شمالها، وتدل أيضًا على أنَّا أمرنا باتباع الجنائز والمتبع للشيء هو الذي يتأخر عنه ولا يتقدم أمامه، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 477 رقم 11227).

وهذا كله يدل على فساد قول الزهري: "المشي خلف الجنازة من خطأ السنة" على ما يجيء مستقصى عن قريب إن شاء الله. ص: ثم رجعنا إلى ما روي في هذا الباب من الآثار، هل فيه شيء ييبح المشي خلف الجنازة؟ فإذا ربيع الجيزي وابن أبي داود قد حدثانا، قالا: ثنا أبو زرعة، قال: أنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بكر البرساني، عن يونس بن يزيد .... ثم ذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - كان يمشي خلف الجنازة كما كان يمشي أمامها، فإن كان مشيُ رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر أمام الجنازة حجة لكم أنَّ ذلك أفضل من المشي خلفها، فكذلك مشيُ رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر خلفها حجة لمخالفكم عليكم أنَّ ذلك أفضل من المشي أمامها، فقد استوى خصمكم وأنتم في هذا الباب، فلا حجة لكم فيه عليه. وقد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: ثنا سعيد بن عبيد الله، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها". فأباح في هذا الحديث أيضًا رسول الله - عليه السلام - المشي خلف الجنازة كما أباح المشي أمامها، وليس في شيء مما ذكرنا ما يدل على الأفضل من ذلك ما هو؟. وقد روي عن أنس بن مالك ما معناه قريب من معنى حديث المغيرة، ولم يذكر عن النبي - عليه السلام -. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك في الرجل يتبع الجنازة قال: "إنما أنتم مشيعون لها، فامشوا بين يديها، وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها".

حدثنا روح الفرج، قال: ثنا ابن غفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس بن مالك، مثله. وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك أيضًا ما حدثنا عبد الغنيم بن رفاعة اللخمي، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن سليم، قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - باتباع الجنازة". ففي هذا الحديث أنه أمرهم باتباع الجنازة، والمتبع للشيء هو المتأخر عنه لا المتقدم أمامه، ففيما ذكرنا ما قد دل على فساد قول الزهري: "إن المشي خلف الجنازة من خطأ السنة". ش: لما احتجت أهل المقالة الأولى في جملة احتجاجهم بما رووه عن الزهري من أن المشي خلف الجنازة من خطأ السنة، أورد ها هنا أحاديث وآثارًا تدل على أن المشي خلف الجنازة مباح، وكذا عن يمينها وشمالها وعلى أنَّا أمرنا باتباع الجنازة، والمتبع للشيء هو المتأخر عنه بلا شك، فهذا كله يدل على فساد ما رووه عن الزهري. ثم إنه أخرج في ذلك عن أنس بن مالك والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب - رضي الله عنهم -. أما عن أنس فأخرجه من أربع طرق. الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، وعن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك. وهذا إسناد حسن جيد لأن رجاله ثقات. فإن قيل: كان النسائي لا يرضى أبا زرعة هذا، وغمزه سعيد بن أبي مريم. قلت: قال أبو حاتم: محله الصدق، وذكر ابن يونس أن القضاة كانت تقبله.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود، عن محمد بن بشار البصري بندار شيخ الجماعة، عن محمد بن بكر بن عثمان البرساني البصري، وبرسان -بضم الباء الموحدة- من الأزد عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن أنس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): عن محمد بن المثنى، عن محمد بن بكر، عن يونس بن يزيد، نحوه، وليس فيه: "وخلفها". الثالث موقوف وإسناده صحيح: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحفاظ -بالنون- المقرئ روى له الجماعة، عن حميد بن أبي حميد الطويل روى له الجماعة، عن أنس. الرابع أيضًا موقوف وإسناده صحيح: عن روح أيضًا، عن سعيد بن كثير بن عفير المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن حميد، عن أنس. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن أبي جعفر الرازي، عن حميد الطويل قال: "سمعت العيزار يسأل أنس بن مالك عن المشي أمام الجنازة، فقال له أنس: إنما أنت مشيع، فامش إن شئت أمامها، وإن شئت خلفها، وإن شئت عن يمينها، وإن شئت عن يسارها". وأما عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح. عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط البصري روى له الجماعة، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية الثقفي الجبيري البصري، روى له البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن زياد بن جبير بن حية الثقفي البصري، روى له الجماعة، عن أبيه جبير بن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 331 رقم 1010). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 445 رقم 6261).

حية بن مسعود الثقفي البصري، روى له الجماعة سوى مسلم، وجُبَير -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة- وَحيَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف-. والحديث أخرجه الأربعة. فقال أبو داود (¬1): ثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن يونس، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة - قال: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي - عليه السلام - قال: "قال: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبًا منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة". وقال الترمذي (¬2): ثنا بشر بن آدم، قال: ثنا إسماعيل بن سعيد بن عبيد الله قال: نا أبي، عن زياد بن جبير بن حية، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي - عليه السلام - قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يصلى عليه". وقال النسائي (¬3): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: أنا خالد، قال: أنا سعيد بن عبيد الله قال: سمعت زياد بن جبير يحدث، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أنه ذكر أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه". وأخرجه ابن ماجه (¬4) مقتصرًا على الصلاة على الطفل. ولما رواه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬5) وقال: صحيح على شرط البخاري. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 222 رقم 3180). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 349 رقم 1031). (¬3) "المجتبى" (4/ 58 رقم 1948). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 483 رقم 1507). (¬5) "مستدرك الحاكم" (1/ 517 رقم 1344).

فإن قيل: هذا الحديث في سنده اضطراب، وفي متنه أيضًا؛ لأن في رواية أبي داود وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه، وفي رواية غيره: عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة. وفي رواية ابن ماجه: عن زياد بن جبير، سمع المغيرة. وليس فيه عن أبيه. وقال البيهقي: هذا حديث مشكوك في رفعه، وكان يونس يَقِفُه على زياد. قلت: لا نسلم أنه مضطرب؛ لأن الطحاوي وأحمد بن حنبل وأبا داود والنسائي والترمذي أخرجوه عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة كما ذكرناه، وأخرجوه مرفوعًا، وصححه الترمذي والحاكم، فسقط ما قيل فيه فافهم. وأما عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح: عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك الجحمي المصري، شيخ أبي داود، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، وثقه ابن حبان وأبو حاتم (¬1)، عن شعبة بن الحجاج، عن أشعث بن سليم أبي الشعثاء المحاربي الكوفي روى له الجماعة، عن معاوية بن سويد بن مقرن المزني الكوفي ابن أخي النعمان بن مقرن روى له الجماعة، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬2) بأتم منه في عشرة مواضع من "صحيحه": ثنا أبو الوليد، نا شعبة، عن الأشعث، قال: سمعت معاوية بن مقرن، عن البراء قال: "أمرنا رسول بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم -أو المقسم- وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، وعن المياثر والحرير والديباج والقسي والإستبرق [وإنشاد الضال] (¬3) ". ¬

_ (¬1) الذي قاله أبو حاتم في "الجرح والتعديل": "سألت أبي عنه، فقال: صدوق". (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 417 رقم 1182 وانظر رقم [2313، 488، 5312، 5326، 5500، 5511، 5525، 5868، 5881، 6278]. (¬3) كذا في "الأصل، ك"، ولم أجد هذه اللفظة في هذه المواضع المذكورة في "صحيح البخاري"، وإنما هي في إحدى روايات مسلم في "صحيحه" (3/ 1636 رقم 2066)

وفي لفظ (¬1) وعن الشرب في آنية الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا، لم يشرب فيها في الآخرة. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا. قوله: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - باتباع الجنازة" قد ذكرنا أن المتبع للشيء هو المتأخر عنه، والذي يتقدم عليه لا يسمى متبعًا، وهذا دليل صريح قاطع لأصحابنا فيما ذهبوا إليه. وقال الداودي: اتباع الجنائز يحمله بعض الناس عن بعض وهو واجب على ذي القرابة الحاضر، والجار، وكذا في عيادة المريض. وقال ابن التين: لا أعلم أحدًا من الفقهاء ذكر هذه التفرقة إلا أن يريد بقوله واجب التأكيد، والذي يقوله غيره: إنه أمر ندب، وعند الجمهور من فروض الكفاية. وقال ابن قدامة: هو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصلي عليها ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك، وقال أبو داود: رأيت أحمد ما لا أحصي يصلي على الجنازة ولم يتبعها إلى القبر ولم يستأذن. الثاني: يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن. الثالث: أن يقف بعد الدفن فيستغفر له، ويسأل له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، كذا روى عنه - عليه السلام - فيما ذكره أبو داود، وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها" انتهى. ثم اعلم أن حديث أنس صرح فيه أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون خلف الجنازة، وحديث المغيرة يخبر بأن المشي خلف الجنازة، يباح كما هو ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1636 رقم 2066) ولم أجده في "صحيح البخاري". (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1635 رقم 2066).

كذلك في المشي أمامها، وحديث البراء يخبر باتباع الجنازة، والاتباع لا يكون إلا إذا كان خلف الجنازة، فكل ذلك يدل على فساد قول الزهري المذكور، وقال ابن شاهين: هذا باب بن مشكل عن القطع فيه بشيء، فيجوز أن يكون مشي النبي - عليه السلام - بين يدي الجنازة لعلة، وخلفها لعلة، كما كان إذا صلى سلم واحدة فلم كثر الناس عن يمينه وخلا اليسار سلم عن يمينه ويساره، ثم جاءت الرخصة منه بأنه يمشي حيث شاء، وقد جاء في المشي خلفها من الفضل ما لم يجيء في المشي أمامها. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار، عن عمرو بن حريث، قال: قلت لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "ما تقول في المشي أمام الجنازة؟ فقال علي - رضي الله عنه -: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع، قلت: ما لي أرى أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشيان أمامها؟ فقال: إنهما يكرهان أن يحرجا الناس". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي فروة الهمداني، عن زائدة بن خراش، قال: ثنا ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: "كنت أمشي في جنازة فيها أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم -، فكان أبو بكر وعمر يمشيان أمامها، وعلى يمشي خلفها يدي في يده، فقال علي - رضي الله عنه -: أما إن فضل الرجل يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذي أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس". ففي هذا الحديث تفضيل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها، وقوله: "أن أبا بكر وعمر يعلمان من ذلك مثل الذي أعلم" وأنهما إنما يتركان ذلك؛ للتسهيل على الناس، لا لأن ذلك أفضل، وهذا مما لا يقال بالرأي، وإنما يقال ويعلم بما قد وقفهم عليه رسول الله - عليه السلام - وعلمهم إياه من ذلك. فقد ثبت بتصحيح ما روينا أن المشي خلف الجنازه أفضل من المشي أمامها.

ش: لما قالت أهل المقالة الأولى: ليس فيما رويتم من الأحاديث ما يدل صريحًا على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، شرع يذكر الأحاديث والآثار التي فيها تصريح بأن الأفضل هو المشي خلف الجنازة. فأخرج عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن حماد بن سلمة، عن يعل بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عبد الله بن يسار أبي همام الكوفي، وثقه ابن حبان (¬1)، عن عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المدني المخزومي الصحابي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) مطولًا: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار: "أن عمرو بن حريث عاد الحسن بن علي، فقال له علي: أتعود الحسن وفي نفسك ما فيها؟! فقال له عمرو: إنك لست بربي فتصرِّف قلبي حيث شئت، قال علي - رضي الله عنه -: إما إن ذلك لا يمنعنا أن نؤدي النصيحة، سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: ما من مسلم عاد أخاه إلا ابتعث الله [له] (¬3) سبعين ألف ملك يصلون عليه من أي ساعات النهار كان حتى يمسي، ومن أي ساعات الليل كان حتى يصبح. قال له عمرو: كيف تقول في المشي مع الجنازة بين يديها أو خلفها؟ فقال عليّ - رضي الله عنه -: [إن] (3) فضل المشي خلفها على بين يديها كفضل صلاة المكتوبة في جماعة على الواحدة. قال عمرو: فإني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمام الجنازة؟ قال على - رضي الله عنه -: إنهما كرها أن يحرب الناس". ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب التهذيب" (6/ 77): وقال ابن المديني: هو شيخ مجهول، وكذا قال أبو جعفر الطبري، قال: وقد سماه غير يعلى بن عطاء: عبد الله بن نافع. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 97 رقم 754). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن أبي فروة عروة بن الحارث الهمداني الكوفي، وهو أبو فروة الأكبر من رجال مسلم، عن زائدة بن خراش -بكسر الخاء- وقيل زائدة بن أوس بن خراش الكندي وثقه ابن حبان. وهو يروي عن ابن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى، إلى آخره، وعبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مختلف في صحبته، قال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي - عليه السلام -، وصلى خلفه، وروى عنه ابناه سعيد وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن أبزى، وكلاهما ثقتان. والظاهر أن المراد من ابن عبد الرحمن بن أبزى ها هنا هو سعيد؛ لأن البيهقي قال: زائدة بن خراش يروي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى والله أعلم. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن أبي فروة -وليس بالذي يروي عن ابن أبي ليلى- عن زائدة الهمداني عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -: "أن أبا بكر وعمر كانا في الجنازة يمشيان أمامها، وعلي يمشي خلفها، فقلت لعلي - رضي الله عنه -، فقال: إنهما قد علمًا أن المشي خلفها أفضل، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس". ولا نعلم روى ابن أبزى عن علي - رضي الله عنه - إلا هذا الحديث. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أبزى، قال: "كنت في جنازة وأبو بكر وعمر أمامها، وعلي يمشي خلفها، قال: فجئت إلى علي، فقلت: المشي خلفها أفضل أو المشي أمامها فإني أراك تمشي خلفها وهذان يمشيان أمامها؟ قال: ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 136 - 137 رقم 497). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 477 رقم 11239).

فقال علي - رضي الله عنه -: لقد علما أن المشي خلفها أفضل من أمامها مثل صلاة الجماعة على الفذ، ولكنهما يسيران مُيسِّرَان [يحبان أن ييسِّرا] (¬1) على الناس. قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث علي - رضي الله عنه -. قوله: "لا لأن ذلك أفضل" أي لا لأجل أن المشي أمام الجنازة أفضل. قوله: "وهذا مما لا يقال" أي الحكم بتفضيل شيء على آخر لا يقال بالرأي ولا مجال للرأي فيه، وإنما هو أمر توقيفي، ولولا أن عليًّا - رضي الله عنه - علم ذلك من النبي - عليه السلام - لما فعله ولما قال: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع، وفضل الرجل يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ" أي الواحد. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني، قال: ثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع قال: "خرج عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وأنا معه على جنازة فرأى معها نساء، فوقف ثم قال: ردهن فإنهن فتنة الحي والميت، ثم مضى فمشي خلفها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن كيف المشي في الجنازة، أمامها أم خلفها؟ فقال: أما تراني أمشي خلفها؟! ". فهذا عبد الله بن عمر لما سئل عن المشي في الجنازة أجاب سائله أنه خلفها، وهو الذي روينا عنه في هذا الباب أن رسول الله - عليه السلام - كان يمشي أمامها، فدل ذلك أن رسول الله - عليه السلام - كان يفعل ذلك على جهة التخفيف على الناس ليعلمهم أن المشي خلف الجنازة وإن كان أفضل من المشي أمامها ليس هو مما لا بد منه ولا مما لا يحرج تاركه، ولكنه مما له أن يفعله ويفعل غيره، وكذلك ما روي عن ابن عمر من ذلك، فروى عنه سالم أنه كان يمشي أمام الجنازة، فدل ذلك أيضًا على إباحة المشي أمامها لا على أن ذلك أفضل من المشي خلفها، ثم روى عنه نافع أنه مشي خلفها فدل ذلك أيضًا على إباحة المشي خلفها لا على أن ذلك أفضل من غيره، فلما سأله أخبره بالمشي ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": يختاران تيسيرًا. والمثبت من "المصنف".

الذي ينبغي أن يفعل في الجنازة أنه خلفها علي أنه هو الذي أفضل من غيره، وقد روينا في حديث البراء أن النبي - عليه السلام - أمرهم باتباع الجنازة، والأغلب من معنى ذلك هو المشي خلفها أيضًا، فصار بذلك من حق الجنازة اتباعها، والصلاة عليها، فكان المصلي عليها يكون في صلاته متأخرًا عنها فالنظر على ذلك أن يكون المتبع لها في اتباعه متأخرًا عنها، فهذا هو النظر مع ما قد وافقه من الآثار. ش: أخرج أثر عبد الله بن عمر لمعنيين: الأول: لما فيه دلالة صريحة على أن المشي خلف الجنازة أفضل. والثاني: ليوفق بين ما روي عنه من فعله وبين ما رواه عن النبي - عليه السلام - أنه كان يمشي أمامها، وأشار إلى ذلك بقوله: "فهذا عبد الله بن عمر لما سئل .... " إلى قوله: "ويفعل غيره" وهو ظاهر. قوله: "وكذلك ما روى عن ابن عمر .... إلى آخره" إشارة أيضًا إلى بيان وجه التوفيق بين ما رواه سالم عنه أنه كان يمشي أمام الجنازة، وبين ما رواه نافع عنه هذا. قوله: "وقد روينا في حديث البراء .... إلى آخره" أشار به إلى بيان أن النظر والقياس أيضًا يقتضي أفضليه المشي خلف الجنازة، بيان ذلك: أن النبي - عليه السلام - أمر باتباع الجنازة، والأغلب في معنى الاتباع المشي خلفها كما قد ذكرنا فيما مضى، ومن الاتباع الصلاة عليها، ولا تكون الصلاة عليها إلا والجنازة بين يديه وهو يتأخر عنها، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون المتبع لها في اتباعه متأخرًا عنها، وتكون هي بين يديه. فهذا هو الذي يقتضيه القياس مع موافقة الآثار له في هذا المعنى. ثم إنه أخرج أثر عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني شيخ البخاري ونسبته إلى بهرا -بالباء الموحدة- ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وزيدت فيه النون على خلاف القياس كما في الصنعاني، والقياس: بهراوي وصنعاوي.

عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني قيل: اسمه بكير بن عبد الله بن أبي مريم، وقيل: عبد السلام، وهو مشهور بكنيته، ضعفه يحيى بن معين، وعن دحيم: حمصي من كبار شيوخ حمص وفي حديثه بعض ما فيه. وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام ولكن كان رديء الحفظ، يحدث بالشيء فَيَهِمُ، ويكثر من ذلك حتى استحق الترك. وهو يروي عن راشد بن سعد المقرائي، ويقال: الحبراني الحمصي، قال يحيى وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وروى له الأربعة. عن نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنهما -. واستفيد منه: أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأن النساء يمنعن من اتباعها، وقال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود وابن عمر وعائشة وأبي أمامة: أنهم كرهوا ذلك للنساء -أي: اتباع الجنازة- وكرهه أيضًا إبراهيم والحسن ومسروق وابن سيرين والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال الثوري: اتباع النساء للجنائز بدعة، وعن أبي حنيفة: لا ينبغي ذلك للنساء، وروي إجازه ذلك عن ابن العباس والقاسم وسالم والزهري وربيعة وأبي الزناد، ورخص فيه مالك. وقال القرطبي: كرهه مالك للشابة، وأجازه لغيرها، ونقل العبدري عن مالك: يكره إلا أن يكون الميت ولدها أو والدها أو زوجها، وكانت ممن يخرج مثلها لمثله، وعند الشافعي مكروه. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرئيل، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: "سمعت الحارث بن أبي ربيعة، سأل عبد الله بن عمر عن أم ولد له نصرانية ماتت، فقال له ابن عمر: تأمر بأمرك وأنت بعيد منها ثم تسير أمامها فإن الذي يسير أمام الجنازة ليس معها". فهذا بن عمر - رضي الله عنهما - يخبر أن الذي يمشي أمام الجنازة ليس معها، فاستحال أن يكون ذلك عنده كذلك وقد رأى النبي - عليه السلام - يمشي أمامها، فقد ثبت بذلك أن أصل

حديث سالم الذي رويناه في أول هذا الباب إنما هو كما رواه مالك عن الزهري موقوفًا، أو كما رواه عُقيل ويونس عن الزهري عن سالم موقوفًا، لا كما رواه ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا. ش: ذكر هذا الأثر لمعنيين أيضًا: أحدهما: إن فيه دلالة صريحة على أن المشي خلف الجنازة هو الأفضل؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - نفى من يسير أمام الجنازة أن يكون معها، فإذا لم يكن معها لم يحصل له ثواب التشييع. والآخر: لينبه على أن أصل الحديث الذي رواه سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". موقوف كما رواه مالك عن الزهري موقوفًا، وكما رواه عقيل بن خالد الأيلي، ويونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن سالم موقوفًا، وكيف لا يكون موقوفًا وقد قال ابن عمر في الحديث المذكور: "الذي يسير أمام الجنازة ليس معها؟ " فمن المستحيل أن يقول هذا القول والحال أنه قد كان رأى النبي - عليه السلام - يمشي أمامها، فدل ذلك قطعًا أن أصل الحديث موقوف، ولهذا قال النسائي: هذا حديث خطأ. وهم فيه ابن عيينة. وقال ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسلًا أصح من ابن عيينة. وقد مر الكلام فيه مستقصى. فإن قيل: إذا ثبت هذا يكون عن ابن عمر روايتان متضادتان. قلت: لا، لأن المروي عنه في المشي أمام الجنازة إما لبيان أنه مباح، وإما لضرورة دعت إلى ذلك، والمروي عنه في المشي خلفها لبيان الفضيلة، فلذلك نفى من يسير أمامها أن يكون معها. فافهم. ثم إسناد الأثر المذكور صحيح؛ لأن رجاله ثقات، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي حافظ ثقة ثبت، قاله ابن عساكر وغيره.

وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، وقد ينسب إلى جده. وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، وعبد الله بن شريك العامري الكوفي وثقه ابن حبان، وفي "التكميل" قال الإِمام أحمد وأبو زرعة ويحيى: ثقة. والحارث بن أبي ربيعة -واسم أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المعروف بالقُبَاع، ويقال: الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة- روى له مسلم وأبو داود في "المراسيل" والنسائي ولم يسمه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن شريك، عن عبد الله بن شريك، قال: "سمعت أن عمر سئل عن الرجل المسلم يتبع أمه النصرانية تموت؟ قال: يتبعها ويمشي أمامها". وأخرج الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا علي بن محمد بن جنيد الحافظ، ثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثني أبي، ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: "جاء ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: إن أمه توفيت وهي نصرانية وهو يحب أن يحضرها؟ فقال النبي - عليه السلام -: "اركب دابتك، وسر أمامها، فإنك إذا كنت أمامها لم تكن معها". وأبو معشر ضعيف. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الذي يمشي أمام الجنازة ليس مع الجنازة، وأنه يدل على أن الأفضل هو المشي خلفها. والثاني: جواز استخدام النصرانيات في التسري بهن. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 33 رقم 11846). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 75 رقم 6).

والثالث: أن المسلم إذا مات له قريب نصراني له أن يتبع جنازته إلى أن يواروه في تراب. وقد روى أبو داود (¬1) وغيره: عن علي - رضي الله عنه - قال: "قلت للنبي - عليه السلام - إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوار أباك، ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فذهبت فواريته وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعى لي". وبه استدل أصحابنا على أن المسلم إذا مات له قريب كافر يغسله ويدفنه، وقال صاحب "الهداية": وإن مات الكافر وله وليّ مسلم يغسله ويكفنه ويدفنه، بذلك أمِرَ علي - رضي الله عنه - في حق أبيه أبي طالب. قلت: وليس في الحديث الغسل والتكفين إلا أن يؤخذ ذلك من مفهوم قوله: "فأمرني فاغتسلت" فإن الاغتسال شُرعَ من غسل الميت مع أنه قد جاء مصرحًا به في بعض الأحاديث، فروى ابن سعد في "الطبقات" (¬2): أنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لما أخبرت رسول الله - عليه السلام - بموت أبي طالب بكي، ثم قال لي: اذهب فاغسله وكفنه وواره .... " الحديث. قلت: قالت العلماء: لكن لا يراعي فيه سنة الغسل والتكفين والله أعلم. ص: حدثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو يحيى، عن مجاهد، قال: "كنت مع عبد الله بن عمر جالسًا، فمرت به جنازة، فقام ابن عمر ثم قال: قم، فإني رأيت رسول الله - عليه السلام - قام لجنازة يهودي مرت عليه، فقيل: هل لك أن تتبعها فإن في اتباعها أجرًا؟ فانطلقنا نمشي معها، فنظر فرأى ناسًا، فقال: ما أولئك الذين بين يدي الجنازة؟ فقلت: هم أهل الجنازة، فقال: ما ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 214 رقم 3214) وأخرجه النسائي في "المجتبى" (1/ 110 رقم 190) وأحمد في "مسنده" (1/ 97 رقم 759). (¬2) "الطبقات الكبير" (1/ 123).

هم مع الجنازة ولكن كنفيها أو ورائها. فبينما هو يمشي إذ سمع رانة، فاستدارني وهو قابض على يدي، فاستقبلها فقال لها: شرًّا حرمتينا هذه الجنازة. اذهب يا مجاهد فإنك تريد الأجر وهذه تريد الوزر، إن رسول الله - عليه السلام - نهانا أن نتبع جنازة معها رانة". ش: أخرجه أيضًا لدلالته قطعًا أن من مشي أمام الجنازة لا يكون معها، حيث قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ما هم مع الجنازة، ولكن كنفيها" أي جنبيها يمينها وشمالها "وورائها". ورجال إسناده ثقات، وابن أبي مريم هو أحمد بن سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم شيخ النسائي وأبي داود، والفريابي هو محمد بن يوسف شيخ البخاري، وإسرائيل هو ابن يونس روى له الجماعة، وأبو يحيى القتات صاحب القت الكوفي اسمه زاذان أو دينار أو عبد الرحمن بن دينار أو مسلم أو زبان، فهو وإن كان ضعفه قوم فقد وثقه يحيى وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): مقتصرًا على قوله: "نهى رسول - عليه السلام - أن تتبع جنازة معها رانة، قال: ثنا أحمد بن يوسف، نا عبيد الله، أنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عمر. و"الرانة" بفتح الراء المهملة وتشديد النون وهي الصائحة النائحة، من رنت المرأة ترن رنينًا وأَرَنَّت أيضًا إذا صاحت. وفيه: القيام إذ صاحت. وفيه: القيام للجنازة إذا مرت عليه على ما فيه من اختلاف العلماء على ما يجيء إن شاء الله. وإن المشي خلفها أفضل. وكراهة اتباعها إذا كانت معها نائحة وكراهة الصياح عندها. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 504 رقم 1583).

ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - في جنازة زينب - رضي الله عنهما - يقدم الناس أمامها، فذلك دليل على أنه كان لا يرى المشي خلفها أصلًا، ولولا ذلك لأباحه لمن مشي خلفها. قيل: وكيف يجوز ما ذكرت وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "إنهما -يريد أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما --يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها" ثم يفعل هذا المعنى الذي ذكرت، ولكنه فعل ذلك -عندنا والله أعلم- لعارض إما لنساء كن خلفها، فكره للرجال مخالطتهن فأمرهم بالتقدم لذلك العارض لا لأنه أفضل من المشي خلفها. وقد سمعت يونس يذكر، عن ابن وهب، أنه سمع من يقول ذلك، وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث، حتى لا يتضاد ما ذكره علي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يكون المشي خلف الجنازة أفضل وقد كان عمر - رضي الله عنه - أمر الناس أن يتقدموا في جنازة زينب بنت جحش أم المؤمنين - رضي الله عنها - كما مر فيما مضى، وكان ذلك بحضرة الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فدل ذلك أن المشي أمام الجنازة أفضل، وأن عمر لا يرى المشي خلفها أصلًا. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن تقديم عمر الناس في جنازة زينب لأجل ما ذكرتم، وكيف يكون كذلك وقد أخبر علي - رضي الله عنه - في حديثه أن عمر كان يعلم أن المشي خلف الجنازة أفضل، وإنما فعل ذلك لأجل التيسير على الناس، أو فعله لعارض، وهو أن الجنازة كانت وراءها نساء فأمر الرجال أن يتقدموا حتى لا يختلطوا بهن، قال الطحاوي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يذكر عن عبد الله بن وهب أنه سمع من يقول هذا القول. فهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث حتى لا يتضاد ما ذكره علي - رضي الله عنه - عن أبي بكر وعمر ويتفق الأثران والله أعلم.

وعندي وجه أخر لأمر عمر الناس بالتقدم في جنازة زينب - رضي الله عنها -: وهو أنه يحتمل أن يكون الناس كلهم قد تأخروا عن جنازة زينب، فظن عمر - رضي الله عنه - أنهم قد اعتقدوا كراهة المتقدم على الجنازة أو عدم إباحته، فأمرهم بذلك تعليمًا منه إياهم أن المشي أمام الجنازة مباح وغير محظور، فأمرهم أن يتقدموا وإن كان المشي خلفها أفضل من ذلك، والله أعلم. ص: وقله حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "كان الأسود إن كان معها نساء أخد بيدي فيقدمنا نمشي أمامها، فإذا لم يكن معها نساء مشينا خلفها، فهذا الأسود بن يزيد على طول صحبته لعبد الله بن مسعود وعلى صحبته لعمر - رضي الله عنه - قد كان قصده في المشي مع الجنازة إلى المشي خلفها إلا أن يعرض له عارض فيمشي أمامها لذلك العارض لا لأن ذلك أفضل عنده من غيره، فكذلك عمر - رضي الله عنه - فيما رويناه عنه فيما فعله في جنازة زينب هو على هذا المعنى عندنا والله أعلم. ش: ذكر هذا الأثر عن الأسود بن يزيد تأييدا لصحة التأويل الذي ذكره في تقديم عمر الناس في جنازة زينب، وهو ظاهر. وإسناده صحيح، ومحمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك هو ابن عبد الله النخعي، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وقد ذكروا غير مرة. ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن أبي السري، قال: ثنا فضيل بن عياض، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون السير أمام الجنازة". فهذا إبراهيم يقول: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود، فقد كانوا يكرهون هذا ثم يفعلونه

للعذر؛ لأن ذلك أسهل من مخالطة النساء إذا قَرُبْن من الجنازة، فأما إذا بعدن منها أو لم يكن معها نساء فإن المشي خافها أفضل من المشي أمامها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: ذكر هذا الأثر أيضًا تأكيدًا لما ذكره من وجه تقديم عمر الناس في جنازة زينب وهو ظاهر. وأخرجه من طريقين صحيحين. الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن محمد بن أبي السري وهو محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن العسقلاني شيخ أبي داود وأبي حاتم، عن فضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. والثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي. قوله: "لأن ذلك أسهل" أي لأن المتقدم على الجنازة أسهل من مخالطة النساء لأن مخالطة النساء الأجنبيات حرام، والتقدم على الجنازة مباح؛ فالإتيان بالمباح أسهل بل أفضل من ذلك، وقال محمد بن الحسن في "آثاره": أنا أبو حنيفة، عن حماد قال: "رأيت إبراهيم يتقدم الجنازة ويتباعد منها من غير أن يتوارى عنها"، وقال محمد: "لا نرى بتقدم الجنازة بأسًا، والمشي خلفها أفضل، وهو قول أبي حنيفة". قلت: كان تقدم إبراهيم وتباعده عنها لأجل النساء كما ذكرنا، وكان يخاف أن يختلط بهن فيتباعد عنها من غير أن يتوارى عنها، ولكن إذا لم يكن نساء كان يمشي خلفها طلبا للأفضل وقول محمد -رحمه الله-: "لا نرى بتقدم الجنازة بأسًا" يشعر أن هذا الفعل مباح غير محظور ولكن الأفضل أن يمشي خلفها، ذكرنا من الأدلة والبراهين، والله أعلم.

ص: باب: الجنازة تمر بالقوم بالقوم أيقومون لها أم لا؟

ص: باب: الجنازة تمر بالقوم بالقوم أيقومون لها أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الجنازة إذا مرت على قوم وهم قعود هل يقومون لها أم لا يقومون؟ ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلي بن منصور، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح: "أن أبان بن عثمان مرت به جنازة فقام لها، وقال: إن عثمان مرت به جنازة فقام لها وقال: إن رسول الله - عليه السلام - مرت به جنازة فقام لها". حدثنا يزيد، قال: ثنا دُحَيم، قال: ثنا سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك، عن إسماعيل بن أمية ... فذكر بإسناده مثله إلا أنه قال: "رأيت عثمان يفعل ذلك، وأخبرني أن رسول الله - عليه السلام - يفعل ذلك". ش: هذان طريقان: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معل بن منصور الرازي أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري في غير "الصحيح"، روى له الجماعة. عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي ثقة قال: دحيم غاية في الشاميين وخلط عن المدنيين. عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي روى له الجماعة. عن موسى بن عمران بن منَّاح -بالنون المشددة- المديني قيل: إنه ليس بمشهور. عن أبان بن عثمان بن عفان روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا زكرياء بن أبي زكرياء، حدثني [يحيى بن] (¬2) سليم، نا إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، قال: "رأى أبان بن عثمان جنازة فقام لها، ثم قال: رأى عثمان بن عفان جنازة فقام لها، ثم حدث: أن رسول الله - عليه السلام - رأى جنازة فقام لها". وأخرجه أيضًا ابن شاهين في كتاب "الناسخ والمنسوخ" (¬3). والثاني: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدُحَيْم -بضم الدال، وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف- شيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه. عن سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، عن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ليس بقوي. وقال البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. روى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن إسماعيل بن أمية بن عمرو القرشي، عن موسى بن عمران، عن أبان بن عثمان. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬4): ثنا بشر بن خالد، قال: ثنا سعيد بن مسلمة، قال: ثنا إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، عن أبان، عن عثمان: "أنه رأى جنازة مقبلة، فلما رآها قام لها قائمًا، ثم أخبر أنه رأى رسول الله - عليه السلام - يفعله". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 64 رقم 457). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند" أحمد، ويحيى بن سليم هو: الطائفي، ووقع في "الناسخ والمنسوخ" لابن شاهين: "يحيى بن سليمان"، وهو تحريف. (¬3) "الناسخ والمنسوخ" (1/ 295 رقم 334). (¬4) "مسند البزار" (2/ 21 رقم 359).

وأخرجه عبد الله بن أحمد (¬1) قال: حدثني الحكم بن موسى أبو صالح، نا سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن أمية، عن موسى بن عمران بن منَّاح، عن أبان بن عثمان: "أنه رأى جنازة مقبلة، فلما رآها قام وقال: رأيت عثمان يفعل ذلك، وأخبرني أنه رأى النبي - عليه السلام - يفعله". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، أن النبي - عليه السلام -: "إذا رأيتم الجنازة فقدموا لها حتى توضع أو تخلفكم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال لي رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيت جنازة فقم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبر في ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقدموا لها حتى توضع أو تخلفكم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن ¬

_ (¬1) "زوائد عبد الله على مسند أحمد" (1/ 68 رقم 495).

عمر بن الخطاب، عن عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك أبي عبد الله العدوي، من المهاجرين الأول، أسلم قبل عمر - رضي الله عنه - وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام -، روى عنه جماعة كثيرون منهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرج حديثه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن علي بن عبد الله، عن سفيان ... إلى آخره، نحوه ولفظه: "إذا رأيتم الجنازة فقدموا حتى تخلفكم -زاد الحميدي- أو توضع". ومسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وابن نمير، جمعيهم عن سفيان ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن مسدد، عن سفيان ... إلى آخره، نحوه. والترمذي (¬4): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة ... إلى آخره، نحوه. وعن (¬5) قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، عن النبي - عليه السلام -. والنسائي (¬6): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر، عن ربيعة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأى أحدكم الجنازة فلم يكن ماشيًا معها، فليقم حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 440 رقم 1245). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 659 رقم 958). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 203 رقم 3172). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 360 رقم 1042). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 360 رقم 1041). (¬6) "المجتبى" (4/ 44 رقم 1915).

وعن (¬1) قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة العدوي، عن رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره، نحو رواية البخاري. وابن ماجه (¬2): عن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبي - عليه السلام -. وعن هشام بن عمار، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر ابن ربيعة سمعه، يحدث، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع". الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو: إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أزهر بن سعد أبي بكر السمان الباهلي البصري، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عامر بن ربيعة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، نا معلى بن أسد العمي، نا محمد بن دينار، ثنا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيت الجنازة فقم حتى تجاوزك". الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن حسين بن مهدي بن مالك شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام صاحب "المصنف"، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 44 رقم 1916). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 492 رقم 1542). (¬3) وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 445 رقم 15712) من طريق يزيد بن هارون، عن ابن عون، به مطولًا.

وأخرجه أحمد في مسنده (¬1): ثنا عبد الرزاق، نا معمر، ثنا الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حتى تخلفه أو توضع". الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه نحوه وقد ذكرناه (¬2). قوله: "حتى توضع أو تخلفكم" هذا كما رأيت روي بألفاظ مختلفة ففي رواية البخاري وغيره: "حتى تخلفكم أو توضع" وفي رواية النسائي: "حتى تخلفه أو توضع" وفي رواية للبخاري: "حتى تخلفكم" فقط. وقال عياض: وفي لفظ: "حتى تخلف أو توضع" ثم معنى قوله: "حتى توضع" أي على الأرض من أعناق الرجال، وقيل: حتى توضع في اللحد. قوله: "أو تخلفكم" أي أو تترككم وتتأخر عنكم، من قولك: خَلَّفْت فلانًا ورائي فَتَخَلَّف عني، أي تأخر، وهو بتشديد اللام، وأما خَلَفْت بتخفيف اللام فمعناه صرت خليفة عنه، تقول: خلفت الرجل في أهله إذا أقمت بعده فيهم وقمت عنه بما كان يفعله، وأخلف الله لك خلفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا أي أبدلك بما ذهب منك وعوضك عنه، والخَلَف بتحريك اللام والسكون كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر، يقال: خَلَفَ صدق وخَلْف سوء، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} (¬3) ثم الأمر في الحديث قيل: للندب والاستحباب، وإليه ذهب ابن حزم فقال في "المحلى": يستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء وإن كانت جنازة كافر حتي توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 445 رقم 15720). (¬2) تقدم. (¬3) سورة مريم، آية: [59].

وهو قول جماعة من الفقهاء. وقيل: الأمر للوجوب، وأن القيام للجنازة إذا مرت واجب. وقيل: كان واجبًا ثم نسخ على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: ما الحكمة في ذلك؟ قلت: الحكمة فيه تعظيم الميت، فإن ابن آدم مكرم محترم حيًا وميتًا ولا سيما في هذه الحالة؛ فإنه آخر العهد به، هذا إذا كان مسلمًا، وأما إذا كان كافرًا فإما أن يكون لأجل الملائكة، أو فرارًا من السخط النازل عليه، أو لأجل الموعظة والتذكر بالموت، والله أعلم. ص: حدثنا يزيد بن سنان ومبشر بن الحسن، قالا: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه قال: "سأل رجل رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله - عليه السلام -، تمر بنا جنازة الكافر أفنقوم لها؟ قال: نعم؛ فإنكم لستم تقومون لها إنما نقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس". ش: إسناده حسن، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقرئ شيخ البخاري، وسعيد بن أبي أيوب مقلاص الخزاعي أبو يحيى المصري، روى له الجماعة، وربيعة بن سيف بن ماتع المعافري الصنمي الإسكندراني، قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: مصري صالح. روى له أبو داود والترمذي والنسائي، والمعافري -بفتح الميم وكسر الفاء نسبة إلى المعافر بن يعفر، قبيل ينسب إليه كثير عامتهم بمصر. وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي المعافري المصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سعيد بن أبي أيوب، عن ربيعة بن سيف إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2). وقال الحكم (¬3): صحيح الإسناد. قوله: "أفنقوم لها" الهمزة فيه للاستفهام، أي أفنقوم لجنازة الكافر؟ قوله: "إعظامًا" نصب على التعليل؛ أي لأجل التعظيم. قوله: "للذي يقبض النفوس" أي الأرواح. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: "قعد سهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة بالقادسية، فمُرَّ عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنه من أهل الأرض -أي مجوسي- فقالا: إن رسول الله - عليه السلام - مُرَّ عليه بجنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليس ميتًا؟! أوَليس نفسًا؟! ". ش: هذان طريقان صحيحة: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 27 رقم 6673). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 168 رقم 6573). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 509 رقم 1320). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 441 رقم 1250).

بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -أي من أهل الذمة- فقالا: إن النبي - عليه السلام - مرت به جنازة يهودي، فقال: أليست نفسًا". وأخرجه النسائي (¬1): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة، عن عمرو ابن مرة ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا غندر، عن شعبة. وثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة ... إلى آخره نحوه. قوله: "بالقادسية" هي موضع بأرض الكوفة كانت بها حرب المسلمين مع الفرس سنة أربع عشرة من الهجرة، وكان أمير المسلمين سعد بن أبي وقاص، وكانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وكان أمير الفرس رستم من قبل يزدجرد الملك في مائة وعشرين ألفا تتبعها ثمانون ألفًا، وكانت وقعة عظيمة لم تكن بالعراق وقعة أعجب منها، وقتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمائة، ومن الكفار أكثر من ثمانين ألفًا. قوله: "فمر عليهما" أي على سهل بن حنيف وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف هو والد أبي أمامة بن سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم المدني، أخو عثمان بن حنيف، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام -، ومات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة وصلى عليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكبر ستًّا. وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم له ولأبيه صحبة، توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وكان قيس بن سعد من النبي - عليه السلام - بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 45 رقم 1921). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 661 رقم 961).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "قام رسول الله - عليه السلام - ومن معه لجنازة حتى توارت". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: "بينما نحن مع رسول الله - عليه السلام - إذ مرت عليه جنازة فقمنا لنحملها، فإذا جنازة يهودي أو يهودية فقلنا: يا نبي الله، إنها جنازة يهودي أو يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم. الجنازة فقدموا". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى ... فدكر بإسناده مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة: فيه مقال. عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابزا يقول: "قام النبي - عليه السلام - لجنازة مرت به حتى توارت". وفي لفظ له: "قام النبي - عليه السلام - وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت" أي حتى غابت. الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي أي عمرو القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 661 رقم 960).

الطائي، عن عبيد الله بن مقسم القرشي المدني مولى ابن أبي نمر، عن جابر بن عبد الله. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حجر، قال: ثنا إسماعيل، عن هشام. وأنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: "مرت بنا جنازة، فقام رسول الله - عليه السلام - وقمنا معه، فقلت: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي أو يهودية فقال: إن للموت فزعًا فإذا رأيتم الجنازة فقوموا". الثالث: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا معاذ بن فضالة، ثنا هشام، عن يحيى، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: "مرت بنا جنازة فقام لها النبي - عليه السلام - وقمنا له، فقلنا: يا رسول الله - عليه السلام -، إنها جنازة يهودي، قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا". الرابع: مثله صحيح، عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني [سريج] (¬4) بن يونس وعلي بن حجر، قالا: نا إسماعيل وهو ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 45 رقم 1922). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 441 رقم 1249). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 660 رقم 960). (¬4) في "الأصل، ك": "شريح"، وهو تصحيف، والمثبت من "صحيح" مسلم، ومصادر ترجمته.

عبيد لله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: "مرت جنازة فقام لها رسول الله - عليه السلام - وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله - عليه السلام -، إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا". الخامس: كذلك صحيح: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، نحوه. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مؤمل بن الفضل، ثنا الوليد، ثنا أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد الله بن مقسم، قال: حدثني جابر قال: "كنا مع النبي - عليه السلام - إذ مرت جنازة فقام لها، فلما ذهبنا لنحمل إذا هي جنازة يهودي، فقلنا: يا رسول الله، إنما هي جنازة يهودي، فقال: إن الموت فزع فإذا رأيتم جنازة فقوموا". قوله: "بينما نحن" قد ذكرنا في غير مرة أن أصل "بينما" بين، فزيدت فيه الألف لإشباع الفتحة فصار "بينا" ثم زيدت فيه "الميم" فصار "بينما"، بينا وبينما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى الجملة ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا كما في هذا الموضع؛ لأن قوله: "إذ مرت" جواب لقوله: "بينما". قوله: "فإذا جنازة يهودي" كلمة "إذا" ها هنا للمفاجأة، وقوله: "جنازة يهودي" كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: فإذا جنازة يهودي كانت، كما في قولك: خرجت فإذا السبع، أي واقف، ويجوز أن يكون مرفوعًا على الخبرية ويكون المبتدأ محذوفًا تقديره: فإذا هي جنازة يهودي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 204 رقم 3174).

قوله: "إن الموت فزع" أي خوف، ومعناه: مخوف، جعل الموت نفس الفزع للمبالغة، أو التقدير: إن الموت ذو فزع، وعلل ها هنا القيام للجنازة يكون الموت فزعًا، فحينئذ يكون القيام لأجل الفزع من الموت وعظمة هوله، والجنازة تذكر ذلك فتستوي فيه جنازة المسلم والكافر. فافهم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن النبي، عن أبي سعيد الخدري قال: "مُرَّ على مروان بجنازة فلم يقم، فقال أبو سعيد: إن رسول الله - عليه السلام - مرت عليه جنازة فقام، قال: فقام مروان". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعدن حتى توضع". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى (ح) وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: ثنا أبو سعيد، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر -واسمه سعيد- ابن يُحْمد الثوري الكوفي روى له الجماعة سوى الترمذي، والسفر- بفتح السين المهملة، وفتح الفاء، ويُحْمِد- بضم الياء آخر الحروف، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم. وهو يروي عن عامر النبي، عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وهب بن جرير، نا شعبة ... إلى آخره، نحوه سواء. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير ... إلى آخره، ولفظه: "إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتلى توضع". وكذا لفظ في داود (¬3): عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن سهيل. ولفظ أحمد في "مسنده" كلفظ الطحاوي. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا مسلم -يعني: ابن إبراهيم- ثنا هشام، ثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع". الرابع: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي سعيد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 47 رقم 11455). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 660 رقم 959). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 203 رقم 3173). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 441 رقم 1248).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، نا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". الخامس: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني سريج بن يونس وعلي بن حجر، قالا: ثنا إسماعيل -وهو ابن علية- عن هشام الدستوائي. وثنا محمد بن المثنى -واللفظ له- قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". وأخرجه الترمذي، (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا صلى أحدكم على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع". ش: إسناده صحيح، والوهبي هو أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي، وثقه أبو زرعة ويحيى، وروى عنه البخاري في غير "الصحيح". وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني ثقة، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 660 رقم 959). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 360 رقم 1043). (¬3) "المجتبى" (4/ 44 رقم 1917)، "المجتبى" (4/ 77 رقم 1998).

وسعيد بن مرجانة هو سعيد بن عبد الله القرشي أبو عثمان الحجازي، ومرجانة أمه، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، لكن أبو داود في "المراسيل". ولما روى أبو داود (¬1) حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام -: "إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع". قال: روى الثوري هذا الحديث عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "حتى توضع بالأرض" ورواه أبو معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "حتى توضع في اللحد" ثم قال: وسفيان أحفظ من أبي معاوية. ص: فذهب قوم إلى هذه الآثار فاتبعوها وجعلوها أصلًا وقلدوها، وأمروا من مرت به جنازة أن يقوم لها حتى تتوارى عنه، ومن مشى معها أن لا يقعد حتى توضع. ش: أراد بالقوم هؤلاء: المسور بن مخرمة وقتادة ومحمد بن سيرين والشعبي والنخعي وإسحاق بن إبراهيم وعمرو بن ميمون؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار وهي أحاديث عثمان بن عفان وعامر بن ربيعة وعبد الله بن عمرو بن العاص وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهم - ولم يروها منسوخة، وقالوا: من مرت به جنازة يقوم لها، ومن مشى معها لا يقعد حتى توضع عن أعناق الناس. قال أبو عمر في "التمهيد": جاءت آثار صحاح ثابتة توجب القيام للجنازة، وقال بها جماعة من السلف والخلف ورأوها غير منسوخة، وقالوا: لا يجلس من اتبع الجنازة حتى توضع عن أعناق الرجال، منهم: الحسن بن علي وأبو هريرة والمسور بن مخرمة وابن عمر، وابن الزبير وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري، والنخعي والشعبي وابن سيرين، وذهب إلى ذلك الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وبه قال محمد بن الحسن، وجاءت أيضًا آثار صحاح ناسخة لذلك، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومالك والشافعي. انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 203 رقم 3173).

وقال الحازمي: اختلف أهل العلم في هذا؛ فقال بعضهم: على الجالس أن يقوم إذا رأى الجنازة، وممن رأى ذلك: أبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وقيس بن سعد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله. وقال أحمد بن حنبل: إن قام لم أَعِبْهُ، وإن قعد فلا بأس. وبه قال إسحاق بن إبراهيم وزعم صاحب "المهذب" أنه مخير بين القيام والقعود، وفي شرحه: قال جماعة: يكره القيام إذا لم يرد المشي معها. وبه قال أبو حنيفة، وقال صاحب "التتمة": يستحب القيام، وحديث علي - رضي الله عنه - مبين للجواز، وقال القرطبي: فأما القيام على القبر حتى يقبر فكرهه قوم، وعمل به آخرون، روي ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، وأمر به عمرو بن العاص. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس على من مرت به جنازة أن يقوم لها، ولمن تبعها أن يجلس وإن لم توضع. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود ونافع بن جبير وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: ليس على الذي مرت به جنازة أن يقوم لها، وللذي تبعها أن يجلس وإن لم توضع. وهو قول عطاء بن أبي رباح ومجاهد وأبي إسحاق، ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة؛ قاله الحازمي، وقال عياض: ومنهم من ذهب إلى التوسعة والتخيير وليس بشيء، وهو قول أحمد وإسحاق، وقاله ابن حبيب المالكي وابن ماجشون من المالكية. ص: وقالوا: أما قيام النبي - عليه السلام - لجنازة اليهودي في الحديث الذي رواه قيس بن سعد وسهل بن حنيف؛ فإن ذلك لم يكن من النبي - عليه السلام - لأن من حكم الجنائز أن يقام لها، ولكن كان لمعنى غير ذلك، وذكروا في ذلك ما حدثنا

ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن علي بن حسين، يحدث عن الحسن وابن عباسر - رضي الله عنهم - أو عن أحدهما: "أن رسول الله - عليه السلام - مرت به جنازة يهودي فقام، فقال: آذاني ريحها". فدل هذا الحديث على أن قيامه كان لما آذاه ريحها ليتباعد عنه لا لغير ذلك، وأما ما روي من قيامه لجنازة المسلم فإنما كان ليصلي عليها. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن: "أن العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي - رضي الله عنهم - مرت بهما جنازة، فقام العباس ولم يقم الحسن، فقال العباس للحسن: أما علمت أن رسول الله - عليه السلام - مرت عليه جنازة فقام؟ فقال: نعم. وقال الحسن للعباس: أما علمت أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي عليها؟ قال: نعم". فدل هذا الحديث أن قيام رسول الله - عليه السلام - ذلك إنما كان ليصلي عليها، لا لأن من سنتها أن يقام لها، وأما ما ذكر من أمر رسول الله - عليه السلام - من القيام للجنازة ومن ترك القعود إذا تبعت حتى توضع؛ فإن ذلك قد كان ثم نُسِخ. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "قام رسول الله - عليه السلام - مع الجنازة حتى توضع، وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود". حدثنا يونس وبحر، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، أن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثه عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن نافع، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -، مثله. حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، عن محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جُبير، عن مسعود بن الحكم، أنه قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس".

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، عن موسى بن عقبة، عن إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن أبيه قال: "شهدت جنازة بالعراق فرأينا رجالًا قيامًا ينتظرون أن توضع، ورأيت بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشير إليهم أن اجلسوا؛ فإن النبي - عليه السلام - قد أمر بالجلوس بعد القيام". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علي - رضي الله عنه - قال: "رأينا رسول الله - عليه السلام - قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا". فثبت بما ذكرناأن القيام للجنازة قد كان ثم نسخ. ش: لما كان المذكور في الأحاديث السابقة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى ثلاثة أشياء: أحدها: قيام النبي - عليه السلام - لجنازة اليهودي. والثاني: قيامه لجنازة السلم. والثالث: أمره - عليه السلام - بالقيام للجنازة وترك القعود إذا تبعت حتى توضع. وخالف هذه كلها أهل المقالة الثانية؛ أجابوا عنها واحدًا واحدًا، وقالوا: أما قيام النبي - عليه السلام - لجنازة اليهودي فلم يكن لكون أن من حكم الجنائز أن يقام لها البتة، وإنما كان ذلك لمعنى مذكور في حديث الحسن بن علي وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -. أخرجه بإسناد صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن علي بن الحسين أبي جعفر الباقر، عن الحسن بن علي وعبد الله بن عباس- أو عن أحدهما: "أن رسول الله - عليه السلام - مرت به جنازة يهودي فقام، فقال: آذاني ريحها".

وأخرجه ابن شاهين أيضًا (¬1). فدل هذا أن قيامه لجنازة اليهودي كان لأجل أن ريحها آذاه فقام ليتباعد عنه، ولم يكن قيامه لها لغير ذلك المعنى، هذا الذي ذكره الطحاوي عنهم، وفي نفسي منه شيء؛ وذلك لأن النبي - عليه السلام - علل القيام لها بقوله: "أليس ميتًا أَوَلَيْسَ نفسًا" فالذي يظهر منه أن العلة للقيام لها هي كونه نفسًا، مع قطع النظر عن كونها مجوسيًّا أو مسلمًا، وذلك كما علل القيام أيضًا في حديث جابر بن عبد الله بقوله: "إن الموت فزع" فالذي يظهر منه أن العلة للقيام لها: هي كون الموت فزعًا وخوفًا، فهذا أيضًا معنى يرجع إلى غير الميت، ويستوي في ذلك المسلم وغيره. وقالوا: أما قيامه - عليه السلام - لجنازة المسلم فلم يكن إلا ليصلي عليها لا لأن من سنتها القيام لها. واحتجوا على ذلك بما أخرجه بإسناد رجاله ثقات: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة روى له الجماعة، عن قتادة، عن الحسن البصري: "أن العباس والحسن ابن علي - رضي الله عنهم - ... " والحسن البصري لم يدرك عباسًا، ورأى عليًّا ولم يسمع منه، وقال ابن حبان: خرج الحسن من المدينة ليالي صفين ولم يلق عليًّا. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬2) وفي روايته: عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس والحسن بن علي - رضي الله عنهم -، وقال: ثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمد، عن الحسن بن علي وابن عباس: "أنهما رأيا جنازة فقام أحدهما وقعد الآخر، فقال الذي قام للذي لم يقم: ألم يقم رسول الله - عليه السلام -؟ قال: بلى، ثم قعد". وكذا رواية أحمد في مسنده (¬3): ثنا عفان، ثنا يزيد -يعني ابن إبراهيم- وهو التستري، نا محمد قال: "نبئت أن جنازةً مرت على الحسن بن علي وابن عباس ¬

_ (¬1) "الناسخ والمنسوخ" (1/ 300 رقم 344). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 40 رقم 11921). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 200 رقم 1726).

- رضي الله عنهم -، فقام الحسن وقعد ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: ألم تر أن النبي - عليه السلام - مرت به جنازة فقام؟ فقال ابن عباس: بلى وقد جلس، فلم ينكر الحسن ما قال ابن عباس - رضي الله عنهم -". وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا. وقالوا: أما ما ذكر من أمر النبي - عليه السلام - من القيام للجنازة، ومن ترك القعود إذا تبعت حتى توضع، فإنه منسوخ؛ قد كان رسول الله - عليه السلام - يفعل ذلك ثم تركه. قال أبو عمر: قال الشافعي: القيام لها منسوخ. وقال ابن شاهين: لما جاءت الأخبار التي يخبر فيها علة القيام، والأخبار التي فيها النهي عنه ثبت أن القيام منسوخ. وقال ابن عبد البر: جاءت آثار صحاح ثابتة توجب القيام للجنازة، وجاءت أيضًا آثار صحاح ناسخة لذلك. ومن جملة الأحاديث الناسخة حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن واقد بن عمرو بن سعد المدني من رجال مسلم، عن نافع بن جبير بن مطعم المدني روى له الجماعة، عن مسعود بن الحكم بن الربيع الأنصاري الزرقي المدني ولد على عهد النبي - عليه السلام - روى له الجماعة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري. فقال مسلم (¬2): حدثني محمد بن مثنى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعًا، عن الثقفي -قال ابن المثنى: حدثنا عبد الوهاب- قال: سمعت يحيى بن سعيد ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 47 رقم 1926). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 662 رقم 962).

قال: أخبرني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري، أن نافع بن جبير أخبره، أن مسعود بن الحكم الأنصاري أخبره، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول في شأن الجنائز: "إن رسول الله - عليه السلام - قام ثم قعد". وقال أبو داود (¬1): حدثنا القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا، ومتنه: "أن رسول الله - عليه السلام - قام في الجنائز ثم قعد". وقال الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن يحيى بن سعيد ... إلى آخره ولفظه: عن علي بن أبي طالب: "أنه ذكر القيام في الجنائز حتى توضع، قال علي: قام رسول الله - عليه السلام - ثم قعد". قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن صحيح وفيه رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض. وقال: النسائي (¬3): أنا محمد بن منصور، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر قال: "كنا عند علي - رضي الله عنه - فمرت به جنازة فقاموا لها، فقال علي - رضي الله عنه -: ما هذا؟ قالوا: أمر أبي موسى، فقال: إنما قام النبي - عليه السلام - لجنازة يهودية، ولم يعد بعد ذلك. وقال ابن ماجه (¬4): ثنا علي بن محمد، نا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب قال: "قام رسول الله - عليه السلام - لجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا". الثابْ: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا وبحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، كلاهما عن عبد الله بن وهب المصري، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن واقد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 204 رقم 3175). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 361 رقم 1044). (¬3) "المجتبى" (4/ 46 رقم 1923). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 493 رقم 1544).

وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث ابن وهب، أنا أسامة بن زيد، أن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثه عن واقد بن عمرو، عن نافع، عن مسعود، عن علي - رضي الله عنه -: "قام رسول الله - عليه السلام - مع الجنائز حتى توضع، وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك اليوم، وأمرهم بالقعود". الثالث: عن يونس أيضًا، عن أنس بن عياض بن ضمرة الليثي المدني شيخ الشافعي، عن محمد بن عمرو ... إلى آخره. وأخرجه العدني "مسنده" نحوه. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن إسماعيل بن مسعود بن الحكم، عن أبيه مسعود ... إلى آخره. ورجاله ثقات، وإسماعيل هذا وثقه ابن حبان. وأخرجه البزار في مسنده (¬2): ولكن في روايته يوسف بن مسعود بن الحكم عوض إسماعيل، فقال: ثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا أبو مصعب، عن موسى بن عقبة، عن يوسف بن مسعود بن الحكم، عن أبيه: "أنه شهد جنازة بالكوفة مع علي - رضي الله عنه -، فمر علي بالناس وهم قيام، فأشار إليهم أن اجلسوا؛ فإن رسول الله - عليه السلام -أحسبه- قد كان يقوم ثم قعد". وقد روى هذا الحديث ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن يوسف بن مسعود بن الحكم، عن أبيه، عن علي، عن النبي - عليه السلام -. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 27 رقم 6677). (¬2) "مسند البزار" (3/ 123 رقم 909).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) نحوه وقد ذكرناه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، قال: قال علي - رضي الله عنه -: "قام رسول الله - عليه السلام - للجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا". ص: فقال قوم: إنما نسخ ذلك لخلاف أهل الكتاب، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا بشر بن رافع، عن عبد الله بن سليمان، عن أبيه، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ذكر النبي - عليه السلام - قال: "كان النبي - عليه السلام - إذا اتبع جنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد، قال: فعرض للنبي - عليه السلام - حبر من أحبار اليهود، فقال: يا محمد هكذا نفعل، قال: فجلس النبي - عليه السلام - وقال: خالفوهم". ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وليث بن أبي سليم وأبا معمر وآخرين؛ فإنهم قالوا: نسخ القيام للجنازة إنما كان لأجل مخالفة أهل الكتاب والدليل عليه: حديث عبادة بن الصامت؛ وذلك لأنه - عليه السلام - كان إذا اتبع جنازة لا يجلس حتى توضع في اللحد، فلما قال له ذلك الحبر من اليهود: هكذا نفعل. جلس النبي - عليه السلام - حينئذ وقال: خالفوهم. فعلم من ذلك أن النسخ إنما كان لأجل مخالفتهم. ثم إنه أخرج حديث عبادة بن الصامت، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن صفوان بن عيسى القرشي الزهري أبي محمد البصري القسَّام شيخ أحمد روى له الجماعة -البخاري مستشهدًا- عن بشر بن رافع النجراني -بالنون والجيم- أبي الأسباط الحارثي إمام أهل نجران ومفتيهم، فيه مقال؛ فقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف، منكر الحديث، لا يروى له حديث قائم. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث، لا بأس بأخباره، ولم أجد له حديثًا منكرًا، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 493 رقم 1544). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 40 رقم 11926).

عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية الأزدي الدوسي، قال البخاري: في حديثه نظر لا يتابع على حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له هؤلاء الثلاثة. عن أبيه سليمان بن جنادة قال أبو حاتم: منكر الحديث. روى له هؤلاء الثلاثة. عن جده جنادة بن أبي أمية الأزدي الصحابي، عن عبادة بن الصامت. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا هشام بن بهرام المدائني، أنا حاتم بن إسماعيل، أنا أبو الأسباط الحارثي، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية، عن أبيه، عن جده، عن عبادة بن الصامت قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي - عليه السلام - وقال: اجلسوا، خالفوهم". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا محمد بن بشار، قال: نا صفوان بن عيسى، عن بشر بن رافع، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية، عن أبيه، عن جده، عن عبادة بن الصامت قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله - عليه السلام - وقال: خالفوهم". وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا محمد بن بشار وعقبة بن مكرم، قالا: ثنا صفوان بن عيسى، ثنا بشر بن رافع ... إلي آخره نحو رواية الترمذي. وقال الترمذي: حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث. وقال أبو بكر الهمداني: هذا الحديث ضعيف، ولو صح لكان صريحًا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت، فلا يقاوم هذا الإسناد. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 204 رقم 3176). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 340 رقم 1020). (¬3) "سنن ابن ماجه" (11/ 493 رقم 1545).

ص: وليس هذا الحديث عندنا يدل على ما ذهبوا إليه؛ لأن رسول الله - عليه السلام - قد روي عنه ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يَسدلُ شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان رسول الله - عليه السلام - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله - عليه السلام -". حدثنا محمد بن عُزَيْز الأيلي، قال: ثنا سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبيد الله ... فذكر بإسناده مثله. فأخبر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - كان يتبع أهل الكتاب حتى يؤمر بخلاف ذلك، فاستحال أن يكون ما أمر به من القعود في حديث عبادة هو لخلاف أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك؛ لأن حكمه - عليه السلام - أن يكون على شريعة النبي - عليه السلام - الذي كان قبله حتى تحدث له شريعة تنسخ ما تقدمها، قال الله -عز وجل-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، ولكنه ترك ذلك عندنا -والله أعلم- حين أحدث الله له شريعة في ذلك وهو القعود، نسخ ما قبلها وهو القيام. ش: رد الطحاوي ما ذهب إليه أولئك القوم واستدلالهم فيه بحديث عبادة بن الصامت المذكور، بيانه: أنه ورد في حديث ابن عباس أنه - عليه السلام - كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم أمر فيه بشيء، وكان يتبعهم إلى أن يؤمر بخلافه، فمن المستحيل أن يكون ما أمر به النبي - عليه السلام - من القعود في حديث عبادة لأجل مخالفته أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك؛ فإنه - عليه السلام - كان حكمه أن يكون على شريعة النبي - عليه السلام - الذي كان قبله إلى أن يبعث الله شريعة تنسخ ذلك، وكيف وقد أمره الله - عليه السلام - أن بهدى الذين هداهم الله من قبله من الأنبياء عليهم السلام كما قال -عز وجل- في كتابه الكريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1) فظهر من ذلك أن ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: (90).

تركه - عليه السلام - القيام وأمره إياهم بالقعود؛ لأجل ما أحدث الله له من شريعة -وهو القعود- بنسخ ما قبله- وهو القيام. ثم اعلم أن أهل الأصول اختلفوا في شرائع من قبلنا، فمنهم من قال: ما كان شريعة لنبي فهو باق أبدًا حتى يقوم دليل النسخ فيه، وكل من يأتي فعليه أن يعمل به على أنه شريعة ذلك النبي ما لم يظهر ناسخه. وقال بعضهم: شريعة كل نبي تنتهي ببعث نبي آخر بعده، حتى لا يعمل به إلا أن يقوم الدليل على بقائه، وذلك ببيان من النبي المبعوث بعده. وقال بعضهم: شرائع من قبلنا يلزمنا العمل بها على أن ذلك شريعة لنبينا - عليه السلام - فيما لم يظهر دليل النسخ فيه، ولا يفصلون بين ما يصير معلومًا من شرائع من قبلنا بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب، وبين ما يثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة. وقال شمس الأئمة: وأصحُّ الأقاويل عندنا أن ما ثبت بكتاب الله أنه كان شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله - عليه السلام - فإن علينا العمل به على أنه شريعة لنبينا ما لم يظهر ناسخه، فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين من كتبهم فإنه لا يجب اتباعه؛ لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب فلا يعتبر نقلهم في ذلك لتوهم أن المنقول من جملة ما حرفوا، ولا يعتبر فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتاب؛ لجواز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وأبدلوا. ثم إنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن عُزَيْز -بضم العين وبزائين معجمتين- وسلامة بن روح بن خالد وهما أيضًا ثقتان. ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم، والثاني يونس بن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعُقَيْل -بضم العين- ابن خالد الأيلي.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أحمد بن يونس، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: "كان النبي - عليه السلام - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، فسدل النبي - عليه السلام - ناصيته، ثم فرق بعد". ومسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد قال: أخبرني ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬4): أنا محمد بن مسلمة، ثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. قوله: "كان يسدل شعره" من السدل وهو الإرخاء والإرسال، وفي "المطالع" وهو إرسال الشعر على الوجه من غير تفريق، وكذلك السدل في الصلاة إرخاء الثوب على المنكبين إلى الأرض دون أن يضم جوانبه. قال الجوهري: سدل ثوبه يَسْدُلُهُ -بالضم- سدلًا أي أرخاه، وشعر مُنْسَدِلٌ. قوله: "ثم فرق" من فَرَقْت الشعر أَفْرُقُه فَرْقًا، وانفرق شعره إذا زال عن الاجتمال، وإن لم يفترق كان وفرة، قال الجوهري: فَرَقْتُ بين الشيئين أَفْرُقُ فَرقًا وفُرْقانًا، وفَرَّقْت الشيء تَفْرِيقًا وتَفْرِقة فانفرق وافترق وتَفَرَّق، والمَفْرِق: وسط الرأس، وهو الموضع الذي يُفْرَق فيه الشعر، وكذلك مفرق الطريق. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2213 رقم 5573). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1818 رقم 2336). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 82 رقم 4188). (¬4) "المجتبى" (8/ 184 رقم 5238).

وفي "المطالع": وكانوا يَفْرِقُون- بالتخفيف أشهر، وقد شدها بعضهم، والمصدر الفَرْق -بالسكون- وقد انفرق شعره انقسم في مقرقه، وهو وسط رأسه، وأصله الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان فرق الشعر من الجبين ببن دائرة وسط الرأس، يقال: بفتح الراء والميم وكسرهما، وكذلك مفرق الطريق. ص: وقد روي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة قال: "كنا قعودًا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ننتظر جنازة فمُرَّ بجنازة أخرى فقمنا، فقال: ما هذا القيام؟ فقلت: ما تأتونا به يا أصحاب محمد! قال أبو موسى - رضي الله عنه - قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتم جنازة مسلم أو يهودي أو نصراني فقوموا؛ فإنكم لستم لها تقومون، إنما تقومون لمن معها من الملائكة. فقال علي - رضي الله عنه -: إنما صنع ذلك رسول الله - عليه السلام - مرة واحدة، كان يتشبه بأهل الكتاب في الشيء، فإذا نُهي عنه تركه". فأخبر علي - رضي الله عنه - في هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - إنما كان قام في بدء أمره على التشبه منه بأهل الكتاب وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء عليهم السلام حتى أحدث له خلاف ذلك -وهو القعود- فثبت بذلك ما صرفنا إليه وجه حديث عبادة - رضي الله عنه -. ش: أراد بهذا المذهب الذي ذهب إليه بقوله: "وليس هذا الحديث عندنا ما يدل على ما ذهبوا إليه ... إلى آخره" وذلك لأنه ذكر فيه أن حكم النبي - عليه السلام - أن يكون على شريعة النبي - عليه السلام - الذي قبله حتى تُحْدَث له شريعة تنسخ ذلك، وقد أيد ذلك بما روي عن علي - رضي الله عنه -، فإنه أخبر في حديثه هذا أنه - عليه السلام - إنما كان يقوم للجنازة في ابتداء الأمر موافقة لأهل الكتاب فيه وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء عليهم السلام حتى أحدث الله تعالى له خلاف ذلك -وهو القعود- وترك القيام للجنازة، فكان القيام ثم القعود لهذا المعنى دون ما ذكره أولئك القوم بأنه نسخ القيام لخلاف

أهل الكتاب، فصح بذلك ما أوله في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، فصار ما روي عن علي - رضي الله عنه - شاهدًا له. فافهم. ثم إسناده حديث علي - رضي الله عنه - صحيح، ومسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، وعبد الواحد بن زياد العبدي البصري روى له الجماعة، وليث بن أبي سليم القرشي أبو بكر الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة- البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بغيره، وابن سخبرة وهو عبد الله بن سخبرة الكوفي أبو معمر روى له الجماعة. والحديث أخرجه الحازمي: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن، ثنا أبو بكر الطبري، ثنا يحيى بن محمد البصري، ثنا أبو حذيفة، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي معمر قال: "مرت بنا جنازة فقمت، فقال علي - رضي الله عنه -: من أفتاك بهذا؟ قلت: أبو موسى الأشعري، فقال علي - رضي الله عنه -: ما فعله رسول الله - عليه السلام - إلا مرة، فلما نسخ ذلك ونهي عنه انتهى. ورواه أبو عاصم، عن الثوري بالإسناد وقال فيه: "قام رسول الله - عليه السلام - مرة ثم نهي عنه". وحديث أبي موسى الأشعري أخرجه الحكم (¬1): من حديث ابن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي موسى، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا مرت بكم جنازة إن كان مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا فقوموا لها؛ فإنه ليس يقام لها ولكن يقام لمن معها من الملائكة". ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن زيد بن وهب قال: "تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علي - رضي الله عنه - فقال أبو مسعود: قد كنا نقوم، فقال علي - رضي الله عنه -: ذلك وأنتم يهود". ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "مسنده" (4/ 391 رقم 19509)، والطيالسي في "مسنده" (1/ 71 رقم 528).

فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على شريعتهم، ثم نسخ ذاك شريعة الإسلام فيه، وقد ثبت بما وصفنا في هذا الباب أيضًا نسخ ما رويناه في أوله من الآثار، عن رسول الله - عليه السلام - في القيام للجنازة بالآثار التي رويناها بعد ذلك. ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لما قاله من أن نسخ القيام للجنازة إنما كان برفع شريعة الإِسلام إياه لا لأجل المخالفة لأهل الكتاب، وهو ظاهر؛ دل عليه حديث علي - رضي الله عنه - أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عثمان بن أبي زرعة -وهو عثمان بن المغيرة- الكوفي روى له الجماعة سوى مسلم، عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي - عليه السلام - فقبض وهو في الطريق روى له الجماعة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن [يزيد] (¬2)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كنا مع علي - رضي الله عنه -، فمرت علينا جنازة، فقام رجل، فقال علي - رضي الله عنه -: ما هذا؟! كان هذا من صنيع اليهود". قوله: "وقد ثبت بما وصفنا ... إلى آخره" أشار بذلك إلى أن الأحاديث التي رواها في أول الباب نسخت بالأحاديث التي رواها بعد ذلك. ص: وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني أنس بن عياض، عن أنيس بن أبي يحيى، قال: سمعت أبي يقول: "كان ابن عمر وأصحاب النبي - عليه السلام - يجلسون قبل أن توضع الجنازة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 40 رقم 11920). (¬2) في "الأصل، ك": "زيد"، وهو تحريف، والمثبت من المصنف، ويزيد هذا هو ابن أبي زياد القرشي أبو عبد الرحمن الكوفي، يروي عن ابن أبي ليلى، ويروي عنه محمد بن فضيل بن غزوان. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال".

فهذا ابن عمر قد كان يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك فدل تركه لذلك إلى ما كان يفعل على ثبوت نسخ ما حدثه عامر بن ربيعة. حدثنا يونس أيضًا، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه: "أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها إذا رأوها، ويقولون: في أهلك ما أنت، في أهلك ما أنت". فهذه عائشة تنكر القيام لها أصلًا، وتخبر أن ذلك كان من أفعال أهل الجاهلية وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله يذهبون في كل ما ذكرنا في هذا الباب إلى ما قد بينا نسخه لما قد خالفه، وبه نأخذ. ش: ذكر هذا تأييدًا لما ذكره من انتساخ حكم القيام للجنازة، وانتساخ الأحاديث التي دلت على ذلك، وذكر شيئين: أحدهما: أن عبد الله بن عمر كان يجلس قبل أن توضع الجنازة. أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن أنيس بن أبي يحيى سمعان الأسلمي المدني وثقه يحيى والنسائي والحاكم، عن أبيه أبي يحيى سمعان بن يحيى الأسلمي المدني وفقه ابن حبان وروى له الأربعة. وأبو يحيى هذا أخبر عن ابن عمر أنه كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، والحال أن ابن عمر قد روى عن عامر بن ربيعة عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك، فدل تركه لما رواه إلى ما كان فعله من تركه القيام قبل وضع الجنازة على ثبوت انتساخ ما حدث به عن عامر، عن النبي - عليه السلام -؛ لأن الراوي لا يجوز له أن يعمل بخلاف ما روى إلا بعد ثبوت النسخ عنده.

والآخر: أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - كان يجلس قبل أن توضع الجنازة ولا يقوم لها، وكان يخبر عن عمته عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنكر القيام للجنازة أصلًا وتقول: إن ذلك كان من أفعال الجاهلية. فدل هذا أيضًا على ثبوت النسخ؛ إذ لو لم يثبت ذلك عند القاسم لما خالف ذلك، ولو لم يثبت عن عائشة أيضًا لما أنكرته، والله أعلم. ثم إسناد أبو القاسم صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البيقهي في "سننه" (¬1): من حديث عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن القاسم: "أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ويجلس قبل أن توضع، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها إذا رأوها، ويقولون: في أهلك ما أنت، في أهلك ما أنت". قوله: "وكان أبو حنيفة ... إلى آخره" فيه أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه انتساخ القيام للجنازة وقبل وضعها عن أعناق الرجال، وأنه لا يستحب القيام لها، ولا يكره الجلوس قبل وضعها، وقد ذكر في كتب الحنفية: ويكره الجلوس قبل وضعها عن أعناق الرجال. وبين الكلامين مخالفة ولكن القول ما قاله الطحاوي؛ لأنه الأعلم بمذاهب العلماء. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 28 رقم 6683).

ص: باب: الرجل يصلي على الميت أين ينبغي أن يقوم منه؟

ص: باب: الرجل يصلي على الميت أين ينبغي أن يقوم منه؟ ش: أي هذا باب في بيان الصلاة على الجنازة إذا صلاها الرجل، في أي موضع من الميت ينبغي أن يقوم فيه؟. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا عبد الوارث بن سعيد، عن حسين بن ذكوان، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، عن سمرة بن جندب قال: "صليت خلف النبي - عليه السلام - على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله - عليه السلام - للصلاة عليها وسطها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا حسين المعلم ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان ورجالهما رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة وابن مرزوق، ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ الشيخين. والحديث أخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عمران بن ميسرة، عن عبد الوارث، عن حسين، عن ابن بريدة، حدثنا سمرة بن جندب قال: "صليت وراء النبي - عليه السلام - على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها". وعن (¬2) مسدد، عن يزيد بن زريع عن حسين به. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 447 رقم 1267). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 447 رقم 1266). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 664 رقم 964).

وأبو داود (¬1): عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن حسين أن ... إلى آخره نحو رواية البخاري. والترمذي (¬2): عن علي بن حجر، عن عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى، عن الحسين المعلم ... إلى آخره نحوه. والنسائي (¬3): عن علي بن حجر ... إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬4): عن علي بن محمد، عن أبي أسامة، عن الحسين ... إلى آخره نحوه. قوله: "وهي نفساء" جملة اسمية وقعت حالًا، والنفساء -بضم النون وفتح الفاء وبالمد- قال الجوهري: النفاس ولادة المرأة إذا وضعت فهي [نفساء وعشراء] (¬5) ويجمع على نفساوات وعشروات، وامرأتان نفساوان. انتهى. وعن ثعلب: النفساء الوالدة والحامل والحائض. وقال ابن سيده: والجمع من كل ذلك نَفْسَاوات ونِفاس ونُفَاس ونُفَّاس ونُفَّس ونُفَس ونُفُس ونُفْس. قلت: نِفاس بكسر النون، ونُفاس بضمها وتخفيف الفاء فيهما، ونُفَّاس بالضم والتشديد، ونُفَّس كذلك، ونُفَس كذلك إلا أن الفاء مخففة، ونُفُس بضمتين والتخفيف، ونُفْس بضم النون وسكون الفاء. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 209 رقم 3195). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 353 رقم 1035). (¬3) "المجتبى" (4/ 72 رقم 1979). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 479 رقم 1493). (¬5) كذا بالأصل، ولعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله. والذي في "الصحاح": النفاس ولادة المرأة إذا وضعت فهي نفساء، ونسوة نفاس، وليس في الكلام فُعلاء يجمع على فِعال غير نفساء وعشراء، ويجمع أيضًا على نفساوات ... إلخ.

قوله: "وَسْطها" قال عياض: كذا ضبطناه عن أبي يحيى وغيره بسكون السين، وكذا ضبطه الجياني، وأما ابن دينار فقد قال: وَسْط الدار ووَسَطها معًا. وقال النووي: هو بسكون السين. وذكر ابن قرقول عن بعضهم فتحها. قلت: قد ذكرنا أن الوسيط بالسكون يقال في ما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، فعل هذا ينبغي أن يكون وَسَطها ها هنا بالفتح، ويقال: كل منهما يقع موقع الآخر، فعلى هذا يجوز فيه الفتح والسكون. وفيه من الفوائد: أن يقوم الإِمام بحذاء وسط الميت مطلقًا، ومشروعية الجماعة في صلاة الجنازة، واستدل به بعضهم على أن النفساء لها حكم الطهارة، وأن الدم الموجود بها لا يوجب نجاستها، ومن ذلك قال السفاقسي وابن بطال: قصد البخاري في الباب -يعني باب الصلاة على النفساء الذي ذكر البخاري فيه هذا الحديث- أن النفساء وإن كانت لا تصلي فهي طاهر، لها حكم غيرها من النساء ممن ليست نفساء؛ لأنه - عليه السلام - لما صلى عليها أوجب لها حكم الطهارة، وليس كون الدم موجودًا بها يوجب أن تكون نجسة، وهذا يرد على من زعم أن الآدمي ينجس بموته؛ لأن هذه النفساء أجمعت الموت وحمل النجاسة بالدم اللازم لها، فلما صلى - عليه السلام - عليها، وأبان سنته فيها كان الميت الطاهر الذي لا تسيل منه نجاسة أصلى بإيقاع اسم الطهارة عليه، وقال القرطبي: تأول بعضهم صلاة النبي - عليه السلام - على أم كعب وسط جنازتها من أجل جنينها حتى يكون أمامه. ص: فذهب قوم إلي هذا فقالوا: هذا هو المقام الذي ينبغي للمصلي على الجنازة أن يقومه من المرأة ومن الرجل. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وأبا حنيفة في رواية وأحمد في رواية والحسن البصري في قول؛ فإنهم قالوا: ينبغي للمصلي على الجنازة أن يقوم حذاء وسطها سواء كان رجلًا أو امرأة.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: أما المرأة فهكذا يقوم للصلاة عليها، وأما الرجل عند رأسه. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعي في قول، وأحمد في رواية، وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يقوم من المرأة حذاء وسطها، ومن الرجل عند رأسه. وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في أن السنة أن يقوم الإِمام في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة، وعند صدر الرجل أو عند منكبيه، وإن وقف في غير هذا الموضع خالف سنة الوقف وأجزأه، وهذا قول إسحاق، ونحوه قول الشافعي، إلا أن بعض أصحابه قال: يقوم عند رأس الرجل. وهو مذهب أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يقوم عند صدر الرجل والمرأة (¬1)؛ لأنه يروى مثل هذا عن ابن مسعود، ويقف من المرأة عند منكبيها؛ لأن الوقوف عند أعاليها أمثل وأسلم. وقال عياض: ذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث أعني حديث سمرة بن جندب في القيام وسط الجنازة ذكرًا كانت أو أنثى، قال أبو هريرة في المرأة: لأنه يسترها عن الناس. وقيل: كان هذا قبل اتخاذ الأنعشة والقباب وهو قول النخعي وأبي حنيفة. وقال آخرون: هذا حكم المرأة، وأما الرجل فعند رأسه لئلا ينظر إلى فرجه، وأما المرأة فمستورة في النعش، وهو قول أبي يوسف وابن حنبل، وروى ابن غانم عن مالك نحوه في المرأة، وسكت عن الرجل، وقال ابن مسعود بعكس هذا في المرأة والرجل، وذكر عن الحسن التوسعة في كل ذلك، وقال به أشهب وابن شعبان من أصحابنا، وقال أصحاب الرأي: يقوم فيهما حذاء الصدر. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المغني" (2/ 390): لأنهما سواء، فإنما وقف عند صدر الرجل فكذا المرأة، وقال مالك: يقف من الرجل عند وسطه؛ لأنه يروى مثل هذا عن ابن مسعود ... إلخ.

وقال ابن حزم في "المحلى": ويقف من الرجل عند رأسه، ومن المرأة في وسطها. وبهذا يأخذ الشافعي وأحمد وداود وأصحاب الحديث، وقال أبو حنيفة ومالك بخلاف هذا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا همام، قال: ثنا أبو غالب قال: "رأيت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه، وجيء بجنازة امرأة فقام عند وسطها، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يفعل؟ قال: نعم. فالتفت إلينا العلاء بن زياد فقال: احفظوا". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام ... فذكر بإسناده مثله، وزاد فقال العلاء بن زياد: "يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يقوم من المرأة حيث قمت ومن الرجل حيث قمت؟ قال: نعم". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي غالب، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فبين أنس - رضي الله عنه - في هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - كان يقوم من الرجل عند رأسه، ومن المرأة وسطها، على ما في حديث سمرة، فوافق حديث سمرة في حكم القيام من المرأة في الصلاة عليها كيف هي، وزاد عليه حكم الرجل في القيام منه للصلاة عليه، فهو أولى من حديث سمرة - رضي الله عنه -. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبو إليه بحديث أنس - رضي الله عنه -؛ لأنه بين في حديثه أن النبي - عليه السلام - كان يقوم من الرجل عند رأسه ومن المرأة وسطها؛ فاتفق حديثه مع حديث سمرة بن جندب المذكور فيما مضى في حكم القيام في الصلاة على الجنازة إذا كانت امرأة، وزاد عليه -يعني حديث أنس زاد على حديث سمرة- حكم الرجل في القيام في الصلاة عليه فالأخذ به أولى، لزيادته.

ثم انه أخرج حديث أنس - رضي الله عنه - من ثلاث طرق حسان جياد: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي البصري المقرئ النحوي روى له الجماعة سوى البخاري، لكن الترمذي في "الشمائل". عن همام بن يحيى العوذي البصري روى له الجماعة، عن أبي غالب البصري ويقال: الأصبهاني صاحب أبي إمامة، اختلف في اسمه، فقيل: حزور، وقيل: سعيد بن الحزور، وقيل: نافع، فعن يحيى: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الترمذي في بعض أحاديثه: هذا حديث حسن، وفي بعضها: هذا حديث صحيح. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ثقة. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه الترمذي (¬1): نا عبد الله بن منير، عن سعيد بن عامر، عن همام، عن أبي غالب قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة، صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم. فلما فرغ قال: احفظوا". قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن نصر بن علي الجهضمي، عن سعيد بن عامر، عن همام ... إلى آخره. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن همام بن يحيى ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 352 رقم 1034). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 479 رقم 1494).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا همام، نا أبو غالب قال: "شهدت أنسًا صلى على رجل فقام عند رأس السرير، ثم أتي بامرأة من قريش فصلى عليها فقام قريبًا من وسط السرير، وكان فيمن حضر جنازته العلاء بن زياد العدوي، فلما رأى اختلاف قيامه قال: يا أبا حمزة، أهكذا كان رسول الله - عليه السلام - يقوم من المرأة والرجل كما قمت؟ قال: نعم. فأقبل علينا العلاء وقال: أحفظوا". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من طريق الطيالسي. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي صاحب "المسند" الثقة الكبير، عن عبد الوارث ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3) مطولًا: ثنا داود بن معاذ، نا عبد الوارث، عن نافع، عن أبي غالب قال: "كنت في سكة المربد فمرت جنازة معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على بُرَيْذِينه على رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا الدهقان؟ قالوا: هذا أنس بن مالك، فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات، لم يطل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فقربوها و [معها] (¬4) نعش أخضر، فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله - عليه السلام - يصلي على الجنائز كصلاتك، يكبر عليها أربعًا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 286 رقم 2149). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 33 رقم 6713). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 208 رقم 3194). (¬4) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن" أبي داود: "عليها".

قوله: "فقال له العلاء بن زياد" وهو العلاء بن زياد بن مطر العدوي أبو نصر البصري الزاهد العابد، ذكره ابن حبان في التابعين الثقات، له ذكر في البخاري في تفسير {حم} المؤمن (¬1) وفي "سنن" أبي داود في الجنائز، وروى له النسائي وابن ماجه. قوله: "في سكة المِرْبَد" بكسر الميم: أي في طريق المربد وهو موضع بيع الإبل بالبصرة، والمربد أيضًا موضع يوضع فيه التمر إذا جدَّ لييبس كالجرين وأصله من الإقامة واللزوم، يقال: ربد بالمكان: أقام به. قوله: "على برذينه" تصغير برذون وهو الفرس العجمي. قوله: "الدهقان" بكسر الدال وضمها، وهي معربة فارسية وهو زعيم فلاحي العجم ورئيس الإقليم، سموا بذلك من الدهقنة والدهمقة وهي تليين الطعام لترفههم وسعة عيشهم، والمعروف الدهقنة بالنون. ص: وقد قال بهذا القول أبو يوسف فيما حدثني ابن أبي عمران، قال: حدثني محمد بن شجاع، عن الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف. وأما قوله المشهور في ذلك فمثل قول أبي حنيفة ومحمد. حدثني به محمد بن العباس، قال: ثنا علي بن معبد، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر، ولم يذكر محمد بين أبي حنيفة وأبي يوسف في ذلك خلاف. ش: أشار به إلى قول أهل المقالة الثانية، وهو أن يقوم عند رأس الرجل وعند وسط المرأة، روى ذلك الطحاوي، عن أحمد بين أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن محمد بن شجاع البغدادي أبي عبد الله بن الثلجي -بالثاء المثلثة- من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي، وقد تكلم فيه بما لا يليق فيه وما يردُّه زهده وعبادته المشهورة، عن الحسن بن أبي مالك الفقيه الحنفي. ¬

_ (¬1) هي سورة غافر.

قوله: "وأما قوله المشهور" أي قول أبي يوسف المشهور "في ذلك" أي في حكم القيام في صلاة الجنازة في أي موضع ينبغي أن يكون منها فمثل قول أبي حنيفة ومحمد، روي ذلك عن محمد بن عباس بن الربيع أبي جعفر الغبري البصري الفقيه، عن علي بن معبد بن شداد العبدي أبي الحسن الكوفي الرقي من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف يعقوب، عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمهم الله، وقول أبي حنيفة ومحمد فيه: أن يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر هو مذهب الشعبي وعطاء بن أبي رباح. قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا عباد بن العوام، عن الشيباني، عن الشعبي قال: "يقوم الذي يصلي على الجنازة عند صدرها". ثنا (¬2) حسين بن علي، عن زائدة، عن سفيان، عن ليث، عن عطاء قال: "إذا صلى الرجل على الجنازة قام عند الصدر". وقال شمس الأئمة في "مبسوطه": وأحسن مواقف الإمام من الميت في الصلاة عليه بحذاء الصدر، وإن وقف في غيره أجزأه؛ لأن أشرف أعضاء البدن الصدر فإنه موضع العلم والحكمة، وهو أبعد من الأذى، فالوقوف عنده أولى، والصدر موضع نور الإيمان، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬3) الآية، وإنما يصلى عليه لإيمانه، فيختار الوقوف حذاء الصدر، والصدر هو الوسط في الحقيقة فإن فوقه رأس ويدان وتحته بطن ورجلان. وقال صاحب "الهداية": ويقوم الذي يصلي على الرجل والمرأة بحذاء الصدر؛ لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان، فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 6 رقم 11547). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 3 رقم 11551). (¬3) سورة الزمر، آية: [22].

وعن أبي حنيفة: أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه، ومن المرأة بحذاء وسطها؛ لأن أنسًا - رضي الله عنه - فعل كذلك، وقال: هو السنة، قلنا تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة فحال بينها وبينهم. قلت: الذي ذكره أولًا هو ظاهر المذهب وفي قوله: "إن جنازتها لم تكن منعوشة" نظر، والظاهر أنه غير صحيح لما ذكرنا عن أبي داود في حديث أنس: "ومعها نعش أخضر" وقد مر عن قريب. ص: وقد روى في ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي، ما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "يقوم الرجل الذي يصلي على الجنازة عند صدرها". قال أبو جعفر -رحمه الله-: والقول الأول أحب إلينا لما قد شده من الآثار التيم رويناها عن رسول الله - عليه السلام -. ش: أي وقد روي في الحكم المذكور أيضًا عن إبراهيم النخعي ما قد حدثنا ... إلى آخره. وإسناده صحيح، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن شريك ... إلى آخره نحوه. قوله: "والقول الأول" أراد به قول أبي يوسف الذي رواه عنه الحسن بن أبي مالك، وأشار به إلى أنه اختياره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 6 رقم 11552).

ص: باب: الصلاة على الجنائز هل ينبغي أن تكون في المساجد أم لا؟

ص: باب: الصلاة على الجنائز هل ينبغي أن تكون في المساجد أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الصلاة على الجنازة هل هي مكروهة في المساجد أم لا؟ ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا محمد بن إسماعيل، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن عائشة - رضي الله عنها - حين توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: لقد صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن البيضاء في المسجد". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن أبي النضر، عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - بذلك. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير: "أن عائشة - رضي الله عنها - أمرت بسعد بن أبي وقاص أن يمر به في المسجد ... " ثم ذكر مثل حديثه عن يعقوب. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح على شرط مسلم: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة، شيخ البخاري في غير "الصحيح" وثقه ابن حبان ويحيى في رواية، وقال البخاري: لم نَرَ إلا خيرًا، هو في الأصل صدوق. عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني روى له الجماعة، عن الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام القرشي الحزامي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي المدني

مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري. فقال مسلم (¬1): حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع، قالا: نا ابن أبي فديك، قال: أنا الضحاك يعني ابن عثمان، عن أبي النضر ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "لقد صلى رسول الله - عليه السلام - على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه". وقال أبو داود (¬2): نا سعيد بن منصور، ثنا فليح بن سليمان، عن صالح بن عجلان ومحمد بن عبد الله بن عباد، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: "والله ما صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد". ثنا (¬3) هارون بن عبد الله، نا ابن أبي فديك ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وقال الترمذي (¬4): ثنا علي بن حجر، قال: أبنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: "صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن بيضاء في المسجد". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وقال النسائي (¬5): أنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر، قالا: نا عبد العزيز ... إلى آخره نحو رواية الترمذي، إلا أن في لفظه: "ما صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 669 رقم 973). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 207 رقم 3189). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 207 رقم 3190). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 351 رقم 1033). (¬5) "المجتبى" (4/ 68 رقم 1967).

وقال ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا يونس بن محمد، نا فليح بن سليمان، عن صالح بن عجلان، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: "والله ما صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن أبي النضر سالم بن أبي أمية، عن عائشة. وهذا منقطع. وأخرجه مالك في موطئه (¬2): عن أبي النضر، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام -: "أنها أمرت أن يُمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر ذلك الناس عليها، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد". قال أبو عمر: هكذا هذا الحديث عند جمهور الرواة منقطعًا. ورواه حماد بن خالد الخياط، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: "ما أسرع الناس إلى النسيّ! ما صلى رسول الله - عليه السلام - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد". فانفرد بذلك، عن مالك. قلت: إنما قال: عند جمهور الرواة منقطعًا؛ لأن أبا النضر لم يسمع من عائشة شيئًا قال ابن وضَّاح: ولا أدركها، وإنما يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عنها، قال: وكذلك أسنده مسلم وغمز عليه الدارقطني، قال: ولا يصح إلا مرسلًا عن أبي النضر عن عائشة؛ لأنه قد خالف في ذلك رجلان حافظان: مالك والماجشون، روياه عن أبي النضر عن عائشة - رضي الله عنها -. الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه وصاحب "المسند"، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 486 رقم 1518). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 229 رقم 540).

عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، عن عمه عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح متصل وأخرجه الأربعة من حديث عباد بن عبد الله كما ذكرناه. قوله: "حين توفي سعد بن أبي وقاص" كانت وفاته في المشهور في سنة خمس وخمسين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ابن ثلاث وثمانين، وكان موته في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم، وهو آخر العشرة المبشرة بالجنة وفاةً، وأبو وقاص اسمه مالك بن أهيب ويقال: وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، يلتقي مع رسول الله - عليه السلام - في كلاب بن مرة، أسلم سعد قديمًا وهاجر إلى المدينة قبل النبي - عليه السلام -، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام -، وكان يقال له: فارس الإِسلام، وهو أول من رمى في سبيل الله، وكان مجاب الدعوة، وهو الذي كوَّف الكوفة، ونفى الأعاجم، وتولى قتال فارس، أمَّره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفتح الله على يديه أكثر فارس. قوله: "ادخلوا به" بضم الهمزة من دخل يدخل، وعدي بالباء، والمعنى: أدخلوه المسجد. قوله: "سهيل بن البيضاء" وهي أمه، واسم أبيه وهب بن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهو بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي الفهري، واسم أمه البيضاء دعد بنت الجحدم بن أمية بن ضبة بن الحارث بن فهر، وهو أخو سهل وصفوان ابني البيضاء، يُعرفون بأمهم، وسهل ممن أظهر إسلامه بمكة، وهو الذي مشي إلى النفر الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبها مشركوا مكة على بني هاشم، وتوفي سهيل وأخوه سهل بالمدينة في حياة النبي - عليه السلام -، وصلى عليهما في المسجد وقيل: إن سهلًا عاش بعد النبي - عليه السلام - ولم يعقبا قاله ابن إسحاق.

وروى ابن مندة بإسناده عن ابن إسحاق قال: كان موضع المسجد لغلامين يتيمين سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة. وقال ابن الأثير: ظن ابن مندة أن ابني البيضاء هما الغلامان اليتيمان اللذان كان لها موضع المسجد، وإنما كانا من الأنصار، وأما ابنا بيضاء فهما من بني فهو كما ذكرناه، وإنما دخل الوهم عليه حيث لم ينسبه إلى أب ولا قبيلة، فلو نسبه لعلم الصواب. ص: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا بأس بالصلاة على الجنائز في المساجد. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد. واحتجوا بالحديث المذكور. وقال أبو عمر: رواه المدنيون، عن مالك، وقاله ابن حبيب من أصحابنا وحكاه عن شيوخه المدنيين وقاله القاضي إذا احتيج إلى ذلك. وقال أبو عمر أيضًا: وروى ابن القاسم، عن مالك قال: وإن صلى عليها عند باب المسجد وتضايق الناس وتزاحموا فلا بأس أن تكون بعض الصفوف في المسجد، وقد قال في كتاب الاعتكاف من "المدونة" في صلاة المعتكف على الجنازة في المسجد ما يدل على أنه معروف عنده الصلاة على الجنازة في المسجد، وأجاز أبو يوسف ذلك، وقال الشافعي وأصحابه وأحمد: لا بأس أن يُصلى على الجنازة في المسجد من ضيق ومن غير ضيق، على كل حال. وهو قول عامة أهل الحديث. وقال ابن حزم في "المحلى": وإدخال الموتى في المساجد والصلاة عليهم فيها حسن كله، وأفضل مكان صلي فيه على الميت في داخل المساجد، وهو قول الشافعي وأبي سليمان.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر - رضي الله عنه - صلي عليه في المسجد". ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر، أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن يحيى بن أبي عمر المدني، عن عبد العزيز الدراوردي .. إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل بن دكين، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر صلي عليه في المسجد". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا الصلاة على الجنازة في المساجد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ذئب وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف في قول ومحمدًا؛ فإنهم كرهوا الصلاة على الجنازة في المساجد، ثم اختلف أصحابنا فقيل: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة (ح) حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن محمد، قال: ثنا معن بن عيسى، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه من طريقين: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 44 رقم 11969).

المدني، عن صالح بن نبهان مولى التوءمة بنت أميّة بن خلف الجمحي المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء [له] (¬2) ". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي المدني، عن محمد بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن صالح بن أبي صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمد، نا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من صلى على جنازة في المسجد فليس له شيء". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوءمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من صلى على جنازة في المسجد فلا [صلاة] (¬5) له، قال: وكان أصحاب رسول الله - عليه السلام - إذا تضايق المكان رجعوا ولم يصلوا". فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: رجاله كلهم ثقات، غير أنهم طعنوا فيه بسبب صالح مولى التوءمة وقالوا: إنه ضعيف، ولما روى ابن عدي هذا الحديث في "الكامل" عده من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 207 رقم 3191). (¬2) كذا في "الأصل، ك" وفي "السنن": "عليه". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 485 رقم 1517). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 44 رقم 11972). (¬5) كذا في "الأصل، ك": صلاة، والذي في "المصنف": "شيء" وهو الموافق للروايات السابقة.

منكرات صالح، ثم أسند إلى شعبة أنه كان لا يروي عنه وينهى عنه. وإلى مالك أنه قال: لا تأخذوا عنه شيئًا؛ فإنه ليس بثقة. وإلى النسائي أنه قال فيه: ضعيف. وأسند عن ابن معين أنه قال فيه: ثقة، لكنه اختلط قبل موته، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة. وقال البيهقي: وفي سنده صالح مولى التوءمة مختلف في عدالته، كان مالك يجرحه. هذا ما ذكروا ولكنه لا يتمشى؛ لأن صاحب "الكمال" ذكر عن ابن معين أنه قال: صالح ثقة حجة. قيل: إن مالكًا ترك السماع منه، قال: إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف، والثوري إنما أدركه بعدما خرف فسمع منه أحاديث منكرات، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت، وقال العجلي: صالح ثقة وقال ابن عدي: لا بأس به إذا سمعوا منه قديمًا مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم، ولا أعرف له قبل الاختلاط حديثًا منكرًا إذا روى عنه ثقة، وقال أحمد بن حنبل: ما أعلم بأسًا ممن سمع منه قديمًا. فثبت بهذا أن هذا الحديث صحيح؛ لأنهم كلهم اتفقوا أن صالحًا ثقة قبل اختلاطه، وإنما تكلموا فيه لأجل اختلاطه، ولا اختلاف في عدالته، وأن ابن أبي ذئب سمع منه هذا الحديث قديمًا قبل اختلاطه، فصار الحديث حجة. فإن قيل: قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": اختلط صالح بآخر عمره ولم يتميز حديثه، حديثه من قديمه، فاستحق الترك. ثم ذكر له هذا الحديث وقال: إنه باطل. وكيف يقول رسول الله - عليه السلام - ذلك وقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد؟! وقال النووي: أجيب عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة، وهو ضعيف.

والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة في "سنن" أبي داود: "فلا شيء عليه"، فلا حجة فيه. الثالث: أن "اللام" فيه بمعنى "على" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬1) أي فعليها جمعًا بين الأحاديث. قلت: أما قول ابن حبان: إنه باطل؛ كلام باطل؛ لأن مثل أبي داود أخرج هذا الحديث وسكت عنه، فأقل الأمر منه أنه يدل على حسنه عنده، وأنه رضي به. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه (¬2) وغيرهم فتشنيعه كله بسبب اختلاط صالح، وقد ذكرنا أنهم كلهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط، وأن من أخذ منه قبل الاختلاط فهو صحيح. وقالوا أيضًا: إن ابن أبي ذئب أخذ عنه قديمًا قبل اختلاطه، فكيف يكون باطلًا؟! وكيف يسوغ التلفظ بمثل هذا الكلام لإبراز التعصب؟! والعجب منه أنه يقول: وكيف يقول رسول الله - عليه السلام - ذلك وقد صلى على سهيل؟! فكأنه نسي باب النسخ، ومثل هذا كثير قد فعل رسول الله - عليه السلام - شيئًا ثم تركه أو نهى عنه. والجواب عن قول النووي: أما قوله: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ إن كان مراده أنه ضعيف قبل الاختلاط فلا نسلم ذلك؛ لما ذكرنا أنهم مجمعون على عدالته وعلى ثقته قبل الاختلاط، وإن كان مراده بعد الاختلاط فمسلم ولكن لا يضرنا ذلك؛ لما قلنا: إن ابن أبي ذئب أخذ منه قبل الاختلاط. وأما قوله: إن النسخة الصحيحة: "فلا شيء عليه" مجرد دعوى فلا تقبل إلا ببرهان، ويرده أيضًا قول الخطيب: المحفوظ: "فلا شيء له". وأما قوله: إن اللام فيه بمعنى على عدول عن الحقيقة من غير ضرورة ولا سيما على أصلهم: أن المجاز ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة ها هنا، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [7]. (¬2) تقدم ذكره.

ويرد ذلك أيضًا رواية ابن أبي شيبة (¬1): "فلا صلاة له" فإنه لا يمكن له أن يقول ها هنا اللام بمعنى على لفساد المعنى. فافهم. فثبت مما ذكرنا أن الأخذ بهذا الحديث أول، من الأخذ بحديث عائشة؛ لأن الناس عابوا ذلك عليها وأنكروه، وجعله بعضهم بدعة، فلولا اشتهار ذلك عندهم لما فعلوه، ولا يكون ذلك إلا لأصل عندهم؛ لأنه يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة على حديث عائشة، ولم يحفظ عن النبي - عليه السلام - أنه صلى في المسجد على غير ابن البيضاء، ولما نعى النجاشي إلى الناس خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه، ولم يصل عليه في المسجد مع غيبته فالميت الحاضر أولى أن لا يصلى عليه في المسجد. والله أعلم. ص: فلما اختلفت الروايات عن رسول الله - عليه السلام - في هذا الباب، فكان فيما روينا في الفصل الأول إباحة الصلاة على الجنائز في المساجد، وفيما روينا في الفصل الثاني كراهة ذلك؛ احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر منه فنجعله ناسخًا لما تقدم من ذلك، فلما كان حديث عائشة فيه دليل على أنهم قد كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه، حتى ارتفع ذلك من فعلهم وذهبت معرفة ذلك من عامتهم، فلم يكن ذلك عندها لكراهة حدثت، ولكن كان ذلك عندها؛ لأن لهم أن يصلوا في المسجد على جنائزهم ولهم أن يصلوا عليها في غيره، فلا تكون صلاتهم في غيره دليلًا على كراهة الصلاة فيه، كما لم تكن صلاتهم فيه دليلًا على كراهة الصلاة في غيره. فقالت بعد رسول - عليه السلام - يوم مات سعد - رضي الله عنه - ما قالت لذلك، وأنكر ذلك عليها الناس وهم أصحاب رسول الله - عليه السلام - ومن تبعهم، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - قد علم من رسول الله - عليه السلام - نسخ الصلاة عليهم في المسجد بقول رسول الله - عليه السلام - الذي سمعه منه في ذلك، وأن ذلك الترك الذي كان من رسول الله - عليه السلام - للصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كان يفعلها فيه ترك نسخ، فذلك أولى من حديث ¬

_ (¬1) تقدم.

عائشة؛ لأن حديث عائشة إخبارٌ عن فعل رسول الله - عليه السلام - في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله - عليه السلام - الذي قد تقدمته الإباحة، فصار حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة؛ لأنه ناسخ له، وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة -وهم يومئذ أصحاب رسول الله - عليه السلام -- دليل على أنهم قد كانوا علموا في ذلك خلاف ما علمت ولولا ذلك لما أنكروا ذلك عليها، وهذا الذي ذكرنا من النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد وكراهتها، قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضًا، غير أن أصحاب الإملاء رووا عن أبي يوسف في ذلك أنه قال: إذا كان مسجدٌ قد أفرد للصلاة على الجنازة فلا بأس بأن يصلى على الجنائز فيه. ش: تلخيص هذا الكلام: أن بين حديث أبي هريرة هذا وبين حديث عائشة المذكور في أول الباب اختلافًا وتضادًا من حيث الظاهر، والطريق فيه الكشف عن المتأخر من المتقدم ليجعل المتأخر ناسخًا للمتقدم، وحديث عائشة - رضي الله عنها - يدل على أنهم كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تصلى فيه؛ إذ لو لم تكن مفعولة في الابتداء، لما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لقد صلى رسول الله - عليه السلام - على ابني بيضاء في المسجد". ولو كان فعلها مستمر إلى آخر الوقت لما أنكر الناس عليها؛ لأنهم لو لم يعلموا في ذلك خلاف ما قالت عائشة - رضي الله عنها - لما أنكروا ذلك عليها، وهم أصحاب رسول الله - عليه السلام -، فإذا كان كذلك يكون حديث أبي هريرة أولى من حديث عائشة؛ لأنه ناسخ له؛ لأن حديث عائشة إخبار عن فعله - عليه السلام - في حالة الإباحة التي لم يتقدمها شيء، وحديث أبي هريرة يخبر عن النهي الوارد على تلك الإباحة؛ فهذا عين النسخ. فإذا قيل: من أي قبيل يكون هذا النسخ؟ قلت: من قبيل النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبًا للحظر والآخر موجبًا للإباحة، ففي مثل هذا يتعين المصير إلى النص الموجب

للحظر، وإلى الأخذ به؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والحظر طارئ عليها، فيكون متأخرًا. فإن قيل: لم لا تجعل الموجب للإباحة متأخرًا؟ قلت: لأنه لو جعل كذلك لاحتيج إلى إثبات نسخين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة. والله أعلم. فإن قيل: ليس بين الحديثين مساواة؛ لأن حديث عائشة أخرجه مسلم (¬1) في "صحيحه" وحديث أبي هريرة قد ضعفوه بصالح مولى التوءمة فلا يحتاج على هذا التوفيق؛ لأن التوفيق بين النصين المتعارضين إنما يطلب إذا كان بينهما مساواة كما عرف. قلت: قد بينت لك صحة حديث أبي هريرة بالوجوه المذكورة، ولا يلزم من ترك مسلم تخريجه أن لا يكون صحيحًا؛ لأن الشيخين لم يلتزما إخراج كل ما صح عن رسول الله - عليه السلام -، ولئن سلمنا أن حديث أبي هريرة لا يسلم عن كلام، فكذلك حديثه عائشة لا يخلو عن كلام؛ فإن جماعة من الحفاظ مثل الدارقطني وغيره عابوا على مسلم تخريجه إياه مسندًا؛ لأن الصحيح أنه مرسل كما رواه مالك والماجشون، عن أبي النضر، عن عائشة مرسلًا، والمرسل ليس بحجة عند الخصم، وقد أوّل بعضهم حديث عائشة بأنه - عليه السلام - إنما صلى في المسجد بعذر المطر، وقيل: بعذر الاعتكاف، وعلى كل التقدير الصلاة على الجنازة خارج المسجد أولى وأفضل؛ لأنه إذا صلاها خارج المسجد يجوز بلا خلاف من غير كراهة، وإذا صلاها في المسجد ففيه الخلاف، فإتيان المتفق عليه أولى -بل أوجب- لا سيما في باب العبادات. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "تقدم".

ص: باب: التكبير على الجنازة كم هو؟

ص: باب: التكبير على الجنازة كم هو؟ ش: أي هذا باب في بيان التكبيرات على الجنازة كم هي؟. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: "كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا فيكبر أربعًا، فكبر يومًا خمسًا، فسئل عن ذلك، فقال أبو بكرة في حديثه: فقال كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا، وقال: ابن مرزوق في حديثه فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يكبرها أو كبرها". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس، قال: ثنا عبد الأعلى: "أنه صلى خلف زيد بن أرقم على جنازة، فكبر خمسًا، فسأله عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال: أنسيت؟ قال: لا، ولكن صليت خلف أبي القاسم خليلي - عليه السلام - فكبر خمسًا، فلا أتركه أبدًا". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن مثنى وابن بشار، قالوا: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة- وقال أبو بكر: عن شعبة- عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعًا، وأنه كبر على جنازة خمسًا فسألته فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يكبرها". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 659 رقم 957).

الثاني: كذلك صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو الوليد الطيالسي، نا شعبة. ونا ابن المثنى، نا محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: "كان زيد يعني ابن أرقم يكبر على جنائزنا أربعًا، وأنه كبر على جنازة خمسًا فسألته، فقال: كان رسول الله - عليه السلام - يكبرها". وأخرجه الترمذي، (¬2) وابن ماجه (¬3). الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الأعلى ابن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة- فيه مقال، ضعفه أحمد وأبو زرعة، وروى له الأربعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال: "صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمسًا، فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال: أنسيت؟ قال: لا، ولكني صليت خلف أبي القاسم خليلي - عليه السلام - فكبر خمسًا، فلا أتركها أبدًا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن يحيى بن عبد الله التيمي، قال: "صليت مع عيسى مولى حذيفة بن اليمان على جنازة فكبر عليها خمسًا، ثم التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت، ولكني كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي -يعني حذيفة بن اليمان- صلى على جنازة فكبر ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 210 رقم 3197). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 343 رقم 1023). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 482 رقم 1505). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 370 رقم 19319).

عليها خمسًا ثم التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت، ولكني كبرت كما كبر رسول الله - عليه السلام -". ش: عيسى بن إبراهيم بن سيار الشعيري أبو إسحاق البصري شيخ أبي داود، قال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان. وعبد العزيز بن مسلم القسملي أبو زيد المروزي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، ويحيى بن عبد الله بن الجابر ويقال: المُجَبِّر التيمي قال أبو داود: كوفي ضعيف. وعيسى البزاز مولى حذيفة بن اليمان وثقه ابن حبان. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، نا محمد بن علي الوراق، ثنا أبو غسان، نا جعفر الأحمر، عن يحيى التيمي، عن عيسى مولى حذيفة قال: "صليت خلف مولاي وولي نعمتي العبد الصالح حذيفة بن اليمان على جنازة فكبر خمسًا، ثم قال: ما وهمت ولكني كبرت كما كبر خليل أبو القاسم - عليه السلام -". قوله: "ما وهمت" أي ما غلطت، من وَهِمْتُ في الحساب -بالكسر- أَوْهمُ وهمًا إذا غلطت فيه وسهوت، وَوَهَمْتُ في الشيء -بالفتح- أَهِمُ وهمًا إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، وتَوَهَّمْتُ أي ظننت. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن التكبير على الجنائز خمس، واحتجوا في ذلك بهده الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الرحمن بن أبي ليلى وعيسى مولى حذيفة وأصحاب معاذ بن جبل وأبا يوسف من أصحاب أبي حنيفة؛ فإنهم قالوا: تكبيرات الجنازة خمس، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وإليه ذهبت الظاهرية والشيعة، قال ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 73 رقم 9).

في "المبسوط": وهي رواية عن أبي يوسف، وقال الحازمي: وممن رأى التكبير على الجنازة خمسًا ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وعيسى مولى، حذيفة وأصحاب معاذ بن جبل، وقالت فرقة: يكبر سبعًا، روي ذلك عن زر بن حبيش، وقالت فرقة: يكبر ثلاثا، روي ذلك عن أنس وجابر بن زيد، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس. وقال ابن حزم في "المحلى": "ويكبر الإمام، والمأمومون بتكبير الإِمام على الجنازة خمس تكبيرات لا أكثر؛ فإن كبروا أربعًا فحسنٌ، ولا أقل"، ولم نجد عن أحد من الأئمة يكبر أكثر من سبع ولا أقل من ثلاث فمن زاد على خمس وبلغ ستًّا أو سبعًا فقد عمل عملًا لم يصح عن النبي - عليه السلام - قط. قلت: قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن يزيد، عن عبد الله بن الحارث قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - على حمزة فكبر عليه تسعًا، ثم جيء بأخرى فكبر عليها سبعًا، ثم جيء بأخرى فكبر عليها خمسًا، حتى فرغ منهن غير أنهن كن وترًا". وقال لابن قدامة: "لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا النقص من أربع، والأولى أربع لا يزال عليها، واختلفت الرواية فيما بين ذلك، فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمسًا تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها، ورواه الأثرم عن أحمد، وروى حرب عن أحمد: إذا كبر خمسًا لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام، وممن لا يرى متابعة الإمام في زيادة على أربع: الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي، واختاره ابن عقيل. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هي أربع لا ينبغي أن يزاد على ذلك ولا ينقص منه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 497 رقم 11458).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمَّد بن الحنفية وعطاء بن أبي رباح وابن سيرين والنخعي وسويد بن غفلة والثوري وأبا حنيفة والشافعي ومالكًا وأحمد وأبا مجلز لاحق بن حميد؛ فإنهم قالوا: تكبيرات الجنازة أربعة لا يُزاد عليها ولا يُنقص منها، ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب وأبي هريرة وعقبة بن عامر - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا هدبة، قال: ثنا همام، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، أنه حدثه عن أبيه: "أنه شهد النبي - عليه السلام - صلى على ميت فكبر عليه أربعًا". ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه -. أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن هدبة بن خالد البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن همام بن يحيى روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري روى له الجماعة، عن أبيه أبي قتادة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليم بن حيان، عن سعيد ابن ميناء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - كبر على النجاشي أربعًا". ش: إسنادهُ صحيح، وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، وسَلِيم -بفتح السين وكسر اللام- بن حَيَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- ابن بسطام الهذلي البصري، روى له الجماعة إلا النسائي. وسعيد بن ميناء -بكسر الميم- المكي، روى له الجماعة إلا النسائي.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمد بن سنان، ثنا سليم بن حيان، ثنا سعيد بن ميناء، عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعًا". وأخرجه مسلم أيضًا (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سَلِيم بن حيان، قال: ثنا سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعًا". والنجاشي -بفتح النون وكسرها- كلمة للحبش تسمى بها ملوكها، قال ابن قتيبة: هو بالنبطية، ذكره ابن سيده، وفي "الجامع" للقزاز: أما النجاشي بكسر النون فيجوز أن يكون من نجش إذا أوقد كأنه يطريه ويوقد فيه قاله قطرب. وكذا ذكره في "الواعي" وفي "الجمهرة": أما النجاشي فكلمة حبشية يسمون بها ملوكهم وفي "الفصيح" لأبي عمر غلام ثعلب: النجاشي بالفتح. وفي "العلم المشهور" لأبي الخطاب مشدد الياء: قالوا: والصواب تخفيفها، وفي "المثنى" لابن عديس النَّجاشي والنِّجاشي بالفتح والكسر المستخرج للشيء، والنجاشي بالكسر كلمة للحبش تسمى به ملوكها. واسمه أصحمة ومعناه عطية -بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء المهملتين- ويقال مصحمة بالميم موضع الهمزة، ويقال: أصحم، قاله البيهقي ووقع في "مسند ابن أبي شيبة" في هذا الحديث صَحْمة بفتح الصاد وإسكان الحاء. قال أبو الفرج: هكذا قال لنا يزيد بن هارون وإنما هو صحمة بتقديم الميم على الحاء، ويقال: إن الحبشة لا ينطقون بالحاء على صرافها، وإنما يقولون في اسم الملك: أصمخة بتقديم الميم على الخاء المعجمة، وكان اسم أبيه أبجر، وقال السهيلي: اسم أبيه بجرى بغير همزة. وقال ابن سعد: أرسل رسول الله - عليه السلام - في المحرم من سنة سبع عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فأخذ كتاب النبي - عليه السلام - فوضعه على عينيه ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 447 رقم 1269). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 657 رقم 952).

ونزل عن سريره فجلس على الأرض تواضعًا، ثم أسلم، وكتب إلى النبي - عليه السلام - بذلك، وأنه أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتوفي في رجب سنة تسع، منصرفه - عليه السلام - من تبوك. ووقع في "صحيح مسلم" (¬1) "كتب - عليه السلام - إلى النجاشي وهو غير النجاشي الذي صلى عليه" وكأنه وهم من بعض الرواة، أو يحمل على أنه لما توفي قام مقامه أخر فكتب إليه. ثم النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، والمتأخرون يلقبونه: الأمْحَرِيّ، ومن ملك مصر كافرًا يمسى فرعون، فإذا أضيف إليها الإسكندرية يسمى المقوقس وكل من تَوَّزر فيها يسمى عزيزًا، ومَنْ ملك الشام مع الجزيرة وبلاد الروم يسمى قيصر، ومن ملك العجم يسمى كسرى، ومن ملك الترك يسمى خاقان، قال الجاحظ: من ملك إفريقية يسمى جرجير، ومن ملك السند يسمى فورورهمن، ومن ملك الهند يسمى فغفور، ومن ملك الصين يسمى بغيور، ومن ملك اليمن يسمى تبع ومن ترشح منهم للملك يسمى قيلًا، ومن ملك يسمى هياجًا، ومن ملك الخزر يسمى رتبيل، ومن ملك النوبة يسمى كابل، ومن ملك الصقالبة يسمى ماجدًا، ومن ملك اليونان يسمى بطلميوس وتجمع على بطالسة، وقال ابن دحية: على بطالمة ومن ملك اليهود يسمى قطيون، ومن ملك الصائبة يسمى نمروذ، ومن ملك فرغانة يسمى إخشيد ومعناه بالعربية: ملك الملوك، ومن ملك العرب من قبل العجم يسمى النعمان، ومن ملك البربر يسمى جالوت، ومن ملك الأرمن يسمى تقفور، ومن ملك قسطنطينية فيسمى أشكرى ومن ملك أسْروشتة يسمى الأفشين، ومن ملك جرجان يسمى خول، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهذ، ومن ملك طبرستان يمسى سالار، ومن ملك نيابة ملك الروم يسمى دمستق. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1397 رقم 1774).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك (ح). وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم (ح). وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن عثمان بن حكيم الأنصاري، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قبر فكبر أربعًا". ش: هذه ثلاثة طرق رجالها ثقات: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري المدني ثم الكوفي، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد -بفتح الياء آخر الحروف في أوله- ابن ثابت الأنصاري، ويزيد هذا أكبر من أخيه زيد بن ثابت، يقال: إنه شهد بدرًا، ويقال: إن ابن أخيه خارجة لم يسمع منه. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد أبو قدامة، قال: ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عثمان بن حكيم، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت: "أنهم خرجوا مع رسول الله - عليه السلام - ذات يوم فرأى قبرًا جديدًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه فلانة مولاة فلان -فعرفها سول الله - عليه السلام -- ماتت ظهرًا وأنت صائم قائل فلم نحب أن نوقظك بها، فقام رسول الله - عليه السلام - وَصَفَّ الناس خلفه، فكبر عليها أربعًا ثم قال: لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا -يعني- آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن عثمان بن حكيم ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 84 رقم 2022).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا هشيم، عن عثمان بن حكيم، قال: ثنا خارجة بن زيد، عن عمه يزيد بن ثابت: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر امرأة فكبر أربعًا". الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث هشيم، عن عثمان ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ويستفاد منه حكمان: الأول أن تكبيرات الجنازة أربع، والثاني: أن الصلاة على القبر جائزة. ثم إن العلماء اختلفوا فيه، فقال ابن قدامة: لا يصلى على القبر بعد شهر، وبهذا قال بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يصلي عليه أبدًا، واختاره ابن عقيل؛ لأن النبي - عليه السلام - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين حديث صحيح. وقال بعضهم: يصلي عليه ما لم يبلى جسده. وقال أبو حنيفة: يصلي عليه الولي إلى ثلاثٍ ولا يصلي عليه غيره، قال: وقال إسحاق: يصلي عليه الغائب إلى شهر والحاضر إلى ثلاث، وقال صاحب "المبسوط": وإن دفن قبل الصلاة عليها صلي عليها في القبر ما لم يعلم أنه تفرق. وفي "الأمالي" عن أبي يوسف: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام، وهكذا ذكره ابن رستم عن محمد؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصلون على رسول الله - عليه السلام - إلى ثلاثة أيام، والصحيح أن هذا ليس بتقديرٍ لازم؛ لأنه يختلف باختلاف الأوقات في الحر والبرد، وباختلاف الأمكنة وباختلاف حال الميت في السمن والهزال، والمعتبر فيه أكثر للرأي، والذي روي أنه - عليه السلام - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين معناه: دعى لهم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 493 رقم 11416). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 35 رقم 6726).

وقال ابن حزم في "المحلى": والصلاة جائزة على القبر، وإن كان قد صلي على المدفون فيه، وقال أبو حنيفة: إن دفن بلا صلاة صلي على القبر ما بين دفنه إلى ثلاثة أيام، ولا يصلى عليه بعد ذلك، وإن دفن بعد أن صلي عليه لم يصل أحد على قبره. وقال مالك: لا يصلى على قبر، وروي ذلك عن إبراهيم النخعي. وقال الأوزاعي والشافعي وأبو سليمان: يصلى على القبر وإن كان قد صلي على المدفون فيه، وروي ذلك عن ابن سيرين. انتهى. ثم الجواب عن صلاته - عليه السلام - على القبر بعد ما صلي على المدفون فيه: أنه - عليه السلام - قصد بذلك إيصال الرحمة إليه، كما صرّح بذلك في رواية النسائي: "فإن صلاتي له رحمة" ولا يوجد هذا المعنى في غيره، فلا يصلى عليه اللهم إلا إذا دفن بغير صلاة، فيصلى عليه على الخلاف المذكور. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا شيبان، قال: ثنا سويد أبو حاتم، قال: حدثني قتادة، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - كبر أربعًا". ش: شيبان هو ابن فروخ الأبُلِّي -بضم الهمزة وبالباء الموحدة- شيخ مسلم وأبي داود- وسويد هو ابن إبراهيم الجحدري أبو حاتم الحناط -بالنون- فيه مقال. ضعفه يحيى والنسائي، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، حديثه حديث أهل الصدق. وعن يحيى: أرجو أنه لا بأس به. ص: حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن أبي سلمان المؤذن، قال: توفي أبو سريحة فصلي عليه زيد بن أرقم فكبر عليه أربعًا، فقلنا: ما هذا؟! فقال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعل". ش: أحمد هو ابن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري ومسلم، وعثمان بن أبي زرعة هو عثمان بن المغيرة الكوفي مولى ابن عقيل الثقفي، قال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له الجماعة سوى مسلم.

وأبو سلمان المؤذن اسمه همام، وذكره الحاكم أبو أحمد في "الكنى" قال: ويقال اسمه يزيد بن عبد الله. ولم يذكر فيه شيئًا وذكر في "التكميل": أبو سلمان المؤذن قيل اسمه همام، روى عن علي وأبي محذورة الجمحي، روى عنه أبو جعفر الفراء، روى له النسائي حديثًا. ولهم شيخ آخر يقال له: أبو سلمان المؤذن مؤذن الحجاج، اسمه يزيد بن عبد الله، روى عن زيد بن أرقم وعنه الحكم بن عتيبة، وعثمان بن المغيرة ومسعر بن كدام ذكر تمييزًا. وقال مسلم في كتاب "الكنى": أبو سلمان المؤذن همام عن أبي محذورة، روى عنه أبو جعفر الفراء. أبو سلمان يزيد روى عنه مسعر. انتهى. قلت: فعلم من ذلك أن أبا سلمان ها هنا هو أبو سلمان مؤذن الحجاج الذي اسمه يزيد بن عبد الله، وليس بأبي سلمان الذي اسمه همام؛ فافهم فإنه موضع اشتباه. وأبو سريحة -بفتح السين المهملة، وكسر الراء- اسمه حذيفة بن أَسِيد -بفتح الهمزة وكسر السين- بن خالد الغفاري، بايع تحت الشجرة، وشهد الحديبية مع رسول الله - عليه السلام - وهو أول مشاهده، نزل الكوفة ومات بها، وصلى عليه زيد بن أرقم. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمد بن الفضل السقطي، نا سعيد بن سليمان، قال: ثنا شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن أبي سلمان المؤذن قال: "توفي أبو سريحة الغفاري فصلي عليه زيد بن ارقم فكبر عليه أربعًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي". وقد روى أبو سلمان أيضًا، عن زيد بن أرقم: "أنه كبر خمس تكبيرات. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 174 رقم 4995).

فقال الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا العلاء بن صالح، ثنا أبو سلمان: "أنه صلى مع زيد بن أرقم على جنازة فكبر عليها خمس تكبيرات، فقلت: أَوَهِمْتَ أم عمدًا؟ قال: لا، بل عمدًا؛ إن النبي - عليه السلام - كان يصليها". وقد مر فيما مضي رواية ابن أبي ليلى، عن زيد بن أرقم نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرَّقام، قال: ثنا سعيد بن يحيى الحميري، قال: ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - كان يعود فقراء أهل المدينة، وأنه أخبر بامرأة ماتت فدفنوها ليلًا، فلما أصبح آذنوه، فمشي إلى قبرها فصلى عليها وكبر أربعًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان يحدث، عن الزهري، عن أبي أمامة، عن بعض أصحاب رسول الله - عليه السلام - نحوه. ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح متصل: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بتشديد الياء أخر الحروف وفي آخره شين معجمة- بن الوليد الرَّقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن سعيد بن يحيى الحميري أبي سفيان الحذاء الواسطي، قال أبو داود: ثقة. روى له البخاري. عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي، وعن يحيى: ثقة في غير الزهري. وعن ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: ثقة، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه. عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة قيل اسمه سعد وقيل أسعد، والأول أشهر، روى له الجماعة. عن أبيه سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري شهد بدرًا والمشاهد كلها مع النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 174 رقم 4994).

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1) مرسلًا: عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف، أنه أخبره: "أن مسكينة مرضت فأُخبر رسول الله - عليه السلام - بمرضها، قال: وكان رسول الله - عليه السلام - يعود المساكين ويسأل عنهم، فقال رسول الله - عليه السلام -: إذا ماتت فآذنوني بها، فخُرِجَ بجنازتها ليلًا، فكرهوا أن يوقظوا رسول الله - عليه السلام -، فلما أصبح رسول الله - عليه السلام - أخبر بالذي كان من شأنها، فقال: ألم آمركم أن تؤذنوني بها؟ فقالوا: يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلًا ونوقظك، فخرج رسول الله - عليه السلام - حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات". قال ابن عبد البر (¬2): لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد روى موسى بن محمد بن إبراهيم القرشي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن رجل من الأنصار: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قبر امرأة بعدما دفنت، فكبر عليها أربعًا". وهذا لم يتابع عليه، وموسى بن محمَّد هذا متروك الحديث، وقد روى سفيان بن حسين هذا الحديث، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - وهو حديث مسند متصل صحيح من غير حديث مالك، وروي من وجوه كثيرة عن النبي - عليه السلام - كلها ثابتة. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن النعمان بن راشد الجزري، فيه مقال فعن يحيى القطان: ضعيف جدًّا. وعن أحمد: مضطرب الحديث. وعن يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وعنه ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف جدًّا، كثير الغلط. ومع هذا أخرج له الجماعة البخاري مستشهدًا، فعلى هذا حديثه صحيح. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 227 رقم 533). (¬2) "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 254).

وهو يروي عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة، عن بعض أصحاب رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي أمامة، أن بعض الصحابة أخبره ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬2) مرسلًا: ثنا قتيبة، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، قال: "مرضت امرأة من أهل العوالي، وكان النبي - عليه السلام - أحسن شيء عيادة للمريض، فقال: إذا ماتت فآذنوني، فماتت ليلًا، فدفنوها ولم يعلموا النبي - عليه السلام -، فلما أصبح سأل عنها، فقالوا: كرهنا أن نوقظك يا رسول الله، فأتى قبرها فصلى عليها وكبر أربعًا". ويستفاد منه أحكام: استحباب عيادة المريض ولا سيما الفقراء المساكين. قال أبو عمر: فيه إباحة عيادة النساء وإن لم تكن ذوات محارم، ويحمل الحديث هذا عندي أن تكون المرأة متجالة وإن كانت غير متجالة فلا، إلا أن يسأل عنها ولا ينظر إليها. وفيه: جواز الأذان بالجنازة وإباحة دفن الميت بالليل وأن التكبيرات عليه أربع، وأن سنة الصلاة على القبر كسنة الصلاة على الجنازة سواء، في الصف عليها والدعاء والتكبير، وجواز الصلاة على القبر وبيان ما كان عليه النبي - عليه السلام - من تواضعه وخلقه الحسن ورعاية خواطر الفقراء والمساكين على جانب عظيم. وفيه تعليم لأمته أيضًا بذلك وإرشادهم إلى التخلق بالأخلاق الحميدة وأخلاق الصالحين. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 35 رقم 6727). (¬2) "المجتبى" (4/ 72 رقم 1981).

ص: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شريك، عن إبراهيم الهجري قال: "صلى بنا ابن أبي أوفى على ابنة له فكبر عليها أربعًا، ثم وقف فانتظرنا بعد الرابعة تسليمه حتى ظننا أنه سيكبر الخامسة، ثم سلم، ثم قال: أُراكم ظننتم أني سأكبر الخامسة، ولم كن لأفعل ذلك، وهكذا رأيت رسول الله - عليه السلام - يفعل". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن الهجري ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الكوفي نزيل مصر المعروف بترنجة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن إبراهيم بن مسلم الهجري ضعفه ابن معين والنسائي وروي له ابن ماجه، عن عبد الله بن أبي أوفى واسمه علقمة بن خالد الأسلمي له ولأبيه صحبة. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا عبد الرحمن المحاربي، نا الهجري قال: "صليت مع عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي صاحب رسول الله - عليه السلام - على جنازة ابنة له، فكبر عليها أربعًا فمكث بعد الرابعة شيئًا، قال: فسمعت القوم يسبحون به من نواحي الصفوف فسلم ثم قال: أكنتم ترون أني مكبر خمسًا؟ قالوا: تخوفنا ذلك. قال: لم أكن لأفعل، ولكن رسول الله - عليه السلام - كان يكبر أربعًا ثم يمكث ساعة فيقول ما شاء الله أن يقول ثم يسلم". قلت: ظهر من هذا أنه يستحب أن يدعو أيضًا بعد التكبيرة الرابعة ثم يسلم، ومع هذا قال: أصحابنا لا يدعو بشيء بعد التكبيرة الرابعة بل يسلم. وقال ابن قدامة: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يدعو بعد الرابعة شيئًا، ونقله عن أحمد جماعة من أصحابه وقال: لا أعلم فيه شيئًا؛ لأنه لو كان فيه دعاء ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 482 رقم 1503).

مشروع لنقل، وروي عن أحمد أنه يدعو ثم يسلم؛ لأنه قيام في صلاة فكان فيه ذكر مشروع كالذي قبل التكبيرة الرابعة. قال ابن أبي موسى وابن الخطاب: يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وقيل: يقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وهذا الخلاف في استحبابه، ولا خلاف أنه غير واجب، وأن الوقوف بعد التكبير الرابع مشروع. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الهجري قال: "صليت مع عبد الله بن أبي أوفى على جنازة فكبر عليها أربعًا، ثم قام هنيهة حتى ظننت أنه يكبر خمسًا، ثم سلم فقال: أكنتم ترون أني أكبر خمسًا؟ إنما قمت كما رأيت رسول الله - عليه السلام -". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، ثم خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن فيهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع، عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن بعض أصحاب النبي - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 495 رقم 11440).

ش: هذه ثلاثة أسانيد رجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا مشايخ الطحاوي. وأبو بشر الرقي عبد الملك بن مروان، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وعُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، وشجاع هو ابن الوليد بن قيس السكوني، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني. وحديث أبي هريرة أخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك. والترمذي (¬5): عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، قال: نا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: "أن النبي - عليه السلام - صلى على النجاشي فكبر أربعًا". وابن ماجه (¬6): عن أبي بكر بن أبي شيبة، نا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن النجاشي قد مات، فخرج رسول الله - عليه السلام - وأصحابه إلى البقيع، فصفنا خلفه، وتقدم رسول الله - عليه السلام - فكبر أربع تكبيرات". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 447 رقم 1268). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 656 رقم 951). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 212 رقم 3204). (¬4) "المجتبى" (4/ 72 رقم 1980). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 342 رقم 1022). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 490 رقم 1534).

قوله: "نعى للناس" فعل ماضٍ من النعي وهو خبر الموت، والناعي الذي يأتي بخبر الموت، والنَّعِيِّ -بفتح النون وكسر العين المهملة وتشديد الياء، وقيل بسكون العين وتخفيف الياء لغتان والتشديد أشهر كذا ذكره النووي. وفي "المحكم": النعي الدعاء بموت الميت والإشعار به، نَعَاه يَنْعَاه نعيًا ونُعْيَانًا، والنَّعِيُّ المُنْعِي والنَّاعِي، وقال الجوهري: النعْي خبر الموت، وكذلك النَّعِيّ على فعيل، وفي "الواعي": النَّعِيُّ على فعيل هو نداء الناعي، والنَّعِيُّ أيضًا هو الرجل الذي يُنْعى، والنَّعِيُّ الرجل الميت، والنعْي الفعل، ويجوز أن يجمع النعي نعايًا مثل صفي وصفايًا؛ ذكره الهروي وغيره. وتفسير النجاشي قد مرّ. قوله: "في اليوم الذي مات فيه" قد ذكرنا أنه مات في سنة تسع، منصرفه من تبوك قاله ابن سعد، وقال السهيلي: توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة. قوله: "إلى المُصَلى" بضم الميم، وهو الموضع الذي كان - عليه السلام - يصلي فيه العيد. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن التكبير على الجنازة أربع تكبيرات. الثاني: فيه استحباب اصطفاف الناس وراء الإمام في صلاة الجنازة. الثالث: أن صلاة الجنازة ينبغي أن تقام في مصلى البلد ولا تصلي في المسجد. وقال أبو عمر: فيه أن السنة أن تخرج الجنائز إلى المصلى ليصلى عليها هناك، وفي ذلك دليل على أن صلاته على سهيل بن بيضاء في المسجد إباحة وليس بواجب. قلت: بل فيه دليل على أن صلاته في المسجد كانت لضرورة أو انتسخت كما ذكرنا. الرابع: فيه إباحة النعي.

قال أبو عمر: فيه إباحة الإشعار بالجنازة والإعلام بها والاجتماع لها، وهذا أقوى من حديث حذيفة: "أنه كان إذا مات له ميت قال: لا تؤذنوا به أحدًا؛ فإني أخاف أن يكون نعيًا، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - نهى عن النعي". وإلى هذا ذهب جماعة من السلف. فإن قيل: حديث حذيفة حسّنه الترمذي (¬1). وجاء عن ابن مسعود أيضًا قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية، قال عبد الله: والنعي أذان بالميت". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب (¬2). قال البيهقي (¬3): ويروى النهي أيضًا عن ابن عمر وأبي سعيد وسعيد بن المسيب وعلقمة وإبراهيم النخعي والربيع بن خثيم. وفي "المصنف" (¬4): وأبي وائل وأبي ميسرة وعلي بن الحسن وسويد بن غفلة ومطرف بن عبد الله ونصر بن عمران أبي حمزة. قلت: التوفيق بين الحديثين: أن حديث النجاشي لم يكن نعيًّا، إنما كان مجرد إخبار بموته، فسمي نعيًّا لتشبهه به في كونه إعلامًا، وكذا يقال في جعفر بن أبي طالب وأصحابه. قال ابن بطال: إنما نعى - عليه السلام - النجاشي وصلى عليه؛ لأنه كان عند بعض الناس على غير الإسلام، فأراد إعلامهم بصحة إسلامه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 313 رقم 986) بلفظ "إذا مات فلا تؤذنوا"، ورواه ابن ماجه في "سننه" (1/ 474 رقم 1476)، وأحمد في "مسنده" (5/ 406 رقم 23502) كلاهما بلفظ المصنف -رحمه الله-. (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 312 رقم 984 - 985). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 74 رقم 6971). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 475 رقم 11205: 11216).

وفيه نظر؛ لنعيه - عليه السلام - جعفرًا وأصحابه. وحمل بعضهم النعي على نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وشبهها، وأيضًا فحذيفة لم يجزم بكون الإعلام نعيًا، إنما قال: أخاف أن يكون نعيًا. وفي "المهذب" لأبي إسحاق: يكره نعي الميت والنداء عليه للصلاة وغيرها، وذكر الصيدلاني وجهًا أنه لا يكره، وقيل: لا يستحب، وقال بعضهم: يستحب ذلك للغريب لا لغيره، وبه قال ابن عمر. وقال ابن الصباغ: يكره النداء ولا بأس بتعريف أصدقائه، وهو قول أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: لا بأس به. وقال ابن قدامة: ويكره النعي وهو أن يبعث مناديًا ينادي في الناس: إن فلانًا مات ليشهدوا جنازته، واستدل بحديث حذيفة، ثم قال: واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم عبد الله بن مسعود وأصحابه وعلقمة والربيع بن خثيم وعمرو بن شرحبيل. وقال كثير من أهل العلم: لا بأس أن يُعلم بالرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء. والله أعلم. الخامس: فيه الصلاة على الغائب، استدل بذلك الشافعي وأحمد في رواية على جواز الصلاة على الغائب، قال النووي: فإن كان الميت في بلد فالمذهب أنه لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده وقيل يجوز وفي الرافعي: ينبغي أن لا يكون بين الإمام والميت أكثر من مائتي ذراع أو ثلاثمائة تقريبًا، وفي "المغني": وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على حاضر، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما. انتهى.

وقال الخطابي: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله - عليه السلام - وصدقه على نبوته، إلا أنه كان يكتم إيمانه، والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه، إلا أنه كان بين ظهراني أي أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحق الصلاة عليه؛ فلزم رسول الله - عليه السلام - أن يفعل ذلك إذا هو نبيه ووليه وأحق الناس به؛ فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب، فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه فإنه لا يصلى عليه من كان ببلد آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانع عذر كانت السنة أن يصلى عليه، ولا يترك ذلك لبعد المسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة، وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة الصلاة على الميت الغائب، وزعموا أن النبي - عليه السلام - كان مخصوصًا بهذا الفعل؛ إذ كان في حكم المشاهد للنجاشي؛ لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له الأرض حتى تبصر مكانه، هذا تأويل فاسد لأن رسول الله - عليه السلام - إذا فعل شيئًا من أفعال الشريعة كان علينا متابعته والاتساء به، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل، ومما يبين ذلك: أنه - عليه السلام - خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم، فصلوا معه فعلم أن هذا التأويل فاسد. قلت: هذا التشنيع كله على الحنفية والمالكية، ولكن من غير توجيه، فنقول ما يبين لك فساد كلامه، وهو أن النبي - عليه السلام - رفع له سرير النجاشي فرآه فتكون الصلاة عليه كميت يراه الإمام ولا يراه المأموم. وقد قال قال أبو عمر بن عبد البر: (¬1): وأكثر أهل العلم يقولون: هذا خصوص للنبي - عليه السلام - بأن أحضر روح النجاشي بين يديه حيث شاهده وصلى عليه، أو رفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته. وقد روي: "أن جبريل - عليه السلام - أتاه بروح جعفر أو جنازته، وقال: قم فصل عليه". فهذا وما كان مثله يدل على الخصوصية. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (6/ 328).

وروى ابن حبان في "صحيحه" (¬1): في النوع الحادي والأربعين من القسم الخامس من حديث عمران بن الحصين أن النبي - عليه السلام - قال: "إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا صلوا عليه، فقام رسول الله - عليه السلام - وصلوا خلفه فكبر أربعًا وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه". وقال المهلب: ومما يدل على الخصوصية: أنه لم يصل على أحد من المسلمين ومتقدمي المهاجرين والأنصار الذين ماتوا في أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين؛ لأن الصلاة عليها من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت في البلد الذي يموت بها، ولم يكن بحضرة النجاشي مسلم، يصلى عليه. قلت: قد مات خلق كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - في حياة النبي - عليه السلام - وهم غائبون عنه وسمع بهم فلم يصلي عليهم إلا ثلاثة أنفس: أحدهم: معاوية بن معاوية المزني، ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره. روى حديثه الطبراني "معجمه الوسط"، (¬2) وكتاب "مسند الشاميين" (¬3): ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا نوح بن عمر بن حُوَي السكسكي، ثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بتبوك، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة، أتحب أن تطوى لك الأرض فتصلي عليه؟ قال: نعم، فضرب بجناحه على الأرض، ورفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، ثم رجع وقال النبي - عليه السلام - لجبريل - عليه السلام - بم أدرك هذا، قال: لحبه سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقراءته إياها، جائيا وذاهبًا، وقائمًا وقاعدًا، وعلى كل حال". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (7/ 369 رقم 3102). (¬2) "المعجم الأوسط" (4/ 163 رقم 3874). (¬3) "مسند الشاميين" (2/ 12 رقم 831).

ورواه ابن سعد في "الطبقات" في ترجمة معاوية بن معاوية المزني- قال: ويقال: الليثي -من حديث أنس فقال: أنا يزيد بن هارون، ثنا العلاء أبو محمد الثقفي، سمعت أنس بن مالك قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - ... " فذكر نحوه. أخبرنا (¬1) عثمان بن الهيثم البصري، ثنا محبوب بن هلال المزني، عن ابن أبي ميمونة، عن أنس، وذكر نحوه. وبسند ابن سعد الأول رواه البيهقي (¬2) وضعفه. قال النووي في "الخلاصة": والعلاء بن زيد ويقال: ابن يزيد اتفقوا على ضعفه، قال البخاري وابن عدي وأبو حاتم: هو منكر الحديث. قال البيهقي: وروي من طرق أخرى ضعيفة. والثاني والثالث: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنها - ورد أنه كشف له عنهما. أخرجه الواقدي في كتاب "المغازي" (¬3) فقال: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة. وحدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر قالا: "لما التقى الناس بمؤتة جلس النبي - عليه السلام - على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال - عليه السلام -: أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى استشهد فصلى عليه ودعى له، وقال: استغفروا له وقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فمضى حتى استشهد فصلى عليه رسول الله - عليه السلام - ودعى له، وقال: استغفروا له وقد دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين حيث يشاء. وهو مرسل من الطريقين المذكورين. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 51 رقم 6824). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 50 رقم 6823). (¬3) "مغازي الواقدي" (1/ 762).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي غالب، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - كان يكبر أربع تكبيرات على الميت". ش: الحماني هو يحيى بن عبد الحميد أبو زكرياء الكوفي ثقة، وثقه أحمد وغيره إلا أنه شيعي، وعن النسائي: ضعيف. ونسبته إلى حمان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم- قبيلة من تميم. وأبو غالب البصري ويقال الأصبهاني قيل: اسمه حزور، وقيل: سعيد بن الحزور وقيل: نافع، فالترمذي تارة صحح حديثه، وتارة حسنه. ص: وقالوا: في حديث زيد بن أرقم الذي بدأنا بذكره في هذا الباب أنه كان يكبر على الجنائز أربعًا قبل المرة التي فيها كبر خمسًا، فلا يجوز أن يكون كان يفعل ذلك، وقد كان رأي النبي - عليه السلام - يفعل خلافه إلا لمعنى قد رأى النبي - عليه السلام - يفعله، وهو ما رواه عنه أبو سلمان المؤذن في صلاته على أبي سريحة - رضي الله عنه -، وفي تكبيره عليه أربعًا. ويحتمل تكبيره على تلك الجنائز خمسًا أن يكون ذلك لأن حكم ذلك الميت أن يكبر عليه خمسًا، لأنه من أهل بدر؛ فإنهم قد كانوا يفضلون في التكبير في الصلاة عليهم على ما يكبر على غيرهم. ش: أي قال الآخرون، وهم أهل المقالة الثانية، وأراد به الجواب عن حديث زيد بن أرقم المذكور في أوّل الباب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - كان يكبر أربعًا ثم كبر خمسًا مرة، على ما رواه ابن أبي ليلى عنه، فلا يجوز أن يصدر منه هذا الفعل والحال أنه قد كان رأى النبي - عليه السلام - يفعل بخلافه إلا لأجل معنى وقف عليه من جهة النبي - عليه السلام -، وهو ما رواه عنه أبو سلمان المؤذن في صلاته على أبي سريحة بأربع تكبيرات، ثم يحتمل تكبيره خمسًا في تلك المرة التي رواها عنه ابن أبي ليلى أن يكون لأجل حكم ذلك الميت أن يكبر عليه خمسًا؛ لأنه كان من أهل بدر، وقد كان أهل بدر يفضلون في التكبير في الصلاة عليهم على ما

يكبر على غيرهم، على ما يجيء: "أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله - عليه السلام - خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا". وروى الحازمي في كتابه "الناسخ والمنسوخ" عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي، نا نافع أبو هرمز، نا أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - كبر على أهل بدر سبع تكبيرات، وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، وكان آخر صلاته أربعًا، حتى خرج من الدنيا". قال: وإسناده واهٍ، وقد روي آخر صلاته كبر أربعًا من عدة روايات كلها ضعيفة، ولذلك جعل بعض العلماء الأمر على التوسع، وأن لا وقت ولا عدد، وجمعوا بين الأحاديث وقالوا: كان النبي - عليه السلام - يفضل أهل بدر على غيرهم وكذا بني هاشم فكان يكبر عليهم خمسًا وعلى من دونهم أربعًا، وأن الذي أخر صلاة النبي - عليه السلام - لم يكن الميت من بني هاشم ولا من أهل بدر. ص: وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "كل ذلك قد كان خمس وأربع، فأمر عمر الناس بأربع يعني في الصلاة على الجنازة". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد يعني ابن أبي أنيسة، عن حماد، عن إبراهيم قال: "قبض رسول الله - عليه السلام - والناس مختلفون في التكبير على الجنازة، لا تشاء أن تسمع رجلًا [يقول] (¬1): سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر سبعًا، وآخر يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر خمسًا، وآخر يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يكبر أربعًا ألا سمعته، فاختلفوا في ذلك، فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر - رضي الله عنه -، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - ورأى اختلاف الناس في ذلك شق ذلك عليه جدًّا، فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله - عليه السلام - فقال: إنكم معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام - متى تختلفون على الناس يختلفون من ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

بعدكم، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه، فانظروا أمرًا تجتمعون عليه، فكأنما أيقظهم، فقالوا: نِعْمَ ما رأيتَ يا أمير المؤمنين فأشر علينا، فقال عمر - رضي الله عنه -: بل أشيروا عليَّ، فإنما أنا بشر مثلكم، فتراجعوا الأمر بينهم، فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات، فأجمع أمرهم على ذلك". فهذا عمر - رضي الله عنه - قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله - عليه السلام - بذلك عليه، وهم حضروا من فعل رسول الله - عليه السلام - ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم، فكانوا ما فعلوا من ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا علموا، فذلك نسخ لما قد كانوا علموا؛ لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما قد رووا، وهكذا كما أجمعوا عليه بعد النبي - عليه السلام - في التوقيت على حد الخمر، وترك بيع أمهات الأولاد فكان إجماعهم على ما قد أجمعوا عليه من ذلك حجة، وإن كانوا قد فعلوا في عهد النبي - عليه السلام - خلافه، فكذلك ما أجمعوا عليه من محدد التكبير بعد النبي - عليه السلام - في الصلاة على الجنازة؛ فهو حجة وإن كانوا قد علموا من النبي - عليه السلام - خلافه، وما فعلوا من ذلك واجتمعوا عليه بعد النبي - عليه السلام - فهو ناسخ لما قد كان فعله النبي - عليه السلام -. ش: أشار بهذا الذي أخرجه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن التكبيرات على الجنازة لم تكن موقته على عهد النبي - عليه السلام -، ثم أشار بالذي أخرجه عن إبراهيم النخعي: أن الإجماع قد أنعقد على الأربع في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أما الأول فأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الفقيه الأعمى، عن سعيد بن المسيب، والآخر عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن فضيل، عن العلاء، عن عمرو ابن مرة، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "كل قد فعل فتعالوا نجتمع على أمر يأخذ به من بعدنا، فكبروا على الجنازة أربعًا". فإن قلت: هل سمع سعيد بن المسيب عمر بن الخطاب. قلت: نعم، وقد قال أبو طالب لأحمد بن حنبل: سعيد، عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟ وأما الثاني: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي نزيل مصر وثقه أبو حاتم، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي، روى له الجماعة، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري أبي أسامة الرهاوي روى له الجماعة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ثقة كبير، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه محمد بن الحسن في "آثاره" أنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: "أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمسًا وستًّا وأربعًا حتى قبض النبي - عليه السلام -، ثم كبروا بعد ذلك في ولاية أبي بكر - رضي الله عنه - حتى قبض أبو بكر، ثم صلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ففعلوا ذلك في ولايته، فلما رأى عمر بن الخطاب، قال: إنكم معشر أصحاب محمد متى تختلفون يختلف من بعدكم، والناس حديث عهد بالجاهلية، فأجمعوا على شيء يجتمع به عليه من بعدكم، فأجمع رأي أصحاب محمد أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - عليه السلام - حتى قبض، فيأخذون به، فيرفضون ما سوى ذلك، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - عليه السلام - أربعًا". قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عامر ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 495 رقم 11443). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 495 رقم 11445).

عن أبي وائل قال: "جمع عمر - رضي الله عنه - الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقال بعضهم: كبر رسول الله - عليه السلام - خمسًا، وقال بعضهم: كبر سبعًا، وقال بعضهم: كبر أربعًا، قال: فجمعهم على أربع تكبيرات كأطول الصلاة". قوله: "إلا سمعته" متعلق بقوله: "لا تشاء أن تسمع". قوله: "فاختلفوا في ذلك" أي في عدد التكبير على الجنازة، فكانوا على هذا الحكم حتى قبض أبو بكر - رضي الله عنه -. قوله: "شق ذلك" جواب لقوله: "فلما ولي عمر - رضي الله عنه -". قوله: "إنكم معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام -" المعاشر جمع معشر، قال الجوهري: المعاشر جماعات الناس، والواحد معشر، من العشير: القبيلة، والمُعاشر: والزوج وأصل ذلك كله من العشرة وهي الصحبة. وقوله: "مَعَاشِر" منصوب بحرف نداء محذوف، وخبر "إن". قوله: "متى تختلفون" والتقدير: إنكم يا معاشر أصحاب رسول الله - عليه السلام -، والجملة الندائية معترضة بين اسم إن وخبرها. قوله: "نِعْمَ ما رأيت" أي نِعْمَ الرأي الذي رأيت. قوله: "مثل التكبير في الأضحى والفطر" أي مثل عدد التكبير في عيد الأضحى وعيد الفطر أربع تكبيرات، وهذا التشبيه إنما يتمشى على قول أصحابنا؛ لأن عندهم التكبيرات الزائدة في كل واحد من العيدين أربع تكبيرات في الركعة الأولى بعد القراءة، وبتكبيرة الإحرام تكون خمس تكبيرات، وأما في الركعة الثانية فالزوائد ثلاث تكبيرات بعد القراءة وبتكبيرة الركوع تكون أربع تكبيرات، وروى أبو عائشة جليس لأبي هريرة: "أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف كان رسول الله - عليه السلام - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعًا تكبيرة على الجنازة، فقال حذيفة: صدق".

وقال أحمد بن حنبل: يكبر في الركعة الأولى سبعًا مع تكبيرة الإحرام ولا يعتدّ بتكبيرة الركوع؛ لأن بينهما قراءة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض، ثم يقرأ في الثانية، ثم يكبر ويركع. وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، والمزني. وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وابن عمر ويحيى الأنصاري قالوا: يكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا، وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق؛ إلا أنهم قالوا: يكبر سبعًا في الأولى سوى تكبيرة الافتتاح. وروي عن ابن عباس وأنس والمغيرة بن شعبة وسعيد بن المسيب والنخعي: يكبر سبعًا سبًعا. وفي "الأحكام" لابن بزيزة: اختلف العلماء في تكبير العيد على نحو اثني عشر قولًا. قوله: "فأجمع أمرهم على ذلك" على صيغة المجهول أي على أن التكبير في الجنازة أربع. قوله: "بمَشُورة" بفتح الميم وضم الشين وجاء بسكون الشين أيضًا، وكلاهما بمعنى الشورى، من شاورته في الأمر واستشرته، وأصله من الشَّوْر وهو عرض الشيء وإظهاره، ومنه يقال للجمال والحسن: الشُّوَرة والشارة، وفي الحديث: "أن رجلًا أتاه وعليه شارة حسنة، أي هيئة وألفها مقلوبة من الواو، والشَّوَار بالفتح متاع البيت. قوله: "وهم قد حضروا" أي والحال أن الصحابة قد حضروا من فعل رسول الله - عليه السلام - ما رواه حذيفة بن اليمان من تكبيره - عليه السلام - على الجنازة خمسًا، وما رواه زيد بن أرقم كذلك، وقد مر حديثهما في أول الباب.

قوله: "فذلك نسخ لما قد كانوا علموا" فإن قيل: كيف يثبت النسخ بالإجماع؟ لأن الإجماع لا يكون إلا بعد النبي - عليه السلام - وآوان النسخ حياة النبي - عليه السلام - للاتفاق على أن لا نسخ بعده. قلت: قد جَوَّزَ ذلك بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع موجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور، فجوازه بالإجماع أولى على أن ذلك الإجماع بينهم إنما كان على ما استقر عليه آخر أمر النبي - عليه السلام - الذي قد رفع كل ما كان قبله مما يخالفه، فصار الإجماع مظهرًا لما قد كان في حياة النبي - عليه السلام - فافهم. حتى قال بعضهم: إن حديث النجاشي هو الناسخ؛ لأنه مخرج في "الصحيح" من رواية أبي هريرة، قالوا: وأبو هريرة متأخر الإسلام، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة. فإن قيل: إن كان في حديث أبي هريرة ما يدل على التأخير فليس في تلك الأحاديث المنسوخة ما يدل على التقديم، فليس أحدهما أولى بالتأخير من الآخر. قلت: قد ورد التصريح بالتأخير من رواية ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى وجابر - رضي الله عنهم -. قوله: "وهذا كما أجمعوا عليهم" أي هذا الإجماع على أن تكبيرات الجنازة أربع بعد النبي - عليه السلام - كالذي أجمعوا عليه بعده - عليه السلام - في التوقيت على حد الخمر، وذلك لأنه لم يكن في زمن النبي - عليه السلام - حد موقت في الخمر، ولا في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، ولا في صدر من خلافة عمر بن الخطاب - عليه السلام -، وإنما كانوا يقومون إلى الشارب بأيديهم ونعالهم، فلما رأى عمر - رضي الله عنه - أنهم لا يمتنعون عن ذلك جلد أربعين إلى أن عَتَوا وبَغَوا فجلدهم ثمانين، فاستقر الأمر عليه.

والدليل على ذلك: ما رواه البخاري (¬1): عن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله - عليه السلام - وإمرة أبي بكر - رضي الله عنه - وصدرًا من خلافة عمر - رضي الله عنه - فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا كان آخر إمرة عمر بن الخطاب فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين". وروي البخاري، (¬2) ومسلم (¬3) بإسنادهما: عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال: عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رضي الله عنه -". وأخرج أبو داود (¬4): عن عبد الرحمن بن أزهر: "أن رسول الله - عليه السلام - أتي بشارب خمر وهو بحنين فحثى في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم، حتى قال لهم؛ ارفعوا، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين، ثم جلد عمر - رضي الله عنه - صدرًا من إمارته أربعين، ثم جلد ثمانين في آخر خلافته، وجلد عثمان الحدَّين كليهما ثمانين وأربعين، ثم أثبت معاوية الحد ثمانين". قوله: "وترك بيع أمهات الأولاد" يعني كما أجمعوا على ذلك بعد النبي - عليه السلام - مع أنهم كانوا يبيعونها في زمن النبي - عليه السلام -، والدليل عليه قول جابر - رضي الله عنه -: "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله - عليه السلام -". وقد روي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك أيضًا، ولكن أجمعت الصحابة بعد النبي - عليه السلام - على المنع من بيعهن، وسند الإجماع في ذلك: ما روي: "أن رسول الله - عليه السلام - قال في مارية حين ولدت إبراهيم: أعتقها ولدها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2488 رقم 6397). (¬2) "صحيح البخاري " (6/ 2487 رقم 6391)، (6/ 2488 رقم 6394). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1331 رقم 1706). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 166 رقم 4488).

فإن قيل: كيف يكون هذا إجماعًا وعلي - رضي الله عنه - كان يبيع أمهات الأولاد، ولهذا تعلقت به طائفة منهم: داود إتباعًا لعلي - رضي الله عنه - وحكي ذلك أيضًا عن الشافعي، فإنه قال في بعض كتبه بإجازة بيعهن. قلت: قد اختلف في ذلك عن علي - رضي الله عنه - اختلافًا كثيرًا وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الحلواني قال: ثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عطاء بن السائب، قال: سمعت عبيدة يقول: "كان علي - رضي الله عنه - يبيع أمهات الأولاد في الدين". وقد صح عن عمر في جماعة من الصحابة المنع من بيعهن، والشافعي أيضًا قطع في مواضع كثيرة من كتبه بأنه لا يجوز بيعهن، وعلى ذلك عامة أصحابه، والقول بذلك شاذ لا يلتفت إليه. ص: فإن قال قائل: وكيف يكون ذلك ناسخًا وقد كبر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد ذلك أكثر من أربع؟ وذكروا في ذلك ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: ثنا عامر، عن عبد الله بن معقل: "أن عليًّا - رضي الله عنه - صلى على سهل بن حنيف - رضي الله عنه - فكبر عليه ستًّا". حدثنا يزيد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا موسى بن عبد الله: "أن عليًّا - رضي الله عنه - صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعًا". قيل له: إنما فعل ذلك؛ لأن أهل بدر كانوا كذلك حكمهم في الصلاة عليهم، يزاد فيها التكبير على ما يكبر على غيرهم من سائر الناس، والدليل على ذلك: أن إبراهيم بن محمد الصيرفي. حدثنا قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن معقل قال: "صليت مع علي - رضي الله عنه - على جنازة فكبر عليها خمسًا، ثم التفت فقال: إنه من أهل بدر، ثم صليت مع علي - رضي الله عنه - على جنائز كل ذلك كان يكبر عليها أربعًا". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن معقل قال: "صلى علي - رضي الله عنه - على سهل بن حنيف، فكبر عليه ستًّا، ثم التفت إلينا فقال: إنه من أهل بدر".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا حفص بن غياث، عن عبد الملك ابن سلع الهمداني، عن عبد خير قال: "كان علي - رضي الله عنه - يكبى على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب النبي - عليه السلام - خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا. فهكذا كان حكم الصلاة على أهل بدر. وقد حدثني القاسم بن جعفر قال: ثنا زيد بن أخزم الطائي، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا سليمان بن بشير قال: "صليت خلف الأسود بن يزيد وهمام بن الحارث وإبراهيم النخعي، فكانوا يكبرون على الجنائز أربعًا. قال همام بن الحارث: وجمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس على أربع إلا على أهل بدر، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسًا وسبعًا وتسعًا". فدل ما ذكرنا أن ما كانوا اجتمعوا عليه من عدد التكبير الأربع في عهد عمر - رضي الله عنه - إنما كان على غير أهل بدر، وتركوا حكم أهل بدر على ما فوق الأربع فما روي عن زيد بن أرقم مما ذكرنا، إنما هو لأنه كان ذهب إلى هذا المذهب فيما يرى. والله أعلم. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يكون إجماع الصحابة ناسخًا لما زاد على التكبيرات الأربع على الجنازة بمشورة عمر بن الخطاب، والحال أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كبر بعد ذلك بأكثر من أربع، وذلك حين صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستًّا، وعلى أبي قتادة فكبر عليه سبعًا؟ وأخرج الأول بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي أيضًا، عن يحيى بن سعيد القطان الأحول، روى له الجماعة، عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي الكوفي روى له الجماعة، واسم أبي خالد هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير. عن عامر بن شراحيل الشعبي روى له الجماعة، عن عبد الله بن مَعْقِل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف- بن مُقَرِّن -بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وبالنون- المزني الكوفي، روى له الجماعة، أبو داود في "المراسيل".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن ابن الأصبهاني، عن عبد الله بن مَعْقِل، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كبر على بن حنيف ستّا". ثنا (¬2) وكيع، قال: أنا إسماعيل، عن الشعبي، عن ابن معقل: "أن عليًّا كبر على سهل بن حنيف ستًّا". وأخرج الثاني: أيضًا بإسناد صحيح عن هؤلاء المذكورين، غير أن في موضع عامر: موسى بن عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي الكوفي، وثقه يحيى والعجلي وابن حبان والدارقطني، وروى له الجماعة غير البخاري والنسائي، لكن الترمذي في "الشمائل". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن موسى بن عبد الله بن يزيد قال: "صلى علي - رضي الله عنه - على أبي قتادة فكبر عليه سبعًا". قلت: اسم أبي قتادة الحارث بن ربعي، مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وقيل غير ذلك. فإن قيل: أخرج البيهقي (¬4) هذا: من حديث عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن موسى بن عبد الله بن يزيد: "أن عليًّا - رضي الله عنه - صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعًا، وكان بدريًّا". ثم قال البيهقي: هكذا روي وهو غلط؛ لأن أبا قتادة بقي بعد عليّ - رضي الله عنه - مدة طويلة. قلت: رجال ما أخرجه الطحاوي من طريقين ورجال ما أخرجه هو أيضًا ثقات، وهذا أخرجه ابن أبي شيبة (3): بإسناد صحيح، فكيف يكون غلطًا، وإنما ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 497 رقم 11465). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 497 رقم 11466). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 497 رقم 11459). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 36 رقم 6734).

غَرَّ البيهقي قول من قال: إن أبا قتادة توفي سنة أربع وخمسين، وهذا قول غير صحيح، وقد بينا الكلام فيه في باب الجلوس في التشهد مستقصى. وتقرير الجواب أن يقال: إن أهل بدر - رضي الله عنهم - كانوا يفضلون على غيرهم حتى في التكبير في الصلاة على موتاهم؛ فلأجل ذلك فعل علي ما فعل من تكبيره ستًّا على سهل بن حنيف، وتكبيره سبعًا على أبي قتادة. وسهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، والدليل على ذلك ما رواه عبد الله بن معقل وعبد خير عن علي - رضي الله عنه -. وأخرج ما رواه عبد الله بن معقل من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن محمد الصيرفي، عن عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني البصري شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة روى له الجماعة، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ليس بالقوي. وعنه: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: وهو من شيعة أهل الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه. روى له مسلم مقرونًا بغيره، وروى له الأربعة. عن عبد الله بن معقل وقد ذكر الآن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن معقل قال: "كبر علي - رضي الله عنه - في سلطانه أربعًا أربعًا ها هنا؛ إلا على سهل بن حنيف فإنه كبر عليه ستًّا، ثم التفت إليهم فقال: إنه بدري". والثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن معقل. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 495 رقم 11435).

وأخرج ما رواه عبد خير بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي قاضيها روى له الجماعة، عن عبد الملك بن سلع الهمْداني الكوفي، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي في "مسند علي". عن عبد خير بن يزيد الهمْداني الكوفي، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وروى له الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: "كان علي - رضي الله عنه - يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله - عليه السلام - خمسًا، وعلى الناس أربعًا". قوله: "وقد حدثني القاسم بن جعفر ... " إلى آخره، أشار به إلى أن إجماع عمر بن الخطاب مع الصحابة على أن التكبيرات على الجنائز أربع، خارج عن حكم أهل بدر، فإن حكمهم مستثنى من ذلك الإجماع، باق على ما كانوا يكبرون عليهم خمسًا وسبعًا وتسعًا، والقاسم بن جعفر بن شذونة أبو محمد البصري نزيل مصر، روى عن زيد بن [أخرم بالخاء المعجمة والراء المهملة] (¬2) الطائي النبهاني أبي طالب البصري الحافظ شيخ الجماعة سوى مسلم، عن يعلى بن عبيد بن أبي أمية الإيادي الكوفي، روى له الجماعة، عن سليمان بن بشير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة- ويقال سليمان بن يُسَيْر بضم الياء آخر الحروف في أوله، وفتح السين المهملة- ويقال: ابن أسير -بضم الهمزة موضع الياء- ويقال: ابن سقير، ويقال: ابن قسيم، ويقال: ابن قسم أبو الصباح النخعي الكوفي، قال يحيى: ضعيف ليس بشيء. وقال أحمد: لا يساوي شيئًا. وقال الفلاس: منكر الحديث. وقال البخاري: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 496 رقم 11454). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وهو وهم، فقد ضبطه ابن ماكولا في "الإكمال" (1/ 37)، وابن نصر الدين في "توضيح المشتبه" (1/ 170)، والحافظ ابن حجر في "التقريب" بالزاي المعجمة.

ليس بالقوي عندهم. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال النسائي: متروك. روى له ابن ماجه حديثًا واحدًا في فضل القرض. ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة بن قيس قال: "قدم ناس من أهل الشام فمات لهم ميت، فكبروا عليه خمسًا، فأردت أن ألَاحيهم، فأخبرت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: ليس فيه شيء معلوم". فهذا عندنا يحتمل ما ذكرنا في اختلاف حكم الصلاة على البدريين وعلى غيرهم، فكان عبد الله أراد بقوله "ليس فيه شيء فمعلوم" أي ليس فيه شيء يكبر في الصلاة على الناس جميعًا لا يجاوز إلى غيره، وقد روي هذا الحديث بغير هذا اللفظ. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الشيباني، قال: ثنا عامر، عن علقمة، أنه ذكر ذلك لعبد الله فقال عبد الله: "إذا تقدم الإمام فكبروا بما كبر؛ فإنه لا وقت ولا عدد". وهذا عندنا معناه ما ذكرنا أيضًا؛ لأن الإمام قد كان يصلي حينئذ على بدريين وعلى غيرهم، فإن صلى على البدريين فكبر عليهم كما يكبر على البدريين -وذلك ما فوق الأربع- فكبروا ما كبر، وإن صلى على غير البدريين فكبر أربعًا -كما يكبر عليهم- فكبروا كما كبر لا وقت ولا عدد في التكبير في الصلاة على جميع الناس من البدريين وغيرهم لا يجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه. وقد روي هذا الحديث أيضًا، عن عبد الله بغير هذا اللفظ. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله قال: "التكبير على الجنازة لا وقت ولا عدد إن شئت أربعًا وإن شئت خمسًا، وإن شئت ستًّا". فهذا معناه غير معنى ما حكى عامر عن علقمة، وما حكى عامر عن علقمة من هذا فهو أثبت؛ لأن عامرًا قد لقي

علقمة وأخذ عنه، وأبو إسحاق فلم يلقه ولم يأخذ عنه، ولأن عبد الله قد روي عنه في التكبير أنه أربع، من غير هذا الوجه. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: نا شعبة، عن علي بن الأقمر، عن أبي عطية، قال: سمعت عبد الله - رضي الله عنه - يقول: "التكبير على الجنائز أربع كالتكبير في العيدين". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قالا: ثنا سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي عطية، عن عبد الله قال: "التكبير في العيدين أربع كالصلاة على الميت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن علي بن الأقمر ... فذكر بإسناده مثله. فهذا عبد الله لما سئل عن التكبير على الجنازة؛ أخبر أنه أربع، وأمرهم في حديث علقمة أن يكبروا ما كبر أئمتهم؛ فلو انقطع الكلام على ذلك لكان وجه حديثه عندنا على أن أصل التكبير عنده أربع، وعلى أن من صلى خلف من يكبر أكثر من أربع كبر كما كبر إمامه؛ لأنه قد فعل ما قد قاله بعض العلماء، وقد كان أبو يوسف يذهب [إلى هذا] (¬1) القول ولكن الكلام لم ينقطع على ذلك، وقال: "لا وقت ولا عدد" فدل ذلك على أن معناه في ذلك: لا وقت عندي للتكبير في الصلاة على الجنائز ولا عدد، على المعنى الذي ذكرناه في أهل بدر وغيرهم، أي لا وقت ولا عدد في التكبير في الصلاة على الناس جميعًا، ولكن جملته: لا وقت لها ولا عدد إن كان أهل بدر هكذا حكم الصلاة عليهم والصلاة على غيرهم، على ما روى عنه أبو عطية؛ حتى لايتضاد شيء من ذلك. ش: لما كان ما روي عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وهو الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج ابن منهال الأنماطي البصري شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند دينار البصري، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عامر الشعبي، عن علقمة بن قيس بن عبد الله أبي شبل النخعي الكوفي روى له الجماعة- ينافي ما ذكره من انتساخ حكم التكبير الزائد على الأربع بحسب الظاهر، أورده أولًا ثم أورد عنه أيضًا ما روى على الاختلاف في المعنى واللفظ؛ ليوجه ذلك ويصحح معانيه ويُنَزِّلها على ما ذكره أولًا، ويدفع بذلك أيضًا ما يظهر بين رواياته من التنافي والتضاد. بيان ذلك: أن قوله ليس فيه شيء معلوم يفهم منه بحسب الظاهر أي لا ينحصر التكبير في الجنازة على الأربع، ولكن يحتمل أن يكون معناه مثل ما ذكرنا في اختلاف حكم الصلاة على من كان من أهل بدر وعلى من كان من غيرهم، والمعنى ليس فيه شيء أنه يكبر في الصلاة على الناس جميعًا لا يُجَاوز إلى غيره، يعني إن كان من البدريين لا يجاوز التكبير عليهم عن ما روي من الست والسبع والتسع، وإن كان من غيرهم لا يجاوز عن الأربع. وقد روي هذا الحديث -يعني حديث ابن مسعود هذا- بغير اللفظ المذكور. وهو ما أخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن موسى ابن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة، عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني، روى له الجماعة، عن عامر الشعبي، عن علقمة بن قيس، أنه ذكر ذلك. وأشار به إلى قوله: "قدم ناسٌ من أهل الشام فمات لهم ميت، فكبروا عليه خمسًا، فقال عبد الله بن مسعود: إذا تقدم الإمام فكبروا بما كبر؛ فإنه لا وقت ولا عدد".

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن علقمة بن قيس: "أنه قدم من الشام فقال لعبد الله: إني رأيت معاذ بن جبل وأصحابه بالشام يكبرون على الجنائز خمسًا، فوقتوا لنا وقتا نتابعكم عليه، قال: فاطرق عبد الله ساعة ثم قال: كبروا ما كبر إمامكم، لا وقت ولا عدد". وهذا الحديث أيضًا معناه ما ذكر الآن، يعني: إن كان الإمام يصلي على البدريين فكبروا مثل ما كبر ستًّا أو سبعًا أو تسعًا لا يجاوز إلى غير ذلك، وإن كان يصلي على غيرهم فكبروا أربعًا، لا يجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه. وقد روي هذا الحديث المذكور عن عبد الله بغير اللفظ المذكور. وهو ما أخرجه بإسناد منقطع على ما نبينه: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن علقمة، عن عبد الله قال: "التكبير على الجنازة لا وقت ولا عدد ... " إلى آخره. وهذا يخالف ما رواه عامر الشعبي عن علقمة، ولكن هذا منقطع؛ لأن أبا إسحاق لم يلق علقمة ولا أخذ منه، والذي رواه الشعبي عنه صحيح متصل؛ لأن الشعبي لقي علقمة وأخذ عنه؛ فإذا كان كذلك لا يعارض هذا ما رواه الشعبي عن علقمة عن عبد الله. ثم أشار إلى بيان صحة التأويل الذي ذكره وإلى ضعف ما رواه أبو إسحاق عن علقمة بقوله: "ولأن عبد الله قد روي عنه في التكبير أنه أربع". وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الوادعي أبي الوازع الكوفي روى له الجماعة، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 496 رقم 11450).

أبي عطية الوادعي الكوفي اسمه مالك بن أبي حمرة، وقيل: مالك بن عامر، وقيل: عمرو بن جندب، وقيل: غير ذلك، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن مسعر وسفيان وشعبة، عن علي بن الأقمر، عن أبي عطية قال: قال عبد الله: "التكبير على الجنائز أربع تكبيرات بتكبيرة الخروج". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي عطية، عن عبد الله. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان، عن علي بن الأقمر ... إلى آخره. الرابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة شيخ البخاري، عن شعبة، عن علي بن الأقمر، عن أبي عطية، عن عبد الله. قوله: "فهذا عبد الله لما سئل ... " إلى آخره، بيانه: أن عبد الله بن مسعود لما سئل عن تكبيرات الجنازة قال: أربع، فدل على أن مذهبه في هذا هو مذهب ما ذهب إليه من يقول بانتساخ ما زاد على الأربع، غير الزيادة التي في حكم البدريين، والباقي ظاهر. قوله: "لأنه قد فعل ما قد قاله بعض العلماء" أي لأن من صلى خلف من يكبر أكثر من أربع فعل في متابعته إمامه في تلك الزيادة ما قد قاله بعض العلماء، وهم بكر بن عبد الله وأحمد بن حنبل في رواية وطائفة من الظاهرية. وقد كان أبو يوسف أيضًا يذهب إلى هذا القول. وقال ابن قدامة: ظاهر كلام الخرقي: أن الإمام إذا كبر خمسًا تابعه المأموم، وإذا زاد على خمس فعن أحمد يتابع إمامه إلى سبع، ثم لا يزاد على سبع، ولا يسلم إلا مع الإمام، وهذا قول بكر بن عبد الله المزني. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11426).

قوله: "أن أُلاحيهم" من الملاحاة -بالحاء المهملة- وهي المنازعة، ومنه حديث ليلة القدر: "تلاحى رجلان فرفعت" (¬1) أي تنازع. والله أعلم. ص: ثم قد روي عن أكثر أصحاب رسول الله - عليه السلام - في صلاتهم على جنائزهم أنهم كبروا فيها أربعًا، فمما روى عنهم في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جمع أصحاب رسول الله - عليه السلام - فسألهم عن التكبير على الجنازة، فأخبر كل واحد منهم بما رأى وبما سمع، فجمعهم عمر - رضي الله عنه - على أربع تكبيرات كأطول الصلوات: صلاة الظهر". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى القطان، قال: ثنا إسماعيل، عن عامر قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبزى قال: "صلينا مع عمر بن الخطاب على زينب بالمدينة، فكبر عليها أربعًا". حدثنا يزيد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: ثنا عمير بن سعيد، قال: "صليت مع علي - رضي الله عنه - على يزيد بن المكفف فكبر عليه أربعًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن عمير مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت عمير بن سعيد ... فذكر مثله. حدثنا علي، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمير بن سعيد، عن علي - رضي الله عنه - مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي حصين، عن موسى بن طلحة قال: "شهدت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - صلى على جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة، ثم كبر عليهم أربعًا". ¬

_ (¬1) تقدم.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن طلحة قال: "صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنهما - على جنازة فكبر عليها أربعًا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أنا أبو أمامة بن سهل بن حنيف وكان من كبراء الأنصار وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله - عليه السلام -، أن رجلًا من أصحاب النبي - عليه السلام - أخبره: "أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب سرًّا في نفسه، ثم يختم الصلاة في التكبرات الثلاث، قال الزهري: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث، عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنازة مثل الذي حدثك أبو أمامة. حدثنا ابن أبي داود، وقال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق: "أن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - كبر على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أربعًا، وهذا خلاف ما كان عمر وعلي - رضي الله عنهما - يريانه في أهل بدر أن يكبر في الصلاة عليهم ما جاوز الأربع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن ثابت بن عبيد قال: "صليت خلف زيد بن ثابت على جنازة، فكبر عليها أربعًا، وصليت خلف أبي هريرة على جنازة فكبر عليها أربعًا". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا موسى بن يعقوب، قال: حدثني شرحبيل بن سعد قال: "صلى بنا عبد الله بن عباس على جنازة فكبر أربع تكبيرات". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن مهاجر أبي الحسن قال: "صليت خلف البراء بن عازب على جنازة فقال: اجتمعتم؟ فقلنا: نعم، فكبر أربعًا".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: "صليت خلف أبي هريرة - رضي الله عنه - على جنائز من رجال ونساء، فسوى بينهم وكبر أربعًا". ش: أخرج عن تسعة أنفس من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يكبرون على الجنازة أربع تكبيرات، وهم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وحبيب بن مسلمة والحسن بن علي وزيد بن ثابت والبراء بن عازب وأبو هريرة - رضي الله عنهم - تأكيدًا لما ذكره من انتساخ حكم الزائد على الأربع. أما أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن عامر بن شقيق بن جمرة -بالجيم والراء- الكوفي وثقه ابن حبان، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الكوفي ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الثوري، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: "كانوا يكبرون على عهد رسول الله - عليه السلام - سبعًا وخمسًا وستًّا وأربعًا، فجمع عمر - رضي الله عنه - أصحاب رسول الله - عليه السلام - فأخبر كل رجل بما رأى، فجمعهم عمر - رضي الله عنه - على أربع تكبيرات كأطول الصلاة". الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى المختلف في صحبته ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬2): ثنا حفص بن غياث ووكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى قال: "ماتت زينب ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 37 رقم 6738). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 15 رقم 11651).

بنت جحش فكبر عليها عمر أربعًا، ثم سأل أزواج النبي - عليه السلام - من يدخل قبرها؟ فقلن من كان يدخل عليها في حياتها". قلت: ماتت زينب بنت جحش بن رباب الأسدية أم المؤمنين سنة عشرين من الهجرة، وكانت أول نساء النبي - عليه السلام - لحوقًا به - رضي الله عنها -. وأما أثر علي بن أبي طالب فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان، عن يحيى القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمير بن سعيد النخعي الأصبهاني أبي يحيى الكوفي روى له الجماعة -سوى الترمذي- حديثًا واحدا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا حفص، ثنا حجاج، عن عمير بن سعيد قال: "صليت خلف علي - رضي الله عنه - على يزيد بن المكفف يكبر عليه أربعًا". الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن عمير بن سعيد. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث مسعر، عن عمير بن سعيد النخعي قال: "صليت خلف علي - رضي الله عنه - على ابن المكلف فكبر عليه أربعًا ثم أتى قبره فقال: اللهم عبدك وولد عبدك نزل بك وأنت خير مُنْزَل به، اللهم وَسِّع له مداخله، واغفر له ذنبه، فإنا لا نعلم إلا خيرًا وأنت أعلم به". الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمير بن سعيد. الرابع: عن علي بن شيبة أيضًا، عن قبيصة بن عقبة السُّوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن عمير بن سعيد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11423). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 37 رقم 6741).

وأما أثر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب، عن الخَصيب -بفتح الخاء المعجمة- ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان. عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري روى له الجماعة، عن أبي حَصِين -يفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي روكل له الجماعة. عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أبي محمَّد التيمي المدني روه له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) مختصرًا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن شعبة، عن أبي حَصِين، عن موسى بن طلحة، عن عثمان - رضي الله عنه -: "أنه صلى على رجل وامرأة، فجعل الرجل مما يليه". ويستفاد منه: أن الجنائز إذا اجتمعت من الرجال والنساء، فالسنة أن يجعل الإمام الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة. وفي "الموطأ" (¬2): عن مالك: "أنه بلغه أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة - رضي الله عنهم - كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء، فيجعلون الرجل مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة". وإلى هذا ذهب الشعبي والنخعي والزهري وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وفي "العيون" اجتمع جنائز جعل الرجل مما يلي الإمام ثم الصبي ثم الخنثى، ثم النساء بالإجماع. وفي "المصنف": عن سالم والقاسم: "النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة" وكذا عن ليث وعطاء بن أبي رباح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 8 رقم 11572). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 230 رقم 542).

وفي "المغني" (¬1) فإن اجتمع جنائز رجال ونساء، فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يسوي بين رءوسهم، وهذا اختيار القاضي، وقول إبراهيم وأهل مكة، ومذهب أبي حنيفة. والرواية الثانية: أنه يصف الرجال صفًا والنساء صفًا ويجعل وسط النساء عند صدور الرجال. وهذا اختيار أبي الخطاب. وأما أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه من طريقين حسنين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن زيد بن طلحة التيمي والد يعقوب بن زيد، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن زيد بن طلحة قال: "شهدت ابن عباس كبر على جنازة أربعًا". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن موسى بن يعقوب بن عبد الله المدني، وعن يحيى: ثقة. وعن ابن المديني: ضعيف الحديث. وعن أبي داود: صالح. روى له الأربعة. عن شرحبيل بن سعد أبي سعد المدني مولى الأنصاري، وثقه ابن حبان، وضعفه يحيى، وروى له أبو داود وابن ماجه. وأما أثر حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري، مختلف في صحبته، قال الواقدي: مات النبي - عليه السلام - ولحبيب بن مسلمة اثنى عشر سنة. وقال البخاري: له صحبة. ¬

_ (¬1) "المغني" (2/ 390). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11429).

فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة أسعد أو سعد بن سهل بن حنيف روى له الجماعة، عن رجل من الأصحاب وفيه قال الزهري وهو محمَّد بن مسلم: محمد بن سويد بن كلثوم القرشي الفهري ابن أخي الضحاك بن قيس، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي. وهو يروي عن الضحاك بن قيس الفهري، ذكره عبد الغني في الصحابة، وذكره ابن حبان في التابعين الثقات. وهذا الأثر أخرجه الشافعي في "مسنده" (¬1): أنا مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، أخبرني أبو أمامة بن سهل، أنه أخبره رجل من الصحابة: "أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه، ثم يصلي على النبي - عليه السلام -، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرًّا في نفسه". وبه عن الزهري: حدثني محمد الفهري، عن الضحاك بن قيس، مثل قول أبي أمامة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من طريق الشافعي، وأخرجه الحكم (¬3): من حديث يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو أمامة، أخبرني رجال من أصحاب رسول الله - عليه السلام - في الصلاة على الجنازة: "أن يكبر الإمام ثم يصلي على النبي - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 359). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 39 رقم 6750). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 512 رقم 1331).

ويخلص الدعاء في التكبيرت الثلاث، ثم يسلم تسليمًا خفيًّا حين ينصرف، والسنة أن يفعل من ورائه مثل ما فعل إمامه. قال الزهري: حدثني بذلك أبو أمامة، وابن المسيب يسمع فلم ينكر ذلك عليه، فقال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنة في الصلاة على الميت لمحمد بن سويد، فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث، عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثك أبو أمامة". قال الحكم: هذا صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وأخرج النسائي في "سننه" (¬1): أنا قتيبة، قال: نا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة أنه قال: "السنة في الصلاة على الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة". أنا قتبية (¬2) قال: نا الليث، عن ابن شهاب، عن محمد بن سويد الفهري الدمشقي، عن الضحاك بن قيس، بنحو ذلك. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن تكبيرات الجنازة أربع. الثاني: فيه قراءة فاتحة الكتاب، وللعلماء فيه أقوال: فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قراءة في صلاة الجنازة أصلًا، ولكن لو قرأ على وجه الثناء لا بأس بها. وقال الشافعي وأحمد: قراءة الفاتحة سنة. وقال ابن قدامة في "المغني": يكبر الأولى ثم يستعيذ ويقرأ الحمد يبتدئ بها ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا يسن الاستفتاح. وقال ابن المنذر: كان الثوري يستحب أن يستفتح في صلاة الجنازة، وروي عن أحمد مثله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 75 رقم 1989). (¬2) "المجتبى" (4/ 75 رقم 1990).

ثم قال: قراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة وبه قال الشافعي وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة: لا يقرأ فيها بشيء من القرآن. انتهى. وعن ابن عون: "كان الحسن البصري يقرأ بالفاتحة في كل تكبيرة على الجنازة" قال ابن بطال: وهو قول شهر بن حوشب، وقال الضحاك: اقرأ في التكبيرتين الأولين بفاتحة الكتاب، وكان مكحول يفعل ذلك. وفي "المحلى": صلى المسور بن مخرمة فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة ورفع بها صوته، فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه الصلاة عجماء ولكني أردت أن أعلمكم أن فيها قراءة. وفي بعض شروح البخاري: وممن كان لا يقرأ فيها ابن عمر وابن سيرين وأبو العالية وفضالة بن عبيد وأبو بردة بن أبي موسى وعطاء والشعبي وطاوس وبكر الزني وميمون بن مهران وسالم، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي وسعيد بن جبير والحكم، ويروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. وفي "شرح المهذب": قراءة الفاتحة فرض في صلاة الجنازة بلا خلاف عندنا، قال: والأفضل أن يقرأها بعد التكبيرة الأولى؛ فإن قرأها بعد تكبيرة أخرى غير الأولى جاز، ويستحب التأمين عقيب الفاتحة، وفي قراءة السورة وجهان؛ الأصح لا يستحب، وفي دعاء الاستفتاح وجهان؛ الأصح لا يأتي به، وأما التعوذ فذكر عن بعض الأصحاب يستحب أن لا يأتي به، وعند بعضهم يستحب. قال: وفي التكبيرة الثانية يصلي على النبي - عليه السلام - الصلاة المعروفة في التشهد، قال: وجمهور أصحابنا على فرضيتها، ونقل عن المروزي أنها سنة والصواب الأول. قال: واتفقت نصوص الشافعي على أن الدعاء في الثالثة فرض وركن من أركانها، وهل يشترط تخصيص الميت بالدعاء، فيه وجهان:

أحدهما: لا يشترط بل يكفي الدعاء للمؤمنين، والميت يدخل فيه ضمنًا. والثاني: وهو الصحيح: يشترط تخصيصه بالدعاء. الثالث: فيه إسرار القراءة، قال ابن قدامة: ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة ولا نعلم بين أهل العلم فيه خلافًا، وري عن ابن عباس أنه جهر بفاتحة الكتاب، قال أحمد: إنما جهر ليعلمهم. والله أعلم. وأما أثر الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس ينسب إلى جده، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. يروي عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص بن عطية، عن خليفة بن روق، عن مولى للحسن بن علي: "أن الحسن بن علي صل على علي - رضي الله عنه - فكبر عليه أربعًا". قوله: "وهذا خلاف ما كان عمر وعلي يريانه" أراد أن مذهبهما أن البدريين يُكبر عليهم في صلاتهم بما يجاوز الأربع، وعلي بدري بلا خلاف، ولما صلى عليه ابنه الحسن لم يزد على أربع. وأما أثر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن ثابت بن عبيد الأنصاري الكوفي، مولى زيد بن ثابت، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن مسعر، عن ثابت بن عبيد: "أن زيد بن ثابت كبر أربعًا، وأن أبا هريرة كبر أربعًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 495 رقم 11432). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11430).

وأما أثر البراء بن عازب - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن يونس، عن إسرائيل بن يونس، عن مهاجر أبي الحسن التيمي الكوفي الصائغ روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وأخرجه ابن في شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن مسعر، عن مهاجر أبي الحسن قال: "صليت خلف البراء على جنازة فكبر أربعًا". وأما أثر أبي هريرة - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود، عن أحمد بن يونس، عن إسرائيل بن يونس، عن عثمان بن عبد الله بن موهب التيمي أبي عمرو المدني الأعرج، روى له الجماعة سوى أبي داود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن نمير، عن الحجاج، عن عثمان بن عبد الله، نحوه. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله - عليه السلام - المذكورين في هذه الآثار كانوا يكبرون في صلاتهم على جنائزهم أربع تكبيرات، ثم لا ينكر ذلك عليهم غيرهم؟ فدل ذلك أن ذلك هو حكم التكبير في الصلاة على الجنائز، وأن ما زاد على التكبيرات الأربع فإنما كان لمعنى خاص خُصَّ به بعض الموتى ممن ذكرنا من أهل بدر على سائر الناس؛ فثبت بما ذكرنا أن التكبير على الجنازة أربع على الناس جميعًا من بعد أهل بدر إلى يوم القيامة، وكان مذهب أي حنيفة وسفيان وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله في التكبير على الجنازة أيضًا بما ذكرنا، وقد روى ذلك أيضًا عن محمَّد بن الحنفية. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو حمزة عمران بن أبي عطاء، قال: "شهدت وفاة ابن عباس بالطائف، فوليه محمد بن الحنفية، فصلى عليه فكبر أربعًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11427). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 494 رقم 11427).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عمران بن أبي عطاء قال: "صليت خلف ابن الحنفية على ابن عباس فكبر عليه أربعًا". والله أعلم. ش: أشار بهؤلاء إلى من روى عنهم من الصحابة فهم تسعة أنفس كما ذكرنا، وأشار بهذا الكلام إلى أن الإجماع من الصحابة قد انعقد على أربع تكبيرات بعد البدريين إلى يوم القيامة. قوله: "وقد روي ذلك أيضًا" أي كون التكبيرات أربعًا "عن محمَّد بن الحنفية" وهو محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية واسمها خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة وكانت من سبي اليمامة، سباهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، روى له الجماعة. وأخرج آثره من طريقين صحيحين: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن هشيم بن بشير، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- عمران بن أبي عطاء القصاب الواسطي، وثقه يحيى، ولينه أبو زرعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا هشيم، عن عمران بن أبي عطاء قال: "شهدت وفاة ابن عباس، فوليه ابن الحنفية، فكبر عليه أربعًا". قلت: كانت وفاة ابن عباس في سنة ثمان وستين من الهجرة بالطائف، وكان عمره يوم مات إحدى وسبعين سنة. الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، عن سفيان الثوري، عن عمران بن أبي عطاء. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 18 رقم 11689).

ص: باب: الصلاة على الشهداء

ص: باب: الصلاة على الشهداء ش: أي هذا باب في بيان الصلاة على الشهداء، وهو جمع شهيد، وهو في الأصل من قُتِلَ مجاهدًا في سبيل الله، ثم اتسع فيه فأطلق على مَنْ سماه النبي - عليه السلام - من المبطون والغريق والحريق وصاحب الهدم وذات الجنب وغيرهم، وسمي شهيدًا لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله -عز وجل- حتى قتل، وقيل: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل، وقيل غير ذلك، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول على اختلاف التأويل. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن ابن شهاب حدثه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر قال: "كان النبي - عليه السلام - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم". وأخرجه الأربعة (¬2) أيضًا، وليس لفظة: "ولم يصل عليهم". إلا في رواية البخاري والترمذي فقط. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 450 رقم 1278). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 213 رقم 3138)، و "جامع الترمذي" (3/ 354 رقم 1036)، و"المجتبى" (4/ 62 رقم 1955)، و"سنن ابن ماجه" (1/ 485 رقم 1514).

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال النسائي: لا أعلم أحدًا تابع الليث من أصحاب الزهري على هذا الإسناد، واختلف عليه فيه، وقال الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن الزهري، عن أنس، عن النبي - عليه السلام -، وروي عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَيْر، عن النبي - عليه السلام -، ومنهم من ذكره عن جابر. قوله: "قتلى أُحُد" القتلى فعلى جمع قتيل، وأُحُد جبل مشهور بالمدينة، سمي بهذا الاسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، قال السهيلي: وفي أُحُد قبر هارون - عليه السلام - أخي موسى - عليه السلام -، وفيه قبض، وَثَمَّ واراه موسى - عليه السلام -، وكانا قد مَرَّا بأُحُد حاجّين أو معتمرين، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومالك ومحمد بن إسحاق، قال ابن إسحاق: في النصف من شوال. وقال قتادة: يوم السبت في الحادي عشر منه. قال مالك: وكانت الوقعة أول النهار. قوله: "بدمائهم" جمع دم وأصله: دَمَو بالتحريك، وإنما قالوا: دَمِيَ يَدْمي بحال الكسرة التي قبل الياء كما قالوا رضي يرضى، وهو من الرضوان، وقال سيبويه: الدم أصله دَمْي على فعل بالتسكين؛ لأنه يجمع على دماء مثل ظَبْي وظباء وظُبْي، ودلو ودلاء ودُلي، قال: ولو كان مثل قفا وعصا لما جمع على ذلك، وقال المبرد: أصله فَعَلَ بالتحريك وإن جاء جمعه مخالفًا لنظائره، والذاهب منه الياء، والدليل عليه قولهم في تثنيته دَمَيان فافهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يصلى على من قتل من الشهداء في المعركة، ولا على من جرح منهم فمات قبل أن يحمل من مكانه كما لا يغسل، وممن قال ذلك أهل المدينة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق في رواية؛ فإنهم قالوا: الشهيد لا يصلي عليه كما لا يغسل، وإليه ذهب أهل الظاهر.

وقال ابن حزم في "المحلى": والصلاة على المسلمين فرض حاشى المقتول بأيدي المشركين في سبيل الله في المعركة خاصة؛ فإنه لا يغسل ولا يكفن لكن يدفن بدمه وثيابه، إلا أنه ينزع السلاح عنه، وإن صلي عليه فحسن، وإن لم يُصل عليه فحسن، فإن حمل عن المعركة وهو حي فمات، غسل وكفِّن وصلي عليه. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: بل يصلى على الشهيد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة أخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى والحسن ابن حي وعبيد الله بن الحسن وسليمان بن موسى وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، وأحمد في رواية وإسحاق في رواية؛ فإنهم قالوا: يصلى على الشهيد. وهو قول أهل الحجاز أيضًا. ص: وكان من الحجة لهم على مخالفيهم: أن الذي في حديث جابر إنما هو أن النبي - عليه السلام - لم يصل عليهم، فقد يجوز أن يكون تركه ذلك لأن سنتهم أن لا يصلي عليهم كما كان من سنتهم أن لا يغسلوا، ويجوز أن يكون لم يصل عليهم وصلى عليهم غيره؛ لما كان به حينئذ من ألم الجراح وكسر الرباعية وما أصابه يومئذ من المشركين. فإنه حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي حازم وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن أبي حازم -قال سعيد في حديثه: سمعت سهل بن سعد، وقال ابن أبي حازم-: عن سهل: "أنه سئل عن وجه رسول الله - عليه السلام - يوم أحد بأي شيء دُووي؟ قال سهل: كسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وجرح وجهه، وكانت فاطمة - رضي الله عنها - تغسله وكان علي - رضي الله عنه - يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها ولصقتها على جرحه فاستمسك الدم. يختلف لفظ ابن أبي حازم وسعيد في هذا الحديث والمعنى واحد".

حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام، عن أبي حازم، عن سهل: "أن النبي - عليه السلام - أصيب يوم أحد في وجهه بجرح، وأن فاطمة ابنته - رضي الله عنها - أحرقت قطعة من حصير فجعلته رمادًا وألصقته على وجهه، وقال النبي - عليه السلام -: اشتد غضب الله -عز وجل- على قوم دَمَّوا وجه رسول الله - عليه السلام -". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: "هشمت البيضة على رأس رسول الله - عليه السلام - يوم أحد، وكسرت رباعيته، وجرح وجهه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد بن عبد الله، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله - عليه السلام -، وكانوا قد دَمَّوا وجهه يومئذ وهشموا عليه البيضة، وكسروا رباعيته". حدثنا عبد الله بن محمد بن حشيش، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه؛ فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله -عز وجل-؟! فأنزل الله -عز وجل-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ". ش: أي كان من الدليل للأخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد به الجواب عن حديث جابر الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن ترك النبي - عليه السلام - الصلاة عليهم يومئذ يحتمل وجهين: الأول: أنه يحتمل أنه - عليه السلام - ترك الصلاة عليهم؛ لكون السنة في حقهم ترك الصلاة عليهم كما كانت السنة في حقهم ترك غسلهم فيكون ذلك مخصوصًا بهم. والثاني: يحتمل أن يكون - عليه السلام - لم يصل عليهم لأمرٍ منعه، ولا يسلتزم ذلك نفي صلاة غيره عليهم، وذلك لكون النبي - عليه السلام - مشغولًا بنفسه في ذلك اليوم غير متفرغ

للصلاة عليهم؛ لما قد حصل له فيه من ألم الجراحة وكسر رباعيته وما أصابه يومئذ من أذى المشركين. والدليل على ذلك: ما روي عن سهل بن سعد وأبي هريرة وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. أما حديث سهل فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد العزيز بن أبي حازم، واسم أبي حازم سلمة بن دينار المدني، روى له الجماعة. وعن سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي المدني، روى له مسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلاهما يرويان. عن أبي حازم الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم روى له الجماعة، عن سهل بن سعد بن مالك الأنصاري الساعدي له ولأبيه صحبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا يعقوب، عن أبي حازم: "أنه سمع سهل بن سعد وهو يُسأل عن جرح رسول الله - عليه السلام -، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - عليه السلام - ومن كان يسكب الماء بالمجن، وبما دووي، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة - رضي الله عنها - أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها، فاستمسك الدم، وكُسِرت رباعيته يومئذ، وجُرح وجهه، وكُسرت البيضة على رأسه". وأخرجه مسلم (¬2): نا يحيى بن يحيى، قال: نا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه: "أنه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله - عليه السلام - يوم أحد، فقال: جرح وجه رسول الله - عليه السلام -، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1496 رقم 3847). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1416 رقم 1790).

فاطمة ابنة رسول الله - عليه السلام - تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا، وألصقته بالجرح، فاستمسك الدم". الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن نافع الصائغ القرشي المدني، عن هشام ابن سعد المدني، عن أبي حازم سلمة بن دينار ... إلى آخره. وأخرج الطبراني (¬1) نحوه: ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، ثنا داود ابن عمرو الضبي، ثنا زهرة بن عمرو بن معبد التيمي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "شهدت النبي - عليه السلام - حين كسرت رباعيته وجرح وجهه وهشمت البيضة على رأسه؛ وإني لأعرف من يغسل الدم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على وجهه حتى رقأ الدم؛ كانت فاطمة بنت محمد رسول الله - عليه السلام - تغسل الدم عن وجهه، وعلي - رضي الله عنه - ينقل الماء عليها في مجنة، فلما غسلت الدم عن وجه أبيها أحرقت حصيرًا حتى إذا صارت رمادًا أخذت من ذلك الرماد فوضعته على وجهه حتى رقأ الدم، ثم قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم كَلَمُوا وجه رسول الله، ثم مكث ساعة، ثم قال: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان محمَّد بن مطرف الليثي المدني نزيل عسقلان، عن أبي حازم سلمة بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن سهل التميمي، قال: حدثني ابن أبي مريم، قال: ثنا محمَّد يعني ابن مطرف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد نحوه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس السلمي أبي عثمان الواسطي البزاز روى له ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 162 رقم 5862). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1416 رقم 1790).

الجماعة، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان روى له المجماعة، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني روى له الجماعة مسلم في المتابعات والبخاري مقرونًا بغيره، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأما حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن عبد الله ابن محمَّد بن خُشَيْش -بالمعجمات وضم الأول- عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): عن القعنبي، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. قوله: "بأي شيء دووي" بواوين، ووقع في بعض النسخ بواو واحدة، فتكون الأخرى محذوفة كما حذفت من داود وطاوس. قوله: "البَيْضة" بفتح الباء، وهي الخوذة. قوله: "رباعيته" بفتح الراء، قال الجوهري: الرباعية مثل الثمانية: السنن الذي بين الثَّنيَّة والناب، والجمع: رباعيات. قوله: "بالمِجَنّ" وبكسر الميم، وهو الترس، والميم زائدة؛ لأنه من الجُنَّه: وهي السترة. قوله: "هُشِّمت" أي كسرت، من الهشم وهو الكسر. قوله: "دَمَّوا" بتشديد الميم بمعنى أدموا، ويروى كذا أيضًا. قوله: "كَلَمُوا" أي جرحوا، من الكَلْم وهو الجرح، ومنه اشتقاق الكلام. قوله: "تسلت الدم" أي تميطه وتمسحه عن خده، يقال سلتت المرأة خضابها عن يَديْها إذا ألقت عنها العُصْم، والعُصم -بضم العين-: بقية كل شيء، وأثره من القطِران والخضاب ونحوهما. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1417 رقم 1791).

فإن قيل: ممن كان الشج وكسر الرباعية لرسول الله - عليه السلام -؟. قلت: زعم ابن سعد أن عتبة بن أبي وقاص شج النبي - عليه السلام - في وجهه، وأصاب رباعيته. وزعم السهيلي أن عبد الله بن قمئة هو الذي جرح وجه رسول الله - عليه السلام -. ص: فيجوز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - تخلف عن الصلاة عليهم لألم نزل به، وصلى عليهم غيره. وقد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب حدثه أن أنس بن مالك حدثه: "أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم". ففي هذا الحديث ما ينفي الصلاة عليهم من رسول الله - عليه السلام - ومن غيره؛ فنظرنا في هذا الحديث كيف هو؟ وهل زيد على ابن وهب فيه شيء، فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: أنا أسامة، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - عليه السلام - مَرّ يوم أحد بحمزة - رضي الله عنه - وقد جُدِع ومُثِّل به، فقال: لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع فكفنه في نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وقال: أنا شهيد عليكم يوم القيامة". ففي هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - لم يصل يومئذ على أحد من الشهداء غير حمزة - رضي الله عنه -، فإنه صلى عليه وهو أفضل شهداء أحد، فلو كان من سنه الشهداء أن لا يصلى عليهم، لما صلى على حمزة كما لم يغسله، إذْ كان من سنة الشهداء أن لا يغسلوا وصارمًا في هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - صلى على حمزة ولم يصل على غيره، فقد يحتمل أن يكون لم يصل على غيره لشدّة ما به مما ذكرنا، وصلى عليهم غيره من الناس. ش: لما ذكر أن حديث جابر - رضي الله عنه - يحتمل وجهين، الثاني منهما: أنه يجوز أن يكون - عليه السلام - ترك الصلاة عليهم لشده الألم الذي نزل به، وأن هذا لا ينفي صلاة غيره

عليهم؛ أو رد عليه حديث أنس؛ فإنه أخبر فيه أنه لم يُصَلّ عليهم، وهو يقتضي ترك الصلاة عليهم من رسول الله - عليه السلام - ومن غيره، فلذلك ذكره أولًا. وأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس. وأخرجه الحاكم (¬1): عن محمد بن يعقوب، أبنا ابن عبد الحكم، أبنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، أن ابن شهاب حدثه، أن أنشا حدثه: "أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم، ولم يصلّ عليهم". وقال: وهو صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ثم أخرج عن أنس أيضًا بزيادة على حديثه المذكور تدل على أن المراد من قوله في ذاك الحديث "ولم يصلَّ عليهم" غير حمزة، فإنه صلى عليه لكونه أفضل شهداء أحد، ولم يصلي على غيره، لما ذكرنا من أجل شدة الألم الذي نزل به واشتغل به عن الصلاة عليهم، وهو ما رواه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أنس بن مالك ... إلى آخره. وإسناده صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عباس العنبري، ثنا عثمان بن عمر، نا أسامة، عن الزهري، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - مر بحمزة وقد مُثِّل به، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره". وقال أيضًا (¬3): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا زيد يعني ابن الحباب. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 520 رقم 1352). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3137). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 195 رقم 3136).

ونا قتيبة بن سعيد، نا أبو صفوان يعني المرواني، عن أسامة، عن الزهري، عن أنس المعنى: "أن رسول الله - عليه السلام - مر على حمزة وقد مثل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر من بطونها وقلت الثياب وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد -زاد قتيبة- ثم يدفنون في قبر واحد، فكان رسول الله - عليه السلام - يسأل أيهم أكثر قرآنًا؟ فيقدمه إلى القبلة". وأخرجه الترمذي (¬1) وقال: حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه، وفي حديثه: "لم يصل عليهم". وأخرجه الحاكم (¬2) أيضًا: ولفظه: "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ... " الحديث. فإن قيل: ذكر الترمذي في "علله" (¬3) قال محمد: حديث أسامة عن الزهري عن أنس غير محفوظ، غلط فيه أسامة. وقال الدارقطني (¬4): تفرد به أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس بهذه الألفاظ، ورواه عثمان بن عمر، عن أسامة، عن الزهري، عن أنس وزاد فيه حرفا لم يأت به غيره، فقال: "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره يعني حمزة". وقال الدارقطني: لم ينقل هذه اللفظة غير عثمان بن عمر البصري، فليس بمحفوظ. قلت: أما أسامة بن زيد فقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري، وأما عثمان بن عمر البصري فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، والزيادة من الثقة مقبولة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 335 رقم 1016). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 519 رقم 1351). (¬3) "العلل الكبير" (1/ 308). (¬4) "سنن الدارقطني" (4/ 116 رقم 43).

قوله: "وقد جُدع" جملة وقعت حالًا من الجدع وهو قطع الأنف أو الأذن أو الشفة والمعنى ها هنا أن رسول الله - عليه السلام - مرّ يوم أحد على حمزة والحال أنه وجده وهو مقطوع الأنف. قوله: "ومُثِّل به" من مَثَّلت بالحيوان أمثل مَثْلًا -بالسكون- إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه والاسم المُثْلة ومُثِّل بالتشديد للمبالغة وبابه من نَصَرَ يَنْصُر. قوله: "لولا أن تجزع صفية" وهي أخت حمزة، عمة النبي - عليه السلام - بنت عبد الطلب، وهي أم الزبير بن العوام، ولم يُسلم من عمات النبي - عليه السلام - وكن ستًّا غير صفية، وقيل: عاتكة أيضًا. قوله: "في نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم، وهي كل شملة مخططة من مآزر الأعراب وجمعها نمِار، كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض. قوله: "إذا خمر" أي غطى، ومنه الخمار لتغطيته الرأس، والخمر لتغطيته العقل. قوله: "حتى تأكله العافية" أي السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها، وتجمع على العوافي، وقال ابن الأثير: العافية والعافي كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، وجمعهما العوافي وقد تقع العافية على الجماعة، يقال: عَفَوْتَه واعتَفَيْته أي أتيته أطلب معروفه. ص: وقد جاء في غير هذا الحديث: أن رسول الله - عليه السلام - صلى يومئذ على حمزة وعلى سائر الشهداء. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة وحمزة موضوع، ثم توضع عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة معهم".

حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - يوم أحد بالقتلى، فجعل يصلي عليهم، فيوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم سبعًا حتى فرغ منهم". حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحمض بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله ابن الزبير: "أن رسول الله - عليه السلام - أمر يوم أحد بحمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه فكبر تسع تكبيرات ثم أتي بالقتلى يصفون ويصلي عليهم وعليه معهم". فهذا ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - قد خالفا أنس بن مالك فيما روينا عنه قبل هذا. ش: أي قد جاء في حديث آخر غير حديث أنس، أنه - عليه السلام - صلى يوم أحد على حمزة وعلى سائر الشهداء، وهو حديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - فإن حديثهما يصرح بأنه - عليه السلام - صلى يوم أحد على جميع من استشهد هناك، فدل أن الشهيد يصلي عليه. فهذا خلاف ما رواه أنس، فهذا أولى من حديث أنس؛ لأنه مثبت، وحديث أنس نافي والمثبت أولى، وكذلك قالوا في حديث جابر لأنه نافي، وقد قيل: إن جابرًا كان يومئذ مشغولًا؛ فإنه قتل أبوه وأخوه وخاله، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة، فلم يكن حاضرًا حين صلى النبي - عليه السلام - عليهم، فلهذا روى في روايته ولم يصلي عليهم، ومن شاهد النبي - عليه السلام - قد روى أنه صلى عليهم. وقيل: يجوز أن النبي - عليه السلام - لم يصل عليهم في ذلك اليوم وصلى عليهم في يوم غير ذلك اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في صلاته عليهم بعد ثمان سنين. فإن قيل: الشهيد وُصِفَ بأنه حَيٌّ بالنص، والصلاة شرعت على الميت لا على الحي.

قلت: الشهيد حي في أحكام الآخرة، فأما في أحكام الدنيا فهو ميت يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته والصلاة عليه من أحكام الدنيا. فإن قيل: الصلاة ما شرعت إلا بعد الغسل، فسقوطه دليل على سقوطها. قلت: غسله لتطهيره، والشهادة طهرته فاغنت عن الغسل، كسائر الموتى بعدما غسلوا. أما حديث ابن عباس فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي شيخ الشيخين، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، واسمه محمد أو عبد الله أو سالم أو شعبة أو رؤبة أو مسلم أو خداش أو مطرف أو حماد أو حبيب، والصحيح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه. عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، احتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونًا بغيره. عن مقسم بن بَجَرَة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات، وقيل: بضم الباء وسكون الجيم، وقيل: ابن نجدة بالنون والجيم- مولي عبد الله بن الحارث بن نوفل، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، روي له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، نا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "أتي بهم رسول الله - عليه السلام - يوم أحد، فجعل يصلي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يرفعون وهو كما هو موضوع". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 485 رقم 1513).

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا العباس بن عبد الله البغدادي، نا أحمد بن عبد الله بن يونس، نا أبو بكر بن عياش، نا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "لما قتل حمزة - رضي الله عنه - يوم أحد أقبلت صفية تسأل ما صنع؟ فلقيت عليًّا والزبير - رضي الله عنهما - فقالت: يا علي ويا زبير ما فعل حمزة فأوهماها أنهما لا يدريان، قال: فضحك النبي - عليه السلام - وقال: إني أخاف على عقلها، فوضع يده على صدرها ودعا فاسترجعت وبكت، ثم قام عليه وقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير، ثم أُتي بالقتلى فجعل يصلي عليهم، فتوضع سبعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة مكانه ثم يجاء فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم". وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬2)، والطبراني في "معجمه" (¬3)، والبيهقي في "سننه" (¬4) ولفظهم (¬5): "أمر رسول الله - عليه السلام - بحمزة يوم أحد فهيئ للقبلة ثم كبر عليه سبعًا، ثم جُمع إليه الشهداء حتى صلى عليه سبعين صلاة". زاد الطبراني: "ثم وقف عليهم حتى واراهم". وسكت الحاكم عنه، وتعقبه الذهبي فقال: ويزيد بن أبي زياد لا يحتج به. ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي له في "مجمع "الزوائد" (3/ 142) بهذه الألفاظ، وفيها خلاف مع ألفاظ الروايات الآتية، وقال الهيثمي: "وفي إسناد البزار والطبراني يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف". (¬2) "المستدرك" (3/ 218 رقم 4895). (¬3) "المعجم الكبير" (3/ 142 رقم 2935). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 12 رقم 6596). (¬5) هذا لفظ الدارقطني في "السنن" (4/ 116 رقم 42)، والطبراني (11/ 62 رقم 11051)، وانظر "نصب الراية" (2/ 310).

وقال البيهقي: هكذا رواه يزيد بن أبي زياد، وحديث جابر أنه لم يصل عليهم أصح. وقال ابن الجوزي في "التحقيق": ويزيد بن أبي زياد منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وتعقبه صاحب "التنقيح" بأن ما حكاه عن البخاري والنسائي إنما هو في يزيد بن زياد، وأما راوي هذا الحديث فهو الكوفي، ولا يقال فيه: ابن زياد، وإنما هو ابن أبي زياد، وهو ممن يكتب حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقرونًا بغيره، وروى له أصحاب السنن، وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وابن الجوزي جعلهما في كتابه الذي في الضعفاء واحدًا، وهو وهم، وغلط (¬1). قلت: ومما يؤيد حديث [يزيد] (¬2) بن أبي زياد هذا ما رواه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، حدثني من لا أتهم، عن مقسم مولى ابن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - بحمزة فَسُجِّي ببردة، ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة، وقال السهيلي في "الروض الأنف": قول ابن إسحاق في هذا الحديث حدثني من لا أتهم إن كان هو الحسن بن عمارة كما قاله بعضهم فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره فهو مجهول، ولم يرو عن النبي - عليه السلام - أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية ولا في مدة الخليفتين من بعده. انتهى. قلت (1): وقد ورد مصرحًا فيه بالحسن بن عمارة كما رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في "سننه" عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون من قتلى أحد، أشرف ¬

_ (¬1) هذا نص كلام الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 311)، وانظر ما بعده أيضًا. (¬2) في "الأصل، ك": "زياد"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-.

رسول الله - عليه السلام - على القتلى، فرأى منظرا أساءه، فرأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: لولا أن [تحزن] (¬1) النساء فتكون سنة بعدي لتركته حتى يحشره الله في بطون السباع والطير ولمثلت بثلاثين منهم مكانه، ثم دعى ببردة فغطى بها وجهه فخرجت رجلاه، فغطى بها رجليه فخرج رأسه، فغطى بها رأسه، وجعل على رجليه من الإذخر ثم قدمه فكبر عليه عشرًا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع إلى جنبه فيصلي عليه ثم يرفع، ويجاء بآخر فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى سبعين صلاة، وكانت القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} (¬2) الآية، فصبر - عليه السلام - ولم يقتل ولم يعاقب. انتهى. ولما أخرج البيهقي حديث ابن إسحاق الذي ذكرناه في "سننه" قال: ورواه الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قتلى أحد" ثم أخرج عن محمود بن غيلان، ثنا أبو داود الطيالسي، قال لي شبعة: ائت جرير بن حازم فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة فإنه كذاب، قال أبو داود: فقلت لشعبة ما علامة كذبه؟ قال: روى عن الحكم أشياء فلم أجد لها أصلًا، قلت للحكم: صلى النبي - عليه السلام - على قتلى أحد؟ قال: لا، وقال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أنه - عليه السلام - صلى على قتلى أحد". قلت: ذكر الرامهرمزي في كتابه "الفاصل" هذه الحكاية عن ابن المديني، عن محمود، عن أبي داود، ثم ذكر عن ابن المديني قال: ثنا عبدان، ثنا محمد بن عبد الله المخرمي، ثنا أبو داود، سمعت شعبة يقول: ألا تعجبون من هذا المجنون؟! جرير بن حازم وحماد بن زياد أتياني يسألان أن أسكت عن الحسن بن عمارة، ¬

_ (¬1) في "الأصل": "تخرج"، والمثبت من "نصب الراية". (¬2) سورة النحل، آية: [126].

ولا والله لا أسكت عنه، ثم قال: والله لا أسكت عنه، فذكر وضع الزكاة في صنف ثم قال: وهذا الحسن يحدث عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي: "أنه - عليه السلام - صلى على قتلى أحد وغسلهم" وأنا سألت الحكم عن ذلك فقال: يصلى عليهم ولا يغسلون ... إلى آخره. ثم قال الرامهرمزي: أصل هذه الحكاية من أبي داود وقد خَلَّط فيها أو خُلِّط عليه فيها، والمخرمي أضبط من ابن غيلان، وبين الحكايتين تفاوت شديد، ولا يستدل على تكذيب الحسن بالطريق الذي استدل به شعبة؛ لأنه استفتى الحكم في المسألتين فأفتى بما عنده، وهو أحد فقهاء الكوفة، فلما قال: شعبة عمن قال في إحداهما: هو قول إبراهيم، وفي الأخرى: هو قول الحسن. ولا يلزم المفتى أن يفتي بما روى، ولا يترك رواية ما لا يفتي به، هذا مذهب فقهاء الأمصار، هذا مالك يعمل بخلاف كثير مما روى والزهري، عن سالم، عن أبيه أثبت عند أهل الحديث من الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقد حدث به مالك، عن الزهري ثم ترك العمل به، وأبو حنيفة روى حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المستحاضة، ثم قال بخلافه، ويمكن أن يحدث الحكم بما العمل عليه عنده بخلافه، فيسأله شعبة فيجيب بما العمل عليه عنده، والإنصاف أولى بأهل العلم. وأما حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنها -: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بُهلول التميمي أبي يعقوب الأنباري نزيل الكوفة، أحد أصحاب أبي حنيفة وثقه الحضرمي والخطيب، عن عبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني، وثقه يحيى والنسائي والدارقطني وابن حبان، وروى له الأربعة، عن أبيه عباد بن عبد الله، روى له الجماعة، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -.

وأخرجه ابن شاهين في كتابه: من حديث ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن الزبير - رضي الله عنه - قال: "صلى النبي - عليه السلام - على حمزة فكبر سبعًا"، وقال البغوي: حفظي أنه قال: عن عبد الله بن الزبير. قوله: "فسُجِّي ببردة" أي غطي بها، وهي الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه خطوط تلبسه الأعراب، وجمعها برد. ص: وروي مثل ذلك أيضًا عن أبي مالك الغفاري: حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، عن حصين ابن عبد الرحمن، قال: سمعت أبا مالك الغفاري قال: "كان قتلى أحد يؤتي بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلي عليهم رسول الله - عليه السلام - ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله - عليه السلام -". ش: أي روي عن أبي مالك الغفاري مثل ما روى عن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم -. وقد أخرج حديثه بإسناد صحيح، ولكنه مرسل: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس التميمي، شيخ البخاري، واسم أبي إياس عبد الرحمن. عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي ابن عم منصور بن المعتمر، عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان الكوفي وثقه ابن معين وذكره ابن حبان في التابعين الثقات. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا ابن صاعد، نا بندار، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن أبي مالك قال: "كان يجاء بقتلى أحد تسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم النبي - عليه السلام - ثم يرفعون تسعة ويدعون حمزة، ويجاء بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، فيرفعون التسعة ويدعون حمزة - رضي الله عنه -". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 78 رقم 9).

وأخرجه العسكري: عن محمد بن إبراهيم الشلاباني، عن إسحاق بن إبراهيم الشهيد، عن ابن فضيل، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: "صلى النبي - عليه السلام - على حمزة، فكان يجاء بتسعة معه، فلم يزل كذلك حتى صلى على جماعتهم". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي يوسف القاضي، نا حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: "صلى النبي - عليه السلام - على قتلى أحد - رضي الله عنهم - عشرة عشرة، في كل عشرة منهم حمزة، حتى صلى عليه سبعين صلاة" قال الذهبي في "مختصر السنن": كذا قال، ولعله سبع صلوات؛ إذ شهداء أحد سبعون أو نحوها. وأخرجه البيهقي أيضًا (¬2): من حديث شعبة، عن حصين، سمعت أبا مالك الغفاري يقول: "كان قتلى أحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلى عليهم ... ". وأخرجه أبو داود أيضًا في "المراسيل" (¬3). ص: وقد روي أيضًا عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير أخبره، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: "إن آخر ما خطب لنا رسول الله - عليه السلام - أنه صلى على شهداء أحد، ثم رقي على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني لكم فرط، وأنا شهيد عليكم". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 12 رقم 6595). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 12 رقم 6594). (¬3) "المراسيل" (1/ 307 رقم 428) من طريق عطاء عن الشعبي كما عند البيهقي.

ففي حديث عقبة أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين فلا تخلو صلاته عليهم في ذلك الوقت من أحد ثلاثة معانٍ: إما أن تكون سنتهم كانت أن لا يصلى عليهم، ثم نسخ ذلك الحكم بَعْدُ بأن يصلى عليهم. أو تكون تلك الصلاة التي صلاها عليهم تطوعًا وليس للصلاة عليهم أصل في السنة والإيجاب. أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن ويصلى عليهم بعد طول المدة. لا يخلو فعله - عليه السلام - من هذه المعاني الثلاث، فأعتبرنا ذلك، فوجدنا أمر الصلاة على سائر الموتى هو أن يصلى عليهم قبل دفنهم، ثم تكلم الناس في التطوع عليهم قبل أن يدفنوا أو بعدما يدفنون، فجوَّز ذلك قوم وكرهه آخرون، فأمر السنة فيه أوكد من التطوع؛ لاجتماعهم على السنة واختلافهم في التطوع، فإن كان قتلى أحد ممن تُطوع بالصلاة عليهم فإن في ثبوت ذلك ثبوت السنة في الصلاة عليهم قبل أوان وقت التطوع بها عليهم وكل تطوع فله أصل في الفرض، فإن ثبت أن تلك الصلاة كانت من النبي - عليه السلام - تطوعًا تطوع به فلا يكون ذلك إلا والصلاة عليهم سنة كالصلاة على غيرهم، وإن كانت صلاته عليهم لعلمه نسخ فعله الأول وتركه الصلاة عليهم؛ فإن صلاته هذه عليهم توجب أن من سنتهم الصلاة عليهم، وأن تركه الصلاة عليهم عند دفنهم منسوخ، وإن كانت صلاته عليهم إنما كانت لأن هكذا سنتهم أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة، وأنهم خصوا بذلك، فقد يحتمل أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلي عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة، ويجوز أن يكون سائر الشهداء تعجل الصلاة عليهم غير شهداء أحد؛ فإن سنتهم كانت تأخير الصلاة عليهم، إلا أنه قد ثبت بكل هذه المعاني أن من سنتهم ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما

هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن أو في تركها البتة، فلما ثبت في هذا الحديث الصلاة عليهم بعد الدفن كانت الصلاة عليهم قبل الدفن أحرى وأولى. ش: ذكر حديث عقبة هذا لتأكيد صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من إثبات الصلاة على الشهداء، وشاهدًا لما ذكر من الدلائل الدالة على ذلك. وأخرجه من طريقين: الأول: بإسناد صحيح؛ لأن رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن لهيعة فهو وإن كان فيه مقال، ولكنه ذكر متابعة، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري. وأخرجه مسلم في فضائل النبي - عليه السلام - (¬1) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم ... " الحديث. الثاني: أيضًا بإسناد صحيح؛ لأن رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن معبد فإنه أيضًا ثقة، ويونس بن محمد بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب روى له الجماعة. وأخرجه البخاري في المغازي في غزوة أحد (2): حدثني عمرو بن خالد، ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: "أن النبي - عليه السلام - خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1795 رقم 2296). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1498 رقم 3857).

خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها". قوله: "ثم رقى" أي صعد، من رقيت في السلم -بالكسر- رَقْيًا ورُقيًّا إذا صعدت، وارتقيت مثله، ورقى عليه ترقية إذا رفع، وترقَّى في العلم أي رقى فيه درجة درجة. قوله: "فَرَط" بفتح الراء هو الذي يتقدم الوارد فيهئ لهم ما يحتاجون إليه، والمراد به ها هنا الثواب والشفاعة، والنبي - عليه السلام - يتقدم أمته ليشفع لهم وكذلك الولد لأبويه يقال: فَرَطَهم يَفْرُطُهم فهو فَارِطٌ وفَرَط، والجمع: فُرَّاط. قوله: "ففي حديث عقبة أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين" وذلك لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة وكانت صلاته - عليه السلام - عليهم عقيب خطبته التي هي آخر خطبه. قوله: "فلا يخلو ... " إلى آخره، ملخص هذا: أن صلاته - عليه السلام - في ذلك الوقت إما لأن السنة كانت أن لا يصلي عليهم أولًا ثم نسخ ذلك وسير إلى الصلاة حتى صلى عليهم بعد المدة الطويلة. وإما كانت هذه الصلاة تطوعًا من النبي - عليه السلام - وليس للصلاة عليهم أصل لا من حيث السنة ولا من حيث الوجوب. وإما كانت السنة في حقهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن بل بعد مدة طويلة، وأمر الصلاة في حق غيرهم أن يكون قبل دفنهم، ولكن اختلفوا في صلاة التطوع عليهم، قبل الدفن أو بعده؟ فمنهم من أجاز ذلك وهو معنى قوله: "فجوز ذلك قوم" وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق، ومنهم من كره ذلك وهو معنى قوله: "وكرهه آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية، ولكن أمر السنة في هذا آكد من التطوع للاتفاق من الكل على السنة والاختلاف منهم في التطوع، ثم لا يخلو قتل أحد إما أن يكونوا

ممن تطوع عليهم فإن كان هذا ففيه ثبوت السنة من الصلاة عليهم كالصلاة على غيرهم؛ لأن كل تطوع له أصل في الفرض، وإلا فإن كانت صلاته - عليه السلام - عليهم لانتساخ ما كان من الترك ابتداء، ففيه ثبوت سنية الصلاة عليهم في الوقت الذي صلى عليهم، وفيه دليل على نسخ ترك الصلاة عند دفنهم، وإلَّا فإن كانت صلاته لأجل أن السنة أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة، وأخهم مخصوصون بذلك دون سائر القتل، ففيه احتمال أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة، ولكنه يجوز تعجيل الصلاة على سائر الشهداء غير شهداء أحد؛ فإن السنة في حقهم تأخير الصلاة عليهم، وأيًاما كان من هذه المعاني ففيه ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن، والكلام بين المخالفين في هذه الأيام إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن كما هو مذهب أهل المقالة الثانية، أو في ترك الصلاة عليهم بالكلية كما هو مذهب أهل المقالة الأولى، وقد أثبتنا بالتقسيمات المذكورة ثبوت الصلاة عليهم بعد الدفن، فإذا كانت بعد الدفن ثابتة على ما دل عليه صريح الحديث، مع أنه مخالف للنظر؛ فثبوتها قبل الدفن أحرى وأجدى، لكونه على وفق النظر والقياس، فافهم. والله أعلم. ص: ثم قد روي عن النبي - عليه السلام - في غير شهداء أحد: أنه صلى عليهم فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عكرمة بن خالد أن ابن أني عمار أخبره، عن شداد بن الهاد: "أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي - عليه السلام - فآمن به واتبعه، وقال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - عليه السلام - بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم رسول الله - عليه السلام - فيها أشياء، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوا إليه، فقال: ما هذا قالوا قسم قسمه لك رسول الله - عليه السلام - فأخذه فجاء به النبي - عليه السلام - فقال: يا محمد ما هذا؟! قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت وأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا إلى

العدو، فأتى به النبي - عليه السلام - يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي - عليه السلام - أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، وكفنه النبي - عليه السلام - في جُبَّة ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته عليه: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد عليه". ففي هذا الحديث إثبات الصلاة على الشهداء الذين لا يغسلون؛ لأن النبي - عليه السلام - في هذا الحديث لم يغسل الرجل، وصلى عليه فثبت بهذا أن يكون كذلك حكم الشهيد المقتول في المعركة يصلى عليه ولا يغسل، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح الآثار. ش: ذكر هذا الحديث لمعنيين: أحدهما: شاهدًا لما ذكره من الدلائل في إثبات الصلاة على الشهداء. والثاني: ردًّا على من زعم أنه لم ينقل عن النبي - عليه السلام - أنه صلى على أحد ممن قتل في المعركة في غير غزوة أحد. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور نزيل مصر، وثقه يحيى والعجلي وروى له الجماعة سوى النسائي لكن مسلمًا في مقدمة كتابه. عن عبد الله بن المبارك روى له الجماعة، عن [عبد الملك بن] (¬1) عبد العزيز ابن جريج المكي روى له الجماعة، عن عكرمة بن خالد بن العاص المكي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي المكي، كان يلقب بالقس لعبادته روى له الجماعة سوى البخاري، عن شداد بن الهاد الكناني الصحابي واسم الهاد أسامة بن عمرو، لقب به لأنه كان يوقد النار ليلًا للأضياف. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز كما في مصادر ترجمته، وقد مرَّ مرارًا.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن ابن جريج، قال: أخبرني عكرمة بن خالد، أن ابن أبي عمار أخبره، عن شداد بن الهاد: "أن رجلًا من الأعراب ... " إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه، غير أن في روايته: "فلما كانت غزوة خيبر -أو غزوة حنين- غنم رسول الله - عليه السلام - ... ". وقال أبو عبد الرحمن: ما أعلم أحدًا تابع ابن المبارك على هذا، والصواب: ابن أبي عمار، عن ابن شداد بن الهاد، وابن المبارك أحد الأئمة ولعل الخطأ من غيره. وقال في موضع آخر: هذا خطأ والصواب عندنا: عن ابن شداد مرسل. قلت: تخطئة عبد الله بن المبارك بلا دليل خطأ، وعدم متابعة أحد إياه لا تضر صحة حديثه لجلالة قدره، ولئن سلمنا أنه مرسل فهو حجة! قوله: "من الأعراب" وهم سكان البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه والنسبة إليه: عربي، وإلى الأعراب أعرابي، وليس الأعراب جمعًا للعرب، وإنما العرب اسم جنس، والأعراب خاص، فلا يكون جمعًا للجنس؛ فافهم. والعرب العاربة هم الخُلَّص منهم وأُخِذَ من لفظه كقولك ليلٌ أليل، وربما قالوا: العرب العرباء، والعرب المستعربة: هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة. قوله: "وكان يرعى ظهورهم" أي إبلهم، قال ابن الأثير: الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب، يقال: عند فلان ظهر: أي إبل. قوله: "أن أرمى" على صيغة المجهول. قوله: "أهو هو" بهمزة الاستفهام في هو الأول وفي بعض نسخ النسائي: "أهو أهو" بهمزة الاستفهام في الموضعين، والصحيح الأول. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 60 رقم 1953). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 271 رقم 7108).

قوله: "إن تَصْدُقِ الله" بنصب لفظة "الله"، من صَدَقَهُ الحديث، بالتخفيف. قوله: "يَصْدُقْكَ" بتخفيف الدال أيضًا. قوله: "صدق الله" بنصب لفظة "الله" أيضًا، وتخفيف الدال. قوله: "في جبته" أي في جبة النبي - عليه السلام - ويروى: "وكفنه النبي - عليه السلام - في جبة النبي - عليه السلام -". ص: وأما النظر في ذلك: فإنا رأينا الميت حتف أنفه يُغَسَّل ويصلى عليه، ورأيناه إذا صُلي عليه ولم يغسل كان في حكم من لم يصل عليه، فكانت الصلاة عليه مضمنة بالغسل الذي يتقدمها، فإن كان الغسل قد كان جازت الصلاة عليه، وإن لم يكن غسل لم تجز الصلاة عليه، ثم رأينا الشهيد قد سقط عنه أن يغسل؛ فالنظر على ذلك أن يسقط ما هو مضمن بحكم الغسل، ففي هذا ما يوجب ترك الصلاة عليه، إلا أن في ذلك معنى، وهو أنا رأينا غير الشهيد يغسل ليطهر، وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر لا تنبغي الصلاة عليه ولا دفنه على حاله تلك حتى ينقل عنها بالغسل، ثم رأينا الشهيد لا بأس بدفنه على حاله تلك قبل أن يغسل، وهو في حكم سائر الموتى الذين قد غسلوا؛ فالنظر على ذلك أن يكون في الصلاة عليهم في حكم سائر الموتى الذين غسلوا؛ هذا هو النظر في هذا الباب مع ما قد شهد له من الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. ش: ملخص هذا الكلام: أن النظر والقياس يشهد لا قاله أهل المقالة الأولى؛ لأن الصلاة على الميت مترتبة على الغسل، ألا ترى أن الميت حتف أنفه إذا لم يغسل لا يصلى عليه؟ فالقياس على ذلك أن لا يصلى على الشهيد؛ لأنه لا يغسل بلا خلاف، ولكن فيه معنى آخر ينظر إليه، وهو أن غير الشهيد إنما يغسل ليطهر لأجل الصلاة عليه والشهيد في حكم الموتى الذين غسلوا؛ لأن السيف قد طهَّره، فكأنه مغسول، حقيقة فيصلى عليه. قوله: "مُضَمَّنة بالغسل" بفتح الميم الثانية.

قوله: "يُغَسل ليطهر وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر" فيه بحث، وهو أن الميت هل يتنجس بالموت أم لا؟ فيه أقوال: فقال العراقيون من أصحابنا: يجب الغسل لنجاسة الميت لا بسبب الحدث؛ لأن للآدمي دمًا سائلًا كالحيوانات الباقية فيتنجس بالموت قياسًا على غيره منها، ألا ترى أنه إذا مات في البئر نجسها ولو حمله المصلي لم تجز صلاته ولو لم يكن نجسًا لجازت، كما لو حمل مُحْدِثا ويجوز أن تزول نجاسته بالغسل كرامة. وقال الآخرون: الآدمي لا ينجس لا حيًّا ولا ميتًا، وإنما وجب الغسل لحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسة تحل به إذْ لو كان يتنجس بالموت لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات. وقال الآخرون: هو أمر تُعبِّدنا به كرامة للميت إذ المؤمن مكرم حيًّا وميتًا. فإن قيل: فعلى القول الثاني كان ينبغي أن يقتصر في الغسل على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة. قلت: نعم كان القياس ذلك، ولكن لما حل الحدث في سائر بدنه وجب غسل جميعه، وليس فيه حرج؛ لأن الحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفى فيها بغسل الأعضاء الأربعة بخلاف حالة الحياة، حيث اكتفي فيها بالأعضاء الأربعة للحرج فيما يتكرر كل يوم، فافهم. فإن قيل: أي قول من هذه الأقوال أصوب؟ قلت: قول من قال: إن الميت لا يتنجس بالموت. وذلك لما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: "لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 469 رقم 11134)، ولفظه: "فإن المؤمن ليس بنجس".

وأخرجه الحكم مرفوعًا (¬1) وقال: صحيح على شرطهما. وأخرج الحكم أيضًا (¬2): من حديث عمرو بن أبي عمرو، عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم". وقال: صحيح الإسناد على شرط البخاري، وفيه رفض لحديث مختلف فيه على محمَّد بن عمرو بأسانيد: "من غسل ميتًا فليغتسل". فإن قيل: روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت". وهو حديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3) وقال البيهقي (¬4): رواته كلهم ثقات. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬5) وقال الترمذي (¬6): حديث حسن. قلت: قال الحاكم: قال محمد بن يحيى الذهلي: لا نعلم فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديثا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديث أبي هريرة موقوف، رفعه خطأ لا يرفعه الثقات (¬7). ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 542 رقم 1422). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 543 رقم 1426). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 126 رقم 256). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 299 رقم 1328). (¬5) "صحيح ابن حبان" (3/ 435 رقم 1161) بنحوه. (¬6) "جامع الترمذي" (3/ 318 رقم 993). (¬7) "علل ابن أبي حاتم" (1/ 351 رقم 1035).

وقال أبو داود في "سننه": (¬1) هذا منسوخ، وذكر ابن حبيب، عن مالك أن حديث الغسل من غسل الميت ضعفه بعضهم. وقال ابن العربي: قالت جماعة أهل الحديث: هو حديث ضعيف. وروى الدارقطني في "سننه" (¬2): حديثًا صحيحًا، عن ابن عمر: "فمنا من يغتسل، ومنا من لم يغتسل". وقال ابن التين حمله بعضهم على الاستحباب لا الوجوب، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان الفوزي، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن عبد الله قال: "سمعت مكحولًا يسأل عبادة بن أوفى النميري عن الشهداء أيصلى عليهم؟ فقال عبادة: نعم" فهذا عبادة بن أوفى - رضي الله عنه - يقول هذا ومغازي أصحاب رسول الله - عليه السلام - بعد رسول الله - عليه السلام - إنما كان جلها هناك نحو الشام، فلم يكن يخفي على أهله ما كانوا يصنعون بشهدائهم من الغسل والصلاة وغير ذلك. ش: ذكر هذا تأكيدًا لما ذكره من الدلائل الموجبة للصلاة على الشهيد، وذلك لأن أكثر غزوات الصحابة بعد النبي - عليه السلام - كانت في الشام، وعبادة بن أوفى ممن سكن الشام، ولما سأله مكحول عن الصلاة على الشهداء أيصلى عليهم؟ قال: نعم، وذلك لأنه لم يكن يخفى عليه ما كانوا يفعلون بشهدائهم من الغسل والصلاة ونحوهما، فلو كانوا لا يصلى عليهم لقال: لا؛ فحيث أجاب بنعم دَلَّ على أن الصحابة وغيرهم كانوا يصلون على الشهداء، وفعلهم من غير إنكار واحدٍ عليهم يدل على الإجماع على ذلك. ¬

_ (¬1) "سنن ابن أبي داود" (2/ 218 رقم 2162). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 72 رقم 4).

وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الخطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبي عمرو الحمصي شيخ البخاري وكان يعد من الأبدال، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي ثقة، قال دحيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وروى له الأربعة. عن سعيد بن عبد الله الأغطش الخزاعي الشامي وثقه ابن حبان، عن مكحول الدمشقي الفقيه روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عبادة بن أوفى وقيل: ابن أبي أوفى بن حنظلة بن عمرو بن رياح بن جَعْونة بن الحارث بن نمير ابن عامر بن صعصعة أبي الوليد النميري، اختلف في صحبته وهو شامي سكن قنسرين وقيل: دمشق، والله أعلم.

ص: باب: الطفل يموت، أيصلى عليه أم لا؟

ص: باب: الطفل يموت، أيصلى عليه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الطفل يموت، هل يصلى عليه أم لا؟ قال الجوهري: الطفل المولود، وولد كل وحشية أيضًا طفل، والجمع: أطفال، ويكون الطفل واحدًا وجمعًا مثل الجنب، قال تعالى: {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} (¬1). ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا أبو خيثمة، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - دفن ابنه إبراهيم ولم يصل عليه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: ثنا يعقوب ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان رجالهما ثقات: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي نزيل مصر، عن أبي خيثمة زهير بن حرب بن شداد شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - القرشي الزهري المدني روى له الجماعة، عن أبيه إبراهيم بن سعد روى له الجماعة، عن محمَّد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية روى لها الجماعة، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 244 رقم 3187).

عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "مات إبراهيم ابن النبي عليهما السلام وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، فلم يصل عليه رسول الله - عليه السلام -". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري والأربعة، عن يعقوب بن إبراهيم ... إلى آخره. وأخرجه أحمد، (¬1) والبزار، وأبو يعلى في مسانيدهم. وقال حنبل: قال لنا أبو عبد الله: هذا حديث منكر جدًّا، وأجابوا عنه بوجوه: الأول: شغل النبي - عليه السلام - بصلاة الكسوف، وهذا ضعيف. الثاني: أنه استغنى بفضيلة نبوة النبي - عليه السلام - عن الصلاة كما استغنى الشهداء بفضيلة الشهادة عن الغسل والصلاة عليه عند قوم. الثالث: أنه لا يُصلي نبي على نبي، وقد جاء أنه لو عاش لكان نبيًّا. الرابع: أنه لم يصلي عليه بنفسه وصلى عليه غيره. الخامس: أن جماعة رووا عن النبي - عليه السلام - أنه صلى عليه على ما يجيء إن شاء الله تعالى، فخبر المثبت أولى، وهذا أولى الأجوبة وأحسنها على ما لا يخفى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا يصلى على الطفل، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سويد بن غفلة وسعيد بن جبير وعمرو بن مرة؛ فإنهم قالوا: لا يصلي على الطفل. واحتجوا بالحديث المذكور، ويروى ذلك عن الزبير بن العوام. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬2): وروي عن الزبير بن العوام أنه مات ابن له قد لعب مع الصبيان واشتد ولم يبلغ الحلم اسمه عمر؛ فلم يصل عليه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 267 رقم 26348). (¬2) "المحلى" (5/ 160).

وقال أيضًا (¬1): وتستحب الصلاة على المولود حيًّا ثم يموت، استهل أو لم يستهل، وليس الصلاة عليه فرضًا ما لم يبلغ، أما الصلاة فإنها فعل خير لم يأتي عنها نهي، وأما ترك الصلاة عليه فلما روينا من طريق أبي داود، وروى الحديث المذكور، ثم قال: هذا خبر صحيح، ولكن إنما فيه ترك الصلاة وليس فيه نهي عنها، وقد جاء أثران مرسلان بأنه - عليه السلام - صلى عليه، والمرسل لا حجة فيه. ص: ورووا في ذلك أيضًا عن سمرة بن جندب، حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عقبة بن سيار، قال: حدثني عثمان بن جحاش، وكان ابن أخي سمرة بن جندب قال: "مات ابن لسمرة قد كان سقي ماء، فسمع بكاء فقال: ما هذا؟ فقالوا: على فلان مات، فنهى عن ذلك، ثم دعى بطست أو نقير فغسل بين يديه، وكفن بين يديه، ثم قال لمولاه فلان: انطلق به إلى حفرته، فإذا وضعته في لحده فقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله، ثم أطلق عقد رأسه، وعقد رجليه، وقيل: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، قال: ولم يصل عليه". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن جُلاس، عن ابن جحاش، عن سمرة بن جندب: "أن صبيًّا لهم مات، فقال: ادفنوه ولا تصلوا عليه؛ فإنه ليس عليه إثم، ثم ادعوا الله لأبويه أن يجعله لهما فرطًا وسلفًا". ش: أي روى هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه أيضًا عن سمرة بن جندب، وأخرج حديثه من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن أبي معمر عبد الله ابن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد التميمي أبي عبيدة البصري روى له الجماعة، عن عقبة بن سيار أبي الجلاس الشامي نزيل البصرة وثقه يحيى وابن حبان وروى له أبو داود، ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 158).

عن عثمان بن جحاش ابن أخي سمرة بن جندب وثقه ابن حبان، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عبد الوارث، عن عقبة بن سيار، حدثني عثمان ابن أخي سمرة قال: "مات ابن لسمرة -وفيه- قال: انطلق به إلى حفرته، فإذا وضعته في لحده فقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله - عليه السلام -، ثم أطلق عقد رأسه وعقد رجليه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن جلاس -بضم الجيم وتخفيف اللام- وهو أبو الجلاس عقبة بن سيار، وقال شعبة في روايته: حدثني جلاس بدون ذكر أبي. وقال ابن ماكولا: أبو الجُلاس عقبة بن سيار، وقيل: ابن يسار بتقديم الياء آخر الحروف، ويقال: ابن شماس، يروي عن عثمان بن جحاش روى عنه شعبة فلم يضبط اسمه، فقال: حدثني الجُلاس، وروى عنه عبد الوارث فضبطه، وجُلاس أو أبو جُلاس يروي عن ابن جحاش وهو عثمان بن جحاش ابن أخي سمرة بن جندب ووقع في رواية ابن أبي شيبة: علي بن جحاش حيث قال: ثنا غندر، ثنا شعبة، قال: ثنا جُلاس السلمي، قال: سمعت علي بن جحاش قال: سمعت سمرة بن جندب ومات ابن له صغير فقال: "اذهبوا به فادفنوه، ولا تصلوا عليه؛ فإنه ليس عليه إثم، وادعوا الله لوالديه أن يجعله لهما فرطًا وأجرًا". قوله: "ثم دعى بطست" وهو التور، وهو إناء من صُفْر ويقال فيه بفتح الطاء وكسرها، ويقال: طس أيضًا بالفتح والكسر، ويقال: طَسَه أيضًا بالفتح والكسر، وأصل طست: طس، والتاء فيه بدل من السين بدليل جمعه على طسوس، وطساس والعامة يقولونه بالشين المعجمة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 407 رقم 6506).

و"النقير" بفتح النون وكسر القاف أصله النخل ينقر وسطه وينبذ فيه التمر أيضًا. قوله: "فلانٍ" بالجر لأنه بدل من قوله: "لمولاه" والمراد به مولاه الأسفل وهو الذي تحت رقه، أو أعتق منه. قوله: "لا تحرمنا" من حَرَمَه الشيء يَحْرِمه حَرِمًا، من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، والحَرِم بكسر الراء نحو سَرَقَ سَرِقًا بكسر الراء، ونحوه حرمه حَرِيمة وحرمانًا، وأحرمه أيضًا إذا منعه إياه، وقد تقدم تفسير الفَرَط، والسَّلَف من سلف المال كأنه قد أسلفه وجعله ثمنًا للأجر والثواب الذي يجازى على الصبر عليه، وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين: السَّلَف الصالح. ويستفاد منه أحكام: النهي عن البكاء على الميت ولكن هذا فيما إذا كان بصوت. وأما إذا كان بدون صوت فلا بأس به. وأن الطفل يغسل وأنه يكفن وأنه لا يصلى عليه. وأن السنة لواضع الميت في قبره أن يقول: بسم الله وعلى سنة رسول الله، وأنه يحل العقد من رأسه ورجليه؛ لأنه إنما كان لخوف انتشار الكفن، وقد حصل الأمن عنه بعد وضعه في القبر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يصلى على الطفل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى وابن المسيب وابن سيرين والزهري والنخعي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله؛ فإنهم قالوا: يصلي على الطفل. وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقال أصحابنا: إذا استهل المولود ميتًا سمي وغسل وصُلي عليه، وكذا إذا استهل ثم مات لحينه، والاستهلال أن

يكون منه ما يدل على حياته، فإن لم يستهل لا يغسل ولا يرث ولا يورث ولا يمسى، وعند الطحاوي أن الجنين الميت يغسل، ولم يحك خلافًا، وعن محمَّد: في سقط استبان خلقه: يغسل ويكفن ويحنط ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة: إذا خرج أكثر الولد وهو يتحرك صلي عليه، وإن خرج أقله لم يصل عليه. وفي "شرح المهذب": إذا استهل السقط صلي عليه؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وهو حديث غريب، وإنما هو معروف من رواية جابر. ومن رواية جابر بن عبد الله رواه الترمذي (¬1) وقال: كأن الموقوف أصح، وقال النسائي (¬2): الموقوف أولى بالصواب. ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب الصلاة على السقط. وعن مالك: لا يصلى على الطفل إلا أن يختلج أو يتحرك. وعن ابن عمر أنه يصلى عليه وإن لم يستهل. وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وأحمد وإسحاق. قال العبدري: إن كان له دون اربعة أشهر لم يصل عليه بلا خلاف يعني بالإجماع، وإن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك لم يصل عليه عند جمهور العلماء، وقال أحمد وداود: يصلى عليه. وقال ابن قدامة: السقط الولد تضعه المرأة ميتًا أو لغير تمام، فأما إن خرج حيًّا واستهل فإنه يصلى عليه بعد غسله بلا خلاف، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل صلي عليه، وإن لم يستهل قال أحمد: إذا أتى له أربعة أشهر غُسِّلَ وصلي عليه وهذا قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وإسحاق، وصلى ابن عمر على ابن لابنه ولد ميتًا، وقال الحسن وإبراهيم والحكم وحماد ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 350 رقم 1032). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 77 رقم 6357، 6358).

ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي: لا يصلي عليه حتى يستهل، وللشافعي قولان كالمذهبين. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - قالت: "جاءت الأنصار بصبي لهم إلى النبي - عليه السلام - ليصلي عليه، فقلت -أو قيل له-: هنيئًا له يا رسول الله لم يعمل سوءًا قط ولم يدركه، عصفور من عصافير الجنة، قال: أو غير ذلك، إن الله -عز وجل- لما خلق الجنة خلق لها أهلًا وهم في أصلاب أبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب أبائهم". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم ورجاله كلهم رجال مسلم، وسفيان هو ابن عيينة، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله القرشية المدنية، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم في كتاب القدر (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: "دعي رسول الله - عليه السلام - إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا؛ عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلًا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". وأخرجه أبو داود، (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. قوله: "أو قيل له" شك من الراوي، وفاعل قلت هو عائشة - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2050 رقم 2662). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 641 رقم 4713). (¬3) "المجتبى" (4/ 57 رقم 1947).

قوله: "هنيئًا له" أي للصبي المذكور، وانتصاب هنيئًا على أنه اسم جارٍ مجرى المصدر في انتصابه بعامل محذوف، والمعنى: هنؤ له هنيئًا، يقال: هنؤ الطعام يهنؤ هناءة أي صار هنيئًا، وكذلك هنيء الطعام مثل فَقِهَ وفَقُهَ، وكل أمر يأتيك من غير تعب فهو هنيء، وقد يجيء انتصابه على الحال، نحو قولك: هنيئًا لك المال، والتقدير: ثبت لك المال أو دام حال كونه هنيئًا، وعلى الصفة أيضًا كما في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} (¬1) أي أكلًا هنيئًا وشربًا هنيئًا. قوله: "عصفور" خبر مبتدأ محذوف، أي هو عصفور. قوله: "أو غير ذلك" أي أو يكون غير ما ذكرت يا عائشة، وأراد - عليه السلام - بذلك أن أحدًا لا يجزم عليه بأنه من أهل الجنة وإن كان صغيرًا لم يعمل سوءًا قط إلا الأنبياء عليهم السلام؛ فإنهم مقطوع لهم بالجنة، وكذلك من شهد له النبي - عليه السلام - بالجنة. ويستنبط منه أحكام: الأول: أنه يدل على أن الطفل يصلى عليه. فإن قيل: كيف يدل الحديث على ذلك وليس فيه أنه صلى عليه؟ قلت: إنما جاءت الأنصار بصبيهم إلى النبي - عليه السلام - علمًا منهم أنه - عليه السلام - كان يصلي على الأطفال، ولو كانوا علموا خلاف ذلك لما جاءوا به إليه، وأيضًا لو لم يصل عليه لبين ذلك في الحديث؛ فإنهم جاءوا لأجل الصلاة، فلو كان الطفل لا يصلى عليه لأعلمهم النبي - عليه السلام - بذلك. الثاني: فيه دلالة على أن الأطفال كلهم من المسلمين ومن الكافرين في مشيئة الله تعالى يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب، وذلك كله عدل منه، وهو أعلم بما كانوا عاملين، وهذا مذهب طائفة من العلماء، واحتجوا في ذلك أيضًا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "كل بني آدم يولد على الفطرة ... " الحديث، ¬

_ (¬1) سورة الطور، آية: [19]، وسورة الحاقة، آية: [24]، وسورة المرسلات، آية: [43].

وفيه: "قيل: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬1). قال أبو عمر (¬2): هذا يقتضي كل مولود لمسلم وغير مسلم، ولحديث أبي هريرة أيضًا قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن الأطفال، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين". هكذا قال "الأطفال" لم يخص طفلًا من طفل، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم: حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك، قال أبو عمر: وليس عن مالك في ذلك شيء مخصوص. وقالت طائفة: أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار في المشيئة، وحجتهم حديث أبي هريرة وغره عن النبي - عليه السلام - قال: "ما من المسلمين مَنْ يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وآباءهم الجنة بفضل رحمته، يجاء بهم يوم القيامة فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل آباؤنا، فيقال لهم: ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي". وقالت طائفة: حكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة، وهو مؤمنون بإيمان آبائهم وكافرون بكفر آبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكفار في النار، وحجتهم: حديث سلمة بن يزيد الجعفي قال: "أتيت النبي - عليه السلام - أنا وأختي، فقلنا: يا رسول الله، إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وتفعل وتفعل، فهل ينفعنا من عملها شيء؟ قال: لا، قلنا: فإن أمنا وأدت أختًا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: أرأيتم الوائدة والموءودة فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإِسلام فيغفر لها". ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري (6/ 2434 رقم 6225)، ومسلم (4/ 2048 رقم 2658). (¬2) "التمهيد" (18/ 117).

قال أبو عمر: هذا الحديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في غير مقصوده، فكانت الإشارة إليها، والله أعلم. وقالت طائفة: أولاد المسلمين وأولاد المشركين إذا ماتوا صغارًا في الجنة، وحجتهم حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سألت خديجة النبي - عليه السلام - عن أولاد المشركين، فقال: هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: هم على الفطرة أو قال: في الجنة". وذكر ابن سنجر، ثنا هوذة، ثنا عوف، عن خنساء بنت معاوية قالت: حدثني عمي قال: "قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة". وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم". قال أبو عمر: إنما قال: قيل للأطفال اللاهين؛ لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم. وقالت طائفة: أولاد المشركين خدم أهل الجنة، وحجتهم ما رواه الحجاج بن نُصير، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - قال: "أولاد المشركين خدم أهل الجنة". وعن أنس أيضًا قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الولدان -أو قال: الأطفال- خدم أهل الجنة". وذكر البخاري في حديث رجاء العطاردي، عن سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - الحديث الطويل حديث الرؤيا. وفيه قوله - عليه السلام -: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - عليه السلام -، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة، قال: فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: "وأولاد المشركين". وقالت طائفة: يمتحنون في الآخرة، وحجتهم حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - عليه السلام - في الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، قال: يقول الهالك في

الفترة: لم يأت كتاب ولا رسول ثم تلى {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} (¬1) الآية، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا، ويقول: المولود: رب لم أدرك العقل، فترفع لهم نار فيقال: رِدُوها وادخلوها قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا لو أدرك العمل، قال: فيقول الله: إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم؟. ذكره ابن سنجر. قال أبو عمر: من الناس من يوقف هذا الحديث عن أبي سعيد ولا يرفعه، منهم: أبو نعيم الملائي. وقال السمرقندي في "أصوله": مذهب أهل السنة: أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة أحدًا بلا ذنب صدر منه، فلا يلحق صبيان الكفار بهم خلافًا للخوارج، وأما في إدخالهم الجنة أو كونهم من أهل الأعراف، أو أنهم صاروا خدم أهل الجنة فاختلف العلماء فيه، وكذا اختلفوا في دخول الجن في الجنة، والأصح أنهم يدخلون الجنة ولكن درجاتهم دون درجات بني آدم في الجنة، وهو اختيار أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن الله تعالى، قال في الجن: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2) ولم يذكر دخولهم في الجنة صريحًا فيوقف فيه، قلت: وكذا توقف في أطفال المشركين، وهذا من غايته ورعه ومتانة دينه، وذكر إسحاق بن راهويه قال: ثنا يحيى بن أدم، أنا جرير بن جارية، عن أبي رجاء العطاردي، قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "لا يزال أمر هذه الأمة مواتيًا أو مقاربًا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر". فإن قيل: قوله - عليه السلام -: "كل مولود يولد على الفطرة" يدل بعمومه على أن أطفال المشركين أيضًا على الفطرة، وأنهم إذا ماتوا ما لم يبلغوا الحنث يكونون مع المسلمين في الجنة. ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [134]. (¬2) سورة الأحقاف، آية: [31].

قلت: قد اختلف العلماء في ذلك وفي معنى الفطرة. فقالت طائفة: ليس هذا الكلام عامًّا، والمعنى في ذلك أن كل من ولد على الفطرة وكان أبواه على غير دين الإسلام، هوداه أو نصراه أو مجساه، وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين مولودون على الفطرة ولكن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين يكفرانه، وكذلك من لم يولد على الفطرة وكان أبواه مؤمنين يحكم له بحكمهم في صغره، إن كانا يهوديين فهو يهودي، يرثهما ويرثانه، وكذلك لو كانا نصرانيين أو مجوسيين حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ الحنث، فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه، واحتجوا في ذلك بحديث أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام -: "الغلام الذي قتله الخضر - عليه السلام - طبعه الله يوم طبعه كافرًا". وبما رواه سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد يرفعه: "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات، فمنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا ويحيى مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيى كافرًا ويموت مؤمنًا". ففي هذين دلالة على أن قوله: "كل مولود" ليس على العموم وأن المعنى فيه: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان أو نصرانيان؛ فإنهما يهودانه وينصرناه، ثم يصير عند بلوغه إلي ما يحكم به عليه، ودفعوا رواية من روى: "كل بني آدم يولد على الفطرة". قالوا: ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه حجه أيضًا؛ لأن الخصوص يجوز دخوله على هذا اللفظ وذلك كما في قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1) ولم تدمر، وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة، ومثل هذا كثير. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، آية: [25]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [44].

وقال آخرون: المعنى في ذلك كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدًا، وأبواه يحكم له بحكمهما، إن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه، يدل على ذلك رواية من روى: "كل بني آدم يولد على الفطرة" وحق الكلام أن يجري على عمومه. وأجابوا عن حديث سعيد بن منصور بجوابين: الأول: أنه ضعيف معلول بعلي بن زيد بن جدعان. الثاني: لا معارضة بينه وبين معنى العموم في هذا الحديث؛ لأن من ولد مؤمنًا وعاش عليه ومات عليه وكذا عكسه وما أشبهه كله راجع إلى علم الله تعالى، فإنه قد يولد الولد بين مؤمنين والعياذ بالله يكون سبق في علم الله غير ذلك، وكذا من ولد بين كافرين، وإلى هذا أيضًا يرجع غلام الخضر - عليه السلام -، وقد روى قتادة عن عكرمة: "أن الغلام الذي قتله الخضر كان رجلًا، وكان قاطع طريق"، والدليل عليه حديث الزهري عن محمد بن عبد الله بن نوفل، عن عبد المطلب بن ربيعة، قال: "اجتمعت أنا والفضل بن عباس ونحن غلامان شابان قد بلغنا في ذكره من كراهية الصدقة لبني هاشم" ورد هذا بأنه كلام خارج عن العرف والمجاز وقد سمى الله -عز وجل- الإنسان الذي قتله الخضر غلامًا، فالغلام عند أهل اللغة هو الصبي، يقع عليه عند بعضهم اسم غلام من حين يفطم إلى سبع سنين، وعند بعضهم يسمى غلامًا وهو رضيع إلى سبع سنين، ثم يصير يافعًا ويناعًا إلى عشر سنين، ثم يصير حزورًا إلى خمس عشر سنة، وقد قال بعضهم: لم يقتله الخضر إلا وهو كافر، قد كفر بعد إدراكه وبلوغه، أو عمل عملًا استوجب به القتل فقتله، ورد هذا بأنه تخرص وظن لم يصح في الأثر، ولا جاء به خبر، ولا يعرفه أهل العلم، ولا أهل اللغة؛ فافهم. ثم اختلف العلماء في معنى الفطرة، فذكر أبو عبيد أنه سأل محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن معنى الحديث فما أجابه بأكثر من أن قال: هذا القول من النبي - عليه السلام - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، كأنه حاد عن الجواب إما إشكالًا

له أو لكراهة الخوض فيه، وقوله: قبل أن يؤمر الناس بالجهاد غير جيد؛ لأن في حديث الأسود بن سريع يبين أن ذلك كان بعد الجهاد، وهو قوله، قال رسول الله - عليه السلام -: "ما بال قوم بلغوا في القتل إلى الذرية، إنه ليس مولود إلا وهو يولد على الفطرة، فيعبر عنه لسانه" (¬1). ورواه ابن حبان في "صحيحه" (¬2) ولفظه: "ما من مولود يولد إلا على فطرة الإِسلام حتى يعرب". وقال أبو حاتم: يريد الفطرة التي يعتقدها أهل الإسلام حيث أخرج الخلق من صلب آدم - عليه السلام - فاقروا له بتلك الفطرة من الإسلام، فنسب الفطرة إلى الإسلام عند الاعتقاد على سبيل المجاورة. وقالت طائفة: الفطرة ها هنا الخلقة التي يخلق عليها المولود من المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه -عز وجل- إذا كبر وبلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك، قالوا: لأن الفطرة: الخلقة، والفاطر: الخالق، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعًا وبنيةً، ليس فيها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ثم يعتقدون الإيمان أو غيره إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: "كما تنتج البهيمة جمعاء -يعني سالمة- هل تحسون فيها من جدعاء؟ " يعني مقطوعة الأذن، فَمَثَّلَ قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ثم تجدع بعد ذلك، فكذا قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس بهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار، مثل البهائم السالمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطن فكفر أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى، قالوا: ولو كان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (435/ 3 رقم 15626) بنحوه. (¬2) "صحيح ابن حبان" (1/ 341 رقم 132).

الأطفال قد فطروا على الكفر أو الإيمان في أول أمرهم ما انتقلوا عنه أبدًا، فقد تجدهم مؤمنين ثم يكفرون ثم يؤمنون، ويستحيل أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل شيئًا؛ لأن الله تعالى أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة هنا، والله أعلم. وقال الباقلاني: المراد أن كل مولود يولد في دار الإسلام فحكمه حكم الدار، وأنه لاحق بكونه مولدًا موجودًا بأحكام المسلمين في تولي أمره ووجوب الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ومنعه من اعتقاد غير الإسلام إذا بلغ. وقوله: "فأبواه يهودانه" يريد أنه إذا ولد على فراشهما لحق بأحكامهما في تحريم تولي أمره ولم يرد أنهما يجعلانه يهوديًّا ولا نصرانيًّا. وقال القزاز في "جامعه": قال بعض المفسرين في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" إنما قال: هذا قبل أن تنزل الفرائض؛ لأنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات أبواه قبل أن يهودانه أو ينصرانه لما كان يرثهما ويرثانه، فلما نزلت الفرائض عُلِمَ أنه يولد على دينهما. وقالت طائفة: الفطرة هنا: الإسلام، وهو المعروف عند السلف من أهل العلم بالتأويل؛ فإنهم أجمعوا في قول الله -عز وجل-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬1) قالوا: هي دين الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم في الطفل. وقالت طائفة: معنى قوله: "على الفطرة": على البَدْأَة التي ابتدأهم عليها، أي على ما فطر الله تعالى عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم من آبائهم واعتقادهم فكأنه قال: كل ¬

_ (¬1) سورة الروم، آية: [30].

مولود يولد على ما ابتدأه عليه، قال محمد بن نصر: وقد كان أحمد يذهب إلى هذا القول ثم تركه، قال أبو عمر: مذهب مالك نحو هذا. وقالت طائفة: معنى ذلك: أن الله تعالى قد فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬1) فقالوا جميعا: بلى، فأما أهل السعادة فقالوا: بل على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاوة فقالوا: بل كرهًا لا طوعًا، وتصديق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (¬2) وإلى هذا ذهب ابن راهويه. وقالت طائفة: معناها ما أخذه الله من الميثاق على الذرية، فأقروا جميعًا له تعالى بالروبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مطبوعين علي تلك المعرفة وذلك الإقرار. وقالت طائفة: الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء (¬3). الثالث من الأحكام: فيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان؛ ردًّا لما قاله بعض المعتزلة أنهما لم يخلقا الآن وأن الله يخلقهما يوم القيامة. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا حرملة بن يحيى، قال: ثنا ابن هب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه: "أن أبا طلحة دعى رسول الله - عليه السلام - إلى عمير بن أبي طلحة حين توفي، فأتاهم فصلى عليه رسول الله - عليه السلام -، فكان أبو طلحة وراءه، وأم سليم وراء أبي طلحة، لم يكن معهم غيرهم". ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: [172]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [83]. (¬3) انتهى من "التمهيد" (18/ 59 - 97) بتصرف واختصار. وهو مبحث نفيس في تفسير الفطرة التي خلق الله الناس عليها.

وإنما كان تزويج أبي طلحة أم سليم بعد قدوم النبي - عليه السلام - المدينة بمدّة، وعمير ولده منها في ذلك النكاح توفي وهو طفل، فهذا أخوه عبد الله بن أبي طلحة يذكر أن رسول الله - عليه السلام - صلى عليه. ش: حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي المصري شيخ مسلم وابن ماجه، قال الحسن بن سفيان: هو صدوق. ويقال: إن الشافعي رحمه الله نزل عنده لما قدم مصر وروى عن الشافعي من الكتب ما لم يروه الربيع، وهو ممن أخذ عن الشافعي بمصر وكتب كتبه وتفقه له ولم يخالف مذهبه، ولد سنة ست وستين ومائة، ومات سنة ثلاث وأربعين ومائتين بمصر، وكان أسن أصحاب الشافعي. وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، وعمرو بن الحارث المصري روى له الجماعة، وعمارة بن غزية بن الحارث الأنصاري المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل، وهو أخو أنس بن مالك لأمه، وأمهما أم سليم بنت ملحان، حنكه النبي - عليه السلام - وسماه عبد الله، ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وروى له مسلم والنسائي. وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع النبي - عليه السلام - وهو أحد النقباء. واستفيد منه: أن الطفل يُصلى عليه لأن عبد الله بن أبي طلحة ذكر في حديثه هذا أن رسول الله - عليه السلام - صلى على أخيه عمير حين توفي وأن المراة تتأخر عن الرجل في الصلاة ومكانها وراء الرجل، وفيه دلالة على جواز الإعلام بالميت للأئمة وطلبهم إلى الصلاة عليه. قوله: "وإنما كان تزويج أبي طلحة أم سليم ... " إلى آخره، وأم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد الأنصارية أم أنس بن مالك وأخت أم حرام بنت ملحان، لها صحبة، يقال: إنها الغميصاء، ويقال: الرميصاء، كانت تحت مالك بن النضر

في الجاهلية فولدت له أنسًا، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها، وعرضت الإسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري خطبها مشركًا، فلما علم أنه لا سبيل له عليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه، فوُلِدَ له منها غلام كان قد أعجب به فمات صغيرًا، فأسف عليه. قاله ابن عبد البر، ويقال: إنه أبو عمير صاحب النغير، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الفقيه، وقد ذكرناه الآن. ص: حدثنا عبد العزيز بن معاوية، قال: ثنا إسماعيل بن سعيد الجبري، قال: ثنا أبي، عن زياد بن جبير بن حية، عن أبيه -فيما يحسب عبد العزيز يشك في أبيه خاصة- عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الطفل يصلى عليه". ش: عبد العزيز بن معاوية القرشي قال الدارقطني: لا بأس به. وإسماعيل بن سعيد بن عبيد الله الجبيري -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة قاله ابن ماكولا- قال أبو حاتم: شيخ. روى له الترمذي. وهو يروي عن أبيه سعيد بن عبيد الله بن جبير، وثقه يحيى وأبو زرعة، وروى له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه. وهو يروي عن عمه زياد بن جبير روى له الجماعة، وزياد يروي عن أبيه جبير بن حَيَّة بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف، قاله ابن ماكولا، روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا وكيع، عن سعيد بن عبيد الله، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "الطفل يصلى عليه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 9 رقم 11583).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن بشار، ثنا روح بن عبادة، نا سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حَيَّة، حدثني عمي زياد بن جبير، حدثني أبي جبير بن حية، أنه سمع المغيرة بن شعبة يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "الطفل يصلى عليه". ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام، عن ليث، عن عامر، عن البراء قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أحق ما صليتم عليه أطفالكم". ش: أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وعبد السلام هو ابن حرب الملائي أبو بكر الكوفي روى له الجماعة، وليث هو ابن أبي سليم روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بغيره. وعامر هو ابن شراحيل الشعبي، وفي رواية البيهقي عاصم موضع عامر. وأخرجه (¬2): من حديث عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن عاصم، عن البراء قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أحق ما صليتم عليه أطفالكم". قال الذهبي في "مختصر السنن": ليث لين، وعاصم لا يعرف. ص: وقد قال عامر الشعبي: إن رسول الله - عليه السلام - قد كان صلى على ابنه إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن ليقول ذلك إلا وقد كان ثبت عنده. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال: "مات إبراهيم ابن رسول الله - عليه السلام - وهو ابن ستة عشر شهرًا، فصلى عليه النبي - عليه السلام -". حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: حدثني شريك، عن جابر ... فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "وهو ابن ستة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 483 رقم 1507). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 9 رقم 6578).

ش: أخرج عن الشعبي أولًا معلقًا، ثم أسند عنه من طريقين بالإرسال: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال، وقد تكرر ذكره. عن عامر بن شراحيل الشعبي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر: "أن النبي - عليه السلام - صلى عليه وهو ابن ستة عشر شهرًا -يعني ابنه إبراهيم-. وكذا أخرجه عبد الرزاق مرسلًا (¬2). الثاني: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، عن الهيثم بن جميل البغدادي نزيل أنطاكية الثقة الحافظ، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن جابر الجعفي، عن الشعبي ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3) ثم قال: وكونه صلى عليه هو أشبه بالأحاديث الصحيحة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4) مسندًا متصلًا: ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهرًا". وفي "الطبقات الكبير" (¬5) لمحمد بن سعد: عن محمَّد بن عمر: "ولد إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 54 رقم 12055) دون ذكر الصلاة عليه. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 494 رقم 14014). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 9 رقم 6579) موصولا عن البراء بن عازب، به. (¬4) "مسند أحمد" (4/ 283 رقم 18520). (¬5) "الطبقات الكبرى" (1/ 135).

وعن الشعبي (¬1): "توفي وله ستة عشر شهرًا". وعن محمود بن لبيد (¬2): "توفي وله ثمانية عشر شهرًا". وفي حديث (¬3) بشير ابن أخت مارية: "مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر". ويقال: بلغ ستة عشر شهرًا وثمانية أيام، وقيل: سبعة عشر شهرًا، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام. وفي "سنن أبي داود" (¬4): "توفي وله سبعون يومًا". وعن (¬5) محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: "أول من دفن بالبقيع ابن مظعون، ثم اتبعه إبراهيم". وعن (¬6) الزهري، قال رسول الله - عليه السلام -: "لو عاش إبراهيم لوضعت الجزية عن كل قبطي". وعن (6) مكحول: "أن رسول الله - عليه السلام - قال في إبراهيم: "لو عاش ما رَقَّ له خالٌ". ص: ففي هذه الآثار إثبات الصلاة على الأطفال، فلما تضادت الآثار في ذلك وجب أن ننظر إلى ما عليه عمل المسلمين الذي قد جرت عليه عاداتهم، فيعمل على ذلك ويكون ناسخًا لما خالفه، فكانت عادة المسلمين الصلاة على أطفالهم، فثبت ما وافق ذلك من الآثار، وانتفى ما خالفه؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (1/ 140). (¬2) "الطبقات الكبرى" (1/ 142). (¬3) "الطبقات الكبرى" (1/ 143، 144). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 224 رقم 3188). (¬5) "الطبقات الكبرى" (1/ 141). (¬6) "الطبقات الكبرى" (1/ 144).

ش: أراد بهذه الآثار: التي رواها عن عائشة وعبد الله بن أبي طلحة، عن أبي طلحة والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وعامر الشعبي مرسلًا، وحاصل كلامه: أن أحاديث هؤلاء لما تضادت ما روي عن سمرة وعن عروة عن عائشة اللذين يدلان على نفي الصلاة على الأطفال، أُعْمِلَت العادة في ذلك، فما وافق من الآثار عادات المسلمين ثبت، وما خالف انتفى، وعن هذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن الطفل إذا عُرِفَت حياته واستهل صُلي عليه. فإذا كان كذلك يكون الإجماع منعقدًا على العمل بالأحاديث المثبتة للصلاة على الأطفال. فإن قيل: ما وجه قول الطحاوي ويكون ناسخًا لما خالفه، وما وجه هذا النسخ؟ قلت: لم يُرد بذلك النسخ المصطلح عليه، وإنما أراد بذلك معناه اللغوي، بمعنى ويكون رافعًا لما خالفه من الآثار بسبب انعقاد الإجماع على خلاف ما خالفه. ص: وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الأطفال يغسلون باتفاق المسلمين، وقد رأينا البالغين كل من غُسِّل منهم صلي عليه، ومن لم يغسل من الشهداء ففيه اختلاف، فمن الناس من يصلى عليه ومنهم من لا يصلى عليه؛ فكان الغسل لا يكون إلا وبعده صلاة، وقد تكون صلاة ولا غسل قبلها، فلما كان الأطفال يغسلون كما يغسل البالغون؛ ثبت أنه يصلى عليهم كما يصلى على البالغين. فهذا هو النظر في هذا الباب، وقد وافق ما جرت عليه عادة المسلمين من الصلاة على الأطفال، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس: أن يقال: كل من يغسل من الموتى يصلى عليه، فالطفل يغسل بالإجماع فيصلى عليه، وكل من لا يغسل لا يصلي عليه إلا الشهيد، فإنه لا يغسل ولكن يصلى عليه، وقد ذكرنا أنه في حكم المغسول فيصلى عليه، ولكن فيه خلاف أشار إليه بقوله: "فمن الناس من يصلي

عليه" وأراد بهم أبا حنيفة وأصحابه، "ومنهم من لا يصلي عليه" وأراد بهم: الشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: لا يصلى عليه. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن يونس، عن نافع، أنه حدثه: "أن عبد الله بن عمر صلى في الدار على مولود له، ثم أمر به فحمل فدفن". حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن راشد، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن منصور بن أبي منصور، عن أبي هريرة: "أنه استفتي في صبي مولود مات أيصلى عليه؟ قال: نعم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: "رأيت أبا هريرة صلى على منفوس لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر". ش: أي قد روي فعل الصلاة على الأطفال عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وأخرج في ذلك عن ثلاثة منهم، وهم: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. أما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن نافع مولى ابن عمر. وهؤلاء كلهم رجال مسلم. وأما أثر جابر بن عبد الله فأخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمَّد بن راشد الخزاعي البصري، أصله شامي وثقه أحمد، وعن يحيى: ثقة صدوق. روى له الأربعة. عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أسباط بن محمَّد، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "إذا استهل صلي عليه وورث، فإذا لم يستهل لا يصلى عليه ولا يورث". وأخرجه الترمذي (¬2) مرفوعًا: ثنا أبو عمار، قال: ثنا محمَّد بن يزيد الواسطي، عن إسماعيل بن مسلم المكي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - قال: "الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل". قال أبو عيسى: هذا حديث قد اضطرب الناس فيه، فرواه بعضهم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - مرفوعًا، وروى الأشعث بن سوار وغير واحد، عن أبي الزبير، عن جابر موقوفًا، وروى محمَّد بن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر موقوفًا، وكأن هذا أصح من الحديث المرفوع. وأما أثر أبي هريرة فأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن منصور بن أبي منصور قال في "الميزان": مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبدة بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن أبي هريرة: "أنه كان يقوم على المنفوس من ولده الذي لم يعمل خطيئة فيقول: اللهم من عذاب القبر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 287 رقم 31483). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 350 رقم 1032). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 105 رقم 29836).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: "أنه صلى على المنفوس، ثم قال: اللهم أعذه من عذاب القبر". وأخرج أيضًا (¬2): من حديث نعيم بن حماد، نا ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة: "أنه كان يصلي على المنفوس الذي لم يعمل خطيئة قط، يقول: اللهم اجعله لنا فرطًا وسلفًا وذخرًا". قال نعيم: وقيل لبعضهم: "أتصلي على المنفوس الذي لم يعمل خطيئة قط؟ قال: قد صلي على رسول الله - عليه السلام - وكان مغفورًا له بمنزله من لم يعص الله". قوله: "على منفوس" أي طفل حين يولد. قوله: "اللهم أعذه من عذاب القبر" يدل على أن عذاب القبر حق ردًّا على من أنكره من المعتزلة، وأنه يعم الصغير والكبير. فإن قيل: المنفوس الذي لم يعمل خطيئة كيف يعذب في القبر؟ قلت: لما لم يَخْل الصغير عن السؤال في القبر حتى عن نظره إلى الدنيا مرة واحدة أطلق على ذلك العذاب؛ لأن في السؤال نوع عذاب في حقه، والأولى أن يحمل هذا على سؤال الثبات والدوام على ما هو عليه من عدم العذاب في حقه، كما كان رسول الله - عليه السلام - يتعوذ من عذاب القبر مع العلم قطعًا أنه لا يعذب أصلًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 9 رقم 6584). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 9 رقم 6585).

ص: باب: المشي بين القبور بالنعال

ص: باب: المشي بين القبور بالنعال ش: أي هذا باب في بيان حكم المشي بين القبور بالنعال، وهو جمع نعل، وهو الذي يقال له: التاسومة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا الأسود بن شيبان، قال: ثنا خالد بن سُمَيْر، قال: حدثني بشير بن نهيك، عن بشير بن الخصاصيَّة: "أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا يمشي بين القبور في نعلين، فقال: ويحك يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا وكيع، عن الأسود ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان جيدان: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن الأسود بن شيبان السدوسي البصري مولى أنس بن مالك روى له الجماعة سوى الترمذي ولكن البخاري في غير "الصحيح". عن خالد بن سُمَيْر السدوسي البصري، وثقه النسائي وروى له أبو داود وابن ماجه. عن بشير بن نهيك السدوسي البصري، قال العجلي والنسائي: ثقه. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. روى له الجماعة. عن بَشير -بفتح الباء- بن الخصاصيَّة الصحابي، والخصاصيَّة أمه، وقد اختلف في نسبه، فقيل: بشير بن نذير، وقيل: بشير بن معبد بن شراحيل والخَصَاصِيَّة: بالخاء المعجمة، وتخفيف الصاد المهملة، وكسر الثانية، وتشديد الياء آخر الحروف.

وأخرجه الحاكم (¬1) وصححه، وكذا صححه ابن حزم (¬2) والطحاوي أيضًا على ما يأتي، وقال أحمد: إسناده جيد. وأخرجه أبو داود بأتم منه (¬3): ثنا سهل بن بكار، ثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير السدوسي، عن بشير بن نهيك، عن بشير مولى رسول الله - عليه السلام - وكان اسمه في الجاهلية: زحم بن معبد، فهاجر إلى رسول الله - عليه السلام -، فقال: "ما اسمك؟ قال: زحم، فقال: بل أنت بشير، قال: بينما أنا أماشي رسول الله - عليه السلام - مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا -ثلاثًا- ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا، وحانت من رسول الله - عليه السلام - نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك، ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - عليه السلام - خلعهما فرمى بهما". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن وكيع، عن الأسود بن شيبان ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬4): أنا محمَّد بن عبد الله بن المبارك، قال: نا وكيع، عن الأسود بن شيبان وكان ثقه، عن خالد بن سُمَيْر، عن بَشير بن نهيك، أن بشير بن الخصاصية قال: "كنت أمشي مع رسول الله - عليه السلام -، فمر على قبور المسلمين فقال: لقد سبق هؤلاء شرًّا كثيرًا، ثم مر على قبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرًا كثير، فحانت منه التفاتة فرأى رجلًا يمشي بين القبور في نعليه، فقال: يا صاحب السبتيتين ألقهما". ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 528 رقم 1380). (¬2) "المحلى" (5/ 136، 137). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 236 رقم 3230). (¬4) "المجتبى" (4/ 96 رقم 2048).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، نا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، عن بشير بن نهيك، عن بشير بن الخصاصية قال: "بينا أنا أمشي مع رسول الله - عليه السلام - فقال: يا ابن الخصاصية ما تنقم على الله؟ أصبحت تماشي رسول الله، فقلت: يا رسول الله ما أنقم على الله شيئًا، كل خير قد أتانيه الله، فمر على مقابر المسلمين فقال: أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا، ثم مر على مقابر المشركين فقال: سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا، قال: فالتفت فرأى رجلًا يمشي بين المقابر في نعليه، فقال: يا صاحب السبتيتين ألقهما". قوله: "ويحك" كلمة ترحم، كما أن "ويلك" كلمة دعاء بالهلاك. و"السِّبْتيَّة" بكسر السين وسكون الباء الموحدة نسبة إلى السِّبْت، وهو جلود البقر المدبوغة بالقرظ تتخذ منها النعال سميت بذلك؛ لأن شعرها قد سبت عنها أي حلق وأزيل، وقيل: لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت، وإنما أطلق - عليه السلام - على النعل المتخذ من السبت سِبْتِيًّا بالنسبة، وقد جاء في بعض الروايات بدون النسبة: "يا صاحب السِّبْتين" فهذا من قِبَل قولهم: فلان يلبس الصوف والإبْرَيْسَم وأراد به الثياب المتخذة منها، وهذا على طريق الاتساع والمجاز. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا المشي بالنعال بين القبور. ش: أراد بالقوم هؤلاء: يزيد بن زريع وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر؛ فإنهم كرهوا المشي بالنعال بين القبور. وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بنعلين سبتيتين، وهما اللذان لا شعر فيهما، فإن كان فيهما شعر جاز ذلك، فإن كانت إحداهما بشعر والأخرى بلا شعر جاز المشي فيهما. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 499 رقم 1568).

وفي "المغني": وتخلع النعال إذا دخل المقابر هذا مستحب، ثم روى الحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - أمر ذلك الرجل بخلع النعلين لا لأنه كره المشي بين القبور بالنعال، لكن لمعنى آخر من قذر رأه فيهما يقذر القبور، وقد رأينا رسول الله - عليه السلام - صلى وعليه نعلاه، ثم أُمِرَ بخلعهما فخلعهما وهو يصلي، فلم يكن ذلك على كراهة الصلاة في النعلين، ولكنه للقذر الذي فيهما. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري ومحمد بن سيرين والنخعي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وجماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم؛ فإنهم أباحوا المشي بين القبور في النعال إذا كانت طاهرة، وقال ابن قدامة: وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسًا. قوله: "فقالوا" أي هؤلاء الآخرون، وأراد به الجواب عن الحديث المذكور، بيانه: أنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - أمر صاحب السِّبْتيِتَين بالخلع لا لكون المشي بين القبور بالنعال مكروهًا، ولكن لما رأى - عليه السلام - قذرًا فيهما يقدر القبور فلذلك أمر بخلعهما. وقال ابن الأثير: إنما اعترض عليه بالخلع احترامًا للمقابر لأنه كان يمشي بينها، أو لاختياله في مشيه، ومنه حديث ابن عمر: "إنك تلبس النعال السِّبتية" إنما اعترض عليه لأنها نعال أهل النعمة والسعة. وقال الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيه من الخيلاء؛ لأنها من لباس أهل السرف والتنعيم، فأحب أن يكون دخوله المقبرة على زي التواضع والخشوع. وقال ابن الجوزي: هذا تكلف من الخطابي؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يلبس النعال السبتية ويتوخى التشبه بسيدنا رسول الله - عليه السلام - في نعاله؛ لأن نعاله كانت

سبتية، أو لأن السبتية كانت تشبهها، وما كان ابن عمر يقصد التنعيم بل يقصد السنة، وليس في هذا الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريمًا، ويدل على أنه أمره بخلعهما احترامًا للقبور؛ لأنه نهى عن الاستناد إلى القبر والجلوس عليه. انتهى. وفيه ذهول عما ورد في بعض الأحاديث: أن صاحب القبر كان يُسأل، فلما سمع صرير السبتيتين أصغى إليه فكاد يهلك لعدم جواب الملكين، فقال له النبي - عليه السلام -: "ألقهما لئلا تؤذي صاحب القبر". ذكره أبو عبد الله الترمذي. قوله: "وقد رأينا رسول الله - عليه السلام - صلى وعليه نعلاه" ذكره شاهدًا لما قاله من قوله: "لكن لمعنى آخر ... "، إلى آخره، أي صلى والحال أن نعليه في رجليه، ثم أُمِرَ بخلعهما فخلعهما، والحال أنه يصلي، فلم يكن ذلك الأمر بخلع نعليه لأجل كراهة الصلاة فيهما، ولكنه للقذر الذي كان فيهما، وهذا أيضًا كذلك. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - ما يدل على إباحة المشي بين القبور بالنعال: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام - ... فذكر حديثًا طويلًا في المؤمن إذا دفن في قبره: "والذي نفسي بيده إنه ليسمع خفق نعالهم حين تولوا عنه مدبرين". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمَّد بن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حميد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه، مثله. فهذا يعارض الحديث الأول؛ إذ كان معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى، ولكنا لا نحمله على المعارضة ونجعل الحديثين صحيحين، فنجعل النهي الذي كان في حديث بشير للنجاسة التي كانت في النعلين؛ لئلا تنجس القبور، كما قد نُهِيَ أن

يتغوط عليها أو يبال، وحديث أبي هريرة على إباحة المشي بالنعال التي لا قذر فيها بين القبور. فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: ذكر حديث أبي هريرة لكونه حجة لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، ووفق أيضًا بينه وبين حديث بشير بن الخصاصية؛ لأنه يقع بينهما التعارض إذا حمل معنى حديث بشير على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر. ووجه التوفيق الذي ذكره: هو أن حديث بشير محمول على أنه كانت فيه نجاسة، وكان النهي لذلك لا لأنه كره المشي بين القبور بالنعال كما قد ذكرناه، وهذا معنى قوله: "فهذا يعارض الحديث الأول" أي حديث أبي هريرة هذا يعارض حديث بشير "إذ كان معناه" أي حين كان معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى، وهو الحمل على المنع مطلقًا، والباقي ظاهر. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التميمي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره ومسلم في المتابعات، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" (¬1): حدثنا عباد بن عباد المهلبي ويزيد بن هارون -واللفظ لفظ عباد- قالا: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -قال أحمد: دخل أحدهما في حديث الآخر- في الميت إذا وضع في قبره، قال: "إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ... " الحديث بطوله. ¬

_ (¬1) انظر "إتحاف الخيرة" (2/ 490 - 491 رقم 1954/ 1) بتحقيقنا. وقال البوصيري: رجاله ثقات.

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف البصري، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ... فذكر الحديث بإسناده نحوه. وأخرجه الحاكم (¬1): ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا محمَّد بن إسحاق الصغاني، ثنا سعيد بن عامر، ثنا محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ... " الحديث بطوله. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن حميد الطريثيثي أبي الحسن الكوفي شيخ البخاري، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الأسدي الكوفي الأعور روى له الجماعة إلا البخاري، كان يقعد في سدة باب الجامع بالكوفة، فسمى السدي. عن أبيه عبد الرحمن بن أبي كريمة مولى قيس بن مخرمة، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه قال: "إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين". ص: وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله - عليه السلام - بما قد ذكرنا عنه في صلاته في نعليه ومن خلعه إياهما في وقت ما خلعهما للنجاسة التي كانت فيهما، ومن إباحته للناس الصلاة في النعال، فمن ذلك: ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "خلع النبي - عليه السلام - نعليه ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 535 رقم 1403). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 53 رقم 12049).

وهو يصلي، فخلع من خلفه، فقال: ما حملكم على خلع نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل - عليه السلام - أخبرني أن في إحداهما قذرًا، فخلعتهما لذلك، فلا تخلعوا نعالكم". ش: لما ذكر فيما مضى وقد رأينا رسول الله - عليه السلام - صلى وعليه نعلاه ... إلى آخره شرع بين ذلك، فقال: "وقد جاءت الآثار" أي الأحاديث "متواترة" أي متكاثرة "عن رسول الله - عليه السلام - بما قد ذكرنا عنه" أي عن النبي - عليه السلام - "من صلاته في نعليه ... " إلى آخره. قوله: "فمن ذلك" أي فمن مجئ الآثار في ذلك ما قد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو غسان وهو مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، قال: ثنا زهير بن معاوية بن حُديج روى له الجماعة، قال: ثنا أبو حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه ميمون قاله البزار. وفي "التكميل": ميمون أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي الراعي، قال: فيه مقال كثير، فعن أحمد: ضعيف. وعنه: متروك. وهو يروي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا يوسف بن موسى، نا مالك بن إسماعيل، ثنا زهير، ثنا أبو حمزة، قال: ثنا إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "خلع رسول الله - عليه السلام - فخلع من خلفه، فقال: ما حملكم على أن خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل - عليه السلام - أخبرني أن فيها قذرًا فخلعتهما لذلك، فلا تخلعوا نعالكم". قال إبراهيم: "كانوا لا يخلعونها"، قال: "ورأيت إبراهيم يصلي في نعليه"، وهذا الحديث لا نعلمه يروى من حديث إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله إلا من حديث أبي حمزة عنه. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 16 رقم 1570).

ويستفاد منه أحكام: الأول: أنه يدل على إباحة الصلاة في النعلين، فإذا كان تجوز الصلاة فيهما في المسجد، فالمشي فيهما في القبور بالطريق الأولى. والثاني: ذكر الخطابي أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه. قلت: قال أصحابنا: ولو رأى في ثوبه نجاسة ولم يدر متى أصابته لا يعيد صلاته حتى يتحقق، بالإجماع، وفي رواية: "يعيد صلاة يوم وليلة". فإن قيل: هذا إذا علم بها بعد أن صلى، وأما إذا علم بها وهو في الصلاة، فلا خلاف فيه أنه تفسد صلاته وعليه أن يستأنفهما، فكيف يكون الجواب عن الحديث؛ لأنه - عليه السلام - علم بالنجاسة وهو في الصلاة بإخبار جبريل - عليه السلام - ومع هذا لم يعدها؟ قلت: الجواب عن ذلك من وجهين: الأول: أن الحظر مع النجاسة نزل حينئذ. والثاني: يحتمل أنه كان أقل من قدر الدرهم، وهذا لا يمشي إلا على مذهب الحنفية، فافهم. الثالث: أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وهو الذي لا يحتاج فيه إلى استعمال اليدين. الرابع: ذكر الخطابي أن الاقتداء برسول الله - عليه السلام - في أفعاله واجب كهو في أقواله، وهو أنهم لما رأوا رسول الله - عليه السلام - خلع نعله خلعوا نعالهم، وقد قال الشيخ جلال الدين في كتابه "المغني": إن الأمر يتوقف على الصيغة عندنا خلافًا للشافعي؛ حتى لا تكون أفعال النبي - عليه السلام - موجبة لأنه يصح أن يقال: فلان يفعل كذا ويأمر بخلافه، ولو كان الفعل أمرًا لكان هذا تناقضًا، انتهى.

قلت: كأنه بني على هذا الاختلاف أن أفعال النبي - عليه السلام - غير موجبة. فإن قيل: يرد عليه أن النبي - عليه السلام - إذا فعل فعلًا وواظب عليه من غير تركه مرة؛ تكون واجبة مع أنه لم توجد فيه صيغة الأمر. قلت: يمكن أن يقال: المواظبة أمر زائد على نفس الفعل، والنزاع ليس فيه، ثم تحرير الخلاف في هذا الموضع: أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله - عليه السلام - التي ليست بسهوٍ مثل الزلات، ولا طبعٍ مثل الأكل والشرب، ولا من خصائصه مثل وجوب التهجد والضحى، ولا بيان لمجمل مثل المسح على الناصية، هل يسعنا أن نقول فيه: أمر النبي - عليه السلام - بكذا، وهل يجب علينا في ذلك اتباعه أم لا؟ فعند مالك في رواية وبعض الشافعية يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة، ويجب علينا الاتباع، وعندنا: لا، من وجوه ثلاثة: الأول: يلزم التناقض في قولنا: فلان يفعل كذا ويأمر بخلافه، على تقدير كون الفعل أمرًا والتناقض محال، وكل تقدير يلزم منه المحال فهو محال. الثاني: لو كان الأمر حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل؛ إذ الاطراد من غير مانع من أمارات الحقيقة ولكنه لم يطَّرد إذ لا يقال: الآكل أو الشارب آمرًا فوجب أن لا يكون حقيقة فيه؛ لأن كل مقصود من مقاصد الفعل كالماضي والحال والاستقبال مختصة بصيغ وضعت لها، والمراد بالأمر من أعظم المقاصد لحصول الابتلاء به فاختصاصه بالعبارة أحق من غيره، فإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة، ولا يكون حقيقة في غيره، وإلا يلزم الاشتراك، وهو خلاف الأصل، ويؤيد هذا كله أنه - عليه السلام - لما خلع نعليه في الصلاة خلع الناس نعالهم، فقال - عليه السلام - منكرًا عليهم بعد فراغه من الصلاة: "ما حملكم على خلع نعالكم؟ " فلو كان الفعل موجبًا وأمرًا لصار كأنه أمر بخلع النعال ثم أنكر عليهم وهو باطل، وفيه نظر؛ لأنه - عليه السلام - علل الإنكار في خلع النعال بأن جبريل - عليه السلام - قد أتاه وأخبره بأن في إحداهما قذرًا، فالإنكار وقع لأمر زائد على الاتباع وكيف يجو الإنكار على نفس الاتباع وقد أمرنا

بالاتباع والتأسي به لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي} (¬1)، ولقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2)، ولقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬3)، وفعله مما أتى به. قلت: الصحيح المختار عند فخر الإسلام وشمس الأئمة ما قاله أبو بكر الرازي الجصاص: أن ما علمنا من أفعال النبي - عليه السلام - واقعًا على صفة من كونها واجبة أو مندوبة أو مباحة علينا اتباعه، والاقتداء على تلك الصفة، وما لم نعلم من أفعاله على أي صفة فعلها فلنا متابعته على أدنى منازل أفعاله وهي الإباحة؛ لأن الاتباع والاقتداء برسول الله - عليه السلام - هو الأصل لما تلونا، والله أعلم. ص: حدثنا ابن أبي عقيل، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: "سألت أنس بن مالك كان النبي يصلي في النعلين؟ فقال: نعم". ش: إسناده صحيح، وابن أبي عقيل هو عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك أبو جعفر شيخ أبي داود أيضًا، وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي وثقه ابن حبان، وأبو مسلمة سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي ويقال: الطاحي البصري القصير روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال: أنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم، (¬5) والترمذي، (¬6) والنسائى (¬7) أيضًا. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [31]. (¬2) سورة الأحزاب، آية: [21]. (¬3) سورة الحشر، آية: [7]. (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 151 رقم 379). (¬5) "صحيح مسلم" (1/ 391 رقم 555). (¬6) "جامع الترمذي" (2/ 249 رقم 400). (¬7) "المجتبى" (2/ 74 رقم 775).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن علقمة بن قيس ولم يسمعه منه: "أن عبد الله بن مسعود أتى أبا موسى الأشعري، فحضرت الصلاة فقال أبو موسى: تقدم يا أبا عبد الرحمن فإنك أقدم سنًّا وأعلم، فقال: تقدم فإنما أتيناك في منزلك ومسجدك فأنت أحق، فتقدم أبو موسى فخلع نعليه، فلما سلم قال: ما أردت إلى خلعهما؟ أبالواد المقدس طوى أنت؟! لقد رأينا رسول الله - عليه السلام - يصلي في الخفين والنعلين". ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وزهير هو ابن معاوية بن حديج روى له الجماعة، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، ولم يسمع أبو إسحاق من علقمة بن قيس فيكون الحديث منقطعًا، ويقال: سمع منه فيكون متصلًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حسن بن موسى، ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس ولم يسمعه منه ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أنه ليس في روايته لفظة "طوى". قوله: "ما أردت إلى خلعهما" كلمة "إلى" ها هنا مرادف "اللام" نحو الأمر إليك، ويجوز أن تكون لانتهاء الغاية على أصلها نحو قولهم: "أحمد إليك الله سبحانه" أي أنهي حمده إليك، والمعنى ها هنا: لأي شيء تنهي قصدك إلى خلعهما. قوله: "أبالواد المقدس" إنكار منه على خلعه نعليه، على سبيل التعجب، أي: هل أنت في الواد المقدس حتى تخلع نعليك؟! أراد أن الله تعالى أمر موسى - عليه السلام - بخلع نعليه بالواد المقدس وأنت لست هناك حتى تخلعهما؛ وذلك لأن موسى عليه - عليه السلام - أمر بخلع النعلين ليباشر الوادي بقدميه متبركًا به، وقيل: لأن الحفوة تواضع لله ومِنْ ثَمَّ طاف السلف بالكعبة حافين، ومن ذلك استعظم بعضهم دخول المسجد بنعليه، وكان إذا وقع منه الدخول منتعلًا تصدق، والمقدس معناه المطهر، من ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 460 رقم 4397).

القدس وهو الطهر، ومنه قيل للجنة: حظيرة القدس، وروح القدس: جبريل - عليه السلام -، والتقديس: التطهير، وتقدس أي: تطهر، والأرض المقدسة: المطهرة، وهي أرض بيت المقدس، وقيل: الشام، وقيل: الطور وما حوله، وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن، والمراد بالواد المقدس هو وادي الطور. قوله: "طوى" أي طوي مرتين، أي: قدس، وقال الحسن: نبتت فيه البركة والتقديس مرتين. وقال الزمخشري في قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (¬1) طوى بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة، وقيل: مرتين نحو ثنى، أي: نودي نداءين، أو قدس الوادي كرة بعد كرة، قال الجوهري: "طوى" اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم وادٍ ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. ويستفاد منه: جواز الصلاة في النعلين وفي الخفين، وأن الأحق بالإمامة أسن القوم وأعلمهم، وأن صاحب المنزل أولى بالإمامة من غيره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى أو قذر فليمسحهما ثم ليصل فيهما". ش: إسناده صحيح وابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، وأبو نعامة عبد ربه البصري روى له الجماعة، وأبو نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك العبدي البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وأبو سعيد الخدري سعد بن مالك - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [12].

وأخرجه داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "بينا رسول الله - عليه السلام - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - عليه السلام - صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن جبريل - عليه السلام - أتأني فأخبرني أن فيهما قذرًا، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، (¬2) إلا أنه لم يقل فيه: "وليصل فيهما" ورواه عبد بن حميد (¬3)، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي (¬4) في مسانيدهم. قوله: "أذى" أي نجاسة وكذلك القذر، والفرق بينهما من حيث اللغة: أن الأذى اسم لكل شيء يتأذى الشخص منه وهو يعم النجاسة وغيرها، وفي الحديث: "أدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬5) وهو ما يؤدي فيها كالشوك والحجر والنجاسة ونحو ذلك، وفي حديث العقيقة: "أميطوا عنه الأذى" (¬6) يريد الشعر والنجاسة وما يخرج على رأس الصبي حيئ يولد، يحلق عنه يوم سابعه، والقذر اسم لضد النظافة، قال الجوهري: القذر ضد النظافة، ويقال: قَذَرْتُ الشي أَقْذِرُه إذا كرهته واجتنبته. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 231 رقم 650). (¬2) "صحيح ابن حبان" (5/ 560 رقم 2180). (¬3) "المنتخب من مسند عبد بن حميد" (1/ 278 رقم 880). (¬4) "مسند أبي يعلى" (2/ 409 رقم 1194). (¬5) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 63 رقم 35) من حديث أبي هريرة في حديث شعب الإيمان. (¬6) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/ 2082 رقم 5154) بلفظ: وقال أصبغ: أخبرني ابن وهب ... إلى آخره.

ويستفاد منه: أن النجاسة إذا أصابت النعلين أو الخفين فدلكهما بالأرض ومسحهما يطهران سواء كانت رطبة أو يابسة، وسواء كان لها جرم أو لم يكن؛ لإطلاق الحديث، وإليه ذهب أبو يوسف وبه أفتى مشايخ ما وراء النهر لعموم البلوى، وقال أبو حنيفة: المراد بالأذى النجاسة العينية اليابسة؛ لأن الرطبة تزداد بالمسح انتشارًا وتلوثًا، وقال محمَّد: لا تطهر إلا بالغسل، وبه قال زفر والشافعي ومالك وأحمد، والحديث حجة عليهم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك ابن عمير، عن رجل من بني الحارث بن كعب قال: "كنت جالسًا مع أبي هريرة، فقال رجل: يا أبا هريرة أنت نهيت الناس أن يصلوا في نعالهم؟ فقال: ما فعلت غير أني ورب هذه الحرمة رأيت النبي - عليه السلام - صلى إلى هذا المقام، وإن نعليه عليه". ش: أبو الوليد مضى الآن، وأبو عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، وعبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الكوفي روى له الجماعة، ورجل من بني الحارث بن كعب مفسر في روايته الأخرى وهو زياد بن النضر أبو عائشة الحارثي. وكذا جاء مفسرًا في رواية ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة قال: "رأيت النبي - عليه السلام - صلى وهما عليه، وخرج وهما عليه" يعني: نعليه. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) أيضًا: بأتم منه وكناه بأبي [الأوبر] (¬3) على ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 179 رقم 7858). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 385 رقم 1504). (¬3) في الأصل، ك "الأزور" وهو تحريف، والمثبت من "المصنف" ومصادر ترجمته مثل "الإصابة" (2/ 643)، و"ثقات ابن حبان" (4/ 257)، و"تاريخ دمشق" (19/ 242)، و"المقتنى في سرد الكنى" (1/ 75 رقم 525).

ما يجيء وقال ابن عساكر (¬1): زياد بن النضر أبو الأوبر، ويقال: أبو عائشة، ويقال: أبو عمر الحارثي من أهل الكوفة وقد على يزيد بن معاوية وحدث عن أبي هريرة، روى عنه الشعبي وعبد الملك بن عمير. وقال عبد الرزاق (¬2): ثنا ابن التيمي، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، قال: حدثني أبو الأوبر: "أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - وقال له رجل: يا أبا هريرة أنت نهيت الناس أن يصوموا يوم الجمعة؟ فقال: لا، لعمري ما نهيت الناس أن يصوموا يوم الجمعة، غير أني ورب هذه الحرمة -قالها ثلاثًا- لقد سمعت النبي - عليه السلام - يقول: لا يخصن أحدكم يوم الجمعة بصوم إلا أن تصوموا أيامًا أخر، قال: فلم أبرح معه حتى جاءه آخر، فقال: يا أبا هريرة أنت نهيت الناس أن يصلوا في نعالهم [فقال: لا، لعمر الله ما نهيت الناس أن يصلوا في نعالهم] (¬3) غير أني ورب هذه الحرمة -حتى قالها ثلاثًا- لقد رأيت نبي - عليه السلام - ها هنا عند المقام يصلي وعليه نعلاه، ثم انصرف وهما عليه". قوله: "ورب هذه الحرمة" أراد بها حرمة الحرم، والحرمة اسم لا يحل انتهاكه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك قال: أخبرني من سمع أبا هريرة يقول: "إن رسول الله - عليه السلام - صلى في نعليه". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير بن سويد الكوفي، عمن سمع، وهو زياد الحارثي كما ذكرنا. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن زياد الحارثي، قال: سمعت أبا هريرة ... فذكر مثله. ¬

_ (¬1) "تاريخ دمشق" (19/ 242). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 385 رقم 1504). (¬3) ما بين المعقوفتين ليس في "الأصل، ك" والمثبت من "مصنف عبد الرزاق".

ش: هذا طريق آخر عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن زياد بن النضر الحارثي الذي ذكرناه. وهذه الرواية تفسير تلكما الروايتين المتقدمتين كما ذكرناه. ص: حدثنا ربيع الجيزي وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري، عن محمَّد بن إسماعيل، قال: قيل لعبد الله بن أبي حبيبة: "ما تذكر من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: رأيت رسول الله - عليه السلام - صلى في نعليه". ش: إسناده جيد، وعبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ الشيخين وأبي داود، ومجمع -بتشديد الميم- بن يعقوب بن مجمع أبو عبد الرحمن المدني، قال يحيى والنسائي: لا بأس به. وروى له أبو داود والنسائي. ومحمد بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري وثقه ابن حبان، وعبد الله بن أبي الأنصاري الأوسي الصحابي شهد بيعة الرضوان، وأبوه أبو حبيبة شهد بدرًا والمشاهد كلها، واسمه الأدرع -وقيل: الأزعر- ابن يزيد بن عطاف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يونس بن محمَّد، نا مجمع بن يعقوب، ثنا محمَّد بن إسماعيل، قال: قيل لعبد الله بن أبي حبيبة: "ما أدركت من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: جاءنا رسول الله - عليه السلام - في مسجدنا بقباء، فجئت وأنا غلام حتى جلست عن يمينه، ثم دعى بشراب فشرب، ثم أعطانيه فشربت منه، ثم قام يصلي، فرأيته يصلي في نعليه". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى حافيًا ومنتعلًا". ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "مسنده" (4/ 334 رقم 18971)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 167 رقم 2148) من طريق ابن أبي شيبة، به.

ش: إسناده حسن جيد، وأبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وخالد بن عبد الله بن عبد الرحمن [الطحان] (¬1) روى له الجماعة وحسين بن ذكوان المعلم روى له الجماعة، وعمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص المدني، قال العجلي والنسائي: ثقة. وأبوه شعيب بن محمَّد وثقه ابن حبان، ثم الكلام في جده قال الدارقطني: لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد الأدنى منهم محمَّد، والأوسط عبد الله، والأعلى عمرو بن العاص، وقد سمع شعيب من الأدنى محمَّد، ومحمد لم يدرك النبي - عليه السلام -، وسمع من جده عبد الله، فإذا بينه وكشفه فهو صحيح حينئذ، وقد بسطنا الكلام فيه في ترجمة عمرو في كتاب الرجال. والحديث أخرجه أبو داود (¬2): نا مسلم بن إبراهيم، نا علي بن المبارك، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت النبي - عليه السلام - يصلي حافيًا ومنتعلًا". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. قوله: "حافيا ومنتعلًا" حالان من الضمير الذي في "صلى" والحافي من حَفِيَ يَحْفَى من باب عَلِم يَعْلَم، وهو الذي يمشي بلا خف ولا نعل، وقال الكسائي: رجل حاف بَيِّن الحفوة والحِفْية والحَفَاية، والحفاء بالمد، وقال: وأما الذي حفى من كثرة المشي أي رقت قدمه أو حافره؛ فإنه حفٍ بَيِّن الحفى مقصور، والمنتعل من انتعلت إذا احتذيت، وكذلك نعلت، ورجل ناعل، أي: ذو نعل، والنعل: الحذاء مؤنثة، وتصغيرها نُعَيْلَة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الطحاوي" وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 232 رقم 653). (¬3) أخرجه النسائي في "المجتبى" (3/ 81 رقم 1361) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فليس عند النسائي، وإنما أخرجه أبو داود وابن ماجه كما في "تحفة الأشراف" (6/ 310 رقم 8686).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، عن سفيان الثوري، عن السدي، قال: أخبرني من سمع ابن حريث يقول: "رأيت النبي - عليه السلام - يصلي في نعلين مخصفوتين". ش: فيه مجهول، وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي الكوفي شيخ البخاري، والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن أبو محمَّد الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري، وابن حريث هو عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي القرشي الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سفيان، عن السدي، عمن سمع عمرو بن حريث: "أن النبي - عليه السلام - صلى في نعليه". وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن السدي، قال: أخبرني من سمع عمرو بن حريث يقول: "رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في نعلين مخصوفتين". قوله: "مخصوفتين" أي: مطرقتين، من قولهم: أطرقت النعل بالجلد والعصب إذا ألبستها، وترس مطرق، وطراق النعل: ما أطبقت فخرزت به. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن النعمان ابن سالم، في حديث وهب: عن ابن عمرو بن أوس، وفي حديث أبي الوليد قال: سمعت رجلًا جده أوس بن أبي أوس قال: "كان جدي يصلي فيأمرني أن أناوله نعليه، فينتعل ويقول: رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في نعليه". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب ... فذكر مثل ما ذكر أبو بكرة عن وهب. حدثنا نصر، قال: ثنا أسد، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك يعني ابن المغيرة الطائفي، عن أوس بن أبي أوس، أو ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 179 رقم 7862). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 386 رقم 1505).

أوس بن أوس قال: "أقمت عند رسول الله - عليه السلام - نصف شهر، فرأيته يصلي وعليه نعلان مقابلتان". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن النعمان بن سالم الطائفي روى له الجماعة سوى البخاري، ففي رواية وهب، عن النعمان، عن ابن عمرو بن أوس قال: "كان جدي يصلي فيأمرني ... " إلى آخره. وفي رواية أبي الوليد، عن النعمان قال: سمعت رجلًا جده أوس بن أبي أوس قال: "كان يصلي ... " إلى آخره. واعلم أن أوسًا هو ابن أبي أوس، واسمه حذيفة الثقفي الصحابي وعمرً ابنه ابن أوس، وابن عمرو هو عثمان، يروي عن أوس ابنه عمرو وابن ابنه عثمان، فالمراد في حديث وهب: "عن ابن عمرو بن أوس" هو عثمان بن عمرو بن أوس، وكذا المراد في حديث أبي الوليد: "سمعت رجلًا" هو عثمان بن عمرو وجده هو أوس. وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) نحو رواية وهب، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن ابن ابن أوس، عن جده: "أن النبي - عليه السلام - صلى في نعليه". انتهى. فهذا ابن ابن أوس هو عثمان، وابن أوس هو عمرو بن أوس. وأخرج أحمد في "مسنده" (¬2) نحو رواية أبي الوليد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا شعبة، أنا نعمان بن سالم، قال: سمعت فلانًا جده أوس، قال: "كان جدي يقول لي وهو في الصلاة يومئ إلى: ناولني النعلين، فأناولهما إياه، فيلبسهما ويصلي فيهما، ويقول: رأيت رسول الله - عليه السلام - يصلي في نعليه". انتهى. ¬

_ (¬1) "صنف ابن أبي شيبة" (2/ 179 رقم 7861). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 10 رقم 16224).

فالمراد من قوله: "فلانًا" هو عثمان بن عمرو بن أوس يروي عن جده أوس كما ذكرنا. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن ابن عمرو بن أوس قال: "كان جدي يصلي ... " إلى آخره. وبنحوه أخرجه أحمد وقد ذكرنا (¬1). الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى ثقة، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث لا يساوي شيئًا. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي وثقه ابن حبان، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي وثقه ابن حبان، عن أوس بن أبي أوس أو أوس بن أوس ... إلى آخره. وشك الراوي فيه يدل على أنهما اثنان، وقال يحيى بن معين: أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس واحد. وقال الذهبي: قيل: إن يحيى أخطأ في ذلك؛ لأن أوس بن أبي أوس هو أوس بن حذيفة الثقفي غير أوس بن أوس الثقفي، وقد بسطنا الكلام في ترجمته. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا الحسين بن إسحاق التستري ومحمد بن عبد الله الحضرمي، قالا: ثنا يحيى الحماني، نا قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله الخثعمي، عن عبد الملك بن مغيرة الطائفي، عن أوس بن أوس قال: "أقمت عند النبي - عليه السلام - نصف شهر، فرأيته يصلي وعليه نعلان مُقابلتان، ورأيته يبزق عن يمينه وعن شماله". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 10 رقم 16224). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 219 رقم 597).

قوله: "مقابلتان" بفتح الباء، من قابَل نعله إذا عمل لها قبالًا، وكذلك أقبلها، والقِبَال: زمام النعل وهو السير الذي يكون بين الأصبعين، يقال: نعل مقبلة ومقابلة إذا جعلت لها قِبَالًا، ومقبولة إذا سددت قبالها، وذكر في "دستور اللغة" القِبال في باب القاف المكسورة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو ربيعة، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك، عن سعيد بن فيروز، عن أبيه: "أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - عليه السلام - قالوا: فرأيناه يصلي وعليه نعلان مقابلتان". ش: أبو ربيعة زيد بن عوف القطعي فيه كلام كثير، والحجاج بن أرطاة بن ثور النخعي الكوفي القاضي روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة. وعبد الملك بن المغيرة الطائفي ذكر آنفًا، وسعيد بن فيروز الديلمي يروي عن أبيه فيروز الديلمي، ويقال: ابن الديلمي أبي عبد الله اليماني الصحابي قاتل الأسود العنسي الكذاب. وكان قدوم وقد ثقيف بعد مرجع رسول الله - عليه السلام - من تبوك في رمضان سنة تسع من الهجرة. ص: فلما كان دخول المساجد بالنعال غير مكروه، وكانت الصلاة بها أيضًا غير مكروهة، كان المشي بها بين القبور أحرى أن لا يكون مكروهًا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: لما دلت الأحاديث المذكورة على إباحة الصلاة بالنعال، وإباحة دخول المساجد بها، من غير كراهة في ذلك؛ كان المشي بها بين القبور أحرى أن لا يكون مكروهًا، وأجدر أن يكون مباحًا، والله أعلم.

ص: باب: الدفن بالليل

ص: باب: الدفن بالليل ش: أي هذا باب في بيان دفن الميت بالليل هل يكره أم لا؟. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا مبارك بن فضالة، قال: ثنا نصر بن راشد، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلًا من بني عذرة دفن ليلًا ولم يصل عليه النبي - عليه السلام -، فنهى عن الدفن بالليل". ش: مسلم بن إبراهيم أبو عمرو القصاب البصري شيخ البخاري وأبي دود، ومبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي البصري، ضعفه يحيى والنسائي، وعن يحيى: ثقة. وعن ابن المديني: صالح. روى له البخاري مستشهدًا وأبو داود والترمذي وابن ماجه. ونصر بن راشد وثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا المبارك بن فضالة، حدثني نصر بن راشد، عمن حدثه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "توفي رجل على عهد رسول الله - عليه السلام - من بني عذرة فدفن ليلًا، فنهى رسول الله - عليه السلام - أن يقبر الرجل ليلًا حتى يصلي عليه، إلا أن يضطروا إلى ذلك". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن عمران، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا تدفنوا موتاكم بالليل". ش: محمَّد بن عمران بن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب" قال أبو حاتم: كوفي صدوق. روى له الترمذي. وأبوه عمران بن محمَّد بن عبد الرحمن روى له الترمذي وابن ماجه، ووثقه ابن حبان، وقال الأزدي: ليس بذاك. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 399 رقم 15322).

وابن أبي ليلى هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي قاضي الكوفة، فيه مقال، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وعن ابن معين: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس بالقوي. وروى له الأربعة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله -: فكره قوم دفن الموتى في الليل، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وأحمد في رواية؛ فإنهم كرهوا دفن الموتى في الليل، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. وقال ابن حزم (¬1): لا يجوز أن يدفن أحد ليلًا إلا عن ضرورة، وكل من دفن ليلًا منه - عليه السلام - ومن أزواجه وأصحابه - رضي الله عنهم - فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر، وحر المدينة شديد، أو خوف تَغَيُّرٍ، أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلًا، لا يحل أن يظن بهم خلاف ذلك، وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، نا هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أنه كره الدفن بالليل". وفي المصنف (¬2): ثنا أبو داود، عن أبي حرة، عن الحسن: "أنه كان يكره أن يدفن ليلًا". وفيه أيضًا (¬3): "وكان قتادة يكره ذلك" أي الدفن بالليل. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بالدفن في الليل بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه، وأراد بهم: النخعي والزهري والثوري وعطاء وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد -في الأصح- وإسحاق وآخرين من جماهير الفقهاء فإنهم أجازوا دفن الموتى بلا كراهة بالليل والنهار. ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 114 - 115). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 32 رقم 11838). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 31 رقم 11830).

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا محمَّد ابن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: "رُئِيَ في المقبرة ليلًا نار فإذا النبي في قبر وهو يقول: ناولوني صاحبكم". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثثا محمَّد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أو سمعت جابر بن عبد الله ... مثله، وزاد: "هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالقرآن". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي، عن محمَّد بن مسلم بن سوسن الطائفي، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه الحكم (¬1) وصححه، وقال النووي: سنده صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن حاتم بن بزيع، نا أبو نعيم، عن محمَّد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أو سمعت جابر بن عبد الله قال: "رأى ناس نارًا في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - عليه السلام - في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن محمَّد بن مسلم بن سوسن ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث محمَّد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: "رأى ناس نارًا في المقبرة فأتوها، فإذا ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 523 رقم 1362). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 219 رقم 3164). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (374 رقم 6701).

رسول الله - عليه السلام -[في القبر] (¬1) وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم، وإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر". وفيه من الفقه: جواز الدفن بالليل، وإيقاد النار في المقبرة. ص: ففي هذا الحديث: إباحة الدفن في الليل، وقد يجوز أن يكون النهي الذي ذكرنا في الباب الأول ليس من طريق كراهة الدفن، ولكن لإرادة رسول الله - عليه السلام - أن يصلي على جميع موتى المسلمين؛ لما يكون لهم في ذلك من الفضل والخير بصلاته عليهم؛ فإنه حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن عثمان بن حكيم الأنصاري، عن خارجة بن زيد، عن يزيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - قال: لا أعرفن أحدًا من المؤمنين مات إلا آذنتموني للصلاة عليه؛ فإن صلاتي عليهم رحمة". وكما حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -: "أنه دخل المقبرة فصلى على رجل بعدما دفن، وقال: ملئت هذه المقبرة نورًا بعد أن كانت مظلمة عليهم". فيكون رسول الله - عليه السلام - أراد بنهيه عن دفن الموتى في الليل ليكون هو الذي يصلي عليهم، فيصيبون بصلاته ما وصفنا من الفضل. ش: أي ففي حديث جابر هذا إباحة دفن الموتى بالليل، بخلاف ما في الحديث الأول. قوله: "وقد يجوز ... " إلى آخره، جواب عن الحديث المذكور، بيانه: أن النهي المذكور في الحديث الأول ليس لأجل كراهة الدفن بالليل لكونه بالليل، بل إنما كان لإرادة رسول الله - عليه السلام - أن يصلي على كل من مات من المسلمين؛ لينالوا بذلك بركة النبي - عليه السلام - وفضله وخيره؛ لأن صلاته عليهم رحمة كما قد صرح - عليه السلام - بذلك بقوله: "فإن صلاتي عليهم رحمة". في حديث يزيد بن ثابت أخي زيد بن ثابت، ولأن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن البيهقي".

صلاته - عليه السلام - عليهم نور في قبورهم كما جاء بذلك في حديث أبي هريرة، فلأجل ذلك نهاهم - عليه السلام - عن الدفن بالليل حتى لا يحرموا هذه الفضائل العظيمة. قوله: "فإنه حدثنا" "الفاء" للتعليل والضمير للشأن. وإسناد هذا الحديث صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عليًّا. ويزيد بن ثابت -بالياء آخر الحروف في أوله- هو أخو زيد بن ثابت وهو أكبر من زيد، يقال: إنه شهد بدرًا مع النبي - عليه السلام -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) بأتم منه: ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا هشيم، نا عثمان بن حكيم، ثنا خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت -وكان أكبر من زيد- قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام -، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه فقالوا: فلانة فعرفها، فقال: ألا آذنتموني؟ فقالوا: كنت قائلا صائمًا فكرهنا أن نؤذيك، قال: فلا تفعلوا، لا أعرفن ما مات منكم ميت -ما كنت بين أظهركم- إلا آذنتموني؛ فإن صلاتي عليه رحمة، ثم أتى القبر فصففنا خلفه، فكبر عليه أربعًا". وأخرجه النسائي، (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. قوله: "ألا آذنتموني" أي ألا أعلمتموني من الإيذان وهو الإعلام، وفيه دليل لأصحابنا في تقديم الوالي على الولي في الصلاة على الميت، وأن الحق فيها للإمام الأعظم. وحديث أبي هريرة كذلك إسناده صحيح، والحماني هو يحيى بن عبد الحميد، وقد تكرر ذكره، وثابت هو البناني، وأبو رافع الصائغ المدني اسمه نفيع بن الحارث روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 240 رقم 628). (¬2) "المجتبى" (4/ 84 رقم 2022). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 489 رقم 1528).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري -واللفظ لأبي كامل- قالا: نا حماد وهو ابن زيد، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد أو شابًا، ففقدها رسول الله - عليه السلام - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني فيقال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: دلوني على قبره فدلوه، فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. وفيه من الأحكام: جواز الصلاة على القبر، ودفن الميت بالليل، والقبر له ظلمة على الموتى، وأنها تنور ببركة صلاة النبي - عليه السلام - عليهم، وفي معنى ذلك الأعمال الصالحة، وافتقاد الأحياء الأموات بالخير، مثل: الذكر، وقراءة القرآن، والصدقة، ونحوها. ص: وقد قيل: إنه إنما نهى عن ذلك لمعنى غير هذا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حمران، عن أشعث، عن الحسن: "أن قومًا كانوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم ليلًا، فنهى رسول الله - عليه السلام - عن دفن الليل". فأخبر الحسن أن النهي إنما كان لهله العلة؛ لا لأن الليل يكره الدفن فيه. ش: القائل هو الحسن البصري؛ فإنه أخبر أن قومًا كانوا يقصرون في أكفان موتاهم ويجحفون فيها ويدفنونهم بالليل حتى لا يطلع على ذلك أحد من الناس، فمنعهم النبي - عليه السلام - عن الدفن بالليل لذلك لا لأجل الدفن بالليل مكروه. أخرج ذلك عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي البصري، عن يحيى بن معين: صدوق صالح. ووثقه ابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 659 رقم 956).

عن أشعث بن عبد الملك الحمراني، وثقه النسائي وغيره، روى له البخاري تعليقًا والأربعة عن الحسن البصري. وهذا مرسل صحيح. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله نحوًا من ذلك. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "خطب النبي - عليه السلام - يومًا فذكر رجلًا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلًا، فزجر أن يقبر رجل ليلًا لكي يصلي عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وقال: إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه". فجمع هذا الحديث العلتين اللتين قيل: إن النهي كان من أجلهما، فلا بأس بالصلاة على الموتى بالليل ودفنهم فيه أيضًا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي قد روي عن جابر ما يشبه ما ذكر من العلتين في نهي النبي - عليه السلام - عن الدفن بالليل؛ لأن النبي - عليه السلام - نهى أن يقبر رجل ليلًا في حديث جابر المذكور أولا؛ لأجل أن يصلي عليه هو؛ لينال الرحمة من صلاته عليه، فهذه إحدى العلتين في النهي عن الدفن بالليل. والثانية هي أنهم دفنوا ذلك الرجل في كفن غير طائل، فلذلك منعهم من الدفن بالليل المذكور فيما روي عن الحسن، وهذا معنى قوله: "فجمع هذا الحديث العلتين ... " إلى آخره. بإسناد هذا الحديث وإن كان معلولًا بعبد الله بن لهيعة فالحديث صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): نا هارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر، قالا: نا حجاج ابن محمَّد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 651 رقم 943).

يحدث: "أن النبي - عليه السلام - خطب يومًا، فذكر رجلًا من أصحابه قبض، فكفن في كفن غير طائل، وقُبِرَ ليلًا، فزجر النبي - عليه السلام - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي - عليه السلام -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه". وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: نا أحمد بن حنبل، نا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن النبي - عليه السلام -: "أنه خطب يومًا ... " إلى آخره نحوه. وأبو الزبير اسمه محمَّد بن مسلم المكي. قولى: "غير طائل" يقال: هذا أمر لا طائل تحته أو لا طائل فيه، إذا لم يكن فيه غناء ومزيَّة يقال ذلك في التذكير والتأنيث، ولا يتكلم به إلا في الجحد وذكره الجوهري في باب الطول فدل على أن أصله واوي. قوله: "فزجر أن يقبر" أي منع ونهى أن يدفن، يقال: قُبِرَ إذا دفن وأقبر إذ جعل له قبر. قوله: "لكي يصلي عليه" أي لكي يصلي على النبي - عليه السلام - على الميت، وهذه هي العلة في زجره عن الدفن بالليل، وقال النووي: النهي عن الدفن قبل الصلاة. قلت: الدفن قبل الصلاة منهي عنه مطلقا سواء كان بالليل أو بالنهار والمعنى الذي يفهم من التركيب أنه نهى عن الدفن بالليل لكي يصلي هو عليه. وفيه من الفوائد: استحباب تحسين الكفن ومراعاة السنة فيه في الرجال والنساء. ص: وقد فعل ذلك برسول الله - عليه السلام - فدفن بالليل. حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن فاطمة بنت محمَّد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما علمنا بدفن رسول الله - عليه السلام - حتى سمعنا صوت المساحي في ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 215 رقم 3148).

آخر الليل ليلة الأربعاء وهذا بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - لا ينكره أحد منهم". فدل ذلك على أن ما كان من نهي النبي - عليه السلام - عن الدفن ليلًا إنما كان لعارض، لا لأن الليل يكره الدفن فيه إذا لم يكن ذلك للعارض، وقد قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: "ثلاث ساعات كان رسول الله - عليه السلام - ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغيب". وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم من كتابنا هذا، فدل ذلك أن ما سوى هذه الأوقات بخلافها في الصلاة على الموتى ودفنه في الكراهة. ش: أي وقد فُعِلَ الدفن بالليل برسول الله - عليه السلام - على ما روته عائشة - رضي الله عنها -. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بهلول التميمي شيخ البخاري واحد أصحاب أبي حنيفة، عن عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي روى له الجماعة، عن محمَّد بن إسحاق المدني الثقة، عن فاطمة بنت محمَّد مجهولة، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه سواء. وفي آخره قال محمَّد: "والمساحي: المرور". قلت: هي مِسحاة -بكسر الميم- وهي المجرفة من الحديد، والميم زائدة؛ لأنه من السحو وهو الكشف، والمرور جمع مر -بفتح الميم وتشديد الراء- وهي المسحاة ويسمى بالفارسية بِيل. قوله: "وقد قال عقبة بن عامر ... " إلى آخره. قد أخرجه الطحاوي مسندًا في باب: "مواقيت الصلاة" وقال: ثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو عامر العقدي، قال: ثنا موسى بن عُلَيِّ بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهمي قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - عليه السلام - ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 32 رقم 11839)، وفيه: "المساحي: المجارف".

وأخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (1)، والترمذي (1)، وابن ماجه، وقد بسطت الكلام عليه هناك. ص: وقد حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن عقيل. (ح) وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسحاق بن الضيف، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، قالا جميعًا: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "دفن علي بن أتيت طالب فاطمة - رضي الله عنها - ليلًا. فهذا علي - رضي الله عنه - لم ير بالدفن في الليل بأسًا، ولم ينكر ذلك أبو بكر وعمر - رضي الله عنها - ولا أحد من أصحاب رسول الله - عليه السلام -. ش: هذان طريقان صحيحان رجالهما ثقات، والليث هو ابن سعد، وعُقَيْل -بضم العين- بن خالد الأيلي، وإسحاق بن الضيف، ويقال: إسحاق بن إبراهيم ابن الضيف أبو يعقوب الباهلي العسكري البصري شيخ أبي داود، قال أبو زرعة: صدوق. والزهري هو محمَّد بن مسلم بن شهاب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن عليًّا دفن فاطمة ليلًا". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "دفن أبو بكر - رضي الله عنه - ليلًا". ش: إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو خالد الأحمر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "مات أبو بكر ليلة الثلاثاء ودفن ليلة الثلاثاء". ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 31 رقم 11827) دون ذكر عائشة. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 32 رقم 11834).

قلت: مات أبو بكر بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وكان رسول الله - عليه السلام - أسن منه بمقدار سِنِيِّ خلافته، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، فغسلته وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن في الحجرة إلى جانب النبي - عليه السلام - وتولى الخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وهو ثاني يوم مات النبي - عليه السلام -، وكان مولده بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أيامًا، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وقال ابن الأثير: كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر. ص: حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرى، قال: ثنا موسى ابن عُلَي، قال: سمعت أبي، عن عقبة: "أن رجلًا سأله أيقبر بالليل؟ قال: نعم قبر أبو بكر - رضي الله عنه - بالليل، فلا نرى بالدفن بالليل بأسًا". وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي الفقيه، وأبو عبد الرحمن المقرئ اسمه عبد الله بن يزيد القرشي القصير شيخ البخاري، وموسى بن عُلَيّ -بضم العين- ابن رباح اللخمي أبو عبد الله المصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأبوه عُلَيّ بن رباح بن قصير اللخمي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وعقبة بن عامر الجهني الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بأتم منه: ثنا وكيع، عن موسى بن علي، عن أبيه قال: "كنت عند عقبة بن عامر فسئل عن التكبير على الميت، فقال: أربع، قلت: الليل والنهار سواء؟ قال: الليل والنهار سواء، قلت: يدفن الميت بالليل؟ قال: قبر أبو بكر - رضي الله عنه - بالليل". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 31 رقم 11828).

قوله: "أَيُقْبَرُ" الهمزة فيه للاستفهام، ويُقْبَر على صيغة المجهول، أي هل يدفن الميت بالليل؟ "قال: نعم" يدفن بالليل. "قُبِرَ أبو بكر" أي دفن. قوله: "فلا يرى بالدفن ... " إلى آخره من كلام الطحاوي.

ص: باب: الجلوس على القبور

ص: باب: الجلوس على القبور ش: أي هذا باب في بيان حكم الجلوس على القبور هل يجوز أم لا؟. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا إليها". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثناعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، أنه سمع بسر بن عبيد الله الحضرمي ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر، عن بسر، أنه سمع واثلة بن الأسقع ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت بسر بن عبيد الله يقول: سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول ذلك. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن يحيى بن حسان التنيسي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن صدقة بن خالد القرشي الدمشقي روى له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي روى له الجماعة، عن بُسر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- ابن عبيد الله الحضرمي الشامي روى له الجماعة، عن أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله العوذي

الخولاني من أكابر علماء الشام وعبادهم وقرائهم روى له الجماعة، عن واثلة بن الأسقع الليثي الصحابي، عن أبي مرثد الغنوي واسمه كناز بن الحصين. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا حسن بن الربيع البجلي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا. الثاني: عن روى بن الفرج القطان، عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي شيخ أبي داود، عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني علي بن حجر السعدي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن بُسر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". الثالث: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن بشر بن بكر التنيسي البجلي من رجال البخاري، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4) نحوه. الرابع: عن عبد الله بن محمَّد بن خشيش -بالمعجمات وضم الخاء- عن عبيد الله بن محمَّد بن حفص المعروف بالعيشي شيخ أبي داود، عن عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور الحجة، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 668 رقم 972). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 236 رقم 3229). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 668 رقم 3229). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 435 رقم 4074).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، نا نعيم بن حماد. (خ) وحدثنا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا العباس بن الوليد النرسي، قالا: نا ابن المبارك، ثنا ابن جابر، قال: سمعت بسر بن عبيد الله يحدث، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها". وأخرجه الترمذي نحوه (¬2). ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن النضر بن عبيد الله السلمي ثم الأنصاري، عن عمرو بن حزم قال: "رآني رسول الله - عليه السلام - على قبر، فقال: انزل عن القبر؛ لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك". ش: يحيى بن عبد الله شيخ البخاري -رحمه الله-، وابن لهيعة هو عبد الله فيه مقال، وأبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني روى له الجماعة، والنضر -بالنون والضاد المعجمة- بن عبد الله السلمي ثم الأنصاري روى له النسائي، وعمرو بن حزم بن زيد الأنصاري الصحابي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا حسن، نا ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "رآني رسول الله - عليه السلام - جالسًا على قبر"، وفي لفظة له: "وأنا متكئ على قبر". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 193 رقم 434). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 367 رقم 1050) برواية أبي إدريس الخولاني بين بسر وواثلة. (¬3) ليس في "المسند" المطبوع، وذكر ابن عساكر ترجمة عمارة بن حزم في "ترتيب أسماء الصحابة" رقم (367)، وكذا الحافظ ابن حجر في ترجمته في "تعجيل المنفعة" (1/ 294)، و"المسند المعتلي" (ق 212/ أ) وذكر له هذا الحديث مع آخر.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن عبد الله بن الحكم، عن شعيب، قال: نا الليث، قال: نا خالد، عن ابن أبي هلال، عن أبي بكر بن حزم، عن النضر بن عبد الله السلمي، عن عمرو بن حزم، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تقعدوا على القبور". قوله: "لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك" أي صاحب القبر، ومعنى الأذى من طرف الحي أنه إذا جلس على قبر الميت فكأنه جلس عليه وهو حيّ؛ لأن حرمة المسلم لا تختلف بالحياة والممات، ولهذا لا يجوز كسر عظم الميت ولو كان كافرًا، ولا نبش قبر المسلم، وأما من جهة الميت فلأنه ربما تفوح رائحته فيتأذى به الجالس عليه أو تحصل له وحشة فيتأذى بسببها. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن خازم، عن ابن جريج، عن ابن الزبير، عن جابر قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن تجصيص القبور، والكتابة عليها، والجلوس عليها، والبناء عليها". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حفص، عن ابن جربج ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا مبارك بن فضالة، عن نصر بن راشد، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى أن يجلس على القبور". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن خازم -بالمعجمتين- أبي معاوية الضرير روى له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 95 رقم 2045).

وأخرجه الجماعة غير البخاري. فقال مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه". وقال أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، نا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول: "سمعت رسول الله - عليه السلام - نهى أن يقعد على القبر، وأن يقصص، وأن يبنى عليه". وقال الترمذي (¬3): ثنا عبد الرحمن بن الأسود أبو عمرو البصري، قال: نا محمَّد ابن ربيعة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال النسائي (¬4): أنا عمران بن موسى، قال: نا عبد الوارث، قال: نا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول الله - عليه السلام - عن تجصيص القبور". وقال ابن ماجه (¬5): ثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد، قالا: ثنا عبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن تجصيص القبور". وفي رواية: "أن يكتب على القبر شيء" (¬6). وفي رواية: "نهى أن يبنى على القبر" (¬7). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 667 رقم 970). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 235 رقم 3225). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 368 رقم 1052). (¬4) "المجتبى" (4/ 88 رقم 2029). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 498 رقم 1562). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 498 رقم 1563). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 498 رقم 1564).

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري، عن حفص بن غياث، عن عبد الملك بن جريج ... إلى آخره. وأخرجه مسلم بهذا الطريق، وقد ذكرناه. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة ... إلى آخره. هذا بعينه مر في أول باب "الدفن بالليل" إلا أن المتن مختلف، ومسلم هو ابن إبراهيم القصاب شيخ البخاري. وفيه من الأحكام: كراهة تجصيص القبور؛ لأن القبر للبلى لا للبقاء، والتجصيص من الجص -بفتح الجيم وكسرها وتشديد الصاد المهملة- وهو الكلس، ويقال له: الجير، وبالفارسية: كج، وكذلك القص بالقاف. وكراهة الكتابة، وعن الحسن أنه يكره أن يجعل اللوح على القبر. وكراهة البناء، وسئل أحمد عن تطيين القبور، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، ورخص في ذلك الحسن والشافعي، قاله ابن قدامة، وعن مكحول أنه يكره. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن سهيل بن أبي صالح. (ح) وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة حتى تحرق ثيابه وتخلص إلى جلده؛ خير له من أن يجلس على قبر". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي السراج، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لأن يجلس ... " إلى آخره، غير أن في لفظه: "فتحرق" بدل: "حتى تحرق". أبو داود (¬2): عن مسدد، عن خالد، عن سهيل نحوه. الثانى: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سهيل ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمَّد بن عبد الله بن المبارك، عن وكيع، عن سفيان، عن سهيل ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬4): نا سويد بن سعيد، نا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرقه؛ خير له من أن يجلس على قبر". قوله: "لأن يجلس" في محل الرفع على الابتداء، و"أن" مصدرية، والتقدير: لجلوس أحدكم، وخبره قوله: "خير". قوله: "وتخلص" أي وتصل، يقال: خلص فلان إلى فلان إذا وصل إليه، وخلص أيضًا إذا سلم ونجى، وهو من باب نَصَرَ يَنْصُر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقلدوها، وكرهوا من أجلها الجلوس على القبور. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومكحولًا وأحمد وإسحاق وأبا سليمان؛ فإنهم كرهوا الجلوس على القبور، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 667 رقم 971). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 236 رقم 3228). (¬3) "المجتبى" (4/ 95 رقم 2044). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 499 رقم 1566).

ويروى ذلك عن عبد الله وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر - رضي الله عنهم -، وإليه ذهبت الظاهرية، وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل لأحد أن يجلس على قبر، وهو قول أبي هريرة وجماعة من السلف. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لم ينه عن ذلك لكراهة الجلوس على القبر، ولكنه أريد به الجلوس للغائط أو البول، وذلك جائر في اللغة، يقال: جلس فلان للغائط، جلس فلان للبول. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة ومالكًا وعبد الله بن وهب وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا يكره الجلوس على القبر إلا إذا جلس لقضاء الحاجة، وقالوا: ما روي عن النهي فمحمول على ما ذكرنا، ويحكى ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا عمرو بن علي، عن عثمان بن حكيم، عن أبي إمامة، أن زيد بن ثابت قال: "هلم يا ابن أخي أخبرك، إنما نهى النبي - عليه السلام - عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول". فبين زيد - رضي الله عنه - في هذا الجلوس المنهى عنه في الآثار الأُوَل ما هو. ش: أي احتج الآخرون فيما قالوا: أن المراد من الجلوس المنهي عنه هو الجلوس للغائط أو البول بحديث زيد بن ثابت؛ فإنه بَيَّن في حديثه أن الجلوس المنهي عنه في الأحاديث التي سلفت هو الجلوس للغائط أو البول، وقال مالك في "موطئه": إنما نهى عن القعود على القبور -فيما نرى- للمذهب. ورجال حديثه ثقات. وعمرو بن علي بن بحر بن كنيز أبو حفص البصري الفلاس الحافظ شيخ الجماعة، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف واسمه أسعد، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

قوله: "هلم" أي تعال، وقد مر الكلام فيه مستقصى عن قريب. ص: وقد روي عن أبي هريرة نحو من ذلك: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني محمَّد بن أبي حميد، أن محمَّد بن كعب القرظي أخبرهم، قال: إنما قال أبو هريرة: قال رسول الله - عليه السلام -: "من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة نار". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا سليمان بن داود، قال: ثنا محمَّد بن أبي حميد، عن محمَّد بن كعب، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "من قعد على وقبر فتغوظ عليه أو بال، فكأنما قعد على جمرة". ش: أي قد روي عن أبي هريرة مثل ما روي عن زيد بن ثابت في حمل معنى النهي عن الجلوس على القبور للغائط أو البول. وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد ابن أبي حميد إبراهيم الزرقي الأنصاري المدني فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف ليس حديثه بشيء. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن محمَّد بن كعب القرظي المدني روى له الجماعة، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": ثنا محمَّد بن أبي حميد ... إلى آخره نحوه، وقال في آخره: قال ابن وهب: قال لي مالك: إنما نهى عن القعود فيما نرى للمذهب. وقال ابن قدامة: ذكر لأحمد تأويل مالك هذا فقال: ليس هذا بشيء، ولم يعجبه رأي مالك. قلت: مالك لم يتفرد بهذا التأويل، وقد نقل هذا عن مثل زيد بن ثابت وكفى به حجة، ولعل أحمد لم يبلغ إليه ما قاله زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء ابن مقدم المقدمي شيخ البخاري ومسلم، عن سليمان بن داود الطيالسي، عن محمَّد بن أبي حميد بن إبراهيم الأنصاري ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1). ص: فثبت بذلك أن الجلوس المنهى عنه في الآثار الأُوَل هو هذا الجلوس، فأما الجلوس لغير ذلك فلم يدخل في ذلك النهي، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي فثبت بما ذكر من التأويل المذكور أن الجلوس المنهي عنه في الأحاديث الأُوَل التي احتجت بها أهل المقالة الأولى هو هذا الجلوس، يعني الجلوس للغائط أو البول، فأما الجلوس لغير ذلك من الوجوه فليس بداخل تحت النهي المذكور، وهو اختيار الطحاوي، ومذهب أبي حنيفة وصاحبيه. قلت: فعل هذا ما ذكره أصحابنا في كتبهم من أن وطأ القبور حرام، وكذا النوم عليها ليس كما ينبغي، فإن الطحاوي هو أعلم الناس بمذاهب العلماء ولا سيما بمذهب أبي حنيفة. فإن قلت: قال صاحب "البدائع" وغيره: كره أبو حنيفة أن يوطأ قبر أو يجلس عليه أو ينام عليه أو تقضى عليه حاجة من بول أو غائط لما روي عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن الجلوس على القبر. قلت: هذا أيضًا مخالف لما ذكره الطحاوي؛ لأنه أخذ في الدليل بظاهر الحديث وسلك مسلك أهل المقالة الأولى، ولم يذهب إلى ما قاله أهل المقالة الثانية، والقول ما قاله الطحاوي. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 331 رقم 2544).

ص: وقد روي ذلك عن علي وابن عمر - رضي الله عنه - عنهم. حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، أن يحيى بن أبي محمَّد حدثه، أن مولى لآل علي - رضي الله عنه - حدثه: "أن علي بن أبي طالب كان يجلس على القبور، وقال المولى: كنت أبسط له في المقبرة فيتوسد قبرًا ثم يضطجع". حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر، عن عمرو، عن بكير، أن نافعًا حدثه: "أن عبد الله بن عمر كان يجلس على القبور". ش: أي وقد روي ما ذكرنا من إباحة الجلوس على القبور على الوجه المذكور، عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. ورجال الأثرين كلهم ثقات غير أن مولى لآل علي مجهول. وعبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، وبكر بن مضر بن محمَّد أبو عبد الملك المصري مولى شرحبيل بن حسنة روي له الجماعة سوى ابن ماجه. وبكير بن عبد الله بن الأشج روى له الجماعة. يحيى بن أبي محمَّد هو يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن بلتعة روى له الجماعة غير البخاري. وأثر ابن عمر أخرجه البخاري (¬1) معلقًا، وقال: قال نافع: "كان ابن عمر يجلس على القبور". والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 457).

ص: كتاب الزكاة

ص: كتاب الزكاة ش: أي هذا كتاب في أحكام الزكاة، وجه المناسبة بين الكتابين: أن الزكاة ثالثة الإيمان وثانية الصلاة في الكتاب والسنة، قال: الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬1) وقال - عليه السلام -: "بني الإِسلام على خمس ... " (¬2) الحديث. والزكاة لغةً: النماء. يقال: زكى الزرع، إذا نمى، وفي "المحكم": الزكاء ممدود النماء، والريع يقال: زكي يزكو زكاءً وزكوا وأزكى، والزكاء: ما أخرجته الأرض من الثمر، والزكاة: الصلاح، ورجل زكي من قوم أزكياء، وقد زكى زكاءً، والزكاة: ما أخرجته من مالك؛ لتطهره، وقال أبو علي: الزكاة صِفوة الشيء، وفي "الجامع": زكت النفقة أي بورك فيها. وقال ابن العربي -في كتابه "المدارك"-: تطلق الزكاة على الصدقة أيضًا وعلى الحق والنفقة والعفو، ويقال: الزكاة عبارة عن الطهارة، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (¬3) أي تطهير، ومعناها الشرعي: إيتاء جزء من النصاب الحولي إلى الفقير الغير هاشمي. ثم لها ركن وسبب وشرط وحكم وحكمة. فركنها: جعلها الله تعالى بالإخلاص. وسببها: المال. وشرطها نوعان: شرط السبب، وشرط من تجب عليه، فالأول ملك النصاب النامي الحولي، والثاني العقل والبلوغ والحرية. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [3]. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، البخاري (1/ 12 رقم 8)، ومسلم (1/ 45 رقم 16). (¬3) سورة الأعلى، آية: [14].

وحكمها: سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الآخرة. وحكمتها: كثيرة منها: التطهر عن دنس الذنوب والبخل، ومنها ارتفاع الدرجة والقربة، ومنها الإحسان إلى المحتاجين، ومنها استرقاق الأحرار، فإن الإنسان عبد للإحسان. وقال ابن المنذر: انعقد الإجماع على فرضية الزكاة، وهي الركن الثالث للإسلام قال - عليه السلام -: "بني الإِسلام على خمس" (¬1)، وفيه قال: "وإيتاء الزكاة" وقال ابن بطال: فمن جحد واحدة من هذه الخمس فلا يتم إسلامه، ألا ترى أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وقال ابن الأثير: من منعها منكرًا وجوبها فقد كفر، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، ولم يعلم وجوبها. وقال أبو الفتح القشيري: من جحدها كفر، وأجمع العلماء أن مانعها تؤخذ قهرًا منه، وإن نصب الحرب دونها قتل، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - بأهل الردة. وفي "المغني": فمن أنكر وجوبها جهلًا به، وكان ممن يجهل ذلك إما لحداثة عهده بالإسلام، وإما أنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرف وجوبها ولم يحكم بكفره؛ لأنه معذور، وإن كان مسلمًا ناشئًا ببلاد الإِسلام بين أهل العلم، فهو مرتد تجرى عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثًا فإن تاب وإلا قتل وإن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره، ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وكذلك إن غلَّ ماله فكتمه حتى لا يأخذ الإِمام زكاته فظهر عليه، وقال إسحاق بن راهوية وأبو بكر عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله، وإذا كان مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الإِمام قاتله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - ¬

_ (¬1) تقدم.

قاتلوا مانعيها، فإن ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة أيضًا ولم يَسْبِ ذريته؛ لأن الجناية من غيرهم، وإن ظفر به دون ماله دعاه إلى أدائها واستتابه ثلاثًا، فإن تاب وأدى وإلا قتل ولم يحكم بكفره، وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها، فروي عنه: إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر - رضي الله عنه - وقاتلوا عليها لم يورَّثوا ولم يصل عليهم.

ص: باب: الصدقة على بني هاشم

ص: باب: الصدقة على بني هاشم ش: أي هذا باب في بيان الصدقة على بني هاشم هل تجوز أم لا؟. والصدقة أعم من الزكاة وبنو هاشم هم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب. وهاشم هو ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدمت عير المدينة، فاشترى منه النبي - عليه السلام - متاعًا فباعه بربح أواقي فضة، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب، ثم قال: لا أعود أن أشتري بعدها شيئًا وليس ثمنه عندي". ش: إسناده صحيح، وسعيد بن سليمان شيخ البخاري وأبي داود. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا [علي بن عبد العزيز، نا عمرو بن عون الواسطي] (¬2)، نا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - اشترى عيرًا قدمت فيها أواق من ذهب، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب، وقال: لا أشتري شيئًا ليس عندي ثمنه". قوله: "عير" بكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وهي: الإبل بأحمالها، وقيل: هي قافلة الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 282 رقم 11743). (¬2) كذا في "الأصل، ك" والذي في "المعجم الكبير": محمَّد بن العباس المؤدب، وأحمد بن يحيى الحلواني، قالا: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي. والذي في "الأصل، ك" هو إسناد الحديث الذي قبله، فلعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-.

قوله: "بربح أواقي" بالياء، وفي بعض النسخ بلا ياء، وكلاهما صحيح، وهي جمع أوقية، والأوقية -بضم الهمزة وتشديد الياء- وجمعها أواقي -بتشديد الياء وتخفيفها- وأواق -بحذفها- قال ابن السكيت في "الإصلاح": كل ما كان من هذا النوع واحده مشددً جاز في جمعه التشديد والتخفيف كالأوقية والأواقيّ والأواقي، والسريّة والسراريّ والسراري، والبختي والبخاتيّ والبخاتي، والأثفية والأثافيّ والأثافي ونظائرها، وأنكر الجمهور أن يقال في الواحدة: وقية -بحذف الهمزة- وحكى الجبائي جوازها بفتح الواو وتشديد الياء، وجمعها: وقايا، مثل ضحيَّة وضحايا. وأجمع أهل الحديث والفقه واللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز. وفي كتاب "المكاييل" عن الواقدي، عن سعيد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "كان لقريش أوزان في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أقرت على ما كانت عليه، الأوقية: أربعون درهمًا، والرطل: اثنى عشر أوقية فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا، وكان لهم النش: وهو عشرون درهمًا، والنواة: وهي خمسة دراهم، وكان المثقال: اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطًا، فلما قدم سيدنا رسول الله - عليه السلام - كان يسمي الدينار لوزنه دينارًا، وإنما هو تبر، ويسمي الدرهم لوزنه درهمًا، وإنما هو تبر، فأقرت موازين المدينة على هذا، فقال النبي - عليه السلام -: "الميزان ميزان أهل المدينة". وروى الدارقطني (¬1) بإسناده إلى جابر - رضي الله عنه - رفعه: "والأوقية أربعون درهمًا". ويستفاد من الحديث: جواز الصدقة على بني هاشم كما ذهب إليه جماعة، وجواز المرابحة في البيوع، وكراهة الشراء بالدين إذا لم يكن عنده شيء، وذلك لخوف غائلة الدين ولحوق ضرره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 98 رقم 16).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث وأباحوا الصدقة على بني هاشم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من المالكية وأبا حنيفة في رواية وبعض الشافعية؛ فإنهم أباحوا الصدقة على بني هاشم، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. وممن قال بقولهم أبو بكر الأبهري من المالكية، وأبو سعيد الإصطخري من الشافعية. وتحرير هذه المسألة أن نقول: لا خلاف في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة؛ لقوله - عليه السلام -: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد، إنما هي أوساخ الناس". رواه مسلم (¬1). وعن أبي يوسف والإصطخري والقاضي يعقوب وأبي البقاء من الحنابلة: إن منعوا الخمس أخذوا الزكاة. وروى أصبغ عن ابن القاسم قال: لا تحل لهم الصدقات الواجبة ولا يحل لهم التطوع. وعنهم: تحل لهم كلها فرضها ونفلها. وأما الهاشمي إذا دفع زكاته إلى هاشمي مثله يجوز عند أبي حنيفة خلافًا لأبي يوسف. وكذلك يجوز صرف صدقة التطوع إليهم على وجه الصلة، وعن مالك: لا يجوز، وكذا عن بعض الحنابلة. وجزم في "الروضة" بتحريم النفل على بني هاشم ومواليهم، وأن النذور والكفارات كالزكاة، وإن حرمت صدقة التطوع على بني هاشم، فالنبي - عليه السلام - أولى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 753 رقم 1072).

وأما بنو عبد المطلب فيجوز لهم أخذ الزكاة عندنا. وهو رواية عن أحمد، وعنه: لا يجوز. نقلها عبد الله بن أحمد. وأما موالي بني هاشم فكذلك تحرم عليهم الزكاة. وعن الشافعي في قول ومالك في رواية تجوز، وعن الشافعي كقولنا. وقال ابن قدامة في "المغني": لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، ولا لمواليهم (¬1)، وقال أكثر العلماء: تجوز؛ لأنهم ليسوا بقرابة النبي - عليه السلام -، فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس، ولأنهم لم يعوضوا عنها بخمس الخمس، فإنهم لا يطعون منه. فأما بنو المطلب فهل لهم الأخذ من الزكاة؟ على روايتين: أحداهما: ليس لهم ذلك. والرواية الثانية: لهم الأخذ منها، وهو قول أبي حنيفة. وقال عياض في "شرح مسلم": اختلف العلماء في الصدقة المحرمة على آل النبي - عليه السلام -، فقيل: الفريضة فقط، وهو قول مالك، وكثير من أصحابه، وأحد قولي أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة أيضًا: إنها كلها حلال لبني هاشم وغيرهم، وإنما كان ذلك محرمًا عليهم إذا كانوا يأخذون سهم ذوي القربى، فلما قطع عنهم، حلَّت لهم، ونحوه عن الأبهري من شيوخنا، وروي عن أبي يوسف أنها حرام عليهم من غيرهم حلال لهم صدقة بعضهم على بعض. وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا أنها تحرم عليهم في التطوع دون الفريضة؛ لأنها لا منَّة فيها. ¬

_ (¬1) في "المغني" (2/ 517) جعل مواليهم مسألة منفصلة، وذكر فيها الخلاف فقال: "مسألة: قال: ولا لمواليهم، يعني أن موالي بني هاشم -وهم من أعتقهم هاشمي- لا يعطون من الزكاة، وقال أكثر العلماء: يجوز .... إلخ" وهذا اختصار مخل يؤدي إلى سوء الفهم.

واختلف مَن هم آل محمَّد - عليه السلام -؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: هم بنو هاشم خاصةً. ومثله عن أبي حنيفة، واستثني آل أبي لهب. وقال الشافعي: هم بنو هاشم، ويدخل فيه بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف. وفي "الحاوي في فقه أحمد" ولا لبني هاشم يعني: ولا يجوز دفع الزكاة لبني هاشم وإن مُنِعوا الخمس وعندي إن مُنعوا الخمس جاز، ولا لمواليهم ولا أولاد بناتهم، وفي بني المطلب روايتان. ولهم الأخذ من صدقة التطوع في أصح الروايتين. وقال ابن شاس في "الجواهر": وإذا قلنا بأنهم لا يعطون أي بأن آل الرسول - عليه السلام -، فمن هم؟ لا خلاف في عدِّ بني هاشم وعدم عَدِّ مَن فوق ببني غالب، وفي عد مَنْ بنيهما خلاف عندهم أشهب واقتصر ابن القاسم على بني هاشم. واختلف أيضًا في إعطاء مواليهم منها، فأجازه ابن القاسم ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ وابن حبيب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تجوز الصدقة من الزكوات والتطوع وغير ذلك على بني هاشم، وهم كالأغنياء، فما حرم الأغنياء من الصدقة فهي على بني هاشم حرام، فقراء كانوا أو أغنياء، وكل ما يحل للأغنياء من غير بني هاشم فهو حلال لبني هاشم فقرائهم وأغنيائهم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا والثوري والنخعي ومالكًا والشافعي وأبا حنيفة في رواية، وأبا يوسف ومحمدًا، وجماهير أهل العلم من الفقهاء وأهل الحديث، فإنهم قالوا: لا تجوز الصدقة على بني هاشم سواء كانت زكاةً أو تطوعًا أو غيرهما. وهذا الموضع أيضًا يحتاج إلى تحرير، فنقول: قال الخطابي: أما النبي - عليه السلام - فلا خلاف بين المسلمين أن الصدقة لا تحل له، وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء،

وقال الشافعي: لا تحل الصدقة لبني المطلب؛ لأن النبي - عليه السلام - أعطاهم من سهم ذوي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عُوضوه بدلًا عما حُرِموه من الصدقة، فما موالي بني هاشم فإنه لا حقالهم في سهم ذوي القربى، فلا يجوز أن يحرموا من الصدقة. وقال النووي: تحرم الزكاة على النبي - عليه السلام - وعلى آله -وهم بنو هاشم وبنو المطلب- هذا مذهب الشافعي وموافقيه، أن آله - عليه السلام - هم بنو: هاشم وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصةً. قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلها. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي. وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال، أصحها: أنها تحرم على رسول الله - عليه السلام - تحل لآله، والثاني: تحرم عليه وعليهم، والثالث: وتحل له ولهم. وأما موالي بني هاشم وبني المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: تحرم، والثاني: تحل. وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية. وبالإباحة قال مالك. وادعي ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع. وليس كما قال، بل الأصح عند أصحابنا: تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب ولا فرق بينهما. وذكر الطحاوي أن الصدقة المفروضة والتطوع محرمة على بني هاشم في قول أبي يوسف ومحمد، وعن أبي حنيفة روايتان فيها. قال الطحاوي وبالجواز نأخذ، والله أعلم.

ص: وليس على أهل هذه المقالة حجة عندنا في الحديث الأول؛ لأنه يجوز أن يكون ما تصدق به النبي من ذلك على أرامل بني عبد المطلب لم يجعله من جهة الصدقة التي تحرم على بني هاشم في قول من يحرمها عليهم، ولكن جعلها من جهة الصدقة التي تحل لهم؛ فإنا قد رأينا الأغنياء من غير بني هاشم قد يُصَدِّق الرجل على أحدهم بداره أو بعبده فيكون ذلك جائزًا حلالًا ولا يحرمه عليه ماله، وكان ما يحرم عليه بماله من الصدقات هو الزكوات والكفارات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فأما الصدقات التي يراد بها طريق الهبات وإن سميت صدقات فلا، فكذلك بنو هاشم حرم عليهم؛ لقرابتهم من الصدقات مثل ما حرم على الأغنياء بأموالهم. فأما ما كان لا يحرم على الأغنياء بأموالهم فإنه لا يحرم على بني هاشم بقرابتهم؛ فلهلما جعلنا ما كان تصدق به رسول الله - عليه السلام - على أراملهم من جهة الهبات وإن سمي ذلك صدقة، وهو الذي ينبغي أن يحمل تأويل ذلك الحديث الأول عليه؛ لأنه قد روي عن ابن عباس. ما قد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سعيد وحماد ابنا زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: "دخلنا على ابن عباس فقال: ما اختصنا رسول الله - عليه السلام - بشيء دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا نُنْزي الحمر على الخيل". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: أنا حماد بن زيد، عن أبي جهضم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجا بن رجاء، عن أبي جهضم ... فذكر بإسناده مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يخبر في هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - اختصهم أن لا يأكلوا الصدقة، فليس يخلو الحديث من أن يكون على ما ذكرنا

في الفصل الأول، فيكون ما أباح لهم فيه غير ما حرم عليهم في هذا الحديث الثاني، فيكون معنى كل واحد منهما على ما ذكرنا، أو يكون الحديث الأول نسخ ما منع منه هذا الحديث الثاني، فيكون هذا الحديث الثاني ناسخًا له؛ لأن ابن عباس يخبر فيه بعد موت النبي - عليه السلام - أنهم مخصوصون به دون الناس، فلا يجوز أن يكون ذلك إلا وهو قائم في وقته ذلك. ش: أي: ليس على أهل المقالة الثانية حجة في الحديث الأول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى؛ لأنه يجوز أن يكون المراد من قوله: فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب: أحسن بها عليهن على طريق الهبة والتبرع والإحسان؛ لأن الصدقة قد تذكر ويراد بها الهبة والإحسان كما إذا تصدق رجل على غني بدار أو عبد أو مال معين فإنه يجوز، ويكون ذلك هبةً؛ فغنى ذلك الغني لا يمنع من ذلك؛ لكون ذلك هبة وإحسانًا في المعنى، وكذلك المراد ها هنا الصدقة التي طريقها طريق الهبات وإن سميت صدقةً، وليس المراد بها الصدقة التي طريقها طريق الزكوات والكفارات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله تعالى. قوله: "وهو الذي ينبغي أن يحمل ... إلى آخره". كأنه جواب عما يقال: ما الداعي إلى ذكر هذا التأويل، فَلِمَ لا يستعمل الحديث على ظاهره؟ وتقرير الجواب أن يقال: إن هذا الحديث إذا لم يحمل على هذا المعنى يعارضه حديث آخر، والحال أن الراوي لكليها هو عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وهو قوله: "وأن لا نأكل الصدقة" وقد أخبر ابن عباس في هذا الحديث أن النبي - عليه السلام - اختصهم بأن لا يأكلوا الصدقة. وبين الحديثين تعارض وتضاد، فنحتاج إلى التوفيق بينهما، وذلك إما بأن نحمل معنى الحديث الأول على ما ذكرنا، وهذا الحديث على ظاهره، فيكون كل منهما لمعنى لا يخالف معنى الآخر. أو يكون هذا الحديث ناسخًا للحديث الأول؛ لأن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبر فيه بعد موت النبي - عليه السلام - أنهم مخصوصون بثلاثة أشياء: منها: حرمة الصدقة عليهم؛

فلا يكون ذلك إلا بعد انتساخ حكم حديثه الأول؛ وذلك لأن اختصاصهم بذلك لا يكون إلا بقيامه في وقته ذلك، فيكون هذا النسخ بدلالة التاريخ؛ وذلك لأن الحديث الأول يقتضي الإباحة، والحديث الثاني يقتضي الحظر فلا شك أن الحظر طارئ على الإباحة، فيكون متأخرًا عنه بالضرورة، فافهم. ثم إنه أسند الحديث المذكور من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سعيد وحماد ابني زيد، كلاهما عن أبي جهضم موسول بن سالم مولى آل العباس بن عبد المطلب، وثقه يحيى وأبو زرعة، روى له الأربعة عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1) بأتم منه: أنا حميد بن مسعدة، ثنا حماد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: "كنت عند ابن عباس فسأله رجل أكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، قال: فلعله كان يقرأ في نفسه؟ قال: خمسًا هذه شَرٌّ من الأولى، إن رسول الله - عليه السلام - عبد أمره الله تعالى بأمره فبلغه، والله ما اختصنا رسول الله - عليه السلام - بشيء دون الناس إلا بثلاثة: أُمِرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، ولا ننزي الحمر على الخيل". وقد أخرج الطحاوي ما أخرجه النسائي إلى قوله: "فبلغه" بعين الإسناد المذكور في باب: "القراءة في الظهر والعصر". الثانى: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، نا عبد الوارث، عن موسى بن سالم، نا عبد الله بن عبيد الله قال: "دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 224 رقم 3581). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 214 رقم 808).

لشاب منا: سل ابن عباس أكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا، فقيل له: فلعله كان يقول في نفسه؟ فقال خمشًا، هذه شر من الأولى، كان عبدًا مأمورًا بلَّغ ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمار على الفرس". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، عن مرجَّا بن رجاء اليشكري خال أبي عمر الحوضي. عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسماعيل، نا موسى بن سالم أبو جهضم، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن عباس، سمع ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - عبدًا مأمورًا بلَّغ -والله- ما أرسل به، وما أختصنا دون الناس بشيء ليس ثلاثًا: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارًا على فرس. قال موسى: فلقيت عبد إلله بن حسن، فقلت: إن عبد الله ابن عبيد الله حدثني بكذا وكذا، فقال: إن الخيل كانت في بني هاشم قليلة، فأحب أن تكثر فيهم". قوله: "إسباغ الوضوء" أي: إكماله وإتمامه، من قولهم: شيء سابغ أي: كامل وافٍ، وسُبِغَت النعمة تُسِبُغ -بالضم- سبوغًا: اتسعت، وأسبغ الله عليه النعمة: أتمها. قوله: "وأن لا نأكل الصدقة" أراد بها الزكاة، وإن كان اللفظ عامًّا. قوله: "وأن لا ننزي" من أنزي ينزي إنزاءً ويلا فيه نزاء الذكر على الأنثى ينزو نِزَاءً بالكسر. قال في "الصحاح": يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع. و"الحُمُر" بضم الحاء والميم: جمع حمار. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 249 رقم 2238).

وفيه ثلاثة أشياء: إسباغ الوضوء، فإن كان لمراد به كونه فرضًا فوجه التخصيص ظاهر، وإلا فكل الناس مشتركون في استحباب إسباغ الوضوء. وحرمة الصدقة على بني هاشم. وإنزاء الحمار على الفرس، وقد جوزه كثير من العلماء؛ لأنه ثبت أنه - عليه السلام - ركب البغلة واقتناها ولو لم يجز لا فعله؛ لأن فيه فتح بابه. ص: فإن احتج محتج في إباحة الصدقة عليهم بصدقات رسول الله - عليه السلام -، فذكر ما حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته: "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - فيما أفاء الله على رسوله". وفاطمة حينئذٍ تطلب صدقة رسول الله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - عليه السلام - قال: إنا لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله - عليه السلام - "ولأعملن في ذلك بما عمل فيها رسول الله - عليه السلام -". حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بُكير، قالا: ثنا الليث قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إنه قد حضر المدينة أهل أبياتٍ من قومك، وقد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم، فبينا أنا كذلك إذ جاءه يرفا، فقال: هذا عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير -ولا أدري أذكر طلحة أم لا- يستأذنوني عليك، فقال:

ائذن لهم، قال: ثم مكثنا ساعةً، فقال: هذا العباس وعليُّ يستأذنان عليك، قال: ائذن لهما. فلما دخل العباس فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الرجل -هما حينئذٍ فيما أفاء الله على رسوله - عليه السلام - من أموال بني النضير- فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كل واحد منهما من صاحبه، فقال عمر - رضي الله عنه -: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: قد قال ذلك، ثم قال لهما مثل ذلك، فقالا: نعم، قال: فإني سأخبركم عن هذا الفيء: إن الله -عز وجل- قد خص نييه - عليه السلام - بشيء لم يعطه غيره، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (¬1). فكانت هذه لرسول الله - عليه السلام - خاصةً، ثم والله ما اختارها دونكم ولا أستأثر بها عليكم، ولقد قسمها بينكم وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان منه ينفق منه على أهله زرق سنة، ثم يجمع ما بقي منه، فجمع مال الله -عز وجل-، فلما قبُض رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا ولي رسول الله - عليه السلام - بعده، أعمل فيها بما كان رسول الله - عليه السلام - يعمل ... " ثم ذكر الحديث. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو ابن دينار، عن ابن شهاب فذكر مثله بإسناده، وأثبت أن طلحة كان في القوم ولم يقل: "وبثها فيكم". حدثنا يزيد بن سنان وأبو أمية، قالا: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك بن أنس ... فذكر بإسناده مثله. وقال: "فكان ينفق منها على أهله". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن سفيان وورقاء، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة". ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية: [6].

قالوا: ففي حديث أبي هريرة هذا ما يدل على أنها كانت صدقات في عهد رسول الله - عليه السلام -؛ لقوله: "بعد مؤنة عاملي" وعامله لا يكون إلا وهو حي، قالوا: ففي هذه الآثار ما قد دل على أن الصدقة لبني هاشم حلال؛ لأن رسول الله - عليه السلام - وأهله -وفيهم فاطمة بنته- قد كانوا يكون من هذه الصدقة في حياة رسول الله - عليه السلام -، فدل ذلك على إياحة سائر الصدقات لهم؛ فالحجة عليهم في ذلك أن تلك الصدقة كصدقات الأوقاف، وقد رأينا ذلك يحل للأغنياء، ألا ترى أن رجلًا لو أوقف داره على رجل غني أن ذلك جائز ولا يمنعه ذلك غناه؟ وحكم ذلك خلاف سائر الصدقات من الزكوات والكفارات وما يتقرب به إلى الله -عز وجل-، فكذلك من كان من بني هاشم ذلك لهم حلال، وحكمه خلاف سائر الصدقات التي ذكرنا. ش: أي: فإن احتج محتج من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة الصدقة على بني هاشم بالأحاديث التي رويت عن عائشة وعمر بن الخطاب وأبي هريرة - رضي الله عنهم -؛ لأن في هذه الأحاديث ما قد دل على أن الصدقة حلال لبني هاشم، وذلك لأن رسول الله - عليه السلام - وأهله -وفيهم فاطمة الزهراء بنته- قد كانوا يأكلون من هذه الصدقة في حياة رسول الله - عليه السلام -، وأجاب عن ذلك بقوله: "فالحجة عليهم في ذلك" أي: فالحجة على أهل المقالة الأولى في احتجاجهم: أن تلك الصدقة التي كانوا يأكلون منها لم تكن كسائر الصدقات من الزكوات والكفارات ونحوهما مما يتقرب به إلى الله -عز وجل- وإنما كانت تلك الصدقة كصدقة الأوقاف، وصدقات الأوقاف تحل للأغنياء؛ والدليل على ذلك أن رجلًا إذا وقف داره أو بستانه على رجل غني فإن ذلك جائز، ولا يمنع صحة الوقف غنى الموقوف عليه. هذا الذي ذكره الطحاوي. وذكر في "الاختيار": ولا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم؛ لأنه ليس بقربة ولا يستجلب الثواب، فصار كالصدقة، ولو وقف على الأغنياء وهم يحُصون ثم

مَن بعدهم على الفقراء جاز، ويكون كما شرط؛ لأنه قربة في الجملة بأن انقرض الأغنياء، وفي "فتاوى الحسني": ولو وقف أرضا على أهل بيت النبي - عليه السلام -، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأنه لا تحل لهم الصدقة، ويجب أن يجوز؛ لأنه صدقة التطوع فتحل لهم كما تحل للغني. أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر أبي الوليد المصري أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان مولى الليث بن سعد من فوق، ثقة ثبت، روى له البخاري والترمذي والنسائي، واستشهد به مسلم في حديث واحد. وهو يروي عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا زهير بن حرب وحسن الحلواني، قالا: ثنا يعقوب ابن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - عليه السلام - أخبرته: "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - سألت أبا بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله - عليه السلام - أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله - عليه السلام - مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، قال: وعاشت بعد رسول الله - عليه السلام - ستة أشهر وكانت فاطمة - رضي الله عنها - تسأل أبا بكر - رضي الله عنه - نصيبها مما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر ذلك عليها، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله - عليه السلام - يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس - رضي الله عنهما -، فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر - رضي الله عنه - وقال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1381 رقم 1759).

هما صدقة رسول الله - عليه السلام -، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى مَن ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم". الثاني: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، قال: ثنا الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -زوج النبي - عليه السلام -- أنها أخبرته: "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - مما أفأء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمَّد من هذا المال، وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حاله التي كانت عليها في عهد رسول الله - عليه السلام -، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله - عليه السلام - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا". الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، شيخ الطبراني، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن فاطمة بنت النبي - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمَّد - عليه السلام - في هذا المال، وإني -والله- لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - عليه السلام -، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 142 رقم 2968). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1549 رقم 3998).

- عليه السلام -، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر - رضي الله عنهما - في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي - عليه السلام - ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي - رضي الله عنه - ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي - رضي الله عنه - من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: أن (تأتينا) (¬1) ولا يأتنا أحد معك كراهية، لمحضر عمر - رضي الله عنه -، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟! والله لآتينهم، فدخل عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - فتشهد عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله تعالى، ولم نَنْفَسْ عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله - عليه السلام - نصيبنا، حتى فاضت عينا أبي بكر - رضي الله عنه -، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - عليه السلام - أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آلُ فيها عن الخير، ولم أترك أمرًا رأيت رسول الله - عليه السلام - يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي - رضي الله عنه - وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذره، ثم استغفر وتشهد علي - رضي الله عنه - فعظم حق أبي بكر وحدَّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسةً على أبي بكر ولا إنكارًا للذي فضله الله به، ولكنَّا كنَّا نرى لنا في هذا الأمر نصيبًا، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا. فسُرَّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى علي - رضي الله عنه - قريبًا حين راجع الأمر المعروف"، انتهى. قوله: "فيما أفاء الله على رسوله" أي: ما أعطى الله رسوله من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وهو من الفيء، وهو الغنيمة. قال الجوهري: الفيء: الغنيمة. تقول منه: أفاء الله على المسلمين مال الكفار، يُفيء إفاءةً. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح البخاري": ائتنا.

وقال ابن الأثير: أصل الفيء: الرجوع، يقال: فاء يفيء فئةً وفُئْوًا، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. قوله: "وفدك" بفتح الفاء والدال وفي آخره كاف. وهو اسم قرية بخيبر. وفي "المطالع": فدك مدينة بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاث مراحل. قوله: "إنا لا نُوَرث" على صيغة المجهول. قوله: "أن أزيغ" من الزيغ وهو الضلال، وأصله الميل، ومنه: زاغت الشمس أي: مالت إلى الغروب. قوله: "فوجدت فاطمة على أبي بكر - رضي الله عنهما -" أي: غضبت عليه، يقال: وَجَد عليه وَجْدًا ومُوجِدَةً إذا غضب عليه، وَوَجَدْت عليه وَجْدًا: حزنت، وَوَجَدْت من الحب وَجْدًا. كله بالفتح. ووجد من الغني جدةً وَوُجْدًا -بالضم- وَوِجْدًا -بالكسر- لغة. ووجدت ما طلبت وجدانًا ووجودًا. قوله: "لم نَنْفَس عليك خيرًا" بفتح الفاء، من نَفِشت عليه بالشيء أَنْفَسُ -من باب عَلِمَ يَعْلَمُ- نفاسة إذا لم أره أهلًا، والتنافس: التباغض والتحاسد. قوله: "استبددت" أي: استقللت. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، ولهذا كان النبي - عليه السلام - يأخذ قوت عامه من المواضع التي حَبَّسها في المدينة وفدك ومما بقي من خمس خيبر ثم يجعل ما فضل في الكراع والسلاح. ولا يقول بالميراث والتمليك أحد من أهل السنة إلا الروافض، فإنهم يقولون بذلك، وليس قولهم مما يشتغل به ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن علي السلف، والمخالفة لسبيل المؤمنين.

وقال أبو عمر: وأما علماء المسلمين فعلى قولين: أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور: أن النبي - عليه السلام - لا يورث، وما ترك صدقة. والآخر: أن نبينا - عليه السلام - لم يورث؛ لأنه خصه الله تعالى بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته كما خصه في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره. وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول. فإن قيل: كيف سكنت أزواج النبي - عليه السلام - بعد وفاته في مساكنهن اللاتي تركهن رسول الله - عليه السلام - فيهن إن كن لم يرثنه، وكيف لم يخرجن عنها؟ قلت: لأن ذلك كان من مؤنتهن التي كان رسول الله - عليه السلام - استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة". والدليل على ذلك أن مساكنهم لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كانت تلك ملكًا لهن كان لا شك قد ورثها عنهن ورثتهن، وترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن ملكًا لهن وإنما كان لهن سكنى حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه كما جعل كذلك في الذي فضل من نفقتهن في تركة رسول الله - عليه السلام -، لما مضين لسبيلهن أضيف إلى أصل المال، فصرف في مصالح المسلمين مما يعم جميعهم نفعه. فإن قيل: كيف تقول: الأنبياء لا يورثون، وقد قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (¬1)، وقال أيضًا مخبرًا عن زكرياء: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬2)؟ ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية: [16]. (¬2) سورة مريم، آية: [5، 6].

قلت: سليمان - عليه السلام - لم يرث من داود - عليه السلام - مالًا خلفه داود - عليه السلام - بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب هكذا. وقال أهل العلم بتأويل القرآن والسنة: فورث سليمان من داود الحكمة والنبوة وفضل القضاء، وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض، وكذلك قالوا في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬1) لا يختلفون في ذلك إلا ما روي عن الحسن أنه قال: يرثني مالًا ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة. والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين في تأويل هاتين الآيتين الكريمتين ما ثبت عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة". وكل قول يخالف قول رسول الله - عليه السلام - فهو مدفوع مهجور، فتكون كل واحدة من الآيتين مخصوصة بهذا الحديث. الثاني: فيه دليل على صحة ما ذهب إليه الفقهاء من تجويز الأوقاف في الصدقات المحبَّسة، وأن للرجل أن يُحْبِّس ماله ويوقفه على سبيل من سُبُل الخيرات يجري عليه نفعه من بعد وفاته. الثالث: فيه دليل على اتخاذ الأموال واكتساب الضياع وما يسعى الإنسان لنفسه وعماله وأهله ونوائبه وما يفضل عن الكفاية. الرابع: فيه رد على الصوفية ومَن ذَهب مذهبهم في قطع الاكتساب المباح. الخامس: فيه دليل على أن للقاضي أن يقضي بعلمه؛ لما قضى أبو بكر - رضي الله عنه - في ذلك بما كان عنده من العلم. وذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد وأجازا للقاضي أن يقضي بعلمه. السادس: فيه دليل على قبول خبر الواحد العدل؛ لأنهم لم يردوا على أبي بكر قوله، ولا رد أزواج النبي - عليه السلام - على عائشة قولها ذلك وحكايتها لهن. ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية: [6].

فإن قيل: لو سلمت فاطمة وعلي والعباس - رضي الله عنهم - ذلك لقول أبي بكر - رضي الله عنه - ما أتي علي والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك. قلت: تشاجر علي وعباس واختلافها إلى عمر - رضي الله عنه - مشهور، لكنهما لم يسألا ذلك ميراثا وإنما سألا ذلك من عمر - رضي الله عنه - ليكون بأيديهما منه ما كان رسول الله - عليه السلام - يعمل فيه في حياته. وأما حديث عمر - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن مهدي بن مالك شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان النضري -بالنون والضاد المعجمة- المختلف في صحبته- قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... " إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد- قال ابن رافع: نا، وقال الآخران: أنا- عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبياتٍ من قومك ... " إلى آخره نحوه. وقال مسلم أيضًا (¬2): حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، أن مالك بن أوس حدثه قال: "أرسل إليَّ عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسًا على سرير مفضيًا إلى رماله، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: يا مال، إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فأقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟ قال: خذه يا مال. قال: فجاء يرفأ، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1379 رقم 1757). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1377 رقم 1757).

وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه، فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب [الآثم] (¬1) الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وارحمهم، فقال مالك بن أوس: فخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر - رضي الله عنه - ابتداءً: أنشدكم بالله الذي [بإذنه] (1) تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم. ثم أقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث ما تركنا مصدقة؟ قالا: نعم. قال: عمر: إن الله كان خصَّ رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره، قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (¬2) -ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا-. قال: فقسم رسول الله - عليه السلام - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتي بقي هذا [المال] (¬3)، فكان رسول الله - عليه السلام - يأخذ منه نفقة سَنِتِه ثم يجعل ما بقي أسوة المال، ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم نشد عباسًا وعليًّا بمثل ما نشد القوم، أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفي رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر: أنا صلي رسول الله - عليه السلام -، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها؟! قال أبو بكر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - عليه السلام -: لا نورث، ما تركنا صدقة فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا [والله يعلم إنه لصادق بارّ راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله - عليه السلام -، وولي أبو بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا] (¬4) والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) سورة الحشر، آية: [7]. (¬3) في "الأصل، ك": "الملك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬4) سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وأنتما جميعٌ وأمركما واحد، فقلتما ادفعها إلينا. فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - عليه السلام - فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أفضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إليَّ". الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح"، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد ابن مسلم الزهري. وأخرجه مسلم (¬1): عن ابن أبي شيبة، عن سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - عليه السلام - خاصةً، فكان يُنفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي أمية محمَّد بن مسلم الطرسوسي، كلاهما عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني البصري، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن مالك بن أوس. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا الحسن بن [علي الخلال] (¬3)، قال: نا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "دخلت على عمر بن الخطاب، ودخل عليه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ثم جاء علي والعباس يختصمان، فقال عمر لهم: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1376 رقم 1757). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 158 رقم 1610). (¬3) في "الأصل، ك": خلّال، والمثبت من "جامع الترمذي".

رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم قال عمر: فلما توفي رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله - عليه السلام -، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: إن رسول الله - عليه السلام - قال: لا نورث، ما تركنا صدقة. والله يعلم أنه صادق بارّ راشد تابع للحق .... ". وفي الحديث أبي، قصة طويلة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث مالك بن أنس. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا مطولًا جدًّا: عن الحسن بن علي ومحمود بن يحيى بن فارس، عن بشر بن عمر الزهراني، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس: "أرسل إليَّ عمر - رضي الله عنه - أن تعالى النهار فجئته فوجدته جالسًا على سرير مفضيا إلى رماله ... " الحديث نحو رواية مسلم التي ذكرناها. قوله: "برضخ" بالضاد والخاء المعجمتين، وهو العطية القليلة، قال الجوهري: رضخت له رضخًا وهو العطاء ليس بالكثير. قوله: "يرفا" بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء، وبالفاء المقصورة، وهو اسم لمولى عمر بن الخطاب، وكان حاجبًا له. قوله: "أنشدكم الله" يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله وبالله، وناشدتك الله وبالله أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نِشدة ونِشدانًا ومناشدةً، وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما قالوا: دعوت زيدًا وبزيد وإما أنهم ضمنوه معنى ذكرت، فأما أنشدتك بالله مخطأ. قوله: "فما أوجفتم عليه" من الإيجاف وهو سرعة السير، وقد أَوَجَف دابته يوجفها إيجافًا إذا حثها، والوجيف ضرب من السير سريع، وقد وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفًا ووجيفًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 139 رقم 2963).

فإذا قلت: هذا مما لم يوجف عليه أي: لم يؤخذ بغلبة جيش. قوله: "حين تعالى النهار" أي: ارتفع. قوله: "إلى رماله" رمال السير ورمله: ضفر نسجه من وجهه، وسرير مرمول ومرمل منسوج من السعف بالحبال، يقال: رملته وأرملته. قوله: "يا مال" ترخيم مالك، كما يقال: يا حار في حارث. قوله: "قد دفَّ" بفتح الدال وتشديد الفاء من الدف وهو سير ليس بالشديد في جماعة، ومنه: دَفَّت دافة. وأما حديث أبي هريرة ت فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس وقد ينسب إلى جده، غالبًا شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. عن ابن شهاب الحناط الكوفي الأصغر- واسمه عبد ربه بن نافع الكناني، روى له الجماعة سوى الترمذي. عن سفيان الثوري. وعن ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري الكوفي -نزيل المدائن- روى له الجماعة. كلاهما عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له الجماعة، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الزناد، عن الأعوج، عن أبي هريرة: أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة". وحدثنا محمَّد بن أبي عمر المكي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد ... بهذا الإسناد نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1382 رقم 1760).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة نحوه. قوله: "لا يقتسمُ" بضم الميم أي: ليس يقتسم ورثني دينارًا؛ لأنني لا أتخلف دينارًا ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيرًا. وفي رواية يحيى وابن كنانة: "دنانير" على الجمع، وأما سائر الرواة عن مالك في "المؤطإ" لما يقولون: "دينارًا". قال أبو عمر: هو الصواب؛ لأن الواحد في هذا الموضع أعم عند أهل اللغة؛ لأنه يقتضي الجنس والقليل والكثير. قوله: "ومؤنة عاملي" أراد بعامله: خادمه في حوائجه، ووكيله وأجيره ونحو ذلك. ص: ثم قد جاءت -بعد هذه- الآثار عن رسول الله - عليه السلام - متواترة بتحريم الصدقة على بني هاشم، فمما جاء في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: "قلت للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: ما تحفظ من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في فيّ، فأخرجها رسول الله - عليه السلام - بلعابها فألقاها في التمر. قال رجل: يا رسول الله، ما كان عليك في هذه التمرة لهذا الصبي؟ قال: إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن ثابت بن عمارة، عن ربيعة بن شيبان، قال: قلت للحسن ... فذكر نحوه إلا أنه قال في آخره: "ولا لأحد من أهله". ش: أي: ثم قد جاءت بعد هذه الأحاديث التي احتج بها ذاك المحتج من أهل المقالة الأولى، الآثار الأُخر حال كونها متواترة -أي متكاثرة- بتحريم الصدقة على بني هاشم. فمما جاء في ذلك عن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 144 رقم 2974).

وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن بُريد -بضم الباء وفتح الراء المهملة- ابن أبي مريم، واسمه مالك بن ربيعة السلولي البصري وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي وروي له الأربعة. عن أبي الحوراء -بالحاء والراء المهملتين- واسمه ربيعة بن شيبان السعدي البصري، وثقه النسائي وابن حبان، وروى له الأربعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني بُريد بن أبي مريم السلولي، عن أبي الحوراء السعدي قال: "قلت للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: ما تذكر من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: أذكر أني أخذت تمرةً من تمر الصدقة فألقيتها في فمي، فانتزعها رسول الله - عليه السلام - بلعابها وألقاها في التمر. فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟! قال: إنا لا نأكل الصدقة". الثاني: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن ثابت بن عمارة الحنفي أبي مالك البصري وثقه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به. روى له أبو داود والترمذي والنسائي. عن ربيعة بن شيبان أبي الحوراء ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن إدريس، قال: نا ثابت بن عمارة، عن ربيعة بن شيبان قال: "قلت للحسن: هل تحفظ عن رسول الله - عليه السلام - شيئًا؟ قال: أدخلني غرفة وأخذت تمرة من تمر الصدقة، فقال: إنها لا تحل لمحمد ولا لأحد من أهله". ثم قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن بُريد، ورواه غير واحد بألفاظ مختلفة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 200 رقم 1723). (¬2) "مسند البزار" (4/ 178 رقم 1338).

قوله: "في فيّ" أي: في فمي، وفي الفم تسع لغات: فتح الفاء وكسرها وضمها مع تخفيف الميم والنقص، وفتحها وضمها مع تشديد الميم، وفتحها وضمها وكسرها مع التخفيف والقصر. وحكى ابن الأعرابي في تثنيته: فموان وفميان، وحكى اللحياني أنه يقال: فم وأفمام. واللغة التاسعة النقص، واتباع الفاء الميم في الحركات الإعرابية تقول: هذا فُمُه، ورأيت فَمَه، ونظرت إلى فمِه. قلت: فعلى هذا يكون للفم أربع مواد: إحداها: ف م ي. والثانية: ف م و، والثالثة: ف م م، والرابعة: ف وهـ، وكلها أصول. قوله: "إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة" جملة اسمية مؤكدة بالنون، والمبتدأ هو قوله: "نا" في "إنا"، وخبره قوله: "لا تحل لنا الصدقة". وقوله: "آل محمَّد" منصوب كما في قوله: إنا معشر العرب نفعل كذا، ونحن آل فلان كرماء، وهذا مما يجري على طريقة النداء ويقصد به الاختصاص لا النداء، وحاصل ذلك أن النحاة يقولون لمثل هذا: نصب على المدح. فافهم. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن كثير، قال: ثنا سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "استعمل أرقم بن أبي أرقم على الصدقات، فاستتبع أبا رافع، فإنهى النبي - عليه السلام - فسأله، قال: يا أبا رافع إن الصدقة حرام على محمَّد وآل محمَّد، وإن مولى القوم من أنفسهم". ش: محمَّد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود. وابن أبي ليلى هو محمَّد بن أبي ليلى الكوفي الفقيه قاضي الكوفة فعن يحيى: ليس بذاك. وقال العجلي: كان صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث. روى له الأربعة. والحكم هو ابن عتيبة روى له الجماعة، ومقسم بن بَجَرَة -بالباء الموحدة والجيم والراء المفتوحات، مولى ابن عباس، روى له الجماعة سوى مسلم.

وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه: من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقسم، عن ابن عباس .. إلى آخره مثله. وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع: "أن النبي - عليه السلام - بعث رجلًا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها. قال: حتى آتي النبي - عليه السلام - فاسأله، فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة". وأخرجه الترمذي (¬3): عن محمَّد بن المثنى، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة ... إلى آخره نحو رواية أبي داود، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وأبو رافع مولى النبي - عليه السلام - اسمه أسلم. وابن أبي رافع هو عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬4): ثنا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن بالويه، نا إسحاق بن الحسن بن ميمون، نا عفان بن مسلم، نا شعبة. وأنا أحمد بن جعفر القطيعي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع: "أن رسول الله - عليه السلام - بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله - عليه السلام -، فانطلق إلى النبي - عليه السلام - فسأله فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم ... ". هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قوله: "اسْتُعْمل" على صيغة المجهول. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 32 رقم 13023). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 123 رقم 1650). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 46 رقم 657). (¬4) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 561 رقم 1468).

وأرقم بن أبي الأرقم صحابي متقدم الإسلام. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي. قوله: "فاستتبع أبا رافع" أي طلب أرقم من أبي رافع أن يتبعه في سفره ويصحبه. قوله: "آل محمَّد" أراد به أهله الأدنون وعشيرته الأقربين. وفيه من الفوائد: حرمة الصدقة على محمَّد - عليه السلام - وعلى آله أيضًا تطهيرًا لهم من أوساخ أموال الناس، وعلى مواليهم أيضًا وهم عتقاؤهم، وأن الإمام ينصب شخصًا لجمع الصدقات وضبطها. ص: حدثنا ابن في داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا جويرية ابن أسماء، عن مالك، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن أبي ربيعة حدثه، قال: "اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب، فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين -لي وللفضل بن العباس- على الصدقة فأديا ما يؤدي الناس وأصاب ما يصيب الناس. قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فوقف عليها، فذكرا له ذلك، فقال علي: لا تفعلا؛ فوالله ما هو بفاعل. فقال ربيعة بن الحارث: ما يمنعك من هذا إلا نفاسةٌ علينا، فوالله لقد نلت صهر رسول الله - عليه السلام - فما نفساه عليك. فقال علي: أنا أبو حسن القوم أرسلاهما، فانطلقا واضطجع، فلما صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عند بابها حتى جاء، فأخد بآذاننا وقال: أخرجا ما تصرِّران، ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش - رضي الله عنهما -. فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا قال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح، وقد جئناك لتؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدون ونصيب كما يصيبون، فسكت حتى أردنا أن نكلمه وجعلت زينب تُلْمع إلينا من وراء الحجاب: أن لا تكلماه. فقال: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد؛ إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية -وكان على الخمس- ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

فجاءاه، فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك -للفضل بن عباس- فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك -لي- فأنكحني، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا". ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيحين ما خلا إبراهيم بن أبي داود. وعبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد بن مخارق البصري ابن أخي جويرية بن أسماء شيخ الشيخين وأبي داود. وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم له صحبة، وهو ابن ابن عم رسول الله - عليه السلام -. وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء، عن جويرية، عن مالك ... إلى أخره نحوه. قوله: "اجتمع ربيعة بن الحارث" بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، له صحبة. قوله: "لي وللفضل بن عباس" بيان لقوله: "هذين الغلامين". قوله: "فوالله ما هو بفاعل" أي النبي - عليه السلام -، أراد: أنه لا يسمع كلامكم في هذا ولا يجيب إلى سؤالكم. قوله: "فانتحاه ربيعة" (¬2) ليس في كثير من النسخ، ومعناه: عرض له وقصده، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى علي - رضي الله عنه -. قوله: "إلا نفاسةً علينا" أي: إلا حسد علينا، من نَفِست الشيء عليه نفاسةً إذا لم تره يستأهله، هذا من باب فعل يَفْعِل بالكسر في الماضي، والفتح في الغابر وأما نَفُس الشيء -بالضم- فمعناه صار مرغوبًا فيه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 752 - 753 رقم 1072). (¬2) لم يذكر المؤلف هذا القول في "ص" أي المتن، والذي في المتن: فقال ربيعة. والله أعلم.

وأما نُفِسَت المرأة فهو بالكسر أيضًا، ويقال نُفِسَت على ما لم يسم فاعله. قوله: "فما نَفِسْناه" بكسر الفاء وسكون السين أي لم نحسدك فيه. قوله: "أبو حسن القوم" قال عياض في "شرح مسلم": كذا رويناه عن أبي جعفر بالإضافة، وبالواو، أي: أنا عالم القوم وذو رأيهم ونحو هذا. ورويناه عن أبي بحر "أنا أبو حسنٍ" بالتنوين وبعده "القوم" بالرفع أي: أنا من علمتم رأيه أيها القوم، وسمعناه على القاضي الشهيد: "القرم" بالراء على النعت، والقرم: السيد، وأصله فحل الإبل، وكذا رويناه عن أبي جعفر من طريق الباجي، وهو الذي صححه الخطابي، قال: أي المقدم في الرأي والمعرفة بالأمور كالفحل. وقال ابن الأثير: القرم: فحل الإبل، أي أنا فيهم بمنزلة الفحل في الإبل. قال الخطابي: وأكثر الروايات: "القوم" بالواو، ولا معنى له، وإنما هو بالراء: أي المقدم في المعرفة وتجارب الأمور. وقوله: "واضطجع" أي: علي - رضي الله عنه -. قوله: "أخرجا ما تصرران" أي أظهراه واجهرا به، وهو أمر من الإخراج و"ما تصرران" في محل نصب؛ لأنه مفعول لقوله: "أخرجا"، وأصله: ما تصررانه، وحذف المفعول سائغ شائع. ومعنى ما تصرران: ما تجمِّعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته، فقد صررته، وأصله من الصّر وهو الشد، ومنه الصرَّة التي تشد فيها الدراهم والدنانير. وقال عياض: وروايتنا عن أكثر شيوخنا: تسرران -بالسين- من السرّ خلاف الجهر. قال: ورويناه من طريق السمرقندي: تصدران ووجهه بعيد، ورواه الحميدي في "صحيحه": تصوران أي: ما تزورانه من صورة حديثكما. قوله: "فتواكلنا الكلام" أي وكل بعضنا إلى بعض، وحاصله أن يرمي بعضهم على بعض في الكلام.

قوله: "وقد بلغنا النكاح" أي: الحلم، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (¬1). قوله: "تلمع إلينا من وراء الحجاب" أي: تشير إلينا من خلف الستارة، يقال: لمع وألمع: إذا أشار بثوبه أو بيده. قوله: "إنما هي أوساخ الناس" بيان العلة في تحريم الصدقة عليهم، وإنما سماها أوساخًا لأنها تطهير لأموالهم. قوله: "ادعوا لي محمية" أي: أطلباه لي. ومَحْمَّية -بفتح الميم الأولى وسكون الحاء المهملة وكسر الميم الثانية وفتح الياء آخر الحروف- ابن جزء -بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة- بن عبد يغوث الزُّبيدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وبالدال المهملة- وكان - عليه السلام - استعمله على الأخماس. قوله: "ونوفل بن الحارث" بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله - عليه السلام -، أُسِر يوم بدر كافرًا وفداه عمه العباس، وأسلم وأعان رسول الله - عليه السلام - يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، توفي بالمدينة سنة خمس عشرة. قوله: "أصدق عليهما" بفتح الهمزة وسكون الصاد وكسر الدال، معناه: أمهر عنهما من الخمس كذا وكذا درهمًا أو دينارًا ولم يبين مقداره. ويستفاد منه أحكام: تحريم الصدقة على آل محمَّد، وقال عياض: قوله: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد" دليل على أنها لا تحل لهم بوجه وإن كانوا عاملين عليها، كما لم يحل لهم إذا كانوا محتاجين لها إكرامًا لهم عنها، وإلى هذا ذهب أبو يوسف. وذهب آخرون إلى أنها تجوز للعالمين منهم؛ لأنها أجرة لعملهم، وإليه ذهب الطحاوي، وسيجيء الكلام فيه- إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة النساء آية: [6].

وفي "المغني": وظاهر كلام الخرقي أن ذوي القربى يمنعون الصدقة وإن كانوا عاملن. وذكر في باب: "قسم الفيء والصدقة" ما يدل على إباحة الأخذ لهم عمالةً، وهو قول أكثر أصحابنا. وقال صاحب "البدائع": ولو كان العامل هاشميًّا لا تحل له عندنا، وعند الشافعي تحل، واحتج بما روي "أنه - عليه السلام - بعث عليًّا - رضي الله عنه - إلى اليمن مصدقًا وفرض له" ولو لم تحل للهاشمي لما فرض له؛ ولأن العمالة أجرة العمل بدليل أنها تحل للغني، فيستوي فيها الهاشمي وغيره، ثم استدل صاحب "البدائع" لأصحابنا بالحديث المذكور، وأجاب عن حديث علي - رضي الله عنه - بأنه لا حجة له فيه؛ لأن فيه أنه فرض له، وليس فيه بيان المفروض أنه من الصدقات، فيحتمل أنه كان فرض له من بيت المال؛ لأنه كان قاضيًا، والله أعلم. وفيه دلالة على جواز تبرع الرجل عن صداق المرأة إذا تزوجها رجل، وأنه يسقط عن الزوج. وأن الرجل إذا رأى غيره يسعى فيما لا ينبغي يمنعه من ذلك ويردعه؛ لأنه في الحقيقة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه إشارةإلى فضيلة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ص: فإن قال قائل: فقد أصدق عنهما من الخمس وحكمه حكم الصدقات. قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك من سهم ذوي القربى في الخمس، وذلك خارج من الصدقات المحرمة عليهم؛ لأنه إنما حرم عليهم أوساخ الناس، والخمس ليس كذلك. ش: تقرير السؤال من جهة أهل المقالة الأولى: إنكم قلتم: إن الصدقة حرام على بني هاشم وقد قال - عليه السلام - لمحمية بن جزء: "أصدق عنهما" فقد أصدق عنهما أي: عن الفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث من الخمس، وحكم الخمس حكم الصدقات. والجواب ظاهر.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن عبيد الُمكَتِّب، عن أبي الطفيل، عن سلمان - رضي الله عنه - قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقة فردها، وأتيته بهدية فقبلها". ش: إسناده صحيح. ومحمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، وشريك بن عبد الله النخعي، وعبيد ابن مهران المُكتِّب الكوفي، وثقه يحيى وأبو حاتم والنسائي وروي له، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي وسلمان الفارسي الصحابي - رضي الله عنهما -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن إسحاق، أنا شريك، عن عبيد المكتِّب، عن أبي الطفيل، عن سلمان قال: "كان النبي - عليه السلام - يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بُهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي ... وذكر حديثًا طويلًا ذكر فيه: "أنه كان عبدًا قال: فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله - عليه السلام - وهو بقباء -فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه- فقلت له: إنه بلغني أنه ليس بيدك شيء وأن معك أصحابًا لك، وأنتم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة، فيما ذكر لي مكانبهم رأيتكم أحق به، ثم وضعته له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا وأمسك هو، ثم أتيته بعد أن تحول إلى المدينة وقد جمعت شيئًا، فقلت: رأيتك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أحببت أن كرمك به كرامةً ليس بصدقة، فأكل وأصحابه". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 437 رقم 23754).

ويوسف بن بهلول التميمي أبو يعقوب الأنباري نزيل الكوفة، شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه -. وعبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري الكوفي شيخ أحمد وابن أبي شيبة، روى له الجماعة. ومحمد بن إسحاق المدني، روى الجماعة، البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري الظفري، روى له الجماعة. ومحمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأنصاري، ولد في حياة النبي - عليه السلام - ولم تصح له رؤية ولا سماع من النبي - عليه السلام -، وعن البخاري أن له صحبة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) مطولًا جدًّا: ثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -، حدثني سلمان الفارسي قال: "كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: جَيْ، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِن النار [الذي] (¬2) يوقدها لا يتركها تخبو ساعةً. قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم وعن ضيعتي فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلماه مررت بهم، وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 441 - 443 رقم 23788). (¬2) في "الأصل، ك": التي، والمثبت من "مسند أحمد".

فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. قال: فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بُني ليس في ذلك الدين خين دينك ودين آبائك خير منه. قال: قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركبٌ من الشام تجارٌ من النصارى، قال: فأخبروني بهم. قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: مَن أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته فقلت: إني رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك. قال: فادخل، فدخلت معه قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء كثيرة اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًّا لم أحبه مَنْ قبله فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت

معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد جاءك ما ترى من أمر الله فإلى من توصي به وما تأمرني؟ قال: أيْ بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل، وهو فلان فهو على ما كنت عليه، فالحق به، قال: فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن أحلق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث إلى أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، قال: فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين [وهو فلان فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين] (¬1)، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده ووجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى مَن توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فإنه على أمرنا، قال: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى صارت لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله -عز وجل-، فلما حضر قلت: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم - عليه السلام - يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين ¬

_ (¬1) سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغُيِّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرَّ بي نفرٌ من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى، أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم فأعطيتموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفس، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عمٍ له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله - عليه السلام -، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذقٍ لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس إذْ أقبل ابن عمٍ له حتى وقف عليه، فقال فلانٌ: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمةً شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. قال: قلت: لأي شيء؟ إنما أردت أن استثبته عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - عليه السلام - وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله - عليه السلام - إلى المدينة، ثم جئت به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله - عليه السلام - منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله - عليه السلام - وهو ببقيع الغرقد قال: وقد تبع جنازةً

من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، وهل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رأني رسول الله - عليه السلام - استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، قال فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفت، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله - عليه السلام -: تحول، فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله - عليه السلام - أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله - عليه السلام - بدر وأحد، قال: ثم قال لي رسول الله - عليه السلام -: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أجبيها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - عليه السلام - لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله - عليه السلام -: اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي، قال: ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله - عليه السلام - معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله - عليه السلام - بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليَّ المال، فَاُتيَ رسول الله - عليه السلام - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي؟ قال: فدُعيت له، فقال: خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان، قال: فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ؟ قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها -والذي نفس سليمان بيده- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعُتِقْت، وشهدت مع رسول الله - عليه السلام - الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد". قوله: "جَيْ" بالجيم المكسورة والمفتوحة. قوله: "قطن النار" أي: خازن النار. قوله: "لا تخبو ساعةً" أي: لا يتركها تسكن ساعةً.

قوله: "الأسقف" من السقِّيفى كالخليفة من الخُلِّيفى وهي مرتبة من قِبَل الملك، والسقيف في اللغة: طول في انحناء، ويحتمل أن يسمى أسقفًا لخضوعه وانحنائه. قوله: "سبع قلال" جمع قلة -بضم القاف- وهي معروفة. قوله: "بين حرتين" تثنية حرة -بفتح الحاء المهملة- وهي الأرض ذات الحجارة السود. قوله: "عَذْق" بفتح العين وسكون الذال: النخلة. قوله: "العُرَوَاء" بضم العين المهملة وفتح الراء وهي الحمى النافض، والبُرحاء: الحمى الصالب، والرُّحضاء: الحمى الذي يأخذ بالعرق، والمُطَوَاء: الذي يأخذ بالتميُّل، والثوباء: الذي يأخذ بالتئاؤب. قوله: "بالفقير" بالفاء ثم القاف، قال ابن الأثير: فقير النخلة حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها. "والوَدِيَّة": بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف: إذا خرجت الخلة من النواة فهي غريسة، ثم يقال لها: وَدِيّه ثم فَسِيلة ثم إشاءة. قوله: "فَفُقِّر لها" أي: حُفِرَ لها، وكذا معنى قوله: "ففقرت لها" أي: حفرت لها، ومادة هذه الكلمة بتقديم الفاء على القاف كما قلنا. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع مولى رسول الله - عليه السلام -، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها. فقال: حتى أستأذن رسول الله - عليه السلام -، فأتى النبي - عليه السلام - فذكر ذلك له، فقال: إن آل محمَّد لا تحل لهم الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم". ش: إسناده صحيح. والحكم هو ابن عتيبة، واسم ابن أبي رافع عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي - رضي الله عنه -. واسم أبي رافع أسلم مولى النبي - عليه السلام -، والرجل الذي هو من بني مخزوم هو الأرقم بن أبي الأرقم.

والحديث أخرجه الترمذي (¬1) وقال: حسن صحيح. وأخرجه الحكم أيضًا (¬2) وصححه. وقد ذكرناه عن قريب. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ورقاء بن عمر، عن عطاء بن السائب قال: "دخلت على أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنهما - فقالت: إن مولى لنا يقال له: هرمز أو كيسان أخبرني أنه مرَّ على رسول الله - عليه السلام - فدعاني فجئت، فقال: يا فلان إنَّا أهل بيتٍ قد نُهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم، فلا تأكل الصدقة". ش: ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري، روى له الجماعة. وعطاء بن السائب ابن مالك أبو محمَّد الكوفي، وكان اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح، وما سمع منه جرير ليس بصحيح، قاله ابن معين، روى له البخاري حديثًا واحدًا متابعةً والأربعة. وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ولدت قبل وفاة النبي - عليه السلام -، وأمها فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام -، وتزوجها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصدقها أربعين ألفً. وهرمز -وقيل: كيسان، وقيل: مهران، وقيل: ميمون- مولى النبي - عليه السلام -، وقيل: مولى آل أبي طالب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) وقال: مهران: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب قال: "أتيتُ أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنهما - بشيء من الصدقة، فردتها وقالت: حدثني مولى للنبي - عليه السلام - يقال له: مهران- أن رسول الله - عليه السلام - قال: إنا آل محمَّد لا تحل لنا الصدقة، ومولى القوم منهم". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 46 رقم 657). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 561 رقم 1468) وقد تقدم. (¬3) "مسند أحمد" (3/ 448 رقم 15746).

وأخرجه البغوي في "معجم الصحابة" وقال هرمز: ثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا أبو حفص الأبار، عن ابن أبي الزياد، عن معاوية بن قرة قال: "شهد بدرًا عشرون مملوكًا منهم مملوك للنبي - عليه السلام - يقال له: هرمز، فأعتقه النبي - عليه السلام - وقال: إن الله قد أعتقك، وإن مولى القوم منهم، وإنَّا أهل بيت لا نأكل الصدقة فلا تأكلها". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) وقال: كيسان: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب قال: "أتيت أم كلثوم ابنة علي، فقالت: إن مولى لنبي الله - عليه السلام - يقال له: كيسان قال له النبي - عليه السلام - في شيء من أمر الصدقة: إنَّا أهل بيتٍ نُهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولانا من أنفسنا، فلا تأكل الصدقة". وأخرجه عبد الرزاق (¬2) وقال: ميمون أو مهران: أبنا الثوري، عن عطاء بن السائب، حدثتني أم كلثوم ابنة علي قالت: أخبرني ميمون أو مهران مولى النبي - عليه السلام - قال: "إنَّا أهل بيتٍ نُهينا عن الصدقة". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوَّار. (ح) محمَّد بن خريمة، قال: ثنا علي بن الجعد. (ح) وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالوا: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنهما- تمرةً من تمر الصدقة فأدخلها في فيه، فقال النبي - عليه السلام -: كخْ كخْ، ألقها ألقها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: حسين بن نصر بن المعارك، عن شبابة بن سوَّار الفزاري، روى له الجماعة. عن شعبة، عن محمَّد بن زياد القرشي الجمحي المدني روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 429 رقم 10710). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 51 رقم 6942).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: "أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - عليه السلام -: كخ كخ -ليطرحها- ألقها ألقها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن علي بن الجعد بن عبيد شيخ البخاري وأبي داود واحد أصحاب أبي حنيفة، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد -وهو ابن زياد- سمع أبا هريرة يقول: "أخذ الحسن بن عليّ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله - عليه السلام -: ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ ". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن شعبة، عن ابن زياد، عن أبي هريرة نحوه. قوله: "في فيه" أي: في فمه. قوله: "كَخْ كَخْ" بفتح الكاف وكسرها وسكونا لخاء وتكسر أيضًا، وتنون أيضًا، وهي كلمة تقال لزجر الصبيان عن الشيء يأخذونه ليتركوه. قال الداودي: هي كلمة أعجمية عربتها العرب بمعنى بئس. قال عياض: وفيه أن الصغير من أبناء المسلمين يوقى ما يوقى الكبير من المحاذير والخبائث، وإن كان غير مخاطب فوليه يخاطب بحراسته من ذلك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 542 رقم 1420). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 751 رقم 1069). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 428 رقم 10703).

قلت: فعلى هذا لا ينبغي للوالدين أن يلبسا ولدهما الصغير حريرًا ونحوه مما يحرم على الذكور، حتى لو فعلا ذلك أثما، وهوحجة على الشافعي، والله أعلم. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "كان النبي - عليه السلام -، إذا أُتِيَ بالشيء سأل أهدية هو أم صدقة؟ فإن قالوا: هدية بسط يده، وإن قالوا: صدقة قال لأصحابه: كلوا". ش: إسناد حسن. ومكي بن إبراهيم شيخ البخاري. وبهز بن حكيم أبو عبد الملك البصري، وثقه يحيى وابن المديني وأبو داود، وقال أبو زرعة: صالح ولكنه ليس بالمشهور، استشهد به البخاري وروى له في غير "الصحيح"، والأربعة. وأبوه: حكيم معاوية، وثقه العجلي. وجده: معاوية بن حيدة القشيري الصحابي. وأخرجه الترمذي (¬1): نا محمَّد بن بشار، قال: ثنا مكي بن إبراهيم ويوسف بن يعقوب الضبعي، قالا: ثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "كان رسول الله - عليه السلام - إذا أُتيَ بشيء فقال: أصدقة هو أم هدية؟ فإن قالوا صدقة لم يأكل، وإن قالوا هدية أكل". قال أبو عيسى: حديث بهز بن حكيم حديث حسن غريب. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عبد الله بن بكر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول في إبل سائمة: في ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 45 رقم 656).

كل أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها [فأنا آخذوها] (¬1) منه وشطر إبله عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لأحد منا فيها شيء". ش: عبد الله بن بكر السهمي المجري، روى له الجماعة. والحديث أخرجه أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا بهز بن حكيم، ونا محمَّد بن العلاء، أنا أبو أسامة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، ولا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا -قال ابن العلاء: مؤتجرًا بها- فله أجرها، ومن مَنَعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمَّد منها شيء". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. قوله: "مؤتجرًا" أي: طالبًا للأجر، وانتصابه على الحال. قوله: "آخذها منه" أي: آخذ المصدق الزكاة منه، وأخذ أيضًا شطر إبله أي: نصف إبله، وفي رواية أبي داود: "وشطر ماله". والمعنى: يأخذ الزكاة ويأخذ نصف ماله. قوله: "عزمة" نصب بفعل محذوف تقديره: عزم الله علينا عزمةً، والمعنى: إن هذا حق وفرض من فرائض الله. قال الخطابي: اختلف الناس في القول بظاهر هذا الحديث، فذهب أكثر الفقهاء أن الغلول في الصدقة والغنيمة لا يوجب غرامةً في المال، وهو مذهب الثوري ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وعليه شرح المؤلف، والذي في "شرح معاني الآثار"، ومصادر التخريج الآتية: فإنا آخذوها، ووقع عند ابن خزيمة كما في الأصل. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 101 رقم 1575). (¬3) "المجتبى" (5/ 15 - 16 رقم 2444، 2449) وكذا أخرجه أحمد في "مسنده" (5/ 2 رقم 20030)، (5/ 4 رقم 20050، 20053) والدارمي في "سننه" (1/ 486 رقم 1677) وابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 18 رقم 22266) وغيرهم.

وأصحاب الرأي، وإليه ذهب الشافعي، وكان الأوزاعي يقول في الغال في الغنيمة: إن للإمام أن يحرق رحله، وكذلك قال أحمد وإسحاق. وقال أحمد في الرجل يحمل الثمرة في أكمامها: فيه القيمة مرتين وضرب النكال. وقال: كل مَن درأنا عنه الحد أضعفنا عليه الغرم. ثم الجواب عن هذا الحديث من وجهين: الأول: بطريق المنع، وهو أن يقال: لا نسلم أن هذا الحديث صحيح؛ لأن الشافعي قال في بهز: ليس بحجة، وقال أبو حاتم الرازي: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا، ولولا حديثه: إنا آخذوه وشطر ماله عزمةً مَن عزمات ربنا لأدخلناه في "الثقات". الثاني: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلمنا أن الحديث صحيح؛ لأن يحيى بن معين وأحمد احتجا بحديث بهز ووثقاه، ولكنا نقول: إن هذا كان في أول الإِسلام ثم نسخ، واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته فلم ينقل عن النبي - عليه السلام - في تلك القضية أنه ضَعَّف الغرامة، بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط، وقد يجاب بأن هذا على سبيل التوعد لينتهي فاعل ذلك، وقيل: معناه أن الحق يُستوفى منه ولا يترك عليه، وإن تلف شطر ماله، كرجل له ألف شاة فتلفت حتى لم يبق إلا عشرون، فإنه يؤخذ منه عشر شياه كصدقة الألف، وهو شطر ماله الباقي أي: نصفه. وكان إبراهيم الحربي يتأول حديث بهز بن حكيم على أنه يؤخذ منه خيار ماله مثل سن الواجب عليه لا يزاد على السن والعدد ولكن يُنتقى خيار ماله، فتزاد عليه الصدقة بزيادة شطر القيمة. والله أعلم. ص: حدثنا ابن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يمر في الطريق بالتمرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا منصور، عن طلحة، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - رأى تمرةً فقال: لولا أني أخاف أن تكون صدقةً لأكلتها". ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن حماد ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم -المعنى- قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - عليه السلام - كان يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة". قلت: العاشرة الساقطة التي لا يعرف لها مالك، من عَارَ الفرس يَعير إذا انطلق من مربطه مارًّا على وجهه، وهذا أصل في الورع، وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان مباحًا فإنه يجتنبه. وفيه دليل على أن التمرة ونحوها من الطعام إذا وجدها الإنسان ملقاةً أن له أخذها وأكلها إن شاء، وليس لها حكم اللقطة. والآخر: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن طلحة بن مصرف الكوفي روى له الجماعة، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، أنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن طلحة بن مصرف، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - وجد تمرة فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 123 رقم 1651). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 752 رقم 1071).

وفيه دليل على تحريم الصدقة على النبي - عليه السلام - مطلقًا سواء كانت فرضًا أو تطوعًا؛ لعموم اللفظ. وفيه استعمال الورع؛ لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الحكم بن مروان الضرير. (ح) وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قالا: ثنا مُعَرِّف بن واصل السعدي، قال: حدثتنا حفصة في سنة تسعين -قال ابن أبي داود في حديثه: ابنة طلق- تقول: حدثنا رشيد بن مالك أبو عميرة قال: "كنا عند النبي - عليه السلام -، فأتي بطبق عليه تمرٌ، فقال: أصدقة أم هدية؟ قال: بل صدقة، فوضعه بين يدي القوم، والحسن يتعفر بين يديه فأخذ الصبي تمرةً فجعلها في فيه، فأدخل رسول الله - عليه السلام - أصبعه فجعل يترفق به فأخرجها فقذفها، ثم قال: إنَّا آل محمَّد لا نأكل الصدقة". ش: هذان طريقان: أحدهما: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن الحكم بن مروان الكوفي الضرير، قال أبو حاتم ويحيى: لا بأس به. عن مُعَرِّف بن واصل السعدي، وثقه أحمد ويحيى والنسائي، وروى له مسلم وأبو داود. عن حفصة بنت طلق قال في "التذكرة": مجهولة. عن رُشَيْد -بضم الراء وفتح الشين المعجمة- بن مالك بن عميرة السعدي التميمي الصحابي، عِدَاده في الكوفيين ويكنى بأبي عَميرة بفتح العين وكسر الميم. وأخرجه الكجي في "مسنده": ثنا الحكم، أبنا معرف بن واصل، حدثتني حفصة بنت طلق قالت: قال أبو عميرة رُشيد بن مالك: "كنا جلوسًا عند النبي - عليه السلام - ذات يوم فجاء رجل معه طبق عليه تمر، فقال له: أهدية أم صدقة؟ قال: صدقة، قال: قربه إلى القوم والحسن بين يدي النبي - عليه السلام - فأخذ تمرةً فجعلها في فيه.

قال: فأدخل النبي - عليه السلام - أصبعه في فيّ الصبي، فأخرج التمرة فقذفها، وقال: إن آل محمَّد لا يأكلون الصدقة". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن مُعَرّف بن واصل ... إلى آخره. قوله: "والحسن يتعفر بن يديه" أي: يتمرغ على التراب؛ وذلك أنه كان صغيرًا يلعب. قوله: "في فيه" أي: في فمه. قوله: "فقذفها" أي: رماها. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن حكيم الأودي، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: "دخلت مع النبي - عليه السلام - بيت الصدقة، فتناول الحسن تمرةً، فأخذها من فيه وقال: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة- أو لا نأكل الصدقة". حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا شريك ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" ولم يشك. شْ: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن مغيرة الكوفي ثم المصري المعروف بعلان، قال ابن أبي حاتم: صدوق. عن علي بن حكيم بن ذُبيان الأودي أبي الحسن الكوفي شيخ البخاري في "الأدب" ومسلم. عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، روى له الجماعة. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى والد محمَّد بن عبد الرحمن القاضي، روى له الجماعة.

عن أبيه ليلى -واسمه يسار- بالياء آخر الحروف، وقيل: بلال الصحابي. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الحسن بن موسى، عن زهير، عن عبد الله بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: "كنت مع النبي - عليه السلام - في بيت الصدقة. قال: فجاء الحسن بن علي فأخذ تمرةً، فأخذها من فيه فاستخرجها، وقال: إنا لا تحل لنا الصدقة". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي، فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقةً فألقيها". ش: إسناده صحيح. وأبو نعيم الفضل بن دُكين، شيخ البخاري، وابن المبارك: عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، عن معمر بن راشد ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن محمَّد بن رافع، [عن عبد الرزاق] (¬3)، عن همام، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة نحوه. ص: ثنا أحمد بن عبد المؤمن الخراساني، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي يقول: "جاء سلمان الفارسي - رضي الله عنه - إلى رسول الله - عليه السلام - حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، فقال رسول الله - عليه السلام -: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 429 رقم 10711). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 451 رقم 1070). (¬3) تكررت في "الأصل".

ارفعها فإنا لا نأكل الصدقة، فرفعها، فجاء من الغد بمثله فوضعه بين يديه، فقال: ما هذا يا سلمان؟ قال: هدية، فقال رسول الله - عليه السلام - لأصحابه: انبسطوا". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات قد ذكروا غير مرة. وبُرَيدة-بضم الباء الموحدة- بن الحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- ابن عبد الله الصحابي. والحديث أخرجه البزار في "مسنده": ثنا عَبدة بن عبد الله، أنا زيد بن الحباب، أنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه: "أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أتى رسول الله - عليه السلام - المدينة لما قدم المدينة- بمائدة عليها رطب، فقال له: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة تصدقت بها عليك وعلى أصحابك، قال: إنا لا نأكل الصدقة، حتى إذا كان من الغد جاء بمثلها فوضعها بين يديه، فقال: يا سلمان ما هذا؟ قال: هدية، فقال: كلوا وأكل، ونظر إلى الخاتم في ظهره، قال: واشتراه رسول الله - عليه السلام - بكذا وكذا درهمًا من قوم من اليهود على أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، ويعمل حتل يُطعم. قال: فغرس رسول الله - عليه السلام - النخل إلا نخلة واحدة غرسها غيره، فأطعم النخل من عامه إلا النخلة التي غراسها غيره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن غرسها؟ قالوا: فلان، فقلعها وغرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطعمت في عامها". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذه الآثار كلها قد جاءت بتحريم الصدقة على بني هاشم ولا نعلم شيئًا نسخها ولا عارضها إلا ما قد ذكرنا في هذا الباب مما ليس فيه دليل على مخالفتها. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي أخرجها عن الحسن بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة وسلمان الفارسي وأبي رافع مولى النبي - عليه السلام - وهرمز أو كيسان مولى النبي - عليه السلام - وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة وأنس بن مالك ورُشيد بن مالك وأبي ليلى وبُريدة بن الخصيب - رضي الله عنهم -؛ فانظر إلى

اتساع رواية الطحاوي وجلالة قدره الذي أخرج في حكم واحد نادر الوقوع بالنسبة إلى غيره عن اثنى عشر صحابيًّا مع استنباط الأحكام والتوغل فيها!. ص: فإن قال قائل: تلك الصدقة إنما هيم الزكاة خاصةً، فأما ما سوى ذلك من سائر الصدقات فلا بأس به لهم. قيل له: في هذه الآثار ما قد دفع ما ذهبت إليه، وذلك في حديث بهز بن حكيم: "أن النبي - عليه السلام - كان إذا أتي بالشيء سأل أهدية أم صدقة؟ فإن قالوا: صدقة، قال لأصحابه: كلوا" واستغن بقول المسئول أنه صدقة عن أن يسأله: صدقة من زكاة أم غير ذلك، فدل ذلك على أن حكم سائر الصدقات في ذلك سواء، وفي حديث سلمان: "فقال: فجئت، فقال: أهدية أم صدقة؟ فقلت: بل صدقة؛ لأنه بلغني أنكم قوم فقراء". فامتنع من أكلها لذلك. وإنما كان سلمان يومئدٍ عبدًا ممن لا تجب عليه زكاة، فدل ذلك على أن كل الصدقات من التطوع وغيره قد كان محرمًا على رسول الله - عليه السلام - وعلى سائر بني هاشم. ش: تقرير السؤال أن يقال: الصدقة المحرمة على بني هاشم في الأحاديث المذكورة هي الزكاة خاصةً، وبقية الصدقات لا بأس بها عليهم. وتقرير الجواب: أن هذا دعوى التخصيص من غير دليل. وهي باطلة، والأصل إجراء الألفاظ العامة على عمومها ولا سيما ها هنا؛ فإن بعض ألفاظ الحديث يدل على العموم وعدم الفرق بين صدقة وصدقة كما في حديث بهز بن حكيم وحديث سلمان - رضي الله عنه -، وقد بُيَّن وجه ذلك في الكتاب. ص: والنظر أيضًا يدل على استواء حكم الفرائض والتطوع في ذلك، وذلك أنا رأينا غير بني هاشم من الأغنياء والفقراء في الصدقات المفروضات والتطوع سواء، من حرم عليه أخذ الصدقة مفروضة، حَرُم عليه أخذ صدقة غير مفروضة، فلما حرم على بني هاشم، أخذ الصدقات غير المفروضة. فهذا هو النظر في هذا أيضًا.

ش: أي: والقياس أيضًا يدل على أن حرمة الصدقة عليهم مستوية في الفرائض والنوافل، وجه القياس ظاهر. قوله: "في ذلك" إشارة إلى التحريم، أي: في تحريم الصدقة عليهم. وقوله: "وذلك" إشارة على استواء حكم الفرائض والتطوع. ص: وهو قول أبي يوسف ومحمد، وقد اختلف عن أبي حنيفة في ذلك، فروي عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها إلى بني هاشم، وذهب في ذلك -عندنا- إلى أن الصدقات إنما كانت حرمت عليهم من أجل ما جُعل لهم في الخُمس من سهم ذوي القربى، فلما انقطع ذلك عنهم ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله - عليه السلام - حل لهم بذلك ما قد كان محرمًا عليهم من أجل ما قد كان أحل لهم. وقد حدثني سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة في ذلك مثل قول أبي يوسف، فبهذا نأخذ. ش: أي: وجه النظر الذي هو عموم التحريم قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله. وعن أبي حنيفة روايتان. إحداهما: عموم الإباحة، أشار إليها بقوله: لا بأس بالصدقات كلها إلى بني هاشم. والأخرى: عموم الحرمة، أشار إليها بقوله: حدثني سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني ... إلى آخره. قوله: "وذهب في ذلك" أي: ذهب أبو حنيفة فيما قاله من عموم الإباحة، وأراد بذلك بيان وجه هذه الرواية عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - ولكن لا يخلو عن نظر؛ لأنه - عليه السلام - علل في منع الصدقة على بني هاشم فيما مضى من قوله: "إنما هي أوساخ الناس".

أخرجه مسلم (¬1) وغيره، فكانت العلة كونها أوساخ الناس، فهي موجودة في كل وقت سواء وصل إليهم ما جعل لهم في الخمس من سهم ذوي القربى أو لم يصل. قوله: "فبهذا نأخذ" أي: بقول أبي يوسف -رحمه الله-. ص: فإن قال قائل: أفتكرهها على مواليهم؟ قلت: نعم؛ لحديث أبي رافع الذي قد ذكرناه في هذا الباب، وقد قال ذلك أبو يوسف في كتاب "الإملاء"، وما علمت أحدًا من أصحابنا خالفه في ذلك. فإن قال: أفتكره للهاشمي أن يعمل على الصدقة؟ قلت: لا. فإن قال: لِمَ؟ وفي حديث ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس - رضي الله عنهم - الذي ذكرت منع النبي - عليه السلام - إياهما من ذلك. قلت: ما فيه منع لهما من ذلك؛ لأنهم سألوه أن يستعملهم على الصدقة ليسدوا بذلك فقرهم فسد رسول الله - عليه السلام - فقرهم بغير ذلك. وقد يجوز أيضًا أن يكون أراد بمنعهم أن يوكلهم على العمل على أوساخ الناس، لا لأن ذلك يحرم عليهم؛ لاجتعالهم منه عمالتهم عليه. وقد وجدنا ما يدل على هذا: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن أبي رزين، عن أبي رزين، عن علي - رضي الله عنه - قال: "قال لي العباس: قل للنبي - عليه السلام - يستعملك على الصدقة. فسألته، فقال: ما كنت لأستعملك على غُسالة ذنوب الناس". أفلا ترى أنه إنما كره له الاستعمال على غسالة ذنوب الناس لا لأنه حرم ذلك عليه لحرمة الاجتعال منه عليه؟. ¬

_ (¬1) تقدم.

ش: أي: فإن قال القائل: هل تكره الصدقة على موالي بني هاشم؟ والباقي ظاهر. قوله: "فإن قال: أفتكره للهاشمي أن يعمل" أي: هل تكره للهاشمي أن يكون عاملًا على الصدقة ويأخذ العمالة منها؟. قوله: "أن يُوكلهم على العمل" بالتخفيف من وَكَلَ فلانًا على شيء: إذا صرف أمره إليه، وكذا وَكَل فلان إليَّ كذا، ويجوز بالتشديد أيضًا. قوله: "لاجتعالهم منه عمالتهم" من جعلت له جُعلًا. وهو الأجرة ها هنا، و"العُمَالة" بالضم حيث وقعت، وهي أجرة العامل على عمله. قوله: "ما يدل على هذا" وفي بعض النسخ: ما يدلك على هذا، وأشار به إلى قوله: "وقد يجوز أيضًا أن يكون ... " إلى آخره. قوله: "حدثنا أبو أمية" بيان لقوله: وقد وجدنا. وأبو أمية اسمه محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، يروي عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة الهمداني الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن عبد الله بن أبي رزين الأسدي وثقه ابن حبان، عن أبيه أبي رزين مسعود بن مالك- روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وله ذكر فيه. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن عمارة بن صبيح، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن أبي رزين، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - قال: "قلت للعباس: سل رسول الله - عليه السلام - لنا الحجابة، فسأله فقال: أعطيكم السقاية ترزؤكم ولا ترزؤونها. قال: وقلت للعباس: سَلْ رسول الله - عليه السلام - يستعملك على الصدقات، فقال: ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (3/ 109 رقم 895).

وهذا الحديث لا نعلم له إسنادًا عن علي - رضي الله عنه - إلا هذا الإسناد. ص: وقد كان أبو يوسف: يكره لبني هاشم أن يعملوا على الصدقة إذا كانت جعالتهم منها، قال: لأن الصدقة تخرج من مال المتصدق إلى الأصناف التي سماها الله تعالى، فيملك المتصدق بعضها وهي لا تحل له، واحتج في ذلك أيضًا بحديث أبي رافع حين سأله المخزومي أن يخرج معه ليصيب منها، ومحال أن يصيب منها شيئًا إلا لعمالته عليها واجتعاله منها. ش: مذهب أبي يوسف أنه يكره أن يكون الهاشمي عاملًا على الصدقة إذا كان يأخذ الأجرة على عمله منها؛ وذلك لأن الصدقة تخرج من مال المتصدق فتقع في يد العامل، ولما حصل في يد العامل حصلت الصدقة مؤداة حتى لو هلك المال في يده تسقط الزكاة عن صاحبها، فإذا كان كذلك تكون في يده غسالة أموال الناس، ويكون عند قبض العمالة منها متناولًا منها، وذلك لا يحل له، ولأن للعُمالة شبهًا بالصدقة وأنها من أوساخ الناس فيجب صيانة الهاشمي من ذلك كرامة له وتعظيمًا للرسول - عليه السلام -. قوله: "واحتج في ذلك أيضًا" أي: احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه أيضًا بحديث أبي رافع مولى النبي - عليه السلام - حين سأله المخزومي، وهو أرقم بن أبي الأرقم المذكور فيما مضى. ص: وخالف أبا يوسف في ذلك، آخرون فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الهاشمي؛ لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يحرم على الأغنياء الذين يحرم عليهم غناهم الصدقة، كان كذلك أيضًا في النظر لا يحرم على بني هاشم الذين يحرم عليهم نسبهم الصدقة. ش: أي: خالف أبا يوسف فيما ذهب إليه جماعة آخرون، وهم: مالك والشافعي في قول، وأحمد في رواية، ومحمد بن الحسن، فإنهم قالوا: لا بأس أن يكون العامل هاشميًّا ويأخذ عُمالته منهاث لأن ذلك على عمله، ألا ترى أن الغنى

يحل له ذلك إذا كان عاملًا مع كون الصدقة حرامًا عليه؛ لأنه إنما يأ خذ حينئذٍ على عمله وتفرغه لذلك، فكذلك الهاشمي. قوله: "كان كذلك أيضًا في النظر ... إلى آخره" لقائل أن يقول: هذا القياس ليس بصحيح؛ لأن الغني إذا عاملًا يكون متفرغًا لذلك صارفًا نفسه وحابسها لأجل ذلك، فيستحق الجُعالة في مقابلة هذا الفعل، وذلك في الحقيقة يكون لحاجته إلى ذلك فيصير كابن السبيل تباح له الصدقة وإن كان غنيًّا، بخلاف الهاشمي فإنه إنما تحرم عليه الصدقة لكونها أوساخ الناس، ولأجل لحوق الذلة والهوان بشرف نسبه، فهذا المعنى موجود دائمًا سواء كان الذي يأخذه من الصدقة على وجه الاعتمال والاجتعال أو غير ذلك، فافهم. ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - فيما تصدق به على بريرة أنه أكل منه وقال: هو عليا صدقة ولنا هدية. حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "دخل عليّ النبي - عليه السلام - وفي البيت رجل شاة معلقة، فقال: ما هذه؟ فقلت: تُصُدق به على بريرة فأهدته لنا، فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية، ثم أمر بها فسويت". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل رسول الله - عليه السلام - والبرمة تفور بلحمٍ، فقرب إليه خبز وأدمٌ من أدم البيت، فقال رسول الله - عليه السلام -: ألم أرَ برمةً فيها لحم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة. فقال رسول الله - عليه السلام -: هو صدقة عليها وهو لنا هدية". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة ... فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "تصدق على بريرة بصدقة فأهدت منها لعائشة، فذكرت ذلك للنبي - عليه السلام - فقال: هو لنا هدية ولها صدقة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن عُبيد بن السباق، عن جويرية بنت الحارث قالت: "تصدق على مولاةٍ لي بعضو من لحم، فدخل عليَّ النبي - عليه السلام - فقال: هل عندكم مِن عشاء؟ فقلت: يا رسول الله مولاتي فلانة تُصدق عليها بعضو من لحم فأهدته لي، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: قد بلغت محلها فهاتيه، فأكل منها رسول الله - عليه السلام -". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرني عبيد بن السباق، عن جويرية مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: "دخل النبي - عليه السلام - على عائشة فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نُسَيْبَة من الشاة التي بُعِثت إليها من الصدقة، فقال النبي - عليه السلام -: إنها قد بلغت محلها". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن أبي معن يزيد بن يسار، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة زوج النبي - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام - قسم غنمًا من الصدقة فأرسل إلى زينب الثقفية بشاةٍ منها، فأهدت زينب من لحمها لنا، فدخل علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: هل عندكم شيء تطعمونا؟ قلنا: لا والله يا رسول الله، فقال: ألم أَرَ لحمًا آنفا أدخل عليكم؟ قلنا: يا رسول الله ذاك من الشاة التي أرسلت إلى زينب من الصدقة وأنت لا تأكل الصدقة، فلم نحب أن نمسك ما لا تأكل منه، فقال رسول الله - عليه السلام -: لو أدركته لأكلت منه".

فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبي - عليه السلام - أكله؛ لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة؛ لأنه إنما يملكه بعلمه لا بالصدقة، فهذا هو النظر، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف في ذلك. ش: أخرج هذه الأحاديث إعضادًا لما ذهب إليه الآخرون، بيان ذلك: أن الفقير إذا تُصدق عليه بصدقة فإنه يملكها، ثم إنه إذا أهداها إلى غني جاز له أكلها؛ لأنه يملكها بالهدية، فبتغير الصفة كأن الذات قد تغيرت، والدليل عليه: قضية بريرة، فإنه لماتصدق بذلك اللحم عليها جوَّز النبي - عليه السلام - أكله؛ لأنه ملكه بالهدية، فكذلك الهاشمي إذا اجتعل شيئًا من الصدقة تَمَلَّكَه بعمله لا من حيث الصدقة فيحل له حينئذٍ أكله. ثم إنه أخرج الأحاديث المذكورة عن عائشة وابن عباس وجويرية بنت الحارث وأم عطية وأم سلمة - رضي الله عنهم -. أما حديث عائشة فأخرجه من ثلاثة طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي - عليه السلام - فقال لها النبي - عليه السلام -: اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق، قالت: وأتي النبي - عليه السلام - بلحم فقلت: هذا ما تصدق به على بريرة، قال: هو لها صدقة ولنا هدية". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 543 رقم 1422). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 755 رقم 1075).

وثنا محمَّد بن مثنى وابن بشار -واللفظ لابن مثنى- قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أتي النبي - عليه السلام - بلحم بقر، فقيل: هذا مما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية". قوله: "معلقة" بالرفع، صفة للرِّجْل لا للشاة، فافهم. قوله: "به" أي: بِرِجل الشاة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المذكور، وكذلك قوله: "أهدية" قوله: "هو" في الموضعين. الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3) في "صحيحيهما". قوله: "والُبْرمة تفور" بضم الباء الموحدة وسكون الراء، وهي القِدَرة من الحجر. و"تفور" من فارت القدرة: إذا غلت. وقال أبو عمر في شرح هذا الحديث: فيه إباحة كل اللحم ردًّا على قول من كرهه من الصوفية والعباد، وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم"، "وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم". وأما قول عمر - رضي الله عنه -: "إياكم واللحم، فإن له ضراوة كضراوة الخمر" ففي حق مَن يواظب عليه ويمعن فيه؛ لأن كثرته تؤدي إلى كثرة الشهوة المؤدية إلى الفساد. الثالث: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 562 رقم 1170). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 543 رقم 1424). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1142 رقم 1504).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1). وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن علي بن عبد الرحمن، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) بأتم منه: ثنا عفان، نا همام، نا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، قال: كنت أراه يتبعها في سكك المدينة يعصر عينيه عليها، قال: وقضى النبي - عليه السلام - فيها أربع قضيات: أن مواليها اشترطوا الولاء فقضى النبي - عليه السلام - الولاء لمن أعتق، وخيرها فاختارت نفسها فأمرها أن تعتد، قال: وتُصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي - عليه السلام - فقال: هو عليها صدقة وإلينا هدية". وأما حديث جويرية بنت الحارث فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى الكندي الوهبي الحمصي، شيخ البخاري في غير "الصحيح"، وثقه أبو زرعة وابن معين. عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد بن السبَّاق الثقفي المدني روى له الجماعة، عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث. وثنا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، أن عبيد بن السباق حدثه، قال: إن جويرية زوج النبي - عليه السلام - أخبرته: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل عليها ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 178 رقم 25491). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 281 رقم 2542). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 754 رقم 1073).

فقال: هل من طعام؟ قالت: لا والله يا رسول الله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيته مولاتي من الصدقة، فقال: قربيه قد بلغت محلها". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد بن السباق، عن جويرية. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا نحوه: عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق ابن إبراهيم، جميعًا عن ابن عيينة، عن الزهري بهذا الإسناد نحوه. وأما حديث أم عطية فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ... إلى آخره. وأم عطية اسمها نُسَيْبة بنت كعب -ويقال: بنت الحارث- الأنصارية الصحابية. والحديث أخرجه البخاري (¬2): ثنا علي بن عبد الله، نا يزيد بن زريع، نا خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: "دخل النبي - عليه السلام - على عائشة فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا، إلا شيء بعثت به نُسيبة من الشاة التي بعثتَ بها من الصدقة، فقال: إنها بلغت محلها". وأخرجه مسلم (¬3) نحوه. ونُسَيْبَة -بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- وهي أم عطية المذكورة. قوله: "قد بلغت محلها" يعني قد وقعت الصدقة في محلها، ثم خرجت عن حكم الصدقة؛ لأن المتصدق عليها قد ملكتها. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 755 رقم 1073). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 543 رقم 1423). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 756 رقم 1076).

وفيه بيان أن الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حَلَّت، وأن التحريم في الأشياء ليس لعينها. وأما حديث أم سلمة - رضي الله عنهما - فأخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود القرشي الأسدي المدني، يتيم عروة، روى له الجماعة. عن أبي معن يزيد بن يسار [...] (¬1) عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. عن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، وهو عبد الله بن وهب الأصغر، وأخوه عبد الله بن وهب الأكبر وثقه ابن حبان. عن أم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-.

ص: باب: ذي المرة السوي الفقير هل تحل له الصدقة أم لا؟

ص: باب: ذي المرة السويّ الفقير هل تحل له الصدقة أم لا؟ ش: أي: هذا باب في بيان ذي المرة السوي هل يجوز له أخذ الصدقة أم لا يجوز؟ ويجيء الآن تفسير المرة والسويّ. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت ريحان بن يزيد -وكان أعرابيًّا صدوقًا- قال: قال عبد الله بن عمرو: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرةٍ سوي قوي". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد، عن رجل من بني عامر، عن عبد الله بن عمرو، يقول ذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه أربع طرق: الأول: موقوف، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، روى له الجماعة- عن ريحان بن يزيد العامري البدوي وثقه يحيى وابن حبان، وقال أبو حاتم: شيخ مجهول، روى له أبو داود والترمذي هذا الحديث الواحد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ورواه الترمذي (¬1) معلقًا، وقال: وقد روى شعبة عن سعد بن إبراهيم هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 42 رقم 652).

الثاني: موقوف أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن رجل من بني عامر -وهو ريحان بن يزيد- عن عبد الله بن عمرو بن العاص. الثالث: مرفوع، وهو حسن: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى ابن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا سفيان، عن سعد. وثنا محمود بن غيلان قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". وقال أبو عيسى: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2) وسكت عنه. الرابع: مرفوع أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا عباد بن موسى الختلي الأبناوي، نا إبراهيم -يعني ابن سعد- أخبرني أبي، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". وقال البيهقي: ورواه إبراهيم بن سعد، عن أبيه، فاختلف عليه في رفعه، ووقفه شعبة مرة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 42 رقم 652). (¬2) "المستدرك" (1/ 565 رقم 1478). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 118 رقم 1634).

قوله: "ولا لذي مرة سويّ" المِرَّة: بكسر الميم وتشديد الراء: القوة. والسوي: الصحيح الأعضاء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن سماك أبي زُميل، عن رجل من بني هلال، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - ... فذكر مثله. ش: إسناده حسن جيد، ورجاله ثقات. وعكرمة بن عمار اليمامي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وسماك هذا هو ابن الوليد اليمامي أبو زُميل -بضم الزاي المعجمة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام- روى له الجماعة البخاري في "الأدب". والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، نا عكرمة، نا أبو زُميل سماك، حدثني رجل من بني هلال، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا تصلح الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سويّ". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معلى بن منصور الرازي روى له الجماعة، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحناط -بالنون- المقرئ ففي اسمه أقوال، والصحيح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 62).

عن أبي حَصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، واسمه عثمان بن عاصم الكوفي، روى له الجماعة، عن أبي صالح السمان ذكوان روى له الجماعة. وقال البيهقي (¬1): ورواه غير ابن مجشر، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وقال الذهبي في "مختصر السنن": ما سمى المؤلف راويَه عن أبي بكر. قلت: هذا مسمى في رواية الطحاوي، وهو معلى بن منصور. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي الكوفي، روى له الجماعة، واسم أبي الجعد رافع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمد بن الصباح، أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". قال صاحب "التنقيح": رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة. قلت: قال غيره: سمع منه. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬3): ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 14 رقم 12940). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 589 رقم 1839). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 424 رقم 10664).

وأخرجه الحكم من طريق آخر في "مستدركه" (¬1): أنا أبو بكر أحمد بن سليمان الموصلي، ثنا علي بن حرب، ناسفيان. وحدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه -واللفظ له- أنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة يبلغ به: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه البزار في "مسنده": عن إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة. وقال البزار: وهذا الحديث رواه ابن عيينة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، والصواب حديث إسرائيل، وقد تابع إسرائيل على روايته أبو حصين فرواه عن سالم، عن أبي هريرة. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن عمرو المذكور قبل حديث أبي هريرة قال: وفي الباب عن أبي هريرة وحبشي بن جنادة وقبيصة بن مخارق. قلت: وفي الباب عن جابر وطلحة بن عبيد الله ورجلين، عن النبي - عليه السلام -. أما حديث أبي هريرة فقد مر ذكره. وأما حديث حبشي وقبيصة والرجلين، عن النبي - عليه السلام - فسيذكره الطحاوي. وأما حديث جابر فأخرجه الطبراني (¬2) عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة، عن ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 565 رقم 1477). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، ولم أعثر عليه عند الطبراني في جميع كتبه ولعله تصحيف، فقد عزاه الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 400) -وعليه يعتمد كثيرا المؤلف -رحمه الله-- للدارقطني في "سننه" (2/ 119 رقم 6)، وأظنه انتقال نظر من المؤلف: من الحديث الذي قبله في "نصب الراية"، وباقي كلامه منقول منه.

جابر بن عبد الله قال: "جاءت رسول الله - عليه السلام - صدقة فركبه الناس، فقال: إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح سوي، ولا لعاقل قوي". وقال ابن حبان: الوازع بن نافع يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته. ورواه أيضًا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جرجان" (¬1): من حديث محمَّد بن الفضل بن حاتم، نا إسماعيل بن بهرام الكوفي، حدثني محمَّد بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن جابر مرفوعًا: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". وأما حديث طلحة فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬2): من حديث إسماعيل بن يحيى بن أمية الثقفي، عن نافع، عن أسلم مولى، عمر، عن طلحة بن عبيد الله، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ". ورواه ابن عدي في "الكامل" (¬3) وقال: لا أعلم أحدًا رواه بهذا الإسناد غير أبي أمية بن يعلى، وضعفه عن ابن معين والنسائي، وليَّنه عن البخاري، ووثقه عن شعبة، ثم قال: وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الصدقة لا تحل لذي المرة السوي وجعلوه فيها كالغني، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد في رواية وإسحاق وبعض المالكية وأبا عبيد القاسم بن سلام؛ فإنهم قالوا: ذو المرة السوي كالرجل الغني في حرمة الصدقة عليهما. واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث المذكورة. ¬

_ (¬1) "تاريخ جرجان" (1/ 367)، وانظر "نصب الراية" (2/ 400). (¬2) انظر "نصب الراية" (2/ 400). (¬3) "الكامل لابن عدي" (1/ 316).

وقال عياض: قيل: الشاب القوي على الكسب أنه لا يحل له أخذ الصدقة ولا يجزئ وهو قول بعض أصحابنا، وقاله الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وقال الترمذي: مَن ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فالصدقة عليه حرام. وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال قوم: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة. وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم والفقه. وفي "المغني" واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها. ونقل عن أحمد فيه روايتان: إحداهما: وهي أظهرهما: ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو أجر عقار، أو نحو ذلك ولو من العروض، أو الحبوب أو السائمة أو العقار، ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنيًّا وإن ملك نصابا. هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق. والرواية الثانية: أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلت له الصدقة وإن ملك نصابًا والأثمان وغيرها في هذا سواء. وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري، وقول مالك والشافعي. وقال الحسن وأبو عبيد: الغِنى ملك أوقية وهي أربعون درهمًا. وقال ابن حزم في "المحلى": من كان له مال مما تجب فيه الزكاة كمائتي درهم أو أربعين مثقالًا أو خمس من الإبل أو أربعين شاةً أو خمسين بقرة، أو أصاب خمسة أوسق من بر أو شعير أو تمر وهو لا يقوم معه بعولته لكثرة عياله، أو لغلاء السعر فهو مسكين يعطى من الصدقة المفروضة، ويؤخذ منه فما وجبت فيه من ماله.

وروينا عن الحسن أنه يُعطي من الصدقة الواجبة من له الدار والخادم إذا كان محتاجًا. وعن إبراهيم نحو ذلك، وعن سعيد بن جبير: يُعطَى منها مَن له الفرس والدار والخادم. وعن مقاتل بن حيان: يُعطَى منها مَن له العطاء في الديوان وله فرس. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل فقير من قويّ وزمن فالصدقة له حلال. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية، ومالكًا وابن جرير الطبري؛ فإنهم قالوا: كل مَن كان فقيرًا فالصدقة له حلال سواء كان صحيحًا ذا قوة أو زمنًا أو مقعدًا. وحاصل هذا: أن مَن لم يملك مائتي درهم فصاعدًا يجوز له أخذ الصدقة؛ لأن المراد من الغِنى هو الغنى الشرعي وهو أن يملك نصابًا فما فوقه، وقال أصحابنا: المراد من قوله: "لذي مرة سويّ": هو أن يسأل مع قدرته على اكتساب القوت، وأما إذا أُعطي من غير سؤال فلا يحرم له أخذها؛ لدخوله في الفقراء، وقد ثبت بالنص أن أحد المصارف الفقراء. ص: وذهبوا في تأويل هذه الآثار المتقدمة إلى أن قول النبي - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لذي مرة سويّ" أنها لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غيرها فيأخذها على الضرورة وعلى الحاجة من جميع الجهات منه إليها، فليس مثله ذو المرة السوي القادر على اكتساب غيرها في حلها له؛ لأن الزمن الفقير تحل له من قِبل الزمانة ومِن قِبل عدم قدرته على غيرها، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة وإن كانا جميعًا قد يحل لهما أخذها؛ فإن الأفضل لذي المرَّة السويّ تركها والاكتساب بعمله، وقد يغلظ الشيء من هذا فيقال: لا يحل أو لا يكون كذا على أنه غير متكامل للأسباب التي بها يحل ذلك المعنى، وإن كان ذلك المعنى قد يحل بها دون تكامل تلك الأسباب.

فمن ذلك ما روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن للسكين الذي لا يسأل ولا يُفطن له فيتصدق عليه". فلم يكن المسكين الذي يسأل خارجًا من أسباب المسكنة وأحكامها حتى لا يحل له أخذ الصدقة، وحتى لا يجزئ من أعطاه منها شيئًا مما أعطاه من ذلك، ولكن ذلك على أنه ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة، فكذا قوله: "لا تحل الصدقة لذي مرَّة سوي" أي أنها لا تحل له من جميع الأسباب التي تحل بها الصدقة وإن كانت قد تحل له ببعض تلك الأسباب. ش: أي: وذهب الآخرون وهم أهل المقالة الثانية في تأويل الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وأشار بهذا إلى أن استدلالهم بالأحاديث المذكورة غير تام؛ لأنهم صرفوها عن تأويلها الذي هو المراد، وهو أن قوله - عليه السلام -: "لا تحصل الصدقة لذي مرة سوي" معناه: لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غير الصدقة وإنما يأخذها لأجل ضرورته وحاجته إليها من سائر الجهات بخلاف ذي المرة السوي؛ فإنه قادر على اكتساب غير الصدقة. وحاصله: أن ذا المرة السوي له جهتان: جهة الفقر، وجهة القوة والقدرة على الاكتساب، فقوله - عليه السلام -: "لا تحل لذي مرة سوي قوي" مصروف إلى هذه الجهة يعني بالنظر إلى قوته وقدرته على الاكتساب تحرم له الصدقة، وأما بالنظر إلى الجهة الأخرى وهي جهة الفقر يحل له أخذها؛ لأنه في هذه الجهة كسائر الفقراء، وهو معنى قوله: لأن الزمِن الفقير تحل له من قبل الزمانة، ومن قِبَل عدم قدرته على غير الصدقة، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصةً يعني لا مِن جهة القوة والقدرة على الاكتساب وإن كانا جميعًا قد يحل لهما أخذها أي: أخذ الصدقة، يعني بالنظر إلى جهة الفقر والاحتياج، فيكون قوله - عليه السلام -: "لا تحل لذي مرة سوي" من باب التغليظ والتشديد؛ لأنه لم يجمع أسباب المسكنة كلها التي بها تحل الصدقة، فلم يكن كالفقير الذي جمع أسباب حل أخذ الصدقة.

والأسباب هي: الفقر والعجز وعدم القدرة على الاكتساب، ونظير ذلك قوله - عليه السلام -: "ليس المسكن بالطوّاف ... " (¬1) الحديث، فإنه لا يدل على أن المسكن الذي يسأل يخرج عن حد المسكنة بحيث لا يجوز له أخذ الصدقة، بل هو مسكين يجوز له أخذ الصدقة، ولكن نفى عنه المسكنة في حالة السؤال؛ للتغليظ والزجر حيث لم يجمع أسباب المسكنة كلها، فالمعنى: المسكن الذي يسأل ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة، فكذلك قوله - عليه السلام -: "ولا تحل لذي مرة سويّ" معناه: لا تحل له الصدقة من جميع الأسباب التي تحل بها للفقير الذي لا يقدر على غيرها، وإنما تحل له ببعض تلك الأسباب، وهو كونه فقيرًا مع قطع النظر عن قوته وقدرته على الاكتساب. وقوله - عليه السلام -: "ليس المسكين بالطوَّاف ... " إلى آخره قد أخرجه الطحاوي: في باب: "التسمية على الوضوء" عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، وقد استوفينا الكلام فيه هناك. قوله: "وإن كانا جميعًا" واصل بما قبله، وجميعًا يعني مُجْتَمِعَيْنِ. قوله: "حتى لا تحل له" بنصب اللام؛ لأنه جواب النفي، وهو قوله: فلم يكن المسكن الذي يسأل. وقوله: "وحتى لا تجزئ" عطف على قوله: "حتى لا تحل له" داخل في حكمه، فافهم. وقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأن الصدقة إنما لا تحل لذي مرة سوي إذا سأل وإن لم يسأل يحل له أخذها؛ لأنه فقير كسائر الفقراء، وأن هذا القيد مراد في الحديث، والله أعلم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لمذهبهم أيضًا بما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي، قال: ¬

_ (¬1) تقدم.

حدثنيم رجلان من قومي: "أنهما أتيا النبي - عليه السلام - وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع البصر وخفضه، فرآهما جلدين قويين فقال: إن شئتما، فعلت ولا حق فيها لغني ولا لقويّ مكتسب". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، عن هشام بن عروة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد وهمام، عن هشام ... فذكر بإسناده مثله. فقالوا: فقد قال لهما: "لا حق فيها لقوي مكتسب". فدل ذلك على أن القوي المكتسب لا حظ له في الصدقة ولا تجزى من أعطاه منها شيئًا. ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه أيضًا بما رواه عبيد الله بن عدي عن رجلين من الصحابة - رضي الله عنهم -. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي أحد التابعين الكبار المولودين في زمن النبي - عليه السلام -، عن رجلين من الصحابة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أخبرني رجلان: "أنهما أتيا النبي - عليه السلام - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 118 رقم 1633).

الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري والليث بن سعد، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة وهمام بن يحيى، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبد الرحيم وابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: "أخبرني رجلان أتيا النبي - عليه السلام - يسألانه من الصدقة، قال: فرفع البصر وصوبه، فقال: إنكما لجلدان، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب". قوله: "جَلْدين". بفتح الجيم وسكون اللام تثنية جَلْد، وهو الرجل القوي، من الجَلَد -بفتح اللام- وهو القوة والصبر، تقول منه: جَلُد الرجل -بالضم- فهو جَلْد وجَلِيد بيِّن الجلَد والجلادة والجلودة. قوله: "فقالوا" أي: أهل المقالة الأولى، "فقد قال" أي: النبي - عليه السلام - "لهما" أي لهذين الرجلين "لا حق فيها" أي في الصدقة "لقوي مكتسب"، فدل على أنه لا حظ له في الصدقة وأن من عليه الصدقة إذا أعطاه منها شيئًا لا يجزئه ذلك. وقال الخطابي: هذا الحديث أصل في أن مَن لم يُعلم له مال فأمره محمول على العدم، وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن يضم إليه الكسب ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 14 رقم 12942). (¬2) "المجتبى" (5/ 99 رقم 2598). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 424 رقم 10666).

فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة الكسب، وقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع الصدقة، بدلالة الحديث، وقد استظهر - عليه السلام - مع هذا في أمرهما بالإنذار، وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما. ص: فالحجة للآخرين عليهم في ذلك: أن قوله: "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني". أي: أن غناكما يخفى عليَّ، فإن كنتما غنيين فلا حق لكما فيها، "وإن شئتما فعلت" لأني لم أعلم بغناكما فمباح لي إعطاؤكا، وحرام عليكما أخد ما أعطيتكما إن كنتما تعلمان من حقيقة أموركما في الغنى خلاف ما أرى من ظاهركما الذي استدللت به على فقركما، فهذا معنى قوله: "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني". وأما قوله: "ولا لقوي مكتسب" فذلك على أنه لا حق فيها للقوي المكتسب من جميع الجهات التي بها يجب الحكم فيها، فعاد معنى ذلك إلى معنى ما ذكرنا من قوله: "ولا لذي مرة قوي"، وقد يقال: فلان عالم حقًّا إذا تكاملت فيه الأسباب التي بها يكون الرجل عالمًا، ولا يقال: هو عالم حقًّا إذا كان دون ذلك وإن كان عالمًا، فكذلك لا يقال: فقير حقًّا إلا لمن تكاملت فيه الأسباب التي يكون بها الفقير فقيرًا وإن كان فقيرًا؛ ولهذا قال لهما: "ولا حق فيها لقوي مكتسب" أي: ولا حق له فيها حتى يكون به من أهلها حقًّا وهو قوي مكتسب، ولولا أنه يجوز للنبي - عليه السلام - إعطاؤه للقوي المكتسب إذا كان فقيرًا لما قال لهما: دن شئتما فعلت" وهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار؛ لأنها إن حملت على ما حملها عليه أهل المقالة الأولى؛ ضادت سواها مما قد روي عن رسول الله - عليه السلام -، فمن ذلك: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن قال: "نزلتُ دار أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بالمدينة فضمني وإياه المجلس، فقال: أصبحوا فات يوم وقد عصَّب على بطنه حجرًا من الجوع، فقالت له أمرأته أو أمه: لو أتيت النبي - عليه السلام - فسألته، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقلت: لا والله حتى أطلب، فطلبت فلم أجد شيئًا، فاستبقت

إليه وهو يخطب وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه، ومن استعف عنا واستغنى أحب إلينا ممن سألنا. قال: فرجعت فما سألت أحدًا بعد، فما زال الله يرزقنا حتى ما أعلم أهل بيت في المدينة أكثر أموالًا منا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن هلال بن مرة، عن أبي سعيد، قال: "أعوزنا مرةً فأتيت النبي - عليه السلام - فذكرت ذلك له، فقال النبي - عليه السلام -: مَن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومَن سألنا أعطيناه. قال: قُلتُ فلأستعففن فيعفَّني الله، ولأستغنين فيغنيني الله، قال: فوالله ما كان إلا أيام حتى إن رسول الله - عليه السلام - قسم زبيبًا فأرسل إلينا منه، ثم قسم شعيرًا فأرسل منه، ثم سالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن هلال بن حِصن -أخي بني مرة بن عُبَاد- عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. قال ابن أبي داود: هذا هو الصحيح. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا رسول الله - عليه السلام - يقول: "مَن سألنا أعطيناه" ويخاطب بذلك أصحابه، وأكثرهم صحيح لا زمانة به إلا أنه فقير، فلم يمنعهم منها، فقد دل ذلك على ما ذكرنا، وفضل من استعف ولم يسأل على مَن سأل، فلم يسأله أبو سعيد لذلك، ولو سأله لأعطاه، إذ قد كان بذل ذلك له ولأمثاله من الصحابة - رضي الله عنهم -. ش: أي: فالدليل للجماعة الآخرين وهم أهل المقالة الثانية "عليهم" أي على أهل المقالة الأولى. وأراد بذلك الجواب عما استدلوا به من حديث عبيد الله بن عدي عن رجلين من الصحابة وهو ظاهر.

قوله: "وأما قوله: ولا لقوي مكتسب ... إلى آخره" فأول بما أول قوله: "ولا لذي مرة سوي" وهو أيضًا ظاهر. قوله: "ولولا أنه يجوز". أي: ولولا أن الشأن يجوز، أراد أن قوله - عليه السلام -: "إن شئتما فعلت" يدل على جواز إعطاء الصدقة للقوي المكتسب؛ إذ لو لم يجز لما قال ذلك؛ وذلك لأنه فقير وإن لم يكن جمع أسباب التكامل في الفقر على ما قلنا فيما مضى. قوله: "وهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار ... إلى آخره" جواب عما يقال: ما الداعي إلى هذا التأويل الصارف عن المعنى الظاهر؟ تقريره أن يقال: إن لم تأول هذه الأحاديث بما ذكرنا من التأويل يلزم التضاد والتعارض بينها وبن أحاديث أخر رويت في هذا الباب، منها حديث أبي سعيد الخدري فإن فيه يقول - عليه السلام -: "مَن سأل أعطيناه" ويخاطب بذلك أصحابه، ومع هذا كان أكثرهم أصحاء لا زمانة بهم قادرين على الاكتساب إلا أنهم كانوا فقراء فلم يمنعهم من الصدقة، فقد دل ذلك على أن القوي المكتسب تحل له الصدقة ولكن باعتبار جهة الفقر؛ لأنه فيه كسائر الفقراء، وبهذا تتوافق معاني الآثار ويرتفع التضاد، فالحاصل أن حديث أبي سعيد دل على شيئين: أحدهما: جواز دفع الصدقة للقوي المكتسب بالنظر إلى فقرة. وأما معنى قوله في حديث عبيد الله بن عدي: "ولا لقوي مكتسب" يعني: بالنظر إلى قدرته على الاكتساب كما ذكرنا فيما مضى. والآخر: يدل على فضل من استعف وترك السؤال على مَن سأل، فلأجل ذلك ترك أبو سعيد السؤال، ولو سأل رسول الله - عليه السلام - لأعطاه ولما منعه؛ لأنه قد أعطى لأمثاله من الصحابة - رضي الله عنهم -. ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني الأزدي البصري روى له الجماعة، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي

المعجمة- القصاب بياع القصب واسمه عمران بن أبي عطاء، وثقه يحيى بن معين وابن حبان، وروى له مسلم، عن هلال بن حِصْن -بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين- وثقه ابن حبان، عن أبي سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، قال: سمعت أبا حمزة يحدث، عن هلال بن حصن قال: "نزلت دار أبي سعيد الخدري، فضمني وإياه المجلس، فحدثني أنه أصبح ذات يوم وقد عصَّب على بطنه من الجوع. قال: فأتيت النبي - عليه السلام - فأدركت من قوله وهو يقول: مَن يستعف يعفه الله، ومَن يستغن يُغنه الله، ومَن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه، ومن يستغن أو يستعف عنا خير من أن يسألنا. قال: فرجعت فما سألت شيئًا". الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال الضرير الحافظ البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زُريع العيشي البصري، عن سعيد بن أبي عروبة مهران، عن قتادة بن دعامة، عن هلال بن مرة، عن أبي سعيد. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن المقدام العجلي، قال: نا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث، عن قتادة، عن هلال أخي بني مرة بن عُبَاد، عن أبي سعيد الخدري. ونا هدبة بن خالد، نا أبان بن يزيد، عن قتادة، قال: حدث هلال بن حصن أخو بني مرة بن عُبَاد وهو رجل من أهل البصرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "أعوزنا مرة إعوازًا شديدًا فأمرني أهلي أن آتي رسول الله - عليه السلام - فأسأله شيئًا، فأقبلت فكان أول ما سمعت نبي الله - عليه السلام - يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعفف أعَفَّه الله، ومَن سألنا لم ندخر عنه شيئًا إن وجدناه. قال: قلت في نفسي: لأستعفن فيعفني الله فلم أسأله شيئًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 426 رقم 10689).

ولا نعلم أسند هلال بن حصن عن أبي سعيد إلا هذا الحديث. وقد رواه عن قتادة جماعة فاقتصرنا على التيمي وأبان. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي أيضًا، عن محمَّد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن هلال بن حصن أخي بني مرة بن عُبَاد، عن أبي سعيد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن جعفر وحجاج، قالا: ثنا شعبة، سمعت أبا حمزة يحدث، عن هلال بن حصن قال: "نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس، قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجرًا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه: ائت النبي - عليه السلام - فسله فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه وأتاه فلان فسأله فأعطاه. قال: قلت: حتى ألتمس شيئًا. قال: فالتمست فأتيته -قال حجاج: فلم أجد شيئًا فأتيته -وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول: من استعف يعفه الله ومن استغن يغنه الله، ومَن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه -أبو حمزة الشاكّ- ومَن يستعف عنا أو يستغني أحبّ إلينا ممن سألنا. قال: فرجعت فما سألته شيئًا، فما زال الله -عز وجل- يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالًا منا". قوله: "المجلس" مرفوع؛ لأنه فاعل لقوله: "فضمني". قوله: "لا والله حتى أطلب" أي: لا أسأل والله رسول الله - عليه السلام - حتى أطلب شيئًا من غير هذا الوجه، فطلبت فلم أجد شيئًا. قوله: "وهو يخطب". جملة اسمية وقعت حالًا، وكذلك قوله: "وهو يقول". قوله: "إما أن نبدل له" أي: إما أن نعطي له، من البذل وهو العطاء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 44 رقم 11419).

قوله: "وإما أن نواسيه". شك من أبي حمزة الراوي كما صرح به في رواية أحمد، وهو من المواساة، وأصله من قولهم: آسيته بمالي مواساة. قال الجوهري: وواسيته لغة ضعيفة فيه، ومادة هذه الكلمة: ألف وسين وألف. قوله: "ومَن يستعف عنا" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "أحب إلينا". قوله: "أعوزنا" أي: افتقرنا. قال الجوهري: الإعواز: الفقر، والعوز: العدم، وأعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه، والمعوز: الفقير، وعوز الشيء عوزًا إذا لم يوجد، وعوز الرجل وأعوز افتقر وأعوزه الدهر: أحوجه. قوله: "قال ابن أبي داود: هذا هو الصحيح". أراد أن ما رواه هشام، عن قتادة، عن هلال بن حصن أخي بني مرة بن عباد هو الصحيح، وما رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن هلال بن مرة غير صحيح. أراد أن نسبة هلال إلى حصن هو الصحيح، ونسبته إلى مرة غير صحيح، وإنما حصن أخو بني مرة بن عُباد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- فافهم. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا من غير هذا الوجه ما يدل على ما ذكرنا. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نُعيم، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول: "أَمَّرني رسول الله - عليه السلام - على قومي، فقلت: يا رسول الله أعطني من صدقاتهم ففعل، وكتب لي بذلك كتابًا، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله أعطني من الصدقة. فقال رسول الله - عليه السلام -: ان الله -عز وجل- لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو من السماء، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتك منها". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا الصدائي قد أمَّره رسول الله - عليه السلام - على قومه ومحال أن يكون أمره وبه زمانة، ثم قد سأله من صدقة قومه وهي زكواتهم فأعطاه منها، ولم

يمنعه منه لصحة بدنه، ثم سأله الرجل الآخر بعد ذلك، فقال له رسول الله - عليه السلام -: إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم أعطيتك منها، فرد رسول الله - عليه السلام - بذلك حكم الصدقات إلى ما ردها الله -عز وجل- بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬1). الآية. فكل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة الذين جعلها الله -عز وجل- لهم في كتابه، ورسوله في سنته زمِنًا كان أو صحيحًا، وكان أولى الأشياء بنا في الآثار التي رويناها عن رسول الله - عليه السلام - في الفصل الأول من قوله: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" ما حملناها عليه؛ لئلا يخرج معناها من الآية المحكمة التي ذكرنا، ولا من هذه الأحاديث الآخر التي روينا، ويكون معنى ذلك كله معنى واحدًا يصدق بعضه بعضًا. ش: ذكر حديث زياد بن الحارث الصدائي شاهدًا لما ذكره من التأويل في الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، ولكونه موافقًا في المعنى لحديث أبي سعيد الخدري. بيان ذلك: أن زياد بن الحارث كان ذا مرة سويًّا ولم تكن به زمانة، وقد أمَّره رسول الله - عليه السلام - على قومه وجعل له من صدقاتهم شيئًا، فهذا أدل دليل على صحة التأويل المذكور. ثم لما سأل رسول الله - عليه السلام - ذلك الرجل الآخر قال له - عليه السلام -: "إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم -يعني الأصناف الذين قسم الله الصدقة فيهم- أعطيتك منها" وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) الآية، فبيَّن الله تعالى أن كل مَن صدق عليه اسم صنف من تلك الأصناف يكون من أهل الصدقة الذين أثبت الله لهم في كتابه ورسوله في سنته سواء كان زمنًا أو صحيحًا؛ لأن الله تعالى ذكر مطلِقًا ولم يقيد إلا كونه من أهل تلك الأصناف كما هو ظاهر لا يخفى فمتى ما حمل معنى الأحاديث المذكورة في استدلال أهل المقالة الأولى على ما ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [60].

حملوه عليه يخالف معناها معنى الآية الكريمة ومعنى الأحاديث الآخر، فإذا حملتا على ما ذكرنا من التأويل تتفق معاني الكتاب والأحاديث كلها، ويصدق بعضها بعضًا، أشار إلى ذلك كله بقوله: "وكان أولى الأشياء بنا ... إلى آخره". قوله: "قد أمَّره". بتشديد الميم، أي: جعله أميرًا. قوله: "ومحال". مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ تقدم عليه، وهو قوله: "أن يكون"، "وأن" مصدرية تقديره: وكون تأمير النبي - عليه السلام - إياه والحال أن به زمانة محال. ثم إنه أخرج حديث زياد بن الحارث عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم -بضم العين- الإفريقي قاضيها، ضعفه الترمذي والنسائي، وقال ابن خراش: متروك. وعن أحمد: ليس بشيء. وعنه: منكر الحديث. قال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق رجل صالح. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن زياد بن نعيم، وهو زياد بن ربيعة بن نعيم بن ربيعة بن عمرو الحضرمي المصري، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له هؤلاء هذا الحديث الواحد. عن زياد بن الحارث الصُّدَائي الصحابي، ونسبته إلى صُداء -بضم الصاد وتخفيف الدال- وهو حيٌّ من اليمن. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عبد الله -يعني ابن عمر بن غانم- عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي، قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - فبايعته ... " فذكر حديثًا طويلًا: "فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله - عليه السلام -: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 117 رقم 1630).

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) مطولًا: ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فبايعته، فبلغني أنه يريد أن يرسل جيشًا إلى قومي. فقلت: يا رسول الله ردَّ الجيش وأنا لك بإسلامهم وطاعتهم. فقال: افعل، فكتبت إليهم، فأتى وفدٌ منهم النبي - عليه السلام - بإسلامهم وطاعتهم، فقال: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك. قلت: بك هداهم الله وأحسن إليهم، قال: أفلا أؤمرك عليهم؟ قلت: بك، فأمَّرني عليهم فكتب لي بذلك كتابًا، وسألته من صدقاتهم ففعل، وكان النبي - عليه السلام - في بعض أسفاره، فنزلنا منزلًا فأعرسنا من أول الليل فلزمته، وجعل أصحابه ينقطعون حتى لم يبق معه رجل منهم غيري، فلما تحين الصبح أمرني فأذَّنت، ثم قال لي: يا أخا صداء معك ماء؟ قلت: نعم، قليل لا يكفيك، قال: صبه في الإناء ثم ائتني به، فأتيته به، فأدخل يده، فيه فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينًا تفور، قال: يا أخا صداء، لولا أني أستحيي من ربي لسقينا واستقينا، نادِ في الناس: مَن كان يريد الوضوء، قال: فاغترف من اغترف، وجاء بلال ليقيم، فقال النبي - عليه السلام -: إن أخا صداء أذَّن ومن أذَّن فهو يقيم، فلما صلى الفجر أتاه أهل المنزل يشكون عاملهم ويقولون: يا رسول الله حدثنا بما كان بيننا وبين قومنا في الجاهلية، فالتفت إلى أصحابه وأنا فيهم وقال: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، فوقعت في نفسي، وأتاه سائل فسأله فقال: من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن، قال: فأعطني من الصدقات، فقال: إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جعلها ثمانية أجزاء، فإن كنت منهم أعطيتك حقك، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله أقِل إمارتك فلا حاجة لي فيها. قال: ولمَ؟ قلت: سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، وقد آمنت، وسمعتك تقول: مَن سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن، وقد سألتك وأنا غني، قال: هو ذاك فإن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 262 رقم 5285).

شئت فخذ وإن شئت فدع. قلت: بل أدع، قال: فدلني على رجل أولِّيه، فدللته على رجل من الوفد فولاه، قالوا: يا رسول الله إن لنا بئرًا إذا كان الشتاء وسِعَنا ملؤها فاجتمعنا عليه، وإذا كان الصيف قلَّ وتفرقنا على مياه حولنا، وإنا لا نستطيع اليوم أن نتفرق، كل مَن حولنا عدو، فادع الله يسعُنا ماؤها، فدعى بسبع حصيات ففركهن في كفيه ثم قال: إذا أتيتموها فألقوا واحدةً واحدةً واذكروا اسم الله، فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعد. انتهى. وقال الخطابي: في قوله: "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". دليل على أنه لا يجوز حكم جمع الصدقة كلها في صنف واحد، وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم، ولو كان في الآية بيان الجُمَل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى، ويدل على صحة ذلك قوله: "أعطيتك حقك" فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقًّا. وإلى هذا ذهب عكرمة، وهو قول الشافعي. وقال إبراهيم النخعي: إذا كان المال كثيرًا يحتمل الأجزاء قَسَّمه على الأصناف، وإذا كان قليلًا جاز أن يضع في صنف واحد. وقال أحمد بن حنبل: تفريقه أولى، ويجزئه أن يجعله في صنف واحد. وقال أبو ثور: إن قسمه الإِمام قسمه على الأصناف الثمانية. وإن تولى قسمَه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه. وقال مالك بن أنس: يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الفاقة والخلة، فإن رأى الخلَّة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر أكثر حولها إليهم. وقال أصحاب الرأي: هو غير يضعه في أي الأصناف شاء. قلت: كذلك قال الثوري، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح، ويروى ذلك عن ابن عباس.

روى الطبري (¬1) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬2) الآية: أنا عمران بن عيينة عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (2) الآية، قال: "في أي صنف وضعته أجزأك". وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) عن جرير، عن ليث، عن عطاء، عن عمر بن الخطاب أنه قال: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (2) الآية. قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك". وكذلك أخرج (¬4) عن حذيفة وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد صحيحة. ولا نسلم صحة ما ادعاه الخطابي؛ لأن قول - عليه السلام -: "فإن كنت من تلك الأجزاء ... " الحديث. يبين أنه إن كان موصوفا بما وصف به أحد الأصناف الثمانية فإنه يستحق من الصدقات شيئًا؛ لأن الآية لبيان الأصناف التي يتعين الدفع إليهم دون غيرهم، وليس فيها ما يقتضي حصرها عليهم جملة واحدةً فافهم. وقال الخطابي أيضًا: إن في قوله: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها" دليلًا على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين: أحدهما: ما تولى الله بيانه في كتابه العزيز وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي - عليه السلام - وبيان شهادة الأصول. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (10/ 167). (¬2) سورة التوبة، آية: [60]. (¬3) لم أجده في "المصنف" بهذا الإسناد، وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 397) للطبري في تفسيره، وهو في تفسير الطبري (10/ 166)، ولعله سبق قلم من المصنف -رحمه الله-، أو يكون هذا الإسناد قد سننه من النسخة المطبوعة، والله أعلم. (¬4) "تفسير الطبري" (10/ 167)، وكذا أخرج عنهم ابن أبي شيبة في "مصنفة" (2/ 405 رقم 10445 - 10455).

والوجه الآخر: ما ورد ذكره في الكتاب مجملًا ووُكِل بيانه إلى النبي - عليه السلام - فهو يفسره قولًا وفعلًا أو يتركه على إجماله ليبينه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطًا واعتبارًا بدلائل الأصول، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى وعن رسوله - عليه السلام -. ص: ثم قد روى قبيصة بن المخارق عن النبي - عليه السلام - ما قد دل على ذلك أيضًا. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن هارون بن رئاب، عن كنانة بن نُعيم، عن قبيصة بن المخارق: " [أنه تحمل بحمالة، فأتى النبي - عليه السلام - فيها، فقال: نخرجها عنك من إبل الصدقة أو نَعم الصدقة، يا قبيصة إن] (¬1) المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت بماله فحلت له المسألة حتى يُصيب قِوامًا من عيش أو سِدادًا من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن قد حلت له المسألة، حتى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن هارون بن رئاب، عن كنانة بن نعيم العدوي، عن قبيصة بن المخارق، عن النبي - عليه السلام - نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب ... فذكر بإسناده مثله. وزاد: "رجل تحمل حمالة عن قومه أراد بها الإصلاح". فأباح رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث لذي الحاجة أن يسأل لحاجته حتى يصيب قِوامًا من عيش أو سِدادًا من عيش، فدل ذلك أن الصدقة لا تحرم بالصحة إذا أراد بها الذي تُصدق بها عليه سد فقره، وأنها تحرم عليه إذا كان يريد بها غير ذلك من التكثر ونحوه، ومَن يريد بها ذلك فهو ممن يطلبها لسوى المعاني الثلاثة التيم ذكرها رسول الله - عليه السلام - في حديث قبيصة الذي ذكرنا، فهي عليه سحت. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي: قد روى قبيصة عن النبي - عليه السلام - ما قد دل على ما ذكرنا من التأويل في قوله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي"، وفي قوله - عليه السلام -: "ولا لقوي مكتسب". وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: موقوف، إسناده صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن هارون بن رِئَاب -بكسر الراء بعدها همزة وفي آخره باء موحدة- التميمي أبي الحسن البصري، وثقه النسائي وغيره، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. عن كنانة بن نعيم العدوي أبي بكر البصري، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له هؤلاء المذكورون عن قبيصة [بن] (¬1) المخارق الهلالي الصحابي رضي الله عنه. الثاني: مرفوع بإسناد على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن هارون ... إلى آخره. وروي أيضًا عن حماد بن سلمة، عن هارون. وأخرجه مسلم (¬2) ثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد -قال يحيى: أنا حماد بن زيد- عن هارون بن رئاب، قال: حدثني كنانة بن نعيم العدوي، عن قبيصة بن مخارق الهلالي، قال: "تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - عليه السلام - أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجل من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها سحتًا". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 722 رقم 1044).

الثالث: أيضًا مرفوع بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب ... إلى آخره. وأخرج أبو داود (¬1): عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن هارون بن رئاب ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وأخرجه النسائي (¬2) والدارقطني (¬3) والطبراني (¬4) وابن أبي شيبة (¬5) نحوه أيضًا. قوله: "رجلٌ" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأول: رجل. قوله: "تحمل حمالةً" الحمالة -بفتح الحاء وتخفيف الميم-: هي المال الذي يتحمله الإنسان أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البَيْن، كالإصلاح بين القبيلتين ونحو ذلك. وقال الخطابي: الحمالة: الكفالة، والحميل: الكفيل والضمين، وتفسير الحمالة: أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، وتجذب بسببه العداوة والشحناء، ويخاف منها الفتن العظيمة، فيتوسط الرجل بينهم ويسعى في إصلاح ذات البَيْن ويضمن ما لأصحاب الدم أو المال يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة. فهذا رجل صنع معروفًا وابتغى بما أتاه إصلاحًا، فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله، ولكن يُعان على أداء ما تحمله منه، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ به ذمته ويخرج عن عهدة ما تضمنه. قوله: "ثم يمسك" عن السؤال. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 120 رقم 1640). (¬2) "المجتبى" (5/ 89 رقم 2580). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 19 رقم 1). (¬4) "المعجم الكبير" (18/ 371 رقم 948). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 426 رقم 10685).

قوله: "جائحة" بالجيم أولًا ثم بالحاء المهملة، وهي في غالب العرف ما ظهر أمره من الآفات كالسَّيْل يغرق متاعه، والنار تحرقه، والبرد يفسد زرعه وثماره، ونحو ذلك. فإذا أصاب الرجل شيء من ذلك وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها. قوله: "قِوامًا" بكسر القاف وهو ما يقوم بحاجته ويستغني به. و"السداد": بكسر السين المهملة: ما يُسد به خلته، والسِّداد -بالكسر أيضًا- كل شيء سددت به حالًا، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، والسَّداد بالفتح إصابة المقصد. قوله: "حاجة" أي: فقر وفاقة. قوله: "من ذوي الحجى". بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصور، وهو العقل، وقال النووي: إنما شرط الحجى تنبيهًا على أنه يشترط في الشاهد التيقظ، فلا يقبل من مغفل، وأما اشتراط الثلاثة فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار فلا يقبل إلا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث. وقال الجمهور: يُقبل مِن عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب، وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلا ببينة، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال. وقال الخطابي.: وليس هذا من باب الشهادة لكن من باب التبين والتعرف؛ وذلك لأنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه أو جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه: إنه صادق فيما يدَّعيه؛ أعطي الصدقة. قلت: الصواب ما قاله الخطابي؛ لأنه أراد أن يخرج بالزيادة عن حكم الشهادة إلى طريق انتشار الخبر واشتهاره، وأن القصد بالثلاثة ها هنا الجماعة التي أقلها أقل الجمع لا نفس العدد.

قوله: "من قومه" إنما قال هذا لأن قومه من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يخفى في العادة فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه. قوله: "فهو سحت" أي: حرام. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن السؤال عند عدم الحاجة حرام وأخذه سحت. الثاني: أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يُعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس فيه حد معلوم. الثالث: أن مجرد دعوى الإعسار لا تقبل، اللهم إلا إذ كان مشهورًا بين قومه بالفقر والفاقة؛ فإن القول قوله حينئذٍ. الرابع: فيه دليل على وجوب المساعدة من أصحاب الأموال والنظر في حق من ابتلي بالحاجة، أو أصيب بالجائحة، أو تحمل بالحمالة. الخامس: أنه يدل على أن الصدقة تحل للفقير الصحيح القادر على الاكتساب؛ لأنه لم يشترط في هذه الصور الثلاث التي يحل فيها السؤال: أن يكون السائل عاجزًا عن الكسب لأجل الزمانة ونحوها، وإليه أشار بقوله: فأباح رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث ... إلى آخره. قوله: "فدل ذلك أن الصدقة" أي: دلَّ ما أباحه النبي - عليه السلام - من السؤال لذي الحاجة إلى أن يصيب قوامًا من عيش أو سداد من معيشة على أن الصدقة لا تحرم بالصحة والقدرة على الاكتساب، ولكن بشرط أن يكون مراد المتصدق عليه: سدّ الفقر ودفع الحاجة، وأما إذا أراد بها التكثر والتجمل وغير ذلك فهو حرام؛ لأنه يكون ممن يطلب الصدقة لغير المعاني الثلاثة المذكورة في الحديث. ص: وقد روى سمرة - رضي الله عنه -، مثل ذلك عن رسول الله - عليه السلام -.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سمرة بن جندب، عن النبي - عليه السلام - قال: "المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومَن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو يسأل [في] (¬1) أمرٍ لا يجد منه بدًّا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عَوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد أباح هذا الحديث المسألة في كل أمرٍ لا بد من المسألة فيه، فدخل في ذلك ما أبيحت فيه المسألة في حديث قبيصة، وزاد هذا الحديث عليه ما سوى ذلك من الأمور التي لا بد منها، وفي ذلك إباحة المسألة بالحاجة الخاصة لا بالزمانة. ش: أي: قد روى سمرة بن جندب - رضي الله عنه - حديث قبيصة بن المخارق في دلالته على عدم تقييد جواز السؤال بزمانة ونحوها، بل زاد سمرة في حديثه على حديث قبيصة، فإن حديثه أباح المسألة في كل أمر لا يجد منه بدًّا، فقد دخل فيه ما في حديث قبيصة وزاد عليه ما هو من الأمور التي لا بد منها، وفي هذا أيضًا إباحة السؤال بالحاجة خاصةً لا بالزمانة ونحوها، فافهم. ثم إنه أخرج حديث سمرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مُسلم الصفار، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير بن سُويد القرشي الكوفي، عن زيد بن عقبة الفزاري وثقه العجلي والنسائي وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي والترمذي. عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر النمري، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه الترمذي (¬2) وقال: حديث حسن صحيح. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا وكيع، نا سفيان وابن جعفر، قالا: نا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن هذه المسائل كدّ يكد بها أحدكم وجهه، وقال ابن جعفر: كدوح يكدح بها الرجل إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا بد منه". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي، روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬5): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبوالنعمان، ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "هذه المسائل كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًّا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 199 رقم 1639). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 65 رقم 681). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 19 رقم 20232). (¬4) "المجتبى" (5/ 100 رقم 2599). (¬5) "المعجم الكبير" (7/ 183 رقم 6769).

قوله: "المسائل" مبتدأ، وخبره قوله: "كدوح". أي: كدوح في وجهه، كما في حديث آخر: "جاءت مسألته كدوحًا في وجهه" (¬1). فإن قيل: كيف تكون عين المسائل كدوحًا؟ قلت: التقدير: المسائل جالبة للكدوح، فلما كانت المسائل جالبة للكدوح قطعًا جعلت عين الكدوح للمبالغة، كما في قولهم: رجل عدل. والكدوح: جمع كدح، وهو كل أثرٍ من خدشٍ أو عضٍّ، ويجوز أن يكون مصدرًا سمي به الأثر، فعلى هذا تقدير الكلام: المسائل كادحة، ذُكر المصدر وأريد به الفاعل للمبالغة. فإن قيل: ما معنى تخصيص الوجه بالذكر من بين سائر الأعضاء؟ قلت: لأن السائل أول ما يستقبل بوجهه فلذلك اختص بهذا الفعل؛ ولأن الكدوح في الوجه أبشع وأفظع. قوله: "إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان" أي: ذا يد وقوة، مثل الخلفاء والملوك ومَن يلي من جهتهم. قوله: "لا يجد منه بدًّا" أي: فراقًا أراد أمرًا لا يستغني عنه. ويستفاد منه: حرمة السؤال لغير الحاجة والضرورة، وأنه حرامٌ وعذابٌ يوم القيامة. وجواز السؤال من ذي سلطان وإن كان غنيًّا. قال الخطابي: وهو أن يسأل حقه من بيت المال الذي في يده، وليس هذا على معنى استباحة الأموال التي تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أموال الناس. قلت: اللفظ عام، يدل على أن الرجل إذا سأل سلطانًا ومَن في معناه يباح له ذلك، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1/ 589 رقم 1840)، وأحمد في "مسنده" (1/ 441 رقم 4207) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

سواء كان حقه من بيت المال أو من غيره بعد أن يعرف أن غالب أمواله من وجه حِلّ، وكذلك يجوز قبول هدية السلاطن والأمراء إذا كان غالب أموالهم حلالًا. وأما إذا كان غالب أموالهم حرامًا أو كلها لا يجوز السؤال منهم ولا قبول هديتهم. ص: وقد روي عن أنس، عن النبي - عليه السلام - في هذا المعنى ما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك، أن رجلًا من الأنصار أتى النبي - عليه السلام - فسأله، فقال: إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لغرم موجع، أو دمٍ مفظع، أو فقر مدقع". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وكل هذه الأمور مما لا بد منه، فقد دخل ذلك أيضًا في معنى حديث سمرة. ش: أي: قد روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في معنى حديث سمرة، لأن الأشياء الثلاثة المذكورة في حديث أنس داخلة في قوله: "أوْ يسأل في أمرٍ لا يجد منه بدًّا" في حديث سمرة، غاية ما في الباب صرَّح في حديث أنس ببعض عَمَّ في حديث سمرة إما لكثرة وقوعها، وإما لشدة أمرها أو نحو ذلك. ثم إنه أخرج حديث أنس بإسناد حسن عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري شيخ البخاري، عن الأخضر بن عجلان الشيباني البصري وثقه ابن معين، وضعفه الأزدي، وقال أبو حاتم: ليس بمشهور (¬1)، وروى له الأربعة. عن أبي بكر الحنفي الكبير واسمه عبد الله، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة عن مالك بن أنس. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ولم أجد هذا القول لأبي حاتم، وإنما قال فيه: يكتب حديثه، كذا في "الجرح والتعديل" (2/ 340) وكذا هو عند كل من نقل عنه مثل "تهذيب الكمال"، و"تهذيبه"، و"الميزان" وغير ذلك.

وأخرجه أبو داود (¬1) مطولًا: ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عيسى بن يونس، عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رجلًا من الأنصار أتى النبي - عليه السلام - يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بضعه ونبتسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء. قال: ائتني بهما. فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - عليه السلام - بيده وقال: مَن يشتري هذين؟ قال رجل: أنا أخذهما بدرهم، قال مَن يزيد علي درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- فقال رجل: آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني بها. فأتاه بها، فشد فيه رسول الله - عليه السلام - عودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، فقال رسول الله - عليه السلام -: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع". وأخرجه الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4). وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان. قوله: "إلا لثلاث" أي: لثلاث خلال. قوله: "لِغُزم موجع" الغُرم -بضم الغين وسكون الراء- وهو الدَّيْن ونظير ذلك في الوزن العُدْم -بضم العين وسكون الدال- وهو الفقر، وكذلك العَدَم -بفتحتين- وهما كالرُّشْد والرَّشَد والحُزْن والحَزَن. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 120 رقم 1641). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 522 رقم 1218). (¬3) "المجبتى" (7/ 259 رقم 4508). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 740 رقم 2198).

وأما كون الغرم موجعًا فظاهر؛ لأن المديون دائمًا موجوع القلب. قوله: "أو دم مفظع" من أفظع، يقال: أفظعني الأمر إذا اشتد علي، والأمر الفظيع هو الشديد والشنيع الذي جاوز المقدار، وكون الدم فظيعًا شديدًا ظاهر. قوله: "أو فقر مدقع" من أَدْقع من الدَّقع، وهو الفقر الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده ما يقيه من التراب. وقال ابن الأعرابي: الدقع: سُوء احتمال الفقر. ص: وقد روي عن أبي سعيد الخدري في ذلك أيضًا ما حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لغني إلا أن تكون في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو يكون له جار فيتصدق عليه فيهدي له أو يدعوه". حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي - عليه السلام - مثله. فأباح رسول الله - عليه السلام - الصدقة للرجل إذا كان في سبيل الله أو ابن السبيل، فقد أجمع ذلك الصحيح وغير الصحيح؛ فدل ذلك أيضًا على أن الصدقة إنما تحل بالفقر، كانت معه الزمانة أو لم تكن. ش: أي: وقد روي عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري، عن النبي - عليه السلام - فيما ذكرنا من أن الصحة والقدرة على الكسب لا تمنع حلّ الصدقة إذا كان سؤاله عن حاجة. وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان القسري الكوفي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي إسحاق الفزاري واسمه إبراهيم بن محمَّد بن

الحارث الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن عمران البارقي وثقه ابن حبان، وروي له أبو داود عن عطية بن سعد بن جُنادة العوفي ضعفه النسائي وأحمد وأبو حاتم، وعن يحيى: صالح. وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن عوف الطائي، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه، فيهدي لك أو يدعوك". والثاني: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعن يحيى: ليس بذاك. وعنه لين. روى له الأربعة. عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا وكيع، نا ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله، وابن السبيل، ورجل كان له جار فتصدق عليه، فأهدى له". قوله: "في سبيل الله" هو منقطع الغزاة عند أبي يوسف؛ لأنه المتفاهم عند الإطلاق وعند محمَّد: منقطع الحاج. قوله: "أو ابن السبيل" وهو مَن له مال في وطنه وهو في مكان لا شيء له فيه، وإنما سمي ابن السبيل لأنه لزم السفر، ومَن لزم شيئًا نُسب إليه، كما يقال: ابن الغني وابن الفقير. قوله: "فَيُتَصدق عليه" على صيغة المجهول. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 119 رقم 1637). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 31 رقم 11286).

قوله: "فيهدي" أي: فيهدي ذلك الجار الذي يتصدق عليه له -أي: للغني- أو يدعوه إلى ضيافته. قوله: "فقد أباح رسول الله - عليه السلام - ... إلى آخره" بيانه: أنه - عليه السلام - أباح الصدقة لمن يكون في سبيل الله أو ابن السبيل، ولم يقيد ذلك بالصحة، بل جمع بين الصحيح وغيره؛ فدلَّ ذلك أن الصدقة إنما تحل للفقر سواء كانت معه زمانة أو لم تكن، وقد ذكر في هذا الحديث ثلاثة أصناف: الأولان: يجوز لهما أخذ الصدقة وإن كانا غنيين في الواقع، ولكنهما فقيران في الحال. وأما الثالث: فكذلك يجوز له أخذ الصدقة وإن كان غنيًّا؛ لأنها خرجت من ملك المتصدق بقبول الفقير، فخرجت عن حكم سائر الصدقات، فحل للغني حينئذٍ أن يقبل ذلك إذا أهدي إليه، أو يأكل منها أن عُزِم عليه، فافهم. ص: وقد روي عن وهب بن خَنْبَش، عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا أبو أمية، قال: ثنا المعلى بن منصور، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أخبرني مجالد، عن الشعبي، عن وهب قال: "جاء رجل إلى رسول الله - عليه السلام - وهو واقف بعرفة، فسأله رداءه فأعطاه إياه، فذهب به، ثم قال النبي - عليه السلام -: إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع، أو غرم مُفظِع، ومن سأل الناس ليثري به ماله، فإنه خموشٌ في وجهه، ورضفٌ يأكله من جهنم إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير". فأخبر النبي - عليه السلام - أيضًا في هذا الحديث: أن المسألة تحل بالفقر والغرم، فذلك دليل على أنها تحل بهذين المعنيين خاصةً ولا يختلف في ذلك حال الزمن وغيره. ش: أخرج هذا أيضًا شاهدًا لما ذكره من أن المسألة تحل بالفقر ولا تقيد بالزمانة ونحوها. عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن المعلى بن منصور الرازي

أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، والبخاري روى عنه في غير "الصحيح" وله ذكر في كتاب "الهداية". عن يحيى بن سعيد القطان روى له الجماعة، عن مجالد بن سعيد الكوفي، فيه مقال؛ فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف واهي الحديث. وقال النسائي: ثقة. روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة. عن عامر الشعبي، عن وهب، قيل: هذا هو وهب بن خَنْبَش الطائي الكوفي الصحابي، وممن صرَّح بذلك الطحاوي على ما يأتي، وقيل: وهب هذا غير منسوب. والدليل عليه ما أخرجه أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" (¬1) في ترجمة وهب بن خنبش: ثنا أبو خيثمة، ثنا وكيع، ونا زيد بن أخزم، ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قالا: نا سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن وهب بن خَنْبش، عن النبي - عليه السلام - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة". ثم قال: وهب -ولم يُنْسَب- حدثني ابن الأموي، حدثني أبي، عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن وهب قال: "جاء أعرابي إلى النبي - عليه السلام - وهو واقف بعرفة فسأله رداءه ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "إلا مِن فقر مدقع أو غرمٍ مفظع" قد مرَّ تفسير ذلك عن قريب. قوله: "لُيثْري" من الإثراء، وهوَّ الإكثار، ومعناه: ومن سأل الناس ليكثر بسؤاله ماله، والثروة: العدد الكثير. وفي الحديث: "ما بعث الله نبيًّا بعد لوط - عليه السلام - إلا في ثروة من قومه" (¬2). ¬

_ (¬1) "معجم الصحابة" (3/ 177 - 178 رقم 1151). (¬2) أخرجه الترمذي في "جامعه" (3/ 293 رقم 3116)، أحمد في "مسند" (2/ 332 رقم 8373)، وابن حبان في "صحيحه" (14/ 86 رقم 6206)، والحاكم في "مستدركه" (2/ 611 رقم 4054) كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وصححه الحاكم على شرط مسلم.

قوله: "فإنه خموش" أي فإن سؤاله خموش في وجهه يوم القيامة، والخموش إما جمع خَمَش، أو مصدر من خَمَشَت المرأة وجهها تَخْمِشُه خَمْشا وخُموشًا إذا خدشت، وهو من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، ثم إن جعلناه جمعًا يكون المعنى: فإن سؤاله يصير خموشًا في وجهه، وإن جعلناه مصدرًا يكون المعنى: فإن سؤاله خامشٌ وجهه يوم القيامة، فأفهم. قوله: "ورَضْفٌ" بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة، وهو الحجارة المحماة على النار. قوله: "من جهنم" كلمة "من" فيه بيانية. قوله: "إن قليل فقليل" مرفوعان بمحذوف، تقديره: إن وجد من سؤاله قليل فجزاؤه من الخمش وأكل الرضف قليل، فيكون ارتفاع "قليلٌ" الأول بالفاعلية، وارتفاع "قليلٌ" الثاني بأنه خبر مبتدأ محذوف، وكذلك الكلام في إعراب قوله: "وإن كثير فكثير" ويجوز فيه النصب "القليل" الأول "والكثير" الأول، والمعنى: إن كان سؤاله قليلًا فجزاؤه قليل، وإن كان كثيرًا فكثير نحو قولهم: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مُخَوَّل بن إبراهيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل ... فذكر بإسناده مثله. فهذا حبشي قد حكى هذا عن النبي - عليه السلام -، فوافق ما حكى من ذلك ما حكاه الآخرون: أن المسألة إنما تحل بالفقر. ش: هذان طريقان: أحدهما: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُخَوَّل بن إبراهيم بن مُخَوَّل

النهدي الكوفي ذكره في "الميزان" وقال: رافضي بغيض، صدوق في نفسه (¬1). يروي عن إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن حبشي بن جنادة الصحابي. وأخرجه ابن الأثير (¬2) في ترجمة حبشي: من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبيشي بن جنادة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من سأل من غير فقر فإنما يأكل الجمر". الثاني: إسناده صحيح. عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي ... إلى آخره. وأخرج الترمذي (¬3) عن حبشي بن جنادة من وجه آخر: ثنا علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد، عن الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي قال: "سمعت رسول الله - عليه السلام - في حجة الوداع وهو واقف بعرفة أتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه وذهب، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشًا في وجهه يوم القيامة، ورضفًا يأكله من جهنم، فمن شاء فَلْيُقِلّ ومن شاء فَلْيُكْثِر". ص: وقد جاءت الآثار أيضًا عن رسول الله - عليه السلام - بذلك متواترة: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي. (ح) وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قالا جميعًا: عن سفيان، عن حكيم ابن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود ¬

_ (¬1) وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل": صدوق. وقال ابن عدي في "الكامل" (6/ 439): له أحاديث عن إسرائيل وأكثر رواياته عنه، وقد روى عنه أحاديث لا يرويها غيره، وهو في جملة متشيعي أهل الكوفة. وذكره ابن حبان في "الثقات". (¬2) "أسد الغابة" (1/ 232). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 43 رقم 653).

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسأل عبدٌ مسألة وله ما يُغنيه إلا جاءت شيئًا أو كدوحا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله وماذا غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب". حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: ثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "كدوحا في وجهه" ولم يشك وزاد: "فقيل لسفيان: لو كانت عن غير حكيم! فقال: حدثناه زُبيْد عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد مثله". ش: أي: قد جاءت الأحاديث أيضًا عن رسول الله - عليه السلام - بما ذكرنا، أن الاعتبار في السؤال وحلّ الصدقة هو الفقر والحاجة لا غير. قوله: "متواترة" أي: متكاثرة وانتصابها على الحال من الآثار، ولم يُرد به التواتر المصطلح عليه. ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من ثلاث طرق: الأول: عن الحسن بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، ضعفه أحمد، وعن يحيى: ليس بشيء. وقال إبراهيم السعدي: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. وروى له الأربعة. عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي وثقه يحيى وابن حبان وروى له الأربعة- عن أبيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، نا يحيى بن آدم، نا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 116 رقم 1626).

رسول الله تعالى: "مَن سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش -أو كدوح أو خدوش- في وجهه. فقيل يا رسول الله وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن حكيم بن جبير ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة وعلي بن حُجر -قال قتيبة: ثنا شريك، وقال علي: أنا شريك والمعنى واحد- عن حكيم بن جبير ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. وقال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. الثالث: عن أحمد بن خالد البغدادي، عن أبي هشام الرفاعي محمَّد بن يزيد شيخ مسلم، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي شيخ أحمد، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا الحسن بن علي الخلال، نا يحيى بن آدم، ثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَن سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشًا أو خموشًا أو كدوحا في وجهه. قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب". فقال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: فقد حدثناه زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال أبو داود: قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثناه زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 40 رقم 650). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 589 رقم 1840).

وقال الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة: لو غير حكيم حدَّث بهذا [قال: وما لحكيم لا يحدث عن شعبة؟! قال: نعم، قال سفيان: سمعت زُبيدًا يحدث بهذا] (¬2) عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم. قالوا: أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال: فقد حدثناه زبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، حسب. وحكي الإمام أحمد عن يحيى بن آدم، أن الثوري قال يومًا: قال أبو بسطام يُحَدِّث -يعني شعبة- هذا الحديث عن حكيم بن جبير. قيل له: قال: حدثني زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن ولم يزد عليه. قال أحمد: كأنه أرسله أو كره أن يحدِّث به. قلت: حكى الترمذي أن سفيان صرَّح بإسناده فقال: سمعت زُبيدًا يحدث بهذا عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقد ذكرنا آنفًا. وحكاه ابن عدي أيضًا، وحكي أيضًا أن الثوري قال: أخبرنا به زُبَيد. وهذا يدل على أن الثوري حدَّث به مرتين: مرةً لا يصرح فيه بالإسناد، ومرة يسنده. وقال النسائي: لا نعلم أحدًا قال في هذا الحديث زُبَيد غير يحيى بن آدم، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم بن جُبير ضعيف، وسئل شعبة عن حديث حكيم بن جبير فقال: أخاف النار. وقد كان روى عنه قديمًا. وسئل يحيى بن معين: يَرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى: نعم، يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد ولا أعلم أحدًا يرويه إلا يحيى بن آدم وهذا وهم، لو كان كذا لحدَّث الناس به جميعًا عن سفيان، ولكنه حديث منكر. هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 41 رقم 651)، باختصار. (¬2) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي".

قلت: زُبيد هذا -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث الأيامي، روى له الجماعة. قوله: "وله ما يغنيه" جملة وقعت حالًا. قوله: "إلا جاءت" أي: مسألته. "شينًا". أي: عيبًا، يقال: شانه يشُينُه، وتفسير الكدوح والخدوش قد مرَّ. قوله: "قلت لسفيان" قد عرفت القائل هو عبد الله بن عثمان وهو غير مذكور في متن الحديث. ولما أخرج الترمذي هذا الحديث قال: والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق. قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة. قال: ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جبير ووسعوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم. وقال ابن قدامة: استدل الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق وأحمد بهذا الحديث: أن مَن ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فإنه يحرم عليه السؤال، ولا تحل له الصدقة. قلت: قال أصحابنا: الغني الذي يحرم به أخذ الصدقة وقبولها هو الذي تجب به صدقة الفطر والأضحية، وهو أن يملك من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حوائجه، وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب والفرش والدور والحوانيت والدواب والخدم، زيادة على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للنماء والإسامة، فإذا فضل من ذلك ما تبلغ قيمته مائتي درهم وجب عليه صدقة الفطر والأضحية وحرم عليه أخذ الصدقة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "بدائع الصنائع" (2/ 157).

ثم قدر الحاجة ما ذكره الكرخي في "مختصره" فقال: لا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاخ وثياب البدن، وكتب العلم إن كان من أهله، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة، لما روي عن الحسن البصري أنه قال: "كانوا يعطون من الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من السلاخ والفرس والدار والخادم". وقوله: "كانوا" كناية عن أصحاب رسول الله - عليه السلام -. وذكر في "الفتاوى" فيمن له حوانيت ودور الغلة لكن غلتها لا تكفيه لعياله، أنه فقير ويحل له أخذ الصدقة عند محمَّد، وعند أبي يوسف لا يحل، وعلى هذا إذا كان له كرم، لكن غلته لا تكفيه لعياله، وإن كان عنده طعام للقوت يساوي مائتي درهم فإن كان كفاية شهر، يحل له أخذ الصدقة، وإن كان كفاية سنة قال بعضهم: لا يحل، وقال بعضهم: يحل. ثم جواب أصحابنا عن الحديث المذكور: أنه محمول على حرمة السؤال، معناه: لا يحل سؤال الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو عوضها من الذهب، أو يحمل ذلك على كراهة الأخذ؛ لأن مَن له سداد من العيش فالتعفف أولى. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، قال: حدثني سهل بن الحنظلية، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن سأل الناس عن ظهر غنًى فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله وما ظهر غنًى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يُغديهم أو ما يعشيهم". ش: أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، وأيوب بن سويد أبو مسعود الحميري السيباني -بفتح السين المهملة وبعد الياء آخر الحروف باء موحدة- فيه مقال؛ فقال أحمد: ضعيف. وقال يحيى: ليس بشيء يسرق الأحاديث. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي، روى له الجماعة. وربيعة بن يزيد الدمشقي أبو شعيب الإيادي روى له الجماعة. وأبو كبشة السلولي الشامي قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم: لا أعلم أنه يسمى، وروى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. وسهل بن الحنظلية هو سهل بن عمرو، والحنظلية أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل أم جده، واسمها أم إياس بنت أبان بن دارم، وكان سهل شهد المشاهد كلها مع رسول الله - عليه السلام - ما خلا بدرًا. وأخرجه أبو داود (¬1) مطولًا: ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، نا مسكين، نا محمَّد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، ثنا سهل بن الحنظلية قال: "قدم على رسول الله - عليه السلام - عيينة بن حِصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألاه، فأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي - عليه السلام -، فقال: يا محمَّد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلبس؟! فأخبر معاويةُ بقوله رسول الله - عليه السلام -، فقال رسول الله - عليه السلام -: مَن سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار- وقال النفيلي في موضع آخر: من جمر جهنم- فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه- وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ - قال: قدر ما يغديه ويعشيه- وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم" انتهى. واختلف الناس في تأويل قوله: "ما يغديهم أو يعشيهم" فقال بعضهم: مَن وجد غداء يوم وعشائه لم تحل له المسألة؛ على ظاهر الحديث. قلت: قال أصحابنا: ومَن له قوت يوم فسؤاله حرام، وقال بعضهم: إنما هو فيمن وَجَد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة حرمت عليه المسألة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 117 رقم 1629).

وقيل: هذا منسوخ بما تقدم من الأحاديث والغداء والعشاء تحرم سؤال اليوم، والأوقية يحرم مقدار ما يسد من المسافر للسائل، ويجوز لصاحب الغداء والعشاء أن يسأل الجبة والكساء، ويجوز لصاحب الأوقية والخمسن درهمًا أن يسأل ما يحتاج إليه من الزيادة على ذلك والله أعلم. وقال ابن حزم في "المحلى": وهذا الحديث لا شيء؛ لأن أبا كبشة السلولي مجهول. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيدبن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سأل وله ما يغنيه جاعت شيئا في وجهه يوم القيامة". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وأبو عمر: حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، نا محمَّد بن عبد الله الرقاشي، ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن [معدان] (¬2) عن ثوبان قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَن سأل وله ما يغنيه فإنه شين في وجهه يوم القيامة". قوله: "جاءت شينا" الضمير في "جاءت" يرجع إلى المسألة التي يدل عليها قوله: "مَن سأل"، وانتصاب "شينا" على الحال من الضمير الذي في "جاءت". والشين: العيب والقبح. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 91 رقم 1407). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير".

أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "مَن سأل شيئًا وله قيمة أوقية فهو ملحف". ش: إسناده صحيح، وعبد الله بن يوسف [التنيسي] (¬1) شيخ البخاري. وابن أبي الرجال هو عبد الرحمن وثقه أحمد ويحيى القطان وروي له النسائي. وأبو الرجال -بالجيم- اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري. وعمار بن غزية بن الحارث الأنصاري المدني، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار، قالا: ثنا عبد الرحمن ابن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. قوله: "وله قيمة أوقية" حال، أي: والحال أن له شيئًا قيمته أوقية، وهي أربعون درهمًا. قوله: "فهو ملحف" مِن أَلْحَفَ في المسألة: إذا بالغ فيها وألحَّ، يقال: أَلَحَّ وألحف من الإلحاح والإلحاف، وقيل: ألحف شمل بالمسألة، ومنه اشتق اللحاف. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك، ح": "الفريابي"، وهو وهم أو سبق قلم تكرر مرارًا من المؤلف -رحمه الله-، وعبد الله بن يوسف هو التنيسي شيخ البخاري، وأما الفريابي فهو محمَّد بن يوسف، وهو شيخ البخاري أيضًا. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 116 رقم 1628). (¬3) "المجتبى" (5/ 98 رقم 2595).

واستدل الحسن وأبو عبيد بهذا الحديث على أن حد الغنى المانع من أخذ الصدقة هو أن يملك أربعين درهمًا. والجواب عنه: أنه محمول على كراهة السؤال، وأن التعفف أولى. وقال ابن حزم في "المحلى": عمارة بن غزية ضعيف، وأشار بذلك إلى تضعيف الحديث، وقد قلنا: إن عمارة بن غزية أخرج له مسلم والأربعة واحتجوا به، واستشهد به البخاري. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا محمَّد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا؛ فإنما هو جمرٌ، فليستقلَّ منه أو ليكثر". ش: عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي ثم البغدادي تكلم النسائي فيه لأجل التشيع وروى له في "مناقب علي" - رضي الله عنه - حديثًا واحدًا، وقال أبو زرعة: صدوق. ومحمد بن غزوان الكوفي روى له الجماعة. وعمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، روى له الجماعة. وأبو زرعة بن عمرو بن جبير البجلي اسمه هرم أو عبد الله أو عبد الرحمن أو عمرو أو جرير، روى له الجماعة. والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى، قالا: ثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل وليستكثر". قوله: "تكثرًا" نصب على التعليل، أي: لأجل التكثير. قوله: "فإنما هو" أي: فإنما سؤاله جمرٌ يوم القيامة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 720 رقم 1041).

قوله: "فليستقل" من الاستقلال من القلة، و"ليكثر" من الإكثار، وهو الأمر من قبيل التهكم والتوبيخ. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: "نزلتُ أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله - عليه السلام - فسله لنا شيئًا نأكله، وجعلوا يذكرون حاجتهم فذهب إلى رسول الله - عليه السلام - فوجد عنده رجلًا يسأله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أجد ما أعطيك، فولى الرجل وهو مغضَب وهو يقول: لعمري إنك لتفضل مَن شئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليغضب عليَّ، لا أجد ما أعطيه، مَن سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا. قال الأسدي: فقلت: لَلَقْحَة خيرٌ من أوقية -قالوا: والأوقية أربعون درهمًا- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله - عليه السلام - بعد ذلك شعير وزيت، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وطعن ابن حزم في هذا الحديث بقوله: "فيه مَن لم يسم ولا يدري صحة صحبته" باطل ساقط؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر صحة الحديث، وقد عرف ذلك عند أهل الحديث. وأخرجه أبو داود (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. غير أن في روايته: "إنك لتعطي من شئت". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. قوله: "ببقيع الغرقد" وهو مدفن أهل المدينة، والبقيع: المكان المتسع من الأرض، وقيل: لا يسمى بقيعًا إلا إذا كان فيه شجر أو أصول شجر من ضروب شتى، والغرقد -بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف وفي آخره دال ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 116 رقم 1627). (¬2) "المجتبى" (5/ 98 رقم 2596).

مهملة- من شجر العِضَاه، والعِضَاه: شجر له شوك، وقيل: الطلح والسدر، وكان فيه غرقد فذهب وبقي اسمه. وفي "الموعب": الغرقد شجر له شوك كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للموضع. وفي "الجامع" (¬1): للقزاز سمي بذلك لاختلاف ألوان شجره. وقال الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -، فسمي بقيع الغرقد لذلك. وفي "المحكم": وربما قيل له: الغرقد من غير ذكر البقيع. وقال ياقوت: وبالمدينة أيضًا بقيع الزبير وبقيع الخيل عند دار زيد بن ثابت، وبقيع الخَبْجَبَة -بفتح الخاء المعجمة وباء موحدة ثم جيم مفتوحة وباء أخرى- كذا ذكره السهيلي، وغيره يقول: الجبجبة -بجيمن- وبقيع الخضمات. وقال أبو حنيفة: الغرقد واحدها غرقدة، وإذا عظمت العَوسجة فهي غرقدة، والعوسج من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدور كأنه خرز العقيق. وقال أبو الجراح الأعرابي: العوسجة ذات الشوك وهي قصيرة ولكنها ربما طالت فهي تعد من العِضَاه، وإذا طالت وعظمت فهي غرقدة. وقال بعضهم: الغَرقد من نبات القفّ. وقال أبو العلاء المعري في "الرسالة الإغريضية": هو نَبْت من نبات السَهْل. وقال أبو زيد الأنصاري في كتاب "الشجر" تأليفه: والغرقد نبت بكل مكان خلا حر الرمل. ¬

_ (¬1) وقع خطأ في ترتيب الأوراق في "الأصل"، وقد أعدت ترتيب الورقة [ق 127 ب] إلى موضعها هنا.

وذكر ابن البيطار في "جامعه" أن الغرقد اسم عربي سَمّى به بعض العرب النوع الأبيض الكبير من العوسج، وفي "الجامع" للقزاز: قال أبو عمر: والغرقد شجر يشبه العوسج وليس به، وعوده أغلظ من عود العوسج، ومضغه مر. وفي الحديث في ذكر الدجال: "كل شجر يواري يهوديًّا ينطق إلا الغرقد؛ فإنه من شجرهم فلا ينطق". وقال الأصمعي: الغرقد من شجر الحجاز. قوله: "وهو مغضب" جملة حالية، ومُغضب -بفتح الضاد- مفعول من الإغضاب. قوله: "لعمري" بفتح العن، وهو العُمْر -بالضم- ولكن لا يقال في القسم إلا بالفتح، ومعناه: وحق بقائي وحياتي، وكذا معنى قولهم: لعمر الله، أي: أحلف ببقاء الله، و"اللام" فيه للتأكيد. قوله: "أو عَدْلها" بفتح العين، يريد قيمتها، يُقال: هذا عَدْل الشيء أي: ما يساويه في القيمة، وهذا عِدله -بكسر العين- أي: نظيره ومثله في الصورة والهيئة. قوله: "لَلَقْحة لنا" "اللام" فيه للتأكيد. اللَّقحة بفتح اللام: الناقة المرية، وهي التي تمرى أي تحلب، وجمعها: لِقَاح، وارتفاعها بالابتداء، وتخصص بالصفة، وخبره قوله: "خيرٌ من أوقية" وقد مر تفسير الأوقية. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الأيدي ثلاث، فيد الله العُليا، ويد المُعْطي التي تليها، ويد السائل السفلي إلى يوم القيامة، فاستعفف ما استطعت ولا تعجز عن نفسك ولا تُلام على كفافٍ، وإذا آتاك الله خيرًا فلْيُرَ عليك". ش: أبو بكرة بكار القاضي، ومؤمل هو ابن إسماعيل القرشي. وسفيان هو الثوري، وإبراهيم هو ابن مسلم الهجري، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله، وعامتها مستقيمة. وقال الأزدي: هو صدوق لكنه رفَّاع كثير الوهم.

وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك الأشجعي الكوفي، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث علي بن عاصم، أنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها ويد السائل أسفل إلى يوم القيامة فاسْتَعِفُّوا من السؤال ما استطعتم ومَن أعطاه الله خيرًا فليُرَ عليه، وابدأ بمن تعول، وارتضخ من الفضل، ولا تلام على كفافٍ، ولا تعجز عن نفسك". ثم قال البيهقي: تابعه إبراهيم بن طهمان، عن الهجري مرفوعًا، ورواه جعفر بن عون، عن الهجري فوقفه. وأخرج أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، نا عبيدة بن حميد التيمي، حدثني أبو الزعراء، عن أبي الأحوص، عن أبيه مالك بن نضلة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيدي ثلاثة، فيد الله -عز وجل- العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعطه الفضل ولا تعجز عن نفسك". قوله: "الأيدي ثلاث" كذا في رواية الطحاوي بدون التاء وهو الأظهر. قوله: "فيد الله العليا" المراد بها قدرته الباهرة الباسطة، والمراد من يد المعطي هو يد المتصدق، وقد جعل فيه اليد العليا لله تعالى، ثم للمعطي وهي يد المنفق، ويؤيد هذا ما قاله الجمهور من أن اليد العليا هي المنفقة، وكذا وقع في "صحيحي" (¬3) البخاري ومسلم: "اليد العليا المنفقة". وقال الخطابي: اليد العليا هي المتعففة. وقال غيره: اليد العليا: الآخذة، والسفلى: المانعة. حكاه القاضي. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 198 رقم 7674). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 123 رقم 1649). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 519 رقم 1362)، و"صحيح مسلم" (2/ 717 رقم 1033)، كلاهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

قلت: هو قول المتصوفة، ذهبوا إلى أن اليد العليا هي الآخذة لأنها نائبة عن يد الله تعالى. وحديث ابن مسعود صريح في الرد عليهم. فإن قيل: ما معنى علوّ يد المعطي؟ قلت: معناه علوّ الفضل والمجد ونيل الثواب. قوله: "ولا تعجز عن نفسك" وصية بترك العجز والكسل في الصدقة، ووصية أيضًا بترك العجز في الاكتساب حتى لا تضطر إلى السؤال؛ لأن ترك السؤال والتعفف خير من السؤال مع القدرة على الاكتساب. قوله: "ولا يلام على كفاف" إشارة إلى أنه إذا كان به حاجة وفقر فإنه يَسأل قدر كفايته، ولا يلام على ذلك لكونه مضرورًا فيه وإنما يلام إذا سأل زيادةً للتكثر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكانت المسألة التي أباحها رسول الله - عليه السلام - في هذه الآثار كلها هي للفقر لا لغيره، وكان تصحيح هذه الآثار عندنا يوجب أن مَنْ قصد إليه النبي - عليه السلام - بقوله: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" هو مَنْ استثناه من ذلك في حديث وهب بن خَنْبَش، بقوله: "إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع"، وأنه الذي يريد بمسألته أن يكثر ماله ويستغني بمال الصدقة حتى تصحَّح هذه الآثار وتتفق معانيها ولا تتضاد، وهذا المعنى الذي حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن العلة في إباحة السؤال هي الفقر والحاجة لا غير، وإنما يحرم إذا كان للتكثر والاستغناء بمال الصدقة. وهذا هو وجه تصحيح معاني الأحاديث المذكورة، وإن لم يحمل معناها على ما ذكرنا يلزم التضاد بين معانيها والاختلاف، فلذلك قلنا: إن قوله - عليه السلام -: "لا تحل الصدقة لذي مرَّة سويّ" الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور في أول الباب؛ محمول على ما إذا سأل تكثرًا، وهو غير من استثناه - عليه السلام - بقوله: "إلا من فقر

مدقع أو غرم مقطع" الذي رواه وهب بن خَنْبَش وبهذا التوفيق تتفق معاني الأحاديث المذكورة ويرتفع الخلاف. ثم اعلم أنه صرَّح أن وهبًا الذي أخرج عنه فيما مضى هو ابن خَنْبَش، وقد ذكرنا الاختلاف فيه، والله أعلم. ص: فإن سأل سائل عن معنى حديث عمر - رضي الله عنه - المروي عنه عن رسول الله - عليه السلام - في نحوٍ من هذا، وهو ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: ثنا السائب بن يزيد، أن حويطب بن عبد العزى أخبره، أن عبد الله بن السعدي أخبره: "أنه قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالًا، فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: نعم. فقال عمر - رضي الله عنه -: فما تريد إلى ذلك؟ فقلت: إن لي أفراشا وأعبدًا وأنا أتَّجر، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين. فقال عمر - رضي الله عنه -: فلا تفعل، فإني قد كنت أردت، الذي أردت فقد كان النبي - عليه السلام - يعطيني العطاء فأقول: إعطه مَن هو إليه أفقر مني، حتى أعطاني مرةً مالًا فقلت له ذلك، فقال النبي - عليه السلام -: خذه فتموله فما جاءك من هذا وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك". ففي هذا تحريم المسألة أيضًا. قيل له: ليس هذا على أموال الصدقات، إنما هذا على الأموال التي يقسمها على الناس فيقسمها على أغنيائهم وفقرائهم كما فرض عمر - رضي الله عنه - لأصحاب رسول الله - عليه السلام - حين دوَّن الدواوين، ففرض للاغنياء منهم وللفقراء، وكانت تلك الأموال التي يعطاها الناس لا من جهة الفقر ولكن لحقوقهم فيها، فكره رسول الله - عليه السلام - لعمر - رضي الله عنه - حسن أعطاه الذي كان أعطاه منها قوله: "أعطه مَن هو أفقر إليه مني" أي: إني لم أعطك ذلك لأنك فقير إنما أعطيتك ذلك لمعنى آخر غير الفقر، ثم قال له: "خذه فتموله". فدل ذلك أيضًا أنه ليس من أموال الصدقات؛ لأن الفقير لا ينبغي له أن يأخذ من

الصدقات ما يتخله مالًا، كان ذلك عن مسألة منه أو غير مسألة، ثم قال: "فما جاءك من هذا المال، الذي هذا حكمه "وأنت غير مشرف" أي: تأخذه لغير إشراف، والإشراف: أن تريد به ما قد نهيتَ عنه، وقد يحتمل قوله: "ولا سرف" أي: ولا تأخذ من الأموال أكثر مما يجب لك فيها، فيكون ذلك سرفًا فيها، "ولا سائل". أي: سائلًا منها ما لا يجب لك. فهذا أوجه هذا الباب عندنا، والله أعلم. فأما ما جاء في أموال الصدقات فقد أتينا بمعاني ذلك فيما تقدم من هذا الباب. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح السؤال في الأحاديث المذكورة إذا كان للفقر، وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تحريم السؤال، فهذا ينافي ما ذكرتم. وتقرير الجواب أن يقال: إن قوله: "ولا سائل" ليس على أموال الصدقات، وإنما هو على الأموال التي كان الناس يعطونها لا لأجل الفقر وإنما هو لأجل حقوقهم فيها من الأموال التي كانت تقسم على أغنيائهم وفقرائهم، كما كان عمر - رضي الله عنه - قد فرض لأصحاب رسول الله - عليه السلام - حين دوَّن الدواوين، وكان قد فرض للأغنياء والفقراء، ولم يخص فقراء دون الأغنياء، فافهم. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع شيخ البخاري، وشعيب هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي، روى له الجماعة، والزهري هو محمَّد بن مسلم، روى له الجماعة. وفيه اجتمعت أربعة من الصحابة وهو أحد الأحاديث التي جاءت كذلك: الأول: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن عبد الله الكندي ويقال: الأسدي، له ولأبيه صحبة. الثاني: حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس العامري، وهو من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم.

الثالث: عبد الله بن السعدي واسمه عمرو، وقيل: قدامة؛ وقيل له: السعدي لأنه كان مسترضعًا في بني سعد، ويقال: ابن الساعدي، وله صحبة. وقد وقع في مسلم من رواية قتيبة قال (¬1): عن ابن الساعدي المالكي. وقال النووي: قوله: "المالكي" صحيح، منسوب إلى مالك بن حسل بن عامر. وأما قوله: "الساعدي" فأنكروه عليه وقالوا: صوابه السعدي كما رواه الجمهور، منسوب إلى سعد بن بكر. وقال المنذري: لم يكن سعديًّا وإنما قيل لأبيه: السعدي لأنه كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر. وأما الساعدي فنسبة إلى بني ساعدة من الأنصار من الخزرج، لا وجه له ها هنا إلا أن يكون له نزول أو حلفٌ أو خؤلة أو غير ذلك. الرابع: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نمر، أن حويطب بن عبد العزي أخبره، أن عبد الله بن السعدي أخبره: "أنه قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته، فقال له عمر - رضي الله عنه - ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس ... ". إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬3) ومسلم (1) وأبو داود (¬4) والنسائي (¬5) بأسانيد وألفاظ مختلفة، فقال مسلم (1): ثنا هارون بن [معروف] (¬6) قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 723 رقم 1045). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 17 رقم 100). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2620 رقم 6744). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 518 رقم 1647). (¬5) "المجتبى" (5/ 104 - 105 رقم 2606، 2607، 2608). (¬6) في "الأصل، ك": "هارون بن سعيد الأيلي"، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"تحفة الأشراف" (8/ 55 رقم 10520)، وهارون بن معروف المروزي، وهارون بن سعيد الأيلي، كلاهما يروي عن ابن وهب.

وحدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "قد كان رسول الله - عليه السلام - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرةً مالًا. فقلت: أعطه أفقر إليه مني. فقال رسول الله - عليه السلام -: خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك". وحدثني أبو الطاهر (¬1) قال: أنا ابن وهب، قال عمرو: حدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب بن يزيد، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله - عليه السلام -. وقال أبو داود (¬2): نا أبو الوليد الطيالسي، نا ليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن ابن الساعدي قال: "استعملني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، أمر لي بعمالة، فقلت: [إنما عملت لله، وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت؛ فإني قد عملت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعملني، فقلت] (¬3) مثل قولك، فقال لي رسول الله - عليه السلام -: إذا أعطيت شيئًا من غير أن تسأله فكل وتصدق". قوله: "ألم أُحدَّث" على صيغة المجهول أي: لم أُخْبَر. قوله: "العُمَالة" بضم العين هو المال الذي يُعطاه العامل على عمله. قوله: "وأنت غير مشرف" جملة اسمية وقعت حالًا من الإشراف -بالشين المعجمة- يقال: أشرفت على الشيء: علوته، وأشرفت عليه: اطلعت عليه من فوق. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 723 رقم 1045). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 518 رقم 1647). (¬3) سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

أراد: ما جاءك منه وأنت غير متطلع إليه، ولا طامع فيه، ولا سائل منه، فخذه ولا ترده لأنه خير ساقه الله إليك من غير سؤال ولا تعب. قوله: "وما لا فلا تتبعه نفسك" أي: فلا تعلقها بطلبه واتباعه. قوله: "ولا سرف" بالسين المهملة اسم من الإسراف الذي هو بمعنى التبذير. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه استحباب قبول المال الذي يجيء من غير سؤال. قال النووي: اختلف العلماء فيمن جاءه مال من غير سؤال هل يجب قبوله أم يُندب؟ على ثلاثة مذاهب حكاها ابن جرير الطبري وآخرون. الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في السلطان حرمت، وكذا إن أعطي ما لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ. وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان وغيره. وقال آخرون: هو مندوب في عطية السلطان دون غيره. وقال غيره: اختلف العلماء فيما أمر به النبي - عليه السلام - عمر من ذلك بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقيل: هو أمر ندب من النبي - عليه السلام - لكل من أعطي عطية، كانت من سلطان أو من عاميّ، صالحًا كان أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته، حكى ذلك غير واحد، وقيل: ذلك من النبي - عليه السلام - ندب إلي قبول عطية غير السلطان، فبعضهم منعها وبعضهم كرهها. وقال آخرون: ذلك ندب لقبول هدية السلطان دون غيره، ورجح بعضهم الأول؛ لأن النبي - عليه السلام - لم يخصص وجهًا من الوجوه. الثانى: فيه فضيلة عمر - رضي الله عنه - وزهده وقلة حرصه على الدنيا والتكثر منها، وإيثار غيره على نفسه.

الثالث: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على أعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية من الإمارة والصدقات والقضاء والحسبة وغيرها. الرابع: فيه دليل على جواز إعطاء الإِمام مَنْ غَيْرُه أفقر منه؛ لوجه رآه من المصلحة. قاله المهلب، والله أعلم.

ص: باب: المرأة هل يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها أم لا؟

ص: باب: المرأة هل يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها أم لا؟ ش: أي: هذا باب في بيان أن المرأة إذا دفعت زكاة مالها لزوجها الفقير هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ ص: حدثنا فهد، ثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني شقيق، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله. قال: فذكرته لإبراهيم، فحدثني إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله مثله سواء. قالت: "كنت في المسجد فرآني رسول الله - عليه السلام - في المسجد فقال: تصدقن ولو من حليكن، وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها. قال: فقالت لعبد الله: سَلْ رسول الله - عليه السلام -، أيجزئ عني إن أنفقت عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ قال: سلي كنت رسول الله - عليه السلام -. فانطلقت إلى رسول الله - عليه السلام - فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها. مثل حاجتي فمر علينا بلال فقلت: سل لنا رسول الله - عليه السلام - هل يجزئ عني أن أتصدق على زوجي أو أيتام في حجري من الصدقة؟ وقلنا: لا تخبر بنا. قال: فدخل فسأله فقال: مَن هما؟ قال: زينب. قال: أي الزنايب هي؟ قال: امرأة عبد الله. قال: نعم يكون لها أجر القرابة وأجر الصدقة". ش: عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم. وأبوه حفص بق غياث بن طلق النخعي قاضي الكوفة، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. والأعمش هو سليمان بن مهران، روى له الجماعة. وشقيق هو ابن سلمة، روى له الجماعة.

وعمرو بن الحارث بن المصطلق، قال الترمذي: عمرو بن الحارث بن المصطلق ابن أخي زينب امرأة عبد الله قال: وقال أبو معاوية في حديثه: عمرو بن الحارث، عن ابن أخي زينب وهو وهم، والصحيح إنما هو عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. وقال ابن القطان: رواه حفص بن غياث في رواية وعبد الله بن هشام بن حسان العبدي فقالا: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله، عن زينب. ثم قال: وقول الترمذي فيه عندي نظر؛ لأن عمرو بن الحارث خزاعيّ، وزينب امرأة عبد الله ثقفية، فلا يتجه أن يكون ابن أخيها إلا لأم وشيء من ذلك لم يتحقق، وتوهم حافظ في زيادة زادها لا معنى له إلا لَوْصرَّح الناس بمخالفته، وهم لم يصرحوا وإنما سكتوا عن شيء جاء به هو، وذكر الإسماعيلي أن رواية إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن زينب، تصحح رواية من لم يُدخل بين عمرو بن الحارث وزينب ابن أخيها. قلت: هذا يقوي ما قاله الترمذي، فافهم. وزينب امرأة عبد الله بن مسعود يقال: إن اسمها رائطة، وقيل: ريطة بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، وقيل: إن رائطة لقب لها. قوله: "قال: فذكرته لإبراهيم" أي: قال الأعمش: فذكرت الحديث لإبراهيم ابن يزيد النخعي "فحدثني إبراهيم، عن أبي عبيدة" بضم العين، وهو عامر بن عبد الله بن مسعود. والحديث أخرجه البخاري (¬1): ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، عن الأعمش ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا حسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 533 رقم 1397). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 694 رقم 1000).

رسول الله - عليه السلام -: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن. قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك لرجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - عليه السلام - قد أمرنا بالصدقة، فائته فسَلْهُ، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفته إلى غيركم. قالت: فقال لي عبد الله: بل ائته أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - عليه السلام - حاجتى حاجتها. قالت: وكان رسول الله - عليه السلام - قد ألقيت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال - رضي الله عنه - فقلنا له: أثبت رسول الله فأخبره أن امرأتين على الباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله - عليه السلام - فأخبره أن امرأتين بالباب، فقال: مَن هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله - عليه السلام -: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، فقال رسول الله - عليه السلام -: لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) مختصرًا. قوله: "ولو مِن حُلِيِّكُنَّ" أي: ولو كانت الصدقة من حُليِّكن، الحُلِّي -بضم الحاء وكسر وتشديد اللام- جمع حَلْي -بفتح الحاء وسكون اللام- وهو كل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، وأما الحلية فتجمع على حِلًى -بكسر الحاء وفتح اللام المخففة نحو لحية ولحًى، وربما ضُمَّ- وتطلق الحلية على الصفة أيضًا. قوله: "في حَجْرها" بفتح الحاء، من حَجْر الثوب وهو طرفه المقدم؛ لأن الإنسان يربي ولده في حَجْره، والوليّ كذلك؛ لأنه يقوم بأمره في حجره. قال الجوهري: حجر الإنسان وحجره -بالفتح والكسر- والجمع الحجور. قوله: "أتجزى عني" الهمزة فيه للاستفهام. أي: أيكفي عني ويغني عني الإنفاق عليك وعلى الأيتام من الصدقة؟ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 28 رقم 635). (¬2) "المجتبى" (5/ 92 رقم 2583).

قوله: "فوجدت امرأةً من الأنصار" وهي أيضًا اسمها زينب امرأة أبي مسعود الأنصاري. واستفيد منه أحكام: الأول: استدلت به جماعة على جواز دفع المرأة زكاتها لزوجها الفقير، وسيجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله. الثاني: استدل به أصحابنا على وجوب الزكاة في الحليّ، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. وروي عن جابر بن عبد الله وعائشة وابن عمر في رواية أنهم لم يروا فيه الزكاة. وإليه ذهب القاسم بن محمَّد والشعبي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الخطابي: الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها، والأثر يؤيده، ومَن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها. الثالث: استدل به أبو يوسف: أن مَن عَال يتيما فجعل يكسوه ويطعمه وينوي به عن زكاة ماله يجوز، وقال محمَّد: ما كان من كسوة يجوز، وفي الطعام لا يجوز إلا ما دفع إليه. وقيل: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن مراد أبي يوسف ليس هو الطعام على طريق الإباحة بل على وجه التمليك. ثم إن كان اليتيم عاقلًا يدفع إليه، وإن لم يكن عاقلًا يقبض منه بطريق النيابة، ثم يطعمه ويكسوه؛ لأن قبض الولي كقبض الصبي لو كان عاقلًا. الرابع: فيه دليل على أن لا يمنع النساء من دخول المساجد. الخامس: فيه أن الإِمام يأمر النساء أيضًا بإعطاء زكاتهن وصدقاتهن، كما يأمر بذلك للرجال.

السادس: فيه أن النساء يجب عليهن السؤال عن أمور دينهن. السابع: فيه أن الزوج يباح له أن يأذن لامرأته بالذهاب إلى أهل العلم لأجل الاستفتاء إن لم يَقُم هو به. الثامن: فيه جواز إتيان النساء إلى أبواب العلماء لتعلم أمور الدين والاستفتاء فيها. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلي أن المرأة جائز لها أن تعطي زوجها من الزكاة مالها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد في رواية، وأبا ثور وأبا عبيد وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها الفقير، واحتجوا في ذلك بحديث زينب المذكور وإليه ذهب أشهب من المالكية وأهل الظاهر. وأجمعوا أنه لا يجوز للزوج أن يدفع زكاته إلى زوجته. وهذا لا خلاف فيه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم أبو حنيفة. وقالوا: لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من زكاة مالها كما لا يجوز له أن يعطيها من زكاة ماله. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن والثوري وأبا حنيفة ومالكًا وأحمد في رواية، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة. ويروي ذلك عن عمر - رضي الله عنه -؛ وذلك لكمال الاختلاط بين الزوجين فتنتفع بدفعها إليه؛ لأن مال كل واحد منها يعد مالًا للآخر. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في حديث زينب الذي احتجوا به عليهم: أن تلك الصدقة التي حضَّ عليها رسول الله - عليه السلام - في ذلك الحديث إنما كانت من غير الزكاة، وقد بيَّن ذلك ما قد حدثنا يونس قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: أنا الليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة

بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود وكانت امرأةً صنعًا وليس لعبد الله بن مسعود مال، وكانت تنفق عليه وعلى ولده منها، فقالت: لقد شغلتني والله أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق معكم بشيء. فقال: ما أحب إن لم يكن لك في ذلك أجر إن تفعلي، فسألت رسول الله - عليه السلام - هي وهو، فقالت: يا رسول الله إن امرأة ذات صنعة أبيع منها وليس لولدي ولا لزوجي شيء، فشغلوني فلا أتصدق، فهل لي فيهم أجرٌ؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم. ففي هذا الحديث أن تلك الصدقة مما لم تكن فيه زكاة، ورائطة هذه هي زينب امرأة عبد الله لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها في زمن رسول الله - عليه السلام -، والدليل على أن تلك الصدقة كانت تطوعًا كما ذكرنا قولها؛ كنت امرأة صنعًا أصنع بيدي فأبيع من ذلك فأنفق على عبد الله" فكان قول رسول الله - عليه السلام - الذي في هذا الحديث وفي الحديث الأول جوابًا لسؤالها هذا، وفي حديث رائطة هذا: "كنت أنفق من ذلك على عبد الله وعلى ولده مني"، وقد أجمعوا أنه لا يجوز للمرأة أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس هو أيضًا من الزكاة. ش: أي: وكان من الحجة والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بذلك الجواب عن حديث زينب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. بيان ذلك: أن المراد من الصدقة التي حضَّ عليها رسول الله - عليه السلام - في حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - هو صدقة التطوع لا الفرض. والدليل عليه حديث عبيد الله بن عبد الله عن رائطة بنت عبد الله وهي زينب المذكورة امرأة عبد الله بن مسعود فإنها قالت فيه: "كنت أُنفق من ذلك على عبد الله وعل ولده مني " وقد أجمع الخصوم كلهم أنه لا يجوز للمرأة أن تنفق على ولدها من الزكاة، فإذا كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة فكذلك لا يكون ما أنفقت على زوجها من الزكاة، فحينئذٍ لا يستقيم استدلالهم بالحديث المذكور لما ذهبوا إليه.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الصدقة التطوع في حق ولدها وصدقة الفرض في حق زوجها عبد الله؟ قلت: لا مساغ لذلك؛ لاجتماع الحقيقة والمجاز حينئذٍ، وهذا لا يجوز. ثم إسناد حديث عبيد الله بن عبد الله صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، أنه أخبره عبد الله بن عبيد الله، عن رَيْطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود وأم ولده قالت: "والله لقد أنت وولدك عن الصدقة فما استطيع أن أتصدق معكم. قال: فما أحب إن لم يكن لك في ذلك أجرٌ أن تفعلي فسألت رسول الله - عليه السلام - هي وهو فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها، وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي شيء، فشغلوني فلا أتصدق، فهل لي في ذلك أجر؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم" انتهى. قوله: "صَنَعاء" بفتح الصاد والنون وهي التي تعمل بيديها. قوله: "أن تفعلي" بفتح همزة "أن" وهي مصدرية في محل النصب؛ لأنه مفعول لقوله: "ما أحب" أي: ما أحب فعلك إن لم يكن لك أجر، وأراد به فعل الصدقة عليه وعلى ولده منها. قوله: "هي وهو". إنما ذكر هي ليصح عطف هو على ما قبله؛ لأن الضمير المتصل لا يُعطف عليه إلا بإعادة الضمير المنفصل؛ وذلك لئلا يكون عطف الاسم على الفعل. قوله: "ورائطة هذه هي زينب ... إلى آخر" جواب عما يقال: إن الحديثين في قضيتي امرأتين؛ لأن المذكورة في الحديث الأول هي زينب، وفي هذا الحديث هي رائطة. فأجاب عنه بأن رائطة هي زينب المذكورة في ذاك الحديث، وقد ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 178 رقم 7549).

قلنا: إن رائطة أو ريطة لقب لزينب المذكورة، فمن أدعى أنهما امرأتان ولهما قضيتان فعليه البيان. ص: وقد روي أيضًا عن أبي هريرة عن رسول الله - عليه السلام - ما يدل على أن تلك الصدقة التي أباح لها رسول الله - عليه السلام - إنفاقها على زوجها كانت من غير الزكاة. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن عمر بن نُبيه الكعبي، عن المقبري، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - عليه السلام - انصرف من الصبح يومًا فأتي على النساء في المسجد فقال: يا معشر النساء ما رأيت من ناقصات عقول ودين أذهب بعقول ذوي الألباب منكن، وإني قد رأيت أنكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله بما استطعتن، وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود فانقلبت إلى عبد الله بن مسعود فأخبرته بما سمعت من رسول الله - عليه السلام - وأخذت حليًّا لها، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أين تذهبين بهذا الحلي فقالت: أتقرب إلى الله وإلى رسوله لعل الله لا يجعلني من أهل النار، قال: هلمي ويلك، تصدقي به عليَّ وعلى ولدي، فقالت: لا والله حتى أذهب إلى رسول الله - عليه السلام -، فذهبت تستأذن على رسول الله - عليه السلام -، فقالوا: يا رسول الله هذه زينب تستأذن، فقال: أي الزيانب هي؟ قالوا: امراة عبد الله بن مسعود، فدخلت على النبي - عليه السلام - فقالت: إني سمعت منك مقالة فرجعت إلى ابن مسعود فحدثته فأخذت حلي أتقرب به إلى الله وإليك رجاء أن لا يجعلني في النار، فقال ابن مسعود: تصدقي به عليَّ وعلى بنيَّ فإنا له موضع. فقلت: حتى استأذن رسول الله - عليه السلام -، فقال رسول الله - عليه السلام -: تصدقي به عليه وعلى بنيه فإنهم له موضع". حدثنا الحسين بن الحكم الحِبَرِي، قال: ثنا عاصم بن علي، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله.

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فبيَّن أبو هريرة في هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - إنما أراد بقوله: "تصدقن" الصدقة التطوع التي تكفر الذنوب، وفي حديثه قال: "فجاءت بحلي لها إلى رسول الله - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله خذ هذا أتقرب به إلى الله -عز وجل- وإلى رسوله، فقال لها رسول الله - عليه السلام -: تصدقي به على عبد الله وعلى بنيه فإنهم له موضع"، فكان ذلك على الصدقة بكل الحلي، وذلك من التطوع لا من الزكاة؛ لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه. فهذا أيضًا دليل على فساد تأويل أبي يوسف ومَن ذهب إلى قوله للحديث الأول، فقد بطل بما ذكرنا أن يكون في حديث زينب ما يدل على أن المرأة تعطي زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا. ش: دلالة حديث أبي هريرة على أن تلك الصدقة المذكورة في حديث زينب المذكور أولًا ليست صدقة الفرض ظاهرة قد أوضحها الطحاوي جدًّا فلا حاجة إلى مزيد البيان. وإسناده صحيح من الطريقين اللذين: أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن عليَّ بن معبد بن شداد العبدي وثقه أبو حاتم، عن إسماعيل بن أبي كثير وهو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن عمر بن نُبَيْه -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره هاء- الكعبي الخزاعي روي له مسلم. عن أبي سعيد المقبري -روى له الجماعة- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. والآخر: عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحِبَري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى بيع الحِبَر جمع حِبَرة كعِنَب وعِنَبَة، وهي بُرْد يماني. عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري -عن عمرو بن أبي عمر- واسم أبي عمرو ميسرة-

مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني روى له الجماعة، عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سليمان، أنا إسماعيل، أخبرني عمرو -يعني ابن أبي عمرو- عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - عليه السلام - انصرف من الصبح ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "من نواقص عقول ودين أذهب بقلوب ذوي الألباب"، وفي آخره: "ثم قالت: يا رسول الله أرأيت ما سمعت منك حين وقَفْتَ علينا: ما رأيت نواقص عقول قط ولا دين أذهب بقولب ذوي الألباب منكن. قالت: يا رسول الله فما نقصان ديننا وعقلنا؟ فقال: أما ما ذكرت من نقصان دينكن فالحيضة التي تصيبكن تمكث إحداكن ما شاء الله أن تمكث لا تصوم ولا تصلي فذلك من نقصان دينكن، وأما ما ذكرت من نقصان عقولكن فشهادتكن، إنما شهادة المرأة نصف شهادة". قوله: "يا معشر النساء" يعني: يا جماعة النساء، ويجمع على معاشر. قوله: "ذوي الألباب" أي: أصحاب العقول والألباب جمع لُبٍّ -بضم اللام وتشديد الباء- وهو العقل، يقال: لبَّ يَلُبُّ -مثل عضَّ يَعُضُّ- أي: صار لبيبًا، هذه لغة الحجاز، وأهل نجد يقولون: لَبَّ يَلِبُّ بوزن فَرَّ يَفِرُّ، ويقال: لَبِبَ الرجل -بالكسر- يَلِبُّ أي صار ذا لب، وحكي لَبُبَ -بالضم -وهو نادر لا نظير له في المضاعف. ثم اعلم أن النساء إذا كن أذهب الخلق بقلوب ذوي العقول فما ظنك حالهن بقلوب ذوي التغفل والبله. قوله: "وأخذت حليًّا لها" بفتح الحاء وسكون اللام، وقد ذكرنا أنه اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، ويجمع على حُلي -بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء-. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 373 رقم 8849).

قوله: "ويلك هلمي" (¬1) كلمة ويل تقال عند الدعاء بالعذاب والهلاك كما أن كلمة "ويح" تقال عند الدعاء بالترحم والشفقة، ومعنى هلمي: هاتي، وهو من أسماء الأفعال وقد مرَّ الكلام فيه مرة. قوله: "فإنا له موضع" أراد أنه وأولاده هم أحق بتلك الصدقة من الأجانب لاحتياجهم وفقرهم، والأقربون أولي بالمعروف. قوله: "رجاء أن لا يجعلني" انتصاب رجاء على التعليل أي: لأجل رجاء من الله أن لا يجعلني من أهل النار ببركة تلك الصدقة. قوله: "أرأيت" أي: أخبرني. ص: وإنما نلتمس حكم ذلك بعد من طريق النظر وشواهد الأصول، فاعتبرنا ذلك فوجدنا المرأة باتفاقهم لا يُعطيها زوجها من زكاة ماله وإن كانت فقيرة ولم تكن في ذلك كغيرها؛ لأنا رأينا الأخت يعطيها أخوها من زكاته إذا كانت فقيرة، وإن كان على أخيها أن ينفق عليها ولم تخرج بذلك من حكم من يعطى من الزكاة فثبت بذلك أن الذي يمنع الزوج من إعطاء زوجته من زكاة ماله ليس هو وجوب النفقة عليه، ولكنه السبب الذي بينه وبينها، فصار ذلك كالسبب الذي بينه وبين والديه في منع ذلك إياه من إعطائهما من الزكاة، فلما ثبت بما ذكرنا أن سبب المرأة الذي منع زوجها أن يعطيها من زكاة ماله وإن كانت فقيرة، هو كالسبب الذي بينه وبين والديه الذي يمنعه من إعطائهما من زكاته وإن كانا فقيرين. ورأينا الوالدين لا يعطيانه أيضًا من زكاتهما إذا كان فقيرًا، فكان الذي بينه وبين والديه من السبب يمنعه من إعطائهما من الزكاة، ويمنعهما من إعطائه من الزكاة. فكذلك السبب الذي بين الزوج والمرأة لما كان يمنعه من إعطائها من الزكاة كان أيضًا يمنعها من إعطائه من الزكاة، وقد رأينا هذا السبب بين الزوج والمرأة يمنع من قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه، فجعلا في ذلك كذوي الرحم المحرم الذي لا ¬

_ (¬1) في المتن: "هلمي ويلك".

تجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه ورأينا أيضًا كل واحد منهما لا يرجع فيما وهب لصاحبه في قول مَن يجيز الرجوع في الهبة فيما بين الغريبين، فلما كان الزوجان فيما ذكرنا قد جعلا كذوي الرحم المحرم فيما منع فيه من قبول الشهادة ومن الرجوع في الهبة، كانا في النظر أيضًا في إعطاء كل واحد منهما صاحبه من الزكاة كذلك. فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أي: وإنما نطلب حكم دفع المرأة زكاتها إلى زوجها بعد أن علم حكمه بالآثار من طريق النظر والقياس. والحاصل: أن القياس وشواهد الأصول أيضًا دلت على عدم جواز إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، وبيَّن وجه ذلك بما هو ظاهر لا يحتاج إلى زيادة البيان. وأشار أن السبب في عدم جواز ذلك ليس وجوب النفقة لها عليه، إذ لو كان هو السبب في ذلك لكان دفع الرجل زكاته إلى أخته الفقيرة غير جائز لوجوب نفقتها عليه، بل السبب في ذلك هو اتصال منافع الأملاك بينهما، ألا ترى أن كل واحد منهما ينتفع بمال صاحبه كما ينتفع بمال نفسه عرفًا وعادة؟! فحينئذٍ لا يتكامل معنى التمليك الذي هو شرط في الزكاة، والدليل على ذلك عدم قبول شهادة أحدهما للآخر، فهذا السبب ها هنا كالسبب الذي بين الأبوبين وأولادهما في منع جواز أداء زكاة كل منهم إلى الآخر، ومنع قبول الشهادة من كل منهم للآخر. قوله: "وقد رأينا هذا السبب" أشار به إلى السبب المذكور، وهو اتصال منافع الأملاك. قوله: "ورأينا أيضًا كل واحد منهما" أي من الزوجين "لا يرجع فيما وهب لصاحبه في قول من يجيز الرجوع في الهبة" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه "فيما بين الغريبين" أي: الأجنبيين؛ لأن عندهم أن الواهب لأجنبي يجوز له الرجوع في هبته ما داما باقيين والعين باقية، ومع هذا لم يجوزوا الرجوع فيها من أحد الزوجين على الآخر مع كونهما أجنبين، ولكن لما ذكرنا من السبب سمع ذلك فصارا كالقريبين -بالقاف- اللذين لا يجزئ الرجوع بينهما في الهبة، فافهم.

ص: باب: الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا؟

ص: باب: الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا؟ ش: أي: هذا باب في بيان أن الخيل السائمة هل تجب فيها الزكاة أم لا؟ الخيل اسم جنس يتناول سائر الأصناف من هذا الحيوان الصاهل، واشتقاقه من الخيلاء، كما أن الفرس اشتقاقه من الفَرْس وهو الكسر. قال الجوهري: الفرس يقع على الذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى: فرسة. والسائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر حولها، فإن علفها نصف الحول أو أكثر فليست بسائمة؛ لأن أربابها لا بد لهم من العلف أيام الثلج والشتاء، فاعتبر الأكثر ليكون غالبًا. وعند الشافعي: إذا علفها ثلاثة أيام ينقطع السوم، وعند مالك: لا يشترط السوم في المواشي. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الخيل فقال: في لثلاثة: لرجل أجرٌ، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها ... ". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا، حدثه عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، غير أنه قال: "ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها" فقط. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم ... فذكر بإسناده مثله.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري والكجي، عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري الدباغ البصري روى له الجماعة، عن سهيل بن أبي صالح روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، عن أبيه أبي صاح ذكوان الزيات روى له الجماعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا: عن محمَّد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه ... " الحديث. وفيه: "وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا ولا يَنْسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها". وأخرجه البزار أيضًا مطولًا جدًّا: ثنا أحمد بن أبان، نا عبد العزيز بن محمَّد، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتي به وبماله فأحمي عليه صفائح في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجبينه وظهره حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار [ولا عبد لا يؤدي صدقة إبله إلا جيء به وبإبله على أوفر ما كانت فيبطح بقاع قرقرٍ فتسير عليه كلما مضى أخراها رُدَّ أولاها حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار] (¬2) ولا عبد لا يؤدي صدقة غنمه إلا أُتي به وبغنمه على أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقرٍ فتسير عليه كلما مضى عنه آخرها رُدَّ عليه أولاها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، حتى يحكم الله تبارك وتعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 682 رقم 987). (¬2) تكررت في "الأصل".

قالوا: يا رسول الله والخيل؟ قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلي يوم القيامة. والخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. أما التي هي له أجر فالذي يتخذها في سبيل الله ويعدها له هي له أجر لا يغيب في بطونها شيء إلا كتب له به أجر، ولو عرض له مرج أو مَرْجان فرعاها فيه كتب له بما غيبت، ولو استنَّت شرفًا أو شرفين كتب له بكل خطوة أجر، ولو عرض له نهر فسقاها كانت له بكل قطرة غُيبت في بطونها منه أجر، حتى إنه ذكر الأجر في أرواثها وأبوالها. وأما التي هي ستر فالذي يتخذها تعففًا وتجملا وتسترًا ولا يحبس حق ظهورها وبطونها في يسرها وعسرها. وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرًا وبطرًا ورئاء الناس ويبذخ عليها. قالوا: يا رسول الله، الحُمُر؟ قال: ما أنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1) ". الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): عن سويد بن سعيد، عن حفص، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوه مطولًا وفيه: "وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر". الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) سورة الزلزله، آية: [7، 8]. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 680 - 681 رقم 987).

وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن يو نس، عن ابن وهب ... إلى آخره نحوه. وهذا الإسناد شارك الطحاوي فيه مسلما؛ فإن كلًّا منهما أخرج عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا. قوله: "تكرمًا وتجملًا" منصوبان على التعليل أي: لأجل التكرم والتجمل. قوله: "ولا يَنْسى حق ظهورها وبطونها" تعلق به أبو حنيفة في إيجاب الزكاة في الخيل. وقال مَن لم يَرَ فيها الزكاة: إن المراد بذلك الحمل عليها في سبيل الله، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. قوله: "ولم يَنْس حق الله في رقابها" قال أبو عمر: للعلماء فيه ثلاثة أقوال: قالت طائفة: معناه حسن ملكتها، وتعهد شبعها، والإحسان إليها، وركوبها غير مشقوق عليها، وخص رقابها بالذكر؛ لأن الرقاب والأعناق تستعار كثيرًا في مواضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة، ومنه قوله تعالى،: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬3). وقالت طائفة: معناه إطراق فحلها وإقفار ظهرها والحمل عليها في سبيل الله، وإلي هذا ذهب ابن نافع. وهذا مذهب مَن قال: هل في المال حقوق سوى الزكاة. وممن قال ذلك: مجاهد والشعبي والحسن. وقالت طائفة: معناه الزكاة الواجبة فيها، وهو قول أبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان رحمهم الله. قوله: "صفائح" جمع صفيحة، من صفحت الشيء إذا بسطته. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 682 رقم 987). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 835 رقم 2242). (¬3) سورة النساء، آية: [92].

و "القاع": المستوي الواسع من الأرض، وقد يجتمع فيه الماء، وجمعه: قيعان. وقيل: هي أرض فيها رمل. و"القرقر": المستوي أيضًا من الأرض المتسع، فعلى هذا يكون ذكره للتأكيد. و"العقصاء": الملتوية القرنين. و"الجلحاء": التي لا قرن لها. قوله: "ولو استنت" أي: جرت وقيل: لجَّت في عدوها إقبالًا وإدبارًا، وقيل: الاستنان يختص بالجري إلى فوق، وقيل: هو المرح والنشاط، وقيل: استنت: رعت، وقيل: الاستنان الجري بغير فارس. والاستنان في غير هذا الموضع: الاستياك وهو دلك الأسنان وحكها بما يجلوها. قوله: "شرفًا أو شرفين" أي: شوطًا أو شوطين، وقيل: الشرف هنا ما علا من الأرض. ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى وجوب الصدقة في الخيل إذا كانت ذكورًا وإناثًا وكان صاحبها يلتمس نسلها، واحتجوا في إيجابهم الزكاة فيها بقول رسول الله - عليه السلام -: "ولم ينْس حق الله فيها". قالوا: ففي هذا دليل أن لله فيها حقًّا وهو كحقه في سائر الأموال التي تجب فيها الزكاة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وزفر بن الهذيل رحمهم الله؛ فإنهم قالوا بوجوب الزكاة في الخيل المتناسلة، واحتجوا على ذلك بقوله - عليه السلام - في الحديث المذكور: "ولم ينْس حق الله فيها"، فهذا دليل أن لله فيها حقًّا وهو كحقه في سائر الأموال الزكوية. قال البيهقي: هذا لا يدل على الزكاة. وكذا قال الطحاوي على ما يجيء؛ لأنه اختار قول مَن قال بعدم الوجوب فيها.

قلت: بل يدل عليها ظاهر قوله: "ولم ينْس حق الله في رقابها" مع قرينة قوله في أول الحديث الصحيح: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته"، و"ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها"، و"ما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها". وأيضًا فغير الزكاة من الحقوق لا يختلف فيها حكم الحمير والخيل، فافهم. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" بسند جيد (¬1): عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - حديثًا طويلًا وفيه: "فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاء لها ثغاء ينادي: يا محمَّد، يا محمَّد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا فقد بلَّغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسًا له حمحمة ينادي: يا محمَّد، يا محمَّد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا ... " الحديث. وروي أنه ذكر بعيرًا له رغاء، فدل على وجوب الزكاة في هذه الأنواع وليس الذم لكونه غلَّ الفرس أو لم يجاهد عليه؛ لأن الغلول لا يختص بهذه الأنواع، وترك الجهاد بنفسه يذم عليه أكثر مما يذم على تركه بفرسه. ص: واحتجوا في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، أن السائب بن يزيد أخبره قال: "رأيت أبي يقوم الخيل ويدفع صدقتها إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كان يأخذ من الفرس عشرة، ومن البرذون خمسة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر والحجاج بن منهال، قالا: ثنا حماد بن سلمة ... فذكر بإسناده مثله. وممن ذهب إلى هذا القول أيضًا أبو حنيفة وزفر رحمهما الله. ¬

_ (¬1) ورواه البزار في "مسنده" (1/ 314 رقم 204) مطولًا من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهو في "المصنف" (6/ 525 رقم 33530) من حديث أبي هريرة نحوه، وأصله في "الصحيح".

ش: أي: واحتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من وجوب الزكاة في الخيل بأثر عمر بن الخطاب. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد بن مخارق شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن عمه جويرية بن أسماء البصري، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن السائب بن يزيد ابن سعيد الكندي- ويقال: الأسدي، ويقال: الليثي، ويقال: الهذلي- وللسائب هذا ولأبيه صحبة. وهذا الإسناد على شرط الشيخين. وأخرجه الدارقطني بنحوه (¬1): من حديث الزهري: "أن السائب بن يزيد ... " إلى آخره. وأخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثني ابن أخي جويرية، ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري به. وذكره أبو عمر أيضًا في "التمهيد" (¬2) ثم قال: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وصحرج بقي بن مخلد في "مسنده": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا محمَّد بن بكر، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن حسين، أن ابن شهاب أخبره، أن السائب ابن أخت نمر أخبره: "أنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقات الخيل ... ". ومن طريقه أخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬3). ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الدراية" (1/ 255): وروى الدارقطني في "غرائب مالك" بإسناد صحيح عنه عن الزهري ... فذكره. (¬2) "التمهيد" (4/ 217). (¬3) "المحلى" (5/ 227).

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): ثنا عبد الله بن الربيع، نا عبد الله بن محمَّد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس: "أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من الرأس عشرة ومن الفرس عشرة، ومن البرذون خمسة -يعني رأس الرقيق- وعشرة دراهم وخمسة دراهم". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ أبي داود، وعن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، كلاهما عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. و"البرذون": بكسر الباء الموحدة الفرس العجمي، وفي "المطالع": البراذين خيل غير عراب ولا عتاق؛ سميت بذلك من البرذنة وهي الثقالة، يقال: برذن الرجل إذا أثقل. وقال الجوهري: البرذون: الدابة، والأنثى: البرذونة. قلت: كأنه أخذ هذا من قول الأصمعي: يقال لذوات الحافر وغيرها من البهائم كلها: برذون، وبرذونة. وأنشد الكسائي: أرَيْتَ إذا جالت بك الخيلُ جولَة ... وأنت على برذونة غير طائِل (¬2) وقالت أعرابية تهجو ضرتها: تزحزحي عني (¬3) يا برذونه ... إن البراذين إذا جرينه مع العناق (¬4) ساعةً أعيينه ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 226). (¬2) انظر كتاب "الحيوان" للجاحظ (1/ 916)، و"لسان العرب" (14/ 293). (¬3) في كتاب "الحيوان" للجاحظ (1/ 916): "إليك". (¬4) في كتاب "الحيوان" (1/ 916): "الجياد".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون منهم: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فقالوا: لا صدقة في الخيل السائمة البتة. ش: أي: خالف القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح ومكحولًا والشعبي والثوري والزهري والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا صدقة في الخيل السائمة أصلًا. وممن قال بقولهم: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به لقولهم من قول رسول الله - عليه السلام -: "ولم ينس حق الله فيها" أنه قد يجوز أن يكون ذلك حقًّا سوى الزكاة، فإنه قد روي عن رسول الله - عليه السلام - ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي - عليه السلام -، قال: "في المال حق سوى الزكاة، وتلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) إلى آخر الآية". فلما رأينا المال قد جعل فيه حق سوى الزكاة، احتمل أن يكون ذلك الحق الذي ذكره رسول الله - عليه السلام - في الخيل هو ذلك الحق أيضًا. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى في احتجاجهم لوجوب الزكاة في الخيل من قوله - عليه السلام -: "ولم ينس حق الله فيها"، أنه قد يجوز أن يكون المراد منه حقًّا سوى الزكاة؛ فإنه ورد في الحديث: "أن في المال حقًّا سوى الزكاة". وهو ما أخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن شريك بن عبد الله، عن أبي حمزة ميمون الأعور، قال الترمذي: يضعف. عن عامر الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس، لها صحبة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [177].

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، نا بشر ابن الوليد، ثنا شريك، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في المال حقًّا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ...} (¬2) الآية". وأخرجه الترمذي (¬3) أيضًا نحوه وقال: هذا حديث إسناده ليس بذاك. قالوا: إذا كان في المال حقٌ سوى الزكاة احتمل أن يكون ذلك الحق الذي ذكره عليه السلام في الخيل هو ذلك الحق دون الزكاة، ثم اختلفوا في ذلك الحق الذي هو خلاف الزكاة. فقال قوم: هو إطراق فحلها وإفقار ظهرها والحمل عليها في سبيل الله، وقد بيَّن ذلك حديث جابر - رضي الله عنه - على ما يأتي عن قريب. وقال آخرون: هو حسن ملكتها وتعهد شبعها والإحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها. وقال ابن حزم (¬4): وأما الحديث فليس فيه إلا أن لله حقًّا في رقابها وظهورها غير معيَّن، ولا مبيِّن للمقدار، ولا مدخل للزكاة في ظهور الخيل بإجماع منا ومنهم، فصح أن هذا الحق إنما هو على ظاهر الحديث، وهو حملٌ على ما طابت به نفسه منها في سبيل الله، وعارية ظهورها للمضطر. وقال ابن الجوزي في "التحقيق": والجواب عن هذا الحديث من وجهين: الأول: أن حقها إعارتها وحمل المنقطعن عليها، فيكون ذلك على وجه الندب. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 125 رقم 11). (¬2) سورة البقرة، آية: [177]. (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 48 رقم 660). (¬4) "المحلى" (5/ 228).

والثاني: أن يكون واجبًا ثم نسخ بدليل قوله: قد عفوت لكم، عن صدقة الخيل؛ إذ العفو لا يكون إلا عن شيء لازم. قلت: فلأبي حنيفة أن يقول: المراد به صدقة خيل الغزاة وكلامنا في الخيول السائمة، وأيضًا فالذي يكون على وجه الندب لا يطلق عليه حق. وأما دعوى النسخ فبعيدة؛ لأنه لو كان لاشتهر في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -، ولما قرر عمر - رضي الله عنه - الصدقة في الخيل، وأن عثمان - رضي الله عنه - ما كان يصدِّقها. وروى عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي حسين، أن ابن شهاب أخبره: "أن عثمان - رضي الله عنه - كان يصدق الخيل". ص: وحجة أخرى: أن الذِكر في الحديث الذي رويناه عن أبي هريرة إنما هو في الخيل المرتبطة، لا في الخيل السائمة. ش: أراد بها الجواب الآخر عن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى وهو أن ذِكر الخيل في حديث أبي هريرة إنما هو في الخيل المرتبطة عند أربابها لا في الخيل السائمة التي ترعى. وفيه نظر؛ لأنه ذكر الخيل عقيب ذكر زكاة المال وزكاة الإبل وزكاة الغنم كما ذكرناه في حديث مسلم الطويل وحديث البزار، وهذه قرينة أن المراد من الخيل: الخيل التي فيها الزكاة، وأن المراد من الحق فيها: هو الزكاة. ص: وحجة أخرى: أنا رأينا رسول الله - عليه السلام - ذكر الإبل السائمة أيضًا فقال: فيها حق، فسئل عن ذلك الحق ما هو؟ فقال: "إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحة سمينها". حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 35 رقم 6888)، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 381 رقم 10143).

فلما كانت الإبل أيضًا فيها حق غير الزكاة، احتمل أن تكون كذلك الخيل. ش: أراد بها الجواب الآخر عن الحديث المذكور، بيانه: أن النبي - عليه السلام - ذكر الإبل السائمة أيضًا فقال: فيها حق. ثم سئل عن ذلك الحق ما هو؟ فقال: "إطراق فحلها ... " إلى آخره. فلما كان في الإبل حق سوى الزكاة، فكذلك يحتمل أن يكون الحق الذي ذكر في الخيل هو غير الزكاة. ثم إنه أخرج حديث جابر بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - قال: "ما مِن صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذٍ جماء ولا مكسورة القرن، قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وجلبها على الماء، وحملٌ عليها في سبيل الله ... " الحديث. قوله: "ذات الظلف" الظلف للغنم والبقر والظباء، وهو ما هو منشق من القوائم. قوله: "إطراق فحلها" وهو إعارتها للضراب، لا يمنعه إذا طلبه، ولا يأخذ عليه عسبًا أي أجرًا، يقال: طرق الفحل الناقة، فهي مطروقة، وهي طروقة الفحل إذا حان لها أن تطرق، وأطرقته أنا: أعرته لذلك، إطراقًا. قوله: "ومنيحتها" المنيحة: المنحة وهي عند العرب على معنيين: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 685 رقم 988).

أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه صلةً فتكون له. والآخر: أن يمنحه ناقةً أو شاةً فينتفع بلبنها ووبرها زمانًا ثم يردها، وهو تأويل قوله في بعض الأحاديث: "المنحة مردودة" (¬1). والمنحة تكون في الأرض يمنحها الرجل أخاه ليزرعها، ومنحة الورق هي القرض. قال الفراء: يقال: منحته أمنحُه وأمنِحَه. وقال ابن دريد: أصل المنحة أن يعطي الرجل رجلًا ناقةً فيشرب لبنها أو شاةً، ثم صارت كل عطية منحة. وقال غيره: ومنيحة اللبن أن يجعلها الرجل لآخر سنةً. قوله: "وجلبها على الماء" قيل: معناه أن يقربها للمصدّق وييسر ذلك عليه بإحضارها على الماء ليسهل عليه تناول أخذ الزكاة منها، وهو بسكون اللام؛ لأنه مصدر من جلب يجلب جلْبًا. ويقال: كانت هذه الأشياء قبل فرض الزكاة ثم نسخت، ويقال: هذه في موضع تتعين فيه المواساة. ص: وأما ما احتجوا به مما رويناه عن عمر - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه أيضًا عندنا؛ لأن عمر - رضي الله عنه - لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم، وقد بيَّن السبب -الذي من أجله أخذ ذلك منهم عمر بن الخطاب- حارثة بن مضرّب. حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن القاسم -المعروف بسحيم- الحراني، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرّب، قال: "حججت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأتاه أشراف من أشراف أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قد أصبنا دواب وأموالًا، فخذ من أموالنا صدقةً تطهرنا بها، وتكون لنا زكاةً. فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قَبلي، ولكن انتظروا حتى أسال المسلمين، فسأل أصحاب رسول الله - عليه السلام - فيهم علي بن أبي طالب، فقالوا: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "سننه" (2/ 319 رقم 3565)، والترمذي في "جامعه" (4/ 433 رقم 2120)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 801 رقم 2398)، كلهم من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -.

حسن، وعلي - رضي الله عنه - ساكتٌ لم يتكلم معهم. فقال: مَا لَكَ يا أبا الحسن لا تتكلم؟ قال: قد أشاروا عليك ولا بأس بما قالوا إن لم يكن أمرًا واجبًا وجزية راتبةً يؤخذون بها. قال: فأخذ من كل عبد عشرةً، ومن كل فرس عشرةً، ومن كل هجين ثمانية، ومن كل برذون أو بغل خمسة دراهم في السنة، ورزقهم كل شهر الفرس عشرة دراهم، والهجين ثمانية، والبغل خمسةَ خَمسةً، والمملوك جريبين كل شهر". فدل هذا الحديث على أن ما أخذ منهم عمر من أجله ما كان أخذ منهم في ذلك أنه لم يكن زكاةً ولكنها صدقة غير زكاة. وقد قال لهم عمر - رضي الله عنه -: "إن هذا لم يفعله اللذان كانا قبلي- يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه -". فدل ذلك على أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر - رضي الله عنه - لم يأخذا مما كان يحضرهما من الخيل صدقةً، ولم ينكر على عمر - رضي الله عنه - ما قال من ذلك أحد من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، ودلَّ قول علي لعمر - رضي الله عنهما -: "قد أشاروا عليك إن لم يكن جزية راتبة وخراجا واجبًا"، وقبول عمر - رضي الله عنه - ذلك منه أن عمر إنما كان أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه أن يأخذه منهم فيصرفه في الصدقات، وأن لهم منع ذلك منه متى أحبوا، ثم سلك عمر - رضي الله عنه - بالعبيد أيضًا في ذلك مسلك الخيل فلم يكن ذلك بدليل على أن العبيد الذين لغير التجارة تجب فيهم صدقة، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك، فكذلك ما أخذه منهم بسبب الخيل ليس ذلك بدليل على أن الخيل فيها صدقة، ولكن ذلك على التبرع من أربابها بإعطاء ذلك. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى مما روي، عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يأخذ من الفرس صدقة. بيان ذلك: أن يقال: إن ما روي عن عمر من ذلك فليس لهم فيه حجة؛ لأن عمر - رضي الله عنه - لم يكن يأخذ ذلك منهم على أنه كان واجبًا عليهم وإنما كان أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه على سبيل التبرع والتقرب إلى الله تعالى، ليأخذ ذلك ويصرفه في الصدقات، والدليل على ذلك: ما رواه حارثة بن مضرب، ألا ترى أنهم لما قالوا:

"خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها وتكون لنا زكاة". أجاب عمر - رضي الله عنه - فقال: "هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي" وأراد بهما: النبي - عليه السلام - وأبا بكر- رضي الله عنه -، فدلَّ ذلك أن النبي - عليه السلام - لم يكن يأخذ من الخيل شيئًا ولا أبو بكر- رضي الله عنه - من بعده في خلافته، وأيضًا فلم يُنكر على عمر- رضي الله عنه - قوله ذلك أحد من الصحابة، إذ لو كان الأمر بخلافه لأنكروا عليه، فدلَّ ذلك كله أن ما كان أخذه عمر - رضي الله عنه - من السائب بن يزيد ليس على جهة الوجوب، بيَّن ذلك حديث حارثة بن مضرب، وأيضًا قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب: "قد أشاروا عليك إن لم يكن جزية راتبة وخراجًا واجبًا" دلَّ على ما قلنا؛ لأن عمر قبل هذا القول منه، فدل ذلك كله على أن عمر إنما أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه ليأخذه ويصرفه في الصدقات، حتى إن لهم منع ذلك متى أحبوا، وأيضًا فإن عمر- رضي الله عنه - قد سلك في العبيد أيضًا مسلك الخيل حيث أخذ من كل عبد عشرة، والعبيد إذا لم يكونوا للتجارة لا يجب فيهم شيء، فدلَّ ذلك أن ما كان يأخذه كان على سبيل التبرع من أصحابها حيث أعطوا ذلك. ثم إنه أخرج الأثر المذكور عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن القاسم المعروف بسحيم الحراني قال أبو حاتم: صدوق. عن زهير بن معاوية بن حديج الكوفي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن حارثة بن مضرِّب العبدي الكوفي قال أحمد: حسن الحديث. وعن يحيى: ثقة. وروى له الأربعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا محمَّد بن المعلى الشونيزي، ثنا محمَّد بن عبد الله المخزومي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب: "أن قومًا من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالوا: إنا قد أصبنا كراعًا ورقيقًا، وإنا نحب أن نزكيه. قال: ما فعله صاحباي قبلي، ولا أفعله حتى ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 126 رقم 2).

أستشير، فشاور أصحاب محمَّد - عليه السلام - فقالوا: حسنٌ، وعلي - رضي الله عنه - ساكت، فقال: ألا تتكلم يا أبا الحسن؟ فقال: قد أشاور عليك وهو حسن إن لم يكن جزيةً راتبة يؤخذون بها بعدك. قال: فأخذ من الرقيق عشرة دراهم ورزقهم جريبين من بر كل شهر، وأخذ من الفرس عشرة دراهم ورزقه عشرة أجربة من شعير كل شهر، وأخذ من المقاريف ثمانية دراهم ورزقها ثمانية أجربة من شعير كل شهر، وأخذ من البراذين خمسة دراهم ورزقها خمسة أجربة من شعير كل شهر. قال أبو إسحاق: فلقد رأيتها جزيةً تؤخذ من أعطياتنا زمان الحجاج وما نرزق عليها". قال الشيخ: "المقرف" من الخيل دون الجواد (¬1). انتهى. قوله: "تطهرنا بها" أي: بالصدقة، تلمحوا في هذا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬2). قوله: "فقالوا: حسن" أي: قال الصحابة: هذا شيء حسن، يعني: أخذك منهم بسؤالهم إياه شيء حسن. قوله: "وعلي ساكت" جملة اسمية وقعت حالًا. قوله: "ومن كل هجين" أي: ومن كل فرس هجين، قال ابن الأثير: الهجين في الناس والخيل إنما يكون من قِبل الأم، فإذا كان الأب عتيقًا والأم ليست كذلك كان الولد هجينًا، والإقراف من قبل الأب. قال الجوهري: المقرف الذي دانى الهجنة من الفرس وغيره الذي أمه عربية وأبوه ليس كذلك؛ لأن الإقراف إنما هو من قبل الفحل، والهجنة من قبل الأم. وقال ابن الفارسي: المقرف مداني الهجنة، والعتيق من الفرس هو الأصيل. ¬

_ (¬1) المقرف من الخيل: الهجين، وهو الذي أمه برذونة، وأبوه عربي، وقيل بالعكس، وقيل: هو الذي دانى الهجنة وقاربها. انظر "النهاية" (4/ 46). (¬2) سورة التوبة، آية: [103].

قال الجوهري: العتيق الكريم من كل شيء والخيار من كل شيء. وفرسٌ عتيق أي رائع. وقال في باب العين: وفرس رائع أي: جواد. وفي "المطالع": الهجين من الخيل هو الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، وقد يستعمل ذلك في غير الخيل. قوله: "جَرِيبين" تثنية جَرِيب -بفتح الجيم وكسر الراء- قال الجوهري: الجريب من الطعام والأرض مقدار معلوم، والجمع: أجربة وجربان. قلت: المراد هنا جريب الطعام، وجريب الأرض ما يكون طولها ستين ذراعًا وعرضها مثل ذلك بذراع الملك كسرى، يزيد على ذراع العامة بقبضة. ص: وقد روي عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق". حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام -. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان وشريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - مثله. فذلك أيضًا ينفي أن يكون في الخيل صدقة. ش: أخرج هذا الحديث؛ لكونه صريحًا في عدم الزكاة في الخيل من ثلاث طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق بن معاوية الكوفي قاضيها أحد أصحاب أبي حنيفة،

روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن عاصم بن ضمرة السلولي، وثقه العجلي، وابن المديني، وروى له الأربعة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا ابن نمير، ثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، وليس فيما دون المائتين زكاة". الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري وشريك بن عبد الله، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو، عن الحارث بن عبد الله الأعور الكوفي، فيه مقال: فقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وقال ابن المديني: الحارث كذاب. روى له الأربعة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا سهل بن أبي سهل، نا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي - عليه السلام - قال: "تجاوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود، عن يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد العبدي وثقه ابن يونس، عن إبراهيم بن طهمان الخراساني روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو، عن الحارث بن عبد الله، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬3) من طريق الحارث معلقا، ومن طريق عاصم مسندًا فقال: ثنا محمَّد بن عبد الملك، عن أبي عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي. ثم قال: روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 113 رقم 913). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 579 رقم 1813). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 16 رقم 620).

وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. قال: وسألت محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون روى عنهما جميعًا. وأخرجه أبو داود (¬1): عن عمرو بن عون، عن أبي عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دارهم". قوله: "والرقيق" فعيل بمعنى مفعول من الرق وهو العبودية، وإنما أسقط الصدقة عن الخيل والرقيق إذا كانت للركوب والخدمة، فأما إذا كان منها شيء للتجارة ففيه الزكاة في قيمته. وقال ابن الجوزي: هذا الحديث ناسخ لحديث أبي هريرة المذكور أولًا؛ لأن العفو لا يكون إلا عن شيء لازم. وفيه نظر قد بيَّناه. ص: فإن قال قائل: فقد قرن مع ذلك الرقيق فلما كان لا ينفي أن تكون الصدقة واجبةً في الرقيق إذا كانوا للتجارة، فكذلك لا ينفي ذلك أن تكون الزكاة واجبةً في الخيل إذا كانت سائمةً، وكما كان قوله: "قد عفوت لكم عن صدقة الرقيق" إنما هو على الرقيق للخدمة خاصّةً، فكللك قوله: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل" إنما هو على خيل الركوب خاصةً. قيل له: يحتمل ما ذكرت، وإذا بطل أن تنتفي الزكاة بهذا الحديث انتفت بما ذكرنا قبله مما في حديث حارثة؛ لأن فيه أن عليًّا - رضي الله عنه - قال لعمر- رضي الله عنه - ما قد ذكرنا، فدل ذلك أن معنى قول رسول الله - عليه السلام - هذا كان عند علي - رضي الله عنه - على نفي الزكاة منها؛ وإن كانت سائمة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 101 رقم 1574).

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن ذكر الخيل قد قرن في حديث علي - رضي الله عنه - هذا مع ذكر الرقيق، وعفوه - عليه السلام - عن صدقة الرقيق إذا كان للخدمة لا يستلزم نفيها إذا كان للتجارة، فكذلك عفوه عن الخيل للركوب لا يستلزم نفيها إذا كانت سائمةً. وتوجيه آخر: أن المراد من الرقيق ها هنا ما إذا كانوا للخدمة، وأما إذا كانوا للتجارة فتجب الصدقة فيهم، فإذا كان هذا محمولًا على هذا المعنى فلا ينافي أن يكون معنى الخيل أيضًا محمولًا على خيل الركوب؛ فتجب الصدقة حينئذٍ إذا كانت سائمةً. وتقرير الجواب أن يقال: سلمنا ما ذكرت من الاحتمال النافي لعدم وجوب الصدقة، ولكن قول علي- رضي الله عنه - في حديث حارثة بن مضرّب المذكور عن قريب: "لا بأس بما قالوا إن لم يكن أمرًا واجبًا وجزيةً راتبةً يؤخذون بها" قرينة تدل على نفي الزكاة عن الخيل سواء كانت سائمة أو لم تكن. ص: وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام - ما معناه قريب من معنى حديث عاصم والحارث عن علي - رضي الله عنه -. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت سليمان بن يسار، يحدث عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه السلام - قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله.

حدثني محمَّد بن عيسى بن فليح، قال: ثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، عن سليمان بن فليح، عن عبد الله بن دينار ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن مكحول، عن عراك ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن خثيم بن عِراك، عن أبيه ... فذكر بإسناده مثله. فلما لم يكن في شيء مما ذكرنا من هذه الآثار دليلًا على وجوب الزكاة في الخيل السائمة، وكان فيها ما ينفي الزكاة منها؛ ثبت بتصحيح هذه الآثار قول الذين لا يرون فيها الزكاة. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: هذه سبع طرق: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي وثقه أبو حاتم، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار الهلالي المدني، عن عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا عبد الله بن دينار، سمعت سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - عليه السلام -: "ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة"، وفي لفظ: "وعبده". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وسعيد بن عامر الضبعي البصري، كلاهما عن شعبة، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 532 رقم 1394).

وأخرجه أحمد (¬1): عن سعيد بن عامر نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬2): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة". الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا عبد الله بن مسلمة، نا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة". الخامس: عن محمَّد بن عيسى بن فليح الجراحي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار بن النضير المصري وثقه ابن حبان، وقال النسائي: ليس به بأس. عن سليمان بن فليح بن سليمان المدني لم أعرف من حاله شيئًا، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬4) وزاد فيه: "إلا صدقة الفطر". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 477 رقم 10190). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 579 رقم 1812). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 108 رقم 1595). (¬4) "صحيح ابن حبان" (8/ 65 رقم 3272).

السادس: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن أسامة بن زيد الليثي، عن مكحول، عن عراك، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا أيوب بن موسى، عن مكحول، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة- وقال عمرو: عن النبي - عليه السلام -، وقال زهير: يبلغ به: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وأخرج أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى ومحمد بن يحيى بن فياض، قالا: ثنا عبد الوهاب، نا عبيد الله، عن رجل، عن مكحول، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق". السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن حماد بن زيد، عن خثيم بن عراك، عن أبيه عراك بن مالك، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (¬3): عن حاتم بن إسماعيل، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. وأخرجه مسلم (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحوه. قوله: "في عبده" المراد منه العبد الذي يتخذ للقنية حتى إذا كان للتجارة تجب فيه الزكاة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 676 رقم 982). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 108 رقم 1594). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 311 رقم 36386). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 672 رقم 982).

وقال الترمذي (¬1): والعمل عليه عند أهل العلم أنه ليس في الخيل السائمة صدقة ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة صدقة، إلا أن يكونوا للتجارة، وإذا كانوا للتجارة ففي أثمانهم الزكاة إذا حال عليها الحول. ولقائل أن يقول من جهة أبي حنيفة: كما أن المراد من العبد عبد الخدمة، فكذلك المراد من الفرس فرس المغازي. وقال صاحب "الهداية": هو المنقول عن زيد بن ثابت. وذكر أبو زيد الدبوسي في كتاب "الأسرار" فقال: إن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - لما بلغه حديث أبي هريرة قال: صدق رسول الله - عليه السلام - إنما أراد فرس الغازي. قال: ومثل هذا لا يعرف بالرأي، فثبت أنه مرفوع. وروى أحمد بن زنجويه في كتاب "الأموال": نا علي بن الحسن، نا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، أنه قال: "سألت ابن عباس عن الخيل أفيها صدقة؟ فقال: ليس على فرس المغازي في سبيل الله صدقة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) نحوه: عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهم -. ولأن الزكاة إنما وجبت في الأموال النامية، وذلك ممكن في الإناث من الخيل، وفي المختلطة، ويتقوى بالآثار المنقولة من السلف منها: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - "كان يأخذ من الفرس عشرة دراهم ومن البراذين خمسة" وقد مرّ. وبلغه أن عبد الرحمن بن أمية ابتاع فرسًا أنثى بمائة قلوص فندم البائع، فلحق بعمر بن الخطاب وشكى إليه القصة، فقال: "نأخذ من أربعين شاةٍ شاةً ولا نأخذ من الخيل. فضرب على كل فرس دينارًا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 23 رقم 628). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 312 رقم 36388).

وفعله عثمان بن عفان، وكان أيضًا يأخذ الزكاة منها. كذا ذكره في "أحكام ابن بزيزة". ص: وأما وجه طريق النظر فإنا رأينا الذين يوجبون فيها الزكاة ولا يوجبونها حتى تكون ذكورًا وإناثًا يلتمس صاحبها نسلها، ولا تجب الزكاة في ذكورها خاصةً، ولا في إناثها خاصةً، وكانت الزكوات المتفق عليها في المواشي السائمة تجب في الإبل والبقر والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا. فلما استوى حكم الذكور في ذلك خاصةً، وحكم الأناث خاصة، وحكم الذكور والإناث، وكانت الذكور من الخيل خاصةً والإناث منها خاصة لا تجب فيها زكاة، كان كذلك في النظر للإناث منها والذكور إذا اجتمعت، لا تجب فيها زكاة. ش: أراد أن وجه القياس أيضًا يقتضي أن لا تجب الزكاة في الخيل مطلقًا؛ وذلك لأن مَن يوجب الزكاة في الخيل يَشترط أن تكون مختلطة ذكورًا وإناثًا، حتى يكون فيها درٌّ وتناسل، حتى لا يوجب في ذكرانها خاصة ولا في إناثها خاصةً، وبقية السوائم من الإبل والبقر والغنم تجب فيها الزكاة مطلقًا سواء كانت ذكورًا أو إناثًا أو مختلطة، وهذا بلا خلاف بينهم، وكانت الخيل إذا كانت ذكورًا خاصة لا تجب، وكذا إذا كانت إناثًا خاصة لا تجب بلا خلاف. فالقياس على هذا أن لا تجب إذا كانت ذكورًا وإناثًا؛ لأنه لما استوى الأحوال كلها في بقية المواشي في الوجوب كان ينبغي أن تستوي الأحوال أيضًا في الخيل في عدم الوجوب. وقد شنَّع ابن حزم على أبي حنيفة في هذا الموضع (¬1) فقال: استدل أبو حنيفة بفعل عمر وعثمان - رضي الله عنهما - ثم خالفه. وذلك أن قول أبي حنيفة: إنه لا زكاة في الخيل الذكور ولو كثرت وبلغت ألف فرس، فإن كانت إناثًا أو إناثًا وذكورًا سائمة غير معلوفة فحينئذ تجب فيها ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 228).

الزكاة، وصفة تلك الزكاة أن صاحب الخيل مخيَّر إن شاء أعطى من كل فرس دينارًا أو عشرة دراهم، وإن شاء قوَّمها فأعطى من كل مائتي درهم عشرة، وهذا خلاف فعل عمر- رضي الله عنه -. قلت: لا نسلم أن أبا حنيفة خالف فعل عمر- رضي الله عنه -؛ فإن عمر - رضي الله عنه - أخذ من كل فرس عشرة دراهم على ما مرَّ في حديث حارثة بن مضرب. وأما اشتراطه أن تكون ذكورًا وإناثًا أو إناثًا حتى تجب فيها الزكاة فليس ذلك من رأيه واجتهاده بل هو هكذا منقول عن إبراهيم النخعي. قال محمَّد في "آثاره": أنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في الخيل السائمة التي يُطلب نسلُها: "إن شئت في كل فرس دينارًا، وإن شئت عشرة دراهم، وإن شئت فالقيمة، ثم كان في كل مائتي درهم خمسة دراهم في كل فرس ذكر أو أنثى". انتهى. فمن هذا عرفت أن وجه النظر هذا فيه نظر. فافهم. ص: وحجة أخرى: أنَّا قد رأينا البغال والحمير لا زكاة فيها وإن كانت سائمةً، والإبل والبقر والغنم فيها الزكوات إذا كانت سائمةً، وإنما الاختلاف في الخيل، فأردنا أن ننظر أيّ الصنفين هي أشبه به فنعطف حكمه على حكمه، فرأينا الخيل ذات حوافر وكذلك الحمير والبغال هي ذوات حوافر أيضًا، وكانت المواشي من البقر والغنم والإبل ذوات أخفاف، فذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخف، فثبت بذلك أن لا زكاة في الخيل كما لا زكاة في الحمير والبغال. ش: أراد به دليلًا آخر في اقتضاء القياس عدم وجوب الزكاة في الخيل، وهو ظاهر، ولكن فيه نظر من وجهين: الأول: أن الخيل يؤكل لحمها، ولا سيما عند من لا يرى الزكاة فيها، فشبهها بمأكول اللحم كالبقر والغنم والإبل أقرب من شبهها بما لا يؤكل لحمها كالحمير والبغال؛ لأن المشابهة بين الشيئين لا تطلب إلا في الوصف الأعم الأشهر.

وهذا الوصف الذي ذكرنا هو أعم وأشهر من المشابهة التي ذكرها. الثاني: أن قوله: وكانت المواشي من البقر والغنم والإبل ذوات أخفاف ليس كذلك؛ لأن ذوات الأخفاف هي الإبل فقط، وأما البقر والغنم فهي ذوات أظلاف وهي في الحقيقة كالحافر غير أنها مشقوقة، والحافر غير مشقوقة. ص: وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو أحب القولين إلينا. وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار قال: "قلت لسعيد بن المسيب: أَعَلَى البراذين صدقة؟ فقال: أَوَ على الخيل صدقة؟ ". ش: أي: هذا الذي ذكرنا من عدم وجوب الزكاة في الخيل هو قول الإِمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن الحسن، وأشار بقوله: "وهو أحب القولين إلينا" إلى أنه اختار قول أبي يوسف ومحمد في هذا الباب، وترك قول أبي حنيفة. قوله: "وقد روي ذلك" أي: عدم الوجوب في الخيل "عن سعيد بن المسيب". أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار قال: "سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال لي: أَوَفي الخيل صدقة؟ أَوَفي الخيل صدقة؟ ". قلت: أراد به إنكار الوجوب فيها، ولا يتم به الاستدلال؛ لأنه يمكن أن يكون مراده خيل الغزاة، كما روي عن ابن عباس كذلك، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 381 رقم 10146).

ص: باب: الزكاة هل يأخذها الإمام أم لا؟

ص: باب: الزكاة هل يأخذها الإمام أم لا؟ ش: أي: هذا باب في بيان أن الإِمام هل يأخذ الزكاة من الناس جبرًا أم لا؟ ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: "أن وفد ثقيف قدِموا على رسول الله - عليه السلام - فقال لهم: لا تحشروا ولا تعشروا". ش: إسناده صحيح. وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. وحميد هو الطويل. والحسن هو البصري. وعثمان بن أبي العاص الثقفي أبو عبد الله الطائفي قدم على النبي - عليه السلام - في وفد ثقيف، واستعمله النبي - عليه السلام - على الطائف، ثم أقره أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن علي بن سويد، قال: ثنا أبو داود، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: "أن وقد ثقيف لما قدموا على رسول الله - عليه السلام - أنزلهم في المسجد ليكون أرقَّ لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يُجبّوا، فقال رسول الله - عليه السلام -: لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع". قوله: "لا تحشروا" أي: لا تندبون إلى المغازي، ولا تضرب عليكم البعوث، وقيل: أي: لا تحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالكم، بل يأخذها في أماكنكم، وأصله من الحشر وهو الجمع. قوله: "ولا تعشروا" أي: لا يؤخذ عشر أموالكم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 163 رقم 3026).

وقيل: أراد بها الصدقة الواجبة، وإنما فسح لهم في تركها؛ لأنها لم تكن واجبةً يومئذٍ عليهم إنما تجب بتمام الحول. وسئل جابر - رضي الله عنه - عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليهم ولا جهاد؟ فقال: علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. قوله: "ولا يجبوا" على صيغة المجهول من التجبية -بالجيم- وهو أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود، والمراد بقولهم: لا يجبوا، أنهم لا يصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع لقوله في جوابهم: "ولا خير في دين ليس فيه ركوع" فسمى الصلاة ركوعًا؛ لأنه بعضها، وإنما لم يرخص لهم في ترك الصلاة؛ لأن وقتها حاضر متكرر بخلاف وقت الزكاة والجهاد. ص: حدثنا أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن مهاجر البجلي، عن عمرو بن حُريث، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا معشر العرب احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن رجل، حدثه عن عمرو بن حريث، يحدث عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول ... فذكر مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي تكلم فيه النسائي، عن زكرياء بن أبي زائدة، واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوادعي الكوفي، أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري، عن عمرو بن حريث بن عمرو المخزومي المدني وثقه ابن حبان، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي أحد

العشرة المبشرة بالجنة وابن عم عمر بن الخطاب وصهره على أخته فاطمة بنت الخطاب - رضي الله عنهم -. والثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الزبيري الكوفي، عن إسرائيل ... إلى آخره. ورجاله ثقات، ولكن فيه مجهول. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا الفضل بن دُكين، نا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، حدثني مَن سمع عمرو بن حريث، يحدث عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "يا معشر العرب احمدوا الله الذي رفع عنكم العشور". وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده" (¬2): عن محمَّد بن المثنى، عن أبي أحمد، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن رجل، عن عمرو بن حريث ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬3): عن محمَّد بن عبد الله بن الزبير، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن رجل، عن عمرو بن حريث، قال: سمعت سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا معشر العرب احمدوا ربكم الذي رفع عنكم العشور". قوله: "إذْ رفع عنكم العشور" أراد ما كانت الملوك تأخذه منهم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن معبد والحماني، قالا: ثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن جده أبي أمه، عن أبيه، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على أهل الذمة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 190 رقم 1654). (¬2) "مسند البزار" (4/ 84 رقم 1254). (¬3) "مسند أبي يعلى" (2/ 256 رقم 964).

ش: الحماني هو يحيى بن عبد الحميد أبو زكرياء الكوفي وقد تكرر ذكره. وأبو الأحوص سلام بن سُليم الحنفي روى له الجماعة. وعطاء بن السائب بن مالك الثقفي، قال العجلي: كان شيخًا ثقة قديمًا، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح الحديث، منهم سفيان، فأما من سمع منه بأخرة فهو مضطرب الحديث منهم هشيم. روى له البخاري متابعةً حديثًا، وأحمد والأربعة. وحرب بن عبيد الله بن عمير الثقفي، قال البخاري: لا يتابع عليه. وقد اختلفت الرواية عن حرب بن عبيد الله هذا، فقال عبد السلام بن حرب: عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن جده رجل من بني تغلب، قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فأسلمت وعلمني الإسلام وعلمني كيف آخذ الصدقة". وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن سفيان، عن عطاء، عن رجل من بكر بن وائل، عن خاله: "قلت: يا رسول الله، أعْشُرُ قومي؟ ". وقال وكيع: عن سفيان، عن عطاء، عن حرب، عن النبي - عليه السلام - مرسلًا. وقيل: عن سفيان، عن عطاء، عن حرب، عن خالٍ له. وقال حماد بن سلمة: عن عطاء، عن حرب، عن رجل من أخواله. وقال جرير: عن عطاء، عن حرب بن هلال الثقفي، عن أبي أمامة بن ثعلبة. وقال نُصَير بن أبي الأشعث: عن عطاء، عن حرب، عن أبي جده. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حرب بن عبيد الله الثقفي روى عن خالٍ له من بكر بن وائل، قال: "أتيت النبي - عليه السلام - ... ". روى عنه عطاء بن السائب سمعت أبي يقول ذلك. واختلفت الرواة عن عطاء على وجوه، فكان أشبهها ما روى الثوري، عن عطاء بن السائب فلا يشتغل -أبي يقول ذلك- برواية جرير وأبي الأحوص ونُصير بن أبي الأشعث.

وقال عباس الدوري: قلت ليحيى: تعرف أحدًا يقول: عن جده أبي أمه، وفي رواية: عن جده أبي أمه، عن أخيه؟ قال: لا، كأنه عنده إنما هو: عن جده أبي أمه فقط، قال: وسألته عن حديث عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن خاله، مَن خاله؟ قال: لا أدري. قلت: أخرج أبو داود (¬1) نحو رواية الطحاوي أولًا، ثم أخرج على نحو الاختلاف الذي ذكرناه فقال: ثنا مسدد، قال: نا أبو الأحوص، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن جده أبي أمه، عن أبيه، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور". ونا (¬2) محمَّد بن عبيد الله المحاربي، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن النبي - عليه السلام - بمعناه، قال: "الخراج" مكان "العشور". ونا (¬3) محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء، عن رجل من بني بكر بن وائل، عن خاله: "قلت: يا رسول الله، أعشر قومي؟ قال: إنما العشور على اليهود والنصارى". وثنا (¬4) محمَّد بن إبراهيم البزار، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله بن عُمير الثقفي، عن جده رجل من بني تغلب، قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فأسلمت وعلَّمني الإِسلام، وعلَّمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم، ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله، كل ما علمتني قد حفظت إلا الصدقة؛ أفأعشرهم؟ قال: لا، إنما العُشر عَلى اليهود والنصارى". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3046). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3047). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3048). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3049).

ورواه البيهقي في "سننه الكبير" (¬1): من حديث أبي بكر بن عياش، عن نُصير، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي حمدة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى". قال: ورواه البخاري في "تاريخه" (¬2) دون ذكر أبيه. ورواه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا ابن دُكين، نا سفيان، عن عطاء، عن حرب بن عبيد الله الثقفي، عن خاله، قال: "أتيت رسول الله - عليه السلام - فذكر له أشياء، فسأله فقال: أعشرها؟ فقال: إنما العشور على اليهود والنصاري، ليس على المسلمين عشور". وقال ابن الأثير: والعشور: جمع عُشر، يعني ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات، والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد، فإن لم يصالحوا على شيء فلا يلزمهم إلا الجزية. وقال أبو حنيفة: إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة. ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن الإِمام ليس له أن يبعث على المسلمين من يتولى أخذ صدقاتهم، ولكن المسلمين بالخيار إن شاءوا أدوها إلى الإِمام فتولى وضعها في مواضعها التي أمره الله -عز وجل- بها، وإن شاءوا فرقوها في تلك المواضع، وليس للإمام أن يأخذها منهم بغير طيب أنفسهم، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار التي رويناها عن رسول الله - عليه السلام -، وبما روي عن عمر - رضي الله عنه -. حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا سفيان، عن عمرو، عن مسلم بن يسار قال: "قلت لابن عمر: كان عمر يَعشر المسلمين؟ قال: لا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبير" (9/ 211 رقم 18553). (¬2) "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 60 رقم 220). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 474 رقم 15937).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي ومكحولًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: المسلمون بالخيار إن شاءوا أدوا صدقاتهم إلى الإِمام، وإن شاءوا فرقوها بأنفسهم. وقال ابن قدامة (¬1): يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. قال الإِمام أحمد: أعجب إليَّ أن يخرجها بنفسه، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. وقال طاوس: لا تعطهم. وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها مواضعها. وقال الشعبي وأبو جعفر: إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها. وقال إبراهيم: ضعوها في مواضعها فإن أخذها السلطان أجزأك. وروي عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى السلطان، وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين، فظاهر هذا أنه استحب دفع العشر خاصةً إلى الأئمة. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي: احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بحديث عثمان بن أبي العاص وسعيد بن زيد وحرب بن عبيد الله، عن جده، عن أبيه. قوله: "وبما روي" أي: واحتجوا أيضًا بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن مسلم بن يسار المكي الفقيه، عن عبد الله بن عمر، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "المغني" (2/ 505).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: للإمام أن يولي أصحاب الأموال صدقات أموالهم حتى يضعوها مواضعها، وللإمام أيضًا أن يبعث عليها مصدقين حتى يعشروها ويأخذوا الزكاة منها. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: ينصب الإِمام من يأخذ صدقات أموالهم ويبعث مصدقين ليعشروها ويأخذوا الزكوات منها، وله أن يفوض لأرباب الأموال فيصرفونها مصارفهم. وقال صاحب "البدائع": مال الزكاة نوعان: ظاهر: وهو المواشي، والمال الذي يمر به التاجر على العاشر. وباطن: وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها. أما الظاهر فللإمام ونوابه وهم المصدقون من السعاة والعشار ولاية الأخذ، والساعي هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها، والعاشر هو الذي يأخذ الصدقة من التاجر الذي يمر عليه، والمصدق: اسم جنس. والدليل على أن للإمام ولاية الأخذ في المواشي في الأموال الظاهرة: الكتاب والسنة والإجماع وإشارة الكتاب. أما الكتاب فقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ...} (¬1) الآية، نزلت في الزكاة عند عامة أهل التأويل أمر نبيَّه - عليه السلام - بأخذ الزكاة، فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (¬2)، فقد بيَّن الله تعالى، ذلك بيانًا شافيًا حيث جعل للعاملين عليها حقًّا، فلو لم يكن للإمام أن يطالب أرباب الأموال بصدقات الأنعام في أماكنها، وكان أداؤها إلى أرباب الأموال، لم يكن لذكر العاملين وجه. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [103]. (¬2) سورة التوبة، آية: [60].

وأما السنة فإن رسول الله - عليه السلام - كان يبعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في أماكنها، وعلى ذلك فعل الأئمة من بعده من الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -. وكذا المال الباطن إذا مرَّ به التاجر على العاشر كان له أن يأخذها في الجملة، وعليه إجماع الصحابة؛ فإن عمر - رضي الله عنه - نصب العُشار وقال لهم: خذوا من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العُشر. ومن الحربي العُشر. وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يُنقل أنه أنكر عليه أحد منهم فصار إجماعًا. وأما المال الباطن الذي يكون في المصر قال عامة مشايخنا: إن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهم - طالبوا بزكاته وعثمان - رضي الله عنه - طالب مدة ولما كثر أموال الناس رأى أن في تتبعها حرجًا على الأئمة، وفي تفتيشها ضررًا بأرباب الأموال، ففوض إلى أربابها الأداء. انتهى. قلت: هذا الكلام يدل على أن مذهب أبي حنيفة أن ولاية الأخذ في الزكوات للإمام سواء كان من الأموال الظاهرة أو من الأموال الباطنة، وأشار إلى ذلك الطحاوي أيضًا حيث قال في وجه النظر في هذا الباب: فإنا قد رأيناهم أنهم لا يختلفون أن للإمام أن يبعث إلى أرباب المواشي السائمة حتى يأخذ منهم صدقة مواشيهم إذا وجبت فيها الصدقة، وكذلك يفعل في ثمارهم. فالنظر على ذلك أن تكون بقية الأموال من الذهب والفضة وأموال التجارات كذلك، ثم قال: وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، فعلى هذا: ما ذكره بعض أصحابنا الحنفية في مختصراتهم من أن الإِمام لا يتعرض إلى الأموال الباطنة، غير صحيح وأنه ليس مذهب أبي حنيفة. ص: وكان في الحجة على أهل المقالة الأولى: أن العشر الذي كان رسول الله - عليه السلام - رفعه عن المسلمين هو العشر الذي كان يؤخد في الجاهلية، وهو خلاف الزكاة، وكان يسمونه المكس، وهو الذي روى عقبة بن عامر فيه عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا فهد،

قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحيم، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شُماسة، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يدخل الجنة صاحب مكس" يعني: عاشرًا. فهذا هو العشر المرفوع من المسلمين، وأما الزكاة فلا. ش: أشار به إلى الجواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وهو أن يقال: إن المراد من العشر الذي رفعه رسول الله - عليه السلام - عن المسلمين هو الذي كان يؤخذ منهم قبل الإسلام، وهو الذي كان يسمى المكس، وهو خلاف الزكاة التي نص الله تعالى ورسوله على إخراجها ودفعها إلى الإِمام ليضعها في مصارفها، وقد بيَّن ذلك عقبة بن عامر الجهني في حديثه عن النبي - عليه السلام -: "لا يدخل الجنة صاحب مكس" وأراد به العاشر الذي كان يأخذه منهم على طريق الظلم. وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن عبد الرحيم بن سليمان أبي علي الأشل روى له الجماعة، عن محمَّد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن شماسة بن ذؤيب المصري روى له الجماعة سوى البخاري. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، عن محمد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة ابن عامر قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا يدخل الجنة صاحب مكس". أخرجه في باب: "السعاية على الصدقة" في أول كتاب الخراج. وقال ابن الأثير في تفسير هذا الحديث: المكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 132 رقم 2937).

وقال الجوهري: المكس: الجباية، والماكس: العشار، والمكس: ما يأخذه العشار. قال الشاعر (¬1): أفي (¬2) كُلِّ أسواقِ العراقِ إتاوَةٌ ... وَفي كُلِّ ما باعَ امرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ انتهى. قلت: المكس في هذا الزمان: ما يأخذه الظلمة والأعوان من التجار الواردين في البلاد ومن الباعة والشراة في الأسواق بأشياء مقررة عليهم على طريق الظلم والعدوان، وكان هذا قبل الإِسلام في الجاهلية، ثم لما جاء الشرع أبطل هذا وأمرهم أن يؤدوا الزكوات والعشور والخراج على الأوضاع الشرعية، ثم لما استولت الظلمة من الملوك والخونة من الحكام أعادوا هذا الظلم، ثم لم يزل الوزراء الظلمة الفسقة يحددون ذلك ويزيدون عليه ويفرعون تفريعات حتى وضعوه في كل شيء جليل وحقير، ودخلوا تحت قوله - عليه السلام -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فليس منا". ص: وقد بيَّن ذلك أيضًا: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن رجل من أخواله "أن رسول الله - عليه السلام - استعمله على الصدقة، وعلَّمه الإسلام وأخبره بما يأخذ، فقال: يا رسول الله، كل الإسلام قد علمت إلا الصدقة، أفأعشر المسلمين؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: إنما يعشر اليهود والنصارى". ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - بعثه على الصدقة وأمره أن لا يعشر المسلمين، وقال له: "إنما العشور على اليهود والنصارى" فدل ذلك أن العشور المرفوعة عن المسلمين هي خلاف الزكاة. ¬

_ (¬1) هو جابر بن حُنَيّ التغلبي، كان شاعرا نصرانيًّا، وهو من أهل اليمن، طاف أنحاء نجد وبادية العراق، وصحب امرأ القيس حين خرج إلى القسطنطينية مستنجدًا بقيصر. والبيت من قصيدة طويلة عدد أبياتها 28 بيتًا. (¬2) ويروى: وفي، بالواو في أوله. كما في "منتهى الطلب" (1/ 748)، وفي "المفضليات" لمفضل الضبي (1/ 170).

ش: أي: وقد بيَّن ما ذكرنا من أن المراد من ذلك العشر هو الذي كان يؤخذ في الجاهلية: ما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة- ابن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن رجل من أخواله ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله، عن خاله، عن النبي - عليه السلام - مثله. وقد ذكرنا الاختلاف في هذا الحديث، عن قريب. قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به حديث حرب بن عبيد الله الذي يرويه عن خاله من الصحابة. ص: ومما يبيِّن ذلك أيضًا: أن حسين بن نصر، حدثنا قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفيّ، عن خالٍ له من بكر بن وائل قال: "أتيت النبي - عليه السلام - فسألته عن الإبل والغنم أعشرهن؟ قال: إنما العشور على اليهود وليس على المسلمين". فدل هذا أن العشر الذي ليس على المسلمين المأخوذ من اليهود والنصارى هو خلاف الزكاة؛ لأن ما يؤخد من النصارى من ذلك إنما هو حق للمسلمين واجب عليهم كالجزية الواجبة لهم عليهم، والزكاة ليست كذلك؛ لأنها إنما تؤخذ طهارةً لرب المال وهو مثاب على أدائها، واليهود والنصارى ليس ما يؤخد منهم من العشر طهارةً لهم، ولا هم مثابون عليه، فرفع رسول الله - عليه السلام - ما يؤخذ منهم مما لا ثواب لهم عليه، وأقر ذلك على اليهود والنصارى. ش: أي: ومن الذي يبيِّن ما ذكرنا من أن العشر الذي كان رسول الله - عليه السلام - رفعه عن المسلمين هو الذي كان يؤخذ منهم في الجاهلية وهو المكس، وليس ذلك هو الزكاة: أن حسين بن نصر بن المعارك، حدثنا عن محمَّد بن يوسف ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 416 رقم 10575).

الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن حرب ابن عبيد الله .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1) وأحمد في "مسنده" (¬2) وقد ذكرناه، عن قريب مع الاختلاف فيه. قوله: "طهارةً". نصب على التعليل، أي: لأجل الطهارة لرب المال عن الأوساخ. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران: "أن عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه - كتب إلى أيوب بن شرحبيل: أنْ خذ من المسلمين من كل أربعين دينارًا دينارًا، ومن أهل الكتاب من كل عشرين دينارًا دينارًا إذا كانوا يديرونها، ثم لا تأخذ منهم شيئًا حتى رأس الحول؛ فإني سمعت ذلك ممن سمعه من النبي - عليه السلام - يقول ذلك". ففي هذا الحديث أمر رسول الله - عليه السلام - للمصدقين أن يأخذوا من أموال المسلمين ما ذكرنا، ومن أموال أهل الذمة ما وصفنا. ش: ذكر هذا شاهدًا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب المدني، عن عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم وثقه ابن حبان، عن الخليفة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ... إلى آخره. وأيوب بن شرحبيل الأصبحي عامل عمر بن عبد العزيز، قال ابن يونس: أيوب هذا كان أحد أمراء مصر، وليها لعمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه -، روى عنه أبو قبيل وعبد الرحمن بن مهران، وذكره ابن حبان في "الثقات". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 169 رقم 3048). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 474 رقم 15936).

وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يعلى بن عبيد، عن يحيى بن سابق، عن زريق مولى بني فزارة: "أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه حين استخلف: خذ [ممن] (¬2) مرَّ بك من تجار المسلمين فيما يديرون من أموالهم من كل أربعين دينارًا: دينارًا فما نقص فبحساب ما نقص حتى يبلغ عشرين، فإذا نقصت ثلث دينار فدعها لا تأخذ منها شيئًا، واكتب لهم براءة بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول، وخذ [ممن] (2) مرَّ بك من تجَّار أهل الذمة فيما يظهرون من أموالهم ويديرون من التجارات من كل عشرين دينارًا دينارًا فما نقص فبحساب ما نقص حتى يبلغ عشرة دنانير، فإذا نقصت ثلث دينار فدعها لا تأخذ منها شيئًا. واكتب لهم براءة إلى مثلها من الحول بما تأخذ منهم". قوله: "دينارًا دينارًا" منصوبان الأول: على التمييز، والثاني: على أنه مفعول لقوله: "خذ". قوله: "يديرونها" من الإدارة. ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وافق هذا. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ العنبري، عن ابن عون، عن أنس بن سيرين، قال: "أرسل إليَّ أنس بن مالك، فأبطأت عنه، ثم أرسل إليَّ فأتيته، فقال: إني كنت أرى أني لو أمرتك أن تعضّ على حجر كذا وكذا ابتغاء مرضاتي لفعلت، اخترت لك عملًا فكرهته أو أكتب لك سنَّة عمر - رضي الله عنه -؟ قال: قلت: اكتب لي سنة عمر - رضي الله عنه -. قال: فكتب: من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهم، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهم، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم، قال: قلت: مَن لا ذمة له؟ قل: الروم كانوا يقدمون من الشام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 357 رقم 9878). (¬2) في "الأصل، ك": "مَنْ"، والمثبت من "المصنف".

فلما فعل عمر- رضي الله عنه - هذا بحضرة أصحاب رسول الله - عليه السلام - فلم ينكره عليه منكر كان حجة وإجماعًا منهم عليه. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي: قد روي، عن عمر - رضي الله عنه - ما وافق ما روي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في أمره أن يؤخذ من المسلمين ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر كاملًا، وهو المراد من قوله: "ممن لا ذمة له" حيث فسره بقوله: "الروم"؛ وذلك لأن الروم كانوا حينئذٍ أهل حرب، وكانت تجارهم يدخلون أرض العرب للتجارة، ولما أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بذلك والصحابة حينئذٍ متوافرون، ولم ينكر ذلك أحد منهم عليه؛ فصار إجماعًا منهم على هذا الحكم وعلى أن ولاية الأخذ للإمام. ثم إنه أخرج الأثر المذكور بإسناد صحيح: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ العنبري شيخ أحمد، عن عبد الله بن عون، عن أنس بن سيرين مولى أنس بن مالك أخي محمَّد بن سيرين. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عون، عن أنس بن سيرين، قال: "أرسل إلى أنس فأبطأت عليه، ثم أرسل إليَّ فأتيته، فقال: إني كنت لأرى أني لو أمرتك أن تعضّ على حجرٍ كذا وكذا ابتغاء مرضاتي لفعلت، اخترت لك خيرَ عمل فكرهته، إنما أكتب لك سنة عمر- رضي الله عنه -، قلت: فاكتب لي سنة عمر - رضي الله عنه -، قال: فكتب: من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهم، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهمٍ، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم، قلت: مَن لا ذمة له؟ قال: الروم كانوا يقدمون من الشام". ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم أنهم لا يختلفون أن للإمام أن يبعث إلى أرباب المواشي السائمة حتى يأخذ منهم صدقة مواشيهم إذا وجب فيها ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 210 رقم 18544).

الصدقة، وكذلك يفعل في ثمارهم، ثم يضع ذلك في مواضع الزكوات على ما أمره به -عز وجل-، لا يأبى ذلك أحد من المسلمين. فالنظر على ذلك: أن تكون بقية الأموال من الذهب والفضة وأموال التجارات كذلك، فأما معنى قول رسول الله - عليه السلام - "ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى" فعلى ما قد فسرته فيما تقدم من هذا الباب، وقد سمعت أبا بكرة يحكي ذلك، عن أبي عمر الضرير. وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس: فإنا قد رأيناهم -أي أهل المقالة الأولى وأهل المقالة الثانية - والباقي ظاهر. فظهر من كلامه هذا أن للإمام أن ينصب من يأخذ الزكوات من أموال المسلمين سواء كانت من الأموال الظاهرة أو من الأموال الباطنة، وسواء كان الإِمام عادلًا يضع ما أخذه في مصارفه أو لم يكن، وكذلك نوابه سواء كانوا عدولًا أو خونةً، ولكن اختلف علماؤنا الحنفية في هذا النظر. فقال صاحب "البدائع" (¬1): وأما سلاطين زماننا الذين إذا أخذوا الصدقات والعشر والخراج ولا يضعونها في مواضعها، فهل تسقط هذه الحقوق عن أربابها؟ اختلف المشايخ فيه، فقد ذكر الفقيه أبو جعفر الهنداوي أنه يسقط ذلك كله وإن كانوا لا يضعونها في أهلها؛ لأن حق الأخذ لهم فيسقط عنا بأخذهم، ثم إن لم يضعوها في مواضعها فالوبال عليهم. وقال الشيخ أبو بكر بن سعيد الجراح: تسقط ولا تسقط الصدقات؛ لأن الخراج يصرف إلى المقاتلة، وهم يصرفونه إلى المقاتلة ويقاتلون العدو، ألا ترى أنه لو ظهر العدو فإنهم يقاتلون ويذبون عن حريم المسلمين؟! فأما الزكوات والصدقات فإنهم لا يضعونها في أهلها. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (2/ 135).

وقال أبو بكر الإسكاف: إن جميع ذلك لا يسقط ويعطى ثانيًا؛ لأنهم لا يضعونها في مواضعها ولو نوى صاحب المال وقت الدفع أنه يدفع إليهم ذلك عن زكاة ماله. قيل: يجوز لأنهم فقراء في الحقيقة، ألا ترى أنهم لو أدوا ما عليهم من التبعات والمظالم صاروا فقراء؟! وروي عن أبي مطيع البلخي نحو ذلك. وقيل: إن السلطان لو أخذ مالًا من رجل مصادرةً بغير حق فنوى صاحب المال وقت الدفع أن يكون ذلك من زكاة ماله وعشر أرضه يجوز، والله أعلم. قوله: "فأما معنى قول رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. جواب عما يقال: كيف تقول: إن للإمام أن يأخذ من الناس الصدقات وقد قال - عليه السلام -: "ليس على المسلمين عشور"؟ وتقرير الجواب ما ذكره فيما مضى مستقصى. قوله: "وقد سمعت أبا بكرة يحكي ذلك" أي التفسير المذكور في قوله - عليه السلام -: "ليس على المسلمين عشور". وأبو بكرة هو بكار بن قتيبة القاضي الزاهد المشهور، يروي ذلك التفسير عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير البصري شيخ أبي داود وابن ماجه وأحمد بن حنبل، كان عالمًا بالفقه والفرائض ثقةً كبيرًا. ص: وقد روي عن يحيى بن آدم في تفسير قول النبي - عليه السلام -: "ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى" معنى غيرُ المعنى الذي ذكرناه، وذلك أنه قال: إن المسلمين لا يجب عليهم بمرورهم بالعاشر في أموالهم، ما لم يكن واجبًا عليهم لو لم يمروا بها عليه؛ لأن عليهم الزكاة على أي حال كانوا عليها، واليهود والنصارى لو لم يمروا بأموالهم على العاشر لم يجب عليهم فيها شيء، فالذي رفع عن المسلمين هو الذي يوجبه المرور بالمال على العاشر، ولم يرفع ذلك عن اليهود والنصارى.

ش: يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الأموي أبو زكرياء الكوفي، أحد الأئمة الحنفية الكبار، روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون، وهو ممن روى لهم الجماعة. وقوله: "روي" على صيغة المجهول أسند إلى قوله: "معنىً". وقولى: "غير المعنى" بالرفع صفة لمعنىً. وقوله: "وذلك" إشارة إلى ذلك المعنى، والباقي ظاهر.

ص: باب: ذوات العوار هل تؤخذ في صدقات المواشي أم لا؟

ص: باب: ذوات العوار هل تؤخذ في صدقات المواشي أم لا؟ ش: أي: هذا باب في بيان أن ذوات العوار من المواشي التي فيها تجب الزكاة هل يجوز أخذها حسابًا عن الزكاة أم لا؟ و"العُوار" بضم العين وتخفيف الواو، وقد تفتح العين. وقال ابن الأثير: العَوار -بالفتح-: العيب، وقد تضم. وقال الجوهري: العَوار: العيب. وعن أبي زيد: قد تضم. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا ابن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "بعث النبي - عليه السلام - مصدقًا في أول الإسلام فقال: خد الشارف والبكر وذوات العيب، ولا تأخذ حرزات الناس" قال هشام: أرى ذلك؛ ليستألفهم ثم جرت السنة بعد ذلك. حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام - نحوه. ش: هذان طريقان: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء. وعن النسائي كذلك. وعن أبي حاتم: ضعيف الحديث. وعن أبي زرعة: كان صدوقًا في الحديث. وعن أحمد: ثقة. وعن البخاري: لم نر إلا خيرًا، هو في الأصل صدوق. عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -. الثاني: مرسل عن أحمد بن داود المكي أيضًا، عن يعقوب بن حميد أيضًا، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه عروة، عن النبي - عليه السلام -.

وأخرجه أبو داود في "مراسيله" (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، ثنا هشام ابن عروة، عن عروة: "أن النبي - عليه السلام - بعث رجلًا على الصدقة، فأمره أن يأخذ البكر والشارف وذات العيب، وإياك وحزرات أنفسهم". وأخرجه أيضًا كذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - بعث مصدقًا فقال: لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئًا، وخذ الشارف وذات العيب". قوله: "خذ الشارف" بالشين المعجمة وكسر الراء، وهي الناقة المسنة. وقال أبو عبيد: الشارف المسنة الهرمة، والبَكْر -بفتح الباء وسكون الكاف-: الفتيّ من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى: بَكْرة. قوله: "ولا تأخذ حرزات الناس" بفتح الحاء والراء المهملتين، والزاي المعجمة، أي: لا تأخذ من خيارها، فالرواية هكذا بتقديم الراء على الزاي، وهي جمع حرزة -بسكون الراء- وهي خيار المال؛ لأن صاحبها يحرزها ويصونها، والرواية المشهورة بتقديم الزاي على الراء، وهي أيضًا جمع حَزْرة بسكون الزاي وهي خيار مال الرجل؛ سميت حزرة؛ لأن صاحبها لا يزال يحزرها في نفسه، سميت بالمرة الواحدة من الحزر ولهذا أضيفت إلى الناس في رواية الطحاوي وإلى الأنفس في رواية غيره. قوله: "قال هشام: أُرَى ذلك" بضم الهمزة أي: أظن ذلك "ليستألفهم" من الاستئلاف، وهي طلب الألفة، وأشار بذلك إلى أنه كان في أول الإِسلام، ثم نسخ لما نذكره إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم بك تقليد هذا الخبر وقالوا: هكذا ينبغي للمصدق أن يأخذ. ¬

_ (¬1) "المراسيل لأبي داود" (1/ 131 - 132 رقم 113). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 361 رقم 9915).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من المالكية وجماعة من الظاهرية؛ فإنهم قالوا: ينبغي للمصدق أن يأخذ الشارف والبكر وذوات العيب، ولا يأخذ خيار أموال الناس. وقال مالك في "الموطأ": السنة عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم: أنه لا يضيق على المسلمين في زكاتهم، وأن يقبل منهم ما دفعوا من أموالهم. وقال ابن قدامة في "المغني": قال مالك والشافعي: إن رأى المصدق أن أخذ الشارف وذوات العوار ونحوهما خير له وأنفع للفقراء، فله أخذه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لا يأخذ في الصدقات ذات عيب، وإنما يأخذ عدلًا من المال. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير الفقهاء من الأئمة الأربعة وأصحابهم، وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد وآخرين؛ فإنهم قالوا: لا يأخذ في الصدقات ذات عيب، بل يأخذ عدلًا -أي وسطًا- من المال، اللهم إلا إذا كان جميع النصاب ذوات العيوب، فإنه حينئذٍ يأخذ منها. وقال ابن التين: وإنما لم يأخذ ذات العَوار ما دام في المال شيء سليم لا عيب فيه، فإن كان المال كله معيبًا فإنه يأخذ واحدًا من وسطه، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يكلف بإتيان صحيح. وذكر ابن بزيزة في "أحكامه": وفي مذهب مالك فيه أربعة أقوال: فقيل: لا يؤخذ منها على الإطلاق. وقيل: لا يؤخذ منها ويكلف رب المال أن يأتي بالوسط. وقيل: يؤخذ منها إن كانت سخالًا كلها. وكذلك اختلفوا في الحبوب إذا كانت من صنف رديء أو عال، هل يؤخذ منه أو لا؟ والحكم بالوسط أعدل. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا أيضًا، عن ثمامة، عن أنس: "أن أبا بكر الصديق

- رضي الله عنه - لما استخلف وَجَّه أنس بن مالك - رضي الله عنه - إلى البحرين فكتب له هذا الكتاب: هذه فريضة -يعني- الصدقة التي فرض رسول الله - عليه السلام - على المسلمين التي أمر الله -عز وجل- بها ورسوله - عليه السلام - فمن سُئلها من المؤمنين على وجهها فليُعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه، فذكر فرائض الصدقة، وقال: لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيسٌ". ش: أي: احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أنس - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، عن أبيه عبد الله بن المثنى، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضي البصرة، عن جده أنس بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1) مطولًا: ثنا محمَّد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس: "أن أنسًا حدثه أن أبا بكر- رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - عليه السلام - على المسلمين، والتي أمر الله بها ورسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطِ في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس: شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدةً وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت -يعني- ستًّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومَن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 527 رقم 1386).

وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة: شاةٌ، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصةً من أربعين شاة واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها، لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق". قوله: "فلا يعطه" أي: فلا يعطي الذي سأله المصدق من فوق، ويقال: فلا يعطي الزيادة على الواجب، وقيل: لا يعطي شيئًا من الزكاة؛ لأن الساعي إذا طلب فوق الواجب كان خائنًا، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. قوله: "هَرِمة" يعني: كبيرة، وعن أبي زيد والأصمعي: أن الهَرِم الذي قد بلغ أقصى السن. ويقال: امرأة هَرِمة ورجال هَرِمون وهرائم ونسوة هَرِمات، وربما قيل: شيوخ هَرْمَى، وقد هَرِم هَرَمًا مثال: حَذِر قاله أبو حاتم، وقال صاحب "العين" يقال: نساء هَرْمى، وفي "الكامل" لأبي العباس: أَهْرَمه الدهر وهرَّمه، وقال ابن التين: الهَرِمة التي سقطت أسنانها. قوله: "ولا ذات عوار" قد قلنا: إنه بفتح العين وضمها أي: ذات عيب. قوله: "ولا تيس". هو فحل الغنم. قال الخطابي: إنما لا يؤخذ التيس؛ لنقصه وفساد لحمه وكونه ذكرًا. وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب أنه ليس أخذ الذكر في شيء من الزكاة إذا كان في النصاب إناث في غير أتبعة البقر، وابن اللبون بدلًا عن بنت مخاض إذا عدمها. وقال أبو حنيفة: يجوز إخراج الذكر من الغنم الإناث لقوله - عليه السلام -: "في أربعين شاة شاة" ولفظ الشاة يقع على الذكر والأنثى، ويقال: لا يؤخذ التيس لفضيلته، ورده الخطابي بأن الأمر ليس كذلك، وإنما لا يؤخذ لفساد لحمه.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحكم بن موسى، قال: ثنا يحيى بن حمزة، قال: ثنا سليمان بن داود، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن، فكتب فيه: لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عَوار ولا تيس الغنم". ش: الحكم بن موسى بن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري شيخ مسلم وأبي داود وأبي يعلى وأحمد وأبي زرعة والبخاري في "التعليق"، وروى النسائي وابن ماجه عن رجل عنه. ويحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي القاضي، وثقه ابن معين، وعنه: كان قدريًّا، روى له الجماعة. وسليمان بن داود أبو داود الخولاني الدمشقي الداراني، قال ابن حبان: ثقة مأمون. وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه إذا انفرد. روى له النسائي. والزهري هو محمَّد بن مسلم روى له الجماعة. وأبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمَّد، ويقال: اسمه وكنيته واحد، روى له الجماعة. وأبوه محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، وُلِدَ في حياة النبي - عليه السلام - وهو كناه أبا عبد الملك على قول، وقال ابن سعد: كان رسول الله - عليه السلام - استعمل عمرو بن حزم على نجران اليمن، فولد له هناك على عهد رسول الله - عليه السلام - سنة عشر من الهجرة غلامٌ، فأسماه محمدًا وكناه أبا سليمان، وكتب بذلك إلى رسول الله - عليه السلام - فكتب إليه رسول الله - عليه السلام -: أن سمِّهِ محمدًا وكنِّه أبا عبد الملك ففعل، وقتل يوم الحرة بالمدينة في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، روى له النسائي وابن ماجه. وجده هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -.

والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) مطولًا: من حديث الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - عليه السلام - كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم وقرئت على أهل اليمن، وهذه نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيْل: ذي رُعَيْن ومعَافِر وهمْدان. أما بعد فقد رفع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله، وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار، ما سقت السماء وكان سيحًا أو كان بعلًا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما سُقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعًا وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض، فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبونٍ ذكر إلى أن تبلغ خمسًا وثلاثين، فإذا زادت ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسًا وأربعين، فإذا زادت ففيها حقة طروقة الجمل إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسًا وسبعين، فإن زادت ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإن زادت ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل، وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة، وفي كل أربعين شاةً سائمةً شاة إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإن زادت واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإن زادت ففي كل مائة شاة شاة، ولا تؤخذ في الصدقة هرِمة ولا عجفاء ولا ذات عَوار ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. وفي كل خمس أواقٍ من الورق خمسة دراهم، وما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم، وليس فيما دون خمس أواقٍ شيء، وفي كل أربعين دينارًا ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 89 رقم 7047).

دينارٌ، وإن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لأهل بيته، إنما هي الزكاة تزكَّى بها أنفسكم، ولفقراء المؤمنين وفي سبيل الله. وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدي صدقتها من العشر، وإنه ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء. قال يحيى: أفضل ثم قال: كان في الكتاب: إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله، وقتل النفس المحرمة بغير حق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإن العمرة الحج الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتاق حتى يبتاع. ولا يُصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبه شيء، ولا يحتبين في ثوب واحد ليس بين فرجه وبين السماء شيء، ولا يصلين أحدكم في ثوبٍ واحدٍ وشقه بادٍ، ولا يصلين أحد منكم عاقصٌ شعره، وكان في الكتاب: إن من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قودٌ إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعِب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرٌ من الإبل، وفي السن خمسٌ من الإبل، وفي الموضحة خمسٌ من الإبل، وإن الرجل يُقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1) نحوه، عن الحكم بن موسى. وقال البغوي: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون صحيحًا. وقال ابن عديّ: قد روى عن سليمان بن داود يحيى بن حمزة وصدقة بن عبد الله من الشاميين. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 11 رقم 72).

وللحديث أصل رواه معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد مرسلًا. وجوده سليمان. وقال البيهقي: قد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا: أبو زرعة الرازي وأبو حاتم وعثمان الدارمي وجماعة. وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬1): عن الحكم، ثم قال: وَهِمَ الحكم في قوله: ابن داود. ورواه محمَّد بن بكار بن بلال وأخوه، عن يحيى بن حمزة، قال: حدثني سليمان بن أرقم، عن الزهري. وقال أبو هُبيرة: قرأت في أصل يحيى بن حمزة هذا الحديث: حدثني سليمان بن أرقم. وقال الذهبي: سليمان واهٍ تركه النسائي، وقال النسائي: قال مروان بن محمَّد الطاطري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، قال: "جاءني أبو بكر بن حزم بكتاب في أدم ... " فذكر بعض الحديث لم يسنده. وروى منه ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه مرسلًا. وروى عبد الله بن نُمير، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب "أنه وجد الكتاب الذي عند آل عمرو بن حزم ... " فذكر شيئًا منه. وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": هو كتاب محفوظ يتداوله آل حزم، وإنما الشأن في إيصال سنده. وقال أبو الحسن الهروي: الحديث في أصل يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، غلط عليه الحكم. وقال ابن منده: رأيت في كتاب يحيى بن حمزة بخطه، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، وهو الصواب. ¬

_ (¬1) "مراسيل أبي داود" (1/ 211 - 213 رقم 257).

وقال صالح جزرة: ثنا دحيم قال: نظرت في أصل كتاب يحيى: حديث عمرو بن حزم في الصدقات، فإذا هو عن سليمان بن أرقم. قال صالح: فكتب هذا الكلام عني مسلم بن الحجاج. وقال الذهبي: يُرجح أن الحكم وَهِمَ ولابد، فالحديث إذًا ضعيف الإسناد. وقال ابن معين: سليمان الخولاني لا يُعرف والحديث لا يصح، وقال مرةً: ليس بشيء. ومرةً: شامي ضعيف. وقال ابن حنبل: ليس بشيء. وفي "التمهيد" لابن عبد البر: قال أحمد بن زهير: سمعت ابن معين يقول: سليمان بن داود الذي يروي عن الزهري حديث الصدقات والديات مجهول لا يعرف. وقال الطحاوي: سمعت ابن أبي داود يقول: سليمان بن داود وسليمان بن أبي داود الحراني ضعيفان جميعًا. قوله: "قَيْل ذي رعين" القَيْل: ملك من ملوك حمير دون الملك الأعظم، وأصله قَيِّل بالتشديد كأنه الذي له قول منفذٌ، والجمع: أقوال وأقيال أيضًا، ومَن جمعه على أقيال لم يجعل الواحد منه مشددًا. ذكره الجوهري في الأجوف الواوي. و"ذو رعين" ملك من ملوك حمير، ورعين حصنٌ كان له، وهو من ولد الحارث بن عمرو بن حمير بن سبأ، وهم آل ذي رعين وشعب ذي رعين. قوله: "ومعافر" بفتح الميم: حيٌّ من همدان لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وهمْدان -بسكون الميم- قبيلة من اليمن. قوله: "سَيْحا" بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وهو الماء الجاري. و"البَعْل": بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وهو النخل الذي يشرب بعروقه فيستغني عن السقي. قال أبو عمرو: البعل العذي وهو ما سقته السماء. وقال الأصمعي: العذي ما سقته السماء، والبعل ما يشرب بعروقه من غير سقي ولا سماء.

قوله: "خمسة أوسق" جمع وسق بفتح الواو وكسرها لغتان والفتح أشهر، ويقال بالفتح يجمع على أوسق وبالكسر على أوساق. والوسق ستون صاعًا كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، فتكون ثلاثمائة وعشرين رطلًا، هذا مذهب أهل الحجاز، ومذهب أهل العراق: الصاع ثمانية أرطال، فتكون الجملة أربعمائة وثمانين رطلًا. قوله: "بالرشاء" بكسر الراء والمد، وهو الحبل. و"الدالية" المَنْجُنُون التي تديرها البقرة. قوله: "طروقة الجمل" طروقة فعولة بمعنى مفعولة، أي مركوبة للجمل، وكل امرأة طروقة زوجها، وكل ناقة طروقة فحلها. قوله: "باقورة" الباقورة بلغة أهل اليمن: البقر. قوله: "ولا يجمع بين متفرق" صورته أن يكون لهذا أربعون شاة ولذاك أربعون أيضًا وللآخر أربعون فجمعوها حتى لا تكون فيها إلا شاة. قوله: "ولا يفرق بين مجتمع" صورته أن يكون شريكان ولكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما في ماليهما ثلاث شياة، ثم يفرقان عنهما عند طلب الساعي الزكاة فلم يكن على كل منهما إلا شاة واحدة. قوله: "وما أخذ من خليطين" معناه أن يكون شريكين في إبل تجب فيها الغنم، فتؤخذ الإبل في يد أحدهما، فتؤخذ منه صدقتها، فإنه يرجع بها على شريكه بحصته على السوية. قوله: "الوَرِق" بكسر الراء وهي الفضة. قوله: "من اعتبط مؤمنًا قتلًا فإنه قودٌ" أي: قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله؛ فإن القاتل يقاد به ويقتل، وكل مَن مات بغير علة فقد اعتبط، ومات فلانٌ عبطةً أي: شابًّا صحيحًا، وعَبَطُّت الناقة واعْتَبَطُّتها إذا ذبحتها من غير مرض.

قوله: "وفي الأنف إذا أوعب جدعه" أي قطع جميعه وفي رواية "إذا استوعب جَدْعُه" وكلاهما على صيغة المجهول. ص: فهكذا كانت كتب رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - تجري من بعده، وكتب علي - رضي الله عنه - من بعد ذلك. فدلَّ ما ذكرنا على نسخ ما في حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي بدأنا بذكره في هذا الباب. وفيه أيضًا ما يدل على تقديمه بما رويناه بعده، وهو قول عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان بعث مصدقًا في صدر الإسلام فأمره بذلك" ونسخ ذلك ما قد ذكرنا في كتاب أبي بكر لأنسٍ، وفي كتاب عمرو بن حزم، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: فكما ذكرنا أنه لا تؤخذ في الصدقات ذات عيب، كانت كتب رسول الله - عليه السلام - التي كتبها رسول الله - عليه السلام - إلى أهل اليمن منها الذي رواه عمرو بن حزم، وكذا كتاب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين، وكذا كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. أخرجه البيهقي (¬1): من حديث الشافعي، عن سفيان بن عيينة، نا بشر بن عاصم، عن أبيه: "أن عمر - رضي الله عنه - استعمل أباه سفيان بن عبد الله على الطائف ومخاليفها، فخرج مصدقًا ... " الحديث. وكذا روى (¬2) بإسناده إلى الشافعي، أنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أن هذا كتاب الصدقات، وفيه: ولا تخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عَوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 100 رقم 7093). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 87 رقم 7043).

قوله: "وكتب عليٌّ من بعد ذلك" أي: وهكذا كانت تجري كتب علي بن أبي طالب إلى عماله من بعد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - مثل ما كانت كتب النبي - عليه السلام - وكتب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من بعده. قوله: "فدل ما ذكرنا على نسخ ما في حديث عائشة رضي الله عنها" وهذا النسخ ظاهر؛ لأن في حديث عائشة أخبر أن هذا كان في صدر الإِسلام، ثم بعد ذلك أمر بخلافه، فدل هذا على نسخ الأول. ويمكن أن يجمع بين حديث عائشة وبين ما يعارضه من الأحاديث أن حديث عائشة يكون محمولًا على ما إذا كان المال كله معيبًا فإن الساعي حينئذ يأخذ معيبًا من جنسه، وأحاديث غيرها تكون محمولةً على ما إذا كان المال صحيحًا كله أو أكثره، فإنه حينئذٍ لا يأخذ إلا عدلًا وسطًا، ولا يأخذ ذات العوار. فافهم.

ص: باب: أحكام زكاة ما تخرج الأرض

ص: باب: أحكام زكاة ما تخرج الأرض ش: أي: هذا باب في بيان زكاة الشيء الذي يخرج من الأرض، مثل الحبوب والخضراوات ونحوها. ص: حديث حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا همام، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ومالك وسفيان الثوري وعبد الله بن عمر، أن عمرو بن يحيى حدثهم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عمرو بن يحيى ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب أن مالكًا، حدثه عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - عليه السلام - مثله.

ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى المازني المدني ابن بنت عبد الله بن زيد بن العاصم روى له الجماعة، عن أبيه يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني روى له الجماعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري - رضي الله عنه -. وهذا الحديث أخرجه الجماعة كما نذكره إن شاء الله تعالى. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): بهذا الطريق، عن عبيد الله بن موسى، عن سفيان، عن عمرو بن يحيى ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن همام بن يحيى، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري [قال: قال رسول الله - عليه السلام -] (¬3): "ليس في أقل من [خمس] (¬4) ذود شيء ... " الحديث. الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5) نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله ابن سالم بن عمر بن الخطاب. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 469 رقم 1633). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 360 رقم 9901). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬5) "مسند أحمد" (3/ 6 رقم 11044).

وعن مالك بن أنس، وعن سفيان الثوري، وعن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. أربعتهم عن عمرو بن يحيى الأنصاري ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): عن أبي بكر النيسابوري، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى ... إلى آخره. والترمذي (¬4): عن محمَّد بن بشار، نا عبد الرحمن بن مهدي، قال: نا سفيان وشعبة ومالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى ... إلى آخره. الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬5): ثنا يحيى بن محمَّد بن صاعد، نا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق، ولا تحل في الورق زكاة حتى تبلغ خمس أواقٍ، ولا تحل في الإبل زكاة حتى تبلغ خمس ذود". السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 93 رقم 5). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 524 رقم 1378). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 94 رقم 1558). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 22 رقم 627). (¬5) "سنن الدارقطني" (2/ 92 رقم 4).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة". السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْد من الإبل صدقة". وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، حدثني الوليد بن كثير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن يحيى بن عمارة وعباد بن تميم، عن أبي سعيد الخدري، أنه سمع النبي - عليه السلام - يقول: "لا صدقة فيما دون خمسة أوساق من التمر، ولا فيما دون خمس أواقٍ، ولا فيما دون خمس من الإبل صدقة". قوله: "خمسة أوسق" الأوسق: جمع وسق، والوسق ستون صاعًا، وقد مرَّ الكلام فيه في آخر الباب الذي قبله. قوله: "ذَود". بفتح الذال المعجمة وسكون الواو بعدها قال مهملة، والذَوْد من الإبل: من ثلاث إلى عشر، ومثل من الأمثال: الذود إلى الذود إبل، وقيل: الذود ما بين الثنتين والتسع من الإناث دون الذكور، قال الشاعر: ذودٌ ثلاث بكرةٌ ونابان ... غير الفحول من ذكور البعران ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 674 رقم 979). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 529 رقم 1390). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 571 رقم 1793).

وقولهم في المثل: الذود إلى الذود إبل، يدل على أنها في موضع اثنين؛ لأن الثنتين إلى الثنتين جمع، والأذواد جمع ذود، قال سيبويه: وقالوا: ثلاث ذود فوضعوه موضع أذواد، قال الفارسي: وهذا على حد قولهم: ثلاث أشياء، فإذا وصفت الذود فإن شئت جعلت الوصف مفردًا بالهاء على حد ما توصف الأسماء المؤنثة التي لا تعقل في حد الجمع فقلت: ذودٌ جَرِبَةٌ، وإن شئت جمعت فقلت: ذود جراب. وفي "المحكم": الذود من ثلاث إلى خمس عشرة، وقيل: إلى عشرين. وقال ابن الأعرابي: لا تكون إلا من الإناث، وهو مؤنث، وتصغيره بغير هاء على غير قياس. وذكر في كتاب "نعوت الإبل" لأبي الحسن النضر بن شميل ما يدل على أنه ينطلق على الذكور أيضًا، وهو قوله: الذود ثلاثة أبعرة، يقال: عند فلان ذود له، وعليه ثلاث ذود، وعليه أذواد له إذا كنَّ ثلاثًا فأكثر، وعليه ثلاث أذواد مثله سواء، ويقال: رأيت أذواد بني فلان إذا كانت فيما بين الثلاث إلى خمس عشرة. وفي "الجامع" للقزاز: وقول الفقهاء: ليس فيما دون خمس ذود صدقة إنما معناه خمس من هذا الجنس، وقد أجاز قوم أن يكون الذود واحدًا، وأرسل الذود يكون لقطعة من الإبل. وقال الجوهري: الذود مؤنثة لا واحد لها من لفظها. وقال بعضهم: ومما يرسخ ما ذكره النضر بن شميل: رواية من روى "خمسة ذود" على الإضافة وهي الرواية المشهورة، ومنهم مَن رواه بالتنوين على البدل. وفي "الاستذكار": الذود أحد الإبل كأنه يقول: ليس فيما دون خمس من الإبل أو خمس جمال أو خمس فوق صدقة، وقد قيل: الذود قطعة من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر، والأول أكثر عند أهل الفقه وأظهر. وقال ابن قتيبة: ذهب قومٌ إلى أن الذود واحد وذهب آخرون إلى أنه جمع وهو المختار، واحتج بأنه لا يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب.

قال أبو عمر: ليس هذا بشيء. وقال ابن حبيب: الذود من الإبل من الثلاثة إلى التسعة فلا يتبعض الذود كما لا يتبعض النفر من الرجال، وزعم بعضهم أن الذود مشتق من الذود بمعنى السوْق؛ وذلك لأنها تذاد أي: تساق. وقال ابن مرين: الذود الجمل الواحد. وقال أبو زياد الكلابي في كتاب "الإبل" تأليفه: والثلاث من الإبل ذود، وليس الثنتان بذود إلى أن تبلغ عشرين. قوله: "أواقٍ" جمع أوقية وهي أربعون درهمًا. وقد مرَّ الكلام فيه مستوفيً. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن مسلم، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقة في شيء من الزرع والكرم حتى يكون خمسة أوسق، ولا في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمَّد بن مسلم بن سوسن الطائفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عمرو بن دينار، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن معمر، قال: ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، نا محمَّد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة".

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، نا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، وليس فيما دون خمسة أوساق صدقة". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ". قوله: "ولا في الرقة" بكسر الراء وفتح القاف المخففة: الدراهم، ويقال: الورِق بفتح الواو وكسر الراء، والوِرق بكسر الواو وسكون الراء، والوَرْق بفتح الواو وسكون الراء، والرِّقَّة: الدراهم، وربما سميت الفضة وَرِقَةً، والرقة: الفضة والمال. وعن ابن الأعرابي: الرقة: الفضة والذهب. وعن ثعلب: جمع الوَرق والوِرَقْ أوراق، وجمع الرقة رِقُّون ورِقِّين. وفي "الجامع": أعطاه ألف درهم رقةً يعني لا يخالطها شيء من المال غيرها. وفي "الغريبين": الورق والرقة، الدراهم خاصةً، وأما الوَرَق فهو المال كله. وقال أبو بكر: الرقة معناها في كلامهم الوَرِق وجمعها رقاة. وفي "المعرب": الورق -بكسر الراء- المضروب من الفضة، وكذا الرقة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 572 رقم 1794). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 675 رقم980).

وفي "المجمل": الوَرق الدراهم وحدها، والوِرْق من المال. قوله: "حتى تبلغ مائتي درهم" وهو نصاب الفضة. ثم اعلم أن الدراهم التي كان الناس يتعاملون بها نوعان: نوع عليه نقش فارس ونوع عليه نقش الروم، وأحد النوعين يقال له: البغليّ وهي السود، الدرهم منها ثمانية دوانيق، والآخر يقال له: الطبري وهي العتق، الدرهم منها أربعة دوانيق، وذكر في بعض شروح "الهداية": البغليّ نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل، والطبري نسبة إلى طبرية، وقيل: إلى طبرستان. وقال الخطابي عن بعضهم: لم تزل الدراهم على العيار في الجاهلية والإِسلام وإنما غيروا السكك ونقشوها، وقام الإِسلام والأوقية أربعون درهمًا. وفي "الأحكام" للماوردي: استقر في الإِسلام زِنة الدرهم ستة دوانيق، كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وقيل: إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى الدراهم مختلفةً البغلية والطبرية ومنها الغربية ثلاث دوانيق، ومنها اليمنية دانق واحد، فأخذ البغلية والطبرية؛ لأنهما أغلب في الاستعمال، فكانا اثني عشر دانقًا، فأخذ نصفها فصار الدرهم ستة دوانيق فجعلها درهمًا. وزعم المرغيناني أن الدرهم كان شبيه النواة، ودوِّر على عهد عمر رضي الله عنه فكتبوا عليه وعلى الدينار: "لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله"، ثم زاد ناصر الدولة بن حمدان: "- صلى الله عليه وسلم -" فكانت منقبةً لآل حمدان، وذكر الشيخ شهاب الدين القرافي في كتاب "الذخيرة": أن الدرهم المصري أربعة وستون حبةً وهو أكبر من درهم الزكاة، فإذا أسقطت الزائد كان النصاب من دراهم مصر مائة وثمانين درهمًا وحبتين. وفي "فتاوى الفضلي": تعتبر دراهم كل بلد ودنانيرهم، ففي خوارزم تجب الزكاة عندهم في مائة وخمسين، وزن: سبعة. فعلى هذا من ملك في زماننا مائتي درهم تكون نصابًا وإن لم يبلغ وزنها مائة مثقال ولا قيمتها اثنى عشر دينارًا.

وذكر أبو عمر: أن أبا عبيد قال: إن الدراهم لم تكن معلومةً إلى زمن عبد الملك، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانيق. وقال القاضي عياض: ولا تصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولةً في زمن النبي - عليه السلام - وهو يوجب الزكاة في أعداد منها وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. قال: وهذا يُبيِّن أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قولٌ باطلٌ، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإِسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم صغارًا وكبارًا، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة، ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإِسلام ونقشه، وتصييرها وزنًا واحدًا لا يختلف، وأعيانًا يُستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها وصرفوه على وزنهم. وقال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت معلومة حينئذٍ وإلا فكيف كان تتعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد؟! وهكذا كما كانت الأوقية معلومةً. وقال الشيخ محيى الدين: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإِسلام. وروى ابن سعد في كتاب "الطبقات" (¬1) في ترجمة عبد الملك بن مروان: أنا محمَّد بن عمر الواقدي، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: "ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين، وهو أول من أحدث ضربها ونقش عليها". ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (5/ 229).

وقال الواقدي: ثنا خالد بن ربيعة بن أبي هلال، عن أبيه قال: "كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك بن مروان الدراهم والدنانير اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبَّةً بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة". انتهى. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الأموال" في باب الصدقة وأحكامها: "كانت الدراهم قبل الإِسلام كبارًا وصغارًا، فلما جاء الإِسلام وأرادوا ضرب الدراهم -وكانوا يزكونها من النوعين- فنظروا إلى الدرهم الكبير فإذا هو ثمانية دوانيق، وإلى الدرهم الصغير فإذا هو أربعة دوانيق، فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوهما درهمين سواء، كل واحد ستة دوانيق، ثم اعتبروها بالمثاقيل، ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدودًا لا يزيد ولا ينقص، فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق تكون وزان سبعة مثاقيل، وأنه عدل بين الكبار والصغار، وأنه موافق لسنة رسول الله - عليه السلام - في الصدقة، فمضت سنة الدراهم على هذا، فاجتمعت عليه الأمة، فلم يختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق، فما زاد أو نقص قيل فيه: زائد وناقص. والناس في الزكوات على الأصل الذي هو الستة لم يزيغوا عنه، وكذلك في المبايعات. انتهى. وزعم بعضهم أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالدراهم عددًا وقت قدوم سيدنا رسول الله - عليه السلام - قال: ويدل عليه قول عائشة - رضي الله عنها - في قصة بريرة: "إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدةً واحدة فعلت" تريد الدراهم، فأرشدهم - عليه السلام - إلى الوزن وجعل العيار وزن أهل مكة شرفها الله تعالى. وفي بعض شروح البخاري: واختلف في أول مَن ضربها، فقال أبو الزناد: أمر عبد الملك بضربها في العراق سنة أربع وسبعين، وقال المدائني: بل كان ذلك في آخر سنة خمس وسبعين، ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين، وقيل: أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - سنة سبعين، على ضرب الأكاسرة، ثم غيَّرها الحجاج.

وذكر محمَّد بن خلف في كتاب "المكاييل"، عن الواقدي، عن سعيد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن سابط قال: كان لقريش أوزن في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهمًا، والرطل اثنى عشر أوقيةً، فذلك أربعمائة وثمانون درهما، وكان لهم النش وهو عشرون درهمًا، والنواة وهي خمسة دراهم، وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبةً، وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل، والدرهم خمسة عشر قيراطًا، فلما قدم سيدنا رسول الله - عليه السلام - كان يسمى الدينار لوزنه دينارًا، وإنما هو تبر، ويسمى الدرهم لوزنه درهمًا وإنما هو تبر، فأقرت موازين المدينة على هذا، فقال النبي - عليه السلام -: "الميزان ميزان أهل المدينة". وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال: اصطلح الناس على دراهمنا وإن كان بينهم في ذلك اختلاف لطيف. قال: وأما الدينار فليس فيه خلاف. قال أبو عمر: روى جابر - رضي الله عنه - أن النبي - عليه السلام - قال: "الدينار أربعة وعشرون قيراطًا" قال أبو عمر: هذا وإن لم يصح سنده ففي قول جماعة العلماء به، واجتماع الناس على معناه ما يغني عن الإسناد فيه. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وبحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكلٌّ اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبةً وثلاثة أعشار حبَّة، بالحب من الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبةً وستة أعشار حبَّة وعُشر عُشر حبَّة، فالرطل مائة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهمًا بالدرهم المذكور. وقال ابن حزم أيضًا: الدرهم في الورق والدينار في الذهب ثم يجتمعان في النواة والنش والأوقية، وقد دخل في الرطل في بعض المقادير، فالدرهم المذكور في الزكاة هو الذي في كل سبعة دنانير ذهبا منه عشرة دراهم بوزن مكة، والأوقية أربعون درهما مكية من ذهب أو فضة، والرطل اثنى عشر أوقية مكية. ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 246).

وقال في "الإيصال": لا خلاف بين أحد في الأوقية المذكورة في أواقي الورق في الصدقة المفروضة: أنها أربعون درهمًا بالدرهم المكي، وأما وزن الرطل فإن الناس يختلفون في أن المثقال على وزنه قديما وحديثًا، وهو درهمان طبريان، والدرهم الطبري هو القرطبي. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: ثنا شيبان ابن عبد الرحمن، عن ليث بن أبي سليم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، ولا خمس أواقٍ ولا خمسة أوساق صدقة". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا ليث ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر نحوه ولم يرفعه. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن الحسن بن موسى الأشيب أبي علي البغدادي قاضي طبرستان وشيخ أحمد، روى له الجماعة، عن شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي أبي معاوية البصري المؤدب روى له الجماعة، عن ليث بن أبي سليم أيمن بن زنيم القرشي الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 360 رقم 9903).

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن نافع ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن ليث بن أبي سليم، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبد الله بن سعيد، نا المحاربي عبد الرحمن بن محمَّد، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - عليه السلام - قال: "ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة، ولا خمس أواقٍ من فضة صدقة". الثالث: وهو موقوف: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الصنعاني نزيل مصيصة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ولم يرفعه إلى النبي - عليه السلام -. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، تُكُلم فيه؛ فعن النسائي: ضعيف. وعنه: ليس بثقة. وعن أحمد: كان من الثقات. وعن يحيى: ثقة. وعنه: يروي عن غير الثقات. وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور. ومعمر هو ابن راشد. وأبو صالح هو ذكوان الزيات. والكل ثقات. والحديث أخرجه أبو عمر بن عبد البر (¬2): نا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا علي بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 121 رقم 7215). (¬2) "التمهيد لابن عبد البر" (20/ 135).

معمر، قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: " [ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة، و] (¬1) ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، وليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة". وقال إسناده حسن. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحكم بن موسى، قال: ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، قال: ثنا الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - عليه السلام - كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن" فكتب فيه: ما سقت السماء أو كان سيحًا أو بعلًا فيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما سقط بالرِشاء أو بالدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق". ش: مرَّ هذا الإسناد بعينه في أواخر الباب الذي قبله، وهو حديث مطول جدًّا أخرج بعضه هناك وبعضه ها هنا؛ للتبويب، وترك أكثره، وقد ذكرناه بتمامه هناك مع شرح معانيه. ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا تجب الصدقة في ضيء من الحنطة والشعير والتمر والزبيب حتى تكون خمسة أوسق، وكذلك كل شيء مما تخرج الأرض مثل الحمص والعدس والماش وما أشبه ذلك فليس في شيء منه صدقة حتى يبلغ هذا المقدار أيضًا، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد وأهل المدينة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن المسيب والثوري ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا تجب الصدقة -أي الزكاة- في شيء من الحنطة ونحوها من الحبوب، وفي التمر والزبيب حتى تكون خمسة أوسق، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد".

وقال أبو عمر بن عبد البر: قوله - عليه السلام -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" يقتضي نفي وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ويقتضي وجوبها في هذا المقدار فما فوقه، والخمسة الأوسق عندنا بالكيل القرطبي: خمسة وعشرون قفيزًا على حساب ثمانية وأربعين. هذا وإن كان القفيز اثنين وأربعين مدًّا كما زعم جماعة من الشيوخ عندنا فهي ثمانية وعشرون قفيزًا ونصف قفيز وأربعة أسباع قفيز وزن جميعها ثلاثة وخمسون ربعًا وثلث ربع كل ربع منها من ثلاثين رطلًا. فهذا هو المقدار الذي لا تجب الزكاة فيما دونه وتجب فيما فوقه كيلًا؛ لأن الحديث إنما نبَّه على الكيل. وهذا إجماع من العلماء أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق إلا أبا حنيفة وزفر ورواية عن بعض التابعين؛ فإنهم قالوا: الزكاة في كل ما أخرجته الأرض قلَّ ذلك أو كثر إلا الطرف والقصب الفارسي والحشيش والحطب. وأجمع العلماء كلهم من السلف والخلف على أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، واختلفوا فيما سوى ذلك من الحبوب، فقال مالك: الحبوب التي تجب فيها الزكاة: الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدس والجلبان واللوبيا وما أشبه ذلك من الحبوب والقطاني كلها. قال: وفي الزيتون الزكاة. وقال الشافعي: كل ما يزرعه الآدميون وييبس ويُدَّخر ويقتات مأكولًا خبزًا وسويقًا وطبيخًا ففيه الزكاة. قال: والقطاني كلها فيها الزكاة، واختلف قوله في الزيتون، وآخره أنه رجع إلى أنه لا زكاة فيه؛ لأنه إدام. قال: وليس في الأرز والقتّ والقثاء وحبوب البقل والشونيز صدقة، ولا يؤخذ من ثمر الشجر صدقة إلا في النخل والعنب، وقال الطبري في هذا

الباب بقول الشافعي، ولا زكاة عنده في الزيتون، وأجمعوا أنه لا يضاف التمر إلى الزبيب ولا إلى البر ولا الإبل إلى البقر ولا البقر إلى الغنم، والغنم والضأن والمعز يُضاف بعضها إلى بعض بإجماع. واختلفوا في ضم الذهب والورق بعضه إلى بعض في الزكاة، فقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والثوري: يضم أحدهما إلى الآخر فيكمل به النصاب، إلا أن أبا حنيفة قال: يضم بالقيمة، وكذلك قال الثوري إلا أنه قال: يضم القليل إلى الكثير بقيمة الأكثر. وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك والشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والطبري وداود بن عليّ: لا يضم شيء منهما إلى صاحبه، ويعتبرون تمام النصاب في كل واحدٍ منهما. واختلفوا في زكاة الزيتون، فقال الزهري والأوزاعي والليث: يخرص زيتونًا ويؤخذ زيتًا صافيًا. وقال مالك: لا يخرص ولكن يؤخذ العشر بعد أن يُعصر، ويبلغ كيل الزيتون خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة والثوري: تؤخذ الزكاة من حبِّه. وكان ابن عباس يوجب الزكاة في الزيتون، وروي عن عمر - رضي الله عنه - ولا يصح فيه شيء، وكان الشافعي بالعراق يقول في الزيتون [الزكاة] (¬1) ثم قال بمصر: لا أعلم الزكاة تجب في الزيتون. واتفق مالك والشافعي على أن لا زكاة في الرمان. وقال عياض: رأى أبو حنيفة إخراج الزكاة العشر ونصف العشر من كل ما أخرجت الأرض من الثمار والرياحين والخضر ونحوها إلا الحشيش ونحوه. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (20/ 153).

ورأى الحسن والثوري وابن أبي ليلى في آخرين: أن لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وذهب مالك في المشهور عنه أنها تجب في كل ما يقتات ويُدَّخر غالبًا، ونحوه قول الشافعي وأبي ثور إلا أنهما استثنيا الزيتون. وقال ابن الماجشون من أصحابنا: تجب في ذوات الأصول كلها، ما ادَّخر منها وما لم يُدَّخر. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ولا تجب الزكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط وهي: الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وماعزها فقط، ولا زكاة في شيء من الثمار ولا من الزرع ولا في شيء من المعادن غير ما ذكرنا، ولا في الرقيق ولا في العسل ولا في عروض التجارة. وقال: واختلف السلف في كثير مما ذكرنا، فأوجب بعضهم الزكاة فيها ولم يوجبها بعضهم، واتفقوا في أصناف سوى هذه أنه لا زكاة فيها، فمما اتفقوا أنه لا زكاة فيها كل ما اكتسب للقينة لا للتجارة من جوهر وياقوت ووطاء وغطاء وثياب وآنية نحاس أو حديد أو رصاص أو قزدير وسلاح وخشب ودور وضياع وبغال وحمير وصوف وحرير وغير ذلك لا يحاش شيئًا. وقالت طائفة: كل ما عمل منه عصيدة أو خبز ففيه الزكاة، وما لم يؤكل إلا بقلها فلا زكاة فيه. وهو قول الشافعي. وقال مالك: الزكاة واجبة في القمح والشعير والسلت، وهي كلها صنف واحد. قال: وفي العَلَس، وهو صنف مفرد. وقال مرة أخرى: إنه يضم إلى القمح والشعير والسلت. قال: وفي الدخن وهو صنف مفرد وفي السمسم والأرز والذرة، وكل صنف منها منفرد لا يضم إلى غيره، وفي الفول والحمص واللوبيا والعدس والجلبان والبسيل والترمس وسائر القطنية، وكل ما ذكرنا فهو واحد يضم بعضه إلى بعض. ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 210 - 213).

قال: وأما في البيوع فكل صنف منها على حياله إلا الحمص واللوبيا فإنهما صنف واحد. ومرة رأى الزكاة في حب العصفر، ومرةً لم يرها فيه. وأوجب الزكاة في زيت الفجل، ولم يرها في زريعة الكتان ولا في زيتها ولا في الكتان ولا في القطن ولا في الكرسنَّة ولا في الخضر كلها، ولا في اللفت، ورأى الزكاة في الزبيب وفي زيت الزيتون لا في حبه، ولم يرها في شيء من الثمار ولا في تين ولا في بلوط ولا قسطل ولا رمَّان ولا جوز الهند ولا جوز ولا لوز ولا غير ذلك أصلًا. وقال أبو حنيفة: الزكاة في كل ما أنبتت الأرض من حبوب أو ثمار أو نوَّار، ولا يحاش شيئًا حتى الورد والسوسن والنرجس وغير ذلك حاشا ثلاثة أشياء فقط وهي: الحطب والقصب والحشيش فلا زكاة فيها. واختلف قوله في قصب الذريرة؛ فمرةً رأى فيها الزكاة، ومرةً لم يرها فيها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا زكاة في الخضر كلها ولا في الفواكه. وأوجبا الزكاة في الجوز واللوز والتين وحب الزيتون والجلّوز والصنوبر والفستق والكمون والكراويا والخردل والعناب وحب البسباس، وفي الكتان وفي زريعته أيضًا، وفي حب العصفر وفي نواره، وفي حب القنب لا في كتانه وفي الفوة، إذا بلغ كل صنف مما ذكرنا خمسة أوسق وإلا فلا. وأوجبا الزكاة في الزعفران والقطن والوَرْس. واختلفا في الإجاص والبصل والثوم والحنَّاء، فمرة أوجبا فيها الزكاة، ومرةً أسقطاها. وأسقطا الزكاة عن خيوط القنب وعن حب القطن، وعن البلوط والقسطل والنبق والتفاح والكمثرى والمشمش والهليلج والبطيخ والقثاء واللفت والتوت والخروب والحرف والحلبة والشونيز والكراث. انتهى. وفي "البدائع" (¬1): يجب العشر في العنب عندهما؛ لأن المجفف منه يبقى من سنة إلى سنة وهو الزبيب فيخرص العنب جافًّا، فإن بلغ مقدار ما يجيء منه الزبيب خمسة ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (2/ 178).

أوسق يجب في عينه العشر أو نصف العشر، وإلا فلا شيء فيه. وروي عن محمَّد أن العنب إذا كان رقيقًا لا يصلح للماء ولا يجيء منه الزبيب فلا شيء فيه وإن كثر. وكذا قال أبو يوسف في سائر الثمار إذا كان يجيء منها ما يبض من سنة إلى سنة بالتجفيف أنه يخرص ذلك جافًّا، فإن بلغ نصابًا وجب وإلا فلا كالتين والإجاص والكمثرى والخوخ ونحو ذلك؛ لأنها إذا جففت تبقى من سنة إلى سنة فكانت كالزبيب. وقال محمَّد: لا يجب العشر في التين والخوخ والإجاص والكمثرى والتفاح والنبق والمشمش والتوت والموز والخروب، ويجب العشر في الجوز واللوز والفستق. وروي عن محمَّد أنه يجب العشر في البصل، ولا عشر في الآس والورد والوَسِمَة، لأنها من الرياحين. وأما الحناء فقال أبو يوسف: فيه العشر. وقال محمَّد: لا عشر فيه؛ لأنها من الرياحين فأشبه الآس والورد، والعصفر والكتان إذا بلغ القرطم والحب خمسة أوسق وجب فيه العشر، ويجب في العصفر والكتان أيضًا على طريق التبع. وقالا في اللفت: إذا بلغ خمسة أوسق ففيه العشر، وكذا حب الصنوبر، ويجب في الكروياء والكمون والكسبرة والخردل، ولا يجب في السَّعْتر والشومر والحلبة؛ لأنها من جملة الأدوية. وقصب السكر إذا كان مما يتخذ منه السكر، فإذا بلغ ما يخرج منه خمسة أوسق وجب فيه العشر، ولا شيء في البلوط، ولا في بذر البطيخ والقثاء والخيار والرطبة، وكل بذر لا يصلح إلا للزراعة بلا خلاف بينهما، والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فأوجبوا الصدقة في قليله وكثيره. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وإبراهيم النخعي والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وزفر بن الهذيل رحمهم الله؛ فإنهم أوجبوا الصدقة في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره، ولم يوقتوا فيها شيئًا.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا معتمر بن سليمان الرقي، عن خصيف، عن مجاهد، قال: "فيما أخرجت الأرض فيما قلَّ منه أو كثر العشر أو نصف العشر". ثنا (¬2) غُنْدَر، عن شعبة، عن حماد، قال: "في كل شيء أخرجت الأرض العُشر أو نصف العشر". ثنا (¬3) وكيع، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم قال: "في كل شيء أخرجت الأرض زكاة، حتى في عشر دستجات بقل دستجة بقل". ثنا (¬4) عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: "أنه كان لا يوقت في الثمرة شيئًا، وقال: العشر أو نصف العشر". ثنا (¬5) وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "في كل شيء أخرجت الأرض زكاة". انتهى. وقال ابن المنذر: زعم علماء الأمصار أن الزكاة ليست بواجبة فيما دون خمسة أوسق، إلا أن أبا حنيفة وحده، قال: تجب في كل ما أخرجت الأرض من قليل أو كثير. قلت: قوله: "إلا أن أبا حنيفة وحده" غير صحيح لما ذكرنا الآن عن مجاهد والنخعي والزهري وحماد مثل قوله. وقال النووي: لا خلاف بين المسلمين أن لا زكاة فيما دون خمسة أوسق إلا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره، وهذا مذهب باطل منابذ لصريح الأحاديث الصحيحة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 371 رقم 10028). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 371 رقم 10029). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 371 رقم 10030). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 371 رقم 10031). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 372 رقم 10034).

قلت: الذي قاله باطل، فعجبي منه كيف يتلفظ بهذا الكلام مع شهرته بالورع والديانة، وكيف قد غفل عن مستندات هؤلاء من الأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم وغيرهما على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى؛ ولقد صدق مَن قال: حفظتَ شيئًا وغابت عنك أشياءُ ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثني عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ بن جبل قال: "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقي بعلًا العشر، ومما سقي بالدوالي نصف العُشر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا أبو بكر بن عياش ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الحناط -بالنون- المقرئ الكوفي روى له الجماعة؛ مسلم في مقدمة كتابه، واختلف في اسمه فقيل: محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل غير ذلك. عن عاصم بن أبي النَّجود -بفتح النون- الأسدي أبي بكر المقرئ روى له الجماعة الشيخان مقرونًا بغيره، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الكوفي روى له الجماعة، عن معاذ بن جبل. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر ابن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ - رضي الله عنه - ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 581 رقم 1818).

وأخرجه النسائى (¬1) أيضًا ولفظه: "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العُشر، ومما سقي بالدوالي نصف العشر". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي، قال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان. عن أبي بكر بن عياش ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ قال: "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن وأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقي بعلًا العُشر، ومما سقي بالدوالي نصف العشر". قوله: "مما سقت السماء" أي: المطر. قوله: "وما سقي بعلًا" البعل بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة هو الذي يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها. قال الأزهري: هو ما ينبت من النخل في أرض يقرب ماؤها، فرسخت عروقها في الماء واستغنت عن ماء السماء والأنهار وغيرها. وقال ابن ماجه (¬3): قال يحيى بن آدم: البعل والعثري والعذي هو الذي يسقى بماء السماء، والعثري ما يزرع بالسحاب وبالمطر خاصةً ليس يصيبه إلا ماء المطر، والبعل: ما كان من الكرم قد ذهبت عروقه في الأرض إلى الماء فلا يحتاج إلى السقي الخمس سنين والست. فإن قيل: "بعلًا" منصوب بماذا؟ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 42 رقم 2490). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 131 رقم 7282). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 581 رقم 1818).

قلت: يجوز أن يكون حالًا، وغير المشتق يقع حالًا بالتأويل كما في قولك: جاءني يزيد أسدًا. أي شجاعًا، والأظهر أنه نصب على التمييز من قبيل {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} (¬1)؛ وذلك لأن نسبة التفجير إلى الأرض لما كانت مبهمة بيَّنها بقوله: {عُيُونًا} وهو من قبيل ما يبين إجمالًا في نسبة الفاعل إلى مفعوله. قوله: "بالدوالي" جمع دالية وهي المنجنون التي يديرها الثور. فإن قيل: ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث؟ قلت: هو أنه مطلق وليس فيه فصل بين أن تكون خمسة أوسق أو أقل أو أكثر، فوجب العمل بإطلاقه، ووجبت الصدقة في كل ما تخرج الأرض سواء كان قليلًا أو كثيرًا، ولكن إن كان الخارج مما سقي بالسيح والمطر ففيه العُشر كاملًا، وإن كان بالدالية أو السانية (¬2) ففيه نصف العُشر. وأما جواب أبي حنيفة عن الأحاديث المتقدمة فهو أن المراد بها زكاة التجارة؛ لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق أربعون درهمًا. وقد أجيب عنها بأنها منسوخة. فإن قيل: ما وجه النسخ في ذلك؟ قلت: إذا ورد حديثان أحدهما عام والآخر خاص، فإن عُلِم تقديم العام على الخاص خصَّ العام بالخاص، كمن يقول لعبده: لا تعط لأحد شيئًا. ثم قال له: أعطِ زيدًا درهمًا. ثم قال له: لا تعط أحدًا شيئًا. فإن هذا ناسخ للأول. هذا مذهب عيسى بن أبان، وهو المأخوذ به، ويقال: هذا إذا علم التاريخ، أما إذا لم يعلم فإن العام يجعل آخرًا لما فيه من الاحتياط، وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرًا احتياطًا. وقال بعض أصحابنا: وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه عموم قوله ¬

_ (¬1) سورة القمر، آية: [12]. (¬2) السانية: هي الناقة التي يستقى عليها. انظر لسان العرب (14/ 404 مادة سنا).

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬1) وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2) والأحاديث التي تعلقت بها أهل المقالة الأولى أخبارآحاد، فلا تقبل في معارضة الكتاب. فإن قيل: ما تلوتم من الكتاب ورويتم من الأحاديث لأبي حنيفة - رضي الله عنه - تقتضي الوجوب من غير تعرض لمقدار الواجب، وما روى هؤلاء يقتضي وجوب المقدار، فكان بيانًا لمقدار ما يجب فيه العشر، والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه. قلت: لا يمكن حمله على البيان؛ لأن ما احتج به أبو حنيفة عام، فيتناول ما يدخل تحت الوسق وما لا يدخل، وما روى هؤلاء يختص فيما يدخل تحت الوسق فلا يصلح بيانًا للقدر الذي يجب فيه العُشر؛ لأن من شرط البيان أن يكون شاملًا لجميع ما يقتضي البيان، وهذا ليس كذلك، فعلم أنه لم يرد مورد البيان. ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء العشور، وفيما سقي بالناضح نصف العشور". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض فيما سقت الأنهار والعيون أو كان عثريًّا يُسقى بالسماء العشور، وفيما سقي بالناضح نصف العشور". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [267]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [141].

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذه أربع طرق: الأول: إسناده صحيح على شرط الشيخين: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلًا: العشر، وفيما سُقي بالسواني أو النضح نصف العشر". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. وأخرجه الترمذي (¬4) ولكن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه. قوله: "بالناضح" وهو واحد النواضح، وهي الإبل التي يُستقى عليها. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن يزيد بن أبي حَبيب سويد المصري، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الدارقطني (¬5): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا يزيد بن سنان، ثنا ابن أبي مريم، ثنا ابن لهيعة، أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن سالم بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 108 رقم 1596). (¬2) "المجتبى" (5/ 41 رقم 2488). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 581 رقم 1817). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 31 رقم 639). (¬5) "سنن الدارقطني" (2/ 130 رقم 6).

عبد الله، عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض في البعل وما سقت السماء والأنهار والعيون العُشر، وفيما سقي بالنضح نصف العُشر". الثالث: بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العُشر، وما سقي بالنضح نصف العشر". الرابع: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن سعيد بن أبي مريم، عن عبد الله بن لهيعة ... إلى آخره. ورجاله ثقات، إلا أن في ابن لهيعة مقالًا على أن أحمد وثقه جدًّا. قوله: "أو كان عَثَرِيًّا" بفتح العين المهملة والثاء المثلثة وكسر الراء، وهو من النخيل الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة. وقيل: هو العِذْي وقيل: ما سُقي سيحًا، والأول أشهر؛ سمي به كأنه عثر على الماء عثرًا بلا عمل من صاحبه، وهو منسوب إلى العَثْر -بسكون الثاء- ولكن الحركة من تغييرات النسب. وقال الجوهري: العَثَرِيّ -بالتحريك- العِذْي، وهو الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر، والعِذي: بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة الزرع الذي لا يسقيه إلا المطر. قاله الجوهري أيضًا. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 540 رقم 1412).

أبا الزبير، حدثه أنه سمع جابر بن عبد الله يذكر عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشر". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح وهارون بن سعيد الأيلي وعمرو بن سواد والوليد بن شجاع، كلهم عن ابن وهب -قال أبو الطاهر: أنا عبد الله بن وهب- عن عمرو بن الحارث، أن أبا الزبير، حدثه أنه سمع جابر بن عبد الله يذكر، أنه سمع النبي - عليه السلام - قال ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "الغيم" أي: السحاب، وأراد به المطر، من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال. و"السانية": الناقة التي يستقي عليها، وقيل: هي الدلو العظيمة وأداتها التي يستقي بها، ثم سميت الدواب سواني لاستقائها، وكذلك المستقى بها سانية أيضًا. قال عياض: السانية الإبل التي يرفع عليها الماء من البئر، وتسنى أي تسقى، يقال: سنى يسنو سُنوًا: إذا استقى. ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذه الآثار أن رسول الله - عليه السلام - جعل فيما سقت السماء ما ذكر فيها ولم يقدر في ذلك مقدارًا، ففي ذلك ما يدل على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض، قل أو كثُر. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. وأشار بهذا الكلام إلى بيان كيفية الاستدلال بأحاديث هؤلاء، وهو أنها تخبر أن الواجب فيما سقت السماء ونحوها العشر كاملًا، ونصفه فيما سقت الدالية أو ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 675 رقم 981).

السانية مطلقًا من غير تعرض فيها إلى بيان المقدار، فدلت بعمومها على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض سواء كان قليلًا أو كثيرًا، فإذا كان الأمر كذلك، تكون أحاديث هؤلاء مضادة لأحاديث أهل المقالة الأولى؛ لأن فيها ذكر المقادير، فحينئذٍ لم يتم استدلالهم بها. فإن قيل: فإذا لم يتم استدلالهم بها لما ذكرتم فكذلك، لا يتم استدلالكم أيضًا بأحاديثكم لما ذكرتم من التضاد بينها. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن ما استدللنا به عام وما استدل به هؤلاء خاص. وقد ذكرنا فيما مضى أن العام إذا عُلم تقدمه على الخاص خُص العام بالخاص، وإذا لم يعلم فإن العام يُجعل آخرًا، لما فيه من الاحتياط، وها هنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرًا، فصار العمل للأحاديث العامة، فافهم. ص: فإن قال قائل ممن يذهب إلى قول أهل المدينة: إن هذه الآثار التي رويتَها في هذا الفصل غير مضادة للآثار التي رويتها في الفصل الأول إلا أن الأولى مفسرة وهذه مجملة، فالمفسر أولى من المجمل. قيل له: هذا محال؛ لأن رسول الله - عليه السلام - أخبر في هذه الآثار أن ذلك الواجب من العشر أو نصف العشر فيما يُسقى بالأنهار أو بالعيون أو بالرشاء أو بالدالية، فكان وجه الكلام على كل ما خرج مما سُقي بذلك، وقد رويتم أنتم عن رسول الله - عليه السلام - أنه ردَّ ماعزًا عندما جاء فأقر عنده بالزنا أربع مرات، ثم رجمه بعد ذلك، ورويتم أن رسول الله - عليه السلام - قال لأنيس: "اغدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فجعلتم هذا دليلًا على أن الاعتبار بالاقرار بالزنا مرة واحدة؛ لأن ذلك ظاهر قول رسول الله - عليه السلام -: "فإذا اعترفت فارجمها" ولم تجعلوا حديث ماعزٍ قاضيًا على حديث أُنَيسٍ هذا المُجْمَل، فيكون الاعتراف المذكور في حديث أنيسٍ المجمل هو الاعتراف المذكور في حديث ماعز المفسر، فإذا كنتم قد [فعلتموه] (¬1) هذا فيما ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ولعل الصواب: "فعلتم".

ذكرنا، فما تنكرون على مَن فعل في أحاديث الزكوات ما وصفنا؟ بل حديث أنيس أولى أن يكون معطوفًا على حديث ماعز؛ لأنه ذكر فيه الاعتراف، وإقراره مرة واحدة ليس هو اعتراف الزاني الذي يوجب الحد عليه في قول مخالفكم، وحديث معاذ وابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - في الزكاة إنما فيه ذكر إيجابها فيما سُقي بكذا أو فيما سقي بكذا، فذلك أولى أن يكون مضادًا لما فيه ذكر الأوساق، من حديث أنيس لحديث ماعز - رضي الله عنه -. ش: تقرير السؤال أن يقال: لا نسلم التضاد بين هذه الآثارة؛ لأن الأحاديث التي فيها ذكر الأوساق مفسرة، والأحاديث المطلقة التي لم يذكر فيها المقدار مجملة، فالعمل بالمفسر أولى من العمل بالمجمل؛ لأن ما في المفسر يبيِّن ما في المجمل، فيكون المفسر قاضيًا على المجمل فيحمل عليه، ويُعطف حكمه على حكمه. وتقرير الجواب أن يقال: ما ذكرتم محال؛ لأنه - عليه السلام - أخبر في أحاديث معاذ وابن عمر وجابر أن الواجب الذي أمره من العشر أو نصف العشر فيما يُسقى بالأنهار أو بالعيون أو بالدالية والسانية، فكان الذي يقتضيه الكلام هو الوجوب في كل ما خرج مما سقي بهذه الأشياء، فإذا كان كذلك كيف تكون تلك الأحاديث التي فيها المقادير قاضية على هذه الأحاديث كما فيها من التضاد؟ فإذا ثبت التضاد وجب طلب المخلص، ووجهه مما ذكرناه. ثم أشار بقوله: "وقد رويتم أنتم ... " بلى آخره إلى أنهم قد عكسوا فيما قالوا حيث تركوا العمل به في حديث ماعز وحديث المرأة اللذين اعترفا بالزنا، بيان ذلك أنكم رويتم أن النبي - عليه السلام - ردَّ ماعزًا عندما جاء فأقر عنده بالزنا أربع مرات، ثم أمر رسول الله - عليه السلام - برجمه وهذا مفسر، ورويتم أيضًا أنه - عليه السلام - قال لأنيس بن الضحاك الأسلمي: "اغدُ على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهذا مجمل، فجعلتم هذا دليلًا على أن الاعتبار في الإقرار بالزنا مرةً واحدة، فعملتم بهذا المجمل وتركتم العمل بالمفسر حيث لم تشترطوا في إقامة الحد على الزاني إلا إقراره مرةً واحدةً، فإذا كنتم قد

فعلتم هذا في هذه القضية، فكيف تنكرون على مَن فعل ذلك في أحاديث الزكوات ما وصفنا؟ بل كان الذي ينبغي عطف حديث أنيس على حديث ماعز؛ لأن الاعتراف مذكور في حديث ماعز، وإقرار الرجل مرةً واحدةً لا يوجب عليه الحد عند مخالفيكم؛ لأنهم يشترطون الإقرار أربع مرات أخذًا بما في حديث ماعز، فكان هو القاضي والمعطوف عليه، وحديث معاذ وابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - يبيِّن إيجاب الزكاة فيما يُسقى بكذا وفيما يُسقى بكذا، فلا شك أنه مضاد لما فيه ذكر المقادير وهي الأوساق، والتضاد بينهما أظهر من التضاد الذي بين حديث ماعز وأنيس، وإليه أشار بقوله: "فذلك أولى أن يكون مضادًّا لما فيه ذكر الأوساق ... " إلى آخره. ثم اعلم أن حديث ماعز أخرجه الجماعة مختلفين ومتفقين من رواية أبي سعيد وبريدة وأبي هريرة ويزيد بن نعيم بن هزال وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم -، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، في كتاب الحدود. وأما حديث تلك المرأة التي رجمت فأخرجه الجماعة أيضًا من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وعمران بن حصين - رضي الله عنهم - على ما يجيء إن شاء الله تعالى. ص: وقد حمل حديث معاذ وجابر وابن عمر - رضي الله عنهم - على ما ذكرناه وذهب في معناه إلى ما وصفنا: إبراهيم النخعي ومجاهد. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أخبرني شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: "في كل شيء أخرجت الأرض الصدقة". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن خُصَيْفٍ، عن مجاهد قال: "سألته عن زكاة الطعام، فقال: فيما قلَّ منه أو كثر العشر أو نصف العشر". ش: أعضد كلامه بما روي عن هذين الجليلين من التابعين: مجاهد بن جبر المكي، وإبراهيم بن يزيد النخعي.

وقوله: "وقد حمل"، وقوله: "وذهب" تنازعًا في قوله: "إبراهيم النخعي". وقوله: "ومجاهد" عطفٌ عليه. وإسناد أثريهما صحيح، ورجاله ثقات. وخُصيف -بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ابن عبد الرحمن الجزري، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي. والأثران أخرجهما ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) وقد ذكرناه فيما مضى عن قريب. ص: والنظر الصحيح أيضًا يدل على ذلك؛ وذلك أنا رأينا الزكوات تجب في الأموال والمواشي في مقدارٍ منها معلوم بعد وقت معلوم وهو الحول، فكانت تلك الأشياء تجب بمقدار معلوم ووقتٍ معلوم. ثم رأينا ما تخرج الأرض تؤخذ منه الزكاة في وقت ما تخرج ولا يُنتظر به وقت، فلما سقط أن يكون له وقت تجب فيه الزكاة بحوله سقط أن يكون له مقدار تجب الزكاة فيه ببلوغه، فيكون حكم المقدار والميقات في هذا سواء، إذا سقط أحدها سقط الآخر كما كانا في الأموال التي ذكرنا سواء، لما ثبت أحدهما ثبت الآخر. فهذا هو النظر وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. ش: أي: القياس الصحيح أيضًا يدل على وجوب الصدقة في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره من غير تقدير بمقدار. قوله: "وذلك" أي: وجه دلالة النظر الصحيح على ذلك، أنا رأينا الزكوات إنما تجب في الأموال وفي المواشي السائمة بشرطين: أحدهما: أن يكون منها بمقدار معلوم وهو النصاب. والثاني: أن يكون بعد وقت معلوم وهو مضي الحول. ¬

_ (¬1) تقدم.

ورأينا وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض إنما هو في وقت إخراجها ولا يؤقت بوقت معيَّن. فلما سقط أن يكون له وقت محدود لوجوب الزكاة بحول ذلك الوقت؛ فكذلك بالنظر والقياس عليه سقط أن يكون له مقدار معين تجب الزكاة فيه بحصول ذلك المقدار، فاستوى فيه حكم المقدار والوقت فبسقوط أحدهما يسقط الآخر، كما استوى حكم المقدار والوقت في الأموال والمواشي، فبثبوت أحدهما يثبت الآخر، والله أعلم. قوله: "وهو قول أبي حنيفة" أي: الذي ذكرناه من وجوب الزكاة في القليل والكثير مما أخرجته الأرض -الذي هو النظر الصحيح- هو قول أبي حنيفة وزفر وآخرين كما ذكرناه.

ص: باب: الخرص

ص: باب: الخرص ش: أي: هذا باب في بيان الخرص، وهو الحزر، يقال: خرَص النخلة والكرمة إذا حزَر ما عليهما من الرطب تمرًا ومن العنب زبيبًا، مِن خَرَصَ يَخْرِصُ -من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ- خَرصًا بالفتح، والاسم الخِرص بالكسر، وأصل الخرص الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن، والخرَّاص الحزَّار، ويقال: خَرَصَ العدد يخرُصه ويخرِصه -من باب نَصَرَ يَنْصُر وضَرَبَ يَضْرِبُ- خَرصًا وخِرصًا: حزَره. وقال الجوهري: هو حزر ما على النخل من الرطب تمرًا. وقال ابن السكيت: الخَرْصُ والخِرْصُ لغتان في الشيء المخروص. وقال عياض: وذلك لا يكون إلا عند طيب الثمرة. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كانت المزارع تكرى على عهد النبي - عليه السلام - على أن لربّ الأرض ما على المساقي من الأرض وطائفةً من التبن لا أدري كم هو. قال نافع: فجاء رافع بن خديج وأنا معه فقال: إن رسول الله - عليه السلام - أعطى خيبر يهودًا على أنهم يعملونها ويزرعونها على أن لهم نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع على ما نقركم فيها ما بدا لنا. قال: فخرصها عليهم عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - فصاحوا إلى رسول الله - عليه السلام - من خرصه، فقال: أنتم بالخيار إن شئتم فهي لكم وإن شئتم فهي لنا، نخرصه ونؤدي إليكم نصفها. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض". ش: أبو بكر الحنفي اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. وعبد الله بن نافع القرشي مولى عبد الله بن عمر، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وهو أضعف وُلْد نافع. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه.

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: "كان ابن عمر يكري مزارعه على عهد رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من زمان معاوية، فأتاه رجل فقال: إن رافعًا يزعم أن النبي - عليه السلام - نهى عن كراء الأرض، فانطلق ابن عمر إلى رافع وانطلقت معه، فقال: ما الذي بلغني عنك تذكر عن النبي - عليه السلام - في كراء المزارع؟ قال: نعم، نهى رسول الله - عليه السلام - عن كراء المزارع، فكان ابن عمر إذا سئل عنه بعد ذلك قال: زعم نافع أن نبي الله نهى عنه. قال نافع: فقال ابن عمر لما ذكر رافع ما ذكر: كنت أعلم أنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله - عليه السلام - بما على الأرْبِعَاء وشيء من التبن لا أحفظه". قوله: "كانت المزارع" جمع مزرعة وهي الأرض التي يزرع فيها. قوله: "ما على المساقي" جمع مسقاة وهو موضع السقي، وفي بعض النسخ: ما على السواقي. قوله: "وطائفة من التبن" أراد بها قطعةً من التبن. "والأَرْبِعاء": بكسر الباء جمع ربيع، وهو الجدول. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عون الزيادي، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أفاء الله خيبر على رسوله فأقرهم رسول الله - عليه السلام - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ثم قال: يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليَّ؛ قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إيكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت بعشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي". ش: أبو عون الزيادي اسمه محمَّد بن عون بن أبي عون مولى آل زياد بن أبي سفيان، وثقه أبو زرعة وابن حبان. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 825 رقم 2218). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1180 رقم 1547).

وإبراهيم بن طهمان الخراساني أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1) وقال: قرئ على ابن منيع وأنا أسمع: ثنا أبو خيثمة، ثنا محمَّد بن سابق، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير ... إلى آخره نحوه سواء. غير أن في لفظه: "وإن أبيتم فلي، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذناها. قال: فأخرجوا عنا". وأخرجه أبو داود (¬2) مختصرًا: ثنا ابن أبي خلف، قال: نا محمَّد بن سابق، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: "ثم أفاء الله على رسوله خيبر، فأقرهم رسول الله - عليه السلام - كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم". ثنا (¬3) أحمد بن حنبل، قال: ثنا عبد الرزاق ومحمد بن بكر، قالا: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: "خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خَيَّرَهُم ابن رواحة أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق". قوله: "أفاء الله خيبر على رسوله" يعني: جعلها غنيمةً له، والفيء الغنيمة، تقول منه: أفاء الله -على المسلمين مال الكفار- يُفيءُ إفاءةً. و"خيبر" اسم لقلعة بينها وبين المدينة ست مراحل. قوله: "يا معشر اليهود" أي: جماعة اليهود. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 133 رقم 23). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 264 رقم 3414). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 264 رقم 3415).

قوله: "قتلتم أنبياء الله" فيه مجاز؛ لأنهم لم يقتلوا الأنبياء وإنما أجدادهم هم الذين قتلوهم. قوله: "أن أحيف عليكم" من الحيف وهو الجَوْر والظلم. قوله: "وقد خرصت" أي: حزرت وقدرت، وقد مرَّ أن الوسق ستون صاعًا. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا عبد الله بن نافع، قال: ثنا محمد بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتَّاب بن أَسِيد: "أن رسول الله - عليه السلام - أمره أن يخرص العنب زبيبًا كما يخرص الرطب". ش: إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الحزامي المدني، شيخ أبي زرعة وأبي حاتم والبخاري في غير "الصحيح"، وثقه يحيى، وقال النسائي: لا بأس به. وعبد الله بن نافع الصائغ المدني، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". ومحمد بن صالح بن دينار التمار المدني. قال أحمد وأبو داود: ثقة. وروى له الأربعة. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد العزيز بن السريّ الناقط، نا بشر بن منصور، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عتَّاب بن أسيد: "أمر النبي - عليه السلام - أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا". ثنا (¬2) محمَّد بن إسحاق المسيبي، ثنا عبد الله بن نافع، عن محمَّد بن صالح التمار، عن ابن شهاب ... بإسناده ومعناه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 110 رقم 1603). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 110 رقم 1604).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أبو عمرو مسلم بن عمرو الحذاء المدائني، قال: ثنا عبد الله بن نافع الصائغ، عن محمَّد بن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد: "أن النبي - عليه السلام - كان يبعث على الناس مَن يخرص عليهم كرومهم وثمارهم". وبهذا الإسناد: "أن النبي - عليه السلام - قال في زكاة الكرم: إنها تخرص كما يخرص النخل، ثم يؤدوا زكاته زبيبًا كما يؤدوا زكاة النخل تمرًا". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة. وسألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح، انتهى. وذكر غيره أن هذا الحديث منقطع. وقال أبو داود: سعيد لم يسمع من عتاب ابن أسيد. قلت: هذا ظاهر جدًّا فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق - رضي الله عنهما -، ومولد سعيد بن المسيب في خلافه عمر - رضي الله عنه - سنة خمس عشرة على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، والله أعلم. وقال أبو علي بن السكن: لم يُرْو هذا الحديث عن رسول الله - عليه السلام - من وجه غير هذا، وهو من رواية عبد الله بن نافع عن محمَّد بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد. وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وخالفهما صالح بن كيسان فرواه عن الزهري، عن سعيد: "أن النبي - عليه السلام - أمرَ عتابًا" ولم يقل: عن عتاب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 36 رقم 644). (¬2) "المجتبى" (5/ 109 رقم 2618). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 582 رقم 1819).

وسئل أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -فيما ذكره أبو محمَّد الرازي- عنه فقالا: هو خطأ. قال أبو حاتم: الصحيح: عن سعيد أن النبي - عليه السلام -، مرسل، كذا رواه بعض أصحاب الزهري. وقال أبو زرعة: الصحيح عندي: عن الزهري أن النبي - عليه السلام -، ولا أعلم أحدًا تابع عبد الرحمن بن إسحاق في هذه الرواية. وزعم الدارقطني أن الواقدي رواه عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد، عن المِسور بن مخرمة، عن عتاب قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - أن تخرص أعناب ثقيف كخرص النخل ثم تؤدى زبيبًا كما تؤدى زكاة النخل تمرًا. فهذه الرواية سالمة من الانقطاع الذي في الرواية الأولى. وقال أبو بكر بن العربي في "المسالك": لم يصح حديث سعيد ولا سهل بن أبي حثمة. قوله: "زبيبًا" نصب على التمييز. وقال الخطابي: إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزًا لا يحول دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر، والعنب في هذا المعنى كثمر النخل، فأما سائر الثمار فإنه لا يجري فيها الخرص؛ لأن هذا المعنى فيها معدوم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الثمرة التي يجب فيها العشر هكذا حكمها، تخرص وهي رطبٌ تمرًا فيعلم مقدارها، فتُسلّم إلى ربها ويملك بذلك حق الله فيها، ويكون عليه مثلها بكيله ذلك تمرًا، وكذلك يُفعل بالعنب. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري وعطاء والحسن وعمرو بن دينار وعبد الكريم ابن أبي المخارق ومروان والقاسم بن محمَّد ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور وأبا عبيد بن سلام، فإنهم ذهبوا إلى إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحهما. وقال ابن رُشد: يخلى بينها وبين أهلها يأكلونه رطبًا.

وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط. وقال الشافعي: إذا بدا صلاح ثمار النخل والكرم فقد تعلق وجوب الزكاة بهما، ووجب خرصهما للعلم بقدر زكاتهما فيخرصهما رطبًا، وينظر الخارص كم يصير ثمرًا فيثبتها تمرًا، ثم يخيَّر رب المال فيها فإن شاء كانت في يده مضمونةً وله التصرف فيها، فإذا تصرف فيها ضمنها. فيستفاد بالخرص العلم بقدر الزكاة فيها واستباحة رب المال التصرف في الثمرة بشرط الضمان. وقال الماوردي عن الشافعي: إنه سنة في الرطب والعنب، ولا خرص في الزرع. وهو قول أحمد. وقال الخطابي: الخارص يترك لهم الثلث أو الربع من عرض المال؛ توسعةً عليهم، فلو أُخِذوا باستيفاء الحق كله لأضرَّ ذلك بهم، وقد يكون منها السقاطة وينتابها الطير ويخترقها الناس للأكل، فترك لهم الربع توسعةً عليهم. والأصل في ذلك حديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) والنسائي (¬3) قال: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - قال: إذا خرصتم فجدّوا، فإن لم تدعوا أو تجدّو الثلث فدعوا الربع". قال الخطابي: وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأمر الخراص بذلك، وبهذا قال إسحاق وأحمد. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئًا شائعًا في جملة النخل ويفرد لهم نخلات معدودة، قد علم مقدار تمرها بالخرص. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 110 رقم 1605). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 35 رقم 643). (¬3) "المجتبى" (5/ 42 رقم 2491).

وقال ابن حزم في "المحلى": وأما التمر ففرض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو وأهله رطبًا على التوسعة ولا يكلف عنها بزكاة. وهو قول الشافعي والليث بن سعد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يترك له شيئًا. وذكر ابن بزيزة في "مطامح الأفهام": قال الجمهور: يقع الخرص في النخل والكرم، واختلف مذهب مالك هل يخرص الزيتون أم لا؟ وفيه قولان: الجواز؛ قياسًا على الكرم. والمنع؛ لوجهين: الأول: لأن أوراقه تستره. الثاني: أن أهله لا يحتاجون إلى أن يأكلوه رطبًا فلا معنى لخرصه. وقد اختلف العلماء في الخرص هل هو شهادة أو حكم. فإن كان شهادةً لم يكتف بخارص واحد، وإن كان حكمًا اكتفى به. وكذلك اختلفوا في القائف، والطبيب يشهد في العيوب، وحاكم الجزاء في الصيد. واختلف الفقهاء هل يحاسَبُ أصحاب الزروع والثمار بما أكلوا قبل التصفية والجداد أم لا؟ وكذلك اختلفوا هل يترك لهم قدر العواري والضيف وما في معناه أم لا؟ واختلفوا أيضًا إذا غلط الخارص، ومحصَّل الأمر فيه: إن لم يكن من أهل المعرفة بالخرص فالرجوع إلى الخارج لا إلى قوله، وإن كان من أهل المعرفة ثم تبيَّن أنه أخطأ فهل يؤخذ بقوله أو بما تبيَّن فيه خلاف، على اختلافهم في المجتهد يخطئ هل ينقض حكمه أم لا؟ ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا ذلك وقالوا: ليس في شيء من هذه الآثار أن الثمرة كانت رطبًا في وقت ما خرصت في حديث ابن عمر وجابر - رضي الله عنهم -،

وكيف يجوز أن تكون رطبًا حينئذٍ فيجعل لصاحبها حق الله فيها بكيله ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة؟! وقد نهى رسول الله - عليه السلام - عن بيع التمر في رءوس النخل بالتمر كيلًا، ونهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. وجاءت بذلك عنه الآثار المروية الصحيحة، قد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع من كتابنا، ولم يستثن رسول الله - عليه السلام - في ذلك شيئًا، فليس وجه ما رويناه في الخرص عندنا ما ذكرتم، ولكن وجه ذلك عندنا -والله أعلم- أنه إنما أريد بخرص ابن رواحة ليُعلم به مقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار، فيؤخذ مثله بقدره في وقت الصرام، لا أنهم يملكون منه شيئًا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل عنهم، وكيف يجوز ذلك وقد يجوز أن تصيب الثمرة بعد ذلك أفة فَتُتْلفها أو نار فتحرقها فيكون ما يؤخذ من صاحبها بدلًا من حق الله تعالى مأخوذًا منه بدلًا مما لم يسلم له، ولكنه إنما أريد بذلك الخرص ما ذكرنا، وكذلك في حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - فهو على ما وصفنا من ذلك. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم كرهوا الخرص، حتى قال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري: خرص الثمار لا يجوز. وفي "أحكام ابن بزيزة": وقال أبو حنيفة وصاحباه الخرص باطل، قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬1) ثم قال: واحتج أبو حنيفة وصاحباه والكوفيون على منع الخرص بنهيه - عليه السلام - عن المزابنة، والخرص يؤدي إليها؛ لأن فيه بيع التمر بالتمر كيلًا، ففيه التفاضل والنَّساء. وقد أشار الطحاوي إلى ذلك بقوله: وقد نهى رسول الله - عليه السلام - عن بيع التمر في رءوس النخل بالتمر كيلًا. والحاصل أنهم قالوا: ليس في الأحاديث المذكورة وهي ما رواه ابن عمر وجابر ما يدل على أن الثمرة كانت رطبًا في الوقت الذي خرصت فيه، وكيف يجوز أن ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: [10].

تكون رطبًا حينئذٍ لأنه يكون تضمينًا لرب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز؛ لأنه بيع رطب بتمر وبيع حاضر بغائب، وذا لا يجوز، وهو من المزابنة المنهيّ عنها وهي بيع الثمرة في رءوس النخل بالتمر كيلًا، وهو أيضًا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة. وهو أيضًا لا يجوز على ما ثبت في الأحاديث الصحيحة. وقد ذكرها الطحاوي: في كتاب البيوع من هذا الكتاب؛ ولأن هذا تخمين وقد يخطئ، ولو جوَّزنا ذلك لجوَّزنا خرص الزرع وخرص الثمار بعد جدادها أقرب إلى الأبصار من خرص ما على الأشجار، فلما لم يجز في القريب لم يجز في البعيد، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن معنى الخرص في الأحاديث المذكورة على ما ذكر هؤلاء القوم، وإنما معناه أنه أريد بخرص عبد الله بن رواحة في حديث ابن عمر: أن يُعلم به مقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار فيؤخذ مثل ذلك بقدره وقت الصرام والجداد على حسب ما يجب فيها، وإنما أمر بذلك خوفًا أن يخونوا. هذا معناه، لا أنه يلزم به حكم شرعي، أشار إليه بقوله: لا أنهم لا يملكون منه شيئًا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل عنهم. أي: ليس معناه أن أصحاب الثمر يملكون من الثمر شيئًا مما يجب عليهم من الزكاة ببدل لا يزول البدل عنهم أصلًا، وكيف يجوز هذا المعنى، والحال أنه قد يجوز أن تصيب الثمرة بعد ذلك آفة سماوية مثل المطر يُتلفها، وهبوب الريح السموم فتحرقها، ووقوع النار فيها فتستأصلها. أو غير سماوية بأن يسرقها سارق يذهب بها، ونحو ذلك. فحينئذ يكون ما يؤخذ منه بدلًا مما لم يسلم له وذلك لا يجوز؛ لأنه ظلم وعدوان، وكذلك معنى الخرص في حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - على ما ذكرنا لا على المعنى الذي ذكروا. وقد قيل: إن قضية خيبر مخصوصة؛ لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأراد - عليه السلام - أن يعلم ما بأيديهم من الثمار فيترك لهم منها قدر نفقاتهم؛ ولأنه - عليه السلام - أقرهم ما

أقرهم الله، فلو كان على وجه المساقاة لوجب ضرب الأجل والتقييد بالزمان؛ لأن الإجارة المجهولة محرمة. ص: وقد دل على ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن خُبَيب بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، عن سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعو الربع". فقد علمنا أن ذلك لا يكون إلا في وقت ما تؤخذ الزكاة؛ لأن ثمرته لو بلغت مقدار ما تجب فيه الزكاة لم يحط عنه شيء مما وجب عليه فيها وأخذ منه مقدار ما وجب عليه فيها بكماله، هذا مما قد اتفق عليه المسلمون، ولكن الحطيطة المذكورة في هذا الحديث إنما هي ما قبل ذلك في وقت ما يكل من الثمرة أهلها قبل أوان أخذ الزكاة منها، فأُمِر الخُراص أن يلقوا مما يخرصون المقدار المذكور في هذا الحديث؛ لئلا يحتسب به على أهل الثمار في وقت أخذ الزكاة منهم. ش: أي: وقد دل على ما قلنا من أن المراد من خَرْص ابن رواحة للعلم بمقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار حتى لا يؤخذ في وقت الصرام أكثر من ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن خُبَيب -بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة- بن عبد الرحمن بن خُبيب بن يساف الأنصاري الخزرجي المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار -بكسر النون وتخفيف الياء آخر الحروف- الأنصاري المدني روى له أبو داود والترمذي والنسائي هذا الحديث، ووثقه ابن حبان. عن سهل بن أبي حثمة -واسم أبي حثمة عبد الله، وقيل: عامر- بن ساعدة الأنصاري، قال الواقدي: مات النبي - عليه السلام - وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي - عليه السلام - ليلة أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا. وهذا منافٍ لما قاله الواقدي.

وأخرجه الثلاثة: فأبو داود (¬1): عن حفص بن عمر، نا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن بن مسعود قال: "لما جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله - عليه السلام - قال: إذا خرصتم فجدُّوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجدّوا الثلث فدعوا الربع". والترمذي (¬2): عن محمود بن غيلان، قال: نا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة، قال: أخبرني خُبيب بن عبد الرحمن، قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول: "جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدث أن رسول الله - عليه السلام - كان يقول: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع". والنسائي (¬3). وأخرجه البزار (¬4) وقال: لم يروه عن سهل إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار وهو معروف. وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام": عبد الرحمن هذا لا يعرف له حال. وقال أبو بكر بن العربي لم يصح حديث سهل بن أبي حثمة، وقال أيضًا: ليس في الخرص حديث يصح. إلا حديث البخاري (¬5): عن أبي حميد الساعدي: "غزونا مع رسول الله - عليه السلام - غزوة تبوك ... ". الحديث. قال: ويليه حديث ابن رواحة في الخرص على اليهود (¬6). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 110 رقم 1605). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 35 رقم 643). (¬3) بيض له المؤلف رحمه الله، وهو في "المجتبى" (5/ 42 رقم 2491). (¬4) "مسند البزار" (6/ 279 رقم 2305). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 539 رقم 1411). (¬6) تقدم.

قلت: أخرج الحاكم (¬1) حديث سهل وقال: صحيح الإسناد. قوله: "فخذوا" من الأخذ، وكذا في رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود "فجُدُّوا" بضم الجيم وتشديد الدال، من جدَّ يَجُدُّ -بضم العين في المستقبل- وكسرها، ومعناه: اجتهدوا في الخرص. قوله: "ودعوا الثلث" أي: اتركوا، فإن لم تتركوا الثلث فاتركوا الربع. وقد علم من هذا أن ذلك لا يكون في وقت أخذ الزكاة؛ لأن ثمرته لو بلغت مقدار ما تجب فيه الزكاة لم يجز حط شيء من الذي وجب عليه، بل يؤخذ عنه ما وجب عليه فيها على التمام والكمال، وهذا لا خلاف فيه لأحد، وهو معنى قوله: هذا ما اتفق عليه المسلمون، والمراد من الحطيطة المذكورة في قوله: "ودعوا الثلث أو الربع" إنما هي قبل أخذ الزكاة؛ لتكون توسعةً لهم؛ لأنهم يأكلون منها، والطير أيضًا تأكل، ويتلف منها شيء أيضًا؛ فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يحطوا المقدار المذكور عنهم حتى لا يتضررون بحساب ذلك وقت أخذ الزكاة منهم، وهو معنى قوله: "فأمر الخُرَّاص" بضم الخاء وتشديد الراء جمع خارص "أن يُلقوا" من الإلقاء، وهو الطرح. وقوله: "المقدار المذكور". بالنصب مفعوله، والمقدار المذكور في الحديث هو الثلث والربع. ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "أنه كان يأمر الخراص بذلك". حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن سعيد بن المسيب، قال: "بعث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سهل بن أبي حثمة يخرص على الناس، فأمره إذا وجد القوم في نخلهم أن يخرص عليهم ما يأكلونه". فهذا أيضًا دليل على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 560 رقم 1464).

ش: أي: قد روي عن عمر أنه كان يأمر الذي يخرص بترك ثلث أو ربع توسعةً لهم، فهذا أيضًا دليل على أن ذلك إنما كان قبل أخذ الزكاة على ما ذكرنا. أخرج ذلك بإسناد صحيح: عن روح بن الفرج القطَّان المصري، عن يوسف ابن عدي بن زُرَيق الكوفي شيخ البخاري عن أبي بكر بن عياش بن سالم الحناط -بالنون- المقرئ، وقد تكرر ذكره، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشير -بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف- بن يسار -بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة- الحارثي الأنصاري المدني- روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يبعث أبا خيثمة خارصًا للنخل، فقال: إذا أتيت أهل البيت في حائطهم فلا تخرص عليهم قدر ما يأكلون". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2): ثنا أبو بكر بن إسحاق، نا أبو المثنى، نا مسدد، نا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعثه على خرص التمر، وقال: إذا أتيت أرضًا فاخرصها ودعْ لهم قدر ما يأكلون". قوله: "يخرص على الناس" جملة وقعت حالًا، وهو من الأحوال المقدرة. قوله: "فهذا" أي: أثر عمر - رضي الله عنه - أيضًا يدل على أن الخرص إنما كان لإعلام مقدار ما في أيديهم من الثمار حتى يؤخذ مثله بقدره وقت الصرام، وإنما أمر بذلك خوفا عن الخيانة كما ذكرناه، والله أعلم. ص: وقد روي عن أبي حميد الساعدي أيضًا في صفة خرص رسول الله - عليه السلام - ما يدل على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 414 رقم 10560). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 560 رقم 1465).

حدثنا إبراهيم بن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قالا: ثنا الوحاظيّ. (ح) وحدثنا علي بن عبد الرحمن وأحمد بن داود، قالا: ثنا القعنبي، قالا: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عمرو بن يحيى المازني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول - عليه السلام - في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة امرأة، فقال رسول الله - عليه السلام -: اخرصوها، فخرصها رسول الله - عليه السلام - وخرصناها عشرة أوسق وقال: أحصيها حتى أرجع إليك إن شاء الله، فلما قدمناها سألها رسول الله - عليه السلام - عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ قالت: عشرة أوسق". ففي هذا أيضًا أنهم خرصوها، وأمروها بأن تحصيها حتى يرجعوا إليها، فذلك دليل على أنهما لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكةً له قبل ذلك، وإنما أرادوا بذلك أن يعلموا مقدار ما في نخلها خاصةً، ثم يأخذون منها الزكاة في وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، فهذا هو المعنى في هذه الآثار عندنا، والله أعلم. ش: أي: وقد روي عن أبي حميد الصحابي واسمه عبد الرحمن -وقيل: المنذر- ابن سعد الساعدي أيضًا في صفة خرص رسول الله - عليه السلام - ما يدل على أن المراد من الخرص إنما كان للعلم بمقدار ما في النخل من الثمر، لئلا يخونوا فيها، وهو معنى قوله: "وإنما أرادوا بذلك أن يعلموا ... " إلى آخره. ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ شيخ الشام في وقته وشيخ أبي داود والطبراني، كلاهما عن يحيى بن صالح الوحاظيّ أبي زكرياء الشامي الدمشقي وقيل: الحمصي، أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري، ونسبته إلى وُحَاظة بن سعد بطن من حمير. عن سليمان بن بلال القرشي التيمي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى المازني الأنصاري روى له الجماعة، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري المدني روى له الجماعة سوى النسائي، عن أبي حميد - رضي الله عنه -.

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي ثم المصري شيخ أبي عوانة الإسفراييني أيضًا، قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه وهو صدوق. وأحمد بن داود المكي كلاهما، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سهل بن بكار، أبنا وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن عباس الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال: "غزونا مع رسول الله - عليه السلام - غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة تسقيها، فقال النبي - عليه السلام -: اخرصوا، وخرص رسول الله - عليه السلام - عشرة أوسق، فقال: أَحْصي ما يخرج منها، فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهبُّ الليلة ريحٌ شديدة فلا يقومنَّ أحدٌ، ومن كان معه بعيرٌ فليعقله، فعقلناها، وهبَّت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبلَيْ طيء، وأهدى ملك أيلة للنبي - عليه السلام - بغلةً بيضاء وكساه بُرْدًا وكتب له ببحرهم فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاءت حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله - عليه السلام -، قال النبي - عليه السلام -: إني متعجل إلى المدينة فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل. فلما -قال ابن بكار كلمةً معناها- أشرف على المدينة قال: هذه طابة، فلما رأى أحدًا قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى. قال: دُور بني النجار، ثم دُور بني عبد الأشهل، ثم دُور بني ساعدة أو دور بني الحارث بن الخزرج، وفي كل دُور الأنصار -يعني- خيرا". انتهى. وغزوة تبوك تسمى العسرة والفاضحة، وهي من المدينة على أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلةً، وكانت في رجب يوم الخميس سنة تسع، وقال ابن التين: خرج رسول الله - عليه السلام -في أول يوم من رجب إليها ورجع في سلخ شوال، وقيل: في شهر رمضان. وفي "المحكم" تبوك اسم أرض، وقد تكون تبوك تفعل. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 539 رقم 1411).

وزعم ابن قتيبة أن رسول الله - عليه السلام - جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حِسْيها بِقَدحٍ فقال: ما زلتم تبوكونها بعد، فسميت تبوك، ومعنى تبوكون: تدخلون فيه السهم وتحركونه ليخرج ماؤه. قلت: هذا يدل على أنه معتل، وذكرها ابن سيده في الثلاثي الصحيح. وقوله: "حِسْيها" أي حسي تبوك وهو: بكسر الحاء المهملة وسكون السين المهملة، وفي آخره ياء آخر الحروف، وما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فيحُفر عنه الرمل فتستخرجه، وهو الاحتساء ويجمع على أحساء. قوله: "وادي القرى". ذكر السمعاني أنها مدينة قديمة بالحجاز فيما يلي الشام، وذكر ابن قرقول أنها من أعمال المدينة. قوله: "على حديقة امرأة". قال ابن سيده: هي من الرياض: كل أرض استدارت، وقيل: الحديقة كل أرض ذات شجر مثمر ونخل، وقيل: الحديقة البستان والحائط، وخصَّ بعضهم به الجنة من النخل والعنب، وقيل: الحديقة حفرة تكون في الوادي تحبس الماء في الوادي، وإن لم يكن الماء في بطنه فهو حديقة، والحديقة أعمق من الغدير، والحديقة: القطعة من الزرع. وفي "الغريبين": يقال للقطعة من النخل حديقة. قوله: "اخرصوها". أي: احزروها. قوله: "أحصيها". أي: احفظيها، من أحصى يحصي إحصاءً ومنه الحديث الآخر "أكلّ القرآن أحصيت" (¬1) أي: حفظت. قوله: "بجبليّ طيىء". ذكر الكلبي في كتابه "أسماء البلدان" أن سلمى بنت حام بن جُمَّى بن براواة من بني عمليق كانت لها حاضنة يقال لها العوجاء وكانت الرسول بينها وبن أَجَأ بن عبد الحي من العماليق، فعشقها فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيّء وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى إخوة فجاءوا في طلبها ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 270 رقم 538).

فلحقوهم بموضع الجبلين، فأخذوا سلمى فنزعوا عينيها ووضعوها على الجبل، وكتف أجَأ -وكان أول من كتف- ووضع على الجبل الآخر، فسمي بها الجبلان أَجَأ وسلمى، ويقال: إن زوج سلمى هو الذي قتلهما. و"أجأ" بفتح أوله وثانيه على وزن فَعَل، يهمز ولا يهمز، ويذكَّر ويؤنث، وهو مقصور في كلا الوجهين. قوله: "وأهدى ملك أيلة". واسمه يوحنا بن رؤبة. و"أيلة" مدينة على شاطئ البحر في منصف ما بين مصر ومكة المشرفة على وزن فَعْلَة، وقال محمَّد بن حبيب: "أيلة" شعبة من رضوى وهو جبل ينبع، والأول أصح سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم - عليه السلام -،وقد روي أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر. ص: وقد قال قوم في هذا الخرص غير هذا القول، قالوا: إنه قد كان في أول الزمان يُفعل ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها وهي رطب ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا فردت الأمور أن لا يؤخذ في الزكوات إلا ما يجوز في البياعات، وذكروا في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر: "أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن الخرص وقال: أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يكل مال أخيه بالباطل؟! ". فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من الجماعة الذين ينكرون الخرص، وأشار بهذا الخرص إلى الخرص المذكور في الأحاديث السابقة، وأشار بهذا القول إلى القول الذي ذكره أهل المقالة الثانية في الجواب عن أحاديث الخرص التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وأراد بذلك بيان ما قاله هؤلاء القوم في جواب أحاديث الخرص، وهو أنهم قالوا: كان في ابتداء الإِسلام يفعل ما قال أهل المقالة الأولى القائلون

بالخرص، وما قاله أهل المقالة الأولى: هو أن الخُراص كانوا يُمَلكون أصحاب الثمار الزكوات التي هي حق الله تعالى، ويأخذون عوض ذلك منهم تمرًا، وذلك حينما تكون ثمارهم رطبًا، وكان مثل هذا جائزًا في ذلك الزمان قبل نزول تحريم الربا، فلما أنزل الله تعالى آية الربا، وعلمهم بحرمة الربا انتسخ ذلك الحكم بانتساخ الربا، فصار الأمران لا يؤخذ في الزكوات إلا ما يجوز فعله في البياعات، وفي البياعات لا يجوز بيع الرطب بالتمر نسيئة؛ لكونه ربًا، فكذلك الخرص لا يجوز لأن فيه أخذ التمر عن الرطب نسيئة، وهو عين الربا، والدليل على ذلك حديث جابر - رضي الله عنه - فإنه صرَّح في حديثه أنه - عليه السلام - نهى عن الخرص، والحظر بعد الإباحة علامة النسخ. وأيضًا قوله - عليه السلام -: "أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟ " فدل على أن الخرص ممنوع على الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى؛ فإنه على تقدير هلاك المال يكون ما أخذوه من أصحابه أخذًا باطلًا وعدوانًا ليس في مقابلة شيء، وهو أشد الربا؛ لأنه أخذ بلا بدل أصلًا. فإن قيل: حديث جابر هذا ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن لهيعة، وقال ابن حزم: أسد بن موسى منكر الحديث، وأحاديث الخرص صحيحة، فكيف تنسخ بهذا الحديث الضعيف؟ قلت: لا نسلم انتساخ الخرص بهذا الحديث، وإنما هو بالآية الكريمة آية الربا. والحديث من جملة الشواهد على أن كلام ابن حزم في أسد بن موسى مردود؛ لأن البخاري قال: أسد بن موسى صالح مشهور الحديث يقال له أسد السنة، وقال ابن يونس والنسائي: أسد بن موسى ثقة. وأما عبد الله بن لهيعة فإن أحمد قد وثقه وبالغ فيه، وكونه ضعيفًا ليس مجمعًا عليه؛ فإن مثل أحمد إذا رضي به في الحجة أفلا يرضي غيره في الشواهد والمتابعات؟! ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا الزكوات تجب في أشياء مختلفة منها الذهب والفضة، والثمار التي تخرجها الأرض، والنخل والشجر والمواشي السائمة، وكلٌ قد أجمع أن رجلًا لو وجبت عليه زكاة ماله وهو ذهب أو فضة،

أو ماشية سائمة فسلم ذلك له المصدق على ما لا تجوز عليه البياعات أن ذلك غير جائز له، ألا ترى أن رجلًا لو وجبت عليه في دراهمه الزكاة فباع ذلك منه المصدق بذهب نسيئة أن ذلك لا يجوز، وكذلك لو باع ذلك منه بذهب ثم فارقه قبل أن يقبضه لم يجز ذلك، وكذلك لو وجبت عليه الزكاة في ماشيته ثم سلم ذلك له المصدق ببدلٍ مجهول؛ فذلك كله حرام غير جائز، فكان كل ما حرم في البياعات في بيع الناس ذلك بعضهم من بعض قد دخل فيه حكم المصدق في بيعه إياه من رب المال الذي فيه الزكاة التي يتولى المصدق أخذها منه، فلما كان ما ذكرنا كذلك في الأموال التي وصفنا؛ كان النظر على ذلك أيضًا أن يكون كذلك حكم الثمار، فكما لا يجوز بيع رطب بتمر نسيئة في غير ما فيه الصدقات فكذلك لا يجوز فيما فيه الصدقات فيما بين المصدق وبين رب ذلك المال. فهذا هو النظر أيضًا في هذا الباب، وقد عاد ذلك إلى ما صرفنا إليه الآثار المروية عن رسول الله - عليه السلام - التي قدَّمنا ذكرها، فبذلك نأخذ. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق القياس، وملخصه: أن التصرف بين المصدق وبين أرباب الأموال الزكوية يعتبر بتصرفات المتبايعين، فكل ما لا يجوز بين المتبايعين من التصرف؛ كالبيع ببدل مجهول، أو ببدل معلوم إلى وقت مجهول، وكبيع الرطب بالتمر نسيئةً، وكبيع الدراهم بالدنانير نسيئةً، ونحو ذلك؛ لا يجوز ذلك أيضًا بين المصدق وأرباب الأموال؛ لأن الخرص على الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى هو بيع الرطب بالتمر نسيئة، وبيع العنب بالزبيب كذلك، وهو عين الربا. قوله: "فبذلك نأخذ" إشارة على أنه اختار قول أهل المقالة الثانية، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

ص: باب: صدقة الفطر

ص: باب: صدقة الفطر ش: أي: هذا باب في بيان أحكام صدقة الفطر. وإضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه، كحجة الإِسلام. ص: حدثنا علي بن شيبة، ثنا قبيصة بن عقبة، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نعطي زكاة الفطر من رمضان صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله، أنه سمع أبا سعيدٍ يقول: "كنا نخرج صدقة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيدٍ قال: "كنا نخرج -إذْ كان فينا رسول الله - عليه السلام - صدقة الفطر إما صاعًا من طعام، واما صاعًا من تمر، وإما صاعًا من شعير، وإما صاعًا من زبيب،، وإما صاعًا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًّا أو معتمرًا، فكان فيما كلمه الناس فقال: أدّوا مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعًا من شعير". حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن عياض ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا داود ... فذكر بإسناده مثله. وزاد: "قال أبوسعيد: أما أنا فلا أزال أخرج كما كنت أُخرج".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم، عن عياض، عن أبي سعيد قال: "كانوا في صدقة رمضان مَن جاء بصاع من أقط قُبل منه، ومن جاء بصاع من تمر قُبل منه، ومَن جاء بصاع من زبيب قُبل منه". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث. (ح) وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن عثمان، أن عياض بن عبد الله حدثه، أن أبا سعيد الخدري قال:"إنما كنا نُخرج على عهد رسول الله - عليه السلام - صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاع أَقِطٍ لا نُخْرج غيره، فلما كثر الطعام في زمن معاوية جعلوه مُدَّين من حنطة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان، عن عياض بن عبد الله قال: سمعت أبا سعيد - رضي الله عنه - وهو يسأل عن صدقة الفطر قال: "لا أُخرج إلا ما كنت أُخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقطٍ، فقال له رجل: أو مُدَّين من قمح؟ فقال لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها. ش: هذه تسع طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وهذا الحديث أخرجه الجماعة. فأخرجه البخاري (¬1) نحوه: ثنا عبد الله بن منير، سمع يزيد العدني، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم قال: حدثني عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 548 رقم 1437).

الخدري قال: "كنا نعطيها في زمان النبي - عليه السلام - صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وكل رجاله رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحوه سواء. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الرحمن بن مهدي العنبري اللؤلؤي البصري، عن داود بن قيس الفراء الدباغ ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا داود -يعني ابن قيس- عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: "كنا نُخرج- إذ كان فينا رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعًا من طعام، صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًّا أو معتمرًا، فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر. فأخذ بذلك الناس، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ القرشي المدني ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن وكيع، عن داود بن قيس ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 678 رقم 985). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 113 رقم 1616). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 98 رقم 11951).

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمرو بن فارس البصري ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا عثمان بن عمر، ثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: "كنا نُخرج زكاة الفطر -إذْ كان فينا رسول الله - عليه السلام -- عن كل صغير وكبير حر ومملوك، صاعًا من طعام، أو من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب، فلم يزل ذلك كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة حاجًّا أو معتمرًا فقال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعًا من التمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال التميمي شيخ الشيخين وأبي داود ... إلى آخره. والكل رجال الصحيحين ما خلا إبراهيم. وأخرجه البزار في "مسنده" ثم قال: وهذا الحديث رواه جماعة عن زيد، عن عياض، وأَجَلُّ مَن رواه عن زيد: الثوري. السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث بن سعد، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عبد الله بن عثمان هو عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام القرشي، عن عياض ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): من طريق عبد الله بن عبد الله بن عثمان. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 481 رقم 1663). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 113 رقم 1616) تقدم ذكره.

الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف [التنيسي] (¬1) شيخ البخاري، عن الليث ... إلى آخره. التاسع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن عبد الله ابن عثمان ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا القاضي الحسن بن إسماعيل المحاملي وعبد الملك بن أحمد الدقاق، قالا: ثنا يعقوب الدورقي، ثنا ابن علية، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن عبد الله بن أبي سَرْح قال: "قال أبو سعيد وذكروا عنده صدقة رمضان، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أُخْرج في عهد رسول الله - عليه السلام -: صاعًا من تمر، أو صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط. فقال له رجل من القوم: أو مُدَّين من قمح؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) نحوه. والحاكم أيضًا في "مستدركه" (¬4): ثنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم الصيدلاني العدل إملاءً، ثنا الحسن بن الفضل البجلي، ثنا أبو عبد الله أحمد بن حنبل، ثنا إسماعيل بن علية، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله ... إلى آخره نحوه. قوله: "زكاة الفطر" أراد بها صدقة الفطر، تطلق الزكاة على الصدقة كما تطلق الصدقة على الزكاة. قوله: "صاعًا من طعام" تفسير الصاع يأتي في بابه إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": الفريابي، وهو وهم أو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. فالفريابي هو: محمَّد بن يوسف، وليس عبد الله، وكلاهما شيخ للبخاري. (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 145 رقم 30). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 164 رقم 7487). (¬4) "المستدرك" للحاكم (1/ 570 رقم 1495).

وأراد بالطعام: القمح، وقيل: أراد به: التمر وهو أشبه؛ لأن البر كان قليلًا عندهم لا يتسع لإخراج زكاة الفطر، وقال الخليل: إن الغالب في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة، والطعام في أصل اللغة عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك. قوله: "من أقطٍ". بفتح الهمزة وكسر القاف وفي آخره طاء مهملة، وهو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. وقال الجوهري: الأقط معروف وربما سُكِّن في الشعر وتنقل حركة القاف إلى ما قبلها، قال الشاعر: رُوَيْدَك حتى يَنْبُتَ البقْلُ والغضى ... فَيَكْثُرَ إقْطٌ عندهم وحَلِيبُ وائتقطت أي: اتخذت الأقط، وهو افتعلت، وأقط طعامه يأقطه أقطًا عمله بالأقط فهو مأقوط، وهو بالفارسية ماسْتينَه. قوله: "إذْ كان فينا". أي حين كان بيننا. قوله: "حاجًّا". نصب على الحال. قوله: "أو معتمرا". عطف عليه. قوله: "من سمراء الشام". أراد به بُرّ الشام، وتطلق السمراء على كل بُرّ، وهو بفتح السين المهملة وبالمد. قوله: "مُدَّين". المُدّ بضم الميم رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق. وقيل: إن أصل المُدّ مقدر بأن يَمُدَّ الرجل يديه فيملأ كفيه. ويستفاد من حديث أبي سعيد أحكام: الأول: استدل به بعضهم على أن صدقة الفطر فريضة كالزكاة بظاهر اللفظ، والجمهور على أنها واجبة، وقد قلنا: إن الزكاة تطلق ويراد بها الصدقة، وليس في هذا الحديث ما يدل على الوجوب ولا على عدم الوجوب؛ لأنه إخبار عما كانوا يفعلونه، ولكن الوجوب ثبت بدلائل أخرى على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وقيل: إن صدقة الفطر منسوخة بالزكاة وتعلقوا بخبر يروى عن قيس بن سعد أنه قال: "أمرنا بها رسول الله - عليه السلام - قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا، فنحن نفعله". وقال الخطابي: وهذا لا يدل على زوال وجوبها؛ وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب. قلت: غير أن الفقير يستثنى منه لقوله - عليه السلام -: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى". رواه أحمد (¬1). وفي رواية مسلم (¬2): "وخير الصدقة عن ظهر غنى". وهو حجة على الشافعي في قوله: تجب على مَن يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله. الثاني: يدل على أن صدقة الفطر هي صاع من طعام، وقد احتج به الشافعي أن الفطرة عن القمح صاع، وقال: المراد بالطعام البُرّ في العُرف، وقال أصحابه ولا سيما في رواية الحاكم: "صاعًا من حنطة". أخرجها في "المستدرك" (¬3): من طريق أحمد بن حنبل، عن ابن علية، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن عبد الله قال: "قال أبو سعيد -وذكر عنده صدقة الفطر- فقال: لا أُخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله - عليه السلام - صاعًا من تمر، أو صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير. فقال له رجل من القوم: أو مُدَّين من قمح. فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها". وصححه الحاكم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 278 رقم 7727). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 717 رقم 1034). (¬3) "المستدرك" للحاكم (تقدم ذكره).

ورواه الدارقطني في "سننه" (¬1): من حديث يعقوب الدورقي، عن ابن علية به سندًا ومتنًا كما ذكرناه، ومن الشافعية مَن جعل هذا الحديث حجة لنا من جهة أن معاوية جعل نصف صاع من الحنطة عدل صاع من التمر والزبيب. وقال النووي: هذا الحديث معتمد أبي حنيفة، ثم أجاب عنه بأنه فعل صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبةً منه وأعلم بحال النبي - عليه السلام -، وقد أخبر معاوية بأنه رأي رآه، لا قول سمعه من النبي - عليه السلام -. قلنا: أما قولهم: إن الطعام في العرف هو البُرّ فممنوع، بل الطعام يطلق على كل مأكول كما ذكرناه، بل أريد به ها هنا غير الحنطة، والدليل عليه ما وقع في رواية أبي داود: "صاعًا من طعام، صاعًا من أقط" فإن قوله: "صاعًا من أقط" بدل من قوله: "صاعًا من طعام" أو بيان عنه، ولو كان المراد من قوله: "صاعًا من طعام" هو البُرّ لقال: أو صاعًا من أقط بحرف "أو" الفاصلة بين الشيئين. فإن قيل: ها هنا في رواية الطحاوي بـ"أو" الفاصلة بين الشيئين. قلت: كفى لنا حجةً رواية أبي داود على ما ادعينا مع صحة حديثه بلا خلاف (¬2). ومما يؤيد ما ذكرنا ما جاء فيه عند البخاري (¬3): عن أبي سعيد قال: "كنا نُخرج في عهد رسول الله - عليه السلام - يوم الفطر صاعًا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر". وأما ما رواه الحاكم (1) فيه: "أو صاعًا من حنطة" فقد قال أبو داود أن هذا ليس بمحفوظ، وقال ابن خزيمة فيه: وذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم، وقول الرجل له: "أو مُدَّين من قمح" دالّ على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ ووهم؛ إذ لو كان صحيحًا لم يكن لقوله: "أوْ مدَّين من قمح" معنًى، وقد ¬

_ (¬1) تقدم ذكره. (¬2) الذي عند أبي داود في النسخة المطبوعة بذكر "أو". (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 548 رقم 1439).

عرف تساهل الحاكم في تصحيح الأحاديث المدخولة. وأما قول النووي: إنه فعل صحابي. قلنا: قد وافقه غيره من الصحابة الجمّ الغفير؛ بدليل قوله في الحديث: "فأخذ الناس بذلك". ولفظ "الناس" للعموم، فكان إجماعًا. الثالث: فيه دلالة على أن صدقة الفطر من الشعير صاع، وهذا لا خلاف فيه. الرابع: فيه دلالة على أنها من الأقط صاع أيضًا، وبه استدل مالك -رحمه الله-: على أنه يخرج من الأقط صاعًا، واعتبر أصحابنا فيه القيمة على ما عرف في فروعهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إك هذه الآثار، فقالوا في صدقة الفطر: من أحب أن يعطيها من الحنطة أعطاها صاعًا، وكذلك إن أحب أن يعطيها من الشعير أو التمر أو الزبيب. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا العالية ومسروقًا وأبا قلابة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم ذهبوا إلى الأحاديث المذكورة، وقالوا: صدقة الفطر صاعٌ سواءٌ كانت من الحنطة أو الشعير أو التمر أو الزبيب. وقال أبو عمر: قال الأوزاعي: يؤدي كل إنسان مدَّين من قمح بمد أهل بلده، وقال الليث: مدَّين من قمح بمد هشام وأربعة أمداد من التمر والشعير والأقط. وقال أبو ثور: الذي يخرج في زكاة الفطر صاع من تمر أو شعير أو طعام أو زبيب أو أقط إن كان بدويًا، ولا يعطى قيمة شيء من هذه الأصناف وهو يجدها. وقال أبو عمر: سكت أبو ثور عن ذكر البر، وكان أحمد بن حنبل يستحب إخراج التمر. والأصل في هذا الباب: اعتبار القوت، وأنه لا يجوز إلا الصاع منه. وهذا قول مالك والشافعي. والوجه الآخر: اعتبار التمر والشعير والزبيب أو قيمتها على ما قاله الكوفيون.

وقال القاضي: واختلف في النوع المخرج، فأجمعوا أنه يجوز البر والشعير والزبيب والتمر إلا خلافًا في البر لمن لا يُعْتد بخلافه، وخلافًا في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع، مردود قوله به. وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن، واختلف فيه قول الشافعي. وقال أشهب: لا يخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على هذه الخمسة كل ما هو عيش أهل بلده من القطاني وغيرها. وعن مالك قول آخر: أنه لا يجزئ غير المنصوص عليه في الحديث وما في معناه، ولم يُجِزْ عامة العلماء إخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة. وقال النووي: قال أصحابنا: جنس كل حب يجب فيه العشر، ويجزئ الأقط على المذهب، والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت البلدة. الثاني: يتعين قوت نفسه. والثالث: يتخير بينهما، فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه أجزأه، وإن عدل إلى أدناه لم يجزه. قلت: قال أصحابنا: دفع الحنطة أفضل في الأحوال كلها سواء كان أيام الشدة أو لم يكن، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة، ودقيق الشعير وسويقه كالشعير، وإن أراد أن يعطي من الحبوب من جنس آخر يعطى بالقيمة؛ لأنه ليس بمنصوص عليه. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): زكاة الفطر في رمضان فرض واجب على كل مسلم كبير أو صغير ذكر أو أنثى حرٌّ أو عبد، وإن كان جنينًا في بطن أمه، عن كل واحد صاع من تمر أو شعير. والصاع أربعة أمداد بمد النبي - عليه السلام -، ولا يجزئ شيء غير ما ذكرنا لا قمح ولا دقيق قمح أو شعير، ولا خبز ولا قيمته، ولا شيء، غير ما ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 118).

ذكرنا. ثم قال: وأجاز قوم أشياء غير ما أمر به رسول الله - عليه السلام - فقال قومٌ: يجزئ فيها القمح، وقال آخرون: والزبيب والأقط. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، قالوا: يعطي من الحنطة نصف صاع، وما سوى الحنطة من الأصناف التيم ذكرنا صاعًا. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء وسعيد بن جبير وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومُصعب بن سعد وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وسعيد بن المسيب ومجاهدًا والشعبي وطاوسًا وعلقمة والأسود وإبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأهل الكوفة فإنهم قالوا: صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومن غيرها من الأصناف التي ذكرت صاع. ويروى ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وجابر وابن الزبير ومعاوية - رضي الله عنهم -. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن حديث أبي سعيد الذي احتجوا به عليهم إنما فيه إخبار عما كانوا يعطون، وقد يجوز أن يكون يعطون من ذلك ما عليهم ويزيدون فضلًا ليس عليهم. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان، وأراد بها الجواب عن حديث أبي سعيد الذي احتجت به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه. بيانه: أن الاستدلال بهذا الاسم ولا تقوم به حجة؛ لأنه إخبار عما كانوا يُعطون من الحنطة وغيرها، وقد يحتمل أن يكون الواجب عليهم من الحنطة نصف صاع، ولكن كانوا يعطون صاعًا ويزيدون على نصفه؛ فضلًا وطلبًا لزيادة الثوب، لا لكونه واجبًا عليهم. ومرجع هذا الكلام إلى أنه حكايته تقال فتدل على الجوز وبه نقول. فيكون الواجب نصف صاع، وما زاد يكون تطوعًا.

ص: وقد روي عن غير أبي سعيد في الحنطة خلاف ما روي عن أبي سعيد، فمن ذلك: ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد. (ح) وحدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم -قال أسد: حدثنا ابن لهيعة. وقال ابن أبي مريم: أخبرنا ابن لهيعة- عن أبي الأسود، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله مُدَّين من قمح". حدثنا فهد وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، أن هشام بن عروة حدثه، عن أبيه، أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أخبرته: "أنها كانت تخرج على عهد رسول الله - عليه السلام - عن أهلها -الحر منهم والمملوك- مُدَّين من حنطة أو صاعًا من تمر بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عزيز، قال: ثنا سلامة، عن عُقيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت: "كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله - عليه السلام - مُدَّين". فهذه أسماء تخبر أنهم كانوا يؤدون في عهد النبي - عليه السلام - زكاة الفطر مُدَّين من قمح، ومحالٌ أن يكونوا يفعلون هذا إلا بأمر النبي - عليه السلام -؛ لأن هذا لا يؤخذ حينئذٍ إلا من جهة توقيفه إياهم على ما يجب عليهم من ذلك، فتصحيح ما روي عن أسماء وما روي عن أبي سعيد: أن يجعل ما كانوا يؤدون على ما ذكرت أسماء هو الفرض، وما كانوا يؤدون على ما ذكره أبو سعيد زيادةً على ذلك هو التطوع. ش: أشار بهذا إلى صحة ما ذكره من التأويل في حديث أبي سعيد، وإلى وجه التوفيق بين ما روي عن أبي سعيد وبين ما روي عن غيره مما يخالفه ظاهرًا. بيانه: أن أسماء - رضي الله عنها - تخبر في حديثها أنهم كانوا يؤدون في عهد النبي - عليه السلام - صدقة الفطر مُدَّين من قمح وهو نصف صاع، ولا شك أن هذا لم يكن إلا بأمر النبي - عليه السلام -؛ لأن ذلك مما لا يوقف عليه إلا من جهة التوقيف، وحديث أبي سعيد

يخبر أنهم كانوا يعطون صاعًا من قمح فبينهما تنافٍ، وتصحيح ذلك أن يجعل حديث أسماء على ما كانوا يؤدونه على سبيل الفرض وهو نصف صاع من القمح. وحديث أبي سعيد على ما كانوا يزيدونه على الفرض طلبًا للفضل؛ فحينئذٍ يتفق الحديثان في المعنى، وهو أن الواجب نصف صاع. ثم إنه أخرج حديث أسماء عن أربعة طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المرادي المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام القرشية الأسدية زوجة هشام بن عروة، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها -. والكل ثقات غير ابن لهيعة فإن فيه خلافًا كما ذكرناه غير مرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عتاب، نا عبد الله بن المبارك، أنا ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في آخره: "بالمد الذي تقتاتون به". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحاكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله لهيعة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: "كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله - عليه السلام - مُدَّين من قمح بالمد الذي يقتات به". الثالث: عن فهد وعلي بن عبد الرحمن المعروف بعلان، كلاهما عن سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أسماء ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 346 رقم 26981). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 129 رقم 352).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أحمد بن حماد بن زغبة، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب ... إلى آخره نحوه سواء. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ومحمد بن عُزَيْز بن عبد الله الأيلي، كلاهما عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عمه عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: ثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح المصري، ثنا محمَّد بن عزيز الأيلي، ثنا سلامة بن روح، حدثني عقيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: "أنهم كانوا يخرصون زكاة الفطر على عهد رسول الله - عليه السلام - بالمد الذي يقتات به أهل البيت، يفعل ذلك أهل المدينة كلهم". فإن قيل: قال ابن الجوزي: هذا الحديث معلول بابن لهيعة، فكيف تجعله معارضًا لحديث أبي سعيد الصحيح ثم تُوفق بما ذكرته؟!. قلت: قد بينت لك غير مرة أن ابن لهيعة ثقة عند جماعة منهم أحمد، على أنَّا وإن سلمنا ذلك من طريق ابن لهيعة، ولكن الحديث صحيح من غير طريقه كما أخرجه الطحاوي من الطريقين الآخرين، على أن صاحب "التنقيح" قد قال: حديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيما إذا كان من رواية إمام مثل ابن المبارك عنه. وأشار بذلك إلى ما رواه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عتاب بن زياد، ثنا عبد الله- يعني ابن المبارك، أنا ابن لهيعة ... الحديث. وها هنا قد روي عنه مثل ابن أبي مريم شيخ البخاري على ما مرَّ. ص: والدليل على صحة ما ذكرنا من هذا: أن أبا بكرة قد حدثنا، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن يونس، عن الحسن: "أن مروان بعث إلى ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 82 ر ق م 218). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 83 رقم 219). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 355 رقم 27040).

أبي سعيد أن ابعث إليَّ بزكاة رقيقك. فقال أبو سعيد للرسول: إن مروان لا يعلم أنما علينا أن نعطي لكل رأسٍ عند كل فطرٍ صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُرّ". فهذا أبو سعيد قد أخبر في هذا بما عليه أن يؤديه في زكاة الفطر عن عبيده، فدلَّ ذلك على ما ذكرنا، وأن ما روي عنه ما زاد على ذلك كان اختيارًا ولم يكن فرضًا. ش: أي: الدليل على صحة ما ذكرنا من التوفيق بين حديثي أبي سعيد وأسماء: أن أبا بكرة بكار القاضي قد حدثنا، قال: ثنا الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد البصري، عن الحسن البصري. وهذا إسناد صحيح. فهذا أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قد أخبر في هذا الحديث أن الواجب عليه نصف صاع من بُرٍّ، وهذا بالتصريح والتنصيص عليه، فدلَّ قطعًا أن ما ذكره في حديثه الأول من الزيادة على نصف صاع كان بطريق الاختيار؛ طلبًا للفضل لا بطريق الفرض. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق حماد بن سلمة ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي سواء. ص: وقد جاءت الآثار عن رسول الله - عليه السلام - بما فرضه في زكاة الفطر موافقة لهذا أيضًا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم. (ح) وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أمر النبي - عليه السلام - بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ وعبد، صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر. قال: فَعَدَله الناس بمُدَّين من حنطة". ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 227).

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله. حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - بمثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الوليد وبشر بن عمر، قالا: ثنا ليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه لم يذكر التعديل. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره. (ح) وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "عن كل حر وعبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". حدثنا فهد، قال: ثنا عمرو بن طارق، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن يونس بن يزيد، أن نافعًا أخبره، قال: قال عبد الله بن عمر: "فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل إنسان ذكر حرٍّ أو عبد من المسلمين. وكان عبد الله بن عمر يقول: جعل الناس عِدله مدَّين من حنطة". فقول ابن عمر: "جعل الناس عِدْله مُدَّين من حنطة" إنما يريد أصحاب رسول الله - عليه السلام - الذين يجوز تعديلهم ويجب الوقوف عند قولهم، فإنه قد روي عن عمر مثل ذلك في كفارة اليمين أنه قال ليساربن نُمير: "إني أحلف أن لا أعطي أقوامًا شيئًا ثم يبدو لي فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ، أو صاعًا من تمر أو شعير". وروي عن علي - رضي الله عنه - مثل ذلك، وسنذكر ذلك في موضعه من كتابنا إن شاء الله تعالى، مع أنه قد روي عن عمر وعن أبي بكر - رضي الله عنهما - أيضًا. وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في صدقة الفطر: أنها من الحنطة نصف صاع. وسنذكر ذلك أيضًا في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

فدلَّ ذلك على أنهم هم المعدلون لما ذكرنا من الحنطة بالمقدار من الشعير والتمر الذي ذكرنا، ولم يكونوا يفعلون ذلك إلا بمشاورة أصحاب النبي - عليه السلام - واجتماعهم لهم على ذلك، فلو لم يكن رُوي لنا في مقدار ما يُعطى من الحنطة في زكاة الفطر إلا هذا التعديل؛ لكان ذلك عندنا حجة عظيمة في ثبوت ذلك المقدار من الحنطة، وأنه نصف صاع، فكيف وقد روي مع ذلك عن أسماء أنها كانت تخرج ذلك المقدار على عهد رسول الله - عليه السلام - أيضًا. ش: أي: وقد جاءت الأحاديث عن النبي - عليه السلام - بالذي فرضه في صدقة الفطر حال كونها موافقة في المعنى لحديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه -، ولما روي من أثر أبي سعيد الخدري. فمن ذلك حديث عبيد الله بن عمر. أخرجه من ثمانية طرق: الأول: إسناده صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو محمَّد بن الفضل السدوسي البصري شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "فرض النبي - عليه السلام - صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، فَعَدَل الناس به نصف صاع من بر، فكان ابن عمر يُعطي التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان ليعطي عن بنُيّ، وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين". الثاني: أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 549 رقم 1440).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله - عليه السلام - صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير. قال: فعدل الناس إلى نصف صاع من بُرّ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الثالث: أيضًا صحيح. عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر العمري المدني، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): عن مسدد، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر نحوه. غير أنه لم يذكر التعديل. الرابع: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الكوفي الجرار، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. وهذا إسناد ليِّن من جهة ابن أبي ليلى. الخامس: صحيح. عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، وبشر بن عمر بن الحكم الزهراني، كلاهما عن ليث بن سعد ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3) وذكر فيه التعديل، وقال: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث. وثنا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن نافع، أن عبد الله بن عمر قال: "إن رسول الله - عليه السلام - أمر بزكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير، قال ابن عمر: فجعل الناس عِدْله مدين من حنطة". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 61 رقم 675). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 549 رقم 1441). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 678 رقم 984).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) نحوه. السادس: صحيح أيضًا. عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبيد الله بن يوسف، أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حرٍّ أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين". السابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة شيخ الشيخين وأبي داود، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا مالك، وثنا يحيى واللفظ له، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وأخرجه بقية الجماعة (¬4). الثامن: عن فهد بن سليمان، عن عمرو بن طارق هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي الكوفي نزيل مصر وشيخ الشيخين، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن نافع ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه الطحاوي أيضًا في "مشكله" من حديث يونس بن يزيد، عن نافع ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 584 رقم 1825). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 547 رقم 1433). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 677 رقم 984). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 112 رقم 1611)، "جامع الترمذي" (3/ 61 رقم 676)، "المجتبى" (5/ 48 رقم 2503)، "سنن ابن ماجه" (1/ 584 رقم 1826).

قوله: "إنما يريد أصحاب رسول الله - عليه السلام -" أراد: إنما يريد عبد الله بن عمر من قوله: "جعل الناس عِدْله" أصحاب رسول الله - عليه السلام -، الذين يجوز تعديلهم في مثل هذا الأمر، ويجب الوقوف عند قولهم لعلمهم موارد النصوص، ووقوفهم على المراد منها. والعَدْل: بفتح العين ما عادَل الشيء وكافأه من غير جنسه، فإن كان من جنسه فهو عِدل بالكسر، وقيل: كلاهما لغتان بمعنى المثل مطلقًا. قوله: "فإنه روي عن عمر- رضي الله عنه - مثل ذلك" أي: فإن الشأن: روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مثل ما ذكر من التعديل، حيث عَدَل نصف صاع من بُرّ بصاع من شعير في كفارة اليمين. وأخرجه مسندًا في كتاب الأيمان من طرق كثير؛ على ما يأتي إن شاء الله تعالى، منها ما رواه عن أبي بشر الرقي، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن يسار بن نمير قال: قال لي عمر- رضي الله عنه -: "إني أحلف أن لا أُعطي أقوامًا ثم يبدو لي أن أعطيهم، فإذا رأيتني فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكينين صاعًا من تمر". حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير، عن عمر مثله. غير أنه قال: "عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع حنطة أو صاع تمر". قوله: "وروي عن علي مثل ذلك" أي: روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التعديل مثل ما روي عن عمر بن الخطاب، أخرجه مسندًا أيضًا في كتاب الأيمان عن ابن أبي عمران، عن بشر بن الوليد، وعن علي بن صالح، كلاهما عن أبي يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - في كفارات الأيمان ... فذكر نحوًا مما روي عن عمر - رضي الله عنه -. قوله: "مع أنه قد روي عن عمر وعن أبي بكر وعن عثمان - رضي الله عنه - في صدقة الفطر أنها من الحنطة نصف صاع" أشار بهذا إلى أنه قد روي عن عمر بن الخطاب صريحا

أن صدقة الفطر نصف صاع من الحنطة غير ما روي عنه من التعديل المذكور في كفارة اليمين، وكذا روي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما -، على ما يجيء جميع ذلك عن قريب في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "فدل ذلك على أنهم هم المعدلون" أي: فدل ما ذكرنا من تعديل عمر وعلي، وإخراج عمر وعثمان وأبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - صدقة الفطر من القمح نصف صاع، على أن هؤلاء هم المعدلون من الحنطة بنصف صاع نظير الصاع من الشعير والتمر، وأنهم لم يكونوا فعلوا ذلك إلا بمشورة من أصحاب النبي - عليه السلام - من غير إنكار أحد منهم، فصار ذلك إجماعًا منهم على ذلك، فلو لم يكن المرويّ في مقدار ما يخرج من الحنطة لأجل الفطرة إلا هذا التعديل من هؤلاء الصحابة؛ لكان ذلك كافيًا في الاحتجاج؛ لأن الإجماع من أقوى الحجج، أشار إلى ذلك بقوله: لكان ذلك عندنا حجة عظيمة، فكيف وقد روي مع هذا التعديل المنقول عنهم والتصريح بأن بعضهم كانوا يخرجون نصف صاع من الحنطة، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: "أنها كانت تخرج نصف صاع من الحنطة على عهد النبي - عليه السلام -". فاجتمع في ذلك ما فُعل في عهد النبي، وما نقل من التعديل عن بعض الصحابة، وما روي عن بعضهم بما ذكرنا أيضًا، وما حكي من اجتماعهم على ذلك، فصار حجةً قويةً لا مساغ للخلاف فيها. ثم اعلم أن ما وقع في رواية مالك بن أنس من لفظة: "من المسلمين" تكلم العلماء فيه. قال الشيخ في "الإِمام": وقد اشتهرت هذه اللفظة من رواية مالك حتى قيل: إنه تفرد بها. قال أبو قلابة عبد الملك بن محمَّد: ليس أحد يقول فيه: "من المسلمين" غير مالك. وقال الترمذي بعد تخريجه له: زاد فيه مالك "من المسلمين"، وقد رواه غير واحد عن نافع فلم يقولوا فيه: "من المسلمين". انتهى.

قال: فمنهم: الليث بن سعد وحديثه عند مسلم، وعبيد الله بن عمر وحديثه أيضًا عند مسلم، وأيوب السختياني وحديثه عند البخاري ومسلم، كلهم رووه عن ابن عمر ولم يقولوا فيه: "من المسلمين". قال: وتبعهما على هذه المقالة جماعة. قال الشيخ: وليس بصحيح فقد تابع مالكًا على هذه اللفظة من الثقات سبعة وهم: عمر بن نافع والضحاك بن عثمان والمعلى بن إسماعيل وعبد الله بن عمر وكثير بن فرقد وعبيد الله بن عمر العمري ويونس بن يزيد. فحديث عمر بن نافع رواه البخاري في "صحيحه" (¬1): عنه، عن أبيه نافع، عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل الصلاة". وحديث الضحاك بن عثمان أخرجه مسلم (¬2): عنه، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين: حرٌّ أو عبد، رجل أو امرأة، صغير أو كبير صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير". وحديث المعلَّى بن إسماعيل أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3) في النوع الرابع والعشرين من القسم الأول: عنه، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير عن كل مسلم صغير وكبير حر أو عبد. قال ابن عمر: ثم إن الناس جعلوا عدل ذلك مدين من قمح". وحديث عبد الله بن عمر أخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬4): عنه، عن نافع، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 547 رقم 1432). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 678 رقم 984). (¬3) "صحيح ابن حبان" (8/ 96 رقم 3304). (¬4) "مستدرك الحاكم" (1/ 569 رقم 1494).

ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من بُرّ، على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وصححه. ورواه الدارقطني في "سننه" (¬1)، والطحاوي في "مشكله". وحديث كثير بن فرقد أخرجه الحاكم في "مستدرك" (¬2): عنه، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من بُرٍّ على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وصححه. ورواه الدارقطني في "سننه" (¬3)، والطحاوي في "مشكله". وحديث عبيد الله بن عمر العمري أخرجه الدارقطني (¬4): عنه، عن ابن عمر بنحوه سواء. وحديث يونس بن يزيد أخرجه الطحاوي في "مشكله": عنه، أن نافعًا أخبره قال: قال عبد الله بن عمر: "فرض رسول الله - عليه السلام - على الناس زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على كل إنسان ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد من المسلمين". وقال أبو عمر في "التمهيد": لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في متنه ولا في قوله فيه: "من المسلمين" إلا قتيبة بن سعيد وحده، فإنه روى هذا الحديث عن مالك ولم يقل فيه: "من المسلمين"، وزعم بعض الناس أنه لا يقول فيه أحد: "من المسلمين" غير مالك. وذكره أيضًا أحمد بن خالد، عن ابن وضاح، وليس كما ظنَّ الظانّ، وقد قاله غير مالك عن جماعة، ولو انفرد به مالك لكان حجة توجب حكمًا عند أهل العلم، فكيف ولم ينفرد به؟! ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 140 رقم 9). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 569 رقم 1494). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 140 رقم 8). (¬4) "سنن الدارقطني" (2/ 139 رقم 4).

وقال أبو عمر أيضًا: اختلفوا في العبد الكافر والغائب المسلم. فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس على أحد أن يؤدي عن عبده الكافر صدقة الفطر وإنما هي على من صام وصلى، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن، وحجتهم قوله - عليه السلام - في هذا الحديث: "من المسلمين"، وقال الثوري وسائر الكوفيين: عليه أن يؤدي زكاة الفطر عن عبده الكافر. وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم -، انتهى. قلت: نذكر أولًا ما احتج به أصحابنا فيما ذهبوا إليه من وجوب صدقة الفطر عن عبده الكافر، ثم نجيب عن حديث مالك الذي فيه "من المسلمين" فنقول: روى الدارقطني في "سننه" (¬1): عن سلّام الطويل، عن زيد العمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أدوا صدقة الفطر عن كل صغير وكبير، ذكر أو أنثى، يهودي أو نصراني حرّ أو مملوك، نصف صاع من بُر، أو صاعًا من تمر أو شعير". فإن قيل: قال الدارقطني: لم يسند هذا الحديث غير سلام الطويل وهو متروك. ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: زيادة "اليهودي والنصراني" فيه موضوعة، انفرد بها سلام الطويل وكأنه تعمدها، وأغلظ فيه القول عن النسائي وابن حبان. قلت: جازف ابن الجوزي في مقالته من غير دليل، فكان ينبغي أن يذكره مثل الدارقطني، وكيف وقد أخرج الطحاوي في "مشكله" ما يؤيد هذا عن ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "كان يخرج زكاة الفطر عن كل إنسان يعول، من صغير وكبير، حرٍّ أو عبد ولو كان نصرانيَّا؛ مُدَّين من قمح أو صاعًا من تمر". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 150 رقم 53).

وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيما رواية ابن المبارك عنه. ويؤيده أيضًا ما أخرجه الدارقطني (¬1): عن عثمان بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يخرج صدقة الفطر عن كل حرٍّ وعبد، صغير وكبير، ذكر وأنثى، كافر ومسلم، حتى إن كان ليخرج عن مكاتبيه من غلمانه". قال الدارقطني: وعثمان هذا هو الوقاصي وهو متروك. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن عباس قال: "يخرج الرجل زكاة الفطر عن كل مملوك له وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن إسماعيل بن عياش، عن عمر بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، قال: سمعته يقول: "يؤدي الرجل المسلم عن مملوكه النصراني صدقة الفطر". ثنا (¬4) عبد الله بن داود، عن الأوزاعي، قال: بلغني عن ابن عمر: "أنه كان يُعطي عن مملوكه النصراني صدقة الفطر". ثنا (¬5) وكيع، عن ثور، عن سليمان بن موسى، قال: "كتب إليَّ عطاء يسأله عن عبيد يهود أو نصارى: أطعم عنهم زكاة الفطر؟ قال: نعم". ثنا (¬6) ابن عياش، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال مثل قول عمر بن عبد العزيز. نا (¬7) محمَّد بن بكر، عن ابن جريج قال: قال عطاء: "إذا كان لك عبيد نصارى لا يدارون -يعني: للتجارة- فزكِّ عنهم يوم الفطر". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 150 رقم 54). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 324 رقم 5812). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 399 رقم 10373). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 399 رقم 10374). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 399 رقم 10375). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 399 رقم 10376). (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 399 رقم 10377).

وأما الجواب عن حديث مالك فما ذكره الطحاوي في "مشكل الآثار" أن قوله - عليه السلام -: "من المسلمين" يعني: مَن يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه وعن غيره ولا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فلا يلزمه في نفسه زكاة الفطر وإنما يلزم مولاه المسلم عنه، ألا ترى إلى إجماع العلماء في العبد يُعتق قبل أن يؤدي مولاه عنه زكاة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالًا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان، وأنه عبد، وأنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه. قلت: التحقيق في هذا المقام أن في صدقة الفطر نصَّين: أحدهما: جعل الرأس المطلق سببًا، وهو الرواية التي ليس فيها "من المسلمين". والنص الآخر: جعل رأس المسلم سببًا، ولا تنافي في الأسباب؛ إذ يجوز أن يكون لشيء واحد أسباب متعددة شرعًا وحِسًّا على سبيل البدل، كالملك يثبت بالشراء والهبة والوصية والصدقة والإرث، فإذا امتنعت المزاحمة وجب الجمع بإجراء كل واحد من المطلق والمقيد على سببه من غير حمل أحدهما على الآخر، فيجب أداء صدقة الفطر عن العبد الكافر بالنص المطلق، وعن المسلم بالمقيد. فإن قيل: إذا لم يحمل المطلق على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد، فإن حكمه يفهم من المطلق، فإن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد، فلم يبق لذكر المقيد فائدة. قلت: ليس كذلك، بل فيه فوائد وهي أن يكون المقيد دليلًا على الاستحباب والفضل، أو على أنه عزيمة، والمطلق رخصة، أو على أنه أهم وأشرف حيث نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق كتخصيص الصلاة الوسطى وجبريل وميكائيل بعد دخولها في مطلق الصلوات، ودخولهما في مطلق اسم الملائكة ومتى أمكن العمل بهما، واحتمال الفائدة قائم، لا يجوز إبطال صفة الإطلاق. ص: ثم قد روى في غير هذه الآثار التي ذكرنا عن النبي - عليه السلام - ما يوافق ذلك أيضًا، فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد،

عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صاعٌ من بُرٍّ أو قمح عن كل اثنين، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد عليه ما أعطى". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه، قال: قال النبي - عليه السلام -: "أدوا زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع بر -أو قال: قمح- عن كل إنسان صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حرٍّ أو مملوك، غني أو فقير". ش: أي: ثم قد روي في غير هذه الأحاديث -وهي التي رواها عن أسماء بنت أبي بكر الصديق وأبي سعيد وعبد الله بن عمر- ما يوافق ذلك في أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع، فمن ذلك: ما أخرجه عن ثعلبة بن أبي صعير من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن حماد بن زيد روى له الجماعة، عن النعمان بن راشد الجزري الرقي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن محمَّد بن مسلم الزهري روى له الجماعة، عن ثعلبة بن أبي صُعير -بضم الصاد وفتح العين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء مهملة- هو وأبوه صحابيان. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري -قال مسدد: عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه [وقال سليمان بن داود: عن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه، (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صاع من بُر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 114 رقم 1619). (¬2) ما بين المعقوفتين ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن عفان بن مسلم الصفار البصري روى له الجماعة، عن حماد بن زيد ... إلى آخره. وهذا الحديث له وجوه: الأول: رواية بكر بن وائل: أخرجها أبو داود (¬1): ثنا علي بن الحسن الدرابجردي، نا عبد الله بن يزيد، نا همام، نا بكر -هو ابن وائل- عن الزهري، عن ثعلبة بن عبد الله -أو قال: عبد الله بن ثعلبة- عن النبي - عليه السلام -. ثنا ابن يحيى النيسابوري، نا موسى بن إسماعيل، نا همام، عن بكر الكوفي -قال ابن يحيى: هو بكر بن وائل بن داود- أن الزهري حدثهم عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، عن أبيه قال: "قام رسول الله - عليه السلام - خطيبًا، فأمر بصدقة الفطر صاع تمر أو صاع شعير على كل رأس -زاد علي في حديثه: أو صاع بُر أو قمح بين اثنين ثم اتفقا-: عن الصغير والكبير والحر والعبد". الثاني: رواية النعمان بن راشد عن الزهري، وهي التي أخرجها الطحاوي وأبو داود أيضًا. وأخرجه الدارقطني (¬2) أيضًا: عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن حماد بن زيد به مرفوعًا: "أدوا صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع من بُر ... " إلى آخره. ثم أخرجه (¬3): عن يزيد بن هارون، عن حماد بن زيد به، قال: "أدوا عن كل إنسان صاعًا من بُر، عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 114 رقم 1620). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 147 رقم 37). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 147 رقم 38).

ثم أخرجه (¬1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه بنحو رواية يزيد بن هارون. ثم أخرجه (¬2) عن خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، وقال بهذا الإسناد نحوه. الثالث: رواية يحيى بن جرجة، عن الزهري. أخرجها الدارقطني أيضًا (¬3): عنه عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير: "أن رسول الله - عليه السلام - خطب فقال: إن صدقة الفطر مدَّان من بُرٍّ عن كل إنسان، أو صاع مما سواه من الطعام". ويحيى بن جرجة روى عنه ابن جريج. وقزعة بن سويد، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: هو شيخ. وقال الدارقطني: ليس بقوي. الرابع: رواية ابن جريج عن الزهري. رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬4): أنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة قال: "خطب رسول الله - عليه السلام - الناس قبل الفطر بيوم أو يومين فقال: أدُّوا صاعًا من بُرٍّ أو قمح بين اثنين، أو صاعًا من تمر أو شعير عن كل حرٍّ وعبد صغير وكبير". ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في "سننه" (¬5) والطبراني في "معجمه". وهذا سند صحيح قوي. الخامس: رواية بحر بن كنيز السقاء، عن الزهري. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 148 رقم 39). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 148 رقم 40). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 148 رقم 45). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 318 رقم 5785). (¬5) "سنن الدارقطني" (2/ 150 رقم 52).

أخرجه الحكم في "المستدرك" (¬1) في كتاب الفضائل: عن بحر بن كنيز، ثنا الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -: "أنه فرض صدقة الفطر عن الصغير والكبير صاعًا من تمر أو مدَّين من قمح". وسكت عنه، ثم قال: وقد رواه أكثر أصحاب الزهري عنه عن عبد الله بن ثعلبة عن النبي - عليه السلام -، لم يذكروا أباه. وقال الدارقطني في "علله" (¬2): هذا حديث اختلف في إسناده ومتنه. أما سنده فرواه الزهري واختلف عليه فيه، فرواه النعمان بن راشد عنه عن ثعلبة بن أبي صعير. وقيل: عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، عن أبي هريرة. وقيل: عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وقيل: عن عقيل ويونس، عن الزهري، عن سعيد مرسلًا. ورواه معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وأما اختلاف متنه ففي حديث سفيان بن حسين عن الزهري: "صاع من قمح"، وكذلك في حديث النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه: "صاع من قمح عن كل إنسان"، وفي حديث الباقين: "نصف صاع من قمح"، قال: وأصحها: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسل انتهى. وقال الشيخ في "الإمام": وحاصل ما تعلل به هذا الحديث أمران: أحدهما: الاختلاف في اسم ابن أبي صُعَير فقد تقدم من جهة أبي داود (¬3) عن مسدد: ثعلبة بن أبي صعير. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (3/ 314 رقم 5214). (¬2) "علل الدارقطني" (7/ 39 رقم 1195). (¬3) تقدم.

ومن جهته أيضًا عن سليمان بن داود: عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، أو ثعلبة ابن عبد الله بن أبي صعير، وكذلك أيضًا عند أبي داود (¬1) في رواية بكر بن وائل: ثعلبة بن عبد الله، أو قال: عبد الله بن ثعلبة على الشك. وعنده أيضًا (1) من رواية محمَّد بن يحيى، وفيه الجزم بعبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، وكذلك رواية ابن جريج. وعند الدارقطني (1) من رواية مسدد: عن ابن أبي صعير عن أبيه لم يسمه. ثم أخرجه الدارقطني (1) عن همام، عن بكر، أن الزهري حدثه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، عن أبيه قال نحوه -يعني نحو حديث مسدد- فإنه ذكره عقيبه، وهذا يحتاج إلى نظرة فإنه ذكره (1) من رواية مسدد، عن حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، عن أبيه مرفوعًا: "صدقة الفطر صاع من بُر أو قمح عن كل رأس" كذا في النسخة العتيقة الصحيحة ورواية أبي داود (1) عن مسدد فيها: "أدّوا صاعًا من بُرٍّ أو قمح عن كل اثنين". وهذا مخالف للأول، والله أعلم. وفي رواية سليمان بن حرب، عن حماد: الجزم بثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، عند الدارقطني (1)، والجزم بعبد الله بن ثعلبة في رواية بحر بن كنيز كما تقدم عند الحاكم (1)، والشك في رواية يزيد بن هارون، عن حماد فيها: عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير أو عن ثعلبة عن أبيه، عند الدارقطني. العلة الثانية: الاختلاف في اللفظ؛ ففي حديث سليمان بن حرب عند الدارقطني عن حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه مرفوعًا "أدوا صاعًا من قمح ... " الحديث. ثم أتبعه الدارقطني برواية خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، قال: بهذا الإسناد مثله. ¬

_ (¬1) تقدم.

وقد تقدم من رواية أبي داود عن مسدد: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين". وأخرجه الدارقطني (¬1): عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد، ثنا حماد بن زيد به، عن ابن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه مرفوعًا: "أدوا صدقة الفطر صاعًا من تمر أو قمح عن كل رأس ... " الحديث. وفي رواية بكر بن وائل (¬2) قيل: "عن كل رأس"، وذكر البيهقي عن محمَّد بن يحيى الذهلي أنه قال في كتاب "العلل": إنما هو عبد الله بن ثعلبة وإنما هو عن كل إنسان أو كل رأس، هكذا رواية بكر بن وائل، لم يَقُمْ الحديث غيره، قد أصاب الإسناد والمتن. قال الشيخ: ويمكن أن تحرف "رأس" إلى "اثنين"، ولكن يُبْعِد هذا بعض الروايات كالرواية التي فيها: "صاع بُرٍّ أو قمح بين كل اثنين". انتهى. وقال صاحب "تنقيح التحقيق" بعد ذكره هذا الاختلاف: وقد روي على الشك في الاثنين. قال أحمد بن حنبل (¬3): ثنا عفان قال: سألت حماد بن زيد عن صدقة الفطر، فحدثني عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أدوا صاعًا من قمح أو صاعًا من بُر -وشك حماد-: عن كل اثنين، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حرٍّ أو مملوك، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما يُعطي". انتهى. ثم قال: قال مهنا: ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر: "نصف صاع من بُرٍّ"، فقال: ليس بصحيح، إنما هو مرسل، يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلًا. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 148 رقم 41). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 148 رقم 43). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 432 رقم 23714).

قلت: من قِبَلِ مَنْ هذا؟ قال: من قبل النعمان بن راشد وليس بالقوي في الحديث، وضعَّف حديث ابن أبي صُعَير، وسألته عن ابن أبي صُعَير أهو معروف؟ فقال: ومَن يعرف ابن أبي صعير؟! ليس هو بمعروف. وذكر أحمد وابن المديني ابن أبي صُعَير فضعفاه جميعًا. وقال ابن عبد البر: ليس دون الزهري مَن تقوم به الحجة. والنعمان بن راشد قال معاوية عن ابن مَعين: ضعيف، وقال عباس عنه: ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مضطرب الحديث. وقال البخاري: في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق. وقال ابن حزم في "المحلى": والنعمان بن راشد ضعيف كثير الغلط. وهذا الحديث راجع إلى رجل مجهول الحال مضطرب عنه يختلف في اسمه: مرةً عبد الله بن ثعلبة، ومرة ثعلبة بن عبد الله، ولا خلاف أن الزهري لم يلقَ ثعلبة بن أبي صُعَير، وليس لعبد الله بن ثعلبة صحبة. انتهى. قلت: ثعلبة بن عبد الله بن صُعَير، ويقال: ثعلبة بن صُعَير، ويقال: ابن أبي صُعَير، ويقال: عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري عداده في الصحابة. وفي "التهذيب": عبد الله بن صُعَير هو عبد الله بن ثعلبة بن صعير، ويقال: ابن أبي صعير بن عمرو بن زيد بن سنان العذري، حليف بني زهرة يكنى أبا محمَّد، مسح رسول الله - عليه السلام - رأسه زمن الفتح ودعا له، وحفظ عنه. روى عن أبيه، قيل: إنه ولد قبل الهجرة بأربع سنين، وتوفي سنة سبع وثمانين وهو ابن ثلاث وتسعين. وأما النعمان بن راشد فإن الجماعة قد أخرجوا له، البخاري مستشهدًا وقال: صدوق. وقال ابن عدي: النعمان بن راشد قد احتمله الناس، روى عنه الثقات مثل حماد بن زيد وجرير بن حازم ووهيب بن خالد، وغيرهم من الثقات، وله نسخة عن الزهري، لا بأس به، والله أعلم.

قوله: "صاعٌ" مرفوع بالابتداء وتخصص بالصفة، وهي قوله: "من بُرٍّ"، وخبره قوله: "عن كل اثنين". قوله: "فيزكيه الله" أي: يطهره الله من وسخ الآثام، أو معناه: يزيده الله بركة في ماله؛ لأن معنى الزكاة: النماء، وهي الزيادة، يقال: زكى الزرع إذا نمى. قوله: "فيرد عليه ما أعطى" معناه: يجازيه الله تعالى في الدنيا بأن يرد عليه أكثر مما أعطاه، وفي الآخرة بالثواب الجزيل. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه دلالة ظاهرة على أن صدقة الفطر من الحنطة: نصف صاع. الثاني: فيه رد على أهل الظاهر حيث منعوا جواز الحنطة في صدقة الفطر. الثالث: فيه دليل أن الواجب على الصغير والكبير والحر والعبد. الرابع: قال الخطابي: فيه بيان أن الفقير تلزمه صدقة الفطر إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه يقول: "وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه"، فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره. قلت: فيه نظر؛ لأن اللفظ ليس فيه ما يدل على أنها تجب على الفقير، بل معناه أن الفقير إذا تبرع بها ابتغاء لمرضاة الله تعالى، فإن الله يجازيه في الدنيا بأن يرد عليه أكثر مما أعطاه، وفي الآخرة بالثواب الجزيل. الخامس: قال الخطابي: وفي قوله: "ذكر أو أنثى" دليل لمن أسقط صدقة الزوجة عن الزوج؛ لأنه في الظاهر إيجاب على المرأة، فلا يزول الفرض عنها إلا بدليل، وهو مذهب أصحاب الرأي والثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يُخرج عن زوجته لأنه يمونها. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "زكاة الفطر عن

كل حرٍّ وعبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، صاع من تمر أو نصف من قمح". قال معمر: وبلغني عن الزهري أنه كان يرفعه. ش: إسناده صحيح، وهو موقوف. وأبو بكرة بكار القاضي، والزهري هو محمَّد بن مسلم. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن إسحاق المروزي، ثنا الحسن بن أبي الربيع، ثنا عبد الرزاق .... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد وعقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - عليه السلام - فرض زكاة الفطر مُدَّين من حنطة". حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: قال الليث ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، أنه سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة يقولون: "أمر رسول الله - عليه السلام - بزكاة الفطر بصاع من تمر أو بمدَّين من حنطة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم، وسالم قالوا: "أمر رسول الله - عليه السلام - في صدقة الفطر بصاع من شعير أو مُدَّين من قمح". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد وعبيد الله والقاسم وسالم، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 149 رقم 50).

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عبد الخالق، عن سعيد بن المسيب، قال: "كانت الصدقة تعطى على عهد رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - نصف صاع حنطة". ش: هذه ست طرق، وهي مرسلة: الأول: إسناده صحيح. وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أبو الوليد المصري، أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، وهو مولى الليث بن سعد من فوق. قال أبو حاتم: صالح. ووثقه ابن حبان، وروى له البخاري واستشهد به مسلم. وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود في المراسيل (¬1): ثنا قتيبة، أنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب قال: "فرض رسول الله - عليه السلام - زكاة الفطر مُدَّين من حنطة". فإن قيل: قال ابن الجوزي: وهذا مع إرساله يحتمل أن يكون قوله: "مُدَّين من حنطة" تفسيرًا من سعيد. قلت: قال صاحب "التنقيح": قد جاء ما يرد هذا، وهو ما رواه سعيد بن منصور: ثنا هشيم، عن عبد الخالق الشيباني قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "كانت الصدقة تدفع على عهد النبي - عليه السلام - وأبي بكر نصف صاع من بُرٍّ". وأخرجه الطحاوي أيضًا على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى. الثاني: صحيح أيضًا: عن موسى بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف [التنيسي] (¬2) شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المراسيل لأبي داود" (1/ 137 رقم 121). (¬2) في "الأصل، ك": الفريابي. وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، وعبد الله بن يوسف هو التنيسي الكلاعي المصري. وأما الفريابي فهو: محمَّد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي. وكلاهما من شيوخ البخاري.

الثالث: صحيح أيضًا: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، قال أبو حاتم: محله الصدق. عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد روى له الجماعة، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. الرابع: صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري ... إلى آخره. والقاسم هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق. وسالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن عُقيل بن خالد ... إلى آخره. السادس: بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عبد الخالق بن سلمة الشيباني البصري من رجال مسلم والنسائي ... إلى آخره. وأخرجه أبو عبيد في كتاب "الأموال": ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا عبد الخالق بن سلمة الشيباني، عن سعيد بن المسيب قال: "كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله - عليه السلام - صاع تمر أو نصف صاع حنطة عن كل رأس". ص: فقد جاءت هذه الآثار التي ذكرنا عن النبي - عليه السلام - في الحنطة بمثل ما عدله الناس بعده، وأبو سعيد فقد روي عنه من رأيه ما يوافق ذلك، ولم يخالف ما روي عنه ما ذكره عنه عياض بن عبد الله في قوله: "تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل

بها"؛ لأنه في ذلك لم ينكر القيمة وإنما أنكر المقوَّم، فهذا ما روي عن رسول الله - عليه السلام - في صدقة الفطر، وقد ذكرنا بعض ما روي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - في ذلك. ش: أشار بهذه الآثار إلى حديث ثعلبة بن أبي صُعير، وحديث أبي هريرة، ومراسيل سعيد بن المسيب ومَن ذكر معه؛ فإنها جاءت مماثلة وموافقةً لما عدَّله الناس بعد النبي - عليه السلام - من مُدَّين من حنطة في مقابلة صاع من شعير أو تمر. قوله: "وأبو سعيد"- أي أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قد روي عنه من رأيه واجتهاده ما يوافق ذلك التعديل حيث قال لرسول مروان لما أرسله يطلب منه زكاة رقيقه: إنما علينا أن نعطي لكل رأس عندكم فطر صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُر. قوله: "ولم يخالف ما روي عنه ما ذكره عنه عياض بن عبد الله ... " إلى آخره. جوابٌ عما يقال: قد روى عياض بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري وهو يسأل عن صدقة الفطر قال: "لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله - عليه السلام - صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط. فقال له رجل: أو مُدَّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها". فهذا مخالف لما روي عنه ما يوافق ما قد عدله الناس من بعد النبي - عليه السلام -. وتقرير الجواب: أن أبا سعيد لم يُنكر في ذلك القيمة وإنما أنكر المقوَّم -بفتح الواو المشددة- وأراد به إخراج المدين من القمح؛ لأنه لم يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب. والدليل عليه ما سبق في إحدى رواياته: "إنما كنا نخرج على عهد رسول الله - عليه السلام - صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاع أقط لا نخرج غيره". فإن قلت: ففي بعض رواياته: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير ... " الحديث. وليس الطعام إلا الحنطة. قلت: قد بينت لك فيما مضى أن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات، فحينئذ يتناول الشعير والزيت والتمر والأقط ونحو ذلك.

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ما يوافق ذلك. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر وهلال بن يحيى، قالا: ثنا أبو عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة قال: "أخبرني من رفع إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - صاعَ بُر بين اثنين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حماد، عن الحجاج بن أرطاة، قال: "ذهبت أنا والحكم بن عتيبة إلى زياد بن النضر فحدثنا عن عبد الله بن نافع، أن أباه سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني رجل مملوك، فهل لي مال زكاة؟ فقال عمر- رضي الله عنه -: أما زكاتك على سيدك أن يؤدي عنك عند كل فطر صاعًا من شعير أو تمر أو نصف صاع بُر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي صُعير قال: "كنا نخرج زكاة الفطر على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصف صاع". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث قال: "خطبنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال في خطبته: أدوا زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، عن كل صغير وكبير، وحرٍّ ومملوك، ذكر وأنثى". حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا القواريري ... فذكر بإسناده عن عثمان - رضي الله عنه -: "أنه خطبهم فقال: أدوا زكاة الفطر مُدَّين من حنطة". ولم يذكر ما سوى ذلك مما ذكره ابن أبي داود. فهذا أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أجمعوا في ذلك على ما ذكرنا. ش: أي: وقد روي في كون صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع أيضًا عن الخلفاء الثلاثة ما يوافق ما روي من الآثار المذكورة. وأخرج ما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - بإسناد فيه مجهول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ أبي داود، وعن هلال بن يحيى

ابن مسلم الرأي البصري أحد أصحاب أبي حنيفة الكبار، كلاهما عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن عاصم، عن أبي قلابة، قال: "أخبرني من أدى إلى أبي بكر في صدقة الفطر نصف صاع من طعام". وأخرج ما روي عن عمر بن الخطاب من طريقين: الأول: عن أبي بكرة، عن أبي عمر أيضًا، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي قاضي الكوفة، كان كثير الإرسال والتدليس، واحتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونًا بغيره. والحكم بن عتيبة -بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء- الكندي الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة. وزياد بن النضر ذكره البخاري في "تاريخه" وقال: يكنى أبا النضر وسكت عنه. وعبد الله بن نافع المدني مولى عبد الله بن عمر فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. روى له المجماعة. وأخره البخاري في "تاريخه" (¬2): عن علي بن المديني، عن جرير، عن منصور، عن الحكم نحوه. وقال: ورواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير، عن منصور، عن أبي السفر. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، روى عنه البخاري مقرونا بغيره، وروى له مسلم في مقدمة كتابه، والباقون سوى النسائي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 396 رقم 10336). (¬2) "التاريخ الكبير" (3/ 376).

عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير -أو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير- على الاختلاف الذي ذكرناه. وأخرج ما روي عن عثمان من طريقين أيضًا: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، [عن عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري أبي معمر المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود] (¬1) عن حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني -من صنعاء الشام- روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". وهذا إسناد صحيح قوي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: "صاع من تمر، أو نصف صاع من بُرٍّ". قلت: نصف صاع هو مُدّان من البُر. الثاني: عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، عن عبد الله بن عمر والقواريري ... إلى آخره. قوله: "قد أجمعوا في ذلك" أي في إخراج صدقة الفطر من القمح على ما ذكرنا وهو نصف صاع. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عباس. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "أمرت أهل البصرة إذْ كنت فيهم أن يعطوا عن الصغير والكبير، والحر والمملوك مُدَّين من حنطة". ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" والذي في المتن هو القواريري، واسمه: عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي البصري نزيل بغداد، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 396 رقم 10335).

ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عباس مثل ما روي عن الخلفاء الثلاثة في كون صدقة الفطر من القمح نصف صاع. أخرجه عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي الكوفي- قال العجلي: ثقة. روى له مسلم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه لين، عن عطاء بن أبي رباح ... إلى آخره. وأخرج أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن المثنى، نا سهل بن يوسف، قال حميد: أُخْبِرْنا عن الحسن قال: "خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا. قال: مَن ها هنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم؛ فإنهم لا يعلمون، فرض رسول الله - عليه السلام - هذه الصدقة صاعًا من تمر أو شعير، أو نصف صاع قمح، على كل حرٍّ أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فلما قدم عليٌّ - رضي الله عنه - رأى رخص السعر قال: قد أوسع الله عليكم، فلو جعلتموه صاعًا من كل شيء. قال حميد: وكان الحسن يرى صدقة رمضان على مَن صام". وأخرجه النسائي (¬2) وقال: الحسن لم يسمع من ابن عباس. وكذا قاله الإِمام أحمد وابن المديني وأبو حاتم. وقال صاحب "تنقيح التحقيق": الحديث رواته ثقات مشهورون لكن فيه إرسال، فإن الحسن لم يسمع من ابن عباس على ما قيل. وقد جاء في مسند أبي يعلى الموصلي (¬3) في حديثٍ عن الحسن قال: أخبرني ابن عباس. وهذا إن ثبت دلَّ على سماعه منه، والله أعلم. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وغيره من التابعين. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 114 رقم 1622). (¬2) "المجتبى" (3/ 190 رقم 1580)، (5/ 52 رقم 2515). (¬3) "مسند أبي يعلى" (4/ 402 رقم 2524).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عوف، قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة كتابًا فقرئ على منبر البصرة وأنا أسمع: أما بعد، فمُرْ مَنْ قِبَلك من المسلمين أن يُخرجوا زكاة الفطر صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُر". ش: أي: وقد روي عن عمر بن عبد العزيز الخليفة مثل ما روي عن ابن عباس: أن صدقة الفطر من البر نصف صاع. أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي البصري مولى عثمان بن عفان، ثقة روى له مسلم، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي العبدي الهجري، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو أسامة، عن (عوف) (¬2) قال: "سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ يُقرأ بالبصرة في صدقة رمضان: على كل صغير أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى نصف صاع من بر أو صاع من تمر". قلت: عدي بن أرطاة الفزاري من أهل دمشق، استعمله عمر بن عبد العزيز على البصرة، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: يحتج به. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "في زكاة الفطر: صاع من كل شيء سوى الحنطة، والحنطة نصف صاع". حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: "في زكاة رمضان قال: صاع تمر أو نصف صاع بُرٍّ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 397 رقم 10352). (¬2) في "المصنف": ابن عون، وهو تحريف.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا -أراه- عفان، قال: ثنا شعبة، قال: "سألت الحكم وحمادًا وعبد الرحمن بن القاسم، عن صدقة الفطر، فقالوا: نصف صاع حنطة". ش: هذا لبيان قوله: "وغيره من التابعين" وهم: إبراهيم النخعي، ومجاهد المكي، وسعيد بن المسيب، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وعبد الرحمن ابن القاسم. وأخرج ما روي عن إبراهيم ومجاهد، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عمر حفص ابن عمر الضرير، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: "صدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد، عن كل إنسان نصف صاع من قمح". حدثنا (¬2) جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: "عن كل إنسان نصف من قمح، وما خالف القمح من تمر أو زبيب أو أقط أو شعير أو غيره فصاع". وأخرج ما روى عن مجاهد من طريق أخر وهو أيضًا صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد - رضي الله عنه -. وأخرج ما روي عن ابن المسيب بإسناد صحيح: عن عبد الله بن محمد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره. وقد أخرج عن سعيد فيما مضى من طرق عديدة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 396 رقم 10338). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 396 رقم 10339).

وأخرج ما روي عن البقية بإسناد صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو داود، عن شعبة، أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا: "نصف صاع حنطة"، قال: وسألت عبد الرحمن بن القاسم وسعد بن إبراهيم فقالا مثل ذلك. ص: فهذا كل ما روينا في هذا الباب عن رسول الله - عليه السلام -، وعن أصحابه من بعده، وعن تابعيهم من بعدهم، كلها على أن صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومما سوى الحنطة صاع، وما علمنا أحدًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ولا من التابعين رُوي عنه خلاف ذلك، فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك إذْ كان قد صار إجماعًا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - إلى زمن مَنْ ذكرنا من التابعين. ش: كلمة "هذا" للتنبيه؛ يُنبه بهذا أن كل ما رواه في هذا الباب عن رسول الله - عليه السلام -، وعن أصحابه من بعده، وعن التابعين من بعدهم، على أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع، وما سواه نحو التمر والشعير صاع، فإذا كان كذلك؛ يتعين الوقوف عند ذلك، ولا يُجَاوز إلى غيره. قوله: "وما علمنا أحدًا ... إلى آخره". فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن أبي داود، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: "كتب إلينا ابن الزبير: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (¬3)، صدقة الفطر صاع صاع". وروى عن أبي العالية ومسروق وأبي عبد الرحمن كذلك: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 396 رقم 10348). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 398 رقم 10361). (¬3) سورة الحجرات، آية: [11].

قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا جرير، عن عاصم، عن أبي العالية، قال: "عن كل إنسان صاع من قمح في صدقة الفطر". ثنا (¬2) غُندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت مسروقًا يقول: "صدقة الفطر: صاع صاع". ثنا (¬3) غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا عبد الرحمن يقول: "صاع صاع عن كل صغير وكبير مكتوب". قلت: أما حديث أبي الزبير فليس فيه ما يدل على أن صدقة الفطر من القمح صاع، وإنما هو إخبار عن غالب ما كانوا يؤدونه وهو التمر والشعير ونحوهما، وكذلك قول مسروق وأبي عبد الرحمن. وأما قول أبي العالية فمحمول على أن ذلك صاع بطريق الفضل لا الوجوب، وإنما الواجب هو نصف الصاع على ما دلت عليه الأخبار المذكورة في هذا الباب. وقال البيهقي في "الخلافيات": جاءت أحاديث في صاع من بر، وأحاديث في نصف صاع، ولا يصح شيء من ذلك. قلت: فيه نظر؛ لأن في نصف صاع من بر جاءت أخبار صحيحة على ما مرَّ ذكرها، فنفيه منفيٌّ. ص: ثم النظر أيضًا قد دل على ذلك؛ وذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا أنها من الشعير والتمر: صاع. فنظرنا في حكم الحنطة في الأشياء التي يؤدى عنها التمر والشعير كيف هو؟ فوجدنا كفارات الأيمان قد أجمع أن الإطعام فيها من هذه الأصناف أيضًا، ثم اختلف في مقدارها منها، فقال قوم: مقدار ذلك من التمر والشعير نصف صاع، ومن الحنطة مثل نصف ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 397 رقم 10358). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 397 رقم 10359). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 398 رقم 10360).

وقال آخرون: بل هو من الحنطة نصف صاع ومما سوى ذلك صاع، وكلهم قد عدل الحنطة بمثليها من التمر والشعير، فكان النظر على ذلك إذ كانت صدقة الفطر صاعًا من التمر والشعير أن تكون من الحنطة مثل نصف ذلك، وهو نصف صاع. فهذا هو النظر في هذا الباب أيضًا، وقد وافق ذلك ما جاءت به الآثار التي ذكرنا، فبذلك نأخذ. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: ثم القياس أيضًا "قد دلَّ على" أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع؛ "وذلك أنا رأيناهم" أي الأخصام الذين اختلفوا في هذا الباب "أجمعوا أنها" أي أن صدقة الفطر. قوله: "قد أُجمع" على صيغة المجهول. قوله: "فقال قوم" أراد بهم: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الكفارة في اليمين هي مُدٌّ، وهو ربع الصاع. وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -. قوله: "وقال آخرون" أي: جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي، وأبا حنيفة وأصحابه وآخرين، على ما سيجيء مستقصًى إن شاء الله في موضعه. قوله: "إذْ كانت" أي: حين كانت. قوله: "فبذلك نأخذ" أشار به إلى أنه اختار في هذا الباب قول أهل المقالة الثانية، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.

ص: باب: وزن الصاع كم هو؟

ص: باب: وزن الصاع كم هو؟ ش: أي: هذا باب في بيان وزن الصاع كم هو من المقدار؟ قال الجوهري: الصاع الذي يكال به وهو أربعة أمداد، والجمع أصْوُع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزةً، والصواع لغة فيه، ويقال: هو إناء يُشرب فيه. وقال ابن الأثير: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه فقيل: هو رطل وثلث بالعراقي. وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز. وقيل: هو رطلان. وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثًا، أو ثمانية أرطال. وقال عياض: جمع الصاع أصْوُع وآصُع، ولكن الجاري على العربية أصْوُع لا غير، والواحد صاع وصواع وصُوْع ويقال: أصؤع -بالهمزة لثقل الضمة على الواو- وهو مكيال لأهل المدينة معروف، فيه أربعة أمداد بمد النبي - عليه السلام -. وقال أبو عمر: قال الخليل: الصاع طاس يشرب به. وفي "المطالع": ويجمع على أصْوُع وصيعان. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا محمَّد شجاع وسلمان بن بكار وأحمد بن منصور الرمادي، قالوا: ثنا يلى بن عبيد، عن موسى الجهني، عن مجاهد قال: "دخلنا على عائشة - رضي الله عنها - فاستسقى بعضنا فأتى بعُسّ. قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - عليه السلام - قبل يغتسل هذا. قال مجاهد: فحزرته فيما أحزر ثمانية أرطال تسعة أرطال عشرة أرطال". ش: ابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، نزيل مصر، وثقه ابن يونس.

ومحمد بن شجاع البغدادي أبو عبد الله الثلجي -بالثاء المثلثة- أحد أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي، قد تكلم فيه جماعة من المحدثين، والظاهر أن أكثره تحامل؛ لأنه كان ذا عبادة وتلاوة. وسليمان بن بكار بن سليمان السبائي أبو الربيع المصري. وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي شيخ ابن ماجه وأبي عوانة الإسفراييني، قال الدارقطني: ثقة. ويعلى بن عبيد الإيادي روى له الجماعة. وموسى بن عبد الله الجهني أبو عبد الله الكوفي، وثقه يحيى والعجلي والنسائي، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. وهذا الإسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن عبيد، قال: نا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن موسى الجهني قال: "أتي مجاهد بقدح فقال: حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة أن رسول الله - عليه السلام - كان يغتسل بمثل هذا". وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2) من طريق موسى الجهني: "كنت عند مجاهد، فأتي بإناء يسع ثمانية أرطال تسعة أرطال عشرة أرطال فقال: قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول - عليه السلام - يغتسل بمثل هذا". قوله: "فأتي بعُسٍّ" العُسّ -بضم العين وتشديد السين المهملتين-: وهو القدح الكبير، ويجمع على أَعْساس وعِسَاس. ص: قال أبو جعفر: فذهب ذاهبون بلى أن وزن الصاع ثمانية أرطال. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لم يَشُك مجاهد في الثمانية، وإنما شَك فيما فوقها، فثبتت الثمانية بهذا الحديث وانتفى ما فوقها. وممن قال بهذا القول أبو حنيفة -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 127 رقم 226). (¬2) "المحلى" (5/ 242).

ش: أراد بهؤلاء الذاهبين إلى أن وزن الصاع ثمانية أرطال: الحجاج بن أرطاة، والحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي، وأحمد في رواية، وممن قال بذلك أبو حنيفة. واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. بيان ذلك: أنه قد ثبت في "الصحيح" (¬1): "أنه - عليه السلام - كان يغتسل بالصاع". ثم إن "العُسَّ" المذكور في حديث عائشة كان مثل الصاع الذي يغتسل به رسول الله - عليه السلام -، لقول عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي - عليه السلام - يغتسل بمثل هذا". ثم إن مجاهدًا لما حزره حزره بثمانية أرطال أو بتسعة أو بعشرة، فحصل اليقين في الثمانية، وإنما الشك فيما فوقها، فثبتت الثمانية وانتفى ما فوقها. وبهذا الكلام حصل الجواب عما قاله ابن حزم في "المحلى": وهذا لا حجة فيه؛ لأن موسى قد شك في هذا الإناء من ثمانية أرطال إلى عشرة، وهم لا يقولون: إن الصاع لا يزيد على ثمانية أرطال ولا فلسًا. فإن قيل: إن النبي - عليه السلام - لم يُعيّر له الماء للغسل بكيل معلوم ولا كان يتوضأ ويغتسل بإناء مخصوص، بل قد توضأ واغتسل في الحضر والسفر بلا مراعاة لمقدار الماء، وقد صح أنه اغتسل هو وعائشة جميعًا من إناء يسع ثلاثة أمداد، ومن إناء أيضًا يُسمى الفَرَق، وأيضًا من إناء يسع فيها خمسة أمداد، وأيضًا بخمسة مكاكي، فإذا كان كذلك فكيف يستدل بحديث عائشة المذكور أن الصاع ثمانية أرطال؟! قلت: المراد من هذا ثبوت كون الصاع ثمانية أرطال فقط لا التعرض إلى بيان مقدار ما كان يغتسل به النبي - عليه السلام -،وقد دلَّ قول عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي - عليه السلام - يغتسل بمثل هذا" مع حزر مجاهد ذلك الإناء بثمانية أو أكثر على المدعى وهو المطلوب. على أن ابن عدي أخرج في "الكامل" (¬2): عن عمر بن موسى بن وجيه، عن ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -، البخاري (1/ 84 رقم 198)، ومسلم (1/ 257 رقم 325). (¬2) "الكامل" (5/ 12).

عمرو بن دينار، عن جابر قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال". وكذلك الدارقطني (¬1): عن جعفر بن عون، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن أنس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال". ولا يضر ما ذكرنا ما قالوا من تضعيف إسناد هذين الحديثين؛ لأنا ذكرناهما استئناسًا لما ذكرنا وشاهدًا له، والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: وزنه خمسة أرطال وثلث رطل. وممن قال ذلك: أبو يوسف. ش: أي: خالف الذاهبين إلى حديث مجاهد عن عائشة في وزن الصاع جماعة آخرون، وأراد بهم: أهل المدينة نحو ربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري وسعيد بن المسيب ومالكًا وآخرين غيرهم، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: وزن الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وممن قال ذلك: أبو يوسف -رحمه الله-، ولم يذكر الطحاوي محمَّد بن الحسن مع مَن هو؟ وذكر أصحابنا في كتبهم أن كون الصاع ثمانية أرطال هو قول أبي حنيفة ومحمد، وكونه خمسة وثلثًا هو قول أبي يوسف، ولعلَّ عن محمَّد روايتان فلذلك لم يذكره ها هنا كما هو عادته، وذكره فيما بعد. ص: وقالوا: هذا الذي كان يغتسل به رسول الله - عليه السلام - هو صاع ونصف وذكروا في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة، عن جعفر بن بُرقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد وهو الفَرَق". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 154 رقم 73).

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدثني ابن شهاب ... فذكر بإسناده نحوه. قالوا: فلما ثبت بهذا الحديث الذي روي عن عائشة: أن رسول الله - عليه السلام - كان يغتسل هو وهي من الفَرَق، والفَرَق ثلاثة أصوع، كأن ما يغتسل به كل واحد منهما صاعًا ونصفًا. فإذا كان ذلك ثمانية أرطال كان الصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث. وهذا قول أهل المدينة أيضًا. ش: أي قال هؤلاء الآخرون: هذا بيان استدلالهم لما قالوا: وزن الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، تقريره أن الإناء الذي كان يغتسل به رسول الله - عليه السلام - كانت صاعًا ونصفًا؛ لأن عائشة- رضي الله عنها - قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد وهو الفرق، والفرق ثلاثة أصوع، فحينئذ يكون ما اغتسل به كل واحد منهما صاعًا ونصفًا، فإذا كان المذكور في رواية مجاهد عن عائشة: ثمانية أرطال، يكون الصاع ثلث الفَرَق وهو خمسة أرطال وثلث؛ لأن الفرق ستة عشر رطلًا، وهي ثلاثة أصوع، وثلث ستة عشر، خمسةٌ وثلث. ثم الفرق -بفتح الفاء والراء وبإسكانها- أيضًا لغتان والفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب، وليس كما زعم، بل هما لغتان. وقال ابن الأثير: الفَرَق بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثني عشر مدًّا، وثلاثة أصوع عند أهل الحجاز، وقيل: الفَرَق خمسة أقساط، والقسط نصف صاع، فأما الفرْق بالسكون فمائة وعشرون رطلا، وقال أصحابنا في كتب الفقه: الفَرَق ستة وثلاثون رطلًا، وكذا ذكره صاحب "الهداية" ثم علله بقوله: لأنه أقصى ما يقدر به. وقال القاضي: قال أحمد بن يحيى: الفرق اثني عشر مُدًّا، وقال أبو الهيثم: هو إناء يأخذ ستة عشر رطلًا، وذلك ثلاثة آصع، وكذلك فسره سفيان في كتاب مسلم

أنه ثلاثة آصع، وحكي عن أبي زيد أنه إناء يسع أربعة أرباع، وقال غيره: هو إناء ضخم من مكاييل أهل العراق. قلت: فعل هذا لم يتقرر الفرق على ستة عشر رطلًا، فلم يكن ثلاثة أصوع، ولا كان الصاع خمسة أرطال وثلثًا، فحينئذ لم يتم استدلالهم بما ذكروه، فافهم. ثم إنه أخرج حديث عائشة من ثلاثة طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن زائدة بن قدامة، عن جعفر بن برقان الكلابي الجزري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يغتسل من إناء -وهو الفَرَق- من الجنابة". قال معمر: عن الزهري في الحديث قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد. فيه قدر الفَرَق". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه. الثاني: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 62 رقم 238). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 255 رقم 319). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 100 رقم 247).

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقرئ القصير شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنهما قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يغتسل في القدح هو الفَرَق، وكنت أغتسل أنا وهو في إناء واحد". قوله: "من إناء واحد، من قدح" كلمة "مِن" في قوله: "من إناء" لبيان الجنس، والتي في قوله: "من قدح" لبيان النوع، وليس المراد أنه كان يغتسل بملء الفرق، بدليل الحديث الآخر: "كان يغتسل بالصاع". واعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء الذي يجزئ في الغسل والوضوء غير مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير إذا وجد شرط الغَسل وهو جريان الماء على الأعضاء؛ لأن الغَسل هو الإسالة، فإذا لم يسل يصير مسحًا، وذا لا يجوز، وقال الشافعي (¬2): وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي. وقالوا: المستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مُدّ. وأجمعوا أيضًا على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطيء البحر. ثم الأظهر أنه كراهة تنزيه لا تحريم، خلافًا لبعض الشافعية. ص: وكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن حديث عروة عن عائشة إنما فيه ذكر الفَرَق الذي كان يغتسل منه رسول الله - عليه السلام - وهي، ولم يُذكر مقدار الماء الذي كان يكون فيه، هل هو ملؤه أو أقل من ذلك؟ فقد يجوز أن يكون كان يغتسل هو وهي بملئه، ويجوز أن يكون كان يغتسل هو هي بأقل من ملئه، فما هو صاعان فيكون كل واحد منهما مغتسلًا بصاع من ماء، ويكون معنى هذا الحديث موافقًا لمعاني الأحاديث ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 127 رقم 228). (¬2) انظر "مختصر المزني" (1/ 8).

التي رويت عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يغتسل بصاع؛ فإنه قد روي عنه في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن إبراهيم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مسلم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يغتسل بالصاع". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا هُدْبة بن خالد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يغتسل بقدر الصاع، ويتوضأ بقدر المد". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبان، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "بالمد ونحوه". حدثنا محمَّد بن العباس بن الربيع، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المبارك بن فضالة، قال: حدثني أبي، عن معاذة، عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن عتبة بن أبي حكيم، قال: حدثني عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل من الماء، فقال كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ من مد فيسبغ الوضوء، وعسى أن يفضل منه، قال: وسألناه عن الغسل من الجنابة كم يكفي من الماء؟ قال: الصاع. فسألت أعن النبي - عليه السلام - ذكر الصاع؟ قال: نعم مع المد".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا بشر، قال: ثنا أبو ريحانة، عن سفينة مولى أم سلمة - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يغسله الصاع من الماء ويوضيه المد". ففي هذه الآثار: أن رسول الله - عليه السلام - كان يغتسل بصاع وليس فيه مقدار وزن الصاع كم هو؟ وفي حديث مجاهد عن عائشة: ذكر ما كان يغتسل به وهو ثمانية أرطال. وفي حديث عروة عن عائشة أنها كانت تغتسل هي ورسول الله - عليه السلام - من إناء هو الفَرَق. ففي هذا الحديث ذكر ما كانا يغتسلان منه خاصةً، وليس فيه ذكر مقدار الماء الذي كانا يغتسلان به، وفي الآثار الأُخر ذكر مقدار الماء الذي كان يغتسل به، وأنه كان صاعًا. فثبت بذلك لما صححت هذه الآثار وجُمعت وكشفت معانيها، أنه كان يغتسل من إناء هو الفَرَق، وبصاع وزنه ثمانية أرطال، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة، وقد قال بذلك أيضًا محمَّد بن الحسن. ش: أي: وكان من الحجة والبرهان عليهم، أي على أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى، وأراد بذلك الجواب عما استدلوا به، بيان ذلك: أن حديث عروة عن عائشة ليس فيه إلا ذكر الفَرَق الذي كان النبي - عليه السلام - وعائشة يغتسلان منه، ولم يذكر فيه مقدار الماء الذي كان فيه، هل كان ملء الفرق أو أقل منه؟ فهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكونا قد اغتسلا منه وهو ملآن. والآخر: أن يكونا قد اغتسلا منه بأقل من ملئه بما هو صاعان فيكون كل واحد منهما مغتسلا بصاع من ماء، فحينئذٍ يكون معنى هذا الحديث موافقًا لمعاني الأحاديث الأُخَر التي فيها أنه كان يغتسل بصاع، فإنه روي ذلك في حديث عائشة أيضًا وحديث أنس وحديث جابر بن عبد الله وحديث سفينة مولى النبي - عليه السلام - على ما نذكره، وقد ذكر في أحاديثهم أنه - عليه السلام - كان يغتسل بصاع، ولكن لم يبين فيها

مقدار وزن الصاع كم هو، وذكر في حديث مجاهد عن عائشة المذكور في أول الباب أنه كان يغتسل بثمانية أرطال، وذكر في حديث عروة عن عائشة أنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - عليه السلام - من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق" والمذكور فيه ما كانا يغتسلان منه فقط، وليس فيه بيان المقدار الذي اغتسلا منه، وفي الأحاديث الأُخَر ذكر مقدار الماء الذي كان - عليه السلام - يغتسل به وهو الصاع. فتصحيح معاني هذه الآثار يقتضي أنه كان يغتسل من إناء هو الفَرَق، وبصاع وزنه ثمانية أرطال، وهذا لاخفاء فيه، فإذا كان كذلك يثبت به ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث عائشة - رضي الله عنها - من سبع طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشلّ الطائي، عن حجاج بن أرطاة النخعي الكوفي القاضي، عن إبراهيم بن المهاجر البجلي، عن صفية بنت شيبة الحاجب، المختلف في صحبتها، عن عائشة - رضي الله عنها -. وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. الثاني: عن فهد أيضًا، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح (¬1). الثالث: عن فهد أيضًا، عن يحيى الحماني أيضًا، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن مسلم بن كيسان الضبي الملائي البرَّاد الكوفي الأعور، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عائشة. وهذا معلول بمسلم بن كيسان؛ فإنه ضعيف، فقال أحمد: لا شيء. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال ¬

_ (¬1) في إسناده الحماني، والجمهور على تضعيفه، وقد تكرر من المؤلف -رحمه الله- تصحيح أحاديثه غير مرة.

النسائي: متروك. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان لا يدري ما يحدث به. الرابع: عن أحمد بن داود المكي، عن هدبة بن خالد شيخ الشيخين وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا هدبة، نا همام، نا قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يغتسل بقدر الصاع ويتوضأ بقدر المد". الخامس: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن كثير، قال: أنا همام، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة "أن النبي - عليه السلام - كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد". قال أبو داود: رواه أبان، عن قتادة، قال: سمعت صفية. وأخرجه البيهقي (¬3): من رواية عفان، عن أبان، عن قتادة، حدثتني صفية. وأخرجه الدارقطني (¬4): من رواية معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة؛ وقال: "بنحو المد ونحو الصاع". السادس: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (8/ 271 رقم 4858). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 23 رقم 92). (¬3) "سنن البيهقي الكبري" (1/ 195 رقم 889). (¬4) "سنن الدارقطني" (1/ 94 رقم 2).

وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن صفية ابنة شيبة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد أو نحوه". السابع: عن محمَّد بن العباس بن الربيع الغبري البصري، عن أسد بن موسى، عن المبارك بن فضالة وثقة ابن حبان وضعفه أحمد، وقال العجلي: لا بأس به. وقال أبو داود: كان شديد التدليس، وهو يروي عن أبيه فضالة بن أبي أمية القرشي العدوى وثقه ابن حبان، عن معاذة بنت عبد الله العدوية البصرية أم الصهباء، روى لها الجماعة. وأخرج حديث أنس - رضي الله عنه - عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحمصي، قال في "الميزان": كان مدلسًا، فإذا قال: "عن" فليس بحجة. وقال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت. وقال العجلي: ثقة فيما روى عن المعروفين، وما روى عن المجهولين فليس بشيء، استشهد به البخاري، وروى له مسلم في المتابعات، واحتج به الأربعة. عن عتبة بن أبي حكيم الهمداني الشامي الأردني الطبراني، وثقه ابن حبان، وقال النسائي: ضعيف. وعنه: ليس بالقوي. وعن يحيى: ثقة. وعنه: ضعيف. روى له الأربعة. عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر -بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة- بن عتيك، ويقال: جابر بن عتيك الأنصاري المدني، روى له الجماعة. وأخرج البخاري (¬2): عن أبي نعيم، ثنا مسعر، قال: حدثني ابن جَبر، قال: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 234 رقم 26018). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 84 رقم 198).

سمعت أنسًا يقول: "كان النبي - عليه السلام - يغسل -أو يغتسل- بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد". وأخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة بن سعيد، قال: ثنا وكيع، عن مسعر، عن ابن جبر، عن أنس قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد". وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن الصباح البزاز، قال: أنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر، عن أنس قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع". وأخرج حديث جابر بن عبد الله: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال؛ فعن أحمد: لم يكن بالحافظ. وعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ليس بالقوي. وعنه: ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة. عن سالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي روى له الجماعة، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن محمَّد بن حنبل، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: "كان النبي - عليه السلام - يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد". قلت: انفرد به أبو داود عن بقية الستة. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬4) بهذا الطريق. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 258 رقم 325). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 23 رقم 95). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 23 رقم 93). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 66 رقم 708).

وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1) بهذا اللفظ: عن طريق محمَّد بن الفضل، عن الحصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. قال: النووي: حديث جابر ضعيف؛ فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. وقال المنذري: لا يحتج به. قلت: قد تابعه عليه حصين كما رواه الحاكم، فيكون حديثه حسنًا بالمتابعة، على أن يزيد لم ينسب للكذب ولا للفسق ولا فَحُشَ خطؤه. فإن قيل: فيه سالم بن أبي الجعد وهو مدلس كما قال الذهبي، وقد عنعن. قلت: لعل أبا داود اطلع على تصريحه بسماعه من جابر؛ فلذلك سكت عليه حين أخرجه. وأخرج حديث سفينة مولى أم سلمة، وهو مولى رسول الله - عليه السلام - ولكنه كان عبًدا لأم سلمة زوج النبي - عليه السلام - فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله - عليه السلام - حياته. وقد اختلف في اسمه فقيل: بحران، وقيل: رومان، وقيل: قيس، وقيل: شَنْبَة ابن مارفنّة من أبناء فارس. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن بشر بن المفضل، عن أبي ريحانة عبد الله بن مطر البصري، عن سفينة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): نا إبراهيم، نا مسلم. وحدثني أبو كامل الجحدري وعمرو بن علي، كلاهما عن بشر بن المفضل -قال أبو كامل: ثنا بشر- قال: ثنا أبو ريحانة، عن سفينة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد". ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 266 رقم 575). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 258 رقم 326).

ص: وقد روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أيضًا ما يدل على هذا المعنى. حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن جَبْر، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد وهو رطلان". حدثنا فهد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله -يعني ابن جِبْر- عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع". فهذا أنس قد أخبر أن مُدَّ رسول الله - عليه السلام - رطلان، والصاع أربعة أمداد، فإذا ثبت أن المدَّ رطلان، ثبت أن الصاع ثمانية أرطال. ش: أي: قد روي عن أنس ما يدل على أن الصاع ثمانية أرطال، وهو قوله: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد وهو رطلان"، فقد أخبر أن مُدَّ رسول الله - عليه السلام - رطلان، فإذا ثبت أن المد رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال؛ لأن المُدّ ربع الصاع بلا خلاف. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن الحماني، عن شريك ابن عبد الله النخعي، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبْر بن عتيك، عن أنس بن مالك. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن شريك ... إلى آخره وأخرجه الدارقطني من طريقين أخرين: الأول (¬1): عن جعفر بن عون، نا ابن أبي ليلى، ذكره عن عبد الكريم، عن أنس قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 154 رقم 73).

والثاني (¬1): عن أحمد بن محمَّد بن زياد القطان وعلي بن الحسن السواق، قالا: ثنا محمَّد بن غالب، نا أبو عاصم موسى بن نصر الحنفي، نا عبدة بن سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن جرير بن يزيد، عن أنس بن مالك: "أن النبي - عليه السلام - كان يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال". فإن قيل: قال البيهقي: إسناد حديث الدارقطني ضعيف. قلت: قد حَسُنَ إسناده بما رواه الطحاوي بإسناد صحيح، وتقوى أيضًا بما أخرجه ابن عدي في "الكامل" (¬2): عن عمر بن موسى بن وجيه الوجيهى، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: "كان النبي - عليه السلام - يتوضأ بالمد رطلين، ويغتسل ثمانية أرطال". فإن قيل: قال البيهقي: صاع الزكاة وصاع الغسل مختلفان، وأن قدر ما يغتسل به كان يختلف باختلاف الاستعمال، فلا معنى لترك الأحاديث الصحيحة في قدر الصاع المعد للزكاة. قلت: هذا من البيهقي مجرد دعوى بلا برهان؛ لأنه لم يذكر ولا حديثًا واحدًا فيه تعيين قدر الصاع المعد لزكاة الفطر، وأنه خمسة أرطال وثلث، فافهم. ص: فإن قال قائل: إن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قد روي عنه خلاف هذا، فذكر ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله بن جَبْر، سمع أنس بن مالك يقول: "إن النبي - عليه السلام - كان يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمس مكاكي". قال: فهذا الحديث يخالف الحديث الأول. قيل له: ما في هذا عندنا خلاف له؛ لأن حديث فريك إنما فيه أن رسول الله - عليه السلام - كان يتوضأ بالمد، وقد وافقه على ذلك عتبة بن أبي حكيم فروى عن عبد الله بن جَبْر ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 153 رقم 72). (¬2) "الكامل" لابن عدي (5/ 12).

نحوًا من ذلك، فلما روى شعبة ما ذكرنا عن عبد الله بن جَبْر؛ احتمل أن يكون أراد بالمكوك المد؛ لأنهم كانوا يسمون المد مكوكًا، فيكون الذي كان يتوضأ به مدًّا، ويكون الذي يغتسل به خمس مكاكي، يغتسل بأربعة منها وهي أربعة أمداد وهي صاع، ويتوضأ بأخر وهو مد، فجمع في هذا الحديث ما كان يتوضأ به للجنابة، وما كان يغتسل به لها وأفرد في حديث عتبة ما كان يغتسل به لها خاصةً دون ما كان يتوضأ به، وإن كان ذلك الوضوء لها أيضًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: استدلالكم بما روى عبد الله بن جَبْر عن أنس لا يتم؛ لأنه روي عنه ما يخالف هذا، وهو: "أنه كان يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمس مكاكي". وتقريرالجواب أن يقال: لا نسلم المخالفة المذكورة؛ لأن المذكور فيما رواه شريك عن عبد الله بن جَبْر عن أنس: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بالمد"، وقد وافقه على ذلك عتبة بن أبي حكيم فيما روي فيما مضى، حيث قال: حدثني عبد الله بن جَبْر بن عتيك قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل، قال: كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ من مُد"، فلما روى شعبة بن الحجاج في هذا الحديث عن عبد الله بن جَبْر، عن أنس: "أنه - عليه السلام - كان يتوضأ بالمكوك" احتمل أن يكون أراد بالمكوك المد؛ لأنهم كانوا يسمون المُد مكوكًا، قال ابن الأثير: المكوك: المد، وقيل: الصاع، والأول أشبه؛ لأنه جاء في الحديث مفسرًا بالمد. فحينئذٍ يكون الذي كان يتوضأ به مدًّا، ويتفق معنى الأحاديث، ويكون الذي يغتسل به خمس مكاكي، كان يغتسل بأربعة منها أي بأربع مكاكيك وهي أربعة أمداد وهي صاع، ويتوضأ بمكوك آخر وهو مُدّ، غاية ما في الباب أنه جمع في حديث شعبة هذا ما كان يتوضأ للجنابة وما كان يغتسل به لها، حيث قال: "ويغتسل بخمس مكاكي"، وأما في حديث عتبة بن أبي حكيم فقد فصَّل، وأفرد ما كان يغتسل به للجنابة خاصة، وما كان يتوضأ به خاصة أيضًا؛ وذلك لأن عتبة قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل من الماء، فأجاب أنس بأنه - عليه السلام -

كان يتوضأ من مد" ثم قال: "سألنا أنسًا عن الغسل من الجنابة كم يكفي من الماء؟ قال: الصاع ... " الحديث، فبحسب تفصيل السؤال أجاب بتفصيل الجواب. ثم إسناد حديث شعبة عن ابن جَبْر عن أنس صحيح. وأبو الوليد اسمه هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. وأخرجه مسلم (¬1): نا إبراهيم، نا مسلم، نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي. ونا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبْر، قال: سمعت أنسًا قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك". وأخرجه النسائي (¬2): أنا سويد بن نصر، قال: أبنا عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن جَبْر، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله - عليه السلام - يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكي". وأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا. ثم "المكوك" بفتح الميم وتشديد الكاف الأولى، وهي إناء يسع المد معروف عندهم، ويقال: المكوك اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، وقال عياض: المكوك مكيال لأهل العراق يسع صاعًا ونصف صاع بالمدني. وقال الجوهري: المكوك مكيال، وهي ثلاث كيلجات، والكيلجة مَنا وسبعة أثمان مَنا، والمَنا رطلان، والرطل اثنى عشر أوقية، والأوقية إستار وثلثا إستار، والاستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانيق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوح، والطسوح حبتان، والحبة سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم. انتهى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 257 رقم 325). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 79 رقم 75). (¬3) "سنن أبي داود" (تقدم ذكره).

ثم المكوك يجمع على مكاكيك وعلى مكاكيّ أيضًا على إبدال الياء من الكاف الأخيرة، فيقال: مكاكي بتشديد الياء، فقد وقع في رواية مسلم: "مكاكيك" وفي رواية الطحاوي والنسائي: "مكاكي". ص: وسمعت ابن أبي عمران، يقول: سمعت ابن الثلجي، يقول: إنما قُدِّرَ الصاع على وزن ما يعتدل كيله ووزنه من الماش والزبيب والعدس، فإنه يقال: إن قيل ذلك ووزنه سواء. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن المعتبر في الصاع الذي هو ثمانية أرطال أن يكون كيلًا ووزنًا، فعلى هذا يعتبر فيما يستوي كيله ووزنه، مثل الماش والزبيب والعدس، فإذا كان الصاع يسع ثمانية أرطال من العدس أو الماش مثلًا فهو الصاع الذي يكال به الشعير والتمر. وروي عن أبي حنيفة أنه يعتبر وزنًا؛ لأن الناس إذا اختلفوا في صاع يقدرونه بالوزن، فدل أن المعتبر هو الوزن، وروي عن محمَّد أنه يعتبر كيلًا؛ لأن النص ورد باسم الصاع، وأنه مكيال لا يختلف وزن ما يدخل فيه خفةً وثقلًا، فوجب اعتبار الكيل المنصوص عليه وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا وزن وأدي، جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند محمَّد. قوله: "وسمعت ابن أبي عمران" هو أحد مشايخه الذين أخذ عنهم الفقه، وهو أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي نزيل مصر. وابن الثلجي: بالثاء المثلثة، هو محمَّد بن شجاع بن الثلجي الفقيه الكبير من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن صالح وبشر بن الوليد، جميعًا عن أي يوسف قال: "قدمت المدينة فأخرج إلى من أثق به صاعًا، فقال: هذا صاع النبي - عليه السلام -. فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل". وسمعت ابن أبي عمران يقول: يقال: إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس -رحمه الله-.

وسمعت أبا خازم يذكر أن مالكًا سئل عن ذلك فقال: هو تحري عبد الملك لصاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. فكأنَّ مالكًا لما ثبت عنده أن عبد الملك تحرى ذلك من صاع عمر - رضي الله عنه -، وصاع عمر صاع النبي - عليه السلام -، وقد قُدِّر صاع عمر- رضي الله عنه - على خلاف ذلك. فحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حُميد، قال: ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن موسى بن طلحة قال: "الحجاجي صاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "عيَّرنا الصاع فوجدنا حجاجيًّا، والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سفيان بن بشر الكوفي، قال: ثنا شريك، عن مغيرة وعبيدة، عن إبراهيم قال: "وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر - رضي الله عنه -". فهذا أولى مما ذكره مالك من تحري عبد الملك؛ لأن التحري ليس معه حقيقة، وما ذكره إبراهيم وموسى بن طلحة من العيار معه حقيقة؛ فهذا أولى، والله أعلم. ش: أشار بهذا إلى أن أبا يوسف قد احتج لما ذهب إليه أيضًا بما وقف عليه من صاع النبي - عليه السلام - بإخراجه إليه من يثق به، ثم أشار إلي ترجيح ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله. أما الأول: فأخرجه عن أحمد بن أبي عمران الفقيه البغدادي عن علي بن صالح [...] (¬1) وبشر بن الوليد بن خالد بن الوليد الكندي القاضي، أحد أصحاب أبي يوسف خاصة، وأحد الأئمة الأعلام، الثقة المأمون، كلاهما عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، أكبر أصحاب أبي حنيفة قال: "قدمت ... " إلى آخره. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقال في "المغاني" (3/ 406 رقم 1857): علي بن صالح الذي روى عن أبي يوسف في قدر الصاع. ولم يزد على ذلك.

وأخرج البيهقي في "سننه" (¬1): من طريق الحسن بن منصور، نا الحسن بن الوليد قال: "قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففحصت عنه؛ قدمت المدينة فسألت عن الصاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله - عليه السلام -. قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتك بالحجة [غدًا] (¬2)، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يُخبر عن أبيه أو أهل بيته: أن هذا صاع رسول الله - عليه السلام -، فنظرت فإذا هي سواء. قال: فعيَّرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًّا، فقد تركت قول أبي حنيفة، في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة". وأخرج أيضًا (¬3): عن محمَّد بن عبد الوهاب الفراء، سمعت أبي يقول: "سأل أبو يوسف مالكًا عند أمير المؤمنين عن الصاع كم هو رطلًا؟ قال: السنة عندنا أن الصاع لا يُرطل ففحمه". قال محمَّد بن عبد الوهاب: وسمعت الحسين بن الوليد يقول: قال أبو يوسف: "فقدمت المدينة فجمعنا أبناء أصحاب رسول الله - عليه السلام - ودعوت بصاعاتهم، فكلٌّ حدثني عن آبائهم، عن رسول الله - عليه السلام - أن هذا صاعه، فقَدَّرْتها فوجدتها مستويةً، فتركت قول أبي حنيفة ورجعت إلى هذا". قوله: "فأخرج إليَّ من أثق به" قد بيَّنه أحمد بن أبي عمران بقوله: "يقال: إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس -رحمه الله-. قوله: "وسمعت أبا خازم" بالخاء والزاي المعجمتين، واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز البصري، أحد أصحاب أبي حنيفة، وحكايته عن مالك منقطعة؛ لأنه لم يدركه. وأراد بعبد الملك هو ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 171 رقم 7510). (¬2) في "الأصل، ك": "عندنا"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 170 رقم 7509).

وأما الثاني: فهو قوله: وقد قدر صاع عمر - رضي الله عنه - على خلاف ذلك أي على خلاف ما روي عن مالك، فأخرجه من ثلاث وجوه: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه والبخاري في غير الصحيح، وعن يحيى: ثقة. وعن ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته. عن وكيع بن الجراح روى له الجماعة، عن علي بن صالح بن صالح حي الهمداني أبي الحسن الكوفي روي له الجماعة إلا البخاري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أبي عيسى التيمي المدني، روي له الجماعة. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن موسى بن طلبة: "أن القفيز الحجاجيّ قفيز عمر أو صاع عمر". ثم طعن ابن حزم أن فيه مجهولًا، ورواية الطحاوي ليس فيها مجهول. الثاني: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد أيضًا، عن وكيع بن الجراح، عن أبيه الجراح بن مليح الكوفي روى له الجماعة سوى النسائي، البخاري في غير "الصحيح". عن مغيرة بن مقسم الضبي أبي هاشم الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة، عن إبراهيم النخعي. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سفيان بن بشر بن أيمن بن غالب الأسدي الكوفي ذكره ابن يونس وقال: كوفي قدم مصر، وسكت عنه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 242).

عن شريك بن عبد الله النخعي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، وعن عبيدة بن معتب الضبي الكوفي فيه مقال، استشهد به البخاري، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. كلاهما يرويان عن إبراهيم النخعي. قوله: "الحَجَّاجي" أي: الصاع الحجاجي، وهو نسبة إلى حجاج بن يوسف الثقفي، وهو الذي وضع الصاع الذي هو ثمانية أرطال على صاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قوله: "قفيزه" القفيز بفتح القاف وكسر الفاء، قال الجوهري: القفيز مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والجمع: أقفزة وقفزان. وقال ابن الأثير: القفيز مكيال يتواضع الناس عليه وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك. قوله: "فهذا أولى" أي الحجاجي الذي هو على صاع عمر - رضي الله عنه - أولى مما ذكره مالك؛ لأن فيما ذكره تحري عبد الملك بن مروان، وليس في التحري حقيقة، وما ذكره إبراهيم النخعي وموسى بن طلحة من العيار فيه حقيقة، فهذا أولى، والله أعلم. فإن قيل: قال ابن حزم: وهذه الآثار ولئن سلمنا صحتها- ولكنها لا تنفعهم؛ لأنا لا ننازعهم في صاع عمر- رضي الله عنه - ولا في قفيزه، إنما ننازعهم في صاع النبي - عليه السلام -، ولسنا ندفع أن يكون لعمر - رضي الله عنه - صاع وقفيز ومُدّ، رتبه لأهل العراق لنفقاتهم وأرزاقهم كما بمصر الوَيْبَة والأردب، وبالشام المدّ. قلت: الجواب عنه ما ذكرنا من أنه لم ينقل ذلك بنقل صحيح أن عمر - رضي الله عنه - وضع صاعًا دون صاع النبي - عليه السلام -، ولئن سلمنا أنه فعل ذلك فالظاهر أن الحجاج إنما وضع قفيزه على صاع عمر الذي هو كان على صاع النبي - عليه السلام -.

ص: كتاب الصيام

ص: كتاب الصيام ش: أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصيام، ولما فرع عن بيان العبادة المالية شرع في بيان العبادة البدنية، وكان المناسب أن يذكر كتاب الصوم عقيب كتاب الصلاة؛ لكون كل منهما عبادةً بدنية، وكتاب الزكاة بحذاء كتاب الحج؛ لكون الصوم عبادة بدنية وكون الحج عبادة بدنية ومالية، ولكن لما كان اتصال الزكاة بالصلاة أشد وأكثر حيث ذكرتا في القرآن والحديث متقارنتين، ذكرت الزكاة عقيب الصلاة، ثم قدم الصوم على الحج لكثرة دورانه بالنسبة إلى الحج، فكان الاهتمام إلى بيانه أقوى. والصوم في اللغة: عبارة عن الإمساك مطلقًا. وقال الجوهري: الصوم الإمساك عن الطعام، وقد صام الرجل صومًا وصيامًا، وقوم صُوَّم -بالتشديد- وصُيَّم، وصام الفرس صومًا أي قام على غير اعتلاف، قال النابغة الذبياني: خيلٌ صيامٌ وأخرى غَيرُ صائمةٍ ... تحت العَجاجِ وأُخرى تَعْلُكُ اللُّجُما قلت: الصيام يأتي مصدرًا كقام قيامًا، ويأتي جمع صائم أيضًا كقيام جمع قائم، ونيام جمع نائم. والصوم في الشرع: عبارة عن الكف عن المفطرات الثلاث نهارًا مع النية.

ص: باب: الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصائم

ص: باب: الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصائم ش: أي: هذا باب في بيان الوقت الذي يحرم فيه أكل والشرب والجماع على الصائم. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حُبيش قال: "تسحرت ثم انطلقت بلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت وبقدرٍ فسخنت، ثم قال: كُلْ. فقلت: إني أريد الصوم. فقال: وأنا أريد الصوم. قال: فأكلنا وشربنا ثم أتينا المسجد، فأقيمت الصلاة. قال: هكذا فعل بي رسول الله - عليه السلام -أو صنعت مع رسول الله - عليه السلام -. قلت: بعد الصبح؟ قال: بعد الصبح غير أن الشمس لم تطلع". ش: إسناده صحيح. ورجاله قد ذكروا غير مرة. وزِرّ بكسر الزاي المعجمة وتشديد الراء. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا عاصم بن بهدلة ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه "قلت أبعد الصبح؟ قال: نعم هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس. قال: وبين بيت حذيفة وبين المسجد كما بين مسجد ثابت وبُستان حوط. وقد قال حماد أيضًا: وقال حذيفة: هكذا صنعت مع النبي - عليه السلام - وصنع بي النبي - عليه السلام -". وأخرج النسائي (¬2): أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، عن عديّ قال: سمعت زر بن حبيش قال: "تسحرنا مع حذيفة، ثم خرجنا إلى الصلاة، فلما أتينا المسجد صلينا ركعتين، وأقيمت الصلاة وليس بينهما إلا هنيهة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 396 رقم 23409). (¬2) "المجتبى" (4/ 142 رقم 2153).

أنا (¬1) محمَّد بن يحيى بن أيوب، قال: أنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: "قلنا لحذيفة: أيّ ساعة تسحرت مع رسول الله - عليه السلام -؟ قال: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع". قوله: "بلقحة" بكسر اللام، وهي الناقة الحلوب، قال الجوهري: اللقحة: اللقوح، والجمع لِقح مثل قِربة وقِرب، واللِّقاح -بكسر اللام- الإبل بأعيانها، الواحدة لقوح وهي الحلوب، مثل قلوص وقلاص، ولِقحت الناقة -بالكسر- لِقحًا ولقاحًا -بالفتح- فهي لاقح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث عن حذيفة أنه أكل بعد طلوع الفجر وهو يريد الصوم. وحكي مثل ذلك عن رسول الله - عليه السلام -". ش: ذهب إلى هذا الحديث جماعة، منهم: معمر، وسليمان الأعمش، وأبو مجلز، والحكم بن عتيبة، فإنهم قالوا: يجوز للصائم أن يتسحر ما لم تطلع الشمس. وقال ابن حزم: وعن محمد بن علي بن الحسن - رضي الله عنهم -: "كلْ حتى يتبين لك الفجر". وعن الحسن: "كُلْ ما امتريت". وعن أبي مجلز: "الساطع ذلك الصبح الكاذب، ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق". وعن إبراهيم: "الفجر المعترض الأحمر يُحل الصلاة ويحرِّم الطعام". وعن ابن جريج: "قلت لعطاء: أتكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي أصبحت؟ قال: لا بأس بذلك هو شك". وقال ابن أبي شيبة (¬2): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال: "لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 142 رقم 2152). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 289 رقم 9075).

وعن أبي وائل: "أنه تسحر وخرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة". وعن معمر: "أنه كان يؤخر السحور جدًّا حتى يقول الجاهل: لا صوم له". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ومن رأى الفجر وهو يأكل فليقذف ما في فيه من طعام أو شراب، وليصم ولا قضاء عليه، ومَن رأى الفجر وهو يجامع فلينزع من وقته وليصم ولا قضاء عليه، وسواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة فلو توقف باهتا فلا شيء عليه وصومه تام، ولو أقام عامدًا فعليه الكفارة. ص: وقد جاء عن رسول الله - عليه السلام - خلاف ذلك، فهو ما قد روينا عنه مما تقدم ذكرنا له في كتابنا هذا أنه قال: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وأنه قال: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه إنما يؤذن لينبه نائمكم وليرجع قائمكم". ثم وصف الفجر بما قد وصفه به، فدل ذلك أنه هو المانع من الطعام والشراب، ومما سوى ذلك مما يمنع منه الصيام. فهذه الآثار التي ذكرنا مخالفة لحديث حذيفة - رضي الله عنه -. ش: أي: جاء عن رسول الله - عليه السلام - خلاف ما روي عن حذيفة، وهو ما أخرجه في كتاب الأذان في هذا الكتاب: ثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك نحوه. وأخرج أيضًا في كتاب "الأذان": ثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 229). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 223 رقم 592).

أن النبي - عليه السلام - قال: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه ينادي أو يؤذن ليرجع غائبكم ولينبه نائمكم. وقال: ليس الفجر أو الصبح هكذا وهكذا وجمع أصبعيه وفرقهما ... " الحديث. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) وفي رواية النسائي أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل لينبه نائمكم ويرجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا -وأشار بكفيه- ولكن الفجر أن يقول هكذا- وأشار بالسبابتين". ومن الأحاديث التي تخالف حديث حذيفة: ما رواه سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير". أخرجه أبو داود (¬5)، وأخرجه مسلم (¬6) أيضًا ولفظه: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير". وأخرجه الترمذي (¬7) ولفظه: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق". وأخرجه النسائي (¬8): ولفظه "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر هكذا وهكذا- يعني معترضًا، وقال أبو داود يعني الطيالسي: بسط بيديه يمينًا وشمالًا مادًّا يديه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 224 رقم 596)، (6/ 2647 رقم 6820). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 768 رقم 1093). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 303 رقم 2347). (¬4) "المجتبى" (4/ 148 رقم 2170). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 303 رقم 2346). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 770 رقم 1094). (¬7) "جامع الترمذي" (3/ 86 رقم 706). (¬8) "المجتبى" (4/ 148 رقم 2171).

ومنها حديث عائشة وابن عمر - رضي الله عنهم -، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). ومنها حديث أُنيسة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا أذن ابن أم مكتوم فلا تأكلوا ولا تشربوا، وإذا أذن بلال فكلوا واشربوا". أخرجه النسائي (¬3). وهذه الأحاديث تحدد الوقت الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم، وكلها مخالفة لحديث حذيفة، فيردُّ بها حديث حذيفة. ص: وقد يحتمل حديث حذيفة - رضي الله عنه - عندنا -والله أعلم- أن يكون قبل نزول قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬4). ش: أشار بهذا إلى جواب ثانٍ عن حديث حذيفة، وهو أنه يحتمل أن يكون وروده قبل نزول قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} (4) إلى آخره، فلما نزلت هذه الآية نُسخ ذلك الحكم، والآية تقتضي إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يظهر الفجر الصادق؛ لأن المراد من الخيط الأبيض هو الفجر الصادق بقرينة قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} (4). والخيط مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الخيط الأبيض هو الصبح، والخيط الأسود الليل. ثم إن بعضهم من الصحابة - رضي الله عنهم - حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود، منهم: عدي بن حاتم وغيره، على ما يأتي عن قريب. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 223 رقم 592). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 768 رقم 1092). (¬3) "المجتبى" (2/ 10 رقم 640). (¬4) سورة البقرة، آية: [187].

وكان واحد منهم إذا أراد أن يصوم ربط في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك {مِنَ الْفَجْرِ} (¬1) فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار. وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام": لا يثبت ذلك من حذيفة، ومع ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز الاعتراض به على القرآن، قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1) فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الأبيض الذي هو بياض الفجر. وحديث حذيفة إن حمل على حقيقته كان مبيحًا لما حظرته الآية، وقال النبي - عليه السلام - في حديث عدي بن حاتم: "هو بياض النهار وسواد الليل" فكيف يجوز الأكل نهارًا في الصوم مع تحريم الله إياه بالقرآن والسنة، ولو ثبت حديث حذيفة من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك الوقت؛ لأنه لم يَعْزُ الأكل إلى النبي - عليه السلام -، وإنما أخبر عن نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبي - عليه السلام -، فكونه مع النبي - عليه السلام - في وقت الأكل لا دلالة له فيه على علم النبي - عليه السلام - بذلك منه وإقراره عليه، ولو ثبت أنه - عليه السلام - علم بذلك وأقره عليه، احتمل أن يكون ذلك في آخر الليل قرب طلوع الفجر، فسماه نهارًا لقربه منه. ص: فأنه حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين ومجالد، عن الشعبي، قال: أنا عدي بن حاتم قال: "لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1) عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، [والآخر أبيض] (¬2) فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله - عليه السلام - فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [187]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن عدي، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا محمَّد، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن حصين ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدَّمي، قال: ثنا الفضيل بن سليمان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد بن الساعدي قال: "لما نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (¬1) جعل الرجل يأخذ خيطًا أبيض وخيطًا أسود فيضعهما تحت وسادة، فينظر متى يستبينهما فيترك الطعام. قال: فبيَّن الله -عز وجل- ذلك، ونزلت: {مِنَ الْفَجْرِ} ". فلما كان حكم هذه الآية قد كان أشكل: على أصحاب رسول الله - عليه السلام - حتى بين الله لهم -عز وجل- من ذلك ما بيَّن، وحتى أنزل: {مِنَ الْفَجْرِ} بعد ما كان قد أنزل {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1)، فكان الحكم أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم حتى نسخ الله -عز وجل- بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} على ما ذكرنا ما قد بينه سهل في حديثه، واحتمل أن يكون ما روى حذيفة من ذلك عن رسول الله - عليه السلام - كان قبل نزول تلك الآية، فلما أنزل الله -عز وجل- تلك الآية أحكم ذلك وردَّ الحكم إلى ما بيَّن فيها. ش: الفاء للتعليل، والضمير للشأن، ولما ادعى أن حديث حذيفة كان يحتمل أن يكون قبل نزول قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1) أتى على ذلك بدليل، وهو حديث عدي بن حاتم وحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنهما -. أما حديث عدي فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إسماعيل بن سالم الصائغ، أبي محمَّد البغدادي نزيل مكة شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن حُصين -بضم الحاء ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [187].

وفتح الصاد المهملتين- ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة. وعن مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة، كلاهما عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عدي بن حاتم الطائي الجوادي الجواد. وهذا الحديث أخرجه الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬1) بهذا الإسناد: ثنا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: "لما نزل {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2) قال لي النبي - عليه السلام -: إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وأخرجه البخاري (¬3): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن حُصين، عن الشعبي، عن عديّ قال: "أخذ عديّ عِقَالا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي. قال: إن وسادتك إذًا لعريض؛ إن [كان] (¬4) الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك". حدثنا (¬5) قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن مطرف، عن الشعبي، عن عديًّ بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق -شيخ البخاري- عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن عديّ. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 211 رقم 2970). (¬2) سورة البقرة، آية: [187]. (¬3) "صحيح البخاري" (4/ 1640 رقم 4239). (¬4) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري". (¬5) "صحيح البخاري" (4/ 1640 رقم 4240).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن حُصين، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم قال: "لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2) قال له عديّ: يا رسول الله، إنني جعلت تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله - عليه السلام -: إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار". وأخرجه أبو داود (¬3): نا مسدد، قال: نا حصين بن نُمير، قال: ونا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا ابن إدريس المعنى، عن حصين، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم قال: "لما نزلت هذه الآية {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (2) قال: أخذت عقالا أبيض وعقالًا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيَّن، فذكرت ذلك لرسول الله - عليه السلام - فضحك وقال: إن وسادك إذًا لعريض طويل، إنما هو الليل والنهار -وقال عثمان-: إنما هما سواد الليل وبياض النهار". وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدَّم المقدَّمي البصري شيخ الأربعة، عن الفضيل بن سليمان النميري أبي سليمان البصري روى له الجماعة، عن أبي حازم سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم، روى له الجماعة، عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬4) ثنا ابن أبي مريم، ثنا أبو غسان محمَّد بن مطرف، حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: "وأنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 766 رقم 1090). (¬2) سورة البقرة، آية: [187]. (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 304 رقم 2349). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 677 رقم 1818).

أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى تتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعده {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني الليل والنهار". وأخرجه مسلم (¬1) ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا فضيل بن سليمان، قال: ثنا أبو حازم، قال: ثنا سهل بن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (¬2) قال: كان الرجل يأخذ خيطًا أبيض وخيطًا أسود فيأكل حتى يستبينهما حتى أنزل الله {مِنَ الْفَجْرِ} فبيَّن ذلك". قوله: "عَمَدت" أي: قصدت، قال الجوهري: عَمَدت للشيء أَعْمِدُ عَمْدًا: قصدت له، أي: تعمدت، وذكره في "دستور اللغة" من باب: ضَرَبَ يَضْرِب. قوله: "إلى عِقَالين" العِقَال -بكسر العَين- الحبل الذي يُعقل به البعير، وقال الجوهري: قال الأصمعي: عَقَلْتُ البعير أَعْقِلُه عَقْلًا، وهو أن تثني وظيفه مع ذراعه فتشدهما جميعًا في وسط الذراع، وذلك الحبل هو العِقَال، والجمع عُقل. قوله: "إن وسادك لعريض" كنَّى بالوساد عن النوم؛ لأن النائم يتوسد، أي: إن نومك لطويل كبير، وقيل: كنّى بالوساد عن موضع الوساد من رأسه وعنقه، وتشهد له الرواية الثانية وهي قوله: "إنك لعريض القفا" فإن عرض القفا كناية عن السِمن، وقيل: أراد: مَنْ أكل مع الصبح في صومه أصبح عريض القفا؛ لأن الصوم لا يؤثر فيه. قلت: يكنَّى عن الأبله بعريض القفا، فإن عرض القفا وعِظم الرأس إذا أفرطا قيل: إنه دليل الغباوة والحماقة، كما أن استوائه دليل علو الهمة وحسن الفهم، وهذا من قبيل الكناية الخفية، والفرق بين الكناية والمجاز: أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم، وهكذا فرَّق السماك وغيره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 767 رقم 1091). (¬2) سورة البقرة، آية: [187].

قوله: "فبيَّن الله -عز وجل- ونزلت {مِنَ الْفَجْرِ} " إشارة إلى أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ناسخ لما كانوا يأكلون ويشربون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فصار هذا بيانًا لهم أن المراد به أن يتميز بياض النهار من سواد الليل. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون المراد بقوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الفجر، ويتأخر البيان مع الحاجة إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع بقاء التكليف لا يجوز؟. قلت: إن البيان كان موجودًا فيه لكن على وجه لا يدركه جميع الناس، وإنما كان على وجه يختص به أكثرهم أو بعضهم وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفًا في درجة يطلع عليها كل أحد، ألا ترى أنه لم يقع فيه إلا عديّ وحده؟ وأيضًا فإن النبي - عليه السلام - قال له: "إنك لعريض القفا، وضحك" ولا يضحك إلا على جائز، فافهم. قوله: "قد كان أشكل على أصحاب رسول الله - عليه السلام - وجه الإشكال عليهم أنهم حملوا اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعًا في لغة قريش ومَن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي - عليه السلام - عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومَن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة؛ لأنه ليس كل العرب يعرف سائر لغاتها، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسمًا للخيط حقيقةً ولبياض النهار وسواد الليل مجازًا، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي - عليه السلام - أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله بعد ذلك {مِنَ الْفَجْرِ} فزال الاحتمال، وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسمًا لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهور ذلك عندهم. قال أبو دؤاد الإيادي: ولما أَضَاءَت لنا (ظلُمة) (¬1) ... ولاحَ مِنَ الصُّبحِ خَيطٌ أنارا ¬

_ (¬1) وقع في ديوانه: سُدْفة، والسدفة: هي الظلمة، كما في "لسان العرب": "مادة: سدف".

وقال الزمخشري: الخيط الأبيض: أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، والخيط الأسود: ما يمتد معه من غبش الليل شبها بخيطين أبيض وأسود. وقوله: "من الفجر" بيان للخيط الأبيض، واكتفى به في بيان الخيط الأسود؛ لأن بيان أحدهما بيانٌ للآخر. ثم إن قوله: "من الفجر" أخرج ذلك من باب الاستعارة فصار تشبيهًا بليغًا، كما أن قولك رأيت أسدًا مجازٌ، فإذا زدت: من فلان، صار تشبيها. وإنما لم يقتصر به على الاستعارة مع كونها أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؛ لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر {مِنَ الْفَجْرِ} أن الخيطين مستعاران، فزيد من الفجر فكن تشبيها بليغًا، وخرج من أن يكون استعارة. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا في ذلك ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم والخضر بن محمَّد بن شجاع، قالا: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن بدر السحيمي، قال: حدثني جدي قيس بن طلق، قال: حدثني أبي، أن نبي الله - عليه السلام - قال: "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المُصْعِد، كلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر- وأشار بيده وأعرضهما". فلا يجب ترك آيةٍ من كتاب الله تعالى نصًّا، وأحاديث عن رسول الله - عليه السلام - متواترةً قد قبلتها الأئمة وعمل بها الأمة من لدن رسول الله - عليه السلام - إلى اليوم، إلى حديث قد يجوز أن يكون منسوخًا بما ذكرنا في هذا الباب. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: قد روي أيضًا عن النبي - عليه السلام - في جواز التسحر إلى طلوع الفجر الصادق، وأنه لا يجوز بعده. أخرجه عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، والخضر بن محمَّد بن شجاع الجزري أبي مروان

الحراني وثقه أحمد وابن حبان، وروى له النسائي كلاهما عن ملازم بن عمرو بن عبد الله بن بدر الحنفي السحيمي اليمامي وثقه أحمد وابن حبان وروى له الأربعة -عن عبد الله بن بدر بن عميرة بن الحارث الحنفي جد ملازم بن عمرو لأبيه، وقيل: لأمه، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وروي له الأربعة- عن جده قيس بن طلق بن علي المنذر الحنفي اليمامي وثقه العجلي وابن حبان وروى له الأربعة، عن أبيه طلق بن علي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق بن علي، قال: حدثني أبي طلق بن علي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر". قال أبو عيسى: حديث طلق بن علي حديث حسن غريب. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. قوله: "ولا يهيدنكم" أي: لا يحركنكم ولا يزعجنكم الساطع المصعد، وأصله من الهيد وهو الحركة، يقال: هدت الشيء أهيده هيدًا إذا حركته وأرجحته، وحاصل المعنى: لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمنعوا به عن السحور، فإنه الصبح الكذاب. قوله: "الساطع" يعني: الصبح الأول المستطيل، يقال: سطع الصبح يَسْطع، فهو ساطع، أول ما ينشق مستطيلا. قوله: "المُصْعد" من أصعد، وثلاثيه: صعد إذا طلع. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 85 رقم 705). (¬2) كذا في "الأصل، ك" وأظنه سبق قلم من المؤلف -رحمه الله- ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف" (4/ 224 رقم 5025) إلا لأبي داود والترمذي، والحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (1/ 717 رقم 2348).

قوله: "فلا يجب ترك آية" أي: إذا كان الأمر كما ذكرنا، لا يجب ترك آية من القرآن وهو قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬1). قوله: "نصًّا" نُصِبَ على الحال. قوله: "وأحاديثَ" بفتح الثاء في موضع الجر؛ لأنه عطف على "آيةٍ" في قوله: "تركُ آيةٍ" أي: ولا يجب ترك أحاديث عن رسول الله - عليه السلام - متواترةً أي متكاثرةً ولم يُرد به التواتر الاصطلاحي، وقد يمكن أن يكون المراد به المشهور الذي هو أحد قسمي التواتر، ولا شك أن هذه الأحاديث مشهورة تلقتها الأئمة بالقبول، وعمل بها الأمة من أيام النبي - عليه السلام - إلى يومنا هذا. قوله: "إلى حديث" يتعلق بقوله: فلا يجب ترك آية. فافهم. وقوله: "قد يجوز أن يكون منسوخًا". في محل الجرة لأنه صفةٌ لحديثٍ. فإن قيل: كيف يقال: قد يجوز بكلمة "قد" المشعر بالتقليل والموهم بالاحتمال، مع أن غيره قد جزم بالنسخ ها هنا؟. قلت: من عادته أنه يذكر كل ما كان فيه نسخ بمثل هذه العبارة، لعدم العلم القطعي بالتاريخ وإن كان النسخ قد حكموا به، ولهذا إذا كان نسخ حكم بتاريخ لا يذكر بهذه العبارة بل يجزم به كغيره من المجتهدين. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [187].

ص: باب: للرجل ينوي الصيام بعدما يطلع الفجر

ص: باب: للرجل ينوي الصيام بعدما يطلع الفجر ش: أي: هذا باب في بيان حكم مَن ينوي الصوم بعدما طلع الفجر الصادق، هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، ويحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه؛ عن حفصة، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "من لم يُبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له". حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن حميد، قال: ثنا بن عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن أيوب ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، وعن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روي له الجماعة، كلاهما عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن أخته حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين. وهذا الإسناد على شرط البخاري ومسلم. وابن لهيعة لا يضره؛ لأنه ذكر متابعًا. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن ابن شهاب، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 329 رقم 2454).

عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة زوج النبي - عليه السلام - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". قال أبو داود: ورواه الليث وإسحاق بن حازم أيضًا، جميعًا عن عبد الله بن أبي بكر مثله. وأوقفه على حفصة معمر والزبَيديّ وابن عيينة ويونس الأيلي كلهم عن الزهري. وأخرجه الترمذي (¬1): نا إسحاق بن منصور، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا بوجوه كثيرة. وقال الترمذي: حديث حفصة لا نعرفه مرفوعًا لا من هذا الوجه، وقد رفع عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قوله، وهو أصح، وهكذا روي هذا الحديث أيضًا عن الزهري موقوف، ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى بن أيوب. وكذا قال أبو داود: أوقفه معمر والزبيدي. كما ذكرناه الآن، وقال الدارقطني: أقام إسناده ورفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الأثبات. قلت: اضطرب إسناده اضطرابًا شديدًا، والذين وقفوه أجلُّ وأكثر من عبد الله بن أبي بكر، ولهذا قال الترمذي: وقد روي عن ابن عمر قوله، وهو أصح. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن أبي بكر ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): حدثنا حسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة، نا عبد الله ابن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن حفصة، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 108 رقم 730). (¬2) "المجتبى" (4/ 196 رقم 2333). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 287 رقم 26500).

الثالث: عن محمَّد بن حميد بن هشام الرعيني، عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله، عن حفصة، عن النبي - عليه السلام - قال: "مَن لم يبيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له". وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): عن سعيد بن شرحبيل، عن ليث بن سعد، عن يحيى بن أيوب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد القطواني، عن إسحاق بن حازم، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن سالم، عن بن عمر، عن حفصة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل". قوله: "مَن لم يبيِّت الصيام" أي: مَن لم يَنْوِهِ من الليل، يقال: بيَّت فلان رأيه إذا فكر فيه وخمره، وكل ما فكر فيه بليل ودُبِّر بليل فقد بُيِّت، ومنه الحديث الآخر: "هذا أمر بُيِّت بليل" (¬4). قوله: "مَن لم يُجْمِع" من الإجماع، وهو إحكام النية والقربة، يقال: أجمعت الرأي، وأزمعته وعزمت عليه بمعنى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 196 رقم 2332). (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 12 رقم 1698). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 542 رقم 1700). (¬4) قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 440 رقم 2875): قال النجم: وقع في كلام أبي جهل في قصة الصحيفة ثم سار مثلًا، أو كان مثلًا فجرى على لسان أبي جهل.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا لم ينوِ الدخول في الصيام قبل طلوع الفجر لم يجزه أن يصوم يومه ذلك بنية تحدث له بعد ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وأبا سليمان ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق والظاهرية، فإنهم قالوا: لا يجوز صوم رمضان إلا بنية من الليل، واحتجوا في ذلك بحديث حفصة المذكور. وقال الترمذي: معنى الحديث عند بعض أهل العلم: لا صيام لمن [لم] (¬1) يجمع الصيام قبل طلوع الفجر في رمضان أو في قضاء رمضان أو في صيام نذر، إذا لم ينوه من الليل لم يجزه، وأما صيام التطوع فمباح له أن ينويه بعد ما أصبح وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يجوز صوم التطوع أيضًا إلا بنية من الليل، ولا صوم قضاء رمضان أو الكفارات إلا كذلك، لعموم النصوص. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: هذا الحديث لا يرفعه الحفاظ الذين يروونه عن ابن شهاب، ويختلفون عنه فيه اختلافًا يجب اضطراب الحديث بما هو دونه، ولكن مع ذلك نثبته ونجعله على خاصٍّ من الصوم وهو صوم الفرض الذي ليس في أيام بعينها، مثل الصوم في الكفارات، وقضاء رمضان وما أشبه ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد وزفر، فإنهم قالوا: تجوز النية في صوم رمضان والنذر المعين وصوم النفل إلى ما قبل الزوال. قوله: "فقالوا" أي هؤلاء الآخرون: هذا الحديث -أي: حديث حفصة المذكور- لا يرفعه الرواة الحفاظ الذين يروونه عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ويختلفون عنه فيه اختلافًا كثيرًا يؤدي إلى اضطراب هذا الحديث بما دون ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "جامع الترمذي".

هذا الاختلاف، وأراد بالحفاظ مثل: مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد؛ فإن هؤلاء أئمة أثبات رووا هذا الحديث عن الزهري موقوفًا ولم يرفعوه، فهؤلاء هم الحجة عن الزهري، ولهذا قال الترمذي: ولا نعلم أحدًا رفعه إلا يحيى بن أيوب، وبيان اضطراب هذا الحديث في سنده: هو أن عبد الله بن أبي بكر رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي - عليه السلام -. ورواه مالك، عن الزهري، عن عائشة وحفصة. ورواه ابن عيينة عن الزهري عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة ولم يرفعه. ورواه معمر بن راشد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر عن حفصة ولم يرفعه. ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر ولم يذكر لا حفصة ولا غيرها ولا رفعه. ورواه أيضًا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، عن المطلب بن أبي وداعة، عن حفصة ولم يرفعه. ورواه مالك أيضًا، عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكر حفصة ولا رفعه. فهذا كما ترى اختلاف شديد يوجب الاضطراب العظيم. قوله: "ولكن مع ذلك نثبته ... إلى آخره" جواب آخر عن الحديث المذكور يعني: سلمنا أن هذا الحديث ثابت مرفوع سالم عن الاضطراب وغيره، ولكن لا نسلم أنه عام في جميع الصيامات، بل هو محمول على صوم خاصٍّ معين، وهو الصوم المطلق الذي ليس في أيام بعينها كقضاء رمضان وصوم الكفارات والنذور المطلقة. فإن قيل: ما الضرورة الداعية إلى هذا الحمل؟ قلت: لأن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ...} (¬1) إلى قوله: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [187].

{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) يُبيح الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، ثم الأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخر عنه؛ لأن كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرًا بالصوم متراخيًا عن أول النهار والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا صحة للصوم شرعًا بدون النية، فكان أمرًا بالصوم بنيةٍ متأخرة عن أول النهار، وقد أتى به فيخرج عن العهدة. وفيه دلالة أن الإمساك في أول النهار يقع صومًا وُجدت فيه النية أو لم توجد؛ لأن إتمام الشيء يقتضي سابقة وجود بعض منه، فإذا شرطنا النية من الليل بخبر الواحد يكون نسخًا لمطلق الكتاب فلا يجوز ذلك، فحينئذٍ يحمل ذلك على الصيام الخاص المعين وهو الذي ذكرناه؛ لأن مشروع الوقت في هذا يتنوع فيحتاج إلى التعيين بالنية بخلاف شهر رمضان؛ لأن الصوم فيه غير متنوع فلا يحتاج فيه إلى التعيين، وكذلك النذر المعين، وأما صوم التطوع فإنما يجوز بنية من النهار قبل الزوال، فَلِمَا روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال لي رسول الله - عليه السلام - ذات يوم: يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء. قال: فإني صائم ... " الحديث. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما نذكره إن شاء الله تعالى (1)، وهو مروي أيضًا عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي طلحة - رضي الله عنهم -. وإنما لا يجوز التطوع بنية بعد الزوال فلأن الصوم لا يتحرى فرضًا أو نفلًا ويصير صائمًا من أول النهار بالنية الموجودة، وقت الركن وهو الإمساك وقت الغداة المتعارف، فإذا نوى بعد الزوال قد خلا بعض الركن عن الشرط، فلا يصير صائمًا شرعًا. وجواب آخر عن حديث حفصة أنه محمول على نفي الفضيلة والكمال كما في قوله - عليه السلام -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، ونحن نقول أيضًا أن الأفضل في ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله تعالى، قريبا.

الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكن ذلك أو في الليل؛ لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء العبادة حقيقةً، ومن الليل تقارنه تقديرًا. ص: وأما ما ذكرنا من رواية الحفاظ لهذا الحديث عن الزهري، ومن اختلافهم عنه فيه فإن ابن مرزوق، حدثنا قال: حدثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عائشة وحفصة، بذلك الذي ذكرناه في أول هذا الباب. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوح، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة أم المؤمنين، بذلك ولم يرفعه. حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن حفصة، بذلك ولم يرفعه. فهذا مالك ومعمر وابن عيينة وهم الحجة عن الزهري قد اختلفوا في إسناد هذا الحديث كما ذكرنا. وقد رواه أيضًا عن الزهري غير هؤلاء على خلاف ما رواه عبد الله بن أبي بكر أيضًا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، حدثه عن سالم، عن أبيه. ولم يذكر حفصة ولم يرفعه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوح، قال: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، عن المطلب بن أبي وداعة، عن حفصة بذلك، ولم يرفعه. ثم قد رواه نافع أيضًا عن ابن عمر فلم يرفعه: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، بذلك ولم يذكر حفصة ولم يرفعه.

حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مثله. فهذا هو أصل هذا الحديث. ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف الحفاظ في رواياتهم عن الزهري في هذا الحديث. وأخرجه من سبعة أوجه: الأول: الذي أخرجه يونس بن عبد الأعلى في أول الباب من حديث الزهري عن حفصة مرفوعًا. أخرجه مالك عن الزهري عنها وعن عائشة موقوفًا. رواه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1) فقال يحيى بن يحيى: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عائشة وحفصة -زوجتي النبي - عليه السلام -- أنهما قالتا: "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن حفصة أم المؤمنين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن حفصة أنها قالت: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر". الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن حسين بن مهدي البصري شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن حفصة موقوفًا عليها. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 288 رقم 633). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 292 رقم 9112).

وأخرجه عبد الرزاق في "مسنده" (¬1). فهؤلاء الأئمة الثلاثة وهم: مالك، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، وهم الحجة عن الزهري قد اختلفوا في إسناد هذا الحديث كما تراه. وقد روى هذا الحديث أيضًا عن الزهري غير هؤلاء الثلاثة على خلاف ما رواه عن الزهري عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم مرفوعًا، وبيَّن ذلك بطريقين: أحدهما هو الوجه الرابع: الذي أخرجه عن أبي بكرة، عن روح بن عبادة، عن صالح بن أبي الأخضر اليمامي مولى هشام بن عبد الملك، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وعن البخاري: ليِّن. وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. روى له الأربعة. وهو يروي عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر. ولم يذكر حفصة ولا رفعه. والآخر وهو الوجه الخامس: أخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد بن سعيد الكندي الصحابي، عن المطلب بن أبي وداعة الحارث بن صُبَيْرة الصحابي، عن حفصة أم المؤمنين موقوفًا عليها. قوله: "ثم قد رواه نافع أيضًا" أي ثم قد روى هذا الحديث نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر فلم يرفعه. وأخرجه من طريقين: أحدهما: هو الوجه السادس: عن أبي بكرة، عن روح بن عبادة، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر موقوفًا عليه. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وليس في "المصنف".

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر". والآخر: وهو الوجه السابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني شيخ الشافعي، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا عليه. قوله: "فهذا هو أصل هذا الحديث" أي: هذا الذي ذكرناه من الوجوه التي فيها اختلاف الرواة أصل هذا الحديث. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا في إباحة الدخول في الصيام بعد دخول الفجر. حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق وعلي بن شيبة، قالوا: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلبة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: "كان نبي الله - عليه السلام - يحب طعامًا، فجاء يومًا فقال: عندكم من ذلك الطعام؟ فقلت: لا. فقال: إني صائم". حدثنا علي، قال: ثنا رَوْح، قال: أنا الثوري، عن طلحة ... فذكر بإسناده مثله. فذلك عندنا على خاصٍّ من الصوم أيضًا، وهو التطوع ينويه الرجل بعد ما يصبح في صدر النهار الأول. ش: أخرج هذا الحديث شاهدًا لما قاله أهل المقالة الثانية من جواز الدخول في الصيام بعد دخول الفجر، ولكنه محمول على خاص من الصوم وهو التطوع يَنويه الرجل في أول النهارة وذلك لأنه - عليه السلام - لما قالت له عائشة: ليس عندنا طعام حين سألها الطعام قال: إني صائم، وذلك كان في أول النهار، فدل هذا على أن النية في صوم التطوع يجوز من النهار ما لم تزل الشمس؛ وذلك لأنه توجد النية وقت الركن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 288 رقم 633).

وهو الإمساك وقت الغداة المتعارف، ولهذا لا يجوز إذا نوى بعد الزوال لخلو بعض الركن عن الشرط. فإن قيل: كيف يكون هذا شاهدًا لما قاله أهل المقالة الثانية والنزاع في النية المتأخرة في صوم رمضان، وهذا في التطوع؟!. قلت: صوم رمضان ها هنا كالتطوع؛ لتعين الوقت فيه للصوم الفرض بخلاف النذر المطلق، وقضاء رمضان، وصوم الكفارات كما ذكرناه. ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار وابن مرزوق وعلى بن شيبة، ثلاثتهم عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله القرشي المدني نزيل الكوفة روى له الجماعة سوى البخاري، عن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله القرشية المدنية عمة طلحة بن يحيى المذكور، روى لها الجماعة، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن زياد، ثنا العباس بن محمَّد وأبو أمية، قالا: ثنا رَوْح بن عبادة، ثنا شعبة ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن سفيان الثوري، عن طلحة ... إلى آخره. وأخرجه الجماعة غير البخاري: فقال مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: "دخل عليَّ رسول الله - عليه السلام - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذًا صائم. ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حَيسٌ. فقال: أدنيه فلقد أصبحت صائمًا، فأكل". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 175 رقم 17). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 809 رقم 1154).

وقال أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - إذا دخل عليَّ قال: هل عندكم طعام؟ فإذا قلنا لا قال: إني صائم". وقال الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: "دخل عليَّ رسول الله - عليه السلام - يومًا فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلت: لا، قال: فإني صائم". وقال النسائي (¬3): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع، قال: أنا طلحة بن يحيى ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬4) من وجوه كثيرة. وقال ابن ماجه (¬5): ثنا إسماعيل بن موسى، ثنا شريك، عن طلحة بن يحيى، عن مجاهد، عن عائشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله - عليه السلام - فقال: هل عندكم شيء؟ فنقول: لا، فيقول: إني صائم، فيقيم على صومه ثم يُهدى لنا شيء فيفطر ... " الحديث. قوله: "كان يحب طعامًا ... " أي: طعامًا من الأطعمة، أراد به نوعًا خاصًّا منها، والظاهر أنه كان حيسًا، وهو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق. وهذا الحديث حجة على الظاهرية في منعهم ذلك إلا بنية من الليل. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 329 رقم 2455). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 111 رقم 733). (¬3) "المجتبى" (4/ 195 رقم 2327). (¬4) انظر "المجتبى" (4/ 193 - 195 رقم 2322: 2330)، وفي إحدى رواياته رقم [2326]: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها وهو صائم فقال: هل عندكم شيء تطعمينيه". وهذا الحديث هو عمدة الباب، وفيه أنه كان مجمع الصيام قبل أن يأتيها. (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 543 رقم 1701).

وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل، وهو قول مالك وأبي سليمان. قلت: مذهب الجمهور جواز ذلك ما لم ينتصف النهار، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأنس، وأبي طلحة، وأبي أيوب، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وابن مسعود - رضي الله عنهم -. وهو قول جماعة من التابعين أيضًا منهم: سعيد بن المسيب وعطاء الخراساني، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد والنخعي، والشعبي، والحسن البصري. وأما نية صوم التطوع بعد الزوال فغير جائزة عند أصحابنا، وقال سفيان الثوري وأحمد بن حنبل: مَن أصبح وهو ينوي الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولم يطأ؛ فله أن ينوي الصوم ما لم تغلب الشمس ويصح صومه. وروي نحو ذلك عن حذيفة أنه قال: "مَن بدا له في الصيام بعد أن تزول الشمس فليصم". ويروى ذلك عن عطاء، وسعيد بن المسيب. ص: وقد عمل بذلك جماعة من أصحاب رسول - عليه السلام - من بعده. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وروح، قالا: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "إذا أصبح أحدكم ثم أراد الصوم بعد ما أصبح فإنه بأحد النظرين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "متى أصبحت يومًا فأنت على أحد النظرين ما لم تطعم أو تشرب، فصم وإن شئت فأفطر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي - رضي الله عنه - مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن: "أن حذيفة - رضي الله عنه - بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس، فصام". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن المستورد -رجل من بني أسد- عن رجلٍ منهم: "أنه لزم غريمًا له فأتى ابن مسعود فقال: إني لزمت غريمًا لي من مراد إلى قريب الظهر، ولم أصم ولم أفطر فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: قال رجل لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إني تسحرت ثم بدا لي أن أفطر؟ قال لي: إن شئت فأفطر؛ كان أبو طلحة يجيء فيقول: هل عندكم من طعام؟ فإن قالوا لا. قال: إني صائم". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، قال: ثنا محمَّد بن يزيد الرحبي، عن سهم بن حُبيش -ولم يكن بقي ممن شهد قتل عثمان - رضي الله عنه - غيره-: "أن عثمان أصبح في اليوم الذي قتل فيه فقال: إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - أتياني في هذه الليلة، فقالا لي: يا عثمان إنك مفطر عندنا الليلة، وإني أشهدكم أني قد أوجبت الصيام". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أنه كان يصبح حتى يظهر ثم يقول: والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا". حدثثا علي بن شيبة، قال: روح، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "أن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى فيقول: هل عندكم غداء؟ فإن قالوا: لا، صام ذلك اليوم".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا الفيض، قال: سمعت عبد الله بن سيار الدمشقي قال: "ساوم أبو الدرداء رجلًا بفرس، فحلف الرجل لا يبيعه، فلما مضى قال: تعالْ، إني أكره أن أؤثمك، إني لم أعُدْ اليوم مريضًا، ولم أطعم مسكينًا، ولم أصل الضحى، ولكن بقية يومي صائم". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدثتنا أم الدرداء: "أن أبا الدرداء كان يجيء فيقول: هل عندكم من طعام؟ فإن قالوا: لا، قال: إني صائم". حدثنا علي، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الله بن أبي عتبة: "أن أبا أيوب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك أيضًا". حدثنا علي، قال: ثنا روح، عن ابن جريج قال: "زعم عطاء أنه كان يفعل ذلك". ش: أي: قد عمل بما ذكرنا من فعل صوم التطوع بنية من أول النهار جماعة من الصحابة من بعد النبي - عليه السلام -، وأخرج في ذلك عن ثمانية من الصحابة وهم: عبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو طلحة، وعثمان ابن عفان، وعبد الله بن عباس، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنهم -. وواحد من التابعين وهو عطاء بن أبي رباح. أما أثر ابن مسعود فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وروح بن عبادة، كلاهما عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود. وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. قوله: "فإنه بأحد النظرين" أراد أنه يخيَّر بين الأمرين إن شاء صام تطوعًا، وإن شاء أفطر.

الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: "أحدكم بأحد النظرين ما لم يأكل أو يشرب". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن المستورد بن الأحنف روى له الجماعة سوى البخاري ... إلى آخره. وفيه مجهول. وبنو أسد ومراد قبيلتان. وأما أثر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فأخرجه عن أبي بكرة، عن أبي داود سليمان ابن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن الحارث الأعور فيه مقال، قال ابن المديني: الحارث كذاب. وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: "إذا أصبحت وأنت تريد الصوم فأنت بالخيار، إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت إلا أن تفرض على نفسك الصوم من الليل". وأما أثر حذيفة - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن سعد بن عبيدة السلمي أبي حمزة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 289 رقم 9084). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 289 رقم 9083).

الكوفي ختن أبي عبد الرحمن السلمي على ابنته روى له الجماعة، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن الأعمش، عن طلحة، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن: "أن حذيفة بدا له في الصوم بعد ما زالت الشمس فصام". وقد تعلق به جماعة منهم سفيان وأحمد بن حنبل على جواز ذلك إلى آخر النهار، وقد ذكرناه. وأما أثر أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية اليشكري البصري ثم الواسطي روى له الجماعة. وأخرج ابن حزم في "المحلى": (¬2) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وعبد الله بن أبي عتبة، قال ثابت: عن أنس بن مالك: "أن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى فيقول: [هل] (¬3) عندكم غداء؟ قالوا: لا، قال: فأنا صائم". الثاني: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا الثقفي ويزيد، عن حميد، عن أنس: "أن أبا طلحة كان يأتي أهله فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قالوا: لا، قال: فإني صائم. زاد الثقفي: إن كان عندهم أفطر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 290 رقم 9091). (¬2) "المحلى" (6/ 170). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من كتاب "المحلى" (6/ 170). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 291 رقم 9107).

وأما أثر عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: فأخرجه عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن عبد الله بن يوسف [التنيسي] (¬1) شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش بن سُليم الشامي ثقة فيما روى عن الشاميين وأغرب عن الحجازيين، روى له الأربعة، عن محمَّد بن يزيد الرحبي الدمشقي -قال الذهبي: لم أر لهم فيه كلامًا- عن سهم بن حُبَيْش -بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة- ويقال: خنيس -بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة- كذا ذكر ابن عساكر في ترجمته، وروى من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون، حدثني محمَّد بن يزيد الرحبي، حدثني رجل من الأزد يكنى أبا حُبَيش لقيه بدير سمعان ولم يكن بقي ممن شهد قتل عثمان غيره، فساق عنه قصة مقتل عثمان مطولة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عثمان - رضي الله عنه - أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي - عليه السلام - الليلة في المنام، فقال: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائمًا وقتل من يومه". وأما أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي الشامي شيخ البخاري، ونسبته إلى وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك. عن سليمان بن بلال القرشي المدني روى له الجماعة، عن عمرو بن أبي عمرو ميسرة المدني روى له الجماعة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرج ابن حزم في "المحلى" (¬3): من طريق طاوس، عن ابن عباس. ومن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الفريابي"، وهو وهم تكرر من المؤلف مرارا وقد نبهنا عليه قريبا. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 181 رقم 30511). (¬3) "المحلى" (6/ 171).

طريق سعد بن عبيدة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قالا جميعا: "الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار". وأما أثر أبي الدرداء -واسمه عويمر بن مالك- فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي الفيض موسى بن أيوب -وقيل: ابن أبي أيوب- المهري الشامي الحمصي وثقه يحيى والعجلي، وقال أبو حاتم: صالح. وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. عن عبد الله بن سَيَّار -بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- الدمشقي لم أرَ لأحد فيه كلامًا. قوله: "ساوم" من المساومة وهي المجاذبة بين الباع والمشتري على السلعة وفصل ثمنها، يقال: سَام يَسُوم سَوْمًا وسَام واسْتَام. قوله: "أن أؤثمك" من الإيثام وهو أن يوقعه في الإثم. قوله: "لم أعُد اليوم مريضًا" من عاد المريض يعوده عيادةً: إذا زاره وسأله عن حاله. والثاني: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أم الدرداء زوج أبي الدرداء، واسمها هجيمة -ويقال: جهيمة- بنت حيي الوصابية كانت من العابدات، روى لها الجماعة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أم الدرداء قالت: "كان أبو الدرداء يغدو أحيانًا فيجيء فيسأل الغداء، فربما لم يوافقه عندنا، فيقول: إني إذًا صائم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 292 رقم 9109).

وأما أثر أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن يزيد - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن عبد الله بن أبي عتبة الأنصاري البصري مولى أنس بن مالك، روى له البخاري ومسلم وابن ماجه. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني وعبد الله بن أبي عتبة -قال ثابت-: عن أنس بن مالك: "أن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى، فيقول: عندكم غداء؟ فإن قالوا: لا. قال: فأنا صائم". وقال ابن أبي عتبة: عن أبي أيوب الأنصاري، بمثل فعل أبي طلحة. وأما أثر عطاء بن أبي رباح: فأخرجه عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2) مُطولا: عن ابن جريج ومعمر، قال ابن جريج: أخبرني عطاء، وقال معمر: عن الزهري وأيوب السختياني، قال الزهري: عن أبي إدريس الخولاني، وقال أيوب: عن أبي قلابة، ثم اتفق عطاء وأبو إدريس وأبو قلابة، كلهم عن أم الدرداء: "أن أبا الدرداء كان إذا أصبح يسأل أهله الغداء، فإن لم يكن قال: إنا صائمون". وقال عطاء في حديثه (¬3): "إن أبا الدرداء كان يأتي أهله حين ينتصف النهار فيقول: هل من غداء؟ فيجده أو لا يجده، فيقول: لَأُتِمَّنَّ صوم هذا اليوم. قال عطاء: وأنا أفعله". ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 170). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 272 رقم 7774). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 273 رقم 7776).

ص: فهذا الصيام الذي تجزئ فيه النية بعد طلوع الفجر -الذي جاء فيه الحديث الذي ذكرنا عن رسول الله - عليه السلام -، وعمل به مَن ذكرنا من أصحابه - رضي الله عنهم - من بعده-: هو صوم التطوع. ش: أي: هذا الصوم الذي تجوز النية فيه بعد طلوع الفجر الذي جاء فيه الحديث المرفوع، وهو الذي رواه عن عائشة أم المؤمنين، وهو الذي سبق ذكره عن قريب، وعمل به هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم ما روي عنهم، هو صوم التطوع وكذلك صوم رمضان لتعينه بالوقت، على ما يجيء بيانه عن قريب. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا أنه أمر الناس يوم عاشوراء بعد ما أصبحوا أن يصوموا، وهو حينئذٍ عليهم صومه فرضٌ كما صار صوم رمضان من بعد ذلك على الناس فرضًا، ورُويت عنه في ذلك آثارٌ سنذكرها في باب: "صوم يوم عاشوراء" فيما بعد هذا الباب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ش: لما قال فيما مضى: قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في إباحة الدخول في الصيام بعد دخول الفجر. ثم بيَّن الآثار المذكورة فيه، ثم قال: هذا على خاصّ في الصوم وهو التطوع، بيَّن أيضًا أن صوم رمضان مثله، واستدل عليه بما روي عن النبي - عليه السلام - أنه أمر الناس يوم عاشوراء بالصوم بعد أن أصبحوا، والحال أنه كان فرضًا عليهم وقتئذٍ، ثم نسخ فرضه بفرض رمضان، ولما كان صوم يوم عاشوراء حين كان فرضًا جائزًا بنية من أول النهار، كان كذلك صوم رمضان جائزًا بنية من أول النهار. فإن قيل: لم لا نقيس عليه الصوم المنذور المطلق، وقضاء رمضان، وصوم الكفارات؟ قلت: لا يجوز ذلك لعدم تعيين الزمان فيها، بخلاف صوم رمضان فإنه مُعيَّن في وقت كما كان صوم يوم عاشوراء حين كان فرضًا كان معينًا في وقت. ص: فلما جاءت هذه الآثار عن رسول - عليه السلام - على ما ذكرنا؛ لم يجز أن يُجعل بعضها مخالفًا لبعض فتتنافى ويدفع بعضها بعضًا ما وجدنا السبيل إلى تصحيحها وتخريج

وجوهها، فكان حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكرناه عنها في هذا الباب في الصوم التطوع، فكذلك وجهه عندنا، وكان ما روي في عاشوراء في الصوم المفروض في اليوم الذي بعينه حكم الصوم المفروض في اليوم بعينه في ذلك اليوم جائز أن يعقد له النية بعد طلوع الفجر، ومن ذلك شهر رمضان، فهو فرض في أيام بعينها كيوم عاشوراء، إذ كان فرضًا في يوم بعينه، فكما كان يوم عاشوراء يجزيء مَن نوى صوم يومه بعد ما أصبح، فكذلك شهر رمضان يجزئ مَن نوى صوم يوم منه صومه ذلك. وبقي بعد هذا ما روينا في حديث حفصة عن النبي - عليه السلام -، فهو عندنا في الصوم الذي هو خلاف هذين الصومين من صوم الكفارات وقضاء شهر رمضان، حتى لا يضادّ ذلك شيئًا -مما ذكرنا في هذا الباب- غيره. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها في هذا الباب، وأراد بقوله على ما ذكرنا أن ببعضها احتجت أهل المقالة الأولى، وببعضها أهل المقالة الثانية، فيكون ما تحتج به إحدى الطائفتين مخالفًا للأخرى بحسب الظاهر، ولكنه منع ذلك بقوله: لم يجز أن يجعل بعضها -أي بعض هذه الآثار- مخالفًا لبعض -فتتنافى ويدفع بعضها بعضًا، فقوله: تتنافى ويدفع كلاهما تنازعا في قوله بعضها. قوله: "ما وجدنا السبيل" أي: مدة وجداننا الطريق إلى تصحيح الآثار وتخريج وجوهها على وجه لا يقع فيها منافاة وتخالف، ثم شرع في بيان ذلك بقوله: فكان حديث عائشة ... إلى آخره. بيان ذلك: أن ها هنا ثلاثة أحاديث: الأول: حديث عائشة وهو وارد في صوم التطوع بلا شك، وحكمه جواز التطوع بنية في أول النهار، وهو معنى قوله: فذلك وجهه عندنا. والثاني: الحديث الذي ورد في صوم يوم عاشوراء لما كان فرضًا، فحكمه جواز الصوم المفروض في يوم معيَّن بنية في أول النهار فلحق به صوم رمضان أيضًا؛ لأنه مفروض في أيام معينة، أشار إليه بقوله: ومن ذلك شهر رمضان ... إلى آخره.

الثالث: حديث حفصة المذكور في أول الباب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فإنه محمول على صوم غير الصومين المذكورين، وهما: الصوم التطوع، والصوم المفروض في وقت معيَّن، وهو صوم قضاء رمضان وصوم الكفارات والصوم المنذور بلا تعيين يوم. فبهذا التصحيح والتخريج ارتفع أن يضاد بعضها بعضًا؛ لأن في مثل هذا إعمالًا بالدلائل كلها، وفيما ذهب إليه المخالف إهمال لبعضها، وإعمال كلها أول، من إعمال البعض وإهمال البعض. ص: ويكون حكم النية التي يدخل بها في الصوم على ثلاثة أوجه: فما كان منه فرضًا في يوم بعينه كانت تلك النية مجزئة قبل دخول ذلك اليوم في الليل، وفي ذلك اليوم أيضًا. وما كان منه فرضًا لا في يوم بعينه كانت النية التي يُدخل بها فيه في الليلة التي قبله ولم يُجز بعد دخول اليوم. وما كان منه تطوعًا كانت النية التي يُدخل بها فيه في الليل الذي قبله وفي النهار الذي بعد ذلك. فهذا هو الوجه الذي تخرج عليه الآثار التي ذكرنا ولا تتضاد. فهو أولى ما حملت عليه، وإلى ذلك كان يذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمدٌ رحمهم الله، إلا أنهم كانوا يقولون: ما كان منه تجزئ النية فيه بعد طلوع الفجر مما ذكرنا فإنها تجزئ في صدر النهار الأول، ولا تجزى فيما بعد ذلك. ش: لما كانت أحاديث هذا الباب على ثلاثة أنواع، صارت نية الصوم أيضًا ثلاثة أنواع: الأول: النية التي توجد في الصوم المفروض في يوم معين، فإنها تجوز في ليل ذلك اليوم، وتجوز في اليوم أيضًا، وهو معنى قوله: "فما كان منه فرضًا في يوم بعينه ... " إلى آخره.

الثاني: النية التي توجد في الصوم المفروض لا في يوم معيَّن فإنها لا تجوز إلا في الليل، وهو معنى قوله: "وما كان منه فرضا لا في يوم بعينه ... " إلى آخره. الثالث: النية التي تجوز في الليل والنهار، وهو معنى قوله: "وما كان تطوعًا ... " إلى آخره. قوله: "وإلى ذلك" أي: إلى هذا التخريج والتقسيم يذهب أبو حنيفة وصاحباه. قوله: "إلا أنهم ... إلى آخره" إشارة إلى أن أبا حنيفة وصاحبيه وإن كانوا جوزوا صوم التطوع بنية من النهار، ولكن قيدوا ذلك بأن يكون إلى ما قبل الزوال، حتى لو نوى بعد الزوال لا يجوز، وقد ذكرنا الفرق فيه فيما مضى، والله أعلم.

ص: باب: معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة".

ص: باب: معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة". ش: أي: هذا باب في بيان معنى قوله - عليه السلام -: "شهرا عيدٍ لا ينقصان". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق وعليّ بن معبد، قالا: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حماد، عن سالم أبي عبيد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن النبي - عليه السلام - قال: "شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: عثمان بن عمر بن فارس، قال: ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان صحيحان ورجالهما ثقات. وحماد هو ابن سلمة، وسالم هو ابن سالم وكنيته أبو عبيد الله، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وأبو بكرة نُفيع بن الحارث الثقفي الصحابي. والحديث أخرجه الجماعة إلا النسائي: فقال البخاري (¬1): ثنا مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال. وحدثني مسدد، قال: نا معتمر، عن خالد الحذاء، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "شهران لا ينقصان شهرا عيد: رمضان وذو الحجة". وقال مسلم (¬2): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا يزيد بن زُريع، عن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 675 رقم 1813). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 766 رقم 1089).

وقال أبو داود (¬1): نا مسدد، أن يزيد بن زريع حدثه، عن خالد الحذَّاء، عن عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬2): ثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، قال: نا بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. قال أبو عيسى: حديث أبي بكرة حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن النبي - عليه السلام - مرسل. وقال ابن ماجه (¬3): ثنا حُميد بن مسعدة، نا يزيد بن زريع، نا خالد الحذَّاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ... إلى آخره نحوه. قوله: "شهرا عيد" كلام إضافي مبتدأ، وخبره: "لا ينقصان". قوله: "رمضان" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدهما: رمضان، أي: شهر رمضان، والآخر: شهر ذي الحجة، ورمضان في الأصل مصدر "رمِض" إذا احترق من الرمضاء، وهو شدة الحر، وسمي هذا الشهر الذي بين شعبان وشوال بهذا الاسم لارتماضهم فيه من حرِّ الجوع ومقاساة شدته، وقيل: لما نقلوا أسماء المشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وكان اسم شهر رمضان في اللغة القديمة ناتقًا؛ سموه به لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم اضجارًا بشدته عليهم، قال ابن الأعرابي: رمضان هو ناتق، والجمع نواتق، وأنشد: وفي ناتق أَحلَّت لدى حَوْمة الوغى ... وَدَلَّت على الإدْنَاءِ فرسانُ خَثْعَما (¬4) ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 297 رقم 2323). (¬2) "سنن الترمذي" (3/ 75 رقم 692). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 531 رقم 1659). (¬4) كذا وقع هذا البيت في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب"، (مادة: نتق)، وفي كتاب "الأزمنة والأمكنة" للمرزوقي (1/ 568): وفي ناتِق أَجْلَتْ لدى حَوْمَةِ الوغى ... وَوَلَّتْ عَلى الأدبارِ فُرسَانُ خَثْعَمَا.

وذلك كما كان اسم شوال: عاندًا وعاذلا، وكان اسم ذي القعدة: هُوَاعًا، والجمع أَهْوعة، وإن شئت هُوَاعات، وكان اسم ذي الحجة: بُرَكًا، والجمع: بركات، وكان اسم المحرم: موتمرًا بهمز وبغير همز، والجمع مآمر ومآمير، وكان اسم صفر: ناجزًا، والجمع نواجز، وكان اسم ربيع الأول: خوانًا، والجمع: أخونة، وكان اسم ربيع الآخر: وبَصَانًا بالتخفيف، والجمع وَبَصَانات، وكان اسم جمادى الأولى: حنينًا والجمع حناين وأحنة وحنن، وكان اسم جمادى الآخرة: ورنة، والجمع: ورْنات، ويقال: رُنَة -بالضم-، وكان اسم رجب: الأصم، والجمع: صُمم، وكان يقال له أيضًا: مُفصل الأسنة، أي مُسقطها؛ لأنه شهر حرام، وكان اسم شعبان: وعلًا، وجمعه: أَوْعال، ويقال: وُعلان، ويقال: كان اسمه العجلان ويقال: عادل. ثم إن رمضان منع الصرف للتعريف والألف والنون، ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة، قاله الفراء، وعن الفراء أيضًا يقال: هذا شهر رمضان، وهذا رمضان بلا شهر؛ قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬1)، وفي الحديث: "مَن صام رمضان" (¬2)، ومنهم مَن منع أن يقال: رمضان بلا شهر، وكذا منعوه أن يجمع؛ لأنه اسم من أسماء الله تعالى، والحديث يرد عليه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أن هذين الشهرين لا ينقصان، فتكلم الناس في معنى ذلك، فقال قوم: لا ينقصان: أي لا يجتمع نقصانهما في عام واحد، وقد يجوز أن ينقص أحدهما، وهذا قول قد دفعه العِيان؛ لأنا وجدناهما ينقصان في أعوام، وقد يجمع ذلك في [كل] (¬3) واحد منهما، فدفع ذلك قوم بهذا وبحديث النبي - عليه السلام - الذي ذكرناه في غير هذا الموضع أنه قال في شهر رمضان: "فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين"، وبقوله: "إن الشهر ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [185]. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 709 رقم 1910). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قد يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين"، فأخبر أن ذلك جائز في كل شهر من المشهور، وسنذكر ذلك بإسناده في موضعه من كتابنا إن شاء الله تعالى. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أهل الحديث منهم: أحمد بن حنبل، فإنهم قالوا: معنى قوله: "لا ينقصان" لا يجتمع نقصانهما في عام واحد، يعني لا ينقصان معًا في سنة واحدة، بل إن نقص أحدهما يتم الآخر البتة، وزيف الطحاوي هذا القول بقوله: وهذا قول قد دفعه العيان، أي المشاهدة وهو أنا قد وجدنا الشهرين المذكورين ينقصان معًا في عام واحد. قوله: "فدفع ذلك قوم بهذا ... " إلى آخره، إشارة إلى أن طائفة من العلماء دفعوا هذا القول بشئين: أحدهما: هو ما ذكره. والثاني: بحديث النبي - عليه السلام - وهو قوله: "فإن غمَّ عليكم فعدوا ثلاثين" (¬1)، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقوله - عليه السلام -: "إن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين وقد يكون ثلاثين" (¬2)، رواه أبو هريرة، وسيجيء بيان هذه الأحاديث في كتاب الإيمان إن شاء الله تعالى. ص: وذهب آخرون إلى تصحيح هذه الآثار كلها، وقالوا: أما قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" فإن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين وقد يكون ثلاثين، فذلك كله كما قال، وهو موجود في الشهور كلها. وأما قوله: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" فليس ذلك عندنا على نقصان العدد، ولكنهما فيهما ما ليس في غيرهما من المشهور، في أحدهما الصيام، وفي الآخر الحج، فأخبرهم رسول الله - عليه السلام - أنهما لا ينقصان وإن كانا تسعًا وعشرين، وهما شهران كاملان كانا ثلاثين ثلاثين أو تسعًا وعشرين تسعًا وعشرين؛ ليعلم ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن عمر، البخاري (2/ 672 رقم 1801)، ومسلم (2/ 759 رقم 1080). (¬2) البخاري (3/ 207 رقم 1921) من حديث عمر بن الخطاب.

بذلك أن الأحكام فيهما -وإن كانا تسعًا وعشرين تسعًا وعشرين- متكاملة فيهما غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين ثلاثين، فهذا وجه تصحيح هذه الآثار التي ذكرناها في هذا الباب. ش: أي ذهب جماعة آخرون من أهل الحديث منهم إسحاق، وأراد بهذه الآثار: حديث أبي بكرة المذكور، وحديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة، ولما كان بينهما تعارض بحسب الظاهر وفقوا بينهما، وقالوا: أما قوله: "صوموا لرؤيته ... " الحديث، فإن الأمر فيه كما قال، فإن كل شهر من شهور السنة قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين. وأما قوله: "شهرا عيد لا ينقصان" فليس معناه على نقصان العدد؛ لأنه واقع بالمشاهدة في جميع المشهور -كما قلنا- بالعيان وبالأحاديث المذكورة، ولكن معناه: أنهما كاملان تامان في حكم العبادة سواء كانا ثلاثين ثلاثين أو تسعًا وعشرين تسعًا وعشرين، وأصل ذلك: أن الناس لما كثر اختلافهم في هذين الشهرين لأجل عيدهم وصومهم وحجهم؛ أعلمهم النبي - عليه السلام - أن هذين الشهرين وإن نقصت أعدادهما فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة؛ لئلا يقع في القلوب شك إذا صاموا تسعًا وعشرين يومًا أو وقع في وقوفهم خطأ في الحج، فبيَّن أن الحكم كامل، وأن الثواب تامٌّ وإن نقص العدد. والدليل على ذلك ما أخرجه الطبراني (¬1): من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شهر حرام لا ينقص ثلاثين يومًا وثلاثين ليلة". ورجال إسناده ثقات. وقال بعضهم: معناه لا يجتمعان في النقص في الغالب فيكون هذا مخرجًا على الغالب. ¬

_ (¬1) الطبراني في "الكبير" انظر "مجمع الزوائد" (3/ 147).

وقال قوم منهم أبو بكر بن فورك: إن الإشارة بهذا كانت إلى سنة معلومة. وقال قوم منهم الخطابي: أراد بهذا تفضيل العمل في عشر ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. وقال قوم: لا يمكن أن يحمل هذا إلا على الثواب، أي: للعامل فيهما ثلاثين يومًا وليلة في الصلاة والصيام ونحوهما. فهذه ستة أقوال قد ذكر الطحاوي منها قولين وزيَّف أحدهما كما بيَّناه، والله أعلم بالصواب.

ص: باب: الحكم فيمن جامع أهله في رمضان متعمدا

ص: باب: الحكم فيمن جامع أهله في رمضان متعمدًا ش: أي: هذا باب في بيان حكم مَن وطئ امرأته في نهار رمضان عامدًا بذلك. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عبَّاد ابن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنهما -: "أن رجلًا أتى النبي - عليه السلام - فذكر له أنه احترق، فسأله عن أمره؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأتى النبي - عليه السلام - بمكتل يُدعى العَرق فيه تمر فقال: أين المحترق؟ فقام الرجل، فقال: تصدق بهذا". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن مُنير، سمع يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى -وهو ابن سعيد- أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد، عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه سمع عائشة تقول: إن رجلًا أتى النبي - عليه السلام - فقال: إنه احترق، قال: ما لك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتي النبي - عليه السلام - بمكتل يدعى العَرق، فقال: أين المحترق؟ فقال: أين المحترق؟ فقال: أنا، قال: تصدق بهذا". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن رمح بن المهاجر، قال: أخبرنا الليث، عن يحيى ابن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: "جاء رجل إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: احترقت، قال رسول الله - عليه السلام -: لِمِ؟ قال: وطئت امرأتي في رمضان نهارًا، قال: تصدق قال: ما عندي شيء، فأمره أن يجلس، فجاءه عَرقان فيهما طعام، فأمره أن يتصدق به". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 683 رقم 1833). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 783 رقم 1112).

وفي رواية أخرى (¬1) بعد قوله: "تصدق، فقال: والله يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس، فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله - عليه السلام -: أين المحترق آنفًا؟ فقام الرجل، فقال رسول الله - عليه السلام -: تصدق بهذا، فقال: يا رسول الله أغيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: فكلوه". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا سليمان بن داود المهري، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، أن محمَّد بن جعفر بن الزبير حدثه، أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه، أنه سمع عائشة زوج النبي - عليه السلام - تقول: "أتى رجل إلى النبي - عليه السلام - في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله احترقت، فقال النبي - عليه السلام -: ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدق. قال: والله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس، فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله - عليه السلام -: أين المحترق آنفا، فقام الرجل، فقال رسول الله - عليه السلام -: تصدق بهذا فقال: يا رسول الله أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: كلوه". وله في رواية (¬3): "فأتي بعَرق فيه عشرون صاعا". قوله: "أن رجلًا" قيل: هو سَلَمة بن صخر البياضي، وقيل: سليمان بن صخر. قوله: "أنه احترق" أي: هلك، والاحتراق الهلاك، وهو من إحراق النار، شبَّه ما وقع فيه من الجماع في الصوم بالهلاك. قوله: "وقعت على امرأتي" كناية عن وطئها كما في رواية البخاري: "أصبت". قوله: "بِمِكْتَل" المكتل بكسر الميم: الزبيل الكبير، قيل: إنه يسع خمسة عشر صاعًا، كان فيه كتلا من التمر أي قطعًا مجتمعة، ويجمع على مكاتل، وفي "الدستور": ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 783 رقم 1112). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 314 رقم 2394). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 314 رقم 2395).

المكتل: الزنبيل (¬1) الكبير. وقال القاضي: المكتل والقفة والزبيل واحد، وسمي زبيلًا؛ لحمل الزبل فيه، قال ابن دريد: والزبيل بكسر الزاي ويقال: بفتحها وكلاها لغتان، والعرق: بفتح العين والراء، زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عَرَق، وعَرَقة أيضًا بفتح الراء فيهما، قال القاضي: وسمي عرقًا لأنه جمع عرقة وهي الضفيرة الواسعة من الخوص يخاط ويجمع حتى يصير زِبِّيلا، ومن سماه عرقة فلأنه منها، ويجمع أيضًا على عَرَقات، وقد رواه كثير من شيوخنا وغيرهم: عَرْق بإسكان الراء، والصواب رواية الجمهور بالفتح، وقال المنذري: صحح بعضهم سكون الراء، والفتح أشهر. ويستنبط منه أحكام: الأول: استدلت به طائفة على أن الذي جامع امرأته في نهار رمضان لا يجب عليه غير الصدقة على ما يجيء -إن شاء الله تعالى- بيانه. الثاني: استدل قوم بقوله: "بمكتل يدعى العرق" أن الصدقة مدّ لكل مسكين؛ لأن العرق تقديره عندهم خمسة عشر صاعًا، وهو مفسر في الحديث، فتأتي قسمته على ستين مسكينًا الذي أمره النبي - عليه السلام - بإطعامهم مدًّا لكل مسكين. قلت: هذا قول مالك والشافعي وأحمد، وقول أبي حنيفة والثوري: لا يجزئ أقل من نصف صاع، ولا يتم استدلالهم بهذا؛ لأنه جاء في رواية أبي داود فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا، فلا يستقيم التقسيم حينئذ، وجاء في رواية مسلم: "عرقان"، وهو يدل على صحة قول أصحابنا؛ لأن العرق إذا كان خمسة عشر صاعًا يكون العرقان ثلاثين صاعًا، وثلاثون صاعًا على ستين مسكينًا يكون لكل مسكين نصف صاع. الثالث: قول المجامع امرأته: "احترقت"، وفي قوله في الحديث الآخر: "هلكت"، استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لِجماعه دون الناسي، وهو ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" الزنبيل، بنون بعد الزاي، قال الجوهري في "الصحاح": (مادة: زبل): والزَّبيل القفة، فإذا كسرته شددت فقلت: زِبِّيل أو زِنْبِيل.

مشهور قول مالك وأصحابه، وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر وعبد الملك بن ماجشون وابن حبيب وأصحابنا، وروي عن عطاء ومالك إلى إيجابها على الناسي والعامد في الجماع، وحجتهم ترك استفسار النبي - عليه السلام - له، وأن قوله: "وقعت على امرأتي" ظاهره عموم الوقوع في العمد والجهالة والنسيان، إلا أن مالكًا والليث والأوزاعي وعطاء يلزمونه القضاء، وغيرهم لا يلزمه. قلت: التكفير شرع لتمحيص الذنوب، والناسي غير مذنب ولا آثم فلا يلزمه الكفارة، ولأن صومه لا يفسد فلا يجب شيء. الرابع: استدل به الجمهور على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان عامدًا، وإن كانوا اختلفوا في كيفية الكفارة، وقد قال بعضهم: لا كفارة على المجامع أصلا وإن تعمد، واغتروا في ذلك بقوله - عليه السلام - لما أمره أن يتصدق بالعَرَق من التمر وشكى الفاقة: "اذهب فأطعمه أهلك" فدل ذلك عندهم على سقوط الكفارة، ويروى ذلك عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير. والجواب عن ذلك: أن الحديث ليس فيه ما يدل على إسقاط الكفارة جملة، وأنه محمول على أنه أباح له تأخيرها لوقت يُسْرِهِ لا على أنه أسقطها عنه، فافهم. الخامس: استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة؛ إذ لم يذكر له النبي - عليه السلام - حكم المرأة، وهو موضع البيان، والأوزاعي وافقهم إلا إذا كفَّر يالصيام فعليهما جميعًا. وقال أبو حنيفة ومالك أبو ثور: تجب الكفارة على المرأة أيضًا إن طاوعته، قال القاضي: وسوّى الأوزاعي بين المكرهة والطائعة على مذهبه، وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة: يكفر عنها بغير الصوم. وقال سحنون: لا شيء عليها ولا عليه لها، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر، ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة والنائمة إلا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك: أنه لا غسل على الموطوءة نائمة ولا مكرهة ولا شيء عليها إلا أن تلتذ.

قال ابن القصار: فتبين من هذا أنها غير مفطرة، وقال القاضي: وظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلا أن تلتذ ولا على النائمة؛ لأنها كالمحتلمة، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة. واختلف في وجوب الكفارة على المكرِه على الوطء لغيره على هذا. وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم المكرِه عن نفسه ولا على من أكره. وقال صاحب "البدائع": وأما على المرأة فيجب عليها أيضًا الكفارة إذا كانت مطاوعة. وللشافعي قولان: في قولٍ: لا تجب عليها أصلًا. وفي قولٍ: تجب عليها ويتحملها الزوج، انتهى. وأما الجواب عن قولهم: إن النبي - عليه السلام - لم يذكر حكم المرأة وهو موضع البيان. أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها، أو مَن يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر المرض أو السفر أو الطهر من الحيض، فافهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن مَن وقع بأهله في رمضان فعليه أن يتصدق، فلا يجب عليه من الكفارة غير الصدقة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عوف بن مالك الأشجعي ومالكًا في رواية وعبد الله ابن وهب المصري، فإنهم قالوا: مَن وطئ امرأته في نهار رمضان عامدًا، ليس عليه غير الصدقة، واحتجوا في ذلك بظاهر الحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يجب عليه أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستين مسكينًا، أَيُّ ذلك شاء فعل. ش: أيْ: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى ومالكًا وأحمد في رواية، فإنهم قالوا: يجب على مَن جامع امرأته في نهار رمضان عامدًا ككفارة الظهار، ولكنه مخير بين العتق والصوم والإطعام، وهو معنى قوله: أَيُّ ذلك

شاء فعل، إلا أن المشهور عن ابن أبي ليلى أنه مخير في العتق والصيام، فإن لم يقدر على واحد منهما أطعم، وإلى هذا ذهب محمَّد بن جرير الطبري، وقال: لا سبيل إلى الإطعام إلا عند العجز عن العتق والصيام، وهو مخيَّر في العتق والصيام. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلًا أفطر في رمضان في زمن النبي - عليه السلام -، فأمره أن يكفِّر بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا، فقال: لا أجد، فأتي رسول الله - عليه السلام - بعَرق فيه تمر فقال: خذ هذا فتصدق به. فقال: يا رسول الله إني لا أجد أحدًا أحوج إليه مني، فضحك رسول الله - عليه السلام - حتى بدت أنيابه، ثم قال: كُلْه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدثه: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلًا أفطر في شهر رمضان أن يعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا". قالوا: فإنما أعطاه رسول الله - عليه السلام - ما أعطاه مما أمره أن يتصدق به، بعد أن أخبره بما عليه في ذلك مما بينه أبو هريرة في حديثه هذا. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه -من التخيير في الكفارة بين العتق والصيام والإطعام- بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قالوا: إنما أعطاه رسول الله - عليه السلام - التمر الذي في العَرَق الذي أُتي به، وأمره أن يتصدق به عن جنايته تلك، بعد أن أخبره بالواجب الذي عليه في ذلك مما بينه أبو هريرة بقوله: "أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا"، ذكر ذلك بكلمة: "أوْ" التي هي للتخيير، فوجب ذلك على التخيير. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين رجالهما كلهم رجال "الصحيح" ما خلا أبا بكرة وهو أيضًا ثقة ثبت.

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. فبطريقه الأول: أخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. وبطريقه الثاني: أخرجه مسلم (¬3): حدثني محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدثه: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا". قوله: "بِعَرق" قد مرَّ تفسيره عن قريب. قوله: "فضحك رسول الله - عليه السلام -" وذلك تعجبًا من حاله ومقاطع كلامه وإشفاقه أولا، ثم طلبه ذلك لنفسه، وقد يكون من رحمة الله وتوسعته عليه وإطعامه له هذا الطعام وإحلاله له بعد أن كُلِّف إخراجه. قوله: "حتى بدت أنيابه" أي: ظهرت، والأنياب جمع ناب، وهو السِّن الذي بحذاة الرباعية، والرباعية -مثل الثمانية-: السِّن الذي بين الثنية والناب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يعتق رقبة إن كان لها واجدًا، ويصوم شهرين متتابعين إن كان للرقبة غير واجد، فإن لم يستطع ذلك أطعم ستين مسكينًا. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي والحسن بن صالح بن حي وأبا ثور، ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 296 رقم 657). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 313 رقم 2392). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 782 رقم 1111).

فإنهم قالوا بالترتيب؛ أولًا: عتق رقبة؛ فإن لم يستطع عليها يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع على ذلك أطعم ستين مسكينًا. ثم إن الصوم لا يجوز إلا شهران متتابعان بلا خلاف بين الجمهور، إلا ما روي عن ابن أبي ليلى فإنه قال: التتابع ليس بشرط، واختلف العلماء أيضًا في قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال أبو عمر: قال مالك: الذي آخذ به في الذي يصيب أهله في شهر رمضان أن عليه صيام ذلك اليوم مع الإطعام، وليس العتق والصوم من كفارة رمضان في شيء، وقال الأوزاعي: إن كفَّر بالعتق أو بالإطعام صام يوما، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء يومه ذلك، وقال الثوري: يقضي اليوم ويكفِّر مثل كفارة الظهار، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال الشافعي: يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، ولكل وجه، وأحب إليَّ أن يكفر ويصوم مع الكفارة، هذه رواية الربيع عنه، وقال المزني عنه: مَن وطئ امرأته فأولج عامدًا كان عليه القضاء والكفارة. وقال النووي في "الروضة": وهل يلزمه مع الكفارة قضاء ذلك اليوم الذي أفسده بالوقاع؟ فيه ثلاثة أوجه، وقيل: قولان ووجه، أصحهما: يلزم مع الكفارة القضاء، والثاني: لا، والثالث: إن كفَّر بالطعام لم يلزم، وإلا لزم. وقال أبو عمر (¬1) -رحمه الله-: اختلفوا أيضًا فيمن أفطر يومًا من رمضان بأكل أو شرب متعمدًا، فقال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور: عليه من الكفارة ما على المجامع، كل واحد منهما على أصله، وإلى هذا ذهب محمَّد بن جرير الطبري، وروي مثل ذلك أيضًا عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. وقال الشافعي وأحمد: عليه القضاء ولا كفارة، وهو قول سعيد بن جبير وابن سيرين وجابر بن زيد والشعبي وقتادة. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (7/ 169 - 172).

وروى مغيرة عن إبراهيم بمثله، وقال الشافعي: عليه مع القضاء العقوبة لانتهاكه حرمة الشهر، وقال سائر من ذكرنا معه من التابعين: يقضي يومًا مكانه ويستغفر الله ويتوب إليه، وقال بعضهم: ويصنع معروفًا. وقد روي عن عطاء أيضًا: أن من أفطر يومًا في رمضان من غير علة كان عليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة أو بقرة أو عشرين صاعًا من طعام يطعمه المساكين. وذكر النسائي (¬1): عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "من أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة، أو صوم شهر، أو إطعام ثلاثين مسكينًا، قلت: ومَن وقع على امرأته وهي حائض أو سمع أذان الجمعة ولم يُجَمِّع وليس له عذر؟ قال كذلك عتق رقبة". وكان ربيعة يقول: روي عن سعيد بن المسيب "من أفطر يومًا من رمضان عليه أن يصوم اثني عشر يومًا". وروى هشام عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "في الرجل يُفطر يومًا من رمضان متعمدًا، قال: يصوم شهرًا". وذكر معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "يقضي يومًا ويستغفر الله" وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير، ورواه عن إبراهيم النخعي بكار بن قتيبة، وروى حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم أنه قال: "من أفطر يومًا من رمضان عامدًا فعليه صيام ثلاثة آلاف يوم". قال أبو عمر (¬2): هذا لا وجه له إلا أن يكون كلامًا خرج على التغليظ والغضب كما روي عن النبي - عليه السلام - (¬3) وعن ابن مسعود (¬4) وعلي - رضي الله عنهما - أن مَن أفطر في رمضان عامدًا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 350 رقم 9118). (¬2) "التمهيد" (7/ 172 - 173). (¬3) "سنن الدارمي" (2/ 116 رقم 1714). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 228/ 7855).

رواه أبو المُطَوِّس (¬1) عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، وهو حديث لا يحتج بمثله. وقد جاءت الكفارة بأسانيد صحاح. قال (¬2): واختلفوا أيضًا فيمن جامع ناسيًا لصومه، فقال الشافعي والثوري -في رواية الأشجعي- وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأبو ثور وإسحاق: ليس عليه شيء، لا قضاء ولا كفارة، بمنزلة من أكل ناسيًا عندهم، وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم، وقال مالك والليث والأوزاعي والثوري -في رواية المعافى عنه- عليه: القضاء ولا كفارة. وروي مثل ذلك عن عطاء، وعنه أنه رأى عليه الكفارة، وقال: مثل هذا لا يُنسى، وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيًا أو عامدًا عليه القضاء [والكفارة] (¬3)، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. واختلفوا أيضًا فيمن أكل أو شرب ناسيًا، فقال الثوري وابن أبي ذئب والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وإسحاق وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه وداود: لا شيء عليه ويتم صومه، وهو قول جمهور التابعين، وبه قال علي وابن عمر وعلقمة وإبراهيم وابن سيرين وجابر بن زيد، وقال ربيعة ومالك: عليه القضاء. واختلفوا فيمن أفطر مرتين أو مرارًا في أيام رمضان. فقال مالك والليث والشافعي والحسن بن حي: عليه لكل يوم كفارة، وسواء وطئ المرة الأخرى قبل أن يكفِّر أو بعد أن يكفِّر. وقال أبو حنيفة: إذا جامع أيامًا في رمضان فعليه كفارة واحدة ما لم يكفر ثم يعود، وكذلك الآكل والشارب عندهم وإن كفَّر ثم عاد فعليه كفارة أخرى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 314 رقم 2396). (¬2) "التمهيد" (7/ 178). (¬3) في "الأصل، ك": "والقضاء"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "التمهيد": (7/ 179).

وروى زفر عن أبي حنيفة: إذا أفطر مرة وكفَّر ثم عاد فلا كفارة عليه للإفطار الثاني إذا كان في شهر واحد. واختلف عن الثوري فروي عنه مثل قول أبي حنيفة وهي رواية أبي يوسف، وروي عنه مثل قول مالك -رحمه الله-. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل قد دخل فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - كما ذكروا، وأصل حديث أبي هريرة ذلك من التبدئة بالرقبة إن كان المجامع لها واجدًا، والتثنية بالصيام بعدها إن كان المجامع للرقبة غير واجد، والتثليث بالأطعام بعدهما إن كان المجامع لهما غير واجد، هكذا أصل الحديث الذي رواه الزهري في ذلك، وكذلك رواه سائر الناس غير مالك وابن جريج، وبيَّنوا فيه القصة بطولها كيف كانت، وكيف أمر رسول الله - عليه السلام - بالكفارة في ذلك. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هَلَكْتُ، فقال له رسول الله - عليه السلام -: ويلك ما لك؟! قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، فقال رسول الله - عليه السلام -: هل تجد رقبة تعتقها؟ فقال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا يا رسول الله، فسكت رسول الله - عليه السلام - فبينا نحن كذلك أُتي رسول الله - عليه السلام - بعَرق فيه تمر -والعرق: المكتل- فقال رسول الله - عليه السلام -: أين السائل آنفًا؟ خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أهل بيت أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله - عليه السلام - حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك". قال: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله. فهذا هو الحديث على وجهه، وإنما جاء حديث مالك وابن جريج في ذلك عن الزهري على لفظ قول الزهري في هذا الحديث، فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا، فالتخيير هو كلام الزهري على ما توهم مَن لم يحكم في حديثه عن حُميد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر قوله: "فصارت سنة .. " إلى آخر الحديث. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أيضًا، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا محمَّد بن في حفصة، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله، وقال: "خمسة عشر صاعًا تمرًا" ولم يشك. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: سألت الزهري عن رجل جامع امرأته في شهر رمضان، فقال: ثنا حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثني أبو هريرة ... فذكر نحوه غير أنه لم يذكر الآصع. فكان ما روينا في هذا الحديث قد دخل فيه ما في الحديثين الأولين؛ لأن فيه أن النبي - عليه السلام - قال له: "أتجدُ رقبة؟ قال: لا، قال: فصم شهرين متتابعين قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا".

فكأن النبي - عليه السلام - إنما أمره بكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصنف الذي ذكره له قبله، فلما أخبره الرجل أنه غير قادر على شيء من ذلك، أُتي النبي - عليه السلام - بعرَق فيه تمر، فكان ذكر العرَق وما كان من دفع النبي - عليه السلام - إياه إلى الرجل، وأمره إياه بالصدقة هو الذي روته عائشة في حديثها الذي بدأنا بروايته، فحديث أبي هريرة أولى منه؛ لأنه قد كان قبل الذي في حديث عائشة شيء قد حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة، فهو أولى؛ لما قد زاده. وأما حديث مالك وابن جريج فهما عن الزهري على ما ذكرنا، وقد بيَّنا العلة في ذلك فيما تقدم من هذا الباب؛ فثبت بما ذكرنا من الكفارة في الإفطار بالجماع في الصيام في شهر رمضان ما في حديث منصور وابن عيينة ومَن وافقهما، عن الزهري عن حميد، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: وكان من الحجة والبرهان لأهل المقالة الثالثة فيما ذهبوا إليه: أن حديث أبي هريرة المذكور في معرض احتجاج أهل المقالة الثانية وهو الذي أراده بقوله: "الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل" قد دخل فيه حديث عائشة - رضي الله عنها -. تقرير هذا الكلام: أن المروي في هذا الباب حديثان: أحدهما: عن عائشة. والآخر: عن أبي هريرة. وحديث أبي هريرة روي على وجهين: الأول: هو ما رواه مالك وابن جريج عن الزهري، وهو الذي احتج به أهل المقالة الثانية في التخيير في الكفارة بين الأشياء الثلاثة. والوجه الثاني: هو ما رواه غير مالك وابن جريج عن الزهري أيضًا، وهو الذي ذكر فيه الرقبة أولًا، ثم صيام شهرين متتابعين ثانيًا، ثم إطعام ستين مسكينًا ثالثًا، وهذا هو أصل حديث أبي هريرة، وإليه أشار بقوله: "أصل حديث أبي هريرة

ذلك من التبدئة بالرقبة إن كان المجامع لها واجدًا" أي: أصل حديث أبي هريرة هو الذي ذكر فيه أولًا في ابتداء الكلام بالرقبة، إن كان المجامع لها -أي للرقبة- واجدًا. وقوله: "لها" يتعلق بقوله: "واجدًا". قوله: "والتثنية بالصيام بعدها" أي بعد الرقبة، ذكر الصيام ثانيًا إن كان المجامع للرقبة غير واجد. وقوله: "للرقبة" يتعلق بقوله: "غير واجد". وقوله: والتثليث بالإطعام بعدهما أي بعد الرقبة والصيام ذكر الإطعام ثالثًا إن كان المجامع لهما غير واجد، أي للرقبة والصيام. وقوله: "لهما" يتعلق بقوله: "غير واجد"، ومعنى "غير واجد": غير قادر. وهذا هو أصل الحديث على ما رواه الحفاظ عن الزهري، وبينوا فيه أصل الحديث والقصة بطولها كيف كانت، وكيف أمر رسول الله - عليه السلام - بالكفارة في ذلك، والذي رواه مالك وابن جريج عن الزهري ليس أصل الحديث، وإنما رويا ذلك على لفظ قول الزهري في هذا الحديث فالتخير هو كلام الزهري على ما توهم مَن لم يحكم في حديثه عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -أي لم يحكم في نقل أصل الحديث كما هو عن حميد، عن أبي هريرة. وفي بعض النسخ: "على ما توهم من لم يحكه في حديثه عن حميد عن أبي هريرة" من الحكاية، وهو الأصوب على ما لا يخفى، وأراد مَن لم يحك أصل الحديث عن حميد، عن أبي هريرة، فالعمل بأصل الحديث هو الواجب؛ لأنه خبر واحد عن رجل واحد في قصة واحدة بلا شك، غير أن مالكًا وابن جريج روياه عن الزهري مختصرًا، ورواه الآخرون من الحفاظ مطولًا، وأتوا بلفظ الخبر كما وقع، وكما سئل - عليه السلام -، وكما أفتى، وبينوا فيه أن تلك القصة كانت في وطء امرأته، ورتبوا الكفارة كما أمر بها رسول الله - عليه السلام -. وقال ابن حزم: وأحال مالك وابن جريج ويحيى: صفة الترتيب، وأجملوا الأمر، وأتوا بغير لفظ النبي - عليه السلام -، فلم يجز الأخذ بما رووه من ذلك مما هو لفظ مَن

دون النبي - عليه السلام - ممن اختصر الخبر وأجمله، وكان الغرض أخذ فتيا النبي - عليه السلام - كما أفتى بها بنص كلامه فيما أفتى به. وقال البيهقي (¬1): فرواية الجماعة عن الزهري -بتقييد الوطء ناقلة للفظ صاحب الشرع- أولى بالقبول؛ لإتيانهم بالحديث على وجهه، على أن حماد بن مسعدة روى الحديث عن مالك بلفظ الجماعة. ثم أخرجه البيهقي (¬2): من حديث عبد الرحمن بن بشر، نا حماد، عن مالك، ولفظه: "أن النبي - عليه السلام - قال في رجل وقع على أهله في رمضان: أعتق رقبةً. قال: ما أجدها، قال: فصم شهرين. قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا". فهذا الذي ذكرنا هو وجه ترجيح رواية الجماعة عن الزهري على رواية مالك وابن جريج عنه. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فإنه داخل في حديث أبي هريرة، وحديث أبي هريرة شامل عليه وعلى زيادة؛ فالأخذ بحديث أبي هريرة أولى؛ لأنه زاد على حديث عائشة، وحفظ فيه ما لم تحفظه عائشة، فيكون أحق بالقبول، وكذا قال البيهقي بعد إخراجه هذه الأحاديث: فالأخذ بزيادات أبي هريرة أولى. وإليه أشار الطحاوي أيضًا بقوله: فحديث أبي هريرة أولى منه، أي من حديث عائشة. قوله: "فثبت بما ذكرنا" وأراد به ما ذكره من قوله: "وكان من الحجة لهم في ذلك ... " إلى آخره. وقوله: "ما في حديث منصور وابن عيينة" في محل الرفع على أنه فاعل لقوله: "فثبت" وأراد به ما رواه منصور بن المعتمر، عن الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة. وما رواه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد. على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 225 رقم 7842). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 225 رقم 7843).

وأراد بقوله: "ومن وافقهما" -أي: منصورًا وابن عيينة- عبد الرحمن بن خالد والنعمان بن راشد والأوزاعي على ما يجيء عن قريب. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثمان طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد ... إلى آخره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي اليمان الحكم بن نافع -شيخ البخاري- عن شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - عليه السلام - إذْ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - عليه السلام -: هل تجد رقبة ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء غير أن في لفظه: "فمكث النبي - عليه السلام -" وفي رواية الطحاوي: "فسكت رسول الله - عليه السلام -". الثالث: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير، كلهم عن ابن عيينة -قال يحيى: أنا سفيان بن عيينة- عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي - عليه السلام - فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 684 رقم 1834). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 781 رقم 1111).

ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: ثم جلس، فاُتي النبي - عليه السلام - بعرَق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، فقال: أفقر منا؟! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي - عليه السلام - حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك". الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي -شيخ البخاري- عن سفيان بن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد ومحمد بن عيسى -المعني- قالا: ثنا سفيان- قال مسدد: قال سفيان- نا الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "أتى رجل إلى النبي - عليه السلام - فقال: هلكت، فقال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: فهل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: اجلس، فأتي رسول الله - عليه السلام - بعرق فيه تمر، فقال: تصدق به فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا. قال: فضحك حتى بدت ثناياه، قال: فأطعمه إياهم" وقال مسدد في موضع آخر: "أنيابه". وأخرجه الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4): من طريق سفيان بن عيينة أيضًا. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن النعمان بن راشد، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬5) نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 313 رقم 2390). (¬2) "سنن الترمذي" (3/ 102 رقم 724). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 212 رقم 3117). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 534 رقم 1671). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 221 رقم 7829).

السادس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوح بن عبادة، عن محمَّد بن أبي حفصة، عن الزهري. السابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن منصور به، وفيه: "فأتي بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا من تمر فقال: خذها فأطعمه عنك ... " الحديث. وكذا لفظ إبراهيم بن طهمان، عن منصور. الثامن: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2) نحوه: من حديث الأوزاعي، ثم قال: ورواه ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن الزهري، فجعل هذا التقدير عن عمرو بن شعيب، فالذي يشبه أن يكون تقدير المكتل بخمسة عشر صاعًا عن عمرو. وأخرج الدارقطني في "سننه" (¬3): ثنا أبو بكر النيسابوري، نا أبو عمر عيسى بن أبي عمران البزار بالرملة، ثنا الوليد بن مسلم، نا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلًا جاء إلى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ويحك وما ذاك؟ قال: وقعت على أهلي في يوم من رمضان، قال: أعتق رقبة قال: ما أجد، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا، قال: ما أجد، قال: فأُتي النبي - عليه السلام - بعرَق فيه ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 222 رقم 7831). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 190 رقم 49).

تمر، فيه خمسة عشر صاعًا، قال: خذه وتصدق به، فقال: على أفقر من أهلي؟ فوالله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي، فضحك رسول الله - عليه السلام - حتى بدت أنيابه ثم قال: خذه واستغفر الله، وأطعمه أهلك". هذا إسناد صحيح. قلت: رواية الطحاوي عن الأوزاعي ليس فيها ذكر الأصوع، وهي هذه الصحيحة، فلذلك قال البيهقي: ورواه ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن الزهري فجعل هذا التقدير عن عمرو بن شعيب، أراد به تقدير ما في العَرَق بالأصوع، فالذي يشبه أن يكون تقدير المكتل بخمسة عشر صاعًا عن عمرو بن شعيب. وقال البيهقي أيضًا (¬1): ورواه ابن المبارك والهِقل ومسرور بن صدقة، عن الأوزاعي، لكن جعل ابن المبارك قوله: خمسة عشر صاعًا من رواية عمرو بن شعيب، وأدرجه الآخران في الحديث كالوليد. قوله: "بينا نحن عند رسول الله - عليه السلام -" قد ذكرنا غير مرة أن "بينا" أصله بين، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملةٍ من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه: ها هنا: إذْ جاءه رجل، وقد قالوا: إن الأفصح أن لا يكون في جوابها إذ وإذا، ولكن تجيء إذ وإذا كثيرا في الجواب. قوله: "هلكتُ" وروي في بعض الروايات: "هلكت وأهلكت"، فمن ذلك قالوا: إن قوله: أهلكت، دل على مشاركة المرأة إياه في الجناية؛ لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة كالقطع يقتضي الانقطاع، وكذا هو وقع في عبارة "صاحب الهداية" وغيره بهذه اللفظة، وقال الخطابي: هذه اللفظة -أعني قوله: وأهلكت- غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 224 رقم 7837).

ذكروا "هلكت" حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه، فهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ والإتقان. قلت: معلى بن منصور الرازي ثقة ثبت، أخرج له الجماعة وهو من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة فيما تفرد به وشورك فيه، متقن صدوق فقيه مأمون. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث، وكان صاحب رأي. وقال العجلي: صاحب سنة، وكان نبيلًا طلبوه على القضاء غير مرة فأبى. وعادة الخطابي حطه على الأئمة الحنفية بما لا يضرهم ولا يجديه. قوله: "ويلك" كلمة تهديد وتوعيد، كما أن "ويحك" كلمة ترحم وإشفاق. قوله: "أعلى أهل بيت" الهمزة فيه للاستفهام، ووقع في رواية مسلم: "أفقر منا" قال القاضي: رويناه بالنصب على إضمار الفعل أي: أتجد أفقر منا أو تعطي أفقر منا؟! وقد يصح رفعه على خبر المبتدأ أي: أتجد أفقر منا، أو مَن يتصدق عليه أفقر منا، ووقع لمسلم في رواية عائشة: "أغيرنا"، قال القاضي: بالضم، ويصح بالفتح. قوله: "ما بين لابتيها" أي ما بين جانبي المدينة، واللابة: الحرة وهي أرض ذات حجارة سود بين جبلين، قال أبو عبيد: "لابتيها" يعني: حَرَّتي الدينة، واحدتها لابة، وجمعها لوب، وقال ابن الأثير: اللابة الحَرَّة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللآب واللوب، مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين. قلت: الحَرَّة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء. ويستفاد من هذا الحديث أحكام: الأول: استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لجماعه دون الناسي. الثاني: قوله: "هل تجد رقبة" استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم

في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة؛ إذ لم يذكر حكم المرأة، وهو موضع البيان، وقد أجبنا عن هذا فيما مضى. الثالث: استدل بقوله: "رقبة تعتقها" مَن لا يشترط فيها الإيمان لإطلاقه ذلك، وقال مالك وأصحابه: لا تجزئ إلا رقبة مؤمنة. الرابع: فيه دليل صريح باشتراط التتابع في صوم شهرين، خلافًا لما روي في ذلك عن ابن أبي ليلى أنه لا يلزم فيهما التتابع. الخامس: فيه دليل صريح بأن الواجب في الإطعام هو إطعام ستين مسكينًا خلافًا لما روي عن الحسن أنه يطعم أربعين مسكينًا عشرين صاعًا. السادس: استدل بقوله: "أطعمه أهلك" بعضهم أن الكفارة تسقط عن المعسر، وقال الزهري: هذا خاص لهذا الرجل وحده، يعني أنه يجزئه أن يأكل من صدقة نفسه لسقوط الكفارة عنه لفقره، فسوغها له النبي - عليه السلام -، وقد روي: "كله وأطعمه أهلك" وقيل: هو منسوخ. وقيل: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته، وأنه يجزئه عمن لا تلزمه نفقته من أهله. وقيل: بل لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم. وقيل: بل لما ملكها إياه النبي - عليه السلام - وهو محتاج جاز له أكلها وأهله لحاجة. وقيل: يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة. وقيل: بل أطعمه إياه لفقره وأبقى الكفارة عليه متى أيسر، وهذا تحقيق كافة الأئمة العلماء. وذهب الأوزاعي وأحمد إلى أن حكم مَن لم يجد الكفارة ممن لزمته من سائر الناس سقوطها عنه مثل هذا الرجل.

وقال أبو عمر: اختلف العلماء في الواطئ أهله في رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره، ولم يجد ما يطعم، وكان في حكم الرجل الذي ورد هذا الحديث فيه. فأما مالك فلم أجد عنه في ذلك شيئًا منصوصًا، وكان عيسى بن دينار يقول: إنها على المعسر واجبة، فإذا أيسر أداها، وقد يخرج قول ابن شهاب على هذا؛ لأنه جعل إباحة النبي - عليه السلام - لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوصًا. قال ابن شهاب: ولو أن رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير. وقال الشافعي: قول رسول الله - عليه السلام -: "كله وأطعمه أهلك" يحتمل معانيًا منها: أنه لما كان في الوقت الذي أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات تطوع رسول الله - عليه السلام - بأن قال له في شيء أُتِيَ به كفره، فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضة قال له: "كله وأطعمه أهلك" وجعل التمليك له حينئذ مع القبض، ويحتمل أنه لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تكون الكفارة عليه إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل كان له أن يأكله هو وأهله لحاجته، ويحتمل في هذا أن تكون الكفارة دينًا عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس في الخبر، وكان هذا أحب إلينا وأقرب من الاحتياط. ويحتمل أن يكون إذا لم يقدر على شيء في حاله تلك أن تكون الكفارة ساقطة إذا كان معلومًا كما سقطت الصلاة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا. وحكى الأثرم عن أحمد بن حنبل: إن كان المجامع في رمضان محتاجًا أطعمه عياله فقد أجزأ عنه. قلت: ولا يكفر مرة أخرى إذا وجد؟ قال: لا، قد أجزأت عنه إلا أنه خاص في الجماع في رمضان وحده لا في كفارة اليمين ولا في كفارة الظهار، ولا في غيرها إلا في الجماع وحده.

وزعم الطبري أن قياس قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور: أن الكفارة دين عليه إذا قدر عليها، وذلك أن قولهم في كل كفارة لزمت إنسانًا فسبيلها عندهم الوجوب في ذمة المعسر يؤديها إذا أيسر، فكذلك سبيل الكفارة للفطر في رمضان على قياس قولهم. قال أبو عمر: إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله - عليه السلام - إذ قال له: "كل أنت وعيالك" ولم يقل له: أتؤديها إذا أيسرت؟ ولو كانت واجبة عليه لم يسكت عنه حتى يتبين ذلك له. قيل له: ولا قال رسول الله - عليه السلام -: إنها ساقطة عنك لعسرتك، فقد أخبره بوجوبها عليه، وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزمه في الميسرة، والله أعلم.

ص: باب: الصيام في السفر

ص: باب: الصيام في السفر ش: أي: هذا باب في بيان أحكام الصوم في السفر. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - في سفر فرأى زحامًا، ورجل قد ظلِّل عليه فسأل: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال رسول الله - عليه السلام -: ليس من البر أن تصوموا في السفر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى قال: حدثني محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: ثنا جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "مرَّ النبي - عليه السلام - برجل في سفر في ظل شجرة يُرَشُّ عليه الماء، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: صائم يا رسول الله، قال: ليس من البر الصيام في السفر، فعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ... إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، نا شعبة، نا محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: سمعت محمَّد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - عليه السلام - في سفر فرأى زحامًا ورجلًا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر أن تصوموا في السفر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 687 رقم 1844).

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر، عن غندر، عن شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن سعد، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - في سفر فرأى رجلًا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله - عليه السلام -: ليس من البر أن تصوموا في السفر". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن -يعني: ابن أسعد بن زرارة- عن محمَّد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - رأى رجلًا يُظلَّل عليه والزحام عليه، قال: ليس من البر الصيام في السفر". الثالث: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق، قال: ثنا عبد الوهاب بن سعيد، قال: ثنا شعيب، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني محمَّد بن عبد الرحمن، قال: أخبرني جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - مر برجل إلى ظل شجرة يُرَش عليه الماء، قال: ما بال صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله صائم، قال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 786 رقم 1115). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 317 رقم 2407). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 99 رقم 2566).

قوله: "ليس من البر" أي: ليس من الطاعة والعبادة أن تصوموا في حالة السفر، و"البِرُّ": بكسر الباء الإحسان أيضًا، ومنه بِرُّ الوالدين، يقال: بَرَّ يَبِرُّ فهو بَارٌّ وجمعه بررة، وجمع "البَر" -بفتح الباء- أبرار، والبر بالفتح بمعنى الجيد والخَيِّر، ومنه قوله - عليه السلام -: "صلوا خلف كل بَرٍّ وفاجر"، ويجيء بمعنى العطوف، وفي أسماء الله: البَرُّ: العطوف على عباده ببره ولطفه، والبَرُّ والبارُّ بمعنى، وإنما جاء في اسم الله تعالى البَرُّ دون البار. والبَرّ -بالفتح- خلاف البِرِّ أيضًا وجمعه برور، ويقال: إن كلمة "مِنْ" في قوله: "ليس من البر" أي ليس البر، كما في قولهم: ما جاءني من أحد، أي: ما جاءني أحد. قلت: لا خلاف في زيادة "مِنْ" في النفي، وإنما الخلاف في الإثبات، فأجازه قوم، ومنعه آخرون. قوله: "ورجل قد ظُلِّلَ عليه" قيل: اسم هذا الرجل أبو إسرائيل، ذكره الخطيب في كتاب "المبهمات". قوله: "أن تصوموا" في محل الرفع على أنه اسم "ليس"، و"أن" مصدرية، وتقديره: ليس من البر صومكم في السفر، وإذا جعلنا "مِنْ" زائدة يكون البر هو اسم "ليس" وتكون "أن تصوموا" في محل النصب على الخبرية، أي: ليس البر صومكم، فافهم. قوله: "يُرش عليه" على صيغة المجهول في محل النصب على الحال. قوله: "ما بال هذا؟ " أي: ما شأنه وما حاله. قوله: "صائم" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو صائم. قوله: "برخصة الله" الرخصة في اللغة عبارة عن الإطلاق والسهولة والسعة، ومنه رخص السعر إذا تراجع وخف على الناس، واتسعت السلع وكثرت وسهل وجودها، وفي الشريعة تنبئ عن معناها اللغوي؛ إذ هي الأحكام الثابتة بناء على أعذار العباد تيسيرًا.

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمَّد بن مصفى، قال: ثنا محمد بن حرب الأبرش، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - عليه السلام -: "ليس من البر الصيام في السفر". ش: إسناده صحيح. ومحمد بن مُصفَّى بن بهلول القرشي أبو عبد الله الحمصي شيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالح. وقال ابن حبان: ثقة وكان يخطئ. ومحمد بن حرب الخولاني أبو عبد الله الحمصي المعروف بالأبرش كاتب الزُّبَيْدي، روى له الجماعة، والأبرش كناية عن الأبرص وهو من البرش، وهو أن يكون في شعر الفرس نكت صغار تخالف سائر لونه. وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العمري أبو عثمان المدني، روى له الجماعة. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمَّد بن المصفى الحمصي .. إلى آخره نحوه. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، أخبره عن أم الدرداء، عن كعب ابن عاصم الأشعري الصحابي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "ليس من البر أن تصوموا في السفر". حدثنا علي، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس من البر الصيام في السفر". حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يقول: أخبرني صفوان بن عبد الله ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 532 رقم 1665).

قال سفيان: فذكر لي أن الزهري كان يقول ولم أسمع منه: "ليس من أَمْ بِر أمْ صيام في أمْ سفر". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء الصغرى زوج أبي الدرداء اسمها هجيمة، ويقال: جهيمة، الوصابية، روى لها الجماعة، عن كعب بن عاصم الأشعري الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. ولفظه: "ليس من البر الصيام في السفر". الثاني: عن عليّ ورَوْح، عن محمَّد بن أبي حفصة -واسم أبي حفصة ميسرة روى له الشيخان ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد بن حنبل، حدثني أبي، نا روح، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن محمد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيس بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حُميد الحُميدي المكي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 174 رقم 225). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 175 رقم 397). (¬3) "المعجم الكبير" (19/ 172 رقم 388).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "ليس من البر الصوم في السفر". قوله: "قال سفيان بن عيينة: فذُكِرَ لي" على صيغة المجهول أن محمَّد بن مسلم الزهري كان يقول ... إلى آخره. وأشار بهذا إلى لغة طيئ فإنهم يبدلون اللام ميمًا. وقال الزمخشري: هي لغة طيئ، وذلك في نحو ما روى النمر بن تولب عن رسول الله - عليه السلام -، وقيل: إنه لم يرو غيره: "ليس من امبر امصيام في امسفر". قلت: النمر بن تولب بن زهير بن أقيش العكلي، يقال: إنه وقد على النبي - عليه السلام - بشعر أوله: إنا أتيناك وقد طال السفر ... تطعمنا اللحم إذا عز الشجر وقال الأصمعي: النمر بن تولب من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإِسلام، وكان شاعرًا مشهورًا والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى الإفطار في شهر رمضان في السفر، وزعموا أنه أفضل من الصيام. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، حتى قال بعضهم: إن صام في السفر لم يجزه الصوم وعليه قضاؤه في أهله، ورووا عن عمر- رضي الله عنه -: حدثنا ابن أبي عقيل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم، عن عبد الله بن عامر: "أن عمر - رضي الله عنه - أمر رجلًا صام في السفر أن يعيد". ورووه عن أبي هريرة: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال: "صمت رمضان في السفر، فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصيام في أهلي". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 532 رقم 1664).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشعبي ومجاهدًا وقتادة وأبا جعفر محمَّد بن علي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: الفطر في السفر أفضل من الصوم. واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال ابن العربي: قالت الشافعية: الفطر أفضل في السفر. وقال أبو عمر: قال الشافعي: هو مخيرَّ، ولم يفضل وكذلك قال ابن علية. وقال الترمذي (¬1): قال الشافعي: وإنما معنى قول النبي - عليه السلام -: "ليس من البر الصوم في السفر"، وقوله حين بلغه أن ناسًا صاموا فقال: "أولئك العصاة" فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى، فأما مَن رأى الفطر مباحًا وصام وقوي على ذلك فهو أعجب إليَّ. وقال القاضي: مذهب الشافعي أن الصوم أفضل. وقال أبو عمر: وروي عن ابن عمر وابن عباس أن الرخصة أفضل. وممن كان لا يصوم في السفر حذيفة، وروي عن ابن عباس من وجوه: "إن شاء صام، وإن شاء أفطر". قوله: "حتى قال بعضهم" أراد به الحسن البصري والظاهرية، فإنهم قالوا: إن صام في السفر لم يَجُزْ صومه وعليه أن يعيده إذا أقام. وقال ابن حزم في "المحلى": من سافر في رمضان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية ففرضٌ عليه الفطر إذا جاوز ميلًا أو بلغه أو واراه، وقد بطل صومه حينئذٍ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر، وله أن يصومه تطوعًا، أو عن واجب لزمه، أو قضاء عن رمضان، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره. وقالت الظاهرية: إذا لم يكن الصوم في السفر من البر يكون من الإثم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 89 رقم 710).

وقال أبو عمر: يروى ذلك عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس على اختلاف عنه. قلت: قد ذكر الطحاوي عن عمر وأبي هريرة. أما الذي روي عن عمر: فقد أخرجه عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك بن أبي عقيل المصري شيخ أبي داود أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني فيه مقال، قال أحمد: ليس بذاك. وعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث مضطرب الحديث، ليس له حديث يعتمد عليه. وقال الدراقطني: مدني يترك وهو مغفل. وقال العجلي: لا بأس به. وروى له الأربعة: النسائي في "اليوم والليلة". وهو يروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي، وهو أدرك النبي - عليه السلام - ومات وهو ابن خمس سنين. قال ابن منده: وهو يروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن رجل، عن أبيه: "أن رجلًا صام في رمضان في السفر، فأمره عمر- رضي الله عنه - أن يعيد". وأما الذي روي عن أبي هريرة: فأخرجه عن فهد، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن عطاء بن أبي رباح، عن المحرَّر -براءين مهملتين الأولى مشددة مفتوحة- عن أبي هريرة. وهذا إسناد حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا الفضل بن دكين، عن زهير، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرر بن أبي هريرة قال: "صمت في رمضان في السفر، فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصيام في أهلي". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 282 رقم 8998). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 282 رقم 8996).

وأما الذي روي عن ابن عمر: فأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر: "أن امرأة صحبت ابن عمر في سفر، فوضع الطعام فقال لها: كلي. قالت: إني صائمة، قال: لا تصحبينا". وأما الذي روي عن عبد الرحمن بن عوف: فأخرجه ابن حزم (¬2) أيضًا: من طريق أبي معاوية، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". ثم قال: هذا إسناد في غاية الصحة. وأما الذي روي عن ابن عباس: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن عمار مولى بني هاشم، ابن عباس: "أنه سئل عن رجل صام رمضان في سفر، فقال: لا يجزئه". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، ولم يفضلوا في ذلك فطرًا على صوم ولا صومًا على فطر. ش: أي: خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن المبارك والثوري ومالك بن أنس وسليمان الأعمش والشافعي في رواية البعض عنه؛ فإنهم قالوا: المسافر في رمضان مخيرَّ بين الصوم والإفطار ولا يفضل أحدهما على الآخر، ويروى ذلك عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعائشة وأصحاب ابن مسعود - رضي الله عنهم -. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من قول النبي - عليه السلام -: "ليس من البر الصيام في السفر": أنه قد يحتمل غير ما حملوه عليه؛ يحتمل ليس من البر الذي هو أبَرُّ البر وأعلى مراتب البر الصوم في ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 257). (¬2) "المحلى" (6/ 257). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 281 رقم 8995).

السفر، وإن كان الصوم في السفر برًّا إلا أن غيره في البر أبَرُّ منه، كما قال - عليه السلام -: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي يستحيي أن يسأل، ولا يجد ما يغنيه، ولا يُفطَن له فيعطَى". حدثنا بذلك ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله عن النبي - عليه السلام - بذلك. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم الهجري ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا ابن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. فلم يكن معنى قوله: "ليس المسكين بالطواف" على معنى إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك: ليس هو المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس، ولا يُعْرَفُ فيتصدق عليه، فكذلك قوله: "ليس البر الصيام في السفر" ليس ذلك على إخراج الصوم في السفر من أن يكون برًّا، ولكنه على معنى: ليس من البر الذي هو أبر البر الصوم في السفر؛ لأنه قد يكون الإفطار هناك أبر فيه إذا كان على التَّقْوَي للقاء العدو وما أشبه ذلك، فهذا معنى صحيح، وهو أولى ما حمل عليه معنى هذه الآثار حتى لا تتضاد هي وغيرها مما قد روي في هذا الباب؛ فإنه حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك وابن جريج، قالا: ثنا ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - مثله، غير أنه قال: "حتى أتى عُسْفان". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا أبو الأسود، عن عكرمة مولى ابن عباس، حدثه عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، فدعى رسول الله - عليه السلام - بقدح من لبن فأمسكه في يده حتى رآه الناس -وهو على راحلته- حوله، ثم شرب رسول الله - عليه السلام - فأفطر، فناوله رجلًا إلى جنبه فشرب". فصام رسول الله - عليه السلام - في السفر وأفطر. حدثنا علي، قال: ثنا روح، قال: ثنا حماد، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله - عليه السلام - سافر في رمضان، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجر، فأخبر النبي - عليه السلام - بأمره فدعى بإناء، فلما رآه الناس على يده أفطروا". حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام ينظرون فيما بلغت، فدعى بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فبلغه أن ناسًا صاموا بعد ذلك، فقال: أولئك العصاة".

حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن قزعة قال: "سألت أبا سعيد عن صيام رمضان في السفر؟ فقال: خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله - عليه السلام - يصوم حتى بلغ منزلًا من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر، ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال: إنكم تُصَبِّحون عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله - عليه السلام -، ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: ثنا حميد الطويل، أن بكر بن عبد الله حدثه قال: سمعت أنسًا يقول: "إن رسول الله - عليه السلام - كان في سفر ومعه أصحابه، فشق عليهم الصوم، فدعى رسول الله - عليه السلام - بإناء فشرب وهو على راحلته، والناس ينظرون إليه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنيبم، قال: ثنا مالك، عن سمي، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قال: "لقد رأيت رسول الله بالعَرْج في الحرِّ وهو يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر، ثم إن رسول الله - عليه السلام - لما بلغ الكَدِيدَ أفطر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: ثنا عطية بن قيس، عن قزعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - لليلتين مضتا من رمضان، فخرجنا صوَّامًا حتى بلغ الكديد فأمرنا بالإفطار، فأصبحنا ومنا الصائم ومنا المفطر، فلما بلغنا مر الظهران أعلمنا بلقاء العدو، وأمرنا بالإفطار". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار إثبات جواز الصوم في السفر، وأن رسول الله - عليه السلام - إنما كان تركه إياه إبقاءً على أصحابه، أفيجوز لأحد أن يقول في ذلك الصوم أنه لم يكن برًّا لا يجوز هذا؟! ولكنه بر، وقد يكون الإفطار أبر منه إذا كان يراد

به القوة للقاء العدو الذي أمرهم رسول الله - عليه السلام - بالفطر من أجله، ولهذا المعنى قال لهم النبي - عليه السلام -: "ليس من البر الصوم في السفر" على هذا المعنى الذي ذكرنا. ش: أي: وكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى: في الذي احتجوا به عليهم من قوله - عليه السلام -: "ليس البر الصيام في السفر" وأراد بها الجواب عن ذلك. بيانه أن يقال: إن استدلالهم بهذا الحديث لا يتم؛ لأنه ليس المراد من نفي البر نفي نفس البر، وإنما هو نفي أعلي مراتب البر، والمعنى: ليس أبر البر وأعلى مراتب البر الصيام في السفر؛ لأنه وإن كان الصوم في السفر برًّا فقد يكون الفطر أبر منه فيما إذا كان في حج أو جهاد، ليقوى عليه، فيكون هذا من نظير قوله - عليه السلام -: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ... " الحديث (¬1)، ومعلوم أن مَن يطوف مسكين، وأنه من أهل الصدقة إذا لم يكن له شيء، وقال - عليه السلام -: "ردوا المسكين ولو بكراع محرق" (¬2). وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "إن المسكين ليقف على بابي ... " الحديث (¬3)، فعلم أن قوله - عليه السلام -: "ليس المسكين بالطواف" معناه: ليس السائل بأشد الناس مسكنة؛ لأن المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى هو أشد الناس مسكنة، فلم يخرج المسكين بالطواف من أسباب المسكنة كلها، ولكنه خرج عن حد المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه، وكذلك قوله - عليه السلام -: "ليس من البر الصيام في السفر" ليس معناه إخراج الصوم في السفر من أن يكون برًّا، ولكن معناه: ليس من البر الذي هو أبو البر وأكمله وأتمه الصوم في السفر؛ لأنه قد يكون الإفطار أبو فيه من غيره إذا كان في حج أو جهاد، أو لمن كان يريد أخذ الرخصة التي تصدق الله بها على عبيده، وقد مر الكلام فيه مرةً في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/ 719 رقم 1039) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 923 رقم 1646) من حديث أم بجيد. (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6/ 382 رقم 27192).

باب: "التسمية على الوضوء"، وقد تكلم ابن حزم (¬1) في هذا الموضع بكلام سخيف من غير تروي ولا فهم صحيح فقال: وقال بعض أهل الجهل والجرأة على القول بالباطل في الدين معنى قوله: - عليه السلام - "ليس من البر الصيام في السفر" مثل قوله: - عليه السلام - "ليس المسكين بهذا الطواف لا هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله - عليه السلام -،وتقويل له ما لم يقل، وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار بنص قوله - عليه السلام - ... إلى غير ذلك من الهذيانات والخرفات. قلت: هذا الكلام السخيف كله لأجل تمشية مذهبه الباطل، وليس ما ذكروه تحريف للكلم عن مواضعه، وإنما هو تأويل صحيح لأجل التوفيق بينه وبين غيره من الأحاديث التي تعارضه؛ وذلك لأنه رويت أحاديث صحيحة بصوم رسول الله - عليه السلام - في السفر، فإذا لم يؤول الحديث المذكور بهذا التأويل يقع التضاد بين الأخبار، ودفع التعارض والتضاد مهما أمكن واجب؛ لتصحيح معاني الأخبار والعمل بكلها، وابن حزم حفظ شيئًا وقد غابت عنه أشياء، حيث لم يجوِّز الصوم في السفر، والحال أنه - عليه السلام - قد صام فيه، وكذلك صام جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. فإن قيل: يجوز أن يكون صومه - عليه السلام - في رمضان في سفره تطوعًا. قلت: هذا وإن كان محتملًا ولكنه لم يثبت أنه صام تطوعًا، على أن الأقرب أن صومه كان من رمضان؛ لأنه لا يترك الفرض إلى أيام أخر مع كون الإدراك مظنونًا ويصوم التطوع. ثم إنه أخرج حديث "ليس المسكين ... " إلى آخره في هذا الكتاب في موضعين قبل هذا الموضع: أحدهما: في باب: "التسمية على الوضوء". والثاني: في باب: "من صلى خلف الصف وحده". ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 256 - 257).

أما في باب التسمية على الوضوء فقد أخرجه من خمس طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الكوفي، عن عبد الله بن مسعود. الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - عليه السلام -. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن أبي الوليد عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري نسيب محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. وأخرجه الجماعة (¬1) غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة. الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- الحمصي، عن عبد الرحمن بن ثوبان العنسي، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث القرشي المدني، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - عليه السلام -. وهذا الطريق معلول بابن ثوبان؛ لأن يحيى ضعفه، وعنه: لا شيء. وعن النسائي: ليس بثقة. وعن دُحيم: ثقة يرمى بالقدر. فهذه الأربعة أخرجها بعينها ها هنا فاعتبر ذلك. الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) البخاري (2/ 538 رقم 1409)، ومسلم (2/ 719 رقم 1039)، وأبو داود (2/ 719 رقم 1631)، والنسائي (5/ 85 رقم 2572).

وهذا الطريق غير مذكور في بعض النسخ ها هنا، وفي بعضها موجودٌ وهو الأقرب والأظهر. وأما في باب: "من صلى خلف الصف وحده" [...] (¬1). قوله: "وهو أولى ما حمل عليه" أي المعنى الصحيح الذي ذكره هو أولى ما تحمل عليه هذه الآثار، وأراد بها أحاديث: "ليس المسكين" حتى لا تتضاد هي -أي هذه الآثار- وغيرها من الآثار التي رويت في هذا الباب، أي في باب الصوم والإفطار في السفر؛ وذلك لأنه إذا تأوَّل هذه الآثار بالتأويل الذي ذكره يعارضها ما رواه عبد الله بن عباس وغيره، فيقع بين الأحاديث تعارض وتنافي، فبالتأويل المذكور تتفق معاني الأحاديث الواردة في هذا الباب. وبيَّن الأحاديث التي فيها الصوم في السفر بقوله: فإنه حدثنا يونس ... إلى آخره، أي: فإن الشأن قد حدثنا ... إلى آخره. وأخرج ها هنا عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك ورجل من أصحاب النبي - عليه السلام -. أما حديث ابن عباس فأخرجه من ست طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس". والكديد ما بين عسفان وقديد انتهى". وليس في روايته: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -". ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف رحمه الله، فراجعه هناك. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 686 رقم 1842).

وهو في رواية مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح، قالا: أنا الليث. وثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه أخبره: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر. قال: وكان صحابة رسول الله - عليه السلام - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره". وحدثئا (¬2) يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن الزهري، بهذا الإسناد مثله. قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول مَن هو. يعني كان يؤخذ بالآخِر من قول رسول الله - عليه السلام -. وحدثئي (1) محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، بهذا الإسناد. قال الزهري: وكان النظر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - عليه السلام - بالآخر فالآخر. قال الزهري: فصبح رسول الله - عليه السلام - مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان. وحدثني حرملة بن يحيى قال (¬3): أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث. قال ابن شهاب: "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام - ويرونه الناسخ المحكم" انتهى. وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": قال ابن شهاب: وكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -. وقد بيَّن في حديث أبي رافع أنه من كلام ابن شهاب، وفسر فيه ما أبهمه ابن عيينة من قوله: لا أدري من قول مَن هو؛ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 784 رقم 1113). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 784 رقم 1113). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 785 رقم 1113).

ولذلك أدخل مسلم هذا الطريق المفسر بعد حديث ابن عيينة؛ تفسيرًا لمبهمه، وهو دليل إحسانه في التأليف. قال الإِمام أبو عبد الله: يحمل قول ابن شهاب على أن النسخ في غير هذا الموضع، وإنما أراد أن الأواخر من أفعاله - عليه السلام - تنسخ الأوائل إذا كان مما لا يمكن فيه البناء، إلا أن يقول قائل: إنه من ابن شهاب ميل إلى القول بأن الصوم لا ينعقد في السفر، فيكون كمذهب بعض أهل الظاهر، وهو غير معروف عنه. الثاني: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وعبد الملك بن جريج، كلاهما عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أبنا خالد بن مخلد، نا مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: "خرج رسول الله - عليه السلام - عام الفتح فصام وصوّم الناس، حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من فعل رسول الله - عليه السلام -". الثالث: عن علي بن شيبة أيضًا ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فيه شراب فشربه نهارًا ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس: فصام رسول الله - عليه السلام - وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر". وأخرجه البخاري (¬3) نحوه. قلت: فهذا كما ترى عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. وكذا ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 16 رقم 1708). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 785 رقم 1113). (¬3) "صحيح البخاري" (4/ 1559 رقم 4029).

وقع في رواية أبي داود والنسائي. ورواية الطحاوي عن مجاهد عن ابن عباس بدون ذكر طاوس بينهما. وكذا أخرجه البزار "مسند"، ثم قال: وقد روي عن ابن عباس من غير هذا الوجه بغير هذا الإسناد وبغير هذا اللفظ. الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: نا أبو عوانة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "خرج النبي - عليه لسلام - من المدينة إلى مكة حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فرفعه إلى يده ليريه الناس، وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام النبي - عليه السلام - وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر". الخامس: عن فهد، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أخبرنا محمَّد بن قدامة، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فشرب نهارًا يراه الناس ثم أفطر". السادس: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" مختصرًا، ولفظه: عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم في السفر ويفطر". وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 316 رقم 2404). (¬2) "المجتبى" (4/ 184 رقم 2291).

الأول: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه الحكم في "مستدركه" (¬1): أخبرني عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ونا الحارث بن أبي أسامة، ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي - عليه السلام - سافر في رمضان، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأُخبر النبي - عليه السلام - بأمره، فأمره أن يفطر، ثم دعى النبي - عليه السلام - بإناء فوضعه على يده ثم شرب والناس ينظرون". هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرج أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا روْح، ثنا زكرياء، ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: "كنا مع النبي - عليه السلام - في غزوة غزاها وكان في رمضان، فصام رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - فضعف ضعفًا شديدًا وكاد العطش أن يقتله، وجعلت ناقته تدخل تحت العضاه، فأُخبر به النبي - عليه السلام - فقال: ائتوني به، فأتي به فقال: ألستَ في سبيل الله ومع رسول الله؟ أفطر، فأفطر". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب المدني الصادق، عن أبيه محمَّد بن علي الباقر، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب -يعني: ابن عبد المجيد- قال: ثنا جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (1/ 598 رقم 1582). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 329 رقم 14569). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 785 رقم 1114).

دعى بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة". وأما حديث أبي سعيد الخدري، فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني وثقه يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن ربيعة بن يزيد الدمشقي أبي شعيب الإيادي القصير روى له الجماعة، عن قزعة بن يحيى -ويقال: ابن الأسود- أبي غادية البصري روى له الجماعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان -المعنى- قالا: نا ابن وهب، قال: حدثني معاوية، عن ربيعة بن يزيد، أنه حدثه عن قزعة قال: "أتيت أبا سعيد الخدري وهو يفتي الناس وهو مكثور عليه، فانتظرت خلوته، فلما خلى سألته عن صيام رمضان في السفر، فقال: خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله - عليه السلام - يصوم ونصوم، حتى بلغ منزلا من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال: ثم سرنا فنزلنا منزلًا فقال: إنكم تصبِّحون عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله - عليه السلام -. قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك". وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن قزعة، عن أبي سعيد، نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي أبي محمَّد الدمشقي، فقيه الشام ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 316 رقم 2406). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 789 رقم 1120).

ومفتيهم بعد الأوزاعي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". عن عطية بن قيس الكلابي أبي يحيى الحمصي الدمشقي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن قزعة بن يحيى المذكور آنفًا، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري قال: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - بالرحيل عام الفتح في ليلتين خلتا من شهر رمضان، فخرجنا صُوَّامًا حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله - عليه السلام - بالفطر فأفطرنا أجمعين. وفي رواية أبي يوسف التنيسي عن سعيد: "حتى إذا بلغ الظهران آذنا بلقاء العدو، وأمرنا بالفطر، فأصبح الناس شَرْجين، منهم الصائم والمفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين". وأخرجه الترمذي (¬2) من طريق ابن المبارك عن سعيد وصححه. وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن حُميد بن أبي حميد الطويل البصري روى لي المجاعة، عن بكر بن عبد الله المزني البصري روى له الجماعة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأما حديث رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم ابن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن سمي القرشي المخزومي أبي عبد الله المدني روى له الجماعة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة قيل: اسمه محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن روى له الجماعة، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 241 رقم 7937). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 198 رقم 1684).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث مالك، عن سمي، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - عليه السلام -: "أن النبي - عليه السلام - أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر وقال: تقووا لعدوكم، وصام النبي - عليه السلام -. قال أبو بكر: قال الذي حدثني: لقد رأيت النبي - عليه السلام - بالعَرْج يصب فوق رأسه الماء من العطش أو من الحر، فقيل: يا رسول الله إن طائفة من الناس صاموا حين صمت، فلما كان بالكديد دعى بقدح فشرب، فأفطر الناس". ثم نتكلم في معاني الأحاديث المذكورة وما يستنبط منها من الأحكام: الأول: فقوله: "عام الفتح" أي فتح مكة، كان في سنة تسع من الهجرة. قوله: "حتى بلغ الكديد" بفتح الكاف وهي عين جارية، بها نخيل كثيرة، بينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلًا، وفي رواية البخاري: "إن الكديد ما بين عُسفان وقديد"، وعُسفان: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلًا من مكة؛ سميت بها لتعسف السيول فيها. "وقُدَيد": بضم القاف وفتح الدال موضع قريب من عُسْفان فكأنها في الأصل تصغير قِدّ، قال القاضي: قال في رواية: "حتى بلغ الكديد"، وفي رواية: "حتى بلغ عُسفان"، وفي الأخرى: "حتى بلغ كراع الغميم" وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح، وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها، وإن كانت عسفان متباعدة شيئًا عن هذه المواضع، فكلها مضافة إليها، ومن عملها، فاشتمل عليها اسمُها، وقد يكون أنه كلَّم الناس بحال الناس ومشقة ذلك عليهم، وكان فطرهم بالكديد، ويعضده ما جاء في حديث "الموطأ": "فقيل لرسول الله - عليه السلام -: إن ناسًا صاموا حين صمتَ. فلما كان بالكديد دعى بقدح فأفطر الناس". و"الغميم": بفتح الغين المعجمة وادي أمام عسفان بثمانية أميال، يضاف إليها هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى للبيهقي" (4/ 242 رقم 7939).

و"الكراع": كل أنفٍ سال من جبل أو حرة. قوله: "تهيم به تحت الشجر" أي: تتقلب به حتى تدخل تحت الشجر من عدم تماسكه، ومنه الرمل الأهيم وهو الذي لا يثبت ولا يتماسك. وفي رواية أحمد: "وجعلت ناقته تدخل تحت العِضَاه" وهو كل شجر ذي شوك، واحده عضة (¬1)، حذفت منه الهاء كَشِفَّه، ردت في الجمع فقالوا: عِضاه كما قالوا: شفاه، ويقال: عضاهه أيضًا وعضهة أيضًا. قوله: "أولئك العصاة" جمع عاصي كالقضاة جمع قاضي. قوله: "فكانت عزيمةً من رسول الله - عليه السلام -" أي: وقعت عزيمة منه، أو وجدت، فتكون "كانت" تامة، فلهذا لا تحتاج إلى خبر. قوله: "ثم لقد رأيتني" بضم التاء أي: لقد رأيت نفسي. قوله: "بالعَرْج" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم، وهي قرية جامعة من عمل الفرع، على أيام من المدينة، وأيضًا العرج: عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج، وهذه هي المرادة ها هنا، والعرج أيضًا: بلد بين المحالب والمهجم. قوله: "صُوَّامًا" بضم الصاد وتشديد الواو: جمع صائم، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "فخرجنا". قوله: "مُرّ الظهران" بضم الميم وتشديد الراء، وهي التي يقال لها: بطن مُرّ أيضًا، وهي موضع قريب من مكة على طريق الحاج. قوله: "شَرْجين" بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الجيم، معناه نصفين نصف صيام ونصف مفاطير. والثاني: وهو الأحكام على وجوه: الأول: في أحاديث ابن عباس بيان صريح أنه - عليه السلام - صام في السفر، وفيها ردّ على ¬

_ (¬1) في "النهاية" (3/ 255): الواحدة: عِضَةٌ، وأصلها: عِضَهَةٌ، وقيل: واحدته: عِضاهة، وعَضَهْتُ العِضَاة إذا قطعتها.

من لم يجوز الصوم في السفر، وفيها بيان إباحة الإفطار في السفر، وفيها أن الاتباع في أفعال النبي - عليه السلام - وأقواله بالأحدث فالأحدث، وبالآخِر فالآخر. الثاني: من حديث جابر، استدل به من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر، وكذلك استدل به ابن حزم حتى قال: إن كان صومه لرمضان فقد نسخه بقوله: "أولئك العصاة" وصار الفطر فرضًا، والصوم معصيةً، ولا سبيل إلى خبر ناسخ لهذا، وإن كان صومه تطوعًا فهذا أحرى للمنع من صيام رمضان لرمضان في السفر. قلنا: هذا تخبيط؛ فليس ها هنا نسخ ولا فرضية الفطر ولا صوم النبي - عليه السلام - كان تطوعًا، وإنما قال: "أولئك العصاة"؛ لأن الصوم كان قد شق عليهم فأمرهم بالإفطار دفعًا لتلك المشقة، فصار الصوم في ذلك الوقت في تلك الحالة منهيًّا عنه، فلما بلغه أن بعضهم قد صاموا قال: أولئك العصاة؛ لارتكابهم المنهيّ، ويؤيد هذا التأويل قوله: "إن الناس قد شق عليهم الصيام". الثالث: في حديث أبي سعيد أمور منها: أن فيه ردًّا على من يقول: إنه إذا أنشأ السفر في رمضان لم يَجُز له أن يُفطر، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1). وقال البخاري: ومعنى الآية شهود الشهر كله ومن شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر. ومنها قال القاضي: فيه بيان جواز الفطر لمن بيَّت الصوم في السفر. وهو قول مطرف من أصحابنا واحد قولي الشافعي خلافًا للجمهور في أن ذلك لا يباح له، واستدل هؤلاء على جواز ذلك بفطر النبي - عليه السلام -. وأجاب الجمهور عن ذلك أنه يحتمل أن يكون - عليه السلام - قد بيَّت الفطر. وقال القاضي: وظاهره غير ذلك، وأنه ابتدأ الفطر حينئذٍ، وقد يحتمل أنه للضرورة اللاحقة به وبهم، والشقة التي نالتهم، أو فعل هو وهم ذلك لضرورة ¬

_ (¬1) البقرة، آية: [185].

التَّقَوِّي على عدوهم كما جاء في الحديث أيضًا منصوصًا، فلا يكون هذا بحكم الاختيار. وقال المهلب: يحتمل أن يكون فطرهم في يومهم بعد تبييتهم الصوم، ويحتمل أن يكون فيما يأتي ويستقبلون بعد يومهم ويبيِّنون فطرهم. قال القاضي: ثم اختلف المانعون للفطر بعد عقد الصوم فيه: هل عليه كفارة أم لا؟ وعن مالك وأصحابه في ذلك قولان، وبسقوط الكفارة قال جمهور أصحابه وكافة أئمة الفتوى وعلماء الأمصار. وفرَّق ابن الماجشون في فطره فأوجب الكفارة إن كان بجماع، وأسقطها بغيره، وهو أحد قولي الشافعي على أصله في أنه لا يكفر إلا المجامع. وكذلك اختلفوا في يوم خروجه: فذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وجمهور العلماء أنه لا يفطر إذا خرج صائمًا ولا يوم خروجه وقد لزمه الصوم، وقد ذهب بعض السلف وأحمد وإسحاق والمزني إلى جواز ذلك له. وقال الحسن: له الفطر في بيته إذا أراد السفر في يومه. واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه عندنا في هذين الوجهين إنْ هو أفطر قبل خروجه أو هو أفطر بعده. ومنها أن فيه جواز الصوم في السفر ردًّا على مَن منعه. الرابع: في حديث رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - جواز صبّ الماء على رأسه في نهار الصوم، وأن ذلك لا يضر صومه، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: إن فِطر رسول الله - عليه السلام - وأمَره أصحابه بذلك بعد صومه وصومهم الذي لم يكن ينهاهم عنه ناسخٌ لحكم الصوم في السفر أصلًا. قيل له: وما دليلك على ما ذكرت في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي قد ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا أنه كان يصوم مع رسول الله - عليه السلام - في السفر بعد ذلك؟ فدل هذا الحديث على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي - عليه السلام - المذكور في هذه

الآثار مباحًا، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو أحد من رُوي عنه في إفطار النبي - عليه السلام - ما ذكرنا. ما حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: حدثني عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "إنما أراد -عز وجل- بالفطر في السفر التيسير عليكم، فمن يُسِّر عليه الصيام فليصم، ومَن يُسِّر عليه الفطر فليفطر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إن شاء صام وإن شاء أفطر". فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبي - عليه السلام - في السفر بعد صيامه فيه ناسخًا للصوم في السفر، ولكنه جعله على جهة التيسير. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن فطر رسول الله - عليه السلام - في سفره بعد صومه، وأمَره أيضًا للناس بالفطر بعد صومهم يدلان على أن الصوم في السفر منسوخ. وهذا السؤال من جهة مَن يقول بعدم جواز الصوم في السفر، وهو قول الظاهرية أيضًا، ولهذا صرَّح ابن حزم بانتساخ حكم الصوم في السفر. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلِّم صحة دعوى النسخ، وما دليلك على هذا؟ بل الدليل يدل على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي - عليه السلام - فيه مباح، وذلك قول أبي سعيد الخدري في حديثه الذي رواه عنه قزعة بن يحيى المذكور عن قريب: "ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك". قوله: "بعد ذلك" يدل على أنه كان يصوم مع النبي - عليه السلام - بعده إفطاره - عليه السلام - في السفر وأمره الناسَ بذلك؛ فدل على أن حكم الصوم في السفر باقٍ، وأنه غير منسوخ. ثم أكد ذلك بقوله: وقد قال ابن عباس وهو أحد من روي عنه. أي: والحال أنه أحد من روي عنه في إفطار النبي - عليه السلام - ما ذكرنا.

وهو الذي أخرجه من طرق عديدة فيها إفطار النبي - عليه السلام - في السفر. قوله: "ما حدثنا يونس" مَقول القول، أي: وقد قال ابن عباس ما حدثنا يونس ابن عبد الأعلى، عن عليّ بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي روى له الجماعة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري روى له الجماعة، عن طاوس بن كيسان اليماني روى له الجماعة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الجصاص في "أحكامه" (¬1): من رواية عبد الكريم، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "لا يُعْتب (¬2) على من صام ولا على من أفطر؛ لأن الله تعالى قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3) ". والأثر الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬4) ومسلم (¬5): من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان حتى بلغ عُسفان، ثم دعى بإناء من ماء فشرب نهارًا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، فكان ابن عباس يقول: صام رسول الله - عليه السلام - في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومَن شاء أفطر". وقد أخرجه الطحاوي أيضًا فيما مضى. فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يجعل إفطار النبي - عليه السلام - في السفر بعد صيامه فيه -أي في السفر- ناسخًا للصوم في السفر، ولكن جعله على جهة التيسير، وأخبر في أثره المذكور أن اليسر المذكور فيه أُريد به التخيير، فلولا احتمال الآية لما تأولها عليه. ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" (1/ 265). (¬2) كذا في "الأصل، ك" وفي "أحكام القرآن" للجصاص، و"مصنف عبد الرزاق" (2/ 570 رقم 4498): "نعيب". (¬3) سورة البقرة، آية: [185]. (¬4) "صحيح البخاري" (4/ 1559 رقم 4029). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 785 رقم 1113).

وقال الجصاص: في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا، ولو كان الإفطار فرضًا لازمًا لزال فائدة قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). لأن قوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} يدل على أن المسافر يتخير بين الإفطار وبين الصوم، كقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬2)، وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3) فكل موضع ذكر فيه التيسير ففيه الدلالة على التخيير. ص: فإن قال قائل: فما معنى قول ابن عباس في حديث عبيد الله بن عبد الله الذي ذكرته عنه في ذلك: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -"؟. قيل له: معنى ذلك عندنا -والله أعلم- أنهم لم يكونوا علموا قبل ذلك أن للمسافر أن يُفطر في السفر كما ليس له أن يُفطر في الحضر، وكان حكم الحضر والسفر في ذلك عندهم سواء، حتى أحدث لهم رسول الله - عليه السلام - ذلك الفعل الذي أباحه لهم من الإفطار في أسفارهم، فأخذوا بذلك على أن لهم الافطار على الإباحة، ولهم ترك الإفطار. فهذا معنى حديث ابن عباس هذا، ويدلك على ذلك ما قد ذكرناه عنه من قوله الذي وصفنا، وقد ذكرنا عن أنس بن مالك ما يدل على أن معنى ذلك عنده مثل معناه الذي ذكرناه عن ابن عباس. حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عاصم -وهو الأحول- قال: "سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن صوم شهر رمضان في السفر، فقال: الصوم أفضل". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، عن أنس قال: "إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فالصوم أفضل". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [185]. (¬2) سورة المزمل، آية: [20]. (¬3) سورة البقرة، آية: [196].

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عاصمًا يحدث، عن أنس قال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم أفضل". ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقولون بأن حكم الصوم في السفر باق وأنه مباح، وقد روي في حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله - عليه السلام - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -. فهذا يدل على أن الفطر آخر الأمرين، وأنهم أخذوا به، فيكون ناسخًا لحكم الصوم الذي كانوا يصومونه في السفر. وتقرير الجواب أن يقال: إن معنى قوله: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام -" ليس مثل ما فهمتم من كونه دالًّا على النسخ، وإنما معناه أنهم لم يكونوا عالمين قبل ذلك بعدم إباحة الإفطار للمسافر كما كان ذلك غير مباح للمقيم، وكان حكم السفر والإقامة في ذلك سواء عندهم، حتى أحدث لهم رسول الله - عليه السلام - ذلك الفعل الذي أباحه لهم من الإفطار في السفر؛ فأخذوا بذلك، على أن لهم الإفطار على الإباحة ولهم ترك الإفطار. قوله: "ويدل على ذلك ما قد ذكرناه عنه" أي: ويدل على ما ذكرنا من المعنى ما قد ذكرناه عن ابن عباس من قوله: "إنما أراد -عز وجل- بالفطر في السفر التيسير عليكم، فمن يُسِّر عليه الصيام فليصم، ومن يُسِّر عليه الفطر فليفطر". قوله: "وقد ذكرنا عن أنس بن مالك، عن النبي - عليه السلام - في ذلك قريبًا مما ذكرناه عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام -" وأراد به ما رواه بكر بن عبد الله المزني، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - كان في سفر ومعه أصحابه، فشق عليهم الصوم ... " الحديث، وقد مَرَّ عن قريب، ومعنى هذا قريب من معنى حديث ابن عباس؛ لأن فيه أن النبي - عليه السلام - طلب الإناء وشرب وهو على راحلته. فهذا يدل على أنه أحدث لهم حكم إباحة الإفطار في السفر؛ لأنهم كانوا عالمين بذلك.

قوله: "ثم قد روي عن أنس ما يدل على أن معنى ذلك عنده" أي: ما يدل على أن معنى ما رواه عن النبي - عليه السلام - عنده مثل معنى ما روي عن ابن عباس من التخيير بين الصوم والإفطار في السفر. وبَيَّنَ ذلك بقوله: "حدثنا إبراهيم بن محمَّد ... " إلى آخره. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن محمَّد بن يونس مولى عثمان بن عفان، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. الثاني: عن فهد، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حي الكوفي، عن عاصم الأحول، عن أنس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية ومروان بن معاوية، عن عاصم قال: "سئل أنس عن الصوم في السفر، فقال: من أفطر فرخصة، ومن صام فالصوم أفضل". الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن أنس. ص: وكان مما احتج به أيضًا أهل المقالة الأولى في رفعهم الصوم في السفر ما قد ذكرنا في غير هذا الموضع من قول رسول الله - عليه السلام -: "إن الله قد وضع عن المسافر الصيام". قالوا: فلما كان الصيام موضوعًا عنه كان إذا صامه فقد صامه وهو غير مفروض عليه فلا يجزئه. فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون ذلك الصيام ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 280 رقم 8974).

الذي قد وضعه عنه هو الصيام الذي لا يكون له منه بُدّ في تلك الأيام كما لابُدّ للمقيم من ذلك. وفي هذا الحديث ما دلَّ على هذا المعنى، ألا تراه يقول: "وعن الحامل والمرضع"، أفلا ترى أن الحامل والمرضع إذا صامتا رمضان أن ذلك يُجزئهما، وأنهما لا يكونان كمن صام قبل وجوب الصوم عليه، بل جُعِلَتا يجب الصوم عليهما بدخول الشهر، فجعل لهما تأخيره للضرورة؟ والمسافر في ذلك مثلهما. وهذا أولى ما حمل عليه هذا الأثر حتى لا يضادّ غيرَه من الآثار التي قد ذكرناها في هذا الباب. ش: أي: وكان من الذي احتج به أيضًا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن الصوم مرفوع عن المسافر حتى إنه إذا صام لا يجوز عند بعضهم، كما قد مَّر بيانه. قوله: "ما قد ذكرناه" في محل الرفع؛ لأنه اسم كان، وأراد بـ"غير هذا الموضع" باب صلاة المسافرة فإنه أخرج فيه من حديث عبد الله بن الشخير، عن رجل من بلحريش، أن النبي - عليه السلام - قال: "إن الله قد وضع عن المسافر الصيام" ورواه بوجوه مختلفة هناك، واحتج به هؤلاء وقالوا: لما كان الصيام موضوعًا عن المسافر كان إذا صامه فقد صامه والحال أنه غير مفروض عليه؛ فلا يجزئه، وقد استدل ابن حزم أيضًا بهذا الحديث على أن الإفطار في السفر فرض في شهر رمضان، فقال: أسقط الله تعالى بهذه الأخبار عن المسافر الصوم ونصف الصلاة، فإذا صامه لم يجزئه عن رمضان. وأجاب عن ذلك بقوله: "فكان من الحجة للآخرين عليهم"، أي: فكان من الجواب للآخرين وهم الذين ذهبوا إلى تخيير المسافر في الصوم والإفطار "عليهم" أي: على أهل المقالة الأولى "في ذلك" أي: فيما احتجوا به "أنه" أي: أن الشأن "قد يجوز أن يكون ذلك الصيام الذي قد وضعه عنه" أي: عن المسافر "هو الصيام الذي لا يكون له منه بُدّ في تلك الأيام " وأراد بها: الأيام التي لم تكن رخصة الإفطار فيها مشروعة يعني: أن الصيام الذي وضعه الله عن المسافر في هذا الحديث هو الصيام الذي كان

عليه فرضًا في السفر كما كان فرضًا على المقيم، ثم لما رخص الله بالإفطار للمسافر وضع عنه الصيام إلى وقت آخر. وقد دل على هذا المعنى قوله في الحديث: "عن الحامل والمرضع" أي: وضع الصوم أيضًا عن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما، ومع هذا لو صامتا عن رمضان فإنه يجزئهما عنه؛ لأن الصوم وجب عليهما بدخول الشهر، غير أنه أبيح لهما الإفطار للضرورة، فإذا أقدمتا عليه جاز عن فرضهما، وكذلك المسافر وجب عليه الصوم بدخول الشهر، غير أنه أبيح له الإفطار لمشقة السفر، فإذا أقدم عليه جاز عن فرضه. فهذا تحقيق ما قاله الطحاوي، وقد قال أبو بكر الرازي: إن قوله - عليه السلام - هذا يدل على أن الفرض لم يتعين على المسافر بحضور الشهر، وأن له أن يُفطر فيه، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه، كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع، وفيه من المخالفة لما قاله الطحاوي على ما لا يخفى، والذي قاله الطحاوي هو التقريب؛ فافهم. ص: وكان من الحجة على أهل المقالة الأولى التي قد ذكرناها لأهل المقالة الثانية التي قد وصفناها: أنا قد رأيناهم كانوا مع رسول الله - عليه السلام - بعد أن أباح لهم الإفطار في السفر يصومون فيه. فمما روي في ذلك: ما حدثنا يزيد بن سنان وربيع الجيزي وصالح بن عبد الرحمن، قالوا: حدثنا القعنبي، قال: ثنا هشام بن سعد، عن عثمان بن حيان الدمشقي، عن أم الدرداء، قالت: قال أبو الدرداء: "لقد رأيتنا مع رسول الله - عليه السلام - في بعض أسفاره في يوم شديد الحر حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه لشدة الحر وما منا صائم إلا رسول الله - عليه السلام - وعبد الله بن رواحة". حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يكن يعيب بعضنا على بعض".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - يوم فتح مكة لتسع عشرة من رمضان، فصام صائمون، وأفطر مفطرون، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه قال: "لثنتي عشرة". حدثنا علي، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه قال: "لثمان عشر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا هشام ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يذكر فتح مكة. حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن مورق العجلي، عن أنس قال: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فنزلنا في يوم شديد الحر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلًا في يوم حارّ وأكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنا مَن يسز الشمس بيده، فسقط الصوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله - عليه السلام -: ذهب المفطرون بالأجر اليوم". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "سافرنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". فدل ما ذكرنا في هذه الآثار أن ما كان من إفطار رسول الله - عليه السلام - وأمره أصحابه بذلك ليس على المنع من الصوم في السفر، وأنه على الإباحة في الإفطار. ش: أشار بهذا إلى حجج وبراهين أخرى لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى في رفعهم جواز الصوم للمسافر في شهر رمضان.

وقوله: "أَنَّا قد رأيناهم" بفتح الهمزة في محل الرفع؛ لأنه اسم "كان" وخبره قوله: "من الحجة" أي: أنا قد رأينا الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا مع رسول الله - عليه السلام - يصومون في السفر بعد أن أباح لهم رسول الله - عليه السلام - الإفطار في السفر. وأخرج في ذلك آثارًا تدل على أن ما كان من إفطار النبي - عليه السلام - في السفر وأمره به لأصحابه ليس على المنع من الصوم في السفر وأنه إنما هو على الإباحة في الإفطار، وهي أحاديث أبي الدرداء وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأنس ابن مالك - رضي الله عنهم -. أما حديث أبي الدرداء فأخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان وربيع بن سليمان الجيزي وصالح بن عبد الرحمن، ثلاثتهم عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن هشام بن سعد أبي عباد المدني القرشي مولى آل أبي لهب روى له الجماعة إلا البخاري، عن عثمان بن حَيَّان -بتشديد الياء آخر الحروف- بن معبد المزني الدمشقي مولى أم الدرداء، روى له مسلم وابن ماجه هذا الحديث فقط، عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، روى لها الجماعة، عن أبي الدرداء عويمر بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد الله بن مسلمة قال: ثنا هشام بن سعد ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البخاري (¬2) وأبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4). قوله: "لقد رأيتُنا" بضم التاء؛ أي: لقد رأيت أنفسنا. قوله: "لَيَضَعُ يده" بفتح اللام؛ لأنها للتأكيد. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 790 رقم 1122). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 686 رقم 1843). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 317 رقم 2409). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 531 رقم 1663).

وأما حديث جابر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير روى له الجماعة، عن عاصم بن سليمان الأحول روى له الجماعة، عن أبي نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- المنذر بن مالك العبدي ثم العوقي البصري روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني أيوب بن محمَّد، قال: نا مروان، قال: نا عاصم، عن أبي نضرة المنذر، عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله: "أنهما سافرا مع رسول الله - عليه السلام - فيصوم الصائم، ويُفطر المفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". وأخرجه النسائي (¬2) من وجوه مختلفه. وأخرجه مسلم (¬3) نحوه. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) بوجوه مختلفة فقال: ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: ثنا قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "غزونا مع رسول الله - عليه السلام - لست عشرة مضت من رمضان، فمنا مَن صام، ومنا مَن أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". ثنا (4) محمَّد بن أبي بكر المقدمي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن التميمي. وثنا (4) محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن مهدي، قال: ثنا شعبة. وقال ابن مثنى (4): ثنا أبو عامر، قال: ثنا هشام. وقال ابن مثنى (4): ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا عمر- يعني: ابن عامر. وثنا (4) أبو بكر بن أبي شيبة، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 189 رقم 2312). (¬2) "المجتبى" (4/ 188 رقم 2309 - 2312). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 787 رقم 1117). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 786 رقم 1116).

قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد، كلهم عن قتادة ... بهذا الإسناد ونحو حديث همام، غير أن في حديث التيمي وعمر بن عامر وهشام: "لثمان عشرة خلت"، وفي حديث سعيد: "في ثنتي عشرة"، وفي حديث شعبة: "لسبع عشرة أو تسع عشرة". قلت: هذا اختلاف كما ترى، والذي قاله أصحاب السير: أن خروج النبي - عليه السلام - لغزو مكة كان لعشر خلون من رمضان، ودخوله مكة في تسع عشرة، والله أعلم. الثاني: عن عليّ أيضًا، عن رَوْح أيضًا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، كما ذكرناه. الثالث: عن عليّ أيضًا، عن رّوْح أيضًا، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (1) أيضًا نحوه، وقد ذكرناه الآن. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن هشام الدستوائي، عن قتادة ... إلى آخره. الخامس: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصَّاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬2) نحوه. وأما حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد عمرو بن يونس التغلبي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن مُوَرّق بن مشمرج العجلي البصري- ويقال: الكوفي، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 787 رقم 1116). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 74 رقم 11723).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "ومنا من يتقي الشمس بيده". وأخرجه البخاري (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "كنا نسافر مع النبي - عليه السلام - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المُفطر على الصائم". وأخرجه مسلم (¬5): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو خيثمة، عن حميد، قال: "سئل أنس عن صوم رمضان في السفر، فقال: سافرنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". وأخرجه أبو داود (¬6): ثنا أحمد بن يونس، قال: نا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس قال: "سافرنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المُفطر على الصائم". وأخرجه مالك (¬7) في "موطئه". وقال أبو عمر: هذا حديث متصل صحيح، وبلغني عن ابن وضاح أنه كان يقول: إن مالكًا لم يتابع عليه في لفظه، وزعم أن غيره يرويه عن حميد، عن أنس أنه قال: "كان أصحاب رسول الله - عليه السلام - يسافرون، فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم". ليس فيه ذكر رسول الله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 788 رقم 1119). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1058 رقم 2733). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 105 رقم 2592). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 687 رقم 1845). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 787 رقم 1118). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 731 رقم 2405). (¬7) "موطأ مالك" (1/ 295 رقم 652).

ولا أنه كان يشاهدهم في حالهم هذه، وقد تابع مالكًا على هذا جماعة من الحفاظ، منهم: أبو إسحاق الفزاري وأبو ضمرة أنس بن عياض ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الوهاب الثقفي، كلهم رووه عن حميد، عن أنس بمعنى حديث مالك: "سافرنا مع رسول الله - عليه السلام -". وما أعلم أحدًا روى حديث أنس هذا على ما قال ابن وضاح إلا ما رواه محمَّد بن مسعود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن حميد، عن أنس. قوله: "فضربوا الأبنية" جمع بناء، وهي الخباء التي تضرب. قوله: "وسقوا الركاب" بكسر الراء وتخفيف الكاف، وهي الرواحل من الإبل، وتجمع على رُكُب -بضمتين- ويقال: الركاب جمع راحلة وليس لها واحد من لفظها، كالنساء جمع امرأة. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه صام في السفر وأفطر: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: "أن النبي - عليه السلام - كان يصوم في السفر ويفطر". حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء عن عائشة قالت: "صام رسول الله - عليه السلام - في السفر وأفطر". فدل ذلك على أن للمسافر أن يصوم وله أن يفطر. ش: هذا أيضًا مما احتجت به أهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى؛ لأن فيه إخبارًا عن فعل النبي - عليه السلام - بأنه كان يصوم في السفر ويُفطر. وأخرجه من وجهين: الأول: حديث عبد الله بن مسعود: أخرجه عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام وهو مجهول لا يُعرف، قاله أبو المحاسن الحسيني.

يروي عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الرحيم صاحب السابُري ومحمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم التستري، قالا: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام؛ عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم في السفر ويُفطر". وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن عبد السلام هذا إلا ابن أبي عروبة. الثاني: حديث عائشة - رضي الله عنها - أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن بشر شيخ البخاري، عن المعافى بن عمران الأزدي روى له البخاري وأبو داود والنسائي، عن مغيرة بن زياد البجلي أبي هشام الموصلي وثقه وكيع ويحيى والعجلي، وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس صالح. روى له الأربعة، عن عطاء بن أبي رباح المكي، روى له الجماعة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا المحاملي، نا سعيد بن محمَّد بن ثواب، نا أبو عاصم، نا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقصر في السفر ويتم، ويُفطر ويصوم". ثم قال: هذا إسناد صحيح. وأخرجه البزار بإسناد الطحاوي ولكنه اقتصر على حكم الصلاة. ص: وقد سأل حمزة الأسلمي رسول الله - عليه السلام - عن الصوم في السفر فقال له: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر". حدثنا بذلك علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا سعيد وهشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي بذلك. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (4/ 350 رقم 1549). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 189 رقم 44).

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي، مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - عليه السلام -: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله - عليه السلام -: أصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال له النبي - عليه السلام -: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". فهذا رسول الله - عليه السلام - قد أباح الصوم في السفر لمَن شاء ذلك. فثبت بهذا وبما ذكرنا قبله أن صوم رمضان في السفر جائز. ش: ذكر هذا تأكيدًا للحديث السابق؛ لأن ذاك فعل الرسول - عليه السلام -، وهذا قوله. ولما اجتمع قول النبي - عليه السلام - وفعله في حكم قويت الحجة به، وأشار إلى ذلك بقوله: "فثبت بهذا" أي: بحديث حمزة بن عمرو "وبما ذكرنا قبله" أي: حديث ابن مسعود وعائشة "أن صوم رمضان في السفر جائز". وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة ... إلى آخره. وكلهم ثقات قد ذكروا غير مرة. وحمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الجماعة (¬1) على ما نذكره. وأخرجه النسائي (¬2) بهذا الطريق: أنا محمَّد بن رافع، قال: أنا أزهر بن القاسم، قال: نا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي: "أنه ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه الآن. (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 107 رقم 2602).

سأل رسول الله - عليه السلام - عن الصوم في السفر، قال: إن ... ثم ذكر كلمة معناها: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت". وأخرجه (¬1) من وجوه متعددة. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ أحمد، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله المدني، عن عمران بن أبي أنس المصري العامري، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا هارون بن عبد الله، قال: نا محمَّد بن بكر، قال: أنا عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن حمزة بن عمرو: "أنه سأل رسول الله - عليه السلام - عن الصوم في السفر، قال: إن شئت أن تصوم فصُم، وإن شئت أن تُفطر فأفطر". أنا عمران ن بكار (¬3) قال: ثنا أحمد بن خالد، قال: ثنا محمَّد، عن عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار وحنظلة بن علي، قال: حدثاني جميعًا عن حمزة بن عمرو قال: "كنت أسرد الصيام على عهد رسول الله - عليه السلام -، فقلت: يا رسول الله إني أسرد الصيام في السفر، فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬5): عن قتيبة بن سعيد، عن ليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 107 رقم 2602 - 2617). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 109 رقم 2610). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 108 رقم 2607). (¬4) "صحيح البخاري" (686/ 2 رقم 1841). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 789 رقم 1121).

عائشة أنها قالت: "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - عليه السلام - عن الصيام في السفر، فقال: إن شئت صم وإن شئت فأفطر". وله في رواية (4): "إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت". وفي رواية (¬1): "يا رسول الله أجد بي قوةً على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومَن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه". وأبو داود (¬2): عن سليمان بن حرب ومسدد، قالا: نا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن حمزة الأسلمي سأل النبي - عليه السلام - فقال: يا رسول الله إني رجل أسردُ الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صُمْ إن شئت، وأفطر إن شئت". والترمذي (¬3): عن هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله - عليه السلام - عن الصوم في السفر -وكان يسرد الصوم- فقال رسول الله - عليه السلام -: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - عليه السلام - فقال: إني أصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت فَصُمْ، وإن شئت فأفطر". فإن قيل: حديث حمزة هذا لا يدل على جواز الصوم في شهر رمضان في السفر؛ لأن سؤاله كان في صوم التطوع في السفر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 789 رقم 1121). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 316 رقم 2402). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 91 رقم 711). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 531 رقم 1662).

وقال القاضي: قوله: "إني رجل أسرد الصوم"، وقوله أيضًا: "إني رجل أصوم في السفر"، يدل ظاهرًا أنه سأله عن التطوع. وقال ابن حزم: وأما خبر حمزة فبيان جلي في أنه إنما سأله - عليه السلام - عن التطوع؛ لقوله في الخبر: "إني امرؤ أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام". قلت: لا نسلم أن سؤاله كان عن التطوع، بل لم يكن سؤاله إلا عن الصوم في رمضان في السفر. والدليل عليه ما رواه أبو داود (¬1): ثنا عبيد الله بن محمَّد النفيلي، قال: نا محمَّد بن عبد المجيد المدني، قال: سمعت حمزة بن محمَّد بن حمزة الأسلمي، يذكر أن أباه أخبره، عن جده: "قلت: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- فأنا أجد القوة وأنا شابٌّ وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أؤخره فيكون دينًا، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: أيُّ ذلك شئت يا حمزة". ص: وذهب قوم أنه لا فضل لمن صام رمضان في السفر على مَنْ أفطر وقضاه بعد ذلك، وقالوا: ليس أحدهما أفضل من الآخر، واحتجوا في ذلك بتخيير النبي - عليه السلام - حمزة بن عمرو بين الإفطار في السفر والصوم، ولم يأمره بأحدهما دون الآخر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: قتادة والأعمش وإسماعيل بن علية والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: المسافر في رمضان مخير بين الصوم والإفطار، ولا فضل للمفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر، والباقي ظاهر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الصوم في السفر في شهر رمضان أفضل من الإفطار. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 316 رقم 2403).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وشقيق بن سلمة وطاوسًا وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: الصوم أفضل للمسافر في رمضان، ويروى ذلك عن أنس وأبي موسى الأشعري وابن عمر وعثمان بن أبي العاص وحذيفة بن اليمان وعائشة - رضي الله عنهم -. وكذا روي عن قيس بن عباد ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم وابن أبي مليكة رحمهم الله. ص: وقالوا لأهل المقالة التي ذكرنا: ليس فيما ذكرتموه من تخيير النبي - عليه السلام - لحمزة بين الصوم في السفر والفطر دليل على أنه ليس أحدهما أفضل من الآخر، ولكن إنما خيره بما له أن يفعله من الإفطار والصوم، وقد رأينا شهر رمضان يجب بدخوله الصوم على المسافرين والمقيمين جميعًا إذا كانوا مكلفين، فلما كان دخول رمضان هو الموجب للصيام عليهم جميعًا، كان مَن عجل منهم أداء ما وجب عليه أفضل ممن آخره، فثبت بما ذكرنا أن الصوم في السفر أفضل من الفطر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي، قال هؤلاء الآخرون في جواب ما قاله أولئك القوم، وهو ظاهر غني عن زيادة البيان. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن أنس بن مالك وعن نفر من التابعين. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن سعيد ابن جبير قال: "الصوم أفضل، والإفطار رخصة" يعني: في السفر. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم وسعيد ابن جبير ومجاهد، أنهم قالوا في الصوم في السفر: "إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، والصوم أفضل".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا حبيب، عن عمرو بن هَرِم، قال: "سئل جابر بن زيد عن صيام رمضان في السفر، فقال: يصوم مَن يشاء إذا كان يستطيع ذلك ما لم يتكلف أمرًا يشق عليه، وإنما أراد الله تعالى بالإفطار التيسير على عباده". حدثنا يونس، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني القاسم، عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر في الحرّ، فقلت: ما حملها على ذلك؟ فقال: إنها كانت تبادر". فهذه عائشة - رضي الله عنها - كانت ترى المبادرة بصوم رمضان في السفر أفضل من تأخير ذلك إلى الحضر. ش: أي: قد روي أن الصوم في رمضان في السفر أفضل من الفطر، عن أنس بن مالك وعن جماعة من التابعين. أما الدي روي عن أنس: فهو الذي أخرجه فيما مضى عن إبراهيم بن محمَّد، عن أبي حذيفة، عن سفيان، عن عاصم الأحول قال: "سألت أنس بن مالك عن صوم شهر رمضان في السفر، فقال: الصوم أفضل". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) وقد ذكرناه فيما سلف. وأما الذي روي عن التابعين: فهو ما أخرجه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وجابر بن زيد النجدي الجوفي، بالجيم والفاء. ورجال آثارهم كلهم ثقات. وأبو عامر هو عبد الملك بن عمرو العقدي، وسفيان هو الثوري، وحماد هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. وحبيب هو ابن أبي حبيب الجرمي صاحب الأنماط، روى له مسلم. وعمرو بن هَرِم الأزدي البصري، روى له مسلم. ¬

_ (¬1) تقدم.

وبشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل الشام. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سهل بن يوسف، عن حميد، عن ابن أبي مليكة قال: "صحبت عائشة في السفر، فما أفطرت حتى دخلت مكة". حدثنا أبو أسامة (¬2)، عن ابن عون، عن القاسم قال: "قد رأيت عائشة تصوم في السفر حتى أذلقها السموم". ثنا غندر (¬3) قال: ثنا شعبة، عن أبي الشعثاء قال: "صحبت أبي وعمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وأبا وائل، فكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬4): وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: "الصوم أفضل". وعن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله. وعن طاوس: "الصوم أفضل". وعن الأسود بن يزيد مثله. ص: وكان أيضًا مما احتج به من كره الصوم في السفر: ما حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف. (ح) وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن منصور الكلبي: "أن دحية بن خليفة خرج من قريته بدمشق إلى قدر قرية عقبة في رمضان، فأفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه: إن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 280 رقم 8975). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 280 رقم 28980). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 281 رقم 8987). (¬4) "المحلى" (6/ 247).

قومًا رغبوا عن هدي رسول الله - عليه السلام - وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال: اللهم اقبضني إليك". فكان من الحجة للذين استحبوا الصوم في السفر في هذا الحديث أن دحية إنما ذمَّ من رغب عن هدي رسول الله - عليه السلام - وأصحابه، فمن صام في سفره كذلك فهو مذموم، ومن صام في سفر غير راغب عن هديه بل على التمسك بهديه فهو محمود. ش: أي: وكان أيضًا من الذي احتج به مَن كان يكره الصوم في السفر حديث دحية بن خليفة الكلبي الصحابي الذي كان جبريل - عليه السلام - يأتي النبي - عليه السلام - في صورته، ويجوز في داله الفتح والكسر. وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن منصور بن سعيد بن الأصبغ الكلبي. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا منصورًا وهو أيضًا ثقة وثقه ابن حبان (¬1). الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد ... إلى آخره. والطريقان صحيحان. فإن قيل: كيف تقول ذلك، وقد قال الخطابي: وهذا الحديث ليس بالقوي، في إسناده رجل ليس بالمشهور، يشير به إلى منصور الكلبي. ¬

_ (¬1) قلت: وقال العجلي في "الثقات": (2/ 300): مصري تابعي ثقة. وقال ابن المديني -رحمه الله-: مجهول لا أعرفه. ونقل الحافظ في "تهذيب التهذيب" عن ابن خزيمة قال: لا أعرفه، وقال في "التقريب": مستور. وقال الذهبي في "الكاشف": لا يعرف، وقال في "الميزان" (4/ 184): ما روى عنه سوى أبي الخير مرثد بن عبد الله. وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (2/ 528).

قلت: ليس الأمر كذلك، وإنما هو مشهور، وقد وثقه ابن حبان، وقال العجلي: تابعي ثقة. وأخرج أبو داود حديثه (¬1): ثنا عيسى بن حماد، قال: أنا الليث -يعني ابن سعد- عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن منصور الكلبي: "أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبه من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال، وذلك في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه؛ إن قومًا رغبوا عن هَدْي رسول الله - عليه السلام - وأصحابه- يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2) نحوه من حديث الليث بن سعد. قوله: "خرج من قريته بدمشق" وكانت قريته هي التي تدعى اليوم قرية المزَّة. قوله: "قدر قرية عقبة" وهو عقبة بن عامر الجهني، أراد قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال كما ذكر ذلك في رواية أبي داود، وقرية عقبة هي التي تسمى اليوم منية عقبة من بلاد جيزة، والمراد من الفسطاط هي مدينة مصر. قوله: "عن هَدْي رسول الله - عليه السلام -" بفتح الهاء وسكون الدال، وهو السيرة والهيئة والطريقة، أراد أن قومًا رغبوا، أي أعرضوا عن طريقة رسول الله - عليه السلام - وسنته وخصلته التي كان يفعلها، يقال: هدى هدي فلان: إذا سار بسيرته، ومنه الحديث: "اهدوا هدي عمار" (¬3) أي: سيروا يسير ته وتهيئوا بهيئته، ومنه حديث ابن مسعود: "إن أحسن الهدي هدي محمَّد" (¬4). قوله: "فكان من الحجة للذين استحبوا الصوم في السفر ... إلى آخره". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 319 رقم 2413). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 241 رقم 7933). (¬3) "الاستيعاب" (3/ 989). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 80 رقم 207).

أراد بها الجواب عن ذلك، بيانه: أن دحية إنما ذمَّ مَن كان يرغب عن هدي رسول الله - عليه السلام - وسمْته، وعن هدي الصحابة - رضي الله عنهم -، فكل من صام في سفره، وهو راغب عن هَدْيه - عليه السلام - فهو مذموم بلا شك، وكل مَن صام وهو غير راغب عن هديه بل كائنًا على التمسك بهديه فهو محمود غير مذموم. وقال البيهقي: وما روي عن دحية إن صح فكأنه ذهب فيه إلى ظاهر الآية في الرخصة في السفر، وأراد بقوله: "رغبوا عن هدي رسول الله - عليه السلام - وأصحابه"، أي: في قبول الرخصة لا في تقدير السفر. وقال الذهبي في "مختصر سننه": بل رغبوا عن هذا مع هذا. قلت: يمكن أن يقال: إن دحية كان يرى هذا المقدار من السفر مبيحًا للفطر، وهؤلاء الذين صاموا لا يرون ذلك، فاعتقد دحية أنهم يرون أيضًا مثل رأيه وصاموا راغبين عن الرخصة؛ فلذلك ذمهم، فافهم. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا أبو الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث، عن أبي مراوح الأسلمي، عن حمزة بن عمرو الأسلمي صاحب رسول الله - عليه السلام -: "أنه قال: يا رسول الله إني أسرد الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: إنما هي رخصة من الله -عز وجل- للعباد، مَن قَبِلها فحسن جميل، ومن تركها فلا جناح عليه، قال: وكان حمزة يصوم الدهر في السفر والحضر، وكان أبو مراوح كذلك، وكان عروة كذلك". فدل ما ذكرنا عن رسول الله - عليه السلام - أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وأن الإفطار إنما هو رخصة. وقد حدثنا ربيع الجيزي، أنه قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير: "أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تصوم الدهر في السفر والحضر". ش: ذكر هذا أيضًا تأييدًا لقوله: "فثبت بما ذكرنا أن الصوم في السفر أفضل من الفطر".

وأخرجه من طريق صحيح: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المؤذن المصري، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري العابد الفقيه، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن أبي مراوح -قيل: اسمه سعد- وثقه العجلي وابن حبان، وروى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. قال القاضي: سمعناه من القاضي الشهيد وغيره: أبو مرواح وهي رواية العذري، وذكره البخاري وأصحاب الحديث: أبو مُرَاوح، وكذا ذكره مسلم في كتاب الكنى، وأبو أحمد وغيرهما. والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي- قال هارون: ثنا، وقال أبو الطاهر: أنا- ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عَلَيَّ جناح؟ فقال رسول الله - عليه السلام -: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه". وقال هارون: "هي رخصة" ولم يذكر: "من الله". وأخرجه النسائي (¬2): أنا الربيع بن سليمان، قال: نا ابن وهب، قال: نا عمرو -وذكر آخر- عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة بن عمرو، أنه قال لرسول الله - عليه السلام -: "أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح؟ قال: هي رخصة من الله -عز وجل-، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه". قوله: "إني أسرد الصوم" أي: أواليه وأتابعه، ومنه: سرد الكلام. قوله: "فحسن" خبر مبتدأ محذوف؛ أي فهو حسن جميل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 790 رقم 1121). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 109 رقم 2611).

قوله: "فلا جناح" أي فلا إثم عليه. وقال القاضي في شرح حديث مسلم: قد يحتج به من يرى الفطر أفضل لقوله فيه: "حسن"، وقوله في الصوم: فلا جناح، ولا حجة في هذا؛ فإن الأخذ بالرخصة حسن كما قال، وأما قوله في الصوم: "فلا جناح"، فجواب قوله: "هل عليَّ جناح؟ " ولا يُفهم منه أنه أنزل درجة من الفطر، ولا أنه ليس بحسن، بل جاء في الحديث الآخر وصفهما جميعًا بحسن. قلت: وبهذا خرج الجواب عما قيل: إن قول الطحاوي: "فدل ما ذكرنا عن رسول الله - عليه السلام - أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وأن الإفطار إنما هو رخصة" فيه نظر؛ لأنه كيف يكون الصوم أفضل وقد ذكر - عليه السلام - في جانبه نفي الجناح، وذكر في جانب الإفطار الحسن والجمال؛ فافهم. قوله: "وقد حدثنا ربيع الجيزي ... إلى آخره" ذكره أيضًا تأييدًا لقوله: "إن الصوم في السفر أفضل من الإفطار"، وذلك لأنه لو لم يكن أفضل لما صامت عائشة - رضي الله عنها - الدهر في السفر. وأخرجه بإسناد صحيح: عن ربيع الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله ... إلى آخره. وقد ذكروا كلهم الآن. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حيوة بن شريح وغيره، عن أبي الأسود، عن عروة: "أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تصوم الدهر في السفر والحضر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 301 رقم 8266).

ص: باب: صوم يوم عرفة

ص: باب: صوم يوم عرفة ش: أي هذا باب في بيان حكم الصوم في يوم عرفة. وعرفة اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، واسم للمكان المشهور به، ويسمى عرفات أيضًا؛ لأن آدم وحواء صلوات الله عليهما تلاقيا هناك وتعارفا. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر. (ح) وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم. (ح) وحدثنا بكر بن إدريس وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قالوا: ثنا موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، عن عقبة- وقال بكر وصالح في حديثهما: قال: سمعت أبي يحدث عن عقبة- عن النبي - عليه السلام - قال: "إن أيام الأضحى وأيام التشريق ويوم عرفة عيد أهل الإِسلام، أيام أكل وشرب". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي، عن موسى بن عُلي -بضم العين وفتح اللام- عن أبيه عُليّ بن رباح اللخمي المصري، عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا وهب، عن موسى بن عُلَيّ. ونا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عُلي -والإخبار في حديث وهب- قال: سمعت أبي، أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام إلى وشرب". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، عن عقبة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 320 رقم 2419).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عُلي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام، وهي أيام أكل وشرب". وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائى (¬2) أيضًا نحوه. الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ القصير شيخ البخاري، عن موسى بن عُلَيّ ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث موسى بن عُلي، سمعت أبي يحدث، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام، وهي أيام أكل وشرب". قوله: "إن أيام الأضحى" أيام الأضحى ثلاثة أيام: يوم العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، ويومان بعده وهما الحادي عشر والثاني عشر، وهذا عندنا، وعند الشافعي أيام الأضحى أربعة، وهي: هذه الثلاثة، والرابع هو اليوم الثالث عشر. وأما أيام التشريق فهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهذا قول الأكثرين، وقيل: بل هي أيام النحر، واختلف في تسميتها بأيام التشريق، فقيل: سميت بذلك لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، وهو تقديدها ونشرها في الشمس لتجف، وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: بل لصلاة العيد عند شروق الشمس في أول يوم منها، فصارت هذه الأيام تبعا ليوم النحر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 143 رقم 773). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 420 رقم 3995). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 298 رقم 8245).

قوله: "أيام أكل" كلام إضافي وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أيام أكل وشرب، ويجوز نصبه على أنه بدل من قوله: "أيام الأضحى". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا به صوم يوم عرفة، وجعلوا صومه كصوم يوم النحر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: بعض أهل الحديث وبعض الظاهرية، فإنهم قالوا: صوم يوم عرفة كصوم يوم النحر حرام، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور سواء كان للحاج أو غيره. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بصوم يوم عرفة. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور الفقهاء والمحدثين من التابعين ومَن بعدهم منهم: مسروق وإبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله؛ فإنهم قالوا: لا بأس بصوم يوم عرفة، والأفضل لغير الحاج صومه، وأما الحاج فالفطر أفضل له، وقال القاضي: وفطر يوم عرفة مستحب للحاج عند جماعة من العلماء، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين وجماعة من السلف؛ ليتقووا بذلك على ما هم بسبيله من الوقوف والدعاء والسعي من عمل الحج. وروي عن جماعة من السلف اختيار صومه والترغيب فيه، وجاءت فيه آثار قد ذكرها مسلم وغيره، ويجمع بينهما أن الأفضل لسائر الناس غير الحاج صومها للآثار الواردة في ذلك، والأفضل للحاج فطرها لاختيار النبي - عليه السلام - ذلك لنفسه، وسنته ذلك لمن بعده. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - إنما أراد بنَهْيِه عن صوم يوم عرفة بالموقف؛ لأنه هناك عيد وليس في غيره كذلك، وقد بين ذلك أبو هريرة. حدثنا محمَّد بن إدريس المكي وابن أبي داود، قالا: ثنا سليمان بن حرب. (ح)

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة قال: "كنا مع أبي هريرة في بيته، فحدثنا أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة". فأخبر أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النهي من رسول الله - عليه السلام - عن صوم يوم عرفة إنما هو بعرفة خاصة. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه: أنه قد يجوز ... إلى آخره. وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن يقال: استدلال هؤلاء في تحريم صوم يوم عرفة بحديث عقبة لا يتم؛ لأنه قد يجوز أن يكون - عليه السلام - أراد بنهيه عن صوم يوم عرفة بعرفة وهي الموقف؛ لأن ذلك اليوم هناك عيد فيصير كسائر الأعياد، وليس في غير الموقف كذلك، وقد بيَّن هذا المعنى أبو هريرة في حديثه: أنه - عليه السلام - نهى [عن] (¬1) صوم يوم عرفة بعرفة، فأخبر أن النهي عن صوم يوم عرفة إذا كان بعرفة -وهي الموقف- خاصة دون غيره. وأخرج الحديث المذكور من طريقين: الأول: عن محمَّد بن إدريس بن عمر المكي وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن سليمان بن حرب بن بُجَيْل الأزدي شيخ البخاري وأبي داود، عن حوشب بن عقيل الجرمي البصري- وثقه أبو داود والنسائي وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه هذا الحديث فقط. عن مهدي بن حرب الهجري المحاربي وثقه ابن حبان، وروى له هؤلاء. عن عكرمة مولى ابن عباس ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حوشب بن عَقيل ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حوشب ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمَّد، قالا: ثنا وكيع، حدثني حوشب بن عقيل، حدثني مهدي العبدي، عن عكرمة قال: "دخلت على أبي هريرة في بيته، فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات، فقال أبو هريرة: نهى رسول الله - عليه السلام - عن صوم يوم عرفة بعرفات". فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: سكوت أبي داود عنه يدل على صحته، ولا شك أنه صحيح لأن رجاله ثقات. فإن قيل: ضعفه ابن حزم قال: وفي إسناده حوشب بن عقيل وليس بالقوي، عن مهدي الهجري وهو مجهول، ومثل هذا لا يحتج به، قال يحيى بن معين: لا أعرفه. قلت: تضعيف ابن حزم ضعيف، وحوشب وثقه وكيع وأحمد والنسائي وابن حبان، وقال أحمد: كان ثقة من الثقات، وقال يحيى: ثقة. ومهدي بن حرب مشهور ذكره ابن حبان في "الثقات". فإن قيل: ما محل الباء في "بعرفة"؟ قلت: النصب على الحال، فافهم. ص: واحتج أهل المقالة الأول لقولهم أيضًا بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لم يَصُم رسول الله - عليه السلام - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي - رضي الله عنهم - يوم عرفة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 326 رقم 2440). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 551 رقم 1732).

قيل لهم: هذا أيضًا عندنا على الصيام يوم عرفة بالموقف، وقد بيَّن ذلك ابن عمر في غير هذا الحديث. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة وأبو داود، قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجل: "أن رجلًا سأل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بالموقف، فقال: خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يَصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمرك، ولا أنهاك، فإن شئت فصم، وإن شئت فلا تصمه". فبيَّن هذا الحديث أن ما روى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - هو على الصوم بالموقف. ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه من ترك صوم يوم عرفة بحديث عبد الله بن عمر؛ فإنه لما سئل عن ذلك قال: "لم يصم رسول الله - عليه السلام - ... " إلى آخره. وأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموى المكي روى له الجماعة، عن نافع .. إلى آخره. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق مؤمل، عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية ... إلى آخره نحوه، وصححه. قوله: "قيل لهم ... إلى آخره" جواب عن ذلك، أي: قيل لهؤلاء: هذا أيضًا محمول عندنا على الصوم يوم عرفة بالموقف كما قلنا؛ ليتقووا بذلك على ما هم بسبيله من الوقوف والدعاء والسعي في أعمال الحج، وقد بيَّن ذلك المعنى عبد الله بن عمر حيث أجاب لما سأله السائل عن صوم يوم عرفة بقوله: "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يَصمه ... " إلى آخره. فبيَّن في هذا أن ما رواه نافع عنه هو محمول على الصوم بالموقف". ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 18).

وأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، كلاهما عن شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن أبيه أبي نجيح واسمه يسار الثقفي المكي. عن رجل وهو مجهول: "أن رجلًا ... إلى آخره". وأخرجه الترمذي (¬1) نحوه معلقًا، وقال: قد روي هذا الحديث عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجل، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه أيضًا وليس فيه مجهول: ثنا أحمد بن منيع وعليّ بن حجر، قالا: ثنا سفيان بن عيينة وإسماعيل بن إبراهيم، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال: "سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة قال: "حججت مع النبي - عليه السلام - فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬2): أما أن رسول الله - عليه السلام - فلم يصمه فلا حجة لهم في ذلك؛ لأنه - عليه السلام - قد حَضَّ على صيامه أعظم حضٍّ، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه - عليه السلام - أم لا؟ فقد حدثنا أبو يوسف بن عبد الله، قال: ثنا أحمد بن محمَّد بن الجسور، قال: نا قاسم بن أصبغ، نا مطرف بن قيس، نا يحيى بن بكير، نا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "إن كان رسول الله - عليه السلام - ليترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". وأما ترك أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس صيامه فقد صامه غيرهم كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سهل بن أبي الصلت، عن الحسن البصري: ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 125 رقم 751). (¬2) "المحلى" (7/ 18).

"أنه سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: صامه عثمان بن عفان في يوم حار يظلل عليه". ومن طريق حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق: "أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة في الحج". ومن طريق هشام بن عروة: "أن عبد الله بن الزبير كان يدعو عشية عرفة إذا أفاض الناس بماء ثم يفيض". ص: وقد روي عن ابن عمر في الأمر بصوم يوم عرفة ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا رقبة، عن جبلة بن سُحَيم قال: "سمعت ابن عمر يُسْأَل عن صوم يوم الجمعة ويوم عرفة، فأَمَرَ بصيامهما". ش: ذكر هذا تأييدًا للتأويل الذي ذكره في حديث ابن عمر السابق؛ وذلك لأن خبره فيه لو كان عامًّا لما أمَرَ في هذا الحديث بصوم يوم عرفة، فحيث أَمَرَ عُلِمَ أن ذاك محمول على الصوم بالموقف. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سهل بن بكار الدارمي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن رقبة بن مصقلة العبدي الكوفي، عن جبلة بن سُحيم التيمي الكوفي. ومما يستفاد منه: عدم كراهة صوم يوم الجمعة، ولكن منع جمهور العلماء صوم يوم الجمعة وحدها؛ لتظاهر الأحاديث الصحيحة بالمنع عن ذلك، وروي عن مالك أن صوم يوم الجمعة مستحب، فهذا الأثر مما يقوِّي كلام مالك. وقال القاضي: قال مالك في "موطئه": لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسنٌ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه. قال الإِمام: ذكر بعض الناس أنه محمَّد بن المنكدر، وقال الداودي: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث، وأراد بقوله - عليه السلام - "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام إلا أن يكون في صوم

يصومه أحدكم"، وفي لفظ "إلا أن يصوم قبله أو بعده" رواه مسلم (¬1) وغيره (¬2). ولو بلغه لم يخالفه. وقال القاضي: أخذ بظاهر الحديث الشافعي. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، يكرهون للرجل أن يختص يوم الجمعة بصيام لا يصوم قبله ولا بعده. وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يومًا قبله أو يومًا بعده، فلو نذر إنسان كان نذره باطلًا، ولو كان إنسان يصوم يومًا ويفطر يومًا فجاء صومه في يوم الجمعة فليصمه. ثم نقل أن ذلك مذهب علي وأبي هريرة ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي وابن سيرين. فإن قيل: ما الحكمة في منع صوم يوم الجمعة؟ قلت: قال المهلب: وجه النهي عنه خشية أن يستمر عليه فيفرض، أو خشية أن يلزم الناس من تعظيمه ما التزم اليهود والنصارى في سبتهم وأحدهم في ترك العمل. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - في ثواب صوم يوم عرفة من حديث ابن عمر وأبي قتادة الأنصاري ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة الأنصاري: "أن رسول الله - عليه السلام - سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفِّر السنة الماضية والباقية". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت غيلان، ابن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إني أحتسب على الله في صيام يوم عرفة أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 801 رقم 1144) من حديث أبي هريرة (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (8/ 377 رقم 3613)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 198 رقم 1176)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 20)، وكذلك رواه ابن أبي شيبة والبزار والحاكم وغيرهم.

حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا المعتمر، قال: قرأت على الفضيل قال: حدثني أبو حريز، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: "سأل رجل ابن عمر عن صوم يوم عرفة قال: "كنا ونحن مع رسول الله -عليه السلام - نعدله بصوم سنه. فثبت بهلا الأمر عن رسول الله - عليه السلام - الترغيب في صوم يوم عرفة، فدل ذلك أن ما كره من صومه في الآثار الأول هو للعارض الذي ذكرنا من الوقوف بعرفة؛ لشدة تعبهم. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. ش: أخرج أحاديث الترغيب في صوم يوم عرفة لدلالتها على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وهذا ظاهر. ورواها أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري وعبد الله ابن عمر - رضي الله عنهم -. وأخرج حديث أبي قتادة من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -واللفظ لابن مثنى- قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، سمع عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّاني -بكسر الزاي المعجمة وتشديد الميم- نسبة إلى زِمَّان بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 819 رقم 1162).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أحمد بن عبدة، أنا حماد بن زيد، ثنا غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله [أن يكفر] (¬2) السنة التي قبله والتي بعده". قوله: "أني أحتسب على الله" أي: أعتد عليه بسبب ذلك كفارة ذنوب سنتين: السنة الماضية والسنة الباقية. والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ، ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله: احْتسِبْهُ؛ لأن له حينئذٍ أن يعقد عمله، فجعله في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به. وأخرج حديث عبد الله بن عمر: عن علي بن عبد الرحمن، عن يحيى بن معين الإِمام في الجرح والتعديل، عن المعتمر بن سليمان بن طرخان البصري روى له الجماعة، عن الفضيل بن ميسرة الأزدي العقيلي أبي معاذ البصري، وثقه يحيى وابن حبان، وقال أحمد والنسائي: لا بأس به. روى له الأربعة غير الترمذي. عن أبي حريز -بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن الحسن الأزدي قاضى سجستان، عن يحيى: بصري ثقة. وعنه: ضعيف. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء. روى له الأربعة، واستشهد به البخاري. عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. قوله: "فثبت بهذه الآثار" أشار به إلى حديث أبي قتادة وابن عمر - رضي الله عنهم - وكذلك قوله: "فدل ذلك". قوله: "للعارض" بَيَّنَهُ بقوله: "من الوقوف بعرفة". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 551 رقم 1730). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".

ص: باب: صوم يوم عاشوراء.

ص: باب: صوم يوم عاشوراء. ش: أي هذا باب في بيان صوم يوم عاشوراء. وعاشوراء على وزن فاعولاء، وهو من أبنية المؤنث صفة لليوم والليلة يضاف إليها. وقال الخليل: هو اليوم العاشر، ويقال: التاسع، فعلى هذا هو صفة لليوم وهو في التاسع من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع. وقال أبو عمر الزهد في كتاب "يوم وليلة": إن العرب تقدم في الأشهر النهار إليها قبل الليل، وتجعل الليلة المستقبلة لليوم الماضي. وهذا هو الوجه في وقوع عاشوراء صفة للتاسع. وقال بعضهم: إضافته لليلة أصح. وقال الحربي وغير واحد: هو العاشر. وقيل: سمي التاسع عاشوراء على عادة العرب في الورد، وأنه مأخوذ من إعشار الإبل، وكانت إذا وَرَدَت لتسعة أيام سموه عِشْرًا؛ وذلك أنهم يحسبون في الإظماء يوم الوِرد، فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا: وردت رِبْعًا، وإن رعَتْ ثلاثًا ووردت في الرابع قالوا: وردت خِمْسًا؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الشرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده. وقال ابن الأثير: عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وهو اسم إسلامي، وليس في كلامهم فاعولاء بالمد غيره، وقد أُلحق به تاسوعاء وهو تاسع المحرم، وقيل: إن عاشوراء هو التاسع مأخوذ من العِشر في أوراد الإبل، تقول العرب: وردت الإبل عِشْرًا إذا وردت اليوم التاسع. وقال الجوهري: ويوم عاشوراء وعَشُوراء أيضًا ممدودان.

وحكى أبو عمرو الشيباني فيه القصر. وقال أبو منصور اللغوي: عاشوراء ممدود ولم يجيء فاعولاء في كلام العرب إلا عاشوراء، والضاروراء اسم للضراء، والساروراء اسم للسراء، والدالولاء اسم للدالة، وحابوراء اسم موضع. ثم العاشوراء في المشهور هو اليوم العاشر من المحرم كما ذكرناه، وقال ابن عباس وآخرون: إنه اليوم التاسع، وقال أبو الليث السمرقندي بعد أن ذكر القولين: وقال بعضهم: هو يوم الحادي عشر، وفي "الأحكام" لابن بزيرة: وقد اختلف الصحابة فيه هل هو اليوم التاسع أواليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر؟ وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وفيه استوت السفينة على الجوديّ، وفيه تاب الله سبحانه على آدم، وفيه وُلد عيسى - عليه السلام -، وفيه نجَّى الله يونس من بطن الحوت، وفيه تاب الله على قومه، وفيه أخرج يوسف - عليه السلام - من الجب، وفيه تكسى الكعبة، وفيه صامت الوحوش. ولا يبْعُد أن يجعل الله لها صيامًا خاصُّا كما كان صيام بعض الأمم قبلنا بترك الكلام فقط. وبالجملة هو يوم عظيم معلوم القدر عند الأنبياء عليهم السلام والنفقة فيه مخلوفة، وقد روينا بالإسناد إلى، جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه بقية عامه. قال لجابر: جربناه فوجدناه صحيحًا. وقال الراوي عن جابر: جربناه فوجدناه كما قال جابر - رضي الله عنه -" (¬1) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 365 رقم 3791) من طريق محمَّد بن المنكدر، عن جابر، به مختصرًا. وقال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. ورواه ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/ 140 رقم 14294) من طريق شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ المؤلف. وروي من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري. وبعد أن سرد البيهقي طرقه قال: وهذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة، والله أعلم. ونقل العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 392 رقم 2642) عن العراقي قال: وله طريق عن جابر، على شرط مسلم، أخرجها ابن عبد البر في "الاستذكار"، ثم قال العراقي: وقد جمعت طرقه في جزء. وانظر: "كشف الخفاء" فإن فيه كلامًا جيدًا.

وذكر الاختلاف في تسمية عاشوراء، فقال بعضهم: إنما سمي عاشوراء لأنه عاشر المحرم، وقال بعضهم: لأن الله أكرم فيه عشرةً من الأنبياء بعشر كرامات، وقال بعضهم: لأنه عاشر كرامة أكرم الله تعالى بها هذه الأمة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى قومي مِن أسلم فقال: قل لهم: فليصوموا يوم عاشوراء، فمن وجدت منهم قد أكل في صدر يومه فليصم آخره". ش: الوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير الصحيح. وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني روى له الجماعة. وحبيب بن هند بن أسماء الأسلمي، وثقه ابن حبان. وأبوه هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسند" (¬1): ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن محمَّد، عن حبيب بن هند، عن أبيه ... إلى آخره نحوه. غير أن في لفظه: "قد أكل في أول يومه"، وهذا يدل على أن صوم يوم عاشوراء كان واجبًا. وقد اختلف العلماء في هذا الباب فقيل: كان صوم يوم عاشوراء فرضًا فنسخ برمضان، وقيل: لم يكن فرضًا ولكنه كان مرغبًا فيه فخفف أمره وحصل التخيير في صيامه بعد ذلك، والحديث مما يقوي مقالة أهل المقالة الأولى، وروي عن بعض ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 484 رقم 16004).

السلف أن فرضه باقٍ لم ينسخ، وقد انقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على خلافه، وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كراهة قصد تعيينه بالصوم. وقال أبو عمر: لم يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه، ولا فرض إلا صوم رمضان، وقد قال طائفة من العلماء: إنه كان فرضًا ثم نسخ برمضان، ولما فرض رمضان صامه رسول الله - عليه السلام - على وجه التبرك وأمر بصيامه على ذلك وأخبر بفضل صومه، وفعل بعد ذلك أصحابه، ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى الحارث بن هشام: "إن غدًا يوم عاشوراء فصم وَأْمُر أهلك أن يصوموا". وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثله. قال أبو عمر: وكان طاوس لا يصومه لأنه -والله أعلم- لم يبلغه ما جاء فيه من الفضائل عن النبي - عليه السلام - وليس فيمن خفى عليه ما علمه غيره حجة، انتهى. وفيه دلالة على أن النية تجوز في النهار في صوم يوم عليه صومه بعينه، ولم يكن نوى صومه من الليل. وهو حجة على من يشترط التبييت. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي -هو ابن المنهال- عن عمه قال: "غدونا على رسول الله - عليه السلام - صبيحة يوم عاشوراء وقد تغذينا، فقال: أصمتم هذا اليوم؟ فقلنا: قد تغدينا. فقال: فأتموا بقية يومكم". ش: عبد الرحمن بن سلمة، ويقال: ابن مسلمة الخزاعي، ويقال: ابن المنهال بن سلمة الخزاعي، ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث الواحد. وعمه صحابي لم يذكر اسمه. وجهالة الصحابي لا تضر صحة الحديث، وبهذا سقط تضعيف البيهقي بعد الحديث بقوله: عبد الرحمن هذا مجهول ومختلف في اسم أبيه، ولا يُدرَى مَنْ عمه.

وأخرجه النسائي (¬1): من حديث عبد الرحمن هذا، عن عمه أسلم "أتيت النبي - عليه السلام - فقال: أصمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوا". وقال النسائي في "الكنى": أبو المنهال عبد الرحمن بن سلمة بن المنهال. وقد استدل به مَن كان يقول: إن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا؛ لأنه - عليه السلام - أمرهم بإتمام بقية يومهم ذلك بعد أن تغدوا في أول يومهم، فهذا لم يكن إلا في الواجب. وقد أجيب عن هذا بأن هذا كان حكمًا خاصًّا بعاشوراء، ورخصة ليست لسواه، وزيادة في فضله وتأكيد صومه. وذهب إلى ذلك ابن حبيب المالكي. وقال الخطابي: كان ذلك على معنى الاستحباب والإرشاد لأوقات الفضل؛ لئلا يغفل عنه عند مصادفة وقته. قلت: بل الظاهر أن هذا كان لأجل فرضية صوم يوم عاشوراء، ولهذا جاء في رواية أبي داود والنسائي: "فأتموا بقية يومكم واقضوه" فهذا صريح في دلالته على الفرضية؛ لأن القضاء لا يكون إلا في الواجبات، فصار كرمضان إذا أفطروا في أول يوم منه عند عدم ثبوت الرؤية، ثم ثبت في أثناء النهار، فإن الواجب عليهم إمساك بقية يومهم ثم قضاء يوم آخر. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا المنهال يحدث، عن عمه -وكان من أسلم- "أن ناسًا أتوا النبي - عليه السلام -أو بعضهم- يوم عاشوراء، فقال: صمتم اليوم؟ فقالوا: لا، وقد أكلنا، فقال: فصوموا بقية يومكم". ش: هذا طريق آخر في الحديث المذكور. وعبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 160 رقم 2851).

وأبو المنهال هو عبد الرحمن بن سلمة المذكور في الإسناد السابق. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه: "أن أسلم أتت النبي - عليه السلام - فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالو: لا. قال فأتموا بقية يومكم واقضوه". قال أبو داود: يعني عاشوراء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار وجوب صوم يوم عاشوراء، وفي أمر النبي - عليه السلام - إياهم بصومه بعد ما أصبحوا دليل على من كان في أول يوم عليه صوم بعينه ولم يكن نوى صومه من الليل أنه يجزئه أن ينوي صومه بعد ما أصبح إذا كان ذلك قبل الزوال، على ما قال أهل العلم في ذلك". ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الأحاديث المذكورة يستفاد منها حكمان: الأول: وجوب صوم يوم عاشوراء. والثانى: جواز النية في صوم يوم عليه صومه بعينه من النهار كرمضان والنذر المعين. وقد ذكرناهما عن قريب. وقال عياض: ذهب الكوفيون إلى أن كل ما فرض من الصوم في وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت، لهذا الحديث، ويجزئه إذا نواه قبل الزوال. وهو قول الأوزاعي وعبد الملك بن ماجشون. وقال الخطابي: وقد يحتج أهل الرأي بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته، إلا أن قوله - عليه السلام -: "واقضوه" يفسد هذا الاستدلال؛ لأن وجوب القضاء لم يكن لأجل عدم وجود النية من الليل بل لأجل وجود الإفطار في أول النهار، فإذا كانوا هم مأمورين بإتمام بقية يومهم بدون اشتراط نية أصلًا، فبالأحرى أن يصوموا ذلك اليوم بدون اشتراط النية من الليل. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 327 رقم 2447).

ص: وقد روي في صوم عاشوراء ما زاد على ما ذكرنا: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يوسف بن يزيد، قال: ثنا خالد بن ذكوان، عن الرُّبيِّع بنت معوذ قال: "سألتها عن صوم يوم عاشوراء، فقالت: بعث رسول الله - عليه السلام - في الأنصار: مَن كان أصبح صائمًا فليتم على صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم آخر يومه، فلم نزل نصومه بعد، ونصومه صبياننا وهم صغار، ونتخد لهم اللعبة من العهن، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة". ففي هذا الحديث أنهم كانوا يمنعون صبيانهم الطعام ويصوِّمُونهم يوم عاشوراء. وهذا عندنا غير جائز؛ لأن الصبيان غير متعبدين بصيام ولا صلاة ولا بغير ذلك، وكيف يكونون متعبدين بشيء من ذلك وقد رفع الله -عز وجل- عنهم القلم؟! حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: أراد بالزيادة المذكورة في هذا الحديث على الأحاديث السابقة هي قولهم: "ونصومه صبياننا وهم صغار" وهذا غاية تأكيد من كون صوم يوم عاشوراء فرضًا. وأخرجه بإسناد صحيح. والحماني هو يحيى بن عبد الحميد الحماني أبو زكرياء الكوفي، وثقه ابن معين وغيره. ويوسف بن يزيد أبو معشر البَرَّاء العطار، كان يبري النبل، وقيل: كان يبري العود، روى له الشيخان.

وخالد بن ذكوان المديني أبو الحسن، ويقال: أبو الحسن روى له الجماعة غير ابن ماجه (¬1). والرُّبَيِّع -بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة- بنت معوذ بن عفراء الأنصارية الصحابية. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا بشر بن المفضل، نا خالد بن ذكوان، عن الرُّبَيَعّ بنت معوذ قالت: "أرسل النبي - عليه السلام - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: مَن أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومَن أصبح صائمًا فليصم، فكنا نصومه بعد ونُصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: نا أبو معشر العطار، عن خالد بن ذكوان، قال: "سالت الرُّبَيَعّ بنت معوذ عن صوم عاشوراء، قالت: بعث رسول الله - عليه السلام - في قرى الأنصار ... " إلى آخره نحوه. قوله: "فلم نزل نصومه بعد" أي فلم نزل نصوم يوم عاشوراء بعد ذلك. قوله: "ونُصَوِّمه" من التصويم، أي: فنصوِّم يوم عاشوراء صبياننا. قوله: "وهم صغار" جملة وقعت حالًا كاشفة وموضحة، وهي التي يستغني الكلام عنها؛ وذلك لأن الصبيان هم الصغار، وإنما جاءت هذه الجملة كشفا وتوضيحا لمعناه. قوله: "اللُّعبة" بضم اللام اسم لكل ما يلعب به، ومنه لُعْبة الشطرنج والنرد، واللَّعبة -بفتح اللام- المرة الواحدة من اللعب، واللِّعبة -بالكسر- نوع منه مثل الرِّكبة والِجلْسة. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، والصواب أن ابن ماجه روى له أيضًا كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" وفروعه. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 692 رقم 1859). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 799 رقم 1136).

والعِهْن -بكسر العين- الصوف، جمع عهنة مثل صوف وصوفة، وقيل: لا يقال للصوف: عِهْنٌ إلا إذا كان مصبوغًا، وقال ابن الأثير: العِهْنُ: الصوف الملون، الواحدة عِهْنة. ويستفاد منه أحكام: وجوب صوم يوم عاشوراء، وهو ظاهر، وإباحة اتخاذ اللُّعْبة من العهن ونحوه لأجل إشغال الصغار، وعدم اشتراط النية من الليل في الصوم المفروض المؤقت. قوله: "وهذا عندنا غير جائز" أي: الفعل المذكور وهو تصويم الصبيان غير جائز؛ لأنهم كانوا غير متعبدين أي غير مكلفين بالعبادات؛ لأن القلم مرفوع عنهم، ولهذا قال القرطبي: ولعل النبي - عليه السلام - لم يعلم بذلك، وبعيد أن يكون أَمَرَ بذلك؛ لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة، ومراد الطحاوي من قوله: وهذا غير جائز؛ هو ما إذا فعل بهم ذلك على سبيل الوجوب، وأما إذا فعل بهم ذلك على سبيل التدريب على العبادات فلا بأس به إذا لم تحصل لهم مشقة. وقال ابن بطال: أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن أكثر العلماء استحبوا تدريب الصبيان على العبادات رجاء البركة، وأنهم يعتادونها فتسهل عليهم إذا لزمتهم، وأن مَن يفعل ذلك معهم مأجور. انتهى. وعن أحمد روايتان: إحداهما: أنه يجب على مَن بلغ عشر سنين كالصلاة. وذكر ابن المنذر في "الإشراف": واختلفوا في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصيام، فكان ابن سيرين والحسن والزهري وعطاء وقتادة والشافعي يقولون: يؤمر به إذا أطاقه. وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يضعف فيهن؛ حمل على صوم رمضان. وقال ابن الماجشون: إذا أطاقوا الصيام أُلزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء.

وقال أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه. وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتي عشرة سنة أحببت له أن يكلف الصيام للعادة. وقال عياض: وقيل: إنهم مخاطبون بالطاعات على الندب، وهذا لا يصح؛ لقوله - عليه السلام -: "رفع القلم عن ثلاثة ... " الحديث. قوله: "حدثنا يونس ... إلى آخره" بيان لقوله: وقد رفع الله -عز وجل- عنهم القلم. وأخرجه من حديث علي بن أبي طالب وعائشة - رضي الله عنهما -. أما حديث علي: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب المصري، عن جرير بن حازم بن زيد البصري، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان حصين بن جندب الحنيني الكوفي، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا ابن السرح، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان بن مهران، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "مرَّ عَلَيَّ عَلِيُّ بن أبي طالب ... " الحديث، وفيه أن رسول الله - عليه السلام - قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة - رضي الله عنها -. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 140 رقم 4401). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 323 رقم 7343).

وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر". وأخرجه النسائى (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. ص: وقد روي في نسخ صوم يوم عاشوراء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار صحيحة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المبارك بن فضالة، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن شقيق بن سلمة قال: "دخلت على ابن مسعود يوم عاشوراء وعنده رطب، فقال: ادنه، فقلت: إن هذا يوم عاشوراء وأنا صائم، فقال: إن هذا اليوم أمرنا بصيامه قبل رمضان". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عمارة بن عمير، عن قيس بن السكن، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "أتاه رجل وهو يأكل، فقال له: هَلُمَّ، فقال: إني صائم، فقال له عبد الله: كنا نصومه ثم تُرك" يعني: عاشوراء. ش: لما بيَّن الأحاديث التي فيها الأمر بصيام يوم عاشوراء؛ شرع يبيِّن الأحاديث التي يبيِّن فيها انتساخ صومه. فمنها ما أخرجه عن عبد الله بن مسعود من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن المبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشيءٌ البصري، وعن يحيى: ثقة، وعنه: لا بأس به. وعن أبي داود: إذا قال: حدثنا فهو ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 139 رقم 4398). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 60 س رقم 5625). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 658 رقم 2041).

ثبت، استشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له في "الأدب"، وروى له الترمذي وأبو داود وابن ماجه. عن إبراهيم بن إسماعيل الكوفي وثقه ابن حبان، عن شقيق بن سلمة أبي وائل. وأخرجه البخاري في "تاريخه" (¬1): ثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، ثنا مبارك بن فضالة، حدثني إبراهيم الكوفي، حدثني شقيق قال: "دخلت على ابن مسعود يوم عاشوراء ... " إلى آخره نحوه. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به. عن سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق الثوري الكوفي روى له الجماعة، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي روى له الجماعة، عن قيس بن السكن الأسدي الكوفي روى له مسلم والنسائي، عن ابن مسعود. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثني وكيع ويحيى بن سعيد القطان، عن سفيان. وحدثني محمَّد بن حاتم -واللفظ له- قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني زُبَيْد الأيامي، عن عمارة بن عمير، عن قيس بن السكن: "أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود يوم عاشوراء وهو يأكل فقال: يا أبا محمَّد ادن فكل، قال: إني صائم: قال: كنا نصومه ثم ترك". ص: حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته: "أن رسول الله - عليه السلام - أمر بصيام عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان فقال: من شاء صام عاشوراء، ومن شاء أفطر". ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (1/ 314). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 794 رقم 1127).

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ وشعيب، قالا: ثنا الليث، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، أن عراكًا أخبره، أن عروة بن الزبير أخبره عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -عليه السلام - يأمر بصيامه قبل أن يفرض رمضان، فلما فُرِضَ رمضان كان مَن شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء أفطر". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى وشعيب بن الليث، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عراك بن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا قتيبة، نا اليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عراك بن مالك حدثه، أن عروة بن الزبير أخبره، عن عائشة: "أن قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله - عليه السلام - بصيامه حتى فُرِضَ رمضان، فقال رسول الله - عليه السلام -: مَن شاء فليصمه، ومَن شاء أفطره". وأخرجه أبو داود (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 792 رقم 1125). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 670 رقم 1794). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 326 رقم 2442). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 12713 رقم 753). (¬5) "السنن الكبرى" (2/ 157 رقم 2837).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شيبان، عن الأشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا بصوم يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عليه، فلما فُرِضَ رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عليه". ش: إسناده صحيح. وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وشيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي أبو معاوية البصري روى له الجماعة. والأشعث بن أبي الشعثاء سليم الكوفي روى له الجماعة، وجعفر بن أبي ثور عكرمة -وقيل: مسلم، وقيل: مسلمة- السوائي أبو ثور الكوفي. روى عن جده جابر بن سمرة وهو جده من قبل أمه، وقيل: من قبل أبيه، روى له مسلم وابن ماجه. والحديث أخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء ... إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "عندما" موضع: "عليه" في الموضعين. قوله: "يحثنا عليه" أي: يحضنا على صوم يوم عاشوراء ويرغبنا فيه. قوله: "ويتعاهدنا" بمعنى يعهدنا عليه أي يوصينا، وقال القاضي: وقوله: "فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا" يحتج به مَنْ يحمل الأوامر على الوجوب. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: سمعت شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمِرنا بصوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، فلما نزل رمضان لم نؤمر ولم نُنْه عنه، ونحن نفعله". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 794 رقم 1128).

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت الحكم، قال: سمعت القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق رجالها ثقات: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن سلمة، عن القاسم، عن أبي عمار واسمه عَرِيب -بفتح العين وكسر الراء المهملتن وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- بن حميد الهمداني، عن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الصحابي ابن الصحابي - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - بصيام عاشوراء، فَلَمَّا نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله". الثاني: عن علي، عن روح، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل الهمداني أبي ميسرة الكوفي، عن قيس بن سعد. وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: أنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه، وكنا نفعله". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 312 رقم 9366). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 26 رقم 2285).

وأخرجه ابن ماجه نحوه (¬1). ص: ففي هذه الآثار نسخ وجوب صوم يوم عاشوراء، ودليل أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضًا. ش: أشار به إلى الأحاديث التي أخرجها عن ابن مسعود وعائشة وجابر بن سمرة وقيس بن سعد - رضي الله عنهم -، وفيها بيان انتساخ صوم يوم عاشوراء بعد ما كان فرضًا، وأن صومه صار تطوعًا، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. واختلف أهل الأصول أن ما كان فرضًا إذا نُسخ هل تبقى الإباحة أم لا؟ وهي مسألة مشهورة بينهم. ص: وقد رُويت عن رسول الله - عليه السلام - أثار أخر فيها دليل على أن صومه كان اختيارًا لا فرضًا. فمنها: ما حدثنا أبو بكرة وعلي بن شيبة، قالا: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله -عز وجل- فيه موسى - عليه السلام - على فرعون، فقال: أنتم أولى بموسى منهم فصوموا". ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - إنما صامه شكرًا لله -عز وجل- في إظهاره موسى على فرعون، فذلك على الاختيار لا على الفرض. ش: أي: رويت أحاديث أخرى عن النبي - عليه السلام - تدل على أن صوم يوم عاشوراء كان اختيارًا -يعني تطوعًا وتبرعًا- لا فرضًا، منها حديث ابن عباس. أخرجه بإسناد صحيح. وأبو بشر هو جعفر بن إياس اليشكري. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 585 رقم 1828) مقتصرًا على ذكر زكاة الفطر فقط. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (2/ 158 رقم 2841) مقتصرًا على الصيام.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو معمر، نا عبد الوارث، نا أيوب، نا عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "قدم النبي - عليه السلام - المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى - عليه السلام -، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبي - عليه السلام -: نحن أولى بموسى - عليه السلام - منكم، فأمر بصومه". وفي لفظ له (¬3): "أن النبي - عليه السلام - قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله - عليه السلام -: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى - عليه السلام - شكرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله - عليه السلام -: فنحن أحق وأول بموسى - عليه السلام -، فصامه رسول الله - عليه السلام - وأمر بصيامه". وأخرجه أبو داود (¬4): نا زياد بن أيوب، قال: نا هشيم، قال: أنا أبو البشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لما قدم النبي - عليه السلام - المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال رسول الله - عليه السلام -: نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 702 رقم 1900). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 795 رقم 1130). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 796 رقم 1130). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 326 رقم 2444).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا سهل بن أبي سهل، ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قدم النبي - عليه السلام - المدينة فوجد اليهود صيامًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون، فصامه موسى - عليه السلام - شكرًا، فقال رسول الله - عليه السلام -: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه". فإن قيل: خبر اليهود غير مقبول، فكيف عمل - عليه السلام - بخبرهم؟ قلت: يحتمل أن يكون - عليه السلام - أُوحي إليه بصدقهم فيما حكوا من قصة هذا اليوم، أو يكون قد تواتر عنده - عليه السلام - خبره حتى وقع له العلم بذلك. وقال القاضي عياض: قد ثبت أن قريشًا كانت تصومه، وأن النبي - عليه السلام - كان يصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يُحدث له صوم اليهود حكمًا يحتاج إلى التكلم عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، فدل أن قوله في الحديث "فصامه" ليس أنه ابتدأ صومه حينئذ، ولو كان هذا لوجب أن يقال: صحح هذا من أسلم من علمائهم، ووثقه مَن هداه الله من أحبارهم كابن سلام وبني سعية وغيرهم. وقد ذهب بعضهم إلى الجمع بين هذين الحديثين بأنه يحتمل أنه - عليه السلام - كان يصومه بمكة على مقتضى الحديث الأول، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب من فضل صومه فصامه. قوله: "ففي هذا الحديث" أي: حديث ابن عباس المذكور: أن رسول الله - عليه السلام - إنما صامه شكرًا لله -عز وجل- في إظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون، فذلك على الاختيار لا على الفرض. وفيه بحث؛ لأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن ذلك على الاختيار دون الفرض؛ لأن قوله -عليه السلام -: "فصوموا" أمر، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 552 رقم 1734).

وكونه صامه شكرًا لا ينافي كونه للوجوب، كما في سجدة "ص"، فإن أصلها للشكر مع أنهما واجبة. ص: وقد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: ثنا عبيد الله بن أبي يزيد، أنه سمع ابن عباس يقول: "ما علمت رسول الله - عليه السلام - يتحرى صيام يوم على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وشهر رمضان". حدثنا ربيع الجيزى، قال: ثنا أحمد بن محمَّد الأزرقي، قال: ثنا عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: حدثنا عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا حاجب بن عمر، قال: سمعت الحكم بن الأعرج يقول: "قلت لابن عباس: أخبرني عن يوم عاشوراء. قال: عن أبيّ حالة تسأل؟ قلت: أسال عن صيامه أيّ يوم أصوم؟ قال: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائمًا. قلت: كذلك كان يصوم محمَّد - عليه السلام -؟ قال: نعم". فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روي عنه عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وقد دَلَّك على صومه ذلك أنه كان اختيارًا لا فرضًا: ما قد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس في إخباره بالعلة التي من أجلها صام رسول الله - عليه السلام - يومئذٍ. ش: هذه ثلاث طرق صحاح، أخرجها لبيان أن النبي - عليه السلام - كان يصوم يوم عاشوراء، ثم قال: "وقد دَلَّك على صومه" أي: قد دل على صوم النبي - عليه السلام - يوم عاشوراء ما رواه سعيد بن جبير المذكور آنفا لا أنه كان اختيار" أي: على سبيل التطوع لا على سبيل الوجوب والفرض. والمناقشة التي ذكرناها آنفًا تأتي ها هنا خصوصًا قوله: "ما علمت رسول الله - عليه السلام - يتحرى صيام يوم على غيره" يدل على الوجوب منه، وهذا ظاهر لا يخفى.

ثم الطريق الأول: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى آل قارظ بن شيبة الكناني روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبيد الله بن موسى، عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال: "ما رأيت النبي - عليه السلام - يتحرى صيام يوم فَضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان". وأخرجه مسلم (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا نحوه. قوله: "يتحرى" من التحري، وهو القصد والاجتهاد والطلب والعزم على تخصيص الشيء بالشيء بالفعل والقول. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أحمد بن محمَّد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الأزرقي أبي محمَّد المكي شيخ البخاري، عن عبد الجبار بن الورد بن أبي الورد القرشي المخزومي المكي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة -واسمه زهير- أبي محمَّد الأحول المكي قاضي عبد الله بن الزبير ومؤذنه، روى له الجماعة ... إلى آخره. وهذا الحديث يدل على أن سائر الأيام متساوية في فضيلة الصوم فيها إلا أيام رمضان ويوم عاشوراء، وأن لهما مزية على غيرهما في الفضيلة وكثرة الثواب. الثالث: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن روح بن عبادة، عن حاجب بن عمر الثقفي البصري روى له مسلم وأبو داود والترمذي، عن الحكم بن عبد الله بن إسحاق الأعرج البصري عم حاجب بن عمر المذكور، روى له هؤلاء. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 705 رقم 1902). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 797 رقم 1132). (¬3) "المجتبى" (4/ 204 رقم 2370).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: هكذا كان محمَّد رسول الله - عليه السلام - يصومه؟ قال: نعم". وأخرجه أبو داود (¬2): نا مسدد، قال: نا إسماعيل، قال: أخبرني حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج قال: "أتيت ابن عباس وهو متوسد رداءه في المسجد الحرام، فسألته عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدُدْ، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائمًا، قلت: كذا كان محمَّد - عليه السلام - يصوم؟ قال: كذا كان محمَّد يصوم". انتهى. وفي هذا الحديث ما يدل على أن عاشوراء هو اليوم التاسع، وإليه ذهب جماعة، منهم: أبو رافع صاحب أبي هريرة ومحمد بن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور. وقالت الجمهور -منهم أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب-: إنه هو اليوم العاشر، وهو الذي يدل عليه أكثر الأحاديث، ومنها قوله - عليه السلام -: "لأصومن التاسع"، فهذا صريح على أن صومه - عليه السلام - كان العاشر. فإن قيل: ما وجه هذا الحديث الذي نص فيه على أنه هو التاسع مع أنه هو الذي روى أيضًا عن النبي - عليه السلام - أنه هو اليوم العاشر؟! وأخرج الترمذي (¬3) أيضًا بإسناده عنه: "أمر رسول الله - عليه السلام - بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر"؟. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 797 رقم 1133). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 327 رقم 2446). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 128 رقم 755).

قلت: أراد ابن عباس من قوله: "فإذا أصحبت من تاسعه فأصبح صائما" أي: صم التاسع مع العاشر، وأراد بقوله: "نعم"؛ ما روي من عزمه - عليه السلام - على صوم التاسع من قوله: "لأصومن التاسع". وقال القاضي: ولعل ذلك على طريق الجمع مع العاشر؛ لئلا يتشبه باليهود كما ورد في رواية أخرى: "فصوموا التاسع والعاشر". قلت: ذكر رزين هذه الرواية عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: "صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود". قال القاضي: وإلى هذا أيضًا ذهب جماعة من السلف، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وروى عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: "خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر". وقال عبد الحق في "أحكامه": وذكر أبو أحمد من حديث داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، وصوموا يومًا قبله، ويومًا بعده". هكذا رواه ابن أبي ليلى، عن داود (¬2). ورواه ابن حي عن داود، عن أبيه، عن جده، أن النبي - عليه السلام - قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن يومًا قبله ويومًا بعده" يعني: يوم عاشوراء (¬3). قال أبو أحمد داود بن علي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن معين: أرجو أنه لا يكذب. انتهى. قلت: فهذا يدل على أن المستحب أن يصام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر عملا بالأحاديث كلها وخروجًا عن عهدة الخلاف، وقال قوم من أهل العلم: من ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 287 رقم 7831). (¬2) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 188) وقال: وفيه محمَّد بن أبي ليلى وفيه كلام. (¬3) "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي (3/ 89).

أحب صوم عاشوراء صام يومين: التاسع والعاشر، وممن روي ذلك عنه: ابن عباس، وابن سيرين، وقاله الشافعي. ويقال: معنى قول ابن عباس: "نعم" في جواب الحكم بن الأعرج حين قال: "كذلك كان يصوم محمَّد -عليه السلام -" أي: نعم كان يصوم التاسع لو عاش إلى العام المقبل جمعا بينه وبين قوله: "فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع". قال أبو عمر: وفي هذا دليل على أنه - عليه السلام - كان يصوم العاشر إلى أن مات، ولم يزل يصومه حتى قدم المدينة وذلك محفوظ من حديث ابن عباس، والآثار في هذا الباب مضطربة عن ابن عباس. ص: وقد حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم يوم عاشوراء". فقد يجوز أن يكون ذلك أيضًا من أجل المعنى اللي ذكره ابن عباس. وقد حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يقول: "هذا يوم عاشوراء فصوموه؛ فإن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بصومه". فقد يجوز أن يكون ذلك للعلة التي ذكرناها أيضًا. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا عبيد الله بن ميسرة الواسطي، قال: ثنا مزيدة بن جابر، عن أمه: "أن عثمان - رضي الله عنه - استعمل أبا موسى - رضي الله عنه - على الكوفة، فقال يوم عاشوراء: صوموا هذا اليوم؛ فإن رسول الله - عليه السلام - كان يصومه". فهذا الحديث يحتمل ما في حديث ابن عباس أيضًا. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الحر بن الصيَّاح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم نصف ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر".

فهذا أيضًا مثل الذي قبله. حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا أبو عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قال النبي - عليه السلام -: "قد كان يوم عاشوراء يومًا تصومه اليهود ويتخذونه عيدًا، فصوموه أنتم". ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - أمر بصومه؛ لأن اليهود كانت تصومه، وقد أخبر ابن عباس في حديثه بالعلة التبم من أجلها كانت اليهود تصومه، أنها على الشكر منهم لله تعالى في إظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون، وأن رسول الله - عليه السلام - أيضًا صامه كذلك، والصوم للشكر اختيار لا فرض. ش: ذكر هذه الأحاديث -وهي حديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير وعثمان بن عفان وبعض أزواج النبي - عليه السلام - وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -- إيذانًا بأنها محمولة على المعنى الذي ذكره ابن عباس في حديثه من أن رسول الله - عليه السلام - صامه شكرًا لله -عز وجل- في إظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون، وأن الصوم الذي يكون للشكر اختيار لا فرض. وفيه ما ذكرناه من المنافشة، على أن جماعة قد احتجوا بحديث أبي موسى أن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا. أما حديث علي - رضي الله عنه -: فأخرجه عن الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب أبي علي الأنطاكي المعروف بالبالسي، عن الهيثم بن جميل البغدادي أبي سهل الحافظ نزيل أنطاكية، وثقه العجلي وابن حبان والدارقطني. عن شريك بن عبد الله النخعي، عن جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال كثير، عن سَعْد بن عبيدة السلمي أبي حمزة الكوفي ختن أبي عبد الرحمن السلمي على ابنته روى له الجماعة. عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن رُبَيْعة -بالتصغير- السلمي الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة، روى له الجماعة.

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا تميم بن المنتصر الواسطي، نا إسحاق بن يوسف، عن شريك. ونا الفضل بن يعقوب الرخامي، قال: ثنا الهيثم بن جَمِيل، عن شريك ... إلى آخره نحوه. وأما حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن ثوير بن أبي فاختة واسمه سعيد بن علاقة القرشي الكوفي فيه مقال، وعن سفيان: كان ثوير من أركان الكذب. وعن يحيى بن معين: ليس بشيء، وعنه ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. وقال يونس بن أبي إسحاق: كان رافضيًّا، روى له الترمذي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حسين بن محمَّد، نا إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو على المنبر يقول: "هذا يوم عاشوراء فصوموا؛ فإن رسول الله - عليه السلام - أمر بصومه". وأما حديث عثمان - رضي الله عنه -: فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الله بن ميسرة أبي ليلى الحارثي الكوفي ويقال: الواسطي، فيه مقال، قال أحمد وابن معين: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". عن مزيدة بن جابر من أهل هجر، ذكر ابن حبان في "الثقات" عن أمه، وفي بعض نسخ الطحاوي: عن أبيه وهو الأكثر، وقال في "التكميل": مزيدة بن جابر، عن أبيه وأمه، قال أحمد: معروف. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وأبوه جابر ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وأما أمه فلم يقع لي اسمها ما هو ولا حالها. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 213 رقم 600، 601). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 6 رقم 16177).

وأما حديث بعض أزواج النبي - عليه السلام -: فأخرجه عن الربيع بن سليمان الجيزي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، عن الحر بن الصَّيَّاح -بفتح الصاد المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخرها حاء مهملة- النخعي الكوفي، قال يحيى وأبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له أبو داود والنسائي، عن هنيدة -بضم الهاء وفتح النون، وسكون الياء آخر الحروف- بن خالد الخزاعي ويقال: النخعي، وكانت أمه تحت عمر بن الخطاب، روى عن أمه وقيل: عن امرأته على اختلاف في ذلك، وهما مجهولتان، قاله المنذري. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أخبرني أحمد بن يحيى، عن أبي نعيم قال: ثنا أبو عوانة، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة بن خالد عن امرأته، عن بعض أزواج النبي - عليه السلام -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم تسعًا من ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، أول إثنين من الشهر وخَمِيسَيْن". وأخرجه أبو داود (¬2) من حديث هنيدة الخزاعي عن أمه قالت: "دخلت على أم سلمة - رضي الله عنه - فسألتها عن الصيام فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الإثنين والخميس والخميس". وأما حديث أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه -: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي عميس عتبة بن عبد الله المسعودي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن قيس بن مسلم الجدلي أبي عمرو الكوفي روى له الجماعة، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبي عبد الله الكوفي الصحابي، قال أبو داود: رأى النبي - عليه السلام - ولم يسمع منه شيئًا. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 135 رقم 2725). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 328 رقم 2452).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدًا، قال النبي - عليه السلام -: فصوموه أنتم". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير، قالا: ثنا أبو أسامة، عن أبي عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: "كان يوم عاشوراء يومًا تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا، فقال رسول الله - عليه السلام -: صوموه أنتم". وفي لفط له قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدًا ويُلْبِسُون فيه نساءهم حليهم وشارتهم، فقال رسول الله - عليه السلام -: فصوموه أنتم". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا عبد الله بن عمر والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من أحب منكم أن يصوم يوم عاشوراء فليصمه، ومن لم يحب فليدعه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في يوم عاشوراء: "إن هذا [يوم] (¬3) كانت قريش تصومه في الجاهلية، فمن شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة قال: قلت: الأنصاري؟ قال: الأنصاري، عن النبي - عليه السلام -أنه قال في صوم يوم عاشوراء: "أني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت غيلان ... فدكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 704 رقم 1901). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 796 رقم 1131). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا مَهْديّ بن ميمون وحماد بن زيد، عن غيلان ... فذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث أنه أمرهم بصومه احتسابًا لما ذكره فيه من الكفارة، وليس هو بمخالف عندنا لحديث ابن عباس؛ لأنه قد يجوز أن يكون يصومه شكرًا لله لما أظهر موسى - عليه السلام - على فرعون، فيشكر الله به ما شكره من ذلك، فيكفر به عنه السنة الماضية. حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية عامَ حَجَّ وهو على المنبر يقول: "يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟! سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول في هذا اليوم: هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومَن شاء فليفطر". فقد يجوز أن يكون أراد بقوله: "ولم يكتب عليكم صيامه" أي صيام ذلك اليوم في ذلك العام، وليس في هذا نفي أن يكون قد كان كُتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام ثم نسخ بعد ذلك على ما تقدم من الأحاديث، فقد ثبت نسخ صوم يوم عاشوراء الذي كان فرضًا وأمر بذلك على الاختيار، وأخبر بما في ذلك من الثواب، فصومه حسن، وهو اليوم التاسع قد قال ذلك ابن عباس في حديث الحكم بن الأعرج، وذكر ذلك أيضًا عن رسول الله - عليه السلام -. ش: أخرج أحاديث عبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - إيذانًا بأنه ليس بينها وبين الأحاديث المتقدمة عن ابن عباس وغيره منافاة؛ لأن التخيير المذكور في حديث ابن عمر والكفارة المذكورة في حديث أبي قتادة لا ينافيان ما ذكر في حديث ابن عباس من أنه كان يصومه شكرًا لله لإظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون، وكذا قوله في حديث معاوية: "لم يكتب عليكم صيامه" لا ينافي كونه قد كتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام؛ لأن معنى

كلامه: لم يكتب عليكم صيام ذلك اليوم من ذلك العام، ويجوز أن يكون قد كان كتب عليهم فيما تقدم ثم نسخ بهذه الأحاديث، وأمر بذلك بعد ذلك على الاستحباب والندب لما فيه من الثواب العظيم. أما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني الثقة، والليث بن سعد، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث. وحدثنا ابن رمح، قال: أنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه ذكر عند رسول الله - عليه السلام - يوم عاشوراء، فقال رسول الله - عليه السلام -: كان يوم يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه"، وفي لفظ له: "فمن أحب أن يصومه فليصمه ومن أحب أن يتركه فليتركه، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صيامه". وأخرج البخاري (¬2): عن أبي عاصم، عن عمر بن محمَّد، عن سالم، عن أبيه قال: قال النبي - عليه السلام - يوم عاشواء: "من شاء صام". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬3): ثنا يعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "هذا يوم عاشوراء كانت قريش تصومه في ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 792 رقم 1126). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 703 رقم 1896). (¬3) "سنن الدارمي" (2/ 36 رقم 1762).

الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومَن أحب منكم أن يتركه فليتركه، وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه". وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعيم الأنصاري - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة بن الحجاج، عن غيلان بن جرير المعولي الأزدي البصري، عن عبد الله بن مَعبد الزماني البصري، عن أبي قتادة. وأخرجه مسلم (¬1) مطولا: ثنا يحيى بن يحيى التميمي وقتيبة بن سعيد، جميعًا عن حماد -قال يحيى: أنا حماد بن زيد- عن غيلان، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة قال: "أتى رجل إلى النبي - عليه السلام - فقال: يا رسول الله كيف نصوم؟ فغضب النبي - عليه السلام - من قوله، فلما رأى عمر - رضي الله عنه - غضبه قال: رضينا بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد - عليه السلام - نبيًّا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر - رضي الله عنه - يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر -أو قال: لم يصم ولم يفطر- قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يومًا؟ قال: ويطيق ذلك أحد؟ قال: كيف من يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: ذلك صوم داود - عليه السلام -، قال: كيف مَن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك، ثم قال رسول الله - عليه السلام -: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" انتهى. وقد ذكر الطحاوي هذا الإسناد بعينه في الباب الذي قبله مقتصرًا فيه على ذكر الصوم بعرفة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 818 رقم 1162).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن غيلان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1). الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن مهدي بن ميمون الأزدي البصري وحماد بن زيد، كلاهما عن غيلان. وأخرجه أبو داود (¬2): نا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: نا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة: "أن رجلًا أتى النبي - عليه السلام - فقال: يا رسول الله كيف تصوم؟ ... " إلى آخره، نحو رواية مسلم. وأخرجه أيضًا من طريق آخر (¬3) قال: نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا مهدي، قال: ثنا غيلان ... الحديث. وأما حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬5) أيضًا. وقال أبو عمر في "شرحه": لم يختلف العلماء أن عاشوراء ليس بفرض صيامه، ولا فرض إلا صوم رمضان، وفيه دليل على فضل صوم يوم عاشوراء؛ لأنه لم يخصه بقوله: "وأنا صائم" إلا لفضل فيه، وفي رسول الله - عليه السلام - الأسوة الحسنة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 10 رقم 22703). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 321 رقم 2425). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 322 رقم 2426). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 704 رقم 1899). (¬5) "موطأ مالك" (1/ 299 رقم 663).

قوله: "وهو اليوم التاسع" أي يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، قد قال ذلك عبد الله بن عباس فيما رواه الحكم بن الأعرج عنه حيث قال: قلت لابن عباس: "أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: عن أي حالة تسأل؟ قلت: أسأل عن صيامه أي يوم أصوم؟ قال: إذا أصبحت في تاسعه فأصبح صائمًا، قلت: كذلك كان يصوم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم". وقد تقدم فيما مضى. قوله: "وذكر ذلك أيضًا" أي: وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ما قاله للحكم بن الأعرج عن النبي - عليه السلام -، وهو قوله: "نعم"، لما سأله الحكم: "كذلك كان يصوم محمد - عليه السلام -؟ ". ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - قال: "لئن عشت إلى العام القابل لأصومن يوم التاسع، يعني: عاشوراء". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر وأبو داود، قالا: ثنا ابن أبي ذئب ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "لأصومن عاشوراء يوم التاسع". حدثنا ابن مرزوق وعلي بن شيبة، قالا: ثنا روح، قال: ثنا ابن أبي ذئب ... فذكر مثل حديث سليمان بن شعيب. فقوله: "لأصومن عاشوراء يوم التاسع" إخبار منه على أنه يكون ذلك اليوم يوم عاشوراء، وقوله: "لأصومن يوم التاسع" يحتمل لأصومن يوم التاسع مع العاشر، أي: لئلا أقصد بصومي إلى يوم عاشوراء بعينه كما تفعله اليهود، ولكن أخلطه بغيره، فكون قد صمته بخلاف ما تصومه يهود. ش: أي: قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في كون يوم عاشوراء التاسع من المحرم، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - بلفظين:

أحدهما: "لأصومن يوم التاسع". والآخر: "لأصومن عاشوراء يوم التاسع". فهذا إخبار منه على أن التاسع هو يوم عاشوراء، والأول إخبار منه عن صوم يوم التاسع مع العاشر لئلا يكون صومه يومًا بعينه كما عينه اليهود، ولكن يخلطه بالعاشر ليكون مخالفا لما فعله اليهود، وإنما وفق بين اللفظن بهذا لما بينهما من المخالفة ظاهرًا. وأخرجه ذلك من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة؛ بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن القاسم بن عباس بن معتب بن أبي لهب القرشي المدني، عن عبد الله بن عمير أبي محمَّد مولى أم الفضل بنت الحارث امرأة العباس، وقيل: مولى ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: نا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، وفي رواية أبي بكر: "يعني: يوم عاشوراء". الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، كلاهما عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق وعلي بن شيبة بن الصلت، كلاهما عن روح بن عبادة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 798 رقم 1134).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، نا ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع". ص: وقد روي عن ابن عباس ما يدل على هذا المعنى: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول: "خالفوا اليهود وصوموا يوم التاسع والعاشر". فدل ذلك على أن ابن عباس قد صرف قول رسول الله: "لئن عشت إلى قابل لأصومن يوم التاسع" إلى ما صرفناه إليه. ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عباس ما يدل على المعنى الذي ذكرناه، وأراد به التوفيق الذي ذكره، وهو أن قوله: "لأصومن يوم التاسع" هو أن يصومه مع العاشر مخالفة لليهود فيما عيَّنوا يوم العاشر. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس ... إلى آخره نحوه. ص: وقد جاء عن رسول الله - عليه السلام - في ذلك أيضًا: ما حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - في صوم يوم عاشوراء: "صوموه وصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا، ولا تشبهوا باليهود". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 552 رقم 1736). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 287 رقم 7839).

فثبت بهذا الحديث ما ذكرنا أن رسول الله - عليه السلام - إنما أراد بصوم التاسع أن يُدخل صومه يوم عاشوراء في غيره من الصيام حتى لا يكون مقصودًا إلى صومه بعينه كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة. ش: أي: وقد جاء عن رسول الله - عليه السلام - فيما ذكرناه من أنه يصوم التاسع مع العاشر قصدًا لمخالفة اليهود، وأشار بهذا أيضًا إلى أن ما قال ابن عباس من قوله: "صوموا يوم التاسع والعاشر" ليس من رأيه بل هو من النبي - عليه السلام -. وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن عمران بن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب" وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: كوفي صدوق. عن أبيه عمران بن محمَّد وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: ليس بذاك. وهو يروي عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه لين. عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس القرشي الهاشمي أبي سليمان الشامي ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس وثقه ابن حبان والعجلي وأبو زرعة روى له الجماعة البخاري في "الأدب". وأخرجه أحمد (¬1): من حديث ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ... إلى آخره. وقد ذكرناه عن قريب. الثاني: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي شهاب الحفاظ الكوفي عبد ربه بن نافع الكناني -وهو الأصغر، روى له الجماعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن داود ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) تقدم.

وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه: من حديث هشيم، عن ابن أبي ليلى، ولفظه: "صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوما أو بعده يوما". قال البيهقي: وفي رواية: "وبعده" بدل: "أو"، وكذا رواه أبو شهاب عن ابن أبي ليلى. قلت: هذا يدل على أن رواية الطحاوي: "وصوموا قبله وبعده يوما" بالواو العاطفة بين قبله وبعده دون "أو" ولكن الموجود في النسخ بـ "أو" التي للتخيير، وكذا في رواية أبي أحمد بالواو العاطفة، فعل رواية "الواو" يستحب أن يصوم ثلاثة أيام: التاسع، والعاشر، والحادي عشر، وعلى رواية "أو" التي للتخيير يستحب أن يصوم يومين: التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر؛ فافهم. قوله: "ولا تشبهوا" أصله ولا تتشبهوا، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، كما في قوله: {نَارًا تَلَظَّى} (¬2). قوله: "كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة" أي: كما جاء عن النبي - عليه السلام - عدم القصد في الصوم إلى يوم معين في صوم يوم الجمعة، فإنه نهى عن قصد صوم يوم الجمعة بعينه، على ما نبينه الآن. ص: فإنه قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما -، قال: "دخل النبي - عليه السلام - على جويرية يوم الجمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أفتصومين غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري إذا". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا أيوب العتكي يحدث، عن جويرية: "أن النبي - عليه السلام - دخل عليها ... " ثم ذكرمثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 287 رقم 8189). (¬2) سورة الليل، آية: [14].

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة وهمام، عن قتادة ... فذكر بإسناه مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا قبله يوما أو بعده يوما". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا أدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت رجلًا من بني الحارث بن كعب يحدث، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - بمثل معناه. حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: نا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القاسم بن سلام بن مسكين، قال: ثنا أبي، قال: "سالت الحسن عن صيام يوم الجمعة، فقال: نُهي عنه إلا في أيام متتابعة، ثم قال: حدثني أبو رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن صيام يوم الجمعة إلا في أيام قبله أو بعد". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، أن أبا خير حدثه، أن حذيفة البارقي حدثه، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي حدثه: "أنهم دخلوا على رسول الله - عليه السلام - في يوم جمعة، فقرب إليهم طعامًا، فقال: كلوا، فقالوا: نحن صيام، فقال: أصمتم أمس؟ قالوا: لا قال: أفتصومون أنتم غدا؟ قالوا: لا، قال: فأفطروا". حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر الأشعري: "أنه سأل أبا هريرة عن صيام يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت، سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن يوم الجمعة عيدكم، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده".

فكما كره أن يقصد إلى يوم الجمعة بعينه بصيام إلا أن يخلط بيوم قبله أو بيوم بعده، فيكون قد دخل في صوم قد صار منه، فكذلك عندنا سائر الأيام لا ينبغي أن يقصد إلى صوم يوم منها بعينه، كما لا ينبغي أن يقصد إلى صوم يوم عاشوراء أو يوم الجمعة لأعيانهما، ولكن يقصد إلى الصيام في أي الأيام كان، ولكن إنما أريد بما ذكرنا من الكراهة التي وصفنا: التفرقة بين شهر رمضان وبين سائر ما يصوم الناس غيره؛ لأن شهر رمضان مقصود بصومه إلى شهر بعينه؛ لأن فريضة الله -عز وجل- على عباده صومهم إياه بعينه إلا من عذر منهم بمرض أو سفر، وغيره من المشهور ليس كذلك، فهذا وجه ما روي في صوم يوم عاشوراء عن رسول الله - عليه السلام -، قد بيناه في هذا الباب وشرحناه. ش: "الفاء" في "فإنه" للتعليل، والضمير للشأن، وأشار به إلى بيان الدليل لقوله "كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة". وأخرج في ذلك عن عبد الله بن عمرو وجويرية بنت الحارث وأبي هريرة وجنادة بن أبي أمية - رضي الله عنهم -، وأخبر في أحاديثهم كراهة القصد إلى صوم يوم الجمعة بعينه إلا أن يكون يوم قبله أو يوم بعده حتى يكون هو في صوم يكون صوم يوم الجمعة جزء منه، وهو معنى قوله: "فيكون قد دخل في صوم قد صار منه" وفي بعض النسخ: "حتى صار منه" والأول أقرب. وكذا سائر الأيام إذا أراد أن يصوم فيها لا ينبغي أن يقصد يومًا بعينه لما فيه من التشبيه لأهل الكتاب؛ لأن من عادتهم الصوم في يوم بعينه قصدًا، ولا سيما كانوا يفعلون ذلك في يوم عاشوراء، وكذلك صوم يوم الجمعة بقصد بعينه؛ لما فيه من التشبيه لهم أيضًا، اللهم إلا إذا صام يوما قبله أو يوما بعده، ولكن يستثنى من هذا الحكم شهر رمضان؛ لأن الله تعالى فرض صومه علينا بعينه إلا فيمن كان معذورا بمرض أو سفر، فقصد تعيينه لا يؤثر شيئا في الكراهة؛ لأنه بتعيين الشارع، وذلك لا يوصف بالكراهة، بخلاف غيره من المشهور والأيام حيث يؤثر التعين فيه قصدا في الكراهة لما ذكرنا.

وقال المهلب: وجه النهي عن صوم يوم الجمعة وحده: خشية أن يستمر عليه فيفرض عليه، أو خشية أن يلزم الناس من تعظيمه ما التزم اليهود والنصارى في سبتهم وأَحَدِهِم، من ترك العمل، والله أعلم. أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن عبدة بن سليمان الكلابي أبي محمَّد الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو ... إلى آخره نحوه. قوله: "على جويريه" وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية أم المؤمنين، سباها رسول الله - عليه السلام - يوم المريسيع -وهي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الخامسة في قول الواقدي، وفي السادسة في قول خليفة بن خياط- وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله - عليه السلام - جويرية، توفيت سنة خمسين ولها خمس وستون سنة. قوله: "أَصُمت؟ " الهمزة فيه للاستفهام، وكذلك في قوله: "أفتصومين؟ " قوله: "إذا" قال الجوهري: "إذا" حرف مكافأة وجواب، وهي حرف غير مركب، وقال الخليل: أصلها "إذ أن" فحذفت الهمزة وركبتا كما قيل في "لن"، والصحيح الأول، وهي تقتضي الجواب والجزاء، وتختص بجملة واقعة جوابًا لشرط مقدر، وإنما تعمل بشروط أربعة: أن تكون جوابا، وأن تصدر بها الجملة، وأن تتصل بالفعل، وأن يكون الفعل مستقبلا، وهي من النواصب للفعل المضارع نحو أن يقول لك إنسان: أنا آتيك، فتقول له: إذن أكرمك، وها هنا فقدت الشروط فلم تعمل شيئًا، وإذا وقفت على إذن أبدلت من نونها ألفا لشبهها بمنون منصوب؛ لأن نونها ساكنة بعد فتحة، وأكثر كتابتها بالألف لذلك، وذهب بعضهم إلى كتابتها بالنون فرقا بين إذا الظرفية وبينها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبه" (2/ 301 رقم 9241).

ويستفاد منه: كراهة صوم يوم الجمعة وحده، واليه ذهب الجمهور، وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون للرجل أن يختص يوم الجمعة بصيام لا يصوم قبله ولا بعده، وبه يقول أحمد وإسحاق. قلت: وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، ويروى ذلك عن علي وأبي هريرة ومجاهد والشعبي وإبراهيم النخعي. وفي "الموطأ" قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومَن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأُراه كان يتحراه، وقال أبو عمر: لم يبلغ مالكا حديث المنع من ذلك، وقد روى ابن القاسم عن مالك المنع من قصد شيء من الأيام بصوم، وقال الداودي: لم يبلغ مالكًا حديثُ المنع، ولو بلغه لم يخالفه. وأما حديث جويرية - رضي الله عنها - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي- واسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك، روى له الجماعة. عن جويرية بنت الحارث. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة. وثنا غندر، نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن جويرية بنت الحارث: "أن النبي - عليه السلام - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن شعبة وحماد بن سلمة وهمام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن جويرية بنت الحارث نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 701 رقم 1885).

وأخرجه أحمد (¬1): ثنا وكيع، نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب الهجري، عن جويرية: "أن رسول الله - عليه السلام - دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أفتصومين غدا؟ قا لت: لا، قال: فأفطري". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من خمس طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن روح بن عبادة، عن هشام بن حسان الأزدي القردوسي البصري، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت النبي - عليه السلام - يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده". وأخرجه مسلم (¬3): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده". وأخرجه بقية الجماعة (¬4). الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الكوفي، عن رجل من بني الحارث بن كعب، والظاهر أنه زياد بن النضر الحارثي المذكور في الإسناد الآتي، وقال ابن عساكر: زياد بن النضر أبو الأزور، ويقال: أبو عائشة، ويقال: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 324 رقم 26798). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 700 رقم 1884). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 801 رقم 1144). (¬4) أبو داود (2/ 320 رقم 2420) من طريق مسدد، والنسائي في "السنن الكبرى" (2/ 142 رقم 2756)، والترمذي (3/ 118 رقم 742)، وابن ماجه (1/ 549 رقم 1723).

أبو عمر الحارثي من أهل الكوفة، روى عن أبي هريرة، روى عنه: الشعبي وعبد الملك بن عمير. قوله: "بمثل معناه"، أي بمثل معنى حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة قال: "قال له رجل: أنت الذي تنهى عن صوم يوم الجمعة؟ قال: لا ورب هذه الحرمة أو هذه البنية، ما أنا نهيتُ، محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قاله". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن القاسم بن سلام بن مسكين، عن أبيه سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي البصري، أنه سأل الحسن البصري ... إلى آخره. وهذا إسناد حسن. وأبو رافع اسمه نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، مولي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، روى له الجماعة. الخامس: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حُدَير قاضي الأندلس الحمصي، عن أبي بشر مؤذن مسجد دمشق لا ندري اسمه، عن عامر بن لدين الأشعري الصحابي، أنه سأل أبا هريرة ... وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2): أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا زيد بن حباب، نا معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر بن لدين. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 302 رقم 9250). (¬2) "المستدرك" (1/ 603 رقم 1595).

وأنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر بن لدين الأشعري، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "يوم الجمعة عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده". هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إلا أن أبا بشر هذا [لم أقف] (¬1) على اسمه وليس بيان بن بشر، ولا بجعفر بن أبي وحشية. وأخرجه ابن شاهين: من حديث أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، عن أبي بشر مؤذن مسجد دمشق، عن عامر بن لدين الأشعري قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الجمعة يوم عيدكم فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوما قبله أو بعده" ثم قال: ورواه عبد الله بن صالح، عن معاوية، فقال عامر: عن أبي هريرة. وأما حديث جنادة بن أبي أمية: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي خير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن حذيفة البارقي المذكور فيمن رأى النبي - عليه السلام -، عن جنادة بن أبي أمية الأزدي- واسم أبي أمية كثير، قاله البخاري، وجنادة ممن نزل مصر من الصحابة. وأخرجه ابن يونس في "تاريخه" من طريق أصح منه: ثنا أحمد بن شعيب، أبنا الربيع بن سليمان، نا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن حذيفة البارقي، عن جنادة بن أبي أمية، أنهم دخلوا على رسول الله - عليه السلام - في يوم جمعة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "مستدرك الحاكم".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الله بن نمير، قال: نا محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن حذيفة الأزدي، عن جنادة الأزدي: "دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعة نفر من الأزد أنا ثامنهم يوم الجمعة ونحن صيام، فدعى رسول الله - عليه السلام - إلى طعام بين يديه، فقلنا: إنا صيام، فقال: هل صمتم أمس؟ قلنا: لا، قال: فهل تصومون غدًا؟ قلنا: لا، قال: فأفطروا. ثم خرج إلى الجمعة، فلما جلس على المنبر دعى بإناء من ماء فشرب والناس ينظرون إليه؛ ليعلمهم أنه لا يصوم يوم الجمعة". وأخرجه الطبراني (¬2) من طرق مختلفة. فإن قيل: يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه النسائي (¬3): أنا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أخبرني أبي، قال: أنا أبو حمزة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن مسعود قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر، وقيل ما يفطر يوم الجمعة". وما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا حفص، ثنا ليث، عن عمير بن أبي عمير، عن ابن عمر قال: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يفطر يوم جمعة قط". وما أخرجه (¬5) أيضًا: عن حفص، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط". قلت: لا نسلم هذه المعارضة؛ لأنه لا دلالة فيها على أنه - عليه السلام - صام يوم الجمعة وحده، فنهيه عن صوم يوم الجمعة وحده فيما سبق من الأحاديث يدل على أن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 301 رقم 9242). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 281 - 282 رقم 2173 - 2176). (¬3) "المجتبى" (4/ 204 رقم 2368). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 303 رقم 9260). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 303 رقم 9259).

صومه يوم الجمعة في هذه الأحاديث لم يكن في يوم الجمعة وحده، بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صريح صحيح، فحيئذ يكون نسخا أو تخصيصا، وكل واحد منهما منتف، فإذا كان كذلك ظهر أن صومه يوم الجمعة لم يكن منفردًا، بل إنما كان بيوم معه، فحينئذ اتفقت معاني الآثار وانتفى التعارض، والله أعلم.

ص: باب: صوم يوم السبت

ص: باب: صوم يوم السبت ش: أي هذا باب في بيان حكم صوم يوم السبت كيف هو؟ ص: حدثنا ابن مرزوق -هو إبراهيم- قال: ثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء قالت: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَصُومِنَّ يوم السبت في غير ما افترض الله عليكن ولو لم تجد إحداكن إلا لحاء شجرة أو عود عنب فلتمضغه". ش: إسناد صحيح، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري. وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي أبو خالد الشامي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم. وخالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي أبو عبد الله الشامي الحمصي، روى له الجماعة. وعبد الله بن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السنن المهملة- السلمي المازني الصحابي. وأبوه أيضًا صحابي، وأخته الصماء بنت بسر المازنية. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حميد بن مسعدة، قال: نا سفيان بن حبيب. ونا يزيد بن قيس -من أهل جبلة- قال: ثنا الوليد، جميعًا عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بُسر السلمي، عن أخته -قال يزيد: الصماء- أن النبي - عليه السلام - قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم؛ فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغها". وأخرجه الترمذى (¬2): عن حميد بن مسعدة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 320 رقم 2421). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 120 رقم 744).

وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه (¬1) من وجهين: الأول: عن عبد الله بن بسر، عن النبي - عليه السلام -، ولم يذكر فيه الصماء. والثاني: عن حميد بن مسعدة نحو رواية أبي داود والترمذي. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث معاوية بن صالح، عن ابن عبد الله بن بسر، عن أبيه، عن عمته الصماء قالت: "نهى رسول الله - عليه السلام - عن صوم يوم السبت وقالت: إن لم يجد أحدكم إلا عودا أخضر فليفطر عليه". قلت: والصحيح أن الصماء أخت عبد الله بن بسر وقد قيل: إنها أخت بسر، فرواية البيهقي على هذا القول. قوله: "لا تصومِن" بكسر الميم؛ لأنه خطاب للصماء، وقد عُلِم أن نون التأكيد تكسر ما قبلها في الواحدة. قوله: "إلا لحاء شجرة" اللحاء -بكسر اللام وبالمد:- قشر الشجرة، وفي المثل: لا تدخل بين العصا ولحائها، ولحوت العصا لحوًا: قشرتها، وكذلك لحيت العصا ألحي لحيًا، وتجمع على ألحِية، ككساء تجمع على أكسية، ورداء على أردية. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا صوم يوم السبت تطوعًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وطاوس بن كيسان وإبراهيم وخالد بن معدان؛ فإنهم كرهوا صوم يوم السبت تطوعًا، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وقال الترمذي: ومعنى الحديث: أن اليهود يعظمون يوم السبت، فلا يستحب للرجل أن يختص يوم السبت بصيامه من بين الأيام تشبها بهم؛ ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 550 رقم 1726). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 302 رقم 8277).

لقوله: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1) يعني: خالفهم ولا توافقهم، كما قال في حديث آخر: "خالفوا اليهود والنصارى" (1). ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأسًا. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وآخرين من جمهور العلماء من التابعين وغيرهم فإنهم قالوا: لا بأس بصوم يوم السبت. فإن قيل: كيف ذكرت أبا حنيفة وصاحبيه في أهل هذه المقالة وقد قال "صاحب البدائع": ويكره صوم يوم السبت بانفراده؛ لأنه تشبه باليهود؟!. قلت: الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة من غيره، ولم يقل ذلك، بل منع قول من يقول بكراهته، ولو كان الأمر كما ذكره لنبه عليه. ويؤيد هذا أيضًا ما رواه البيهقي (¬2): من حديث ابن المبارك، نا عبد الله بن محمَّد بن عمر بن علي، عن أبيه، أن كريبًا أخبره: "أن ابن عباس - رضي الله عنهما - وناسًا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - بعثوني إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان النبي - عليه السلام - أكثر لها صيامًا؛ فقالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالت: إن رسول الله - عليه السلام - أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: "إنهما يوما عيد المشركين وأنا أريد أن أخالفهم". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 303 رقم 8280).

وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا، فاليوم الذي بعده هو يوم السبت، ففي هذه الآثار المروية إباحة صوم يوم السبت تطوعا، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها. ش: أي، وكان من الدليل والبرهان للآخرين -وهم أهل المقالة الثانية-: أنه قد جاء الحديث ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "وهي أشهر" أي: أحاديث النهي عن صيام يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم أشهر وأظهر عند أهل العلم من هذا الحديث الشاذ، وأراد به حديث الصماء، والشاذ هو الحديث الذي يرويه الثقة مخالفا لما يرويه الناس. وروى يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس. وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي: الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به. وأشار الطحاوي -رحمه الله- بذلك إلى أن هذا الحديث وإن كان صحيح الإسناد ولكنه لا يعمل به لشذوذه، ومخالفته معظم الآثار الثابتة بخلافه، ولهذا لم يعده الزهري حديثا حين قيل له: حديث الصماء يدل على كراهة صوم يوم السبت، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ. وقال النسائي: هذا حديث مضطرب. قلت: اضطرابه ظاهر؛ لأنه روي تارة عن عبد الله بن بسر عن النبي - عليه السلام - وتارة عن عبد الله بن بسر عن أخته، وتارة عن عبد الله بن بسر عن عمته، وتارة عن عبد الله بن بسر عن خالته.

وقال البيهقي: ورواه الزبيدي، عن فضيل بن فضالة، عن عبد الله بن بسر عن خالته الصماء. ص: وقد أذن رسول الله - عليه السلام - في صوم يوم عاشوراء وحض عليه، ولم يقل: إن كان يوم السبت فلا تصوموه، ففي ذلك دليل على دخول كل الأيام فيه. ش: هذه حجة أخرى لأهل المقالة الثانية، وهي: أن النبي - عليه السلام - أمر بصوم يوم عاشوراء وحرض الناس عليه ورغبهم فيه، ولم يقل قط: فإن كان يوم عاشوراء يوم السبت فلا تصوموه، فحيئذ تدخل فيه سائر الأيام، والسبت منها. ص: وقد قال رسول الله - عليه السلام -: "أحب الصيام إلى الله -عز وجل- صيام داود، وكان يصوم يوما ويفطر يوما". وسندكر ذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، ففي ذلك أيضًا التسوية بين يوم السبت وبين سائر الأيام. ش: هذه حجة أخرى لهم، وهي أن النبي - عليه السلام - قال: "أحب الصيام إلى الله -عز وجل- صيام داود، وكان يصوم يوما ويفطر يوما" فإنه - عليه السلام - قد رغب فيه، ويوم السبت لا شك داخل فيه، ولو كان صوم يوم السبت مكروهًا لاستثناه منه. ص: وقد أمر رسول الله - عليه السلام - أيضًا بصيام أيام البيض، وروي عنه في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن محمَّد بن عبد الرحمن وحكيم، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر: "أن النبي - عليه السلام - قال لرجل أمره بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان، قال: ثنا أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا أن نصوم ليالي البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة الدهر". وقد يدخل السبت في هذه كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام، ففيها أيضًا إباحة صوم يوم السبت تطوعًا.

ش: هذه حجة أخرى، وهي أيضًا ظاهره، وأخرج فيه عن اثنين من الصحابة: أحدهما: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري. والآخر: قتادة بن ملحان القيسي - رضي الله عنهما -. أما حديث أبي ذر فأخرجه بإسناد صحيح، وحكيم بن جبير ذكر متابعا فلا يضر الصحة، وعن يحيى: ليس بشيء، وعن إبراهيم بن يعقوب السعدي: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. وسفيان هو ابن عيينة. ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني، روى له الجماعة. وموسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، روى له الجماعة. وابن الحوتكية هو يزيد بن الحوتكية التميمي، ولم أر فيه كلاما لأحد. روى له النسائي وأخرج هذا الحديث (¬1): أنا محمَّد بن المثنى، قال: نا سفيان، قال: نا رجلان محمَّد وحكيم، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلًا بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". وأما حديث قتادة: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي روى له الجماعة، عن همام بن يحيى روى له الجماعة، عن أنس بن سيرين الأنصاري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي وثقه ابن حبان، عن أبيه قتادة بن ملحان. وأخرجه ابن ماجه (¬2) نحوه: ثنا إسحاق بن منصور، أنا حبان بن هلال: نا همام، عن أنس بن سيرين، حدثني عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 137 رقم 2733). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 544 رقم 1707).

واعلم أن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، هكذا هو في الأشهر، ويقال: عبد الملك بن قدامة بن ملحان، ويقال: عبد الملك بن منهال، ويقال: عبد الملك ابن أبي المنهال، ويقال: ابن ملحان غير مسمى، ويقال: عبد الملك -غير منسوب- عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -. أما الأول: ففي إحدى روايات النسائي (¬1): قال: أنا محمَّد بن معمر، قال: نا حبان، قال: نا همام، قال: نا أنس بن سيرين، قال: حدثني عبد الملك بن قدامة بن ملحان، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا بصوم أيام الليالي الغر البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". وأما الثاني: ففي إحدى روايات البيهقى (¬2) أخرجه من حديث رَوْح، عن شعبة، عن أنس، سمع عبد الملك بن المنهال، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمر بصيام أيام البيض، ويقول: هي صيام الدهر" كذا قال روح: عبد الملك بن منهال، قال ابن معين: صوابه ابن قتادة بن ملحان. وأما الثالث: ففي إحدى روايات النسائي (¬3): أيضًا: أنا محمَّد بن حاتم، قال: أنا حبَّان، قال: أنا عبد الله، عن شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: سمعت عبد الملك بن أبي المنهال يحدث، عن أبيه: "أن النبي - عليه السلام - أمرهم بصيام ثلاثة أيام البيض، قال: "هي صوم الشهر". وأما الرابع: ففي رواية أبي داود (¬4): ثنا محمَّد بن كثير، قال: أنا همام، عن أنس أخي محمَّد، عن ابن ملحان القيسي، عن أبيه قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا أن نصوم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، قال: وقال: هو كهيئة الدهر". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 138 رقم 2739). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 294 رقم 8226). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 138 رقم 2738). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 328 رقم 2449).

وأما الخامس: ففي إحدى روايات النسائي (¬1) أيضًا: أنا محمَّد بن عبد الأعلى، قال: نا خالد، عن شعبة، قال: أنبأني أنس بن سيرين، عن رجل يقال له: عبد الملك، يحدث عن أبيه: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بهذه الأيام الثلاث البيض، ويقول: هي صيام الشهر" انتهى. وأما قتادة بن ملحان فقال البخاري في "تاريخه": الصواب هو قتادة بن ملحان، وقول شعبة: عبد الملك بن منهال وهم. وقال ابن الأثير: روى شعبة، عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن منهال أو ملحان، والصواب: ابن ملحان. وقال أيضًا: ملحان بن شبل البكري، وقيل: القيسي، وهو والد عبد الملك بن ملحان ويقال: إنه والد قتادة بن ملحان القيسي مختلفون فيه، وله حديث واحد، ثم روى هذا الحديث المذكور، ثم قال: اختلف فيه على شعبة وعلى أنس بن سيرين أيضًا فقال أبو الوليد الطيالسي ومسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب: عن شعبة، عن عبد الملك بن ملحان، عن أبيه. إلا أن أبا الوليد قال: عبد الرحمن بن ملحان وهو غلط، وقال يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أنس، عن عبد الملك بن منهال، عن أبيه. قال ابن معين: وهو خطأ، والصواب عبد الملك بن ملحان. ورواه همام، عن أنس، عن عبد الملك بن قتادة القيسي، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - مثل حديث شعبة، وهو خطأ، والصواب رواية شعبة؛ فإن همامًا ليس ممن يعارض به شعبة، والله أعلم. قوله: "ثلاث عشرة ... إلى آخره" وأراد بها الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر، وهي أيام البيض أي: أيام ليالي البيض؛ وسميت بيضًا؛ لأن القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها، ويقال: إن آدم - عليه السلام - لما ترك الأمر وأكل ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 138 رقم 2737).

من الشجرة أوحي إليه: يا آدم أن اهبط من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني، فهبط إلى الأرض مسودًّا جميع بدنه إلا ظفره، فإنه ترك على هذه الحالة ليتذكر بذلك أول حاله، ولذلك إذا نظر الإنسان إلى ظفره نسي ضحكه، فلما اسود جميع جسده، بكت الملائكة وقالوا: يا ربنا خلقته بيدك، وأسجدته ملائكتك وزوجته حواء أمتك، وأسكنته جنتك، فبذنب واحد حولت بياضه سوادًا؟! فأوحى الله إليه: يا آدم صم يوم الثالث عشر فصامه فأصبح وثلثه أبيض، ثم أوحي إليه: صم يوم الرابع عشر فصامه فأصبح وثلثاه أبيض، ثم أوحي إليه: صم يوم الخامس عشر فصامه وأصبح وكله أبيض، فسميت هذه الأيام: أيام البيض. قوله: "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا" أراد به أمر ندب واستحباب وترغيب. قوله: "ثلاث عشرة" بالنصب بيان عن قوله: ليالي البيض، أو بدل منه. قوله: "وأربع عشرة وخمس عشرة" عطف عليه. قوله: "وقال: هي" أي هذه الثلاثة الأيام "كهيئة صيام الدهر" في الأجر عند الله تعالى، وفي رواية النسائي: "هي صوم الشهر" لأن الحسنة بعشر أمثالها. ثم اعلم أن الترمذي لما أخرج حديث أبي ذر في صوم أيام البيض قال (¬1): وفي الباب عن أبي قتادة وعبد الله بن عمرو، وقرة بن إياس المزني، وعبد الله بن مسعود وأبي عقرب وابن عباس وعائشة وقتادة بن ملحان وعثمان بن أبي العاص وجرير - رضي الله عنهم -. أما حديث أبي ذر وقتادة بن ملحان فقد أخرجها الطحاوى. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه مسلم (¬2) مطولًا وقد ذكرناه عند صوم يوم عرفة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 134 رقم 761). (¬2) تقدم.

وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، نا شعبة، ثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي -كان شاعرًا وكان لا يتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي النبي - عليه السلام -: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين وتفهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله ... " الحديث. وأما حديث قرة بن إياس فأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا أبو الوليد، نا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - قال: "صيام البيض صيام الدهر وإفطاره". وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الأربعة (¬3): من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر". وحسنه الترمذى. و"الغرة": هي البياض تطلق على الأيام البيض أيضًا. وأما حديث أبي عقرب فأخرجه النسائي (¬4): أنا عمرو بن علي، قال: حدثني سيف بن عبد الله من خيار الخلق، قال: نا الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه قال: "سألت رسول الله - عليه السلام - عن الصوم فقال: "صم يومًا من الشهر قلت: يا رسول الله، زدني، قال: يقول: يا رسول الله زدني زدني! صم يومين ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 698 رقم 1878). (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 31 رقم 1747). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 118 رقم 742)، و"سنن أبي داود" (2/ 328 رقم 2450)، و "المجتبى" (4/ 204 رقم 2368) و"سنن ابن ماجه" (1/ 549 رقم 1725) مختصرًا ذكر الشاهد في هذا الباب. (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 138 رقم 2740).

من كل شهر، قلت: يا رسول الله زدني زدني إني أجدني قويا، فسكت رسول الله - عليه السلام - حتى ظننت أنه ليزيدني قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر". وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أن القاسم بن زكرياء، قال: نا عبيد الله، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - عليه السلام - لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر". وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا غندر، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قلت: من أيِّه؟ قالت: لم يكن يبالي من أيِّه كان". وأما حديث عثمان بن أبي العاص فأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند، أن مطرفًا حدثه، أن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "صيام حسن، ثلاثة أيام من الشهر". وأما حديث جرير فأخرجه النسائي (¬4) أيضًا: أنا محمَّد بن الحسن، قال: نا عبيد الله، عن زيد بن أبي أنيسة، عن ابن إسحاق، عن جرير بن عبد الله، عن النبي - عليه السلام - قال: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة". ثم اعلم أن بعض هذه الأحاديث تذكر صوم ثلاثة أيام من غير تعيين أيها هي ثلاثة أيام البيض، أو ثلاثة أيام مطلقًا من أيام الشهر؟ ولكن قالوا: إن الثلاثة أيام ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 118 رقم 2654). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 545 رقم 1709). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 134 رقم 2719). (¬4) "المجتبى" (4/ 221 رقم 2420).

من كل شهر هي الأيام البيض، ألا ترى كيف بوب البخاري (¬1) وقال: باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. ثم قال: ثنا أبو معمر نا عبد الوارث، ثنا أبو التياح قال: حدثني أبو عثمان، عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي - عليه السلام - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام". انتهى. فإن البخاري تأول الحديث بما ذكرنا، وترجم على الأيام البيض بذلك. قال القاضي: ويتعين صيام هذه الأيام البيض، قاله جماعة من الصحابة والتابعين منهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر - رضي الله عنهم -. واختار آخرون الثلاثة من أول الشهر منهم الحسن. واختار آخرون صيام السبت والأحد والإثنين من شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس، منهم: عائشة - رضي الله عنها -. واختار آخرون الإثنين والخميس والخميس الآخر الذي يليه. واختار بعضهم صيام أول يوم من الشهر ويوم العاشر ويوم العشرين، وبه قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - وروي أنه كان صيام مالك، واختاره ابن سفيان، ووري عنه كراهة تعمد صيام الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا. وقال ابن سفيان: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر، ويوم أحد عشر، ويوم أحد وعشرون. ص: ولقد أنكر الزهري: حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت ولم يعده من حديث أهل العلم، بعد معرفته به. حدثنا محمَّد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: "سئل الزهري عن صوم يوم السبت، فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبي - عليه السلام - في كراهته؟ فقال: ذلك حديث حمصي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 699 رقم 1880).

فلم يعده الزهري حديثا يقال به، وضعفه. وقد يجوز عندنا -والله أعلم وإن كان ثابتًا- أن يكون إنما نهى عن صومه لئلا يعظم بذلك فيمسك عن الطعام والشراب والجماع فيه كما يفعل اليهود. فأما من صامه لا لإرادته تعظيمه ولا لما يريد اليهود بتركها السعي فيه؛ فإن ذلك غير مكروه. ش: لما ذكر أن هذا الحديث شاذ يخالف الآثار الشهورة الدالة على عدم كراهة صوم يوم السبت، أيَّد كلامه بما روي عن محمَّد بن مسلم الزهري من تضعيفه إياه، فإن قوله: "ذلك حديث حمصي" إشارة إلى تضعيفه؛ فإن الراوي عن عبد الله بن بسر خالد بن معدان وهو حمصي، والراوي عنه ثور بن يزيد وهو أيضًا حمصي. وقال أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا عبد الملك بن شعيب، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت الليث يحدث عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام يوم السبت، قال ابن شهاب: هذا حديث حمصي. وقال (¬2): ثنا محمَّد بن الصباح، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، قال: ما زلت له كاتمًا ثم رأيته قد انتشر، يعني: حديث عبد الله بن بسر هذا في صوم يوم السبت. وقال أبو داود: قال مالك بن أنس: هذا كذب. قوله: "وقد يجوز عندنا- والله أعلم ... إلى آخره" إشارة إلى، جواب آخر عن الحديث المذكور، بعد تسليمه صحته بالنظر إلى صحة سنده بيانه أن يقال: سلمنا أن هذا الحديث صحيح، ولكن لا نسلم أنه يدل على كراهة صوم يوم السبت مطلقًا، بل هو محمول على أن يصومه قاصدًا به تعظيمه بإمساكه عن الطعام والشراب والجماع كما يفعله اليهود، وأن يريد به ما يريد به اليهود بتركهم السعي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 321 رقم 2423). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 321 رقم 2424).

والحركة فيه، فإن ذلك مكروه للتشبيه بهم، وأما إذا صامه لا لأجل ما ذكرنا من ذلك؛ فإن ذلك مباح مأجور فيه. والدليل عليه ما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1). ص: فإن قال قائل: فقد رخص في صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم وهى أيام البيض، فهذا دليل أن لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه. قيل له: إنه قد قيل: إن أيام البيض إنما أمر بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون في غيرها، وقد أمر بالتقرب إلى الله -عز وجل- بالصلاة والعتاق في غير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام ليكون ذلك برًّا مفعولًا يعقب الكسوف، فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، ولكنه صيام مقصود به في وقت شكرًا لله -عز وجل- لعارض كان فيه فلا بأس بذلك، وكذلك أيضًا يوم الجمعة إذا صامه رجل شكرًا لعارض من كسوف شمس أو قمر، أو لشكر الله -عز وجل-، فلا بأس بذلك وإن لم يصم قبله ولا بعده يومًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: الأصل أن لا يقصد الرجل إلى صوم يوم بعينه من سائر أيام المشهور حتى إنه لا يقصد إلى صوم يوم عاشوراء أو يوم الجمعة لأعيانهما كما مر فيما مضى، فإذا كان كذلك ينبغي أن يكره الصوم في أيام البيض، ومع هذا فقد رخص في صومها بعينها مقصودة بالصوم فيها، فهذا ينافي ما ذكرتم من الأصل، ويقتضي أن لا يكره القصد بالصوم إلى يوم بعينه، أي يوم كان. وتقرير الجواب أن يقال: إن السبب في ترخيص صيام أيام البيض كان لأجل كون كسوف الشمس فيها؛ لأنه لا يكون إلا ليلة البدر وهو الرابع عشر من الشهر ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 602 رقم 1593).

ولا يكون في غيرها على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وقد كان النبي - عليه السلام - أمر بالتقرب إلي، الله من أعمال البر نحو الصلاة والعتاق وغيرهما عند الكسوف. وقد أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرهما من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - نهى أن النبي - عليه السلام - قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة". وروي في حديث عائشة: "فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وتصدقوا". رواه البيهقي (¬3) وغيره (¬4). وفي رواية (¬5): "فادعوا وصلوا وأعتقوا". وفي رواية البخاري (¬6) من حديث أسماء: "كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة". ومن جملة أعمال البر الصوم، فأمر به في هذه الأيام ليكون ذلك برًّا مفعولا عقيب الكسوف، وهذا صيام مقصود به في وقت شكرًا لله تعالى؛ لأجل ذلك العارض، وهو الكسوف، وليس بصوم مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، فإذا كان كذلك فلا يكره، وكذلك الكلام في صوم يوم الجمعة وحده إن كان شكرًا لله تعالى لأجل عارض من العوارض فلا بأس بذلك منفردًا، وكل يوم ورد فيه النهي عن صومه فأمره على هذا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1171 رقم 3032). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 628 رقم 911). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 340 رقم 6157). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 217 رقم 8303). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 340 رقم 6157). (¬6) "صحيح البخاري" (1/ 359 رقم 1006).

ص: باب: الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان

ص: باب: الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان ش: أي هذا باب في بيان حكم الصوم بعد انتصاف شعبان إلى أول رمضان، وسمي شهر شعبان بذلك لتشعبهم فيه أي لتفرقهم في طلب المياه، قاله ابن دريد. وفي "المحكم": سمي بذلك لتشعبهم في الغارات. وقال ثعلب: قال بعضهم: إنما سمي شعبان لأنه شَعَب أي ظهر بين رمضان ورجب، وذكر أبو عمر الزاهد عن ثعلب: كان شعبان شهرًا تتشعب فيه القبائل أي تتفرق لقصد الملوك والتماس العطية، وقيل: إنما سمي به لتشعب الخيرات فيه، وهذا أحسن؛ لأن هذا من الأسماء الإِسلامية، ويقولون: شعبان وشعبانان وشعبانات في الجمع، ويقال: شعابين أيضًا، قاله الأزهري في "التهذيب". فإن قيل: الصوم في شعبان قد جاء فيه أحاديث صحيحة، ولكن الصلاة التي يصلونها ليلة النصف ما حكمها؟ وهل لها أصل؟ قلت: ذكر أبو الخطاب أن الأحاديث التي في صلاة النصف منه موضوعة، وفيها حديث عند الترمذي مقطوع، وقد قال أهل التعديل والتجريح: ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يصح، وذكر الطرطوشي في كتاب "الحوادث والبدع" عن أبي محمَّد القدسي: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصل في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وبين الشيخ تقي الدين ابن الصلاح والشيخ عز الدين ابن عبد السلام في هذه الصلاة مقاولات، فابن الصلاح يزعم أن لها أصلًا من السنة، والشيخ عز الدين ينكره. وأما الوقود في تلك الليلة فزعم ابن دحية أن أول ما كان ذلك زمن يحيى بن خالد بن برمك؛ لأنهم كانوا مجوسًا، فأدخلوا في دين الإِسلام ما يموهون به على

الطعام، ولما اجتمعت بالملك الكامل وذكرت له ذلك؛ قطع دابر هذه البدعة المجوسية من سائر أعمال البلاد المصرية. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان ويعقوب بن إسحاق، قالا: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، قال: ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - عليه السلام - قال: "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان". ش: "حَبَّان" بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة بن هلال، روى له الجماعة. ويعقوب بن إسحاق بن أبي عباد العبدي المصري وثقه ابن يونس، وعبد الرحمن ابن إبراهيم القاص الكرماني قال يحيى: ليس بشيء. وحكى البخاري أنه ثقة. والعلاء بن عبد الرحمن المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح". وأخرج أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، قال: "قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلي مجلس العلاء، فأخذ بيده فأقامه، ثم قال: اللهم إن هذا يحدث عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، فقال العلاء: اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - بذلك. والترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: نا عبد العزيز بن محمَّد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا". وابن ماجه (¬3): أنا أحمد بن عبدة، نا عبد العزيز بن محمَّد، وثنا هشام بن عمار، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 300 رقم 2337). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 115 رقم 738). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 528 رقم 1651).

ثنا مسلم بن خالد، قالا: ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان". ولما أخرجه الترمذي قال: حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ. وحكى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر، قال: وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث به. ويحتمل أن يكون الإِمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن؛ فإن فيه مقالا لأئمة هذا الشأن، وقد تفرد بهذا الحديث. وقال المنذري: والعلاء وإن كان فيه مقال فقد حدث عنه الإِمام مالك مع شدة انتقاده للرجال وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في "صحيحة"، وذكر له أحاديث، ويجوز أن يكون تركه لأجل تفرده به، وللحفاظ في الرجال مذاهب يقبل كل منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد. قوله: "لا صوم بعد النصف" أي: لا صوم مستحب بعد نصف شعبان، وأراد به نفي جنس الصيام من التطوع. قوله: "حتى رمضان" كلمة "حتى"، ها هنا بمعنى "إلى" التي للغاية، أي: إلى رمضان. قال الترمذي: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطرًا فإذا بقي شيءٌ من شعبان أخذ في الصوم كحال شهر رمضان، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - ما يشبه قولهم حيث قال: "لا تقدموا شهر رمضان بصيام إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم" (¬1). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 69 رقم 685).

وقد دل هذا الحديث على أن الكراهية على من تعمد الصيام كحال رمضان، وقال الخطابي: يشبه أن يكون حديث العلاء على معنى كراهية صوم يوم الشك أن يكون في ذلك اليوم مفطرًا أو يكون استحباب إجمام الصائم في بقية شعبان ليتقوى بذلك على صوم الفرض في شهر رمضان، كما كره للحاج الصوم بعرفة ليتقوى بالإفطار على الدعاء، وقد قيل: فيه نظرة فإن نصف شعبان إذا أضعفه عن صوم رمضان كان شعبان كله أحرى أن يُضعف، ومع هذا ورد أن النبي - عليه السلام - كان يصوم شعبان كله. أخرجه النسائي (¬1) وغيره (¬2). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى كراهة الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وعبد الرحمن بن يعقوب المدني؛ فإنهم قالوا بكراهة الصوم بعد النصف من شعبان، واحتجوا فيه بظاهر الحديث المذكور، وهو مذهب بعض أهل الظاهر، وحمله ابن حزم على اليوم السادس عشر من شعبان. وقال في "المحلى" (¬3): ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان أصلًا، ولا لمن صادف يوما كان يصومه، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: والعلاء ثقة روى عنه شعبة وسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة ومسعر بن كدام وأبو العميس، وكلهم يحتج بحديثه، فلا يضره غمز ابن معين له، ولا يجوز أن يظن لأبي هريرة مخالفة ما روي عن النبي - عليه السلام -، ثم قال: وقد كره قوم الصوم بعد النصف من شعبان جملة إلا أن الصحيح المتيقن من مقتضى لفظ هذا الخبر النهي عن الصوم بعد النصف ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 152 رقم 2186). (¬2) رواه ابن ماجه في "سننه" (1/ 528 رقم 1649)، وأحمد في "مسنده" (6/ 233 رقم 26006). (¬3) "المحلى" (7/ 25).

من شعبان، ولا يكون الصيام في أقل من يوم، ولا يجوز أن يحمل على النهي عن صوم باقي الشهر إذ ليس ذلك بينا، ولا يخلو شعبان من أن يكون ثلاثين أو تسعًا وعشرين، فإن كان ثلاثين فانتصافه بتمام خمسة عشر يومًا، وإن كان تسعًا وعشرين، فانتصافه في نصف اليوم الخامس عشر، ولم ينه إلا عن الصيام بعد النصف، فجعل من ذلك النهي عن صيام السادس عشر بلا شك. قلت: هذا كلام فيه تخبيط، والنص صريح ينفي الصوم من بعد النصف إلى رمضان بقوله: حتى رمضان، ثم يعتبر اليوم السادس عشر، وتخصيصه بالنهي تحكم باطل، وقول بلا دليل يقبله العقل، فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بصوم شعبان كله وهو غير منهي عنه. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم مجاهدا والأوزاعي والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم وجماهير العلماء من التابعين ومَن بعدهم، فإنهم قالوا: لا بأس بصوم شعبان كله وهو مستحب غير منهي عنه، وروي ذلك عن أنس وأسامة بن زيد وعائشة وأم سلمة وعطاء بن يسار - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني فضيل بن عياض، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يقرن شعبان برمضان". ش: أي: احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر. وإسناده حسن ورجاله ثقات. وليث هو ابن أبي سليم، احتج به الأربعة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا محمَّد بن عون، نا فضيل بن عياض ... إلى آخره نحوه سواء.

ص: حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم، عن أبي سلمة، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان". ش: إسناده صحيح، وأبو حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري. وسالم هو ابن أبي الجعد الكوفي، روى له الجماعة. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأم سلمة أم المؤمنين اسمها هند بنت أبي أمية. والحديث أخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن ابن أبي الجعد، عن أبي سلمة، عن أم سلمة ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث أم سلمة حديث حسن. وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. ص: حدثنا محمَّد بن خريمة، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا أبو الغصن ثابت بن زيد، عن أبي سعيد المقبرى، عن أسامة بن زيد قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يصوم يومين من كل جمعة لا يدعهما، فقلت: يا رسول الله رأيتك لا تدع صوم يومين من كل جمعة، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: ذاك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم. ش: القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 113 رقم 736). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 713 رقم 7336). (¬3) "المجتبى" (4/ 150 رقم 2175).

وأبو الغصن ثابت بن قيس الغفاري المدني، وثقه أحمد، وعن يحيى: ليس به بأس. وعنه: ليس بذاك، وهو صالح. وقال ابن حبان: لا يحتج به. روى له أبو داود والنسائي. وأبو سعيد المقبري اسمه كيسان، والد سعيد الليثي المدني، روى له الجماعة. وأسامة بن زيد بن حارثة حِبّ رسول الله - عليه السلام - ومولاه من أبويه. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن ثابت بن قيس -وهو أبو الغصن شيخ من أهل المدينة- قال: حدثني أبو سعيد المقبري، قال: حدثني أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". ويستفاد منه: فضيلة صوم يوم الإثنين والخميس، وإباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان من غير كراهة؛ لأن النصف لا يخلو من الإثنين والخميس، وعلى أن الأعمال من الخير والشر تعرض في هذين اليومين، وفيه دلالة على استحباب تكثير الخيرات واجتناب المعاصي فيهما وإن كان الاجتناب عنها واجبا في كل الأيام وكل الساعات. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا ثابت ... فذكر بإسناه مثله، وزاد قال: "وما رأيت رسول الله - عليه السلام - يصوم شهرا ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله، رأيتك تصوم من شعبان ما لا تصوم من غيره من المشهور؟ قال: هو شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 201 رقم 2358).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا عمرو بن علي عن عبد الرحمن، قال: نا ثابت بن قيس أبو الغصن -شيخ من أهل المدينة- قال: حدثني أبو سعيد المقبري، قال: حدثني أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". قوله: "ترفع فيه الأعمال" أي: أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وقد قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬2) أي: في الليلة المباركة، قيل: ليلة النصف من شعبان يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمرهم، منها إلى الأخرى القابلة. وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، أن ابن الهاد حدثه -يعني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد- أن محمَّد بن إبراهيم حدثه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما كان رسول الله - عليه السلام - يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان، كان يصوم كله إلا قليلًا، بل كان يصومه كله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، حدثتني عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - عليه السلام - كان لا يصوم من السنة أكثر من صيامه في شعبان، فإنه كان يصومه كله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 201 رقم 2357). (¬2) سورة الدخان، آية: [4].

حدثنا يونس، قال: ثنا بشر، عن الأوزاعي، قال: حدثنى يحيى، قال: حدثنى أبو سلمة، قال: حدثتني عائشة ... فذكر مثله. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال: ثنا أسامة بن يزيد الليثي، قال: ثنا محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة عن صيام رسول الله - عليه السلام -، قالت: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان يصوم شعبان أو عامة شعبان". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح قال: ثنا شعبة، قال: ثنا يزيد، عن معاذة العدوية قالت: "سئلت عائشة: أكان رسول الله - عليه السلام - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم، فقيل لها: مِن أيِّه؟ قالت: ما كان يبالي من أي الشهر صامها". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن نافع بن يزيد أبي يزيد المصري مولى شرحبيل بن حسنة الكلابي، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، روى له الجماعة، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث العمي المدني روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) بأسانيد مختلفة وألفاظ متتابعة. وأخرجه مسلم (¬2): من حديث ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: "إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - عليه السلام - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - عليه السلام - حتى يأتي شعبان، ما كان رسول الله - عليه السلام - يصوم من شهر ما كان يصوم من شعبان، كان يصومه كله إلا قليلا، بل كان يصومه كله". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 695 رقم 1868)، "صحيح مسلم" (2/ 811 رقم 1156)، "جامع الترمذي" (3/ 113 رقم 736)، و"سنن أبي داود" (2/ 324 رقم 2434)، و "المجتبى" (4/ 199 رقم 2350)، و"سنن ابن ماجه" (1/ 545 رقم 1710). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 803 رقم 1146).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله - عليه السلام - استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى البصري، عن بشر بن بكر التنيسي البجلي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة. وأخرجه الترمذى (¬3): ثنا هناد، قال: ثنا عَبدة عن محمَّد بن عمرو، قال: نا أبو سلمة، عن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان". الرابع: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري ابن أخي عبد الله بن وهب -المعروف ببحشل- عن عمه عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي المدني، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني، عن أبي سلمة عبد الله. وأخرجه النسائي (¬4): أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، قال: ثنا عمي، قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: "لم يكن رسول الله - عليه السلام - لشهر كر صيامًا منه لشعبان، كان يصومه أو عامته". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 695 رقم 1868). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 810 رقم 1156). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 114 رقم 737). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 120 رقم 2663).

الخامس: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن يزيد بن أبي يزيد الضبعي أبي الأزهر البصري المعروف بيزيد الرِّشْك -بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وفي آخره كاف- وهو القسام بلغة أهل البصرة، وكان يقسم الدُّور، روى له الجماعة. عن معاذة بنت عبد الله العدوية أم الصهباء البصرية- روى لها الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا عبد الوارث، عن يزيد الرشك قال: حدثتني معاذة العدوية: "أنها سألت عائشة زوج النبي - عليه السلام -: أكان رسول الله - عليه السلام - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيِّ أيام الشهر يصوم". وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. قوله: "بل كان يصومه كله" إضراب عن الأول، أي: بل كان رسول الله - عليه السلام - يصوم شعبان كله. وقال ابن المبارك: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن عبد الله رأى كلا الحدثين متفقين، يقول: إنما معنى هذا الحديث: أنه كان يصوم أكثر الشهر، وقيل: كان يصومه كله في سنة، وبعضه في أخرى، وقيل كان يصوم تارةً من أوله وتارةً من آخره وتارة بينهما لا يخل منه شيئًا بلا صيام، وخصصه بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه الأعمال. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 818 رقم 1160). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 328 رقم 2453). (¬3) كذا في "الأصل، إلى" ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف" (12/ 435 رقم 17966) إلا لمسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والحديث عند الترمذي (3/ 135 رقم 763) وابن ماجه (1/ 545 رقم 1709).

وقال ابن بطال: وقد روي في بعض الحديث أن هذا الصيام كان لأنه كان يلتزم صومه ثلاثة أيام من كل شهر كما قال لابن عمرو، فربما شغل عن صيامها أشهرًا، فيجتمع كل ذلك في شعبان فيدركه قبل رمضان. وقال ابن الجوزي: وورد في حديث أن النبي - عليه السلام - سئل عن صومه فيه، فقال: "إن الآجال تكتب فيه، فأحب أن يكتب أجلي وأنا في عبادة ربي". وقال العلماء: إنما لم يستكمل غير رمضان بالصيام لئلا يظن وجوبه. فإن قيل: قد جاء في "الصحيح": "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم؟. قلت: قد قيل: لعله لم يعلم بفضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه، أو لعله كانت تعرض له فيه أعذار من سفر أو مرض أو غير ذلك. قوله: "أكان" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "ما كان يبالي" أي: ما كان يهتم من أي أيام الشهر صامها. ص: قالوا: ففي هذه الآثار دليل على أن لا بأس بصوم شعبان كله. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن ابن عمر وأم سلمة وأسامة ابن زيد وعائشة - رضي الله عنهم -، وفيها دليل واضح على أنه لا بأس بصوم شعبان كله. ص: وكان من حجة الأولين عليهم: أن الذي روي في هذه الأخبار إنما هو إخبار عن فعله - عليه السلام - وما قبل ذلك مما فيه النهى إخبارٌ عن قوله: فكان ينبغي أن يصحح الحديثان جميعًا فيجعل ما فعله رسول الله - عليه السلام - مباحًا له، وما نهى عنه كان محظورًا على غيره، فيكون حكم غيره في ذلك خلاف حكمه حتى يصح الحديثان ولا يتضادان. فكان من الحجة عليهم في ذلك: أن في حديث أسامة عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال في شعبان: "هو شهر يغفل الناس عن صومه" فدل ذلك أن صومه إياه أفضل من الإفطار.

ش: أي: وكان من حجة أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، وهذا اعتراض منهم يرد على أهل المقالة الثانية، بيانه: أن ما رويتم من الأحاديث التي تدل على أن لا بأس بالصوم في النصف الأخير من شعبان إنما هو إخبار عن فعل رسول الله - عليه السلام - وحكاية عن حاله. وما روينا من الحديث الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان إنما هو إخبار عن قوله، فوقع التعارض بينهما، فينبغي أن يصحح الحديثان على وجه يرتفع التضاد والتعارض على ما هو الأصل في ذلك، وذلك بأن يجعل ما هو إخبار عن فعله مباحًا له على الخصوصية، وما فيه إخبار عن نهيه - عليه السلام - يُجعل محظورًا على غيره، يعني ممنوعًا مكروهًا في حق غيره، فيكون حكم غير النبي - عليه السلام - في ذلك خلاف حكم النبي - عليه السلام -. فبهذا التوفيق يرتفع التضاد. وأجاب عنه بقوله: "فكان من الحجة عليهم في ذلك ... " إلى آخره. بيانه: أن حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنها - يدل على أن صوم غير النبي - عليه السلام - أيضًا في شعبان أفضل من الإفطار فيه؛ حيث قال: "هو شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال ... " الحديث؛ وذلك لأن هذا حث وتحضيض وترغيب أن لا يغفلوا عن صوم شهر شعبان ليكونوا صائمين وقت ارتفاع أعمالهم إلى الله، كما أشار إليه في آخر الحديث: "أحب أن يرفع عملي وأنا صائم". فإن قيل: فعلى هذا: التعارض باقٍ ولم يندفع بما ذكرتم. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن حديث أبي هريرة الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان محمول على أنه قد خرج على سبيل الإشفاق على صوَّام رمضان؛ لئلا يدخلهم ضعف في صوم رمضان، وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى في أول الباب. ص: وقد روى عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا ما يدل على ما ذكرنا:

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس، أن النبي - عليه السلام - قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شعبان". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس قال: "سئل رسول الله - عليه السلام -: أيّ الصوم أفضل -يعني بعد رمضان-؟ قال: صوم شعبان؛ تعظيمًا لرمضان". ش: أي: قد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضًا ما يدل على أن الصوم في شعبان أفضل من الإفطار، فمن ذلك: حديث أنس، وأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن صدقة بن موسى الدقيقي فيه مقال؛ فقال يحيى: ليس حديثه بشيء. وعنه: ضعيف. وكذا ضعفه النسائي وأبو داود. عن ثابت البناني، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا يزيد بن هارون، قال: أنا صدقة بن موسى، قال: أنا ثابت البناني، عن أنس قال: "سئل رسول الله - عليه السلام - عن أفضل الصيام، فقال: صيام شعبان تعظيمًا لرمضان". فإن قيل: قد جاء في الحديث الصحيح: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" (¬2) فما التوفيق بين الحديثين؟. قلت: قد مرَّ الجواب عنه عن قريب عند حديث عائشة - رضي الله عنها -. الطريق الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي قال أبو زرعة: صدوق. وتكلم فيه النسائي لأجل التشيع، وروى له في "مناقب علي - رضي الله عنه -" حديثًا واحدًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 346 رقم 9763). (¬2) رواه مسلم (2/ 821 رقم 1163)، وأبو داود (2/ 323 رقم 2429)، والترمذي (3/ 117 رقم 740).

عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن صدقة بن موسى ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبدة بن عبد الله، أنا يزيد بن هارون، أنا صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - سئل عن أفضل الصيام، قال: أفضل الصيام صيام شعبان تعظيمًا لرمضان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان". وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا صدقة بن موسى. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد التيمي، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله، عن عمران بن الحصين: "أن رسول الله - عليه السلام - قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين". حدثنا أحمد، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا حماد، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف بن عبد الله -هو ابن الشخير- عن عمران، عن النبى - عليه السلام - مثله. غير أنه قال: "صم يومًا". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وهذا في آخر شعبان. ففي هذه الآثار من أمر رسول الله - عليه السلام - أمته ما قد وافق فعله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد بن حفص التيمي البصري -المعروف بالعيشي والعائشي وبابن عائشة- شيخ أبي داود، وعن أبي حاتم: صدوق ثقة. عن حماد بن سلمة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخيى العامري البصري -روى له الجماعة- عن عمران بن الحصين.

وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن ثابت، عن مطرف، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله - عليه السلام - قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: إذا أفطرت فصم يومين". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف -ولم أفهم مطرفًا من هداب- عن عمران بن حصين أن رسول الله - عليه السلام - قال له أو لآخر: "أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد التيمي، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجُرَيْري -بضم الجيم وفتح الراء- عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير -بكسر الشين وتشديد الخاء المعجمتين- عن عمران بن حصين. وأخرجه أبو داود (1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عمران بن حصين أن رسول الله - عليه السلام - قال لرجل: "هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومًا". وهذا الحديث أخرجه البخاري (¬3) أيضًا: ثنا الصلت بن محمَّد، قال: أنا مهدي، عن غيلان (ح). وثنا أبو النعمان، نا مهدي بن ميمون، قال: ثنا غيلان بن جرير، عن مطرف، عن عمران بن حصين، عن النبي - عليه السلام -: "أنه سأله -أو سأل رجلًا وعمران يسمع- فقال: يا أبا فلان أما صمت سرر هذا الشهر؟ قال: أظنه قال: -يعني رمضان- قال الرجل: لا يا رسول الله، قال: فإذا أفطرت فصم يومين" لم يقل الصلت: أظنه يعني رمضان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 298 رقم 2328). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 820 رقم 1161). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 700 رقم 1882).

قوله: "من سرر شعبان" السَّرَر -بفتح السنن المهملة والراء- ليلة يستسر الهلال، يقال: سِرار الشهر وسَراره -بالكسر والفتح- وسَرَرَه. قال ابن الأثير: في الحديث: "صوموا الشهر وسره"، أي: أوله، وقيل: مستهله، وقيل: وسطه، وسِرُّ كل شيء جوفه، فكأنه أراد الأيام البيض، قال الأزهري: لا أعرف السِّرَّ بهذا المعنى، إنما يقال: سِرار الشهر وسَراره وسَرَرَهُ وهو آخر ليلة يستسر الهلال بنور الشمس، ومنه الحديث: "هل صمت من سرار هذا الشهر شيئًا"؟ (¬1). وقال القاضي: وأنكر بعضهم ما قال أبو عبيد: إن سرر الشهر آخره حين يستسر الهلال، وقال: لم يأت في صيام آخر الشهر من شعبان حضّ، والسرار من كل شيء وسطه. وقال أبو داود عن الأوزاعي: سِرُّه: أوله، ولم يعرف الأزهري سره أوله، وقال الهروي: والذي يعرف الناس أن سرَّه آخره، وكذا رواه الخطابي عن الأوزاعي أيضًا من غير طريق أبي داود: سرُّه: آخره. ويقال: سرارُهُ وسررُه وسرُّه، ويعضد قول من قال: إنه وسطه رواية من روى في الحديث من رواية عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي "سرَّته" وعند شيخنا القاضي الشهيد في حديث ابن أبي شيبة "سُرره" بالضم، ولغيره بالكسر، والسُّرر جمع سرة، وسُرارة الوادي وسطه، وخير موضع فيه، وقال ابن السكيت: سرار الأرض: أكرمها ووسطها، وسرار كل شيء وسطه وأفضله، وقد يكون سِرار الشهر من هذا، أي: أفضل أيامه. قال القاضي: والأظهر في تصير سرار الشهر أنه آخره بدليل قوله - عليه السلام -: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يوما أو يومين" والشهر المشار إليه هو شعبان، كذا جاء مفسرا في "الأم" وغيرها، وإن كان وقع في البخاري فيه أنه رمضان، فهو وهم بيِّن ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 115 رقم 222).

من رواته؛ لأن صوم رمضان كله مستحق، ولا يختص بسرره دون غيره، وإن كان السرر أول شعبان أو وسطه لم يفته قضاؤها في بقيته ولم يحتج أن ينتظر تمام صيام رمضان، فالأظهر أنه آخر أيامه على ما قال أبو عبيد، وأكثرهم وإن كان يحتمل ذلك أن النبي - عليه السلام - قال ذلك في انسلاخه أو بعد تمامه، ولا سيما على رواية "أصمت من سرر شعبان شيئًا". فإن قيل: هذا الحديث يعارضه ويخالفه قوله - عليه السلام -: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين". قلت: قد أجيب عن هذا بأنه محمول على أن الرجل كان ممن اعتاد الصوم في سرر الشهر أو نذر ذلك وخشي أن يكون إذا صام آخر شعبان دخل في النهي فيكون فيما قال - عليه السلام - دليل على أنه لا يدخل في هذا الذي نهى عنه مِنْ تقدم الشهر بالصوم، وأن المراد بالنهي مَن هو على غير حالته. وقال الخطابي: كان بعض أهل العلم يقول في هذا: إن سؤاله زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بصوم يوم أو يومين. قال: ويشبه أن يكون هذا الرجل قد أوجبه على نفسه بنذرة فلذلك قال له في سياق الحديث: "إذا أفطرت -يعني من رمضان- فصم يومين" فاستحب له الوفاء بهما. ص: وقد روي عنه في ذلك أيضًا ما قد حدثنا أبو بكرة، قال حدثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صيامًا فليصمه". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ... فذكر مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا حسين المعلم وهشام بن أبي عبد الله، عن يحيى ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي -يعني يحيى بن صالح- قال: ثنا سليمان ابن بلال، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا محمَّد بن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. فلما قال رسول الله - عليه السلام -: "إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم فليصمه" دل ذلك على دفع ما قال أهل المقالة الأولى، وعلى أن ما بعد النصف من شعبان إلى رمضان حكم صومه حكم صوم سائر الدهر المباح صومه، فلما ثبت هذا المعنى الذي ذكرنا دل ذلك أن النهى الذي كان من رسول الله - عليه السلام - في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا في أول الباب لم يكن إلا على الإشفاق منه على صوَّام رمضان، لا لمعنى غير ذلك، وكذلك يؤمر من كان الصوم بقرب رمضان يدخله به ضعف يمنعه من صوم رمضان أن لا يصوم حتى يصوم رمضان؛ لأن صوم رمضان أولى به من صوم ما ليس عليه صومه، فهذا هو المعنى اللي ينبغي أن يحمل عليه معنى ذلك الحديث؛ حتى لا يضاد غيره من هذه الأحاديث. ش: أي: قد روي عن النبي - عليه السلام - في عدم كراهة الصوم بعد انتصاف شعبان؛ وذلك لأن قوله: "إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صيامًا فليصمه" فدل على أن ما بعد النصف من شعبان إلى رمضان حكمه في الصوم كحكم الصوم في سائر الأزمان المباح صومه فإذا كان المعنى على ما ذكرنا؛ دل أن النهي المذكور في حديث

أبي هريرة الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وهو منعهم الصوم فيما بعد النصف من شعبان لم يكن إلا لأجل الشفقة على الذين يصومون رمضان كيلا يدخلهم ضعف، ولم يكن لمعنى غير ذلك، والله أعلم. قوله: "وكذلك يؤمر مَن كان الصوم ... إلى آخره" فقوله: "مَنْ" مفعول يؤمر في محل نصب، وهي موصولة، وقوله: "كان الصوم بقرب رمضان يدخله به ضعف" صلته وقوله: "الصوم"، مرفوع؛ لأنه اسم كان، وقوله: "يدخله" خبره، وقوله: "ضعف" مرفوع؛ لأنه فاعل، والضمير في "يدخله" يرجع إلى "من" وفي قوله: "به إلى الصوم" الباء فيه للسببية، وقوله: "يمنعه" جملة في محل الرفع؛ لأنها صفة لقوله: "ضعف" والباء في قوله: "بقرب رمضان" في محل النصب على الحال من الصوم، وقوله: "أن لا يصوم" أي: بأن لا يصوم، أي: يترك الصوم، وهو يتعلق بقوله: "يؤمر"، وقوله: "حتى يصوم" أي: حتى أن يصوم. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من سبع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تقدموا قبل رمضان يومًا ولا يومين، إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صومًا فليصمه". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 8 رقم 1689).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا هشام، نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن هشام الدستوائي، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذى (¬2): نا أبو كريب، قال: نا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - عليه السلام -: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا". قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬3): أنا هشام بن عمار، نا عبد الحميد بن حبيب والوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فيصومه". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عَن رَوْح بن عبادة، عن حسين المعلم وهشام الدستوائي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 676 رقم 1815). (¬2) "سنن الترمذي" (3/ 68 رقم 684). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 528 رقم 1650).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1). السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي، عن سليمان بن بلال القرشي، محمَّد بن عمرو الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا ابن صاعد وابن غيلان، قالا: ثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تعجلوا شهر رمضان بيوم ولا بيومين". السابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬3) من وجوه مختلفة. ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - فيما أمر به عبد الله بن عمرو ما يدل على ذلك. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس -رجل من ثقيف- عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبى - عليه السلام -: "أحب الصيام إلى الله -عز وجل- صيام داود - عليه السلام - كان يصوم يومًا ويفطر يومًا". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم. (ح) وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْح قال: ثنا شعبة، عن زياد بن الفيَّاض، قال: سمعت أبا عياض، قال: سمعت عبد الله بن عمرو يحدث، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 52 رقم 10765). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 160 رقم 16). (¬3) البخاري (2/ 676 رقم 1815)، ومسلم (2/ 762 رقم 1082)، وأبو داود (2/ 300 رقم 2335)، والترمذي (3/ 69 رقم 685)، والنسائي (4/ 149 رقم 2173)، وابن ماجه (1/ 528 رقم 1650).

حدثنا أبو بكرة وعلي بن شيبة، قالا: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم نصف الدهر". حدثنا ابن مرزوق -يعني إبراهيم- قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أنه أتي النبي - عليه السلام - -يعني فسأله عن الصيام- فقال له: صم يومًا ولك عشرة أيام، قال: زدني يا رسول الله فإن بي قوة، قال: صم يومين ولك تسعة أيام، قال: زدني فإن بي قوة. قال: صم ثلاثة أيام ولك ثمانية أيام". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال: قال له رسول الله: "إن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام بكل حسنة عشر أمثالها، فذلك صوم الدهر كله، فشددت على نفسي فشدد علي. فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: صم صوم نبي الله داود - عليه السلام -. قلت: وما صوم داود نبي الله؟ قال: نصف الدهر". حدثنا يونس، قال: ثنا بشر، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوح بن عبادة، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة، قال: ثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو قال: "بلغ رسول الله - عليه السلام - أني أقول: لأصومن الدهر، فقال: صم ثلاثة أيام من كل شهر. قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومين. قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صوم داود - عليه السلام - وهو أعدل الصيام". حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال:

حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، أن سعيدًا أخبره وأبا سلمة، أن عبد الله بن عمرو قال: "أخبر رسول الله - عليه السلام - .... " فذكر مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب ورَوْحٌ، قالا: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن هلال -أو هلال بن طلحة- قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: "قال لي رسول الله - عليه السلام -: يا عبد الله صم ثلاثة أيام من كل شهر {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬1). قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صُمْ صوم داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، قال: ثنا خالد الحذاء، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني أبو المليح قال: "دخلت مع أبيك زبد بن عمرو على عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثنا أن رسول الله - عليه السلام - ذكر له صومه، قال: فدخل علي، فألقيت له وسادةً من أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض، وقال لي: إنما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فخمسة أيام، قلت: يا رسول الله، قال: فسبعة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فتسعة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فأحد عشر يومًا. قلت: يا رسول الله، قال: أظنه قال: ثلاثة عشر يومًا. قلت: يا رسول الله، قال: لا صيام فوق صيام داود - عليه السلام - شطر الدهر، صيام يوم وإفطار يوم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "قال له رسول الله - عليه السلام -: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [160].

كيف تصوم؟ قلت: أصوم فلا أفطر. قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى من ذلك. فلم يزل يناقصني وأناقصه حتى قال: صُمْ أحب الصيام إلى الله -عز وجل- صوم داود - عليه السلام - صوم يوم وإفطار يوم". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن قادم، قال: ثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال له رسول الله - عليه السلام -: "ألم أنبأ أنك تصوم الدهر وتقوم الليل، قال: قلت: إني أقوى، قال: إنك إذا فعلت نفهت له النفس وهجمت له العين، قال: قلت: إني أقوى، قال: فصم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: قلت: إني أقوى، قال: فصم صوم أخي داود - عليه السلام -، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى". حدثنا يونس، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس -رجلًا من أهل مكة وكان شاعرا، وكان لا يتهم في الحديث- قال: سمعت عبد الله بن عمرو ... فذكر مثله. حدثني أبو أمية، قال: حدثنا سريج، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين ومغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - عليه السلام - قال له: "صُمْ من كل شهر ثلاثة أيام ... " ثم ذكر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد الزمان، عن أبي قتادة: "سئل رسول الله - عليه السلام - عمن يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: ذاك صوم داود - عليه السلام -، قال: يا رسول الله كيف من يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك". فلما أباح رسول الله - عليه السلام - فى هذه الآثار المتواترة صوم يوم وإفطار يوم من سائر الدهر دلك ذلك أن صوم ما بعد النصف من شعبان مما قد دخل في إباحة النبى - عليه السلام - لعبد الله بن عمرو، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في الذي أمر به عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - ما يدل على إباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان؛ وذلك لأنه - عليه السلام - لما أباح فيها صوم يوم وإفطار يوم من سائر أيام الدهر، دل على إباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان؛ لدخوله في تلك الإباحة. ثم إنه أخرج ما روي عن عبد الله بن عمرو من ستة عشر طريقا: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال "الصحيح". وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) بطرق مختلفة وألفاظ متباينة. وبهذا الطريق أخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال زهير: نا سفيان بن عيينة، عن عمرو -يعني ابن دينار- عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إن أحب الصيام إلى الله: صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود - عليه السلام -، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يوما". قوله: "أحب الصيام إلى الله" أي: أكثره ثوابًا وأعظمه أجرًا. الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن زياد بن فياض الخزاعي الكوفي، عن أبي عياض عمرو بن الأسود العَنْسي الشامي الدمشقي، عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) البخاري (3/ 1257 رقم 3238)، ومسلم (2/ 816 رقم 1159)، وأبو داود (2/ 327 رقم 2448)، والنسائي (3/ 214 رقم 1630)، وابن ماجه (1/ 546 رقم 1712). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 816 رقم 1159).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن زياد بن فياض، قال: سمعت أبا عياض، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله - عليه السلام - قال له: صم يومًا ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أفضل الصيام عند الله: صوم داود - عليه السلام -؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن زياد بن فياض ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا نحوه: ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن زياد بن فياض ... إلى آخره نحو روايته الأولى. الرابع: عن أبي بكرة بكار وعلي بن شيبة السدوسي، كلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا: حدثني محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبي - عليه السلام - قال: "أحب الصيام إلى الله: صيام داود - عليه السلام -؛ كان يصوم نصف الدهر ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 817 رقم 1159). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 817 رقم 1159). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 816 رقم 1159).

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا إسناد صحيح. وشعيب هو ابن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وثقه ابن حبان، وذكر البخاري وأبو داود وغيرهما أنه سمع من جده عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد. (ح) قال: وأخبرني زكرياء بن يحيى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه قال: قال رسول الله - عليه السلام - "صم يوما ولك أجر عشرة. فقلت: زدني، فقال: ثم يومين ولك أجر تسعة، قلت: زدني، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ثمانية، قال ثابت: فذكرت ذلك لمطرف، قال: ما أراه إلا يزاد في العمل وينقص في الأجر" اللفظ لمحمد. السادس: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن حسين بن ذكوان المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه. قوله: "إن من حسبك أن تصوم" أيْ: إن من كفايتك: صومك من كل شهر ثلاثة أيام. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2134 رقم 2396). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 814 رقم 1159).

السابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن بشر بن بكر التنيسي الدمشقي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن عبد الله ابن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا ابن مقاتل، قال: أنا عبد الله، قال: أبنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: قال له رسول الله - عليه السلام -: "يا أبا عبد الرحمن، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام؛ فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها؛ فإن ذلك صيام الدهر كله، فشددت فشُدِّد عليّ. قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: صم صيام نبي الله داود - عليه السلام - ولا تزد. قلت: وما كان صيام نبي الله داود؟ قال: نصف الدهر، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي - عليه السلام -". الثامن: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن محمَّد بن أبي حفصة ميسرة البصري، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر، قال: سمعت عبد الله بن وهب يحدث، عن يونس، عن ابن شهاب. وحدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 697 رقم 1874). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 812 رقم 1159).

عمرو بن العاص قال: "أُخبر رسول الله - عليه السلام - أنه يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت، فقال رسول الله - عليه السلام -: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته يا رسول الله، فقال رسول الله - عليه السلام -: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قال: قلت: فإني أطيق [أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومين، قال: قلت: فإني أطيق] (¬1) أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صُمْ يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود - عليه السلام - وهو أعدل الصيام. قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال رسول الله - عليه السلام -: لا أفضل من ذلك. قال عبد الله بن عمرو: لأَنْ أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله - عليه السلام -، أحب إليَّ من أهلي ومالي". التاسع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين وفتح القاف- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عمرو قال: "أُخبر رسول الله - عليه السلام - أني أقول: والله لأصومن الدهر ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته؛ بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يومًا وأفطر يومًا ذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي - عليه السلام -: لا أفضل من ذلك". ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، إلى" والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 697 رقم 1875).

العاشر: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم التيمي المدني، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو. هذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): من حديث محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "دخلت على عبد الله بن عمرو، قلت: أيْ عم، حدثني عمَّا قال لك رسول الله - عليه السلام -، قال: يا ابن أخي قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل يوم وليلة، فسمع بذلك رسول الله - عليه السلام -، فأتاني حتى دخل عليّ في داري، فقال: إنك قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن؟ فقلت: قد قلت ذلك يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صُمْ من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم من الجمعة يومين الاثنين والخميس. قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم صيام داود - عليه السلام -، فإنه أعدل الصيام عند الله يومًا صائمًا ويومًا مفطرًا، لأنه كان إذا وعد لم يخلف، وإذا لاقى لم يفر". الحادي عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير ورَوْح بن عبادة، كلاهما عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن طلحة بن هلال العامري -أو هلال بن طلحة- وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه": ثنا عمر بن محمَّد الهمداني، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، ثنا محمد بن بكر البُرْساني، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت طلحة بن هلال -رجلًا من بني عامر- سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا عبد الله بن عمرو صوم ثلاثة أيام صيام الدهر، مَن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 211 رقم 2393).

جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صُمْ صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا". وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا أحمد بن محمَّد السوطي، ثنا عفان، نا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن هلال بن طلحة -أو طلحة بن هلال- عن عبد الله بن عمرو ... إلى آخره نحوه. الثاني عشر: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن المختار الدباغ البصري روى له الجماعة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أبي المليح بن أسامة الهذلي، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة، وأبوه له صحبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: ثنا خالد، عن خالد، عن أبي قلابة، قال: أخبرني أبو المليح قال: "دخلت مع أبيك على عبد الله بن عمرو، فحدثنا أن رسول الله - عليه السلام - ذُكِرَ له صومي فدخل عليَّ، فألقيت له وسادةً من أدم، حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه فقال: أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال: قلت: يا رسول الله، قال: خمسًا، قال: قلت: يا رسول الله، قال: سبعًا، قلت: يا رسول الله، قال: تسعًا، قلت: يا رسول الله قال: أحد عشر. ثم قال النبي - عليه السلام -: لا صوم فوق صوم داود - عليه السلام -؛ شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا". وأخرجه مسلم (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. قوله: "مع أبيك" خطاب لأبي قلابة واسم أبيه: زيد بن عمرو. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 699 رقم 1879). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 817 رقم 1159). (¬3) "المجتبى" (4/ 215 رقم 2402).

قوله: "وِسَادة" بكسر الواو، وهي المخدة. قال الجوهري: الوساد والوسادة: المخدة والجمع: وسائد ووسد. قوله: "قال: فخمسة أيام ... إلى أخره" في كل هذا دليل على إيثار الوتر ومحبته في جميع الأمور، ثم رجوعه إلى صيام يوم وإفطار يوم فيه الوتر؛ لأنه خمسة عشر يومًا من كل شهر. وفي هذا الحديث من الفوائد: إكرام الداخل والضيف وذي الفضل وإيثاره، وما كان - عليه السلام - من التواضع، وأنه كان لا يحب الأثرة. الثالث عشر: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه السائب بن مالك الثقفي الكوفي، عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه الطبراني: ثنا أحمد بن داود المكي، نا أبو معمر المقعد، نا عبد الوارث بن سعيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "رآني النبي - عليه السلام - فدعاني، فقال: في كم تقرأ القرآن؟ قلت: في يومين وليلتين، فقال: بخ، صلّ وارقد وصل، اقرأ في كل شهر، قلت: إني أقوى من ذلك، فناقصني وناقصته حتى بلغ سبعًا، قال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم ولا أفطر. فقال: صم وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى من ذلك، فناقصني وناقصته، قال: فإن أبيت فصم أحب الصوم إلى الله؛ صوم داود - عليه السلام -، صم يومًا وأفطر يومًا. فلأن أكون قبلت رخصة رسول الله - عليه السلام - أحبّ بليَّ من أهلي ومالي". الرابع عشر: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن قادم الخزاعي الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن أبي العباس السائب بن فروخ المكي الشاعر الأعمى الثقة، عن عبد الله ابن عمرو. وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، ثنا شعبة، نا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي -وكان شاعرًا وكان لا يتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قال له النبي - عليه السلام -: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس، لا صام مَن صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله. قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفرُّ إذا لاقى". قوله: "ألم أنبأ" على صيغة المجهول أيْ: ألم أُخبر، والهمزة فيه للاستفهام. قوله: "نفهت له النفس" أي: أعيت وكلَّت، قال الجوهري: نفهت نفسه -بالكسر- أعيت وكلَّت، والنافه: الكال المعيى من الإبل. قلت: مادته: (نون وفاء وهاء). قوله: "وهجمت له العين" أي: غارت ودخلت في موضعها، ومنه الهجوم على القوم وهو الدخول عليهم. قوله: "ولا يفر إذا لاقى" أي: إذا لاقى الأعداء في الحرب، أراد أنه كان لا يفر من الزحف والقتال. الخامس عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أسد بن موسى، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدثني أبي، قال: نا شعبة عن حبيب، سمع أبا العباس، سمع عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا عبد الله بن عمرو إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 698 رقم 1878). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 812 رقم 1159).

العين ونهكت، لا صام من صام الأبد، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر كله. قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود - عليه السلام - وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى". السادس عشر: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن سريج -بضم السين المهملة وفتح الراء وفي آخره جيم- بن النعمان الجوهري شيخ البخاري، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي ومغيرة بن مقسم الضبي، كلاهما عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن مغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه السلام - قال: "صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: صم يومًا وأفطر يومًا، فقال: اقرأ القرآن، في كل شهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: في ثلاث". وأخرجه النسائي (¬2) وقال فيما قرأ علينا أحمد بن منيع: قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين ومغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال رسول الله - عليه السلام -: "أفضل الصيام: صيام داود - عليه السلام -، كان يصوم أيومًا، (¬3) ويفطر يومًا". وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله - عليه السلام -. فأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب ابن جرير البصري روى له الجماعة، عن أبيه جرير بن حازم البصري، روى له ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 698 رقم 1877). (¬2) "المجتبى" (4/ 209 رقم 2388). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المجتبى".

الجماعة، عن غيلان بن جرير المعولي البصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن معبد الزماني البصري، روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي قتادة. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا: ثنا يحيى التيمي وقتيبة بن سعيد جميعًا، عن حماد ... إلى آخره. وقد ذكرناه في باب: "صوم عاشوراء"، فإن الطحاوي: أخرج هذا الحديث هناك من ثلاث وجوه، وقد حققناه. قوله: "وددت" أي: أحببت. "أني طُوقت ذلك" أي: قدرت على ذلك، أي: على صوم يوم وإفطار يومين. وطوقت على صيغة المجهول. وقال ابن الأثير: معناه: ليته جُعل داخلًا في طاقتي وقدرتي، ولم يكن عاجزًا في ذلك غير قادر عليه لضعفٍ فيه، ولكن يحتمل أنه خاف العجز للحقوق التي تلزمه لنسائه؛ فإن إدامة الصوم تخل بحظوظهن فيه. وقال القاضي عياض: قيل: وجهه في حق غيره لا بعجز نفسه فقد كان - عليه السلام - يواصل ويقول: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" لكن قال هذا لما يلزمه من حقوق نسائه أو يكون هذا التمني لغيره من أمته؛ والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: باب: القبلة للصائم

ص: باب: القبلة للصائم ش: أي: هذا باب في بيان القبلة هل تجوز للصائم أم لا؟. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا إسرئيل، عن زيد جبير، عن أبي يزيد الضِّنِّي، عن ميمونة بنت سعد قالت: "سئل النبي - عليه السلام - عن القبلة للصائم، فقال: أفطرا جميعًا". ش: أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي الحبَّال، روى له الجماعة. وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، روى له الجماعة. وزيد بن جبير بن حرملة الطائي الكوفي، روى له الجماعة. وأبو يزيد الضِّنِّي -بكسر الضاد والنون المشددة- نسبة إلى ضِنَّة قبيلة. قال الدارقطني: ليس بمعروف. وقال ابن حزم: مجهول. روى له النسائي وابن ماجه. وميمونة بنت سعد -وقيل: سعيد- خادم النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا الفضل بن دُكين، عن إسرائيل، عن زيد بن جبير، عن أبي يزيد الضِّني، عن ميمونة مولاة النبي - عليه السلام - قالت: "سئل النبي - عليه السلام - عن رجل قبل امرأته وهما صائمان. قال: قد أفطرا". وقال ابن حزم (¬2): رويناه من طريق إسرائيل -وهو ضعيف- عن زيد بن جبير، عن أبي يزيد الضني -وهو مجهول- عن ميمونة بنت عتبة مولاة رسول الله - عليه السلام -، وقال: ولئن صح هذا لكان حديث أبي سعيد الخدري: "أنه - عليه السلام - أرخص في القبلة للصائم" ناسخًا له، انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 538 رقم 1686). (¬2) "المحلى" (6/ 209).

وقال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث. وكذا قال البيهقي، وقال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: هذا حديث منكر لا أحدث به، وأبو يزيد لا أعرف اسمه، وهو رجل مجهول. قوله: "أفطر" أي: المقبِّل والمقبَّل، كلاهما أفطرا، يعني انتقض صومهما. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: ليس للرجل أن يقبِّل في صومه، وإن قبَّل فقد أفطر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن شبرمة وشريحًا وإبراهيم النخعي والشعبي وأبا قلابة ومحمد بن الحنفية ومسروق بن الأجدع؛ فإنهم قالوا: ليس للصائم أن يباشر القبلة، فإن قبل فقد أفطر، فعليه أن يقضي يومًا. قال أبو عمر: وممن كره القبلة للصائم: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعروة بن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يومًا مكانه، وروي عن ابن عباس أنه قال: "إن عروق الخصيتن معلقة بالأنف فإذا وجد الريح تحرك وإذا تحرك دعا إلى ما هو أكثر من ذلك، والشيخ أملك لإربه". وكره مالك القبلة للصائم في رمضان للشيخ والشاب. وعن عطاء، عن ابن عباس أنه أرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب. وقال عياض: منهم من أباحها على الإطلاق، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وداود من الفقهاء، ومنهم من كرهها على الإطلاق وهو مشهور قول مالك. ومنهم من كرهها للشاب وأباحها للشيخ وهو المرويّ عن ابن عباس. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي، وحكاه الخطابي عن مالك. ومنهم من أباحها في النفل ومنعها في الفرض، وهي رواية ابن وهب عنه.

وقال النووي: إن حركت القبلة شهوة فهي حرام على الأصح عند أصحابنا، وقيل: مكروهة كراهة تنزيه، انتهى. وقال أصحابنا في فروعهم: لا بأس بالقبلة والمعانقة إذا أمن على نفسه، أو كان شيخا كبيرًا، ويكره له مس فرجها. وعن أبي حنيفة: تكره المعانقة والمصافحة والمباشرة الفاحشة بلا ثوب، والتقبيل الفاحش مكروه، وهو أن يمضغ شفتها قاله محمَّد، وقال ابن قدامة: إن قبَّل فأمنى أفطر بلا خلاف؛ فإن أمذى أفطر عندنا وعند مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر، وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي، واللمس بشهوة كالقبلة، فإن كان بغير شهوة فليس مكروهًا بحال. وقال ابن حزم (¬1): وأما القبلة والمباشرة للرجل مع امرأته وأمته المباحة له [فهما سنة حسنة] (¬2) نستحبها للصائم شابًّا كان أو كهلًا أو شيخًا، ولا نبال كان معها إنزال مقصود إليه أو لم يكن. وادعى قوم أن القبلة تبطل الصوم، وقال قوم: هي مكروهة، وقال قومٌ: هي مباحة للشيخ مكروهة للشاب، وقال قومٌ: هي خصوص للنبي - عليه السلام -. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قلت لأبي أسامة: أحدثكم عمر بن حمزة، قال: ثنا سالم، عن ابن عمر قال: قال عمر - رضي الله عنه - "رأيت النبي - عليه السلام - في المنام فرأيته لا ينظرني، فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ قال: ألستَ الذي تُقَبِّل وأنت صائم؟ فقلت. والذي بعثك بالحق لا أقبل بعد هذا وأنا صائم، فأقرَّ به، ثم قال: نعم". ش: أي: واحتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 205 - 206). (¬2) "في الأصل": حسنة حسنة، والمثبت من "المحلى".

أخرجه عن علي بن شيبة، عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو إسحاق بن راهويه شيخ الجماعة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة روى له الجماعة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال يحيى: ضعيف. روى له الجماعة إلا النسائي، البخاري مستشهدًا. عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي أسامة، عن عمر بن حمزة، نا سالم، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فرأيته لا ينظرني، فقلت: يا رسول الله، ما شأني؟ فالتفت إليّ فقال: ألست المقبِّل وأنت صائم؟ فوالذي نفسي بيده لا أقبل وأنا صائم امرأة ما بقيت". وقال البيهقي: تفرد به عمر بن حمزة، فإن صح فعمر - رضي الله عنه - كان قويًّا تحرك القبلة شهوته. وقال الذهبي (¬2): هذا لم يخرجوه، وضعفه ابن معين وقواه غيره. وروى له مسلم. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬3) وقال: الشرائع لا تؤخذ بالمنامات لاسيمَّا وقد أفتى رسول الله - عليه السلام - عمر في اليقظة حيًّا بإباحة القبلة للصائم، فمن الباطل أن ينسخ ذلك في المنام، وكفى من هذا كله أن عمر بن حمزة لا شيء. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن هانئ- وكان يسمى الهزهاز قال: "سئل عبد الله عن القبلة للصائم، فقال: يقضي يومًا آخر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (4/ 232 رقم 7881). (¬2) نص كلام الذهبي كما في "مهذب السنن" (4/ 1608) بتحقيقنا: هذا لم يخرجوه، وقال أحمد ابن حنبل: عمر بن حمزة أحاديثه مناكير. وضعفه ابن معين وقواه غيره، وروى له مسلم وتحايده النسائي. (¬3) "المحلى" (6/ 208).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال، عن الهزهاز، عن عبد الله مثله. ش: أي: احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما روي عن عبد الله بن مسعود، وأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف -ويقال: إساف- الأشجعي الكوفي، عن هانئ الذي يسمى الهزهاز. وكل هؤلاء ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "منصفه": (¬1) ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن الهزهاز: "أن رجلًا لقي ابن مسعود وهو بالتمارين، فسأله عن صائم قبَّل، فقال: أفطر". الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف سمعه يحدث، عن الهزهاز: "أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في القبلة للصائم قولًا شديدًا -يعني-: يصوم يومًا مكانه" قال البيهقي: هذا عندنا إذا قبل فأنزل. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن عمر - رضي الله عنه - من قوله: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر - رضي الله عنه - كان ينهى عن القبلة للصائم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمران بن مسلم، عن زاذان قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "لأن أعضَّ على جمرة أحبّ إليَّ من أن أقبل وأنا صائم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 315 رقم 9412). (¬2) "سنن البيهقي الكبير" (4/ 234 رقم 7895).

ش: أي: واحتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأخرجه من وجهين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد ابن المسيب. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري عن سعيد بن المسيب: "أن عمر - رضي الله عنه - نهى عن القبلة للصائم". قلت: هذا محمول على ما إذا لم يأمن على نفسه. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمران بن مسلم المنقري أبي بكر البصري القصيرروى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن زاذان أبي عبد الله -ويقال: أبو عمر- الكندي الكوفي الضرير البزاز روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2) ولفظه: عن زاذان، عن ابن عمر: "في الذي يقبل وهو صائم أَلَا يقبل جمرةً". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) أيضًا. قلت: هذا أيضًا في حق من لم يأمن على نفسه من الشهوة. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن سعيد بن المسيب. حدثنا محمَّد بن حُمَيد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن عبد الكريم، عن سعيد بن المسيب: "في الرجل يقبل امرأته وهو صائم، فقال: تَنْقُصُ صومه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 315 رقم 9410). (¬2) "المحلى" (6/ 209). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 315 رقم 9413).

ش: أي: واحتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن سعيد بن المسيب. أخرجه عن محمد بن حُميد بن هشام الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن موسى بن أعين الجزري، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني. وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا محمدًا وابن معبد، وهما أيضًا ثقتان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن علية، عن داود، عن سعيد بن المسيب: "قال في القبلة للصائم: تنقص صيامه ولا تفطر". قوله: "تنقص صومه" يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون من النقض -بالضاد المعجمة- على معنى أنه يبطل صومه. والآخر: من النقص -بالصاد المهملة- على معنى أن صومه يدخله النقصان ولكن لا يفطر، ويدل على هذا رواية ابن أبي شيبة؛ فإن فيها: "تنقص صيامه ولا تفطر". فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بالقبلة للصائم باسًا إذا لم يخف منها أن تدعوه إلى غيرها مما يمنع منه الصائم. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء والحسن البصري والثوري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وإسحاق وداود بن علي؛ فإنهم قالوا: لا نرى بالقبلة بأسًا للصائم إذا أمن على نفسه. وقال أبو عمر: رويت الرخصة في القبلة للصائم عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عباس وعائشة، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في هذا الباب مستقصًى عن قريب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 316 رقم 9417).

ص: وكان من حجتهم فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى: أنه قد روي عن رسول الله - عليه السلام - في إباحته القبلة للصائم ما هو أظهر من حديث ميمونة بنت سعد وأولى أن يؤخذ به، وهو ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله - عليه السلام - فقلت: فعلت اليوم أمًرا عظيمًا، فقبلت وأنا صائم. فقال رسول الله - عليه السلام -: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ فقلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله - عليه السلام -: ففيم؟! ". حدثنا علي بن معبد، ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا ليث بن سعد ... فذكر بإسناده مثله. فهذا الحديث صحيح الإسناد معروف الرواة، وليس لحديث ميمونة بنت سعد الذي رواه عنها أبو يزيد الضنِّي وهو رجل لا يعرف فلا ينبغي أن يعارض حديث من ذكرنا بحديث مثله، مع أنه قد يجوز أن يكون حديثه ذلك على معنًى خلاف معنى حديث عمر - رضي الله عنه - هذا، ويكون جواب النبي - عليه السلام - الذي فيه جوابًا لسؤال سئل في صائمين بأعيانهما على قلة ضبطهما لأنفسهما، فقال ذلك فيه ما، أي أنه إذا كانت القبلة منهما فقد كان معها غيرها مما قد يضرهما لأنفسهما. وهذا أولى ما قد حمل عليه معناه؛ حتى لا يضاد غيره. ش: أي: وكان من حجة أهل المقالة الثانية فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى: أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - حديث في إباحة القبلة للصائم، هو أصح من حديث ميمونة بنت سعد وأشهر، وهو حديث جابر، عن عمر بن الخطاب؛ فإن رجاله معروفون ثقات، فلا يعارضه حديث أبي يزيد الضني، وهو رجل لا يعرف، فحيئذٍ يسقط حديثه ولا يُعمل به، وقد ذكرنا أن ابن حزم ادعى أنه منسوخ، إن كان صحيحًا، وإنما قلنا: إن حديث جابر عن عمر أصح؛ لأن إسناده على شرط مسلم ورجاله رجال مسلم وغيره ما خلا ربيعًا، وهو أيضًا ثقة.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا الليث. ونا عيسى بن حماد، قال: أنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله، قال عمر بن الخطاب: "هششت. فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمًرا عظيمًا؛ قبلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ -قال عيسى بن حماد في حديثه- قلت: لا بأس به، قال: فَمَهْ؟! ". وأخرجه النسائي (¬2) والبيهقي (¬3). فإن قيل: قال النسائي: هذا حديث منكر. وقال البزار: لا نعلمه يروى إلا عن عمر من هذا الوجه. وقال أحمد بن حنبل: هذا ريح، ليس من هذا شيء. قلت: أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬4): أنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، نا أبو حاتم وإبراهيم بن نصر الرازيان، قالا: نا أبو الوليد الطيالسي، نا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، انتهى. واحتج به ابن حزم أيضًا. وأبو داود لما أخرجه سكت عنه، وسكوته يدل على رضاه به (¬5)، وأيضًا نص الطحاوي على صحته بقوله: فهذا الحديث صحيح الإسناد معروف الرواة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 311 رقم 2385). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 198 رقم 3048). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 261 رقم 8044). (¬4) "المستدرك" (1/ 596 رقم 1572). (¬5) قد ذكرنا ما في هذا الكلام غير مرة.

قوله: "هششت" أي ارتحت، يقال: هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرح به واستبشر وارتاح له وخف، وذكره في "الدستور" في باب نَصَرَ يَنْصُرُ، وفي باب ضَرَبَ يَضْرِبُ أيضًا، وفي باب عَلِمَ يَعْلَمُ أيضًا، ولكن الذي ذكره في باب نَصَرَ يَنْصُرُ معناه الإسقاط، تقول: هَشَشْتُ الورق هَشًّا خبطته بِعَصًى ليتحات، ومنه قوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} (¬1). والذي ذكر في باب ضَرَبَ يَضْرِبُ معناه الليونة، تقول: هَشَّ الخبزُ هُشُوشة إذا لان. والذي ذكره في باب عَلِمَ يَعْلَمُ معناه: الارتياح، وقال الجوهري: وقد هَشِشْتُ لفلان -بالكسر- أهشُّ هشاشة إذا خففت وارتحت له. قوله: "أرأيت" أي أخبرني. قوله: "ففيم" أصله ففيما و"ما" استفهامية دخلت عليها حرف الجر، ومعناه: ففيما فرقك بين الحكمين، يعني: فلأجل أي شيء تُفَرِّق بينها إذا تمضمضت بالماء وأنت صائم، وبين ما إذا قبلت وأنت صائم، يعني لا فرق بينهما في أن كلا منهما لا ينتقص الصوم. قال الخطابي: وفيه إثبات القياس، والجمع بين الحكمين في الحكم الواحد؛ لاجتماعهما في الشبه، وذلك أن المضمضة بالماء ذريعة لنزوله إلى الحلق والجوف فيكون به فساد الصوم، كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم، نقول: فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر؟ فالآخر بمثابته، انتهى. وكلمة "في" للتعليل نحو قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (¬2)، وقوله - عليه السلام -: "إن امرأة دخلت النار في هرة" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [18]. (¬2) سورة يوسف، آية: [32]. (¬3) "مسند أحمد" (2/ 507 رقم 10592) وغيره.

وأما "فَمَه؟ " في رواية أبي داود فالهاء فيه للسكت. قوله: "مع أنه قد يجوز ... إلى آخره" إشارة إلى جواب آخر بطريق التنزل، تقريره أن يقال: إن حديث أبي يزيد الضنِّي وإن كان صحيحا ولكنه محمول على معنى يخالف معنى حديث عمر - رضي الله عنه -؛ لأن معنى حديث عمر: أن القبلة لا تفطر لكونه ممن يضبط نفسه ولا يخاف عليه حصول شيء معها مما هو يضره، ومعنى حديث أبي يزيد: أنه جواب من النبي - عليه السلام -عن سؤال سئل في صائمين معينين حصلت بينهما قبلة على عدم ضبطهما لأنفسهما، فقال: إذا كانت قبلة بين مثلهما يدعو ذلك إلى وقوع شيء آخر مما يفسد صومهما، فلذلك قال في حقهما: "أفطرا". فإذا كان معنى كل من الحديثين على ما ذكرنا لا يكون بينهما تضادة لأن شرط التضاد اتحاد المحل، فهذا أولى ما يحمل عليه حتى يرتفع التضاد والخلاف والله أعلم. ص: وأما حديث عمر بن حمزة فليس أيضًا في إسناده كحديث بكير الذي قد ذكرنا؛ لأن عمر بن حمزة ليس مثل بكير بن عبد الله في جلالته وموضعه من العلم وإتقانه، مع أنهما لو تكافئا لكان حديث بكير أولاهما؛ لأنه قول من رسول الله - عليه السلام - في اليقظة وذلك قول قد قامت به الحجة على عمر، وحديث عمر بن حمزة إنما هو على قول حكاه عن رسول الله - عليه السلام - في النوم، وذلك ما لا تقوم به الحجة، فما تقوم به الحجة أولى مما لا تقوم به الحجة. ثم هذا ابن عمر - رضي الله عنه - قد حدَّث عن أبيه بما حكاه عمر بن حمزة في حديثه، ثم قال بعد أبيه بخلاف ذلك. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي حمزة، عن مُورِّق، عن ابن عمر: "أنه سئل عن القبلة للصائم، فأرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب".

فدل ذلك أن هذا كان عنده أولى مما حدث به عمر مما ذكره عمر بن حمزة في حديثه. ش: هذا جواب عن حديث عمر بن حمزة الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن حديث عمر بن حمزة لا يعادل حديث بكير بن عبد الله بن الأشج الذي احتجت به أهل المقالة الثانية؛ لأن عمر بن حمزة لا يلحق بكيرًا في جلالة قدره وإتقانه وضبطه، وإن كان عمر بن حمزة أيضًا قد روى له مسلم على أن يحيى بن معين قد ضعفه، وقال ابن حزم فيه: لا شيء. قوله: "مع أنهما ... إلى آخره" جواب آخر، بيانه: أن عمر بن حمزة وبكير بن عبد الله لو سلمنا أنهما تكافئا -يعني تساويا- في الصفات المذكورة وتعادلا في الرواية، ولكن حديث بكير أولى بالعمل؛ لأنه قول من رسول الله - عليه السلام - في حالة اليقظة، ورواية عمر بن حمزة قول حكاه عن رسول الله - عليه السلام - في النوم وذلك مما لا تقوم به الحجة، فلذلك قال ابن حزم: الشرائع لا تؤخذ بالمنامات، وقد أفتى رسول الله - عليه السلام - عمر - رضي الله عنه - في اليقظة بإباحة القبلة للصائم، فمن الباطل أن ينسخ ذلك في المنام. قوله: "ثم هذا ابن عمر ... إلى آخره" جواب آخر، بيانه: أن عبد الله بن عمر قد حدث عن أبيه عمر - رضي الله عنه - بما رواه حمزة بن عمر، عن سالم، عنه، عن أبيه عمر، ثم قال بعد أبيه عمر بخلاف ذلك. وهو ما أخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي- اسمه محمَّد بن ميمون السكري روى له الجماعة، عن مورق العجلي أبي المعتمر البصري الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن عمر ... إلى، آخره.

وأخرج البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن: "أن فتًى سأل ابن عمر عن القبلة وهو صائم، فقال: لا، فقال شيخ عنده: لم تحرج الناس وتضيِّق عليهم؟! والله ما بذلك بأس. قال: أما أنت فَقَبّلْ؛ فليس عند استك خير". قوله: "فدل هذا" أي ما روي عن ابن عمر بعد أبيه كان عنده أولى مما حدث به عمر بن الخطاب مما ذكره عمر بن حمزة في حديثه ذلك. وإلى هذا ذهب جماعة من الفقهاء، فقالوا: تباح القبلة للصائم إذا كان شيخا، وتكره إذا كان شابًا. ص: وأما ما قد احتجوا به من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه قد روي عنه خلاف ذلك. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن طارق، عن حكيم بن جابر قال: "كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يباشر امرأته وهو صائم". فقد تكافأ هذا الحديث وما روى الهِزْهاز عن عبد الله. ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى، من قول عبد الله بن مسعود حين سئل عن القبلة للصائم فقال: "يقضي يوما آخر"، بيانه: أن هذا معارض بما روي عنه أيضًا على خلاف ذلك. وهو ما أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الأحمسي الكوفي، عن حكيم بن جابر الأحمسي ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬2): من طريق الشعبي، عن عمرو بن شرحبيل: " أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يباشر امرأته بنصف النهار وهو صائم"، ثم قال: وهذا أصح ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 232 رقم 7879). (¬2) "المحلى" (6/ 212).

طريق عن ابن مسعود، فإذا كان كذلك فقد تساوى حديثاه، وهو معنى قوله: "فقد تكافأ هذا الحديث وما روى الهِزْهاز" وهو هانئ عنه، فإذا تكافئا لم يبق لأحد من أهل المقالتين أن يحتج بشيء من ذلك؛ لأن أحدًا من أهل المقالتين إذا احتج بأحد الحديثين على الآخر؛ فالآخر أيضًا يحتج عليه بالآخر. ص: وأما ما ذكروه من حديث سعيد- يعني ابن المسيب أنه ينقص صومه، فإن ما روي عن رسول الله - عليه السلام - من تشبيهه ذلك بالمضمضة أولى من قول سعيد. ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى أيضًا من قول سعيد بن المسيب أنه ينقص صومه، بيانه: أن ما روي عن النبي - عليه السلام - من أنه شبه القبلة بالمضمضة في الصوم أولى بالعمل وأحق بالقبول من قول سعيد بن المسيب؛ لأنه ليس لأحد كلام مع كلام صاحب الشرع. فإن قيل: لم يجب الطحاوي عما روي عن عمر - رضي الله عنه -: "لأن أعض على جمرة أحب إلى من أن أُقَبِّلَ وأنا صائم". قلت: كأنه قد اكتفى بما أجاب به عن حديثه الآخر، ونقول أيضًا: هذا معارض بما رواه عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كانت تقبله امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو وهو صائم، فلا ينهاها". أخرجه ابن حزم (¬1). فدل هذا على أن ما روي عن عمر - رضي الله عنه - من النهي عن ذلك إنما هو في حق من لا يملك نفسه، ولا يأمن عن الإنزال. ص: ثم قال بذلك جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام - مما سنذكر ذلك عنهم في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي ثم قال بإباحة القبلة للصائم جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - على ما يجيء بيانه في آخر الباب، وهذا كجواب ثانٍ عن ما روي عن عمر وابن مسعود من كراهة ¬

_ (¬1) "المحلى" (6/ 211).

القبلة للصائم، يعني وإن كان قد روي عن هذين من كراهة ذلك، فقد روي عن جماعة من الصحابة غيرهما إباحة ذلك، والأخذ بما جاء عن الجماعة أولى؛ فافهم. ص: وقد جاءت الآثار عن رسول الله - عليه السلام - متواترة بأنه كان يقبل وهو صائم، فمن ذلك: ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يصيب من الرءوس وهو صائم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، قال: ثنا عبد الله بن شقيق، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: أي قد جاءت الأحاديث عن النبي - عليه السلام - متكاثرة، بأنه - عليه السلام - كان يُقبِّل والحال أنه صائم. فمن ذلك ما أخرجه عن ابن عباس من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا زهير بن محمَّد، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - كان يصيب من الرءوس". وهذا الحديث لا نعلمه يروى إلا بهذا اللفظ، ولا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق. ورواه عاصم بن هلال، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، وأخطأ فيه، والصحيح عن عبد الله بن شقيق. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- ابن الوليد الرقام القطان البصري شيخ البخاري.

عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عباس. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، وهو: أحمد بن خالد، قال: أنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة - رضي الله عنهما -: "إن رسول الله - عليه السلام - كان يقبلها وهو صائم". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن فروخ، قال: "أتت أم سلمة امرأة فقالت: إن زوجي يقبلني وأنا صائمة، فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - يقبلني وهو صائم وأنا صائمة". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة المخزومية -ربيبة النبي - عليه السلام - وكان اسمها بَرة- فسماها رسول الله - عليه السلام - زينب. وأخرجه البخاري (¬2) مطولا: ثنا مسدد، نا يحيى، عن هشام بن أبي عبد الله، نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أمها ... الحديث، وفي آخره: "كان يقبلها وهو صائم" الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العَبْسي الكوفي شيخ البخاري، عن طلحة بن يحيى بن طلحة المدني نزيل الكوفة، روى له ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 183 رقم 7407). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 681 رقم 1828).

الجماعة سوى البخاري، عن عبد الله بن فروخ القرشي مولى آل طلحة بن عبيد الله، وثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن طلحة بن يحيى، حدثني عبد الله بن فروخ، أن امرأة سألت أم سلمة فقالت: "إن زوجي يقبلني وأنا صائمة فما ترين؟ قالت: كان رسول الله - عليه السلام - يقبلني وهو صائم وأنا صائمة". وأخرجه النسائى (¬2) أيضًا. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: أنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن مسلم بن صُبَيْح، عن شتير بن شكل، عن حفصة بنت عمر- رضي الله عنها -، عن النبي - عليه السلام -: "أنه قبل وهو صائم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن مسلم ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن سليمان الأعمش، عن مسلم بن صُبَيْح -بضم الصاد وفتح الباء الموحدة- أبي الضحى الكوفي، روى له الجماعة. عن شُتَيْر -بضم الشين المعجمة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن شكل العبسي الكوفي روى له الجماعة، البخاري في "الأدب". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -قال ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 320 رقم 26762). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 203 رقم 3074). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1107).

يحيى: أنا وقال الآخران-: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن شُتَيْر بن شكل، عن حفصة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر، عن مسلم بن صُبَيْح، عن شتير ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا بهذا الإسناد: عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني أبي أن علي بن الحسين أخبره، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقبلها وهو صائم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن عائشة مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1107). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 538 رقم 1685).

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، قال: ثنا القاسم، عن عائشة مثله، وزاد: "وكانت تقول: وأيكم أملك لأربه من رسول الله - عليه السلام -". حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: ثنا سفيان، قلت لعبد الرحمن بن القاسم: "أحدثك أبوك، عن عائشة أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبلها وهو صائم؟ قال: فطأطأ رأسه واستحى قليلا وسكت، ثم قال: نعم". حدثنا محمَّد بن عبد الله -هو ابن ميمون البغدادي- قال: ثنا الوليد -هو ابن مسلم- قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى، قال: ثنا أبو سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبلها وهو صائم". حدثنا يونس، قال: ثنا بشر-هو ابن بكر- قال: ثنا الأوزاعي ... فذكر مثله. حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنا أبو سلمة، أن عائشة قالت: ... فذكر مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: "جمع له أبي أهلي في رمضان فأدخلهم علي، فدخلت على عائشة فسألتها عن القبلة -يعني للصائم- فقالت: ليس بذلك بأس، قد كان مَن هو خير الناس يُقبِّلُ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أسد، قال: ثنا يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن عبيد الله بن معمر، عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالت: "أراد النبي - عليه السلام - أن يقبلني، فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم، فقبلني".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عمر بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الأسود، عن عائشة قالت: "ما كان رسول الله - عليه السلام - يمتنع من وجوهنا وهو صائم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "انطلقت أنا وعبد الله بن مسعود إلى عائشة نسألها عن المباشرة، ثم خرجنا ولم نسألها، فرجعنا فقلنا: يا أم المؤمنين، أكان رسول الله - عليه السلام - يباشر وهو صائم؟ قالت: نعم، وكان أملككم لإربه". فسؤال عبد الله عائشة - رضي الله عنها - عن هذا دليل على أنه لم يكن عنده في ذلك شيء عن رسول الله - عليه السلام - حتى أخبرته به عائشة عنه؛ فدل ذلك على أن ما روي عنه مما قد وافق ذلك كان متأخرًا عما روي عنه مما خالف ذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود ومسروق، قالا: "سألنا عائشة: كان رسول الله - عليه السلام - يباشر وهو صائم؟ قالت: نعم، ولكنه كان أملك لإربه منكما -أو لأمره- الشك لأبي عاصم". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع، عن حُريث بن عمرو، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - من قالت: "ربما قبلني رسول الله - عليه السلام - وباشرني وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شيبان أبو معاوية، عن زياد بن علاقة، عن عمرو بن ميمون قال: "سألنا عائشة عن الرجل يقبل وهو صائم، فقالت: كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرني إسرائيل، عن زياد، عن عمرو بن ميمون، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - عليه السلام - يقبلني وأنا صائمة".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: ثنا موسى بن عُلَيّ، قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو قيس مولى عمرو بن العاص قال: "بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة زوج النبي - عليه السلام -فقال: سلها أكان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم؟ فقالت: لا، فقلت: إن عائشة - رضي الله عنها - تخبر الناس أنه كان يقبل وهو صائم، فقالت: لعله أنه لم يكن يتمالك عنها حبًّا، أما إياي فلا". وقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يقبل وهو صائم، فدل ذلك أن القبلة غير مفطرة للصائم. ش: هذه عشرون طريقا في حديث عائشة - رضي الله عنها -: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- استشهد به البخاري، واحتج به الأربعة. عن أبيه عبد الله بن ذكوان روى له الجماعة، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - روى له الجماعة. وهذا إسناد حسن جيد. وأخرجه أحمد (¬1) في "مسنده": ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن علي بن حسين، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 215 رقم 25842).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن علي ابن الحسن بن علي، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز أبي الحسن البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن يحيى ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبيد بن إسماعيل، نا أبو أسامة، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقبل بعض نسائه وهو صائم ثم تضحك". ورواه أيضًا مالك (¬3) عن هشام. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وهو أيضًا صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1106). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1106). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 292 رقم 642).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): أنا حجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم". السادس: أيضًا صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا علي بن مسهر، عن عبد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبلني وهو صائم، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - عليه السلام - يملك إربه". قوله: "لأملك لإربه" أي لحاجته، يعني أنه كان غالبا لهواه. قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما: أنه الحاجة يقال فيها: الأَرَب والأَرْب والإِرْبة والمأْرُبَة. والثاني: يراد به العضو، وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة، وقال القاضي عياض: رويناه بكسر الهمزة والسكون عند أكثرهم ومعناه: وطره، قال الله -عز وجل-: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} (¬3) الذين لا رغبة لهم ولا حاجة لهم في النساء، والإربة أيضًا العضو. قال الخطابي: كذا رواه أكثرهم، وإنما هو "لأَرَبه" أي وطره. السابع: أيضًا صحيح: عن إسماعيل بن يحيى بن المزني، عن الإِمام محمَّد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬4): أنا أبو إسحاق الفقيه، قال: أنا شافع بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 21 رقم 1722). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 777 رقم 1106). (¬3) سورة النور، آية: [31]. (¬4) "معرفة السنن والآثار" (3/ 382 رقم 2497).

محمَّد، قال: أنا أبو جعفر، قال: ثنا المزني قال: ثنا الشافعي، قال: أنا سفيان، قال: قلت لعبد الرحمن بن القاسم ... إلى آخره نحوه. ورواه مسلم (¬1) في "الصحيح": عن علي بن حُجْر وغيره، عن سفيان. الثامن: عن محمَّد بن عبد الله شيخ أبي داود أيضًا، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬2) نحوه، ولكن عن أبي سلمة، عن عمر بن عبد العزيز، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. التاسع: أيضًا صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة. وأخرجه البيهقي (¬3) نحوه. العاشر: أيضًا صحيح: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيْل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن عائشة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا حجاج، نا ليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أن رسول الله - عليه السلام - قبلها وهو صائم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 776 رقم 1106). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1106). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 233 رقم 7883). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 223 رقم 25909).

الحادي عشر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن الوليد الرقام شيخ البخاري. عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. الثاني عشر: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن سعيد بن أسد المصري ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، عن عائشة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي، نا يحيى بن حسان، نا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم". وهذا الحديث لا نعلم رواه من حديث يحيى عن عمرة إلا الليث، ولا عن الليث إلا يحيى بن حسان، ولم نسمعه إلا من الحسن وكان ثقة مأمونًا. الثالث عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن طلحة بن عبيد الله، وهو طلحة بن عبد الله بن عثمان بن عبيد الله بن معمر القرشي التيمي. عن عائشة - رضي الله عنها -. وهؤلاء كلهم رجال "الصحيح" ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن سعد بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 311 رقم 2384).

إبراهيم، عن طلحة بن عبيد الله -يعني ابن عثمان القرشي- عن عائشة قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبلني وهو صائم وأنا صائمة". الرابع عشر: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن عمر بن أبي زائدة زكرياء الهمداني الثقة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، نا أبو عاصم، نا عمر بن أبي زائدة، حدثني أبو إسحاق، عن الأسود، عن عائشة قالت: "ما كان رسول الله - عليه السلام - يمتنع من وجهي وهو صائم، وما مات حتى كانت أكثر صلاته قاعدًا إلا الصلاة المكتوبة، وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه الإنسان وإن كان يسيرًا". الخامس عشر: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري روى له الجماعة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي. وأخرج البخاري (¬1): عن سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "كان النبي - عليه السلام - يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه". وأبو داود (¬2): نا مسدد، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، عن عائشة- رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه". وأخرج البيهقي (¬3): من حديث شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، أن علقمة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 680 رقم 1826). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 311 رقم 2382). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 229 رقم 7864).

وشريحًا النخعي كانا عند عائشة فقال أحدهما لصاحبه: سلها عن القبلة للصائم، فقال: ما كنت لأرفث عند أم المؤمنين، فقالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه". وأخرجه النسائي (¬1) نحوه: عن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، عن شعبة -رحمه الله- به. قوله: "فسؤال عبد الله عائشة - رضي الله عنها - ... إلى آخره" إشارة إلى الجواب عما روي عن ابن مسعود في القبلة للصائم من قوله: "يقضي يوما آخر" وقد تقدم في أول الباب في معرض احتجاج أهل المقالة الأولى، بيانه: أن عبد الله بن مسعود سأل عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث عن مباشرة الصائم، فدل ذلك على أنه لم يكن عنده علم من ذلك عن رسول الله - عليه السلام - إذ لو كان له علم من ذلك لما سألها فدل ذلك على أن قوله في حديثه الذي تقدم: "يقضي يومًا آخر" كان متقدما على سؤاله هذا؛ إذ لو كان متأخرا لم يعد السؤال، فإذا كان متقدمًا وسؤاله متأخرًا دل على أنه قد ترك ذلك القول ورجع إلى ما أجابت به عائشة - رضي الله عنها -. السادس عشر: عن إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا أبو عاصم، قال: سمعت ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: انطلقت أنا ومسروق إلى عائشة، فقلنا لها: "أكان رسول الله - عليه السلام - يباشر وهو صائم؟ قالت: نعم، ولكنه كان أملككم لإربه- أو من أملككم لإربه، يشك أبو عاصم". السابع عشر: عن أبي بشر الرقي عبد الملك بن مروان، عن شجاع بن الوليد السكوني، عن حُريث بن عمرو -وهو حريث بن أبي مطر- الفزاري أبي عمرو الحنَّاط -بالنون- الكوفي فيه مقال، فقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: متروك، ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 206 رقم 3088). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 777 رقم 1106).

وعنه: ليس بثقة. وقال ابن معين: لا شيء. استشهد به البخاري في الأضاحي، وروى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع. وأخرجه البزار في "مسنده" مختصرًا: ثنا معمر بن سهل، نا عامر بن مدرك، نا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة أن النبي - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم. الثامن عشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن شيبان بن عبد الرحمن أبي معاوية النحوي روى له الجماعة، عن زياد بن علاقة بن مالك التغلبي أبي مالك الكوفي روى له الجماعة، عن عون بن ميمون الأودي أبي يحيى الكوفي روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو توبة الربيع بن نافع، قال: نا أبو الأحوص، عن زياد بن علاقة، عن عمرو بن ميمون، عن عائشة قالت: "كان النبي - عليه السلام - يقبل في شهر الصوم". وكذا أخرجه مسلم (¬2) والترمذي (¬3) وقال: حديث حسن صحيح. التاسع عشر: أيضًا صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا حماد بن خالد الخياط، ثنا أبو بكر النهشلي، وأبو المنذر قال: حدثني أبو بكر، عن زياد بن علاقة، عن عمرو بن ميمون، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 311 ر قم 2383). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 778 رقم 1106). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 106 رقم 727). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 256 رقم 26233).

عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم -ثم قال أبو المنذر- في رمضان". وأخرجه ابن ماجه أيضًا (¬1). العشرون: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد أبي عبد الرحمن المقرئ شيخ البخاري، عن موسى بن عُلَيّ -بضم العين وفتح اللام- أبي عبد الرحمن المصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبيه عُلَيّ بن رباح اللخمي المصري روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثابت مولى عمرو بن العاص، روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن عبد الرحمن بن مهدي، عن موسى -يعني ابن عُلَيّ- عن أبيه، عن أبي قيس قال: "أرسلني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة ... " إلى آخره نحوه. قوله: "وقد تواترت" أي تكاثرت هذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يقبل والحال أنه صائم، فدل ذلك على أن التقبيل لا ينقض الصوم ولا يضر الصائم، وهذه حجة على مَن يخالف ذلك، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: كان ذلك مما خُص به رسول الله - عليه السلام -، ألا ترى إلى قول عائشة - رضي الله عنها -: "وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله - عليه السلام -". قيل له: إن قول عائشة - رضي الله عنها - هذا إنما هو على أنها لا تأمن عليهم ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله - عليه السلام - يأمنه على نفسه؛ لأنه كان محفوظًا. والدليل على أن القبلة عندها لا تفطر الصائم ما قد روينا عنها أنها قالت: "فأما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف"، أرادت بذلك أنه لا يخاف من إربه، فدل ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 537 رقم 1683). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 296 رقم 26575).

ذلك على أن مَن لم يخف من القبلة وهو صائم شيئًا أخر وأمن على نفسه؛ أنها له مباحة، وقد ذكرنا عنها في بعض هله الآثار أنها سئلت عن القبلة للصائم فقالت جوابًا لذلك السائل: "كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم"، فلو كان حكم رسول الله - عليه السلام - في ذلك عندها خلاف حكم غيره من الناس إذا لما كان ما علمته من فعل النبي - عليه السلام - جوابًا لما سئلت عنه من فعل غيره، وقد سألها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما جمع له أبوه أهله في شهر رمضان عن مثل ذلك فقالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يفعل ذلك"، وهذا عندنا لأنها كانت تأمن عليه، فدل ما ذكرنا على استواء حكم رسول الله - عليه السلام - وسائر الناس عندها في حكم القبلة إذا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه، وهو أيضًا في النظر كذلك؛ لأنا قد رأينا الجماع والطعام والشراب قد كان ذلك كله حرامًا على رسول الله - عليه السلام - في صيامه كما هو حرام على سائر أمته في صيامهم، ثم هذه القبلة قد كانت لرسول الله - عليه السلام - حلالًا في صيامه؛ فالنظر على ما ذكرنا أن تكون أيضًا حلالًا لسائر أمته في صيامهم أيضًا، ويستوي حكمه وحكمهم فيها كما يستوي في سائر ما ذكرنا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن القبلة في الصيام كانت مخصوصة للنبي - عليه السلام -، والدليل عليه قول عائشة: "وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله - عليه السلام -" فلا تجوز لغيره حتى لو قبَّل وهو صائم ينقض صومه. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم دعوى الخصوصية، وقول عائشة ذلك لا يدل عليها، بل إنما قالت ذلك لأنها ما كانت تأمن عليهم لكونهم غير محفوظين، فلا يأمنون على أنفسهم، بخلاف رسول الله - عليه السلام - فإنه كان محفوظًا. والدليل على أن القبلة لا تفطر الصائم عندنا قولها: "أما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف". أرادت بهذا القيد أنه لا يخاف من إربه لضعف شهوته، فدل ذلك على أن كل من لم يخف من القبلة والحال أنه صائم شيئًا آخر مما يفسد صومه أنها له مباحة حتى إذا خاف شيئًا آخر من ذلك يكره له ذلك.

وقال ابن حزم: وقال قوم: هي خصوص للنبي - عليه السلام -، فمن ادعى أنه خصوص له - عليه السلام - فقد قال الباطل، ثم روى حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار الآتي ذكره عن قريب، وفيه: "إني لأتقاكم لله -عز وجل- وأعلمكم بحدوده". قال فهذا الخبر يكذب قول من ادعى في ذلك الخصوص له - عليه السلام - لأنه أفتى بذلك - عليه السلام - من استفتاه. وقال أبو عمر: هذا دليل على أن الخصوص لا يجوز ادعاؤه عليه بوجه من الوجوه إلا بدليل مجتمع عليه، وقال - عليه السلام -: "إنما بعثت معلمًا مبشرًا، وبعثت رحمة مهداة" - عليه السلام -. قوله: "وقد ذكرنا عنها" أي: عن عائشة - رضي الله عنها - ... إلى آخره، وهو ظاهر. وذكر هذا أيضًا لإبطال دعوى الخصوص، ولاستواء حكم رسول الله - عليه السلام - وحكم سائر الناس عند عائشة في حكم القبلة إذا لم يكن ثمة خوف مما يفسد الصوم. قوله: "وهو أيضًا في النظر كذلك" أي الاستواء المذكور أيضًا كذلك في القياس والنظر، وهو ظاهر أيضًا. ص: وقد روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على استواء حكمه وحكم أمته في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: "أن رجلًا قبَّل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - فذكرت ذلك لها، فاخبرتها أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبِّل وهو صائم، فرجعت فأخبرت بذلك زوجها، فزاده شَرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله - عليه السلام - يُحل الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله - عليه السلام - عندها فقال رسول الله - عليه السلام -: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أَخْبَرتِها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها

فأخبرته فزاده شَرًّا وقال: يُحل الله لرسوله ما يشاء، فغضب رسول الله - عليه السلام - وقال: "إني لأتقاكم لله -عز وجل-، وأعلمكم بحدوده". فدل ذلك على ما ذكرنا. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وهو قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله. ش: أي: قد روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على أن حكمه - عليه السلام - وحكم أمته متساويان في حكم القبلة في الصوم؛ لأن فعل الرسول - عليه السلام - كله يَحْسُنُ التأسي به فيه على كل حال؛ إلا أن يخبر أن ذلك له خاصة، أو ينطق القرآن بذلك وإلا فالاقتداء به أقل أحواله أن يكون مندوبًا إليه في جميع أفعاله، ومن أهل العلم من رأى أن أفعاله واجب الاقتداء فيها كوجوب أوامره. وأخرجه بإسناد صحيح ولكنه مرسل. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، عن زيد بن أسلم ... إلى آخره نحوه. وقال أبو عمر: هذا الحديث مرسل عند جميع رواة "الموطأ" عن مالك، وهذا المعنى أن رسول الله - عليه السلام - كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وأم سلمة وحفصة رضي الله عنهن: يروى عنهن كلهن، وعن غيرهن، عن النبي - عليه السلام - من وجوه ثابتة. ومما يستفاد منه: جواز القبلة للصائم في رمضان وغيره؛ شابًّا كان أو شيخًا على عموم الحديث وظاهره؛ لأنه - عليه السلام - لم يقل للمرأة: هل زوجك شيخ أو شاب؟ وهو المبُيِّنُ عن الله مراده من عباده. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 184 رقم 7412).

وفيه: إيجاب العمل بخبر الواحد الثقة ذكرًا كان أو أنثى، وعلى ذلك جماعة أهل الفقه والحديث. قال أبو عمر: ومن خالف ذلك فهو عند الجميع مبتدع، والله أعلم. ص: وقد روي عن المتقدمين في ذلك: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي، عن سعد بن أبي وقاص، وسأله رجل: "أتباشر وأنت صائم؟ فقال: نعم". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: "أن عبد الله بن عباس سئل عن القُبلة للصائم، فرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي النضر، أن عائشة بنت طلحة أخبرته: "أنها كانت عند عائشة زوج النبي - عليه السلام - فدخل عليها زوجها عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم - وهو صائم، فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ فقالت له عائشة: نعم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي مرة مولى عقيل، عن حكيم بن عقال أنه قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها". فهذه عائشة تقول فيما يحرم على الصائم من امرأته وما يحل له منها ما قد ذكرنا، فدل ذلك على أن القبلة كانت مباحة عندها للصائم الذي يأمن على نفسه ومكروهة لغيره، ليس لأنها حرام عليه، ولكنه لا يأمن إذا فعلها منْ أن تغلبه شهوته حتى يقع فيما يحرم عليه. ش: أيْ: قد روي عن الصحابة والتابعين في حكم القبلة للصائم.

وأخرج في ذلك عن ثلاثة من الصحابة وهم: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - في أن حكمها الإباحة، وأخرج عن ثعلبة بن صعير وعلي بن أبي طالب في أن حكمها [....] (¬1). أما أثر سعد بن أبي وقاص فأخرجه بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن سالم بن عبد الله النصري -بالنون والصاد المهملة- وهو سالم سَبَلان، وهو سالم الدوسي، وهو سالم مولى المهري، وهو سالم مولى دوس، وهو سالم مولى النصريين، وهو سالم مولى، مالك بن أوس بن الحدثان النصري، قال أبو حاتم: شيخ. روى له مسلم والأربعة غير الترمذي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي: "قال رجل لسعد: يا أبا إسحاق، أتباشر وأنت صائم؟ قال: نعم، وآخذ بجهازها". وأخرجه ابن حزم (¬3)، وفي لفظه: قال: نعم، وأقبض على متاعها. وأما أثر ابن عباس فكذلك أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4). وقال أبو عمر في "شرحه": وكره مالك القبلة للصائم في رمضان للشيخ والشاب، ولم يذهب فيها إلى ما رواه عن زيد بن أسلم هذا. وفي "شرح المهذب": عن مالك إباحة القبلة في النفل دون الفرض، ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا أن ينزل بالقبلة. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك" ولعل موضعها: الكراهة كما سيأتي. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 317 رقم 9429). (¬3) "المحلى" (6/ 212). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 293 رقم 648).

وأما أثر عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك عن أبي النضر -واسمه سالم- بن أبي أمية القرشي التيمي روى له الجماعة، عن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله القرشية المدنية- وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكانت من أجمل نساء قريش، أصدقها مصعب بن الزبير ألف ألف درهم، وذلك بعد أن مات زوجها ابن خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق روى لها الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي مرة -اسمه يزيد- مولى عقيل بن أبي طالب روى له الجماعة، عن حكيم بن عقال العجلي البصري وثقه ابن حبان. وبنحو ذلك أخرج ابن حزم في "المحلى" (¬2): من طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن مسروق قال: "سألت عائشة أم المؤمنين: ما يحل للرجل من امرأته صائمًا؟ فقالت: كل شيء إلا الجماع". ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أن أبي مريم، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن صعير العذري -هكذا قال ابن أن أبي مريم، وكان رسول الله - عليه السلام - قد مسح وجهه- أنه أخبره: "أنه سمع أصحاب رسول الله - عليه السلام - ينَهون الصائم عن القُبلة، ويقولون: إنها تجر إلى ما هو أكثر منها". فقد بيَّن في هذا الحديث المعنى الذي من أجله كرهها مَن كرهها للصائم، وأنه إنما هو خوفهم عليه منها أن تجره إلى ما هو أكثر منها. فذلك دليل على أنه إذا ارتفع ذلك المعنى الذي من أجله منعوه منها؛ أنها له مباحة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 183 رقم 7411). (¬2) "المحلى" (6/ 211).

ش: أخرج هذا ليعلم أن من منع الصائم عن القبلة من الصحابة والتابعين لم يكن منعهم على الإطلاق، وإنما كان ذلك إذا كانت يخاف منها شيء آخر مما يفسد الصوم، ألا ترى أن ثعلبة بن صعير قد أخبر أنه سمع أصحاب رسول الله - عليه السلام - ينهون الصائم عن القبلة ويقولون: إنها -أي إن القبلة- تجر ما هو أكثر منها وهو الجماع؟. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عُقَيْل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن ثعلبة بن صُعَيْر -بضم الصاد وفتح العين المهملتين- ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن صعير ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن أبي صُعير وعداده، في الصحابة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، قال: "رأيت أصحاب رسول الله - عليه السلام - وهم ينهون عن القبلة للصائم". ص: وقد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي العطار، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه قال: "سأل عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - عن قبلة الصائم، فقال علي - رضي الله عنه -: يتقي الله ولا يعود، فقال عمر - رضي الله عنه -: إن كانت هذه لقريبة من هذه". فقول علي - رضي الله عنه -: "يتقى الله ولا يعود"، يحتمل: ولا يعود لها ثانية أي: لأنها مكروهة من أجل صومه، ويحتمل: "ولا يعود" أي: لا يقبل مرة بعد مرة فيكثر ذلك منه، فتتحرك له شهوته، فيخاف عليه من ذلك مواقعة ما حرم الله عليه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 316 رقم 9425).

وقول عمر - رضي الله عنه -: "هذه قريبة من هذه" أي: أن هذه التي كرهتها له قريبة من التي أبحتها له، وأن هذه التي أبحتها له قريبة من التي كرهتها له، فلا دلالة في هذا الحديث، ولكن الدلالات فيما تقدمه مما قد ذكرناه قبله. ش: أخرج هذا ليبين تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من قوله في الذي قبَّل في الصوم: يتقي الله ولا يعود، وهو ظاهر. وأخرجه بإسناد صحيح: محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن هشام بن إسماعيل بن يحيى الحنفي أبي عبد الملك الدمشقي العطار شيخ البخاري في غير "الصحيح"، وثقه النسائي والعجلي، وروى له من الأربعة غير ابن ماجه. عن مروان بن معاوية بن الحارث الفزاري الكوفي روى له الجماعة، عن أبي حيَّان التيمي واسمه يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي، روى له الجماعة، عن أبيه سعيد بن حيان التيمي الكوفي وثقه ابن حبان، روى له الترمذي حديثًا، وأبو داود آخر. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) نحوه عن شريح القاضي: ثنا حفص، عن عاصم وجرير ووكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين عن شريح، قال: "سئل عن القبلة للصائم، فقال: يتقي الله ولا يعود". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 316 رقم 9416).

ص: باب: الصائم يقيء

ص: باب: الصائم يقيء ش: أي هذا باب في بيان أحكام الصائم الذي يَسْتفرغ. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان بن طلحة، عن أبي الدرداء: "أن النبي - عليه السلام - قاء فأفطر، قال: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقلت: إن أبا الدرداء أخبرني أن رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن معدان بن طلحة، عن أبي الدرداء ... ثم ذكر مثله. قال ابن أبي داود: قال أبو معمر: هكذا قال عبد الوارث: عبد الله بن عمرو. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو الجودي، عن بَلْج -رجل من مهرة- عن أبي شيبة المَهَري، قال: قلت لثوبان: حَدِّثْنَا عن رسول الله - عليه السلام -، قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر". ش: هذه ثلاثة أوجه: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي العنبري أبي سهل البصري روى له الجماعة، عن أبيه عبد الوارث بن سعيد أبي عبيدة البصري روى له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي روى له الجماعة، عن يعيش بن الوليد بن هشام بن معاوية الأموي الدمشقي وثقه العجلي والنسائي وابن حبان، وروى له من الأربعة غير ابن ماجه.

عن أبيه الوليد بن هشام -عامل عمر بن عبد العزيز على قنسرين- وثقه هؤلاء، وروى له الجماعة سوى البخاري. عن معدان بن طلحة -ويقال: ابن أبي طلحة- اليعمري الكناني الشامي، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي الدرداء عويمر بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الصمد، نا أبي، عن الحسين ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فلقيت ثوبان" هو مولى النبي - عليه السلام -، والسائل عنه هو معدان بن طلحة. قوله: "وَضوءه" بفتح الواو، وهو الماء الذي يُتَوضأ به. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا الحسين، عن يحيى، قال: نا عبد الله بن عمرو الأوزاعي -قال أبو داود: صوابه عبد الرحمن- عن يعيش بن الوليد بن هشام، أن أباه حدثه، قال: حدثني معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء حدثه: "أن رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر، قال: فلقيت ثوبان مولى رسول الله - عليه السلام - في مسجد دمشق، فقلت: إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر، قال: صدق، وأنا صببت له وَضُوءه". قوله: "قال ابن أبي داود" أي قال: إبراهيم بن أبي داود: "قال أبو معمر"، وهو شيخه "هكذا قال عبد الوارث في روايته عبد الله بن عمرو الأوزاعي"، وقد ذكرنا أن أبا داود قال: "صوابه: عبد الرحمن" يعني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 443 رقم 7542). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 310 رقم 2381).

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن أبي الجودي- واسمه الحارث بن عمير الأسدي الشامي، نزيل واسط، وثقه يحيى، وقال أبو حاتم: صالح. روى له أبو داود. عن بَلْج -بالباء الموحدة المفتوحة وسكون اللام وبالجيم- ابن عبد الله المهري، ذكره ابن حبان في الثقات. عن أبي شيبة المهري وثقه ابن حبان، والمَهَري نسبة إلى مَهَرة بن حَيْدان بن الحاذ بن قضاعة، قبيلة كبيرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن أبي الجودي، عن بَلْج المهري، عن أبي شيبة المهري قال: قيل لثوبان: حَدِّثْنا عن رسول الله - عليه السلام -، قال: "رأيت رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2) من حديث شعبة نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الصائم إذا قاء فقد أفطر، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء والأوزاعي وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: إن الصائم إذا قاء فقد أفطر. واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: إن استقاء أفطر، وإن ذرعه القيء لم يفطر. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: القاسم بن محمَّد والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والشعبي وعلقمة والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إن الصائم إذا استقاء عامدًا أفطر، وإذا ذرعه القيء -أي: سبقه وغلبه- لم يفطر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 298 رقم 9200). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 220 رقم 7820).

ويروى ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. ص: وقالوا: قد يجوز أن يكون قوله: "فأفطر" أيْ: قد ضعف فأفطر، ويجوز هذا في اللغة. ش: أي: قال هؤلاء الآخرون في جواب الحديث المذكور: يجوز أن يكون هذا الحديث مُأَوَّلًا، ويكون تقديره: قاء؛ فضعف بسبب القيء، فأفطر لذلك، ويجوز هذا التقدير في اللغة، يضمر مثل ذلك لعلم السامع به، كما في حديث فضالة: "ولكني قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت". وليس فيه أن القيء كان مفطرًا. وقال الترمذي: معنى هذا الحديث: أن النبي - عليه السلام - أصبح صائمًا متطوعًا فقاء فضعف فأفطر لذلك، هكذا روي في بعض الحديث مفسرًا. وها هنا جواب آخر، وهو ما ذكره البيهقي وقال: هذا الحديث يختلف في إسناده، فإن صح فمحمول على العامد، وكأنه - عليه السلام - كان متطوعًا بصومه. وقال أبو عمر: الحديث في "قاء فأفطر" ليس بالقوي. ص: واحتج الأولون لقولهم أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، قال: ثنا أبو مرزوق، عن حنش، عن فضالة بن عبيد قال: "دعى رسول الله - عليه السلام - بشراب فقال له بعضنا: ألم تصبح صائمًا يا رسول الله؟ قال: بلى، ولكني قئت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح. (ح) وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج. (ح) وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يحيى بن حسان، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن فضالة، عن رسول الله - عليه السلام - مثله.

قيل لهم: هذا أيضًا مثل الأول يجوز: ولكني قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت. وليس في هذين الحديثين دليل على أن القيء كان مفطرًا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك. ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما روي عن فضالة بن عبيد، وأجاب عنه بقوله: "فقيل لهم ... " إلى آخره، وهذا ظاهر. وأخرج حديث فضالة من أربع طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي مرزوق التجيبي -واسمه حبيب بن الهيد، وقيل: زمعة بن سليم- قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وروى له أبو داود وابن ماجه. عن حنش بن عبد الله الصنعاني -صنعاء دمشق- روى له الجماعة غير البخاري، عن فضالة بن عبيد الأوسي الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش بن عبد الله، عن فضالة بن عبيد قال: "أصبح رسول الله - عليه السلام - صائمًا فقاء فأفطر. فسئل عن ذلك فقال: إني قئت". الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره. وهو طريق صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 220 رقم 7822).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو الوليد الطيالسي وابن عائشة، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن فضالة بن عبيد: "أن رسول الله - عليه السلام - قاء فأفطر" انتهى. وهذا قد أسقط في روايته حنشًا بين أبي مرزوق وبين فضالة كما ترى، وقال الذهبي: كذلك رواه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق، عن يزيد، فأسقط منه حنشًا، وأثبته مفضل بن فضالة ويحيى بن أيوب وابن لهيعة. قلت: وقد أخرجه الدارقطني (¬2): من طريق المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن فضالة بن عبيد نحوه. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق. الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق ... إلى آخره. ص: وقد روي في حكم الصائم إذا قاء أو استقاء عن النبي - عليه السلام - مفسرًا: ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَن ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضى". فبيَّن هذا الحديث كيف حكم الصائم إذا ذرعه القيء أو استقاء، وأولى الأشياء بنا أن نحمل الآثار على ما فيه اتفاقها وتصحيحها لا على ما فيه تنافيها وتضادها، فيكون معنى الحديثين الأولين على ما وصفنا حتى لا يضاد معناهما معنى هذا الحديث. فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 316 رقم 817). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 182 رقم 6).

ش: أشار بهذا إلى أن حديث أبي هريرة قد فسر فيه ما كان مجملًا في حديث ثوبان وفضالة بن عبيد؛ لأنه بيَّن فيه حكم الصائم إذا قاء كيف يكون، وإذا استقاء كيف يكون؟ فبيَّن أن القيء لا ينقض الصوم وليس عليه شيء، وأن الاستقاء ينقضه وعليه القضاء، فدل ذلك على أن معنى الحدثيين الأولين هو ما حملناه عليه. وهذا هو أولى الأشياء أن تحمل الآثار على الاتفاق دون التضاد والاختلاف؛ لأن في هذا إعمال الآثار كلها على ما لا يخفى. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة بإسناد حسن: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد، عن عيسى بن يونس ... إلى آخره. وكلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: نا عيسى بن يونس ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذى (¬2): ثنا علي بن حجر، قال: أنا عيسى بن يونس ... إلى آخره. وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمَّد -يعني البخاري-: لا أراه محفوظًا. قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - ولا يصح إسناده. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: ليس من ذا شيء، قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الذهبي: يريد رفعه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 310 رقم 2380). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 98 رقم 720).

وقال البيهقي: سمعه حفص بن غياث، عن هشام، تفرد به هشام وبعض الحفاظ، ألا يراه محفوظًا. وقال ابن بطال: تفرد به عيسى وهو ثقة إلا أن أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه. وقال أبو علي الطوسي: هو حديث غريب. وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات. وقد رواه الحكم (¬1): من حديث حفص بن غياث متابعًا لعيسى عن هشام، وصححه فقال: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، ثنا أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا حفص بن غياث، ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا استقاء الصائم أفطر، وإذا ذرعه القيء لم يفطر". تابعه عيسى بن يونس، عن هشام، أبنا أبو بكر بن إسحاق، أنا أبو المثنى، نا مسدد. وثنا أبو الوليد الفقيه، نا الحسن بن سفيان وجعفر بن أحمد بن نصر، قالا: ثنا علي بن حجر، قال: نا عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض". هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قوله: "من ذرعه القيء" أي: سبقه وغلبه في الخروج، والمعنى أنه قاء من غير اختياره، وذكره في "الدستور" في باب فَعَلَ يَفْعَلُ بالفتح فيهما. قوله: "ومن استقاء" أراد أنه طلب القيء وقاء باختياره. ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 589 رقم 1556).

وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه. ثم القيء لا يشترط فيه أن يقدَّر بحد، بل هو لا ينقض الصوم سواء كان ملء الفم أو أقل منه؛ لأن ذرع القيء مما لا يمكن التحرز عنه، بل يأتيه على وجه لا يمكنه دفعه، فأشبه الناسي. وأجمعوا على إبطال صوم مَن استقاء عامدًا، وسواء في ذلك ملء الفم وأقل منه؛ لإطلاق قوله: "ومن استقاء فليقض". ص: وأما حكمه من طريق النظر: فإنا رأينا القيء حدثًا في قول بعض الناس، وغير حدث في قول الآخرين، ورأينا خروج الدم كذلك، وكُلّ قد أجمع أن الصائم إذا فَصَدَ عرقًا أنه لا يكون بذلك مفطرًا، وكذلك لو كانت به علة فانفجرت عليه دمًا من موضع من بدنه فكان خروج الدم من حيث ذكرنا من بدنه واستخراجه إياه سواءً فيما ذكرنا، وكذلك هما في الطهارة، وكان خروج القيء من غير استخراج من صاحبه إياه لا ينقض الصوم، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون خروجه باستخراج صاحبه إياه كذلك لا ينقص الصوم، فلما كان القيء لا يفطره كان ما ذرعه من القيء أحرى أن يكون كذلك، فهذا حكم هذا الباب أيضًا من طريق النظر، ولكن اتباع ما روى عن رسول الله - عليه السلام - أولى. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعامة العلماء رحمهم الله. ش: أي: وأما حكم هذا الباب من طريق القياس، تقرير وجه النظر: أن القيء حدث في قول بعض الناس وهم: أبو حنيفة وأصحابه، وغير حدث في قول الآخرين وهم: الشافعي ومالك وأحمد. وكذلك خروج الدم من بدن المتوضئ على هذا الخلاف، وكلهم قد أجمعوا أن الصائم إذا خرج من بدنه دمًا أنه لا يفطر بذلك، وكذلك لو كانت ببدنه جراحة أو قرحة فانفجرت عليه وخرج منها دم لا ينقض صومه، فاستوى فيه الخروج بنفسه والاستخراج بعلاجه؛ فالنظر على ذلك ينبغي أن يكون حكم القيء كذلك؛ لأن

خروجه لا ينقض فكذلك استخراجه ينبغي أن لا ينقض، ولكن تركنا القياس في ذلك واتبعنا الحديث. وقال "صاحب البدائع": إن الأصل أن لا يفسد الصوم بالقيء سواء ذرعه أو تقيّأ؛ لأن فساد الصوم متعلق بالدخول شرعًا، قال النبي - عليه السلام -: "الفطر مما يدخل والوضوء مما يخرج" (¬1). ولكن الفساد بالاستقاء قد عرفناه بنص آخر، وهو قوله - عليه السلام -: "ومن استقاء فعليه القضاء". فبقي الحكم في الذرع على الأصل. انتهى. قلت: قال البخاري: قال ابن عباس وعكرمة: "الفطر مما دخل وليس مما خرج". وقد أسند ذلك ابن أبي "شيبة" (¬2) قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في الحجامة للصائم فقال: "الفطر مما يدخل وليس مما يخرج". وثنا هشيم، عن حصين، عن عكرمة به. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك وصخر بن جويرة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعبي، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر مثله. ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 117 - 118) وقال: أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس، وفي إسناده الفضيل بن المختار وهو ضعيف جدًّا، وفيه شعبة مولى ابن عباس وهو ضعيف. ثم ذكر طرقه كلها وضعفها، فراجعه. وسيأتي الكلام عليه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 308 رقم 9319).

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد -يعني ابن سلمة- عن حماد، عن إبراهيم مثله. حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن مثله. حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حبان السلمي، عن القاسم بن محمَّد مثله. ش: أي: قد روي ما ذكرنا -من أن القيء لا يفطر، وأن الاستقاء يفطر- عن جماعة من الصحابة والتابعين. وأخرج في ذلك عن عبد الله بن عمر من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وصخر بن جويرية البصري، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مالك (¬1) في "موطإه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "المعرفة" (¬2): أنا أبو بكر وأبو زكرياء وأبو سعيد، قالوا: أنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: "من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومَن ذرعه القيء فليس عليه القضاء". وأخرج من التابعين عن إبراهيم النخعي والحسن البصري والقاسم بن محمَّد. أما أثر إبراهيم فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 304 رقم 673). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (3/ 369 رقم 2475).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "إذا ذرعه القيء فلا إعادة عليه، وإن تهوع فعليه الإعادة". وأما أثر الحسن البصري فأخرجه كذلك بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن الحسن وابن سيرين، قالا: "إذا ذرع الصائم القيء لم يفطر، وإذا تقيَّأ أفطر". وأما أثر القاسم بن محمَّد فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حِبَّان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- ابن جَزء السلمي وثقه ابن حبان ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حبان السلمي، عن القاسم بن محمَّد قال: "الصائم إذا ذرعه القيء فليس عليه قضاء، وإن قاء متعمدًا فعليه القضاء". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 297 رقم 9192). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 297 رقم 9190). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 298 رقم 9193).

ص: باب: الصائم يحتجم

ص: باب: الصائم يحتجم ش: أي: هذا باب في بيان حكم الحجامة للصائم. قوله: "يحتجم" جملة وقعت حالا من الصائم، فافهم. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد، عن مطر الوراق، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع قال: "دخلت على أبي موسى - رضي الله عنه - وهو يحتجم ليلًا، فقلت: لولا كان هذا نهارًا! فقال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم؟! وقد سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: أفطر الحاجم والمحجوم". ش: سعيد هو ابن أبي عروبة، روى له الجماعة. ومطر بن طهمان الوراق أبو رجاء الخراساني، قال النسائي: ليس بالقوي. وعن يحيى ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح. وعنه: صالح. وروى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، وذكره في باب "التجارة" في كتاب "الصحيح". وبكر بن عبد الله المزني البصري، روى له الجماعة. وأبو رافع الصائغ المدني واسمه نفيع روى له الجماعة. وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬1): من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن مطر الوراق ... إلى آخره نحوه. ثم قال: كذا رواه رَوْح عنه، ورواه عبد الأعلى عنه فقال: عن بعض أصحابه، عن ابن بريدة، عن أبي موسى مرفوعًا. ورواه شعبة عن مطر بإسناده موقوفًا. انتهى. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 266 رقم 8073).

وقال ابن المديني: قد صح حديث أبي رافع عن النبي - عليه السلام -: "أفطر الحاجم والمحجوم". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1): ثنا أحمد بن كامل القاضي، نا أحمد بن سعد العوفي، عن رَوْح بن عبادة (ح). وثنا علي بن عيسى، نا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب. ونا أبو الوليد الفقيه، نا الحسين بن سفيان. وأخبرني أبو علي الحافظ، أنا أبو يعلى. قالوا: ثنا زهير بن حرب، ثنا رَوْح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر الوراق، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، قال: "دخلنا على أبي موسى وهو يحتجم بعد المغرب، فقلت: ألا احتجمت نهارًا؟ فقال: تأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم؟! سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: أفطر الحاجم والمحجوم". سمعت أبا علي الحافظ يقول: قلت لعبدان الأهوازي: يصح أن النبي - عليه السلام - احتجم وهو صائم؟ فقال: سمعت عباس العنبري، يقول: سمعت علي بن المديني، يقول: قد صح حديث أبي رافع، عن أبي موسى، أن النبي - عليه السلام - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى. وقال النسائي: هذا خطأ وقد روي موقوفًا وفيه اختلاف، ووقفه حفص، عن سعيد، عن مطر ولم يرفعه وتردد أبو زرعة في وقفه ورفعه، وقضى أبو حاتم بوقفه. وأخرجه البخاري تعليقًا (¬2) قال: واحتجم أبو موسى ليلًا. ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 594 رقم 1567). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 684).

وروى هذا التعليق أبو بكر بن أبي شيبة (¬1): عن محمَّد بن أبي عدي، عن حميد، عن بُكير، عن أبي العالية قال: "دخلت على أبي موسى وهو أمير البصرة ممسيًا، فوجدته يأكل تمرًا وكامخًا، وقد احتجم، فقلت له: ألا تحتجم بنهار؟ قال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم؟! ". قوله: "أتأمرني" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "أن أهريق" أصله: أريق، من الإراقة، والهاء زائدة. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". ش: أخرجه أبو عمر وضعفه بعبد الله بن لهيعة المصري، وباقي رجاله ثقات، وقد تكرر ذكرهم. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حميد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب قال: "شهد عندي نفر من أهل البصرة منهم الحسن بن أبي الحسن، عن معقل الأشجعي أنه قال: مرّ علي رسول الله - عليه السلام - وأنا أحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". ش: أحمد بن حميد الطريثيثي أبو الحسن الكوفي شيخ البخاري. وابن فضيل هو محمَّد بن فضيل بن غزوان الضبي أبو عبد الرحمن الكوفي روى له الجماعة. ومعقل الأشجعي هو معقل بن سنان أبو محمَّد ويقال: أبو عبد الرحمن الأشجعي، له صحبة، شهد فتح مكة مع النبي - عليه السلام -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن محمَّد بن فضيل نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 307 رقم 9307). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 306 رقم 9297).

ص: حدثنا محمَّد بن خريمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن ثوبان مولى رسول الله - عليه السلام -، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". ش: إسناده صحيح، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري الشامي مختلف في صحبته، فعن الليث وابن لهيعة: له صحبة. وعن العجلي وابن حبان: ثقة من كبار التابعين. وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3). وأخرجه بهذا الإسناد البزار في "مسنده": ثنا وهب بن يحيى، نا محمَّد بن سواء، قال: نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن ثوبان، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا سعيد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن عبد الله، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا أبو قلابة، قال: ثنا أبو أسماء الرحبي، عن ثوبان: "أن رسول الله - عليه السلام - خرج في رمضان في ثماني عشرة، فمر برجل يحتجم، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: ثنا أبو قلابة، أن أبا أسماء حدثه، أن ثوبان مولى رسول الله - عليه السلام - حدثه ... ثم ذكر مثله. ش: هذه ثلاث طرق أخرى في الحديث المذكور. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 2367). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 222 رقم 3158). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 537 رقم 1680).

الأول: صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي البصري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ... فذكر الحديث المذكور بإسناده نحوه. وأخرجه أحمد (¬1) نحوه. الثاني: طريق حسن لا بأس به: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بابُلْت البابُلْتي أبي سعيد الحراني، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي أسماء عمرو بن مرثد الرحبي الشامي الدمشقي، عن ثوبان - رضي الله عنه -. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2): ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا العباس بن الوليد بن مرثد البيروتي، ثنا أبي، ثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو قلابة، حدثني أبو أسماء، حدثني ثوبان قال: "خرجت مع رسول الله - عليه السلام - لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فلما كان بالبقيع نظر رسول الله - عليه السلام - إلى رجل يحتجم، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفطر الحاجم والمحجوم" انتهى. فإن قيل: كيف تقول: هذا الإسناد حسن وقد قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الله البابُلتي لم يسمع -والله- من الأوزاعي شيئًا؟!. قلت: قال ابن عدي: وليحيى البابلتي عن الأوزاعي أحاديث صالحة. فبهذا المقدار ثبت الحسن لإسناد حديثه (¬3)، على أن الحديث في نفس الأمر صحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 276 رقم 22425). (¬2) "المستدرك" (1/ 590 رقم 1558). (¬3) قلت: باقي كلام ابن عدي ينقض هذا الاستدلال؛ فقد قال بعد هذا القول: وفي تلك الأحاديث أحاديث ينفرد بها عن الأوزاعي، ويروي عن غير الأوزاعي من المشهورين والمجهولين، والضعف على حديثه بَيِّن. انتهى "الكامل" (7/ 250). وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 127): كان كثير الخطأ لا يدفع السماع، ولكنه يأتي عن الثقات بأشياء =

وقال الترمذي في "العلل الكبير": قال محمَّد: ليس في الباب شيء أصح من حديث شداد وثوبان. قلت له: كيف بما فيهما من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي الأشعث عن شداد، روى الحديثين جميعًا. الثالث: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن الأوزاعي ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد قال: ثنا يحيى، عن هشام. ونا أحمد بن حنبل، قال: ثنا الحسن بن موسى، قال: ثنا شيبان، جميعًا عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن النبي - عليه السلام - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "أفطر الحاجم والمحجوم". ش: إسناده صحيح، والحسن بن الربيع بن سليمان القسري الكوفي، شيخ الجماعة غير الترمذي. وأبو الأحوص سلام بن سليم، روى له الجماعة. ¬

_ = معضلات مما كان يهم فيها حتى ذهبت حلاوته عن القلوب؛ لما شاب حديثه المناكير، فهو عندي فيما انفرد به ساقط الاحتجاج. (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 2367). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 216 رقم 3136). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 537 رقم 1680).

وليث هو ابن أبي سليم ثقة. وعطاء ابن أبي رباح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن علي بن راشد، أنا خالد بن عبد الله، عن ليث -يعني ابن أبي سليم- عن عطاء، عن عائشة عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم قال: وقد رواه أبو الأحوص وشيبان بن عبد الرحمن فتابعا خالدًا على هذه الرواية. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) موقوفًا: ثنا الحسن بن موسى، عن شيبان، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة قالت: "أفطر الحاجم والمحجوم". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن خالد ومنصور، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس: "أن النبي - عليه السلام - مرَّ في رمضان على رجل يحتجم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عامر، عن ابن أبي قلابة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري، عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء ومنصور بن زاذان، كلاهما عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الأشعث الصنعاني، اسمه شراحيل بن آدة، عن شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري النجاري. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا محمَّد بن أبان الأصفهاني، نا أبو أمية عبد الله بن خلاد الواسطي، ثنا عمرو بن عون، أنا هشيم، عن منصور بن زاذان وخالد، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 307 رقم 9310). (¬2) "المعجم الكبير" (7/ 277 رقم 7129).

أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس قال: "كنت مع رسول الله - عليه السلام - عام الفتح، فمر برجل يحتجم في ثمان عشرة أو سبع عشرة في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". الثاني: عن إبراهيم بن محمَّد بن يونس بن مروان، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي، عن سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن زيد أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس قال: "مررت برسول الله - عليه السلام - في ثمان عشرة خلت من رمضان، فأبصر رجلًا يحتجم، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفطر الحاجم والمحجوم". وأخرجه أبو داود (¬2): نا موسى بن إسماعيل، نا وهيب، قال: نا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس: "أن رسول الله - عليه السلام - أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". وروى هذا خالد الحذاء، عن أبي قلابة بإسناد أيوب، مثله (¬3). وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬4) نحو رواية أبي داود، ثم قال: سمعت محمَّد بن صالح يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة، وهذا الحديث صح بأسانيد، وبه نقول. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 123 رقم 17160). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 2369). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 2369). (¬4) "المستدرك" (1/ 592 رقم 1563).

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، (¬1) ثم قال: سمع أبو قلابة هذا الخبر عن أبي أسماء، عن ثوبان. وسمعه عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، عن شداد. وهما طريقان محفوظان. وقد جمع شيبان بن عبد الرحمن بين الإسنادين عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. وعن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، عن شداد بلفظ: "كنت أمشي مع النبي - عليه السلام - في البقيع زمان الفتح". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفطر الحاجم والمستحجم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". ش: هذان طريقان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان شيخ الجماعة غير الترمذي، عن داود بن عبد الرحمن المكي أبي سليمان العطار روى له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قال أبو هريرة: إن رسول الله - عليه السلام - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (8/ 302 رقم 3533). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 307 رقم 9304).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) بغير هذا الإسناد: ثنا أيوب بن محمَّد الرقي، وداود بن رشيد، قالا: ثنا معاوية بن سليمان، نا عبد الله بن بشر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "أفطر الحاجم والمحجوم". وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث داود العطار، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله - عليه السلام -: "أفطر الحاجم والمستحجم". ورواه النسائي (¬3): من طريق النضر بن شميل وعبد الرزاق، عن ابن جريج موقوفًا. الثاني: عن ربيع بن سليمان (¬4). ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 537 رقم 1679). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 266 رقم 8077). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 226 رقم 3182). (¬4) هذا آخر ما وقفنا عليه من هذا المجلد في "الأصل، ك"، وهذا المجلد غير موجود في النسخة (ح) وهي نسخة أحمد الثالث. ويبدو أن هناك سقطًا بمقدار نصف ورقة، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

ص: كتاب مناسك الحج

[بسم الله الرحمن الرحيم] ص: كتاب مَنَاسِك الحَجِّ ش: أي هذا كتاب في بيان مناسك الحج، والمناسك جمع مَنْسَك بفتح السين وكسرها، وهو المتُعَبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحج كلها مناسك الحج. والمَنْسِك: المذبح، وقد نَسَكَ يَنْسُك نُسْكًا إذا ذبح. والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُك. والنُّسك أيضًا الطاعة والعبادة وكل ما تُقُرِّبَ به إلى الله تعالى، والنُّسُك: ما أمرت به الشريعة، والورع: [ما] (¬1) نهت عنه، والناسِك العابد، وسُئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النَسِيكة وهي سبيكة الفضة المصفاة، كأنه صفّى نفسه لله تعالى". وفي "المطالع": المناسك مواضع متعبدات الحج. والحج من حججت الشيء أحجه حجًّا، إذا قصدته. قال الزجاج في قوله تعالى،: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬2): تقرأ بفتح الحاء وكسرها، والأصل الفتح. وقال الطبري: أكثر العرب يكسرون الحاء. وقال ابن السكيت: بفتح الحاء: القصد، وبالكسر: القوم الحجاج، والحَجّة: الفَعلة من الحج، وبكسر الحاء: التلبية والإجابة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "وما"، والمثبت من "لسان العرب" (نسك). (¬2) سورة آل عمران، آية: [97].

وقال الأزهري: وأصل الحج من قولك: حَجَجْتُ فلانًا أَحُجَّه حجًّا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى، فقيل: حج البيت؛ لأن الناس يأتونه كل سنةٍ، ومنه قول المخبل السَّعْدي: وأشهد من عوف حلولًا كثيرةً ... يَحُجُّون سِبَّ الزِّبرقان المزعفرا يقول: يأتوه مرة بعد أخرى لسُؤدَدِه، وسِبَّه: عمامته. وقال صاحب "العين": السِّبُّ: الثوب الرقيق، وقيل: الخمار، وقيل: غلالة رقيقة يمنية. وذكره في "الدستور" في باب: السنن المكسورة. والزبرقان: اسم القمر في الأصل، ولُقِّب به الحصين؛ لصفرة عمامته. وأما معنى الحج في الشرع: هو قصد إلى زيارة البيت الحرام بأفعال مخصوصة على وجه التعظيم، وسببه البيت؛ لأنه يضاف إليه، ولهذا لا يجب في العمر إلَّا مرةً واحدةً؛ لأن السبب غير متكرر. وذكر القرطبي أن الحج فُرِضَ سنة خمس من الهجرة، وقيل: سنة تسع، قال: وهو الصحيح. وذكر البيهقي أنه كان سَنة ست، وفي حديث ضمام بن ثعلبة ذِكْرُ الحج، وذَكَرَ محمَّد بن حبيب أن قدومه كان سَنة خمس من الهجرة. وقال الطرطوشي: وقد رُوي أن قدومه على النبي - عليه السلام - كان في سنة تسع. وذكر الماوردي أنه فُرِض في سَنة ثمان. وقال (الطرطوشي وإمام الحرمين) (¬1): سنة تسع أو عشر، وقيل: قبل هجرته - عليه السلام -، وقيل: سنة سبع والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ولعل إعادة ذكر الطرطوشي هنا انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-، وعزا المؤلف هذا القول في "عمدة القاري" (9/ 175) لإمام الحرمين فقط.

وفي بعض النسخ ذكر عقيب كتاب الصوم كتاب الحج، وفي بعضها كتاب الجهاد والأول أصح؛ لأن المناسبة تقتضي ذكر الحج مع الصلاة والزكاة والصوم لأنه من الخمس الذي بنُي الإِسلام عليه، وأما تأخيره عن الثلاثة فلما قلنا إن الصلاة ثانية الإيمان والزكاة ثالثته في الكتاب والسُّنة، وإلَّا فالقياس كان يقتضي أن يتقدم الصوم على الزكاة؛ لأن كلًّا من الصلاة والصوم عبادة بدنية صرفًا، والزكاة عبادة مالية صرفًا، ولما فرغ عن العبادات الغير [مركبة] (¬1) شَرَعَ في بيان العبادة المركبة؛ لأن الحج عبادة بدنية ومالية. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "المركبة".

ص: باب: المرأة لا تجد محرما هل يجب عليها فرض الحج أم لا؟

ص: باب: المرأة لا تجد محرمًا هل يجب عليها فرض الحج أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم المرأة التي لا تجد محرمًا هل يجب عليها أن تحج أم لا؟ والمَحْرَمُ: مَنْ لا يحل له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم، والمراد من المحرم ذو المحرم، ويقال له: ذو الحرمة أيضًا، وفي الحديث: "إلَّا ومعها ذو محرم" (¬1) وفي رواية: "مع ذي حرمة منها" (1). والمحرم يكون مصدرًا ميميًا بمعنى الحرمة. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "خطب رسول الله - عليه السلام - الناس فقال: لا تسافر امرأة إلَّا ومعها ذو محرمٍ، ولا يدخل عليها رجل إلَّا ومعها ذو محرمٍ. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني قد اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وقد أردتُ أن أحج بامرأتي. فقال رسول الله - عليه السلام -: احجج مع امرأتك". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن جريج، عن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن النبي - عليه السلام - مثله. ش: هذه ثلاث طرق رجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكَّارًا القاضي، وأبو معبد اسمه نافذ، وابن جريج هو عبد الملك بن جريج، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، كلاهما عن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2/ 977 رقم 1339) من حديث أبي هريرة. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 978 رقم 1341).

سفيان -قال أبو بكر: نا سفيان بن عيينة- قال: ثنا عمرو بن دينار، عن أبي مَعْبد، سمعت ابن عباس يقول: سمعت النبي - عليه السلام - يخطب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلَّا مع ذي محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي حاجة وإني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا. قال: انطلق فحج مع امرأتك". وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تسافر المرأة إلَّا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلَّا ومعها محرم. فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج. فقال: اخرج معها". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا هشام بن عمار، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار، أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "جاء أعرابي إلى النبي - عليه السلام - قال: إني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال: فأرجع معها". وفيه فوائد: حرمة سفر المرأة بدون ذي محرم معها، وعموم اللفظ يتناول عموم السفر، فيقتضي أن يحرم سفرها بدون ذي محريم معها؛ سواء كان سفرها قليلًا أو كثيرًا، للحج أو لغيره، ويجيء الخلاف فيه عن قريب، وكذلك عموم اللفظ يتناول ذوي المحارم جميعها، إلَّا أن مالكًا كره سفرها مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها؛ لفساد الناس، وأن المحرمية في هذا ليست في المراعاة كمحرمية النسب. وحرمة اختلاء المرأة مع الأجنبي، وهذا لا خلاف فيه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 658 رقم 1763). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 968 رقم 2900).

وفيه دلالة على أن حج الرجل مع امرأته إذا أرادت حجة الإِسلام أولى من سفره إلى الغزاة؛ لقوله - عليه السلام - لذلك الرجل: "احجج مع امرأتك" مع كونه قد كُتِبَ في الغزو. وفيه دلالة على اشتراط المَحْرَمِ في وجوب الحج على المرأة، ثم اختلفوا؛ هل هو شرط الوجوب أو شرط الأداء؟ وفيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، قال: ثنا ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تسافر المرأة إلَّا ومعها ذو محرم". ش: إسناده صحيح. وروح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا. وحامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس، وشيخ أبي داود، قال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان. وابن عجلان المدني، روى له الجماعة البخاريُّ مستشهدًا. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا عمرو، نا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا -لا أدري كم- إلَّا ومعها ذو محرم". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المرأة لا تسافر سفرًا قريبًا أو بعيدًا إلَّا مع ذي محرمٍ، واحتجوا في ذلك بهذه الأخبار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: النخعي والشعبي وطاوس بن كيسان والظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تسافر مطلقًا، سواء كان سفرًا قريبًا أو بعيدًا إلَّا ومعها ذو ¬

_ (¬1) وأخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" (8/ 254) من طريق حفص بن عمرو الربالي عن يحيى بن سعيد به.

محرمٍ لها، وإحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة وذلك لعمومها واشتمالها على حكم السفر مطلقًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل سفر هو دون البريد فلها أن تسافر بلا محرم، وكل سفر يكون بريدًا فصاعدًا فليس لها أن تسافر إلَّا بمحرم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء وسعيد بن كيسان وطائفة من الظاهرية؛ فإنهم قالوا بجواز سفر المرأة فيما دون البريد، فإذا كان بريدًا فصاعدًا فليس لها أن تسافر إلَّا بمحرم. "والبريد" فرسخان، وقيل: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: أربعة آلاف ذراع. وقال الجوهري: البريد اثني عشر ميلًا. وفي "المطالع": البَرِيدُ أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والبريد أيضًا الرسول المستعمل، ودواب البريد دواب تُعدّ هؤلاء الرسل، يقال: أبرد إليه بريدًا، ومنه قوله - عليه السلام -: "إذا أبردتم إليّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حَسن الاسم" (¬1) ومنه دار البريد، والبريد أيضًا الطريق، وهو عربي وافق لسان العجم، ومنه الحديث: "على بريد الرُّويثة" (¬2) وبرَّد لنا بريدًا: أرسله لنا معجلًا، ومن هذا كله سميت الدواب والرسل والطرق المستعملة كذلك. انتهى. وقال الزمخشري: البريد كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل، وأصلها بريدة دم: أي محذوف الذنَب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدًا، والمسافة التي بين السكتين ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/ 367 رقم 7747)، وعزاه الهيثمي في "المجمع" (8/ 47) للبزار، والطبراني في "الأوسط" وقال: في إسناد الطبراني عمر بن راشد، وثقه العجلي، وضعفه جمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات، وطرق البزار ضعيفة. (¬2) أخرجه البخاري (1/ 183 رقم 470).

بريدًا، والسكة موضع كان تسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبُعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل: أربعة (¬1). وقال النووي: الفرسخ اثني عشر ألف خطوة، وهي ذراع ونصف بذراع العامة، وهو أربع وعشرون إصبعًا معترضة معتدلةً، والإصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، والميل ثلث الفرسخ. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، قال: ثنا سُهَيْل بن أبي صالح، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبَري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تسافر امرأة بريدًا إلَّا مع زوج أو ذي محرم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا معلَّى بن راشد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل ... فذكر بإسناده مثله. قالوا: ففي توقيت النبي - عليه السلام - البريد ما يدل على أن ما دونه بخلافه. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة؛ فإن فيه توقيتا -أي تحديدًا- بالبريد، فدل أن ما دونه بخلافه، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عمر الضرير حفص بن عمر البصري شيخ أبي داود وابن ماجه؛ عن حماد بن سلمة، عن سُهيل بن أبي صالح ذكوان الزيات، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث حماد بن سلمة، عن سهيل، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تسافر امرأة بريدًا إلَّا مع ذي محرم". ¬

_ (¬1) انظر "النهاية" (1/ 116). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 139 رقم 5196).

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن معلى بن أسد العَمي البصري شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري الدباغ، عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن يوسف بن موسى، عن جرير، عن سهيل، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة ... نحوه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا كان سفر هو دون اليوم فلها أن تسافر بلا محرم، وكل سفرٍ يكون يومًا فصاعدًا فليس لها أن تسافر إلَّا بمحرم. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والليث ومالكًا والشافعي؛ فإنهم قالوا: للمرأة أن تسافر فيما دون اليوم بلا محرم، وأما فيما زاد على ذلك فليس لها أن تسافر إلَّا بزوج أو محرم، ولكن مذهب مالك والشافعي أن المرأة تسافر للحج الفرض بلا زوج [أو] (¬2) محرم وإن كان بينها وبين مكة سفر أو لم يكن؛ فإنهما خَصَّا النهيَ عن ذلك بالأسفار الغير واجبة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شيبان ابن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَعْدٍ، عن أبيه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا فما فوقه إلَّا ومعها ذو محرمٍ". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله، غير أنه لم يقل: "فما فوقه". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد المقبري ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا ابن أبي ذئب (ح). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 140 رقم 1725). (¬2) في "الأصل، ك": "و"، وما أثبتناه هو الصواب.

وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - مثله. قالوا: ففي توقيت النبي - عليه السلام - يومًا دليل أن ما هو أقل منه بخلافه. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة؛ فإن فيه توقيتًا بيومٍ، وهذا دليل على أن ما دونه بخلافه. وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن أبي أُميَّة محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل ابن دكين، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي البصري المؤذن، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سَعْدٍ سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه أبي سعيد كيسان المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حسن، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سعد، أن أباه أخبره أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا فما فوقه إلَّا ومعها ذو حرمة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذؤيب المدني، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي ذئب قال: أنا سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلَّا مع ذي محرم". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 423 رقم 9462). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 977 رقم 1339).

وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1): عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلَّا مع ذي محرم منها". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عبد الله بن مسلمة والنفيلي، عن مالك. ونا الحسن بن علي، قال: نا بشر بن عمر، قال: حدثني مالك، عن سعيد بن أبي سعيد -قال الحسن في حديثه: عن أبيه. ثم اتفقوا- عن أبي هريرة، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة ... " [فذكر معناه] (¬3). قال أبو داود: لم يذكر النفيلي والقعنبي: "عن أبيه". وقال أبو عمر: رواه جماعة الرواة للموطأ عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بدون ذكر أبيه. ورواه بشر بن عمر، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، كذلك قال ابن معين وغيره. الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن سعيد المقبري، عن أبيه كيسان المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬4): نحوه وقد ذكرناه. الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبيه كيسان، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 979 رقم 1766). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 140 رقم 1724). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) تقدم.

وقد رأيت أن في ثلاث طرق في رواية الطحاوي: عن سعيد، عن أبيه، وفي طريقين: عن سعيد، عن أبي هريرة بدون ذكر أبيه، وقد ذكرنا الاختلاف فيه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل سفر هو دون الليلتين، فلها أن تسافر بغير محرم، وكل سفر يكون ليلتين فصاعدًا فليس لها أن تسافر بغير محرم. ش: أي خالف الفِرَق الثلاث المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم الحسن البصري والزهري وقتادة؛ فإنهم قالوا: يجوز للمرأة أن تسافر في أقل من يومين وليلتين بغير ذي محرم منها، وإذا كان السفر ليلتان ليس لها ذلك إلَّا بمحرم. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن قزعة مولى زياد، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلَّا مع زوج أو ذي محرم". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك ... فذكر بإسناده مثله. قالوا: ففي توقيت رسول الله - عليه السلام - في ذلك ليلتين دليل على أن حكم ما هو دونهما بخلاف حكمهما. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي سعيد الخدري، فإن فيه التوقيت بليلتين، وما دونه غير داخل فيه. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير بن سُويد اللخمي الكوفي، عن قزعة بن يحيى البصري مولى زياد بن أبي سفيان، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري.

وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة جميعًا- عن جرير- قال قتيبة: ثنا جرير- عن عبد الملك -وهو ابن عمير- عن قزعة، عن أبي سعيد قال: "سمعت منه حديثًا فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - عليه السلام -؟ قال: فأقول على رسول الله - عليه السلام - ما لم أسمع؟! قال: سمعته يقول: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تشدُّوا الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". وسمعته يقول: "لا تسافر المرأة يوميْن من الدهر إلَّا ومعها ذي محرم منها أو زوجها". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي، عن عبد الملك بن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا سليمان بن حَرْب، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد- وقد غزا مع النبي - عليه السلام - ثنتي عشرة غزوة- قال: "أربع سمعتهن من رسول الله - عليه السلام - فأعجبتني آنقنني: لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو رحم، ولا صوم يومين؛ الفطر، والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تشد الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل سفر يكون ثلاثة أيام فصاعدًا فليس لها أن تسافر إلَّا بمحرم، وكل سفر يكون دون ذلك، فلها أن تسافر بغير محرم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 975 رقم 827). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 659 رقم 1765).

ش: أي خالف الفِرَق الأربع المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأعمش وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: إذا كان السفر مسافة ثلاثة أيام فصاعدًا ليس لها أن تسافر إلا بمحرم أو زوج، وإذا كان أقل من ذلك فلها أن تسافر بغير محرم. ويروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله بن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلَّا مع محرم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا ابن جريج، قال: ثنا عبد الكريم بن مالك، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرو، عن رسول الله - عليه السلام - مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلَّا مع رجل يحرم عليها نكاحه". حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا يحيى بن عيسى وعبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا تسافر المرأة سفرًا ثلاثة أيام فصاعدَا إلَّا ومعها زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو محرم منها". غير أن ابن نمير قال في حديثه: "فوق ثلاث". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش ... فذكر بإسناده مثله، وقال: "سفرًا ثلاثة أيام".

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، قال: ثنا وُهَيب بن خالد، قال: ثنا سُهِيْل، عن أبيه وعن المغيرة، حدثاه عن أبي هريرة رفعه، قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلَّا مع بعل أو ذي محرم". قالوا: ففي توقيت رسول الله - عليه السلام - الثلاث في ذلك دليل على أن حكم ما دون الثلاث بخلاف ذلك، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد- رحمهم الله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بأحاديث عبد الله بن عمر، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، فإنهم قالوا في أحاديثهم: وقّت رسول الله - عليه السلام - ثلاثة أيام، والتقييد به ينافي أن يكون حكم ما دونه مثل حكمه. أما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فأخرجه بإسنادٍ صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثني يحيى بن سعيدِ، عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - قال: "لا تسافر المرأة ثلاثًا إلَّا ومعها ذو محرمٍ". وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي روى له الجماعة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري أبي سعيد الحراني مولى عثمان بن عفان روى له الجماعة، عن عمرو بن شعيب ثقة، وحديثه حسن، عن أبيه شعيب بن محمَّد ذكره ابن حبان في "الثقات"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر البخاري وأبو داود وغير واحد أنه سمع من جده عبد الله ابن عمرو. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 140 رقم 1727).

والحديث أخرجه العدني في "مسنده" (¬1): ثنا هشام، عن ابن جريج، أخبرني عبد الكريم بن مالك، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "استند النبي - عليه السلام - إلى البيت، فوعظ الناس وذكرهم، ثم قال: لا يصلين أحدٌ بعد العصر، ولا تسافر امرأة إلَّا مع ذي محرم مسيرة ثلاثة أيام، ولا تقدم المرأة على عمتها ولا على خالتها". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال ... إلى آخره، وإسناده صحيح، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو كامل الجحدري قال: نا بشر -يعني ابن المفضل- قال: ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثًا إلَّا ومعها ذو محرمٍ منها". الثاني: أيضًا صحيح عن فهد بن سليمان، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن وُهَيْب بن خالد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، وعن أبي سَعْد سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، نا بشر بن المفضل، نا سهيل بن أبي صالح، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه. وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن عمرو بن موسى، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الكوفي الجزار وثقه العجلي وغيره، وعبد الله بن نمير، كلاهما عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي سعيد. ¬

_ (¬1) وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 263 رقم 518). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 977 رقم 1339).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب جميعًا، عن أبي معاوية -قال أبو كريب: نا أبو معاوية- عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلَّا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق الكوفي النخعي القاضي، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي سعيد. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عثمان بن أبي شيبة وهنَّاد، أن أبا معاوية ووكيعًا حدثاهم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا فوق ثلاثة أيام فصاعدًا؛ إلَّا ومعها أخوها أو أبوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرمٍ منها". ص: فقد اتفقت هذه الآثار كلها عن النبي - عليه السلام - في تحريم السفر ثلاثة أيام على المرأة بغير ذي محرم، واختلف فيما دون الثلاث، فنظرنا في ذلك، فوجدنا النهي عن السفر بلا محرم مسيرة؛ ثلاثة أيام فصاعدًا ثابتًا بهذه الآثار كلها، وكان توقيته ثلاثة أيام في ذلك إباحة السَّفر دون الثلاث لها بغير محرم، ولولا ذلك لما كان لذكره الثلاث معنى، ولنَهَى نَهْيًا مطلقًا ولم يتكلم بكلام يكون فَضْلًا، ولكنه ذكر الثلاث ليكْلَمَ أن ما دونها بخلافها، وهكذا الحكيم يتكلم من الكلام بما يَدُلُّ على غيره ليُغْنيِه عن ذكر ما يدل كلامه ذلك عليه، ولا يتكلم بالكلام الذي لا يدلُّ على غيره وهو يقدر أن يتكلم بكلام يدل على غيره، وهذا تفضيل من الله -عز وجل- لنبيه - عليه السلام - بذلك، إذ آتاه جوامع الكلم الذي ليس في طبع غيره القوة عليه، ثم رجعنا إلى ما كنا فيه، فلما ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 977 رقم 1340). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 140 رقم 1726).

ذكر الثلاث، وثبت بذكره إياها إباحة ما هو دونها، ثم ما رُوي عنه في مَنْعها من السفر دون الثلاث من اليوم واليومين والبريد، فكل واحد من تلك الآثار ومن الأثر المروي في الثلاث متى كان بعد الذي خالفه نَسَخَه، إن كان النهي عن سفر اليوم بلا محرم بعد النهي عن سفر الثلاث بلا محرم، فهو ناسخ، وإن كان تخبر الثلاث هو المتأخر عنه فهو ناسخ، فقد ثبت أن أحد المعاني التي دون الثلاث ناسخة للثلاث أو الثلاث ناسخةٌ لها، فلم يَخْلُ تخبر الثلاث من أحد وجهين: إما أن يكون هو المتقدم، أو أن يكون هو المتأخر، فإن كان هو المتقدم فقد أباح السفر بأقل من ثلاث بلا محرم، ثم جاء بعده النهي عن سفر ما هو دون الثلاث بغير محرم، فحرَّم ما حرم الحديث الأول، وزاد عليه حرمةً أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث، فوجب استعمال الثلاث على ما أَوْجَبه الأثر المذكور فيه وإن كان هو المتأخر وغيره المتقدم فهو ناسخٌ لما تقدمه والذي تقدمه غير واجب العملُ به، فحديثُ الثلاث واجبٌ استعماله على الأحوال كلها، وما خالفه فقد يجب استعماله إن كان هو المتأخر، ولا يجب إن كان هو المتقدم، فالذي قد وجب علينا استعماله والأخذ به في كلا الوجهين أولى مما قد يجب استعماله في حال وتركه في حال، وفي ثبوت ما ذكرنا دليل على أن المرأة ليس لها أن تحج إذا كان بينها وبين الحج مسيرة ثلاثة أيام إلَّا مع محرم، فإذا عَدِمَت المحرم وكان بينها وبين مكة المسافة التي ذكرنا فهي غير واجدة للسبيل الذي يجب عليها الحج بوجوده. ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان وجوب العمل بالأحاديث التي فيها تعيين مدة الثلاث، والتوفيق بينها وبين الآثار التي فيها التعيين بيومٍ ويومين، بيانه ملخصًا: أن هذه الآثار كلها متفقة على حرمة السفر عليها بغير ذي محرم مسافة ثلاثة أيام، والاختلاف فيما دونها، والنهي عن السفر مسافة ثلاثة أيام فما فوقها ثابت بهذه الآثار كلها، ثم في تقييده بالثلاث إباحة لما دونها، إذ لو لم يكن كذلك لما كان لتعيين الثلاث فائدة، ولكان نهي مطلقًا، وكلام الحكيم مصون عما لا فائدة فيه وعن الحشو، ولا سيما رسول الله - عليه السلام - الذي أُوتي جوامع

الكلم، وهو الموجز من القول، وهو ما قلَّت ألفاظه واتسقت معانيه، وقد يقال: هو القرآن لإيجازه وإعجازه. ثم إذا ثبت بذكر الثلاث وتعيينه إباحة ما دونه نحتاج إلى التوفيق بينه وبين ما رُوي من اليوم واليومين والبريد، وهو أن نقول: لا يخلو إما أن يكون خبر الثلاث متقدمًا على هذه الآثار فيكون منسوخًا، أو متأخرًا عنها فيكون ناسخًا لها، ففي فرضنا له متقدمًا يكون مبيخا للسفر بأقل من ثلاث بلا محرم، ثم النهي الذي جاء بعده عن سفر ما دون الثلاث يكون محرِّمًا ما حرّم هذا، وهذا يكون زائدًا عليه بحرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث، فإذا كان كذلك يجب استعمال الثلاث على مقتضى رواية الثلاث. وفي فرضنا له متأخرًا يكون ناسخًا لما تقدمه ويبطل العمل بما تقدمه، وأما حديث الثلاث يكون واجب الاستعمال في الحالين كما ذكرنا، والعمل بما كان واجب الاستعمال في الحالين أولى من الذي يجب استعماله في حال ويجب تركه في حال؛ فافتح بصيرتك فيه فإنه موضع دقيق، هذا ما ذكره الطحاوي. وقال القاضي: وقوله في الرواية الواحدة عن أبي سعيد: "ثلاث ليال" وفي الأخرى: "يومين" وفي الأخرى: "أكثر من ثلاث" وفي حديث ابن عمر: "ثلاث" وفي حديث أبي هريرة: "مسيرة ليلة" وفي الأخرى عنه: "يوم وليلة" وفي الأخرى عنه: "ثلاث" وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف، فيكون - عليه السلام - منع من ثلاث ومن يومين (ومن يوم أو يوم وليلة) (¬1) وهو أقلها، وقد يكون قوله - عليه السلام - هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة فحدّث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده، وإن حدث بها واحد فحدّث مرات جمها على اختلاف ما سمعها. وقد يمكن أن يلفق بينها بأن اليوم المذكور مفردًا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين؛ لأن اليوم من الليل والليل من اليوم، ويكون ذكره يومين ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ولعل الصواب: "ومن يوم وليلة، ومن يوم" حتى يستقيم المعنى بما بعده.

مدة مضيها في هذا السفر في السير والرجوع، فأشار مرةً بمسافة السفر، ومرةً بمدة المغيب، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين السير والرجوع الذي تقضي حاجتها بحيث سافرت له فتتفق على هذا الأحاديث. وقد يكون هذا كله تمثيلًا لأقل الأعداد للواحد، إذ الواحد أول العدد وأقله، والاثنان أول التكثير وأقله، والثلاث أول الجمع، فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرمٍ، فكيف بما زاد، ولهذا قال في الحديث الآخر: "ثلاثة أيام فصاعدًا" وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء في تقصير المسافر وأقل السفر. انتهى. ولقائل أن يقول: لعل الثلاث كن أولًا، ثم رأى النبي - عليه السلام - المصلحة في أقل من ذلك حسمًا للمادة، وسدًّا لباب الذريعة، لئلا يتطرقن إلى السفر وحدهن. فإن قيل: في هذا الباب رواية أبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس كما ذكرت، وكل رواياتهم مضطربة إلَّا رواية ابن عباس فإنها لم تضطرب. بيان ذلك أنه رُوي عن أبي سعيد: "لا تسافر ثلاثًا" ورُوي عنه: "لا تسافر فوق ثلاث" ورُوي عنه: "لا تسافر يومين". ورُوي عن أبي هريرة: "لا تسافر ثلاثًا" ورُوي عنه: "لا تسافر فوق ثلاث" ورُوي عنه: "لا تسافر يومًا وليلة" ورُوي عنه: "لا تسافر يومًا" ورُوي عنه: "لا تسافر بريدًا". ورُوي عن ابن عمر: "لا تسافر ثلاثًا" ورُوي عنه: "لا تسافر فوق ثلاث". فكان الأخذ برواية من رُوي عنه سالمًا من الاضطراب أولى من رواية من اضطربت الرواية عنه، فحيئذ الأخذ برواية ابن عباس أولى كما ذهب إليه النخعي والشعبي وطاوس والحسن وأهل الظاهر في منعها جملة إلَّا بزوج أو محرم. قلت: رواية غير ابن عباس زادت على رواية ابن عباس، فالأخذ بالزائد أولى، ولكن الزائد في نفسه يختلف؛ فرجح تخبر الثلاث لما ذكره الطحاوي أنه واجب

الاستعمال في الأحوال كلها، وغيره قد يجب استعماله إن كان هو المتأخر ولا يجب إن كان هو المتقدم، فالذي هو واجب الاستعمال في الأحوال كلها أولى بالعمل مما قد يجب استعماله في حالة دون أخرى، والله أعلم. قوله: "وفي ثبوت ما ذكرنا ... " إلى آخره حاصله أن المرأة ليس لها أن تحج إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام إلَّا مع زوج أو محرم؛ لما ثبت من الدليل الذي ذكرناه. فإن قيل: إنكم تقولون في امرأة لا تجد معاشًا أصلًا إلَّا على ثلاث فصاعدًا أنها تخرج بلا زوج ولا محرم، وكذلك من خشيت على نفسها غلبة الكفار أو المحاربين أو الفساق ولم تجد أمنًا إلَّا على ثلاث فصاعدًا، أنها تخرج من غير زوج ومن غير محرم، وطاعة الله واجبة في الحج عليها كوجوب خلاص روحها، فكيف لا تجوزون خروجها ها هنا من غير زوج أو محرم؟ قلت: جواز ذلك هناك لإحياء نفسها وتحصينها، وليس هذا المعنى بموجود ها هنا، ولأن الله تعالى شرط الاستطاعة في الحج؟ والزوج والمحرم من استطاعة السبيل؛ ولهذا قال أحمد: المحرم من السبيل. وذلك حين سأله أبو داود عن امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج. قال: لا، المحرم من السبيل. وقال ابن قدامة: وعنه أن المحرم ليس من شرائط لزوم السعي دون الوجوب. وعنه رواية أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال ابن قدامة: والمذهب الأول. وروى أبو الحسن البغدادي (¬1): عن ابن عمر -بسند فيه محمَّد بن أبي يعقوب الكرماني وهو مجهول- قال رسول الله - عليه السلام - في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج قال: "ليس لها أن تنطلق إلَّا بإذن زوجها". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 223 رقم 31).

ص: وقد قال قومٌ: لا بأس أن تسافر المرأة بغير محرم، واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة أنها سمعتها تقول في المرأة تحج وليس معها ذو محرم فقالت: "ما لكلهن ذو محرم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، عن الليث، أن ابن شهاب حدثه، عن عمر، أن عائشة أُخبرت أن أبا سعيد الخدري يُفتي أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا يصلح للمرأة أن تسافر إلَّا ومعها محرم. فقالت: ما لكلهن ذو محرم". فإن الحجة عليهم في ذلك ما قد تواترت به الآثار التي ذكرناها عن رسول الله - عليه السلام - فهى حجة على من خالفها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري وطائفة من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: لا بأس للمرأة السفر بغير محرم سواء كان لحج أو غيره. ويُروى عن طائفة غيرهم أنه لايجوز إلَّا لحج، وهم الأوزاعي وابن سيرين وقتادة والحكم بن عُتَيْبَة، وأبو سليمان، ومالك، والشافعي؛ فإنهم قالوا: لا بأس للمرأة أن تحج من غير محرمٍ، واحتجوا على ذلك بما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن يونس بن يزيد ... إلى آخره نحوه. وكذلك احتجوا بما أخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وفيه رواية صحابية عن صحابي. قوله: "فإن الحجة عليهم ... " إلى آخره جواب عما قاله هؤلاء القوم، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 386 رقم 15176).

وأراد بقوله: "تواترت": تكاثرت بأسانيد صحاح، لا التواتر المصطلح عليه في الأصول. ص: فإن قال قائل: إن الحج لم يدخل في السفر الذي نهى عنه في تلك الآثار. فالحجة على ذلك القائل حديث ابن عباس الذي بدأنا بذكره في هذا الباب إذ يقول: "خطب رسول الله - عليه السلام - فقال: لا تسافر امرأة إلَّا مع محرم. فقال له رجلٌ: إني أردت أن أُحِجَّ امرأتي، وقد اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا. فقال: اُحْجُجْ بأمرأتِكْ". فدل ذلك على أنها لا ينبغي لها أن تحج إلَّا به، ولولا ذلك لقال رسول الله - عليه السلام -: وما حاجتها إليك، لأنها تخرج مع المسلمين وأنت فامْضِ لوَجْهك فيما اكتُتِبْت. ففي ترك النبي - عليه السلام - أن يأمره بذلك، وأمره أن يحج معها؛ دليل على أنها لا يصلح لها الحجُّ إلَّا به. ش: هذا السؤال من جهة هؤلاء القوم الذي قالوا: لا بأس أن تسافر المرأة بغير محرم، وتقريره أن يقال: إن الحج لم يدخل في النهي؛ لأنه محمول على الأسفار غير الواجبة، والحج فرض فلا يدخل في ذلك النهي. وقال القرطبي: قال أبو حنيفة وأصحابه: لا تحج المرأة إلَّا مع ذي رحمٍ أو زوج وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي ذلك عن إبراهيم والحسن وفقهاء أصحاب الحديث، وذلك أنهم حملوا النهي على العموم في كل سفر، وحمله مالك و [من] (¬1) معه كالأوزاعي والشافعي على الخصوص، وأن المراد بالنهي عن الأسفار غير الواجبة، وقالوا: تخرج المرأة في حجة الفرض مع جماعة النساء في رفقة مأمونة وإن لم يكن معها محرم؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وابن جبير وابن سيرين والحسن، وقال الحسن: المسلم محرم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

قوله: "فالحجة على ذلك القائل ... " إلى آخره جواب عن السؤال المذكور، وهو ظاهر. وحديث ابن عباس - رضي الله عنه - قد مر في أول الباب. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): ثنا أحمد بن محمَّد الطلمنكي، نا ابن مفرّح، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمَّد بن علي بن زيد الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن أبي مَعْبد، عن ابن عباس، "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - وهو يخطب ... " الحديث كما مرّ، غير أن في لفظه: "إني نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا" عوض قوله: "إني قد اكتتبت في غزوة كذا وكذا". ثم قال: فلم يقل - عليه السلام -: لا تخرج إلى للحج إلَّا معك، ولا نهاها عن الحج، بل ألزم الزوج ترك نذره في الجهاد وألزمه الحج معها، فالفرض في ذلك على الزوج لا عليها. انتهى. قلت: إنما قال ذلك استدلالًا لما ذهب إليه من أن المرأة تحج من غير زوج ومحرم، فإن كان لها زوج يفرض عليه أن يحج معها، وليس كما فهمه؛ بل الحديث في نفس الأمر حجة عليه؛ لأنه لما قال له: "فأخرج معها" و [أمر] (¬2) بالخروج معها، فدل على عدم جواز سفرها إلَّا به أو بمحرم، وإنما ألزمه بترك نذره لتعلق جواز سفرها به. فإن قيل: ظاهر الحديث يدل على أن الزوج أو المحرم إذا امتنع عن الخروج معها في الحج أنه يُجبر على ذلك، ومع هذا فأنتم تقولون: إذا امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج لا يجبر عليه. قلت: فليكن ذلك، فلا يضرنا هذا، وإنما وجدنا إثبات شرطية الزوج أو المحرم مع المرأة إذا أرادت الحج على أن هذا الأمر ليس بأمر إلزام، وإنما نبّه بذلك على أن المرأة لا تسافر إلَّا بزوجها. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 52). (¬2) في "الأصل، ك": "أمر". وما أثبتناه أليق بالسياق

ص: وقد قال قائلٌ: قد رويتم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلَّا مع ذي محرم". وقد رُوي عنه من قوله بعد النبي - عليه السلام - خلاف ذلك، فذكر ما حدثنا علي ابن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، أن نافعًا حدثه: "أنه كان يسافر مع ابن عمر مواليات له ليس معهن ذو محرم". قيل له: ما هذا بخلافٍ لما رويناه عنه، عن النبي - عليه السلام -؛ لأنا لم نرْو عنه عن النبي - عليه السلام - نهيًا أن تسافر المرأة سفرًا -أي سفرٍ كان- إلَّا بمحرم. ولكنا روينا عنه عن النبي - عليه السلام - أنه نهى أن تسافر المرأة سفرًا ثلاثة أيام إلَّا مع ذي محرمٍ، فكان ذلك ناهيًا لها عن السفر الذي مقدار مسافته الثلاث إلَّا بمحرم، ومبيحًا لما هو أقل منه مسافة بغير محرم، فقد يجوز أن يكون السفر الذي كان تسافر معه هؤلاء المُواليات بغير محرم هو السفر الذي لم يدخل فيما نهى عنه، ما رويناه عنه - عليه السلام -. ش: الظاهر أن المراد من هذا القائل هو الشافعي: فإنه أورد هذا على أصحابنا، وهو وجوابه ظاهران. والحديث أخرجه عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي المعروف بعلَّان شيخ أبي عوانة الإسفرايني أيضًا، عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد المصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عمرو بن الحارث المصري روى له الجماعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي المدني نزيل مصر روى له الجماعة، عن نافع مولى ابن عمر. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1) من طريق سعيد بن منصور، نا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 48).

قوله: "مواليات" بضم الميم أي نساء مواليات، من وإلى القوم موالاة، وعقد الموالاة أن يُسلم رجل على يد آخر ويواليه، فيقول له: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني إذا جنيتُ. فيقبل الآخر، فهذا عقد صحيح وكذا لو أسلم على يد رجل ووالى غيره. ص: واحتج آخرون في أباحة السفر للمرأة بغير محرم بما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تسافر بغير محرم. ش: أي احتج جماعة آخرون ممن يرون جواز سفر المرأة بغير محرم كالزهري والبصري بما رُوي عن عائشة زوج النبي - عليه السلام - أنها كانت تسافر بغير محرم، ورُوي عن الحسن أن المسلم محرم. ص: فحدثني بعض أصحابنا، عن محمَّد بن مقاتل الرازي لا أعلمه إلَّا عَنْ حكَّام الرازي، قال: "سألت أبا حنيفة - رضي الله عنه -: هل تسافر المرأة بغير محرم؟ فقال: لا؛ نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا إلَّا ومعها زوجها أو أبوها أو ذو محرم منها". قال حكَّام: فسألت العَرْزَمِي، فقال: لا بأس بذلك، حدثني عطاء: أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تسافر بلا محرم. فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته بذلك، فقال أبو حنيفة: لم يَدْر العرزمي ما رَوَى، كان الناس لعائشة محرمًا فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم، وليس الناس لغيرها من الناس كذلك". ش: هذا جواب عما احتج به هؤلاء الآخرون بما رُوي عن عائشة، فلله درّ أبي حنيفة ما أحسن جوابه في ذلك، ولقد صدق فيه؛ لأن أزواج النبي - عليه السلام - كلهن أمهات للمؤمنين، وهم محارم لهن؛ لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي - عليه السلام - إلى يوم القيامة.

ومحمد بن مقاتل الرازي قاضي الري من أصحاب محمَّد بن الحسن الشيباني من طبقة سليمان بن شعيب الكيساني، قال الذهبي: تُكلم فيه ولم يترك. وحكَّام -بتشديد الكاف- بن سلم الكناني أبو عبد الرحمن الرازي وثقه يحيى وغيره، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. والعرزمي هو محمَّد بن عبيد الله بن أبي سليمان الفزاري الكوفي، فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة. وعن أحمد: ليس بشيء، لا يُكتب حديثه. ويقال: نزل جبانة عَرْزم بالكوفة فنسب إليها. وقال ابن دريد: بنو عَرْزم قوم من البصرة، وهو بتقديم الراء المهملة على الزاي. ص: وكل اللي بينَّا في هذا الباب من منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة إلَّا مع محرم، ومن إباحة ما دون ذلك لها في السفر بغير محرم، ومن أن المرأة لا يجب عليها فرض الحج إلَّا بوجود المحرم مع وجود سائر السبيل الذي يجب بوجودها فرض الحج هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد- رحمهم الله. ش: "وكل الذي" كلام إضافي مبتدأ، وخبره: قوله: "وهو قول أبي حنيفة .. ". و"بيَّنَّا" من التبين، وفي بعض النسخ: "ثبتنا" من التثبيت. قوله: "ومن أن المرأة لا يجب عليها فرض الحج .. " إلى آخره. فيه خلاف، فذكر في "مطامح الأفهام": وأما حج المرأة فلازم لها منعقد وجوبه عليها، واختلف العلماء هل من شرط وجوبه عليها الزوج أو ذو المحرم يطاوعها أم لا؟ فقال مالك والشافعي: ليس ذلك شرط في الوجوب، ولها أن تخرج إذا وجدت رفقة مأمونة، وقد وقع لمالك: أنها إذا كانت لا تجد سبيلًا إلَّا في البحر فلا يلزمها، جملة من غير تفصيل، قال: لأنها عورة.

وقال ابن القاسم: إذا لم تجد ما تركبه وقدرت على المشي؛ لم يلزمها الحج إلَّا أن يكون الموضع قريبًا جدّا كأهل مكة ومن في عملهم. وقد قيل: إن الحج لازم لها إذا قدرت على المشي أو ركوب البحر مع أمان غالب. وقال طاوس والنخعي والشعبي والحسن البصري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأحمد: وجود ذي المحرم ومطاوعته شرط في وجوب الحج عليها، ورأوا أنها لا تحج إلا مع زوج أو ذي محرم. وقال كثير من أهل العلم: إن كان لها زوج، يُفْرَض عليه أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاص، وعليها الحج دونه. انتهى. قلت: وجود الزوج أو المحرم شرط، وليس عليها تحصيل الشرط، فإذا وجد وجب، وإذا عدم لا يجب، ثم نفقة المحرم عليها. وقال الطحاوي: لا يجب عليها شيء. والله أعلم.

ص: باب: المواقيت التي لا ينبغي لمن أراد الإحرام أن يجاوزها إلا محرما

ص: باب: المواقيت التي لا ينبغي لمن أراد الإحرام أن يجاوزها إلا محرمًا ش: أي هذا باب في بيان المواقيت التي لا يجوز مجاوزتها إلَّا محرمًا لمن يريد الحج أو العمرة، وهو جمع ميقات، على وزن مفعال، وأصله: موقات، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، من وَقَّت الشيء يَقِتُه إذا بيّن حده، وكذا وَقَّتَهُ يُوَقِّته، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "وقتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، ولم أسمعه منه، قيل له: فالعراق؟ قال: لم يكن يومئذ عراق". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد؛ عن صدقة بن يسار، قال: سمعت ابن عمر ... فذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "وقت رسول الله - عليه السلام - لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل الشام الجحفة، قال: هؤلاء الثلاث حفظتهن عن رسول الله - عليه السلام -، وحُدِّثت أن رسول الله - عليه السلام - قال: ولأهل اليمن يلملم، فقيل له: العراق؟ قال: لم يكن يومئذ عراق". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 50 رقم 5111).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: "وقت رسول الله - عليه السلام - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم". وأخرجه البزار نحوه. وأخرجه الجماعة أيضًا بأسانيد مختلفة، وألفاظ متباينة. فقال البخاري (¬2): ثنا أحمد بن عيسى، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، سمعت النبي - عليه السلام - يقول: "مُهلّ أهل المدينة ذو الحليفة، ومُهلّ أهل الشام مهيعة وهي الجحفة، وأهل نجد قرن. قال ابن عمر: زعموا أن النبي - عليه السلام - قال -ولم أسمعه-: ومُهل أهل اليمن يلملم". وقال مسلم (¬3): نا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر- قال يحيى: أنا. وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر قال: "أمر رسول الله - عليه السلام - أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن، وقال عبد الله بن عمر: وأُخْبرت أنه قال: ويُهل أهل اليمن من يلملم". وقال أبو داود (¬4): نا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، وثنا أحمد بن يونس قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "وقت رسول الله - عليه السلام - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، وبلغني أنه وقت لأهل اليمن يلملم". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 429 رقم 13575). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 555 رقم 1455). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 840 رقم 1182). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 143 رقم 1737).

وقال الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا قال: من أين نُهلُّ يا رسول الله؟ قال: يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال: ويقولون: أهل اليمن من يلملم". وقال النسائى (¬2): أنا قتيبة، عن مالك، عن نافع عن عبد الله ابن عمر أخبره، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "يُهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله - عليه السلام - قال: ويهل أهل اليمن من يلملم". وقال ابن ماجه (¬3): ثنا أبو مصعب، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - عليه السلام - قال: "يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن. قال عبد الله: أما هذه الثلاثة فقد سمعتها من رسول الله - عليه السلام - وبلغني أن رسول الله - عليه السلام - قال: ويهل أهل اليمن من يلملم". قوله: "وقت" من التوقيت، وهو أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، وكذلك التأقيت، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات، وقد ذكرناه. قوله: "ذا الحليفه" ذو الحليفة: ماء لبني جشم. قال عياض: على سبعة أميال من المدينة. وقال ابن قرقول: ستة. وقال البكري: هي تصغير حلفة، وأما ذو الحليفة التي في حديث رافع بن خديج: "كنا مع النبي - عليه السلام - بذي الحليفة من تهامة، فأصَبْنا نهب غنم" قال ياقوت: فهو موضع بين حاذة وذات عرق من تهامة، وليس بذي الحليفة التي قرب المدينة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 193 رقم 831). (¬2) "المجتبى" (5/ 122 رقم 2651). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 872 رقم 2914).

وقال ابن حزم: لمن جاء من جميع البلاد على طريق المدينة، أو كان من أهل المدينة: ذو الحليفة وهو من المدينة على أربعة أميال، وهو من مكة على مائتي ميل غير ميلين. وقال الكرماني في "مناسكه": بينها وبين المدينة ميل أو ميلان، والميل ثلث فرسخ، وهو أربعة آلاف ذراع، ومنها إلى مكة عشر مراحل. وفي موضع آخر: من مدينة رسول الله - عليه السلام - إلى ذي الحليفة -وهي السمرة ومنها يحرم أهل المدينة- خمسة أميال ونصف، مكتوب على الميل الذي وراءها قريب من ستة أميال من البريد، ومن هذا البريد أهلَّ سيدنا رسول الله - عليه السلام -، وبذي الحليفة عدة آبار ومَسْجدان لرسول الله - عليه السلام -، المسجد الكبير الذي يحرم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد المعرس. وقال ابن التين: هي أبعد المواقيت من مكة تعظيمًا لأجر النبي - عليه السلام -. قوله: "الجُحْفَة" بضم الجيم وسكون الحاء المهملة قال أبو عُبيد: هي قرية جامعة بها منبر، بينها وبين البحر نحو ستة أميال وغديرخم على ثلاثة أميال منها وهي ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب، وهي على ثلاث مراحل من مكة أو أكثر، وعلى ثمانية مراحل من المدينة، سميت بذلك لأن السهول أجَحْفت بما حولها. وقال الكلبي: أخرجت العماليق بني عبيل -وهم أخوة عاد- من يثرب فنزلوا الجحفة وكان اسمها مَهْيعة، فجاءهم السَيْل فاجتحفهم فسميت الجحفة. وفي كتاب "أسماء البلدان": لأن سَيْل الجحاف نزل بها فذهب بكثير من الحاج وبأمتعة الناس ورحالهم، فمن ذلك سميت الجحفة. وقال أبو عُبيد: وقد سماها رسول الله - عليه السلام - مَهْيعة، بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء آخر الحروف والعين المهملة. وقال القرطبي: قال بعضهم: بكسر الهاء.

وقال ابن حزم: الجُحفة: ما بين الغرب والشمال من مكة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلًا. قوله: "ولأهل نجد قرن" النجد في اللغة ما أشرف من الأرض واستوى، ويجمع على أنجد وأنجاد ونجود ونُجُد بضمتين. وقال القزاز: سمي نجد لعُلوه. وقيل: سمي بذلك لصلابة أرضه وكثرة حجارته وصعوبته، من قولهم: رجل نجد: إذا كان قويًّا شديدًا، وقيل: سمي نجدًا لفزع من يدخله من أجل استيحاشه واتصال فزع السالكين له من قولهم: رجل نَجَدٌ. إذا كان فزعًا، ونجدٌ مذكرٌ، قال الشاعر: ألم تر أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد النطاق به بردًا ولو أنثه أحد ورده على البلد لجاز له ذلك. والعرب تقول: نَجدٌ ونُجدٌ -بفتح النون وضمها لغتان- وقال الكلبي في "أسماء البلدان": النجد ما بين الحجاز إلى الشام إلى العُذيب إلى الطائف، فالطائف من نجد، والمدينة من نجد، وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان. وقال أبو عمر: نجد ما بين جُرَش إلى سواد الكوفة، وحَدّه مما يلي الغرب: الحجاز، وعن يسار الكعبة اليمن، ونجد كلها من عمل اليمامة. وقال ابن الأثير: نجدٌ ما بين العذيب إلى ذات عرق وإلى اليمامة وإلى جبلي طيء وإلى وَجْدَة وإلى اليمن، والمدينة لا تهاميه ولا نجدية، فإنها فوق الغور، ودون نجد. وقال الحازمي: نجدٌ اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن والعراق والشام. وقال السكري: حد نجدٍ ذات عرق من ناحية الجبال كما تدور الجبال معها إلى جبال المدينة، وما وراء ذلك ذات عرق إلى تهامة.

وقال القتيبي: ثنا الرياشي، عن الأصمعي قال: العرب تقول: إذا علوت نجدًا مصعدًا فقد نجدت ولا تزال منجدًا حتى تنحدر في ثنايا ذات عرق، فإذا فعلت ذلك فقد أَتْهَمْتَ إلى البحر، فإذا عرض لك الحِرارُ وأنت تنجد فتلك الحجاز. وقال ياقوت: نجد تسعة مواضع، ونجد المشهورة فيها اختلاف كثير، والأكثر أنها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام. وقال الخطابي: نجد ناحية المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها. وذكر في "المنتهى": نجدٌ من بلاد العرب وهو خلاف الغور أعلى تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. وقال أبو عُبيد البكري، عن الكلبي: نجدٌ ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب، والطائف من نجد، والمدينة من نجد. وقال في أوضع آخر: ونجد كلها من عمل اليمامة. وقال عمارة بن عقيل: ما سال من ذات عرق مقبلًا فهو نجدٌ، وحذاء نجدٍ أسافل الحجاز. قال: وسمعت الباهلي يقول: كل ما وراء الخندق -خندق كسرى الذي خندقه على سواد العراق- فهو نجد إلى أن يميل إلى الحرّة، فإذا أملت إلى الحرة فأنت في الحجاز حتى تغور. وعن الأصمعي: ما ارتفع من بطن الرّمة فهو نجدٌ إلى ثنايا ذات عرق، والشَرفُ كبدُ نجدٍ، وكانت منازل الملوك من بني آكل المرار، وفيه اليوم حِمَى ضرية، وفيه الرَّبذَةُ وما كان منه إلى الشرق فهو نجد. وأما "قرن" فذكر ابن حزم أن من جاء على طريق نجد من جميع البلاد فميقاته قرن المنازل، وهو شرف مكة شرفها الله، ومنه إلى مكة اثنان وأربعون ميلًا.

وقال ابن قرقول: هو قرن المنازل، وقرن الثعالب، وقرن غير مضاف، وهو على يومٍ وليلة من مكة. وقال القابسي: من قال قرْن بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفرق منه فإنه موضع فيه طرق مفترقة. وقال ابن الأثير في "شرح المسند": وكثيرًا ما يجيء في ألفاظ الفقهاء وغيرهم بفتحها وليس صحيح. وقال الجوهري: قرن موضع وهو ميقات أهل نجد ومنه أُوَيس القرني - رضي الله عنه -. والذي يقوله المؤرخون والنَّسابون أن قرنًا بسكون الراء، ونسب أُوَيس بفتح الراء اسم قبيلة لامكان. قوله: "يلملم" بياء آخر الحروف مفتوحة ولام، وقال عياض: ويقال: الملم وهو الأصل والياء بدل منه، على ميلين من مكة، وهو جبل من جبال تهامة. وقال ابن حزم: هو جنوب مكة ومنه إلى مكة ثلاثون ميلًا. وفي "شرح المهذب": يُصرف ولا يصرف. وفي "المحكم": يَلَمْلم والملمم: جبلٌ. وقال البكري: أهله كنانة، وتنحدر أوديته إلى البحر، وهو في طريق اليمن إلى مكة، وهو من كبار جبال تهامة. وقال الزمخشري: هو وادٍ به مسجد رسول الله - عليه السلام - وبه عسكرت هوازن يوم حنين. فإن قيل: ما وزنه؟ قلت: فَعَيْعَل كَصَمَحْمَح، وليس هو من لملمت؛ لأن ذوات الأربع لا تلحقها الزيادة في أولها إلَّا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مُدَحرج.

قلت: فعلى هذا الميم الأولى واللام الثانية زائدتان، ولهذا قال الجوهري في باب الميم وفصل الياء: يلم ثم قال: يلملم لغة في الملم، وهو ميقات أهل اليمن. قوله: "قيل له: فالعراق" اعلم أن العراق في اللغة هو الذي يجعل على ملتقى طرفي الجلد إذا خُرِز في أسفل القربة، وبه سُمي العراق لأنه بين البر والريف، وعن ابن دريد: زعموا أن العراق سميت عراقًا لتواشيح عروق الشجر والنخل فيها، كأنه أراد عرقًا ثم جمع عراقًا، وقال: بل سميت عراقًا لأن العجم سمته إيران شهر ومعناه كثيرة النخل والشجر فقيل: عراق. وقال الجواليقي: هذا اللفظ بعيد من لفظ العراق. وعن ابن الأنباري: العراق مذكر. وعن صاحب "العين": العراق شاطئ البحر على طوله، وبه سميت العراق عرافًا لأنه شاطئ دجلة والفرات حتى يتصل بالبحر. وعن أبي عمرو عن الخزاعي: عراق البحر، العراق: شاطئ الماء، وخص بعضهم به شاطئ البحر، والجمع أعرقة وعروق، والعراقان: الكوفة والبصرة. وقال الكلبي: أسفل كل أرض عراقها. وفي "الجامع": سمي بالعراق لانخفاضه عن البحر، وقيل: هو جمع عرق لضرب من الطير المصطف، وقيل: العراق الواحد منه عرق، وهي مواضع سُمّي هذا المكان بها. وقال الجوهري: العراق بلاد تُذكَّر وتؤنث، ويقال: هو فارسي معرب. وفي "البارع" لأبي علي القالي: العراق ما يحيط بالظهر من اللحم، مثل الخثار، يعني: وبه سمي العراق. وفي "الزاهر" لابن الأنباري عن قطرب: إنما سمي عراقًا لأنه دنى من البحر وفيه سباخ وشجر.

وقال ابن حوقل في كتاب "البلدان": حدُّ العراق من تكريت إلى عبادان، وعرضه من القادسية على الكوفة وبغداد إلى حلوان، وعرضه بنواحي واسط من سواد واسط إلى قرية، الطيب، وبنواحي البصرة من البصرة إلى حدود طيء، والذي يطيف بحدوده من تكريت فيما يلي المشرق حتى يجوز بحدود شهرزور، ثم يمرّ علي حدود حلوان وحدود السيرون والصيمرة، والطيب والسوس حتى ينتهي إلى حدود طيء ثم إلى البحر فيكون في هذا الحد من تكريت إلى البحر تقويس، ويرجع على حد المغرب من وراء البصرة في البادية على سواد البصرة وبطاحها إلى واسط، ثم على سواد الكوفة وبطاحها إلى الكوفة، ثم على ظهر الفرات إلى الأنبار ثم من الأنبار إلى حد تكريت بين دجلة والفرات من هذا الحد من البحر على الأنبار إلى تكريت بتقويسٍ أيضًا فهذا المحيط بحدود عراق، وهو من تكريت إلى البحر ما يلي المشرق على تقويسة نحو شهر، ومن البحر راجعًا في حد المغرب على تقويسة إلى تكريت فنحو شهر أيضًا، وعرضه على بغداد من حلوان إلى القادسية إحدى عشرة مرحلة، وعلى قمئة سُرَّ مَنْ رأَى من دجلة إلى شهرزور، والجبل نحو خمس مراحل، والعرض بواسط إلى، نواحي خورستان نحو أربع مراحل. وأما ذات عرق فقال القرطبي: ذات عرق: ثنية أو هضبة بينها وبين مكة يومان وبعض يوم. وقال الكرماني: ذات عرق أول بلاد تهامة ودونها بميلين ونصف مسجد رسول الله - عليه السلام - فإذا صوت عند الميل الثامن رأيت هناك بيوتا في الجبل خراب وهي للأعراب يمنة عن الطريق، ويقال: إنه هذا الموضع ذات عرق الجاهلية، وأهل ذات عرق يقولون: الجبل كله ذات عرق وبعض أهل العلم كان يقول: يُحْرِم من ذات عرق الجاهلية، وذات عرق لبني هلال بن عامر بن صعصعة، وبها بركة تعرف بقصر الوصيف، وبها من الآبار الكبار ثلاثة آبار، وآبار صغار كثيرة، ومن ذات عرق إلى الغمر تسعة أميال، وعلى ميلين من ذات عرق عين وآبار ونخل، وبقربه قبر أبي رغال، وبالقرب منها بستان منه إلى مكة ثمانية عشر ميلًا.

وقال ياقوت: هو الحد بين نجد وتهامة. وقال الزمخشري: عرق: جبل مشرف على ذات عرق. وقال الجوهري: ذات عرق: موضع بالبادية. وعن يعقوب: ما بين ذات عرق إلى البحر غور وتهامة، وطرق تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، وأولها من قبل نجد مدارج ذات عرق. فإن قيل: كيف وقّتَ النبي - عليه السلام - هذه المواقيت وهذه المواضع وما وراءها كانت دار كفر؟ قلت: هذا لا يمشي إلَّا في ذات عرق، فإن الآثار اختلف فيمن وقت لأهل العراق ذات عرق؛ ففي بعضها أن عمر بن الخطاب هو الذي وقَّت ذلك، إذ العراق فتح في زمانه، والصحيح الذي عليه الأثبات: أن النبي - عليه السلام - هو الذي وقته. وفي "صحيح البخاري" (¬1): أن عمر وقَّته، ورجحه بعض أهل العلم بما ذكرناه من أنها فتحت في زمانه وأنها كانت في حياة النبي - عليه السلام -[دار] (¬2) كفر وهذا الاحتجاج باطل لأن الشام كانت حينئذٍ دار كفر أيضًا بإجماع النقلة، وإنما وقت النبي - عليه السلام - هذه المواقيت على حسب ما علمه بالوحي من فتح المدائن والأقطار لأمته، وقد قال - عليه السلام -: "زويت له الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ... " الحديث. وسيجيء كلام الطحاوي فيه مستقصىً إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن أهل العراق لا وقت لهم كوقت سائر البلدان، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: كذلك سائر الأحاديث الأُخر المروية عن النبي - عليه السلام - في ذكر مواقيت الإحرام ليس في شيء منها للعراق ذكر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان وابن سيرين وجابر بن زيد؛ فإنهم قالوا: أهل العراق لا وقت لهم كوقت سائر البلدان، واستدلوا على ذلك بالحديث ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 556 رقم 1458). (¬2) في "الأصل، ك": "ذات". وما أثبتناه هو الصواب.

المذكور؛ لأنه لم يذكر ففيه العراق، وقالوا: أهل العراق يُهلُّون من الميقات الذي يأتون عليه من هذه المواقيت المذكورة. وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على القول بظاهر حديث ابن عمر، واختلفوا فيما يفعل من مرَّ بذات عرق، فثبت أن عمر - رضي الله عنه - وقّته لأهل العراق، ولا يثبت فيه عن النبي - عليه السلام - سنة. انتهى. قلت: قد بيّنا عن قريب أن الصحيح هو الذي وقّته النبي - عليه السلام -، كذا ذكره في "مطامح الأفهام". ثم قال ابن المنذر: اختلفوا في المكان الذي يحرم [منه] (¬1) من أتى من العراق على ذات عرق؛ فقال أنس - رضي الله عنه -: "يحرم من العقيق" واستحسن ذلك الشافعي، وكان مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق. قال أبو بكر: الإحرام من ذات عرق تحري، وهو من العقيق أحوط، وقد كان الحسن بن صالح يحرم من الربذة، ورُوي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن. وقال أبو عمر في "التمهيد": اختلفوا في ميقات أهل العراق؛ فقال مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابهم: ميقات أهل العراق وناحية المشرق كلها ذات عرق. وقال الثوري والشافعي: إن أهلوا من العقيق فهو أحب إلينا. ص: ثم ذكروا في ذلك ما حدثنا يونس وربيع المؤذن، قالا: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وهيب بن خالد وحماد بن زيد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن رسول الله - عليه السلام - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، ثم قال: فهي لهم ولكل من أتى عليهن من غيرهن، فمن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك [على] (¬2) أهل مكة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا جعفر بن برقان، قال: "سألت عمرو بن دينار عن أمرأةٍ حاجَّةٍ مرت بالمدينة فأتت ذا الحليفة وهي حائض، فقال لها كَرِيُّها: لو تقدمت إلى الجحفة فأحرمت منها فقال عمرو: نعم". حدثنا طاوس -ولا نحسبن فينا أحدًا أصدق لهجة من طاوس- قال: قال ابن عباس: "وقّت رسول الله - عليه السلام - ... " ثم ذكر مثله إلَّا أنه لم يذكر من قوله: "فمن كان أهله ... " إلى آخر الحديث. قالوا: فكذلك أهل العراق ما أتوا عليه من هذه المواقيت فهو وقت لهم، وما سواها فليس بوقتٍ لهم. ش: أي ثم ذكر هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من أن أهل العراق لا وقت لهم كوقت سائر البلدان بما حدثنا ... إلى آخره. وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى وربيع بن سليمان المؤذن، كلاهما عن يحيى بن حسان .. إلى آخره، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا ربيع بن سليمان صاحب الشافعي، قال: ثنا يحيى بن حسان ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه ... إلى آخره نحوه. والبخاري (¬3): عن معلى بن أسد، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس .. إلى آخره نحوه. غير أن في لفظهما: "فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 124 رقم 2654). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 839 رقم 1181). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 555 رقم 1457).

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن كثير بن هشام الكلابي الرقي شيخ أحمد، عن جعفر بن برقان الكلابي الجزري، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه الطبراني (¬1) نحوه، عن فضيل الملطي، عن أبي نعيم، ثنا جَعْفر، ثنا عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رفعه، وفي روايته: "ولأهل الطائف قرنًا" انتهى وبقول عمرو بن دينار قالت جماعة من المالكية. قوله: "فهي لهم" أي الأماكن المذكورة مواقيت لأهل المدينة والشام والنجد واليمن حتى إذا جاوزوا هذه الأماكن من غير إحرام يجب عليهم الدم. وقال أبو عمر: اختلفوا في مَنْ جاوز الميقات وهو يريد الإحرام فأحرم ثم رجع إلى الميقات، فقال مالك: عليه دم ولا ينفعه رجوعه. وهو قول أبي حنيفة وعبد الله ابن المبارك، وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد: إن رجع إلى الميقات فقد سقط عنه الدم. لبَّى أو لم يُلب. ورُوي عن أبي حنيفة أنه إن رجع إلى الميقات فلبى، سقط عنه الدم، وإن لم يُلب لم يسقط عنه الدم، وكلهم يقول: إن لم يرجع وتمادى فعليه دم. ورُوي عن عطاء والنخعي أنه لا شيء على من ترك الميقات، وعن سعيد بن جبير: إن لم يرجع حتى قضى حجه فلا حج له. وعن الحسن البصري: إن لم يرجع حتى حج وتم حجه، رجع إلى الميقات فأهل منه بعمرة. فهذه الأقاويل الثلاثة شذوذ ضعيفة عند فقهاء الأمصار؛ لأنها لا أصل لها في الآثار، ولا تصح في النظر، واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (5/ 165 رقم 4960).

وأبو ثور على أن مَنْ مرّ بالميقات لا يريد حجًّا ولا عمرةً ثم بدا له في الحج والعمرة: أنه يحرم من الموضع الذي بدا له منه الحج، ولا يرجع إلى الميقات، ولا شيء عليه. وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات ويحرم منه. وقال أيضًا: واختلف الفقهاء في الرجل المريد للحج والعمرة يجاوز ميقات بلده إلى ميقات آخر. فتحصيل مذهب مالك: أن من فعل ذلك فعليه دم، واختلف أصحاب مالك في ذلك؛ فمنهم من أوجب الدم فيه، ومنهم من أسقطه، وأصحاب الشافعي على إيجاب الدم في ذلك، وهو قول الثوري والليث. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو أحرم المدني من ميقاته كان أحبّ إليهم، فإن لم يفعل وأحرم من الجحفة، فلا شيء عليه، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور، وكره أحمد وإسحاق مجاوزة ذي الحليفة إلى الجحفة، ولم يوجبا الدم في ذلك. قوله: "ولكل من أتى عليهن" أي على الأماكن المذكورة، وفي بعض النسخ: "ولكل آتٍ أترل عليهن" كما في رواية غيره. وقال القرطبي: "هن" ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل، وقد يُعاد على ما لا يعقل، وأكثر ذلك من العشرة فما دونها، فإذا جاوزها قالوه بهاء المؤنث كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (¬1). ثم قال: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (1) أي من الإثنى عشر، ثم قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (1) أي في هذه الأربعة. وقد قيل: في الجميع. وهو ضعيف شاذ. قوله: "فمن كان أهله دون الميقات" أراد أنه إذا كان وطنه بين الميقات وبين مكة فميقاته للإحرام من حيث ينشئ الإحرام، أي من حيث يبتدئ ويشرع فيه. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [36].

قال أبو عمر: أجمعوا كلهم على أن من كان أهله دون المواقيت أن ميقاته من أهله حتى يبلغ مكة. وفي هذه المسألة أيضًا قولان شاذان: أحدهما لأبي حنيفة: قال: يحرم من موضعه، فإن لم يفعل فلا يدخل الحرم إلا حرامًا، فإن دخل غير حرام فليخرج من الحرم، وليهل من حيثما شاء من الحل. والقول الآخر لمجاهد: قال: إذا كان الرجل منزله بين مكة والميقات أهلَّ من مكة. قوله: "قال لها كَرِيُّها" بفتح الكاف وكسر الراء وتشديد الياء، وهو المكتري. ص: وذكروا في ذلك أيضًا ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن، قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله - عليه السلام - قال: ويُهل أهل اليمن من يلملم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة. وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام -. وقال سفيان: عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "وقّت رسولُ الله - عليه السلام - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - عليه السلام - نحوه. ش: أي [ذكر] (¬1) هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر أيضًا. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، إلى" ولعل الصواب: احتج، أو استدل.

وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. وأخرجه البخاري (¬1)، عن أحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن يونس ... وقد ذكرناه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬3) أيضًا، عن محمد بن عبد الله، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن نافع، عن ابن عمر ... نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (1)، عن يحيى بن يحيى وآخرين، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره نحوه، وقد ذكرناه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ميقات أهل العراق ذات عرق، وَقَّت في ذلك لهم رسول الله - عليه السلام - كما وقَّت سائر المواقيت لأهلها، وذكروا في ذلك ما حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: ثنا خالد بن يزيد، وهشام بن بهرام المدائني، قالا: ثنا المعاني بن عمران، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة: "أن النبي - عليه السلام - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "مسند أحمد" (2/ 46 رقم 5059). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 50 رقم 5111).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأصحابهم، وجمهور العلماء من التابعين ومَنْ بعدهم، فإنهم قالوا: ميقات أهل العراق ذات عرق، إلَّا أن الشافعي استحب أن يحرم العراقي من العقيق الذي بحذاء ذات عرق، وقد مر تفسير ذات العرق والعقيق مستقصىً، وذكروا في ذلك حديث عائشة وأخرجه بإسناد صحيح عن محمَّد بن علي بن محرز البغدادي وثقه ابن يونس، عن خالد ابن يزيد ويقال ابن أبي يزيد -وهو الصواب- أبي الهيثم المزرفي القرني القطربلي من قرية بين المَزْرفة وقطربل تسمى القرن، قال يحيى بن معين: ليس به بأس، وروى له ابن ماجه. وعن هشام بن بَهْرام المدائني أبي محمَّد شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان والخطيب، كلاهما [عن] (¬1) المعاني بن عمران الأزدي أبي مسعود الموصلي قال ابن معين والعجلي وابن سعد: ثقة، زاد ابن سعد: خيّر فاضل صاحب سنة. روى له البخاري وأبو داود. عن أفلح بن حميد بن نافع الأنصاري النجاري المدني، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، روى له الجماعة، عن عائشة الصديقة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬2): قال: ثنا هشام بن بَهْرام المدائني، قال ثنا المُعَافى بن عمران ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "وقت لأهل العراق ذات عرق". وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن منصور، قال: ثنا هشام بن بهرام، قال: ثنا المعافي ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وفيه نصَّ على أن النبي - عليه السلام - وقت لأهل العراق ذات عرق. ¬

_ (¬1) تكررت "بالأصل، ك". (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 143 رقم 1739). (¬3) "المجتبى" (5/ 123 - 124 رقم 2653).

وقال أبو عمر: وقّت رسول الله - عليه السلام - لأهل العراق ذات عرق كما وقّت لأهل الشام الجحفة، والشام يومئذ كلها دار كفر كما كانت العراق كذلك وغيرهما من البلدان. وقال عياض: وفي حديث جابر: قال أبو الزبير: أحسبُه رفع إلى النبي - عليه السلام - ... وذكر الحديث، وفيه: "مُهلّ أهل العراق ذات عرق". وقال الدارقطني: وفي حديث أبي الزبير: "ومُهلّ أهل العراق" نظر، ولم يخرجه البخاري -رحمه الله-: يعني هذا الحديث، ولم يكن العراق يومئذ يعني زمن النبي - عليه السلام -. قال القاضي: هذا مما لا يعل به الحديث؛ فقد أخبر النبي - عليه السلام - عما لم يكن في زمانه مما كان وهذا يعد من معجزاته - عليه السلام - فإنه أخبر أنه سيكون لهم مُهَلّ ويسلمون ويحجون. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: وأخبرني أبو الزبير، عن جابر، أنه سمعه يُسأل عن المهل، فقال: سمعت -ثم انتهى أراه يريد- النبى - عليه السلام -: "يُهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر من الجحفة، ويهل أهل العراق من ذات عرق، ويهل أهل نجد من قرن، ويهل أهل اليمن من يلملم". ش: إسناده صحيح، وعثمان بن الهيثم بن يهم أبو عمرو البصري شيخ البخاري، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي روى له الجماعة، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمَّد بن حاتم وعبد بن حميد، كلاهما عن محمَّد بن بكر -قال عبدٌ: أنا محمَّد- قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المهل، فقال: أحسبه رفع إلى النبي - عليه السلام - فقال: "مهل ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 841 رقم 1183).

أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم". وأخرجه ابن ماجه (¬1) من غير شك، قال: ثنا علي بن محمَّد، ثنا وكيع، ثنا إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "خطبنا رسول الله - عليه السلام - فقال: مُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ومهل أهل الشام من الجحفة، ومهل أهل اليمن من يلملم، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل المشرق من ذات عرق، ثم أقبل بوجهه للأفق ثم قال: اللهم أقبل بقلوبهم". قلت: إبراهيم بن يزيد الخوزي فيه كلام. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عنه قال: سمعت النبي - عليه السلام - يقول ... الحديث. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال ثنا حفص -هو ابن غياث- عن الحجاج، عن عطاء، عن جابر قال: "وقّت رسول الله - عليه السلام - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل العراق ذات عرق". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن فهد، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن حفص بن غياث، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء بن أبي رباح .. إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، ثنا حفص، ونا يوسف بن يَعْقوب الأزرق، نا حميد بن الربيع، نا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن عطاء، عن جابر قال: "وقّت رسول الله - عليه السلام - لأهل العراق ذات عرق". ص: حدثنا (¬3) يحيى بن عثمان وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا سعيد بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 972 رقم 2915). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 235 رقم 1). (¬3) ليست في "الأصل، إلى"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أبي مريم، قال: أخبرني إبراهيم بن سُويد، قال: حدثني هلال بن زيد، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل البصرة ذات العرق، ولأهل المدائن العقيق". ش: يحيى بن عثمان بن صالح أبو زكرياء المصري شيخ ابن ماجه والطبراني. وسعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، وإبراهيم بن سويد بن الحيان المديني روى له البخاري وأبو داود. وهلال بن زيد بن يسار بن بولا البصري أبو عقال مولى النبي - عليه السلام -، ويقال: مولى أنس بن مالك، قال البخاري: في حديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، روى له ابن ماجه. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1) ثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا إبراهيم بن سُويَد، حدثني هلال بن زيد بن يسار، نا أنس بن مالك: "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - وقت لأهل المدائن العقيق، ولأهل البصرة ذات عرق، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة". قوله: "ولأهل المدائن (¬2) العقيق" المدائن على دجلة من شرقيها تحت بغداد على مرحلة منها، وهي في الأصل جمع مدينة، وكان اسمها بالفارسية طَيْسَفُون، وفيها إيوان كسرى، كانت وَسَعتُها من ركن إلى ركن خمسة وتسعون ذراعًا، والمراد بالعقيق: الذي بحذاء ذات عرق، وقد استقصَيْنا الكلام فيه في باب: الرجل يصبح في شهر رمضان جنبًا هل يصوم أم لا؟ ص: فقد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - بهذه الآثار مَنْ وَقَّتَ أهل العراق كما ثبت من وَقَّت مَنْ سواهم بالآثار التي قبلها. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 250 رقم 721) (¬2) في "الأصل، ك": "مدائن" بدون ألف ولام في أوله، والكلمة في المتن معرفة بلألف واللام.

ش: أشار بهذه الآثار إلى ما رواه عن عائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. ص: وهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فقد روى عن النبى - عليه السلام - من توقيت ما قد ذكرناه عنه في الفصل الذي قبل هذا، ثم قال عبد الله بن عمر من بَعْد النبي - عليه السلام - في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر: "أن النبي - عليه السلام - وَقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل الطائف قرن". قال ابن عمر: وقال الناس: لأهل المشرق ذات عرق". فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - يخبر أن الناس قد قالوا ذلك، ولا يُريد ابن عمر من الناس إلَّا أهل الحجة والعلم بالسنة، ومحالٌ أن يكونوا قد قالوا ذلك بآرائهم؛ لأن هذا ليس مما يقال من جهة الرأي، ولكنهم قالوا بما وقفهم عليه رسول الله - عليه السلام -. ش: ذكر هذا تأييدًا للآثار المذكورة، وذلك لأن ابن عمر قد روى عن النبي - عليه السلام - أنه وقت لأهل المدينة، ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، قال: ولم أسمعه منه. قيل له: فالعراق. قال: لم يكن يومئذ عراق، ثم قال: بعد وفاة النبي - عليه السلام -، قال الناس: لأهل المشرق ذات عرق، وأخبر أن الناس قد قالوا بذلك، وما الناس عنده إلَّا أهل الحجة وأهل العلم بسنة النبي - عليه السلام -، ومن المستحيل أن يقولوا هذا القول بآرائهم؛ لأن هذا الباب لا يدخله الرأي ولا للعقل فيه مدخل، وإنما قالوا ذلك بالتوقيف من جهة النبي - عليه السلام -. ثم إنه أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة، شيخ البخاري في أفعال العباد، وابن ماجه، عن يحيى: ثقة، وعن أبي حاتم: ضعيف الحديث، وقال أبو زرعة: كان صدوقًا في الحديث، وقال البخاري: لم نر إلَّا خيرًا وهو في الأصل صدوق، وهو يروي عن وكيع.

عن جعفر بن برقان ثقة. عن ميمون بن مهران الأسدي الجزري، روى له مسلم والأربعة. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬1): عن فضل الملطي، ثنا أبو نعيم، نا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه. واعلم أنه أخرج في كون الميقات لأهل العراق ذات عرق حديث عائشة وجابر وأنس وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - في الباب عن ابن عباس والحارث بن عمرو السهمي، وعمرو بن العاص. أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أبو كريب، نا وكيع، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن محمَّد بن علي، عن ابن عباس: "أن النبي - عليه السلام - وقّت لأهل المشرق العقيق" وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه البيهقي (¬3) وقال: تفرد به يزيد بن أبي زياد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4) وفي روايته: "ولأهل العراق ذات عرق". وأخرجه الحارث بن أبي أسامة أيضًا في "مسنده" عن يزيد بن هارون، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عنه فذكر الطائف والعراق. وأما حديث الحارث بن عمرو فأخرجه أبو داود (¬5)، ثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عتبة بن عبد الملك، قال: حدثني زرارة بن كريم، أن الحارث بن عمرو السهمي حدَّثه، قال: "أتيتُ النبي - عليه السلام - وهو بمنى -أو بعرفات- وقد أطاف به الناس، قال: فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقت ذات عرق لأهل العراق". ¬

_ (¬1) "المعجم الأوسط" (5/ 165 رقم 4958). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 193 رقم 832). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 28 رقم 8700). (¬4) "مسند أحمد" (1/ 344 رقم 3205). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 144 رقم 1742).

وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسين ابن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا عبد الله بن نمير، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه السلام -: "أنه وقّت لأهل العراق ذات عرق". وأخرجه الطبراني أيضًا (¬2). ص: فقال قائل: وكيف يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - وقت لأهل العراق يومئذٍ ما وقت، والعراق إنما كانت بعده عليه السلام؟! قيل له: كما وقّت لأهل الشام ما وقت والشام إنما افتتحت بعده - عليه السلام -، فإن كان يريد بما وقت لأهل الشام مَنْ كان في الناحية التي افتتحت حينئذٍ من قبل الشام، فكذلك يريد بما وقت لأهل العراق من كان في الناحية التي افتتحت حينئذٍ من قبل العراق مثل جبلي طيء ونواحيها، وإن كان ما وقّت لأهل الشام إنما هو لما علم بالوحي أن الشام ستكون دار إسلام، فكذلك ما وقّت لأهل العراق إنما هو لما علم بالوحي أن العراق ستكون دار إسلام، فإنه قد كان - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما سيفعله أهل العراق في زكاتهم مع ذكره ما سيفعله أهل الشام في زكاتهم. حدثنا علي بن عبد العزيز البغدادي، قال: ثنا أحمد بن يونس. وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظى. وحدثنا فهدٌ قال: ثنا أبو غسان، قالوا: ثنا زهير بن معاوية، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -]، (¬3): "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مُدَّيها ودينارها، ومنعت مصر ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 236 رقم 3). (¬2) وأخرجه أيضًا الإِمام أحمد في "مسنده" (2/ 181 رقم 6697)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 28 رقم 8668). (¬3) في "الأصل، ك": "صلى الله عليه السلام".

أردبها ودينارها، (وعدتم كما بدأتم، وعدتم كما بدأتم) (¬1) شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه". يريد بعضهم على بعض في قصة الحديث، فهذا رسول الله - عليه السلام - قد ذكر ما سيفعله أهل العراق من منع الزكاة قبل أن يكون عراق، وذكر مثل ذلك في الشام وأهل مصر قبل أن يكون الشام ومصر، لما أعلمه الله تعالى من كونهما بعده، فكذلك ما ذكره من التوقيت لأهل العراق مع ذكره التوقيت لغيرهم المذكورين، هو لما أخبره الله أنه سيكون من بعده، وهذا الذي ذكرناه من تثبيت هذه المواقيت التي وصفنا لأهل العراق ولمَنْ ذكرنا معهم هو قول أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد -رحمهم الله -. ش: هذا السؤال وجوابه ظاهران، وقد ذكرنا نبذة عنه في هذا الباب. قوله: "والشام إنما افتتحت" الواو فيه للحال، وفتحت الشام في سنة اثنتي عشرة من الهجرة. قوله: "فإن كان يريد" أي هذا القائل. قوله: "مثل جبلي طئ" أحد الجبلين سُمّي أَجَأَ على وزن فَعَلَ بالتحريك، والآخر يُسمى سلمى، وأما طيء فقد قال الجوهري: هو أبو قبيلة من اليمن، وهو طيء بن أدد بن كهلان بن سبأ بن حمير، والنسبة إليه طائي على غير قياس، وأصله طيئي مثال طبيعي، فقلبوا الياء ألِفًا وحذفوا الثانية، وقال: الطاءة مثل الطاعة: الإبعاد في المرعى، يقال: فرس بعيد الطاءة، قالوا: ومنه أخذ طَئِّ مثال سيد. وقال الرشاطي في الأنساب": الطائي في كهلان ينسب إلى طيء واسمه جلهمة ابن أدد، وحكى ابن دريد عن الخليل بن أحمد قال: أصل طيء من طاوي وواو وياء، فقلبوا الواو ياء فصارت ياء ثقيلة، وكان ابن الكلبي يقول: سُمي طيئًا لأنه أول من طوى المناهل، وقال قطرب: هو فيعل بهمزة لاجتماع الياءان. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" تكررت مرتين فقط وفي "شرح معاني الآثار" ومصادر تخريج الحديث، تكررت ثلاث مرات.

وقال السيرافي: ذكر بعض النحويين أن طيئًا من الطاءة وهو الذهاب في الأرض وفي المرعى، وإلى هذا القول ذهب أبو الحسن بن سيده، وقال: ليس هذا القول بشيء لأن طوى طيًّا لا أصل له من الهمزة. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن عبد العزيز البغدادي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد بن يعيش، وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لعبيد- ثنا يحيى بن آدم بن سليمان مولى خالد بن خلاد، قال: ثنا زهير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية .. إلى آخره. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النَهْدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية .... إلى آخره. قوله: "منعت العراق درهمها وقفيزها" قيل: معناه أنهم يُسلمون فيسقط عنهم الخراج، وقيل: معناه أنهم يرجعون عن الطاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا قال: "وعدتم من حيث بدأتم" أي ورجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2220 رقم 2896).

كما ثبت في "صحيح مسلم" (¬1): "إن الإِسلام بدأ غريبا وسيعود غريبًا، فطوبي للغرباء". ورجح البيهقي المعنى الأول. وقيل: معناه أنه إخبار عن حالها حينئذ؛ لأن خراجها ومنافعها لم تصل إليه. وقيل: إن أهلها اقتصروا على أنفسهم ومنعوا الميرة. و"القفيز" مكيال يتواضع الناس عليه، وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك، والمكوك المد، وقيل: الصالح، ويقال: المكوك اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلد. و"المد" ربع الصاع، وهو رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق، وقد مرّ الكلام فيه في باب: صدقة الفطر. و"الأردب" مكيال لأهل مصر يسع أربعةً وعشرين صاعًا، والهمزة فيه زائدة، قاله ابن الأثير. وقال الجوهري: الأردب مكيال ضخم لأهل مصر، وذكره صاحب "دستور اللغة" في باب الهمزة المكسورة، وذكر غيره أيضًا أن الأردب بكسر الهمزة، وفي لسان العامة بفتحها، وهي ست وقيات، والوقية ست عشر قدحًا، فتكون الجملة ستة وتسعين قدحًا، والقدح مكيال معروف عند أهل مصر. وفيه من دلائل النبوة حيث أخبر عما ضربه عمر - رضي الله عنه - على أرض العراق من الدراهم والقفزان، وعما ضرب من الخراج بالشام ومصر قبل وجود ذلك، فإن هذه البلاد لم تفتح إلَّا في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أما العراق فإن أبا بكر - رضي الله عنه - بعث خالد بن الوليد في سنة ثنتي عشرة من الهجرة إلى العراق، ففتح الأبلة ثم الأنبار، ثم ولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين آلت إليه الخلافة ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 130 رقم 125) من حديث أبي هرير - رضي الله عنه -.

سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أميرًا على العراق، ففتح المدائن وغيرها في سنة ست عشرة، وفتحت مصر في سنة عشرين. قاله ابن إسحاق والواقدي. وقال الواقدي: وكذا فتحت إسكندرية في سنة عشرين. وقال أبو معشر: فتحت مصر في سنة عشرين، وإسكندرية في سنة خمس وعشرين. وقال سيف: فتحت مصر وإسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الأول منها.

ص: باب: الإهلال من أين ينبغي أن يكون؟

ص: باب: الإهلال من أين ينبغي أن يكون؟ ش: أي هذا باب في بيان مكان الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية، وقد استوفينا الكلام فيه في كتاب الجنازة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وَهْب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - عليه السلام - صلى بذي الحليفة، ثم أُتي براحلته فركبها، فلما استوت به البَيْداء أهلّ". ش: إسئاده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو حسان الأجرد ويقال الأعرج البصري، واسمه مسلم بن عبد الله، روي له الجماعة البخاري مستشهدًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا بهز، قال: ثنا شعبة، قال: قتادة أخبرني، قال: سمعت أبا حسان يحدث، عن ابن عباس قال: "صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر بذي الحليفة ثم أُتي ببدنة فأشعر صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، ثم قلدها نعلين، ثم أُتي براحلته، فلما قعد عليها واستوت به البيداء أهلّ بالحج". قوله: "براحلته" والراحلةُ من البعيرِ القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورَحْله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت. و"البيداء" في اللغة: المفازة لا شيء بها. وقال ابن الأثير: البيداء ها هنا اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة، وأكثر ما تَرِدُ ويُرادُ بها هذه. وقال الكرماني: البيداء ها هنا فوق علمي ذي الحليفة إذا صعدت من الوادي، وفي أول البيداء بئرُ ماء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 280 رقم 2528).

وقال عياض: البيداء ها هنا هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة، وهي أقرب إلى مكة من ذي الحليفة، وكل مفازة بيداء وجمعها بَيَدٌ. وفي كتاب "الأنوار" شرح الموطأ: ولدت أسماءُ بنت عميسٍ محمدَ بن أبي بكر بالبيداء فَذُكر ذلك لرسول الله - عليه السلام - فقال: مُرْها فلتغتسل ثم لتهل". وفي رواية: "ولدت بذي الحليفة". ثم قال: هذا ليس بخلاف؛ لأن البيداء صحراء متصلة بذي الحليفة، ولعل أبا بكر - رضي الله عنه - قصد النزول بها للانفراد لحاجة أهله إلى الولادة، وأضاف ذلك في رواية إلى ذي الحليفة لأنها المقصودة، ولا يكون الإهلال إلَّا بذي الحليفة. انتهى. وانتصاب "البيداء" ها هنا على الظرفية، أي على البيداء أو فيها. قوله: "أَهَلَّ" أي رفع صوته بالتلبية. ص: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا أبو عمرو -وهو الأوزاعي- عن عطاء -هو ابن أبي رباح: "أنه سمعه يُحدث، عن جابر يعني يخبر عن إهلال رسول الله - عليه السلام - من ذي الحليفة حين استوت به راحلته". ش: إسناده صحيح، ورجاله قد ذُكروا غير مرة، والوليد هو ابن مسلم الدمشقي، واسم الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، وأبو عمرو كنيته. والحديث أخرجه البخاري (¬1): ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا الوليد، عن الأوزاعي، سمع عطاء يحدث عن جابر بن عبد الله: "أن إهلال رسول الله - عليه السلام - من ذي الحليفة حين استوت به راحلته". وأخرجه أبو داود أيضًا نحوه (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 552 رقم 1444). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 182 رقم 1905).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى هذا، فاستحبوا الإِحرام من الييداء لإِحرام النبي -عليه السلام- منها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وعطاء وقتادة؛ فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث، فاستحبوا الإِحرام من البيداء، وذلك لأنه -عليه السلام- أحرم منها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أحرم منها لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها خاصة لفضل الإِحرام منها على الإِحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل أشياء في حجته في مواضع لا لفضل قصده في تلك المواضع مما تفضل به غيرها من سائر المواضع، من ذلك نزوله بالمحصب من مِنَى، فلم يكن ذلك لأنه سنة؛ ولكن لمعنى آخر قد اختلف الناس فيه، ما هو؟ فرُوي عن عائشة -رضي الله عنها- في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت له: "إنما كان منزلًا نزله رسول الله -عليه السلام- لأنه كان أسمح للخروج" ولم يكن عروة يحصب ولا أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنه-. ورُوي عن أبي رافع أنه قال: "إنما أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أضرب له الخيمة، ولم يأمرني بمكانٍ بعينه، فضربتها بالمحصب". حدثنا بذلك ابن أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع. ورُوي عن ابن عباس ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة -يعني مولى ابن عباس- أن ابن عباس قال: "إنما كان المحصب لأن العرب كانت تخاف بعضها بعضًا، فيرتادون فيخرجون، فجرى الناس عليها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالدٌ، قال: ثنا ابن أي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس .. مثله، غير أنه قال: "كانت تميم وربيعة يخاف بعضها بعضًا".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "ليس المحصب بشيء؛ إنما هو منزلٌ نزله رسول الله -عليه السلام-. فلما كان رسول الله -عليه السلام- قد حصب ولم يكن ذلك لأنه سنة، فكذلك يجوز أن يكون أحرم حين صار على البيداء لا لأن ذلك سنة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم الأئمة الأربعة وكثر أصحابهم، فإنهم قالوا: سنة الإِحرام أن يكون من ذي الحليفة. وفي "شرح الموطأ": استحب مالك وأكثر الفقهاء أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة. واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقيب الصلاة إذا سَلَّم منها. وقال الشافعي: يهل إذا أخذت ناقته في المشي ومن كان يركب راحلته قائمةً كما يفعله [كثير] (¬1) من الحاج اليوم، فيهل على مذهب مالك إذا استوى عليها راكبًا. وقال عياض: جاء في رواية: "أَهَلَّ رسول الله -عليه السلام- إذا استوت الناقة" وفي رواية أخرى: "حتى استوت به راحلته" وفي أخرى: "حتى تنبعث به ناقته" وكل ذلك متفق لأن قيامها به انبعاثها، ولا تستوي به حتى تنبعث به، ولا يفهم منه أخذها في المشي. وقال: قال مالك وأكثر أصحابه: يستحب أن يهل إذا استوت به إن كان راكبًا ويتوجه بأثر ذلك، وإن كان راحلًا فحين يأخذ في المشي. وقال الشافعي: إن كان راكبًا فكذلك. وقال أبو حنيفة: إذا سلم من الصلاة. قلت: الانبعاث: أخذها في القيام، والاستواء: كمال القيام. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل، ك".

قوله: "فقالوا قد يجوز .. " إلى آخره جواب عما قاله أهل المقالة الأولى من استحباب الإِحرام من البيداء لكون النبي -عليه السلام- أحرم منها. بيانه أن يقال: لا نسلم أن إهلال النبي -عليه السلام- من البيداء يدل على استحباب الإِحرام منها، وأنه فضيلة اختارها رسول الله -عليه السلام-؛ لأنه يجوز أن يكون قد كان فعل ذلك لا لقصد أنه للإِحرام منها فضيلة على الإِحرام من غيرها، وقد رأيناه. أي النبي -عليه السلام- فعل أشياء في حجه في مواضع لا لأجل فضلٍ قصدُه على أنه لا يوجد في غيرها من المواضع، فمن ذلك نزوله بالمحصب، فإن ذلك لم يكن لأنه سُنة وإنما كان لأجل معنى اختلفوا فيه، ما هو؟ فذكر فيه أربعة معان: الأول: ما أشار إليه بقوله: "فرُوي عن عائشة -رضي الله عنه- أنها قالت: إنما كان -أي المحصب- منزلًا نزله رسول الله -عليه السلام- لأنه كان أسمح للخروج" أي أسهل وأقرب لخروجه -عليه السلام- إلى المدينة، وليجتمع إليه من معه مدة مقامه فيه بقية يومه؛ ليرحلوا برحيله. أخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أنس بن عياض ابن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنهم-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: "إنما نزل رسول الله -عليه السلام- الأبطح لأنه أسمح لخروجه، وأنه ليس بسُنة". وأخرجه مسلم (¬2) عن ابن أبي شيبة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13346). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 951 رقم 1311).

وأخرجه البخاري (¬1) وأبو داود أيضاً. ولفظ أبي داود (¬2): "ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله" (¬3). قوله: "ولم يكن عروة يحصب" أي لم يكن ينزل بالمحصب لأنه ليس بسنة. وقال ابن أبي شيبة (¬4): ثنا عبدة، عن هشام بن عروة: "أن أباه كان لا يحصب". قوله: "ولا أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-" أي ولم تكن أسماء تحصب أيضاً. قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن فاطمة: "أن أسماء كانت لا تحصب". قلت: وهو مذهب عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير. قال ابن أبي شيبة (¬6): ثنا إسماعيل بن عياش، عن ليث: "أن عطاء وطاوسًا ومجاهدًا وسعيد بن جبير كانوا لا يحصبون". ثنا وكيع (¬7)، عن عمر بن ذر، عن مجاهد: "أنه كان يكره التحصيب". ثنا وكيع (¬8) عن سفيان [عن الليث] (¬9) عن طاوس قال: "إنما الحصبة في السماء" انتهى. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 626 رقم 1676). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 209 رقم 2008). (¬3) ورواه الترمذي أيضاً (3/ 264 رقم 923) من طريق حبيب المعلم عن هشام بن عروة به. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13352). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13349). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13348). (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13351). (¬8) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 191 رقم 13350). (¬9) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

وقال ابن الأثير: المحصب: هو الشِّعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى، سُمي بذلك للحصى الذي فيه، وكذلك سُمِّي موضع الجمار بمنى محصبًا، وهو في اللغة من التحصيب، وهو أن يُلقى في الأرض الحصباء وهو الحصى الصغار. الثاني: ما أشار إليه بقوله: "ورُوي عن أبي رافع" وهو مولى النبي -عليه السلام-، يقال: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، فإنه قال: "أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أضرب له الخيمة ولم يأمرني بمكان بعينه، فضربتها بالمحصب". فهذا يدل على أنه -عليه السلام- ما قصد إلاَّ النزول في أي أرضٍ كانت، ولم يقصد به النزول في موضع معين لفضله على النزول في غيره، واتفق أن أبا رافع ضرب خيمة النبي -عليه السلام- بالمحصب. وأخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني شيخ أبي داود، عن صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، عنه. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعًا، عن ابن عيينة -قال زهير: نا سفيان بن عيينة- عن صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، قال: قال أبو رافع: "لم يأمرني رسول الله -عليه السلام- أن أنزل الأبطح حين خرج من مِنَى، ولكني جئت فضربت قبته، فجاء فنزل". الثالث: ما أشار إليه بقوله: "ورُوي عن ابن عباس ما حدثنا ربيع المؤذن .. " إلى آخره. فإنه قال: "إنما كانت المحصب لأن العرب كانت تخاف بعضها بعضًا فيرتادون" من الارتياد وهو طلب المكان للنزول فيه، يقال: رادَ، وارتادَ، واسترادَ. "فيخرجون جميعًا فجرى الناس عليها" أي على هذه الفعلة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 952 رقم 1313).

فأخبر ابن عباس أن النزول في المحصب لم يكن لكونه سنة وإنما كان للعلة التي ذكرها. وأخرجه من طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة، عن شعبة بن دينار مولى ابن عباس، فيه مقال. الثاني: وهو صحيح، عن ربيع أيضًا، عن خالد بن عبد الرحمن أيضاً، عن محمد بن أبي ذئب أيضًا. عن صالح بن نبهان مولى التوأمة -عن يحيى: ثقة حجة. وعن أحمد: هو صالح الحديث ما أعلم به بأسًا. الرابع: ما أشار إليه بقوله: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، وهو أسد بن موسى، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) نحوه من حديث عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: "ليس [التحصيب] (¬3) بشيء؛ إنما هو منزل نزله رسول الله -عليه السلام-". فهذا ابن عباس يخبر أن المحصب لا سنة ولا فضيلة، وإنما نزل النبي -عليه السلام- فيه كما كان ينزل في سائر المنازل، وقد عرفت أن مذهب جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وعائشة وأبو رافع وابن مسعود، أن التحصيب ليس بسنة، وإليه ذهب جماعة من التابعين كما ذكرناهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 626 رقم 1677). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 952 رقم 1312). (¬3) في "الأصل، ك": "المحصب"، والمثبت من "الصحيحين".

وقال ابن عمر: "النزول بالمحصب سنة، أناخ به رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء". وقال مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا صخر بن جويرية، عن نافع: "أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنة، وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة"، قال نافع: "قد حصب رسول الله -عليه السلام- والخلفاء بعده". وفي "شرح الموطأ": ورُوي عن ابن المواز، عن مالك: استحب النزول بالمحصب إذا فرغ الإِمام من أيام الرمي وصَدَرَ، وإن لم يفعل فلا بأس. قال ابن وهب عنه: ذلك حسن للرجال والنساء وليس بواجب. وقال أيضًا: قال مالك: استحب للأئمة ومن يفتَدى به ألَّا يتجاوزوه حتى ينزلوا به، ويتعين إحياء سنة النبي -عليه السلام- لئلَّا تترك جملةً. وروى ابن حبيب عن مالك: هو لمن لم يتعجل، فأما من تعجل في يومين فلا أرى له التحصيب. ص: وقد أنكر قومٌ أن يكون رسول الله -عليه السلام- أحرم من البيداء، وقالوا: ما أحرم إلاَّ من عند المسجد، ورووا ذلك عن ابن عمر. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه قال: "بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -عليه السلام- فيها، ما أهلَّ رسول الله -عليه السلام- إلاَّ من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن موسى ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 951 رقم 1310).

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وُهيب بن خالد، عن موسى .. فذكر بإسناده مثله. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن مسلم الزهري، وعبد الملك بن جريج، وعبد الله بن وهب؛ فإنهم قالوا: ما أحرم رسول الله -عليه السلام- إلاَّ من عند المسجد، ورووا ذلك عن عبد الله بن عمر، وأرادوا بالمسجد مسجد ذي الحليفة. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى ابن عقبة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬3)، وابن وهب في "مسنده". الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه الترمذى (¬4): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال: "البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله -عليه السلام- والله ما أهَلَّ رسول الله -عليه السلام- إلاَّ من عند المسجد من عند الشجرة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 843 رقم 1186). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 150 رقم 1771). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 332 رقم 732). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 181 رقم 818).

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "بيداؤكم هذه ... " إلى آخره محمول على أنه أراد أن ذلك وقع منهم على جهة السهو ولا نظن به أنه كان ينسب الصحابة إلى الكذب الذي لا يحل، وقد يجيء بمعنى أخطأ وسُمي الخطأ كذبا لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق وافترقا من حيث النية والقصد، لأن الكاذب يعلم أن الذي يقوله كذب والمخطىء لا يعلم. قوله: "ما أهل رسول الله عليه السلام" قد ذكرنا أن أصل الإِهلال في اللغة رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مهل، ومنه قيل للطفل إذا سقط من بطن أمه فصاح: قد استهل صارخًا، والاستهلال والإِهلال سواء، وأما الإِهلال في الشريعة هو الإِحرام بالحج وهو التلبية بالحج أو العمرة وينوي ما شاء منها. ص: قالوا وإنما كان ذلك بعد ما ركب راحلته، وذكروا في ذلك ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني صالح، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- أهل حين استوت به راحلته قائمة، وقال وكان ابن عمر يفعله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي، قال: ثنا ابن جريج، قال: ثنا محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك قال: "بات رسول الله -عليه السلام- بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته، واستوت به أهّل". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، قال: ثنا ابن شهاب، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي قال هؤلاء القوم: إنما كان إهلاله -عليه السلام- بعد أن ركب راحلته، والدليل على ذلك حديث ابن عمر وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-

أما حديث ابن عمر فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج روى له الجماعة، عن صالح بن كيسان المدني روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن عبد الله، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يخبر: "أن النبي -عليه السلام- أهّل حين استوت به ناقته قائمة". وأما حديث أنس فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام بن يوسف، أنا بن جريج، قال: حدثني ابن المنكدر، عن أنس بن مالك قال: "صلى النبي -عليه السلام- بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين، حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهّل". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن .... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5) مقتصرًا على ذكر المبيت. ص: قالوا: وينبغي أن يكون ذلك بعد ما تنبعث به ناقته، وذكروا في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد المقبري، عن عُبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: "لم أر رسول الله -عليه السلام- يهل حتى تنبعث به راحلته". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 845 رقم 1187). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 561 رقم 1471). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 157 رقم 1796). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 431 رقم 546). (¬5) "المجتبى" (1/ 235 رقم 469).

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهّلَّ من ذي الحليفة". ش: أي قال هؤلاء القوم المذكورون: ينبغي أن يكون الإِهلال بعد انبعاث الناقة، وهو أخذها في القيام، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمر. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن سعيد المقبري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: "يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها، قال: ما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلاَّ اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية، فقال عبد الله بن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله -عليه السلام- يمس إلاَّ اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله -عليه السلام- يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فإني أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله -عليه السلام- يصبغ بها فإني أحب أن أصبغ بها، وأما الإِهلال فإني لم أر رسول الله -عليه السلام- يهل حتى تنبعث به راحلته". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 844 رقم 1187). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 845 رقم 1187).

قوله: "في الغَرزْ" أي الركاب، وقال ابن الأثير: الغرز ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: هو الكور مطلقًا مثل الركاب للسرج. قلت: هو بغين معجمة مفتوحة وراء مهملة ساكنة، وفي آخره زاي. و"قائمة" نصب على الحال من الراحلة، ومن فوائد حديث مسلم: إباحة لبس النعال السبتية وجواز الوضوء فيها وهي النعال السود التي لا شعر عليها، كذا فسره ابن وهب عن مالك، وقال الخليل: السبت: الجلد المدبوغ بالقرظ، وقال أبو عمرو بن العلاء: هو كل جلد مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت جلود البقر خاصة مدبوغة كانت أو غير مدبوغة، لا يقال لغيرها: سبت، وجمعها سبوت، وقال غيره: السبت نوع من الدباغ بقلع الشعر، والنعال السبتية من لباس وجوه الناس وأشراف العرب، وهي معروفة عندهم، وقد مر الكلام فيه مستقصى في كتاب الجنائز. وفيه إباحة صبغ اللحية بالصفرة، قال أبو عمر: اختلف العلماء في قوله: "ورأيتك تصبغ بالصفر" فقال قوم: أراد خضاب اللحية بالصفرة، واحتجوا بما روى ابن جريج قال: "رأيت ابن عمر يصفر لحيته، فقلت: أراك تصفر لحيتك، قال: رأيت النبي -عليه السلام- يصفر لحيته"، وقال آخرون: إنما أراد كان يصفر ثيابه ويلبس ثيابًا صفراء، وأما الخضاب فلم يكن رسول الله -عليه السلام- يخضب، وقال: فَضَّلَ جماعة من العلماء: الخضب بالصفرة والحمرة على بياض الشيب وعلى الخضاب بالسواد، وجاء عن جماعة كثيرة منهم أنهم لم يخضبوا وكل ذلك واسع. ورُوي عن علي وأنس -رضي الله عنهما- أنهما كان يصفران لحاهما، والصحيح عن علي -رضي الله عنه- أنه كانت لحيته بيضاء، وقد ملأت ما بين منكبيه، وذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: "رأيت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أبيض الرأس واللحية، قد ملأت ما بين منكبيه"، وقال أبو إسحاق السبيعي: "رأيت عليًّا أصلع أبيض الرأس واللحية"، وكان السائب بن يزيد وجابر بن زيد ومجاهد

وسعيد بن جبير لا يخضبون، وذكر الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يخضب لحيته حمراء قانية، وقال يحيى بن يحيى الأندلسي: رأيت الليث بن سعد يخضب بالحناء، قال: ورأيت مالكًا يغير الشيب وكان نقي البشرة ناصع بياض الشيب حسن اللحية لا يأخذ منها من غير أن يدعها تطول، قال: ورأيت عثمان بن كنانة ومحمد بن إبراهيم وعبد الله بن نافع وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز لا يغيرون الشيب، وذكر الليث بن سعد عن أبي عشانة وقال: "رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد، ورُوي عن الحسن والحسن ومحمد ابن الحنفية أنهم كانوا يخضبون بالوسمة، ورُوي عن موسى بن طلحة وأبي أسامة ونافع بن جبير أنهم خضبوا بالسواد وكان إبراهيم والحسن وابن سيرين لا يرون به بأسًا. وكره الخضاب بالسواد عطاء ومجاهد ومكحول والشعبي وسعيد بن جبير، ثم قال أبو عمر: ومما يدل على أن الصبغ بالصفرة المذكورة في هذا الحديث هو صبغ الثياب لا صبغ اللحية ما ذكره مالك، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والمصبوغ بالزعفران". وذكر في كتاب "الأنوار" في "شرح الموطأ": والذي رُوي عن ابن عمر أنه كان يصفر لحيته أكثر وأصح، ولا يمتنع أن يكون النبي -عليه السلام- كان يصبغ ثيابة بالصفرة فيقتدي به ابن عمر ويستحبها من أجله، ويصبغ بها ثيابه ولحيته، وقد روى أبو داود (¬1) عن ابن عمر: "كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ قال: إني رأيت رسول الله -عليه السلام- يصبغ بها. ولم يكن شيء أحب إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 52 رقم 4064).

ص: فلما اختلفوا في ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم؟ فإذا إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي حدثنا -إملاءً- قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، قال: "قيل لابن عباس: كيف اختلف الناس في إهلال النبي -عليه السلام- فقالت طائفةٌ: أَهَلَّ في مصلاه، وقالت طائفة: حيث استوت به راحلته، وقالت طائفة: حين علا البيداء؟ فقال: سأخبركم [عن] (¬1) ذلك، إن رسول الله -عليه السلام- أهل في مصلاه، فشهده قومٌ فأخبروا بذلك، فلما استوت به راحلته أهل، فشهده قومٌ لم يشهدوه، وفي المرة الأولى فقالوا: أهل رسول الله -عليه السلام- الساعة، فاخبروا بذلك، فلما علا البيداء أهل فشهده قومٌ لم [يشهدوه]، (¬2) في المرتين الأولتين فقالوا: أهّلَّ رسول الله -عليه السلام- الساعة فاخبروا بذلك، وإنما كان أهّلَّ النبي -عليه السلام- في مصلاه". فبَيَّنَ عبد الله بن عباس الوجه الذي منه جاء اختلافهم، وأن إهلال النبي -عليه السلام- الذي ابتدأ الحج ودخل به فيه كان في مصلاه، فبهذا نأخذ. وينبغي للرجل إذا أراد الِإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دُبرهما كما فعل رسول الله -عليه السلام- وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمدٍ -رحمهم الله-. ش: أي فلما اختلف الفرق الثلاث المذكورون فيما مضى في إهلال النبي -عليه السلام- لاختلاف ألفاظ الحديث أردنا أن ننظر من أين جاء هذا الاختلاف؟ فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث ابن عباس يخبر عن وجه الاختلاف ما هو؟ ويبين أن إهلال النبي -عليه السلام- الذي ابتدأ به الحج، ودخل به في الحج كان في مصلاه، فاخترنا ذلك، وقلنا: ينبغي للرجل إذا أراد الإِحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم عقبهما، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وهذا أقرب إلى الاقتداء بفعل النبي -عليه السلام-، وأشبه به من الإِهلال حين استوت به راحلته كما ذهب إليه مالك، ومن الإِهلال حين تأخذ ناقته ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "من"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "يشهده"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

في المشي كما ذهب إليه الشافعي، ومن الإِهلال حين استوت به راحلته على البيداء كما ذهبت إليه طائفة من أهل العلم. ثم إسناد حديث ابن عباس صحيح ورجاله ثقات، وأبو نعيم هو الفضل بن دكين شيخ البخاري، وخُصيف -بالفاء في آخره- ابن عبد الرحمن الجزري، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي، وعن أحمد: ضعيف الحديث. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن منصور، قال: ثنا يعقوب -يعني ابن إبراهيم- قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني خُصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير، قال: "قلت لابن عباس: يا أبا العباس، عجبتُ لاختلاف أصحاب رسول الله -عليه السلام- في إهلال رسول الله -عليه السلام- حين أوجب، فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله -عليه السلام- حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله -عليه السلام- حاجًّا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه، فأهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوامٌ فحفظته عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله -عليه السلام- حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله -عليه السلام-، فلما علا على شرف البيداء أهلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا شرف البيداء، وايم الله، لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهّل حين علا شرف البيداء. قال سعيد: فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2): أنا أحمد بن جعفر القطيعي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 150 رقم 1770). (¬2) "مستدرك الحاكم" (1/ 620 رقم 1657).

ابن إسحاق، حدثني خُصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره نحو رواية أبي داود، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسرٌ في الباب ولم يخرجاه. ص: وقد رُوي عن الحسن بن محمد في ذلك شيء مما رُوي عن ابن عباس: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، أنه سمع الحسن بن محمد بن علي يقول: "كل ذلك قد فعل النبي -عليه السلام-، قد أهل حين استوت به راحلته، وقد أهلَّ حين جاء الييداء". ش: أي قد رُوي عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- المعروف أبوه بابن الحنفية- في بيان الاختلاف في إهلال النبي -عليه السلام- شيء مما رُوي عن عبد الله بن عباس. وأخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عثمان بن الهيثم بن جَهْم البصري العبدي أبي عمر البصري مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عبد الملك [بن] (¬1) جريج المكي روى له الجماعة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ابن أبي"، وهو تحريف، والصواب حذف "أبي".

ص: باب: التلبية كيف هي؟

ص: باب: التلبية كيف هي؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية التلبية، وهي إجابة المنادي أي إن إجابتي لك يا رب، أخذت من لبّ بالمكان وألب إذا أقام به، وألبَّ على كذا إذا لم يفارقه، ولم تستعمل إلاَّ على لفظ التثبت في معنى التكرير، أي إجابةً بعد إجابة، والتلبية من لبيك كالتهليل من لا إله إلاَّ الله، ويقال: تثنية لبيك يراد بها التكثير في العدد، والعود مرةً بعد أخرى، وليس لها فعل من لفظها بل من معناها، كأنك قلت: داومت وأقمت، وقولهم: لبى يلبي، مشتق من لفظ لبيك، كما قالوا: حمدل وحوقل. وذهب يونس إلى أن لبيك مفرد، والياء فيه كالياء في لبيك وعليك وإليك، وأصله لبب فعلل لا فعّل لقلته، فقلبت الياء الثالثة ياء استثقالًا لثلاث باءات، ثم قلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم ياءً لاضافته إلى المضمر، كما في لديك، ورد سيبويه عليه بقول الشاعر: فلبى يلبي يدي مسورٍ (¬1) بالياء مع إضافته إلى الظاهر. وقد اختلف في معنى لبيك، فقيل: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامةً بعد إقامة، من أَلَبَّ بمكان كذا، ولبّ به: إذا أقام به ولزمه. وقيل معناه: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها. وقيل: محبتي لك، من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبةً لزوجها، أو عاطفة على ولدها. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب" (4/ 388): دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّي فَلَبَّي يَدَي مِسْورِ

وقيل: معناه إخلاصي لك، وهو جواب الداعي وهو الخليل عليه الصلاة والسلام لمَّا دعى الناس إلى الحج على أبي قبيس. وقيل: على حجر المقام. وقيل: عند ثنية كذا، وزعم ابن حزم أن التلبية شريعةً أمر الله بها لا علة لها إلاَّ قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬1). فإن قيل: ما ناصبه؟ قلت: قال الفراء: نصب على المصدر كقولهم: حمدًا لله وشكرًا. وكان حقه أن يقال: لبًّا لك ولكنه ثُنَّي على معنى التأكيد، أي ألبَابًا بعد ألبَاب. ويجوز الوجهان في: "إن الحمد والنعمة لك"، ويُروى عن محمد بن الحسن والكسائي: أن المختار هو كسرة همزة "إن". قال السفاقسي: وكذا هو في البخاري، وهو ابتداء كلام، كأنه لما قال: لبيك. استأنف كلامًا آخر فقال: إن الحمد والنعمة لك. ووجه الفتح كأنه يقول: أجبتك لأن الحمد والنعمة لك في كل شيء وفيما دعوت إليه. قوله: "والنعمة" الأشهر فيها الفتح، ويجوز الرفع على الابتداء، وخبر "إن" محذوف. وقال الخطابي: الفتح في "إن" رواية العامة. وقال ثعلب: الاختيار كسر "إن" وهو أجود معنىً من الفتح، ويجوز "والنعمةُ لك" على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: إن الحمد لك والنعمة لك. قال ابن الأنباري: وإن شئت جعلت تخبر "إن" محذوفًا. وقال القاضي: قال ثعلب: فمن فتح خصّ ومن كسر عمّ. ¬

_ (¬1) سورة الملك، آية: [2].

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أبان بن تغلب، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن زيد، عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كانت تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبيك اللهم [لبيك] (¬1) لبيك. لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، والمقدمي هو محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ البخاري ومسلم. وأبان بن تغلب الربعي أبو سعد الكوفي، روى له الجماعة إلاَّ البخاري. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وعبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا أحمد بن عبدة، قال: نا حماد بن زيد، عن أبان بن تغلب ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "كان من تلبية النبي -عليه السلام-". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية، قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إني لأحفظ كيف كان رسول الله -عليه السلام- يلبي ... " فذكرت ذلك أيضًا. ش: إسناده صحيح، وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، والأعمش هو سليمان ابن مهران الكوفي. وعمارة هو ابن عمير التيمي الكوفي. وأبو عطية اسمه مالك بن أبي حُمرة. والحديث أخرجه البخاري (¬3): ثنا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن الأعمش، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الاَثار". (¬2) "المجتبى" (5/ 161 رقم 2751). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 561 رقم 1475).

عن عمارة، عن أبي عطية، عن عائشة قالت: "إني لأعلم كيف كان النبي -عليه السلام- يلبي؛ لبيك اللهم لبيك، [لبيك] (¬1) لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر: "أن تلبية رسول الله -عليه السلام- كانت كذلك، وزاد: والملك لا شريك لك". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2) عن نافع، عن ابن عمر: "أن تلبية رسول الله -عليه السلام-: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: "لبيك، لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مثله. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضاً صحيح. وأيوب هو السختياني، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. وأخرجه الجماعة بوجوه مختلفة. وأخرجه الترمذى (¬3): ثنا أحمد بن منيع، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن تلبية رسول الله -عليه السلام- كانت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬2) "موطأ مالك" (1/ 331 رقم 370). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 187 رقم 825).

وأخرجه مسلم (¬1) عن ابن مثنى، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ... نحوه. ص: حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل المدني، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- لبّى في حجته كذلك أيضًا". ش: إسناده صحيح، وجعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وأبوه أبو جعفر محمد بن علي الباقر. وأخرجه أبو داود (¬2) ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا جعفر، قال: ثنا أبي، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أَهَلَّ رسول الله -عليه السلام- ... " فذكر التلبية مثل ابن عمر عن النبي -عليه السلام- قال: "والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي -عليه السلام- يسمع فلا يقول لهم شيئًا". وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا زيد بن أخزم، ثنا مؤمل بن إسماعيل، نا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "كانت تلبية رسول الله -عليه السلام-: لبيك اللهم لبيك [لبيك] (¬4) لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن زياد بن زبار، قال: ثنا شرقي بن قطامي، قال: أنا أبو طلق العائذي، قال: سمعت شراحيل بن القعقاع يقول: سمعت عمرو بن معد يكرب يقول: "لقد رأيتنا منذ قريب ونحن إذا حججنا نقول: لبيك تعظيمًا إليك عذرا ... هذه زبيدٌ قد أتتك قسرًا تغدو مضمرات بنا شزرا ... يقطعن خبتًا وجبالًا وعرا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 842 رقم 1184). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 162 رقم 1813). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 974 رقم 2919). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".

قد خلفوا الأنداد خَلْوًا صِفْرًا ونحن اليوم نقول كما علمنا رسول الله -عليه السلام-: قال: قلت: وكيف علمكم .. " فذكر التلبية على ما في الحديث الذي قبل هذا. ش: أبو أُميَّة محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، ومحمد بن زياد بن زبَّار -بفتح الزاي المعجمة وتشديد الباء الموحدة- الكلبي، فيه مقال، فقال يحيى: لا شيء، وقال جزرة: إخباري وليس بذاك. وكان شاعرًا مشهوراً. وشرقي -بفتح الشين المعجمة والراء وكسر القاف- ابن قطامي الكوفي، فيه مقال، فقال الساجي: ضعيف له حديث واحد، ليس بالقائم. وقال الخطيب: كان عالمًا بالنسب وافي الأدب، والشرقي لقب، واسمه الوليد بن حصين، قاله البخاري، وذكره ابن حبان في "الثقات". وأبو طلق العائذي قال ابن حبان: شيخ مجهول. وحكى البخاري في اسمه اختلافًا كثيرًا، ومال إلى أنه عدي بن حنظلة بن نعيم، وعدي بن حنظلة قال ابن معين: هو مشهور. وشراحيل بن القعقاع ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن المبارك الصنعاني، نا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن عمرو بن شمر، عن أبي طوق شراحيل ابن القعقاع، قال: سمعت عمرو بن معدي كرب يخبر: "الحمد لله، إن كنا منذ قريب إذا حججنا نقول: لبيك تعظيمًا إليك عذرًا ... هذي زُبَيد قد أتتك قسرًا تقطع خبتًا وجبالاً وعرًا ... تغدو بها مضمرات شزرًا قد تركوا الأوثان خلوا صفرًا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 46 رقم 100).

فنحن اليوم نقول كما علمنا رسول الله -عليه السلام-: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وكنا نمنع الناس يقفوا بعرفات في الجاهلية، فَأَمَرَنَا رسول الله -عليه السلام- أن نحول بينهم وبين بطن عرفة، فإنما كان موقفهم ببطن محسر عَشية عرفة فَرقًا أن يتخطفهم الجن، وقال لنا رسول الله -عليه السلام-: إنما هم إخوانكم إذا أسلموا". (¬1) قال: ثنا شعيب بن الليث، قال ثنا الليث، عن نافع، عن أسلم، عن عمر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه قال: "كنت مع عثمان -رضي الله عنه- بذي الحليفة، فرأى رجلاً يريد أن يحرم وقد ادهن رأسه، فأمر به فغسل رأسه بالطين". ش: أي قال هؤلاء القوم: قد شدّ ما ذهبنا إليه ما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان -رضي الله عنهما- وأخرج ما روي عن عمر من أربع طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن أيوب السختياني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن عمر بن الخطاب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) ثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع ... إلى آخره. الثانى: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي، شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 207 رقم 13500).

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) من طريق محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عمر قال: "أقبلنا مع عمر بن الخطاب، حتى إذا كنا بذي الحليفة أهل وأهللنا، فمر بنا ركب ينفح منه ريح الطيب، فقال عمر: من هذا؟ قالوا: معاوية، قال: ما هذا يا معاوية؟! قال: مررت بأم حبيبة بنت أبي سفيان ففعلت بي هذا، قال: ارجع فاغسله عنك؛ فإني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الحاج الشعث التفِل". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ... مثله. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬2): عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: "أن عمر بن الخطاب وجد ريح طيب وهو بالشجرة، فقال ممن ريح هذا الطيب؟ فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال: منك لعمرو الله؟! فقال معاوية: إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر -رضي الله عنه-: عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه". الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن أسلم، أن عمر .. إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننة" (¬3): من حديث شعيب، عن الزهري قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر: "أنه وجد من معاوية ريح طيب وهو بذي الحليفة وهم حجاج، فقال عمر: ممن ريح هذا الطيب؟ قال: شيء طيبتني أم حبيبة، فقال: لعمري، أقسم الله لترجعن إليها حتى تغسله، فوالله، لأن أجد من المحرم ريح القطران أحب إليّ من أجد منه ريح الطيب". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (1/ 286 رقم 182). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 329 رقم 721). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 35 رقم 8750).

وأخرجه ابن حزم (¬1) من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: "وجد عمر ريح طيب بالشجرة، فقال: ممن هذا؟ فقال: معاوية مني، طيبتني أم حبيبة، فتغيظ عمر عليه، وقال: منك لعمري، أقسمت عليك لترجعن إلى أم حبيبة فلتغسله عنك كما طيبتك، وأنه قال: إنما الحاج الأشعث الأذفر الأشعر". قوله: "لعمري منك" في مقام الإِنكار عليه، فلهذا قال معاوية: لا تعجل عليّ يا أمير المؤمنين. قوله: "إن أم حبيية" هي أخت معاوية، زوجة النبي -عليه السلام- واسمها رملة. قوله: "ينفح" أي يفوح. قوله: "بالشجرة" قال في "شرح الموطأ": الشجرة موضع يقرب من الميقات. وأخرج ما روي عن عثمان بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (1) من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه: "أن عثمان -رضي الله عنه- أقول رجلاً قد تطيب عند الإِحرام، فأمر أن يغسل رأسه بطين". وأخرج ابن في شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: "أن [إبراهيم] (¬3) رأى رجلاً قد تطيب عند الإِحرام، فأمره أن يغسل رأسه بطين". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بالتطيب عند الإِحرام باسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمد بن الحنفية وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد وخارجة بن زيد والقاسم ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 83). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبه" (3/ 208 رقم 13502). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، و"المصنف" ولعل الصواب: "عثمان"، والله أعلم.

ابن محمد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف وزفر بن الهذيل والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا سليمان ومحمد بن الحسن -في رواية-: فإنهم قالوا: لا بأس بالتطيب عند الإِحرام، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: ويستحب للمرأة والرجل أن يتطيبا عند الإِحرام بأطيب ما يجدانه من الغالية، والبخور بالعنبر وغيره، ثم لا يزيلانه من أنفسهما ما بقي عليهما، ثم قال: إن هذا هو مذهب جمهور الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي وأبي ذر وأبي سعيد والبراء بن عازب وأنس بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعائشة وأم حبيبة -رضي الله عنهم- ص: فقالوا: أما حديث يعلى فلا حجة فيه لمن خالفنا، وذلك أن ذلك الطيب الذي كان على ذلك الرجل إنما كان صفرة وهو خَلوق فذلك مكروه للرجل لا للإِحرام، ولكنه لأنه مكروه في نفسه في حال الإِحلال وفي حال الإِحرام وإنما أُبيح من الطيب عند الإِحرام ما هو حلال في حال الإِحلال، وقد روي عن يعلى ما بيّن أن ذلك الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل بغسله كان خلوقًا. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن مطر الوراق، عن عطاء، عن يعلى بن منية: "أن رسول الله -عليه السلام- رأى رجلاً لبى بعمرة وعليه جبة وشي من خلوق، فأمره أن ينزع الجبة ويمسح خلوقه ويصنع في عمرته ما يصنع في حجته". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا الليث، [أن] (¬1) عطاء بن أبي رباح حدثه، عن ابن يعلى بن منية، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حسان بن هلال، قال: ثنا همام، قال: ثنا عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحوه، غير أنه قال: "واغسل عنك أثر الخلوق والصفرة". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عن"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عبد الملك ومنصور وابن أبي ليلى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إني أحرمت وعليّ جبتي هذه وعلى جبته ردوع من خلوق، والناس يسخرون مني فأطرق عنه ساعة ثم قال: اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك هذا الزعفران واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجتك". فبينت لنا هذه الآثار أن ذلك الطيب الذي أمره النبي -عليه السلام- بغسله كان خلوقًا، وذلك منهي عنه في حال الإِحلال وحال الإِحرام، فيجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بأمره إياه بغسله لما كان من نهيه أن يتزعفر الرجل، لا لأنه طيب تطيب به قبل الإِحرام ثم حرمه عليه الإِحرام. ش: أي قال الآخرون في الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأول من حديث يعلى: بيانه أن يقال: إن حديث يعلى لا حجة لكم فيه؛ لأن ذلك الطيب الذي كان على ذلك الرجل وأمره -عليه السلام- بغسله إنما كان صفرة وهو خلوق، والخلوق مكروه للرجل في كل الأحوال سواء كان في حالة الإِحرام أو في حالة الإِحلال ولا يباح من الطيب عند الإِحرام إلاَّ ما هو حلال في حالة الإِحلال، والدليل على ذلك: أن حديث يعلى بن أمية الذي روي بطرق مختلفة قد بين ذلك وأوضح أن ذلك الطيب الذي أمره -عليه السلام- بغسله كان خلوقًا، وهو منهي عنه في كل الأحوال. وقال ابن حزم في "المحلى" لا حجة لهم في هذا الخبر لأنه كان في الجعرانة كما ذكر في الحديث، وعمرة الجعرانة كانت إثر فتح مكة متصلة به في ذي القعدة، لأن فتح مكة كان في شهر رمضان، وكانت حينئذ متصلة به، ثم عمرة الجعرانة منصرفه -عليه السلام- من حنين ثم حج تلك السنة عتاب بن أسيد ثم كان عام قابل فحج بالناس أبو بكر، ثم كانت حجة الوداع في العام الثالث، وكان تطيب النبي -عليه السلام- وأزواجه معه في حجة الوداع بعد حديث هذا الرجل بأزيد من عامين، فممن أعجب؟ ممن يعارض آخر فعله -عليه السلام- بأول فعله -هذا يوضح أن حديث يعلى بن أمية فيه نهي

عن الطيب للمحرم- وهذا لا يصح لهم لأن هذا الخبر رواه من هو أحفظ من ابن جريج وأجل منه، فبين أن ذلك الطيب إنما كان خلوقًا، ثم روى الحديث المذكور بطرقه، كما رواه الطحاوي، ثم قال: فاتفق عمرو بن دينار وهمام بن يحيى وقيس بن سعد كلهم، عن عطاء في هذه القصة نفسها، عن صفوان ابن يعلى، عن أبيه أنه كان متضمخًا بخلوق وهو الصفرة نفسها، وهو الزعفران بلا خلاف، وهو مُحَرَّمٌ على الرجال عامة في كل حال، وعلى المُحْرِم أيضًا بخلاف سائر الطيب، ثم قال: فبطل تشغيبهم بهذا الخبر جملة؛ لأنه إنما فيه نهي عن الصفرة لا عن سائر الطيب، ولأنه لو كان فيه نهي عن الطيب -وليس ذلك فيه- لكان منسوخًا بآخر فعله -عليه السلام- في حجة الوداع. انتهى. ثم إنه أخرج حديث يعلى بن أمية من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن المنهال ... إلى آخره. وأخرجه الييهقي في "سننه" (¬1) من حديث شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن يعلى بن منية: "أن النبي -عليه السلام- رأى رجلاً عليه جبة عليها أثر خلوق أو صفرة، فقال: اخلعها عنك واجعل في عمرتك ما تجعل في حجك". قوله: "عن يعلى بن منية" وفي بعض الروايات "عن يعلى بن أميَّة" وكلاهما صحيح لأن منية أمه وأمية أبوه، فتارة يذكر يعلى بانتسابه إلى أمه، وتارة بانتسابه إلى أبيه. قوله: "جبة وشي من خلوق" قال الجوهري: الوشي من الثياب معروف، والخلوق -بفتح الخاء- طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنوع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة، وقال الجوهري: "الخلوق" ضرب من الطيب، وقد خلقته أي طيبته بالخلوق فتخلق به، وفي "المطالع": الخلوق: طيب يخلط بالزعفران. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 57 رقم 8883).

الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن يعلى بن منية، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، هكذا هو في غالب النسخ عن عطاء عن ابن يعلى بن منية عن أبيه، وفي بعضها عن عطاء عن يعلى بن منية عن النبي -عليه السلام-، ورأيت في بعض المواضع: قال الطحاوي: كذا يقول الليث: عن يعلى بن منية عن أبيه، وإنما هو ابن يعلى بن منية عن أبيه. قلت: وكذا في رواية أبي داود (¬1): عن يزيد بن خالد، عن الليث، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن يعلى بن منية، عن أبيه، بهذا الخبر، قال فيه: "وأمره رسول الله -عليه السلام- أن ينزعها، ويغتسل مرتين أو ثلاثًا". وفي "التكميل": قال ابن كثير: ابن يعلى بن أمية قال شيخنا: إن لم يكن صفوان بن يعلى بن أمية فلا أدري من هو. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال الباهلي، عن همام بن يحيى، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أميَّة، عن أبيه. وأخرجه مسلم (¬2): عن شيبان بن فروخ، عن همام، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن منية، عن أبيه قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق -أو قال: أثر صفرة- فقال: وكيف تأمرني أن أصنع في عمرتي .. إلى أن قال: أين السائل عن العمرة؟ اغسل عنك أثر الصفرة -أو قال أثر الخلوق- واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك". وأخرجه أبو داود (¬3): عن محمد بن كثير، عن همام، عن عطاء .. إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" عن شيبان بن فروخ نحو مسلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 164 رقم 1821). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 836 رقم 1180). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 164 رقم 1819).

الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود عن هشيم بن بشير عن عبد الملك بن جريج ومنصور بن زادان ومحمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثلاثتهم عن عطاء بن أبي رباح عن يعلى بن منية إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا زكريا بن يحيى الواسطي، نا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن يعلى بن أمية قال: "جاء رجل أعرابي إلى رسول الله -عليه السلام- وعليه جبة عليها ردع من خلوق، فقال: يا رسول الله، إني أحرمت فيما ترى، وإن الناس يسخرون مني، فأطرق عنه هنيهة، ثم قال: اغسل عنك أثر الزعفران، واخلع جبتك واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجتك". وأخرجه أبو علي الطوسي نحوه. قوله: "وعلى جبته ردوع من خلوق" الردوع جمع ردع -بفتح الراء وسكون الدال وبالعين المهملات- وهو الشيء اليسير من الخلوق، يقال: ثوب به ردع من الزعفران أي لطخ لم يعمه كله وفي "الموعب": الردْع أثر الخلوق والطيب في الجسد، وعن أبي عمرو: هو اللطخ، وقد ردعته وارتدع هو، وقال ابن سيده بالثوب ردع من زعفران أي شيء يسير في مواضع شتى، وقميص رادِع ومردُوع ومُرَدعَّ: فيه أثر الطيب. وفي بعض النسخ: "ردع" بالإِفراد، وهذه هي الأصح والله أعلم. قوله: "فيجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بأمره ... إلى آخره" جواب ثان عن الحديث المذكور، بيانه أن يقال: يجوز أن يكون المراد من قوله: "واغسل عنك الصفرة" في حديث يعلى المذكور في أول الباب أمرًا لما كان من نهيه أن يتزعفر الرجل، وليس لأجل أنه طيب تطيب به قبل الإِحرام، ثم حرم عليه بسبب الإِحرام، ثم شرع في بيان النهي عن تزعفر الرجل بقوله: ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 259 رقم 669) من طريق زكرياء بن يحيى به.

ص: فأما ما روي عن النبي -عليه السلام- في نهيه الرجل عن التزعفر: فإن ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا أبو معمر، ثنا: عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يتزعفر الرجل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن التزعفر للرجال". حدثنا محمّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، عن إسماعيل بن علية، قال: أراه عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- الرجل أن يتزعفر". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن التزعفر". حدثنا ابن أبي عمران وابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن التزعفر" قال عليّ فيما ذكر ابن أبي عمران خاصة: ثم لقيت إسماعيل فسألته عن ذلك، فأخبرته أن شعبة حدثنا به عنه، فقال لي: ليس هكذا حدثته، إنما حدثته: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن يتزعفر الرجل" قال ابن أبي عمران: أراد بذلك أن النهي الذي كان من النبي -عليه السلام- في ذلك وقع على الرجال خاصة دون النساء. ش: أخرجه عن أنس من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد ... إلى آخره.

وأخرجه البخاري (¬1) ثنا مسدد، نا عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يتزعفر الرجل". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا. و"التزعفر" هو أن يتخلق بالزعفران، وإنما نهي عنه لأنه من طيب النساء، وهن أكثر استعمالًا له منهم، وقد ورد الحديث أيضًا بإباحته، ولكن النهي أكثر، قال ابن الأثير: والظاهر أن أحاديث النهي ناسخة. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار ... إلى آخره وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة، قال: ثنا حماد، عن عبد العزيز، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن التزعفر، قال حماد: يعني للرجال". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن إسماعيل بن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم البصري، وعُلية أمه وقد عرف بها، روى له الجماعة. وأخرجه البزار في "مسنده" عن مؤمل بن همام عن إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬4) نحوه. الخامس: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، وإبراهيم بن أبي داود كلاهما، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري واحد أصحاب أبي يوسف، عن شعبة، عن إسماعيل بن إبراهيم وهو إسماعيل بن أُميَّة المذكور. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2198 رقم 5508). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1663 رقم 2101). (¬3) "المجتبى": (5/ 142 رقم 2708). (¬4) "مسند أحمد" (3/ 101 رقم 11997).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا حماد بن معمر، نا محمد بن عباد الهنائي، نا شعبة، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن التزعفر". قال أبو بكر: وإنما نهى أن يتزعفر الرجل، فأخطأ فيه شعبة، وهذا الحديث لا يعلم رواه إلاَّ إسماعيل بن إبراهيم. وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله: "قال عليّ فيما ذكر ابن أبي عمران" أي: قال علي بن الجعد -فيما ذكر أحمد بن أبي عمران خاصة-: ثم لقيت إسماعيل وهو ابن علية فسألته عن ذلك، أي عن قوله: "نهى عن التزعفر" فأخبرته أن شعبة حدثنا به عنه أي حدثنا بالحديث عن عبد العزيز، فقال له: إن إسماعيل بن علية ليس هكذا حدثه، يعني بلفظ "نهى عن التزعفر". إنما حدثته بلفظ: "نهى رسول الله أن يتزعفر الرجل". فدل ذلك أن شعبة أخطأ ولذلك قال البزار: أخطأ شعبة. لأن رواية شعبة هكذا تعم الرجال والنساء، وليس كذلك بل النهي مخصوص في حق الرجال دون النساء، فإذا قيد بالرجل يستقيم الأمر، وعن هذا قال ابن أبي عمران: أراد بذلك ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن شعبة، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت أبا حفص بن عمرو يحدث، عن يعلى: "أنه مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متخلق، فقال: ألك امرأة؟ فقال: لا. فقال له: اذهب فاغسله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر (ح). حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قالا: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن رجل من ثقيف، عن يعلى عن النبي -عليه السلام- مثله، هكذا قال أبو بكرة في حديثه، وقال علي في حديثه: عن عطاء بن السائب، قال: سمعت أبا حفص بن عمرو -أو أبا عمرو بن حفص- الثقفي.

ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي المصري شيخ الشيخين، عن خالد بن الحارث بن عبيد بن عثمان البصري روى له الجماعة، عن شعبة، عن عطاء بن السائب بن مالك الثقفي وثقه أحمد وعنه: من سمع منه قديمًا صحيح ومن سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، وسمع منه قديمًا شعبة وسفيان، روى له البخاري متابعة والأربعة، عن أبي حفص عمرو، وقيل: أبو حفص بن عمر، وقيل: أبو عمر بن حفص، وقيل: عبد الله بن حفص، وقيل: حفص بن عبد الله، عن يعلى بن مرة وقيل: عن رجل، عن يعلى بن مرة. وذكره الطبراني في "الكبير" (¬1): وقال عبد الله بن حفص بن أبي عقيل، عن يعلى ابن مرة، وذكره ابن حبان في الثقات، ويعلى هذا هو أبي مرة بن وهب الثقفي، وهو غير يعلى بن أميَّة المذكور فيما مضى. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا محمد بن البراء، ثنا المعافى بن سليمان، نا موسى بن أعين، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حفص، عن يعلى بن مرة قال: "مررت على رسول الله -عليه السلام- وأنا متخلق بزعفران، فقال: يا يعلى، هل لك امرأة، فقلت: لا، قال: اذهب فاغسله، ثم اغسله، ثم اغسله، ثم لا تعد، قال فذهبت فغسلته، ثم غسلته، ثم غسلته، ثم لم أعد". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن شعبة، عن عطاء بن السائب، عن رجل من ثقيف، عن يعلى بن مرة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 267 رقم 687). (¬2) "المعجم الكبير" (22/ 268 رقم 688). (¬3) "المجتبى" (8/ 153 رقم 5125).

والرجل المجهول هو أبو حفص بن عمرو الثقفي. الثالث: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبي حفص بن عمرو -أو أبي عمرو بن حفص- عن يعلى بن مرة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبي حفص بن عمرو، عن ابن مرة قال: "إن رسول الله -عليه السلام- أبصر رجلاً متخلقًا فقال اذهب فاغلسه، ثم اغسله، ثم لا تعد". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة -أو مطر- عن الحسن، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ألا وطيب الرجال ريح لا لون، ألا وطيب النساء لون لا ريح". ش: إسناده صحيح، وعياش-بتشديد الياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن الوليد الرقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود، وعبد الأعلى ابن عبد الأعلى بن محمد البصري روى له الجماعة، وسعيد هو ابن أبي عروبة روى له الجماعة، ومطر بن طهمان الوراق روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح، والحسن هو البصري. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا معاذ بن المثنى، نا علي بن المديني، ثنا روح بن عبادة. وثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان، ثنا هشام بن عمار، ثنا شعيب بن إسحاق قالا: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "طيب الرجال ريح لا لون له، وطيب النساء لون لا ريح له". ¬

_ (¬1) وأخرجه الترمذي في "جامعه" (5/ 121 رقم 2816) عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي به. (¬2) "المعجم الكبير" (18/ 147 رقم 314).

وأخرج الترمذي (¬1): عن عمران بن الحصين، ولفظه: "إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، ونهى عن المثيرة والأرجوان". قوله: "ألا" كلمة تنبيه تنبه السامع على ما يأتي، وإنما كان خير طيب النساء هو اللون دون الريح لأن اللون يجعل الزينة لهن وأما الريح فإنه إذا فاح منهن يتأتى منه فساد، ويخاف عليهن من الفتنة، بخلاف الرجال فإنه لا تنبغي لهم الزينة فلذلك مُتِعُوا عن طيب يكون له لون، فافهم. ص: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي، قال: ثنا صاعد بن عُييد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا حميد، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام- نحوه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن سلم العلوي، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- عليه صفرة، فلما قام قال النبي -عليه السلام-: لو أمرتم هذا يدع هذه الصفرة، قال: وكان النبي -عليه السلام- لا يواجه الرجل بشيء في وجهه". ش: هذان وجهان عن أنس: الأول: إسناده صحيح ورجاله ثقات. والثاني: فيه سلم العلوي وهو سلم بن قيس البصري، وليس من ولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وقال البخاري: تكلم فيه شعبة. وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له أبو داود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا حسين، نا حماد -يعني ابن زيد- عن سلم العلوي، أنه سمع أنس بن مالك يقول: "دخل على النبي -عليه السلام- رجل وعليه صفرة فكرهها، فلما قام الرجل، قال النبي -عليه السلام- لبعض أصحابه: لو أمرتم هذا أن يدع ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 107 رقم 2788). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 154 رقم 12595).

هذه الصفرة -قالها مرتين أو ثلاثة- قال أنس: وكان النبي -عليه السلام- قَلَّ ما يواجه رجلاً بشيء في وجهه". وأخرجه أبو داود (¬1): عن عبيد الله بن عمر، عن حماد بن زيد، عن سلم العلوي ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن جديه، قالا: سمعنا أبا موسى يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تقبل صلاة رجل في جسده شيء من خلوق". ش: أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي روى له الجماعة. وأبو جعفر الرازي اسمه عيسى بن أبي عيسى، واسم أبي عيسى ماهان، وقيل: عيسى بن عبد الله وعن يحيى: ثقة، وعن أحمد: ليس بقوي في الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. روى له الأربعة. والربيع بن أنس البصري البكري قال العجلي: بصري صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وروى له الأربعة، وهو يروي عن جديه زياد وزيد، عن أبي موسى الأشعري وأسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، قال: نا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن جديه زيد وزياد، قالا: سمعنا أبا موسى يقول: [قال] (¬3) رسول الله -عليه السلام-: "لا تقبل صلاة رجل في جسده شيء من خلوق". وأخرجه الييهقي (¬4) من حديث عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي ... إلى آخره، والحديث محمول على الزجر والتهديد. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 250 رقم 4789). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 80 رقم 4178). (¬3) تكررت في "الأصل، ك"، وليست في "سنن أبي داود". (¬4) "السنن الكبرى" (5/ 36 رقم 8753).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن إسحاق بن سويد، عن أم حبيية، عن الرجل الذي كان أتى النبي -عليه السلام- قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- في حاجة وأنا متخلق، فقال: اذهب فاغتسل، فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: اذهب فاغتسل، فذهبت فأخذت شيئًا اتبع به وضره". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وإسحاق بن سويد بن هبيرة العدوي البصري. قوله: "وضره" بفتح الواو والضاد المعجمة أراد أثر الخلوق الذي كان عليه، وقال ابن الأثير: والوضر من الصفرة هو اللطخ من الخلوق أو الطيب له لون، وذلك من فعل العروس إذا دخل على زوجته، والوضر (من أثر) (¬1) غير الطيب أيضًا وفي الحديث: "فجعل يأكل ويتتبع باللقمة وضر الصحفة" أي دسمها وأثر الطعام فيها. ص: فنهى رسول الله -عليه السلام- الرجال في هذه الآثار كلها عن التزعفر [وإنما] (¬2) أمر الرجل الذي أمره بغسل طيبه الذي كان عليه في حديث يعلى لأنه لم يكن من طيب الرجال، وليس في ذلك دليل على حكم من أراد الإِحرام هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإِحرام أم لا. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رواها عن أنس ويعلى بن مرة وعمران بن حصين وأبي موسى الأشعري وأم حبيبة عن الرجل. قوله: "عن التزعفر" أي التطيب بالزعفران، وأراد بحديث يعلى هو الذي مرّ ذكره في هذا الباب وهو حديث يعلى بن أُميَّة. ص: وأما ما رووه عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- في ذلك فإنه قد خالفهما في ذلك عبد الله بن عباس: ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "النهاية" (5/ 195): "الأثر من". (¬2) في "الأصل، ك"، و"شرح معاني الآثار": "فإنما".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أنه قال: "انطلقت حاجًّا، فرافقني عثمان بن أبي العاص، فلما كان عند الإِحرام قال: اغسلوا رءوسكم بهذا الخطمي الأبيض، ولا يمس أحد منكم غيره، فوقع في نفسي من ذلك شيء، فقدمت مكة فسألت ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- فأما ابن عمر فقال: ما أحبه، وأما ابن عباس فقال: أما أنا فَأُضَمِّخ به رأسي ثم أحب بقاءه". فهذا ابن عباس [قد] (¬1) خالف عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص -رضي الله عنهم- في ذلك. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بما روي عن عمر وعثمان المذكور فيما مضى، وهو أن ما روي عنهما مُعَارَضٌ بما روي عن ابن عباس؛ فلا يتم به الاحتجاج. وقال ابن حزم (¬2): وأما عمر -رضي الله عنه- فقد روينا عن وكيع، عن محمد بن قيس، عن بشير بن يسار الأنصاري: "أن عمر -رضي الله عنه- وجد ريحَ طيبٍ، فقال: ممن هذا الريح؟ فقال البراء بن عازب: مني يا أمير المؤمنين، قال: قد علمنا أن امرأتك عَطِرَة أو عَطَّارَة، إنما الحاج الأذفر الأغبر". فإنه لم ينهه عنه. وأما عثمان فإنه صح عنه أنه أجاز تغطية المحرم وجهه، فخالفوه، فسبحان من جعل قوله حيث لم تبلغه السنة حجة، ولم يجعل فعله حيث لا خلاف فيه للسنن حجة! إن هذا لعجب. ثم إسناد أثر ابن عباس صحيح، وعُيينة بن عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني البصري، قال أحمد: ثقة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "فقد"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) " المحلى" (7/ 83).

وأبوه عبد الرحمن بن جوشن قال أبو زرعة: ثقة، وروى له الأربعة. وعثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه الييهقي (¬1) مختصرًا من حديث عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عباس عن الطيب في الإِحرام، فقال: "أما أنا فأسغسغه في رأسي ثم أحب بقاءه". وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن وكيع، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: "حججت مرة فرافقت عبد الرحمن بن عمرو بن العاص، فلما كان عند الإِحرام أصبنا شيئاً من الطيب، فقال له عبد الرحمن: وددت أنك لم تفعل؛ إني حججت مرة مع عثمان بن أبي العاص، فأحرم من المتحشانية وهي قريبة من البصرة وقال: عليكم بهذا الطيب الأبيض فاغسلوا به رءوسكم عند الإِحرام". قوله: "فأضمخ به رأسي" من التضميخ وهو التلطيخ بالطيب وغيره والإِكثار منه. قوله: "فأسغسغه" من السغسغة، قال الأصمعي: هي التروية، وقال الجوهري: سغسغت رأسي إذا وضعت عليه الدهن بكفك وعصرته ليتشرب، وأصله سغّغته بثلاث غينات إلا أنهم أبدلوا من الغين الوسطى سينًا فرقًا بن فَعْلَلَ وفَعَّلَ، وإنما زادوا السين دون سائر الحروف لأن في الحرف سينًا، وكذلك القول في جميع ما أشبهه مثل: لَقْلَقَ وعَثْعَثَ وكَعْكَعَ. ص: وقد روي في ذلك عن النبي -عليه السلام- ما يدل على إباحته: حدثنا ابن مرزوق -يعنى إبراهيم- قال: ثنا بشر بن عمرو، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله -عليه السلام- وهو محرم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 35 رقم 8748). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 123 رقم 12671) باختصار.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود وأبو عامر العقدي، قالا: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن حماد، عن إبراهيم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حماد وعطاء بن السائب، عن إبراهيم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة: "أنها كانت تطيب النبي -عليه السلام- بأطيب ما تجد من الطيب، قالت: حتى إني لأرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة: "أنها كانت تطيب النبي -عليه السلام- بأطيب ما تجد من الطيب، قالت: حتى إني لأرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا أبو [زيد] (¬1) عبد الرحمن بن أبي الغمر، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة قالت: "كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- بالغالية الجيدة عند إحرامه". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أخيه عثمان بن عروة، عن أبيه عروة، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- بأطيب ما أجد". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، قال: ثنا القاسم، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- بيدي لإِحرامه قبل أن يحرم". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "يزيد"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار" وانظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (6/ 325).

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، أن القاسم حدثه، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحرمه حين أحرم". قال أسامة بن زيد: وحدثني أبو بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- بذلك. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح -هو ابن حميد، عن القاسم- عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن القاسم، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحرمه وحله". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عثمان بن عروة، عن أبيه قال: "سألت عائشة، بأي شيء طيبت رسول الله -عليه السلام-؟ قالت: بأطيب الطيب، عند إحلاله وقبل أن يحرم". حدثنا نصر، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحرمه ولحله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء، قال قالت عائشة: "طيبت رسول الله -عليه السلام- للحل والإِحرام".

ش: هذه ثمانية عشر طريقًا كلها صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد. وأخرجه مسلم (¬1) ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم يحدث، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: "كأنما انظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -عليه السلام- وهو محرم". وأخرجه بقية الجماعة (¬2). قوله: "وبيص الطيب" أي بريقه، من وبص الشيء يبص وبيصًا، قال الجوهري: وبص البرق وغيره يَبِصُ وبيصًا أي: برق ولمع. قوله: "في مفرق رسول الله -عليه السلام- بفتح الميم وسكون الفاء وفتح الراء وكسرها وهو وسط الرأس، وهو الذي يفرق فيه الشعر، ويجمع على مفارق. الثاني: عن محمد بن خزيمة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا حميد بن مسعدة، قال: أنا بشر -يعني ابن المفضل- قال: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله -عليه السلام- وهو محرم". الثالث: عن أبي بكرة بكَّار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، كلاهما عن هشام الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 848 رقم 1190). (¬2) البخاري (1/ 105 رقم 268)، وأبو داود (2/ 145 رقم 1746)، والنسائي (5/ 139 رقم 2695)، وابن ماجه (2/ 977 رقم 2928). (¬3) "المجتبى" (5/ 139 رقم 2697).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1) عن هشام ... إلى آخره. الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وعطاء بن السائب، كلاهما عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه الحميدي في "مسنده" (¬2): عن سفيان بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: "رأيت الطيب في مفرق رسول الله -عليه السلام- بعد ثالثه وهو محرم". وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬3): عن أحمد بن قاسم، عن أبيه، عن جده قاسم بن أصبغ، عن محمد بن إسماعيل الترمذي، عن الحميدي. الخامس: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن مالك بن مغول البجلي الكوفي ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4): عن ابن نمير، عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إني كنت لأنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -عليه السلام- وهو محرم". السادس: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬5): أنا عبدة بن [عبد] (¬6) الله، قال: أنا يحيى بن آدم، عن ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 23 رقم 1431). (¬2) "مسند الحميدي" (1/ 106 رقم 215). (¬3) "المحلى" (7/ 86). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 848 رقم 1190). (¬5) "المجتبى" (5/ 140 رقم 2701). (¬6) في "الأصل، ك": "عبيد" وهو تحريف، والمثبت عن المجتبى ومصادر ترجمته.

إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أُطَيِّب رسول الله -عليه السلام- بأطيب ما كنت أجد من الطيب، حتى أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته قبل أن يحرم". السابع: عن محمد بن خزيمة، عن أبي [زيد] (¬1) عبد الرحمن بن أبي الغمر -بالغين المعجمة- المصري شيخ أبي زرعة الرازي، عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد الزهري المدني نزيل الإسكندرية روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني روى له الجماعة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عائشة. وأخرجه الييهقي في "سننه" (¬2): من حديث عبد الرحمن بن أبي الغمر، عن يعقوب بن عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. قوله: "الغالية" بالغين المعجمة، وهو نوع من الطيب يركب من مسك وعنبر وعود ودهن، قاله ابن الأثير، قال الجوهري: الغالية من الطيب، يقال: أول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك، تقول منه تَغَلَّيْتُ بالغالية. الثامن: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا أحمد بن يحيى، قال: أنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن عثمان بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: "كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- عند إحرامه بأطيب ما أجد". التاسع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شجاع بن الوليد بن قيس ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "يزيد"، وهو تحريف، وقد تقدم التنبيه عليه، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" وغيره. (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 35 رقم 8745). (¬3) "المجتبى" (5/ 138 رقم 2690).

السكوني، روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عائشة -رضي الله عنهم-. وأخرجه مسلم (¬1): نا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا عبيد الله بن عمر، قال: سمعت القاسم، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحله ولحرمه". العاشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عبد الله بن وهب .. إلى آخره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، وأبو بكر بن حزم هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي المدني يقال: اسمه كنيته، ويقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد. الحادي عشر: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬2) ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". الثاني عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني البصري شيخ الدارمي، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3). الثالث عشر: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد بن نافع المدني، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 846 رقم 1189). (¬2) سبق ذكره. (¬3) "مسند أحمد" (6/ 39 رقم 24157).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- بيديَّ هاتين عند الإِحرام". وأخرجه مسلم (¬1) أيضاً نحوه. الرابع عشر: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة. وأخرجه العدني أيضًا في "مسنده": ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنه سمعها تقول وبسطت يديها: "أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- بيديَّ هاتين لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". الخامس عشر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني .. إلى آخره. وأخرجه العدني أيضًا، ثنا الثقفي، عن أيوب، عن القاسم عن عائشة قالت: "كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- لحله وحرمه". السادس عشر: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2). وأخرجه مسلم (¬3) عن أبي بكر بن أبي شيبة. السابع عشر: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 846 رقم 1189). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 205 رقم 13478). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 847 رقم 1189).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، ثنا طلحة، عن عطاء، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله لإِحرامه حين أحرم، ولإِحلاله قبل أن يزور". الثامن عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح .. إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- بإباحته الطيب عند الإِحرام، وأنه قد كان يبقى في مفارقه بعد الإِحرام. ش: أبي بعد [أن] (¬1) تكاثرت هذه الأحاديث المروية عن عائشة -رضي الله عنها- بإباحة استعمال الطيب عند الإِحرام، وقال ابن حزم: فلما اختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الطيب عند الإِحرام؛ وجب الرجوع إلى ما افترض الله من الرجوع إليه من بيان رسول الله -عليه السلام-، ثم روى الحديث المذكور عن عائشة من طريق البخاري وغيره، ثم قال: فهذه آثار متواترة متظاهرة فلا يحل لأحد أن يخرج عنها، رواه عن أم المؤمنين أيضاً عروة والقاسم وسالم بن عبد الله وعبد الله بن عمر ومسروق وعلقمة والأسود، ورواه عن هؤلاء الناس الأعلام. ص: وقد روي ذلك عن ابن عباس فيما تقدم مما روينا في هذا الباب. ش: أي قد روي أيضًا ما ذكرنا في إباحة الطيب عند الإِحرام عن عبد الله بن عباس، وقد ذكره فيما مضى من قوله: "فأما أنا فأضمخ به رأسي". ص: وقد روي في ذلك أيضاً عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-: حدثنا محمد بن عمرو بن تمام أبو الكروس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا ميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج، عن ابن بكير، عن أبيه قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت عائشة بنت سعد تقول: "كنت أُشْبع رأس سعد بن أبي وقاص لحرمه بالطيب". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا زيد بن أسلم، قال: حدثتني ذرة قالت: "كنت أغلف رأس عائشة -رضي الله عنها- بالمسك والعنبر عند إحرامها". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرتني حكيمة -قال أبو عاصم: ابنة أبي حكيم- عن أمها ابنة أبي النجار: "أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يجعلن عصائب فيهن الورس والزعفران فيعصبن بها أسافل شعورهن على جباههن قبل أن يحرمن، ثم يحرمن كذلك". يزيد أحدهما على صاحبه في قصة الحديث. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير: "أنه كان يتطيب بالغالية الجيدة عند الإِحرام". ش: أي وقد روي أيضًا فيما ذكرنا من إباحة استعمال الطيب عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-، وأخرج في ذلك عن أربعة من الصحابة، وهم: سعد بن أبي وقاص وعائشة وأميمة وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم- أما أثر سعد فأخرجه عن محمد بن عمرو بن تمام يكنى بأبي الكروس -بفتح الكاف والراء وتشديد الواو في آخره سين مهملة قاله ابن ماكولا- وهو في اللغة: عظيم الرأس، عن يحيى بن عبد الله بن بكير البصري شيخ البخاري. عن ميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج مولى بني زهرة يكنى أبا أمية، ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه. عن مخرمة بن بكير عن عبد الله بن الأشج المدني قال أحمد: هو ثقة لم يسمع من أبيه شيئًا، إنما يروي عن كتاب أبيه. وعن يحيى: ضعيف. وروى له مسلم وأبو داود والنسائي.

عن أبيه بكير بن عبد الله روى له الجماعة. عن أسامة بن زيد الليثي روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص الزهرية المدنية روى لها البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) ثنا [أبو] (¬2) أسامة، عن هشام بن هاشم. عن عائشة بنت سعد قال: "كان سعد يتطيب عند الإِحرام بالذريرة". وأخرج ابن حزم (¬3) من طريق سفيان، عن أيوب السختياني، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، قالت: "طيبت أبي بالمسك والذريرة لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يزور أو يطوف". انتهى. قلت: الذريرة نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وأما أثر عائشة -رضي الله عنها- فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بالفتح- بن هلال ... إلى آخره، وإسناده صحيح، وذرة -بالذال المعجمة- غير منسوبة، امرأة من الصحابيات، وذكرها ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وقال: ذرة روت عن عائشة، روى عنها زيد بن أسلم، سمعت أبي يقول ذلك. ولم يتعرض لها هل هي صحابية أم لا، ولم يذكر ابن ماكولا في باب درة بالدال المهملة المضمومة وذرة بالذال المعجمة المفتوحة إلاَّ أم ذرة بالمعجمة، وقال أم ذرة مولاة عائشة تروي عن عائشة وأم سلمة، وروى عنها محمد بن المنكدر وأبو اليمان كثير بن جريج. والأثر أخرجه ابن حزم (¬4) من طريق حماد بن سلمة، عن زيد بن أسلم، قال: حدثتني ذرة: "أنهما كانت تغلف رأس عائشة أم المؤمنين بالمسك والعنبر عند الإِحرام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 206 رقم 13482). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬3) " المحلى" (7/ 83). (¬4) "المحلى" (7/ 84).

قوله: "أغلف" أي ألطخ رأس عائشة بالمسك، وأكثره يقال: غلّف بها لحيته غَلَفًا وغلفها تغليفًا. وأما أثر أميمة فأخرجه من طريقين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور، روى له الجماعة. عن عبد الملك بن جريج المكي. عن حكيمة بنت أبي حكيم -ويقال: بنت حكيم- ذكرها ابن حبان في "الثقات". عن أمها ابنة أبي النجار -بالنون المفتوحة وتشديد الجيم وفي آخره راء مهملة- هكذا هو في نسخ الطحاوي، واسمها أميمة وكذا قال ابن ماكولا في كتابه "الإِكمال": وأميمة بنت أبي النجار، قالت: "كن أزواج رسول الله -عليه السلام- يتخذن العصائب ... " الحديث. روى ابن جريج عن حكيمة بنت أبي حكيم عنها. وفي "التكميل": أميمة بنت رقيقة التميمية، ورقيقة أمها، وهي رقيقة بنت عبد -ويقال: عبد الله- بن بجاد بن عمير بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، لها صحبة، ويقال: أميمة بنت أبي النجار، ويقال: إنهما اثنتان، وأمهما رقيقة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى أخت خديجة بنت خويلد زوج النبي -عليه السلام-، ويقال: رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف أم مخرمة بنت نوفل صاحبة الرؤيا التي فيها استسقاء عبد المطلب مع النبي -عليه السلام-، روت عن النبي -عليه السلام- وعن أزواجه، روى عنها محمد بن المنكدر، وابنتها حكيمة بنت أميمة .. انتهى. وقد عرفت من هذا أن اسم أم حكيمة بنت أبي حكيم: أميمة، بلا خلاف ولكن الخلاف في اسم أب أميمة، منهم من قال: أميمة بنت أبي النجار كما في كتاب الطحاوي، ومنهم من قال: أميمة بنت بجاد -بكسر الباء الموحدة وبالجيم المخففة وفي آخره دال مهملة- وقال في "الإِكمال" لابن ماكولا -في ما فيه اختلاف-: أميمة

بنت بجاد بن عمير بن الحارث، وأمها رقيقة بنت خويلد بن أسد، وقيل: أميمة بنت أبي النجار، روت عنها ابنتها حكيمة انتهي. وقيل: الصواب أميمة بنت عبد بن بجاد، قاله الزبير في نسب قريش ولم يذكر خلافًا. أخرجه الطبراني في "الكبر" (¬1): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرتني حكيمة عن أمها أميمة: "أن أزواج النبي -عليه السلام- كن يجعلن عصائب فيهن الورس والزعفران فيعصبن بها أسفل شعورهن من جباههن قبل أن يحرمن، ثم يحرمن كذلك". الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي ... إلى آخره. قوله: "عصائب" جمع عصابة، وهي كل ما عصبت به المرأة رأسها من مناديل أو خرقه. و"الورس" نَبْتٌ أصفر يصبغ به، وقد أورس المكان فهو وارس، والقياس مورس، وفي "المطالع" الورس: صبغ أصفر معروف. وأما أثر عبد الله بن الزبير فأخرجه بإسناد صحيح، عن نصر بن مرزوق، وقد تكرر رجاله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبدة بن سليمان؛ عن هشام بن عروة: "أن ابن الزبير -رضي الله عنهما- كان يدهن عند إحرامه بالغالية الجيدة". ص: فهذا قد جاء في ذلك عمن ذكرناه في هذه الآثار من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما يوافق ما قد روته عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -عليه السلام- من تطيبه عند الإِحرام، وبهذا كان يقول أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله-. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 189 رقم 478). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 206 رقم 13489).

ش: أي فهذا الحكم الذي ذكرناه، وهو جواز استعمال الطيب عند الإِحرام قد جاء فيه عمن ذكرناه في هذه الآثار من أصحاب رسول الله -عليه السلام-وهم الصحابة الأربع الذين ذكرناهم عن قريب- ما يوافق ما قد روته عائشة عن النبي -عليه السلام-، وهو الذي أخرجه من ثمانية عشر طريقًا، وكفى بذلك حجة، وروي في ذلك أيضاً عن عبد الله بن جعفر وأنس بن مالك والحسن بن علي وأبي ذرٍّ -رضي الله عنهم-. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وروينا من طريق محمد بن قيس، عن الشعبي قال: "كان عبد الله بن جعفر يتطيب بالمسك عند إحرامه". ومن طريق ابن أبي شيبة، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن صالح بن حيان قال: "رأيت أنس بن مالك أصاب ثوبه من خلوق الكعبة وهو محرم فلم يغسله". ومن طريق وكيع، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين: "أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أمر لأصحابه بالطيب عند الإِحرام". ومن طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن مرة بن خالد الشيباني قال: "سألنا أبا ذر بالربذة، بأي شيء يدهن المحرم؟ قال: بالدهن". ص: وأما محمد بن الحسن -رحمه الله-: فإنه كان يذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وعثمان بن أبي العاص وابن عمر -رضي الله عنهم- من كراهته، وكان من الحجة له في ذلك: أن ما ذكر في حديث عائشة -رضي الله عنها- من تطيب رسول الله -عليه السلام- عند الإِحرام إنما فيه أنها كانت تطيبه إذا أراد أن يحرم، فقد يجوز أن يكون كانت تفعل به هذا ثم يغتسل إذا أراد أن يحرم فيذهب بغسله عنه ما كان على بدنه من طيب ويبقي فيه ريحه. ش: لما كان مذهب محمد بن الحسن كراهة التطيب عند الإِحرام لما روي عن هؤلاء الصحابة وذكر فيما مضى، وكان هذا اختياره على ما يقول في آخر الباب وبه يأخذ، ذكره ليجيب عن ما روي عن عائشة الذي احتجت به أهل المقالة الثانية الذين أبو حنيفة وأبو يوسف منهم نصرة لما قاله محمد الذي هو مختاره، وهو الذي ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 83 - 84).

أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة له" أي لمحمد -رحمه الله-: "في ذلك" أي فيما ذهب إليه، وهو ظاهر. وقد أجاب بعضهم نصرة له بأن هذا كان مخصوصًا بالنبي -عليه السلام-، وفيه نظر؛ لأنه قد روى ابن حزم (¬1): من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "طيبته -عليه السلام- بيدي" وروي أنهن كن يضمخن جباههن بالمسك ثم يحرمن ثم يعرقن، فيسيل على وجوههن، فيرى ذلك رسول الله -عليه السلام- فلا ينكره. ص: فإن قال قائل: فقد قالت عائشة -رضي الله عنها- في حديثها: "كنت أرى وبيص الطيب في مفارقه بعد ما أحرم" قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك وقد غسله كما ذكرنا، وهكذا الطيب ربما غسله الرجل عن وجهه أو عن بدنه فيذهب، ويبقى وبيصه، فلما احتمل ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- من ذلك ما ذكرنا؛ نظرنا هل فيما روي عنها شيء يدل على ذلك؟ فإذا فهد قد حدثنا قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: "سألت ابن عمر عن الطيب عند الإِحرام، فقال: ما أحب أن أصبح محرمًا ينضخ مني ريح الطيب، فأرسل ابن عمر بعض بنيه إلى عائشة -رضي الله عنها- ليسمع أباه ما قالت، قال: فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- ثم طاف في نسائه فأصبح محرمًا، فسكت ابن عمر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فدل هذا الحديث على أنه قد كان بين إحرامه وبين تطييبها إياه غسل؛ لأنه لا يطوف عليهن إلاَّ اغتسل، فكأنها إنما أرادت بهذه الأحاديث الاحتجاج على من كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب، كما كره ذلك ابن عمر -رضي الله عنهما- فأما بقاء نفس الطيب على بدن المحرم بعد ما أحرم وإن كان تطيب قبل الإِحرام فلا، فَتَفَهَّم هذا الحديث فإن معناه معنى لطيف. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 87).

ش: هذا السؤال وارد على قوله: "فقد يجوز أن يكون كانت تفعل به ... " إلى، آخره، تقريره أن يقال: كيف يجوز ما ذكرت من التأويل وقد قالت عائشة في حديثها: "كنت أرى وبيص الطيب -أي بريقه ولمعانه- في مفارقه بعد ما أحرم" وهذا ينافي ما ذكرتم من التأويل؟ فأجاب عنه بقوله: "قيل له: تقريره أن يقال: يجوز أن يكون بريقه موجودَّا وقد كان غسله، وهكذا شأن الطيب ربما يغسله الرجل عن بدنه أو عن وجهه أو عن عضو من أعضائه، فيذهب بالغسل ويبقى بريقه ولمعانه. قوله: "فلما احتمل ما روي عن عائشة ... " إلى آخره. هذا يمكن أن يكون جوابًا عما يقال: هل تجد دليل من الحديث يدل على صحة ما ذكرتم من التأويل؟ فقال: نعم، وهو ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- ثم طاف في نسائه، فأصبح محرمًا" فهذا يدل على أنه قد كان بين إحرامه -عليه السلام- وبين تطييب عائشة -رضي الله عنها- إياه غسل، لأنه -عليه السلام- ما كان يطوف على نسائه إلاَّ وقد اغتسل، فدل أن الغسل كان متخللًا بين التطييب والإِحرام، ثم لا شك أن الطيب كان يزول بالغسل غير أنه قد كان يبقى ريحه ووبيصه، وفهم من هذا أن مراد عائشة بهذه الأحاديث التي روى عنها بطرق مختلفة الإِنكار على من قد كان كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب، لا أنها قصدت بذلك إباحة الطيب عند الإِحرام، وهو معنى قوله: "فأمَّا بقاء نفس الطيب على بدن المحرم ... " إلى آخره. وقد اعترض ابن حزم (¬1) على الطحاوي في هذا المقام، فقال: كل من الرواة عن عائشة ممن لا يعدل محمد بن المنتشر بأحد منهم لو انفرد، فكيف إذا اجتمعوا من أنها قالت: إنها طيبته -عليه السلام- عند إحرامه ولإِحلاله قبل أن يطوف بالبيت، وما رواه من رواه منهم من أنها رأت الطيب في مفارقه -عليه السلام- بعد ثالثة من إحرامه أيضًا، فقد صح بيقين لا خلاف فيه أنه -عليه السلام- إنما أحرم في تلك الحجة إثر صلاة الظهر، فصح أن ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 87).

الطيب الذي روى ابن المنتشر هو طيب آخر كان قبل ذلك بليلة طاف فيها -عليه السلام- على نسائه ثم أصبح كما في حديث ابن المنتشر. قلت: محمد بن المنتشر ممن روى له الجماعة، فإذن لا اعتبار لقوله: "ممن لا يعدل محمد بن المنتشر بأحد منهم" وقد قيل: إن الطيب الذي طيبت به عائشة رسول الله -عليه السلام- كان من الذي لا يبقى له ريح، وقال القاضي: أو نقول: إنه أذهبه غسل الإِحرام. ويعضد هذا التأويل ما ذكر مسلم في الحديث: "طيبت رسول الله -عليه السلام- عند إحرامه، ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فقد ظهرت علة تطييبه أنها إنما كانت لمباشرة نسائه، وأن غسله بعد ذلك منهن وغسله للإِحرام أذهبه، لا سيما وقد ذكر عنه أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل مواقعة الأخرى، فأي طيب يبقى بعد أغسال كثيرة؟! ثم قال: وقد ثبت أن الطيب الذي طيبته به ذريرة، وهي مما يذهبها الغسل ولا يبقى ريحها بعده. وقال البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬1) وغيره: واحتج الطحاوي في وجوب غسله قبل الإِحرام حتى يذهب أثره بحديث محمد بن المنتشر، وليس في هذا الحديث أنه أصابهن حتى وجب عليه الغسل، وقد كان يطوف عليهن من غير أن يصيبهن، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "قلّ يوم -أو ما كان يوم- إلاَّ ورسول الله -عليه السلام- يطوف علينا جميعًا، فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء [الذي هو] (¬2) يومها يبت عندها" ثم إن كان في هذا الحديث دلالة على أنه اغتسل بعد ما تطيب أو اغتسل للإِحرام كما روي في بعض الأخبار؛ ففي حديث إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: "كأني انظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله -عليه السلام- وهو محرم" وفي حديث عطاء بن السائب، عن إبراهيم بعد ثلاث، وفي هذا دلالة على بقاء عينه وأثره عليه بعد الإِحرام؛ لأن وبيص المسك: بريقه ولمعانه ولا يكون لرائحة الطيب بريق إنما البريق لعينه الباقية عليه. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (3/ 548). (¬2) في "الأصل، ك": "هو الذي"، والمثبت من "المعرفة".

قلت: قول عائشة -رضي الله عنها- في حديث محمد بن المنتشر: "فأصبح محرمًا" قرينة على أن المراد من قولها: "فطاف في نسائه" هو الوقاع على سبيل الكفاية لا التقبيل ولا اللمس، وهذا ظاهر لا يدفع؛ لأن المحرم ممنوع من الجماع، وربما يمكث الرجل في إحرامه مدة طويلة من الزمن، فلا يطوف من يريد الإِحرام على نسائه إلاَّ لأجل الوقاع، بخلاف قولها: "قل يوم -أو ما كان يوم- إلاَّ ورسول الله -عليه السلام- يطوف علينا" فإن هذا لا يشابه ما نحن فيه، فافهم. وقوله: "وفي هذا دلالة على بقاء عينه ... إلى آخره" قد ذكرنا أن الثابت عن الطيب الذي طيبته به عائشة -رضي الله عنها- هو الذريرة وأن ذلك مما يذهبها الغسل فيحتمل أن يذهب ذلك عن بدنه ويبقى وبيضها، وكذلك المسك يحتمل أن يكون مخلوطًا بشيء آخر بحيث أنه قد تلبس بالبدن، فذهب عينه بالغسل وبقي وبيصه، وهذا يعرف بالمس لأن الوبيص يكون من دهنه وقد بين ذلك في حديث آخر: "ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك". ثم إسناد حديث ابن المنتشر صحيح، وأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر وثقه ابن حبان، عن أبيه محمد بن المنتشر روى له الجماعة، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سعيد بن منصور وأبو كامل جميعًا، عن أبي عوانة -قال سعيد: أنا أبو عوانة- عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: "سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرمًا، فقال: ما أحب أن أصبح محرمًا أنضح طيبًا، لأَن أُطْلَى بقطران أحب إليّ من أن أفعل ذلك، فدخلت على عائشة، فأخبرتها أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرمًا أنضح طيبًا، لأن أطلي بقطران أحب إليَّ من أن أفعل ذلك، فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 849 رقم 1192).

وأخرجه البخاري (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. قوله: "ينضخ مني" أي يفور ومنه {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (¬3) وقال ابن الأثير: النضخ بالخاء المعجمة قريب من النضح بالمهملة، وقد اختلف فيهما أيهما أكثر، والأكثر أنه بالمعجمة أقل من المهملة، وقيل: هو بالمعجمة الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة الفعل نفسه، وقيل: هو بالمعجمة ما فعل تعمُدًا، وبالمهملة من غير تعمد، وقال: في حديث الإِحرام: "ثم أصبح محرمًا ينضح طيبًا" أي يفوح، فذكره في الحاء المهملة، ثم قال: والنَّضوح -بالفتح- ضرب من الطيب تفوح رائحته، وأصل النضح الرشح فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح، وفي "المطالع" النضخ بالخاء المعجمة كاللطخ يبقى له أثر، قال ابن قتيبة: وهو أكثر من النضح بالمهملة، ولا يقال فيه: نضحت، وقد يكون معنى الحديث على هذا: يقطر ويسيل منه الطيب كما جاء في حديث محمد بن عروة: "وقد لطخ بالغالية، وجعل أبوه يقول: قطرت قطرت" وقيل: بالمعجمة فيما ثخن كالطيب، وبالمهملة فيما رق كالماء، وقيل: كلاهما سواء. قوله: "ثم طاف في نسائه" أي على نسائه وكلمة "في" تجيء بمعنى "علي" كما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬4) أي على جذوع النخل. ص: فقد بينا وجوه هذه الآثار، فاحتجنا بعد ذلك أن نعلم كيف وجه ما نحن فيه من الاختلاف من طريق النظر، فاعتبرنا ذلك، فرأينا الإِحرام يمنع من لبس القميص والسراويلات والخفاف والعمائم، ويمنع من الطيب وقتل الصيد وإمساكه، ثم رأينا الرجل إذا لبس قميصًا أو سراويل قبل أن يحرم ثم أحرم وهو عليه أن يؤمر بنزعه، وإن لم ينزعه وتركه عليه كان كمن لبسه بعد الإِحرام لبسًا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 105 رقم 267). (¬2) "المجتبى" (1/ 203 رقم 417). (¬3) سورة الرحمن، آية: [66]. (¬4) سورة طه، آية: [71].

مستقلًا، فيجب عليه في ذلك ما يجب عليه فيه لو استأنف لبسه بعد إحرامه، وكذلك لو صاد صيدًا في الحل وهو حلال فأمسكه في يده أمر بتخليته، وإن لم يخله كان إمساكه له بعد ما أحرم بصيده إياه المتقدم إلى كإمساكه إياه بعد إحرامه بصيد كان منه بعد إحرامه، فلما كان ما ذكرنا كذلك، وكان الطيب محرمًا على المحرم بعد إحرامه كحرمة هذه الأشياء، كان ثبوت الطيب عليه بعد إحرامه وإن كان قد تطيب به قبل إحرامه كتطيبه به بعد إحرامه؛ قياسًا ونظرًا على ما بينا، فهذا هو النظر في هذا الباب، وبه نأخذ، وهو قول محمد بن الحسن -رحمه الله-. ش: لما بين وجوه الأحاديث الواردة في هذا الباب، ورجح ما ذهب إليه محمد بن الحسن واختاره؛ أشار إلى أن وجه النظر والقياس أيضًا يقتضي ما ذهب إليه محمد بن الحسن -رحمه الله-. بيانه: أن الإِحرام يمنع المحرم من لبس المخيط وتغطية الرأس واستعمال الطيب وقتل الصيد وإمساكه، حتى لو أحرم وهو متلبس بشيء من هذه الأشياء يؤمر بخلعه، فإن لم يطع واستمر عليه كان حكمه كحكم من أنشأ ذلك في إحرامه في وجوب الجزاء، فإذا كان الأمر كذلك، وكان الطيب محرمًا عليه بعد إحرامه، كان بقاؤه عليه بعد إحرامه وإن كان قد استعمله وهو حلال كاستعماله وهو محرم؛ قياسًا على ذلك ونظرًا عليه، والجامع: الارتفاق وهو محرم. فإن قيل: بقاؤه ليس كابتدائه، والذي عليه أثر الطيب الذي تطيب به قبل الإِحرام لا يسمى متطيبًا، ولأن النهي [عن] (¬1) التطيب بعد الإِحرام، ولم يوجد. قلت: قد ورد في الآثار: "أن الحاج هو الأذفر الأغبر" رواه ابن أبي شيبة (¬2) عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبقاء الطيب عليه ينافي ذلك، وأيضًا يكون مرتفقًا به، والمحرم ممنوع عن ذلك، فاستوت فيه الحالتان. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 208 رقم 13512).

ثم المحرم إذا دام عليه الطيب الذي قد كان تطيب به قبل الإِحرام هل تجب عليه الفدية؟ فعلى الخلاف المذكور، وقد قال عطاء والثوري: لا فدية على المحرم المتضمخ، ولا على اللائس، وإليه ذهب الشافعي وإسحاق وداود وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه: عليه الفدية، وعن مالك: تلزمه الفدية إذا انتفع بذلك أو طال لبثه عليه. والله أعلم. ***

ص: باب: ما يلبس المحرم من الثياب

ص: باب: ما يلبس المحرم من الثياب ش: أي هذا باب في بيان ما يجوز لبسه للمحرم من الثياب وما لا يجوز. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قالوا: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد يقول: سمعت ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي -عليه السلام- بعرفة يقول: "من لم يجد إزارًا لبس سراويل، ومن لم يجد نعلين لبس خفين". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله، ولم يذكر: "عرفة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عمرو بن دينار ... فدكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "سمعت النبي -عليه السلام- وهو يخطب ... " فذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس ... فذكر مثله، غير أنه لم يقل: "وهو يخطب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، قال: ثنا ابن عباس: "أنه سمع النبي -عليه السلام- يخطب .. " فذكر نحوه، قلت: ولم يقل: "يقطعهما؟ قال: لا".

ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، شيخ البخاري وأبي داود وعن سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء الجوفي -بالجيم- ورى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو الوليد، نا شعبة، قال: حدثني عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد، سمعت ابن العباس يقول: "سمعت النبي -عليه السلام- يخطب بعرفات: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل للمحرم". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن شعبة .. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر. وحدثني أبو غسان الرازي، قال: نا بهز، قالا جميعًا: نا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا: ثنا أبو كريب، قال: نا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشر ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا: ثنا يحيى بن يحيى، قال أنا هشيم، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 654 رقم 1744). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 835 رقم 1178). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تقديمه.

الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود أيضاً، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "السراويل لمن لا يجد الإزار، والخف لمن لا يجد النعلين". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: سمعت النبي -عليه السلام- يخطب -قال هشام: على المنبر- فقال: "من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" قال هشام في حديثه: "فليلبس سراويل إلاَّ أن يفقد". السادس: عن أبي بكرة بكار، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "قال رسول الله -عليه السلام-: إذا لم يجد المحرم الإزار لبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين لبس الخفين". السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره، وأبو الشعثاء كنية جابر بن زيد. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬3): أنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو ابن دينار، عن أبي الشعثاء، قال: أخبرني ابن عباس، أنه سمع النبي -عليه السلام- قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 166 رقم 1829). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 977 رقم 2931). (¬3) "سنن الدارمي" (2/ 50 رقم 1799).

"من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين، قال: قلت -أو قيل-: أيقطعهما؟ قال: لا". وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي أيضًا. فالترمذي (¬1): عن أحمد بن عبدة الضبي، عن يزيد بن زريع، عن أيوب، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. والنسائي (¬2): عن قتيبة، عن حماد، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. قوله: "إزارًا" وهو معروف، يُذَكَّر ويُؤَنَّث، والإزارة مثله، كما قالوا للوساد: وسادة. وموضع الإزار من الحقوين، ويجمع على آزرة في القلة، وأُزر في الكثرة مثل: حمار وأحمرة وحمر. قوله: "سراويل" هكذا هو بالتنوين لأنها مصروفة في النكرة، قال الجوهري: السراويل معروف يُذَكَّر ويُؤَنَّث والجمع السراويلات. وقال سيبويه: سراويل واحدة، وهي أعجمية أعربت فأشبهت في كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهي مصروفة في النكرة، قال وإن سميت بها رجلاً لم تصرفها، ومن النحويين من لا يصرفه أيضًا في النكرة، ويزعم أنه جمع سروال وسروالة وينشد: [عليه] (¬3) من اللؤم سراولة. ويحتج في ترك صرفه بقول ابن الرومي: فتى فارسي في سراويل رامح، والعمل على القول الأول، والثاني أقوى، وسرولته ألبسته السراويل، فتسرول. ص: حدثنا الحسين بن الحكم الحبري الكوفي، قال: ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 195 رقم 834). (¬2) "المجتبى" (5/ 133 رقم 2672). (¬3) تكررت في "الأصل، ك".

ش: إسناده صحيح، وقد ذكرنا مرة أن الحبري نسبة إلى بيع الحِبَر -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة- وهو جمع حِبْرة كعنبة وهي البرد اليماني. وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس. وأخرجه مسلم (¬1): نا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: نا أبو الزبير، عن جابر .. إلى آخره نحوه سواء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: من لم يجد إزارًا وهو محرم لبس سراويل ولا شيء عليه، ومن لم يجد نعلين لبس خفين ولا شيء عليه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وداود؛ فإنهم قالوا: من لم يجد إزارًا وهو محرم لبس سراويل ولا فدية عليه، وكذا من لم يجد نعلين لبس خفين ولا شيء عليه، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة عن ابن عباس وجابر ابن عبد الله -رضي الله عنهم- وفي "شرح الموطأ": واختلفوا إذا لم يجد إزارًا هل له أن يلبس السراويل؟ فكرهه مالك وأبو حنيفة، وجعلا فيه الفدية إلاَّ أن يشقه ويأتزر به، وأجازه الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وداود. واختلفوا إذا لم يجد النعلين هل يلبس الخفين ولا يقطعهما؟ فأجازه أحمد وطائفة من أهل العلم، قال عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد، ومنع ذلك أكثر أهل العلم حتى يقطعهما أسفل من الكعبين، وبه قال مالك والشافعى وأبو حنيفة والثوري وإسحاق وجماعة من التابعين. وقال ابن حزم: ومن وجد خفين ولم يجد نعلين فقد قال قوم: يلبسهما كما هما ولا يقطعهما، وقال قوم: يشق السراويل فيأتزر بها، واحتج من أجاز له لباس السراويل والخفين بحديث ابن عباس، وقال بعضهم: قطع الخفين إفساد للمال. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 836 رقم 1179).

وقد نهي عنه، قال عليّ: حديث رسول الله -عليه السلام- لا يحل خلافه، فيلبس السراويل كما هي ولا شيء في ذلك، وأما الخفان فحديث ابن عمر فيه زيادة القطع -حتى يكونا أسفل من الكعبين- على حديث ابن عباس، فلا يحل خلافه ولا ترك الزيادة. وعن سفيان، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي أنه قال: في المحرم لا يجد نعليه قال: "يلبس الخفين ويقطعهما حتى يكونا مثل النعلين" وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي سليمان، وبه نأخذ. وروينا عن عائشة أم المؤمنين والمسور بن مخرمة إباحة لبس الخفين بلا ضرورة للمحرم من الرجال، وقال أبو حنيفة إن لم يجد إزارًا لبس سراويل، فإن لبسها يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن لبسهما أقل من ذلك فعليه صدقة، وإن لبس خفين لعدم النعلين يوما إلى الليل فعليه دم، وإن لبسهما أقل من ذلك فصدقة، وقال مالك: من لم يجد إزارًا لبس سراويل وافتدى، وإن لم يجد النعلين قطع الخفين أسفل من الكعبين ولبسهما ولا شيء عليه، وقال محمد بن الحسن: يشق السراويل ولا شيء عليه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الليث بن سعد وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا، فإن عندهم المحرم إذا لم يجد إزارًا يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين يلبس خفين، ولكن يجب عليه الفدية. وفي "البدائع": المحرم إذا لم يجد الإزار وأمكنه فتق السراويل والتستر به فتقه فإن لبسه ولم يفتقه فعليه دم في قول أصحابنا، وقال الشافعي: يلبسه ولا شيء عليه، وإن لم يجد رداء وله قميص فلا بأس أن يشق قميصه ويرتدي به لأنه لما شقه صار بمنزلة الرداء، وكذا إذا لم يجد إزارًا فلا بأس أن يفتق سراويله خلا موضع التكة ويأتزر به، لأنه إذا فتقه صار بمنزلة الإزار، وكذا إذا لم يجد النعلن وله خفاف فلا بأس أن يقطعهما أسفل من الكعبين فيلبسهما. انتهى.

وقال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": وأجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل، واختلفوا فيه إذا لم يجد إزارًا هل يلبس السراويل؟ وإن لبسهما على ذلك هل عليه فدية أم لا؟ فكان مالك وأبو حنيفة يريان على من لبس السراويل وهو محرم الفدية، وسواء عند مالك وجد الإزار أو لم يجد، وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل ولا شيء عليه، وروى ابن وهب عن مالك والليث: من لبس خفين مقطوعين أو غير مقطوعين إذا كان واجدًا للنعلين فعليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه إذا لبسهما مقطوعين أو غير مقطوعين وهو واجد للنعلين، واختلف قول الشافعي فيمن لبس الخفين مقطوعين وهو واجد للنعلين، فمرة قال: عليه الفدية، ومرة قال: لا شيء عليه. ص: فقالوا: أما ما ذكر نحوه من لبس المحرم الخف والسراويل على حال الضرورة فنحن نقول بذلك ونبيح له لبسه للضرورة التي هي به، ولكنا نوجب عليه مع ذلك الكفارة، وليس فيما رويتموه نفي لوجوب الكفارة، ولا فيه ولا في قولنا خلاف لشيء من ذلك، لأنا لم نقل: لا يلبس الخفين إذا لم يجد نعلين ولا السراويل إذا لم يجد إزارًا ولو قلنا ذلك لكنا مخالفين لهذا الحديث، ولكنا قد أبحنا له اللباس كما أباح له النبى -عليه السلام-، ثم أوجبنا عليه مع ذلك الكفارة بالدلائل القائمة الموجبة لذلك. ش: أي فقال هؤلاء الآخرون، وهذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من حديث ابن عباس وجابر، بيانه أن يقال: إن حديثهما ليس بحجة علينا ولا نحن خالفناه، ولا تركنا العمل به، فإنا أيضًا نقول به، ونجوز لبسه للضرورة كما جوزتم أنتم، ولكنا نحن نقيد الجواز بالكفارة، فإذا لبس وجب عليه الكفارة، لأنه ليس في الحديث ما يدل على نفي وجوب الكفارة، غاية ما في الباب الذي يدل عليه الحديث جواز لبس الخفين عند عدم النعلين وجواز لبس السراويل عند عدم الإزار، ولو نفينا هذا لكان منا خلاف للحديث، ولم ننف ذلك، بل قد جوزناه، كما جوزه النبي -عليه السلام- ثم أوجبنا الكفارة لدلائل أخرى دلت عليه.

ص: وقد يحتمل أيضًا قوله -عليه السلام- من لم يجد نعلين فليلبس خفين على أن يقطعهما من تحت الكعبين، فيلبسهما كما يلبس النعلين، وقوله: "ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل على أن يشق السراويل فيلبسه كما يلبس الإِزار، فإن كان هذا الحديث أريد به هذا المعنى فلسنا نخالف شيئًا من ذلك، ونحن نقول بذلك ونثبته، وإنما وقع الخلاف بيننا وبينكم في التأويل لا في نفس الحديث، لأنا قد صرفنا الحديث إلى وجه يحتمله، فاعرفوا موضع خلاف التأويل من موضع خلاف الحديث فإنهما مختلفان، ولا توجبوا على من خالف تأويلكم الحديث خلافًا لذلك الحديث. ش: هذا جواب آخر، بيانه أن يقال: إن معنى قوله: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين بعد قعطهما من تحت الكعبين، ومعنى قوله: "ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل بعد شقها، فإن كان معنى الحديث هذا فليس فيه خلاف منا أصلًا بل نحن نقول به ونثبته، فحينئذ يكون الخلاف بيننا وبينكم في إثبات هذا الحديث، ولا يقال: صرف الحديث إلى هذا المعنى بعيد، لأنا نقول إنما صرفناه إلى وجه يحتمله، لأن المحرم ممنوع عن لبس المخيط على أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- روى حديثًا يبين هذا ويدل على أن معناه هو المعنى الذي صرفنا الحديث إليه على ما يأتي الآن -إن شاء الله تعالى- ولما لم يميز الخصم موضع خلاف التأويل من موضع خلاف الحديث نبه عليه بقوله فاعرفوا موضع خلاف التأويل ... إلى آخره. ص: وقد بين عبد الله بن عمر عن النبي -عليه السلام- بعض ذلك. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل النبي -عليه السلام- ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ فقال: لا تلبس السراويلات ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف إلاَّ أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس خفين أسفل من الكعبين". حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -عليه السلام- مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: ثنا سفيان -هو ابن عيينة- عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبى -عليه السلام- مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، قالا جميعًا: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الله بن دينار، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين، وليشقهما من عند الكعبين". فهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- يخبر عن النبي -عليه السلام- بلبس الخفين الذي أباحه للمحرم كيف هو، وأنه بخلاف ما يلبس الحلال، ولم يبين ابن عباس في حديثه من ذلك شيئًا، فحديث ابن عمر أولاهما وإذا كان ما أباح للمحرم من لبس الخفين هو بخلاف ما يلبس الحلال فكذلك ما أباح له من لبس السراويل هو خلاف ما يلبس الحلال، فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: أي وقد بين عبد الله بن عمر فيما رواه عن النبي -عليه السلام- بعض ذلك، وأشار به إلى ما ذكره من التأويل في قوله: "وقد يحتمل أيضًا قوله -عليه السلام- ... إلى آخره" بيانه أن عبد الله بن عمر أخبر عن النبي -عليه السلام- بكيفية لبس المحرم الخفين، كيف يكون حيث قال: فليلبس خفين أسفل من الكعبين، وقال: وليشقها من عند الكعبين، ولم يبين

كذلك ابن عباس في حديثه، فيكون حديث ابن عمر أولى بالعمل؛ لأن فيه زيادة على ذلك. وقال ابن حزم: حديث ابن عمر فيه زيادة لا يحل خلافها. وقال أبو عمر: قال الشافعي: ابن عمر -رضي الله عنهما- قد زاد على ابن عباس شيئًا نقص ابن عباس وحفظه ابن عمر، وذلك قوله: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" والمصير إلى رواية ابن عمر أولى، ويقال: حديث ابن عباس مطلق وليس فيه القطع، وحديث ابن عمر مقيد فيحمل ذلك المطلق على المقيد لأن الزيادة من الثقة مقبولة. فإن قيل: قد ذكر أن قوله: "فليقطعهما" من كلام نافع. وكذا في أمالي أبي القاسم بن [بشران] (¬1) بسند صحيح: أن نافعًا قال بعد روايته للحديث: "وليقطع الخفين أسفل الكعبين" وذكر ابن العربي وابن التين: أن جعفر بن برقان قال في روايته: قال نافع: "ويقطع الخفاف أسفل من الكعبين"، وقال ابن قدامة: ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما قد نسخ، قال عمرو بن دينار روى الحديثين جميعًا وقال: انظروا أيهما كان قبل، وقال الدراقطني: قال أبو بكر النيسابوري: حديث ابن عمر قبل، لأنه قد جاء في بعض الروايات: "نادى رجل رسول الله -عليه السلام- في المسجد" يعني في المدينة، فكأنه كان قبل الإِحرام، وحديث ابن عباس يقول: "سمعته يخطب بعرفات" الحديث، فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فيكون ناسخًا له؛ لأنه لو كان واجبًا لبينه للناس، إذْ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وقال ابن الجوزي: روى حديث ابن عمر مالك وعبيد الله وأيوب في آخرين فوقفوه على ابن عمر، وحديث ابن عباس سالمٌ من الوقف مع ما عضده من حديث جابر -رضي الله عنه- وقد أخذ بحديثنا عمر وعلي وسعد وابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم- ثم إنا نحمل قوله: "وليقطعهما" على الجواز من غير كراهة لأجل الإِحرام ونهى عن ذلك ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "بشر"، وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه.

في غير الإِحرام لما فيه من الفساد، فأما إذا لبس الخف المقطوع من أسفل الكعب مع وجود النعل، فعندنا أنه لا يجوز، ويجب عليه الفداء خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. قلت: قال أبو عمر: قد اتفق الحفاظ من أصحاب مالك على لفظة: "وليقطعهما" أنها من لفظ الحديث، وأما جعفر بن برقان فوهم فيه في موضعين: الأول: جعله هذا من قول نافع أنه قال فيه: "من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل" وليس هذا حديث ابن عمر. الثاني: جعله هذا موقوف، وقد روى أحمد بن حنبل حديث ابن عمر مرفوعًا وفيه ذكر القطع، وقال: ليس نجد أحدًا يرفعه غير زهير، قال: وكان زهير من معادن الصدق، ذكره عنه الميموني. وفي بعض نسخ "المجتبى" (¬1): لأبي عبد الرحمن النسائي في حديث ابن عباس من رواية عمرو بن دينار زيادة: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" كحديث ابن عمر، لكن يعكر عليه ما ذكره أحمد في "مسنده" عن عمرو، أن أبا الشعثاء أخبره، عن ابن عباس بالحديث، وفيه قال: "فقلت له: ولم يقل: ليقطعهما؟ قال لا". وكذا أخرجه الدارمي في "سننه" (¬2) والطحاوي في هذا الباب وقد ذكرناه، وأما قولهم: "حديث ابن عباس بعرفات، وحديث ابن عمر بالمدينة، وأن المتأخر ينسخ المتقدم". فيفسده ما ذكره ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3): عن ابن عباس سمعت رسول الله -عليه السلام- وهو يخطب ويقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار". ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (4/ 199 رقم 2681). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (4/ 200 رقم 2682).

ونا أحمد بن المقدام، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل النبي -عليه السلام- وهو بذاك المكان، فقال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم؟ ... " الحديث كأنه يشير بذاك المكان إلى عرفات، فإذا كان كذلك فليس فيه دلالة على ما ذكروه وادعوه من النسخ، والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من تسع طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز ... إلى آخره، والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد بن سنان. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وعمرو بن علي، قالا: ثنا يزيد -وهو ابن هارون- قال: أنا يحيى -وهو ابن سعيد الأنصاري- عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل رسول الله -عليه السلام - ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ قال: لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف إلاَّ أن يكون أحد ليس له نعلان فليلبس الخفين أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه ورس ولا زعفران". الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة مهران البصري، روى له الجماعة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقى في "سننه" (¬2): من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "نادى رجل، يا رسول الله، وهو يخطب وهو بذلك المكان -وأشار نافع إلى مقدم المسجد- فقال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس السراويل ولا القميص ولا العمامة ولا الخفين إلاَّ أحد لا يجد نعلين فليقطعهما فليلبسهما أسفل من الكعبين، ولا شيئًا من الثياب مسه ورس وزعفران ولا البرنس". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 134 رقم 2675). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 49 رقم 8843).

وأخرجه البخاري مختصرًا (¬1). الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2): من حديث حماد، عن أيوب، عن نافع ... إلى آخره. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلاً سأل النبي -عليه السلام- ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلاَّ أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس". وأخرجه أبو داود (¬4): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك نحوه. وابن ماجه (¬5): عن أبي مصعب، عن مالك نحوه. الخامس: عن عيسى بن إبراهيم بن عيسى الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي أيضاً، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬6): نا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "سأل رجل رسول الله -عليه السلام- ما يترك المحرم من الثياب؟ فقال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2184 رقم 5458). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (4/ 200 رقم 2682). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 835 رقم 1177). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 165 رقم 1824). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 977 رقم 2929). (¬6) "سنن أبي داود" (2/ 165 رقم 1823).

لا يلبس القميص ولا البرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبًا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلاَّ أن لا يجد النعلين، فمن لم يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين". السادس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروذي، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) نحوه. السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال، عن عبد العزيز ابن مسلم القسملي المروذي ثم البصري، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع عبد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬2) أيضًا: ثنا عفان، نا عبد العزيز بن مسلم، نا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -عليه السلام-: "نهى أن يلبس المحرم ثوبًا صبغ بورس أو زعفران، وقال رسول الله -عليه السلام-: من لم يكن له نعلان فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين". الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى المصري عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬3): عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أنه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغًا بزعفران أو ورس، وقال: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين". التاسع: عن محمد بن خزيمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 8 رقم 4538). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 73 رقم 5427). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 325 رقم 709).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار سمع ابن عمر يقول: "إن رسول الله -عليه السلام- قال: من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين، قلت: للمحرم، قال: للمحرم". قوله: "السراويلات" جمع سراويل، وقد مر الكلام فيه عن قريب. و"العمائم" جمع عمامة، يقال: اعتم بالعمامة، وتعمم بها. و"البرانس" جمع برنس، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دُرَّاعة، أو جبةٍ، أو مِمْطَرٍ أو غيره. وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإِسلام، وهو من البِرْس -بكسر الباء- وهو القطن، والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي. وقال ابن حزم: كل ماجُبَّ فيه موضع لإِخراج الرأس منه فهو جبة في لغة العرب، وكل ما خيط أو نسج في طرفيه ليتمسك على اللابس فهو برنس كالغفارة ونحوها. قوله: "أسفل من الكعبين" والكعب هو العظم الناتئ عند مفصل الساق والقدم عند الجنب، ولكن هذا المعنى هذا المراد في باب الوضوء، والكعب الذي في باب الحج هو المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك. فإن قيل: هذا الحديث فيه نوع إشكال؛ لأن فيه: أن رجلاً سأل النبي -عليه السلام-: ما يلبس من الثياب؟ فهذا سؤال عما يلبس المحرم، فأجاب -عليه السلام- عنه بشيء آخر لم يسأل عنه حيث قال: "لا تلبسوا السراويلات ... " إلى آخره، فهذا عدول عن محل السؤال، أو يوجب أن يكون إثبات الحكم في المذكور دليلاً على أن الحكم في غيره بخلافه وهذا خلاف المذهب. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 256 رقم 1883).

قلت: قد قيل: إنه يحتمل أن يكون السؤال عما لا يلبسه، وأضمر كلمة "لا" في محل السؤال، لأن كلمة "لا" قد تراد في الكلام وقد تحذف منه، كما في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (¬1) أي أن لا تضلوا، فحينئذ يكون الجواب مطابقًا للسؤال. وقيل: يحتمل أن -عليه السلام- علم غرض السائل ومراده أنه طلب منه بيان ما لا يلبسه المحرم بعد إحرامه، إما بقرينة جالية أو بدليل آخر أو بالوحي، فأجاب عما في ضميره وغرضه ومقصوده. ويقال: إنه لما خص المخيط بأنه لا يلبس المحرم بعد تقدم السؤال عما يلبسه دل أن الحكم في غير المخيط بخلافه والتنصيص على حكم في مذكور، إنما يدل على تخصيص ذلك الحكم به بشرائط ثلاثة: أحدهما: أن لا يكون فيه حَيْدٌ عن الجواب لمن لا يجوز عليه الحيد، فأما إذا كان؛ فإنه يدل عليه صيانة لمنصب النبي -عليه السلام- عن الحيد عن الجواب عن السؤال. والثاني: من المحتمل أن يكون حكم غير المذكور خلاف حكم المذكور، وهنا لا يحتمل؛ لأنه يقتضي أن لا يلبس المحرم أصلاً، وفيه تعريضه للهلاك بالحر أو بالبرد والعقل يمنع من ذلك، فكان المنع من أحد النوعين في مثله إطلاقًا للنوع الآخر. والثالث: أن يكون ذلك في غير الأمر والنهي، فأما في الأمر والنهي فيدل عليه، قد صح من مذهب أصحابنا أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده، والتنصيص ها هنا في محل النهي فكان ذلك دليلًا على أن الحكم في غير المخيط بخلافه والله أعلم. ص: وأمَّا النظر في ذلك فإنا قد رأيناهم لم يختلفوا فيمن وجد إزارًا أن لبس السراويل له غير مباح لأن الإِحرام قد منعه من ذلك، وكذلك من وجد نعلين فحرام عليه لبس الخفين من غير ضرورة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [176].

فأردنا أن ننظر في لبس ذلك من طريق الضرورة كيف هو؟ وهل يوجب كفارة أو لا يوجبها؟ فاعتبرنا ذلك، فرأينا الإِحرام ينهى عن أشياء قد كانت مباحة قبله، منها لبس القميص والعمائم والخفاف والسراويلات والبرانس، وكان من اضطر فوجد الحرَّ فغطى رأسه، أو وجد البرد فلبس ثيابه أنه قد فعل ما هو مباح له فعله، وعليه الكفارة مع ذلك، وحرم عليه الإِحرام أيضًا حلق الرأس إلا من ضرورة، وكان من حلق رأسه من ضرورة فقد فعل ما هو مباح له والكفارة عليه واجبة، فكان حلق الرأس للمحرم في غير حال الضرورة إذا أبيح لم تكن إباحته تسقط الكفارة، بل الكفارة في ذلك كله واجبة في حال الضرورة كهي في غير حال الضرورة، وكذلك لبس القميص الذي حرم عليه في غير حال الضرورة، فإذا كانت الضرورة فأبيح ذلك له لم يسقط بذلك الضمان، فكانت الكفارة واجبة عليه في ذلك كله فلم تكن الضرورة في شيء مما ذكرنا تسقط كفارة كانت تجب في شيء في غير حال الضرورة، وإنما تسقط الأثام خاصة، فكذلك الضرورات في لبس الخفاف والسراويلات لا توجب سقوط الكفارات التي كانت تجب لو لم تكن تلك الضرورات، ولكنها ترفع الأثام خاصة. فهذا هو النظر في هذا [الباب أيضًا] (¬1) وهو قول أبي حنيفة، وأبى يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما وجه النظر والقياس في الحكم المذكور المختلف فيه، فإنَّا رأيناهم، أي الأخصام كلهم ... إلى آخره. وهو ظاهر غني عن زيادة بيان. قوله: "وكان من اضطر" أي الذي اضطر إلى اللبس. قوله: "لم يسقط بذلك الضمان" وفي كثير من النسخ الكفارة، وهو الأقرب. قوله: "فهذا هو النظر" أي فهذا الذي ذكرنا هو وجه النظر والقياس في هذا الباب. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: باب: لبس الثوب الذي قد مسه ورس أو زعفران فى الإحرام

ص: باب: لبس الثوب الذي قد مسه ورس أو زعفران فى الإِحرام ش: أي هذا باب في بيان لبس الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران للمحرم في حالة الإِحرام كيف يكون حكمه وما يجب عليه؟ و"الوَرْسُ" بفتح الواو وسكون الراء وفي آخره سين مهملة. قال أبو حنيفة الدينوري: الورس يزرع باليمن زرعًا ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون منه شيء بريًّا، ونباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق، فينفض منه الورس، ويزرع سنة فيجلس عشر سنين، أي يقيم في الأرض ينبت ويثمر، ومنه جنس يسمى الحَبَشي، وفيه سواد، وهو أكبر الورس، وللعرعر ورس، وللريث ورس، وقال أبو حنيفة: لست أعرفه بغير أرض العرب، ولا في أرض العرب بغير بلاد اليمن. وقال الأصمعي: ثلاثة أشياء لا تكون إلاَّ باليمن وقد ملأت الأرض: الورس، واللبان، والعصب. وأخبرني ابن بنت عبد الرزاق قال: الورس عندنا باليمن، بحفاش، وملحان، وطمام، وسحبان والوقعة، وجرار وهوزن وجبال ابن أبي جعفر كلها. ويقال له: الحُصُّ. وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن، تتخذ منه الغُمرة للوجه. تقول منه: أورس المكان، ووَرَّست الثوب توريسًا: صبغته بالورس، وملحفة وريسة، صبغت بالورس. وقال ابن البيطار في "جامعه": يؤتي بالورس من الصين واليمن والهند، وليس بنبات يزرع كما زعم من زعم، وهو يشبه زهر العصفر، ومنه شيء يشبه نشارة البابونج، ومنه شيء يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه. و"الزعفران": اسم أعجمي، وقد صرفته العرب؛ فقالوا: ثوبٌ مزعفرٌ. وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرةً. ويُجمع على زعافر.

قال الجوهري: كترجمان وتراجم. وقال أبو حنيفة: لا أعلمه ينبت بشيء من أرض العرب، وقد أكثر مجيئه في كلامهم وأشعارهم. وفي كتاب "الطيب" للمفضل بن سلمة، يقال: إن الكركم عروق الزعفران. وقال مؤرج: يقال لورق الزعفران: الفَيْد. ومنه سمي أبا فَيْد. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود وأبو صالح كاتب الليث، قالا: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تلبسوا ثوبًا مسه ورس أو زعفران" يعني في الإِحرام. حدثنا عليُّ بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه الصلاة والسلام نحوه. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث بن سعد وشيخ البخاري، كلاهما عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني نزيل بغداد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب. وأخرجه البخارى (¬1) مطولاً: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 654 رقم 1745).

ثنا أحمد بن يونس، نا إبراهيم بن سعد، نا ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله: "سئل رسول الله -عليه السلام- ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا ثوبًا مسه زعفران ولا ورسٌ، وإن لم يجد نعليه فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين". الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يلبس المحرم ثوبًا مسّه ورسٌ أو زعفران. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى .. إلى آخره، بعينه قد ذكر في الباب السابق. الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر، وهذا أيضًا بعينه قد ذكر في الباب السابق. ص: قال أبو حنيفة -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران فلا يحل لبسه في الإِحرام، وإن غُسل؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يبين في هذه الآثار ما غُسل من ذلك مما لم يغسل، فنهيه على ذلك كله. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا، وهشام بن عروة، وعروة بن الزبير، ومالكًا في رواية ابن القاسم عنه؛ فإنهم قالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران لا يجوز لبسه للمحرم، سواء كان مغسولًا أو لم يكن؛ لإِطلاق الأحاديث المذكورة. وإليه ذهب ابن حزم، وقال في "المحلى": الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران إذا غُسل حتى لا يبقى منه أثر يجوز لبسه عند قوم، ورووا فيه أثرًا، فإن صح وجب الوقوف عنده، ولا نعلمه صحيحًا، ولا يجوز لباسه أصلاً؛ لأنه قد مسَّه الورس والزعفران. انتهى. قلت: أراد بالأثر ما يجيء ذكره في آخر الحديث المذكور: "إلاَّ أن يكون غسيلًا" وعن قريب يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض فلا بأس بلبسه في الإِحرام، لأن الثوب الذي صبغ إنما نهي عن لبسه في الإِحرام؛ لما كان قد دخله مما هو حرام على المحرم، فإذا غسل فخرج ذلك منه ذهب المعنى الذي له كان النهي، وعاد الثوب إلى أصله الأول قبل أن يُصيبه ذلك الذي غسل منه، وقالوا هذا في الثوب الطاهر تصيبه النجاسة فينجس بذلك، فلا تجوز الصلاة فيه، فإذا غُسل حتى تخرج منه النجاسة طهر، وحلت الصلاة فيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وطاوسًا وقتادة وإبراهيم النخعيّ وسفيان الثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحق وأبا يوسف ومحمدًا وأبا ثور؛ فإنهم أجازوا للمحرم لبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران إذا كان غسيلًا لا ينفض. وقوله: "لا ينفض" له تفسيران منقولان عن محمد بن الحسن: أحدهما: لا يتناثر صبغه. والآخر: لا يفوح ريحه. والتعويل على زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكن يفوح ريحه يمنع من ذلك؛ لأن ذلك دليل بقاء الطيب، إذ الطيب ما له رائحة طيبة. وقال أبو يوسف في "الإِملاء": لا ينبغي للمحرم أن يتوسد ثوبًا مصبوغًا بالزعفران ولا الورس ولا ينام عليه؛ لأنه يصير مستعمِلًا للطيب فكان كاللبس. قوله "هذا" أي قال الآخرون: هذا الثوب المصبوغ الذي لا ينفض .. إلى آخره هذا قياس صحيح، والجامع زوال [عين] (¬1) مما أصاب، فافهم. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك أنه استثنى مما حرمه على المحرم من ذلك فقال: "إلاَّ أن يكون غسيلًا". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل، ك".

حدثنا بذلك فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: نا أبو معاوية (ح). وحدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا أبو معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- .. مثل الحديث الذي ذكرناه في أول الباب، وزاد: "إلاَّ أن يكون غسيلًا". قال ابن أبي عمران: رأيت يحيى بن معين وهو يتعجب من الحِمَّاني إذ يحدث بهذا الحديث، فقال له عبد الرحمن: هذا عندي، ثم وثب من فَوْره فجاء بأصله فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية كما ذكره يحيى الحماني، فكتب عنه يحيى ابن معين. فقد ثبت مما ذكرنا اسثثناء رسول الله -عليه السلام- الغسيل مما قد مَسَّه ورس أو زعفران، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في لبس المحرم الثوب المصبوغ بورس أو زعفران أنه استثنى من ذلك ما كان منه غسيلاً، فقال: "إلاَّ أن يكون غسيلًا" حدث بذلك نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- فثبت بذلك أن الغسيل مستثنى من ذلك، فلا يحرم لبسه على المحرم. وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم -بالمعجمتين- عن عبيد الله بن عمر بن حفص عاصم ابن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرج أبو عمر (¬1): من حديث يحيى بن عبد الحميد، عن أبي معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- هذا الحديث، فقال فيه: "لا تلبسوا ثوبًا مسه ورس أو [زعفران] (¬2) إلاَّ أن يكون غسيلًا. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (15/ 122). (¬2) في "الأصل، ك": "ورس"، وهو سبق قلم، والمثبت من "التمهيد".

الثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي شيخ أبي زرعة وقال صدوق، عن أبي معاوية ... إلى آخره. فإن قيل: ما حكم هذا الحديث بهذه الزيادة؟ قلت: صحيح؛ لأن رجاله ثقات. وروى هذه الزيادة -أعني "إلاَّ أن يكون غسيلًا"- أبو معاوية الضرير وهو ثقة ثبت. فإن قيل: قال ابن حزم: ولا نعلمه صحيحًا. وقال أحمد بن حنبل: أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يجئ بهذا أحد غيره: "إلاَّ أن يكون غسيلًا". قلت: هذا يحيى بن معين كان أولاً ينكر على يحيى بن عبد الحميد الحماني ويقول: كيف تحدث بهذا الحديث؟! ثم لما قال له عبد الرحمن بن صالح الأزدي: هذا الحديث عندي وأخرج أصله عن أبي معاوية كما ذكره الحماني بهذه الزيادة، كتب عنه يحيى بن معين، وكفى لصحة هذا الحديث شهادة عبد الرحمن، وكتابة يحيى ابن معين، ورواية أبي معاوية. وأما قول ابن حزم: ولا نعلمه صحيحًا. فهو نفي لعلمه بصحته، فهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره (¬1). ص: وقد روي ذلك عن نفر من المتقدمين. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن المسيب: "أنه أتاه رجل فقال له: إني أريد أحرم وليس له إلاَّ هذا الثوب، ثوب مصبوغ زعفران، فقال: الله ما تجد غيره؟ فحلف، فقال: اغسله وأحرم فيه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن ليث، عن طاوس قال: "إذا كان في الثوب زعفران أو ورس، يغسل ولا بأس أن يحرم فيه". ¬

_ (¬1) ونقل ابن أبي حاتم في "علله" (1/ 271 رقم 798) عن أبي زرعة أنه قال: أخطأ أبو معاوية في هذه اللفظة: "إلاَّ أن يكون غسيلًا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: "في الثوب يكون فيه ورس أو زعفران فغسل: أنه لم ير بأسًا أن يحرم فيه". ش: أي قد روي ما ذكرنا من جواز لبس المحرم الثوب المصبوغ بورس أو زعفران إذا كان غسيلًا لا ينفض، عن جماعة من التابعين، وهم سعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم النخعي. أما أثر سعيد فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن أبي إياس اليشكري، عن سعيد بن المسيب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن أبي بشر قال: "كنت عند سعيد بن المسيب، فقال له رجل: إني أريد أن أحرم ومعي ثوب مصبوغ بالزعفران فغسلته حتى ذهب لونه، فقال له سعيد: أمعك ثوب غيره؟ قال: لا، قال: فأحرم فيه". وأما أثر طاوس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن ليث، عن طاوس، قال: "إذا غُسل الثوب المصبوغ فذهب ريحه، قال: لا بأس أن يحرم فيه". وأما أثر إبراهيم النخعي فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن ابن مرزوق .. إلى آخره، ومغيرة هو ابن مقسم الضبيّ. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 168 رقم 13119). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 169 رقم 13129).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم: "في الثوب المصبوغ بالورس والزعفران، قال: إذا غُسِلَ [فذهب] (¬2) ذلك منه، لم يره شيئًا أن يلبسه المحرم". ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 168 رقم 13124). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من المصدر السابق.

ص: باب: الرجل يحرم وعليه قميص كيف ينبغي أن [يخلعه]

ص: باب: الرجل يحرم وعليه قميص كيف ينبغي أن [يخلعه] (¬1) ش: أي هذا باب في بيان من أحرم والحال أن عليه قميص، كيف ينبغي أن [يخلعه] (1) أينزعه نزعًا أم يشقه؟. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة، عن عبد الملك بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: "كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني أمرت بِبُدْني التي بعثت بها أن تُقَلَّد اليوم، وتشعر على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم كن لأُخرج قميصي من رأسي، وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة". ش: رجاله ثقات، وحاتم بن إسماعيل المدني روى له جماعة، وعبد الرحمن بن عطاء وثقه ابن سعد، وقال أبو حاتم: شيخ، روى له أبو داود والترمذي. وأبو لبيبة بفتح اللام وكسر الباء الموحدة، وفي "التكميل": عبد الرحمن بن عطاء القرشي مولاهم أبو محمد ابن بنت أبي لبيبة الزارع المديني صاحب الشارع، وهي أرض عند المدينة بطرف منه. وعبد الملك بن جابر بن عتيك الأنصاري المدني، قال أبو زرعة: ثقة. روى له أبو داود والترمذي. وأخرجه عبد الرزاق: عن داود بن قيس، عن عبد الرحمن بن عطاء، أنه سمع ابني جابر يحدثان، عن أبيهما قال: "بينما النبي -عليه السلام- جالس مع أصحابه، شق قميصه حتى خرج منه، فقيل له فقال: واعدتهم يقلدون هديا اليوم، فنسيت". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن عبد الرزاق نحوه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "يجعله"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "مسند أحمد" (3/ 294). رقم (14161).

قلت: أراد يا بني جابر عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله. قوله: "قدّ قميصه" أي قطعه وشقه والقدّ القطع طولًا كالشق. وقوله: "من جيبه" أي زيقه وطوقه. وقوله: "ببُدْني" البُدْن بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة وهي من الإِبل والبقر، وأراد بها الإِبل. قوله: "أن تقلد اليوم وتشعر" التقليد هو أن يجعل في عنق الهدي قلادة من نعل أو قطعة مزادة. والإِشعار أن يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة وسيجيء الكلام فيها. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا ينبغي للمحرم أن يخلعه كما يخلع الحلال قميصه؛ لأنه إذا فعل الحلال ذلك غطى رأسه وذلك عليه حرام، فأمر بشقه لذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، ومغيرة بن مقسم، وحصن بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبيّ، ويونس بن عُبيد، وأبا قلابة عبد الله بن زيد، ومسروق بن الأجدع؛ فإنهم قالوا: من أحرم وعليه قميص، فإنه يشقه، ولا ينزعه كما ينزع الحلال، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وأبي قتادة -رضي الله عنهما- ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ينزعه نزعًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج، وسعيد بن المسيب، والثوري، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وأبا يوسف، ومحمدًا وأحمد، فإنهم قالوا: بل ينزع القميص الذي عليه نزعًا ولا يشقه. ص: واحتجوا في ذلك بحديث يعلى بن أمية في الذي أحرم وعليه جبّة فأتى رسول الله -عليه السلام- فأمره أن ينزعها نزعًا، وقد ذكرنا ذلك في باب التطيب عند

الإِحرام، فقد خالف ذلك حديث جابر -رضي الله عنه- الذي ذكرنا، وإسناده أحسن من إسناده، فإن كانت هذه الأشياء تثبت بصحة الإِسناد فإن حديث يعلى معه من صحة الإِسناد ما ليس في حديث جابر -رضى الله عنه-. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث يعلى بن أمية وهو الذي يقال له: يعلى بن منية أيضًا الذي مضى ذكره في صدر باب التطيب عند الإِحرام، وهو الذي أخرجه من حديث عطاء، عن صفوان بن يعلى بن منية، عن أبيه: "أن رجلاً أتى النبي -عليه السلام- بالجعرانة وعليه جبة وهو مُصَفّر لحيته ورأسه، فقال: يا رسول اللهَ، إني قد أحرمت وأنا كما ترى، فقال: انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة". وجه الاستدلال: أنه -عليه السلام- أمر الرجل بنزع الجبة ولم يأمره بشقها، فكذلك القميص. فهذا وإن كان يعارضه حديث جابر المذكور ظاهرًا، ولكن لا يعتبر بتلك المعارضة لأن من شرطها مساواة الحديثين في الصحة وعدمها، وحديث جابر لا يعادل حديث يعلى؛ لأن حديث يعلى أصح إسنادًا، ورجاله رجال الصحيحين والأربعة: وأخرجه الجماعة أيضًا كما قد بينا في باب التطيب عند الإِحرام، وحديث جابر في سنده عبد الرحمن بن عطاء فهو وإن كان وثقه ابن سعد فقد ضعفه غيره، وقال البخاري: فيه نظر، وأدخله في "الضعفاء" وعبد الملك بن جابر لم يخرج له الشيخان شيئًا، والحديث ذكره عبد الحق الإِشبيلي في "أحكامه" وقال: عبد الرحمن ابن عطاء ضعيف. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الذين كرهوا نزع القميص إنما كرهوا ذلك لأنه يغطي رأسه إذا نزع قميصه، فأردنا أن ننظر هل تكون تغطية الرأس في الإِحرام على كل الجهات منهيًا عنها أم لا؟ فرأينا المحرم نُهي عن لبس القلانس والعمامة والبرانس، فنهي أن يُلبِس رأسه شيئًا، كما نُهي أن يُلبس

بدنه القميص، ورأينا المحرم لو حمل على رأسه ثيابًا وغيرها لم يكن بذلك بأس، ولم يدخل ذلك فيما قد نهي عن تغطية الرأس بالقلانس وما أشبهها؛ لأنه غير لابس، فكان النهي إنما وقع في ذلك على تغطية ما يلبسه الرأس لا غير ذلك مما غطي به، وكذلك الأبدان نُهي عن إلباسها القميص ولم ينه عن تجليلها بالأُزر، فلما كان ما وقع عليه النهي من هذا في الرأس إنما هو الإِلباس لا التغطية التي ليست بإلباس، وكان إذا نزع القميص فلاقى ذلك رأسه فليس ذلك بإلباس منه لرأسه شيئًا، إنما ذلك تغطية منه لرأسه، وقد ثبت مما ذكرنا أن النهي عن لبس القلانس لم يقع على تغطية الرأس، وإنما وقع على إلباس الرأس في حال الإِحرام ما يلبس في حال الإِحلال، فلما خرج بذلك ما أصاب الرأس من القميص المنزوع من حال تغطية الرأس المنهي عنها ثبت أنه لا بأس بذلك؛ قياسًا ونظرًا عل ما ذكرنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما وجه الحكم المذكور من طريق النظر والقياس: فإنا رأينا .. إلى آخره وجد ذلك ظاهر. قوله: "ولم يُنه عن تجليلها بالأزر" التجليل بالجيم من جللت الفرس إذا ألبسته الجُلَّ، وتجلله إذا علاه. "والأزُر" بضم الهمزة وسكون الزاي: جمع إزار. ص: وقد اختلف المتقدمون في ذلك، حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا يونس عن الحسن. وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي، أنهم قالوا: "إذا أحرم الرجل وعليه قميص فليخرقه حتى يخرج منه". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير .. مثله.

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن [بن] (¬1) زياد قال: ثنا شعبة، عن المغيرة وحماد، عن إبراهيم قال: "إذا أحرم الرجل وعليه قميص قال أحدهما: يشقه، وقال الآخر: ينزعه من قبل رجليه". حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عطاء ابن أبي رباح: "أن رجلاً يقال له: يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة، فأمره النبي -عليه السلام- أن ينزعها، قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنا نرى أن يشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد". حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن أبي مسلمة الأزدي، قال: "سمعت عكرمة وسئل عمن أحرم [وعليه] (¬2) قباء قال: يخلعه". فهذا عطاء وعكرمة قد خالفا إبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير، وذهبا إلى ما ذهبنا إليه من حديث يعلى -رضي الله عنه-. ش: أي وقد اختلف السلف من التابعين فيمن أحرم وعليه قميص، هل يخرقه أو ينزعه؟ فروي عن الحسن وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير -رضي الله عنه-: أنه يخرقه ليخرج منه. وروي عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس: أنه ينزعه. وقد خالفنا هؤلاء الأربعة وذهبنا إلى ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من حديث يعلى بن أُميَّة. أما أثر الحسن وإبراهيم والشعبي فأخرجه بإسناد صحيح: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن البصري. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك". (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

وعن هشيم، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي وعامر الشعبي ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ويونس، عن الحسن، ومغيرة وحصين، عن الشعبي: "قالوا: يخرقه". وأما أثر سعيد بن جبير فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن روح بن الفرج، عن يوسف بن عدي، عن شريك بن عبد الله، عن سالم بن أبي أمية القرشي المدني. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، وعن سعيد بن مسروق عن أبي صالح قال: "إذا أحرم وعليه قميص فليشقه". وأخرج لإبراهيم من طريق آخر: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن المغيرة وحماد بن أبي سليمان، كلاهما عن إبراهيم النخعي. قوله: "قال أحدهما" أراد به المغيرة أو حمادًا. وأما أثر عطاء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء بن أبي رباح .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (¬3): عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن يعلى مرفوعًا: "أن [النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى] (¬4) رجلاً عليه جبة عليها أثر خلوق أو صفرة، فقال: اخلعها عنك واجعل في عمرتك ما تجعل في حجك، قال قتادة: فقلت لعطاء: كنا نسمع أنه قال: شقها، قال: هذا فساد، والله لا يحب الفساد". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 295 رقم 14355). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 295 رقم 14356). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 188 رقم 1323). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند الطيالسي" و"سنن البيهقي".

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الطيالسي. وأما أثر عكرمة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن شعبة، عن أبي مسلمة الأزدي واسمه سعيد بن زيد البصري من رجال الصحيحين وغيرهما. قوله: "وسئل" الواو فيه للحال. ... ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 57 رقم 8883).

ص: باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرما في حجة الوداع

ص: باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع ش: أي هذا باب في بيان صفة إحرام النبي -عليه السلام- في حجة الوداع؛ هل كان فيه مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا؟ وهذا باب عظيم، وفيه أحاديث كثيرة، وللعلماء فيه أقاويل. وكانت حجة الوداع سنة عشرٍ، ويقال لها: حجة البلاغ، وحجة الإِسلام. وإنما سميت حجة الإِسلام؛ لأنه -عليه السلام- لم يحج من المدينة غيرها، ولكنه حج قبل الهجرة مرات قبل النبوة وبعدها، وقد قيل: إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل: سنة تسع، وقيل: قبل الهجرة، وهو غريب. وإنما سميت حجة الوداع؛ لأنه -عليه السلام- ودع الناس فيها ولم يحج بعدها. وسميت حجة البلاغ؛ لأنه -عليه السلام- بلغ الناس شرع الله في الحج قولًا وفعلًا ولم يكن بقي من دعائم الإِسلام وقواعده إلاَّ وقد بيَّنه -عليه السلام-. وكان -عليه السلام- حج حجة واحدة واعتمر أربع عُمَر. روي قتادة قال: "سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله -عليه السلام-؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات: عمرته في زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته". رواه الشيخان (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3) وأحمد (¬4). ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج". ¬

_ (¬1) البخاري (2/ 631 رقم 1688)، ومسلم (2/ 916 رقم 1253). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 206 رقم 1994). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 179 رقم 815). (¬4) "مسند أحمد" (3/ 256 رقم 13712).

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد -هو ابن موسى- قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "خرجنا ولا نرى إلاَّ أنه الحج". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع، منا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله -عليه السلام- بالحج، فأما من أهل بالعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحل حتى يوم النحر. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، قال: حدثنا علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر الناس عام حجة الوداع فقال من أَحَبَّ أن يبدأ بالعمرة قبل الحج فليفعل، وإن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج". ش: هذه أربع طرق صحاح. الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسماعيل بن أبي أويس، حدثني خالي مالك بن أنس، وعن يحيى بن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (¬3): عن أبي مصعب، عن مالك. والنسائي (¬4): عن عبيد الله بن سعيد وإسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 875 رقم 1211). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 152 رقم 1777). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 183 رقم 820). (¬4) "المجتبى" (5/ 145 رقم 2715).

وابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار وأبي مصعب، كلاهما عن مالك. الثاني: عن ربيع بن سليمان، عن أسد السنة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن زاذان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): بأتم منه، ثنا عثمان بن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "خرجنا مع النبي -عليه السلام- ولا نرى إلاَّ أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي -عليه السلام- من لم يكن ساق الهدي، [أن] (¬3) يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن، قالت عائشة: فحضت فلم أطف، فلما كانت ليلة الحصبة، قلت: يا رسول الله رجع الناس بعمرة وحج وأرجع أنا بحجة؟! قال: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا، قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا. وقالت صفية: ما أراني إلاَّ حابستهم، قال: عَقْرَى حَلْقَى، أَوَ مَا طفت يوم النحر؟ قالت: قلت: بلى، قال: لا بأس انفري. قالت عائشة: فلقيني النبي -عليه السلام- وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها، أو [أنا مصعدة و] (3) وهو منهبط منها". قوله: "ولا نرى إلاَّ أنه الحج" قال ابن التين ضبطه بعضهم بفتح النون وبعضهم بضمها. قال القرطبي: أي لا نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإِحرام وأنواعه، وقيل: يحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها: "لا نرى" حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلاَّ الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 988 رقم 2964). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 566 رقم 1486). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

وزعم القاضي عياض أنها كانت أحرمت بالحج، ثم أحرمت بالعمرة، ثم أحرمت بالحج. ويدل على أن المراد بقولها: "لا نرى إلاَّ الحج" عن فعل غيرها. قولها: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت" تعني بذلك النبي -عليه السلام- والناس غيرها، لأنها لم تطف بالبيت ذلك؛ الوقت لأجل حيضها. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4): كذلك نحوه. وهذا الحديث مشتمل على أحكام: الأول: فيه أن أقسام الحج ثلاثة: الإِفراد والتمتع والقران، أما الإِفراد في قولها ومنا من أهل بحج، وأما التمتع والقران فإن قولها ومنا من أهل بحج وعمرة وهو بعمومه يتناول التمتع والقران. الثاني: استدلت به طائفة على أن الإِفراد بالحج هو الأفضل؛ لقولها: وأهل رسول الله -عليه السلام- بالحج. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 873 رقم 1211). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 567 رقم 1487). (¬3) "المجتبى" (5/ 246 رقم 2991). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 998 رقم 3000).

الثالث: فيه بيان أن من جمع بين الحج والعمرة الذي هو القارن، أو المتمتع الذي ساق هديه، لا يحل إلاَّ يوم النحر بعد الحلق وطواف الزيارة. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد من الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد الله بن ذكوان، عن علقمة بن أبي علقمة بلال المدني مولى عائشة أم المؤمنين روى له الجماعة، عن أمه مرجانة، وثقها ابن حبان وروى لها أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن علقمة، عن أمه، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر الناس عام حجة الوداع فقال: من أحب أن يبدأ منكم بعمرة قبل الحج فليفعل، فأفرد رسول الله -عليه السلام- بالحج ولم يعتمر". ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن أسماء قالت: "قدم رسول الله -عليه السلام- وأصحابه مهلين بالحج". ش: رجاله ثقات تكرر ذكرهم، والخصيب هو ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، ووهيب بن خالد البصري، وأم منصور هي صفية بنت شيبة بن الحاجب الصحابية، وقال الدارقطني: لا تصح لها رواية، وقال ابن الأثير: اختلف في صحبتها، وأسماء هي بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يونس، نا عمران بن يزيد، عن منصور، عن أمه، عن أسماء قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- مهلين بالحج، فقالت: فقال لنا: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 92 رقم 24659). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 350 رقم 37006).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله في حديثه الطويل: فقال: "وأهل رسول الله -عليه السلام- بالتوحيد ولم يرد رسول الله -عليه السلام- على الناس شيئًا، ولسنا ننوي إلاَّ الحج، ولا نعرف العمرة". ش: إسناده صحيح، وحاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة، وجعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- أبو عبد الله المدني الصادق، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وأبوه محمد بن علي الباقر روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1) بطوله: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم، جميعًا عن حاتم -قال أبو بكر حاتم بن إسماعيل المدني- عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: " (دخلت) (¬2) على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته -وهو أعمى- وحضر وقت الصلاة، فقام في ساجة ملتحفًا بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله -عليه السلام- فقال بيده، فعقد تسعًا، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله -عليه السلام- حاج، فقدم المدينة بَشَرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -عليه السلام- ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فَأَرْسَلَتْ إلى رسول الله -عليه السلام- كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله -عليه السلام- في المسجد ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم": "دخلنا".

ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، [لبيك] (¬1) لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله -عليه السلام- شيئاً منه، ولزم رسول الله -عليه السلام- تلبيته، قال جابر -رضي الله عنه-: لسنا ننوي إلاَّ الحج، ولا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم -عليه السلام- فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول -ولا أعمله ذكره إلاَّ عن النبي -عليه السلام-- كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬3) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬4) ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬5) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلاَّ الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى [إذا] (¬6) انصبت قدماه في بطن الوادي [سعي] (6) حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن كان ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) سورة البقرة، آية: [125]. (¬3) سورة الإِخلاص. (¬4) سورة الكافرون. (¬5) سورة البقرة، آية: [158]. (¬6) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، أَلِعَامِنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله -عليه السلام- أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا بل لأبد أبد. وقدم علي -رضي الله عنه- من اليمن ببُدن النبي -عليه السلام-، فوجد فاطمة -رضي الله عنها- ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فكان علي -رضي الله عنه- يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله -عليه السلام- فيما ذَكَرَت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت: حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك -عليه السلام-، قال: فإن معي الهدي، فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي -رضي الله عنه- من اليمن والذي أتى به النبي -عليه السلام- مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصدوا إلاَّ النبي -عليه السلام- ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله -عليه السلام- فصلى بها [الظهر والعصر، والمغرب] (¬1) والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله -عليه السلام- ولا تشك قريش إلاَّ أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله -عليه السلام- حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحِّلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلاَّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فَقَتَلَتْهُ هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا اللهَ في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": " الظهر والعصر، والظهر والمغرب" وزيادة "الظهر" الثانية ليست في "صحيح مسلم".

بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد -ثلاث مرات- ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلي بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله -عليه السلام- حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله -عليه السلام- وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، وكلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع رسول الله -عليه السلام- حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس -وكان رجلاً حسن المنظر أبيض وسيما- فلما دفع رسول الله -عليه السلام- مرت به ظعنٌ يجرين وطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله -عليه السلام- يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله -عليه السلام- يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها حصى الحذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة وأعطى عليًّا -رضي الله عنه- فنحر ما غير وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبحت، وأكلا من لحمها

وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله -عليه السلام- فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه. وأخرجه أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2) بنحوه مطولاً، وأخرجه النسائي (¬3) مختصرًا. قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما في هذا الحديث من الفقه وكثروا، وقد ألف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخَرَّجَ فيه من الفقه مائة نوع ونيفا وخمسين، ولو تُقُصِّيَ لزاد على هذا العدد قريب منه. قوله: "فسأل عن القوم حتى انتهى إلي" وذلك لأن جابرًا -رضي الله عنه- كان قد عمي حينئذ ففيه الاهتبال بالداخلين على الرجل والسؤال عنهم لينزل كل واحد منزله ويعرف لأهل الحق حقه. قوله: "فنزع زري الأعلى" فيه إكرام الزائر بنزع رداءه وخلع خفيه. وقوله: "وأنا يومئذ غلام شاب" فيه تنبيه على أن جابرًا إما فعل ذلك به تأنيسًا له لصغره ورقة عليه؛ إذْ لا يفعل هذا بالرجال الكبار، من إدخال اليد في جيوبهم إكبارًا لهم، وفيه أن مس الغلمان الأجانب على وجه الرقة ولغير التلذذ جائز، وإنما يحرم من لمس الغلمان والنظر إليهم ما كان من ذلك على وجه التلذذ. وقوله: "فقام في ساجة" بسين مهملة وجيم، وهي ثوب كالطيلسان ونحوه، وهكذا هو في رواية الجمهور، وفي رواية نِساجة بالنون المكسورة والسين المهملة المفتوحة وبعد الألف جيم بعدها هاء، وكذا وقع في رواية أبي داود، وهي ضرب من الملاحف المنسوجة لأنها سميت بالمصدر، يقال: نسجت نسجًا ونساجة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 182 رقم 1905). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1022 رقم 3074). (¬3) "المجتبى" (1/ 154 رقم 291) و (1/ 208 رقم 429) و (5/ 155 رقم 2740) وغيرها.

قوله: "على المشجب" بكسر الميم وسكون الشين المعجمة والجيم، وهي أعواد توضع عليها الثياب. قوله: "مكث رسول الله -عليه السلام- تسع سنين لم يحج" يعني في المدينة، وقد روي أنه -عليه السلام- حج بمكة حجتين. قوله: "استثفري" أي اجعلي لنفسك كثفر الدابة ليمتنع ذلك الموضع من سيلان شيء من الدم، تنزيهًا للعبادة عن إظهار هذه النجاسة على صاحبها إذا لم تقدر على أكثر من ذلك. قوله: "ثم ركب القصواء" بفتح القاف ممدود، ووقع عند العذري بضم القاف والقصر، وهو خطأ في هذا الموضع، والصواب الفتح ها هنا والمد، قال ابن قتيبة: كانت للنبي -عليه السلام- نوق أصابها منها: القصواء والجدعاء والعضباء. قال أبو عُبيد: العضباء اسم ناقة للنبي -عليه السلام- ولم تسم لشيء. قال القاضي: جاء ها هنا أنه ركب القصواء وفي آخر الحديث أنه خطب على القصواء، وفي غير "مسلم" أنه خطب على ناقته الجدعاء وفي حديث آخر على ناقة خرماء وفي آخر مخضرمة وفي حديث: "أنه كانت له ناقة لا تسبق تسمى القصواء" وفي حديث آخر تسمى العضباء، فدليل هذا كله أنها ناقة واحدة خلاف ما قال ابن قتيبة، وأن ذلك كان اسمها ووصفها لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عُبيد، ولكن يأتي في كتاب النذور ما يدل على أن العضباء غير القصواء. وقال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة مثله في الأذن. قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه، وقال الأصمعي: في القصواء مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع فإن جاوز الربع فهي عضباء والمخضرم المقطوع الأذنين، فإذا اصطلمتا فهي صلماء، وقال أبو عُبيدة: القصواء المقطوعة الأذنين عرضًا، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء النصف فما فوقه، قال الحربي: فالحديث يدل على أنه اسمها، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها.

وقال الخليل: الخضرمة قطع الواحدة، والعضباء المشقوقة الأذن. قوله: "فأهل بالتوحيد" إشارة إلى قوله: "لا شريك لك" ومخالفة لقول المشركين في تلبيتهم. وقوله: "فرقي عليه" بكسر القاف وهي اللغة الغالبة. قوله: "محرشًا" من التحريش، وهو الإِغراء بين القوم والبهائم وتهييج بعضهم على بعض، وهو ها هنا ذكر لما يوجب عتابه لها. قوله: "فضربت بِنَمِرة" بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم يمينك إذا خرجت من عرفة تريد الموقف. قوله: "فأجاز رسول الله -عليه السلام-" أجاز لغة في جاز فجاز وأجاز بمعنىً، وقيل: جاز الموضع سلكه وسار فيه، وأجازه خلَّفه وقطعه. قال الأصمعي: جاز: مشى فيه، وأجازه: قطعه. قوله: "وينكتها" بالتاء المثناة من فوق هكذا الرواية وفيه بعد، ويروي "ينكبها" بالباء الموحدة وهو الصواب. أي يميلها. قوله: "وجعل حبل المشاة" بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها لام، معناه: صفهم ومجتمعهم في مشيهم، وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. قوله: "مورك رحله" المورك والموركة بكسر الراء هي المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب وهي شبه الحلقة الصغيرة. قوله: "كلما أتى جبلًا من الجبال" الجبل المستطيل من الرمال وقيل: الضخم منه. قوله: "وسيما" أي حسن الوجه، من الوسامة وهي الحسن. قوله: "مرت ظعن" بضم الظاء، والمعنى جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج. قوله: "فنحر ما غبر" أي ما بقي.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث وابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر-رضي الله عنه- قال: "أقبلنا مع رسول الله -عليه السلام- مهلين بالحج مفردًا". ش: هذا طريق أخر بإسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن لهيعة، فهو وإن كان فيه مقال ولكنه ذكر متابعة، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي. وأخرجه أبو داود (¬1) مطولاً: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أقبلنا مهلين مع رسول الله -عليه السلام- بالحج مفردًا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله -عليه السلام- أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاَّ أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله -عليه السلام- على عائشة فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟! قالت: شأني أني حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا، قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة". وأخرجه مسلم (¬2) والنسائي (¬3). وقوله: (عَرَكَت) بعين وراء مهملتين مفتوحتين أي حاضت، والعارك: الحائض. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: الإِفراد أفضل من التمتع والقران، وقالوا: به كان إحرام رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 154 رقم 1785). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 881 رقم 1213). (¬3) "المجتبى" (5/ 164 رقم 2763).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد العزيز بن أبي سلمة وعبيد الله بن الحسن ومجاهدًا وإبراهيم النخعي والشعبي والأوزاعي ومالكًا والشافعي -في رواية- فإنهم قالوا: الإِفراد أفضل من التمتع والقران، وقالوا: به أي بالإِفراد كان إحرام رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع. قال أبو عمر: روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وجابر وعائشة -رضي الله عنهم- ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من الإِفراد والقران، وقالوا: هو الذي كان رسول الله -عليه السلام- فعله في حجة الوداع. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد وسالمًا والقاسم بن محمد وعكرمة وأحمد والشافعي -في قول- فإنهم قالوا: التمتع أفضل من القران والإِفراد، وإليه ذهب أهل الظاهر، قال أبو عمر: وهو مذهب عبد اللهَ بن عمر وعبد اللهَ بن عباس وابن الزبير وعائشة أيضًا -رضي الله عنهم- وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد أقوال الشافعي، وقال ابن قدامة: ذهب أحمد بن حنبل إلى اختيار التمتع، وبه قالت جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن المسيب، قال: "اجتمع علي وعثمان -رضي الله عنهما- بعسفان وعثمان ينهى عن المتعة، فقال له علي -رضي الله عنه-: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -عليه السلام- تنهى عنه؟ فقال: دعنا منك. فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، ثم أهل علي بن طالب بهما جميعًا". ش: أي ذكر هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن التمتع أفضل ما رواه سعيد بن المسيب، وأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حجاج بن محمد الأعور، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: "اختلف علي وعثمان وهما ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 569 رقم 2495).

بعسفان في المتعة، فقال علي -رضي الله عنه-: ما تريد إلاَّ أن تنهى عن أمر فعله رسول الله -عليه السلام-، فلما رأى ذلك علي منه أهل بهما جميعًا". قوله: "بعُسْفان" أي في عسفان، والباء للظرفية و"عسفان" بضم العين وسكون السين المهملتين: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلًا من مكة شرفها الله وقد مر الكلام فيه في كتاب الصوم. قوله: "ثم أهل علي بهما جميعًا" أي ثم أحرم علي بالعمرة والحج جميعًا، وهذا هو عين القران، وذلك لأن من وجوه التمتع أن يتمتع الرجل بالعمرة إلى الحج، وهو أن يجمع بينهما فيهل بهما في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بعمرة وحجة معًا وهذا هو القران، وإنما جعل القران من باب التمتع لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى ويتمتع بجمعهما ولم يحرم لكل واحدة من مكانه، وضم الحج إلى العمرة يدخل تحت قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين أهل العلم في جوازه، وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها، ومما يدل على أن القران تمتع: قول عمر -رضي الله عنه-: "إنما جعل القران لأهل الآفاق، وتلا قول الله -عز وجل-: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) " فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. وقال أبو عمر: التمتع بالعمرة إلى الحج على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والأوجه الثلاثة مختلف فيها. فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله -عز وجل-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة وقيل: ذو الحجة كله. فإذا أحرم أحد ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

بعمرة في أشهر الحج وكان مسكنه من وراء الميقات من أهل الآفاق، ولم يكن من حاضري المسجد الحرام ثم أقام حلالًا بمكة إلى أن الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته فهو متمتع بالعمرة إلى الحج، وعليه ما أوجب الله على من تمتع بالعمرة إلى الحج، وذلك ما استيسر من الهدي، وقد قيل: إن هذا الوجه هو الذي روي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود كراهيته، أو قال أحدهما: يأتي أحدكم منى وذكره يقطر منيًّا؟!. وقد أجمع المسلمون على جواز هذا، وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة، ورأى الإِفراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابًا، ولذلك قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم. وأما الوجه الثاني: فهو القران، وهو الذي ذكرناه آنفا، وذلك لأن القارن يتمتع بسقوط سفره الثاني، فالقران والتمتع يتفقان في هذا المعنى ويتفقان عند أكثر العلماء في الهدي، والصيام لمن لم يجد. وأما الوجه الثالث: فهو فسخ الحج في عمرة، وجمهور العلماء يكرهونه وسيأتي الكلام فيه. وأما الوجه الرابع: فهو ما قاله ابن الزبير وهو يخطب: أيها الناس، إنه والله ليس المتمتع بالحج إلى العمرة ما تصنعون، ولكن المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج الرجل حاجًّا فيحبسه عدوٌّ أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: "حج عثمان -رضي الله عنه- فقال له علي -رضي الله عنه-: ألم تسمع رسول الله -عليه السلام- تمتع؟ فقال: بلى". ش: إسناده صحيح.

وأخرجه النسائي (¬1) بأتم منه: أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: "حج علي وعثمان -رضي الله عنهما- فلما، كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال: إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فَلَبَّى علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم أُخْبَر أنك تنهى عن التمتع؟ قال: بلى، قال له علي -رضي الله عنه-: ألم تسمع رسول الله -عليه السلام-: تمتع؟ قال: بلى". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد اللهَ بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، أنه حدثه: "أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حجة معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلاَّ من جهل أمر الله تعالى، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله -عليه السلام- فصنعاها معه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك ... فذكره بإسناد مثله. ش: هذا طريقان رجالهما رجال الصحيح كلهم ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه النسائي (¬2) والترمذي (¬3): كلاهما عن قتيبة عن مالك نحوه. قوله: "لا يصنع ذلك" أي التمتع إلاَّ من لم يدر أمر اللهَ تعالى. قوله: "فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك" أي عن التمتع، زعم جماعة من العلماء أن المتعة التي نهى عنها عمر -رضي الله عنه- وضرب عليها هي فسخ الحج إلى العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 152 رقم 2733). (¬2) "المجتبى" (5/ 153 رقم 2734). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 185 رقم 823).

وزعم آخرون أنه إنما نهى عمر عنها لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام، وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشى أن يضيع الإِفراد والقران، وهما سُنتان للنبي -عليه السلام-، وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها، فقيل له: إنك لتخالف أباك، فقال ابن عمر: لم يقل الذي تقولون، إنما قال: أفردوا الحج والعمرة، فإنه أتم للعمرة. أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلاَّ بهدي، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج، فجعلتموها أنتم حرامًا وعاقبتم الناس عليها، وقد أحلها الله، وعمل بها رسول الله -عليه السلام-، فإذا أكثروا عليه [قال:] (¬1) كتاب الله بيني وبينكم، كتاب الله أحق أن يتبع أم عمر -رضي الله عنه-؟! قوله: "قد صنعها رسول الله -عليه السلام-" أي قد صنع رسول الله المتعة بالعمرة إلى الحج، واستدلت به أهل المقالة الثانية على أن التمتع أفضل من الإِفراد والقران، وقال أبو عمر: أما قول سعد: "قد صنعها رسول الله -عليه السلام- فصنعناها معه" فليس فيه دليل على أن رسول الله -عليه السلام- تمتع، لأن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج، ويحتمل أن يكون قوله: (صنعناها مع) (¬2) رسول الله -عليه السلام- يعني أذن بها وأباحها وإذا أمر الرئيس بالشيء جاز أن يضاف ذلك إليه، كما يقال: رجم رسول الله -عليه السلام- في الزنا، وقطع في السرقة ونحو هذا، ومن هذا المعنى قوله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} (¬3) أي أمر فنودي فافهم. وفي "شرح الموطأ" لأبي حسن الأشبيلي: ولا يصح عندي أن يكون -عليه السلام- متمتعًا إلاَّ تمتع قران، لأنه لا خلاف أنه -عليه السلام- لم يحل من عمرته حتى أمر أصحابه أن يحلوا ويفسخوا حجهم في عمرة، وأنه قد أقام محرمًا من أجل هديه إلى يوم النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع، ثم إن فسخ الحج في العمرة خُصَّ به أصحاب رسول اللهَ -عليه السلام- فلا يجوز اليوم أن يُفعل ذلك عند أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم، لقوله ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "فقال"، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 210). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 360): "صنعها". (¬3) سورة الزخرف، آية: [51].

تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (¬1) يعني لمن دخل فيه، وما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلاَّ ابن عباس وتابعه أحمد وداود دون سائر الفقهاء ولكنهم على أن فسخ الحج في العمرة خص به أصحاب رسول الله -عليه السلام-. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سليمان التيميّ، عن غنيم بن قيس قال: "سألت سعد بن مالك عن متعة الحج، فقال: فعلناها وهو يومئذ مشرك بالعُرش -يعني معاوية يعني عروش بيوت مكة". ش: إسناده صحيح، وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك الزاهد المشهور، وسليمان التيمي هو ابن طرخان، وغنيم بن قيس المازني الكعبي البصري أدرك النبي -عليه السلام-، ولم يره، روى له الجماعة سوى البخاري. وسعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا سعيد بن منصور وابن أبي عمر جميعًا، عن الفزاري -قال سعيد: نا مروان بن معاوية- قال: أنا سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس قال: "سألت سعد بن مالك [أبي] (¬3) وقاص عن المتعة، فقال: قد فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش يعني بيوت مكة". وله في رواية: "يعني معاوية" وفي أخرى: "المتعة في الحج". قوله: "وهو يومئذ" أي معاوية بن أبي سفيان. "يومئذ مشرك" أراد أنه لم يسلم بعد. قوله: "بالعُرش" بضم العين والراء جمع عريش وأراد عُرُش مكة وهي بيوتها، وقال أبو عبيد: وسميت بيوت مكة عُرشًا لأنها عيدان تنصب وتظل عليها، ويقال ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 898 رقم 1225). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم": "سعد بن أبي وقاص". واسم أبي وقاص: مالك.

لها عروش، فمن قال: عروش فواحدها عرش، ومن قال: عُرش فواحدها عريش، مثل قليب وقلب، وقال بعضهم: "كافر بالعَرش" بفتح العين وسكون الراء وتأوله، وهو تصحيف، ثم إنه أراد بهذا الكلام أنهم تمتعوا قبل إسلام معاوية، وقيل: أراد بقوله كافرٌ الاختفاء والتغطي، يعني أنه كان مختفيًا في بيوت مكة، والأول أشهر لأنه صرح في الرواية الأخرى: "وهو يومئذ مشرك" وقد قالوا: إن المراد بقوله: فعلنا متعة الحج وهو يومئذ مشرك هو إحدى العمرتين المتقدمتين: إما الحديبية، وإما عمرة القضاء، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية معه وقد أسلم لأنها كانت بعد الفتح، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر، وهذا ظاهر، وقال القاضي: المراد بالمتعة المذكورة: الاعتمار في أشهر الحج والإِشارة بذلك إلى عمرة القضاء لأنها كانت في ذي القعدة، وقد قيل: إن في هذا الوقت كان إسلام معاوية، والأظهر أنه من مسلمة الفتح. وأما غير هذه من عمرة الجعرانة وإن كانت أيضًا في ذي القعدة، فمعاوية كان أسلم ولم يكن مقيمًا بمكة، وكان في عسكر النبي -عليه السلام- إلى هوازن في جملة أهل مكة، وكذلك في حجة الوداع لم يكن معاوية ممن تخلف عن الحج مع النبي -عليه السلام- ولا تخلف عنه غيره، إلاَّ أن يكون أراد فسخ الحج في العمرة التي صنعها من قدم مع النبي -عليه السلام-، فمعاوية أيضاً لا يثبت أنه كان مقيمًا بمكة حينئذٍ، وكيف وقد استكتبه النبي -عليه السلام- وكان معه بالمدينة، فلم يكن حينئذٍ مقيمًا بمكة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن مسلم -وهو القُرِّي- قال: سمعت ابن عباس يقول: "أهلّ أصحاب رسول الله -عليه السلام- بالحج، وأهل هو بالعمرة، فمن كان معه هدي فلم يحل، ومن لم يكن معه هدي حلّ، وكان رسول الله -عليه السلام- وطلحة ممن معهما هدي فلم يحلا". ش: إسناده صحيح، وأبو داود سليمان الطيالسي، ومسلم هو ابن المخراق العبدي القُرشي مولى بني قرّة حي من عبد القيس، روى له مسلم وأبو داود والنسائي.

وأخرجه مسلم (¬1): نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: نا شعبة، قال: نا مسلم القرِّي، سمع ابن عباس يقول: "أهل النبي -عليه السلام- بعمرة، وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي -عليه السلام- ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم، فكان طلحة بن عبيد اللهَ فيمن ساق الهدى فلم يحل". ص: حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا أبو حمزة، عن ليث -هو ابن أبي سُليم- وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- حتى مات، وأبو بكر -رضي الله عنه- حتى مات، وعمر -رضي الله عنه- حتى مات، وعثمان -رضي الله عنه- حتى مات، وقال سليمان في حديثه وأول من تخلى عنها معاوية". ش: هذان طريقان حسنان الأول: عن أحمد بن عبد المؤمن الخرساني المروزي، عن علي بن الحسن بن شقيق ابن دينار المروزي شيخ البخاري وأحمد، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة- محمد بن ميمون السكري المروزي، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن عبد الله ابن عباس. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، وأول من نهى عنها معاوية" وقال حديث حسن. وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: هذا حديث منكر، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا لا يريان التمتع ولا القران. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 909 رقم 1239). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 184 رقم 822).

وقال أبو عمر في "التمهيد" حديث ليث هذا منكر، وهو ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها: فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن ليث ... إلى آخره. وأخرجه الكجي في "سننه": من حديث ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس. نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن عبد الله ابن شريك، قال: "تمتعت، فسألت ابن عمر وابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم- فقالوا: هديت لسنة نبيك تقدم فتطوف ثم تحل". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك ... فذكر بإسناده نحوه غير أنه قال أبو غسان أظنه قال: لسنة نبيك افعل كذا ثم أحرم يوم التروية وافعل كذا وافعل كذا. ش: هذان طريقان كلاهما عن فهد بن سليمان. الأول: عنه، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني وثقه يحيى، عن شريك بن عبد الله النخعي عن عبد الله بن شريك العامري الكوفي وثقه ابن حبان. وقال الجوزجاني: كان مختاريًّا كذابًا. وفي "التكميل": قال الإِمام أحمد وابن معين وأبو زرعة: ثقة. وقال النسائي: ليس بقوي، وقال النسائي مرة: ليس به بأس. الثاني: عنه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله ... إلى آخره.

قوله: "افعل كذا" أراد بهذا بيان صورة التمتع، وهي أنه إذا قدم مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة حل، ثم أحرم بالحج يوم التروية وفعل ما يفعله المفرد بالحج، ثم يذبح دم التمتع والله أعلم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، ثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: "تمتعت فنهاني ناس عنها، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فتمتعت فنمت فأتاتي آتٍ في المنام فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، فأتيت ابن عباس فأخبرته، فقال: الله أكبر سُنَّه أبي القاسم أو سُنَّة رسول الله -عليه السلام-. ش: إسناده صحيح، وأبو جمرة -بالجيم والراء المهملة- اسمه نصر بن عمران ابن عاصم الضبعي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، نا شعبة، نا أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: "تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي -عليه السلام-، فقال لي: أقم عندي وأجعل لك سهمًا من مالي. قال: شعبة فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت". وأخرجه مسلم (¬2): نا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت أبا جمرة الضبعي قال: "تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك، فأمرني بها، قال: ثم انطلقت إلى البيت فنمت، فأتاني آتٍ في منامي، فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: الله أكبر، الله أكبر، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي -هو أحمد بن خالد- قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالم قال: "إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسنٌ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 568 رقم 1492). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 911 رقم 1242).

جميل، فقال: إن أباك كان ينهى عن ذلك، فقال: ويلك، فإن كان أبي قد نهى عن ذلك وقد فعله رسول الله -عليه السلام- أمر به، فبقول أبي تأخذ أم بقول رسول الله -عليه السلام-؟! قال: بأمر رسول الله -عليه السلام- قال: (قم) (¬1) عني". ش: إسناده صحيح، وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني والزهري هو محمد بن مسلم المدني. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن أحمد بن شعيب، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم قال: "كنت عند ابن عمر، فجاءه رجل فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: حسن لا بأس، فقال: إن أباك كان ينهى عنها، فغضب ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقال: بأمر رسول الله -عليه السلام- نأخذ. قوله: "حسنٌ" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي التمتع، أي فعلُه حسنٌ جميلٌ. ص: حدثنا يزيد بن سنان وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله -عليه السلام- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله -عليه السلام- بالعمرة إلى الحج". ش: إسناده صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا يحيى بن بكير، قال: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن ابن عمر قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "فقم". (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 607 رقم 1606).

رسول الله -عليه السلام- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله -عليه السلام- بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي -عليه السلام- مكة، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء [حرم] (¬1) منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فطاف رسول الله -عليه السلام- حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء، ثم خبَّ ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله -عليه السلام- .. ". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. وهذا الحديث مشتمل على بيان لصفة المتمتع الذي ساق الهدي فإنه لا يحل إذا فرغ من أفعال العمرة، وهذا حجة لأبي حنيفة حيث قال: المتمتع الذي قد ساق هديه لا يحل إلاَّ يوم النحر. وقال الشافعي: يحل، وسوق الهدي لا يمنع التحلل، وهذا حجة عليه، وأما المتمتع الذي لا يسوق الهدي فإنه يحل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عروة: "أن عائشة أخبرته عن رسول الله -عليه السلام- في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني به سالم، عن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أحرم منه"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 907 رقم 1227). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 160 رقم 1805). (¬4) "المجتبى" (5/ 1515 رقم 2732).

ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيحين ما خلا ابن أبي داود. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عبد الملك بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير: "أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -عليه السلام- أخبرته عن رسول الله -عليه السلام- في تمتعه بالعمرة وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه البخاري (¬2) نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬3): أيضًا من حديث الليث، عن عقيل ... إلى آخره نحوه. ثم قال: وقد روينا عن عائشة وابن عمر ما يعارض هذا، وهو الإِفراد حيث لم يتحلل من إحرامه إلى آخر شيء؛ دلالة على أنه لم يكن متمتعًا. قلت: هذا لا يرد على فقهاء الكوفة؛ فعندهم المتمتع إذا أهدى لا يتحلل حتى يفرغ من حجه، وهذا الحديث أيضًا ينفي كونه مفردًا؛ لأن الهدي لا يمنع المفرد من الإِحلال، فهو حجة على البيهقي وفي "الاستذكار": لا يصح عندنا أن يكون متمتعًا إلاَّ تمتع قران؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه -عليه السلام- لم يحل في عمرته وأقام محرمًا من أجل هديه إلى يوم النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فقد رويتم عن عائشة -رضي الله عنها- في أول هذا الباب خلاف هذا، فرويتم عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج، ورويتم عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله -عليه السلام- بالحج" ورويتم عن أم علقمة، عن عائشة: "أن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 902 رقم 1228). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 607 رقم 1606). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 17 رقم 8641).

رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع أفرد بالحج ولم يعتمر" قيل له: يجوز أن يكون هذا على معنى لا يخالف معنى ما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة، وذلك أنه قد يجوز أن يكون الإِفراد الذي ذكره القاسم عن عائشة إنما أرادت به إفراد الحج في وقت ما أحرم به، وإن كان قد أحرم بعد خروجه منه بعمرة، فأرادت أنه لم يخلطه في وقت إحرامه به بإحرام بعمرة كما فعل غيره ممن كان معه، وأما حديث محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، عن عائشة فإنها أخبرت أن منهم من أهل بعمرة لا حجة معها، ومنهم من أهل بحجة وعمرة تعني مقرونين، ومنهم من أهل بالحج ولم تذكر في ذلك التمتع، فقد يجوز أن يكون الذين قد كانوا أحرموا بالعمرة أحرموا بعدها بحجة، ليس حديثها هذا ينفي من ذلك شيئًا، وأنها قالت: وأهل رسول الله -عليه السلام- بالحج مفردًا فقد يجوز أن يكون ذلك الحج المفرد بعد عمرة قد كانت تقدمت منه مفردة، فيكون أحرم بعمرة مفردة على ما في حديث القاسم ومحمد بن عبد الرحمن عن عروة، ثم أحرم بعد ذلك بحجة على ما في حديث الزهري عن عروة، حتى تتفق هذه الآثار ولا تتضاد، فأما معنى ما روت أم علقمة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج ولم يعتمر، فقد يجوز أن تكون تريد بذلك أنه لم يعتمر في وقت إحرامه بالحج كما فعل من كان معه، ولكنه اعتمر بعد ذلك. ش: لما كانت أحاديث عائشة -رضى الله عنها- في هذا الباب متعارضة ظاهرًا، وجه ذلك ظاهر فيما ذكره يتأتى فيها سؤال من كل واحد من أهل المقالتين على الآخر، فلذلك ذكره بصورة السؤال والجواب وهما ظاهران، وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثها هذا في الحج عظيم، وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه، ودفع بعضهم بعضها ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها، ورام قوم الجمع في بعض معانيها، روى محمد بن عُبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة قال: ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم؟ قال القاسم: أهلت عائشة بالحج وقال عروة: أهلت بالعمرة. وذكر الحارث بن مسلمة، عن يوسف بن عمرو، عن ابن وهب، عن مالك أنه قال في حديث عروة عن عائشة في الحج: ليس عليه العمل

قديمًا ولا حديثًا، قال أبو عمرو: يريد مالك أنه ليس عليه العمل في رفض العمرة لأن العمل عليه عنده في أسباب كثيرة منها: أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة، ومنها أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، وغير ذلك. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): حديث عروة عن عائشة منكر وخطأ عند أهل العلم بالحديث. حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا عبد الله بن الحسين بن عقال، نا عبيد الله بن محمد السقطي، نا أحمد بن جعفر بن مسلم الختلي، نا عمر بن محمد بن عيسى الجوهري السداني، نا أحمد بن محمد الأثرم، نا أحمد بن حنبل ... فذكر حديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع .. " الحديث، فقال أحمد: أيش في هذا الحديث من العجب؟ هذا خطأ، قال الأثرم: فقلت له: الزهري، عن عروة، عن عائشة بخلافه. قال أحمد: نعم، وهشام بن عروة. انتهى. وفي "التمهيد": دفع الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن عُلَيّة حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة، وقال إسماعيل ابن إسحاق: قد أجمع هؤلاء يعني القاسم والأسود وعروة على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط، وقال عياض اختلفت الروايات عن عائشة فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا، ففي رواية: أحللنا بعمرة، وفي أخرى: فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ولم أهل إلاَّ بعمرة، وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلاَّ الحج، وفي أخرج: لبينا بالحج، وفي أخرى: مهلين بالحج، والكل صحيح، وفي رواية: وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي وقال بعضهم: نرجح أنها كانت محرمة بحج، لأنها رواية عمرة والأسود والقاسم، وعلّلوا رواية عروة في العمرة، ورجحوا رواية غيره على روايته، لأن عروة قال في ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 104).

رواية حماد بن سلمة، عن هشام عنه: حدثني غير واحد: "أن النبي -عليه السلام- قال لها: دعي عمرتك" فدل أنه لم يسمع الحديث منها. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، أن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- حدثه: "أنه سمع أسماء لما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسول الله -عليه السلام- لقد نزلنا معه هَا هنا ونحن خفاف الحقائب، قليل ظهورنا، قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا، ثم أهللنا من العشي بالحج". فهذه أسماء تخبر أن من كان حينئذ ابتدأ بعمرة فقد أحرم بعمرة فصار بها متمتعًا. ش: هذا الإِسناد عن عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، ولكن الحديث صحيح أخرجه الشيخان، وأبو الأسود اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني. فقال البخاري (¬1): ثنا أحمد بن عيسى، نا ابن وهب، نا عمرو، عن أبي الأسود، أن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر حدثه: "أنه كان يسمع أسماء تقول كلما مرت بالحجون: صلى الله على محمد، لقد نزلنا من هَا هنا ونحن يومئذ خفاف، قليل ظهرنا .. " إلى آخره سواء. وقال مسلم (¬2): حدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى، قالا: نا ابن وهب .. إلي آخره نحو رواية البخاري. قوله: "بالحَجُون" على وزن فَعُول بفتح الفاء، وهو موضع بمكة عند المحصب وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجزارين إلي ما بين الحوضين اللذين في حائط عوف، وهو مقبرة أهل مكة، وذكر بعضهم الحجون مكان في البيت على ميل ونصف. وقال الجوهري الحجون بفتح الحاء جبل بمكة وهي مقبرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 637 رقم 1702). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 908 رقم 1237).

قوله: "خفاف الحقائب" جمع حقيبة وهو كل ما حمل في مؤخر الرحل والقتب ومنه احتقب فلان كذا. قوله: "فلما مسحنا البيت" أي فلما طفنا بالبيت، لأن الطائف يمسح الركن فعبر عن الطواف ببعض ما يفعل فيه، ومنه قول ابن أبي ربيعة: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومَسَّح بالأركان من هو ما مسح فكني بالمسح عن الطواف، قال عياض: وليس هذا اللفظ على عمومه، والمراد به ما عدا عائشة -رضي الله عنها- لأنها كانت حاضت فلم تتمسح بالبيت ولم تطف ولا تحللت، بذلك من عمرتها، وإنما قصدت هنا الإِخبار عن حجهم مع النبي -عليه السلام- على الصفة التي ذكرت ولم تتعرض لخبر عائشة وعذرها وخصوصها من بينهم، وقيل: لعل أسماء أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلت بعد الحج مع أخيها عبد الرحمن، وأما قول من قال: لعلها أرادت في غير حجتهم مع النبي -عليه السلام- فخطأ لأن في الحديث النص أن ذلك كان في حجهم مع النبي -عليه السلام-، فإن قيل: لم تذكر أسماء في حديثها هذا السعي بين الصفا والمروة فدل أن ذلك ليس بواجب. قلت: قال القاضي عياض: لا حجة في ذلك لمن لم يوجب السعي؛ لأن هذا الحديث إنما هو إخبار عما فعلوا مع النبي -عليه السلام- في حجة الوداع، والذي جاء فيه مفسرًا أنهم طافوا معه وسعوا، فيحمل ما أُجمل وأشكل على ما فُسِّر وبُيِّن، فافهم. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران -رضي الله عنه- قال: "تمتعنا مع رسول الله -عليه السلام- ونزل فيها القرآن فلم ينهنا رسول الله -عليه السلام- ولم ينسخها شيء، ثم قال رجل برأيه ما شاء. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: "تمتعنا على عهد رسول الله -عليه السلام- متعة الحج، فلم ينهنا عنها ولم ينزل الله فيها نهيًا". ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، نا همام، نا قتادة، قال: حدثني مطرف، عن عمران قال: "تمتعنا على عهد النبي -عليه السلام- ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: حدثنا محمد مثنى، قال: حدثني عبد الصمد، قال: نا همام، قال: ثنا قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: "تمتعنا مع رسول الله -عليه السلام- ولم ينزل فيه القرآن، قال رجل فيها برأيه ما شاء". وفي رواية له (2): عن أبي رجاء قال: قال عمران بن حصين: "نزلت آية المتعة في كتاب الله -عز وجل- يعني متعة الحج -وأمرنا بها رسول الله -عليه السلام- ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله -عليه السلام- حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. قوله: "رجل" يريد به عمر -رضي الله عنه- لأنه كان ينهى عنها ويأمر بالإِفراد، قاله عياض، وقال ابن الجوزي: كأنه يريد به عثمان، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أراد أبا بكر أو عمر أو عثمان، وقال النووي والقرطبي: يعني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 569 رقم 1496). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 900 رقم 1226). (¬3) "المجتبى" (5/ 149 رقم 2728).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا عفان، نا حماد، أنا حميد، عن الحسن، عن عمران بن الحصين قال: "تمتعنا على عهد رسول الله -عليه السلام- فلم ينهنا عنها، ولم ينزل فيها نهى". ص: حدثنا سليمان، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "تمتعنا مع رسول الله -عليه السلام- فلما ولى عمر -رضي الله عنه- خطب الناس، فقال: إن القرآن هو القرآن وإن الرسول هو الرسول وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله -عليه السلام-: متعة الحج فافصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم، والأخرى متعة النساء، فأنهى عنها وأعاقب عليها. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر قال: "متعتان فعلناهما على عهد رسول الله -عليه السلام- نهانا عنهما عمر -رضي الله عنه- فلم نعد إليهما". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العوقي البصري، والعوقة بطن من قيس. وأخرجه مسلم (¬2): نا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال: "كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله، فقال: [على يدي دار الحديث] (¬3) تمتعنا مع رسول الله -عليه السلام-، فلما قام ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 363 رقم 14959). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 885 رقم 1217). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

عمر -رضي الله عنه- قال: إن الله تعالى كان يحل لرسوله ما شاء [بما شاء] (2) وأن القرآن قد نزل منَازِله فأتموا الحج والعمرةٍ [الله] (2) كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاَّ رجمته بالحجارة". وحدثنيه زهير بن حرب، قال: ثنا عفان، قال: نا همام عن قتادة ... بهذا الإِسناد وقال في الحديث: "فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". انتهى. قوله: "وإنهما كانتا متمتعان" أبي أن المتعتين المعهودتين إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء. ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر؛ لأن ذلك كان معهودًا بينهم فصار كالملفوظ. وقوله: "كانتا" بمعنى وجدتا أو وقعتا فكان هنا تامة فلذلك لم تحتج إلى خبر. قوله: "متعتان" مرفوع لأنه خبر إنَّ في قوله: "إنهما"، والمعنى إنهما متعتان كانتا على زمن النبي -عليه السلام-. قوله: "متعة الحج" خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء وهي التي يكون العقد فيها إلى أجل معين نحو عشر أيام أو شهر، وسيجيء تحقيق ذلك في بابه إن شاء الله. قوله: "فافصلوا بين حجكم وعمرتكم" إشارة إلى معنى التمتع؛ لأن عمر -رضي الله عنه- لم يكن يرى بذلك كما ذكرناه، وقال الإِمام: اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج فقيل: هي فسخ الحج في العمرة وقيل: بل هي العمرة في أشهر الحج والحج بعدها ويكون نهيه عن ذلك على جهة الترغيب فيما هو الأفضل الذي هو الإِفراد وليكثر تردد الناس إلى البيت. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي نضرة المنذر بن مالك.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الصمد، نا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر قال: "متعتان كانتا على عهد النبي -عليه السلام- فنهانا عنهما عمر -رضي الله عنه- فانتهينا". ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله ما يدل على أنه كان كذلك أيضًا. حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن نافع عن ابن عمر عن حفصة: "أنها قالت لرسول الله -عليه السلام-: ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر". فدل هذا الحدث أنه كان متمتعًا. لأن الهدي المقلد لا يمنع من الإِحلال إلاَّ في المتعة خاصة هذا إن كان ذلك القول من بعد طوافه للعمرة وقد يحتمل أيضًا أن يكون هذا القول كان منه قبل أن يحرم بالحج وقبل أن يطوف للعمرة، فكان ذلك حكمه - لولا سياقه الهدي- يحل كما يحل الناس بعد أن يطوف، فلم يطف حتى أحرم بالحج فصار قارنًا، فليس يخلو حديث حفصة الذي ذكرنا من أحد هذين التأويلين وعلى أيهما كان في الحقيقة فإنه قد نفى قول من قال: إنه مفردًا بحجة لم يتقدمها عمرة ولم يكن معها عمرة. ش: أي روي عن النبي -عليه السلام- أيضًا ما يدل على أنه كان جمع بين الحج والعمرة في عام حجة الوداع ولم يكن مفردًا وهو حديث حفصة، وهو حديث صحيح أخرجه الجماعة غير الترمذي. فالبخاري (¬2): عن إسماعيل، عن مالك. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 325 رقم 14159). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 568 رقم 1491). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 902 رقم 1229).

وأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬2): عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن حفصة زوج النبي -عليه السلام- قالت: يا رسول الله ما شأن الناس .. " إلى آخره نحوه. قوله: "ما شأن الناس" أي ما لهم وما حالهم. قوله: "إني لبدت رأسي" من التلبيد وهو أن يضفره ويجعل فيه شيئًا من صمغ وشبهه ليجتمع ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يحصل منه قمل، وإنما يُلبد من يطول مكثه في الإِحرام. ونص الشافعي وأصحابه على استحبابه للرفق. وقال أبو عمر: زعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: "ولم تحل أنت من عمرتك" إلاَّ مالك وحده قال: وهذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم: عبيد الله بن عمر وأيوب بن أبي تميمة وهما ومالك حفاظ أصحاب نافع. انتهى. وقال السفاقسي في قولها: "ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك": يحتمل أن تريد من حجك؛ لأن معناهما متقارب، يقال: حجَّ الرجل البيت إذا قصده واعتمره إذا قصده، فعبرت بأحدهما عن الآخر وإن كان يقع كل واحد منهما على نوع مخصوص من القصد والنسك. وقيل: إنها لما سمعته يأمر الناس بسرف بفسخ الحج في العمرة ظنت أنه فسخ الحج فيها وقيل: اعتقدت أنه كان معتمرًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 161 رقم 1806). (¬2) "المجتبى" (5/ 172 رقم 2781). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1012 رقم 3046).

وقال القرطبي: معنى قولها وقول ابن عباس: "من عمرتك" أي بعمرتك كما قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬1) أي بأمر الله، عبر بالإِحرام بالعمرة عن القران لأنها السابقة في إحرام القارن قولاً ونية ولا سيما على ما ظهر من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه -عليه السلام- كان مضروًا، وقال القاضي عياض: وفي تسميتها إياه عمرة يحتج به من قال: أن النبي -عليه السلام- كان قارنًا بحج وعمرة، قوله (فدل هذا الحديث) أبي حديث حفصة، أن النبي -عليه السلام- كان متمتعا؛ لأن الهدي المقلَّد -بتشديد اللام المفتوحة- لا يمنع من إحلال المحرم إلاَّ في المتعة خاصة وباقي الكلام ظاهر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل القران في ذلك بين العمرة والحجة أفضل من إفراد الحج ومن التمتع بالعمرة إلى الحج وقالوا: كللك فعل رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع. ش: أي خالف الفريقين الأولين جماعة آخرون وأراد بهم: شقيق بن سلمة والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق والمزني من أصحاب الشافعي فإنهم قالوا: القران أفضل من الإِفراد والتمتع وإليه ذهب ابن المنذر وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي وعن أحمد: يخير بين القران والإِفراد والتمتع، وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل وإلا فالتمتع. قلت: قول أبي حنيفة في هذا هو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. قوله: "وقالوا" أي قال هؤلاء الآخرون. "كللك فعل رسول الله -عليه السلام-" أرادوا أنه -عليه السلام- كان قارنًا في حجة الوداع. وفي "المجرد": وأما حجة النبي -عليه السلام- فاختلف فيها بحسب المذاهب والأظهر قول أحمد: لا أشك أنه كان قارنًا والمتعة أحب إليّ. ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا يونس قال: ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي، قال: حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: حدثني شقيق بن سلمة قال: حدثني رجل من ¬

_ (¬1) سورة الرعد، آية: [11].

تغلب يقال: له أبي معبد قال: "أهللت بالحج والعمرة جميعًا فلما قدمت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذكرت له إهلالي فقال: هديت لسنة [نبيكم] (¬1) أو لسنة النبي -عليه السلام-". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد قال: ثنا شريك عن منصور والأعمش عن أبي وائل مثله. حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا أبو داود قال: ثنا شعبة قال: ثنا منصور قال: سمعت أبا وائل يحدث أن الصبي ... فذكر مثله. حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد قال: ثنا سلمة بن كهيل عن أبي وائل ... مثله. حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل ... مثله. حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا عبد الله بن رجاء قال: ثنا شعبة عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل ... فذكر مثله. حدثنا فهد قال: ثنا الحسن بن ربيع قال: ثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال الصُّبي بن معبد ... فذكر مثله. ش: أبي ذكر هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أفضلية القران [إلى] (¬2) حديث صُبَي -بضم الصاد- بن معبد التغلبي الكوفي وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه وأخرج حديثه من سبع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا عن بشر بن بكر التنيسي أحد مشايخ الشافعي روى له البخاري [و] (¬3) الأربعة غير الترمذي، عن عبد الرحمن ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك": نبيكم، وفي "شرح معاني الآثار": نبيك. (¬2) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬3) في "الأصل، ك": "ومن".

ابن عمرو الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي أبي القاسم البزار الكوفي نزيل دمشق روى له الجماعة، عن شقيق بن سلمة الأسدي روى له الجماعة، عن صُبَي ابن معبد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد عن عمر ... مثله. قال البيهقي: فيه دليل على جواز القران. قلت: فيه دليل على الجواز وعلى أنه أفضل من غيره؛ لقول عمر -رضي الله عنه- "هديت لسُنّه نبيكم -عليه السلام-". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن منصور بن زاذان وسليمان الأعمش كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، حدثني الصبي بن معبد -وكان رجلاً من بني تغلب- قال: "كنت نصرانيًّا فأسلمت واجتهدت فلم آل، فأهللت بحجة وعمرة، فمررت بالعذيب على سلمان بن ربيعة ويزيد بن صوحان، فقال أحدهما: أبهما جميعًا؟ فقال له صاحبه: دعه؛ فإنه أضل من بعيره، فكأنما بعيري على عنقي، فأتيت عمر -رضي الله عنه- فذكرت ذلك له، فقال لي عمر: إنهما لم يقولا شيئًا؛ هديت لسنة نبيك -عليه السلام-". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬3). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 289 رقم 14290). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 37 رقم 254). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 12 رقم 58).

الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره. الخامس: مثله غير أن موضع سلمة بن كهيل: عاصم بن بهدلة وهو عاصم بن أبي النجود المدني. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: "خرجنا حجاجًا ومعنا الصبي بن معبد، قال: فأحرم بالحج والعمرة، قال: فقدمنا على عمر -رضي الله عنه- فذكر ذلك له، فقال: هديت لسُنَّة نبيك -عليه السلام-". السادس: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري عن شعبة بن الحجاج عن الحكم بن عتيبة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، نا شعبة، عن الحكم، عن أبي وائل، عن صُبَي بن معبد: "أنه كان نصرانيًّا تغلبيًّا فأسلم، فسأل أيَّ العمل أفضل؟ فقيل له: الجهاد في سبيل الله، فأراد أن يجاهد، فقيل له: أحججت؟ قال: لا، فقيل: حج واعتمر ثم جاهد، فأهلَّ بهما جميعًا، فوافق زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة، فقالا: هو أضل من ناقته -أو ما هو بأهدى من جمله- فانطلق إلى عمر -رضي الله عنه- فأخبره بقولهما، فقال: هديت لسُنَّة نبيك أو لسُنَّة رسول الله -عليه السلام-". السابع: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن ربيع القسري شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن الصبي بن معبد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 289 رقم (14289). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 53 رقم 379).

ص: فقال الذين أنكروا القران: إنما قول عمر -رضي الله عنه- "هديت لسنة نبيك" على الدعاء منه له لا على تصويبه إياه في فعله وكان من الحجة عليهم في ذلك مما يدل على أن ذلك لم يكن من عمر -رضي الله عنه- على جهة الدعاء: أن فهدًا حدثنا قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثني أبي قال: ثنا الأعمش قال: حدثنا شقيق قال: ثنا الصبي بن معبد قال: "كنت حديث عهد بنصرانية فلما أسلمت لم ألُ أن أجتهد فأهللت بعمرة وحجة جميعًا فمررت بالعذيب بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فسمعاني وأنا أهلُّ بهما جميعًا فقال أحدهما لصاحبه: أبهما جميعًا؟ وقال الآخر: دعه فإنه أضل من بعيره؛ قال: فانطلقت وكأن بعيري على عنقي فقدمت المدينة فلقيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقصصت عليه فقال: إنهما لم يقولا شيئًا، هديت لسنة نبيك -عليه السلام-". حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: ثنا وكيع قال: ثنا الأعمش عن شقيق عن الصُبَي بن معبد قال: "أهللت بهما جميعًا فمررت بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فعابا ذلك علي فلما قدمت [على] (¬1) عمر -رضي الله عنه- ذكرت ذلك له فقال: لم يقولا شيئًا هديت لسنة نبيك -عليه السلام-. فدل قوله: "هديت لسنة نبيك" بعد قوله: "إنهما لم يقولا شيئًا" أن ذلك كان منه على التصويب منه لا على الدعاء. ش: الذين أنكروا القران هم الطائفة الذين ذكروا في الفريقين الأولين، فإنهم قالوا: لما استدلت أهل المقالة الثالثة بما رُوي عن صبي بن معبد على أفضلية القران: لا دلالة لذلك على القرآن ولا على أفضليته لأن قول عمر -رضي الله عنه- "هديت لسُنَّة نبيك" دعاء منه له على أن يهديه [الله] (¬2) لسُنَّة نبيه -عليه السلام- حيث ترك السنة في فعله ذلك ولم يدل ذلك على أنه صوّب فعله ذلك، أعني جمعه العمرة والحج ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) ليست في "الأصل، ك".

في إهلاله فأجاب عن ذلك بقوله: فكان من الحجة عليهم في ذلك، على الذين أنكروا القران بيانه: أن قول عمر -رضي الله عنه-: "هديت لسنة نبيك" بعد قوله: "إنهما لم يقولا شيئًا" يدل على أنه رأى ذلك من الصبي صوابًا وأن ذلك هو سنة النبي -عليه السلام-، وليس ذلك منه دعاء له إذ لو كان ذلك على وجه الدعاء لما قال: "إنهما لم يقولا شيئًا" فإنكاره عليهما قولهما دل على أن المراد من قوله: "هديت لسنة نبيك" هو الإِخبار على معنى أنك أتيت بما هو سنة نبيك -عليه السلام- وليس المراد منه هو الدعاء الذي هو الإِنشاء. ثم إنه أخرج الحديث الذي يدل على ذلك من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان .. إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن يحيى عن الأعمش ... بمثله، وقد ذكرناه عن قريب. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن إسحاق بن إبراهيم هو إسحاق بن راهويه شيخ الجماعة غير ابن ماجة. وأخرجه في "مسنده". وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا: ثنا محمد بن قدامة بن أعين وعثمان بن أبي شيبة -المعنى- قالا: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي وائل، قال: قال الصبي بن معبد: "كنت رجلاً أعرابيًّا نصرانيًّا فأسلمت، فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له: هذيم بن ثرملة، فقلت له: يا هنا، إني حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فكيف لي بأن أجمعهما؟ فقال: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معًا جميعًا، فلما أتيت العذيب لقيت سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أُهِلُّ بهما معًا، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره، قال: فكأنما ألقي علي جبل، حتى أتيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 158 رقم 1799).

فقلت له: يا أمير المؤمنين إني كنت رجلاً أعرابيًّا نصرانيًّا، وإني أسلمت، وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ، فأتيت رجلاً من قومي فقال لي: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وإني أهللت بهما معًا، فقال عمر -رضي الله عنه-: "ذهبت لسنة نبيك -عليه السلام-". وأخرجه النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2) أيضًا. قوله: "لم آل أن أجتهد" أبي لم أقصر في الاجتهاد و"أن" مصدرية قال الجوهري: "ألا يألو" أبي قصر وفلان لا يألوك نصحا فهو آلٍ والمرأة: آلية وجمعها: أو الٍ. قوله: "بالعذيب" بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة: ماء لبني تيم إذا خرجت عن القادسية تريد مكة والعذيب أول البادية قاله ياقوت في المشترك. قوله: "سلمان بن ربيعة" وهو الذي يقال له: سلمان الخيل سمي به لأنه كان يلي الخيول في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالكوفة، يقال: إن له صحبة وذكره ابن حبان في الثقات التابعين، وكان رجلاً يأتي الحج كل سنة، وهو أول قاض استقضي بالكوفة، مكث أربعين يومًا لا يأتيه خصم وكان قد استقضاه عمر بن الخطاب يومئذ، قتل [ببلنجر] (¬3) سنة خمس وعشرين وقيل: تسع وعشرين وقيل: ثلاثين وقيل: إحدى وثلاثين. وزيد بن صوحان -بضم الصاد المهملة وسكون الواو وبالحاء المهملة- صحابي قال أبو عمر: لا أعلم له صحبة ولكنه ممن أدرك النبي -عليه السلام- مسلمًا قتل يوم الجمل سنة ستة وثلاثين وكانت معه راية عبد القيس يومئذ. و"هذيم" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء آخر الحروف. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 146 رقم 2719). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 989 رقم 2970). (¬3) قال البكري في "معجم ما استعجم" (1/ 276) بَلَنْجَر -بفتح أوله وثانيه، وإسكان ثالثه، بعده جيم مفتوحة، وراء مهملة-: مدينة ببلاد الروم، شهد فتحها عدد من الصحابة. وانظر "معجم البلدان" (1/ 489).

ص: وقد رُوي عن ابن عباس عن عمر -رضي الله عنهم- ما يدل على ذلك أيضًا، حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: ثنا الأوزاعي قال: ثنا يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي سفيان عن عمر قال: سمعت النبي -عليه السلام- وهو بالعقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا هارون بن إسماعيل قال: ثنا علي بن المبارك قال: ثنا يحيى بن أبي كثير ... فذكر بإسناده مثله. فأخبر عمر -رضي الله عنه- في هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- أنه آتاه أتٍ من ربه فقال له: قل: عمرة في حجة فلما كان رسول الله -عليه السلام- قد كان أمر أن يجعل عمرة في حجة استحال أن يكون ما فعل خلافًا لما أمر به. ش: قد روي عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب ما يدل على وجود القران وعلى أفضليته وعلى أن النبي -عليه السلام- كان قارنًا في حجة الوداع وهذا ظاهر لأنه -عليه السلام- أُمر أن يقول: عمرة في حجة فيكون مأمورًا بأن يجمع بينهما في الميقات وهذا هو عين القران فإذا كان مأمورًا به استحال أن يكون حجه بخلاف ما أمر به، فإن قيل: لا نسلم ذلك ولا يدل ذلك على أفضلية القران ولا على كون النبي -عليه السلام- قارنًا؛ لأنه جاء في رواية أخرى: "قل عمرة وحجة" ففصل بينهما فحينئذ يحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله فكأنه قال: إذا حججت فقل: لبيك بعمرة وتكون في حجتك التي حججت أو يكون محمولًا على معنى تحصيلهما معًا. قلت: رواية البخاري وغيره: "قل عمرة في حجة" وهذه هي الصحيحة وهي تدل على أنه -عليه السلام- أمر أن يجعل العمرة في الحجة وهي صفة القران وكذلك الرواية التي فيها واو العطف تدل على ما ذكرنا؛ لأن الواو لمطلق الجمع والجمع بين الحج والعمرة هو القران وما ذكروه من الاحتمال بعيد وصرف اللفظ إلى غير مدلوله فافهم.

ثم إنه أخرج الحديث من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون السكري الإِسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا الحميدي، نا الوليد وبشر بن بكر التنيسي، قالا: ثنا الأوزاعي: ثنا يحيى، قال: حدثني عكرمة، أنه سمع ابن عباس يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "سمعت النبي -عليه السلام- بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقيل: عمرة في حجة". وأخرجه أبو داود (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير .. إلى آخره. وأخرجه الييهقي في "سننه" (¬4): من حديث أبي زيد الهروي، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى، حدثني عكرمة، حدثني ابن عباس، عن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "آتاني جبريل وأنا بالعقيق فقال صَلِّ في هذا الوادي المبارك ركعتين وقيل: عمرة في حجة فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". ثم قال البيهقي: كذا قال علي بن المبارك: عن يحيى، وخالفه الأوزاعي في أكثر الروايات عنه، فقال: وقال عمرة في حجة. ثم أخرجه كذلك (¬5): من حديث الوليد بن مسلم وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، ثم قال: وكذا قال شعيب بن إسحاق ومسكين بن بكير، عن الأوزاعي، فيكون ذلك إذنا في إدخال العمرة على الحج؛ لا أنه أمر النبي -عليه السلام- بذلك في نفسه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 556 رقم 1461). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 159 رقم 1800). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 991 رقم 2976). (¬4) "السنن الكبرى" (5/ 13 رقم 8629). (¬5) "السنن الكبرى" (5/ 14 رقم 8631).

قلت: أخرجه البخاري (¬1): في الحج من حديث بشر بن بكر والوليد بن مسلم. وفي كتاب الملاعنة (¬2): من حديث شعيب بن إسحاق كلهم عن الأوزاعي ولفظه: "وقل عمرة في حجة". وأخرجه أبو داود (¬3): كذلك من حديث مسكين بن بكير. وابن ماجه (¬4): كذلك من حديث محمد بن مصعب والوليد بن مسلم كلهم عن الأوزاعي. وهذا أولى من رواية من قال: "وقال: عمرة في حجة" لأن الملك لا يلبي وإنما يعلم التلبية، ولو صحت تلك الرواية نوفق بينهما ونقول: المراد: "قال: قل" فاختصره الراوي. قوله: "آتاني الليلة آتٍ" أعم من جبريل وغيره، ولكن في رواية البيهقي: "آتاني جبريل وأنا بالعقيق". وقوله: "الليلة" نصب على الظرف "آتٍ" اسم فاعل كقاضٍ، فاعل لقوله "آتاني". ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن ينقل هذا عن عمر -رضي الله عنه- وقد نهى عن المتعة؟ وقد ذكرتم ذلك عنه في حديث مالك عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل وذكر في ذلك أيضًا ما حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا مكي بن إبراهيم قال: ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "متعتان كانتا على عهد رسول الله -عليه السلام- أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج". حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا يزيد بن هارون قال: ثنا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان ينهي عن متعة النساء ومتعة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 556 رقم 1461). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 823 رقم 2212). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 159 رقم 1800). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 991 رقم 2976).

الحج". قالوا: فكيف يجوز أن يعاقب أحدًا على أمر قد علم أن الله -عز وجل- قد أمر به رسوله -عليه السلام-؟ قيل: ليست هذه المتعة التي في هذا الحديث هي المتعة التيم استحبها أهل المقالة التيم ذكرناها في الفصل الذي قبل هذا، ولكن هذه المتعة عندنا -واللهَ أعلم- هي الإِحرام الذي كان أصحاب رسول الله -عليه السلام- أحرموه بحجة ثم طافوا لها وسعوا قبل عرفة وحلقوا وحلوا فتلك متعة قد كانت تفعل على عهد رسول الله -عليه السلام- ثم نسخت وسنذكرها وما روي فيها وفي نسخها في غير هذا الموضع في كتابنا هذا إن شاء الله. فهذه المتعة التي نهى عنها عمر -رضي الله عنه- وتواعد من فعلها بالعقوبة، فأما متعة قد ذكرها الله -عز وجل- في كتابه بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) وفعلها رسول الله -عليه السلام- وأصحابه فمحال أن ينهى عنها عمر -رضي الله عنه- بل قد روينا عن عمر أنه استحبها وحض عليها. حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد قال: ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت طاوسًا يحدث عن ابن عباس قال: "يقولون: أن عمر نهى عن المتعة قال عمر -رضي الله عنه-: لو اعتمرت في عام مرتين ثم حججت لجعلتها مع حجتي". حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا سفيان عن سلمة عن طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر -رضي الله عنه- ... فذكر مثله. فهذا ابن عباس قد أنكر أن يكون عمر نهى عن التمتع وذكر عنه أنه استحب القران فدل ذلك أن المتعة التي تواعد عمر من فعلها بالعقوبة هي المتعة الأخرى. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يجوز أن يروى الحديث المذكور الذي رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- عن النبي -عليه السلام- أن قيل له: "قل عمرة في حجة" والحال أن عمر -رضي الله عنه- قد نهى عن المتعة فكيف ينهي عن شيء ثم ينقل ذلك عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

قوله: "قد ذكرتم ذلك عنه" أي قد ذكرتم نهى عن المتعة، عن عمر -رضي الله عنه- من حديث مالك عن محمد بن مسلم الزهري وقد مضى ذكره في هذا الباب. قوله: "وذكر في ذلك أيضًا" أي وذكر هذا القائل أيضًا ما حدثنا يزيد بن سنان ... إلى آخره. وإسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وقوله: "حدثنا علي بن شيبة" طريق آخر وهو أيضًا صحيح وسيأتي الكلام فيه. قوله: "قالوا فكيف يجوز" أي قال القوم الذين ينكرون القران: كيف يجوز أن يعاقب عمر أحدًا على إتيان أمر قد علم عمر أن الله -عز وجل- قد أمر به رسول الله -عليه السلام- وهذا محال في حقه؟ ". وتقرير الجواب هو ما أشار إليه بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل: ليست هذه المتعة التي في هذا الحديث الذي فيه النهي والوعيد بالعقاب هي المتعة التي ذكرها أهل المقالة الثانية وهي التي يفعلها المسلمون الآن والباقي ظاهر. وقال ابن حزم أما نهي عمر فإنه عن متعة النساء بلا شك لأنه عند الرجوع إلى القول بها في الحج وقال أبو عمر إنما نهى عمر عند أكثر العلماء عن فسخ الحج في العمرة هذه هي التي نهى عنها. قوله: "فمحال" مرفوع على أنه خبر مقدم والمبتدأ هو: "قوله أن ينهي عنها عمر" و"أن" مصدرية، والتقدير: نهى عمر عنها محال. قوله: "أن استحبها" أي المتعة "وحض عليها" أي رغّب الناس فيها وبين ذلك بقوله حدثنا سليمان إلى آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 344).

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي عن شعبة عن سلمة بن كهيل ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "لو اعتمرت في سنتي مرتين ثم حججت لجعلت مع حجتي عمرة". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل. وأخرجه ابن حزم (¬2) أيضاً: من طريق سفيان عن سلمة ... إلى آخره. قوله: "هي المتعة الأخرى" يعني المتعة المنسوخة. ص: فإن قال قائل: فقد رُوي عن عمر -رضي الله عنه- أنه أمر بإفراد الحج وذكر في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى قال: سمعت سويدًا يقول: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: "أفردوا بالحج". قيل له: ليس ذلك عندنا على كراهته لما سوى الإِفراد من التمتع والقران ولكنه لإِرادته معنى سوى ذلك قد بيَّنه عبد الله بن عمر حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا بشر بن عمر قال: ثنا مالك. وحدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب أن مالك أخبره عن نافع عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: قلت لسالم: "لِمَ نهى عمر عن المتعة وقد فعل ذلك رسول الله -عليه السلام- وفعلها الناس معه؟ فقال: أخبرني عبد الله بن عمر أن عمر -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 107). (¬2) "المحلى" (7/ 108).

قال: إن أتم العمرة أن تفردوها من أشهر الحج، والحج أشهر معلومات فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور". قال: فأراد عمر بذلك تمام العمرة، لقول الله -عز وجل- {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) وذلك أن العمرة التي يتمتع فيها بالحج لا تتم إلاَّ بأن يهدي صاحبها هديًّا أو يصوم إن لم يجد هديًّا ومن العمرة في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام، فأراد عمر -رضي الله عنه- أن يزار البيت في كل عام مرتين وكره أن يتمتع الناس بالعمرة إلى الحج فيلزم الناس ذلك فلا يأتموا البيت إلاَّ مرة واحدة في السنة فأخبر ابن عمر عن عمر في هذا الحديث أنه إنما أمر بإفراد العمرة من الحج لئلَّا يلزم الناس ذلك فلا يأتون البيت إلاَّ مرة واحدة في السنة لا لكراهية التمتع؛ لأنه ليس من السنة، فأما قوله: "إنه أتم لعمرة أحدكم وحجته أن يفرد كل واحدة من صاحبتها" فإن ما روينا عن ابن عباس عنه يدل على خلاف ذلك. ش: السؤال ظاهر وتقدير الجواب أن يقال: لا نسلم أن قول عمر "أفردوا بالحج" يدل على أنه يكره التمتع والقران لعدم استلزام كلامه ذلك وإنما أراد بهذا الكلام معنى بينه ابنه عبد الله بن عمر فيما روى عن عمر أنه قال: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم" فإنه أراد بذلك: أن نفرد أشهر الحج للإِحرام بالحج ونحرم للعمرة في سائر الشهور؛ لتقع زيارة البيت مرتين كل عام. وقال أبو عمر: هذا الكلام من عمر -رضي الله عنه- إفراط في استحسان الإِفراد بالحج ولا أعلم أحدًا من أهل العلم كره العمرة في أشهر الحج غير عمر -رضي الله عنه-، وقد ثبت عن النبي -عليه السلام- لم تكن عمرته إلاَّ في شوال وقيل: في ذي القعدة وهما جميعًا من أشهر الحج، وقال أيضًا: ولا خلاف بين العلماء أن للمحرم بالعمرة إدخال الحج عليها ما لم يبتدئ بالطواف بالبيت لعمرته هذا إذا كان ذلك في أشهر الحج على أن جماعة منهم وهم أكثر أهل الحجاز يستحبون أنه لا يدخل المحرم الحج على العمرة حتى يفرغ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

من عملها ويفصل بينه وبين العمرة ولهذا استحبوا العمرة في غير أشهر الحج، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه-: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم [لحج أحدكم] (¬1) وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج". قوله: "فأما قوله إن أتم لعمرة .. " إلي آخره. أشار بهذا إلى أن قول عمر هذا يعارضه ما رواه عنه ابن عباس من قوله: "سمعت رسول الله -عليه السلام- وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي، فقال صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة" فإن هذا الحديث يخالف ما رواه عنه عبد الله بن عمر وهو ظاهر. ثم إنه أخرج حديث السائل: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الكوفي، روى له الجماعة، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي وثقه أحمد وروى له مسلم والأربعة، عن سويد بن غفلة الجعفي الكوفي أدرك الجاهلية ورُوي عنه أنه قال: أنا لِدة رسول الله -عليه السلام- ولدت عام الفيل، قدم المدينة حين نُفضت الأيدي من دفن رسول الله -عليه السلام-، روى له الجماعة. وحديث عبد الله بن عمر أخرجه من [ثلاث] (¬2) طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن بشر بن عمر الزهراني البصري، عن مالك، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬3). الثاني: عن موسى بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لحجكم". (¬2) ليست في "الأصل، ك". (¬3) "موطأ مالك" (1/ 347 رقم 769).

وأخرجه البيهقي (¬1): بأتم منه من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام-: "في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني سالم عن أبيه عن رسول الله، فقلت لسالم: فلم تنه عن التمتع وقد فعل ذلك رسول الله -عليه السلام- والناس معه؟ قال أخبرني ابن عمر -رضي الله عنه- قال إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬2) شوال وذو القعدة وذو الحجة، فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور". قوله: "إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج" أراد أن إتمام العمرة أن يؤتى بها وحدها في غير أشهر الحج، وذلك لأنها في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام بخلاف ما إذا كانت في أشهر الحج، فإن الرجل إذا أراد أن يتمتع فيها بالحج لا يتم إلاَّ بأن يهدي هديًا فإن لم يجد هديًا يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. قوله: "والحج أشهر معلومات" فيه حذف، أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويقال: تقديره: الحج في أشهر معلومات، وقال الفراء في كتاب معاني القرآن، في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معناه وقت الحج هذه الأشهر فهي وإن كانت تصلح كلمة "في" فيها فلا يقال إلاَّ بالرفع، وكذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران والحر شهران لا ينصبون لأنه مقدار الحج ولو كانت الأشهر والشهر معرفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب ووجه الكلام الرفع، وقال الزمخشري والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وعند أبي حنيفة وعند الشافعي تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالك ذو الحجة كله. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 20 رقم 8656). (¬2) سورة البقرة، آية: [197].

فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئًا من أفعال الحج لا يصلح إلاَّ فيها والإِحرام بالحج لا ينعقد عند الشافعي في غيرها وينعقد عند أبي حنيفة إلاَّ أنه يكره فإن قلت: كيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرًا؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1) فلا سؤال فيه إذن وإنما يكون موضع السؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات وقيل: نُزِّل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا أو على عهد فلان ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر وإنما رآه في ساعة فيها. قوله: "فأخلصوا فيهن الحج" أي في أشهر الحج وأراد بإخلاص الحج فيها: ألَّا يخلطه بالعمرة والدليل عليه قوله: "اعتمروا فيما سواهن من الشهور". ص: وقد روينا عن ابن عمر من رأيه خلافًا لذلك أيضًا. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: ثنا شعبة قال: ثنا صدقة بن يسار وأبو يعفور سمعا ابن عمر يقول: "لأن أعتمر في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي". حدثنا يونس قال: ثنا سفيان قال: ثنا صدقة بن يسار سمع ابن عمر يقول: "عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي. فحدثت به نافعًا فقال: نعم عمرة فيها هدي أو صيام أحب إليه من عمرة ليس فيها هدي ولا صيام". حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن عطاء بن السائب عن كثير بن جمهان قال: "حججنا وفينا رجل أعجمي فلبى بالعمرة والحج فعبنا ذلك عليه فسألنا ابن عمر، فقلنا: إن رجلاً منا لبى بالعمرة والحج فما كفارته؟ قال: يرجع بأجرين وترجعون أنتم بأجر واحد". ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [4].

حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب أن مالكًا حدثه عن صدقة بن يسار عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: "والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إليَّ من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة". فهذا عبد الله بن عمر أيضًا فضل العمرة التي في أشهر الحج على العمرة التي في غير أشهر الحج فدل ذلك على صحة ما روى ابن عباس عن عمر -رضي الله عنهم- لأن ابن عمر لو كان سمع ذلك من عمر كما في حديث عقيل عن الزهري إذًا لما قال بخلاف ذلك؛ لأنه قد سمع أباه قاله بحضرة أصحاب النبي -عليه السلام- لا ينكره عليه منكر ولا يدفعه عنه دافع وهو أيضًا فلا يدفعه عنه ولا يقول له أن رسول الله -عليه السلام- قد كان فعل هذا ولكن المحكي في ذلك عن عمر -رضي الله عنه- هو إرادة عمر أن يُزار البيت وباقي الكلام بعد ذلك، فكلام سالم خلطه الزهري بروايته فلم يتميزا. ش: أي قد روينا عن عبد الله بن عمر من رأي نفسه واجتهاده خلافًا لما رُوي عن عمر، من كون إتمام العمرة في غير أشهر الحج، فإن ابن عمر قال: "لأن أعتمر في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي" لأنه يكون بذلك متمتعًا ويكون فيه هدي أو صيام إن لم يوجد الهدي والدليل عليه قول نافع: عمرة فيها هدي أو صيام أحب إليه -أي إلى ابن عمر- من عمرة ليس فيها هدي ولا صيام، ولأنه جمع بين نسكين وفيه أجران والدليل عليه قول ابن عمر لما سئل عن رجل لبى بالعمرة والحج: "يرجع بأجرين وترجعون أنتم بأجر واحد" فهذا عبد الله بن عمر فضل العمرة التي تكون في أشهر الحج على العمرة التي تكون في غيرها فدل ذلك على صحة ما روى عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب: "سمعت النبي -عليه السلام- وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة" (¬1) وذلك لأن ابن عمر لو كان سمع ذلك من أبيه عمر بن الخطاب كما في حديث عقيل بن خالد عن محمد بن مسلم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الزهري قال: قلت لسالم: لِمَ نهى عمر عن المتعة وقد فعل ذلك رسول الله -عليه السلام- وفعلها الناس معه؟ فقال: أخبرني عبد الله بن عمر، أن عمر قال: إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج ... " الحديث. لما قال ابن عمر بخلاف ذلك لأنه على هذا التقدير قد يكون سمع أباه قال ذلك بحضرة أصحاب النبي -عليه السلام- من غير إنكار منكر عليه ولا رد راد وعبد الله أيضًا لم يكن له أن يدفعه ولكن المحكي في هذا عن عمر بن الخطاب هو إرادته أن يزار البيت مرتين في سنة واحدة، وباقي الكلام من كلام سالم بن عبد الله قد خلطه الزهري بروايته بحيث لم يتميز كلام عمر عن كلام سالم وهو معنى قوله: "فلم يتميزا" بضمير التثنية. ثم إنه أخرج ما رُوي عن ابن عمر من رأيه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد البصري، روى له الجماعة، عن شعبة، عن صدقة بن يسار الجزري وثقه يحيى وأبو داود وروى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن أبي يعفور العبدي الكوفي واسمه وقدان وهو أبو يعفور الكبير روى له الجماعة فكلاهما سمعا عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن صدقة بن يسار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "العمرة في العشر أحب إليَّ من العمرة بعد الحج". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن صدقة بن يسار ... إلى آخره. الثالث: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي روى له البخاري متابعة ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 160 رقم 13024).

حديثًا واحدًا والأربعة، عن كثير بن جُمهان السُلمي أبي جعفر الكوفي وثقه ابن حبان وروى له الأربعة حديثًا واحدًا في المشي بين الصفا والمروة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثثا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جمهان، قال: "خرجنا حجاجًا ومعنا رجل من أهل الجبل لم يحج قط، فأهل بحجة وعمرة، فعاب ذلك عليه أصحابنا، قال: فنزلنا قريبًا من ابن عمر، قال: فقلنا له: إن معنا رجلاً من أهل الجبل لم يحج قط، فأهلَّ بحجة وعمرة، فعاب ذلك عليه أصحابنا فما كفارته؟ قال: كفارته أن يرجع بأجرين وترجعون بواحد". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2) والبيهقي في "سننه" (¬3): من حديث مالك ... إلى آخره. وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قوله: "قبل الحج " يريد أشهر الحج ويُهدي، لأنه يكون متمتعًا فرأى أن النقض يدخل على الحج والعمرة بفعل العمرة في أشهر الحج، فرأى فعلها قبل الحج أفضل، لأنه يخبر بذلك الخبر أن المشروع فيه بالهدي لا يخبره إذا فعلها بعد الحج، وهذا يقتضي أن جميع ذي الحجة عنده من أشهر الحج، فقلت: لا نسلم أنه يقتضي ذلك لأنه كان يفضل العمرة التي في أشهر الحج على العمرة التي في غير أشهر الحج والعمرة إذا كانت بعد الحج تكون في غير أيام الحج؛ لأن الحج يفرغ منه يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة، فبخروج العاشر من ذي الحجة تخرج أيام الحج والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 290 رقم 14299). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 344 رقم 764). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 345 رقم 8519).

ص: فأما قوله: "إن العمرة في أشهر الحج لا تتم إلاَّ بالهدي لمن يجد الهدي أو بالصيام لمن لم يجد الهدي" فثبت بذلك تمام العمرة في غير أشهر الحج إذا كان ذلك غير واجب فيها وأوجب النقصان في العمرة التي في أشهر الحج إذا كان واجبًا فيها وهذا كله إذا كان الحج يتلوها، فإن الحجة على من ذهب إلى ذلك عندنا -والله أعلم-: أنا رأينا الهدي الذي يجب في المتعة والقران يؤكل منه باتفاق المتقدمين جميعًا، ورأينا الهدي الذي يجب لنقصان في العمرة أو في الحجة لا يؤكل منه باتفاقهم جميعًا، فلما كان الهدي الواجب في المتعة والقران يؤكل منه، ثبت أنه غير واجب لنقصان في العمرة أو في الحجة التي بعدها؛ لأنه لو كان لنقصان لكان من أشكال الدماء الواجبة للنقصان ولكان لا يؤكل منه كما لا يؤكل منها ولكنه دم فضل وإصابة خير. ش: أي وأما قول سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه ذكر فيما روى عنه الزهري أن العمرة في أشهر الحج لا تتم إلاَّ بالهدي أو بالصوم عند عدمه، فدل ذلك على نقصانها في أشهر الحج لوجوب الدم أو بدله، وفي غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صوم فدل ذلك على تمامها في غير أشهر الحج فلذلك ذهبت طائفة إلى هذا وقالوا: من أراد تمام العمرة فليعتمر في غير أشهر الحج فأجاب عن ذلك بقوله: فإن الحجة على من ذهب إلى ذلك عندنا والله أعلم إلى آخره. بيانه أن يقال: إن الهدي الذي يجب في المتعة والقران يؤكل منه بالاتفاق والهدي الذي يجب لنقصان في العمرة أو الحج لا يؤكل منه باتفاق فجواز أكل الهدي في المتعة والقران، يدل على أنه غير واجب لأجل نقصان في العمرة أو الحج بعدها لأنه لو كان كذلك لكان من أشكال الدماء أي من أمثال الدماء ونظائرها التي تجب لأجل النقصان ولكان لا يؤكل منه كما لا يؤكل منها فدل على أنه غير دم لجبر النقصان بل هو دم فضل وإصابة فضل وخير والله أعلم. قوله: "يتلوها" من تلا الشيء إذا تبعه.

ص: وقد حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا يعقوب بن حميد قال: حدثنا وكيع (ح). وحدثنا فهد قال: ثنا الخضر بن محمد الحراني قال: ثنا عيسى بن يونس وأبو أسامة قالوا جميعًا: عن الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم قال: "كنا نسير مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فإذا رجل يلبي بالحج والعمرة فقال عثمان: من هذا؟ فقالوا: علي -رضي الله عنه-، فأتاه عثمان فقال: ألم تعلم أني نهيت عن هذا؟ فقال: بلى ولكني لم أكن لأدع قول النبي -عليه السلام- لقولك". حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا خلاد بن يحيى قال: ثنا سفيان الثوري عن بكير بن عطاء قال: ثنا حريث بن سليم العذري عن علي -رضي الله عنه-: "أنه لبى بهما جميعًا فنهاه عثمان -رضي الله عنه- فقال: أما إنك قد رأيت؟! فقال علي: أما إنك قد رأيت". فهذا علي -رضي الله عنه- قد أخبر عن رسول الله -عليه السلام- بخلاف النهي عن قران العمرة والحج، وفعل في ذلك خلاف ما أمر به عثمان وأنكر على عثمان ما أمر به في ذلك فدل هذا من علي أنه قد كان عنده تفضيل للقران على الإِفراد عن النبي -عليه السلام- ولولا ذلك لما أنكر على عثمان ما رأى ولا فضل رأيه على رأي عثمان في ذلك إذ كانا كلاهما أنما أمرا [بما أمرا] (¬1) به من ذلك عن شيء واحد وهو الرأي ولكن خلافُه عُثمانَ في ذلك دليل عندنا على أنه قد علم فضل القران على ما سواه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ش: هذه ثلاث طرق عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أخبر فيها عن النبي -عليه السلام- أنه قد كان قارنًا في حجته وأن القران هو الأفضل، لفعله -عليه السلام- ولاختيار عليٍّ إياه وإنكاره على عثمان في نهيه عنه ولعلمه فضيلة ذلك عن النبي -عليه السلام-. الأول: عن أحمد بن داود المكي عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة شيخ ابن ماجه والبخاري في "أفعال العباد" عن وكيع عن سليمان الأعمش عن مسلم بن عمران البطين الكوفي عن علي بن حسين بن علي بن ¬

_ (¬1) ليس في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أبي طالب -رضي الله عنه-[أبي] (¬1) المدني زيد العابدين عن مروان بن الحكم ... إلى آخره. وهذا إسناد حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين بن علي عن مروان بن الحكم قال: "كنا نسير مع عثمان، فسمع رجلاً يلبي بهما جميعًا، فقال عثمان: من هذا الرجل؟ فقالوا: عليَّ، قال: فأتاه عثمان فقال: ألم تعلم أني نهيت عن هذا، قال: بلى ولكن لم أدع فعل رسول الله -عليه السلام- لقولك". الثاني: عن فهد بن سليمان عن الخضر بن محمد بن شجاع الجزري الحراني الثقة عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أحد أصحاب أبي حنيفة وعن أبي أسامة حماد بن أسامة كلاهما عن سليمان الأعمش ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أخبرني عمران بن يزيد قال: ثنا عيسى -وهو ابن يونس- قال: ثنا الأعمش عن مسلم البطين عن علي بن حسين عن مروان ابن الحكم قال: "كنت جالسًا عند عثمان فسمع عليًّا يلبي بعمرة وحجة فقال: ألم نكن ننهي عن هذا؟ قال: بلى ولكني سمعت رسول الله -عليه السلام- يلبي بهما جميعًا فلم أدع قول رسول الله -عليه السلام- لقولك". الثالث: عن علي بن شيبة عن خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي الكوفي شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء الليثي الكوفي وثقه يحيى والنسائي وروى له الأربعة عن حريث بن سليم العذري من بني عذرة وفي "التكميل": حريث رجل من بني عذرة يقال: ابن سليم ويقال: ابن سليمان ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": عن وهو تحريف. (¬2) "مصنف بن أبي شيبة" (3/ 289 رقم 14288). (¬3) "المجتبى" (5/ 148 رقم 2722).

ويقال: ابن عمار. روى له أبو داود وابن ماجه وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه. وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه" (¬1): نا ابن مهدي عن سفيان عن بكير بن عطاء عن حريث بن سليم قال: "سمعت عليًّا -رضي الله عنه- لبى بالحج والعمرة فبدأ بالعمرة، فقال عثمان: إنك ممن ينظر إليه. فقال علي: وأنت ممن ينظر إليه". ص: وقد روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -عليه السلام- كان قرن في حجة الوداع. حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا يحيى بن يحيى قال: ثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "اعتمر رسول الله -عليه السلام- أربع عُمَر: عمرة الحديبية وعمرته من العام القابل وعمرته في الجعرانة وعمرته مع حجته وحج حجة واحدة". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيحين ما خلا ابن شيبة ويحيى بن يحيى شيخ الشيخين. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا النفيلي وقتيبة قالا: ثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "اعتمر رسول الله -عليه السلام- أربع عُمَر: عمرة الحديبية والثانية حين تواطؤا على عمرة قابل-قال قتيبة: هي عمرة القضاء في ذي القعدة- والثالثة من الجعرانة والرابعة التي قرن مع حجته". والترمذي (¬3): ثنا قتيبة ثنا داود ... إلى آخره "عمرة الحديبية والعمرة الثانية من قابل، وعمرة القضاء في ذي القعدة، والعمرة الثالثة في الجعرانة، والعمرة الرابعة التي مع حجته". قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن غريب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 438 رقم 15769). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 205 رقم 1993). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 180 رقم 816).

وابن ماجه (¬1): ثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد نا داود بن عبد الرحمن ... إلى آخره، نحو رواية الطحاوي. وذكر الترمذي أنه روي مرسلاً، فقال: ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي -عليه السلام- فذكر نحوه ولم يذكر فيه عن ابن عباس. قوله: "أربع عمر" بضم الميم وفتح الميم جمع عمرة. قوله: "عمرة الحديبية" أي إحداها عمرة الحديبية وهي بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف وفي آخره هاء وهي موضع بعضه في الحل وبعضه الآخر في الحرم وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت وهو الموضع الذي صدّ فيه المشركون رسول الله -عليه السلام- عن زيارة البيت، وفي "المطالع": "الحديبية" بتخفيف الياء ضبطاها على المتقنين، وعامة الفقهاء والمحدثين يشددونها وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية وبين المدينة تسع مراحل ومرحلة إلى مكة، وقد جاء في الحديث وهي بئر قال مالك: وهي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل، وكانت غزوة الحديبية سنة ست بلا خلاف. قوله "وعمرته في العام القابل" أي الثانية عمرته -عليه السلام- في السنة القابلة وهي سنة سبع من الهجرة وهي التي تسمى عمرة القضاء ويقال: [لها] (¬2) القصاص ورجحه السهيلي، ويقال: عمرة القضية، وقال ابن إسحاق: لما رجع رسول الله -عليه السلام- من حنين إلى المدينة أقام شهر ربيع وجمادين ورجب وشعبان ورمضان وشوال يبعث فيما بين ذلك سراياه، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صَدَّه فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها وأنزل الله في ذلك: ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 999 رقم 3003). (¬2) في "الأصل، ك": "له".

{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} (¬1). وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -عليه السلام- ساق في عمرة القضاء ستين بدنة. وقوله: "وعمرته في الجعرانة" وكانت في سَنة ثمان من الهجرة بعد فراغه من قسمة غنائم هوازن، والجعرانة بكسر الجيم وسكون العين قد مرّ تفسيرها مستوفى. قوله: "وعمرته مع حجته" أي العمرة الرابعة عمرته -عليه السلام- مع حجة الوداع وهذا يدل على أنه -عليه السلام- كان قارنًا في حجة الوداع، ويدل على أن القران أفضل من الإِفراد والتمتع ثم إن عُمره -عليه السلام- كان جميعها في أشهر الحج إلاَّ ما جاء من رواية ابن عمر أن واحدة منها كانت في رجب، وأنكرت ذلك عليه عائشة -رضى الله عنها- فسكت ولم يراجعها، وذلك دليل على إثبات قول عائشة وصحة روايتها، إذ لو كان ابن عمر على بصيرة مما قال لراجعها في ذلك. وعن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك، قلت: كم حج رسول الله -عليه السلام-؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرته في زمن الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين وعمرته مع حجته". رواه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5). فإن قيل: ما تقول فيما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "اعتمر رسول الله -عليه السلام- ثلاث عمر وكل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر". رواه الإِمام أحمد (¬6)؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [194]. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 631 رقم 1688). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 916 رقم 1253). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 206 رقم 1994). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 179 رقم 815). (¬6) "مسند أحمد" (2/ 180 رقم 6686).

قلت: قالوا: هذا غريب، وهذه الثلاث العُمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع حجته، وإن أراد ابتداء الإِحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية؛ لأنه -عليه السلام- صُدَّ عنها ولم يفعلها، وكان نافع ومولاه ابن عمر ينكران كون رسول الله -عليه السلام- اعتمر من الجعرانة بالكلية وذلك فيما رواه البخاري (¬1) ومسلم قال نافع: "ولم يعتمر رسول الله -عليه السلام- من الجعرانة ولو اعتمر لم يخف على عبد الله". وروى مسلم (¬2) عن نافع: "ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله -عليه السلام- من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها" وهذا غريب جدًّا عن ابن عمر ومولاه نافع إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسير كلهم، وهذا أيضًا كما ثبت في "الصحيحين" (¬3): عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله -عليه السلام- اعتمر في رجب، فقالت: "يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله -عليه السلام- إلاَّ وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط". ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون هذا عن ابن عباس وقد رويتم عنه في الفصل الأول أن رسول الله -عليه السلام- تمتع؟ قيل له: قد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- أحرم في بدء أمره بعمرة فمضى فيها متمتعًا بها؟ ثم أحرم بحجة قبل طوافه فكان في بدء أمره متمتعًا وفي آخره قارنًا، فأخبر ابن عباس في الحديث الأول بتمتع رسول الله -عليه السلام- لينفي قول من كره المتعة، وأخبر في هذا الحديث الثاني بقرانه على ما كان صار إليه أمره بعد إحرامه بالحجة، فثبت بذلك أن رسول الله -عليه السلام- قد كان في حجة الوداع متمتعًا بعد إحرامه بالعمرة إلى أن أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1146 رقم 2975). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1278 رقم 1656). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 630 رقم 1685)، و"صحيح مسلم" (2/ 917 رقم 1255).

ش: تقرير السؤال أن يكون: كيف تقبلون هذا الحديث وهو قوله: "اعتمر رسول الله ... " إلى آخره. والحال أنكم قد رويتم عنه أي عن ابن عباس في الفصل الأول أنه -عليه السلام- تمتع وبين الروايتين منافاة؟ والجواب ظاهر وفهم من كلامه، أن من أحرم بعمرة لأجل التمتع إذا أحرم قبل طوافه للعمرة وأن ذلك يجوز، وإذا أحرم بحجة بعد طوافه للعمرة لا يكون قارنًا بل يكون متمتعًا وظهر من هذا أيضًا أن من ذهب إلى أن النبي -عليه السلام- كان متمتعًا في حجته كان معناه بالنظر إلى بداية أمره ومن ذهب إلى أنه كان قارنًا كان معناه بالنظر إلى نهاية أمره؛ لأنه -عليه السلام- لما أحرم بالحجة بعد إحرامه للعمرة قبل الطواف صار قارنًا لما قلنا، والاعتبار لخاتمة الأعمال، فلذلك ذهب الكوفيون أنه -عليه السلام- كان قارنًا في حجته حتى قال أحمد بن حنبل: لا شك أنه -عليه السلام- كان قارنًا والمتعة أحب إليَّ، فقال ابن جرير الطبري: إن جملة الحال له أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، ولا كان مفردًا لأن الهدي كان معه واجبًا كما قال وذلك لا يكون إلاَّ للقارن، ولأن الروايات الصحيحة تواترت بأنه قرنهما جميعًا، فكان من زاد أولى، ووجه الاختلاف: أن النبي -عليه السلام- لما كان عند الإِحرام جعل يلبي تارة بالحج وتارة بالعمرة وتارة بهما جميعًا ثم إن الذين رووا الإِفراد اختلف عنهم ومن روى القران لم يختلف عليه فالأخذ بقول من لم يختلف عليه أولى، ولأن معه زيادة وهي مقبولة من الثقة والله أعلم. ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا النفيلي قال: ثنا زهير بن معاوية قال: ثنا أبو إسحاق عن مجاهد قال: "سئل ابن عمر -رضي الله عنهما-: كم اعتمر رسول الله -عليه السلام-؟ فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قد اعتمر ثلاثًا سوى عمرته التي قرنها بحجته". ش: إسناده صحيح والنفيلي هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل أبو جعفر الحراني شيخ البخاري وأبي داود وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وذكره لدلالته أن رسول الله -عليه السلام- كان قارنًا في حجته وذلك لأن قول عائشة: "سوى عمرته التي قرنها بحجته" نص صريح على أنه -عليه السلام- كان قارنًا.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا النفيلي قال: ثنا زهير ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه النسائي (¬2): أيضًا نحوه، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (¬3)، وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يسمع مجاهد من عائشة وكان شعبة ينكر أن يكون مجاهد سمع من عائشة وقال يحيى بن معين: لم يسمع مجاهد من عائشة وقال أبو حاتم الرازي: مجاهد عن عائشة مرسل. قلت: أخرج البخاري (¬4) ومسلم (¬5) في "صحيحيهما" حديث مجاهد عن عائشة -رضي الله عنها-. ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون مثل هذا عن عائشة وقد رويتم عنها في أول هذا الباب ما قد رويتم من إفراد رسول الله -عليه السلام- وعلى ما ذكرتم؟ قيل له: ذلك عندنا والله أعلم، على نظير ما صححنا عليه حديث ابن عباس فيكون ما قد علمت عائشة من أمر رسول الله -عليه السلام- أنه ابتدأ فأحرم بعمرة لم يقرنها حينئذ بحجة فمضى فيها على أن يحج وقت الحج فكان في ذلك متمتعًا بها، ثم أحرم بحجة منفردة في إحرامه بها لم يبتد معها إحرامًا بعمرة فصار بذلك قارنًا لها إلى عمرته المتقدمة فقد كان في إحرامه على أشياء مختلفة، كان في أوله متمتعًا وصار محرمًا بحجة أفردها في إحرامه فلزمته مع العمرة التي قد كان قدمها، فصار في معنى القارن والمتمتع وأرادت -يعني- عائشة بذكرها الإِفراد خلافًا للدين يروون أن النبي -عليه السلام- أهلَّ بهما جميعًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقبلون هذا الحديث عن عائشة وتحتجون به فيما ذهبتم إليه والحال أنكم قد رويتم عنها في أول الباب من طريق عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أفرد بالحج " ومن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 205 رقم 1992). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 470 رقم 4218). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 999 رقم 3003). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 630 رقم 1685). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 916 رقم 1255).

طريق إبراهيم، عن عائشة قالت: "خرجنا ولا نرى إلاَّ أنه الحج"، وأراد بقوله: "وتمتعه" ما في حديثها الذي رواه محمد بن عبد الرحن بن نوفل عن عروة عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع". الحديث. وتقرير الجواب: أن يقال: إنها أخبرت أولاً بَأنه -عليه السلام- أفرد الحج وذلك لأنها شاهدت أولاً أنه أحرم بعمرة منفردة فمضى فيها على أن يحج وقت الحج فصار بذلك متمتعًا ثم أحرم بحجة منفردة فصار بذلك قارنًا فقد كان -عليه السلام- في إحرامه ذلك على أشياء مختلفة لأنه كان في أوله متمتعًا وصار محرمًا بحجة أفردها في إحرامه فلزمته مع عمرته المتقدمة فصار بذلك في معنى القارن والمتمتع وهذا نظير ما ذكره في حديثي ابن عباس ثم إن عائشة -رضي الله عنها- أرادت بقولها: إن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج إنكارًا على الذين رووا أن النبي أهلَّ بالحج والعمرة معًا في زمن واحد ولم ترد أنه -عليه السلام- كان عامئذ مفردًا بالحج، فافهم وقال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثيها في الحج عظيم وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضها ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها. وقال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث وعلماؤنا وغيرهم فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن مقتصد مختصر وأوسعهم نفسًا في ذلك أبو جعفر الطحاوي المصري فإنه تكلم في ذلك على ألف ورقة وتكلم في ذلك أيضًا معه أبو جعفر الطبري، وبعدهم أبو عبد الله بن أبي صفرة وأخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن ابن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما محصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم ما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي -عليه السلام- أتاح للناس فعل هذه الثلاثة الأشياء ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره لا يجرئ وإذ كان -عليه السلام- لم يحج سوى هذه الحجة فأضيف الكل إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي -عليه السلام-، إما لأمره بذلك أو لتأويله عليه، وقد قال بعض علمائنا: إنه -عليه السلام- أحرم منتظرا ما يؤمر

به من إفراد أو تمتع أو قران؛ إذ كان أمر بالآذان بالحج مطلقًا فنقل ذلك عنه من سمعه حينئذ ثم زاد في تلبيته ذكر العمرة، ولعل ذلك لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) فنقل ذلك عنه من سمع القران ثم جاءه الوحي بالعقيق على ما جاء في الحديث الصحيح بقوله: "صلِّ في هذا الوادي المبارك وقيل: عمرة في حجة" فنقل التمتع عنه من نقله ولعل من نقل القران نقله من هذا اللفظ. ص: وقد حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا يعقوب بن حميد قال: ثنا ابن عيينة عن أيوب بن موسى عن نافع: "أن ابن عمر خرج من المدينة إلى مكة مهلًّا بالعمرة مخافة الحصر ثم قال: ما شأنهما إلَّا واحدًا أشهدكم أني أوجبت إلى عمرتي هذه حجة ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا وقال: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وحدثنا أحمد -هو ابن داود بن موسى- قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: ثنا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عقبة عن نافع: "أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير -رضي الله عنهما- فأحرم بعمرة فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف من نُصَد عن البيت فقال: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي فانطلق يهل بهما جميعًا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق ولم يحل من شيء حرم عليه حتى يوم النحر، فحلق ورأى أنه قد قضى طواف الحج بطوافه ذلك الأول ثم قال: هكذا صنع رسول الله -عليه السلام-". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثنا الليث عن نافع: "أن عبد الله بن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذًا أصنع كما صنع رسول الله -عليه السلام-، إني أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلَّا واحدًا، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي وأهدى هديا اشتره بقديد، فانطلق يُهل بهما جميعًا، حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر ولم يحل من شيء حرم عليه، حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وكذا فعله رسول الله -عليه السلام-". ش: هذه ثلاث طرق صحاح فيها دلالة على تفضيل القران وعلى أنه -عليه السلام- كان قارنًا وذلك لأن ابن عمر -رضي الله عنهما- أضاف إلى عمرته حجة قبل أن يطوف لها، فهذا هو القران، ثم قال: "هكذا فعل رسول الله -عليه السلام-، أراد أنه -عليه السلام- كان قد قرن إلى عمرته حجًّا". الأول: عن أحمد بن داود المكي عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني نزيل مكة عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عمرو بن سعيد الأموي المكي روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأطول منه: ثنا إسماعيل، نا أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر دخل عليه ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فنصد عن البيت فلو أقمت، فقال: خرج رسول الله -عليه السلام- فحال قريش بينه وبين البيت، فإن يحل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله -عليه السلام-، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، قال: إني قد أوجبت عمرة، ثم سار حتى إذا كان بالبيداء، قال: ما أرى أمرهما إلَّا واحدًا، أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجًّا ثم قدم فطاف لهما طوافًا واحدًا". وأخرجه البخاري (¬2) نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 4 رقم 4480). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 590 رقم 558) من طريق ابن علية عن أيوب به.

قوله: "مهلًّا" نصب على الحال من الضمير الذي في "خرج" و"مخافة الحصر" نصب على التعليل. الثاني: عن أحمد بن داود أيضًا ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا يحيى -وهو القطان- عن عبيد الله، قال: حدثني نافع: "أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كَلَّما عبد الله حين نزل الحجَّاج لقتال ابن الزبير وقالا: لا يضرك ألَّا تحج العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت، قال: إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله -عليه السلام- وأنا معه، حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة ثم قال: إن خُلي سبيلي قضيت عمرتي وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله -عليه السلام- وأنا معه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2) ثم سار حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما أمرهما إلَّا واحدٌ إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر". قوله "أن تصد" على صيغة المجهول أي تمنع. قوله: "أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي" إنما لم يكتف بالنية على ما تقدم؛ ليعرف من كان معه ويقتدي بمن أعلمه أنه يعتمر ذلك وفيه جواز إرداف الحج على العمرة وهو قول جمهور العلماء، وفيه أنه قرن وأخبر أنه فعل النبي -عليه السلام-. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 903 رقم 1230). (¬2) سورة الأحزاب، آية: [21].

وأخرجه البخاري (¬1) والنسائي (¬2): كلاهما عن قتيبة، عن ليث، عن نافع: "أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك ... " إلى آخره نحوه. قوله: "بظهر البيداء" قد ذكرنا أن البيداء صحراء مقحلة بذي الحليفة. قوله: "بقديد" أي في قديد بضم القاف وفتح الدال وهو موضع قريب. قوله: "فانطلق يهل بهما معًا" أبي بالعمرة والحج، أراد أنه يرفع صوته بالتلبية محرمًا بها. قوله: "ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر" وذلك لأنه قرن والقارن لا يفعل شيئاً من ذلك إلَّا يوم النحر. ص: فإن قال قائل: فكيف تقبلون مثل هذا عن ابن عمر وقد رويتم فيما تقدم أن النبي -عليه السلام- تمتع؟ فجوابنا له في ذلك مثل جوابنا له في حديث ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم-. ش: السؤال ظاهر وهو أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- روى عنه سالم أنه قال: حسن، حين سأله رجل من أهل الشام عن التمتع. الحديث، وقد ذكر فيما مضى من هذا الباب. وتقرير الجواب أن يقال: إن رسول الله قد كان أحرم في أول أمره بعمرة فمضى فيها متمتعًا ثم أحرم قبل طوافه فصار بهذا قارنًا كما قد ذكرنا قبل هذا في حديثي ابن عباس وحديثي عائشة. ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد السلام بن حرب عن سعيد عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عمران بن الحصين: "أنه سمع النبى -عليه السلام- يلبي بعمرة وحجة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 591 رقم 1559). وهو عند مسلم أيضًا من طريق قتيبة (2/ 904 رقم 1230). (¬2) "المجتبى" (5/ 158 رقم 2746).

ش: إسناده صحيح والحماني وهو يحيى بن عبد الحميد أبو زكريا الكوفي قال ابن معين صدوق ثقة (¬1)، وسعيد هو ابن أبي عروبة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنا عيسى بن يونس قال: نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين، قال: "أعلم أن رسول الله -عليه السلام- جمع بين حج وعمرة". ص: وقد حدثنا نصر بن مرزوق قال: ثنا علي بن معبد قال ثنا: إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام-: "أنه لبى بعمرة وحجة، [وقال: لبيك بعمرة وحجة] (¬3)، فذكر بكر بن عبد الله المزني لابن عمر قول أنس قال: وهل أنس إنما أهل رسول الله -عليه السلام- بالحج وأهللنا به معه فلما قدمنا مكة قال: من لم يكن معه هدي فليحل، قال بكر: فرجعت إلى أنس فأخبرته بقول ابن عمر، فلم يزل يذكر ذلك حتى مات". حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير بن معاوية قال: ثنا حميد قال: وحدثني بكر بن عبد الله عن أنس مثله. قال بكر: "فذكرت ذلك لابن عمر فقال: وهل أنس إنما أهل رسول الله -عليه السلام- بالحج وأهللنا به". حدثنا حسين -هو ابن نصر- قال: سمعت يزيد بن هارون قال: ثنا حميد ... فذكر مثله بإسناده وزاد: "فلما قدم رسول الله -عليه السلام- قال: من لم يكن معه هدي فليحل، وكان مع رسول الله -عليه السلام- هدي فلم يحل". ¬

_ (¬1) وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: كان أحمد وعلي يتكلمان فيه. وراجع ترجمته في "الميزان". (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 889 رقم 1226). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن حميد عن بكر قال: "أخبرت بن عمر بقول أنس فقال: نسي أنس فلما رجع قال: بكر لأنس: إن ابن عمر يقول: نسي فقال: إن تعدونا إلَّا صبيانًا، بل سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لييك بعمرة وحجة معًا". أفلا ترى أن ابن عمر إنما أنكر على أنس قوله: إن رسول الله -عليه السلام- أهل بهما جميعًا، وإنما كان الأمر عند ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- أهل بحجة ثم صيرها عمرة بعد ذلك وأضاف إليها حجة فصار حينئذ قارنًا، فأما في بدء إحرامه فإنه كان عنده مفردًا. ش: هذه أربع طرق صحاح: عن أنس -رضي الله عنه- يخبر فيها أن رسول الله -عليه السلام- كان قارنًا، ذكرها ها هنا ليبين أن إنكار عبد الله بن عمر على أنس فيه إنما كان على قوله: إنه -عليه السلام- أهل بالعمرة والحج جميعًا، لا على أنه أنكر عليه القران، فإن الحكم عند ابن عمر أنه -عليه السلام- أهل بحجة وحدها ثم صيرها عمرة ثم أضاف إليها حجة فصار في ذلك الوقت قارنًا لا من أول الأمر؛ لأنه كان في أول الأمر عنده مفردًا وبهذا يحصل التوفيق بين كلامي أنس وابن عمر -رضي الله عنهم-. والتحقيق فيه أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لم يكن وقف على حقيقة أمر الرسول -عليه السلام- في بدء الأمر فلذلك أنكر على أنس، وأنس -رضي الله عنه- فممن وقف على حقيقة الأمر حيث قال بالتصريح: سمعت رسول الله -عليه السلام- أهل بهما جميعًا"، فإن قيل: قد قال البيهقي: يحتمل أن يكون سمع النبي -عليه السلام- يعلم غيره كيف يهل بالقران لا أن يهل بهما عن نفسه، قلت: ذكر ابن حزم في "حجة الوداع" أن ستة عشر من الثقات اتفقوا على أنس، على أن لفظ النبي -عليه السلام- كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا وصرحوا عن أنس أنه سمع ذلك منه -عليه السلام- والقول بأنه يحتمل .... إلى آخره. رد للحديث الصريح بمجرد احتمال بعيد يمكن أن يقال في رواية من روى أنه -عليه السلام- أفرد أو تمتع وكيف يصلح ذلك مع قوله: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لبيك بعمرة وحجة معًا؟! فإن قيل: إنما رد ابن عمر على أنس قوله: أهلَّ رسول الله -عليه السلام- بحج وعمرة لأجل صغر

أنس حينئذ وقلة ضبطه ألا ترى إلى ما روى الييهقي (¬1): من حديث سعيد بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم وغيره: "أن رجلَّا أتى ابن عمر فقال بم أهل رسول الله -عليه السلام-؟ قال: بالحج فانصرف، ثم أتاه في العام القابل فقال: بم أهل رسول الله -عليه السلام-؟ قال: ألم تأتني عام أول؟! قال: بلى ولكن أنس يزعم أنه قرن، قال: إن أنسًا كان يدخل على النساء وهن مكشفات الرءوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله -عليه السلام- يمسني لعابها اسمعه يلبي بالحج". وأخرجه الطرطوشي في كتاب "الحج" ولفظه: "كان أنس صغيرًا يتولج على النساء وهن مكشفات لا يستترن منه لصغره، وأنا آخذ بزمام ناقة النبي -عليه السلام- يمسني لعابها -وفي لفظ يسل عليّ لعابها- سمعته يهل بالحج مفردًا وأهللنا مع النبي -عليه السلام- بالحج خالصًا لا يشوبه شيء" فقلت: هذا فيه نظر؛ لأن حجة الوداع كانت وسن أنس -رضي الله عنه- نحو العشرين فكيف يدخل على النساء وقد جاء في الصحيح أنه منع من الدخول عليهن حين بلغ خمس عشرة سنة، وذلك قبل الحجة بنحو خمس سنين؟! وأيضًا مكان سنه نحو سن ابن عمر ولعله لا يكون بينهما إلَّا نحو من سنة أو دونها، ولئن سلمنا ذلك فيجاب بما ذكره الطحاوي، وبما ذكرنا يُرَدُّ كلام ابن بطال أيضًا حيث يقول: وما يدل على قلة ضبط أنس: قوله في الحديث: "فلما قدمنا، أمر النبي -عليه السلام- فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج" وهذا لا معنى له ولا يفهم إن النبي -عليه السلام- قارنًا كان كما قال والأئمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإِحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله؛ فلذلك أنكر عليه ابن عمر وإنما حلَّ من كان أفرد الحج وفسخه في عمرة ثم تمتع. الطريق الأول: عن نصر بن مرزوق عن علي بن معبد بن شداد العبدي الكوفي الرقي نزيل مصر، وثقه أبو حاتم، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، روى له الجماعة، عن حميد الطويل عن أنس -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 9 رقم 8612).

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أخبرنا الحسين بن سفيان الشيباني قال: نا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: ثنا أبو ضمرة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لبيك بعمرة وحجة، قال حدثني بكر بن عبد الله المزني أنه ذكر حديث أنس بن مالك لابن عمر فقال: وهل أنس، أفرد رسول الله -عليه السلام- الحج، قال: فذكرت قول ابن عمر لأنس بن مالك فقال ما يحسب ابن عمر إلَّا أنا صبيان". قوله: "وَهِلُ" بفتح الواو وكسر الهاء يقال: "وهل في الشيء وعن الشيء يُوهِلُ وَهَلًا إذا غلط فيه وسهى وأما "وَهَلَ إليه" بالفتح فمعناه ذهب وعمد إليه وهو يريد غيره. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود عن زهير بن معاوية عن حميد الطويل. وعن بكر بن عبد الله المزني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وأخرج البخاري (¬2) نحوه. الثالث: عن حسين أيضًا ... إلى آخره. الرابع: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): نا شريح بن يونس قال: ثنا هشيم قال: ثنا حميد عن بكر عن أنس قال: "سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعًا، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر -رضي الله عنهما-، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلَّا صبيانًا سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول لبيك بعمرة وحجًا". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (9/ 242 رقم 3933). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1582 رقم 4096). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 905 رقم 1232).

ص: ثم قد تواترت الروايات بعد ذلك عن أنس -رضي الله عنه- بدخول النبي -عليه السلام- فيهما جميعًا. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا حبان قال: ثنا وهيب قال: ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- لما استوت راحلته على البيداء جمع بينهما". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الله بن بكر، عن حميد، عن أنس (ح). وحدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عبد الصمد قال: ثنا شعبة عن أبي قزعة عن أنس قال: "سمعت النبي -عليه السلام- يقول: لبيك بعمرة وحجة". حدثنا فهد قال: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا أبو شهاب عن ابن أبي ليلى عن ثابت البناني عن أنس عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد عن حميد عن أنس عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا عبيد الله بن عمرو -وهو الرقي- عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس بن مالك قال: "كنت ردف أبي طلحة وركبتي تمس ركبة النبي -عليه السلام-، فلم يزالوا يصرخون بهما جميعًا بالحج والعمرة". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم عن سفيان عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسًا يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لبيك بعمرة وحجة معًا". حدثنا أبو أُميَّة قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب. قالا: ثنا همام عن قتادة عن أنس قال: "اعتمر رسول الله -عليه السلام- عمرة من الحديبية، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة وعمرة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته، وحج حجة واحدة".

حدثنا أبو أمية قال: ثنا الحسن بن موسى وابن نفيل قالا: ثنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق عن أبي أسماء عن أنس قال: "خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نجعلها عمرة وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكني سقت الهدي وقرنت الحج بالعمرة". ففي هذا الحديث من قول رسول الله -عليه السلام- أنه قرن الحج بالعمرة؛ فقد دل ذلك على صحة قول من أخبر من فعله بما يوافق ذلك. ش: أي قد تكاثرت الروايات وتظاهرت عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -عليه السلام- كان قارنًا، وهو معنى قوله: "بدخول النبي -عليه السلام- فيهما جميعًا" أي في العمرة والحج وهو عين القران، وقد ذكرنا عن ابن حزم أنه قال ستة عشر من الثقات اتفقوا على أنس -رضي الله عنه- على أن لفظ النبي -عليه السلام- كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا، وصرحوا عن أنس أنه سمع ذلك منه -عليه السلام- وهم: بكر بن عبد الله المزني وأبو قلابة وحميد الطويل، وأبو قزعة، وثابت البناني، وحميد بن هلال، ويحيى بن أبي إسحاق وقتادة، وأبو أسماء، والحسن البصري، ومصعب بن سليم، ومصعب بن عبد الله بن الزبرقان، وسالم بن أبي الجعد، وأبو قدامة، وزيد بن أسلم، وعلي بن زيد. وقد أخرج الطحاوي -رحمه الله-: عن تسعة منهم أولهم بكر بن عبد الله وآخرهم أبو أسماء على الترتيب الذي ذكرناه. أما حديث بكر بن عبد الله المزني فقد مضى ذكره. وأما حديث أبي قلابة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن حبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال عن وهيب بن خالد البصري عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام عن أنس. وأخرجه البخاري (¬1) مطولاً: ثنا موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا أيوب عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 562 رقم 1476).

أبي قلابة عن أنس قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- ونحن معه بالمدينة الظهر أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهلَّ الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج قال: ونحر النبي -عليه السلام- بدنات بيده قيامًا وذبح رسول الله -عليه السلام- بالمدينة كبشين أملحين. وأما حديث حميد الطويل فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن عبد الله بن بكر بن حبيب السلمي البصري عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن علية عن حميد عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- قال: "لبيك بعمرة وحجة معًا". الثاني: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس. وأخرجه "الترمذي" (¬2): ثنا قتيبة قال: نا حماد بن زيد عن حميد عن أنس قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لبيك بعمرة وحجة". قال أبو عيسى: حديث أنس حديث صحيح. وأما حديث أبي قزعة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن أبي قزعة سويد بن حجير الباهلي البصري روى له الجماعة سوى البخاري. وأخرجه ابن حزم (¬3) نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 390 رقم 14298). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 184 رقم 821). (¬3) "حجة الوداع" (1/ 416 رقم 497).

وأما حديث ثابت البناني فأخرجه عن فهد بن سليمان عن أحمد بن يونس شيخ البخاري عن أبي شهاب الأصغر الحناط -بالنون- الكوفي واسمه عبد ربه بن نافع روى له الجماعة سوى الترمذي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة، فيه لين عن ثابت البناني عن أنس. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع ثنا ابن أبي ليلى عن ثابت عن أنس عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لبيك بحج وعمرة معًا". وأما حديث حميد بن هلال فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن عمرو بن خالد الحراني شيخ مسلم عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وعن حميد بن هلال بن ضمرة العدوي روى له الجماعة كلاهما عن أنس بن مالك. وأخرجه "البزار" في "مسنده" (¬1): ثنا سلمة بن شبيب ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس قال: "كنت ردف أبي طلحة وإن ركبته لتمس ركبة رسول الله -عليه السلام- وهو يلبي بالحج والعمرة". فإن قيل: قال البزار: هذا الحديث يدل على أن أبا طلحة كان يلبي بالحج والعمرة والنبي -عليه السلام- يسمع ذلك فلا ينكره؛ لأن أنسًا لم يقل في هذا الحديث: فسمعت النبي يلبي وإنما قال: سمعته يعني أبا طلحة. قلت: روى العدني هذا الحديث في "مسنده": ثنا بشر بن السري ثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: "كنت رديف أبي طلحة وهو يساير النبي -عليه السلام- وإن رجلي لتمس عرز النبي -عليه السلام- فسمعته يلبي بالحج والعمرة معًا" انتهى. ¬

_ (¬1) ورواه الطبراني أيضًا في "المعجم الأوسط" (6/ 269 رقم 6384) من طريق عبد الله بن عمرو الرقي عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس بنحوه وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أيوب عن حميد بن هلال إلا عبد الله بن عمرو ورواه حماد بن زيد وغيره عن أبي قلابة وحده.

فها هنا صرح بقوله: سمعته أي النبي -عليه السلام- لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورين فافهم. فإن قيل: قال البيهقي: قال الفسوي: سمعت سليمان يقول: سمع أبو قلابة هذا من أنس وهو فقيه وروى حميد ويحيى بن أبي إسحاق عن أنس سمع النبي يلبي بعمرة وحج ثم قال: ولم يحفظا وإنما الصحيح ما قال أبو قلابة: إن النبي -عليه السلام- أفرد الحج وقد جمع بعض الصحابة بين الحج والعمرة فإنما سمع أنس أولئك الذين جمعوا بينهما. قلت: قول أنس -رضي الله عنه-: يصرخون بها يندرج فيه النبي -عليه السلام- وأصحابه كما صرح به في الرواية الأخرى حيث قال: "أهلَّ الناس بهما" وفي هذا جمع بين الروايتين وقول سليمان بن حرب: "لم يحفظا" قول لا دليل عليه، بل حفظا وتابعهما على ذلك جماعة وهم الذين ذكرناهم فإن كلهم اتفقوا على أنس على أن لفظ النبي -عليه السلام- كان إهلالًا بحجة وعمرة معًا وعلى تقدير التنافي بين الروايتين فرواية هؤلاء الجماعة أولى، ولم يَرْو أبو قلابة الإِفراد أصلاً فيما علمنا فضلاً عن أن يكون ذلك هو الصحيح كما زعم سليمان بل الذي في الصحيح أنه روى القران وقد صرح هؤلاء الجماعة عن أنس أنه سمع ذلك منه -عليه السلام- فانتهى قول سليمان إنما سمعه من بعض أصحابه. وأما حديث يحيى بن أبي إسحاق فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري روى له الجماعة، عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس أنه سمع النبي -عليه السلام- يقول: "لبيك بعمرة وحجة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 289 رقم 14296).

وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) نحوه. وأما حديث قتادة فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي عن عمرو بن عاصم بن عبيد الله الكلابي أبي عثمان البصري شيخ البخاري عن همام بن يحيى عن قتادة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬4): عن حسان عن همام عن قتادة عن أنس ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني عن الخصيب بن ناصح البصري عن همام عن قتادة عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5): ثنا بهزُ وعبد الصمد -المعنى- قالا: ثنا همام بن يحيى نا قتادة قال: "سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله -عليه السلام-؟ قال: حجة واحدة واعتمر أربع مرات: عمرته في الحديبية وعمرته في ذي القعدة من المدينة وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين وعمرته مع حجته". وأما حديث أبي أسماء فأخرجه عن أبي أمية أيضًا عن الحسن بن موسى الأشيب شيخ أحمد روى له الجماعة. وعن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود كلاهما عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 157 رقم 1795). (¬2) "المجتبى" (5/ 150 رقم 2729). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 989 رقم 2968). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 630 رقم 1687). (¬5) "مسند أحمد" (3/ 134 رقم 12395).

أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن أبي أسماء الصيقل، سئل أبو زرعة عنه فقال: لا أعرف اسمه، روى له أحمد والنسائي. والحديث أخرجه النسائي (¬1): نا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي أسماء عن أنس قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- يلبي بهما". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أسود بن عامر أو حسن بن موسى نا زهير، عن أبي إسحاق عن أبي أسماء الصيقل عن أنس بن مالك قال: "خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله -عليه السلام- .... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "نصرخ بالحج" أي نرفع صوتنا به. قوله: "أن نجعلها عمرة" فيه حجة لمن يرى بفسخ الحج في عمرة وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومالك وأجابوا عن ذلك بأن فسخ الحج في العمرة قد كان خص به أصحاب رسول الله -عليه السلام-. قوله: "قرنت الحج والعمرة" أي قرنت بينهما فهذا صريح على أنه -عليه السلام- قد كان قارنًا في حجته فقوله هذا قد دل على صحة قول من أخبر من فعله أيضًا أنه جمع بين الحج والعمرة فثبت قران النبي -عليه السلام- في حجته بقوله وفعله فلم يبق بعد هذا شيء وليس ما وراء عناد أيّ قربة. وأما حديث الحسن البصري فأخرجه البزار في "مسنده": نا الحسن بن قزعة نا سفيان بن حبيب نا أشعث عن الحسن عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة ... " الحديث. وأما حديث مصعب بن سليم فأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع عن مصعب ابن سليم أنه سمع أنس بن مالك يقول: "أهلَّ رسول الله -عليه السلام- بحجة وعمرة". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 150 رقم 2730). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 148 رقم 12524).

وأما حديث مصعب بن عبد الله بن الزبرقان. فأخرجه العدني أيضًا: ثنا سفيان نا حميد الكوفي ومصعب بن عبد الله بن الزبرقان قال: عن أنس، قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لبيك بحجة وعمرة -أو بعمرة وحجة- معًا". وأما حديث سالم بن أبي الجعد فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن آدم نا شريك عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أنس يرفعه إلى النبي -عليه السلام-: "أنه جمع بين العمرة والحج فقال: لبيك بحجة وعمرة". وأما حديث أبي قدامة فأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2): ثنا روح بن عبادة، ثنا شعبة، عن يونس بن عُبيد، عن أبي قدامة الحنفي، قال: "قلت لأنس: بأي شيء كان رسول الله -عليه السلام- يهل، فقال سمعته سبع مرار: بعمرة وحجة، بعمرة وحجة". وأما حديث زيد بن أسلم فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن عبد العزيز ومحمد بن مسكين قالا: نا بشر بن بكر عن سعيد بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- أهلَّ بحج وعمرة". وأما حديث علي بن زيد فكذلك أخرجه البزار: ثنا إبراهيم بن سعيد نا علي بن حكيم عن شريك عن علي بن زيد عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- لبى بهما جميعًا". ص: وقد حدثنا يونس قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح). وحدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب قالا: ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران أنه قال: "حججت مع موالي فدخلت على أم سلمة -رضي الله عنها- فسمعتها تقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة" وهذا أيضًا مثل ذلك. ش: أخرج حديث أم سلمة -رضي الله عنها- من طريقين صحيحين؛ لوجود الأمر من النبي -عليه السلام- فيه بالقران كما في حديث أبي أسماء عن أنس وإليه أشار بقوله: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 280 رقم 14013). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 142 رقم 12471).

"وهذا مثل ذلك" وهذا أيضًا يدل على صحة قول من أخبر من فعله -عليه السلام- بما يوافق ذلك الطريق. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن شعيب بن الليث عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري عن أسلم أبي عمران التجيبي مولى تجيب وأسلم هذا هو ابن عمران ويكنى بأبي عمران أيضًا، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا حجاج ثنا الليث بن سعد المصري، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي عمران أسلم قال: "حججت مع موالي، فدخلت على أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- فقلت: أعتمر قبل أن أحج؟ قالت: إن شئت فاعتمر قبل أن تحج وإن شئت فبعد أن تحج، قال: فقلت: إنهم يقولون: من كان فلا يصلح أن يعتمر قبل أن يحج، قال: فسألت: أمهات المؤمنين فقلن مثل ما قالت فرجعت إليها فأخبرتها بقولهن، قال: فقالت: نعم وأشفيك؟ سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: أهلوا يا آل محمد بعمرة في الحج". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي عن شعيب بن الليث عن الليث بن سعد ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا مطلب بن شعيب الأزدي نا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: "حججت مع مولاي فدخلت على أم سلمة فقالت: "سمعت رسول الله -عليه السلام-، يقول: أهلوا يا أمة محمد بحجة وعمرة". قوله: "حججت مع مواليَّ" بتشديد الياء وهو جمع (مولى) وفي رواية الطبراني: "مع مولاي" بالإِفراد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 297 رقم 26590). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 341 رقم 792).

ص: وقد حدثنا فهد قال: ثنا الحماني قال: ثنا أبو خالد وأبو معاوية (ح). وحدثنا فهد قال: ثنا عمر بن حفص قال: ثنا أبي قالوا جميعًا: عن الحجاج عن الحسن بن سعد عن ابن عباس عن أبي طلحة: "أن النبي -عليه السلام- قرن بين الحج والعمرة". ش: هذان طريقان صحيحان من جملة الحجج في أن النبي -عليه السلام- كان قارنًا في حجته؛ لأن أبا طلحة أخبر في حديثه أن قربه بين الحج والعمرة: الأول: عن مهدي بن سليمان عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان وأبي معاوية الضرير محمد بن خازم كلاهما عن الحجاج بن أرطاة قاضي الكوفة عن الحسن بن سعد القرشي الهاشمي مولى علي بن أبي طالب عن عبد الله بن عباس عن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمد ثنا أبو معاوية ثنا حجاج عن الحسن بن سعد عن ابن عباس قال: أخبرني أبو طلحة: "أن رسول الله -عليه السلام- قرن بين الحج والعمرة". الثاني: عن فهد أيضًا عن عمر بن حفص عن أبيه حفص بن غياث عن الحجاج بن أرطاة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا معاوية بن المثنى نا مسدد نا أبو معاوية عن حجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعد عن ابن عباس أخبرني أبو طلحة: "أن رسول الله -عليه السلام- قرن بين الحج والعمرة". ص: حدثنا أبو بكرة وعلي بن معبد قالا: ثنا مكي بن إبراهيم قال: ثنا داود بن يزيد الأودي قال: سمعت عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: سمعت النزال بن سبرة ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (3/ 990 رقم 2971). (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 94 رقم 4693).

يقول: سمعت سراقة بن مالك يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال: وقرن رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع". ش: هذا أيضًا من جملة الحج في تفضيل القران وأن رسول الله -عليه السلام- كان قارنًا في حجة الوداع؛ لأن سراقة بن مالك قد صرح في حديثه بأنه -عليه السلام- قرن في حجة الوداع، أخرجه عن أبي بكرة بكَّار القاضي وعلي بن معبد بن نوح المصري كلاهما عن مكي بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري عن داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري الكوفي الأعرج فيه مقال فعن أحمد وابن معين: ضعيف وعنه: ليس حديثه بشيء، وعن النسائي ليس بثقة، روى له أبو داود وابن ماجه وهو يروي عن عبد الملك ميسرة الهلالي الزراد -وهو الذي يعمل الزرد- أبو سعد عن النزال بن سبرة الهلالي الكوفي قال العجلي: كوفي تابعي ثقة من كبار التابعين وفي "التهذيب": مختلف في صحبته، عن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، من مشاهير الصحابة، وهو الذي لحق النبي -عليه السلام- وأبا بكر -رضي الله عنه- حين خرجا مهاجرين إلى المدينة فدعا النبي -عليه السلام- فارتطمت فرسه إلى بطنها ثم دعا له فنجاه الله، وقصته مشهورة. فإن قيل: هذا الحديث ضعيف لأن فيه داود بن يزيد ولا يصلح الاستدلال به، قلت: قال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا جاوز الحد إذا روى عنه ثقة وأن كان ليس بقوي في الحديث، فإنه يكتب حديثه ويقبل. فهذا كما ترى قد روى عنه مكي بن إبراهيم وهو ثقة بالاتفاق فيقبل حديثه حينئذ. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا محمد بن عبد الله الحضرمي نا سعيد بن عمرو الأشعثي نا يونس بن بكير نا داود بن يزيد الأودي عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: "أهل رسول الله -عليه السلام- بحجة وعمرة وسمعته يقول: دخلت العمرة في الحج إلى اليوم القيامة". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 131 رقم 6597).

قوله: "دخلت العمرة في الحج" معناه دخل وقت العمرة في وقت الحج؛ لأن سبب ذلك أنهم كانوا يعدون العمرة في وقت الحج من أفجر الفجور، ثم رخص لهم النبي -عليه السلام-، فقال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" أي دخل وقت العمرة في وقت الحج -وهو أشهر الحج، وقد استدل الشافعي بهذا على أن القارن يطوف للعمرة والحج طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا لأن معناه عنده دخل إحرام العمرة في إحرام الحج، قلنا: معنى الحديث يحتمل ما ذكرناه ويحتمل ما ذكره فلا يكون حجة على دعواه مع الاحتمال. وروى عبد الرزاق (¬1): عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه: "أنه سئل عن قول رسول الله -عليه السلام- دخلت العمرة في الحج، فقال هو الرجل يفرد الحج ويذبح، فقد دخلت له عمرة في الحج فوجبتا له جميعًا والله أعلم. واستدل به بعض أصحابنا على أن العمرة ليست فريضة؛ لأن معناه: دخل فرض العمرة في فرض الحج على معنى أن فرضها قد سقط بالحج ثم اعلم أن الطحاوي كما ترى قد أخرج في تفضيل القران وأن النبي -عليه السلام- كان قارنًا أحاديث عن عشرة أنفس من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم عمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن حصين وأنس بن مالك -بعدة طرق- وأبو طلحة وسراقة بن مالك وعائشة وأم سلمة زوجا النبي -عليه السلام-. وفي الباب أيضًا عن أبي قتادة وجابر ومعاوية والهرماس بن زياد وأبي هريرة. أما حديث أبي قتادة فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا حفص، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه يقول: "إنما قرن رسول الله -عليه السلام- لأنه أُخْبِرَ أنه ليس بحاج بعدها". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حزم في "المحلى" (7/ 103). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 290 رقم 14297).

وأخرجه الحاكم (¬1) وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وأما حديث جابر فأخرجه الترمذي (¬2) محسنًا عنه: "أن رسول الله -عليه السلام- قرن الحج والعمرة". قال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر بهذا الإِسناد. وأما حديث معاوية فأخرجه أبو داود (¬3): من حديث أبي شيخ خيوان: "أن معاوية قال للصحابة: هل تعلمون أن النبي -عليه السلام- نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: لا". وأما حديث الهرماس بن زياد فأخرجه الكجي في "سننه" (¬4): ثنا سليمان بن داود، نا يحيى بن ضريس، عن عكرمة بن عمار، عن الهرماس بن زياد، قال: "سمعت النبي -عليه السلام- على ناقته قال: لبيك حجة وعمرة معًا". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه "مسلم" (¬5) عنه عن النبي -عليه السلام-: "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنيهما". فهؤلاء خمسة عشر صحابيًّا رووا القران عن النبي -عليه السلام-. وقال الخطابي: جواز القران بين الحج والعمرة إجماع من الأئمة، ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيء نهي عنه، والله أعلم. ص: فقد اختلفوا عن النبي -عليه السلام- في إحرامه في حجة الوداع ما كان؟ فقالوا: ما روينا وتنازعوا في ذلك على ما قد ذكرنا وقد أحاط علمنا أنه لم يكن إلا على أحد ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (1/ 645 رقم 1737). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 283 رقم 947). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 157 رقم 1794). (¬4) ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند" (3/ 485 رقم 16014)، وعنه الطبراني في "الكبير" (22/ 203 رقم 534)، و"الأوسط" (4/ 322 رقم 4327)، وأعله أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي كما في "علل ابن أبي حاتم" (1/ 292). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 915 رقم 1252).

تلك المنازل الثلاثة إما متمتع وإما مفرد وإما قارن، فأولى بنا أن ننظر إلى معاني هذه الآثار ونكشفها لنعلم من أين جاء اختلافهم فيها ونقف من ذلك على إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ما كان؟ فاعتبرنا ذلك فوجدنا اللين يقولون: إنه أفرد يقولون: كان إحرامه بالحج مفردًا لم يكن من قبل ذلك إحرام بغيره، وقال آخرون: بل قد كان قبل إحرمه بتلك الحجة أحرم بعمرة ثم أضاف إليها هذه الحجة، هكذا يقول الذين قالوا: قرن، وقد أخبر جابر -رضي الله عنه- في حديثه وهو أحد الذين قالوا: إن النبي -عليه السلام- أن رسول الله -عليه السلام- أحرم بالحجة حين استوت به ناقته على البيداء وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: من عند المسجد وهو أيضًا ممن قال: إن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج في أول إحرامه، وكان بدء إحرمه -عليه السلام- عند ابن عمر وجابر بعد خروجه من المسجد، وقد ثبتنا عنه فيما تقدم من كتابنا هذا أنه قد كان أحرم في دبر الصلاة في المسجد فيحتمل أن يكون الذين قالوا: قرن سمعوا تلبيته في المسجد بالعمرة ثم سمعوا بعد ذلك تلبيته الأخرى خارجًا من المسجد بالحج خاصة فعلموا أنه قرن وسمعه الذين قالوا: إنه أفرد وقد لبى بالحج خاصة ولم يكونوا سمعوا تلبيته قبل ذلك بالعمرة فقالوا: أفرد وسمعه قوم أيضًا، وقد لبى في المسجد بالعمرة ولم يسمعوا تلبيته بعد خروجه منه بالحج، ثم رأوه بعد ذلك يفعل ما يفعل الحاج في الوقوف بعرفة وما أشبه ذلك وكان ذلك عندهم بعد خروجه من العمرة فقالوا: تمتع، فروى كل قوم ما علموا وقد دخل جميع ما علمه الذين قالوا أفرد وما علمه الذين قالوا: إنه تمتع فيما علم الذين قالوا: إنه قرن، لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم بالحجة بعقب ذلك وصار ما ذهبوا إليه من ذلك وما رووا أولى مما ذهب إليه من خالفهم وما رووا ثم قد وجدنا بعد ذلك أفعال رسول الله -عليه السلام- تدل على أنه قد كان قارنًا وذلك أنه -عليه السلام- لا يختلف عنه أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلَّا من كان ساق منهم هديَّا، وثبت هو على إحرامه فلم يحل منه إلَّا في وقت ما يحل الحاج من حجه وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة" هكذا حكاه عنه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وهو ممن يقول:

إنه أفرد، وسنذكر ذلك وما روي فيه في باب فسخ الحج -إن شاء الله تعالى- فلو كان إحرمه ذلك كان بحجة لكان هديه الذي ساق تطوعًا فالهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال الذي يحله الرجل إذا لم يكن معه هدي ولكان حكمه -عليه السلام-وإن كان قد ساق هديًا- كحكم من لم يسق هديًا؛ لأنه لم يخرج على أن يتمتع فيكون ذلك الهدي للمتعة فيمنعه من الإِحلال الذي كان يحله لو لم يسق هديًا، ألَّا ترى أن رجلاً لو خرج يريد التمتع فأحرم بعمرة أنه إذا طاف وسعى وحلق حل منها ولو كان ساق هديًا لمتعته لم يحل حتى يوم النحر ولو كان ساق هديًا تطوعًا حل قبل يوم النحر بعد فراغه من العمرة فثبت بذلك أن هدي النبي -عليه السلام- لما كان قد منعه من الإِحلال وأوجب ثبوته على الإِحرام إلى يوم النحر أن حكمه غير حكم هدي التطوع، فانتفى بذلك قول من قال: إنه كان مفردًا وقد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب عن حفصة -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله -عليه السلام-: ما شأن الناس، حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني قد قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر فدل ذلك على ما ذكرنا، وعلى أن ذلك الهدي كان هديًا بسبب عمرة يراد بها قران أو متعة فنظرنا في ذلك فإذا حفصة قد دل حديثها هذا على أن ذلك القول من رسول الله -عليه السلام- كان بمكة لأنه كان منه بعد ما حل الناس وقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- قد طاف قبل ذلك أو لم يطف فإن كان قد طاف قبل ذلك ثم أحرم بالحجة من بعد فإنما كان متمتعًا ولم يكن قارنًا؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنًا؛ لأنه إنما أحرم بالحجة بعد فراغه من طواف العمرة وإن لم يكن طاف قبل ذلك حتى أحرم بالحجة فقد كان قارنًا؛ لأنه قد لزمته الحجة قبل طوافه للعمرة، فلما احتمل ذلك ما ذكرنا كان أولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الآثار على ما فيه اتفاقها لا على ما فيه تضادها، وكان علي بن أبي طالب وابن عباس وعمران بن حصين وعائشة -رضي الله عنهم- قد روينا عنهم أن رسول الله -عليه السلام- تمتع، ورينا عنهم أنه قرن وقد ثبت من قوله ما يدل على أنه قدم مكة ولم يكن أحرم بالحج قبل ذلك، فإن جعلنا إحرامه بالحجة قبل الطواف للعمرة ثبت

الحديثان جميعًا، فكان رسول الله -عليه السلام- قد كان متمتعًا إلى أن أحرم بالحجة فصار قارنًا، وإن جعلنا إحرامه بالحجة كان بعد طوافه للعمرة جعلناه متمتعًا ونفينا أن يكون قارنًا فجعلناه متمتعًا في حال، قارنًا في حال فثبت بذلك أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة وثبت بذلك أن رسول الله -عليه السلام- كان في حجة الوداع قارنًا. ش: أي فقد اختلف العلماء والفقهاء من أصحاب المذاهب عن النبي -عليه السلام- في صفة إحرامه في حجة الوداع ما كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا؟ فذكروا في ذلك ما روي في هذا الباب من الأحاديث وتنازعوا في ذلك ولا شك أنه كان على واحد من هذه الثلاثة، فالطريقة في معرفة ذلك النظر إلى معاني هذه الآثار والكشف التام حتى نعلم من أين جاء هذا الاختلاف، ثم يوقف على إحرامه -عليه السلام- بأيهما كان، فالذين قالوا: إنه كان مفردًا يدعون أن إحرامه بالحج كان مفردًا لم يكن منه أحرام آخر قبل ذلك والذين قالوا: إنه كان قارنًا أو متمتعًا يدعون أنه كان قد أحرم بعمرة قبل إحرامه بالحج ومنشأ الاختلاف من وقت وجود إحرامه -عليه السلام- وقد كان جابر أخبر في حديثه أنه أحرم حين استوت به ناقته على البيداء وابن عمر أخبر أنه أحرم من عند المسجد، والحال أن كلاًّ منهما ممن روى أنه أفرد، وجاء عن ابن عمر أنه أحرم في دبر الصلاة في المسجد، فالذين قالوا: إنه قرن يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبية النبي -عليه السلام- بالعمرة في المسجد ثم سمعوا بعده تلبيته بالحج خارج المسجد فحكموا بذلك أنه قرن والذين قالوا: إنه أفرد يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالحج وحدها ولم يسمعوا تلبيته بالعمرة قبل ذلك فحكموا به أنه أفرد والذين قالوا: إنه تمتع يحتمل أن يكونوا سمعوا تلبيته بالعمرة في المسجد فقط ولم يسمعوا تلبيته بالحج بعد ذلك، ثم زاد النبي -عليه السلام- بعد ذلك فعل ما يفعله الحاج الفرد من الوقوف بعرفة ومزدلفة ونحو ذلك وكان ذلك عندهم بعد أن علموا خروجه -عليه السلام- من العمرة فحكموا بذلك أن تمتع فهذا هو أصل الاختلاف ومنشأه ثم حُكم من حكم بالقران أولى والأخذ به أحق وأفضل؛ لأن ما حكم به الفريقان الآخران داخل فيما حكم به من حكم بالقران؛ لأنهم أخبروا عن تلبيته بالعمرة ثم عن تلبيته بالحجة عقبها وهذا

هو عين القران، ثم شد ذلك وقواه ما وجد من أفعاله -عليه السلام- بعد ذلك الدالة على أنه قد كان قارنًا، وذلك لأنه لم يختلف أحد أنه لما دخل مكة أمر أصحابه بالإِحلال إلَّا من كان سائق الهدي وثبت هو -عليه السلام- على إحرامه ولم يحل إلَّا يوم النحر، فلو كان إحرامه هذا بحجة فقط لكان هديه الذي ساقه تطوعًا والهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال فلما لم يمنعه وأوجب استمراره على إحرامه إلى يوم النحر، علمنا أنه لم يكن مفردًا، فانتفى بذلك قول من ادعى أنه كان مفردًا وبقي الكلام بين كونه متمتعًا أو قارنًا فإن كان إحرامه بالحجة بعد طوافه للعمرة كان بذلك متمتعًا وإن كان قبل ذلك كان قارنًا فصار متمتعًا في حال وقارنًا في حال ولكن حديث حفصة -رضي الله عنها- قد دل على أن طوافه للعمرة كان بعد إحرامه بالحجة فتعين بذلك أن يكون قارنًا في حجة الوداع. والله أعلم. ص: فقال قائل ممن كره القران والتمتع لمن استحبهما: اعتللتم علينا بقول الله -عز وجل-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) في إباحة المتعة وليس ذلك كذلك، وإنما تأويل هذه الآية: ما رُوي عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-[فذكر ما] (¬2) حدثنا محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق قالا: ثنا الخصيب بن ناصح قال: ثنا وهيب بن خالد عن إسحاق بن سويد قال: "سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول: يا أيها الناس ألا إنه والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج: أن يخرج الرجل حاجًّا فيحبسه عدو أو مرض أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف به سبعًا ويسعى بين الصفا والمروة ويتمتع بحله إلى العام المقبل فيحج ويهدر". حدثنا ابن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا حماد قال: ثنا إسحاق بن سويد ... فذكره نحوه. قالوا: فهذا تأويل هذه الآية. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) في "الأصل، ك": "في تأويلها قد" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قيل لهم: لئن وجب بأن يكون تأويلها كذلك لقول ابن الزبير، فإن تأويلها أحرى ألَّا يكون كذلك كما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- وعن أصحابه من بعده مثل عمر وعلي ومن ذكرنا معهم فيما تقدم من هذا الباب. وقد حدثنا يونس قال: ثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم -أو مالك بن الحارث- عن أبي نصر قال: "أهللت بالحج فأدركت عليًّا -رضي الله عنه- فقلت: إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضم إليه عمرة؟ فقال: لا، لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج فعلت". حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم، قال: "كنا مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فسمعنا رجلاً يهتف بالحج والعمرة فقال عثمان: من هذا؟ قالوا: عليّ، فسكت". حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا الخصيب قال: ثنا همام عن قتادة عن جري بن كليب وعبد الله بن شقيق: "أن عثمان -رضي الله عنه- خطب، فنهى عن المتعة فقام علي -رضي الله عنه- فلبى بهما، فأنكر عثمان ذلك، فقال علي: إن أفضلنا في هذا الأمر أشدنا اتباعًا له". حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قال: ثنا هشيم قال: ثنا أبو بشر عن سليمان اليشكري عن جابر بن عبد الله قال: "لو أهللت بالحج والعمرة طفت لهما طوافًا واحدًا ولكنت مُهْدِيًّا". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا من ذكرنا من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد صرف تأويل قول الله -عز وجل-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) إلى خلاف ما صرفه إليه عبد الله بن الزبير، وهو أصح التأويلين عندنا والله أعلم، لأن في الآية ما يدل على فساد تأويل ابن الزبير؛ لأن الله -عز وجل- قال {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) والصيام في الحج لا يكون بعد فوت الحج ولكنه قبل فوته ثم قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) فكأن الله -عز وجل- إنما جعل المتعة وأوجب فيها ما أوجب على من فعلها إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقد أجمعت الأمة أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام أو غير حاضري المسجد الحرام ففاته الحج أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء وأن حاله بحضور أهله المسجد الحرام لا يخالف حاله ببعدهم عن المسجد الحرام فثبت بذلك أن المتعة التي ذكرها الله -عز وجل- في هذه الآية هي التي يفترق فيها من كان أهله بحضرة المسجد الحرام ومن كان أهله بغير حضرة المسجد الحرام، وذلك في التمتع بالعمرة إلى الحج التي كرهها مخالفنا. ش: لما كان قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) من جملة الحجج التي [احتج] (¬2) بها من استحب القران والتمتع على من كرههما واستحب الإِفراد ومن جملة ما اعتلوا به عليهم في إباحة المتعة قامت طائفة منهم واعترضوا، فقالوا: استدلالكم بالآية المذكورة واحتجاجكم بها علينا فيما تدعون به غير صحيح؛ لأن تأويل الآية غير ما ذهبتم إليه وإنما تأويله ما بينه عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- في خطبته، وهو الذي أخرجه في طريقين: الأول: عن محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق، كلاهما عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي عن وهيب بن خالد البصري روى له الجماعة عن إسحاق بن سويد بن هبيرة البصري ثقة روى له الشيخان عن عبد الله بن الزبير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا معتمر بن سليمان، عن إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير، قال: "إنما التمتع بالعمرة إلى الحج: أن يهل الرجل بالحج فيحصره إما مرض أو عدو أو أمر يحبسه". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) في "الأصل، ك": "احتجت". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 213 رقم 13557).

الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد ... إلى آخره. وأخرجه أبو عمر في "التمهيد" (¬1) نحوه. قوله: "قالوا" أي الذين كرهوا التمتع والقران وقد ذكرنا أن التمتع على أربعة أنواع. أحدها: التمتع المعروف وهو الذي قاله ابن عمر: أن يعتمر في أشهر الحج قبل الحج ثم يقيم بمكة حتى يدركه الحج ويحج من عامه، ولا خلاف أن هذا التمتع هو المراد بقوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (¬2). والثاني: القران عند جماعة من العلماء؛ لأن القارن متمتع بسقوط سفره الثاني، فالقران والتمتع يتفقان في هذا المعنى، ويتفقان عند أكثر العلماء في الهدي والصيام لمن لم يجد. والثالث: فسخ الحج في العمرة، وجمهور العلماء يكرهونه. والرابع: ما قاله ابن الزبير. قوله: "قيل لهم" إلى آخره جواب عما قاله أولئك القوم، بيانه أن يقال: إن عبد الله بن الزبير أول تأويلًا في الآية يخالفه ما أوله غيره من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأخرج عنه في ذلك من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي -أو مالك بن الحارث السلمي الرقي- وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، عن أبي نصر بنون مفتوحة وصاد مهملة ساكنة، وقال ابن ماكولا بضاد معجمة وهو أبو نضر السلمي، قال الدارقطني والبيهقي أبو نصر هذا مجهول. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (8/ 359). (¬2) سورة البقرة، آية: [196].

قوله: "أفأستطيع" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "لو كنت أهللت بالعمرة" إلى آخره وهذا يدل على أن عليًّا -رضي الله عنه-، لا يرى إضافة العمرة إلى الحج، وهذا الباب فيه اختلاف بين العلماء، فقال أبو عمر: العلماء مجمعون على أنه إذا دخل الحج على العمرة في أشهر الحج قبل الطواف بالبيت أنه جائز له ذلك ويكون قارنًا بذلك، ويلزمه ما يلزم الذي أنشأ العمرة والحج معًا. وقالت طائفة من أصحاب مالك: له أن يدخل الحج على العمرة وإن كان قد طاف ما لم يركع ركعتي الطواف، وقال بعضهم: له ذلك بعد الطواف ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة، وهذا كله شذوذ عند أهل العلم، وقال أشهب: متى طاف لعمرته ولو شوطًا واحدًا لم يكن له إدخال الحج عليها، وهذا هو الصواب إن شاء الله فإن فعل وأدخل الحج على العمرة بعد ذلك فقد اختلفوا فيما يلزم في ذلك، فقال مالك: من أدخل الحج على العمرة بعد أن يفتتح الطواف لزمه ذلك وصار قارنًا، وروي مثل ذلك عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلَّا قبل الأخذ في الطواف. وقال الشافعي لا يكون قارنًا، وذكر أن ذلك قول عطاء وبه قال أبو ثور وغيره. واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك: يضاف الحج إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج، فإن أهلَّ أحد بالحج ثم أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء، ولا يلزمه شيء، وهو أحد قولي الشافعي وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من أهلَّ بحجة ثم أضاف إلى الحج عمرة، فهو قارن، ويكون عليه ما على القارن، قالوا: ولو طاف لحجته شوطًا واحدًا ثم أهل بعمرة لم يكن قارنًا ولم يلزمه، لأنه قد عمل في الحج. وقال الأوزاعي: لا بأس أن يضيف العمرة إلى الحج بعد ما يهل بالحج. وقال أبو ثور: إذا أحرم بحجة فليس له أن يضيف إليها عمرة ولا يُدخل إحرامًا على إحرام كما لا يُدخل صلاة على صلاة.

قال أبو عمر: هذا قول شاذ، وفعل ابن عمر في خبر إدخاله الحج على العمرة، ومعه على ذلك جمهور العلماء خير من قول أبي ثور الذي لا أصل له إلَّا القياس الفاسد في هذا الموضع. وفي هذا الباب: اختلافهم فيمن أهل بحجتين أو بعمرتين أو أدخل حجة على حجة أو عمرة على عمرة، فقال مالك: الإِحرام بحجتين أو عمرتين لا يجوز ولا يلزمه إلَّا واحدة، وبذلك قال الشافعي ومحمد بن الحسن. قال الشافعي: وكذلك لو أحرم بحج ثم أدخل عليه حجًّا آخر قبل أن يكمل فهو مهل بحج واحد ولا شيء عليه في الثاني من فدية ولا قضاء ولا غيره، وقال أبو حنيفة: تلزمه الحجتان ويصير رافضًا لإِحداهما حين يتوجه إلى مكة، وقال أبو يوسف: تلزمه الحجتان ويصير رافضًا ساعتئذٍ. وذكر الجوزجاني عن محمد قال: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: من أهل بحجتين معًا أو أكثر فإن توجه إلى مكة وأخذ في العمل، فهو رافض لها كلها إلَّا واحدة، وعليه لكل حجة رفضها دم وحجة وعمرة. الطريق الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح الشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي الكوفي فيه مقال فعن يحيى: لا يحتج بحديثه، وعنه: ليس بالقوي، وعنه: ضعيف الحديث، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة. عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين روى له الجماعة، عن مروان بن الحكم ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمد بن بشار، نا غندر، نا شعبة، عن الحكم، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم: "شهدت عثمان وعليًّا -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 567 رقم 1488).

عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليٌّ ذلك؛ أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة رسول الله -عليه السلام- لقول أحد". قوله: "يهتف بالحج والعمرة" أي يرفع صوته ملبيًا بهما. الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن جري بن كليب -بالتصغير فيهما- السدوسي البصري، قال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه، روى له الأربعة حديثا واحدًا، عن عليّ في الأضحية، عن شقيق بن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري روى له الجماعة، البخاري في الأدب، كلاهما عن عثمان -رضي الله عنه-. ومئهم: جابر بن عبد الله، أخرج حديثه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سليمان ابن قيس اليشكري البصري، وهذا إسناد صحيح. قوله: "وهو أصح التأويلين عندنا" أبي الذي أوله من ذكره من الصحابة هو أصح التأويلين، وقد بين وجه ذلك بقوله: "لأنه في الآية ما يدل على فساد ... " إلى آخره وهو ظاهر. ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في حاضري المسجد الحرام من هم؟ فذهب طاوس ومجاهدًا إلى أنهم أهل الحرم، وبه قال داود، وقالت طائفة: أهل مكة بعينها، روي ذلك عن نافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة وذي طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد ومر الظهران وعسفان فعليهم دم، وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وهو قول عطاء ومكحول، وهو قول الشافعي بالعراق، وقال الشافعي أيضًا وأحمد: من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام، واختلفوا أيضًا في التمتع لأهل مكة، فقال الشافعي ومالك وأحمد وداود: إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران، وإن تمتع لم يلزمه دم، وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع

والقران، وإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرًا، وهما في حق الأفاقي مستحبان ويلزمه الدم شكرًا، وقال أبو عمر والحسن وطاوس: ليس لأهل مكة متعة، ذكره ابن المنذر، والله أعلم. ص: وقد روى ابن عباس في ذلك عن النبي -عليه السلام- ما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور، وكانوا يسمون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفى الأثر، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله -عليه السلام- وأصحابه صبيحة رابعة وهم ملبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، قالوا: يا رسول الله، أي حل نحل؟ قال: الحل كله". فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- قد أخبر أن رسول الله -عليه السلام- إنما فسخ الحج إلى العمرة، ليُعَلِّمَ الناس خلاف ما كانوا يكرهون في الجاهلية، وليعلموا أن العمرة في أشهر الحج مباحة كهي في غير أشهر الحج. ش: أي قد رُوي عن عبد الله بن عباس في إباحة التمتع بالعمرة إلى الحج الذي كرهه مخالفنا فإن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخبر في حديثه أن رسول الله -عليه السلام- فسخ الحج إلى العمرة ليعلم الناس خلاف ما كانوا يكرهونه في الجاهلية، وفي هذا الباب خلاف قد ذكرناه. وفيه أيضًا إباحة العمرة في أشهر الحج كما هي في غيرها، وهو معنى قوله: "كهي في غير أشهر الحج" أي كالعمرة في غير أشهر الحج، أي كما أنها مباحة في غير أشهر الحج، وإسناد الحديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، نا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 567 رقم 1489).

صفر؛ حلت العمرة لمن اعتمر، قدم النبي -عليه السلام- وأصحابه صبيحة رابعة مُهلِّين بالحج، وأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: الحل كله". وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض .. " إلي آخره نحو رواية البخاري. وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. قوله: "كانوا" يعني الجاهلية، وذلك من تحكماتهم المبتدعة. قوله: "أفجر الفجور" أي أعظم الذنوب، وفي رواية مسلم: "من الفجور" (¬4) وهو من فَجَرَ يَفْجُر فُجورًا، من باب نَصَر: ينصُرُ، والفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم. قوله: "وكانوا يسمون المحرم صفرًا" إخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه كانوا يسمون المحرم صفرًا ويحلونه وينسئون المحرّم أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة فتضيق عليهم أمورهم في الإِغارة وغيرها فضللهم الله بذلك، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬5) الآية. وقال القرطبي: يُحِلُّون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويحرمون مكان ذلك غيره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 909 رقم 1240). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 204 رقم 1987). (¬3) "المجتبى" (5/ 180 رقم 2813). (¬4) لعله يقصد مسلم بن إبراهيم الفراهيدي شيخ البخاري، فهو الذي روى هذه اللفظة كما في "صحيح البخاري" (3/ 1393 رقم 36209). (¬5) سورة التوبة، آية: [37].

ثم اعلم أن قوله: "صفرا" قد وقع في رواية الطحاوي بلا ألف وكذا وقع في صحيح مسلم، ووقع في رواية البخاري "صفرًا" بالألف قيل هو الصحيح، وهو مصروف بلا خلاف. قلت: وذكر في "المحكم": كان أبو عُبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لا تصرفه فإن النحويين قد أجمعوا على صرفه؟ وقالوا: لا يمنع الحرف من الصرف إلَّا علتان، فأَخَبَرْنَا بالعلتين فيه. فقال: نعم، العلتان: المعرفة والساعة، قال أبو عمر المطرزي: يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة. وهذا الشهر الذي بعد المحرم، سمي صفرًا لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، قاله في "المحكم". وقيل: سمي بذلك لإِصفار مكة من أهلها إذا سافروا، ورُوي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقوا صِفْرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرم فقالوا صَفِرَ الناس. فإذا جمعوه مع المحرم قالوا: صفران، والجمع: أصفار. وقال القزاز: ربما سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى بلاد يقال لها الصفرية. وقيل: لأنهم كانوا يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرًا، وفي العلم الشهور لا في الخطاب: العرب تقول: صفر وصفران. وصفارين وصفارير وأصفار. قال: وقيل أن العرب كانوا يجعلون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفر الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا؛ كي يستقيم لهم الأزمان على موافقة أسمائها مع الشهور، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "السنة اثني عشر شهرًا" وكانوا يتطيرون به ويقولون: إن الأمور فيه متعلقة والآفات واقعة. قوله "إذا برأ الدَّبر": الدَّبر بفتح الدال المهملة والباء الموحدة بعدها راء: يعني الجرح الذي يكون في ظهر الدابة، قال ابن سيدة: والجمع دَبُر وأدبار

ودُبِرَ دَبِرًا فهو دَبِر ودَابر والأتن دَبِرَةٌ ودَبْراء، وإبل دَبْراء وقد أَدْبَرَهَا الحمل، يريدون: أن الإِبل كانت تدبر بالسير عليها إلى الحج، قلت: بابه من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، قال عياض هو أن تقرح خف البعير. قوله: "وعفى الأثر" أي درس أثر الحاج في الطريق وانمحى بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وغيرها بطول مرور الأيام، قال الخطابي: وعفى الأثر أي أثر الدبر المذكور، وفي رواية لأبي داود (¬1): "وعفى الوبر" يعني أثر وبر الإِبل الذي حلقه رحال الحاج، وعفى من الأضداد ويكون معناه بمعنى كثر قال: تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} (¬2): أي كثروا، وقال الخطابي في عفى الدبر: أي طَرَّ وكثر. قوله: "صبيحة رابعة" أي ليلة رابعة. قوله: "وهم ملبون بالحج" جملة حالية، وفيه دليل على أنهم كانوا مفردين بالحج، ومن فوائد هذا الحديث: استحباب الدخول في مكة نهارًا وكان ابن عمر يستحب دخولها نهارًا لذلك، وإليه ذهب عطاء والنخعي وابن راهويه وابن مندة والشافعي في أصح الوجهين. وفي الوجه الآخر: دخولها ليلاً ونهارًا سواء، لا أفضلية لأحدهما على الآخر، وهو قول طاوس والثوري. وعن عائشة -رضي الله عنها-: دخولها ليلاً أفضل من النهار، وإليه ذهب سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز. ص: فإن قال قائل: فقد ثبت بهذا عن ابن عباس: أن إحرام رسول الله -عليه السلام- إنما كان بحجة مفردة، فقد خالف هذا ما رويتم عنه من تمتع رسول الله -عليه السلام- وقرانه. قيل له: ما في هذا خلاف لذلك؛ لأنه قد يجوز أن يكون إحرامه أولاً كان بحجة حتى قدم مكة ففسخ ذلك بعمرة، ثم فلم تتضاد على أنها عمرة وقد عزم أن يحرم ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 204 رقم 1987). (¬2) سورة الأعراف، آية: [95].

بعدها بحجة فكان في ذلك متمتعًا، ثم لم يطف للعمرة حتى أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فهذه وجوه أحاديث ابن عباس قد صحت والتأمت على القران الذي كان قبله التمتع والإِفراد فلم تتضاد إلَّا أن في قوله: "لولا أني سقت الهدي لحللت كما حل أصحابي" دليلًا على أن سياقة الهدي قد كانت في وقت أحرم فيه بعمرة يريد بها التمتع إلى الحجة؛ لأنه لو لم يكن فعل ذلك لكان هديه تطوعًا، والتطوع في الهدي غير مانع من الإِحلال الذي يكون لو لم يكن الهدي، فدل ذلك على أن إحرام رسول الله -عليه السلام- كان أولاً بعمرة، ثم أتبعها حجة على السبيل الذي ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث ابن عباس هذا يدل على أن النبي -عليه السلام- كان محرمًا مفردًا بالحج، وحديثه الآخر الذي مضى ذكره في هذا الباب يدل على أنه كان متمتعًا، وهو ما رواه ليث عن طاوس عنه قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- ... " الحديث. وحديثه الآخر الذي مضى أيضًا في هذا الباب يدل على أنه كان قارنًا، وهو ما رواه عكرمة عنه عن عمر قال: "سمعت النبي -عليه السلام- وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة" فهذه الآثار كما ترى متضادة يخالف بعضها بعضًا، وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم ذلك؛ لأن حالات الحاج ثلاث وهي: الإِفراد والتمتع والقران، وكان النبي -عليه السلام- متلبسًا بهذه الحالات كلها لأنه كان أولاً محرمًا بحجة فكان على ذلك حتى قدم مكة ففسخ ذلك بعمرة، ثم أقام على أنها عمرة وقد نوى أن يحرم بعدها بحجة، فكان في ذلك متمتعًا، ثم قبل أن يطوف للعمرة أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فصارت أحاديث ابن عباس صُرِفَ كل واحد منها إلى حالة من تلك الحالات التي تناسب ذلك، وكذلك الجواب في رواية كل من اضطربت الروايات عنه في صفه حج النبي -عليه السلام- فبذلك يرتفع التضاد، والله أعلم.

قوله: "إلَّا" أي في قوله "لولا أني سقت الهدي" استثناء من قوله: "قد يجوز أن يكون إحرامه أولا بحجة" بيانه أنه لو كان إحرامه بحجة لكان هديه الذي ساقه تطوعًا، فالهدي التطوع لا يمنع من الإِحلال الذي يحله الرجل، فقوله: "لولا أني سقت الهدي .. " إلى آخره. دليل على أن سوقه الهدي كان حين اعتمر بعمرة يريد بها التمتع إلى الحج، فلذلك لم يحل حين حل أصحابه، فثبت بذلك أن هديه لما كان منعه من الإِحلال وأوجب ثبوته على الإِحرام، إلى يوم النحر كان غير هدي التطوع، وأن إحرامه كان أولاً بعمرة ثم اتبعها حجة، فكان بذلك متمتعًا، ثم أحرم بحجة مفردة فصار بذلك قارنًا لها إلى عمرته المتقدمة كما ذكره هكذا فيما مضى عند حديث عائشة وعمران بن حصين -رضي الله عنهما-. ص: ولما ثبت بما وصفنا إباحة العمرة في أشهر الحج، أردنا أن ننظر هل الهدي الواجب في القران لنقصان دخل العمرة أو الحجة إذا قرنتا أم لا؟ فرأينا ذلك الهدي يؤكل منه، وكذلك رسول الله -عليه السلام- فعله. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله في الحديث الطويل قال: "وكان علي -رضي الله عنه- قدم من اليمن يهدي رسول الله -عليه السلام- وكان جماعة الهدي الذي قدم به رسول الله -عليه السلام- وعلي من اليمن مائة بدنة فنحر رسول الله -عليه السلام- منها ثلاثاً وستين بيده ونحر علي -رضي الله عنه- سبعًا وثلاثين، فأشرك عليًّا في هديه، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل رسول الله -عليه السلام- وعلي -رضي الله عنه- من لحمها، وشربا من مرقها، فلما كان رسول الله -عليه السلام- قد ثبت عنه بما قد ذكرنا قبل هذا الفصل أنه قرن، وأنه كان عليه لذلك هدي، ثم أهدي هذه البدن التي ذكرنا، فكل من كل بدنة ما وصفنا، ثبت بذلك إباحة الأكل من هدي المتعة والقران، فلما كان ذلك الهدي مما يؤكل منه، اعتبرنا حكم الدماء الواجبة للنقصان هل هي كذلك أم لا، فرأينا الدم الواجب في قص الأظفار وحلق الشعر والجماع

وكل دم يجب لترك شيء من الحجة لا يؤكل [شيء من] (¬1) ذلك فكان كل دم وجب لإِساءة أو نقصان لا يؤكل منه، وكان دم المتعة والقران يؤكل منهما، فثبت أنهما وجبا لمعنى خلاف الإِساءة والنقصان، فهذه حجة قاطعة على من كره القران والتمتع بالعمرة إلى الحج. ش: أراد بقوله: "بما وصفنا" ما ذكره في حديث ابن عباس المذكور عن قريب الذي فيه إباحة العمرة في أشهر الحج، ثم بين أن دم المتعة والقران دم شكر لا دم نقصان؛ لأنا رأينا الدماء الواجبة عن الجنايات لا يؤكل منها شيء، ورأينا دم المتعة والقران يؤكل منه شيء، والدليل عليه حديث جابر -رضي الله عنه- فإنه يخبر أن رسول الله -عليه السلام- أكل من الذي ذبحه في قرانه، فدل أنه أنما وجب شكرًا ولم يجب جبرًا لنقصان أو لأجل إساءة، وفي هذا الباب خلاف بين السلف، فرُوي عن نافع عن ابن عمر قال: يؤكل من كل شيء إلَّا من جزاء الصيد أو النذر، وقاله علي، قال: ولا مما جعل للمساكين. وقال الحسن: يؤكل من كل شيء إلَّا في جزاء الصيد. وقال الأوزاعي: يؤكل من الهدي خمسة أنواع: النذر والمتعة والتطوع والوصية والمحصر، إلَّا الكفارات كلها. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من شيء من الهدي إلَّا المتعة والقران والتطوع إذا بلغ محله، وقيل: يؤكل من كل ذلك إلَّا التطوع وجزء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين. وعند الشافعي: لا يؤكل من دم المتعة والقران، وقد بينا ذلك في الفروع. قوله: "وكذلك رسول الله -عليه السلام- فعله" أي فعل الأكل من دم المتعة والقران، ثم بين ذلك بقوله: حدثنا محمد بن خزيمة ... إلى آخره وإسناده صحيح وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني روى له الجماعة، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "من شيء"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- أبو عبد الله المدني الصادق، وأبوه محمد بن علي الباقر، وهذا الحديث طويل وقد سقناه كله في أول الباب من رواية مسلم، والطحاوي أخرج بعضه أيضًا هناك عن ربيع، عن أسد، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. قوله: "ثلاثًا وستين بيده" وفي بعض الروايات "ثلاثاً وستين بدنة" وكل ذلك صواب، لكن المروي هو نحر النبي -عليه السلام- بيده وهو أصوب ها هنا -إن شاء الله- لقوله "ونحر علي سبعًا وثلاثين". فإن قيل: ما الحكمة في أنه -عليه السلام- نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده واقتصر على هذا العدد؟ قلت: فكأنه -عليه السلام- أشار بذلك إلى منتهي عمره؛ لأنه عُمِّر ثلاثًا وستن سنة فيكون قد نحر عن كل سنة من عمره بدنة. قوله "بضعة" بفتح الباء أي قطعة من لحمها قال القاضي: لما كان الأكل من جميع لحمها فيه كلفة، جمعه في قدر واحد فيكون تناوله من المرق كالأكل من الجميع، وقال ويحتج بهذا لقولنا: إنه من حلف ألَّا يأكل لحمًا فشرب مرقة، فإنه حانث؛ لحصول اللحم فيه، إلَّا أن يكون له مقصد ونيَّة. قلت: الأيمان تبني على العرف، فلا يقال في العرف لمن شرب مرقة لحم: إنه أكل لحمًا، فحينئذ لا يحنث [من حلف] (¬1) لا يأكل من هذا اللحم فشرب من مرقه والله أعلم. ص: ثم الكلام بعد ذلك بين الذين جوزوا التمتع والقران في تفضيل بعضهم القران على التمتع وفي تفضيل الآخرين التمتع على القران، فنظرنا في ذلك فكان في القران تعجيل الإِحرام بالحج وفي التمتع تأخيره، وكان ما عجل من الإِحرام بالحج ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

فهو أفضل وأتم لذلك الإِحرام، وقد روي عن علي -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) قال: "تمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك". حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي -رضي الله عنه- بذلك، فلما كان في القران يقدم الإِحرام بالحج على الوقت الذي يحرم به في التمتع كان القران أفضل من التمتع، وكل، ما ثبتنا وصححنا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي ثم الكلام بعد أن بينا أن دم المتعة والقران دم شكر لما وفق للجمع بين النسكين في سفر واحد بين الفريق الذين جوزوا التمتع والقران، وهم جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة في تفضيل بعضهم القران على التمتع وهم الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وإسحاق والمزني من أصحاب الشافعي، وفي تفضيل الفريق الآخرين التمتع على القران وهم الحسن البصري وعطاء وسالم والقاسم وأحمد بن حنبل والشافعي في قول، فنظرنا في ذلك أي في وجه تفضيل هذه الأشياء بعضها على بعض، فكان في القران أي وجد تعجيل الإِحرام بالحج؛ لأن القارن يجمع بين العمرة والحج من الميقات في أول شروعه، وفي التمتع تأخيره أي تأخير الإِحرام بالحج؛ لأن المتمتع إنما يحرم بالحج يوم التروية من الحرم، وكان ما عجل من الإِحرام بالحج فهو أفضل، وأتم لذلك الإِحرام، والدليل عليه ما رُوي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1): "تمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك". وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- المرادي الكوفي من فقهاء الكوفة بعد الصحابة، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو بكر الرازي في تفسير هذه الآية: ورُوي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس أنهم قالوا: "إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

وقال الكاساني: وكذا قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. قوله: "فلما كان ... " إلى آخره بيان نتيجة الكلام الذي قبله، وهو ظاهر قوله: "وكل ما ثتبنا" من التثبيت، ويجوز: "وكل ما بينا من التبين" والأول أكثر في النُّسَخِ والله أعلم. ***

ص: باب: الهدي يساق لمتعة أو قران هل يركب أم لا؟

ص: باب: الهدي يساق لمتعة أو قران هل يركب أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الهدي الذي يسوقه الحاج لأجل التمتع أو القران هل يجوز ركوبه أم لا؟ "الهدي" اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام، أعني من الإِبل والبقر والغنم، وهو بإسكان الدال وتخفيف الياء، وفيه لغة أخرى وهي كسر الدال وتشديد الياء، يقال: أهديت إلى البيت هديًا وهدِيًّا، ذكره ثعلب في "فصيحه" وسوى بينهما، ويقال: اللغة الأول هي الأفصح والأشهر، وقال اللحياني: وواحد الهدي هدية، وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخففون ياء الهدي، وتميم وسفلى قريش يثقلون الياء، وقد قرئ بالوجهين جميعًا {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) والهَدِيُّ محله، وهو قول الأكثرين، وفي الحديث: "هلك الهدي ومات الودي" قال الهروي: أي هلكت الإِبل ويبست النحل والعرب تقول: كم هدي بني فلان أي كم إبلهم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال: اركبها ويلك". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن [ابن] (¬2) عجلان، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمه موسى ابن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه قال له في الثالثة أو الرابعة: "اركبها ويحك". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "مر رسول الله -عليه السلام- برجل يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني معتمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: فلقد رأيته يساير النبي -عليه السلام- في عنقها نعل". ش: هذه ستة طرق: الأول: رجاله رجال الصحيح كلهم، وأبو الزناد -بالنون-: عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك، ولفظ الموطأ (¬5): "اركبها ويلك، في الثالثة أو الرابعة"، ولفظ البخاري: "اركبها ويلك، في الثالثة" ولفظ مسلم: "ويلك اركبها، ويلك اركبها". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 606 رقم 1604). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 860 رقم 1322). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 147 رقم 1760). (¬4) " المجتبى" (5/ 176 رقم 2799). (¬5) "موطأ مالك" (1/ 377 رقم 842) والذي في "الموطإ": "اركبها ويلك، في الثانية أو الثالثة".

قوله: "يسوق بدنة": أراد بها الإِبل ها هنا، والبدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة، ولكن بالإِبل أشبه ووسميت (بدنة) لعظمها وسمنها. قوله: "اركبها ويلك": مخرجه مخرج الدعاء عليه إذ أبى من ركوبها في أول مرة، وقال له: إنها بدنة، وقد كان يعلم [أن] (¬1) رسول الله -عليه السلام- يعلم أنها بدنة فكأنه قال: الويل لك في مراجعتك إياي فيما لا تعرفه وأعرفه، قال الأصمعي: "ويل" كلمة عذاب، و"ويح" كلمة رحمة، وجاء في الحديث: "أن ويلًا وادي في جهنم" (¬2). وقال القاضي: وقيل في قوله: "ويلك" تأديبُ مَنْ راجع العَالِم في فتواه بغليظ الكلام. وقد قيل: إن "ويلك" ها هنا قد تكون إغراء بما أمر به من ركوبها، إذْ رآه قد تحرج منه. الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن ابن الحارث بن أبي ذئب المدني، وعجلان هو مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة والد محمد بن عجلان. وأخرجه البزار في "مسنده" (2): ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه سئل عن ركوب البدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة قال: اركبها ويلك أو ويحك". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن عمه موسى بن يسار روى له الجماعة إلَّا البخاري، عن أبي هريرة، وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" عن طريق ابن أبي ذئب به (2/ 473 رقم 10131).

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا الحجاج بن يوسف المعروف بابن الشاعر، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة. قال: اركبها". الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، وهذا أيضًا إسناد صحيح. الخامس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عثمان التبان المدني، وقيل: الكوفي مولى المغيرة بن شعبة، قال أبو حاتم: كوفي شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات" واستشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له في غيره، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبيه أبي عثمان واسمه عمران وقيل: سعد، وقيل: لا يعرف اسمه، استشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له أبو داود والترمذي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الله بن الوليد ومؤمل، قالا: ثنا سفيان، حدثني أبو الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "مرَّ رسول الله -عليه السلام- برجل يسوق بدنة، قال: اركبها، قال: يا رسول الله إنها بدنة، قال: اركبها". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع العيشي البصري، عن معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي البصري، عن أيوب السختياني، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسند" (3/ 75 رقم 11730)، وابن حبان في "صحيحه" (16/ 508 رقم 7467) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) "مسند أحمد" (2/ 464 رقم 9988).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، نا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: "مرَّ النبي -عليه السلام- برجل يسوق بدنة، قال النبي -عليه السلام-: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال أبو هريرة: فلقد رأيته يساير النبي -عليه السلام- وفي عنقها نعل". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: اركبها، وما أنتم مستنين سنة أهدى من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -". ش: يعقوب فيه مقال، والباقي ثقات. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مرّ رسول الله -عليه السلام- برجل، وهو يسوق بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها". حدثنا عبد الله بن محمد بن خُشيش البصري، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا هشيم وشعبة، قالا: ثنا قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان. الأول: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي .. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): نا عمرو الناقد وسريج بن يونس، قالا: نا هشيم، قال: نا حميد، عن ثابت، عن أنس، قال [وأظنني] (¬3) قد سمعته من أنس. وحدثني يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: ثنا هشيم، عن حميد، عن ثابت البناني، عن أنس، قال: "مرَّ رسول الله -عليه السلام- برجل يسوق بدنة، فقال: اركبها. فقال: إنها بدنة، قال: اركبها، مرتين أو ثلاثًا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 278 رقم 7723). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 960 رقم 1323). (¬3) في "الأصل، ك": "وأظنهن".

وأخرجه النسائي (¬1): نا محمد بن المثنى، قال: نا خالد، قال: ثنا حميد، عن ثابت، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- رأى رجلاً يسوق بدنة، وقد جهده المشي، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن كانت بدنة". الثاني: عن ابن خُشيش بالمعجمات وضم الأول، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي البصري القصاب شيخ البخاري، عن هشام الدستوائي وشعبة، كلاهما عن قتادة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام وشعبة، قالا: ثنا قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -ثلاثًا". وأخرجه الترمذي (¬3): نا قتيبة، نا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها. فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال له: -في الثالثة أو الرابعة-: ويحك أو ويلك". وأخرجه ابن ماجه (¬4): ثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن هشام صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- مُرَّ عليه ببدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها. قال: فرأيته راكبها مع النبي -عليه السلام- في عنقها نعل". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل الذي ساق بدنة لمتعة أو قران أن له أن يركبها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وعروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وآخرين من أهل الحديث، فإنهم قالوا: القارن أو المتمتع يجوز له أن يركب بدنته مطلقًا، وفي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 176 رقم 2801). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 606 رقم 1605). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 254 رقم 911). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1036 رقم 3104).

"الاستذكار" ذهب أهل الظاهر إلى جواز ركوب الهدي من ضرورة وغير ضرورة، وبعضهم يوجب ذلك لقول النبي -عليه السلام-: "اركبها". وذهبت طائفة من أهل الحديث أنه لا بأس بركوب الهدي على كل حال. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إنما كان هذا من النبي -عليه السلام- لضرٍّ رآه من الرجل، فأمره بما أمره به لذلك، وهكذا نقول نحن: لا بأس بركوبها في حال الضرورة، ولا يجوز في حال الوجود. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأصحابهم، فإنهم قالوا: لا يُركب الهدي إلَّا عن ضرورة واحتياج إليه، وقال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم في ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: لا يركب ما لم يضطر إليه انتهى. وقال ابن القاسم: فإن ركبها محتاجًا فليس عليه أن ينزل إذا استراح، وقال القاضي إسماعيل: مذهب مالك يدل على أنه إذا استراح نزل، وقال ابن التين: وعن بعض الشافعية والحنفية إن نقصها ركوبه ضمن النقصان. وقال أبو عمر: وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب، أو شرب لبنها فعليه قيمة ما شرب من لبنها وقيمة ما نقصها الركوب. ص: فاحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- أمر بذلك للضرورة كما قالوا، واحتمل أن يكون ذلك لا للضرورة ولكن؛ لأن حكم البدن كذلك تركب في حال الضرورة، وفي حال الوجود، فنظرنا في ذلك فإذا نصر بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا علي ابن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهد، قال: اركبها، قال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال: اركبها".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان والنفيلي، قالا: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا حميد الطويل، عن ثابت، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- رأى رجلاً يسوق بدنة، فكأنه رأى به جهد، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن كانت بدنة". ش: أشار بهذا الكلام إلى أن ما جاء من أمره -عليه السلام- بركوب البدنة مطلقًا فإنه محمول على التقييد بالضرورة والاحتياج إليه، ولكن لأن ما ذكر في الأمر بالركوب في الأحاديث المذكورة يحتمل أن يكون ذلك للضررة كما قاله أهل المقالة الثانية، ويحتمل أن يكون حكم البدنة أنها تركب مطلقًا، فنظرنا في أمر هذين الاحتمالين، فوجدنا بعض الأحاديث المروية في هذا الباب تدل على ترجيح أحد الاحتمالين، وهو ما قاله أهل المقالة الثانية، وذلك في حديث أخرجه من طريقين بإسناد صحيح. الأول: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن حميد الطويل، عن أنس ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): كما ذكرناه فإنه فيه: "وقد جُهِدَ" على صيغة المجهول، أي أعيي وكلّ، وفي رواية النسائي: "وقد جهده المشي" أي غلب عليه وشق، فدلّ ذلك أن أمره المطلق فيما استدلت به الطائفة الأولى محمول على حالة الضرورة. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وعن عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت عن أنس. وأخرجه أحمد (¬2) نحوه. قوله: "جُهدًا" بضم الجيم: مشقة وتعبًا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 176 رقم 2801). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 106 رقم 12059).

ص: وقد روى في حديث ابن عمر حرف يدل على هذا المعنى: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول في الرجل إذا ساق بدنته فَأَعْي: اركبها، وما أنتم بمستنين بسنة هي أهدى من سنة النبي -عليه السلام-". فدل ذلك أيضًا على أن ما أمر به ابن عمر وأخبر أنه سنة محمد -عليه السلام- هو ركوب البدنة في حال الضرورة. ش: أي قد روي في حديث عبد الله بن عمر الذي أخرجه فيما مضى عن قريب عن أحمد بن داود، عن يعقوب بن حميد، عن هشيم، عن الحجاج، عن نافع، عنه حرف، أي لفظة أو كلمة من إطلاق اسم الجزء على الكل وأراد به قوله: "نا يحيى" يدل على هذا المعنى وهو الذي ذكره وأن الركوب مقيد بالعجز والضرورة، فإنه إنما كان يقول لصاحب البدنة: اركبها، إذا رآه قد أعيى وعجز عن المشي ولم يجد غيرها وكان مضرورًا إلى ذلك محتاجًا إليه، وأنه أخبر في حديثه أن ركوب البدنة في حال الضرورة هو سنة محمد -عليه السلام-. وأخرج الحديث هنا عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن هشيم بن بشير، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع ... إلى آخره. فهذا مقيد، وذاك الحديث مطلق، فحمل ذلك المطلق على هذا المقيد، فافهم. ص: ثم التمسنا حكم ركوب الهدي في غير حال الضرورة هل نجد له ذكرًا في غير هذه الآثار؟ فإذا فهد قد حدثنا، قال: ثنا أبو بكر بن أبى شيبة، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريح، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله صالح، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر -في ركوب الهدي- سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا".

فأباح النبي ركوبها في حال الضرورة ومنع من ذلك إذا ارتفعت الضرورة ووجد غيرها، فثبت بذلك أن هكذا حكم الهدي من طريق الآثار، تركب للضرورات وتترك لارتفاع الضرورات. ش: أي ثم طلبنا حكم ركوب الهدي في غير حال الضرورة هل يوجد في غير هذه الأحاديث المذكورة؟ فإذا فهد بن سليمان ... إلى آخره. وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله من ثلاث طرق: الأول: عن فهد، عن أبي بكر بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، عن جابر، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال "سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا". الثاني: عن يزيد بن سنان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر، وعبد الله بن لهيعة فيه مقال، والحديث صحيح. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة ... إلى آخره. وهذا كالذي قبله. وآخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، قال: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: "سألت جابر بن عبد الله عن ركوب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 961 رقم 1324). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 147 رقم 1761).

الهدي، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا". وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. قوله: "إذا ألجئت إليها" أبي إذا اضطررت إليها، أي إلى ركوبها. ص: ثم اعتبرنا حكم ذلك من طريق النظر كيف هو؟ فرأينا الأشياء على ضربين: فمنها: ما الملك فيها متكامل لم يدخله شيء (يزيله) (¬2) عنه شيئاً من أحكام الملك كالعبد الذي لم يدبره مولاه، وكالأمة التي لم تلد من مولاها، وكالبدنة التي لم يوجبها صاحبها، فكل ذلك جائز بيعه وجائز الاستمتاع به وجائز تمليك منافعه بإبدال وبلا إبدال. ومنها: ما قد دخله شيء منع من بيعه ولم يُزل عنه حكم الانتفاع به، من ذلك: أم الولد التي لا يجوز لمولاها بيعها، والمدبر -في قول من لا يرى بيعه- فذلك لا بأس بالانتفاع به وبتمليك منافعه التي لربِّه أن ينتفع بها بإبدال وبلا إبدال، وكان ما له أن ينتفع به فله أن يملك منافعه من شاء بإبدال وبلا إبدال. ثم رأينا البدنة إذا أوجبها ربها كلٌ قد أجمع أنه لا يجوز له أن يؤجرها ألَّا يتعوض بمنافعها بدلاً، فكما كان ليس له له تمليك منافعها ببدل كان كذلك ليس له الانتفاع بها ولا يكون له الانتفاع بشيء إلَّا شيء له التعوض بمنافعه إبدالًا منها، فهذا هو النظر أيضًا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي ثم اعتبرنا حكم ركوب الهدي من طريق النظر والقياس، ووجهه ظاهر. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 177 رقم 2802). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "يزيل".

قوله: "ما الملك فيه متكامل" كلمة "ما" موصولة مبتدأ، وقوله: "الملك فيه متكامل" جملة صلتها. وقوله: "لم يدخله شيء" خبر المبتدأ. قوله: "جائز تمليك منافعه بإبدال" كالإِجازة. قول: "وبلا إبدال" كالعادة. قوله: "والمدبر في قول من لا يرى بيعه" وأراد بهم الحنفية؛ فإنهم لا يجوزون بيع المدبر، ولكن المدبر المطلق وهو الذي علق عتقه بالموت من غير تعرض بصفة كقوله: أنت حر بعد موتى أو إن مت فأنت حر، وعند مالك والشافعي وأحمد يجوز بيعه، وسيجيء الكلام فيه في بابه إن شاء الله. قوله: "وكلٌ قد أجمع" أي كل العلماء قد أجمعوا، والله أعلم. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين، حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة -أراه- عن مغيرة، عن إبراهيم: "قال: لا تشرب لبن البدنة ولا تركبها إلَّا أن تضطر إلى ذلك". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: "البدنة إذا احتاج إليها سائقها ركبها ركوبًا غير فادح". حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء مثله. ش: أي وقد رُوي ما ذكرنا من إباحة ركوب البدنة عند الضرورة عن جماعة من التابعين، وأخرج في ذلك عن ثلاثة منهم، وهم: إبراهيم النخعي، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، ورجالها كلهم ثقات، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وحجاج هو ابن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وليث وهو ابن سعد المكي.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبد الصمد، عن حماد [بن] (¬2) سلمة، عن هشام، عن أبيه: "قال في البدنة: إذا احتاج إليها سائقها ركبها غير فادح، ويشرب فضل ريِّ ولدها". قوله: "إلا أن تضطر إلى ذلك" إشارة إلى الركوب، يعني إذا احتاج إلى الركوب يركبها بالمعروف، وقيل: يجوز أن تكون الإِشارة إلى الجميع، يعني إلى الشرب والركوب، يعني إذا احتاج إلى شرب لبنها أيضًا يشربها، ولكن عليه القيمة عند أبي حنيفة والشافعي. وقال أبو عمر: كره مالك شرب لبنها بعد ري فصيلها، فإن فعل شيئاً من ذلك فلا شيء عليه. وعن مجاهد (¬3): "إن احتاج إلى اللبن شرب، وإن احتاج إلى الركوب ركب، وإن احتاج إلى الصوف أخذ". وعن الشعبي (¬4): "لا يشرب من لبنها إلَّا أن يرمل". وعن عروة (¬5): "إذا احتاج إلى الركوب ركبها غير فادح، ويشرب فضل ريّ ولدها". وعن عطاء (¬6): "إن احتاج إلى ظهرها ركب وحمل عليها بالمعروف". وكل ذلك أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه". قوله: "غير فادح" نصب على الحال من الضمير المرفوع في "ركبها" أبي غير مثقل عليها، من فدحه بالفاء إذا أثقله، وقال الجوهري: فدحه الدين: أثقله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 359 رقم 14920). (¬2) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "المصنف". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 359 رقم 14926). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 360 رقم 14928). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 359 رقم 14290). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 359 رقم 14921).

ص: وقد رُوي عن المتقدمين في قول الله -عز وجل- {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬1) حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد. وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، عن سفيان وحبان عن حماد، كلاهما عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬2) قال: في ظهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: نا حجاج، قال: نا حماد، قال: أنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) قال: هي الإِبل ينتفع بها حتى تقلد". حدثنا أبو بكر قال ثنا أبو داود قال ثنا ورقاء عن منصور عن إبراهيم {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) قال: إن احتاج ظهرها ركب، وإن احتاج لبنها شرب، يعني البدن". ش: أخرج التفسير المذكور عن مجاهد وإبراهيم النخعي، أما مجاهد فمن ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري وحبان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- عن ابن هلال، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد. الثالث: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [33]. (¬2) سورة الحج، آية: [32].

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو خالد، عن الحجاج، عن القاسم، عن مجاهد: " {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬2) قال: في ألبانها وظهورها وفي أوبارها حتول تسمى بدنًا، فإذا سميت بدنا فمحلها إلى البيت العتيق". قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يَعْتَدُّ الله بالمنافع الدينية قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (¬3) وأعظم هذه المنافع وأبعدها شرطًا في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬4) والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت. قوله: "إلى أجل مسمى" أي إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها. وأما عن إبراهيم فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن ورقاء بن عمر اليشكري أبي بشر الكوفي، روى له الجماعة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 359 رقم 14917). (¬2) سورة الحج، آية: [33]. (¬3) سورة الأنفال، آية: [67]. (¬4) سورة المائدة، آية: [95].

ص: باب: ما يقتل المحرم من الدواب

ص: باب: ما يقتل المحرم من الدواب ش: أي هذا باب في بيان ما يجوز للمحرم أن يقتل من الدواب؟ وهو جمع دابة، قال صاحب "المنتهى": كل ماشٍ على الأرض دابة ودبيت، والهاء للمبالغة، والدابة في التي تركب أشهر. وفي "المحكم": الدابة تقع على المذكر والمؤنث، وحقيقته الصفة. وقال الجوهري: دَبَّ على الأرض يدب دبيبًا، وكل ماشٍ على الأرض دابة ودبيب، والدابة التي تركب. قلت: الدابة في الأصل لكل ما يدب على وجه الأرض، ثم نقله العرف العام إلى ذات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، ويسمي هذا منقولًا عرفيًّا، كما يسمي نحو الصلاة والصيام: منقولًا شرعيًّا، لأنهما في الأصل للدعاء ومطلق الإِمساك، ثم نقله الشرع إلى الأركان المخصوصة والإِمساك المخصوص مع النية، وكما تسمي اصطلاحات النحاة والنظار منقولًا اصطلاحيًّا. وقال ابن خالويه: ليس في كلام العرب تصغير بالألف إلَّا حرفان ذكره الشيباني عن أبي عمرو الهذلي: دوابة تصغير دويبة وهداهد بمعنى هديهد. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا وهيب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحداءة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا، وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 649 رقم 1730).

ومسلم (¬1): عن يحيى، عن مالك. وأخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- أذن في قتل خمس من الدواب للمحرم: الغراب، والحداءة، والفأرة، والكلب العقور، والعقرب". قوله: "جناح" أي إثم وحرج. قوله: "الغراب" أي أحدها الغراب، قال أبو المعالي: هو واحد الغربان، وجمع القليل: أغربة، ويجمع على غُرُب أيضًا، وفي "الجامع" ويجمع على أغرب أيضًا، وفي "المحكم" غرابين جمع الجمع، وقيل: سمى غرابًا لأنه نأى واغترب لمَّا نوح -عليه السلام- يستخبر أمر الطوفان، وفي كتاب "الحيوان" للجاحظ: الغراب الأبقع غريب، وهو غراب البين، وكل غراب فقد يقال له: غراب البين إذا أرادوا به الشؤم إلَّا غراب البين نفسه، فإنه غراب صغير، وإنما قيل لكل غراب: غراب البين لسقوطه في مواضع منازلهم إذا بانوا، وناس يزعمون أن تسافدها على غير تسافد الطير وأنها تزاقُّ بالمناقير وتلقح من هنالك، وفي "الموعب" الغراب الأبقع هو الذي في صدره بياض، وفي "المحكم" غراب أبقع يخالط سواده بياض، وهو أخبثها، وبه يضرب المثل لكل خبيث، وقال أبو عمر: هو الذي في بطنه وظهره بياض، وذكر صاحب "الهداية": المراد بالغراب آكل الجيف، وهو الأبقع، روي ذلك عن أبي يوسف. قوله: "والحداءة" بكسر الحاء وبعد الدال ألف ممدودة بعدها همزة مفتوحة، وجمعها "حِدَء" مثل عِنب و"حدّان" كذا في "الدستور" وقال الجوهري: ولا يقال: حَدَاه، وفي "المطالع" الحداءة لا يقال فيها إلَّا بكسر الحاء، وقد جاء الحِدَاء يعني بالفتح وهو جمع حَداءة أو مذكرها، وجاء الحُدَيَّا على وزن الثريَّا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 858 رقم 1199). (¬2) "المجتبى" (5/ 189 رقم 2830).

قوله: "والعقرب" قال ابن سيدة: "العقرب" للأنثى: عقربة، والعقربان للذكر منها، وفي "المنتهى": الأنثى "عقرباء" ممدود غير مصروف، وقيل: "العقربان" دويبة كثيرة القوائم غير العقرب، وعقربة شاذة، ومكان معقرب بكسر الراء -ذو عقارب، وأرض معقربة، وبعضهم يقول: معقرة كأنه ردَّ العقرب إلى ثلاثة أحرف، ثم بنى عليه، وفي "الجامع": ذكر العقارب عُقْربان والدابة الكثيرة القوائم عقرَّبان بتشديد الباء. قوله: "والفأرة" واحدة الفئران والفئرة، ذكره ابن سيدة، وفي "الجامع": أكثر العرب على همزها. قوله: "الكلب العقور" ذكر أبو عمر: أن ابن عيينة قال: هو كل سبع يعقر، ولم يخص الكلب، قال سفيان: وكذا فسره لنا زيد بن أسلم، وكذا قال أبو عُبيد، وعن أبي هريرة: الكلب العقور الأسد، وعن مالك: هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم، مثل: الأسد والنمر والفهد، فأما ما كان من السباع لا يعدو، مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه، وزعم النووي أن العلماء اتفقوا على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو الكلب المعروف، حكاه عياض عن أبي حنيفة والأوزاعي والحسن بن حيّ، وألحقوا به الذئب، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده، وذهب الشافعي والثوري وأحمد وجمهور العلماء إلى أن المراد كل مفترس غالبًا. قال أبو المعاني: جمع الكلب أكلب وكلاب وكليب وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد إلَّا القليل نحو عبد وعبيد، وجمع الأكلب أكالب، وفي "المحكم" وقد قالوا في جمع كلاب: كلابات، والكالب كالجامل جماعة الكلاب، والكلبة أنثى الكلاب وجمعها كلبات ولا يكسَّر. واستفيد من الحديث: جواز قتل هذه الخمسة من الدواب للمحرم، فإذا أبيح للمحرم فللحلال بالطريق الأولى، أما الغراب فقد قلنا المراد به الأبقع وهو الذي يأكل الجيف، كما قال صاحب "الهداية" وقال القرطبي: هذا تقييد لمطلق الروايات التي ليس فيها

الأبقع، وبذلك قالت طائفة، فلا يجيزون إلَّا قتل الأبقع خاصة، وطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب. قلت: روى مسلم (¬1) عن ابن مثنى وابن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدئا" فالروايات المطلقة محمولة على هذه الرواية المقيدة، وذلك لأن الغراب إنما أبيح قتله لكونه يبتدئ بالأذى ولا يبتدئ بالأذى إلَّا الغراب الأبقع، أما الغراب غير الأبقع فلا يبتدئ بالأذى فلا يباح قتله كالعقعق وغراب الزرع، ولأن الغراب الأبقع يأكل الجيف ويقع على وبر البعير وصاحبه قريب منه بخلاف غيره فإنه لا يأكل الجيف. فإن قيل: قال ابن بطال: هذا الحديث لا يعرف إلَّا من حديث سعيد ولم يروه عنه غير قتادة وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم هذا القيد، مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة -رضي الله عنهم- فلا حجة فيه حينئذ. قلت: هذا الذي ذكره ليس بعلة يرد بها الحديث. وقوله: "مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة" غير صحيح إذ لا معارضة بين الحديثين وإنما هما مطلق ومقيد، فحمل المطلق على المقيد كما ذكرنا، وقال ابن بطال أيضًا: روى عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا: لا يقتل الغراب ولكن يرمي قال: وهذا خلاف السنة. قلت: روي عن محمد بن الحنفية، عن علي -رضي الله عنه-: "يقتل الغراب الأبقع، ويرمى الغراب تخويفًا، وأما الغراب الذي يأكل الزرع فهو الذي يرمى ولا يقتل، وهو الصفة الذي استثناه مالك من جملة الغربان، قال القشيري: في قتله قولان للمالكية: أشهرها القتل لعموم الحديث، وأما منع القتل فإنه اعتبر الصفة التي علل ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 856 رقم 1198).

بها القتل وهو الفسق على ما يشهد به إيماء اللفظ، وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة، والحكم يزول بزوال علته، وعن أبي مصعب فيما ذكره ابن العربي: في الغراب والحدأة وإن لم يبدءا بالأذى ويؤكل لحمهما عند مالك، ورُوي عنه المنع في المحرم سدًّا لذريعة الاصطياد، قال أبو بكر: وأصل المذهب ألَّا يقتل من الطير إلَّا ما آذى بخلاف غيره فإنه يقتل ابتداء، وقال أبو عمر: الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض، وكذلك الكلب الأبقع أيضًا، والغراب الأذرع، والذرعى هو الأسود، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين وكذلك الوَعِلُ عصمته بياض في رجليه، وقال مجاهد: يرمى الغراب ولا يقتله، وقال به قوم، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري (¬1): "أن النبي -عليه السلام- سئل عما يقتله المحرم، فقال: الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله" وقال أبو عمر: حديث عبد الرحمن بن [أبي أنعم] (¬2) عن أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام- أنه قال في الغراب: "يرميه المحرم ولا يقتله" فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر وسالم عن ابن عمر أنه أباح للمحرم قتل الغراب، وقال أبو عمر: احتج من كره أكل الغراب وغيره من الطير التي تأكل الجيف ومن كره أكل هوام الأرض أيضًا بحديث النبي -عليه السلام- هذا "أنه أمر بقتل الغراب والحدأة والعقرب والحية والفأرة"، قال: وكل ما أمر رسول الله -عليه السلام- بقتله فلا يجوز أكله، هذا قول الشافعي وأبي ثور وداود، وقال مالك: لا بأس بأكل سباع الطير كلها، الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل، قال: ولا بأس بأكل لحوم الدجاج الجلالة وكل ما يأكل الجيف، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلَّا أنهم يكرهون الرخم، وقال مالك: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت، وهو قول: ابن أبي ليلى والأوزاعي، إلَّا أنهما لم يشترطا فيها الزكاة، وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس بأكل الضبع (*)، وقال ابن القاسم: لا بأس بأكل ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 170 رقم 1848). (¬2) في "الأصل، ك": "منعم"، وهو تحريف، والمثبت من "التمهيد" (15/ 173). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، وهو خطأ ظاهر، وصوابه: الضفدع، وقد وردت على الصواب في طبعة المنهاج (12/ 418)، وانظر المدونة (1/ 115)، وقال مالك في الضبع: لَا أُحِبُّ أَكْلَ الضَّبُعِ وَلَا الذِّئْبِ وَلَا الثَّعْلَبِ وَلَا الْهِرِّ الْوَحْشِيِّ وَلَا الْإِنْسِيِّ وَلَا شَيْئًا مِنْ السِّبَاعِ. انظر المدونة (1/ 541)، وانظر (3/ 148).

خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك، وقال مالك: لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه، وأما الحداءة فإنه يجوز قتلها سواء كان للمحرم أو للحلال لأنها تبتدئ بالأذى وتخطف اللحم من أيدي الناس، وروي عن مالك في الحداءة والغراب أنه لا يقتلهما المحرم إلَّا أن يبتدئا بالأذى، والمشهور من مذهبه خلافه، وأما العقرب فإنه يجوز قتله مطلقًا حتى في الصلاة، لأنه يقصد اللدغ ويتبع الحسَّ، وذكر أبو عمر عن حماد بن أبي سليمان والحكم أن المحرم لا يقتل الحية ولا العقرب. رواه عنهما شعبة، قال: وحجتهما أنهما من هوام الأرض، وقال القاضي: لم يختلف في قتل الحية والعقرب، ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم وقال أبو عمر: لا خلاف عند مالك وجمهور العلماء في قتل الحية والعقرب في الحل والحرم وكذلك الأفعى. وأما الفأرة فإنه يجوز قتلها مطلقًا، وقال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرم الفأرة، إلَّا النخعي فإنه منع المحرم من قتلها، وهو قول شاذ، وقال القاضي: وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يقتل المحرم الفأرة فإن قتلها فداها، وهذا خلاف النص، فافهم. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن العجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- بنحو حديث مالك والليث، يعني أن رسول الله -عليه السلام- قال: "خمس من الدواب يقتلن في الحرم: العقرب والحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور" إلَّا أنه قال في حديثه: "والحية والذئب والكلب العقور". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا زهير بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "الكلب العقور: الأسد". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا حفص بن ميسرة، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن ابن سيلان، عن أبي هريرة مثله.

ش: هله ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الشافعي المصري روى له الجماعة، عن محمد بن عجلان المدني، احتجت به الأربعة، عن القعقاع بن حكيم الكناني المصري روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح، عن أبي صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا علي بن بحر، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور". والثاني: عن محمد بن خزيمة، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن محمد التميمي العنبري أبي المنذر الخرساني الخَرَقي من أهل قرية من قرى مرو تسمى خَرَق روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه أبو عمر نحوه (¬2). الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور الخرساني شيخ مسلم وأبي داود، عن حفص بن ميسرة العقيلي الثقة، عن زيد بن أسلم، عن ابن سيلان بكسر السين المهملة وسكوت الياء آخر الحروف وهو عبد ربه بن سيلان وثقه ابن حبان وقال: عداده في أهل الكوفة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: الكلب العقور الذي أباح النبي -عليه السلام- قتله هو الأسد، وكل سبع عقور فهو داخل في ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 170 رقم 1847). (¬2) "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 170).

وأبا عُبيد القاسم بن سلام ومالكًا -في رواية- والشافعي وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الكلب العقور هو الأسد، وكل سبع عقور فهو داخل في الحكم المذكور، وقال أبو عمر عن مالك: الكلب العقور هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد، وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الكلب العقور هو الكلب المعروف، وليس الأسد منه في شيء، وقالوا: ليس في حديث أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- أن الكلب العقور هو الأسد، وإنما ذلك من قول أبي هريرة-رضي الله عنه-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والحسن ابن يحيى وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الكلب العقور هو الكلب المعروف، وإنما أبيح قتله لأن من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء من حيث الغالب ولا يكاد يهرب من بني آدم حتى إن الأسد أو الذئب أو الفهد أو النمر إذا عدا على المحرم فله أن يقتله وليس عليه شيء. قوله: "وقالوا" أي هؤلاء الآخرون "ليس في حديث أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- أن الكلب العقور هو الأسد وإنما هو من كلام أبي هريرة" إنما قال ذلك لأن الأسد يعقر الناس ويعدو عليهم ويخيفهم كما أن الكلب العقور كذلك، وقد قلنا إن كل حيوان مفترس إذا عدا على المحرم وأخافه يصير حكمه حينئذ حكم الكلب العقور، فلا وجه إذن في تخصيص الأسد بالحكم المذكور. ص: وقد وجدنا عن رسول الله -عليه السلام- نصًّا ما يدفع ذلك، وهو ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عُبيد بن عمير، أن عبد الرحمن بن أبي عمار أخبره، قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، فقلت: آكلها؟ قال: نعم، قال: أصيد هي، قال: نعم، قلت: سمعت ذلك عن النبي -عليه السلام- فقال نعم".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حسان وشيبان وهدبة، قالوا: ثنا جرير بن حازم (ح). وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو غسان (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال قالا: ثنا جرير، قال: ثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: ثنا ابن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن الضبع، فقال: هي من الصيد، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا". حدثنا هارون بن كامل، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، قال: ثنا إسماعيل بن أمية وابن جريج وجرير بن حازم، أن عبد الله بن عُبيد بن عمير حدثهم، قال: ثنا ابن أبي عمار: "أنه سأل جابر بن عبد الله عن الضبع، فقال: آكلها؟ فقال: نعم، قلت: أصيدهي؟، قال: نعم، قلت: أسمعت ذلك من رسول الله -عليه السلام-؟ قال: نعم". حدثنا يزيد، قال: ثنا حبان (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي قالا: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ عن عطاء، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله، وزاد: "وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا مسنًّا وتؤكل". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "قضى في الضبع إذا قتلها المحرم بكبش". فلما كانت الضبع هي سبع ولم يبح النبي -عليه السلام- قتلها، وجعلها صيدًا، وجعل على قاتلها الفداء؛ دَلَّنَا ذلك على أن الكلب العقور ليس هو السبع، وبطل بذلك ما ذهب إليه أبو هريرة، وكان الكلب العقور هو الكلب الذي تعرفه العامة. ش: أي قد وجدنا عن النبي -عليه السلام- نصًّا صريحًا يدفع ما ذكره أهل المقالة الأولى من قولهم: الكلب العقور هو الأسد وكل عقور من السباع، محتجين بقول أبي هريرة،

بيان ذلك أن الضبع سبع، لأن السبع حيوان مفترس جارح، فكذلك الضبع يفترس ويجرح غالبًا، والنبي -عليه السلام- لم يبح قتلها في حديث جابر، وجعلها من جملة الصيود، وأوجب على قاتلها الجزاء، فدل ذلك على أن الكلب ليس هو السبع، وكان هو الذي يعرفه الناس ويعهدونه، لا كما ذهب إليه أبو هريرة. ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله من ثماني طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن محمد بن بكر بن عثمان البرساني شيخ أحمد وابن معين الثقة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الله بن عُبيد بن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر الليثي المكي، عن عبد الرحمن بن أبي عمار المكي الملّقب بالقس لعبادته، عن جابر بن عبد الله. وهذا الإِسناد على شرط مسلم، وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أنا ابن جريج، عن عبد الله بن عُبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار، قال: "قلت لجابر: الضبع أصيد هو؟ قال: نعم. قال: قلت: آكله؟ قال: نعم، قال: قلت له: أقاله رسول الله -عليه السلام-؟ قال: نعم" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الثاني: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال، وشيبان بن فروخ الأيلي شيخ مسلم وأبي داود، عن هُدبة بن خالد شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، ثلاثتهم عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن عبد الله الخزاعي، قال: نا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله، قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع، فقال: هو صيد، ويُجعل فيه كبش إذا صاده المحرم". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 207 رقم 851). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 355 رقم 3801).

الثالث: عن علي بن شيبة، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عمير ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عمير ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن جرير ... إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬2): نا محمد بن القاسم بن زكريا، نا أبو كريب، ثنا قبيصة، عن جرير بن حازم، حدثني عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر بن عبد الله قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن الضبع، فقال: هي صيد، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا". الخامس: عن هارون بن كامل الفهري، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص المكي، وعبد الملك بن جريج، وجرير بن حازم، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمير ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا عبد الله بن رجاء المكي، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار وهو عبد الرحمن: "قال سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أشيء سمعت من رسول الله -عليه السلام-؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 254 رقم 13960). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 246 رقم 48). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1078 رقم 3236).

السادس: عن يزيد بن سنان، عن حبان بن هلال، عن حسان بن إبراهيم بن عبد الله الكرماني أحد أصحاب أبي حنيفة، عن إبراهيم بن ميمون الصائغ المروزي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حسان بن إبراهيم، نا إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، قال رسول الله -عليه السلام-: "الضبع فكلها وفيها كبش سمين إذا أصابها المحرم". السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حسان بن إبراهيم الصائغ ... إلى آخره. الثامن: موقوف، عن صالح بن عبد الرحمن .. إلى آخره. ورجاله رجال الصحيح ما خلا عبد الرحمن. ويستفاد من هذا الحديث شيئان: أحدهما: كون الضبع صيدًا فلا يجوز للمحرم قتله، ولو قتله يجب عليه الجزاء، وعن الشافعي قولان، أصحهما الوجوب. والآخر: كون الضبع مما يؤكل، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وعند أبي حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك لا يؤكل الضبع، وقال الأوزاعي: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها، واستدلت الحنفية على ذلك بنهيه -عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع، وقالوا: الضبع لها ناب فهي من السباع، وكذلك الخلاف في الثعلب، وقالوا: حديث جابر منسوخ، وسيأتي تحقيق الكلام في بابه إن شاء الله تعالى. ص: فإن قال قائل: فلم تبيحون قتل الذئب؟ قيل له: لأن النبي -عليه السلام- قال: "خمس من الدواب يقتلن في الحرم والإِحرام فذكر الخمس ما هن، فَذِكْرُ الخمس ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 183 رقم 9655).

يدل على أن غير الخمس حكمه غير حكمهن وإلَّا لم يكن لذكر الخمس معنى، فالذين أباحوا قتل الذئب أباحوا قتل جميع السباع، والذين منعوا قتل الذئب حظروا قتل سائر السباع غير الكلب العقور خاصة، وثبت خروج الضبع من القتل، ولم يكن كلبًا عقورًا وثبت أن الكلب العقور هو الكلب الذي تعرفه العامة. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن العلة في قتل الكلب العقور هو عدوه على بني آدم وابتداؤه بالأذى، فهذا المعنى موجود في الذئب بل الذئب أحرئ من الكلب في ذلك، فكان ينبغي أن يباح قتل الذئب للمحرم كالكلب العقور، حتى أن زفر حمل الكلب العقور على الذئب. وتقدير الجواب أن النبي -عليه السلام- نص على قتل خمس من الدواب في الحرم والإِحرام، وبين الخمس ماهن، فدل هذا أن حكم غير هذه الخمس غير حكم الخمس، وإلَّا لم يكن لتنصيصه على الخمس فائدة، فالذئب خارج من الخمس، فلا يباح قتله إلَّا إذا بدأنا بالأذى، وقال عياض: ظاهر قول الجمهور أن المراد أعيان ما سمي في هذا الحديث، وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة، ولهذا قال مالك: لا يقتل المحرم الوزغ، وإن قتله فداه، ولا يقتل خنزيرًا ولا قردًا مما لا يطلق عليه اسم كلب في اللغة، إذ جعل الكلب صفة فيه لا اسمًا، وهو قول كافة العلماء، وإنما قال رسول الله -عليه السلام- خمس، فليس لأحد أن يجعلهن ستًّا ولا سبعًا، وقال أيضًا: مالك والشافعي يريان أن التحريم متعلق بمعاني هذه الخمس دون أسمائها، وأنها إنما ذكرت لينبه بها على ما يشاركها في العلة ولكنهما اختلفا في العلة ما هي؟ فقال الشافعي: العلة أن لحومها لا تؤكل، وكذلك كل ما لا يؤكل لحمه في الصيد مثلها، ورأى مالك أن العلة كونها مضرة لينبه به على ما يضر الأبدان، على جهة المواجهة والمغالبة، وذكر العقرب لينبه به على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس، وكذلك ذكر الحدأة والغراب، للتنبيه على ما يضر بالأموال مجاهرة، وذكر الفأرة للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاء.

قوله: "فالذين أباحوا" أي القوم الذين أباحوا قتل الذئب للمحرم وأراد بهم: الثوري والشافعي وأحمد وابن عيينة وزيد بن أسلم، فإنهم قالوا: لفظة الكلب لم تختص بالاسم، وإنما ينطلق على كل عادٍ مفترس غالبًا كالسباع والفهد والذئب. قوله: "والذين منعوا" أي القوم الذين منعوا، وأراد بهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي. قوله: "حظروا" أي منعوا، من قولهم: حظرت الشيء إذا منعته، وهو في الأصل راجع إلى المنع، لأن الحظر هو المنع، قال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (¬1) أي ممنوعًا. ص: فأما ما رُوي عن النبي -عليه السلام- فيما يقتل في الإِحرام والحرم، فما حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي وأحمد بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: قالت حفصة -رضي الله عنها-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس من الدواب يقتلهن المحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور". حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، أن عبد الله بن عمر قال: قالت حفصة: قال رسول الله -عليه السلام- ... ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن عيسى بن إبراهيم ... إلى آخره، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وأخرجه البخاري (¬2): حدثني أصبغ، قال: أخبرني عبد الله بن وهب، عن ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء، آية: [20]. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 649 رقم 1731).

يونس ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن" والباقي نحوه. وأخرجه مسلم (¬1): عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن. وأخرجه الطبراني (¬2): نا مسعدة بن سعد العطار المكي، نا إبراهيم بن المنذر الحزامي، نا عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحو رواية البخاري. وقال أبو عمر: رواية نافع عن ابن عمر مقتصرة على إباحة قتل الخمسة للمحرم في حال إحرامه في الحل والحرم جميعًا، وفي رواية سالم: "لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم" وهذا أعم، لأنه يدخل فيه المحرم وغير المحرم، ومعلوم أنه ما جاز للمحرم قتله فغير المحرم أحرى أن يجوز ذلك له لكن لكل وجه منها حكم، وفي رواية أيوب: "قيل لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك في قتلها"، وفي لفظ "لا يختلف في قتلها" قال أبو عمر: وليس كما قال نافع؛ قد اختلف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم، ولكنه شذوذ، وليس في حديث ابن عمر عن أحد من الرواة ذكر الحية، وهو محفوظ من حديث عائشة وأبي سعيد وابن مسعود -رضي الله عنه-. قلت: فيه نظر؛ لأن الييهقي (¬3) روى من حديث حجاج بن أرطاة، عن وبرة، سمع ابن عمر يقول: "أمر رسول الله -عليه السلام- بقتل الذئب والفأرة والحدأة، فقيل: أين الحية والعقرب؟ فقال: قد كان يقال ذلك". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 858 رقم 1200). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 194 رقم 333). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 210 رقم 9822).

زيد بن جبير: "أن رجلاً سأل ابن عمر -رضي الله عنهما- عما يقتل المحرم؟ قال: أخبرتني إحدى نسوة رسول الله -عليه السلام- إنه كان يأمر ... " ثم ذكر مثله. ش: إسناده صحيح، ومحمد بن خزيمة بن راشد، وحجاج هو ابن منهال شيخ البخاري، وأبو عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، وزيد بن جبير بن حرمل الطائي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): نا مسدد، نا أبو عوانة، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "حدثتني إحدى نسوة النبي -عليه السلام- عن النبي -عليه السلام- يقتل المحرم ... ". وأخرجه مسلم (¬2) نا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: ثنا زيد بن جبير: "أن رجلاً سأل ابن عمر ما يقتل المحرم من الدواب، فقال: أخبرني إحدى نسوة النبي -عليه السلام- أنه أقر أو أمر أن يقتل الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب". فإن قيل: زيد بن جبير لم يسمع من عبد الله بن عمر، قال العجلي: زيد بن جبير ثقة ليس بتابعي، في عداد الشيوخ. قلت: قد خرّج البخاري في روايته بسماعه عن ابن عمر، وقد ذكرناه الآن. ص: حدثنا محمد بن عمرو قال: ثنا أسباط بن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "سئل النبي -عليه السلام- ما يقتل المحرم ... " فذكر مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا وهيب، قال ثنا أيوب (ح). وحدثنا يزيد، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 649 رقم 1730). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 858 رقم 1200).

حدثنا يزيد، قال: ثنا شيبان، قال: ثنا جرير، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال شعبة: قلت عن النبي -عليه السلام-؟ قال: نعم، وهو متثاقل مثله. ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: [...] (¬1). الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن علي بن حماد البصري المعروف بالنرسي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن وهيب بن خالد عن أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا زياد بن أيوب، قال: نا ابن علية، قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "قال رجل: يا رسول الله، ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا؟ قال: خمس لا جناح على من قتلهن: الحدأة، والغراب، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك، ح". (¬2) "المجتبى" (5/ 190 رقم 2833).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو كامل، قال: نا حماد، قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ... نحوه. الرابع: عن يزيد أيضًا، عن شيبان بن فروخ شيخ مسلم وأبي داود، عن جرير بن حازم، عن نافع عن ابن عمر. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ... نحوه. السادس: عن يزيد بن سنان، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا إسحاق، نا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم فلا جناح عليه: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة". السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. قوله: "وهو متناقل" جملة وقعت حالاً من عبد الله بن دينار. وقوله: "مثله" أي مثل الحديث المذكور، يتعلق بقوله: "حدثنا" وليس بمتعلق بقوله "وهو متثاقل". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -عليه السلام- ... مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 859 رقم 1199). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 65 رقم 5324). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 138 رقم 6228).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "الغراب الأبقع". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الكلب العقور، والفأرة، والحدأة، والعقرب، والغراب". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبو عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-: "ليقتل المحرم الفأرة والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور". وفي رواية: "والحية". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن شيبة، قال: نا غندر، عن شعبة (ح). ونا ابن مثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحُديَّا". وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 351 رقم 14836). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 856 رقم 1198). (¬3) "المجتبى" (5/ 208 رقم 2885). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1031 رقم 3087).

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: نا حماد -وهو ابن زيد- قال: نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "خمس فواسق يقتلن في الحرم: العقرب، والفأرة، والحُديا، والغراب، والكلب العقور". وأخرجه البخاري (¬2): عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة ... نحوه. قوله: "فواسق" جمع فاسقة، ومعنى تسميتها فواسق أن أصل الفسق في كلام العرب: الخروج، ومنه سمي الفاسق لخروجه عن أمر الله وطريق طاعته، فسميت هذه الخمس فواسق لخروجها عن الحرمة التي لغيرهن، وأن قتلهن للمحرم وفي الحرم مباح. وقال الفراء: سميت الفأرة بذلك لخروجها من جحرها. وقال ابن قتيبة: سمي الغراب بذلك لتخلفه عن نوح -عليه السلام- حين أرسله ليأتيه بخبر الأرض، فترك أمره ووقع على جيفة، ويقال: إنه يقع على وبر البعير وينقب الفراء، ويقال: سميت الحدأة بذلك لأنها تغير على اللحم وكرش والعقرب لأنه يتبع الحس ويلدغ اختلاسًا، والفأرة لأنها تسرق أموال الناس وتفسد بضائعهم، والكلب العقور لأنه من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء، ولا يكاد يترك من بني آدم. ص: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 857 رقم 1198). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 650 رقم 1732).

رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "يقتل المحرم الحية والعقرب والفأرة والفويسقة. قال يزيد: وعدّ غير هذا فلم أحفظ، قال قلت: ولم سميت الفأرة الفويسقة؟ قال: استيقظ رسول الله -عليه السلام- ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتُحَرِّق على رسول الله -عليه السلام-، فقام إليها فقتلها، وأحل قتلها لكل محرم أو حلال". ش: علي بن معبد بن شداد العبدي أحد أصحاب محمد بن الحسن، وثقه أبو حاتم، وموسى بن أعين الجزري أبو سعيد الحراني روى له الجماعة سوى الترمذي، ويزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة، وابن أبي نعم هو عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكوفي العابد روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو كريب، نا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "يقتل المحرم الحية والعقرب والسبع العادي والكلب العقور والفأرة الفويسقة، فقيل له: لم قيل لها الفويسقة؟ قال: لأن رسول الله -عليه السلام- استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت". وأخرجه أبو داود (¬2): نا أحمد بن حنبل، نا هشيم، قال: أنا يزيد بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- سئل عما يقتل المحرم، قال: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويَرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي". وأخرجه الترمذي (¬3) مختصرًا: نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: نا يزيد بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1032 رقم 3089). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 170 رقم 1848). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 198 رقم 838).

أبي زياد، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- قال: "يقتل المحرم السبع العادي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ص: فهذا ما أباح النبي -عليه السلام- للمحرم قتله في إحرمه، وأباح للحلال قتله في الحرم، وعدَّ ذلك خمسًا، فذلك ينفي أن يكون (أشكال) (¬1) شيء من ذلك كحكم هذه الخمس إلَّا ما اتفق عليه من ذلك أن النبي -عليه السلام- عناه. ش: أي فهذا المذكور وهو الخمس الفواسق التي أباح النبي -عليه السلام- قتلها في الحل والحرم للمحرم والحلال، ونص عليها بالعدد، والتنصيص عليها بالعدد ينافي أن يكون أشكال شيء أي أنظاره وأمثاله كحكم هذه الخمس، ألا ترى أنه ذكر الحدأة والغراب وهما من ذي المخلب من الطيور وعينهما؛ فلا يلحق بهما سائر ذوي المخالب من الطيور، كالصقر والبازي والشاهين والعقاب ونحو ذلك، وهذا بلا خلاف. فإن قلت: التنصيص على الشيء باسمه العلم لا يقتضي الخصوص سواء كان المنصوص عليه باسم العدد مقرونًا أو لم يكن، فكيف تقول فذلك ينفي أن يكون أشكال شيء من ذلك كحكم هذه الخمس؟ قلت: هذا الباب فيه خلاف، فذهب قوم إلى أن المنصوص إذا كان مقرونًا بالعدد، يدل على نفي الحكم عن غيره، لأن في إثبات الحكم في غيره إبطال العدد المنصوص، وذا لا يجوز، كما في قوله -عليه السلام-: "أحلت لنا ميتتان ودمان .. " الحديث (¬2) فيحتمل أن يكون الطحاوي قد ذهب إلى هذا المذهب. فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز قتل الحية للمحرم على قوله. قلت: ذكر ابن برندة في أحكامه: قال الطحاوي: لا يقتل المحرم الحية ولا الوزغ ولا شيئًا غير الحدأة والغراب والكلب العقور والفأرة والعقرب، فهذا يدل ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "حكم أشكال". (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 97 رقم 5723)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1073 رقم 3218)، والشافعي في "مسنده" (1/ 340) وغيرهم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

على أنه قصر هذا الحكم على الخمس المنصوص عليه في الحديث، ولكن الذي يفهم من كلامه ها هنا أن للمحرم قتل الحية لورود الحديث بذلك عمومًا وخصوصًا، على ما يأتي ذكره عن قريب إن شاء الله، ولا يقال: إنه ينافي ما ذكره من قوله: ينفي أن يكون أشكال شيء من ذلك كحكم الخمس، لأنا نقول: إنه دفع هذا بقوله إلَّا ما اتفق عليه من ذلك أن النبي -عليه السلام- عناه أي قصده، والحية من جملة ما عَنَاه من ذلك، على ما يأتي من حديث عبد الله بن مسعود: "أن النبي -عليه السلام- أمرهم بقتل الحية في منى". وجاء أحد الخمس الحية فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري كما ذكرناه الآن. ص: فإن قال قائل فقد رأينا الحية مباح قتلها في ذلك كله، وكذلك جميع الهوام فإنما ذكر النبي -عليه السلام- من ذلك العقرب خاصة، فجعلتم كل الهوام كذلك فما تنكرون أن تكون السباع كذلك أيضًا، فيكون ما ذكر إباحة قتله منها إباحة لقتل جميعهن. قيل له: قد أوجدنا له عن النبي -عليه السلام- نصًّا في الضبع وهي من السباع، أنها غير داخلة فيما أباح قتله من الخمس، فثبت بذلك أن النبي -عليه السلام- لم يرد قتل سائر السباع بإباحته قتل الكلب العقور، وإنما أراد بذلك خاصًّا من السباع، ثم قد رأيناه أباح مع ذلك أيضًا قتل الغراب والحداءة وهما من ذوي المخلب من الطير، وقد أجمعوا أنه لم يرد بذلك كل ذي مخلب من الطير، لأنهم قد أجمعوا أن العقرب والصقر والبازي ذوو مخلب غير مقتولين في الحرم كما يقتل الغراب والحداءة، وإنما الإِباحة من النبي -عليه السلام- لقتل الغراب والحداءة عليها خاصة لا على ما سواهما من كل ذي مخلب من الطير، وأجمعوا أن النبي -عليه السلام- أباح قتل العقرب في الإِحرام والحرم، وأجمعوا أن جميع الهوام مثلها، وأن مراد النبي -عليه السلام- بإباحة قتل العقرب قتل جميع الهوام، فذو الناب من السباع بذي المخلب من الطير أشبه منه بالهوام، مع ما قد بين ذلك، وشدَّه ما رواه جابر عن النبي -عليه السلام- في حديث الضبع. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الحية يباح قتلها لكل أحد في كل الأحوال وكل الأمكنة، وكذلك سائر الهوام القتالة كالرتيلاء والزنبور وأم أربعة وأربعين

ونحوها، والنبي -عليه السلام- إنما ذكر في الخمس الفواسق المذكورة العقرب خاصة وأشركتم في الحكم المذكور الحية وسائر الهوام قياسًا على العقرب، فلِمَ لا تشركون سائر السباع للكلب العقور المذكور بعينه بينهن فتكون إباحة قتل الكلب العقور إباحة لقتل غيره من السِّباع. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يكون ما ذكرتم من القياس صحيحًا؛ وذلك لأن النبي -عليه السلام- قد نص على الضبع -وهو من السِّباع- أنه صيد، وأنه غير مباح قتله من الخمس، فدل هذا كله أنه -عليه السلام- لم يرد بإباحته قتل الكلب العقور إباحة قتل سائر السِّباع، وإنما أراد بذلك خاصًا من السِّباع، ألا ترى أنه -عليه السلام- أباح قتل الغراب والحداءة والحال أنهما من ذوي المخلب من الطير، وقد أجمع العلماء كلهم على أنه لم يرد بذلك كل ذي مخلب من الطير، لأنكم أنتم ونحن مجمعون على الحداءة أن نحو العقاب والصقر والبازي لا يقتل في الحرم كما يقتل الغراب والحداءة، فثبت بهذا أن الإِباحة من النبي -عليه السلام- لقتل الغراب والحداءة بأعيانهما خاصة لا على ما سواهما من سائر ذوي مخلب من الطير. قوله: "وأجمعوا أن جميع الهوام مثلها" أي مثل العقرب، والتحقيق فيه أن المراد من الكلب العقور عنى ما سمي به فلا يلحق به غيره من السِّباع، والمراد من العقرب معناها وهو قصدها الأذى والإِهلاك بطريق الاختلاس يلحق بها غيرها من سائر الهوام المؤذية كالحية والرتيلاء وأم الأربعة والأربعين والسام الأبرص والوزغة والنمل المؤذية ونحو ذلك، ولا يقال: إن هذا تحكم؛ لأنا نقول: لولا حديث جابر في الضبع لكان المراد من الكل معانيها لا أعيانها فافهم. قوله: "فذو الناب من السِّباع بذي المخلب من الطير أشبه منه بالهوام" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: يلحق سائر السِّباع في القتل بالعقرب وسائر الهوام ليصير حكمها حكم العقرب والهوام.

وتقرير الجواب أن يقال: إن إلحاق الشيء بالشيء إنما يكون إذا كان بينهما شبه، والشبه بين السِّباع والهوام بعيد، والأقرب أن يلحق السِّباع بذي المخلب من الطيور لقرب المشابهة بينهما. ص: فإن قال قائل: إنما جعل النبي -عليه السلام- حكم الضبع كما ذكرت لأنها تؤكل، فأما ما كان لا يؤكل من السباع فهو كالكلب. قيل: قد غلطت في التشبيه، لأنا قد رأينا النبي -عليه السلام- قد أباح قتل الغراب والحداءة والفأرة، وأكل لحوم هؤلاء مباح عندكم، فلم يكن إباحة أكلهن ما يوجب حرمة قتلهن، فكذلك الضبع ليست إباحة أكلها أوجب حرمة قتلها، وإنما منع من قتلها أنها صيد، وإن كانت سبعًا، وكل السِّباع كذلك الَّا الكلب الذي خَصَّه النبي -عليه السلام- بما خص به. ش: هذا السؤال وارد على الجواب عن السؤال المتقدم، تقريره أن يقال: إنما جعل النبي -عليه السلام- حكم الضبع كما ذكرت من أنها غير داخلة فيما أبيح قتله من الخمس لأنها تؤكل، فأما ما كان لا يؤكل من السباع فينبغي أن يكون كالكلب في إباحة القتل. وتقرير الجواب أن يقال: إن هذا التشبيه أعني تشبيه سائر السباع [بالكلب] (¬1) العقور في هذا الحكم غلط، وذلك لأن النبي -عليه السلام- قد أباح قتل الغراب والحداءة والفأرة، والحال أن لحوم هؤلاء مباح عندكم فلم يكن إباحة قتلهن مما يوجب حرمة قتلهن، فكذلك الضبع ليس أوجب حرمة قتلها إباحة قتلها وإنما أوجب ذلك كونها من الصيد فافهم. قوله: "يباح عندكم" الخطاب فيه للمالكية ومن تبعهم في هذا، قال أبو عمر: قال مالك: لا بأس بأكل سباع الطير كلها، الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يكن (*)، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "للكلب". (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوعة، وفي طبعة المنهاج: "وما لم يكن يأكل"، ولعله الأقرب، والله أعلم.

وأبي الزناد، وقال الأوزاعي: الطير كله حلال إلَّا أنهم يكرهون الرخم، وقال ابن القاسم: لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك. قلت: خِشاش -بكسر الخاء المعجمة-: الحشرات، قال الجوهري: وقد تفتح الخاء وهو يتناول الفأرة والوزغة والحية والعقرب والسام الأبرص ونحو ذلك من هوام الأرض. ص: فإن قال قائل: فكيف يكون سائر السِّباع كذلك وهي لا تؤكل؟! قيل له: قد يكون من الصيد ما لا يؤكل ويباح للرجل صيده ليطعمه كلابه إذا كان في الحل حلالًا. ش: هذا السؤال دار في قوله: "وكل السِّباع كذلك" أي كيف تكون سائر السباع كالضبع والحال أنها لا تؤكل بخلاف الضبع فإنها تؤكل؟! وهذا على مذهبهم، فأجاب عنه بقوله: "قيل له ... إلى آخره" يعني أن الصيد لا يلزم منه أن يكون فيما يؤكل لحمه، وقد يكون من الصيد ما لا يؤكل لحمه فيصاد إما لجلده، وإما لدفع أذاه، وإما ليطعم لحمه كلابه ليتمرن على الصيد ويغرس على إمساكه، وإما لعظمه، أو وجه من الوجوه، وكل ذلك يجوز في الحل للحلال، والله أعلم. ص: وقد رُوي عن النبي -عليه السلام- في قتل الحية أيضًا ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- بقتل الحية ونحن بمنى" فقد دل ذلك على أن سائر الهوام مباح قتله في الإِحرام والحرم. ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من إلحاق الحية وجميع الهوام بالعقرب في إباحة القتل في الكل مع تنصيص العقرب وحدها. وأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي أميه محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن موسى بن داود الضبي الخلقاني قاضي طرسوس، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة وأحد أصحاب

أبي حنيفة روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو كريب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر محرمًا بقتل حية بمنى". وقال ابن بطال: أجمع العلماء على جواز قتل الحية في الحل والحرم، وقال الطبري: فإن قيل: قد صح أمر النبي -عليه السلام- بقتل الحيات، فما أنت قائل في قوله أيضًا: نهى عن قتل حيات البيوت؟ قيل له: اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم بظاهر الأمر بقتل الحيات كلها من غير استثناء شيء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال رسول الله -عليه السلام-: "اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني" (¬2) وروي هذا أيضًا عن عمر (¬3) -رضي الله عنه-. وقال آخرون: لا ينبغي أن نقتل عوامر البيوت وسكانها إلَّا بعد مناشدة العهد الذي أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قتل، قال الطبري: وجميع هذه الأخبار عن النبي -عليه السلام- حق وصدق وليس في شيء منها خلاف لصاحبه، والرواية عنه أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شيء منها خبر مجمل بين معناه الخبر الآخر، نهى عن قتل جنان البيوت إلَّا بعد النشدة حذار الإِصابة فيلحقه ما لحق الفتى المعرس بأهله، روى ابن أبي مليكة، عن عائشة بنت طلحة: "أن عائشة -رضي الله عنها- رأت في مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت في منامها، فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا، فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين فقيل: ما ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1755 رقم 2234). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" (4/ 363 رقم 5249)، والطبراني في "الكبير" (9/ 351 رقم 9747)، (10/ 170 رقم 10355). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/ 261 رقم 19903).

دخل عليك إلَّا وعليك ثيابك، فأصبحتْ فزعة، ففرقت في المساكين اثني عشر ألفًا". وقال ابن قانع: لا تنذر عوامر البيوت إلَّا بالمدينة خاصة، على ظاهر الحديث، وقال مالك: تنذر بالمدينة وغيرها، وهو بالمدينة أوجب، ولا تنذر بالصحاري، وقال غيره: المدينة وغيرها سواء في الإِنذار. قلت: "جنان البيوت" بكسر الجيم، واحدها جن، والإِثنان والجمع جنان، مثل صنو، وصنوان للاثنين والجمع، وهي الحيات، وروي عن ابن عباس: الجنان مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل والله أعلم. ص: وجميع ما صححنا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله- غير الذئب فإنهم جعلوه في ذلك كالكلب سواء. ش: أي فإن أبا حنيفة وصاحبيه جعلوا الذئب في حكم إباحة قتله كالكلب العقور، فلا يجب بقتله شيء، وذكر في "مطامح الأفهام": قال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلَّا السبع الإِنسي، والذئب الوحشي، لأنه في معناه وخلقته، واختلف قول مالك في الذئب هل يقتل أم لا. انتهى. فهذا كما رأيت قد ألحق أبو حنيفة وصاحباه الذئب بالكلب المذكور في الحديث، وأما زفر بن الهذيل فإنه قال: المراد بالكلب في الحديث هو الذئب. والله أعلم بالصواب. ***

ص: باب: الصيد يذبحه الحلال هل للمحرم أن يأكل منه أم لا؟

ص: باب: الصيد يذبحه الحلال هل للمحرم أن يأكل منه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الصيد الذي يذبحه الحلال، هل يجوز للمحرم أن يأكل منه أم لا يجوز؟ ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: "أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- نزل قديدًا، فأتى بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها، فأرسل إلى علي -رضي الله عنه- وهو يضفز بعيرًا له، فجاءه والخبط يتحات من يديه فأمسك علي -رضي الله عنه- وأمسك الناس، فقال علي -رضي الله عنه-: من ها هنا من أشجع؟ هل علمتم من رسول الله -عليه السلام- جاءه أعرابي ببيضات نعام وتتمير وحش، فقال: أطمعهن أهلك، فأنا حرم، قالوا نعم". ش: هذان طريقان: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، أسد السنة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف، فيه مقال فعن أحمد ليس بالقوي، وعن يحيى ضعيف، وعنه ليس بحجة، وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الترمذي: صدوق إلَّا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، روى له مسلم مقرونًا بنائب القناني واحتج به الأربعة. عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: "أن عثمان نزل قديدًا، فأتى بالحجل ... " إلى آخره ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 103 رقم 814).

نحو رواية الطحاوي غير أن بعد قوله: قالوا بلى فتورك عثمان عن سريره ونزل، فقال: خبثت علينا". وأخرجه عبد الله بن أحمد (¬1): حدثني هدبة، عن خالد، نا همام نا علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث: "أن أباه ولى طعام عثمان، قال: فكأني أنظر إلى الحجل حوالي الجفان، فجاء رجل فقال إن عليًّا -رضي الله عنه- يكره هذا، فبعث إلى علي وهو ملطخ بدنه بالحبط، فقال: إنك لكثير الخلاف علينا، فقال علي: أذكر الله من شهد النبي -عليه السلام- أُتي بعجز حمار وحش وهو محرم، فقال: إنا محرمون فأطعموه أهل الحل؟ فقام رجال فشهدوا، ثم قال: أذكر الله رجلاً شهد النبي -عليه السلام- أُتي بخمس بيضات -بيض نعام- فقال: إنا محرمون فأطمعوه أهل الحل؟ فقام رجال فشهدوا، فقام عثمان -رضي الله عنه- فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن كثير، قال: نا سليمان بن كثير، عن حميد الطويل، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه قال: وكان الحارث خليفة عثمان -رضي الله عنه- على الطائف، فصنع لعثمان طعامًا وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش، قال: فبعث إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له، فجاء وهو ينفض الخبط عن يده، فقالوا له: كل، قال: أطعموا قومًا حلالاً فأنا محرم، قال علي: أنشد من كان ها هنا من أشجع، أتشهدون أن رسول الله -عليه السلام- أهدى إليه رِجْل حمارٍ وحشي وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم". قوله: "نزل قديدا" هو اسم موضع قد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "زوائد مسند أحمد" (1/ 100 رقم 784). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 170 رقم 1849).

قوله: "بالحجل" بفتح الحاء والجيم وهو [القَبَج] (¬1) الطائر المعروف، واحده حجلة. "والجفان" جمع "جفنة" وهي القصعة. قوله: "شائلة" نصب على الحال من الحجل. قوله: "وهو يضفز بعيرًا له" بالضاد والزاي المعجمتين بينهما فاء، يقال: ضفزت البعير إذا علفته الضفائز، وهي اللقم الكبار، واحدتها ضفيزة، والضفيز شعير يجرش وتعلفه الإِبل. قوله: "والخبط يتحات من يديه" جملة اسمية وقعت حالاً من الضمير المرفوع في "فجاءه" والخبط بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة، على وزن فَعَلْ بالتحريك بمعنى مفعول، وهو الورق الساقط من الشجر، وهو من علف الإِبل، والخَبْط بالتسكين ضرب الشجرة بالعصي ليتناثر ورقها، والمخبط بكسر الميم العصي الذي يخبط به الشجرة، ومعنى يتحات: يتساقط ويتناثر. قوله: "من أشجع" بسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها عين مهملة، هو أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس [بن] (¬2) غيلان بن مضر، بطن وقيل: قبيلة، والأول أظهر. قوله: "وتتمير وحش" التتمير قطع اللحم صغارًا كالتمر وتجفيفه وتنشيفه، وأراد به ما قدَّد من لحوم الوحش. قوله: "فأنا حُرُم" بضمتين، جمع حرام. و"اليعاقيب" جمع يعقوب وهو الذكر. يستفاد منه: جواز أكل لحم الحجل، ولحم الحمر الوحش، والنعام وبيضها. ¬

_ (¬1) القَبَجْ: ذكور اليعاقيب، والحَجَل أنثاها، انظر "الغريب" لابن قتيبة (2/ 255). (¬2) ليست في "الأصل، ك".

وفيه دلالة على فضيلة علي بن أبي طالب وغزارة علمه، وغاية مسكنته وتواضعه. وفيه أن الإِمام إذا أشكل عليه أمر سعي له، بل يجب عليه أن يسأل أهل العلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يحل للمحرم أن يكل لحم صيد قد ذبحه حلال؛ لأن الصيد نفسه حرام عليه، فلحمته أيضًا حرام عليه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وطاوسًا ومجاهدًا وجابر بن زيد أبا الشعباء والثوري والليث بن سعد ومالكًا في رواية وإسحاق في رواية فإنهم قالوا: لا يحل للمحرم أن يأكل لحم صيد قد ذبحه حلال بوجه من الوجوه، وروي ذلك عن علي (¬1) وابن عمر (¬2) وابن عباس (¬3) -رضي الله عنهم- سواء صِيدَ من أجله أو لم يُصَد؛ لعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4) قال ابن عباس (¬5): هي مبهمة. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عمران، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس، عن علي -رضي الله عنهم-: "أن النبي -عليه السلام- أتى بلحم صيد وهم محرم فلم يأكله". ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا بحديث علي -رضي الله عنه- أخرجه عن فهد بن سليمان، عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في غير الصحيح، قال أبو حاتم: كوفي صدوق، عن أبيه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 308 رقم 14479). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 308 رقم 14483). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 308 رقم 14472). (¬4) سورة المائدة، آية: [96]. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 308 رقم 14478).

عمران بن محمد، وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: ليس بذاك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه لين، وقال أبو حاتم: كان محله الصدق، روى له الأربعة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري أبي سعيد الحراني روى له الجماعة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل روى له الجماعة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا عثمان بن عمران بن محمد بن أبي ليلى، عن أبيه، عن عبد الكريم ... إلى آخره نحوه سواء. قلت: أخرج البزار في "مسنده" (¬2) عن علي بهذا الإِسناد ما يخالف هذه الرواية، فقال: ثنا محمود بن بكر بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: نا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- رخص في لحم الصيد للمحرم". ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلَّا عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي -رضي الله عنه-، ورواه عنه محمد بن أبي ليلى، ورواه عن محمد: عمران بن أبي ليلى وعيسى بن المختار. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن قيس بن مسلم الجدلي، عن الحسن بن محمد بن علي، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أهُدي إليه وشيقة ظبي وهو محرم فرده". وقال يونس: سمعته كله عن سفيان غير قوله: "وشيقة" فإني لم أفهم ذلك منه، وحدثنيه بعض أصحابنا عنه. ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وسفيان هو ابن عيينة، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري، وقيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي روى له الجماعة، والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وروى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (1/ 341 رقم 433). (¬2) "مسند البزار" (2/ 103 رقم 454).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، نا الثوري، عن قيس بن مسلم، عن حسن بن محمد، عن عائشة قالت: "أهُدي لرسول الله -عليه السلام- وشيقة ظبي وهو محرم فلم يأكله". وأخرجه أبو قرة في "سننه": من حديث ابن جريج، أخبرني عبد الكريم، عن قيس بن مسلم، عن حسن بن محمد بن علي، قال: قالت عائشة: "أهديت للنبي -عليه السلام- ظبية فيها وشيقة صيد وهو حرام فأبى أن يأكله". قوله: "وشيقة ظبي" الوشيقة أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلاً ولا ينضج ويحمل في الأسفار، وقيل: هي القديد، وقد وشقت اللحم أشِقْه وشقًا واتشقت مثله، ويجمع على وشيق ووشائق. قوله: "ظبية فيها وشيقة صيد" جراب صغير عليه شعر، وقيل: هي شبه الخريطة والكيس، وجاء في حديث آخر: "أهدى إلى النبي -عليه السلام- ظبية فيها خرز فأعطى الآهل منها والعزب" (¬2). ص: وليس في هذا الحديث ذكر علة رده لحم الصيد ما هي؟ فقد يحتمل أن يكون ذلك لعلة الإِحرام، ويحتمل أن يكون لغير ذلك، فلا دلالة في هذا الجانب لأحد. ش: أراد بهذا الكلام أن الأحاديث المذكورة لا تصلح أن تكون حجة لأهل تلك المقالة، لأنه لم يبين فيها علة الرد ماذا كانت؟ فقد يحتمل أن تكون العلة هي كونه محرمًا، ويحتمل أن تكون غير ذلك، فلا يتم به الاستدلال، ولقائل أن يقول: هذا يتمشى من حديث علي وعائشة لوجود الاحتمالين المذكورين فيه؟ وأما الحديث الأول الذي كانت الهدية فيه لعثمان -رضي الله عنه- فإن علة الرد فيه ظاهرة وهي قوله: "فأنا محرم" فافهم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 225 رقم 15924). (¬2) كذا في "النهاية" لابن الأثير، والحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (3/ 136 رقم 2952)، وأحمد في "مسنده" (6/ 159 رقم 25300) وغيرهم من حديث عائشة قالت: "أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظبية فيها خرز فقسم للحرة والأمة".

ص: وقد رُوي عن عائشة -رضي الله عنها- من رأيها في الصيد يصيده الحلال فيذبحه، أنه لا بأس بأكله للمحرم. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني شيخ كخير الشيوخ يقال له: عبيد الله بن عمران القريعي، قال: سمعت عبد الله بن شماس يقول: "أتيت عائشة -رضي الله عنها- فسألتها عن لحم الصيد يصيده الحلال ثم يهديه للمحرم. فقال: اختلف فيها أصحاب رسول الله -عليه السلام- فمنهم من حرم، ومنهم من أحله، وما أرى بشيء منه بأسًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عمران بن عبيد الله -أو عبيد الله بن عمران- رجل من بني تميم، عن عبيد الله بن شماس، عن عائشة ... مثله. فهذه عائشة لم يكن رد النبي -عليه السلام- لحم الصيد على الحلال عندها على ما قد دلها على حرمته على المحرم. ش: أخرج هذا عن عائشة من طريقين شاهدًا لما قاله في الاحتمال المذكور من حديث عائشة الذي رواه عنها الحسن بن محمد بن علي -رضي الله عنهم- وذلك لأنها قالت: وما أرى بشيء منه بأسًا، فقولها هذا يدل على أن رد النبي -عليه السلام- لحم الصيد على الحلال لم يكن لأجل حرمته على المحرم وهو معنى. قوله: "فهذه عائشة ... إلى آخره" وهي جملة من المبتدأ والخبر. وقوله: "رد النبي -عليه السلام-" اسم لم يكن. وقوله: "على ما قد دلها" خبره، والضمير المنصوب في "دلها" يرجع إلى عائشة فافهم. الطريق الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن عبيد الله بن عمران القريعي، وثقه بن حبان، وقال أبو حاتم: شيخ. ونسبته إلى قريع -بضم القاف- بطن

من بني تميم، عن عبد الله بن شماس ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه وقال: لم يرو عنه غير عبيد الله بن عمران القريعي وسكت عنه، وفي "التكميل": عبيد الله بن شماس، عن عائشة، وعنه عبيد الله بن عمران القريعي مجهولان. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمران بن عبيد الله -أو عبيد الله بن عمران- رجل من بني تميم هو القريعي المذكور. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، عن عبيد الله بن عمران، عن عبد الله بن شماس، قال: "أتيت عائشة -رضي الله عنها- فسألتها عن لحم الصيد يهديه الحلال للحرام؟ فقالت: اختلف فيها أصحاب رسول الله -عليه السلام- فكرهه بعضهم، وليس به بأس" انتهى. قوله: "فقالت: اختلف فيها أصحاب رسول الله -عليه السلام-" وذلك لأن علي بن أبي طالب وابن عباس قد ذهبا إلى التحريم مطلقًا، وخالفهما عمر وعثمان وطلحة والزبير -رضي الله عنهم-. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال لزيد بن أرقم: "حدثتني أن رسول الله -عليه السلام- أُهدي له عضو صيد وهو محرم فلم يقبله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، قال: لما قدم زيد بن أرقم أتاه ابن عباس فقال: أهدى رجل إلى النبي -عليه السلام- لحم صيد فرده، وقال: إني حرام". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قيس عن عطاء: "أن ابن عباس قال لزيد بن أرقم: هل علمت أن النبي -عليه السلام- أهُدي له عضو صيد وهو محرم فلم يقبله؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 194 رقم 9721).

فهذا أيضًا مثل حديث علي عن النبي -عليه السلام-، وفيه أن رسول الله -عليه السلام- إنما رد ذلك العضو الذي أهداه إليه لأنه حرام. ش: أي احتج أولئك القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس عن زيد بن أرقم، وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن الحجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن الحسن بن مسلم بن يناق المكي، عن طاوس عن عبد الله بن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله -عليه السلام- وهو حرام؟ قال: قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده فقال: إنا لا نأكله إنا حرم". الثاني: عن ابن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك ابن جريج ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن علي، عن يحيى وأبي عاصم، كلاهما عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬3): نا أبو سلمة، ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء عن ابن عباس أنه قال يا زيد بن أرقم هل علمت أن النبي -عليه السلام- أُهدي إليه عضو صيد فلم يقبله وقال أنا حرم: قال نعم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 851 رقم 1195). (¬2) "المجتبى" (5/ 184 رقم 2821). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 170 رقم 1850).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره نحوه. قوله: "فهذا أيضًا مثل حديث علي" أي هذا الحديث مثل حديث علي بن أبي طالب عن النبي -عليه السلام- المذكور في أول الباب، حيث ذكر في كل واحد منهما ما يدل على الرد، ففي حديث علي قوله: "فأنا حرم"، وفي حديث ابن عباس عن زيد بن أرقم: "إني حرام". ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة قال: "مرّ بي رسول الله -عليه السلام- وأنا بالإِبواء أو بودان فأهديتُ [له] (¬2) لحم حمار وحشي فرده عليَّ، فلما رأى الكراهة في وجهي قال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المسعودي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري ... فذكر بإسناده مثله. ش: أي واحتج أولئك القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث الصعب بن جثامة، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلي آخره، والكل رجال الصحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬3): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، قالا: ثنا سفيان بن عُيينة. وثنا محمد بن رمح، أنا الليث بن سعد، جميعًا عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: أنبأنا الصعب بن جثامة قال: "مر بي رسول الله -عليه السلام- وأنا بالأبواء أو بودان ... " إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 184 رقم 2821). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1032 رقم 3090).

الثاني: عن سليمان بن شعيب بن الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن إسحاق بن راشد الجزري ويقال: الرقي الأموي، عن محمد ابن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه الأعمى المدني، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬1): نا أحمد بن زهير التستري، نا علي بن شعيب السمسار ثنا أبو النضر، ثنا المسعودي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة قال: "أهديت لرسول الله -عليه السلام- حمار وحشي وهو محرم، فرده، فلما رأى الذي في وجهي قال: ليس بنا رد عليك، ولكنا حرم". وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير أبي داود (¬2). قوله: "وأنا بالأبواء" جملة حالية، والأبواء بفتح الهمزة ممدود قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً، وفي "المطالع" وسميت بذلك لما فيها من الوباء، ولو كان كما قيل: لقيل: الأوباء، أو يكونا مقلوبًا منه، وبه توفيت أم رسول الله -عليه السلام-، والصحيح أنه إنما سميت بذلك لتبوء السيول بها، قاله ثابت. و"وَدَّان" بفتح الواو وتشديد لدال قرية جامعة من ناحية الفرع بينها وبين الأبواء ثمانية أميال ينسب إليها الصعب بن جثامة الليثي الوادني لأنه كان ينزلها، وكان هاجر إلى النبي -عليه السلام- ومات في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي "المطالع": "ودان" ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 84 رقم 7438). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/ 917 رقم 2456)، ومسلم في "صحيحه" (2/ 850 رقم 1193)، والترمذي في "جامعه" (3/ 206 رقم 849)، وابن ماجه في "سننه " (2/ 1032 رقم 3090).

قرية جامعة من عمل الفرع بينهما وبين هرشي نحو ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريب من الجحفة. وقوله: "ولكنا حرم" بضمتين جمع حرام. ص: فقيل لهم: هذا حديث مضطرب قد رواه قوم على ما ذكرنا، ورواه آخرون فقالوا: إنما أُهدي إليه حمارًا وحشيًّا. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله -عليه السلام- حمارًا وحشيَّا ... " ثم ذكر مثل حديثه عن سفيان. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب ... ، فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن الزهري ... ، فذكر بإسناده مثله. ففي هذه الأحاديث أن الهدية التي ردها رسول الله -عليه السلام- على الصعب من أجل أنه حرام كانت حمارًا وحشيًّا فإن كان ذلك كذلك فإن هذا لا يختلف أحد في حرمته على المحرم، غير أن سعيد بن جبير قد روى هذا الحديث عن ابن عباس فزاد فيه حرفًا على ما رواه عبيد الله بيَّن بذلك الحرف أن الحمار كان مذبوحًا. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله -عليه السلام- حمارًا وحشيًّا، فرده، وكان مذبوحًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله -عليه السلام- حمارًا وحشيًّا يقطر دمًا، فرده عليه، وقال: إني حرام".

ففي هذا الحديث أن ذلك كان مذبوحًا، وقد رده رسول الله -عليه السلام- لأنه حرام، وقد رُوي أيضًا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان عجز حمار وحشي أو فخذ حمار. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر وهب عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله -عليه السلام- عجز حمار وحشي وهو بقديد يقطر دمًا، فرده". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا، عن الحكم بن عتيبة ... ، فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "رجل حمار". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله -عليه السلام-قال أحدهما عجز حمار وقال الآخر فخذ حمار- وحشي يقطر دمًا، فرده". فقد اتفقت هذه الآثار المروية عن ابن عباس في حديث الصعب عن رسول الله -عليه السلام- في رده الهدية عليه أنها كانت في لحم صيد غير حي، فذلك حجة لمن كره للمحرم كل لحم الصيد وإن كان الذي تولى صيده وذبحه حلال. ش: أي قيل لأولئك القوم الذين احتجوا في جملة ما احتجوا به من حديث الصعب بن جثامة: هذا حديث مضطرب لا يتم به الاستدلال، وقد بين اضطرابه من ثمانية طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي: "أنه أهدى لرسول الله -عليه السلام- حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء -أو بودان- فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلَّا أنا حرم". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. والنسائي (¬3): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك. قوله: "أهدى لرسول الله -عليه السلام-" الأصل في أهدي التعدي بإلى، وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه، قيل: ويحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل، وهو ضعيف. قوله: "لم نردَّه عليك" قال القاضي: كذا رواية المحدثين في هذا الحرف بفتح الدال، ورده محققوا شيوخنا من أهل العربية، وقالوا: "لم نردُّه" بضم الدال، وكذا وجدته بخط بعض الأشياخ أيضًا وهو الصواب عندهم، على مذهب سيبويه في مثل هذا من المضاعف إذا دخله الهاء أن يضم ما قبلها في الأمر، ونحوه من المجزوم؛ مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء مكان ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلَّا مضمومًا، هذا في المذكر، وأما المؤنث مثل لم نردها وأختها مفتوح الواو إلَّا مضمومًا هذا في المذكر وأما المؤنث مثل لم نردها وأختها فمفتوح الدال مراعاة للألف، قلت: في مثل هذا الصيغة قيل: دخول الهاء عليها يجوز أربعة أوجه: الفتح لأنه أخف الحركات، والضم اتباعًا لضمة عين الفعل، والكسر لأنه الأصل في تحريك الساكن، والعكس، وأما بعد دخول الهاء فلا فيجوز فيه غير الكسر فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 909 رقم 2434). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 850 رقم 1193). (¬3) "المجتبى" (5/ 1283 رقم 2819).

قوله: "إلَّا أنَّا حُرُم" بفتح "أنا" على أنه تعدي إليه الفعل بحرف التعليل، فكأنه قال: لأنا، وقال أبو الفتح القشيري: "إنَّا" مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية و"أَنَّا" حرم مفتوحة لأنه حذف منها لام التعليل. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم ابن علي، نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة: "أنه أهدى إلى رسول الله -عليه السلام- حمارًا وحشيًّا فرده عليه، فلما رأى ما في وجهي من رد هديته قال: أما إنه ليس بنا رد عليك ولكنا حرم". الثالث: عن يونس أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن الزهري ... إلى آخره، وهؤلاء أيضًا كلهم رجال الصحيح. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أن الصعب بن جثامة أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- مرّ به بالأبواء -أو بودان- فأهدى له حمارًا وحشيًّا فرده عليه، فلما رأى رسول الله -عليه السلام- في وجهه الكراهية؛ فقال: إنه ليس بنا رد عليك، ولكنا حرم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الهذيل غالب بن الهذيل الأودي الكوفي، وثقه ابن حبان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 84 رقم 7433). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 206 رقم 849).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن غالب أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن سعيد بن جبير. وأخرجه "مسلم" (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا يحدث، عن الحكم (ح). ونا ابن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن الحكم (ح). ونا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: نا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت جميعًا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -في رواية منصور: عن الحكم-: "أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي -عليه السلام- رجل حمار وحشي". وفي رواية شعبة عن الحكم: "عجز حمار وحشي يقطر دمًا"، وفي رواية شعيب عن حبيب: "أهدي للنبي -عليه السلام- شق حمار وحشي فرده". السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله -عليه السلام- وهو بقديد وهو محرم لحم حمار وحشي، فرده رسول الله -عليه السلام- وهو يقطر دمًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 851 رقم 1194).

السابع: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن معتمر ابن سليمان، عن منصور بن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني (¬1): نا معاذ بن المثنى، نا مُسّدد، نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورًا يحدث، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أهدى الصعب بن جثامة رجل حمار وحشي يقطر دمًا إلى رسول الله -عليه السلام- وهو محرم بقديد، فردها". الثامن: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت، كلاهما عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث العباس الأسفاطي، عن سليمان وأبي الوليد، قالا: نا شعبة، عن الحكم وحبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي -عليه السلام-قال أحدهما: بقديد عجز حمار- وقال الآخر: حمار وحشي، فرده". وقال أبو جعفر الطبري: الأخبار عن الصعب مضطربة، والصحيح أنه حمار حيّ؛ للإِجماع على منع قبول المحرم هبة الصيد، وكيف تكون رجله وهو يقول لم نرده عليك إلَّا أنا حرم؟!. وقال القاضي: قال الإِمام: بوب البخاري على حديث الصعب ما دل على أنه تأول أن الحمار كان حيًّا، فعلى هذا يكون فيه حجة على أن المحرم يرسل ما كان بيده من صيد، وفيه أيضًا أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلَّا بالقبول، وأن قدرته على ملكها لا تصيره مالكها، ثم قال: وفي بعض طرق حديث الصعب ما يقدح في ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 26 رقم 12367). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 193 رقم 9714).

تأويل من تأول الحديث على أن الحمار حي، وهو قوله: "رجل حمار" وفي طريق آخر "عجز حمار وحشي يقطر دمًا"، وفي طريق آخر "شق حمار"، وفي رواية زيد بن أرقم: "أهدى للنبي -عليه السلام- عضو من لحم صيد فرده وقال: إنا لا نأكله إنا حرم" فبهذه الروايات يحتج من يقول من الناس: إن المحرم لا يأكل لحم صيد وإن لم يصد من أجله. وقال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجله، ولولا ذلك لكان أكله جائزًا، وقال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله قولهم في الحديث: "فرده يقطر دمًا كأنه صيد في ذلك الوقت". وقال ابن بطال: اختلاف روايات حديث الصعب تدل على أنها لم تكن قضية واحدة، وإنما كانت قضايا، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة عجزه، ومرة رجله، لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه حتى يقع فيه التضاد في النقل والقصة واحدة. وقال القرطبي: بوب البخاري على هذا الحديث وفهم منه الحياة، والروايات الآخر تدل على أنه كان ميتًا، وأنه آتاه بعضو منه، وطريق الجمع: أنه جاء بالحمار ميتا فوضعه بقرب النبي -عليه السلام- ثم قطع منه ذلك العضو فأتاه به، فصدق اللفظان، أو يكون أطلق اسم الحمار وهو يريد بعضه وهذا من باب التوسع والتجوز، أو نقول: إن الحمار كان حيًّا فيكون قد أتاه به، فلما رده وأقره بيده ذكاه، ثم أتاه بالعضو المذكور، ولعل الصعب ظن أنه إنما رده لمعنى يخص الحمار بجملته، فلما جاء بجزئه أعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد كحكم الصيد لا يحل للمحرم قبوله ولا تملكه. وقال البيهقي: قال الربيع: قال الشافعي: فإن كان الصعب أهدى إلى النبي -عليه السلام- الحمار حيًّا فليس لمحرم ذبح حمار وحشي وإن كان أهدى له لحمًا فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده، وأيضًا في حديث جابر وحديث مالك أن الصعب أهدى حمارًا، أثبت من حديث من قال: أهدى له لحم حمار.

قال البيهقي: وقد روي في حديث الصعب أنه أكل منه، ثم روى بإسناده (¬1): عن يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه: "أن الصعب بن جثامة أهدى للنبي -عليه السلام- عجز حمار وحشي وهو بالجحفة فأكل منه، وأكل منه القوم". هذا إسناد صحيح، قال البيهقي: إن كان محفوظًا، فكأنه -عليه السلام- رد الحي وقبل اللحم. قلت: قال الذهبي: بل هذا خبر منكر شاذ، ويحيى بن أيوب قد ضُعِّفَ، وله أحاديث منكرة، ولكنه من رجال الصحيحين انتهى، وفي سنده أيضًا يحيى بن سليمان الجعفي، قال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبان: ربما أغرب، وأما يحيى بن أيوب الغافقي المصري فقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: كان سيء الحفظ يخطئ خطأ كثيرًا، وكذبه مالك في حديثين فعلى هذا لا يشتغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده لمخالفته للحديث الصحيح، وقول البيهقي: "وقبل اللحم" يرده ما في الصحيح أنه -عليه السلام- رده. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- خلاف ذلك. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: لحم الصيد حلال لكم وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا إبراهيم بن سويد، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي موسى، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 193 رقم 9717).

ش: أي قد رُوي عن النبي -عليه السلام- خلاف ما رواه الصعب بن جثامة، فكأنه يشير بهذا إلى أن حديث الصعب كما هو مضطرب كما بيناه، معارض أيضًا بحديث جابر وأبي موسى الأشعري، أما حديث جابر فأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يعقوب ابن عبد الرحمن بن محمد القاري المدني نزيل إسكندرية روى له الجماعة سوى ابن ماجه وعن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني روى له مسلم وأبو داود والنسائي، كلاهما عن عمرو بن أبي عمرو ميسرة مولى المطلب المدني روى له الجماعة، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني، قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم، لكن البخاري في غير الصحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب يعني الإِسكندراني القاري، عن عمرو، عن المطلب، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: ثنا يعقوب ... إلى آخره، ولكن في روايته: "حلال لكم وأنتم حرم" وقال أبو عيسى: هذا حديث جابر مفسر، والمطلب لا نعرف له سماعًا من جابر، وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب. وقال الحافظ المنذري: قال الترمذي في موضع آخر: والمطلب بن عبد الله بن حنطب يقال: إنه لم يسمع من جابر، وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يسمع من جابر، وقال ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم: يشبه أن يكون أدركه. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر ... إلى آخره، وفيه مجهول، والظاهر أنه هو المطلب المذكور. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 171 رقم 1851). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 203 رقم 846).

وهذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬2). قوله: "وأنتم حرم" جملة حالية. قوله: "أو يصاد لكم" برفع الدال خبر مبتدأ محذوف أي أو هو يصاد لكم. وأما حديث أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس -رضي الله عنه- فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن إبراهيم بن سويد بن الحيان المدني وثقه يحيى وأبو زرعة وروى له البخاري وأبو داود، عن عمرو بن أبي عمرو ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا العباس بن محمد المجاشعي نا محمد بن أبي يعقوب الكرماني نا يوسف بن خالد السمتي عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أبي موسى، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لحم الصيد حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم وأنتم حرم". ص: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: كل صَيد صِيد من أجل محرم وإن كان الذي صاده حلال فهو حرام على ذلك المحرم، كما يحرم عليه ما تولى هو صيده لنفسه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، فإنهم قالوا: الصيد الذي صيد لأجل المحرم حرام على المحرم، وإن كان الذي صاده حلالًا. ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 621 رقم 1659). (¬2) "صحيح ابن حبان" (9/ 283 رقم 3971). (¬3) رواه الطبراني في "الكبير"، وهو في الجزء المفقود الذي لم يطبع، وعزاه الحافظ للطبراني في "تلخيص الحبير" (2/ 276) وقال: ويوسف متروك، ووافقه إبراهيم بن سويد عن عمرو عند الطحاوي، وقد خالفه إبراهيم بن أبي يحيى، وسليمان بن بلال والدراوردي ويحيى بن عبد الله بن سالم، ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك فيما قيل وآخرون، وهم أحفظ منه.

وقال أبو عمر: وذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن ما صيد من أجل المحرم لم يجز أكله، وما لم يصد من أجله جاز له كله، وروي هذا القول عن عثمان، وبه قال عطاء في رواية، وإسحاق في رواية، وحجتهم حديث جابر الذي قد ذكر الآن، وقال: قال مالك: وإن أكل المحرم من صيد صِيد من أجله فداه، وهو قول الحسن بن حي والأوزاعي، وقال مالك: ما ذبحه المحرم فهو ميتة لا يحل لمحرم ولا لحلال، وقد اختلف قوله فيما صِيد لمحرم بعينه كالأمير وشبهه، هل لغير ذلك الذي صيد لأجله أن يأكله؟ والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل ما صيد لمحرم معين أو غير معين، ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم: "كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل صيد صاده حلال فلحمه حلال لكل محرم وحلال. ش: أي خالف الفريقين المذكورين آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعطاء -في رواية- وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: الصيد الذي اصطاده الحلال لا يحرم على المحرم، وقال أبو عمر: وكان عمر بن الخطاب وأبو هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، يرون للمحرم كل الصيد على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، لظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1) فحرم صيده وقتله على المحرمين دون ما صاده غيرهم، وحجتهم حديث البهزي، وحديث أبي قتادة. ص: وكان من الحجة لهم في حديث المطلب الذي ذكرناه: أن قول رسول الله -عليه السلام-: "أو يصاد لكم" يحتمل أن يكون أراد به أو يصاد ذلكم بأمركم فإن كان ذلك كذلك، فأنتم أيضًا كذلك تقولون: كل صيد صاده حلال لمحرم بأمره فهو حرام على ذلك المحرم. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [95].

ش: أي وكان من الدليل والبرهان، وأراد به الجواب عن حديث المطلب بن عبد الله، عن جابر -رضي الله عنه- الذي احتجت به أهل المقالة الثانية، نصرة لأهل المقالة الثالثة. بيانه: أن قول رسول الله -عليه السلام- "أو يصاد لكم" يحتمل أن يكون المراد به "أو يصاد بأمركم" ويحتمل أن يكون المراد: أو يصاد لأجلكم لكن ليس بأمركم، فإن كان المراد الأول فلا نزاع لأحد فيه أنه حرام على ذلك المحرم، وإن كان المراد الثاني فقد وردت أحاديث كثيرة في إباحة لحم الصيد الذي صاده حلال للمحرم إذا لم يكن صيده بأمره ولا بمعونته إياه في ذلك إشارة إليه بقوله. ص: وقد رويت عن رسول الله -عليه السلام- أحاديث جاءت مجيئًا متواترًا في إباحة لحم الصيد الذي قد صاده الحلال للمحرم؛ إذا لم يكن صاده بأمره ولا بمعونته إياه عليه. ش: أراد بالتواتر: التكاثر لا التواتر المصطلح عليه. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عبد الرحمن بن عثمان، قال: "كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدى له طير، وطلحة راقد فمنا من أكل، ومنا من تورع، فلما استيقظ طلحة وقدم بين يديه أكله، وقال: أكلت مع رسول الله -عليه السلام-". ش: وهذا ما بعده بيان؛ لقوله: وقد رويت عن رسول الله -عليه السلام- أحاديث ... إلى آخره، وإسناد هذا صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بشر عبد الملك بن مروان الرقي، وابن جريج هو عبد الملك، وعبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي أسلم يوم الحديبية وقيل يوم الفتح، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان أحد العشرة المبشرين بالجنة.

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "فلما استيقظ طلحة وَفَّقَ من أكله، وقال: أكلت مع رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. قوله: "وفق من أكله" أي دعى له بالتوفيق، أي قال له: وفقت. أي أصبت الحق. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز: "أن رسول الله -عليه السلام- مرّ بالروحاء، فإذا هو بحمار وحشي عقير فيه سهم، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعوه حتى يجيء صاحبه، فجاء البهزي، فقال: يا رسول الله، هي رميتي فكلوا، فأمر أبا بكر -رضي الله عنه- أن يقسمه بين الرفاق وهم مُحرمُون، ثم سار حتى إذا كان بالأثاية إذا هو بظبي مستظلٍ في حقف جبل فيه سهم وهو حي، فقال رسول الله -عليه السلام- لرجل: قف ها هنا لا يريبه أحدٌ حتى يمضي الرفاق. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان: الأول: رجاله كلهم رجال الجماعة ما خلال يزيد بن سنان، وعمير بن سلمة الضمري له صحبة، ورجل من بهز غير مسمى، قال أبو عمر بن عبد البر اسمه زيد بن كعب السلمي، ثم البهزي وهو صاحب الحمار العقير وسماه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 855 رقم 1197). (¬2) "المجتبى" (5/ 182 رقم 2817).

البغوي وغيره أيضًا زيد بن كعب، ونسبته إلى بهز بالباء الموحدة والزاي المعجمة، وبهز هي تميم بن امرئ القيس بن بهثه بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، نا يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز: "أن رسول الله -عليه السلام- خرج وهو يريد مكة، حتى إذا كان في بعض وادي الروحاء، وجد الناس حمار وحشٍ عقيرًا، فذكروا ذلك لرسول الله -عليه السلام-، فقال: ذروه حتى يأتي صاحبه، فأتى البهزي وكان صاحبه، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا بكر فقسمه بين الرفاق وهم محرمون، قال: ثم سرنا حتى إذا كان بالأبواء فإذا ظبي حاقف في ظل شجرة وفيه سهم، فأمر النبي -عليه السلام- رجلاً يقيم عنده حتى يجيز الناس عنه". وأخرجه البيهقي (¬2): من طريق أحمد نحوه. الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬3): عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمير بن سلمة الضمري، عن البهزي: "أن رسول الله -عليه السلام- خرج يريد مكة، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله -عليه السلام-، فقال: دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه، فجاء البهزي وهو صاحبه إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا بكر -رضي الله عنه- فقسمه بين الرفاق، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 452 رقم 15782). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 171 رقم 11738). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 351 رقم 781).

وفيه سهم، فزعم أن رسول الله -عليه السلام- أمر رجلاً يقف عنده؛ لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه". وأخرجه النسائي (¬1): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وهذا الحديث صحيح بلا خلاف، ولكن الكلام في أنه هل هو لعمير بن سلمة عن النبي -عليه السلام-، أو هو عن عمير عن البهزي؟ فقال أبو عمر: من أصحاب يحيى بن سعيد من يجعل هذا الحديث عن عمير بن سلمة، عن النبي -عليه السلام- لا يذكر فيه البهزي، وعمير بن سلمة من الصحابة، والبهزي هو صاحب الحمار. وقال أيضًا: لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث، واختلف أصحاب يحيى عنه على يحيى، فرواه جماعة كما رواه مالك، ورواه حماد بن زيد وهشيم ويزيد بن هارون وعلي بن مسهر، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، عن النبي -عليه السلام- فالحديث لعمير فيما قال حماد، وتابعه على ذلك جماعة منهم هشيم وعلي بن مسهر ويزيد بن هارون، وعمير بن سلمة من كبار الصحابة، وجعله مالك عن عمير، عن البهزي، عن النبي -عليه السلام-. وفي متن حديث حماد بن زيد قال: "جاء رجل من بهز فقال: يا رسول الله، أصبت هذا بالأمس، فشأنكم به". قال أبو عمر: ومما يدلك على صحة رواية حماد بن زيد ومن تابعه: أن يزيد بن الهاد وعبد الله بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام-". وفي رواية يزيد الهاد: "بينا نحن مع رسول الله -عليه السلام-". رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهاد، وقال موسى بن هارون: الصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة عن النبي -عليه السلام- ليس بنيه وبين النبي -عليه السلام- أحد، قال موسى بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 182 رقم 2818).

هارون: ولم يأت ذكر البهزي عن مالك؛ لأن جماعة رووه عن يحيى كما رواه مالك، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد، كان يرويه أحيانًا فيقول فيه: عن البهزي قال، وأحيانًا لي قول فيه: عن البهزي. قلت: هذه رواية الطحاوي من طريقين عن عمير بن سلمة، عن رجل من بهز، فالحديث للبهزي لا لعمير بن سلمة والله أعلم. قوله: "بالروحاء" هو موضع بينه وبين المدينة ميل، وفي حديث جابر: "إذا أذن المؤذن هرب الشيطان [حتى] (¬1) يكون بالروحاء وهي من المدينة ثلاثون ميلًا". رواه أحمد (¬2): وقال أبو علي القالي في شهاب "الممدود والمقصور": "الروحاء" موضع على ليلتين من المدينة، وفي "المطالع": الروحاء من عمل الفرع، على نحو أربعين ميلًا من المدينة. وفي مسلم (¬3): "على ستة وثلاثين". وفي كتاب ابن أبي شيبة (¬4): "على ثلاثين". قوله: "عقير" أبي أصابه عقر ولم يمت بعد، والعقر: الجرح، والعقير تقع صفة للمذكر والمؤنث، يقال: حمل عقير، وناقة عقير. قوله: "فجاء البهزي" أي الرجل البهزي، وهو زيد بن كعب الصحابي. قوله: "هي رميتي" الرمية بفتح الراء وكسر الميم وتشديد الياء، وهي الصيد الذي يرميه الرجل فيقصده ويُنْفِذْ فيه سهمه. قوله: "حتى إذا كان بالأثاية" بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وبعد الألف ياء آخر الحروف مفتوحة وفي آخره هاء، وهي اسم المنهل بين الرويثة والعرج، وقال أبو عمر: الأثاية والرويثة والعرج والروحاء منازل ومناهل بين مكة والمدينة، وفي ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬2) "مسند أحمد" (3/ 316 رقم 14444). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 290 رقم 388). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 207 رقم 2373).

"المطالع": الأثاية موضع بطريق الجحفة بينه وبين المدينة سبعة وسبعون ميلاً، وهي "فعالة" من أُثيت به إذا وثبت، قاله ثابت، ورواه بعض الشيوخ بكسر الهمزة، وبعضهم يقول: الأثاثة بثائين، وبعضهم الأثانة بالنون، والأول الصواب بالفتح والكسر. قال أيضًا: "الرويثة" بطريق مكة من المدينة، قلت: هي بضم الراء وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة، وفي آخره هاء، و"العَرْج" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم، وهي قرية جامعة من عمل الفرع، على نحو من ثمانية وسبعين ميلًا من المدينة، وهو أول تهامة، وقاله في "المطالع". قوله: "في حِقف جبل" الحقف بكسر الحاء المهملة وسكون القاف: ما اعوج من الرمل واستطال، ويجمع على أحقاف، وقال الجوهري: "الحقف" المعوج من الرمل، والجمع حقاف وأحقاف، وفي رواية أحمد: "فإذا ظبي حاقف" أي نائم قد انحنى في نومه. قوله: "لا يريبه أحد" أي لا يتعرض له أحد ويزعجه، وأصله من رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني، وقيل: أرابني في كذا أي شككني وأوهمني الريبة فيه، فإذا استيقنته قلت: رابني بلا ألف. ويستفاد منه: جواز أكل ما صاده الحلال للمحرم، وعدم جواز تنفير الصيد للمحرم وإعانته عليه، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- أمر رجلاً أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد أي لا يحركه ولا يهيجه. وفيه: أن الصائد إذا أصاب الصيد برمحه أو نبله فقد ملكه بذلك، إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل ذلك الفعل؛ لقوله -عليه السلام- حتى يأتيه صاحبه. واستدل به أيضًا من جوَّز هبة المشاع؛ لقول البهزي للجماعة هذه رميتي فكلوه، وفي رواية: "شأنكم بهذا الحمار، فقسمه أبو بكر بينهم بأمر رسول الله -عليه السلام-".

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا نافع بن يزيد، عن ابن الهاد، أن محمد بن إبراهيم حدثه، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري، قال: "بينا نحن نسير مع رسول الله -عليه السلام- ببعض أمياه الروحاء وهو محرم؛ إذا هو بحمار معقور، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعوه، فيوشك صاحبه أن يأتيه، فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا بكر فقسمه بين الناس". ثم ذكر نحو ما في حديث يزيد عن يزيد بن هارون. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، ثنا ابن الهاد ... ثم ذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان آخران في الحديث المذكور وهما أيضًا صحيحان، وفيهما الحديث لعمير بن سلمة الضمري، عن النبي -عليه السلام- وليس بينه وبين النبي -عليه السلام- أحد، كما قال موسى بن هارون: الصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة عن النبي -عليه السلام- ليس بينه وبين النبي -عليه السلام- أحد. الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار الضمري، وثقه ابن حبان، وعن يحيى: كان رواية عن ابن لهيعة، وكان شيخ صدق، عن نافع بن يزيد الكلاعي المصري استشهد به البخاري وروى له الباقون سوى الترمذي، عن ابن الهاد وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني روى له الجماعة. وأخرجه يعقوب بن حميد في "مسنده" (¬1): عن عبد العزيز بن محمد وابن أبي حازم عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله -عليه السلام- ببعض أمياه الروحاء - ¬

_ (¬1) وعزاه الحافظ في "الإِصابة" (4/ 719) لابن أبي حاتم في "الوحدان" من طريق الدراوردي وابن أبي حازم به.

وقال ابن أبي حازم: ببعض نواحي الروحاء- إذا حمار وحش معقور، فذكر لرسول الله -عليه السلام- فقال: دعوه فيوشك أن صاحبه يأتيه، فأتى صاحبه الذي عقره، وهو رجل من بهز، فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا بكر فقسمه بين الرفاق، قال ثم مضى، فلما كان بالأثاية مر بظبي حاقف في ظل شجرة فيه سهم، فأمر النبي -عليه السلام- إنسانًا أن لا يهيجه إنسان فنفذ الناس". الثاني: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري قال: "بينا نحن نسير مع رسول الله ... " إلى آخره. وأخرجه ابن الأثير (¬1): في ترجمة عمير بن سلمة وقال: أنا يحيى بن محمود إجازة بإسناده، عن أبي بكر بن عاصم، قال: ثنا يعقوب بن حميد ... إلى آخره، ثم قال: كذا ساق ابن أبي عاصم هذا الحديث، ورواه حماد بن زيد وهشيم والليث بن سعد، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم مثله. وخالفهم مالك بن أنس وأبو أوس وعبد الوهاب وحماد بن سلمة، فقالوا: عن يحيى، عن محمد عن عيسى، عن عمير، عن البهزي. وقد ذكرنا الاختلاف فيه. قوله: "بينا" أصله "بين" فزيدت فيه الألف لإِشباع فتحة النون، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة. قوله: "دعوه" أي اتركوه. قوله: "ثم ذكر نحو ما في حديث يزيد عن يزيد بن هارون" أي ثم ذكر الربيع الحديث نحو ما في حديث يزيد بن سنان الفزاري، عن يزيد بن هارون الواسطي. ص: ففي حديث طلحة وعمير بن سلمة عن رسول الله -عليه السلام- أنه أباح للمحرمين أكل لحم الصيد الذي تولى صيده الحلال، فقد خالف ذلك حديث علي وزيد بن ¬

_ (¬1) "أسد الغابة" (1/ 874).

أرقم والصعب بن جثامة عن النبي -عليه السلام-، غير أن حديث طلحة وحديث عمير بن سلمة هذين ليس فيهما دليل على حكم الصيد إذا أراد الحلال به المحرم، فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عياش بن الوليد الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله -عليه السلام- أبا قتادة الأنصاري على الصدقة، وخرج رسول الله -عليه السلام- وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا عسفان، فإذا هم بحمار وحشٍ، قال: وجاء أبو قتادة وهو حل، فنكسوا رؤوسهم كراهة أن يحُّدوا أبصارهم فيفطن، فرآه فركب فرسه وأخذ الرمح فسقط منه، فقال: ناولونيه، فقالوا: ما نحن بمعينيك على شيء، فحمل عليه فعقره، فجعلوا يشوون منه، ثم قالوا: رسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا، قال: وكان يقدمهم، فلحقوه، فسألوه، فلم ير بذلك بأسا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن أبي قتادة: "أنه كان على فرس وهو حلال، ورسول الله -عليه السلام- وأصحابه محرمون، فبصر بحمار وحش، فنهى رسول الله -عليه السلام- أن يعينوه، فحمل عليه، فصرع أتانًا، فأكلوا منها". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عثمان بن عبد الله بن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: "أنه كان في قوم محرمين وليس هو بمحرم، وهم يسيرون، فرأوا حمارًا، فركب فرسه فصرعه، فأتوا النبي -عليه السلام- فسألوه عن ذلك، فقال: أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ قالوا: لا. قال: فكلوا". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي النضر، عن نافع مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة: "أنه كان مع رسول الله -عليه السلام-، حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارًا وحشيًّا، فاستوى على فرسه، ثم سأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه

فأبوا، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي -عليه السلام-، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله -عليه السلام- سألوه عن ذلك، فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أخبره عن أبي قتادة مثله، وزاد: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: هل معكم من لحمه شيء؟ ". فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده في وقت ما صاده إرادة منه أن يكون له خاصة، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله -عليه السلام- ذلك لهم وله ولم يحرمه عليهم لإِرادته أن يكون لهم معه، وفي حديث عثمان بن عبد الله بن موهب: "أن رسول الله -عليه السلام- سألهم فقال: أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا". فدل أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك وفي ذلك دليل أن معنى قول رسول الله -عليه السلام- في حديث عمرو مولى المطلب: "أو يصاد لكم" أنه على ما صيد لهم بأمرهم، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار المروية عن رسول الله -عليه السلام-. ش: أراد بهذا الكلام أن أحاديث علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم والصعب ابن جثامة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه لا يستقيم لهم الاحتجاج بها، وذلك لأن حديثي طلحة بن عبيد الله وعمير بن سلمة قد عارضا أحاديث هؤلاء؛ لأن في أحاديثهم يخبر بأن المحرم لا يباح له الأكل من لحم الصيد الذي اصطاده حلال، وفي حديثي طلحة وعمير يخبر بأن ذلك حلال للمحرم، فسقط الاحتجاج بالجميع، غير أنه ليس في حديثهما ما يدل على حكم الصيد إذا أراد الحلال به المحرم، فلما اعتبرنا ذلك، وجدنا أحاديث عن أبي قتادة -رضي الله عنه- تدل على شيئين: أحدهما: جواز أكل المحرم من الصيد الذي اصطاده حلال مريدًا به لأجل المحرم، وذلك لأن أبا قتادة لما صاد صيده لم يكن إراد به أن يكون لنفسه خاصة،

وإنما أراد به أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، وهذا معلوم من حديثه بلا ريب، ثم إن رسول الله -عليه السلام- أباح ذلك الصيد له ولأصحابه ولم يحرمه على أصحابه لأجل إرادته أن يكون لهم معه، أي مع نفسه. والآخر: يدل على أنه إنما يباح للمحرم ذلك بشرط أن لا تكون منه إشارة ولا دلالة ولا إعانة لأن النبي -عليه السلام- قال: "أشرتم أو صدتم أو قتلتم؟ " ودل هذا القيد في هذا الحديث على أن المراد من قوله -عليه السلام- في حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب: "أو يصاد لكم" يعني ما صيد لهم بأمرهم فافهم. ثم إنه أخرج حديث أبي قتادة من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن الوليد الرقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد السامي البصري روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبي عثمان المدني روى له الجماعة، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري روى له الجماعة، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان العقيلي وإسماعيل بن بشر بن منصور السليمي، قالا: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله -عليه السلام- أبا قتادة الأنصاري ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "كراهية أن يحدرا أبصارهم فيعلم"، وبعد قوله: "فلم يربه بأسًا" قال: وأحسبه -شك عبيد الله- قال: "هل بقى معكم شيء". قال البزار: هذا الحديث لا نعلم رواه عن عبيد الله إلَّا عبد الأعلى، ولا يعلم أسند عبيد الله عن عياض إلَّا هذا الحديث. انتهى.

قوله: "بعث رسول الله -عليه السلام- أبا قتادة على الصدقة". أي على أخذ الزكوات، أراد أنه بعثه عاملًا ليأخذ الزكاة من أصحاب الأموال والمواشي، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري. قوله: "وهم محرمون" جملة حالية. "وعسفان" بضم العين، بَيَّنَّاها فيما مضى. قوله: "وهو حِلٌّ" جملة حالية، أي والحال أن أبا قتادة حِلّ، أي حلال غير محرم، وهو بكسر الحاء وتشديد اللام، ورواية عياض هذه بينت سبب كون أبي قتادة حلًّا جاوز الميقات غير محرم، وقال الأثرم: كنت أسمع أصحاب الحديث يعجبون من حديث أبي قتادة، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات غير محرم؟! ولا يدرون ما وجهه حتى رأيته مفسرًا في رواية عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد، وقال أبو الفتح القشيري في الجواب عن عدم إحرام أبي قتادة: يحتمل أنه لم يكن مريدًا للحج، أو أن ذلك قبل توقيت المواقيت. وزعم المنذري أن أهل المدينة أرسلوه إلى سيدنا رسول الله -عليه السلام- يعلمونه أن بعض العرب ينوي غزو المدينة. وقال ابن المتن: يحتمل أنه لم ينو الدخول إلى مكة وإنما صحب النبي -عليه السلام- ليكثر جمعه. قلت: كل هذا فيه نظر، وإنما الصحيح في ذلك هو أنه بعثه -عليه السلام- على الصدقة كما في رواية عياض بن عبد الله هذه، والله أعلم. وقال أبو عمر: يقال: إن أبا قتادة كان رسول الله -عليه السلام- وَجَّهه على طريق البحر مخافة العدو، فلذلك لم يكن محرمًا إذ اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، وكان ذلك عام الحديبية أو بعده بعام، عام القضية. قوله: "فنكسوا رؤوسهم" أي طأطأوها، قال الجوهري: الناكس هو المطأطئ رأسه.

قوله: "كراهة أن يحدُّوا أبصارهم" من حددت النظر إلى فلان إذا وجهت نظرك إليه، وانتصاب كراهة على التعليل. قوله: "فيفطن" أي فيعلم أي أبو قتادة، من الفطنة وهي الفهم، قال الجوهري، وفي الدستور هو من باب علم تعلم تقول فطن يفطن فطانة. قوله: "ما نحن بمعينيك" أصله ما نحن بمعينين، فلما أضيفت إلى كاف الخطاب سقطت النون. قوله: "بين أظهرنا" أراد به أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وكذلك قولهم: بين ظهرانيهم، والمعنى أن ظهرا منهم قدامه وظهرًا وراءه، فهو مكنوف من جانبيه ومن جوانبه. قوله: "فلم ير بذلك بأسًا" أي فلم ير رسول الله -عليه السلام- بما أكلوا من الصيد. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن أبي عمر حفص بن عمر بن الحارث النمري الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان الواسطي روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى بن عمارة الأنصاري المدني أحد مشايخ أبي يوسف القاضي روى له الجماعة، عن عباد بن تميم بن غزيَّة الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن أبي قتادة الحارث بن ربعي. وأخرجه الجماعة (¬1): بألفاظ متباينة وأسانيد مختلفة. قوله: "فبصر بحمار" أي رآه. قوله: "فصرع أتانا" وهي الأنثى من الحمير الوحشية. الثالث: عن محمد بن خزيمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) البخاري في "صحيحه" (2/ 647 رقم 1725)، ومسلم في "صحيحه" (2/ 851 رقم 1196)، وأبو داود في "سننه" (2/ 171 رقم 1852)، والترمذي في "جامعه" (3/ 205 رقم 848)، والنسائي في "المجتبى" (5/ 186 رقم 2826)، وابن ماجه (2/ 1033 رقم 3093).

ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمود بن غيلان، نا أبو داود، أنا شعبة، أخبرني عثمان ابن عبد الله بن موهب، سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه: "أنهم كانوا في مسيرهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حمار وحش، فركبت فرسي، وأخذت الرمح، فاستعنتهم فلم يعينوا أي يعينوني فاختلست سوطًا من بعضهم، فشددت على الحمار فأصبته، فأكلوا منه، فأشفقوا، قال: فسئل عن ذلك النبي -عليه السلام-، فقال: هل أشرتم أو أعنتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا". وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا أبو الوليد، نا شعبة، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، عن أبيه قال: "بينا نحن نسير وهم محرمون وأبو قتادة حلال إذ رأيت حمارًا، فركبت فرسًا فأصبته، فأكلوا من لحمه وهم محرمون، ولم آكل، فأتوا النبي -عليه السلام- فسألوه، فقال: أشرتم؟ -أو قال-: ضربتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا". وأخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) مطولًا يعني هذا اللفظ، وفي لفظ لمسلم: وفي رواية شعبة قال: "أشرتم أو أعنتم أو صدتم" قال شعبة: لا أدري قال أعنتم أو صدتم. قوله: "أشرتم" أي هل أشرتم إليه؟ قوله: "أو صدتم" وفي رواية: "أو أصدتم" بتخفيف الصاد، معناه أمرتم بالصيد أو جعلتم من يصيده؟ وقيل: معناه أثرتم الصيد من موضعه؟ يقال: "أصدته" أي أثرته، قال القاضي: وهو أولى من رواية من روى صدتم أو أصَّدتم بالتشديد، إذ قد علم -عليه السلام- أنهم لم يصيدوا، وإنما سألوه عن صيد غيرهم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 186 رقم 2826). (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 60 رقم 1827). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 684 رقم 1728). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 853 - 854 رقم 1196).

قلت: فيه نظر؛ لأن أصدت من كلام العامة وهو خطأ، قاله ابن درستويه، وقال الكلبي وغيره: لم نر من قاله بالألف، وقال ابن الأثير: في حديث أبي قتادة: "قال له: هل أشرتم أو أصدتم؟ " يقال: أصدت غيري إذا حملته على الصيد وأغريته به، وفيه: "إنا أصَّدنا حمار وحشٍ هكذا روي بصاد مشددة، وأصله اصطدنا فقلبت الطاء صادًا، وأدغمت، مثل اصَّبر من اصطبر، وأصل الطاء مبدلة من تاء افتعل. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره. ورجاله رجال الصحيح، وأبو النضر بالنون والضاد المعجمة سالم بن أبي أمية. وأخرجه مسلم (¬1): قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ... إلى آخره نحوه. وثنا قتيبة، عن مالك فيما روى عليه، عن أبي النضر، عن نافع مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة: "أنه كان مع رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. والترمذي (¬3): عن قتيبة، عن مالك. قوله: "طُعمة" بضم الطاء، أي رزق ساقه الله إليكم. الخامس: عن يونس أيضًا ... إلى آخره. وهذا أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4)، ومسلم (¬5)، والترمذي (3) كلاهما عن قتيبة، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 852 رقم 1196). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 171 رقم 1852). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 204 رقم 847). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 350 رقم 778). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 852 رقم 1196).

ويستفاد من هذه الأحاديث أحكام: الأول: فيه دليل على أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده الحلال. الثاني: فيه دليل على أن قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1) معناه الاصطياد، وقيل: الصيد وأكله لمن صاده، وأما من لم يصده فليس بمن عني بالآية، والله أعلم، وتكون هذه الآية على هذا التأويل مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2) سواء؛ لأن هذه الآية إنما ينهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير، قاله أبو عمر. الثالث: فيه دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، وهذا إجماع من العلماء، واختلفوا في المحرم يدل الحلال أو المحرم على الصيد، فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابه: يكره ذلك له، ولا جزاء عليه، وهو قول ابن الماجشون وأبي ثور، ولا شيء عليه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الجزاء، قال أبو حنيفة: ولو دله في الحرم لم يكن عليه جزاء. وقال زفر: عليه الجزاء، في الحل دله عليه أو في الحرم، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول علي وابن عباس وعطاء، واختلف العلماء أيضًا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله، فقال قوم: عليه كفارة واحدة، منهم عطاء وحماد بن أبي سليمان، وقال آخرون: على كل واحد منهما كفارة، روي ذلك عن سعيد بن جبير والشعبي والحارث العكلي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وعن سعيد بن جبير أنه قال: على كل واحد من القاتل والآمر والمشير والدال جزاء، وقال الشافعي وأبو ثور: لا جزاء إلَّا على القاتل وحده، واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل صيد، فقال مالك: على كل ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [96]. (¬2) سورة المائدة، آية: [95].

واحد منهم جزاء كامل، محلين كانوا أو محرمين. وبه قال الثوري والحسن بن حي، وهو قول الحسن البصري والشعبي والنخعي، ورواية عن عطاء، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قتل جماعة محرمون صيدًا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، وإن قتل جماعة محلون صيدًا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد، وقال الشافعي: عليهم كلهم جزاء واحد، وسواء كانوا محرمين أو محلين في الحرم، وهو قول عطاء والزهري، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. ص: وقد قال بهذا القول أيضًا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رجلاً من أهل الشام، استفتاه في لحم الصيد وهو محرم، فأمره بأكله، قال: فلقيت عمر بن الخطاب، فأخبرته بمسألة الرجل فقال: بما أفتيته؟ فقلت: بأكله، فقال: والذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة، إنما نهيت أن يصطاده". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث، عن أبي هريرة ... فذكر مثله، غير أنه قال: "لفعلت بك، يتواعده". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، أنه سمع أبا هريرة يحدث أن عمر ... فذكر نحوه. حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. فلم يكن عمر -رضي الله عنه- ليعاقب رجلاً من أصحاب رسول الله -عليه السلام- في فتياه في هذا بخلاف ما يرى، والذي عنده في ذلك ما يخالف ما أفتى به رأيًا، ولكن ذلك عندنا والله أعلم، لأنه قد كان أخذ علم ذلك من غير جهة الرأي".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا نوفل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود: "أن كعبًا سأل عمر -رضي الله عنه- عن الصيد يذبحه الحلال فيأكله الحرام، فقال عمر -رضي الله عنه-: لو تركته لرأيتك لا تفقه شيئاً". ش: أي قد قال بقول أهل المقالة الثالثة، وهو إباحة أكل لحم الصيد الذي اصطاده حلال عمر بن الخطاب. وأخرج ذلك عنه من أربع طرق صحاح: الأول: رجاله رجال "الصحيحين": ما خلا ابن مرزوق، ويحيى هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث إبراهيم بن طهمان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سألني رجل من أهل الشام عن لحم اصطيد لغيرهم، أيأكله وهو محرم؟ فأفتيته أن يأكله، فأتيت عمر فذكرت ذلك له، فقال: ما أفتيت؟ قلت: أمرته أن يأكله، قال: لو أفتيته بغير ذلك لعلوت رأسك بالدرة، قال: إنما نهرت أن يصطاده". الثاني: كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2): عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث، عن أبي هريرة: "أنه أقبل من البحرين، حتى إذا كان بالربذة وجد ركبان أهل العراق محرمين، فسألوه عن لحم صيد وجدوه عند أهل الربذة، فأفتاهم أن بأكله، [قال: ثم] (¬3) إني شككت فيما أمرتهم به، فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال عمر: ماذا أمرتهم به؟ فقال: أمرتهم بأكله، فقال عمر بن الخطاب: لو أمرتهم بغير ذلك لفعلت بك، يتواعده". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 188 رقم 9693). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 351 رقم 782). (¬3) في "الأصل، ك": "ثم قال" وهو خطأ، والمثبت من "الموطأ".

الثالث: وأيضًا كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أبا هريرة: "أنه مرّ به قوم محرمون بالربذة، فاستفتوه في لحم صيد وجدوا ناسًا أحلة يأكلونه، فأفتاهم بأكله، قال: ثم قدمت المدينة على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك، فقال: بم أفتيته؟ قال: فقلت: أفتيتهم بأكله. قال: فقال عمر: لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك". الرابع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "لما قدمت من البحرين لقيني قوم من أهل العراق، فسألوني عن الحلال يصيد الصيد فيأكله الحرام، فأفتيتهم بأكله، فقدمت على عمر -رضي الله عنه- فسألته عن ذلك فقال: لو أفتيتهم بغير هذا ما أفتيت أحدًا أبدًا". قوله: "فلم يكن عمر لَيُعاقب" بفتح اللام لأنها للتأكيد، معنى هذا الكلام أن أبا هريرة لو أفتى بخلاف ما عند عمر -رضي الله عنه- مثلاً، وكان ذلك برأيه واجتهاده، وكذلك عند عمر برأيه واجتهاده ولم يكن عمر يعاقب أبا هريرة وهو من أصحاب النبي -عليه السلام- في فتياه بخلافه لأن ما عند كل منهما رأي واجتهاد، وليس للمجتهد أن يعاقب مجتهدًا آخر عند تخالف رأيهما، ولكن الذي كان عند عمر كان من جهة وقوفه على علم فيه من النبي -عليه السلام-، ولم يكن رأيه ولا اجتهاده، فوافقه فتوى أبي هريرة، فلذلك قال: "لو أفتيت بغير ذلك لعلوتك بالدرة" لأنه حينئذ كان يكون مفتيًا بالرأي، بخلاف ما عنده مما وقف عليه من جهة النبي -عليه السلام-، فحينئذ كان يتوجه العقاب لمن يفتي بالرأي عند وجود النص من الشرع بخلافه فافهم. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 352 رقم 783). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 307 رقم 14466).

قوله: "حدثنا أبو بكرة إلى آخره" ذكره شاهدًا لما رواه أبو هريرة عن عمر -رضي الله عنهما-، أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، أدرك النبي -عليه السلام- وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، وقيل في خلافة عمر بن الخطاب، ويقال: أدرك الجاهلية فقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة ثنتين من خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وقد بلغ سنة مائة وأربع وستين، روى له الجماعة غير مسلم، وابن ماجه في التفسير. ص: وقد احتج في ذلك المخالفون لهذا القول بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه قال: "كنا مع عثمان وعلي -رضي الله عنهما- حتى إذا كنا بمكان كذا وكذا قرّب إليهم طعام، قال: فرأيت جفنة كأني أنظر إلى عراقيب اليعاقيب، فلما رأى ذلك عليٌّ قام وقام معه ناس، قال: فقيل: والله ما أشرنا ولا أمرنا ولا صدنا، قيل لعثمان ما قام هذا ومن معه إلَّا كراهية لطعامك، فدعاه وقال: ما كرهت من هذا؟ فقال: علي -رضي الله عنه-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1) ثم انطلق". قال: فذهب عليٌّ إلى أن الصيد ولحمه حرام على المحرم. قيل لهم: فقد خالفه في ذلك عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وعائشة وأبو هريرة، وقد تواترت الروايات عن رسول الله -عليه السلام- بما يوافق ما ذهبوا إليه، وقوله -عز وجل-: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) يحتمل ما حرم عليهم منه هو أن يصيدوه؛ ألا ترى إلى قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [96]. (¬2) سورة المائدة، آية: [95].

فنهاهم الله -عز وجل- في هذه الآية عن قتل الصيد، وأوجب عليهم الجزاء في قتلهم إياه، فدل ما ذكرنا أن الذي حرم على المحرمين من الصيد هو قتله. ش: أراد بالمخالفين هؤلاء: أهل المقالة الأولى وهم الشعبي وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والثوري والليث بن سعد ومالك -في رواية- وإسحاق في رواية فإنهم احتجوا فيما ذهبوا إليه بهذا الحديث، وقالوا: لا يحل للمحرم أن يأكل لحم صيد مطلقًا بأي وجه كان. وأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعن أبي حاتم: ليس بالقوي. روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي روى له الجماعة، عن أبيه الحارث بن نوفل ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، وفي "التهذيب": الحارث بن نوفل بن الحارث والد عبد الله، له ولأبيه صحبة. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): بوجوه متعددة وقد ذكرنا بعضها. قوله: "فقيل لهم" أي لهؤلاء المخالفين المحتجين بهذا الحديث، وأراد به الجواب عن الحديث وهو ظاهر قوله، وقوله -عز وجل-: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (¬2) ... إلى آخره، جواب عما ذهب إليه علي -رضي الله عنه- استدلالًا بالآية الكريمة، أن معنى قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (2) هو الصيد الذي يصيدونه [لا] (¬3) مطلق الصيد، ألا ترى أن الله تعالى أوجب على المحرم الجزاء في قتله الصيد بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬4)، فدل ذلك أن الذي حرم على ¬

_ (¬1) تقدم من عدة طرق. (¬2) سورة المائدة، آية: [96]. (¬3) في "الأصل، ك": "ألا"، وما أثبتناه مقتضى السياق. (¬4) سورة المائدة، الآية: [95].

المحرم من الصيد قتله؛ وإن كان عموم الآية يتناول الاصطياد والصيد نفسه، لوقوع الاسم عليهما. وجواب آخر: أن الله تعالى قال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} (¬1) وإنما سمي الحيوان صيدًا ما دام حيًّا وأما اللحم فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح، فإن سمي بذلك على أنه كان صيدًا، فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة، ويدل عليه أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم. فإن قيل: يبقى الصيد يحرم على المحرم وإن لم يكن مسمى بصيد فكذا لحمه. قلت: ليس كذلك؛ لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد، فإذا أتلفه لم يضمنه، وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه، وأيضاً فإن البيض قد يصير حكمه إلى الصيد، فحكم له حكم الصيد، ولحم الصيد لا يصير صيدًا بحال، وكان بمنزلة لحوم سائر الحيوان، إذْ ليس بصيد في الحال، ولا يجيء منه صيدًا في المآل. ص: وقد رأينا النظر أيضًا يدل على هذا، وذلك أنهم أجمعوا على أن الصيد يحرمه الإِحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الحلال، وكان من صاد صيدًا في الحل فذبحه في الحل ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله إياه في الحرم، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإِدخاله الصيد نفسه وهو حيّ؛ لأنه لو كان كذلك لنهي عن إدخاله، ولمنع من أكله إياه فيه، كما يمنع من الصيد في ذلك كله، ولكان إذا أكله في الحرم وجب عليه ما يجب في قتل الصيد، فلما كان المحرم لا يمنع من لحم الصيد الذي صيد في الحل كما يمنع من الصيد الحي، كان النظر على ذلك أن يكون كذلك الإِحرام أيضًا يحرم على المحرم الصيد الحي ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلال ذبحه قياسًا على ما ذكرنا من حكم الحرم، فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: [96].

ش: أي وقد رأينا القياس أيضًا يدل على ما ذكرنا من جواز أكل المحرم من لحم الصيد. قوله: "وذلك" أي وجه القياس والنظر، وهو ظاهر جدًّا. ***

ص: باب: رفع اليدين عند رؤية البيت

ص: باب: رفع اليدين عند رؤية البيت ش: أي هذا باب في بيان حكم رفع اليدين عند رؤية الكعبة، وقد علم أن البيت إذا أطلق مُعَرَّفًا باللام يكون المراد منه الكعبة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر. وعن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن: في افتتاح الصلاة، وعند البيت، وعند الصفا والمروة، وبعرفات، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا المحاربي، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارضي الأعور نزيل مصر، فيه مقال، فعن النسائي: ضعيف، وعنه: ليس بثقة. وعن يحيى: ثقة. وقال العجلي: ثقة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. عن الفضل بن موسى السيناني -بكسر السين المهملة- المروزي أحد أصحاب أبي حنيفة روى له الجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه لين، عن نافع وعن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة مولى ابن عباس، والصحيح أنه مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه الحكم ثَمَّ البيهقي (¬1): من حديث ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 72 رقم 8992).

وعن نافع، عن ابن عمر، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني أبي زكريا الكوفي وثقه ابن معين، عن المحاربي وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي شيخ أحمد روى له الجماعة عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن عبد الله بن عمر. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، نا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال القبلة، والصفا والمروة، والموقفين، وعند الحجر"، وقد مر الكلام فيه مستوى في باب التكبير للركوع، والسجود، والرفع من الركوع. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وكان هذا الحديث مأخوذًا به، لا نعلم أحدًا خالف شيئًا منه غير رفع اليدين عند البيت، فإن قومًا ذهبوا إلى ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد أن هذا الحديث قد عمل بما في جميعه أهل العلم، ولم يخالف أحد في ذلك غير رفع اليدين عند رؤية البيت، فإنهم اختلفوا فيه، فذهب قوم إلى أنه يستحب ذلك، واحتجوا فيه بالحديث المذكور، وأراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس وخيثمة وسعيد بن جبير وأصحاب عبد الله بن مسعود؛ فإنهم قالوا: يرفع الحاج يديه عند البيت. وقال ابن أبي شيبة (¬1): نا أبو خالد، عن (شعبة) (¬2) عن الحكم، قال: "كان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 436 رقم 15750). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مصنف ابن أبي شيبة": "أشعث" وهو تحريف.

أصحاب عبد الله يقولون: ترفع الأيدي في ثمانية مواطن: عند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبعرفة، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين". ثنا (¬1) أبو خالد، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم وخيثمة، قالا: "ترفع الأيدي في الصلاة، وعند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبالمزدلفة". وهو قول الشافعي أيضًا، وقال (¬2): أبنا سعيد، عن ابن جريج: "أن النبي -عليه السلام- كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وكرمه ممن حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًا". ذكره البيهقي. قلت: هذا معضل، وقال البيهقي (¬3): وله شاهد مرسل، ثم أخرج عن الثوري عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول، قال: "كان النبي -عليه السلام- إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام؛ فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفًا ... " إلى آخر ما ذكره. قلت: قال الذهبي: هذا منقطع، وأبو سعيد هذا لا يعرف، ولعله ذاك المصلوب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا رفع اليدين عند رؤية البيت. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وعطاء وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد، فإنهم كرهوا رفع اليدين عند رؤية البيت. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن المهاجر، عن جابر بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 436 رقم 15751). (¬2) "مسند الشافعي" (1/ 125). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 73 رقم 8995).

عبد الله: "أنه سُئل عن رفع الأيدي عند البيت، فقال: ذلك شيء يفعله اليهود، قد حججنا مع رسول الله -عليه السلام- فلم يفعل ذلك". فهذا جابر -رضي الله عنه- يخبر أن ذلك ليس من فعل أهل الإِسلام، وأنهم قد حجوا مع رسول الله -عليه السلام- فلم يفعل ذلك، فإن كان هذا الباب يوجد من طريق معاني الآثار، فإن جابرًا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود، فقد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- أمر به على الاقتداء منه بهم، إذ كان حكمه أن يكون على شريعتهم لأنهم أهل كتاب حتى يُحْدِث الله -عز وجل- له شريعة تنسخ شريعتهم، ثم حج رسول الله -عليه السلام- فخالفهم فلم يرفع يديه، إذ أُمِرَ بمخالفتهم. فحديث جابر أولى؛ لأن فيه (تصحيح) (¬1) النسخ لحديث ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-. وإن كان يوجد من طريق النظر فإنا قد رأينا الرفع المذكور في هذا الحديث على ضربين، فمنه رفع لتكبير الصلاة، ومنه رفع للدعاء، فأما ما للصلاة فرفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وأما ما للدعاء فرفع اليدين عند الصفا والمروة وبجمع وعرفة وعند الجمرتين، فهذا متفق عليه، وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا [في] (¬2) رفع اليدين بعرفة، ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدرى: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يدعو بعرفة، وكان يرفع يديه نحو ثندوته". فأردنا أن ننظر في رفع اليدين عند رؤية البيت هل هو كذلك أم لا؟ فرأينا الذين ذهبوا إلى ذلك ذهبوا أنه لا لعلة الإِحرام ولكن لتعظيم البيت، وقد رأينا الرفع بعرفة والمزدلفة وعند الجمرتين وعلى الصفا والمروة إنما أمر بذلك من طريق الدعاء في الموطن الذي جعل ذلك الوقوف فيه لعلة الإِحرام، وقد رأينا من صار إلى عرفة أو ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "مع تصحيح هذين الحديثين". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، وهي مذكورة في الشرح.

مزدلفة أو موضع رمي الجمار أو الصفا والمروة وهو غير محرم أنه لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك، فلما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواطن إلَّا لعلة الإِحرام، ولا يؤمر به في غير الإِحرام؛ كان كذلك لا يؤمر برفع اليدين لرؤية البيت في غير الإِحرام، فإذا ثبت أنه لا يؤمر بذلك في غير الإِحرام؛ ثبت أن لا يؤمر به أيضًا في الإِحرام. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث جابر -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح، عن ابن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن أبي قزعة سويد بن حجير بن بيان الباهلي روى له الجماعة سوى البخاري، عن المهاجر بن عكرمة المكي ذكره ابن حبان في الثقات، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا يحيى بن معين، أن محمد بن جعفر حدثهم، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا قزعة يحدث، عن المهاجر المكي، قال: "سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يري البيت أَوَ يرفع يديه؟ قال: ما كنت أرى أن أحدًا يفعل هذا إلَّا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله -عليه السلام- فلم يكن يفعله". وأخرجه الترمذي (¬2): نا يوسف بن عدي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن المهاجر المكي قال: "سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت، أيرفع يديه؟ قال: ما كنت أظن أحدًا يفعل هذا إلَّا اليهود؛ حججنا مع رسول الله -عليه السلام- فلم يفعله" (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 175 رقم 1870). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 210 رقم 855). (¬3) كذا جاء لفظ الحديث في "الأصل، ك"، والذي في "جامع الترمذي": "سئل جابر بن عبد الله، أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟ فقال: حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنا نفعله". وشرح المباركفوري: "فكنا نفعله" في "تحفة الأحوزي" على أنه: "أفكنا نفعله" وبزيادة همزة في أوله، وقال: الهمزة فيه للإِنكار (3/ 501).

قوله: "فإن كان هذا الباب ... إلى آخره" إشارة إلى بيان أن الأخذ والعمل بأحد الحديثين المتعارضين لا يخلو إما أن يكون من طريق إسناد أحدهما، أو من طريق معاني الآثار، أو من طريق النظر والقياس، فإن كان الأول، فالأخذ بحديث جابر أولى؛ لأن إسناده أحسن من إسناد الحديث الأول؛ لأن في إسناد الحديث الأول من يتكلم فيه على ما ذكرناه. فإن قيل: حديث جابر أيضًا ضعيف، وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ضعفوا حديث جابر هذا؛ لأن مهاجرًا راويه عندهم مجهول، وقال البيهقي: حديث ابن عباس وابن عمر مع إرساله أشهر عند أهل العلم، وله شواهد مرسلة، والقول قول من رأى وأثبت. إن كان تضعيفهم إياه لأجل مهاجر المكي فقد قلنا: إن ابن حبان وثقه، واحتج به أبو داود والترمذي والنسائي، ولم يتعرض أحد منهم حين خرَّج هذا الحديث إلى تضعيفه بسبب مهاجر، وسكوتهم عن ذلك دليل على رضاهم بالحديث لا سيما من عادة أبي داود أنه إذا سكت عن حديث خرجه يدل على صحته عنده وأدنى الأمر أنه يدل على حسنه (¬1)، وقول البيهقي: "مع إرساله أشهر" غير مسلم؛ لأن المرسل لا يلحق الحديث المسند، وقوله: "والقول قول من رأى وأثبت" غير مسلم أيضًا؛ فإن القول إنما يكون قول من رأى وأثبت إذا لم يكن ثمة ناسخ لذلك، وها هنا النسخ موجود على ما نذكره الآن. ¬

_ (¬1) في هذا نظر لا يخفى، ومحله كتب مصطلح الحديث، وغاية ما فيه أن أبو داود قال عن أحاديث كتابه: "ما فيه ضعف شديد بينته، وما سكتُّ عنه فهو صالح". ومفهوم هذا الكلام أن ما كان من الأحاديث فيه ضعف ليس شديد فإنه يسكت عنه أيضًا، ومع هذا لم يوف -رحمه الله- بهذا الشرط فقد سكت عن أحاديث كثيرة فيها ضعف شديد كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة لعلم الحديث. وراجع كلام الحافظ ابن حجر في كتابه النفيس "النكت على ابن الصلاح".

وإن كان من طريق معاني الآثار فإن جابرًا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود، وهو يدل على النسخ، وذلك أن النبي -عليه السلام- كان أمر به حين كان حكمه أن يكون على شريعتهم؛ لأنهم أهل كتاب إلى أن يحدث الله -عز وجل- شريعة تنسخ شريعتهم، ثم إنه -عليه السلام- لمَّا حجَّ خالفهم فلم يرفع يديه، لأنه أُمِرَ بمخالفتهم في ذلك، فحينئذٍ يكون حديث جابر أولى لما فيه تصحيح النسخ لحديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. وإن كان يوجد من طريق النظر والقياس فإن الرفع المذكور في ذاك الحديث على ضربين: أحدهما: رفع لتكبير الصلاة عند الافتتاح. والآخر: رفع للدعاء عند الصفا والمروة وبجمع -وهو المزدلفة- وعرفة وعند الجمرتين، ثم ينظر في رفع اليدين عند رؤية البيت هل هو كذلك أم لا؟ فوجدنا القوم الذين استحبوا ذلك قد استحبوا لتعظيم البيت لا لأجل الإِحرام، ووجدنا الرفع في تلك المواضع إنما أمر به من طريق الدعاء لأجل وجود الإِحرام، حتى إنه لو كان غير محرم لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك، ولما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواضع إلَّا لأهل الإِحرام، ولا يؤمر به في غير الإِحرام، فالنظر على ذلك أن لا يؤمر به لرؤية البيت في غير الإِحرام، فإذا ثبت عدم الأمر في غير الإِحرام ثبت عدمه أيضًا في الإِحرام. قوله: "وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا في رفع اليدين بعرفه .. إلى آخره". ذكره تأييدًا لما قاله من أن استحباب رفع اليدين في المواطن المذكورة إنما هو لأجل الإِحرام، وأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب الندبي الأزدي أبي عمرو البصري، فيه مقال، فعن أحمد: ليس هو قويًّا في الحديث، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: شيخ ضعيف. روى له الترمذي وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

وأخرجه أحمد في "مسند" (¬1): ثنا روح، قال: أنا حماد، عن بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله -عليه السلام- واقفًا بعرفة يدعو هكذا، ورفع يديه حيال ثندويه، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض". قوله: "ثندويه" الثندوة للرجل كالثدي للمرأة فمن ضم الثاء همز، ومن فتحها لم يهمز، قاله ابن الأثير: قال الجوهري: قال ثعلب: الثندوة بفتح أولها غير مهموزة مثال الترقوة، على وزن فُعْلوة، وهي مغرز الثدي، فإذا ضممت همزت وهي فعللة. وقال أبو عُبيدة: وكان رؤبة يهمز الثندوة وسية القوس والعرب لا تهمز واحدًا منهما. وأستفيد منه سنيَّة رفع اليدين حيال الثديين عند الدعاء يوم عرفة بعرفة. وروى البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث عبد المجيد بن أبي رواد، ثنا ابن جريج، عن حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين". قال الذهبي: حُسَيْن ليس بمعتمد. ص: وحجة أخرى؛ أَنَّا قد رأينا ما يؤمر برفع اليدين عنده في الإِحرام ما كان مأمورًا بالوقوف عنده من المواطن التي ذكرنا، وقد رأينا جمرة العقبة جمرة كغيرها من الجمار غير أنه لا يوقف عندها، فلم يكن هناك رفع، فالنظر على ذلك أن يكون البيت لما لم يكن عنده وقوف أن لا يكون عنده رفع؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، وهذا الذي ثبتناه بالنظر هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي دليل آخر من وجه النظر والقياس، وهو أن الذي أُمِرَ برفع اليدين عنده في الإِحرام، هو الذي كان مأمورًا بالوقوف عنده من المواطن المذكورة، ولما كانت ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 13 رقم 11108). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 117 رقم 9257).

جمرة العقبة لا يوقف عندها، فلم يكن هناك رفع بوجه النظر، والقياس على ذلك ألَّا يكون عند رؤية البيت رفع أيضًا؛ لأنه لم يكن عنده وقوف. ص: وقد روي في ذلك عن إبراهيم النخعي، حدثنا سليمان بن شعيب بن سليمان، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن طلحة بن مصرف، عن إبراهيم النخعي قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي التكبير للقنوت، وفي الوتر، وفي العيدين، وعند استلام الحجر، وعلى الصفا والمروة، وبجمع، وعرفات، وعند المقامين عند الجمرتين". قال أبو يوسف: فأمَّا في افتتاح الصلاة وفي العيدين وفي الوتر وعند استلام الحجر فيجعل ظهر كفيه إلى وجهه، وأما في الثلاث الأخر فيستقبل بباطن كفيه وجهه. فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة فقد اتفق المسلمون على ذلك جميعًا. وأما التكبيرة في القنوت وفي الوتر فإنها تكبيرة زائدة في تلك الصلاة، وقد أجمع الذين يقنتون قبل الركوع على الرفع معها، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك كل تكبيرة زائدة في كل صلاة، فتكبير العيدين الزائد فيها على سائر الصلوات كذلك أيضًا. وأما عند استلام الحجر فإن ذلك يجعل تكبيرًا يفتتح به الطواف كما يفتتح بالتكبير للصلاة، وأمر به رسول الله -عليه السلام- أيضًا: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبي يعفور العبدي قال: "سمعت أميرًا كان على مكة منصرف الحاج سنة ثلاث وسبعين يقول: كان عمر -رضي الله عنه- رجلاً قويًّا، وكان يزاحم على الركن، فقال له النبي -عليه السلام-: يا أبا حفص، أنت رجل قوي وإنك تزاحم على الركن فتؤذي الضعيف، فإذا رأيت خلوة فاستلمه وإلَّا فكبِّر وامضِ". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي يعفور، عن رجل من خزاعة، وكان الحجاج استعمله على مكة .. ثم ذكر مثله.

فلما جعل ذلك التكبير يفتتح به الطواف كالتكبير الذي جعل يفتتح به الصلاة؛ أمرنا بالرفع فيه كما نؤمر بالرفع في التكبير لافتتاح الصلاة، ولا سيما إذ قد جعل النبي -عليه السلام- الطواف بالبيت صلاة: حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسيد (ح). وثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قالا: ثنا الفضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "الطواف بالبيت صلاة إلَّا أن الله -تعالى- قد أحلَّ لكم المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلَّا بخير". فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع فيما زاد على ما في الحديث الأول. وأما الرفع على الصفا والمروة وبجمع وعرفات وعند المقامين وعند الجمرتين؛ فإن ذلك قد جاء منصوصًا في الخبر الأول. وهذا الذي وصفنا من هذه المعاني التي ثبتناها قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قد روي في رفع اليدين فيما ذكر من المواضع: عن إبراهيم النخعي، ما حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان أحد أصحاب أبي يوسف، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، عن الإِمام أبي حنيفة الكوفي، عن طلحة بن مصرف بن عمرو الكوفي روى له الجماعة، عن إبراهيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن طلحة، عن إبراهيم وخيثمة قالا: "ترفع الأيدي في الصلاة، وعند البيت، وعلى الصفا والمروة، وبالمزدلفة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 436 رقم 15751).

قوله: "قال أبو يوسف ... إلى آخره" ظاهر، وهو من إملاء أبي يوسف، نقله عنه أصحابه، ونقل عنهم الطحاوي -رحمه الله-. قوله: "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة ... إلى آخره" من كلام الطحاوي. قوله: "فإن ذلك يجعل تكبيرًا" أي فإن رفع اليدين عند استلام الحجر يجعل كالتكبير له لافتتاح الطواف، كما تفتتح بالتكبير الصلاة، فكما ترفع الأيدي في التكبير لافتتاح الصلاة، فكذلك ترفع عند الاستلام لافتتاح الطواف، ولا سيما وقد شبه النبي -عليه السلام- الطواف بالبيت بالصلاة، حيث قال: "الطواف بالييت صلاة" (¬1) معناه: كالصلاة؛ لأنه ليس بصلاة حقيقة، إذ الصلاة عبارة عن الأقوال والأفعال المعهودة فإن قيل: إذا كان الطواف بالبيت صلاة؛ ينبغي أن لا يجوز إلَّا بالطهارة كما ذهب إليه الشافعي. قلت: هذا تشبيه، والتشبيه لا عموم له، فالله -تعالى- أمر بالطواف مطلقًا عن شرط الطهارة، فلا يجوز تقييده بخبر الواحد، فيحمل على التشبيه إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة. أو نقول: الطواف يشبه الصلاة وليس بصلاة حقيقة، فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا يفترض له الطهارة، ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة؛ عملًا بالدليلين بالقدر الممكن. قوله: "وأمر به رسول الله -عليه السلام-" أي أمر بالتكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف، فلما أمر به لذلك؛ أمرنا برفع اليدين فيه كما أمرنا به في التكبير لافتتاح الصلاة، ثم بيَّن ذلك بقوله: "حدثنا يونس .. إلى آخره". ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "المجتبى" (5/ 222 رقم 2922)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 630 رقم 1686) وهو عند الترمذي بلفظ آخره (3/ 293 رقم 960) ولفظه: "الطواف حول البيت مثل الصلاة ... " إلخ.

وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي واسمه: واقد ولقبه وقدان، روى له الجماعة، عن رجل من خزاعة -وكان الحجاج بن يوسف الثقفي استعمله على مكة- قال سفيان بن عيينة: هو عبد الرحمن بن الحارث، وكان استعمال الحجاج إياه على مكة سنة ثلاث وسبعين، وهي السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي يعفور ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي عوانة، عن أبي يعفور، عن شيخ من خزاعة استخلفه الحجاج على مكة قال: "إن عمر كان رجلاً شديدًا، وكان يزاحم عند الركن، فقال له رسول الله -عليه السلام-: يا عمر، لا تزاحم عند الركن؛ فإنك تؤذي الضعيف، فإن رأيت خلوةً فاستلمه، وإلَّا فاستقبله وكبِّر وامض" ثم قال: ورواه ابن عيينة، عن أبي يعفور، عن الخزاعي، ثم قال ابن عيينة: هو عبد الرحمن ابن الحارث. قوله: "ولا سيما إذ قد جعل النبي -عليه السلام- ... إلى آخره" "لا سيما" بمعنى خصوصًا، و"إذْ" للتعليل، وأراد بهذا تأكيد ما قاله من أن التكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف كما أن التكبير في أول الصلاة لافتتاح الصلاة، وكما أنه ترفع اليدان في التكبير لافتتاح الصلاة، فكذلك ترفعان في التكبير لافتتاح الطواف، خصوصًا الطواف بالبيت صلاة، لقوله -عليه السلام-: "الطواف بالبيت صلاة". وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن الفضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 80 رقم 9044).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): ثنا الحميدي، نا فضيل بن عياض، عن عطاء ابن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الطواف بالبيت صلاة، إلَّا أن الله أحلَّ فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلَّا بخير". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن الفضيل ابن عياض، عن عطاء بن السائب ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث ابن عيينة وفضيل وموسى بن أعين وجرير، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس رفعه: "الطواف بالبيت مثل الصلاة إلَّا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلَّا بخير"، وفي لفظ موسى: "الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحلَّ لكم المنطق". ووقفه ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة، وهو أصح. وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: أنا يوسف بن سعد، قال: نا حجاج، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن رجل أدرك النبي -عليه السلام- قال: "الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا من الكلام" انتهى. وقد ذكرنا معنى قوله -عليه السلام-: "الطواف بالبيت صلاة". قوله: "فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع" أي وجب رفع اليدين عند استلام الحجر لأجل هذه العلة، وهي كون الطواف بالبيت صلاة، زيادة على ما في الحديث الأول وهو المذكور في أول الباب؛ لأنه ليس فيه ذكر رفع اليدين عند استلام الحجر، وإنما فيه رفعهما عند رؤية البيت. قوله: "وأما الرفع على الصفا ... إلى آخره" عطف على قوله: "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة". ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 66 رقم 1847). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 87 رقم 9085). (¬3) "المجتبى" (5/ 222 رقم 2922).

ص: باب: الرمل في الطواف

ص: باب: الرمل في الطواف ش: أي هذا باب في بيان الرمل في الطواف بالبيت. و"الرَّمَل" بفتح الراء والميم: هو سرعة المشي مع تقارب في الخطو، وفي "المحكم": رَمَل يَرمُل رَمْلًا إذا مشى دون العَدْو، وقال الفراء: هو العدو الشديد، وفي "الجمهرة": الرَّمَل شبيه بالهرولة، وفي "الصحاح": هو الهرولة، وفي "المغيث": هو الخبب، وقيل: هو أن يهز منكبيه ولا يسرع في العدو، وفي كتاب "المسالك" لابن العربي: هو مأخوذ من التحرك، وهو أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه. قلت: هو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ تقول: رَمَل يرمُل رمْلًا بسكون الميم، ورمَلًا بفتحها ورملانًا كالنزوان على وزن فعلان، ويجيء المصدر كثيرًا على هذا الوزن نحو النسلان والرسفان ونحوهما. والطواف بالبيت هو الدوران حوله، تقول: طفت أطوف طوفًا وطوافًا، والجمع: الأطواف، وطوَّف تطويفًا وتطوافًا. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رمل بالبيت، وأن ذلك سُنَّة! قال: صدقوا وكذبوا. قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟! قال: صدقوا، قد رمل رسول الله -عليه السلام- بالبيت، وكذبوا: ليست بسُنَّة، إن قريشًا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدًا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيء في العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام بمكة، تقدم رسول الله -عليه السلام-، والمشركون على جبل قيقعان، فقال رسول الله -عليه السلام- لأصحابه: ارملوا بالبيت ثلاثاً. وليست بسُنَّة". ش: أبو عاصم الغنوي وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غير حماد بن سلمة، ولا أعرفه ولا أعرف اسمه. روى له أبو داود، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وهو آخر من مات من الصحابة.

وأخرجه أبو داود (¬1): نا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، قال: أنا أبو عاصم الغنوي؛ عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس ... إلى آخره نحوه، وفي روايته بعد قوله: "وليس بسُنَّة": "قلت: يزعم قومك أن رسول الله -عليه السلام- طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سُنَّة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله -عليه السلام- بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا، ليست بسُنَّة كان الناس لا يدفعون عن رسول الله ولا ينصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم". قوله: "ليست بسُنَّة"، معناه أنه أمر لم يسن فعله لعامة المسلمين، على معنى القربة كالسنن التي هي عبادات، ولكنه شيء فعله رسول الله -عليه السلام- لسبب خاص. قوله: "زمن الحديبية" أراد به عام الحديبية، وكان سَنة ست من الهجرة. قوله: "موت النغَّفَ" أي كموت النَغَف، وهو بفتح النون بعدها غين معجمة مفتوحة وبعدها فاء، واحدتها: نغفة، وهي الدود التي تكون في أنوف الأنعام، وعن الأصمعي أنها تكون في أنوف الإِبل والغنم، وقال أبو عُبيد: وتكون أيضًا في باطن النوى، وما سوى ذلك فليس بنغف. وفي حديث يأجوج ومأجوج: "فيرسل الله عليهم النغف فيصبحون" (¬2) قال ابن الأثير في تفسيره: النَّغَف -بالتحريك- دود يكون في أنوف الإِبل والغنم، واحدتها: نغفة. قوله: "والمشركون على جبل قُعَيقِعَان" وفي رواية أبي داود: "والمشركون من قبل قعيقعان": وهو جبل مشهور بمكة، سمي به لأن جرهمًا لما تحاربوا كثرت قعقعة السلاح هناك، وهو بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وكسر القاف وبعدها عين مهملة وبعدها ألف ونون، وهو جبل مشرف على مكة من غَرْبِيِّها كما أن جبل أبي قبيس مشرف على مكة من شَرْقِيِّها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 177 رقم 1885). (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 2250 - 2254 رقم 2937).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرمَل في الطواف ليس بسُنَّة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: إنما كان الرمَل ليرى المشركون أن بهم قوة، وأنهم ليسوا بضعفاء؛ لا لأن ذلك سُنَّة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء وطاوسًا ومجاهدًا والحسن البصري والقاسم وسالمًا وسعيد بن جبير، فإنهم قالوا: الرَّمَل ليس بسُنَّة، من شاء فعله ومن شاء لم يفعله، وهو الأشهر عن ابن عباس، وعنه أنه سُنَّة. وقال ابن حزم (¬1): وروينا عن ابن عباس وعطاء: ليس على من ترك الرمل شيء، وعن إبراهيم: عليه فدية، وعن ابن عباس: وجوبه على أهل الآفاق، وعن الحسن وعطاء: ليس على أهل مكة رمل، ولا على من أهلَّ منها، إلَّا أن يجيء أحد من أهل مكة من خارج، فهذه رواية ابن عباس بإيجاب الرمل على أهل الآفاق، وعن الحسن وعطاء مثل ذلك. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم لما ذهبوا إليه بالحديث المذكور. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله -عليه السلام- مكة وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم حمى يثرب، فلما قدموا، قعد المشركون مما يلي الحجر، فأمر النبي -عليه السلام- أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم بأن يرملوا الأشواط الأربعة إلَّا الإِبقاء عليهم". ش: أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن ابن عباس أيضًا، أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) " المحلى" (7/ 96).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد هو ابن يزيد ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن أيوب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، أنه حدث عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله -عليه السلام- مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم أقوام قد وهنتهم الحمَّى، ولقوا منها شرًّا، فأطلع الله تعالى نبيه -عليه السلام- على ما قالوا، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمَّى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد منا، قال ابن عباس: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلَّا للإِبقاء عليهم". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا: عن محمد بن سليمان، عن حماد بن زيد ... إلى آخره نحوه. قوله: "وقد وهنتهم" بتخفيف الهاء وفتحها أي أضعفتهم وفي "الموعب": وَهَنَ يَهِنَ مثل وَعَدَ يعَدُ، وَوهِن مثل وَرِم، والواهن الضعيف في قوته، لا بطش عنده، وعن صاحب "العين": الوَهْن الضعف في العمل والأمر وكذلك في العظم، وهن الشيء وأوهنه، والوَهَن لغة فيه، ورجل واهن في الأمر والعمل وموهون في العظم والبدن، وعن ابن دريد: وَهَن يُوهَن. قوله: "حمَّى يثرب" الحمى مرض مشهور، ويثرب اسم مدينة النبي -عليه السلام-، والياء فيه زائدة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 581 رقم 1525). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 923 رقم 1266). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 178 رقم 1886). (¬4) "المجتبى" (5/ 230 رقم 2945).

قوله: "الأشواط الثلاثة" وهو جمع شوط، وهو مأخوذ من قولهم: جرى الفرس شوطًا إذا بلغ مجراه ثم عاد، فكل من أتى موضعاً ثم انصرف عنه فهو شوط. قوله: "إلَّا الإِبقاء" بكسر الهمزة وبالباء الموحدة والمد، أي إلَّا الرفق بهم، قال القرطبي: رويناه بالرفع على أنه فاعل "لم يمنعه" ويجوز النصب على أنه يكون مفعولًا من أجله، ويكون في "لم يمنعه" ضمير عائد على النبي -عليه السلام- وهو فاعل. قلت: الصحيح أنه مرفوع على أنه فاعل "لم يمنعه" والمعنى لم يمنع النبي -عليه السلام- أن يأمرهم بأن يرملوا -أي بالرمل في الأشواط الأربعة- إلَّا الإِبقاء عليهم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حجاج بن نصير، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله -عليه السلام- رَمَل بالبيت وأنها سُنة، قال: صدقوا وكذبوا، قد رمل رسول الله -عليه السلام- بالبيت وليس بسُنة، ولكن قدم رسول الله -عليه السلام- مكة والمشركون على قُعَيْقِعَان، وبلغه أنهم يقولون: إن به وبأصحابه هزالاً، فقال لأصحابه: ارملوا، أروهم أن بكم قوة، فكان رسول الله -عليه السلام- يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، فإذا توارى عنهم مشى". قالوا: أفلا يرى أنه أمرهم أن يمشوا في الأشواط الثلاثة فيما بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، وأمرهم أن يرملوا فيما بقي من هذه الأشواط ليروهم؟ فلما كان قد أمرهم بالرمل حيث يرونهم، وبتركه حيث لا يرونهم؛ ثبت بذلك أن الرمل كان من أجلهم لا من أجل أنه سُنة. ش: حجاج بن نصير الفسطاطي القيسي أبو محمد البصري، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وعن النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطيء ويهم. وفطر بن خليفة القرشي أبو بكر الكوفي الحناط بالنون، وثقه أحمد ويحيى والعجلي، وفيه تشيع قليل، روى له البخاري -مقرونًا بغيره- والأربعة.

وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى، نا فطر، عن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس إن قومك يزعمون أن النبي -عليه السلام- قد رَمَل وأنها سُنة، فقال: كذبوا وصدقوا؛ قد رمل رسول الله -عليه السلام-، وليست سُنَّة: قدم رسول الله -عليه السلام- والمشركون على جبل قعيقعان، فبلغه أنهم يقولون: إن برسول الله -عليه السلام- وأصحابه هزلًا؛ فرمل رسول الله -عليه السلام- وأمر أصحابه أن يرملوا، لِيُري المشركين أن بهم قوةً". قوله: "وإنها سُنة" أي: وإنَّ هذه الفعلة وهي الرمل، أنث الضمير بهذا الاعتبار. قوله: "هُزالًا" بضم الهاء وتخفيف الزاي، وهو ضد السمن، تقول: هزلت الدابة هزالًا على ما لم يسم فاعله، وهزلته أنا هَزْلًا فهو مهزول، وأهزل القوم إذا أصابت مواشيهم سنة فهزلت. قوله: "أروهم" بفتح الهمزة وضم الراء، لأنه أمر للجماعة، من أَرَى يُرِي إراءة والأمر أرِ، أريا، أَرُوا. قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء القوم: "أفلا يُرى" بضم الياء "أنه أمرهم" أي أن رسول الله -عليه السلام- أمر أصحابه أن يمشوا في الأشواط الثلاثة ... إلى آخره وهو ظاهر. ص: قالوا: ومما دل على ذلك أنه لم يفعل ذلك لما حج، وذكروا ما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- رمل في العمرة، ومشى في الحج". أفلا يُرى أن رسول الله -عليه السلام- لم يرمل في حجه حيث عُدِمَ الذين من أجلهم رمل في عمرته. ش: أي قال هؤلاء القوم: ومما يدل على أن النبي -عليه السلام- إنما رَمَل لأجل مقالة المشركين: إن بهم هزالاً، لا لأجل كونه سُنةً؛ أنه -عليه السلام- لم يفعل ذلك -أي الرمل- حين حج حجة الوداع، لأنه عدم الذين من أجلهم قد كان رمل، وأنه

إنما فعل ذلك في عمرته لأجل ما قال المشركون لا لأنه سُنة، واحتجوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمر: "أنه -عليه السلام- رمل في العمرة ومشى في الحج". وأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس (¬1)، عن العلاء بن المسيب بن رافع الكوفي، وثقه يحيى وغيره، وروى له البخاري ومسلم والترمذي، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو عمر بن عبد البر في (¬2) "التمهيد" نحوه. ويعارض هذا ما روي في "الصحيح" (¬3) من حديث نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ثم يمشي أربعًا" على ما يجيء بيانه إن شاء الله. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الرَمَل في الأشواط الثلاثة الأولى سُنة لا ينبغي تركها في الحج ولا في العمرة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور فقهاء الأمصار؛ فإنهم قالوا: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى سُنة، لا يترك في الحج ولا في العمرة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس في رواية. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- اعتمر من الجعرانة، فرمل بالبيت ثلاثًا ومشى أربعة أشواط". ¬

_ (¬1) بَيَّض له المؤلف ولم يعينه وترك له فراغًا وسط الكلام، وقيس هذا هو ابن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي، وثقه الثوري وشعبة وعفان وغيرهم، وضعفه أحمد ووكيع ويحيى وغيرهم، وقال ابن عدي: عامة رواياته مستقيمة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. انظر "ميزان الاعتدال" (5/ 477). (¬2) "التمهيد" (2/ 75 رقم 947). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 920 رقم 1261).

ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- رَمَل الأشواط كلها، وقد كان في بعضها حيث يراه المشركون وفي بعضها حيث لا يرونه، ففي رمله حيث لا يرونه دليل على أنه ليس من أجلهم رَمَل، ولكن لمعنىً آخر. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس، حيث قال في حديثه: "فرمل بالبيت ثلاثًا". أخرجه بإسناد صحيح: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة. وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عبد الله ابن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً، ومشوا أربعًا". وأخرجه ابن ماجه (¬2) بنحوه. قوله: "ففي هذا الحديث ... إلى آخره" بيانه أن في هذا الحديث: رمل في هذه الأشواط الثلاثة كلها يعني من الحجر إلى الحجر، وقد كان في بعضها حيث يراه المشركون، يعني من ناحية جبل قعيقعان لأنهم كانوا عليه، وفي بعضها حيث لا يرونه، يعني من ناحية ما بين الركن اليماني والحجر؛ لأن الكعبة كانت تحجز بينه وبينهم، ففي رمله في هذا الموضع دليل على أنه -عليه السلام- لم يكن رمل من أجلهم، بل إنما رَمَل لمعنى آخر، إذ لو كان رمله لأجلهم لكان يتركه حين يتوارى عنهم، فَعُلِمَ من ذلك أنه سُنة لا تترك، ومن هذا يخرج الجواب عما يقال: إن سبب الرمل ارتفع، فينبغي أن يرتفع الحكم الدائر عليه، ولئن سلمنا أن سبب الرمل كان لإِظهار الجلادة وإبداء القوة للمشركين، وأنه ارتفع، فلا نسلم أن يرتفع الحكم بارتفاع السبب؛ لأن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم، كالبيع والنكاح وغيرهما. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 177 رقم 1884). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 984 رقم 2953).

أو نقول: رَمل النبي -عليه السلام- في حجة الوداع دليل على أنه سُنة مبتدأة، فيجب علينا اتباعها وإن كنا لا نعقل معناه، ألا ترى إلى ما قال عمر -رضي الله عنه- حين رمل في الطواف: "ما لي أهز كتفي وليس ها هنا أحد يراني؛ لكن أتبع رسول الله -عليه السلام-، أو قال: امتثل ما فعل رسول الله -عليه السلام-". ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي الطفيل قال: "رَمَل رسول الله -عليه السلام- من الحجر إلى الحجر". فهذا الحديث مثل الذي قبله. ش: هذا الحديث أيضًا يدل على أن رمله -عليه السلام- لم يكن من أجل المشركين حين قالوا ما قالوا؛ إذ لو كان كذلك لم يكن يرمل من الحجر إلى الحجر وهو معنى قوله: "فهذا الحديث مثل الذي قبله". وأخرجه بإسناد لا بأس به، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي أبي عثمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الله بن المبارك الإِمام الزاهد المشهور، عن عبيد الله بن أبي زياد القداح أبي الحصين المكي فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس به بأس، وعن النسائي كذلك، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبيد الله بن محمد بن عباس الأصبهاني، ثنا سهل بن عثمان، نا عبد الله بن المبارك، ثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح، عن أبي الطفيل: "أن النبي -عليه السلام- رَمَل من الحجر إلى الحجر". ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "مسنده" (5/ 455 رقم 23853)، وأبو يعلى في "مسنده" (2/ 196 رقم 901) كلاهما من طريق ابن المبارك به. وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 239): "رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه عبيد الله بن أبي زياد القداح، وثقه أحمد والنسائي، وضعفه ابن معين وغيره".

ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع قال: "كان ابن عمر يرمل من الحجر إلى الحجر ثلاثًا ويمشي أربعًا على هيئته، قال ابن عمر: وكان رسول الله -عليه السلام- يفعله". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا سليم بن أخضر، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- كان يرمل من الحجر إلى الحجر". فهذا مثل الذي قبله أيضًا، وقد استدل بذلك عبد الله بن عمر على ما ذكرنا، ففعله بعد رسول الله -عليه السلام- كما كان رسول الله -عليه السلام- فعله إلا أنه ليس في ذلك أنه فعله في حج ولا في عمرة، فقد يجوز أن يكون ذلك منه وهو حاج فخالف ذلك ما روى عنه مجاهد، وقد يجوز أن يكون ذلك كان منه في عمرة فيكون مذهبه: كان يرمل في العمرة، ولا يرمل في الحجة". ش: هذا الحديث أيضًا يدل على أن رمله -عليه السلام- لم يكن من أجل المشركين؛ إذ لو كان كذلك لم يكن يرمل من الحجر إلى الحجر كما ذكرنا، ثم رمل ابن عمر من الحجر إلى الحجر كما كان رسول الله -عليه السلام- يفعله لا يخلو إما أن يكون كان قد فعل ذلك في حجته أو في عمرته؛ لأنه لم يبين ذلك في حديثه، فإن كان ذلك في حجته فقد خالف ذلك ما روى عنه مجاهد عن النبي -عليه السلام-: "أنه رمل في العمرة، ومشى في الحج" وقد مرَّ هذا الحديث عن قريب. وإن فعل ذلك في عمرته دلَّ على أن مذهبه الرمل في العمرة دون الحج كما في حديث مجاهد عنه. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، عن نافع ... إلى آخره.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع: "أن عبيد الله بن عمر كان يرمل الثلاث ويمشي الأربع، ويزعم أن رسول الله -عليه السلام- كان يفعل ذلك". الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة الكوفي، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن سليم بن أخضر البصري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع. وأخرجه مسلم (¬2): نا أبو كامل الجحدري، قال: ثنا سليم بن أخضر، قال: نا عبيد الله، عن نافع: "أن ابن عمر رَمَل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله -عليه السلام- فعله". وأخرجه أبو داود (¬3): عن أبي كامل أيضًا نحوه. قال القاضي: قوله: "رمل من الحجر إلى الحجر" هذا سنة الرمل عند العلماء أن يكون في جميع الثلاثة أشواط، وهو نص في هذا الحديث، وجاء في الحديث الآخر في قصة عمرة الحديبية، وفيه: "وأمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين" قيل: لأنهم كانوا حينئذٍ لا تقع عليهم -أعين المشركين- وهذا لا تعارض فيه لأنها في قضيتين: الأولى في الحديبية، وهذه التي فيها الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، رفق بهم أولاً لما كان بهم من المرض، وأمرهم بالتجلد في الثلاث جهات التي كانت تقع عليهم فيها أعين المشركين حين جلسوا لهم على قعيقعان، وأكمل الرَمَل في الأدوار الثلاثة من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، وهو آخر فِعليه -عليه السلام-. ص: ومما يدل أيضًا على ثبوت الرَمَل وأنه سُنة ماضية: أن رسول الله -عليه السلام- قد فعله في حجة الوداع حيث لا عدو يريه قوته، فمما روي في ذلك ما حدثنا يزيد بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 229 رقم 2940). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 921 رقم 1262). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 179 رقم 1891).

سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبيد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- سعى ثلاثة ومشى أربعة، حين قدم في الحج، والعمرة حين كان اعتمر". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني قال: ثنا محمد بن إدريس، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثل معناه. فهذا خلاف ما رواه مجاهد عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. ش: هذان طريقان: الأول: عن يزيد بن سنان، عن أبي بكر الحنفي -واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد البصري- شيخ أحمد، روى له الجماعة، عن عبد الله بن نافع القرشي، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: منكر الحديث وهو أضعف ولد نافع. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه، عن أبيه نافع، عن ابن عمر. وبنحوه أخرج النسائي (¬1): أنا قتيبة، نا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعًا، ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة". الثاني: إسناده صحيح، عن المزني، عن الإِمام الشافعي، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): نا إبراهيم بن المنذر، نا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا طاف ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 229 رقم 2941). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 584 رقم 1537).

في الحج أو العمرة أول ما يقدم: سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم يسجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة". فهذا الحديث يعارض ما رواه مجاهد عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- رَمَل في العمرة، هو ضعيف يترك بما روي في الصحيح بخلافه. ص: وقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه رَمَل في حجة الوداع". حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "طاف رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع سبعًا، رَمَل منها ثلاثاً، ومشى أربعًا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر ابن محمد ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- طاف سبعة، رَمَل في ثلاثة منهن من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود". فلما ثبت عن رسول الله -عليه السلام- أنه رَمَل في حجة الوداع ولا عدو؛ ثبت أنه لم يفعله إذ كان العدو من أجل العدو، ولو كان فعله إذ كانوا من أجلهم، لما فعله في وقت عدمهم، فثبت بذلك أن الرَمَل من سنن الحج المفعولة فيه الذي لا ينبغي تركها. ش: أخرج عن جابر بن عبد الله من ثلاثة طرق صحاح أنه رَمَل في حجة الوداع، والحال أنه لا عدو حينئذٍ حتى يكون الرمل لأجلهم، فثبت بذلك أنه لم يفعله حين فعله مع وجود العدو لأجل العدو؛ لأنه لو كان فِعْله هذا لأجلهم لما فعله عند عدمهم، فلما فعله عند عدمهم دلَّ على أنه سنة مبتدأة، وسنن الحج لا ينبغي تركها. هذا ما قاله الطحاوي وهو قوله: "فلما ثبت عن رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره.

والأحسن أن يقال: إنه فعل الرَمَل حين كان العدو لأجل العدو، وإظهارًا منهم للتجلد والقوة حين قالوا: "قد وهنتهم حمَّى يثرب"، ثم فعله حين عدمم على أنه سُنة مبتدأة، وإن كانت خفيت علينا حكمته، وإنما قلنا: إنه الأحسن؛ لأن ابن عباس قال في حديثه: "إنما سعى رسول الله -عليه السلام- بالبيت وبين الصفا والمروة؛ ليري المشركين قوته" رواه البخاري (¬1)، وفي رواية له (¬2) عن ابن عباس: "ارملوا؛ ليري المشركين قوتهم والمشركين من قبل قعيقعان"، وفي رواية لمسلم (¬3): "أروهم منكم ما يكرهون" فرمَلَ رسول الله -عليه السلام- ليري المشركين قوته وقوة أصحابه، فهذا كله يدل على أن رمله -عليه السلام- في عمرته كان لأجل العدو، ولكنه رمل أيضًا في حجة الوداع على أنه سُنة مبتدأة، والله أعلم. الطريق الأول: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- المشهور بالصادق، عن أبيه محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب المشهور بالباقر، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه النسائي (¬4): أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، أنا الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "طاف رسول الله -عليه السلام- سبعًا، رمل منها ثلاثًا، ومشى أربعًا". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 594 رقم 1566). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1553 رقم 4009). (¬3) هذا اللفظ ليس عند مسلم في "صحيحه"، إنما أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه على صحيح مسلم" (3/ 354 رقم 2917). (¬4) "المجتبى" (5/ 235 رقم 2961).

وأخرجه مسلم (¬1) مطولاً: نا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم -قال أبو بكر: نا حاتم بن إسماعيل المدني- عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "دخلنا على جابر ... " الحديث. وفيه: "حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعًا" وقد ذكرناه بتمامه فيما مضى. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬2). وأخرجه مسلم (¬3): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا مالك، ونا يحيى -واللفظ له- قال: قرأت على مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أنه قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- رَمَل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف". والترمذي (¬4): نا علي بن خشرم قال: أنا عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- رَمَل من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعًا"، وقال: حديث جابر حديث حسن صحيح. والنسائي (¬5): عن محمد بن مسلمة، عن أبي القاسم، عن مالك ... نحو رواية مسلم. وابن ماجه (¬6): ثنا علي بن محمد، ثنا أبو الحسين العكلي، عن مالك بن أنس ... نحو رواية الترمذي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 364 رقم 810). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 921 رقم 1263). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 212 رقم 857). (¬5) "المجتبى" (5/ 230 رقم 2944). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 983 رقم 2951).

ص: وقد فعل ذلك أيضًا أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر -رضي الله عنه- قال: "فيم الرَمَلان الآن والكشف عن المناكب وقد نفى الله -عز وجل- الشرك وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيئًا عملناه مع رسول الله -عليه السلام-". حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية قال: "لمَّا حج عمر -رضي الله عنه- رَمَل ثلاثًا" وهذا بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- لا ينكره منهم أحدٌ. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور بن المعتمر، عن شقيق، عن مسروق قال: "قدمت مكة معتمرًا، فتبعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فدخل المسجد، فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا". حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا قدم مكة طاف بالبيت ورَمَل، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى بها من مكة لم يرمل بالبيت، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر". ش: أي وقد رمل أيضًا أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده، وأخرج عن ثلاثة منهم، وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. أما أثر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني، فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. روى له أبو داود وابن ماجه. عن هشام بن سعد أبي عباد المدني يقال له: يتيم زيد بن أسلم، فيه مقال، فقال أحمد: لم يكن بالحافظ. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: صالح. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. ولكن روى له مسلم والأربعة، عن زيد بن

أسلم القرشي أبي عبد الله المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب وأحد مشايخ أبي حنيفة ومالك، روى له الجماعة، عن أبيه أسلم مولى عمر روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أَطَّأَ الله الإِسلام ونفى الكفر وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا جعفر بن عون، عن هشام ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: "فيم الرملان الآن وقد أَطَّأَ الله الإِسلام ونفى الكفر وأهله، وايم الله، لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله -عليه السلام-". وأخرج البخاري (¬3): ما يقاربه: ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للركن: أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلمك ما استلمتك، فاستلمه وقال: وما لنا وللرَمَل إنا كنا رائينا به المشركين، وقد أهلكهم الله -عز وجل- ثم قال: شيء صنعه النبي -عليه السلام- فلا نحب أن نتركه". قوله: "فيم الرملانُ" بضم النون؛ لأنه مرفوع بالابتداء، وخبره مقدمًا قوله: "فيم"، ومعناه: لأجل أبي شيء الرَمَل؟! في الطواف، أراد أنهم كانوا يرملون إظهارًا للجلادة والقوة للمشركين، وقد نفى الله الشرك والمشركين، فلماذا نرمل؟! ولكنه سُنة فعلها رسول الله -عليه السلام- فلا نتركها. و"الرملان" على وزن فعلان، مصدر كالرَّمَل، ويكثر مجيء المصدر على هذا الوزن في أنواع الحركة كالنزوان والنسلان والعسلان والرسفان ونحوها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 178 رقم 1887). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 984 رقم 2952). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 582 رقم 1528).

وحكى الحربي فيه قولًا غريبًا وقال: إنه تثنية الرَمَل وليس مصدرًا، وهو أن يهز منكبيه ولا يسرع، والسعي: أن تسرع في المشيء، وأراد بالرملين: الرَمَل والسعي قال: وجاز أن يقال للرمل والسعي: الرملان؛ لأنه لما خف اسم الرمل وثقل اسم السعي غُلِّبَ الأخف، فقيل: الرملان، كما قالوا: القَمَران والعُمَران. قلت: وعل هذا القول النون مكسورة في الرملان؛ لأنه نون التثنية، فافهم، وفيه نظر؛ لأن السعي بين الصفا والمروة شعار قديم من عهد هاجر أم إسماعيل -عليهم السلام-، والرمل إنما شرع في عمرة القضاء لأجل المشركين، وليس مراد عمر -رضي الله عنه- بقوله: فيم الرملان إلَّا الطواف وحده، فليس للتثنية وجه. قوله: "وقد أَطَّأَ الله الإِسلام" أي ثبته وأرساه، والهمزة فيه بدل واو "وَطَّأَ". الطريق الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي أبي زكرياء الكوفي الجزار -بالجيم والزاي وفي آخره راء مهملة- قال العجلي: ثقة وكان فيه تشييع. وعن يحيى: ليس بشيء. روى له الجماعة سوى النسائي والبخاري في الأدب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه لين، عن عطاء بن أبي رباح، عن يعلى بن أميَّة بن أبي عُبيدة المكي الصحابي. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عطاء نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: "أن عمر بن الخطاب رَمَل ما بين الحجر إلى الحجر". وأما أثر عبد الله بن مسعود، فأخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن فضيل بن عياض ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 82 رقم 9059). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 356 رقم 14889).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله: "أنه رَمَل ثلاثًا ومشى أربعًا". وأما أثر عبد الله بن عمر، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع. وأخرجه ابن عبد البر (¬2) نحوه، قال: وأخرج مالك، عن نافع، عن ابن عمر نحوه، [ففي] (¬3) هذا الحديث أنه كان يرمل في الحجة إذا كان إحرامه بها من غير مكة، وكان لا يرمل إذا أحرم بها من مكة، وهذا إجماع من العلماء: أن من أحرم بالحج من مكة من غير أهله والمتمتعين بها أنه لا رمل عليه إن طاف بالبيت قبل خروجه إلى منى؛ لأنهم قد طافوا حين وصولهم حين طافوا للقدوم. قوله: "وإذا لبّى بها" أي بالحجة. ص: ففي هذا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يرمل في الحجة إذا كان إحرامه بها من غير مكة، فهلا خلاف ما رواه عنه مجاهد عن النبي -عليه السلام-، فلا يخلو ما رواه عن مجاهد من أحد وجهين: إما أن يكون منسوخًا، فما نسخه فهو أولى منه. أو يكون غير صحيح عنه، فهو أحرى أن لا يعمل به، وأن يجب العمل بخلافه، ولما ثبت [ما ذكرنا] (¬4) من الرمل عن رسول الله -عليه السلام- بعد عدم المشركين، وعن أصحابه من بعده في الأشواط الأُوَل [الثلاثة] (4)؛ ثبت أن ذلك من سُنة الطواف عند القدوم، وأنه لا ينبغي لأحد من الرجال تركه إذا كان قادرًا عليه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 357 رقم 14987). (¬2) "التمهيد" (2/ 76 رقم 951). (¬3) في "الأصل، ك": "في"، والمثبت من "التمهيد". (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (2/ 182).

ش: أي ففي هذا الأثر عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يرمل في حجته إذا كان إحرامه بها -أي بالحجة- من غير مكة، فهذا خلاف ما روى عنه مجاهد، عن النبي -عليه السلام-: "أنه رمل في العمرة ومشى في الحج" وقد تقدم ذكره، فإذا كان الأمر كذلك فلا يخلو ما رواه عنه من أحد وجهين: إما أن يكون منسوخًا، فحينئذٍ العمل بالناسخ أولى وأجدر. وإما أن يكون غير صحيح، فحينئذٍ العمل بالصحيح أولى، والظاهر أنه غير صحيح. وقال أبو عمر (¬1): وأما رواية مجاهد عن ابن عمر فحديث لا يثبت؛ لأنه رواه الحفاظ موقوفًا عن ابن عمر، ولو كان مرفوعًا عارضه ما هو أثبت منه، ثم روى عن الطحاوي من حديث ابن عمر: "أن رسول اللَّه -عليه السلام- رَمَل ثلاثًا ومشى أربعةً حين قدم في الحج والعمرة". قوله: "وإنه" أي الرمل لا ينبغي لأحد من الرجال تركه، لأنه سُنة من سنن الحج الماضية، حتى قال الحسن البصري: إذا ترك الرمل يهريق دمًا، وعن النخعي أنه يفدي، وقال أبو عمر (¬2): اختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف، والهرولة في السعي، فقال مالك مرةً: يعيد، ومرةً قال: لا يعيد. وبه قال ابن القاسم. واختلف قول مالك: هل عليه دم إذا لم يعد أم لا شيء عليه؟ فمرة قال: لا شيء عليه، رواه عنه ابن وهب في موطأه، وهو قول ابن القاسم، ومرة قال: عليه دم، ورواه معن بن عيسى عن مالك، وهو قول عبد الملك بن الماجشون والحسن البصري وسفيان الثوري، وذكر ابن حبيب ومطرف عن ابن القاسم: أن عليه في قليل ذلك وكثيره دمًا، وقد جاء عن ابن عباس نصًّا فيمن ترك الرَمَل أنه لا شيء ¬

_ (¬1) "التمهيد" (2/ 75). (¬2) "التمهيد" (2/ 77).

عليه، وهو قول عطاء وابن جريج والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو أولى ما قيل في هذا الباب. وإنما قيد الطحاوي بقوله: "من الرجال" لأنهم أجمعوا على أن ليس على النساء رَمَل في طوافهن بالبيت ولا هروة في سعيهن بين الصفا والمروة. وروى الشافعي (¬1)، عن سعيد، عن ابن جريج، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "ليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة" ورواه أيضًا عن عائشة وعطاء. ... ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 129).

ص: باب: ما يستلم من الأركان في الطواف

ص: باب: ما يستلم من الأركان في الطواف ش: أي هذا باب في بيان ما ينبغي استلامه من الأركان في حالة الطواف. قال ابن سيده: استلم الحجر واستلأمه بالهمزة أي قبله واعتنقه، وليس أصله الهمزة، وعن الأزهري: الاستلام افتعال من السلام وهو التحية، وعن ابن قتيبة: هو افتعال من السِّلام -بكسر السين- وهي الحجارة، تقول: استلمت الحجر إذا لمسته، كما تقول: اكتحلت من الكحل، وقال القزاز: قيل: هو استفعل من اللأمة، وهي الدرع والسلاح وإنما تلبس اللأمة ليمتنع بها من الأعداء، فكأن هذا إذا لمس الحجر فقد تحصن من العذاب. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه قال: "كنا نستلم الأركان". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر مثله. ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد اللَّه ابن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدرس المكي، عن جابر -رضي اللَّه عنه-. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن وكيع ... إلى آخره. ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة (¬1): نا ابن نمير، عن حجاج، عن عطاء قال: "أدركت مشيختنا ابن عباس وجابرًا وأبا هريرة وعُبيد بن عمير لا يستلمون إلَّا الحجر الأسود والركن، لا يستلمون غيرهما من الأركان. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 366 رقم 14989).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن من طاف بالبيت فينبغي له أن يستلم أركانه كلها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سويد بن غفلة وجابر بن زيد وعروة بن الزبير؛ فإنهم قالوا: السُنة أن يستلم الأركان كلها، واحتجوا في ذلك بالأثر المذكور، وقال أبو عمر: روي ذلك عن جابر بن عبد اللَّه ومعاوية بن أبي سفيان وأنس بن مالك وعبد اللَّه بن الزبير والحسن والحسين -رضي الله عنهم-، وهم كانوا يستلمون الأركان كلها. وأخرج البيهقي (¬1): من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي الطفيل قال: "حج معاوية -رضي الله عنه- فجعل لا يأتي على ركن من أركان البيت إلَّا استلمه، فقال ابن عباس: إنما كان رسول اللَّه -عليه السلام- يستلم اليماني والحجر، فقال معاوية: ليس من أركانه مهجورًا"، ورواه أبو الشعثاء عن ابن عباس ومعاوية فزاد: "وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن" (¬2). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يستلم من الأركان في الطواف غير الركنين اليمانيين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعطاء والحسن والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: السُنة استلام الركنين اليمانيين لا غير، روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعمير بن عبيد وعمر بن الخطاب وابنه عبد اللَّه بن عمر -رضي الله عنهم-. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر: "من رسول اللَّه -عليه السلام- لم يكن يمر بهذين الركنين الأسود واليماني إلَّا استلهما في كل طواف ولا يستلم هذين الآخرين". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 76 رقم 9023). (¬2) وذكره البخاري تعليقًا (2/ 582).

حدثنا يزيد وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو الوليد الطيالسي (ح). وحدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قالا: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "لم أر رسول اللَّه -عليه السلام- مسح من البيت إلَّا الركنين اليمانيين". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "لم يكن رسول اللَّه -عليه السلام- يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دار الجمحيين". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، عن الليث، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عُبيد بن جريج، أنه قال لعبد اللَّه بن عمر: "رأيتك لا تمس من الأركان إلَّا اليمانيين، فقال: رأيت رسول اللَّه -عليه السلام- لا يمس إلَّا اليمانيين". ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد اللَّه بن عمر، وأخرجه من سبع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي رواد واسمه ميمون المكي وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين، وعن أحمد: رجل صالح وكان مرضيًّا. استشهد به البخاري وروى له الأربعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا الفضل بن دكين، نا ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه -عليه السلام- كان يستلم الركنين اليماني والأسود كل [طوفة] (¬2) ولا يستلم الركنين الآخرين اللذين يليان الحجر". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 115 رقم 5965). (¬2) في "الأصل، ك": "طوافه"، والمثبت من "المسند".

وأخرجه أبو داود (¬1): نا مسدد، قال: نا يحيى، عن عبد العزيز بن أبي روَّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول اللَّه -عليه السلام- لا يدع الركن اليماني والحجر في كل طوفة، قال: وكان عبد اللَّه بن عمر يفعله". الثاني: عن يزيد بن سنان، عن أبي عاصم الضحاك ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. وأخرجه البخاري (¬2): نا أبو الوليد، نا ليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: "لم أر النبي -عليه السلام- يستلم من البيت إلَّا الركنين اليمانيين". وأخرجه أبو داود (¬3): أيضًا عن أبي الوليد الطيالسي نحوه. وأخرجه مسلم (¬4) نحوه: عن يحيى بن يحيى، عن الليث بن سعد .. إلى آخره. الرابع: عن يزيد بن سنان، عن أبي صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬5): عن قتيبة، عن الليث .. إلى آخره نحوه. الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد اللَّه بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 176 رقم 1876). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 583 رقم 1531). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 175 رقم 1874). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 924 رقم 1267). (¬5) "المجتبى" (5/ 232 رقم 2949).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة، قال أبو الطاهر: أنا عبد اللَّه بن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "لم يكن رسول اللَّه -عليه السلام- يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين". السادس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد اللَّه بن وهب، عن الليث، عن ابن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري، عن عبد اللَّه بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، قال: "لم يكن رسول اللَّه -عليه السلام- يستلم من أركان البيت إلَّا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا نحوه. السابع: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) مطولاً: ثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك ... إلى آخره؛ ذكرناه في باب الإِهلال من أين ينبغي أن يكون، وفي كتاب الجنازة، في باب المشي على القبور بالنعال. قوله: "لا يمس" أي لا يمسح إلَّا الركنين اليمانيين: الركن الأسود، والركن اليماني. فإن قيل: قد اختلفت ألفاظ ابن عمر كما ترى، حيث قال في لفظ: "لم أر رسول اللَّه -عليه السلام- يمسح إلَّا الركنين، وفي لفظ: "إلَّا الحجر والركن اليماني"، وفي لفظ: "الركن الأسود والذي يليه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 924 رقم 1267). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 982 رقم 2946). (¬3) "المجتبى" (5/ 232 رقم 2951). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 844 رقم 1187).

قلت: كل هذا متفق عليه، لأن اليمانيين على أسّ البيت، والآخران ليسا بركنين صحيحين؛ لأن الحِجْر وراءهما، ألا ترى أن عبد اللَّه بن الزبير كان يستلم الأركان كلها؛ لأنه كان بني البيت على قواعده الأربع، فكانت أركانها كلها، ولو بنى الآن على ما بناه ابن الزبير لاستلمت كلها كما فعل ابن الزبير -رضي الله عنهما-. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا زهير بن عبَّاد، قال: ثنا عتَّاب بن بشير الجزري، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أن معاوية بن أبي سفيان طاف بالبيت الحرام، فجعل يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس: لِمَ يستلم هذين الركنين ولم يكن رسول اللَّه يستلمهما؟! فقال معاوية: ليس من البيت شيء مهجور، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول اللَّه -عليه السلام- أسوة حسنة قال: صدقت". فهذه الآثار كلها تخبر عن رسول اللَّه -عليه السلام- أنه لم يكن يستلم في طوافه غير الركنين اليمانيين، ومع هذه الآثار من التواتر ما ليس مع الأثر الأول. ش: زهير بن عبَّاد الرؤاسي قال الدارقطني: مجهول. وليس كذلك؛ لأنه ابن عم وكيع بن الجراح كوفي نزل مصر، ووثقه أبو حاتم، وروى عنه، وعتاب بن بشير الجزري أبو سهل الحراني شيخ ابن راهويه، عن أحمد: أرجو ألَّا يكون به بأس، وعنه: أحاديث عتَّاب عن خصيف منكرة. وعن يحيى بن معين: ثقة. روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. وخصيف بن عبد الرحمن الجزري أبو عون الحراني مولى عثمان بن عفان فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث، وعنه: ضعيف الحديث، وعنه: ليس بذاك. وعن ابن معين: صالح. وعن أبي زرعة والعجلي: ثقة، روى له الأربعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا (¬2) محمد بن بكر، أنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 582) باب من لم يستلم إلَّا الركنين اليمانيين. (¬2) كذا في "الأصل، ك"، والذي في "صحيح البخاري": "وقال" وهو معلق وليس مسندًا.

دينار، عن أبي الشعثاء أنه قال: "ومن يتقي شيئًا من البيت؟ فكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم (هذين الركنين) (¬1)، فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن". وأخرج الشافعي في "مسنده" (¬2): ثنا سعيد، أنا موسى الربذي، عن محمد بن كعب: "أن ابن عباس كان يمسح على الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت اللَّه أن يكون شيءٌ منه مهجورًا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة". قوله: "ومع هذه الآثار" أراد بها أحاديث عبد اللَّه بن عمر وابن عباس. "من التواتر" أي التكاثر والتظاهر، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه. وأراد "بالأثر الأول" حديث جابر بن عبد اللَّه الذي احتجت به أهل المقالة الأولى. ص: فكان من الحجة عندنا -والله أعلم- لمن ذهب إلى هذه الآثار أيضًا، على من ذهب إلى ما خالفها: أن الركنين اليمانيين مبنيان على منتهى البيت مما [يليهما] (¬3) والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحِجْر وراءهما و [هو] (¬4) من البيت، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس بركن للبيت، فكان يجيء في النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا بركنين للبيت. ش: أراد بالحجة الدليل من حيث النظر والقياس، لأهل المقالة الثانية، بيانه: أن ركن البيت إنما يستلم لكونه من منتهى البيت، وليس من أركان البيت على منتهى البيت إلَّا الركنان اليمانيان: الركن اليماني والركن الأسود، وأما الركنان الآخران فليسا كذلك؛ لأن الحِجْر وراءهما، وهما في نفس البيت وليسا على منتهى البيت، وقد أجمعوا على أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم لكونه ليس بركن للبيت، ¬

_ (¬1) هكذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح البخاري": "هذان الركنان". (¬2) "مسند الشافعي" (1/ 127). (¬3) في "الأصل، ك": "يليها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) في "الأصل، ك": "وهما"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فالنظر والقياس على ذلك ألَّا يستلم الركنان الآخران؛ لأنهما ليسا بركنين للبيت، فلذلك استلم ابن الزبير جميع الأركان لأنه لما بناه على قواعد إبراهيم صارت الأركان كلها على منتهى البيت، ولو فرضنا أنه لو بني اليوم على ما بناه ابن الزبير كان ينبغي أن تستلم الأركان كلها، فأفهم. قوله: "لأن الحِجْر" بكسر الحاء وسكون الجيم هو اسم للحائط المستدير إلى جنب الكعبة الغربي، ويسمي حجر إسماعيل -عليه السلام-، والحطيم أيضًا، وهو من البيت، ولهذا لا يجوز الطواف إلَّا من ظاهره، حتى إذا طاف من باطنه لا يعتد من الطواف، على ما يجيء الآن. ص: وقد روي عن رسول اللَّه -عليه السلام- في الحِجْر أنه من البيت ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سألت رسول اللَّه -عليه السلام- عن الحِجْر، فقال: هو من البيت، فقلت: ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال: عجزت بهم النفقة". حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأشعث، عن الأسود بن يزيد، قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "سألت رسول اللَّه -عليه السلام- عن الحِجْر: أمِنَ البيت هو؟ قال: نعم. قالت: ما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، فقلت: ما شأن بابه مرتفع؟ قال: فعل قومك ليدخلوا من شاءوا [ويمنعوا من شاءوا] (¬1)، ولولا أن قومك [حديثو] (¬2) عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم ذلك، لنظرت أن أُدْخلِ الحِجْر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليم بن حيَّان، قال: ثنا سعيد ابن مينا، قال: ثنا عبد اللَّه بن الزبير، قال: حدثتني عائشة -رضي الله عنها- أن رسول اللَّه -عليه السلام- ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "حديث"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قال: "لولا أن قومك [حديثو] (¬1) عهد بالجاهلية؛ لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وَلَزِدْتُ ستة أذرع من الحجر في البيت، إن قريشًا استقصرته لما بَنَت البيت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد اللَّه بن أبي بكر السهمي، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان [بينما هو يطوف بالبيت إذ قال قائل: عبد اللَّه بن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين] (¬2) يقول: سمعتها وهي تقول: "إن رسول اللَّه -عليه السلام- قال: يا عائشة، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر. فقال الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تقوله، قال: وددت أني قد كنت سمعت هذا منك قبل أن أهدمه فتركته". ش: ذكر حديث عائشة هذا دليلًا على كون الحِجْر من البيت. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن ربيع المؤذن ... إلى أخره. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد اللَّه -يعني ابن موسى- قال: ثنا شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة -رضي الله عنها-[قالت] (¬4): "سألت رسول اللَّه -عليه السلام- ... " إلى آخره. قوله: "هو من البيت" أي الحِجْر من البيت، وإنما لم يُدْخِلُوه في البيت؛ لأنهم عجزوا عن النفقة، ولم يقدروا على إدخاله في البيت، وروي عن ابن الزبير أنه ¬

_ (¬1) في "الأصل": "حديث" والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 973 رقم 1333). (¬4) في "الأصل، ك": "قال"، وهو خطأ.

قال (¬1): أخبرتني عائشة أن رسول اللَّه -عليه السلام- قال: "لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة؛ فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحِجْر ضاقت بهم النفقة والخشب". قوله: "ما منعهم" أي ما منع قريشًا أن يُدْخِلُوا الحِجْر في البيت حين بنوه، وكان بين بناء قرش البيت وبين ما أنزل على النبي -عليه السلام- الوحي خمس سنين، فيكون بنيانهم وعمر النبي -عليه السلام- خمسة وثلاثون سنة. وروى عبد الرزاق (¬2)، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "كان -يعني البيت- عرشًا يقتحمه العَنْزُ، حتى إذا كان قبل مبعث النبي -عليه السلام- بَنَتْه قريش". وذكر عبد الرزاق أيضًا (¬3): عن ابن جريج، عن عطاء وابن المسيب وغيرهما "أن اللَّه تعالى أوحى إلى آدم: إذا هبطت إلى الأرض أن ابْنِ لي بيتًا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سيناء، ومن لبنان، ومن الجودي ومن طور زيتا وكان ربضه من حراء، فهذا بناء آدم، ثم بناه إبراهيم -عليه السلام-". وروى (¬4) عبد المنعم بن إدريس، عن وهب بن منبه قال: "أول من بنى الكعبة من الطين والحجارة شيث -عليه السلام- وكانت هناك صخرة لآدم -عليه السلام- وضعها اللَّه -عز وجل- له من الجنة"، وعن عبد اللَّه بن عمرو قال (¬5): "لما أهبط اللَّه تعالى آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل معك- بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي، فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء -عليهم السلام- يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه اللَّه لإبراهيم وأعلمه ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (4/ 337 رقم 3022). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 98 رقم 9103). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 92 رقم 9092). (¬4) انظر "تفسير ابن كثير" (1/ 231)، سورة البقرة، آية: [125]. (¬5) عزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 180 رقم 1702) للطبراني في "الكبير" موقوفاً، وقال: رجال إسناده رجال الصحيح.

مكانه، فبناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، وجبل الخَمَر" قال أبو جعفر: هو جبل بالشام، وعن أبان: "أن البيت أهبط ياقوته أو درة واحدة"، وقال عطاء: "أنزل اللَّه ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلما كان الطوفان رفع اللَّه تلك الياقوتة حتى بعث اللَّه إبراهيم -عليه السلام- لبنائه"، وقال مجاهد: "كان موضع البيت على الماء قبل خلق السماوات والأرض مثل الزبدة البيضاء ومن تحته دُحِيَتْ الأرض". وقال أيضًا: "خلق اللَّه موضع البيت قبل أن يخلق شيئًا في الأرض بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة". وقال كعب الأحبار: "كان البيت غثاء على الماء قبل أن تخلق الأرض بأربعين سنة" وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم -عليه السلام- طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعًا وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعًا، وكانت بغير سقف، ولما بنتها قريش جعلوا طولها ثماني عشرة ذراعًا في السماء، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرًا تركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير -رضي الله عنه- جعل طولها في السماء سبعًا وعشرين ذراعًا، ولم يغير الحَجَّاج طولها حين هدمها وهو إلى الآن. وفي "شرح المهذب": بَنَته الملائكة قبل آدم، وحجَّه آدم، وفي "الروض" أول من بناه شيث -عليه السلام- وكان قبل أن يبنيه خيمة من ياقوتة حمراء، وطوف بها آدم وتأنس بها؛ لأنها أنزلت من الجنة. وقيل: إنه بُني في أيام جرهم مرةً أو مرتين؛ لأن السيل كان قد صدع حائطه. وقيل: لم يكن بنيانًا إنما كان إصلاحًا لما وهن منه، وبنى عامر بن الجادر جدارًا بينه وبين السيل. الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان الكوفي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، نا أبو الأحوص، نا الأشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: "سألت النبي -عليه السلام- عن الجدار، أَمِنَ البيت ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن الأشعث ... إلى آخره نحوه. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحِجْر من البيت؛ ولهذا أجمع العلماء على أن الطواف من ورائه، وإنما اختلفوا فيمن صلى فيه هل يجوز أم لا؟ ومنها ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضرّ من تركه واستئلاف الناس على الإِيمان وتسهيل الأمور عليهم. الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَليم -بفتح السين وكسر اللام- ابن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- الهذلي البصري، عن سعيد بن مينا -بكسر الميم وبالمد والقصر- المكي، عن عبد اللَّه بن الزبير -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني محمد بن حاتم، قال: حدثني ابن مهدي، قال: ثنا سليم بن حيَّان، عن سعيد -يعني ابن مينا- قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير يقول: حدثتني خالتي -يعني عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال النبي -عليه السلام-: يا عائشة، لولا أن قومك [حديثو] (¬4) عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيًّا وبابا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة". ¬

_ (¬1) "صحيج البخاري" (2/ 573 رقم 1507). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 973 رقم 1333). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 969 رقم 1333). (¬4) في "الأصل، ك": "حديث"، والمثبت من "صحيح مسلم".

الرابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن عبد اللَّه بن بكر السهمي شيخ أحمد، روى له الجماعة، عن حاتم بن أبي صغيرة هو حاتم بن مسلم بن يونس القشيري، وأبو صغيرة أبو أمه وقيل: زوج أمه، روى له الجماعة، عن أبي قزعة سويد بن حجير الباهلي، روى له الجماعة سوى البخاري. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني [محمد بن] (¬2) حاتم، قال: نا عبد اللَّه بن بكر السهمي، قال: نا حاتم بن أبي صغيرة، عن أبي قزعة ... إلى آخره نحوه. والحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة -واسمه عمرو- بن المغيرة المخزومي القرشي المكي المعروف بالقباع، وكان استعمله عبد اللَّه بن الزبير على البصرة، روى له مسلم، والنسائي ولم يسمه، وأبو داود في "المراسيل". قوله: "قاتل اللَّه" أي قتله، وقيل: لعنه، وقيل: عاداه، وقد ترد هذه اللفظة ولا يراد بها وقوع الأمر، ومنه حديث عمر -رضي اللَّه عنه-: "قاتل اللَّه سَمُرة" (¬3). والظاهر أن قول عبد اللَّه بن مروان من هذا القبيل. قوله: "لولا حدثان قومك" حِدْثان الشيء -بكسر الحاء وسكون الدال- أوله، وهو مصدر حَدَثَ يَحْدُثُ حدوثًا وحِدْثانًا، والمراد به قرب عهدهم بالكفر والخروج منه والدخول في الإِسلام، وأنه لم يتمكن الدين في قلوبهم، فلو هدمت الكعبة وغيرتها ربما نفروا من ذلك. ص: فلما ثبت أن الحِجْر من البيت، وأن الركنين اللذين يليانه ليسا بركنين للبيت؛ ثبت أنهما كما بين الركنين اليمانيين لا يستلم، فكذلك هذان أيضًا -في النظر- لا يستلمان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 972 رقم 1333). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (3/ 1207 رقم 1582)، وهو عند البخاري في "صحيحه" (3/ 1275 رقم 3273) بلفظ: "قاتل اللَّه فلانًا".

ش: أي فلما ثبت أن الحِجْر -بكسر الحاء وسكون الجيم- من نفس البيت بالأحاديث المذكورة، وثبت أن الركنين اللذين يليان الحِجْر ليسا بركنين؛ لأنهما في وسط البيت وليسا بمنتهاه، وثبت [أنهما] (¬1) "يستلمان كما لا يستلم ما بين الركنين، على ما يقتضيه النظر والقياس. ص: وقد استدل عبد اللَّه بن عمر -رضي الله عنهما- بما استدللنا به من هذا في ترك رسول اللَّه -عليه السلام- استلام ذينك الركنين. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- أخبر عبد اللَّه بن عمر، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه السلام- قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أفلا تردها على قواعد إبراهيم -عليه السلام-؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر. قال: فقال عبد اللَّه بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت ذلك من رسول اللَّه -عليه السلام- ما أرى رسول اللَّه -عليه السلام- ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلَّا أن البيت لم يتمَّم على قواعد إبراهيم -عليه السلام-". فثبت بهذه الآثار ما ذكرنا، وأنه لا ينبغي أن يستلم من أركان البيت إلَّا الركنين اليمانيين، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم اللَّه-. ش: ذكر هذا شاهدًا لاستدلاله لترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر وتأييدًا له؛ وذلك لأن ابن عمر أخبر في حديثه أنه -عليه السلام- إنما ترك استلام هذين الركنين لكون البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم، كما قلنا إنهم لما قصرت بهم النفقة اقتصروا على ما هو عليه الآن، وبقي الحجر الذي هو من نفس البيت خارج البيت، حتى لو بني البيت على قواعد إبراهيم -عليه السلام- لكان ينبغي أن تستلم الأركان كلها؛ لأن كلها حينئذٍ تصير على منتهى البيت .. ثم رجال الحديث المذكور كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أن".

وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. والنسائي (¬3): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك نحوه. قوله: "ألم تري [أن] (¬4) قومك" أراد بهم قريشًا؛ لبنيانهم الكعبة، قال اللَّه تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} (¬5) قال المفسرون: يعني قريشًا. قوله: "على قواعد إبراهيم -عليه السلام-" جمع قاعدة، وهي الأساس. قوله: "لئن سمعت عائشة بذلك" ليس على طريق التضعيف والتشكيك في روايتها، فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا تستراب فيما تنقله، لكن كثيرًا ما يأتي في كلام العرب صور التقرير والتشكيك، والمراد به اليقين كقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (¬6)، وقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ...} (¬7) الآية. ... ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 573 رقم 1506). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 969 رقم 1333). (¬3) "المجتبى" (5/ 214 رقم 2900). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، وهي مثبتة في متن الحديث. (¬5) سورة الأنعام، آية: [66]. (¬6) سورة الأنبياء، آية: [111]. (¬7) سورة سبأ، آية: [50].

ص: باب: الصلاة للطواف بعد الصبح وبعد العصر

ص: باب: الصلاة للطواف بعد الصبح وبعد العصر ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلاة -وهي الركعتان لأجل الطواف- إذا صلاهما بعد الصبح أو بعد العصر: هل يكره ذلك أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن ابن باباه، عن جبير ابن مطعم، رفعه أنه قال: "يا بني عبد المطلب لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. ويونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وسفيان هو ابن عيينة، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وأبي عبد اللَّه بن باباه ويقال: بَابَي، ويقال: ابن بابيه المكي، روى له الجماعة سوى البخاري، وجبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): نا ابن السَّرْح والفضل بن يعقوب -وهذا لفظه- قالا: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه، عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي -عليه السلام-[قال: "لا تمنعوا أحدًا يطفو بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار"] (¬2) -قال الفضل-: "إن رسول اللَّه -عليه السلام- قال: يا بني عبد مناف ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬3): عن أبي عمار وعلي بن خشرم وغير واحدٍ قالوا: نا سفيان ... إلى آخره نحوه. وقال أبو عيسى: حديث جبير حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 180 رقم 1894). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 220 رقم 868).

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم بن يزيد بن مردانبة، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه -عليه السلام- قال: "يا بني عبد مناف، إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار". ش: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد اللَّه القرشي الأموي البصري، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه. وحسان بن إبراهيم بن عبد اللَّه الكرماني قاضي كَرمان وأحد أصحاب أبي حنيفة، وثقه يحيى، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود. وإبراهيم بن يزيد بن مردانبه المكي، فيه مقال، فعن ابن معين: ليس بثقة -أو ليس بشيء- وعن أحمد: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. روى له الترمذي والنسائي وابن ماجه. وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ، حدثني عطاء، عن ابن عباس أن النبي -عليه السلام- قال: "يا بني عبد مناف، إن (وليتم من هذا الأمر من بعدي) (¬2) فلا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى إباحة الصلاة للطواف في الليل والنهار، فلا يمنع من ذلك عندهم وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 159 رقم 11359). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المعجم الكبير": "وليتم هذا الأمر بعدي".

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان والقاسم وعروة بن الزبير والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم ذهبوا إلى حديث جبير بن مطعم وابن عباس، فقالوا: تباح الصلاة لأجل الطواف في أي وقت كان من الليل والنهار. وفي "شرح الموطأ" في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: إجازة الطواف بعد الصبح وبعد العصر وتأخير الركعتين حتى تطلع الشمس أو تغرب، وهو مذهب عمر وأبي سعيد الخدري ومعاذ بن عفراء وجماعة. وهو قول مالك. والثاني: كراهة الطواف وكراهة الركوع في الوقتين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة؛ للنهي عن الصلاة في الوقتين، ولأن الطواف لا يتم إلَّا بالركعتين، وسنتهما أن لا يفرق بينهما. والثالث: إباحة ذلك كله في الوقتين. وبه قال الشافعي، وقاله ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين والحسن وعطاء وطاوس والقاسم وعروة. وهو أحد قولي أبي حنيفة، وكره الثوري الطواف في الوقتين، فإن طاف فلا يركع حتى تحل صلاة النافلة، وقاله أبو حنيفة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا حجة لكم في هذه الآثار؛ لأن ما أباح رسول اللَّه -عليه السلام- فيها، وأمر بني عبد مناف أن لا يمنعوا أحدًا منه من الطواف والصلاة هو الطواف على سبيل ما ينبغي أن يطاف، والصلاة على سبيل ما ينبغي أن تصلى، فأما على ما سوى ذلك فلا، أفلا ترى أن رجلاً لو طاف بالبيت عريانًا أو على غير وضوء أو جُنُبًا أن عليهم أن يمنعون من ذلك؟ لأنه طاف على غير ما ينبغي الطواف عليه، وليس ذلك بداخل فيما أمرهم رسول اللَّه -عليه السلام- ألَّا يمنعوا منه من الطواف، فكذلك قوله: "لا تمنعوا أحدًا يصلي" هو على ما أمر أن يصلى عليه من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة في الأوقات التي أبيحت الصلاة فيها، فأما ما

سوى ذلك فلا، وقد نهى رسول اللَّه -عليه السلام- نهيًا عامًّا عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونصف النهار، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغيب الشمس، وتواترت بذلك الآثار عن رسول اللَّه -عليه السلام- وقد ذكرت ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وسعيد ابن جبير، والحسن البصري والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا؛ فإنهم كرهوا الصلاة للطواف بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس. قوله: "فقالوا" أي هؤلاء الآخرون، وأراد به نفي صحة استدلال القوم المذكورين بهذه الآثار المذكورة عن ابن عباس وجبير بن مطعم -رضي الله عنهم-، بيانه: أن المراد من هذه الآثار هو إباحة رسول اللَّه -عليه السلام- الطواف والصلاة إذا وقعا على سبيل ما ينبغي وقوعهما، وليس المرإد إباحتهما مطلقًا، وكيف يراد الإِطلاق وقد نهى رسول اللَّه -عليه السلام- نهيًا عامًا عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند استوائها، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وقد مضى ذكر هذا عن ابن عباس وغيره في باب: الركعتين بعد العصر. قوله: "وتواترت بذلك الآثار" أي بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات، وأراد بالتواتر التكاثر والتظاهر، ولقد ذكرنا هناك أن تسعة عشر من الصحابة -رضي الله عنهم- قد أخرجوا في كراهة الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وقد أجاب بعضهم عن الحديث المذكور بأنه محمول على الدعاء لا الصلاة الحقيقية، وهو بعيد. وقال آخرون: هو محمول على غير أوقات النهي؛ لأن هذا عامٌّ في الإِباحة وحديث النهي خاص في التحريم، فيحمل على ما عداه، ولأن الإِباحة والتحريم إذا اجتمعا عُمِلَ بالتحريم؛ لأنه الأحوط في الدين.

فإن قيل: ما تقول فيما أخرجه الدارقطني (¬1) ثم البيهقي (¬2) من حديث عبد اللَّه بن المؤمل، عن جعفر مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، عن أبي ذر، سمعت رسول اللَّه -عليه السلام- يقول: "لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلَّا بمكة يقول ذلك ثلاثاً؟ ". قلت: قال صاحب "البدائع": هذا خبر شاذ فلا يعارض الخبر المشهور. وقلت أنا: ابن المؤمل ضعيف، وجعفر الأعرج ليس بالقوي، ومجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر. ص: وكان مما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا بشر بن السري، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه قال: "طاف أبو الدرداء بعد العصر، وصلى قبل مغارب الشمس، فقلت: أنتم أصحاب محمد -عليه السلام- تقولون: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فقال: إن هذا البلد ليس كسائر البلدان". فقالوا: فقد دلَّ قول أبي الدرداء على أن الصلاة للطواف لم يدخل فيها نهي عن النبي -عليه السلام- من الصلاة في الأوقات التي ذكرتم. قيل لهم: فأنتم لا تقولون بهذا الحديث؛ لأنا قد رأيناكم تكرهون الصلاة بمكة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لغير الطواف؛ لنهي النبي -عليه السلام- عن الصلاة في تلك الأوقات، ولا تخرجون حكم مكة في ذلك من حكم سائر البلدان، وأبو الدرداء فقد أخرج في الحديث الذي احتجتم به حكم مكة من حكم سائر البلدان في المنع من الصلاة في ذلك وأخبر أن النهي لم يدخل حكمها فيه، وأنه إنما أريد به ما سواها، مع أنه قد خالف أبا الدرداء في ذلك عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 265 رقم 136). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 461 رقم 4207).

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: "طاف عمر -رضي الله عنه- بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري مثله. فهذا عمر -رضي اللَّه عنه- لم يركع حينئذٍ؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخَّر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة فصلى، وهذا بحضرة أصحاب رسول اللَّه -عليه السلام- فلم ينكره عليه منهم مُنْكِرٌ، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة للطواف لصلى ولما أخَّر ذلك؛ لأنه لا ينبغي لأحد طاف بالبيت أن لا يصلي حينئذٍ إلَّا من عذر. ش: أي وكان من الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه حديث أبي الدرداء. وأخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن يعقوب بن حميد شيخ ابن ماجه، فيه مقال وقد تكرر ذكره، عن بشر بن السري البصري أبي عمرو الأفوه نزيل مكة، روى له الجماعة، وفي "الميزان": قال الحميدي: جهمي لا يحل أن يكتب عنه، وهو يروي عن إبراهيم بن طهمان الخراساني أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، عن عبد اللَّه بن باباه المكي، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه، عن أبي الدرداء: "أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس، فصلى ركعتين قبل الغروب، فقيل له: أنتم أصحاب رسول اللَّه -عليه السلام- تقولون: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فقال: إن هذه البلدة ليست كغيرها". قوله: "فقالوا" أي أهل المقالة الأولى". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 463 رقم 4216).

قوله: "قيل لهم: ... إلى آخره" أي قيل لأهل المقالة الأولى في الجواب عن هذا، وهو على وجهين: الأول: أن يقال: أنتم لا تقولون بهذا الحديث لأنكم تكرهون الصلاة بمكة في الأوقات المذكورة إذا كانت لغير الطواف؛ لثبوت النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، مع أنكم لا تخرجون حكم مكة في ذلك من حكم سائر البلاد، والحال أن أبا الدرداء قد أخرج في حديثه حكم مكة من حكم سائر البلاد، فإذن لا يتم استدلالكم بحديثه. والثاني: أنه قد خالف أبا الدرداء فيما ذهب إليه، عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حيث لم يصل شيئًا بعد أن طاف بعد الصبح حتى طلعت الشمس ثم صلى بذي طوى. وأخرجه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ -بتشديد الياء نسبة إلى قارة بن [الديش، و] (¬1) هم بنو الهون بن خزيمة، قيل: إن له صحبة. وأخرجه البخاري تعليقًا (¬2)، والبيهقي في "سننه" (¬3): من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد قال: "صلى عمر -رضي الله عنه- الصبح بمكة، ثم طاف سبعاً، ثم خرج وهو يريد المدينة، فلما كان بذي طوى [و] (¬4) طلعت الشمس صلى ركعتين". وقال أحمد بن حنبل: أخطأ سفيان، وقد خالفوه فقالوا: الزهري عن حميد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه ذكر هذا الحديث فقال: ذاك يهم فيه سفيان، يقول: عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "الطبقات" لخليفة بن خياط (1/ 236)، و"تهذيب مستمر الأوهام" (1/ 70). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 588). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 463 رقم 4217). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

عروة. قيل له: فهذا نوح بن يزيد رواه عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة أيضًا، فأنكره، فرجعت إلى نوح فأخرجه لي من أصل كتابه، فإذا هو عن عروة، وإذا صالح أيضًا يرويه عن عروة، قال أبو عبد اللَّه: نوح لم يكن به بأس كان متثبتًا، ولعل إبراهيم أن يكون حدَّث من حفظه، وكان ربما حدث بالشيء من حفظه، وكتاب صالح عندي وما أدري كيف قال فيه؟ وقال أبو حاتم: حديث سفيان خطأ. والآخر: عن يونس أيضًا، عن عبد اللَّه بن وهب، عن مالك بن أنس، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: "طاف عمر ... إلى آخره". وأخرجه مالك في موطأه (¬1). قوله: "بذي طوى" ذكر ابن قرقول أنها بفتح الطاء المهملة وقيدها الأصيلي بخطه بكسرها، ومنهم من يضمها، قال أبو عبيد البكري: بفتح أوله مقصور منون على وزن فعلى: وادٍ بمكة. وقال السهيلي: بأسفل مكة، وفي "المحكم": ذو طوى مقصور وادي بمكة شرفها اللَّه تعالى، وكان في كتاب أبي زيد الأنصاري: ممدودًا، والمعروف أن ذا طوى -بالقصر- وادي بمكة، وذا طواء -ممدود- موضع بطريق الطائف، وقيل: وادٍ. وفي باب ضم الطاء وفتح الواء ذكره الحازمي. وقال القرطبي: ذو طوى بفتح الطاء والقصر، وحكى بعض اللغويين ضم الطاء مع القصر. ص: وقد روي عن معاذ بن عفراء مثل ذلك، وقد ذكرت ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 368 رقم 820).

ش: أي قد روي عن معاذ بن عفراء مثل ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: "أنه طاف بعد العصر وبعد صلاة الصبح فلم يصل، فسئل عن ذلك، فقال: نهى رسول اللَّه -عليه السلام- عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". ذكره الطحاوي في باب: الركعتين بعد العصر، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن سعد، عن نصر بن عبد الرحمن، عن معاذ بن عفراء. ص: وقد روي مثل ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا همام، قال: ثنا نافع: "أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلَّا بعد ما طلعت الشمس". ش: أي وقد روي مثل ما روي عن عمر عن ابنه عبد اللَّه بن عمر، أنه طاف بعد الصبح ولم يصل إلَّا بعد طلوع الشمس. أخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن همام بن يحيى، عن نافع مولى ابن عمر .. إلى آخره. ويعارضه ما رواه البخاري (¬1) تعليقًا: "وكان ابن عمر يصلي ركعتين للطواف ما لم تطلع الشمس". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) مسندًا: نا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عطاء قال: "رأيت ابن عمر طاف بالبيت بعد الفجر وصلى الركعتين قبل طلوع الشمس". ص: والنظر يدل على ذلك أيضًا؛ لأنا قد رأينا رسول اللَّه -عليه السلام- قد نهى عن صيام يوم الفطر ويوم النحر، فكل قد أجمع أن ذلك في سائر البلدان سواء، فالنظر على ذلك أن يكون ما نهى عنه من الصلاة في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها في سائر ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 588) باب الطواف بعد الصبح والعصر. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 180 رقم 13245).

البلدان كلها على السواء، فبطل بذلك قول من ذهب إلى إباحة الصلاة للطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. ش: أي القياس أيضًا يدل على ما ذكره أهل المقالة الثانية، ووجهه ظاهر. ص: ثم اختلف الدين خالفوا أهل المقالة الأولى في ذلك على فرقتين: فقالت فرقة منهم: لا يصلى في شيء من هذه الخمسة الأوقات للطواف كما لا يصلى فيها للتطوع. وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وقد وافقهم في ذلك ما روينا عن عمر ومعاذ بن عفراء وابن عمر -رضي الله عنهم-. وقالت فرقة: يصلى للطواف بعد العصر قبل اصفرار الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس، ولا يصلى لذلك في الأوقات الثلاثة البواقي المنهي عن الصلاة فيها. وممن قال ذلك: مجاهد وإبراهيم النخعي وعطاء. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "طف وصلّ ما كنت في وقتٍ، فإذا ذهب الوقت فأمسك". حدثنا أحمد، قال: نا يعقوب، قال: ثنا ابن أبي غنيّة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله. حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد اللَّه بن رجاء وعبيد اللَّه بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: "طف -قال عبيد اللَّه بعد الصبح وبعد العصر- وصلِّ ما كنت في وقت -وقال ابن رجاء: في وقت صلاة". ش: "في ذلك" أي فيما ذهبوا إليه من إباحة الصلاة للطواف بعد العصر قبل غروب الشمس وبعد الصبح قبل طلوعها. قوله: "فرقة منهم" أراد بهم: الثوري والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وصاحبيه.

وقد وافق هؤلاء -أي مذهبهم- ما روي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللَّه ومعاذ بن عفراء. قوله: "وقالت فرقة" وأراد بهم مجاهدًا وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح. قوله: "حدثنا أحمد بنداود ... إلى آخره" بيان لقوله: "وممن قال ذلك مجاهد ... " إلى آخره. ورجال هذه الآثار قد ذكروا غير مرة. ومغيرة: هو ابن مقسم الضبي. وابن أبي غنيّة: هو عبد الملك بن حميد بن أبي غنيّة الخزاعي الكوفي، روى له الجماعة. وعبد الملك بن أبي سليمان واسمه ميسرة العرزمي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وعبد اللَّه بن رجاء بن عمر الغداني شيخ البخاري. وعُبيد اللَّه بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي، روى له الجماعة. وعثمان بن الأسود بن موسى بن باذان المكي، روى له الجماعة. وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه ما يعارض ما روي عن مجاهد ها هنا، فقال (¬1): ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب قال: "رأيت مجاهدًا وسعيد بن جبير يطوفان بالبيت حتى تصفرّ الشمس ويجلسان". وروى أيضًا: عن عطاء، عن عائشة ما يعارض ما روي عن عطاء ها هنا، فقال (¬2): ثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة أنها قالت: "إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر فطف، وأخِّر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع، وصلِّ لكل أسبوع ركعتين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 184 رقم 13256). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 182 رقم 13257).

وقال أيضًا (¬1): ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام، عن عطاء قال: "كان المسور بن مخرمة يطوف بعد الغداة ثلاثة أسابيع، فإذا طلعت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين، وبعد العصر يفعل ذلك، فإذا غابت الشمس صلى لكل أسبوع ركعتين". ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا ابن أبي غنيّة، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: "كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلي ما كانت الشمس بيضاء حيّة، فإذا اصفرّت وتغيرت طاف طوافًا حتى يصلي المغرب ثم يصلي، ويطوف بعد الصبح ويصلي ما كان في غلس، فإذا اسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم وعطاء: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يطوف بعد الصبح وبعد العصر أسبوعًا أسبوعًا، ويصلي ركعتين ما كان في وقت صلاة". فهذا عطاء قد قال برأيه ما ذكرنا، وقد روى عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار" فقد حمل ذلك على خلاف ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى. ش: أي وقد روي مثل ما روي عن مجاهد وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح -فيما ذكر- عن عبد اللَّه بن عمر -رضي الله عنهما-. أخرجه من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد، عن عبد الملك بن حميد بن أبي غنيّة، عن عمر بن ذر الهمداني الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، وثقه يحيى والنسائي والدارقطني، وعن أبي داود: كان رأسًا في الإِرجاء، وقال أبو حاتم: كان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 181 رقم 1325).

صدوقًا، وكان مرجئًا لا يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم، ابن ماجه في التفسير عن مجاهد بن جبر المكي. والثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي الذي روى له الجماعة، عن سالم بن عبد اللَّه وعطاء بن أبي رباح، كلاهما عن ابن عمر. قوله: "في غَلَس" بفتحتين وهو ظلمة آخر الليل بعد طلوع الفجر الصادق. قوله: "فإذا أسفر" أي انكشف الضياء وانتشر. قوله: "ويمكن الركوع" أي الصلاة، من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل. قوله: "أسبوعًا" نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي كان يطوف طوافًا أسبوعًا أي سبع مرات، ومثله. سبوعًا بدون الهمزة، وكذا يقال طاف سَبعًا بالفتح والضم، وفي "المطالع": المعروف في اللغة أنك إذا ضممت أدخلت الواو، وهو جمع سَبْع مثل: ضروب وضرب، وقال الأصمعي: جمع السبع أسبع. قوله: "فهذا عطاء قد قال برأيه ما قد ذكرنا" وهو قوله: طف وصلّ ما كنت في وقت، فإذا ذهب الوقت: فأمسك. قوله: "وقد روي عن ابن عباس" أي والحال أنه -أي عطاء- قد روى عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تمنعوا أحداً يطوف ... " الحديث، فقد حمل ذلك -أي ما رواه ابن عباس- على خلاف ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ وذلك لأن أهل المقالة الأولى ذهبوا إلى [أن] (¬1) معنى هذا الحديث إباحة الصلاة للطواف في أي وقت كان؛ أخذًا بظاهره، وعطاء ذهب إلى أن معناه: ويصلي أي ساعة شاء من الأوقات التي أبيحت الصلاة فيها، وهي ما عدا وقت الطلوع ووقت الغروب ووقت الاستواء، وقد ذكرنا أن أبا حنيفة وصاحباه ذهبوا إلى أن معناه: فيما ما عدا هذه الأوقات الثلاثة، وبعد العصر والصبح أيضًا، فالجملة خمسة أوقات. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ص: وكان النظر في ذلك لما اختلفوا هذا الاختلاف: أنا رأينا طلوع الشمس وغروبها ونصف النهار، يمنع من قضاء الصلوات الفائنات، وبذلك جاءت السُنة عن رسول اللَّه -عليه السلام- في تركه قضاء الصبح التي نام عنها إلى ارتفاع الشمس وبياضها، فإذا كان ما ذكرنا ينهى عن قضاء الفرائض الفائنات فهو عن الصلاة للطواف أنهى، وقد قال عقية بن عامر -رضي اللَّه عنه-: "ثلاث ساعات كان رسول اللَّه -عليه السلام- ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تَضَيَّفُ للغروب حتى تغرب". وقد ذكرنا ذلك بإسناده فيما تقدم من كتابنا هذا. فإذا كانت هذه الأوقات تنهى عن الصلاة على الجنائز، فالصلاة للطواف أيضًا كذلك، وكانت الصلاة بعد العصر قبل تغيُّر الشمس، وبعد الصبح قبل طلوع الشمس مباحة على الجنائز، ومباحة في قضاء الصلاة الفائتة، ومكروهة في التطوع، وكان الطواف يوجب الصلاة حتى يكون وجوبها كوجوب الصلاة على الجنائز، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون حكمها بعد وجوبها كحكم الفرائض التي قد وجبت، وكحكم الصلاة على الجنازة التي قد وجبت، فتكون الصلاة للطواف تصلى في كل وقت تصلى فيه على الجنازة، وتقضى فيه الصلاة الفائتة، ولا تصلى في كل وقت لا يصلى فيه على الجنازة، ولا تقضى فيه صلاة فائتة، فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب، على ما قال عطاء وإبراهيم ومجاهد، وعلى ما قد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وإليه نذهب، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم اللَّه-. ش: أي وكان النظر والقياس في الحكم المذكور لما اختلفوا هذا الاختلاف المذكور أنَّا رأينا ... إلى آخره. قوله: "وبذلك جاءت السُّنة" أي وبمنع الصلوات في الأوقات الثلاثة جاءت السنة عن النبي -عليه السلام- في موضعين: الأول: في حديث ليلة التعريس وهو مشهور.

والثاني: في حديث عقبة بن عامر الجهني: "ثلاث ساعات ... " إلى آخره، قد ذكره الطحاوي في باب مواقيت الصلاة، والباقي من كلامه ظاهر، حاصله أنه اختار قول عطاء وإبراهيم النخعي ومجاهد في هذا الباب، حيث قال: وإليه نذهب، وقولهم هو: أن ركعتي الطواف تصلى فيما بعد الصبح وما بعد العصر، ولا تصلى في الأوقات الثلاثة: عند الطلوع وعند الغروب وعند الاستواء، فصار حكم هذه الصلاة كحكم صلاة الجنازة، وحكم الصلوات الفائتة، وهذا خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم اللَّه- فإنهم منعوها فيما بعد الصبح وما بعد العصر كما ذكرنا. والله أعلم. ***

ص: باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة

ص: باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة ش: أي هذا باب في بيان حكم من أحرم بحجة، فطاف لها قبل أن يقف بعرفة، أراد أنه بعد أن طاف حلَّ قبل الوقوف بعرفة. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أن ابن عباس كان يقول: "لا يطوف أحد بالبيت حاجٌّ ولا غيره إلَّا حلَّ به، قلت له: من أين كان ابن عباس يأخذ ذلك؟ قال: من قبل قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1)، فقلت له: فإنما ذلك بعد المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل المعرف وبعده، قال: وكان ابن عباس يأخذها من أمر النبي -عليه السلام- أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قالها لي غير مرة". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن عروة قال لابن عباس: "أضللت الناس يا ابن عباس، قال: وما ذاك يا عُرَيَّة؟ قال: تفتي الناس أنهم إذا طافوا بالبيت فقد حلَّوا، وكان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يجيئان ملبيين بالحج فلا يزالان محرمين إلي يوم النحر؟! قال ابن عباس: بهذا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله -عليه السلام- وتحدثوني عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: إن أبا بكر وعمر كانا أعلم برسول الله منك". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة، قال: سمعت أبا حسان الرقاشي: "أن رجلاً قال لابن عباس، يا ابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تقشعت عنك أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟! قال: سُنة نبيك وإن رغمتم". ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [33].

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم العصري العبدي البصري مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا محمد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: كان ابن عباس يقول: "لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلَّا حلّ، قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله -عز وجل- {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2)، قلت: فإن ذلك بعد المعرف، فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله؛ كان يأخذ ذلك من أمر النبي -عليه السلام- حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع". قوله: "إلّا حلَّ" أي صار حلالاً. قوله: "بعد المعرف" يريد بعد الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضًا، والمعرف في الأصل موضع التعريف، ويكون بمعنى المفعول. قلت: هو بضم الميم وفتح العين والراء، وهو موضع الوقوف بعرفة، والتعريف الوقوف بها. قوله: "وكان ابن عباس يأخذها من أمر النبي -عليه السلام-" إلى آخره. أراد به نسخ الحج في العمرة، وهذا لا يجوز عند جمهور العلماء من الصحابة وغيرهم. قال ابن عبد البرِّ: ما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلَّا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود وسائر الفقهاء، وكلهم قالوا على أن فسخ الحج في العمرة خص به أصحاب النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 913 رقم 1245). (¬2) سورة الحج، آية: [33].

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير ومؤذنًا له. وأخرجه أسد السنة في "مسنده" عن حماد نحوه. الثالث: عن سليمان بن شعيب الكسائي، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الثقفي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج ويقال: الأجرد واسمه مسلم ابن عبد الله، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس: "ما هذي الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس؛ أن من طاف بالبيت فقد حلَّ؟! فقال: سُنَّة نبيكم -عليه السلام- وإن رغمتم" وفي لفظ له: "إن هذا الأمر قد تقشع الناس". قوله: "قد تقشعت عنك" على وزن تفعلت بالقاف والشين المعجمة والعين المهملة ومعناه قد فشت وانتشرت عنك، يقال له: تقشع له الولد إذا كثر وانتشر، وقد يكون معناه: قد كسَّدت الناس عن المتعة، قال الفراء: التقشع والقشاع الكسل، وقد يكون معناه: أفسدت حال الناس بوقوع الخلاف بينهم، من القشاع وهو نبات يلتوي على الثمار. ثم هذه اللفظة هكذا وقعت أيضًا في مسند ابن أبي داود وفي شهاب ابن أبي شيبة من رواية همام عن عبادة، وكذا في لفظ لمسلم وهو. قوله: إن هذا الأمر قد تقشع الناس كما ذكرناه الآن، وأما الذي وقع في روايته: "تشغفت" فهو بالشين والغين المعجمتين وبعدها الفاء، وكذا وقع في رواية لابن أبي شيبة، قال القاضي: هذه الرواية إن لم تكن وهمًا وظنًّا فمعناه: علقت بقلوب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 912 رقم 1244).

الناس وشغفوا بها، وقد قال المفسرون في قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (¬1) أي علقها، وأما اللفظة الثانية في رواية مسلم أيضًا "أو تشعبت" فهي بالعين المهملة بعدها الباء الموحدة، قال القاضي: وكذا رويناه عن الأسدي والتميمي من شيوخنا، وعند غيرهما: أو تشغبت بالغين المعجمة، وقد ذكر أبو عُبيد هذا الحديث بهذا الحرف من غير شك، وذكر الخلاف بهذين الوجهين في العين والغين عن رواية وأخبار: هو بالعين المهملة، ومعنى هذا على رواية العين المهملة: فرقت الناس، أو فرقت مذاهب الناس، وبالمعجمة من التشغيب أي: خلطت عليهم أمرهم. قوله: "وإن رغمتم" أي وإن كرهتم هذا الأمر، فإنه سُنة نبيكم -عليه السلام-، من رَغَم يَرْغَمُ من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، ورَغَمَ يَرْغَمُ من باب فَتَحَ يَفْتَحُ رَغْمًا ورِغْمًا ورُغْمًا، وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سوار (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "قدمت على رسول الله -عليه السلام- وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: بما أهللت؟ قال: قلت: إهلال كإهلال النبي -عليه السلام- فقال رسول الله -عليه السلام-: أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل، ففعلت فأتيت امرأة من قيس، فقلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك حتى كان زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال لي رجل: يا عبد الله بن قيس، رُوَيْد بعض فتياك؛ إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقلت: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم فيه فائتموا، فلما قدم عمر -رضي الله عنه- أتيته فذكرت له، فقال لي عمر -رضي الله عنه-: إن تأخذ بكتاب الله فإن ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية: [30].

كتاب الله يأمر بالتمام، وإن تأخذ بسُنَّة رسول الله -عليه السلام- فإن رسول الله -عليه السلام- لم يحل حتى بلغ الهدي محله". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شبابة بن سوار الفزاري المدائني الثقة الصدوق المرجئ، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الصحابي، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد ابن جعفر، قال: أنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: "قدمت على رسول الله -عليه السلام- وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: حججت؟ فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيت بإهلال كإهلال النبي -عليه السلام-، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل، قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر -رضي الله عنه- فقال له رجل: يا أبا موسى -أو يا عبد الله بن قيس- رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه فتيا فليتئذ؛ فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتموا، قال: فقدم عمر -رضي الله عنه- فذكرت له ذلك، فقال: إن تأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن تأخذ بسُنَّة رسول الله -عليه السلام- فإن رسول الله -عليه السلام- لم يحل حتى بلغ الهدي محله". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الثقفي، عن شعبة، عن قيس بن مسلم ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 194 رقم 1221).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن، قال: نا سفيان، عن قيس -وهو ابن مسلم- عن طارق ابن شهاب، عن أبي موسى قال: "قدمت على رسول الله -عليه السلام- وهو بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قلت: بإهلال النبي -عليه السلام-، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر -رضي الله عنهما- وإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، قلت: يا أيها الناس، من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فائتموا به، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟! قال: إن نأخذ بكتاب الله؛ فإن الله -عز وجل- قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2)، وإن نأخذ بسُنة نبينا -عليه السلام-، فإن نبينا -عليه السلام- لم يحلّ حتى نحر الهدي". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: "بعثني النبي -عليه السلام- إلى قومي باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فقال: بم أهللت؟ قلت: أهللت كإهلال النبي -عليه السلام-، قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت، فأتيت امرأة من قومي، فمشطتني وغسلت رأسي، فقدم عمر -رضي الله عنه- فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمر بالتمام؛ قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3)، وإن نأخذ بسُنَّه رسول الله -عليه السلام- فإنه لم يحل حتى نحر الهدي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 154 رقم 2738). (¬2) سورة البقرة، آية: [196]. (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 564 رقم 1484).

قوله: "قدمت على رسول الله -عليه السلام-" وكان قدومه من اليمن على ما صرَّح به في رواية البخاري، وكان النبي -عليه السلام- بعثه إلى قومه، فاتفق على قدومه والنبي -عليه السلام- منيخ بالبطحاء وهو المحصب، قال أبو عُبيد: هو في حدود خيف بني كنانة، وحدُّه من الحجون ذاهبًا إلى منى، وهو بطحاء مكة -شرفها الله تعالى. قوله: "بما أهللت" قال ابن القياني: كذا وقع في الأمهات بالألف، وصوابه بغير الألف كأنه استفهام، قلت: معناه بأي شيء أحرمت. قوله: "إهلال كإهلال النبي -عليه السلام-" أي إهلالي إهلال كإهلال النبي -عليه السلام- فيكون ارتفاع إهلال على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفي بعض النسخ: "إهلالًا كإهلال النبي -عليه السلام-" بالنصب على تقدير: أهللت إهلالًا كإهلال النبي -عليه السلام-، وبهذا استدل مالك على جواز الإِحرام المبهم، وهو أن يقول: أحرمت كإحرام زيد، وقال القاضي: أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث وجوَّز الإِهلال بالنية المبهمة، قال: ثم له بعد أن ينقلها لما شاء من حج أو عمرة، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى غيره، وخالفه سائر العلماء والأئمة؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1)، ولقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬2)؛ ولأن هذا كان لأبي موسى، وعلي أيضًا خصوصًا إذْ كان شرع الحج بعد ما فعله النبي -عليه السلام- لم يستقر ولم يكمل بعد، فلم يمكنها -أعني أبا موسى وعليًّا -رضي الله عنهما- الإِقدام على أمر بغير تحقيق. فإن قيل: كيف أمر أبا موسى بالإِحلال ولم يأمر عليًّا -رضي الله عنه-، والحال أن كلًا منهما قال: إهلال كإهلال النبي -عليه السلام-؟ قلت: لأن أمره لأبي موسى بالإِحلال على معنى ما أمر به غيره بالفسخ بالعمرة لمن ليس معه هدي، وأمره لعلي أن يهدي ويمكث حرامًا؛ إما لأنه -والله أعلم- كان معه هدي، أو يكون قد اعتقد النبي -عليه السلام- أنه يهدي عنه، أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) سورة محمد، آية: [33].

يكون قد خصه بذلك، أو لما كان النبي -عليه السلام- أمره بسَوق هذه البدن من اليمن فكان كمن معه هدي، ولا يظن أن هذه البدن من السعاية والصدقة بوجه إذ لا تحل للنبي -عليه السلام- الصدقة ولا يهدي منها. والأشبه أن عليًّا -رضي الله عنه- اشتراها باليمن كما اشترى النبي -عليه السلام- بقيتها، وجاء بها من المدينة على ما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- وجاء في الحديث أيضًا أنه اشترى هديه بقديد، وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فساق الهدي معه من ذي الحليفة" وكان النبي -عليه السلام- قد أعلمه أنه سيعطيه هدايا منها، وفي حديث جابر أنه قدم ببدن النبي -عليه السلام-، وقد يحتمل أنه كان له فيها هدي لم يحتج إلى ذكره في الحديث، فلم يمكنه أن يحل، ويدل على هذا سؤال النبي -عليه السلام- لأبي موسى هل ساق معه هديًا؟ ولم يسأل عليًّا -رضي الله عنه-، فدل على علمه بأنه كان ممن أهدى أو ممن حكمه كحكم من أهدى. والله أعلم. قوله: "ثم أحلّ" أمرٌ من الإِحلال، وفي بعض الرواية: "حلّ" بدون الهمزة، من حَلَّ يُحِلُّ والأولى من أَحَلَّ يحل، يقال: حلَّ المحرم يحل حلالاً، وأحل يحل إحلالاً، إذا حل لَه ما حرم عليه من محظورات الحج، ورجل حل من الإِحرام أي حلال، والحلال ضد الحرام، ورجل حلال أي غير محرم ولا متلبس بأسباب الحج. قوله: "ففلت رأسي" بتخفيف اللام مِنْ فَلَى يُفْلي، يقال: فَلَيْت رأسه من القمل وتفالى هو، والفلي أخذ القمل من الشعر، وذكره في الدستور من باب فعَل يفعِل بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل كَضَرَبَ يَضْرِبُ، تقول: فَلَى يَفْلِي فَلْيًا، كرمى يَرْمِي رَمْيًا. قوله: "فكنت أفتي الناس بذلك" أي بفسخ الحج في العمرة. قوله: "رويد بعض فتياك" وفي بعض الرواية: "رويدك بعض فتياك" وكذا هو في رواية مسلم.

أعلم أن "رويد" اسم للفعل، ومعناه: أمهل، تقول: رُوَيدَ زيدًا أي أمهله، وتدخل فيه الكاف أيضًا فتقول: رُويدك زيدًا، ورويدكما زيدًا، ورويدكم زيدًا، وهو مبني إذا كان اسمًا للفعل، ومعرَّب إذا وقع صفة، نحو: ساروا سيرًا رويدًا، أو حالاً نحو: ساروا رويدًا أي مرودي، أو مضافًا نحو: رويد زيدٍ. وفي الحديث مبني؛ لأنه اسم للفعل. قوله: "فليتئد" أي فليتأن وليصبر، يقال: اتَّأَدَ في فعله إذا تأنى وثبت ولم يعجل، وأصله من تئد يتئد تُأَدًا، فنقل إلى باب الافتعال فصار: اتَّأَدَ يتئد، وأصل الياء فيه واو من الوأد. قوله: "فبه فائتموا" أي بأمير المؤمنين ائتموا، أراد: اتبعوه فيما يفعل من النسك. قوله: "وإن نأخذ بكتاب الله" بنون الجماعة، ظاهر هذا الكلام من أمير المؤمنين إتمام الحج، وإنكار فسخ الحج في العمرة، لاحتجاجه بالآية، وبفعل النبي -عليه السلام-. قوله: "فإن رسول الله -عليه السلام- لم يحل حتى بلغ الهدي محله" وهو ذبح الهدي يوم النحر، وفيه حجة لأبي حنيفة وأحمد من أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، ومذهب الشافعي ومالك أنه إذا طاف وسعى وحلق حلَّ من عمرته، وحلَّ له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديًا أم لا، والحديث حجة عليهما. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل المديني، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "دخلنا على جابر بن عبد الله، فسألته عن حجة رسول الله -عليه السلام-، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- مكث تسع سنين لم يحج، ثم أَذَّن في الناس بالعاشرة: إن رسول الله -عليه السلام- حاجٌّ، فقدِم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -عليه السلام-، فخرجنا حتى أتينا ذا الحليفة، فصلى رسول الله -عليه السلام- في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء

ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرن، عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، ما عمل من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد، وأهل الناس بهذا الذي تهلون به، لم يرُد رسول الله -عليه السلام- عليهم شيئًا، ولزم رسول الله -عليه السلام- تلبيته -قال جابر: لسنا ننوي إلَّا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا كنا آخر طواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة، فحل الناس وقصروا إلَّا النبي -عليه السلام- ومن كان معه الهدي، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: فشبك رسول الله -عليه السلام- أصابعه في الأخرى فقال: دخلت العمرة هكذا في الحج مرتين، فحل الناس كلهم وقصروا إلَّا النبي -عليه السلام- ومن كان معه هدي". وقول سراقة هذا للنبي -عليه السلام- وجواب النبي -عليه السلام- إياه يحتمل أن يكون أراد به: عمرتنا هذه في أشهر الحج للأبد أو لعامنا هذا؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى في أشهر الحج، ويعدون ذلك من أفجر الفجور، فأجابه رسول الله -عليه السلام- فقال: هي للأبد. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر سؤال سراقة ولا جواب النبي -عليه السلام- إياه. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن جابر قال: "قدم رسول الله -عليه السلام- مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، قال رسول الله -عليه السلام-: اجعلوها عمرة، فلما كان يوم التروية لبُّوا، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو ابن دينار عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "قدمنا مع رسول الله -عليه السلام- مكة صبيحة رابعة، فأمرنا أن نحل، فقلنا: أي حل يا رسول الله؟ قال: الحل كله، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل الذي تصنعون".

حدثنا محمد بن حميد الرعيني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن خصيف، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "لمَّا قدمنا مع رسول الله -عليه السلام- مكة [في] (¬1) حجة الوداع سأل الناس: بماذا أحرمتم؟ فقال أناس: أهللنا بالحج، وقال آخرون: قدمنا متمتعين، وقال آخرون: أهللنا بإهلالك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: من كان قدم ولم يسق هديًا فليحلل؛ فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي حتى أكون حلالاً، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله، عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد". حدثنا فهد قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أنه قال: "أهلَّ رسول الله -عليه السلام- وأهللنا معه بالحج خالصًا، حتى قدمنا مكة رابعة من ذي الحجة، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمر رسول الله -عليه السلام- من لم يكن ساق هديًا أن يحل، قال: ولم يعزم في أمر النساء، قال جابر: فقلنا: تَرَكَنَا حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلَّا خمس ليالٍ أمرنا أن نحل فنأتي عرفات والمذي يقطر من مذاكيرنا ولم يحلل هو! وكان رسول الله -عليه السلام- قد ساق الهدي، فبلغ قولنا رسول الله -عليه السلام- فقام فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الذي بلغه من قولهم، فقال: لقد علمتم أني أصدقكم وأتقاكم لله وأبركم، ولولا أني سقت الهدي لحللت، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، قال جابر: سمعنا وأطعنا، فحللنا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا وهو يخبر عن حجة النبي -عليه السلام- قال: "أمرنا بعد أن طفنا أن نحل، وقال رسول الله -عليه السلام-: إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، فأهللنا من البطحاء". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، أنه سمعه يحدث عن جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

بذي الحليفة بالحج خالصًا لا نخلطه بعمرة، فقدمنا مكة لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجة، فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نجعلها عمرة وأن نحل إلى النساء، فقلنا: ليس بيننا وبين عرفة إلَّا خمس ليال، فنخرج إليها وذكر أحدنا يقطر منيًّا! فقال رسول الله -عليه السلام-: إني لأبركم وأصدقكم، فلولا الهدي لحللت، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، متعتنا هذه لعامنا هذا [أم للأبد] (¬1)؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: بل لأبد الأبد". فكان سؤال سراقة لرسول الله -عليه السلام- المذكور في هذا الحديث إنما هو [على] (1) المتعة أي أنا قد صارت حجتنا التي كنا دخلنا فيها أولاً عمرة، ثم قد أحرمنا بعد حلنا منها بحجة متمتعين بمتعتنا هذه لعامنا هذا خاصة فلا نفعل ذلك فيما بعد، أم للأبد فنتمتع بالعمرة إلى الحج كما تمتعنا في عامنا هذا؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: بل للأبد، وليس ذلك على أن لهم فيما بعد أن يحلوا من حجة قبل عرفة لطوافهم بالبيت ولسعيهم بين الصفا والمروة، وسنذكر عن رسول الله -عليه السلام- فيما بعد هذا من الباب ما يدل على أن ذلك الإِحلال الذي كان منهم قبل عرفة خاصًّا لهم ليس لمن بعدهم، ونِصفه في موضعه إن شاء الله تعالى. ش: هذه ثمان طرق صحاح: الأول: أخرجه بعينه في باب ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع بمتن مختصر. وأخرجه مسلم (¬2) مطولًا سقناه بكماله هناك، وأخرجه أيضًا أبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4) مطولاً، والنسائي (¬5) مختصرًا، وفسرنا هناك أكثر ألفاظه. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 182 رقم 1905). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1022 رقم 3074). (¬5) "المجتبى" (5/ 274 رقم 3076).

قوله: "مكث تسع سنين" يعني في المدينة، وقد روي "أنه -عليه السلام- حج على الفور، وكان فرض الحج سنة تسع وقيل: خمس، والأول أصح. وأول من أقام للمسلمين الحج عتاب بن أسيد سنة ثمان، ثم أبو بكر سنة تسع، وحج -عليه السلام- سنة عشر، وقد اختلفوا في حجة أبو بكر -رضي الله عنه- سنة تسع، هل كانت حجة الإِسلام بعد نزول فرضها وهو الأظهر؛ لوقوف جميع الناس بعرفة، ولإِنذار علي -رضي الله عنه- فيها بمرأة، وفيها ذكر النسيء وشرائع الحج، وقيل: بل كانت على غير الفرض وعلى ما كانت عليه قبل الإِسلام، والأول أظهر. قوله: "كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -عليه السلام-" دليل على أنهم كانوا كلهم حجاجًا؛ إذ كان -عليه السلام- أحرم بالحج لائتمامهم به، وبعيد أن يخالفوه فيما أحرم به. قوله: "فأهل التوحيد" إشارة إلى قوله: "لا شريك لك"، ومخالفة لقول المشركين في تلبيتهم من الإِشراك. قوله: "لسنا ننوي إلَّا الحج ولا نعرف العمرة" استدل به من كان يذهب إلى أنه -عليه السلام- كان مفردًا بالحج في حجة الوداع، وأن الإِفراد أفضل، قلنا: لا يستلزم هذا الكلام كون النبي -عليه السلام- مفردًا؛ وذلك لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور، ففي الابتداء كان النبي -عليه السلام- محرمًا بحجة حين قدم مكة ثم فسخ ذلك بعمرة، ثم أقام عليها على أنها عمرة، وقد عزم على أن يحرم بعدها بحجة، فكان في ذلك متمتعًا، ثم لم يطف للعمرة حتى أحرم بالحجة، فصار قارنًا بذلك. فهذا هو الوجه في التوفيق بين الروايات التي جاءت بأنه -عليه السلام- كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا، فافهم فإنه مَدْرَك دَقِيق. قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي" هذا القول منه -عليه السلام- كان تطييبًا لأنفسهم لما رأى من توقفهم عن الإِحلال إذ لم يحل هو، لما كانوا من التأسي به حتى لا يجدوا في أنفسهم أنه يأمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه،

وفيه دليل على جواز الأمرين، وأنه لولا ما سبق من سوقه -عليه السلام- الهدي لحل معهم إلَّا أن السُنة فيمن ساق الهدي لا يحل إلَّا بعد بلوغ الهدي محله وهو محرم يوم النحر، قال القاضي: فيه دليل على أنه -عليه السلام- كان مهلًّا بالحج، وقال ابن قدامة: فيه دليل على فضل التمتع. قلت: قال الطبري: إن جملة الحال له أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولا كان مفردًا؛ لأن الهدي كان معه واجبًا وذلك لا يكون إلَّا للقارن. قوله: "وليجعلها عمرة" أي وليجعل الحجة عمرة، وهو فسخ الحج في العمرة، وقد قلنا: إنه كان مخصوصًا بهم، وأنه لا يجوز اليوم إلَّا عند ابن عباس، وبه قال أحمد وداود الظاهري. قوله: "فقام سراقة ... إلى آخره" قد بين الطحاوي معناه بقوله: "وقول سراقة هذا ... إلى آخره". واحتجت الظاهرية بقوله -عليه السلام- لسراقة: "بل لأبد" في رواية أخرى على جواز فسخ الحج في العمرة. قلنا: يحتمل أن يريد بقوله: "لأبد" الاعتمار في أشهر الحج لا فسخ الحج في العمرة، واحتجوا على ذلك أيضًا بقوله: "دخلت العمرة في الحج" أي جازت في أشهر الحج؛ خلافًا لما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جوازها في أشهر الحج، ويحتمل أن يكون دخولها في الحج في عمل القارن، ويقال: معنى دخول العمرة في الحج سقوط وجوبها بوجوب الحج. والله أعلم. الثاني: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد، عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن جابر.

وأخرجه النسائى (¬1): أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب أنا الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "أقام رسول الله -عليه السلام- تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج، فلم يبق أحدٌ يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلًا إلَّا قدم، فتدارك الناس ليخرجوا، حتى جاء ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: اغتسلي واستثفري بثوب، ثم أهلِّي ففعلت" مختصر. الثالث: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد المكي مولى نافع بن علقمة -من رجال مسلم- عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله -عليه السلام-: اجعلوها عمرة إلَّا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلُّوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة". قوله: "اجعلوها عمرة" أي اجعلوا الحجة عمرة، وأراد به فسخ الحج في العمرة، وسيجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى. الرابع: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي أبي إسحاق البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير الصحيح، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 164 رقم 2761). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 155 رقم 1788).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) بأسانيد مختلفة وألفاظ متباينة بزيادة ونقصان. قوله: "صبيحة رابعة" أي ليلة رابعة من ذي الحجة. قوله: "فأمرنا أن نحل" أراد به فسخ الحج في العمرة. قوله: "الحلَّ كله" بالنصب، أي حلوا الحل كله. الخامس: عن محمد بن حميد الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى بن أعين الحراني الجزري، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي. وأخرجه البخاري (¬5) ومسلم (¬6) وأبو داود (¬7) بزيادة ونقصان. قوله: "فقال أناسٌ ... إلى آخره" يدل على أن الصحابة الذين حجوا مع رسول الله -عليه السلام- كانوا على ثلاثة أحوال: صنف منهم كانوا مهلين بالحج، وصنف كانوا مهلين بالتمتع، وصنف كانوا مهلين كإهلال النبي -عليه السلام- وكان أهلالهم مبهمًا، فأمر النبي -عليه السلام- لمن لم يسق الهدي أن يفسخ الحج في العمرة ولهذا أمرهم بالإِحلال، وأما الذين ساقوا الهدي فلم يحلوا إلَّا يوم النحر. وبهذا الحديث استدل من يرى جواز الإِحرام المبهم، وهو الذي يعلقه بإِحرام شخص، وقد ذكرناه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 594 رقم 1568). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 183 رقم 1216). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 156 رقم 1789). (¬4) "المجتبى" (5/ 178 رقم 2805). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 632 رقم 1693). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 883 ر قم 1216). (¬7) "سنن أبي داود" (2/ 155 رقم 1787).

السادس: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث ابن سعد، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا يحيى بن سعيد القطان قال: أنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناسٍ معي قالوا: "أهللنا أصحاب محمد -عليه السلام- بالحج خالصًا وحده -قال عطاء: قال جابر-: فقدم النبي -عليه السلام- صبيح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل -قال عطاء: قال جابر-: حلوا وأصيبوا النساء -قال عطاء: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم- فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلَّا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنيّ، قال: يقول جابر بيده كأني انظر إلى قوله بيده يحركها، قال: فقام النبي -عليه السلام- فينا فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا". قوله: "رابعة" أي صبيح رابعة كما هو كذلك في رواية مسلم. قوله: "ولم يعزم في أمر النساء" يعني لم يعزم في وطء النساء، وأما في الإِحلال فكأنه عزيمة، ومعنى لم يعزم: لم يؤكد. قوله: "والمذي يقطر من مذاكيرنا" جملة حالية، و"المَذْي" بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء: البلل الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء، ولا يجب فيه الغسل، وهو نجس يجب غسله، وينقض الوضوء. والمذاكير: جمع ذكر على خلاف القياس. قوله: "ولم يَحْلِل" بكسر اللام لأنه من حَلَّ يَحِلُّ من باب ضَرَبَ يَضْرِب، وقد جاء بفك الإِدغام، وقد عرف أن هذا الباب يجوز فيه الإِدغام والفك، ويجوزَ في الإِدغام فتح اللام الأخيرة؛ لأنه أخف الحركات، وكسرها لأن الساكن إذا حُرِّكَ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 883 رقم 1216).

حُرِّكَ بالكسر، وفي نحو باب لم يمُدْ تجوز فيه الأوجه الثلاثة مع الفك، والضم لاتباع الميم. قوله: "وأتقاكم" أي أخشاكم. قوله: "وأبركم" أي أكثركم خيرًا وبرًّا. السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح". قوله: "أن نحل" بفتح أن أي بأن نحل أي أمرنا بالإِحلال بعد أن طفنا بالبيت وبالصفا والمروة. قوله: "فأهللنا من البطحاء" أي فأحرمنا بالحج من بطحاء مكة. الثامن: عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬2): نا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح، قال: حدثني جابر بن عبد الله قال: "أهللنا مع رسول الله -عليه السلام- بالحج خالصًا لا يخالطه شيء، فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطفنا وسعينا، فأمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نحل، وقال: لولا الهدي لحللت، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: بل هي للأبد، قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 882 رقم 1214). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 155 رقم 1787).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا بأسانيد وألفاظ مختلفة. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حميد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- وأصحابه قدموا مكة ملبين بالحج، فقال رسول الله -عليه السلام-: من شاء أن يجعلها عمرة، إلَّا من كان معه الهدي". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5): ثنا روح وعفان، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد -قال عفان: أنا حميد- عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر أنه قال: "قدم رسول الله -عليه السلام- وأصحابه مكة ملبين -وقال عفان: مهلين- بالحج، فقال رسول الله -عليه السلام-: فمن شاء أن يجعلها عمرة، إلَّا من كان معه الهدي". قوله: "ملبين" حال من الضمير الذي في "قدموا". قوله: "من شاء أن يجعلها عمرة" جوابه محذوف، والتقدير: من شاء منكم أن يجعل حجته عمرة فليجعل إلَّا من كان معه الهدي فليس له ذلك؛ لأنه لا يحل إلَّا يوم النحر. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدم رسول الله -عليه السلام- مكة طاف ولم يحل، وكان معه الهدي، فطاف ومن معه من نسائه وأصحابه، فحل منهم من لم يكن معه الهدي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2642 رقم 6803). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 883 رقم 1216). (¬3) "المجتبى" (5/ 178 رقم 2805). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 992 رقم 2980). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 28 رقم 4822).

ش: إسناده صحيح، وأبو عوانة: الوضاح اليشكري. وأخرجه البخاري (¬1) مطولاً: ثنا عثمان، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي -عليه السلام- من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن .. الحديث". وأخرجه مسلم (¬2) بنحوه: عن زهير بن حرب، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم. وأخرجه أبو داود (¬3): نا عثمان بن شيبة، قال: نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- ولا نرى إلَّا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله -عليه السلام- من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا. قوله: "ولا نرى" قال ابن التبين: ضبطه بعضهم بفتح النون وبعضهم بضمها، قال القرطبي: أي نظن، وكان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإِحرام وأنواعه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك اعتقادها من قبل أن تُهل، ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها: "لا نرى" حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون إلَّا الحج، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره، وزعم عياض أنها كانت أحرمت بالحج، ثم أحرمت بالعمرة ثم أحرمت بالحج، ويدل على أن المراد بقولها: "لا نرى" إلَّا الحج عن فعل غيرها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 566 رقم 1486). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 877 رقم 1211). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 154 رقم 1783). (¬4) "المجتبى" (5/ 177 رقم 2803).

قولها: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت" تعني بذلك النبي -عليه السلام- والناس غيرها؛ لأنها لم تطف بالبيت ذلك الوقت لأجل حيضها. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "خرجنا من المدينة نصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا طفنا، فقال رسول الله -عليه السلام-: اجعلوها عمرة إلَّا من كان معه الهدى، فلما كان عشية عرفة أهللنا بالحج". ش: إسناده صحيح، وداود هو ابن أبي هند، وأبو نضرة -بالنون والضاد المعجمة- اسمه المنذر بن مالك العبدي العوفي النضري. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، قال: نا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- نصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلَّا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج". قوله: "نصرخ بالحج" أي نلبي به برفع الصوت. قوله: "فلما قدمنا" أي مكة. قوله: "اجعلوها" أي اجعلوا الحجة عمرة، وهو فسخ الحج في العمرة. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن منصور ابن عبد الرحمن، عن أمه، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "قدم رسول الله -عليه السلام- وأصحابه مهلين بالحج، وكان مع الزبير الهدي، فقال رسول الله -عليه السلام- لأصحابه: من لم يكن معه الهدي فليحلل، قالت: فلم يكن معي عامئذٍ هدى فأحللت". ش: "الخصيب" بفتح الخاء المعجمة ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، ووهيب هو ابن خالد البصري، روى له الجماعة، ومنصور بن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 914 رقم 1247).

عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث الحجبي العبدري المكي روى له الجماعة إلَّا الترمذي، وأمه صفية بنت شيبة الحاجب الصحابية. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا بكر بن خلف أبو بشر، ثنا أبو عاصم، أنا ابن جريج، أخبرني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- محرمين، فقال النبي -عليه السلام-: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل، قالت: ولم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل، فلبست ثيابي وجئت إلى الزبير فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وبات بها حتى أصبح، فلما صلى الصبح ركب راحلته، فلما انبعثت به سبح وكبَّر، حتى إذا استوت به على البيداء جمع بينهما، فلما قدمنا مكة أمرهم رسول الله -عليه السلام- أن يحلوا، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج". ش: أخرج طرفًا من هذا الحديث بغير هذا الإِسناد في باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع، وهو إسناد صحيح، وحَبان بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي. وأخرجه أبو داود (¬3): نا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، نا وهيب، قال: نا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- بات بها -يعني بذي الحليفة- ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 993 رقم 2983). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 907 رقم 1236). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 157 رقم 1796).

حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد وسبَّح وكبَّر، ثم أهلَّ بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا، أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج ونحر رسول الله -عليه السلام- سبع بدنات بيده قيامًا". وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا. قوله: "فلما انبعثت به" أي فلما أخذت في القيام، والانبعاث أخذها في القيام، والاستواء، كمال القيام، واستحب مالك وأكثر الفقهاء أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يهل عقيب الصلاة إذا سلم منها، وقال الشافعي: يهل إذا أخذت ناقته في المشي. قوله: "جمع بينهما" أي بين العمرة والحج، فهذا هو القران، فدل أنه -عليه السلام- كان قارنًا في حجة الوداع. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح، عن معقل بن يسار قال: "حججنا مع النبي -عليه السلام- فوجد عائشة تنزع ثيابها، فقال لها: مالك؟ قالت: أنبئت أنك أحللت وأحللت أهلك، فقال: أحلَّ من ليس معه هدي، فأما نحن فلم نحلل لأن معنا هديًا حتى نبلغ عرفات". ش: مكي بن إبراهيم شيخ البخاري، وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي أبو الخطاب البصري، قال أبو حاتم: هو منكر الحديث، ضعيف الحديث، روى له أبو داود، وأبو مليح بن أسامة الهذلي مختلف في اسمه، فقيل: عامر، وقيل: زيد، روى له الجماعة، ومَعْقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة، وكسر القاف- ابن يسار بن عبد الله، كان ممن بايع تحت الشجرة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا عبد الله بن ناجية، نا محمد بن مرزوق، ثنا ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 225 رقم 2931). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 226 رقم 526).

بكر بن إبراهيم، نا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار، قال: "حججنا ... إلى آخره" نحوه، غير أن في روايته: إن معنا بدنًا حتى نبلغ عرفات. قوله: "أنبئت" على صيغة المجهول، أي أخبرت. قوله: "حتى نبلغ" بنون الجماعة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقلدوها، وقالوا: من طاف بالبيت قبل وقوفه ولم يكن ساق هديًا فقد حلَّ. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد وداود وسائر الظاهرية؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار، وأرا بها الأحاديث التي رواها عن ابن عباس وأبي موسى وجابر بن عبد الله وعبد لله بن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري وأسماء بنت أبي بكر وأنس بن مالك ومعقل بن يسار -رضي الله عنهم- واحتجوا بها على جواز فسخ الحج في العمرة، وقالوا: من طاف من الحجاج بالبيت قبل وقوفه بعرفة ولم يكن ممن ساق الهدي فإنه يحل. وقال ابن حزم: كل من أحرم بحج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي حل بعمرة شاء أو أبى. وقال أيضًا: روي أمر رسول الله -عليه السلام- من لا هدي معه بأن يفسخ حجه بعمرة، ويحل بأوكد أمر: جابر بن عبد الله وعائشة وحفصة وفاطمة بنت رسول الله -عليه السلام- وعلي وأسماء بنت أبي بكر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري وأنس وابن عباس وابن عمر وسبرة بن معبد والبراء بن عازب وسراقة بن مالك ومعقل بن يسار خمسة عشر من الصحابة، ورواه عن هؤلاء نيفٌ وعشرون من التابعين، ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه إلَّا الله، فلم يسع أحد الخروج عن هذا (¬1). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس لأحد دخل حجة أن يخرج منها إلَّا بتمامها، ولا يحله منها شيء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماعة التابعين والفقهاء، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا يجوز ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (7/ 103).

فسخ الحج في العمرة، ولا يجوز لأحد دخل في حجة أن يخرج منها إلَّا بأن يتمها، وتمامها بطواف الزيارة يوم النحر، ولا يحل منها لا بطواف ولا بغيره قبل يوم النحر لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (¬1)، يعني لمن دخل فيه، وفسخه في عمرة يكون غير الإِتمام المأمور به. ص: وقالوا: أما ما ذكرتموه من قول الله -عز وجل- {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) فهذا في البُدْن ليس في الحاج، ومعنى البيت العتيق ها هنا الحرم كله كما قال في الآية الأخرى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فالحرم هو محل الهدي لأنه ينحر فيه، فأما بنو آدم فإنما محلهم في حجهم يوم النحر. ش: أي قال هؤلاء الآخرون في الجواب عما استدل به القوم المذكورون، وكانوا قد استدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وهو المذكور في حديث ابن عباس المذكور في أول الباب، وتقرير الجواب عن هذا: أن هذا في البدن ليس في الحاج، وأن المراد بالبيت العتيق ها هنا هو الحرم كله، فُسِّرت ذلك الآيةُ الأخرى، وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فالحرم هو محل الهدي لأنه ينحر فيه، فأما بنو آدم فإنما محلهم في حجهم يوم النحر. وقال أبو بكر الجصاص: والمراد بالبيت ها هنا الحرم كله، فعبر عنه بذكر البيت إذْ كانت حرمة الحرم كله متعلقة بالبيت، وهو كقوله تعالى، في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬3) ولا خلاف أن المراد الحرم كله، وقد روى أسامة بن زيد (¬4)، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "عرفة كلها موقف، ومنى كلها منحر" وكل فجاج مكة طريق ومنحر. وقال أيضًا: كان ابن عباس يحتج في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) سورة الحج، آية: [33]. (¬3) سورة المائدة، آية: [95]. (¬4) أخرجه أبو داود في "سننه" (2/ 193 رقم 1937)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1013 رقم 3048).

فسخ الحج في العمرة بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) فذهب إلى أنه يحل بالطواف، فعله قبل عرفة أو بعده، وكان يذهب إلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ، وأن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة، فتصير حجته عمرة، وقد ثبت بظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (¬2) نسخه، وهذا معنى ما أراده عمر -رضي الله عنه- بقوله: "متعتان كانتا على عهد رسول الله -عليه السلام- وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج" (¬3) ويذهب فيه إلى ظاهر الآية، وإلى ما علمه من توقيف رسول الله -عليه السلام- إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة. ص: وأما ما احتجوا به من الآثار التي ذكرناها عن رسول الله -عليه السلام- في أمره أصحابه بالحل من حجهم بطوافهم الذي طافوه قبل عرفة؛ فإن ذلك عندنا كان خاصًّا لهم في حجتهم تلك دون سائر الناس بعدهم. ش: هذا عطف على قوله: "أما ما ذكرتموه من قول الله تعالى"، وهذا جواب عن الأحاديث المذكورة المروية عن الصحابة الذين سميناهم، وتقريره: إن يقال: إن فسخ الحج في العمرة الذي يفهم من هذه الأحاديث إنما كان خاصًّا في حق الصحابة الذين حجوا مع رسول الله -عليه السلام-، أمرهم النبي -عليه السلام- في حجتهم تلك، وليس ذلك بجائز في حق غيرهم. وقال أبو عمر: فسخ الحج في العمرة لا يجوز عند أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم؛ لقوله تعالى،: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} (2) يعني لمن دخل فيه، وما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلَّا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود دون سائر الفقهاء، وكلهم على أن فسخ الحج في العمرة خُصَّ به أصحاب النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [33]. (¬2) سورة البقرة، آية: [196]. (¬3) تقدم.

ص: والدليل على ذلك: ما حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا سعيد بن منصور وإسحاق بن أبي إسرائيل، عن عبد العزيز بن محمد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ حجنا هذا، لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لكم خاصة". حدثنا ابن أبي داود وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا الدراوردي، قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يحدث، عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه مثله. ش: أي والدليل على أن ذلك كان خاصًّا للصحابة الذين حجوا مع النبي -عليه السلام- دون غيرهم: حديث بلال بن الحارث، فإنه لما قال: "أرأيت يا رسول الله فسخ حجنا هذا لنا خاصةً أم للناس عامّةً؟ قال: بل لكم خاصةً"، أي بل هو لأجلكم خصوصًا. فهذا دليل صريح على أنه كان مخصوصًا لهم دون غيرهم، وأخرج حديث بلال بن الحارث بن عصم المزني الصحابي من طريقين: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن إسحاق بن أبي إسرائيل -واسم أبي إسرائيل إبراهيم- المروزي شيخ البخاري في غير الصحيح وأبي يعلى وأبي داود، قال ابن معين: ثقة. عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن -واسم أبي عبد الرحمن فروخ- القرشي التيمي المقرىء المعروف بربيعة الرأي شيخ مالك بن أنس، روى له الجماعة، عن الحارث بن بلال المزني المدني، ضعفه يحيى والنسائي، قال ابن عدي: لا أعرف له حديثًا مسندًا. وقال الذهبي: لم يرو عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويقال إن بلال شبه المجهول، وقال أحمد: حديث بلال لا يثبت، وحديث أبي ذر في ذلك صحيح.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا النفيلي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، قال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصّةً أم لمن بعدنا؟ قال: بل لكم خاصة". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا عيسى ابن يونس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع بن صيفي، عن أبي ذر قال: "إنما كان فسخ الحج للركب الذين كانوا مع النبي -عليه السلام-". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن المرقع الأسيدي، عن أبي ذر الغفاري أنه قال: "كان مما أمرنا به رسول الله -عليه السلام- حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرةً ونحلّ من كل شيء، أن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله -عليه السلام- دون الناس". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا حفص -هو ابن غياث- عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني المرقع الأسيدي، قال: قال أبو ذر: "لا والذي لا إله إلا غيره ما كان لأحد أن يهل بحجة ثم يفسخها بعمرة إلَّا الركب الذين كانوا مع رسول الله -عليه السلام-". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، قال: ثنا المرقع، عن أبي ذر قال: "ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 161 رقم 1808). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 994 رقم 2984).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الأكرم، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه: "قال في متعة الحج: ليست لكم ولستم منها في شيء". حدثنا فهد -هو ابن سليمان- قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التميمي، عن أبيه، قال: قال أبو ذر: "إنما كانت المتعة لنا خاصة أصحاب رسول الله -عليه السلام- متعة الحج". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران -وهو الأعمش- فذكر بإسناده مثله وزاد: "يعني الفسخ". ش: هذه سبع طرق؛ ستة عن أبي ذر، وواحد عن يزيد التيمي على ما يبين إن شاء الله تعالى. الأول: عن أحمد بن أبي عمران- الفقيه البغدادي، عن إسحاق بن إسرائيل -المذكور عن قريب- عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، روى له الجماعة- عن يحيى بن سعيد الأنصاري روى له الجماعة، عن المُرَقِّع -بضم الميم وفتح الراء وتشديد القاف المكسورة وفي آخره عين مهملة- ابن صيفي، ويقال: مرقع بن عبد الله بن صيفي بن رباح الحنظلي الكوفي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق المرقع نحوه، وقال: المرقع مجهول، وقد خالفه ابن عباس وأبو موسى فلم يريا ذلك خاصة، ولا يجوز أن يقال في سنة ثابتة أنها خاصة لقوم دون قوم إلَّا بنص قرآن أو سُنة صحيحة. قلت: لا نسلم أن المرقع مجهول؛ وقد روى عنه مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ويونس بن أبي إسحاق وموسى بن عقبة وعبد الله بن ذكوان، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، واحتج به أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن أحمد: حديث أبي ذر في أن فسخ الحج في العمرة خاصة للصحابة صحيح. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 108).

وقوله: "قد خالفه ابن عباس" مردود ومعارض بأن سائر الصحابة وافقوه على قوله هذا. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع بن صيفي الأُسَيْدي -بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء آخره الحروف نسبة إلى أسَيّد بن عمرو بن تميم بن مرِّ بن أدّ، ويقال: قد تخفف الياء في النسبة. قوله: " أن نجعلها" أي أن نجعل الحجة عمرة. قوله: "إن تلك" أي إن تلك الفعلة وهي فسخ الحج في العمرة كانت لنا خاصةً. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن حفص بن غياث، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن المرقع ... إلى آخره. الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي شيخ الشافعي، وثقه ابن حبان، عن يحيى ابن سعيد، عن المرقع. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا الثقفي، عن يحيى بن سعيد، أخبرني المرقع ابن صيفي، عن أبي ذر أنه قال: "ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم عن شعبة، عن عبد الكريم وثقه ابن حبان، عن إبراهيم التيمي -هو إبراهيم بن يزيد التيمي تيم الرتاب- أبو أسماء الكوفي، روى له الجماعة، عن أبيه يزيد بن شريك التيمي، روى له الجماعة. وأخرجه ابن حبان في "كتاب الثقات" (¬1)، وقال: عبد الأكرم يروي عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "إنما كانت المتعة لأصحاب محمد -عليه السلام-يعني متعة الحج". ¬

_ (¬1) "الثقات" (7/ 140 رقم 9370).

السادس: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد شريك. وأخرجه مسلم (¬1): نا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالوا: أنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد -عليه السلام- خاصة". قوله: "أصحاب رسول الله -عليه السلام-" بالنصب، على الاختصاص. قوله: "متعة الحج" بالرفع بدل عن قوله: "كانت المتعة"، أو عطف بيان، أو هو خبر مبتدأ محذوف، أي هي متعة الحج، وأراد بهذا فسخ الحج في العمرة لا المتعة التي تفعل اليوم، فافهم. السابع: عن أبي بشر الرقي عبد الملك بن مروان، عن شجاع بن الوليد السكوني، عن سليمان بن مهران -هو الأعمش- عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد -عليه السلام- خاصة" وفي لفظ: "إنما كانت". وإنما أراد فسخهم الحج بالعمرة لينقض -عليه السلام- عادتهم في تحريم العمرة في أشهر الحج، وهذا لا يجوز اليوم. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "سئل عثمان بن عفان عن متعة الحج، فقال: كانت لنا، ليست لكم". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة وصالح ابن موسى الطلحي، عن معاوية بن إسحاق ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "سئل عثمان أو سألته". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 897 رقم 1224). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 22 رقم 8666).

ش: هذان طريقان: الأول: عن ابن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، روى له البخاري والنسائي وابن ماجه، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد بن شريك ... إلي آخره، وهذا صحيح على شرط البخاري، وأراد بمتعة الحج: فسخ الحج في العمرة. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، وصالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله الطلحي الكوفي، كلاهما عن معاوية بن إسحاق عَمّ صالح المذكور، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح، وصالح بن موسى وإن كان فيه مقال، ولكن لا يضر؛ لأنه ذكر متابعة، وقد قال يحيى بن معين فيه: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وعن النسائي: متروك الحديث. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، قال: ثنا أبو نضرة، أنه سمع أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: "قام عمر -رضي الله عنه- خطيبًا حين استخلف، فقال: إن الله -عز وجل- كان رخص لنبيه -عليه السلام- ما شاء، ألا وإن نبي الله قد انطلق به فأحصنوا فروج هذه النساء وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن داود، عن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "قدمنا مع رسول الله -عليه السلام- فصرخ بالحج صراخًا، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فلما كان يوم النحر أحرمنا بالحج، فلما كان عمر -رضي الله عنه- قال: إن الله -عز وجل- كان يرخص لنبيه -عليه السلام- فيما شاء، فأتموا الحج والعمرة".

ويدخل في هذا أيضًا حديث أبي موسى الذي ذكرناه في أول هذا الباب. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ابن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن يزيد بن زريع، عن داود ابن أبي هند البصري، عن أبي نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عُبيدة بن حميد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "خطب عمر -رضي الله عنه- الناس، فقال: إن الله -عز وجل- رخص لنبيه ما شاء، وإن نبي الله -عليه السلام- قد مضى لسبيله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله -عز وجل- وحصنوا فروج هذه النساء". قوله: "قد انطلق به" أي بما رخص الله له، وهذا يدل على أن المتعتين قد انتسختا، إحداهما: متعة الحج وهو فسخ الحج في العمرة، والأخرى متعة النساء، فأشار إلى هذه بقوله: "فأحصنوا فروج هذه النساء"، وأشار إلى متعة الحج بقوله: "وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم" وإتمام الحج أن لا يفسخه بعد الشروع فيه؛ فافهم. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي شهاب الحنَّاط -بالنون- الكوفي، وهو الأصغر واسمه عبد ربه بن نافع الكناني، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن داود ... إلى آخره. قوله: "نصرخ بالحج" أي نلبي به برفع الصوت، وفيه حجة لرفع الصوت بالتلبية، وأنه مشروع وليس بواجب خلافًا لأهل الظاهر في وجوبه عندهم، وكذلك في مسجد منى والمسجد الحرام يرفع بهما الصوت، واختلف في غيرهما من المساجد، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: الرفع كسائر المواضع، والأخرى: ألَّا يرفع، ويسمع نفسه ومن يليه؛ لئلا يشهر نفسه بين أهل المسجد بأنه حاج ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 17 رقم 104).

ويخاف فتنته؛ وهذا مأمون في المسجدين؛ لأن جميع من فيه بتلك الصفة، والمرأة لا ترفع صوتها بالتلبية؛ لأن صوتها عورة. قوله: "فلما كان يوم النحر أحرمنا بالحج" إشارة إلى أنهم كانوا فسخوا حجهم أولاً في عمرة، فطافوا بالبيت والصفا والمروة وأحلوا، ثم أحرموا بالحج أيضاً يوم النحر. قوله: "فلما كان عمر -رضي الله عنه-" أراد أنه لما ولي الخلافة منع الناس، عن فسخ الحج في العمرة، وقال: هذا كان رخصة من النبي -عليه السلام- لأصحابه، والآن قد انطلق به رسول الله، -عليه السلام-، فأتموا الحج، يعني لا تفسخوه بعد الشروع فيه في عمرة، فإن هذا حكم كان، ثم انتسخ. قوله: "ويدخل في هذا .... " إلى آخره، من كلام الطحاوي: -رحمه الله- أي يدخل فيما ذكر عن أبي [سعيد] (¬1) الخدري من أن عمر -رضي الله عنه- أمرنا بإتمام الحج والعمر حديث أبي موسى الأشعري الذي مضى ذكره في أوائل هذا الباب، وهو ما رواه طارق بن شهاب عنه قال: "قدمت على رسول الله -عليه السلام- وهو منيخ بالبطحاء"، وفيه: "فكنت أفتي الناس بذلك، حتى كان زمن عمر بن الخطاب .. إلى آخره" وأراد أنه كان يفتي الناس بفسخ الحج في العمرة، فلما كان زمن عمر بن الخطاب منع الناس عن ذلك. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "متعتان فعلناهما على عهد رسول الله -عليه السلام- نهى عنهما عمر -رضي الله عنه- فلن نعود إليهما". ش: إسناده صحيح. وابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، وسليمان بن حرب الواشجي شيخ البخاري وأبي داود، وحماد هو ابن سلمة، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو نضرة المنذر بن مالك. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "موسى"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-.

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حامد بن عمر البكراوي، قال: ثنا عبد الواحد، عن عاصم، عن أبي نضرة قال: "كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آت فقال: إن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم- اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله -عليه السلام- ثم نهانا عنهما عمر -رضي الله عنه- فلم نعدلهما". قوله: "متعتان" مبتدأ، والمسوغ لوقوعه مبتدأ كونه موصوفًا بقوله: "فعلناهما" وخبره قوله: "نهى عنهما عمر -رضي الله عنه-". قوله: "على عهد رسول الله -عليه السلام-" أي في أيامه وزمانه. وأراد بالمتعتين: متعة النساء، ومتعة فسخ الحج في العمرة، بدليل أن المتعة بالعمرة إلى الحج قد عمل بها الصحابة كثيرًا. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني كثير بن عبد الله -رجل من مزينة- عن بعض أجداده -أو أعمامه- أنه قال: "ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه بعمرة". ش: عبد الوهاب هو ابن عبد المجيد، ذكر عن قريب. وكثير بن عبد الله بن عمرو المزني المدني فيه كلام كثير، فعن يحيى: ليس بشيء. وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وعن أبي زرعة: واهي الحديث ليس بقوي. وعن النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وعن ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنه إلاَّ على جهة التعجب. ومع هذا صحح له الترمذي. قاله صاحب التكميل، وقال يحيى: كان لجده صحبة. قلت: جده عمرو بن عوف بن زيد بن مليحة، ملحة بن عمرو بن بكر بن أفرك بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طانجة ابن إليالس بن مضر أبو عبد الله المزني، كان قديم الإِسلام، يقال: إنه قدم مع النبي -عليه السلام- المدينة، ويقال: إن أول مشاهده الخندق، وكان أحد البكائيين في غزوة تبوك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 914 رقم 1249).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: ثنا محمد ابن جعفر، عن كثير بن عبد الله، عن بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن هلال صاحب النبي -عليه السلام- مثله. ش: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة، أبو يعقوب الفروي المدني، شيخ البخاري وأبي داود، ووهَّاه أبو داود جدًّا. ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني روى له الجماعة. وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، قد مرَّ ذكره الآن. وبكر بن عبد الله المزني، ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. وعبد الله بن هلال المزني الصحابي عداده في أهل المدينة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، نا محمد بن جعفر، نا كثير بن عبد الله، عن بكر بن عبد الرحمن المزني، عن عبد الله بن هلال المزني صاحب النبي -عليه السلام- قال: "ليس لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخ حجه بعمرة". ص: فقد بين رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا عنه في هذه الآثار أن ذلك الفسخ الذي كان أمر به أصحابه خاصًّا لهم، ليس لأحد من الناس بعدهم، وخلطنا بما روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك ما رويناه عمن ذكرنا في هذا الفصل من أصحابه؛ لأن ذلك عندنا مما لا يجوز أن يكونوا قالوه بآرائهم، وإنما [قالوه] (¬2) من جهة ما وقِّفوا عليه، فهم فيما قالوا من ذلك كمن أضاف إلى النبي -عليه السلام-، فقد ثبت بتصحيح هذه الآثار أن الخروج من الحج لا يكون بالطواف بالبيت. ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 334): رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، إلا أنه قال: عبد الله ابن عبد المزني، وفيه كثير بن عبد الله المزني، وهو متروك. وكذا ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن هلال المزني من "الإصابة" (4/ 257) وضعفه. (¬2) في "الأصل، ك": "قالوا"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها في هذا الباب، وأراد بقوله: "فقد بيَّن رسول -عليه السلام-" ما بينه في حديث بلال بن الحارث -رضي الله عنه- وأراد بقوله: "وخلطنا بما روى عن النبي -عليه السلام- في ذلك ما رويناه عمن ذكرنا في هذا الفصل" أي الفصل الثاني الذي ذهب إليه أهل المقالة الثانية ما رواه عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم: أبو ذر الغفاري، وعثمان بن عفان، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وبعض أجداد كثير بن عبد الله، وعبد الله بن هلال المزني -رضي الله عنهم-. قوله: "من جهة ما وُقِّفُوا" عليه على صيغة المجهول، أراد أنهم قالوا ذلك من جهة التوقيف من النبي -عليه السلام-؛ لأن ذلك ليس مما يعلم بالرأي. فإن قيل: وكيف يكون ذلك وقد قال -عليه السلام- لسراقة بن مالك: "بل لأبد الأبد" حين قال: "يا رسول الله هي لنا أو للأبد" وفي رواية "لعامنا هذا أم للأبد"؟ قلت: أراد به سراقة: عمرتنا هذه في أشهر الحج لنا في هذا العام أو للأبد -أو لعامنا هذا أم للأبد- فأجاب رسول الله -عليه السلام- فقال: هي للأبد، وذلك لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة إلا في غير أشهر الحج، فلما أمرهم النبي -عليه السلام- بأن يجعلوا حجتهم عمرة وكان ذلك في أشهر الحج اشتبه على سراقة أن هذا في هذه السنة أم للأبد، فأزال رسول الله -عليه السلام- ما شك فيه بقوله: "بل هي للأبد"، ألا ترى كيف صرَّح في رواية النسائي بقوله: "يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أو للأبد؟ قال: هي للأبد"، فثبت من هذا شيئان: الأول: أن الفسخ كان لهم خاصة. والثاني: أن إجازة العمرة في أشهر الحج كان لهم وللناس من بعدهم إلى يوم القيامة. قوله: "لا يكون بالطواف بالبيت" أراد به الطواف قبل وقوفه بعرفة، وفي بعض النسخ: "لا يكون إلاَّ بالطواف بالبيت" فإن صح هذا فيكون المراد من الطواف هو طواف الزيارة يوم النحر؛ لأن المحرم لا يخرج منه إلاَّ يوم النحر، فافهم.

ص: وقد أنكر قوم فسخ الحج، وذكروا ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي -عليه السلام- حجَّاجًا، فما حللنا من شيء أحرمنا به حتى كان يوم النحر". فمن الحجة على من احتج بهذا: أن بكر بن عبد الله قد روى عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- وأصحابه قدموا مكة ملبين بالحج، فقال: من شاء أن يجعلها عمرة فليفعل، إلاَّ من كان معه الهدي". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في هذا الباب. ففي هذا أن رسول الله -عليه السلام- جعل لهم أن يحلوا إن شاءوا إلاَّ أنه عزم عليهم بذلك، فيجوز أن يكونوا لم يحلوا وقد كان لهم أن يحلوا، فقد عاد ذلك في فسخ الحج لمن شاء أن يفسخه إلى عمرة. ش: أراد بالقوم هؤلاء طائفة من أهل الحديث؛ فإنهم أنكروا فسخ الحج في العمرة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر -رضي الله عنه- أخرجه عن أحمد ابن داود المكي شيخ الطبراني، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بشيء، وعنه: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: كان صدوقًا. وقال ابن حبان: ثقة. عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": عن زهير، عن عبد الله بن مسلمة، عن عبيد الله، عن نافع نحوه. وجه استدلالهم به أنه يدل على أنهم لم يحلوا بعد الطواف بالبيت ولم يفسخوا حجهم في عمرة، وأجاب عنه الطحاوي بقوله: "فمن الحجة على من احتج بهذا ... " إلى آخره.

بيانه: أن بكر بن عبد الله المزني روى عن عبد الله ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- وأصحابه قدموا مكة ملبين .... الحديث". أخرجه بإسناد صحيح في هذا الباب، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وهذا يدل على أنه -عليه السلام- أباح لهم أن يحلوا إن شاءوا الإِحلال ولم يعزم عليهم ذلك، فيجوز أن يكونوا لم يحلوا مع كون الإِحلال جائزًا لهم، فيصير هذا فسخ الحج في العمرة لمن شاء أن يفسخه. والحاصل أنه يُفهم من ذلك جواز فسخ الحج في العمرة لهم، وإن كانوا لم يفعلوا ذلك لأنه -عليه السلام- خيرهم فيه، فكان لهم أن يفعلوا وكان لهم أن يتركوا لأنه لم يعزم عليهم، فثبت بذلك الفسخ، على أن الظاهرية ادعوا أنه -عليه السلام- عزم به عليهم، حتى قالوا: إن الفسخ واجب إلى الآن ولم ينسخ حكمه. ونحن نقول: الفسخ كان مباحًا لهم ولكنه انتسخ بما ذكرناه. والله أعلم. قوله: "لا أنه عزم عليهم" أي لا أنه فرض عليهم الإِحلال بعد الطواف بالبيت. ص: وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أيضاً في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة ومنا [من] (¬1) أهلّ بحج، وأهلّ رسول الله -عليه السلام- بالحج، فاما من أهلّ بعمرة فحل، وأما من أهلّ بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحل، حتى كان يوم النحر". فقد يجوز أن يكون ذلك عندها كما كان عند ابن عمر على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي قد روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في ما ذكرنا من المعنى في حديث بكر بن عبد الله، عن ابن عمر، ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وذكره بعين هذا الإِسناد في باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع، وقد ذكرنا هناك أن الجماعة غير الترمذي أخرجوه، فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬4): عن محمد بن مسلمة، عن مالك. وابن ماجه (¬5): عن أبي مصعب، عن مالك. قوله: "فقد يجوز أن يكون ذلك عندها" أي عند عائشة "كما كان عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-" يعني كما أن في حديث ابن عمر لم يحلوا إلاَّ يوم النحر، مع كون الإِحلال جائزًا لهم بتخيير النبي -عليه السلام- إياهم في ذلك، فكذلك يجوز أن يكون معنى حديث عائشة كذلك على معنى أنهم لم يحلوا إلاَّ يوم النحر مع كون الإِحلال جائزًا لهم، والله أعلم. ص: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنا قد وجدنا الأصل أن من أحرم بعمرة وطاف لها وسعى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 567 رقم 1487). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 873 رقم 1211). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 152 رقم 1779). (¬4) "المجتبى" (5/ 246 رقم 2991). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 988 رقم 3000).

إذا كان قد ساق هديًا لمتعة، وطاف لعمرة وسعى لم يحل من عمرته حتى يوم النحر، فيحل منها ومن حجته إحلالًا واحدًا، وبذلك جاءت السُنة عن رسول الله -عليه السلام- جوابًا لحفصة -رضي الله عنها- لما قالت له: "ما بال الناس حلُّوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لَبَّدت رأسي وقلدت بُدني، فلا أُحِل حتى أنحر". فكان الهدي الذي ساق لمتعته التي لا يكون عليه فيها هدي إلاَّ بأن يحج [بعدها] (¬1) يمنعه من أن يحل بالطواف حتى يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا كان: أن يدخل في عمرة فيتمها فلا يحل منها حتى يحرم بحجة، ثم يحل منها ومن العمرة التي قدمها قبلها معًا، وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بفراغه منها إذا حلق ولم ينتظر به يوم النحر، وكان إذا ساق الهدي لحجة يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقي على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدي الذي هو من سبب الحج يمنعه الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر، فهذا هو النظر أيضًا عندنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله. ش: أي فهذا الذي ذكرناه وجه هذا الباب من طريق التوفيق بين الآراء وتصحيح معانيها. وأما وجهه من طريق النظر والقياس فإنا قد وجدنا ... إلى آخره. تلخيصه: أن المعتمر يحل بمجرد الطواف والسعي ما لم يكن سائق هدي، فإن كان سائق هدي لأجل التمتع لا يحل إلاَّ يوم النحر، فيحل منها ومن حجته التي تمتع بها إلى العمرة بإِحلال واحد، فإذا كان سوق الهدي لأجل تمتعه بالحج إلى العمرة يمنعه من الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله في الحج من الابتداء أحرى أن يمنعه من الإِحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله: "وبذلك جاءت السُنَّة" أي بما ذكرنا من أن الذي يتمتع بحجته إلى عمرته لأجل سوقه الهدي لا يحل إلاَّ يوم النحر إحلالًا واحدًا جاءت السُنَّة عن النبي -عليه السلام-، وذلك في حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث قال: "يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟! قال: إني لبَّدت رأسي وقلدت هديي، ولا أحل حتى أنحر". رواه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة. ورواه مسلم أيضًا (1): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرجه الطحاوي في باب ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع، عن موسى ابن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. وقد مرَّ الكلام فيه مستقصًى. ... ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: باب: القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته؟

ص: باب: القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته؟ ش: أي هذا باب في بيان أن القارن -وهو الذي جمع بين العمرة والحج عند الإِحرام- كم عليه أن يطوف لعمرته ولحجته. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ومحمد بن إدريس المكي، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -عليه السلام- قال: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد، وسعيٌ واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا". ش: رجاله ثقات قد تكرر ذكرهم، وعبد العزيز هو الدراوردي، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. وأخرجه الترمذي (¬1): نا خلاد بن أسلم، قال: نا عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعًا". وأخرجه النسائي (¬2)، ولفظه: "أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف واحدًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله -عليه السلام- يفعله". وأخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4)، ولفظهما: "أن ابن عمر كان يقول: من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعَّا". وقد أخرجاه في حديث طويل. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 284 رقم 948). (¬2) "المجتبى" (5/ 225 رقم 2932). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 641 رقم 1713). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 903 رقم 1230).

ص: فذهب قومٌ إلى هذا الحديث، فقالوا: على القارن بين الحج والعمرة طواف واحد لا يجب عليه من الطواف غيره. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وعطاء وطاوسًا وسعيد بن جبير ومجاهدًا وسالم بن عبد الله ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: القارن يجزئه طواف واحد وسعيٌ واحد، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. قال أبو عمر: وهو قول عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: بل يطوف لكل واحد منهما طوافًا واحدًا ويسعى لها سعيًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي، والأسود والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وجابر بن زيد وشريحًا القاضي وابن شبرمة وحماد بن سلمة وزياد بن مالك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: بل القارن يطوف طوافين ويسعى سعين. وروي هذا القول عن عمر وعلي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وابن مسعود -رضي الله عنهم-. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث خطأ، أخطأ فيه الدراودي فرفعه إلى النبي -عليه السلام- وإنما أصله عن ابن عمر عن نفسه، هكذا رواه الحفاظ، وهم مع هذا فلا يحتجون بالدراوردي عن عبيد الله أصلاً، فلِمَ يحتجون به في هذا؟!. فأما ما رواه الحفاظ في ذلك عن عبيد الله فما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: "ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول: إذا قرن طاف لهما طوافًا واحدًا، فإذا فرَّق طاف لكل منهما طوافًا وسعى سعيًا".

ش: أي وكان من الدليل للآخرين في الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الحديث المذكور: أنه خطأ، أخطأ فيه عبد العزيز الدراوردي حيث رفعه، وإنما أصله موقوف على عبد الله بن عمر، هكذا رواه الحفاظ موقوفًا، ولما ذكره الترمذي قال: وقد رواه غير واحد عن عبيد الله ولم يرفعوه وهو أصح. وقال أبو عمر في "الاستذكار": لم يرفعه أحد عن عبيد الله غير الدراوردي، وكل من رواه عنه، غيره أوقفه على ابن عمر، وكذا رواه مالك، عن نافع موقوفًا، وإنما قال الطحاوي: أخطأ فيه الدراوردي؛ لأن أبا زرعة قال: الدراوردي سيء الحفظ. ذكره عنه الذهبي في "الكاشف". وقال النسائي: ليس بالقوي، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يغلط. قوله: "فهم مع هذا فلا يحتجون بالدراوردي". أي وأهل المقالة الأولى مع كون هذا الحديث مرفوعاً، لا يحتجون بعبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر أصلاً؛ لأنهم يقولون: حديثه عن عبيد الله منكر كما قال النسائي، فكيف يحتجون به في هذا الموضع، ومع هذا فالحديث موقوف. قوله: "فأما ما رواه الحفاظ من ذلك ... إلى آخره". أشار به إلى أن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عمر، وأنه ليس كما رواه الدراوردي بصورة الإِطلاق أن من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد، بل الصحيح منه أنه بالتفصيل، وهو الذي رواه الحفاظ عن عبيد الله، منهم: هشيم بن بشير، رواه عنه، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: "إذا قرن -يعني إذا جمع- بين العمرة والحج من ابتداء الأمر بنية واحدة طاف لهما طوافًا واحدًا، فإذا فرق بأن نوى أولاً للعمرة ثم بعد ذلك نوى للحج، طاف لكل واحد منهما طوافًا، وسعى لكل منهما سعيًا"، أخرج ذلك بإسناد صحيح عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنه-.

ص: فإن قال قائل: قد روى أيوب بن موسى وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- ما يعود معناه إلى معنى ما روى الدراوردي، وذكر في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع: "أن ابن عمر خرج من المدينة إلى مكة -شرفهما الله تعالى- مهلًّا بعمرة مخافة الحصر، ثم قال: ما شأنهما إلاَّ واحد، أشهدكم أني قد قرنت إلى عمرتي حجة، ثم قدم وطاف لهما طوافًا واحدًا، وقال: هكذا فعل رسول الله -عليه السلام-". حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر ... مثله. فقد وافق هذا ما روى الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. ش: تقرير السؤال: أن يقال: إنكم قد خطأتم الدراوردي في رفعه الحديث عن عبيد الله، بالإِطلاق المذكور في متنه بدون تفصيل، وقد روى أيوب بن موسى وموسى بن عقبة كلاهما، عن نافع، عن ابن عمر ما معناه مثل معنى ما رواه الدراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر في رفع الحديث وإطلاقه بلا تفصيل، ثم ثنَّى ذلك بقوله: "وذكر في ذلك". أي: وذكر هذا القائل فيما ادعاه ما حدثنا ... إلى آخره. وهذان طريقان: الأول: في حديث أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبي موسى المكي، وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي، وروى له الجماعة. أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

وأخرجه الطحاوي بعينه سندًا ومتنًا في باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع. الثاني: في حديث موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، روى له الجماعة. أخرجه أيضًا عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد المذكور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وهذا أيضًا ذكره في الباب المذكور. قوله: "قالوا". أي أهل المقالة الأولى، فقد وافق هذا أي الذي رواه أيوب بن موسى وموسى بن عقبة ما رواه الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، فصح أن الحديث مرفوع مثل ما رفعه الدراوردي على الصورة المذكورة. ص: قيل لهم: فكيف يجوز أن تقبلوا هذا عن ابن عمر، وقد حدثنا يزيد بن سنان، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله -عليه السلام- فأهلَّ بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله -عليه السلام- بالعمرة إلى الحج". فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه كان في حجة الوداع متمتعًا، وأنه بدأ بالعمرة، وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- وأصحابه قدموا ملبين بالحج، فقال رسول الله -عليه السلام-: من شاء أن يجعلها عمرة، إلاَّ من كان معه الهدي". فأخبر ابن عمر -رضي الله عنهما- في حديث بكر هذا أن رسول الله -عليه السلام- قدم مكة وهو يلبي بالحج، وقد أخبر في حديث سالم أن رسول الله -عليه السلام- بدأ فأحرم بالعمرة فهذا معناه عندنا -والله أعلم- أنه كان أحرم أولاً بحجة على أنها حجة ثم فسخها فصيرها عمرة، فلبى بالعمرة ثم تمتع بها إلى الحج، حتى يصح حديث سالم وبكر هذين

ولا يتضادان، وفسخ رسول الله -عليه السلام- الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه هو بعد طوافهم بالبيت، قد ذكرنا ذلك في باب فسخ الحج، فأغنانا ذلك عن إعادته ها هنا، فاستحال بذلك أن يكون الطواف الذي كان رسول الله -عليه السلام- فعله للعمرة التي انقلبت إليها حجته مُجزيًّا عنه من طواف حجته التي أحرم به بعد ذلك، ولكن وجه ذلك عندنا -والله أعلم-: أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر في الحجة إنما يفعل للقدوم لا لأنه من صلب الحجة، فاكتفى ابن عمر بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته، وهذا مثل ما روي عن ابن عمر أيضًا من فعله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا قدم مكة رَمَل بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى من مكة بها لم يرمل بالبيت، وأخَّر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر. فدلَّ ما ذكرنا أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا أحرم بالحجة من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر، فكدلك ما روي عن رسول الله -عليه السلام- من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخ حجته الأولى لم يكن طاف لها بك يوم النحر، فليس في حديث ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- من حكم طواف القارن لعمرته وحجته شيء، وثبت بما ذكرنا أيضًا خطأ الدراوردي في حديث عبيد الله الذي وصفناه. ش: بيان هذا الجواب يحتاج إلى تمهيد كلام قبله، وهو أن أخبار ابن عمر في هذا الباب مضطربة ظاهرها متضادٌ، ألا ترى أن سالمًا روى عنه أنه قال: "تمتع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع ... " الحديث. أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم.

وذكره بعينه في باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع. فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه -عليه السلام- كان في حجة الوداع متمتعًا، وأنه بدأ فأحرم بالعمرة أولاً، وروى عنه بكر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- وأصحابه قدموا ملبين بالحج ... " الحديث. أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر. وذكره أيضًا بعينه في باب: من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة. فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه -عليه السلام- قدم مكة وهو يلبِّي بالحج، فبين الخبرين تضاد لا يخفى. وأشار إلى وجه التوفيق بينهما دفعًا للتضاد المذكور بقوله: "فهذا معناه عندنا، والله أعلم". بيانه أن يقال: إنه -عليه السلام- كان أحرم أولاً بحجة على أنها حجة، ثم فسخها فجعلها عمرة فلبَّى بالعمرة، ثم تمتع بهذه العمرة إلى الحج، ولكن كان فسخه الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه بعد طوافهم بالبيت على ما ذكره في باب فسخ الحج، فإذا كان كذلك استحال أن يكون الطواف الذي كان رسول الله -عليه السلام- فعله للعمرة التي انقلبت عنها حجته كافيًا عنه عن طواف حجته التي أحرم بها بعد ذلك، ولكن وجهه أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر يفعل للقدوم، وليس ذلك من صلب الحج، وهو معنى قوله: "لا لأنه من صلب الحج" أي لا يفعل ذلك لأجل أنه أن صلب الحج، ولكن ابن عمر -رضي الله عنهما- اكتفى بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته، وهذا مثل ما روي عنه من فعله: "أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبَّى من مكة لم يرمل بالبيت، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر". أخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عنه.

وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1) عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة" انتهى. فإذا ثبت هذا فقد دلّ على أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر، فكذلك ما روي عن النبي -عليه السلام- من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخه حجته الأولى لم يكن طاف لها إلى يوم النحر، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن نقبل ما ذكروه عن ابن عمر في الاحتجاج فيما ذهبوا إليه؟! وليس في حديثه عن النبي -عليه السلام- ما يبين حكم طواف القارن لعمرته وحجته، فدل ذلك أيضًا على خطأ الدراوردي في رفعه الحديث عن عبيد الله بن عمر. والله أعلم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك (ح). وحدثنا يونس، قال: أخبرني ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع، فأهللنا بالعمرة، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال: انقضى رأسك وامتشطي، وأهلِّي بالحج، ودعى العمرة، فلما قضيت الحج، أرسلني رسول الله -عليه السلام- مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجتهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحداً". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 365 رقم 814).

قالوا: فهذه عائشة قد قالت: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا" وهم كانوا مع رسول الله -عليه السلام- وبأمره كانوا يفعلون، ففي ذلك ما يدل على أن على القارن لحجته وعمرته طوافًا واحدًا، وليس عليه غير ذلك. ش: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن القارن عليه طواف واحد وسعي واحد بحديث عائشة، قالوا: "فهذه عائشة قد قالت ... " إلى آخره، وهو ظاهر. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني البصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأبو داود (¬2): عن مالك. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. والنسائى (¬4): عن محمد بن مسلمة، ومسكين بن الحارث، عن ابن القاسم، عن مالك. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. قوله: "ودعي العمرة" أي ارفضيها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 590 رقم 1557). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 153 رقم 1781). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 873 رقم 1211). (¬4) "المجتبى" (5/ 165 رقم 2764).

قوله: "إلى التنعيم". بفتح التاء المثناة من فوق، وسكون النون، وكسر العين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره ميم، قال الجوهري: هو موضع بمكة. قلت: هو منتهى حد الحرم من ناحية المدينة، بينه وبين مكة نحو من أربعة أميال، وفيه مسجد عائشة -رضي الله عنها-. وفي "المطالع": التنعيم من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل: على أربعة ليال؛ وسميت بذلك لأن جبلًا عن يمينها يقال له: نعيم، وآخر عن شمالها يقال له: ناعم، والوادي نعمان. ويستفاد منه: جواز التمتع والإِفراد والقران، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. وأن الحائض لا تطوف بالبيت. قال أبو عمر: فيه أن الطواف لا يجوز عل غير طهارة، وذلك حجة على أبي حنيفة وأصحابه الذين يجيزون لغير الطاهر الطواف، ويرون على من طاف غير طاهر من جنابة أو حيض دمًا ويجزئه طوافه. وعند مالك والشافعي لا يجزئه ولا بد من إعادته. وقال ابن الجوزي: فيه دليل عل أن طواف المحدث لا يجزىء، ولو كان ذلك لأجل المسجد لقال: لا يدخل المسجد. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في طواف المحدث والنجس، فروى عنه: لا يصح، وروى عنه: يصح ويلزمه دم. وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعي بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة.

وقال ابن التين: والسعي مرتب عليه وإن كان ليس من شرطه الطهارة، بدليل أنها لو حاضت بعد أن فرغت [من] (¬1) الطواف وسعت أجزأها. وفي "شرح المهذب": مذهب الجمهور أن السعي يصح من المحدث والجنب والحائض، وعن الحسن: إن كان قبل التحلل أعاد السعي، وإن كان بعده فلا شيء عليه، وعن أبي حنيفة: أن الطهارة من الحدث والنجس ليس بشرط للطواف، فلو طاف وعليه نجاسة أو محدثًا أو جنبًا صح طوافه، واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبةٌ، مع اتفاقهم أنها ليست شرطًا، فمن أوجبها منهم قال: إن طاف محدثًا لزمه شاة، وإن كان جُنبًا لزمه بدنة، قالوا: ويعيده ما دام بمكة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). وعن داود: الطهارة له واجبة، فإن كان محدثًا أجزأه إلاَّ الحائض. قلت: الجواب عما قاله أبو عمر: إن الله تعالى أمر بالطواف بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) مطلقًا عن شرط الطهارة، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد. غاية ما في الباب: تكون الطهارة من واجبات الطواف، فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإِعادة؛ لأن الإِعادة جبران بجنسه، وجبر الشيء بجنسه أولى، ثم إن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن آخره عنها فعليه دم في قول أبي حنيفة، وإن لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم، غير أنه إن كان محدثًا فعليه شاة، وإن كان جُنبًا فعليه بدنة. وفيه إدخال الحج على العمرة، وهو شيء لا خلاف فيه بين العلماء ما لم يطف المعتمر أو يأخذ في الطواف. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) سورة الحج، آية: [29].

واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أبو حنيفة وأصحابه: من أضاف عمرة إلى حج لزمته وصار قارنًا، وأساء فيما فعل. وقال مالك: لا يضاف الحج إلى العمرة ولا العمرة إلى الحج، قال: فمن فعل ذلك فليست العمرة بشيء، ولا يلزمه لذلك شيء، وهو حاج مفرد، وكذلك من أهلَّ بحجة فأدخل عليها حجة أخرى، أو أهلَّ بحجتين لم يلزمه إلاَّ واحدة ولا شيء عليه، وهذا كله قول الشافعي والمشهور من مذهبه. وقال أبو حنيفة: من أهلَّ بحجتين أو عمرتين لزمتاه، وصار رافضًا لإِحديهما. ص: وكان من حجتنا عليهم لمخالفتهم: أنا قد روينا عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فيما تقدم من هذا الباب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه، والمتمتع قد علمنا أنه الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة، ثم قالت عائشة -رضي الله عنها- في حديث مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "خرجنا مع النبي -عليه السلام- في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، فأخبرت أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون، قالت: ثم قال رسول الله -عليه السلام-: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما" ولم يبين في هذاالحديث الموضع الذي قال لهم فيه هذا القول، فقد يجوز أن يكون قاله لهم قبل دخول مكة، أو بعد دخول مكة قبل الطواف فيكونون قارنين بتلك الحجة للعمرة التى كانوا أحرموا بها قبلها، ويجوز أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإِحرام بها. فنظرنا في ذلك فوجدنا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري -رضي الله عنهم- قد أخبرا في حديثيهما اللذين رويناهما عنهما في باب: فسخ الحج، أن رسول الله -عليه السلام- قال ذلك القول في آخر طواف العمرة على المروة، فعلمنا أن قول عائشة -رضي الله عنها- في حديث مالك: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة التي قد كانوا طافوا لها طوافًا واحدًا؛ لأن حجتهم تلك المضمومة مع العمرة كانت مكيَّة، والحجة المكية

لا يطاف لها قبل عرفة إنما يطاف لها بعد عرفة، على ما كان ابن عمر يفعل فيما رويناه [عنه] (¬1)، فقد عاد معنى ما روينا عن عائشة في هذا الباب وما صححنا من ذلك لننفي التضاد عنه إلى معنى ما روينا عن ابن عمر وما صححنا من ذلك، فليس شيء من هذا يدل على حكم القارن حجة كوفية مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما، هل هو طواف واحد أو طوافان؟ ش: هذا جواب عن احتجاج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة في أن القارن يكفيه طواف واحد، وحاصله يؤدي إلى أن حديث عائشة المذكور لا يدل على أن القارن بين الحجة والعمرة الكوفيتين كيف طوافه لهما؟ هل هو طواف واحد أم طوافان؟ بيان ذلك مبني عل تمهيد كلام قبله، وهو أن حديث عائشة -رضي الله عنها- يعارضه حديثها الآخر، وهو ما رواه عقيل بن خالد الأيلي، عن الزهري، عن عروة، عنها: "أنه -عليه السلام- في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه" وقد مرَّ ذكره في باب: ما كان النبي -عليه السلام- محرمًا في حجة الوداع، فإذا وفق بين الحديثين واندفعت المعارضة علم ما ادعينا، وعلم أيضًا أن معنى حديثها يرجع إلى معنى حديث ابن عمر المذكور قبله الذي احتج به أهل المقالة الأولى من أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، فنقول: من المعلوم أن المتمتع هو الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة، وأخبرت عائشة في حديث مالك أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون وقالت: "ثم قال رسول الله -عليه السلام-: من كان معه هدي ... الحديث" ولكنها لم تبين في هذا الحديث الموضع الذي قال لهم -عليه السلام- هذا القول، ثم هو يحتمل أن يكون قال لهم ذلك قبل دخول مكة، ويحتمل أن يكون بعد دخول مكة قبل الطواف، فيكونون قارنين بتلك الحجة والعمرة التي كانوا أحرموا بها قبل تلك الحجة، ويحتمل أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإِحرام بها، فنظرنا في ذلك فوجدنا قد بين ذلك في حديث جابر وأبي سعيد؛ فإنهما أخبرا في ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حديثيهما أن رسول الله -عليه السلام- قال ذلك القول في آخر طواف على المروة، وقد مرَّ هذا في باب من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف، وهو الباب الذي أراد بقوله: "رويناهما عنهما في باب: فسخ الحج. فإذا كان الأمر كذلك، علم أن قول عائشة في حديث مالك: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة" أنهما أرادت بذلك جمع متعة لا جمع قران؛ لأن حديث جابر قد فسر أن قوله -عليه السلام-: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة" إنما كان في آخر طواف على المروة، ولا شك أن الذي يهل بالحج بعد الطواف للعمرة يكون جامعًا بين الحج والعمرة للمتعة لا للقران، فبهذا حصل التوفيق أيضًا بين حديثي عائشة اللذين بينهما تضاد ظاهرًا. وعلم أيضًا أنه ليس في حديثهما ما يدل عل حكم القارن حجة كوفيَّة مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما، هل هو طواف واحد أو طوافان؟ وذلك لأن حجتهم تلك المضمومة إلى عمرة كانت مكيَّة، والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وإنما يطاف لها بعدها عل ما كان عبد الله بن عمر يفعل كذلك، وقد مرَّ هذا في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر في هذا الباب عن قريب. وقد شنع البيهقي في هذا الموضع في كتاب "المعرفة" (¬1) على الطحاوي وقال: وزعم بعض من يدعي تصحيح الأخبار على مذهبه أنهما أرادت بهذا الجمع جمع متعة لا جمع قران، قالت: فإنما طافوا طوافًا واحدًا في حجتهم؛ لأن حجتهم كانت مكية والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وكيف استجاز لدينه أن يقول مثل هذا؟! وفي حديثها أنها أفردت من جمع بينهما جمع متعة أولاً بالذكر، فذكرت كيف طافوا في عمرتهم، ثم كيف طافوا في حجتهم، ثم لم يبق إلاَّ المفردون والقارنون فجمعت بينهم في الذكر، وأخبرت أنهم إنما طافوا طوافًا واحدًا، وإنما أرادت بين الصفا والمروة لما ذكرنا من الدلالة مع كونه معقولًا، ولو اقتصرت على اللفظة الأخيرة لم ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (4/ 96).

يجز حملها أيضًا على ما ذكر؛ لأنها تقتضي اقتصارًا على طواف واحد لكل ما حصل به الجمع، والجمع إنما حصل بالعمرة والحج جميعًا، فيقتضي اقتصارًا على طواف واحد لهما جميعًا لا لأحدهما، والتمتع لا يقتصر على طواف واحد بالإِجماع؛ فدل أنها أرادت بهذا الجمع: جمع قران. قلت: لم يفهم البيهقي كلام الطحاوي هذا فلذلك شنَّع عليه هذا التشنيع الباطل إظهارًا للتعصب المحض، ألا ترى كيف تأول قولها: "فإنما طافوا طوافًا واحدًا" أنها أرادت بهذا السعي بين الصفا والمروة؟! فما الضرورة إلى تأوبل الطواف بالسعي؟! بل المراد الطواف بالبيت، وقوله: يقتضي اقتصارًا على طواف واحد ... إلى آخره. ليس كذلك؛ لأنه قال: إن حجتهم تلك صارت مكيَّة، والحجة المكية يطاف لها بعد عرفة، فإذا كان كذلك يقتصر المتمتع على طواف واحد، على أنَّا نقول أحاديث عائشة -رضي الله عنها- في هذا الباب مضطربة جدًّا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم، وقد قالت في رواية: "أهللنا بعمرة" وفي أخرى: "فمنا من أهلَّ بعمرهّ ومنا من أهلَّ بحج -قالت-: فلم أهلّ إلاَّ بحج" وفي أخرى: "مهلين بالحج"، والكل صحيح، وفي رواية: "وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي"، حتى قال مالك: ليس العمل على حديث عروة عنها قديمًا ولا حديثًا. ص: واحتج الذين ذهبوا إلى أن القارن يجزئه لعمرته وحجته طواف واحد أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد قالا: ثنا ابن عُيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه السلام- قال لها: "إذا رجعت إلى مكة فإن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك". قالوا: فقد أخبر رسول الله -عليه السلام- أن الذي عليها لحجها وعمرتها طواف واحد. ش: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن القارن يكفيه طواف واحد بحديث عطاء عن عائشة -رضي الله عنها-.

وأخرجه من طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه الشافعى في "مسنده" (¬1): أنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال لعائشة: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) وفي كتاب "المعرفة" (¬3): أنا أبو بكر وأبو زكرياء وأبو سعيد، قالوا: نا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا ابن عُيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة مثله. وقال البيهقي: وربما قال سفيان: عن عطاء، عن عائشة، وربما قال: إن النبي -عليه السلام- قال لعائشة. وقد رواه إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عائشة: "أنها حاضت بسرف وطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك" ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح (¬4). قوله: "قالوا". أي الذين ذهبوا إلى أن القارن يجزئه لعمرته وحجته طواف واحد. ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 113). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 106 رقم 9203، 9204). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (4/ 97). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 880 رقم 1211).

ص: قيل لهم: ليس هكذا لفظ هذا الحديث الذي رويتموه، إنما لفظه أنه قال: "طوافك لحجك يجزئك لحجك وعمرتك". فأخبر أن الطواف المفعول للحج يجزىء عن الحج والعمرة، وأنتم لا تقولون هذا، إنما تقولون: إن طواف القارن طواف لقرانه لا لحجته دون عمرته ولا لعمرته دون حجته، مع أن غير ابن أبي نجيح من أصحاب عطاء قد روى هذا الحديث بعينه عن عطاء على معنًى غير هذا المعنى. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حجاج، وأخبرني عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة أنها قالت: "قلت: يا رسول الله، أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيري؟ قال: انفري فإنه يكفيك -قال حجاج في حديثه عن عطاء قال: لجَّت على رسول الله -عليه السلام-- فأمرها أن تخرج إلى التنعيم فتهل منه بعمرة، وبعث معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم- فأهلت منه بعمرة، ثم قدمت منه فطافت وسعت وقصرت، وذبح عنها رسول الله -عليه السلام-، قال عبد الملك، عن عطاء: "ذبح عنها بقرة". فأخبر عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة بقصتها بطولها، وأنها إنما أحرمت بالعمرة في وقت ما كان لها أن تنفر بعد فراغها من الحجة، وأن الذي ذُكِرَ أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة، لا الطواف، فقد بطل أن يكون في حديث عطاء هذا حجة في حكم طواف القارن كيف هو؟ ش: هذا جواب عن الحديث المذكور، وتقريره عل وجهين: الأول: أن لفظ الحديث ليس مثل ما رووه، وإنما هو أنه قال: "طوافك لحجك يجزئك لحجك وعمرتك"، فأخبر رسول الله -عليه السلام- أن الطواف الذي طافته عائشة -رضي الله عنها- كانت معتمرة لما أقبل رسول الله -عليه السلام- مع أصحابه مهلين بالحج، فلما كانت بسرف حاضت فمنعت من الطواف، فأمرها النبي -عليه السلام- أن تغتسل وتهل بالحج ففعلت ووقفت المواقف، فلما طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، فقال لها

رسول الله -عليه السلام-: "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" يعني: طوافك المفعول للحج يجزيء عن الحج والعمرة، وأهل المقالة الأولى لا يقولون هذا، بل إنما يقولون: طواف القارن طواف لأجل قرانه، لا للحج دون العمرة، ولا للعمرة دون الحج. الوجه الثاني: أن الحديث المذكور روي على معنى غير المعنى الذي رواه عبد الله ابن أبي نجيح، أشار إليه بقوله: "مع أن غير ابن أبي نجيح من أصحاب عطاء قد روى هذا الحديث ... " إلى آخره، فإنه أخبر أن اعتمار عائشة كان في وقت ما كان لها أن تنفر بعد فراغها من الحجة، وأن الذي ذُكِرَ أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة، وليس المراد الطواف، فإذا كان كذلك فقد بطل أن يكون في حديث عطاء المذكور حجة في حكم طواف القارن كيف هو. ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن حجاج ابن أرطأة فيه لين ولكن احتج به الأربعة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة. وروى حجاج أيضًا، عن عبد الملك بن سليمان العرزمي، عن عطاء، وهو معنى قوله: "وأخبرني عبد الملك عن عطاء"، وعبد الملك روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك، عن عطاء، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله، أترجع نساؤك بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة؟ فأقام لها رسول الله بالبطحاء وأمرها فخرجت إلى التنعيم، وخرج معها عبد الرحمن بن أبي بكر، فأحرمت بعمرة، ثم أتت إلى البيت فطافت به وبين الصفا والمروة وقصرت، فذبح عنها بقرة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 165 رقم 25355).

قوله: "لجَّت" بالجيم من لَجِجَ -بالكسر- يَلَجّ لجاجًا ولجاجة، فهو لجوج ولجوجه، بالهاء للمبالغة، ولَجَّ بالفتح لغة، وفي رواية "ألحت" بالحاء المهملة من الإِلحاح، وفي رواية: "ألظت" من أَلظَّ بالشيء يلظ إلظاظًا إذا لازمه وثابر عليه. وجواب آخر: أن معنى قوله -عليه السلام-: "فإن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" أي لعمرتك المرفوضة؛ لأنها لا طواف لها، ويحتمل أن يريد: ثواب هذا الطواف كثواب طواف الحج والعمرة؛ لأنها قصرت النسكين، وإنما تركت الواحد بغير اختيارها، عل أن المشهور الثابت: أن عائشة -رضي الله عنها- كانت مفردة بالحج، وأنه -عليه السلام- أمرها برفض العمرة، وقولها: "وأرجع بحجة واحدة" دليل واضح على ذلك، وقولها: "ترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج" صريح في رفض العمرة؛ إذ لو أدخلت الحج على العمرة لكانت هي وغيرها سواء، ولَمَا احتاجت إلى عمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما. وقوله -عليه السلام- عن عمرتها الأخيرة: "هذه مكان عمرتك" صريح في أنها خرجت من عمرتها الأولى ورفضتها، إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلاَّ والأولى مفقودة، وفي بعض الروايات: "هذه قضاء من عمرتك". فإن قيل: قال البيهقي: معنى قوله: "ودعي العمرة" أمسكي عن أفعالها وأدخلي عليها الحج. قلت: هذا خلاف حقيقة قوله: "دعي العمرة"، بل حقيقته أنه أمرها برفض العمرة بالحج، وقوله: "انقضي رأسك وامتشطي" يدل عل ذلك ويدفع تأويل البيهقي بالإِمساك عن أفعال العمرة؛ إذ المحرم ليس له أن يفعل ذلك. فإن قيل: قال الشافعي: لا نعرف في الشرع رفض العمرة بالحيض. قلت: قال القدوري في "التجريد": ما رفضتها بالحيض لكن تعذرت أفعالها، وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفض.

ص: واحتج من ذهب أيضًا في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أن جابر بن عبد الله يقول: "دخل النبي -عليه السلام- على عائشة وهي تبكي، فقال: ما لَكِ تبكين؟ قالت: أبكي لأن الناس حلُّوا ولم أحلل، وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر كما ترى، فقال: هذا أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، فاغتسلي وأهلِّي بالحج ثم حجي واقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي، قالت: ففعلت ذلك، فلما طهرت قال: طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حللت من حجك وعمرتك، فقلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم كن طفت حتى حججت، فأمر عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- مثله. قالوا: فقد أمرها النبي -عليه السلام- وهي محرمة بالعمرة والحجة أن تطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة ثم تحل، فدل ذلك على أن حكم القارن في طوافه لحجته وعمرته هو كذلك، وأنه طواف واحد لا شيء عليه من الطواف غيره. ش: احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه أيضًا بحديث جابر، وهو ظاهر. قوله: "وقالوا" أي هؤلاء المحتجون بحديث جابر. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم بن جهم البصري شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم وعبد بن حميد -قال ابن حاتم: نا، وقال عبد: أنا- محمد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "دخل النبي -عليه السلام- على عائشة وهي تبكي ... " الحديث. الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر. وأخرجه مسلم (1) أيضًا: ثنا قتيبة قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: "أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفردًا، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله -عليه السلام- أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟! قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلاَّ أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله -عليه السلام- على عائشة -رضي الله عنها- فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حلَّ الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلِّي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت وطافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة". وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا، كلاهما عن قتيبة، عن الليث نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 881 رقم 1213). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 154 رقم 1785). (¬3) "المجتبى" (5/ 164 رقم 2763).

قوله:" هذا أمر كتبه الله على بنات آدم". ظاهره العموم، وهو يرد قول من قال: أول ما أرسل الحيض عل بني إسرائيل. ويرد هذا أيضًا ما قيل في قوله تعالى في قصة إبراهيم وهو جد بني إسرائيل {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} (¬1) قال أهل التفسير: أي حاضت، وهو معروف في لغة العرب. قوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت" دليل عل منع الحائض -وإن انقطع دمها- من دخول المسجد. وفيه تنزيه المساجد عن الأقذار والحائض والجنُب. قوله: "حتى إذا كنا بسرف" بفتح السين وكسر الراء المهملتين وفي آخره فاء، وهو موضع من مكة على عشرة أميال. قوله: "عركت" بفتح العين والراء المهملتين، أي حاضت، والعارك الحائض. ص: فكان من الحجة على أهل هذه المقالة الأخرى: أن حديث عائشة هذا قد روي على غير ما ذكرنا؛ حدثنا أبو بكرة ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: "أمرنا النبي -عليه السلام- فقال: من شاء أن يهل بالحج، ومن شاء فليهل بالعمرة، قالت: فكنت ممن أهلّ بعمرة، فحضت، ودخل عليَّ النبي -عليه السلام- فأمرني أن أنقض رأسي وأمتشط وأدع العمرة". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن زيد بن الحسن، عن عكرمة، عن عائشة مثله. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا يوسف، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله. ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أمرها حين حاضت أن تدع عمرتها، وذلك قبل طوافها لها، فكيف يكون طوافها في حجتها التي أحرمت بها بعد ذلك تجزيء عنها من حجتها تلك ومن عمرتها التي قد رفضتها؟! هذا محال. ¬

_ (¬1) سورة هود، آية: [71].

ش: أراد بالحجة: الجواب عن ما احتج به أهل المقالة الأولى من حديث جابر الذي فيه قضية عائشة، في أن القارن ليس عليه إلاَّ طواف واحد، وتقريره أن يقال: إن قضية عائشة التي حدث بها جابر -رضي الله عنه- قد رواها عروة بن الزبير عنها على غير ذلك، وذلك أنه -عليه السلام- أمرها في حديث جابر وهي محرمة بالعمرة ثم بالحجة أن تطوف بالبيت وتسعى. وأهل المقالة الأولى استدلوا به على أن القارن يطوف طوافًا واحدًا لا غير، وفي حديث عروة عن عائشة هذا أمرها رسول الله -عليه السلام- حين حاضت أن تدع عمرتها، وذلك قبل طوافها للعمرة، وكيف يكون طوافها في حجتها التي أحرمت بها بعد ذلك يجزيء عن حجتها هذه، وعن عمرتها التي قد رفضتها؟! هذا محال، وجه الإِحالة هو أن الطواف الواحد لا يمكن أن يكون لحجة هي متلبسة بها، ولعمرة مرفوضة لم توجد أصلاً. فإن قيل: قد فسر الطحاوي حديث عطاء عن عائشة -المذكور عن قريب-: "إن طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" بأن معناه الطواف المفعول للحج يجزيء عن الحج والعمرة، وها هنا قال: هذا محال، وبين الكلمتين تناقض. قلت: ذاك التفسير إنما كان ردَّا لما قاله أهل المقالة الأولى ولهذا قال: وأنتم لا تقولون هذا، إنما تقولون: طواف القارن طواف لقرانه لا لحجته دون عمرته، ولا لعمرته دون حجته، ألا ترى بعد ذلك كيف نفى هذا أيضًا حيث؟ قال: المراد من الذي ذكر أنه يكفيها: هو الحج من الحجة والعمرة لا الطواف. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، ومحمد بن خزيمة، كلاهما عن عثمان بن الهيثم شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة -رضي الله عنها-.

وأخرجه أحمد: "مسنده" (¬1): ثنا روح، قال: نا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع فنزلنا الشجرة، فقال: من شاء فليهل بحجة، قالت عائشة: فأهلّ منهم بعمرة وأهلّ منهم بحجة، قالت: فكنت أنا ممن أهلَّ بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فقال لي رسول الله -عليه السلام-: انقضي رأسك وامتشطي، وذري عمرتك، وأهلِّي بالحج، فلما كان ليلة الحصبة أمرني فاعتمرت مكان عمرتي التي تركت". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي بن زريق -شيخ البخاري- عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عائشة -رضي الله عنها-. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن يوسف بن عدي أيضًا، عن يحيى ابن أبي زائدة أيضًا، عن نافع بن عمر بن عبد الله الجمحي المكي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي الأحول القاضي، عن عائشة. ص: وقد روى الأسود عنها: ذلك أيضًا ما حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "خرجنا ولا نرى إلاَّ أنه الحج، فلما قدم مكة طاف ولم يحل وكان معه الهدي، فطاف من معه من نسائه وأصحابه، فحل منهم من لم يكن معه الهدي، قال: وحاضت هي قالت: فقضينا مناسكنا، فلما كانت ليلة الحصبة ليلة النفر قلت: يا رسول الله، أيرجع أصحابك بحجة وعمرة وأرجع أنا بحج؟ قال: أما كنت طفت بالبيت ليالي قدمنا؟ قالت: قلت: لا، قال: انطلقي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة، ثم موعدك مكان كذا وكذا". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 245 رقم 26128).

ففي هذا الحديث ما يدل أنها قد كانت خرجت من عمرتها التي صارت مكان حجتها بفسخ الحج بمضيها إلى عرفة قبل طوافها لها؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قال لها: "أما كنت طفت ليالي قدموا" أي لو كنت طفت كانت قد تمت لك عمرتك مع حجتك التي قد فرغت منها، فلما أخبرته أنها لم تكن طافت ليالي قدموا، جعلها بما فعلت بعد ذلك لحجها من وقوفها بعرفة أو توجهها إليها خارجة من عمرتها، [فأمرها] (¬1) أن تعتمر أخرى مكانها من التنعيم، فكيف يجوز لقائل أن يقول أن طوافها بالبيت لحجة هي فيها يكون لتلك الحجة ولعمرة أخرى قد خرجت منها قبل ذلك، هذا عندنا محال. ش: أي قد روى الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، عن عائشة -رضي الله عنها- في أمر عائشة. أخرجه بإسناد صحيح، عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): عن عثمان، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم ... إلى آخره. ومسلم (¬3): عن زهير بن حرب، عن جرير، عن منصور ... إلى آخره. وقد ذكرناه فيما مضى. قوله: "ولا نرى" بفتح النون وضمها، قال القرطبي: أي ولا نظن. قوله: "ليلة النفر" أي الرحيل، وهو بدل من قوله: "ليلة الحصبة"، وليس بموجود في بعض النسخ، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أمر لها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 566 رقم 1486). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 877 رقم 1211).

ص: وقد روى القاسم بن محمد في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- ولا نذكر إلاَّ الحج، فلما جئنا بسرف طَمِثْتُ، فدخل عليَّ رسول الله -عليه السلام- وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: لوددت أني لم أحج العام أو لم أخرج العام، قال: لعلك نفست، قلت: نعم، قال: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت، قالت: فلما جئنا مكة قال رسول الله -عليه السلام- لأصحابه: اجعلوها عمرة، فحل الناس إلاَّ من كان معه هدي، فكان الهدي معه ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وذوي اليسارة، ثم أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر طهرت، فأرسلني رسول الله -عليه السلام- فأفضت، فأتي بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر، حتى إذا كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله، يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- فأردفني خلفه، فإني لأذكر أني كنت أنعس فيضرب وجهي مؤخرة الرحل، حتى جئنا التنعيم، فأهللت بعمرة جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا بها" فهذا مثل الحديث الذي قبله. ش: أي قد روى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في أمر عائشة ما حدثنا فهد بن سليمان، ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرج مسلم (¬1): حدثني سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الغيلاني، قال: نا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: نا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 873 رقم 1211).

قوله: "فطمثت" أي حضت، يقال: طمثت المرأة تطمث طمثًا إذا حاضت فهي طامث، والطمث: الدم وهو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، ويجيء أيضًا من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. قوله: "لعلك نَفِست". بفتح النون وكسر الفاء، أي: حِضْتِ، قال ابن الأثير: يقال: نُفِسَت المرأة ونَفَسَت فهي منفوسة ونفساء، إذا ولدت، فأما الحيض فلا يقال فيه إلاَّ: نَفِست بالفتح. وفي "المطالع": قوله: "لعلك نُفست" كذا ضبطه الأصيلي بضم النون، وفي الولادة فَنُفِسَت بعبد الله، ضبطناه بالضم أيضًا. قال الهروي: يقال في الولادة بضم النون وفتحها، وإذا حاضت نَفَسَت بالفتح لا غير، ونحوه لابن الأنباري، والاسم من الولادة والحيض، والمصدر النفاسة والنفاس، والولد منفوس، والمرأة نفساء، ونِفْسَى مثل كِسْرى، ونَفْسَى بالفتح، والجمع نفاس مثل كرام ونُفسٌ بضم النون والفاء، ونُفَساوات بالضم والفتح. قوله: "وذوي اليسارة". أي أصحاب الغنى، قال الجوهري: اليسار واليسارة الغنى. قوله: "فإني لأذكر". اللام فيه للتأكيد؛ ولهذا جاءت مفتوحة. قوله: "مُؤخِرة الرحل". بضم الميم وكسر الخاء المعجمة، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير، وقد تقال بالهمزة: مؤخرة الرحل. قوله: "جزاء بعمرة الناس". أي: قضاءً بسبب عمرة الناس، وانتصابه بفعل محذوف تقديره: جزيتها جزاءً بعمرة الناس، كما يقال: جزيته بما صنع. قوله: "فهذا مثل الحديث الذي قبله". أي فهذا الحديث الذي رواه القاسم بن محمد مثل الحديث الذي رواه الأسود عن عائشة، فيما ذكرنا من المعنى".

ص: وقد رواه عروة عن عائشة أبين من ذلك: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "خرجنا موافين للهلال، فقال رسو الله -عليه السلام-: من شاء أن يهل بالحج فليهل، ومن شاء أن يهل بالعمرة فليهل، فأما أنا فإني أهل بالحج؛ لأن معي الهدي، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فمنا من أهلّ بالحج ومنا من أهلّ بالعمرة، وأما أنا فإني أهللت بالعمرة، فوافاني يوم عرفة وأنا حائض، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعي عنك عمرتك وانقضي شعرك وامتشطي، ثم لبي بالحج، فلبيت بالحج، فلما كانت ليلة الحصبة وطهرت أمر رسول الله -عليه السلام- عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بي إلى التنعيم فلبيت بالعمرة قضاءً لعمرتها". فبينت عائشة -رضي الله عنها- أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها، وأنها قد كانت فيما بينهما نقضت شعرها وامتشطت، فكيف يجوز أن يكون طوافها لحجتها التي بينها وبين عمرتها ما ذكرنا من الإِحلال يجزىء عنها لعمرتها وحجتها؟! هذا محال، وهو أولى من حديث أبي الزبير عن جابر؛ لأن ذلك إنما أخبر فيه جابر بقصة عائشة، وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها، وأخبرت عائشة في هذا بأمر النبي -عليه السلام- إياها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها، وأن تفعل مما يفعل الحلال مما ذكرت في حديثها. ودل ذلك أيضًا على أن حديث عطاء عن عائشة كما رواه عنه الحجاج وعبد الملك، لا كما رواه عنه ابن أبي نجيح. ش: أي قد روى الحديث المذكور عروة بن الزبير عن عائشة أبين وأظهر مما رواه القاسم بن محمد وغيره. وأخرجه بإسناد صحيح، وأخرجه الجماعة (¬1) غير الترمذي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/ 632 رقم 1691)، ومسلم في "صحيحه" (2/ 870 رقم 1211)، والنسائي في "المجتبى" (1/ 132 رقم 242)، وأبو داود في "سننه" (2/ 152 رقم 1778)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 998 رقم 3000).

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، قالت: فقال رسول الله -عليه السلام-: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، قالت: فكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة، فخرجنا حتى قدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبي -عليه السلام-، فقال: دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج، قالت: ففعلت، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا؛ أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني وخرج بي إلى التنعيم، فأهللت بعمرة، فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم". قوله: "فبينت عائشة .. " إلى آخره. أشار به إلى أن طواف عائشة لحجتها لم يكن لأجل حجتها وعمرتها كما قاله الخَصْمُ. واستدل به على أن القارن يطوف طوافًا واحدًا؛ لأنها بينت في هذا الحديث أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها؛ لأنها عملت بينهما من الأمور التي تفعل للإِحلال، كنقض الشعر والامتشاط، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يكون طوافها لأجل حجتها التي هي فيها مجزئة عنها، وعن عمرتها؟! وهذا مستبعد محال. قوله: "وهو أولى من حديث أبي الزبير عن جابر". أي: وهذا الحديث الذي رواه عروة من حديث أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر، في بيان الحكم وظهور الحال، وذلك أن حديث جابر يخبر بقضية عائشة وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها. وحديث عروة عنها يخبر بأنه -عليه السلام- أمرها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها وأن تفعل ما يفعله الحلال مما ذكرت في حديثها. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم " (2/ 872 رقم 1211).

قوله: "ودل ذلك أيضًا". أي دل حديث عروة عن عائشة هذا، على أن حديث عطاء بن أبي رباح، عن عائشة كما رواه عن الحجاج بن أرطأة وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، لا كما رواه عبد الله بن أبي نجيح من قوله: "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" فإن هذا على هذا الوجه غير صحيح كما ذكرناه فيما مضى. ثم نتكلم في معاني الحديث: فقوله: "وأما أنا فإني أهللت بالعمرة" دليل واضح على أنها لم تكن قارنة، فإذا لم تكن قارنة لا يصح الاستدلال بأحاديثها في كون الطواف على القارن واحدًا لا غير. قوله: "فوافاني يوم عرفة". من الموافاة وهي المقاربة. قوله: "دعي عنك عمرتك". أي: ارفضي، قال القاضي: قيل: ليس المراد ها هنا بترك العمرة: إسقاطها جملة، وإنما المراد: ترك فعلها مفردة وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة، ويؤيد هذا أن في بعض طرقه: "وأمسكي عن العمرة". قلت: المراد تركها بالكلية، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى: "هذه قضاء من عمرتك". قوله: "وانقضي شعرك وامتشطي". تأوله بعضهم أنها تحمل عل أنها كانت مضطرة لذلك لأذى برأسها، فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه. وقد قيل: إنها أعادت الشكوى بعد جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذٍ. قلت: كلا التأويلين بعيد من ظاهر لفظ الخبر. وذكر الخطابي فيه تأويلًا آخر: وهو أنه كان من مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة كان له أن يستبيح ما يستبيحه المحرم إذا رمى جمرة العقبة. ص: واحتج أيضًا الذين قالوا: يطوف القارن لحجته وعمرته طوافًا واحدًا بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا محمد بن خازم، قال: ثنا

الحجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- قرن بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا". قيل لهم: ما أعجب هذا؟! إنكم تحتجون بمثل هذا، وقد رويتم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- أفرد الحج". وعن ابن جريج والأوزاعي وعمرو بن دينار وقيس بن سعد، عن عطاء، عن جابر: "أنهم قدموا صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم رسول الله -عليه السلام- أن يجعلوها عمرة، وهو على الصفا في آخر طواف". فكيف تقبلون مثل هلا وتدعون مثل هذا؟!. ش: يعقوب بن حميد فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء، وعنه: ليس بثقة. والحجاج بن أرطاة، أيضًا فيه مقال، فقال الدارقطني: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي. ومحمد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبو معاوية الضرير، روى له الجماعة. وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر "أن النبي -عليه السلام- طاف لهما طواًفا واحدًا". قوله: "قيل لهم: ما أعجب هذا .. " إلى آخره، جواب عن هذا الحديث بطريق الإِنكار عليهم في احتجاجهم به؛ لأنهم متناقضون في كلامهم؛ لأنهم رووا من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن النبي -عليه السلام-: "أنه أفرد الحج" ثم يستدلون بما رووا عن جابر أيضًا: "أن رسول الله -عليه السلام- قرن بين الحج والعمرة" فهذا أمر عجيب، حيث يستدلون بحديثين متناقضين، ويجعلون كلًا منهما ¬

_ (¬1) "مصنف اين أبي شيبة" (3/ 292 رقم 14319).

حجة، وأعجب من هذا أن الدارقطني (¬1) روى من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قرن العمرة والحج، وطاف لهما واحدًا" والحال أنه روى من هذا الطريق أيضًا: "أنه -عليه السلام- أفرد الحج". قوله: "وعن ابن جريج". أي ورويتم أيضًا عن عبد الملك بن جريج وعبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي وعمرو بن دينار وقيس بن سعد المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر بن عبد الله: "أنه -عليه السلام- أهل بالحج مفردًا" ثم تروون عن جابر أيضًا أنه قرن" وهذا تناقض لا يخفى. وجواب آخر: أن الحديث ضعيف كما ذكرنا، فانظر إلى أدب الطحاوي -رحمه الله-: ومتانة دينه كيف أجاب عن هذا الحديث بالطريق المذكور، ولم يتعرض إلى أحد من رجاله بشيء من القدح والطعن، ولو كان غيره وكان في معرض الاستدلال علينا لم يكن جوابه عن الحديث إلاَّ بالقدح والطعن في رجاله. ص: فإن احتجوا بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن جابر: "أن أصحاب رسول الله -عليه السلام- لم يزيدوا على طواف واحدٍ". قيل لهم: إنما يعني جابر بهذا الطواف بين الصفا والمروة، وقد بين ذلك عنه أبو الزبير: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، سمع جابرًا -رضي الله عنه- يقول: "لم يطف النبي -عليه السلام- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلاَّ طوافًا واحدًا". وإنما أراد جابر بهذا أن يخبرهم أن السعي بين الصفا والمروة لا يفعل في طواف يوم النحر، ولا في طواف الصدر كما يفعل في طواف القدوم، وليس في شيء من هذا دليل على أن ما على القارن من الطواف لعمرته وحجته طواف واحد أو طوافان. ¬

_ (¬1) "سنن الدراقطني" (2/ 261 رقم 117).

ش: أي: فإن احتج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بما روي عن جابر -رضي الله عنه-. أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رباح -بالباء الموحدة- بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، فيه مقال: فعن يحيى: ضعيف. وعن النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح. وروى له مسلم والنسائي، عن عطاء بن أبي رباح المكي. قوله: "قيل لهم" أي: هؤلاء المحتجين بما أراد جابر بقوله: "لم يزيدوا على طواف واحد" الطواف بين الصفا والمروة، وقد بين ذلك عن جابر أبو الزبير محمد بن مسلم، حيث قال: "لم يطف النبي -عليه السلام- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلاَّ طوافًا واحدًا". أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير، عن عطاء. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "لم يطف النبي -عليه السلام- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلاَّ طوافًا واحدًا". قوله: "وإنما أراد جابر ... " إلى آخره ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد صح عن ابن عمر من قوله في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا فإلى قول مَن تخالفون قوله في ذلك؟ قيل له: إلى قول علي وعبد الله -رضي الله عنهما-: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم -أو مالك- بن الحارث، عن أبي نصر قال: "أهللت بالحج، فأدركت عليًّا -رضي الله عنه- فقلت له: إني أهللت بالحج فأستطيع أن أضف إليه عمرة؟ قال: لا، لو كنت أهللت بالعمرة ثم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 883 رقم 1215).

أردت أن تضم إليها الحج ضممته، قال: قلت: كيف أصنع إذا أردت ذلك؟ قال: تصبَّ عليك إداوة من ماء، ثم تحرم بهما جميعًا، وتطوف لكل واحدة منهما طوافًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، عن مالك بن الحارث، عن أي نصر السلمي، عن علي مثله. قال أبو داود: قال قيس: قال منصور، فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: "ما كنا نفتي الناس إلاَّ بطواف واحد، فاما الآن فلا". حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا يزيد، عن عطاء، عن الأعمش، عن إبراهيم ومالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أذينة، قال: "سألت عليًّا -رضي الله عنه- ... " فذكر مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن [خزيمة] (¬1)، قال ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك، عن أبي نصر مثله. قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: "ما كنت أفتي الناس إلاَّ بطواف واحد فأما الآن فلا". حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا شجاع بن مخلد (ح). وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قالا: ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن زياد بن مالك، عن علي وعبد الله -رضي الله عنهما- قالا: "القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين". فهذا علي وعبد الله قد ذهبا في طواف القارن إلى خلاف ما ذهب إليه ابن عمر -رضي الله عنها-. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: تقرير السؤال أن يقال: قد صح عن عبد الله بن عمر من قوله في القارن أنه يطوف لعمرته وحجته طوافًا واحدًا. وقد أخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2) في حديث طويل أن ابن عمر كان يقول: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد". قوله: "فإلى قول من تخالفون قوله في ذلك". أي تخالفون قول ابن عمر فيما قاله ذاهبين إلى قول مَنْ مِن الصحابة -رضي الله عنهم-؟. فأجاب بقوله: "قيل له: إلى قول علي وعبد الله"، أي قيل لهذا القائل: نخالف قوله إلى قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود في قولهما أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، وكذلك وافق عليًّا في هذا ابناه الحسن والحسين، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- قاله ابن عبد البر، وكذلك وافق عليًّا عمران بن حصين. قال الدارقطني (¬3): ثنا أبو محمد بن صاعد إملاءً، ثنا محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، عن عمران بن حصين: "أن النبي -عليه السلام- طاف طوافين وسعى سعيين". قوله: "حدثنا يونس ... إلى آخره" بيان لما ذهب إليه علي وعبد الله -رضي الله عنها-. وأخرجه من سبع طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي أو عن مالك بن الحارث السلمي الكوفي، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له البخاري في الأدب، ومسلم وأبو داود والنسائي. عن أبي نصر السلمي وهو بالنون والصاد المهملة، وقال ابن ماكولا: الأشهر فيه بالضاد المعجمة، وفي "التكميل": أبو نصر هذا غير معروف، وقال الدارقطني والبيهقي: مجهول. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 591 رقم 1559). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 904 ر قم 1230). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 264 رقم 133).

وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن زنبور، ثنا فضيل بن عياض -عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك بن الحارث- أو منصور، عن مالك بن الحارث- عن أبي نصر قال: "لقيت عليًّا -رضي الله عنه- وقد أهللت بالحج، وأهل هو بالحج والعمرة، فقلت: هل أستطيع أن أفعل كما فعلت؟ قال: ذلك لو كنت بدأت بالعمرة. فقلت: كيف أفعل إذا أردت ذلك؟ قال: تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك ثم تهل بهما جميعًا، ثم تطوف لهما طوافين وتسعى لهما سعيين، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر، قال منصور: [فذكرت]، (¬2) ذلك لمجاهد، [قال] (¬3): ما كنا نفتي إلاَّ بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل". الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحارث السلمي، عن أبي نصر السلمي، عن علي -رضي الله عنه- مثله. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من طريق الدارقطني نحو ما ذكره. الثالث: عن محمد بن حجاج بن سليمان الحضرمي، عن الخصيب بن ناصح البصري نزيل مصر، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الكندي السلمي الواسطي البزار مولى أبي عوانة من فوق، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشئ، وعنه: ضعيف. وقال ابن حبان: ساء حفظه حتى كان يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات، فلا يجوز الاحتجاج به. روى له البخاري في "أفعال العباد"، وأبو داود. عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي ومالك بن الحارث كلاهما عن عبد الرحمن بن أذينة بن سلمة العبدي الكوفي قاضي البصرة، وثقه أبو داود وابن حبان، وروى له ابن ماجه حديثًا واحدًا قال: "سألت عليًّا -رضي الله عنه- ... ". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 265 رقم 135). (¬2) في "الأصل، ك": "قد ذكرت"، والمثبت من "سنن الدارقطني". (¬3) كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن الدارقطني": "فقال". (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 108 رقم 9210).

وأخرجه أبو عمر في "التمهيد" (¬1) نحوه. الرابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم ومالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن أذينة، عن علي نحوه. الخامس: عن محمد بن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن مالك بن الحارث، عن أبي نصر السلمي، عن علي نحوه. السادس: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن شجاع بن مخلد الفلاس البغوي شيخ مسلم وأبي داود وابن ماجه، عن هشيم بن بشير، عن منصور ابن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، عن زياد بن مالك، وثقه ابن حبان وقال: يروي عن ابن مسعود: "القارن يطوف طوافين" ولم يسمعه منه، وفي "الميزان": زياد بن مالك عن أبي مسعود ليس بحجة، وقال البخاري: لا نعرف له سماع من عبد الله ولا سماع الحكم منه. وأخرج ابن أبي شبية في "مصنفه" (¬2): نا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن زياد بن مالك: "أن عليًّا وابن مسعود قالا في القارن: يطوف طوافين". السابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬3) وقال: وروينا من طريق منصور بن زاذان، عن زياد بن مالك، ومن طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، كلاهما عن ابن مسعود قال: "على القارن طوافان وسعيان". ¬

_ (¬1) "التمهيد" (8/ 233). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 291 رقم 14313). (¬3) "المحلى" (7/ 175).

وقال أيضًا: وروينا من طريق منصور بن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، ومن طريق ابن سمعان، عن ابن شبرمة، كلاهما عن علي نحوه. فإن قيل: كيف تستدلون بهذا الأثر وفي سنده أبو نصر ويزيد بن عطاء، وقد ذكرنا ما قيل فيهما؟!. وزياد بن مالك وان كان وثقه ابن حبان فقد قالوا فيه ما ذكرناه. قلت: الطريق الرابع إسناده صحيح ورجاله ثقات كما ذكرنا؛ لأن حجاجًا وأبا عوانة والأعمش وإبراهيم من رجال الجماعة، ومالك بن الحارث من رجال مسلم، وابن أذينة وثقه أبو داود وابن حبان، وابن خزيمة وثقه ابن يونس وغيره. وكذلك الطريق السادس والسابع رجالهما ثقات، ودعوى عدم سماع زياد بن مالك [من] (¬1) ابن مسعود مجرد دعوى لا برهان عليها، وبقية الطرق تُشد وتُعَضَّد بهذه الطرق الثلاثة. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الرجل إذا أحرم بحجة وجبت عليه بما فيها من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ووجب عليه في انتهاك ما قد حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ما يجب عليه في ذلك، وكذلك إذا أحرم بعمرة، وجبت عليه أيضًا بما فيها من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ووجب عليه في انتهاك ما حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ما يجب عليه في ذلك. وكان إذا جمعهما فكلٌّ قد أجمع أنه في حرمتين: حرمة حج، وحرمة عمرة، فكان يجيء في النظر أن يجب عليه لكل واحدة منهما من الطواف والسعي وغير ذلك من الكفارات في انتهاك الحرم التي قد حرمت عليه بها ما كان يجب عليه لها لو أفردها. ش: أي: وأما وجه حكم طواف القارن من طريق النظر والقياس، ملخصه: المحرم بالحجة تجب عليه أفعالها المعهودة، فإذا جنى تجب عليه الكفارة بقدر ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عن".

جنايته، وكذلك المحرم بالعمرة، وهذا لا خلاف فيه، والقارن يجمع بين الحرمتين: حرمة حج وحرمة عمرة، فإذا وجب لحرمة واحدة طواف واحد وسعي واحد، فالقياس عليه أن يكون على من يجمع حرمتين: طوافان وسعيان، وكذلك في الجناية كفارتان. قوله: "وكلٌّ قد أجمع". أي كل الخصوم قد أجمعوا أنه أي أن الذي يجمع بين الحج والعمرة، وهو القارن. قوله: "في انتهاك الحُرَم". بضم الحاء وفتح الراء، جمع حرمة. ص: فأدخِل على هذا القول، فقيل: قد رأينا الحلال يصيب الصيد في الحرم فيجب عليه الجزاء لحرمة الحرم، ورأينا المحرم يصيب صيدًا في الحل فيجب عليه الجزاء لحرمة الإِحرام، ورأينا المحرم إذا أصاب صيدًا في الحرم وجب عليه جزاء واحد لحرمة الإِحرام ودخل [فيه] (¬1) حرمة الجزاء لحرمة الحرم، وهو في وقت ما أصاب ذلك الصيد في حرمتين: في حرمة إحرام، وحرمة حرم، فلم يجب عليه لكل واحدة من الحرمتين ما كان يجب عليه لها لو أفردها، قالوا: فكذلك القارن فيما كان يجب عليه لكل واحدة من عمرته وحجته لو أفردها لا يجب عليه في ذلك لما جمعهما إلاَّ مثل ما يجب عليه في إحداهما ويدخل ما كان يجب للأخرى لو كانت مفردة في ذلك. قيل لهم: إنكم لِمَ تقولون أن ما يجب على المحرم في قتله الصيد في الحرم جزاء واحد وقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-: إن القياس كان عندهم في ذلك أنه يجب عليه جزاءان: جزاء لحرمة الإِحرام، وجزاء لحرمة الحرم، وأنهم إنما خالفوا ذلك استحسانًا ولكنا لا نقول في ذلك كما قالوا، بل القياس عندنا في ذلك ما ذكروا أنهم استحسنوه، وذلك أنا رأينا الأصل المجتمع عليه: أنه يجوز للرجل أن يجمع بين حجة وعمرة ولا يجمع بين حجتين ولا بين عمرتين، فكان له ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أن يجمع بإحرام واحد بين شكلين مختلفين، فيدخل بذلك فيهما ولا يجمع بين شيئين من صنف واحد، فلما كان ما ذكرنا كذلك؛ كان له أن يجمع أيضًا بأدائه جزاء واحدًا ما يجب عليه بحرمتين مختلفتين وهما: حرمة الحرم التي لا يجزىء فيها الصوم، وحرمة الإِحرام التي يجزىء فيها الصوم، ويكون بذلك الجزاء الواحد مؤديًا عما يجب عليه فيهما، فلم يكن له أن يجمع بأدائه جزاء واحدًا عما يجب عليه في انتهاك حرمتين مؤتلفتين من شكل واحد وهما: حرمة العمرة وحرمة الحج، كما لم يكن له أن يدخل بإحرام واحد في حرمة شيئين مؤتلفين. ولما كان ما ذكرنا أيضًا كذلك وكان الطواف للحجة والطواف للعمرة من شكل واحد لم يكن بطواف واحد داخلًا فيهما، ولم يكن ذلك الطواف مجزئًا عنهما، واحتاج أن يدخل في كل واحد منهما دخولًا على حدة، قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا مما يجمعه بإحرام واحد من الحجة والعمرة المختلفتين، ومما ذكرنا مما لا يجمعه من الحجتين المؤتلفتين ومن العمرتين المؤتلفتين. ش: أراد به: [اعتراض] (¬1) على ما ذكر من وجه النظر والقياس من جهة الخصم، تقرير الاعتراض أن يقال: لا يلزم من دخول القارن في حرمتين أن يجب عليه طوافان قياسًا على وجوب الكفارتين إذا جنى لأجل الحرمتين؛ لأنا رأينا المحرم إذا أصاب صيدًا فإنه يجب عليه جزاء واحد، مع أن فيه حرمتين: حرمة الإِحرام وحرمة الحرم. وتقرير الجواب أن يقال: إنكم قلتم بوجوب جزاء واحد على المحرم المذكور استحسانًا لا قياسًا؛ لأن القَياس عندكم يقتضي جزاءين لتعدد الجناية على الإِحرام والحرم، فلا يلزم من ترك القياس ها هنا عدم صحة القياس عليه، على أنّا نقول: القياس عندنا في مسألة المحرم المذكور هو ما قالوا أنه استحسان، وبَيَّنَ ذلك بقوله: "وذلك أنا رأينا الأصل ... إلى آخره"، وهو ظاهر لا يحتاج إلى كثرة كلام. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "اعترض".

ص: فإن قال قائل: فقد رأيناه يحل من حجته وعمرته بحلق واحد ولا يكون عليه غير ذلك، فكذلك أيضًا يطوف لهما طوافًا واحدًا ويسعى لهما سعيًا واحدًا ليس عليه غير ذلك. قيل له: قد رأيناه يحل بحلق واحد من إحرامين مختلفين لا يجزئه فيهما إلاَّ طوافان مختلفان، وذلك أن رجلاً لو أحرم بعمرة فطاف لها وسعى وساق الهدي ثم حج من عامه فصار بذلك متمتعًا أن حكمه في يوم النحر أن يحلق حلقًا واحدًا فيحل بذلك الحلق منهما جميعًا، وكان يحل بحلق واحد من أحرامين مختلفين قد كان دخل فيهما دخولاً متفرقًا، ولم يكن ما وجب من ذلك من حكم الحلق موجبًا أن حكم الطواف لهما كان كذلك، وأن طوافه واحد، بل هو طوافان، فكذلك ما ذكرنا من حلق القارن لعمرته وحجته حلقًا واحدًا لا يجب به أن يكون كذلك حكم طوافه لهما طوافًا واحدًا، ولما كان قد يحل في الإِحرامين اللذين قد دخل فيهما دخولًا متفرقًا بحلق واحد، كان في الإِحرمين اللذين قد دخل فيهما دخولًا واحدًا أحرى أن يحل منهما كذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: لمَّا كان القارن يحل من حجته وعمرته جميعًا إذا حلق رأسه، ولا يجب عليه شيء غير ذلك، فبالحلق الواحد يحصل الإِحلال، فكذلك ينبغي أن يكتفي بطواف واحد، وسعي واحد، ولا يحتاج إلى طوافين وسعيين. وملخص الجواب أن يقال: لا يلزم من حصول الإِحلال من الحجة والعمرة بحلق واحد أن يكون الطواف واحدًا والسعي واحدًا، ألا ترى أن من أحرم بعمرة ثم طاف لها وسعى وكان سائق الهدي، ثم أحرم بحج من عامه ذلك كان متمتعًا، ثم إنه يحل عن الإِحرامين جميعًا بحلق واحد يوم النحر، ومع هذا لا بد له من طوافين بلا خلاف، ولم يكن ذلك موجبًا أن يكون الطواف كذلك واحدًا، فكذلك حلال القارن بحلق واحد لا يستلزم أن يكون طوافه كذلك، فإذا كان الإِحلال عن الإِحرامين اللذين كان فيهما الدخول متفرقًا يحصل بحلق واحد، فبالطريق الأولى أن يحصل عن الإِحرامين اللذين كان فيهما الدخول واحدًا.

ص: فهذا هو النظر في هذا الباب على ما روي عن علي وعبد الله -رضي الله عنهما- من وجوب الطواف لكل واحدة من العمرة والحجة، وعك ما ذكرنا من النظر على ذلك في وجوب الجزاء لكل واحدة منهما في انتهاك حرمتهما. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي هذا الذي ذكرنا من الطوافين والسعيان على القارن هو النظر والقياس، على ما روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود من وجوب الطواف على القارن لأجل كل واحدة من عمرته وحجته على ما مرّ بيانه فيما مضى، وعلى ما ذكرنا من القياس على تعدد الجزاء في جناية القارن، والله أعلم. ***

ص: باب: حكم الوقوف بمزدلفة

ص: باب: حكم الوقوف بمزدلفة ش: أي هذا باب في بيان حكم الوقوف بمزدلفة، هل هو واجب أم سُنَّة؟ والمزدلفة على وزن منفْتَعِلَة بكسر اللام من الازدلاف وهو الاجتماع، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وقيل: لاقتراب الناس فيها من منى، والازدلاف: الاقتراب، وقيل: للنزول بها بالليل في زلفة منه، وقال الكلبي: سميت بذلك لأن الناس يدفعون منها زلفة جميعًا، يزدلفون منها إلى موضع آخر، وحدّ المزدلفة ما بين مأزمي عرفة وقرن محسر يمينًا وشمالًا من الشعاب والجبال، وقال أبو علي: آخر مزدلفة محسر، وأول منى بطن محسر. قلت: المأزم: المضيق من الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض، ويتسع ما ورآءه، والميم زائدة وكأنه من الأزم وهو القوة والشدة. والمزدلفة لها اسمان آخران: جمع، والمشعر الحرام، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "المشعر الحرام هو المزدلفة كلها" (¬1)؛ وسمي جمعًا لأن آدم وحواء صلوات الله عليهما وسلامه اجتمعا بها. والمشعر الحرام بفتح الميم، وقيل: إن أكثر العرب تقول: بكسر الميم، وقال القتبي: لم يقرأ به أحد، وذكر الهذلي أن أبا السمال أقرأه بالكسر، قال الأزهري: سمي مشعرًا لأنه معلم للعبادة، وقال الكرماني: الأصح أن المشعر الحرام هي المزدلفة لا غير المزدلفة. قلت: كلامه يشعر أن ثمة من يقول أن المشعر الحرام غير المزدلفة. وفي "المطالع": مزدلفة هي المشعر الحرام وتفتح ميم المشعر وتكسر أيضًا في اللغة لا في الرواية. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/ 343 رقم 14758) نحوه.

وعن قطرب: قالوا: مَشْعَر بفتح الميم والعين، ومِشْعَر بكسر الميم وفتح العين، ومَشعِر بالعكس ثلاث لغات. وأما مُحَسّر فهو بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملة، وهو وادي بجمع، وهو بين يدي موقف المزدلفة مما يلي منى وهو مسيل قدر رمية بحجر من المزدلفة ومنى. ذكره أبو عُبيد. وقال الطبري: مُحسّر اسم فاعل من حَسَّر بتشديد السين سمي بذلك؛ لأن قيل أصحاب الفيل حُسِّر فيه أي أعيى وذل عن السير. قلت: هذا لا يصح؛ لأن الفيل لم يدخل الحرم؛ وقيل: لأنه يحسّر سالكيه ويتعبهم؛ ويسمى وادي النار لأن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نارٌ فأحرقته، واستحب الإِسراع فيه لأنه كان موقفًا للنصارى، فاستحب رسول الله -عليه السلام- الإِسراع فيه. قلت: أبو السمال بفتح السين المهملة وتشديد الميم وفي آخره لام- العدوي واسمه قعنب، روى عنه أبو زيد النحوي حروفًا في القراءات. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، قال: "أتيت النبي -عليه السلام- بجمع، فقلت: يا رسول الله، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي؟ فقال: من صلى معنا هذه الصلاة وقد وقف معنا قبل ذلك [و] (¬1) أفاض من عرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي وزكرياء، عن الشعبي وداود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا حامد بن يحيى قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، وابن أبي هند، عن الشعبي، وزكرياء عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الشعبي، قال: سمعت عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي يقول: "أتيت رسول الله -عليه السلام- بمزدلفة، فقلت: يا رسول الله جئت من جبلي طيء، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي، وما تركت حبلًا رملًا من هذه الحبال إلاَّ وقد وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: مَنْ شهد معنا هذه الصلاة صلاة الفجر بالمزدلفة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه". قال سفيان، وزاد زكرياء فيه -وكان أحفظ الثلاثة لهذا الحديث- قال: "قلت: يا رسول الله، أتيت هذه الساعة من جبلي طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي فهل لي من حج؟ فقال: مَن شهد معنا هذه الصلاة، ووقف معنا حتى نفيض، وقد كان وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه". قال سفيان: وزاد داود بن أبي هند: "قال: أتيت رسول الله -عليه السلام- حين برق الفجر ... " ثم ذكر الحديث. ش: هله ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي أيضًا، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، روى له الجماعة. عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز أو سعد البجلي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة. عن عامر الشعبي روى له الجماعة. عن عروة بن مُضرِّس -بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وفي آخره سين مهملة- بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي الصحابي، شهد مع النبي -عليه السلام- حجة الوداع، قال ابن المديني: لم يرو عنه غير الشعبي. وأخرجه الأئمة الأربعة على ما نذكره.

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس الطائي: "أنه حج على عهد النبي -عليه السلام- فلم يدرك الناس إلاَّ وهم بجمع، قال: فأتيت النبي -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي، والله ما نزلت حبلاً من الحبال إلاَّ وقد وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: من صلى معنا هذه الصلاة وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهارًا، فقد قضى تفثه وتم حجه". الثاني: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر -بفتح السين المهملة وفتح الفاء- واسمه سعيد بن محمد الثوري الكوفي، روى له الجماعة، وعن إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن عامر الشعبي، عن عروة بن مضرس، وعن زكرياء بن أبي زائدة ميمون الكوفي -أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن الشعبي، وعن داود بن أبي هند عن الشعبي. والحاصل أن شعبة روى هذا الحديث عن هؤلاء الأربعة: عبد الله بن أبي السفر، وإسماعيل بن أبي خالد، وزكرياء بن أبي زائدة، وداود بن أبي هند، وهؤلاء الأربعة قد رووه عن الشعبي، عن عروة بن مضرس. أما رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي فقد أخرجها النسائي (¬2): أنا إسماعيل ابن مسعود، نا خالد، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم قال: "أتيت النبي -عليه السلام- بجمع؛ فقلت: هل لي من حج؟ فقال: من صل هذه الصلاة معنا، ووقف هذا الموقف حتى نفيض، وأفاض قبل ذلك من عرفات ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 226 رقم 13682). (¬2) "المجتبى" (5/ 264 رقم 3042).

وأما رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي فقد أخرجها الطحاوي كما ذكر، وابن أبي شيبة (¬1) أيضًا. وأما رواية زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي فقد أخرجها الترمذي (¬2): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس ابن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- بالمزدلفة، حتى خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، ما تركت من حبل إلاَّ وقفت عليه، هل لي من حج؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجة وقضي تفثه". وأما رواية داود بن أبي هند عن الشعبي فقد أخرجها الطبراني في "الكبير" (¬3): نا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس قال: " [رأيت] (¬4) رسول الله -عليه السلام- واقفًا بالمزدلفة، فقال: من صلى صلاتنا هذه، ثم أفاض معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا؛ فقد تم حجه". الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن حامد بن يحيى بن هانىء البلخي نزيل طرسوس وشيخ أبي داود عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي. ورواه سفيان بن عيينة أيضًا عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وعن زكرياء بن أبي زائدة عن الشعبي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 226 رقم 13682). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 238 رقم 891). (¬3) "المعجم الكبير" (17/ 151 رقم 382). (¬4) في "الأصل، ك": "أتيت"، والمثبت من "المعجم الكبير" للطبراني.

والحاصل أن ابن عيينة روى هذا الحديث عن هؤلاء الثلاثة، وهؤلاء الثلاثة عن الشعبي. وأخرجه الترمذي (¬1) نحوه، وقد ذكرنا آنفًا. قوله: "وابن أبي هندٍ" بالرفع عطف على قوله: "إسماعيل بن أبي خالد"، وكذلك قوله: "وزكرياء" بالرفع عطف عليه. والحديث أخرجه أبو داود (¬2) أيضًا: عن مسدد، قال: نا يحيى، عن إسماعيل، قال: نا عامر، قال: أنا عروة بن مضرس الطائي، قال: "أتيت النبي -عليه السلام- بالموقف -يعني بجمع- فقلت: يا رسول الله، جئت من جبلي طيّ، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلاَّ وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه". وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن إسماعيل، عن عامر الشعبي ... إلى آخره نحوه. ولما أخرجه الترمذي (¬4) قال: هذا حديث حسن صحيح. ويقال: إن الشيخين لم يخرجاه؛ لأنه ليس على شرطهما؛ لأن عروة بن مضرس لم يرو عنه غير الشعبي كما قاله ابن المديني. قلت: فيه نظر، فقد قال ابن الأثير: روى عنه ابنه أبو بكر والشعبي. وقد قال الحكم (¬5): وقد أمسك عن إخراجه الشيخان محمد بن إسماعيل ومسلم ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 238 رقم 891). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 196 رقم 1950). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1004 رقم 3016). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 238 رقم 891). (¬5) "مستدرك الحاكم" (1/ 364 رقم 1701).

ابن الحجاج عل أصلهما أن عروة بن مضرس لم يحدث عنه غير عامر الشعبي، وقد وجدنا عروة بن الزبير بن العوام، حدث عنه، حدثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم البزار ببغداد، ثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حسان التستري بتستر، ثنا عبد الوهاب بن فليح المكي، ثنا يوسف بن خالد السمتي البصري، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عروة بن مضرس الطائي قال: "جئت رسول الله -عليه السلام- وهو بالموقف، فقلت: يا رسول الله، أتيت من جبل طيء، أكللت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما بقي حبل من تلك الحبال إلاَّ وقفت عليه، فقال: من أدرك معنا هذه الصلاة -يعني: صلاة الغداة- وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه". قوله: "بجمع". في محل النصب على الحال، والباء فيه ظرفية، أي أتيت النبي -عليه السلام- والحال أنه في جمع أي في المزدلفة. قوله: "أنضيت راحلتي". أي أهزلتها، يقال: أنضى بعيره وينضيها إنضاء إذا أهزلها وجعلها نضوًا، والنضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها، ومادة هذه الكلمة نون وضاد معجمة وواو، ويجوز فيه: أنضبت من النضب وهو التعب، ولكن لا أدري هل هي رواية أم لا؟ قوله: "أكللت راحلتلي" أي أتعبتها وأعييتها، من الإِكلال، من كَلَّ يَكِلُّ كلالاً، يقال: كل السيف فهو كلل إذا لم يقطع. قوله: "حبلًا". بالحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه: حبال، وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل. قوله: "رملًا". بالنصب تصير لقوله: "حبلًا". قوله: "من جبلي طيء". وهما أجأ وسلمى. قوله: "حين برق الفجر". أي: أضاء وانتشر نوره.

قوله: "من صلى معنا هذه الصلاة". أراد بها صلاة الغداة بالمزدلفة. قوله: "وقد وقف معنا". جملة حالية، أي: والحال أنه قد وقف معنا بعرفات قبل ذلك. قوله: "أفاض قبل ذلك". جملة حالية أيضًا بتقدير "قد" كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (¬1) أي قد حصرت، والتقدير: قد أفاض قبل وقوفه بالمزدلفة من عرفة ليلاً أو نهارًا. قوله: "وقضى تفثه". قال الترمذي: يعني نسكه، والتفث بالتاء المثناة من فوق والفاء المفتوحتين، والثاء المثلثة ما يفعله المحرم بالحج إذا حل كقص الشارب والأظفار ونتف الإِبط وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقًا. ويستفاد منه أحكام: فرضية الوقوف بعرفة؛ لأنه علق تمام الحج [بالوقوف] (¬2) بها وجواز الوقوف بها ليلاً ونهارًا؛ لأن وقته من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. ووجوب الوقوف بالمزدلفة على ما يأتي بيان الخلاف فيه إن شاء الله تعالى. واستدلت به الظاهرية على أن صلاة الغداة بالمزدلفة مع الإِمام من فروض الحج كالوقوف بعرفة. وقال ابن حزم في "المحلى": ومن لم يدرك مع الإِمام بمزدلفة صلاة الغداة فقد بطل حجه إن كان رجلاً، ثم استدل عل ذلك بحديث عروة بن مضرس هذا. قلنا: ظاهر الحديث متروك بالإِجماع، ألا ترى أنهم أجمعوا على أن من وقف بالمزدلفة ليلاً إذا دفع منها قبل الصبح أن حجه تام؟ فلو كان حضور الصلاة مع الإِمام فرضًا من فرائض الحج ما أجزأه، فلم يبق إلاَّ أنه من سنن الحج. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [90]. (¬2) "في الأصل، ك": "بالوقف".

وأجمعوا أيضًا أن قوله: "نهارًا" أن الوقوف بالنهار لا يضره إن فاته؛ لأن السائل يعلم أنه إذا وقف بالنهار فقد أدرك الوقوف بالليل، فأعلمه -عليه السلام- أنه إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار أن ذلك لا يضره، لا أنه أراد بهذا القول أن يقف بالنهار دون الليل، وقال أبو الفتح: معناه: ليلاً، أو نهارًا وليلاً، فسكت عن أن يقول: وليلًا لعلمه بما قدم من فعله، فكأنه أراد بذكر النهار إيصال الليل، قال: ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى "الواو"، فكأنه قال: ليلاً ونهارًا. قلت: فيه نظر؛ لأن "أو" لو كان بمعنى "الواو" لكان الوقوف واجبًا ليلاً ونهارًا لم يغن أحدهما عن صاحبه وهذا لا يقوله أحد، وجماعة العلماء يقولون: من وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا بعد الزوال من يوم عرفة أجزأه إلاَّ مالك بن أنس فإنه انفرد بقوله: لا بد من الوقوف بجزء من الليل مع النهار، حتى قال مالك: مَن دفع من عرفة قبل الغروب فعليه الحج قابلا [إلا] (¬1) أن يعود إليها قبل الفجر، فإن عاد فلا دم عليه. وقال سائر العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل الغروب. وقال الشافعي: فإن عاد حتى يدفع بعد مغيب الشمس فلا شيء عليه وإن لم يرجع حتى طلع الفجر أجزأه وأهراق دمًا. وقاله أحمد وإسحاق والطبريّ وداود وعامة العلماء إلاَّ الحسن البصري وابن جريج قالا: لا يجزئه إلاَّ بدنة، وقال الثوري وأبو حنيفة: إذا أفاض من عرفة قبل الغروب أجزأه وعليه دم، وإن رجع بعد الغروب لم يسقط عنه الدم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلاَّ بإصابته، واحتجوا في ذلك بقوله الله -عز وجل-: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬2) وبهذا الحديث الذي رويناه، وقالوا: ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "إلى"، وهو خطأ. (¬2) سورة البقرة، آية: [198].

ذكر الله -عز وجل- في كتابه المشعر الحرام كما ذكر عرفات وذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، فحكمهما واحد، لا يجزىء الحج إلاَّ بإصابتهما. ش: أراد بالقوم هؤلاء: علقمة والشعبي والنخعي والحسن البصري والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان؛ فإنهم قالوا: الوقوف بالمزدلفة فرض كالوقوف بعرفة، وإليه ذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة الشافعي، وأبو عُبيد القاسم بن سلام، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. قوله: "واحتجوا في ذلك". أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من فرضية الوقوف بمزدلفة بالكتاب والسُنَّة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬1)، وقالوا: ذكر الله -عز وجل- المشعر الحرام كما ذكر عرفات، فيصير الوقوف به فرضًا كالوقوف بعرفة. وأما السُنَّة فهي حديث عروة بن مضرس المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما الوقوف بعرفة فهو من صلب الحج الذي لا يجزي الحج إلاَّ بإصابته، وأما الوقوف بمزدلفة فليس كذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الزهري وقتادة ومجاهدًا والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، فإنهم قالوا: الوقوف بمزدلفة ليس كالوقوف بعرفة من صلب الحج الذي لا يجري الحج أصلاً إلاَّ به. وأما الوقوف بمزدلفة فهو من سنن الحج المؤكدة لا من فروضها. ثم تفصيل أقوالهم: أن مالكًا قال: من لم ينزل بها وتقدم إلى منى فعليه دم، وإن نزل بها في أول الليل أو آخره وترك الوقوف مع الإِمام فلا شيء عليه. وقال نحوه الزهري والثوري وأحمد وإسحاق: إذا لم يقف بها ولم ينزل بها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن لم يقف بها ولم يمر بها ولم يبت فيها فعليه دم، وكذلك إن بات بها وتعجل من غير عذر ليلاً ولم يرجع حتى يقف مع ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [198].

الإِمام أو يصبح بها فعليه دم، وإن كان مريضًا أو ضعيفًا أو صغيرًا فتقدموا ليلاً فلا شيء عليهم. وقال الشافعي: إن نزل بها وخرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل ولم يعد إليها ليقف مع الإِمام ويصبح فعليه شاة. ويقال عن الشافعي قولان: في قول: المبيت بالمزدلفة واجب. وفي قول: سنة. وهو قول مالك، وعن مالك: النزول بها واجب والمبيت بها سُنَّة، وكذا الوقوف مع الإِمام سُنة. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول الله -عز وجل-: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬1) ليس فيه دليل على أن ذلك على الوجوب؛ لأن الله -عز وجل- إنما ذكر الذكر ولم يذكر الوقوف، وكلٌّ قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله -عز وجل- إن حجة تام، فإن كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج فالموطن الذي يكون ذلك الذكر فيه الذي لم يذكر في الكتاب أحرى ألَّا يكون فرضًا، وقد ذكر الله -عز وجل- إشياء في كتابه في الحج لم يرد بذكرها إيجابها حتى لا يجزىء الحج إلاَّ بإصابتها في قول أحد من المسلمين، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬2). وكلّ قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد قد تم وعليه دم؛ مكان ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله -عز وجل- المشعر الحرام في كتابه ليس في ذلك دليل على إيجابه حتى لا يجزىء الحج إلا بإصابته. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [198]. (¬2) سورة البقرة، آية: [158].

وأما [ما] (¬1) في حديث عروة بن مضرس فليس فيه دليل أيضًا على ما ذكروا؛ لأن رسول الله -عليه السلام- إنما قال فيه: "من صلى معنا صلاتنا هذه وقد كان أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه" فذكر الصلاة وكلٌّ قد أجمع أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإِمام حتى فاتته أن حجه تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإِمام المذكور في هذا الحديث ليس من صلب الحج الذي لا يجزيء الحج إلاَّ بإصابته كان الموطن الذي تكون فيه تلك الصلاة الذي لم يذكر في الحديث أحرى ألَّا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفه خاصة. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين وأراد به الجواب عما قال أهل المقالة الأولى من فرضية الوقوف بالمزدلفة مستدلين بالكتاب وحديث عروة بن مضرس. أما الجواب عن استدلالهم بالكتاب فهو قوله -أي قول الله -عز وجل- ... إلى آخره، وهو ظاهر ونوقش في قوله: "وكلٌ قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله -عز وجل- أن حجه تام" فإن الظاهرية أوجبوا صلاة الغداة مع الإِمام في المزدلفة، فلا يتم حجهم إلاَّ بها، ولا شك أن الصلاة ذكر الله تعالى. والجواب أن خلافهم لا يعتبر به، فلا يكون قادحًا للإِجماع، وكذلك نوقش في قوله: "وكلٌ قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم" بأنه ليس كذلك؛ لأنه روي عن عائشة -رضي الله عنها- فرضية الطواف بين الصفا والمروة، وقالت في هذه الآية: إنما نزلت في أناس كانوا لا يطوفون بينهما، فلما كان الإِسلام طاف رسول الله -عليه السلام-. وأجيب عن ذلك بأن مراد عائشة -رضي الله عنها- من ذلك هو فرضية الطواف بين الصفا والمروة في العمرة دون الحج؛ وذلك لأن العمرة عبارة عن الطواف بالبيت والطواف بين الصفا والمروة، بخلاف الحج فإنه عبارة عن الوقوف بعرفة وطواف الزيارة بشرط الإِحرام مع التلبية. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله: "وكذلك ذكر الله -عز وجل- المشعر الحرام ... إلى آخره"، أراد أن ذكر الله -عز وجل- المشعر الحرام لا يستلزم وجوب الذكر عند الجميع، فإذا لم يكن الذكر المذكور في الآية فرضًا، فالوقوف فيه الذي ليس بمذكور أولى وأحرى ألَّا يكون فرضًا. ومن الناس من يقول: إن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة، والذكر الثاني في قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (¬1) هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمى ذكرًا، قال -عليه السلام- (¬2): "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، وتلا عند ذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) فسمى الصلاة ذكرًا، فعلى هذا اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة. وأما الجواب عن استدلالهم بحديث عروة بن مضرس فهو قوله: "وأما في حديث عروة بن مضرس ... إلى آخره" حاصله أنهم اتفقوا على أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج، وقد ذكرها النبي -عليه السلام- فكذلك الوقوف. فإن قيل: روى مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرك جمعًا والإِمام واقف فوقف مع الإِمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك فلا حج له". قلت: قد روى هذا الحديث جماعة حفاظ عن الشعبي مثل زكرياء وداود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الله بن أبي السفر وسيار وغيرهم ولم يذكر فيه أحد منهم: "فلا حج له"، ولئن سلمنا أن هذا صحيح، فمعناه أنه محمول على نفي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [198]. (¬2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، البخاري (1/ 215 رقم 572)، ومسلم (1/ 477 رقم 684). (¬3) سورة طه، آية: [14].

الفضيلة والكمال لا نفي الأصل، كما في قوله -عليه السلام-: "لا وضوء لم يذكر اسم الله عليه" (¬1)، وكما روي عن عمر -رضي الله عنه-: "من قدَّم ثقله فلا حج له" (¬2). ص: وقد روى عبد الرحمن بن يعمر الديلي، عن النبي -عليه السلام- ما يدل على ذلك: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عُبيد، قال: ثنا سفيان، عن بكير ابن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- واقفًا بعرفات، فأقبل أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال: الحج يوم عرفة، ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم أردف خلفه رجلاً ينادي بذلك". حدثنا علي، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام- ... ثم ذكر مثله، ولم يذكر سؤال أهل نجدٍ ولا إردافه الرجل. ففي هذا الحديث أن أهل نجد سألوا رسول الله -عليه السلام- عن الحج فكان جوابه لهم: "الحج يوم عرفة". وقد علمنا أن جواب رسول الله -عليه السلام- هو الجواب التام الذي لا نقص فيه ولا فضل؛ لأن الله تعالى قد آتاه جوامع الكلم وخواتمه، فلو كان عندما سألوه عن الحج أرادوا بذلك ما لا بد منه في الحج لكان يلكر عرفة والطواف ومزدلفة، وما يفعل في الحج سوى ذلك، فلما ترك ذكر ذلك في جوابه إياهم، علمنا أن ما أرادوا [بسؤالهم] (¬3) إياه عن الحج وهو ما إذا فات الحج، فأجاجهم بأن قال: "الحج يوم عرفة"، فلو كانت مزدلفة كعرفة لذكر لهم مزدلفة مع ذكره عرفة، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "سننه" (1/ 25 رقم 101)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 140 رقم 399) من حديث أبي هريرة، وروي من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أيضًا. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/ 404 رقم 15389). (¬3) تكررت في "الأصل، ك".

ولكنه ذكر عرفة خاصة؛ لأنها صلب الحج الذي إذا فات فات الحج، ثم قال كلامًا مستأنفًا، ليعلم الناس [أن] (¬1) من أدرك جمعًا قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، ليس على معنى أنه أدرك جميع الحج؛ لأنه قد ثبت في أول كلامه: الحج عرفة، فأوجب بذلك أن فوت عرفة فوت للحج، ثم قال: ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج، ليس على معنى أنه لم يبق عليه شيء من الحج؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو واجب لا بد منه، ولكن فقد أدرك بما تقدم له من الوقوف بعرفة. فهذا أحسن ما خرِّج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد. ش: أي قد روى عبد الرحمن بن يَعْمُر -بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وضم الميم وفي آخره راء- الديلي -بكسر الدال وسكون الياء آخر الحروف- نسبة إلى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وأيضًا في عبد قيس: الديل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصي بن عبد القيس. وفي الأزد: الديل بن هذاذ بن زيد مناة بن الحجر. وقال يونس: هم ثلاثة: الدُوْل بضم الدال وسكون الواو في حنيفة، والدِيل بالكسر وسكون الياء في عبد القيس، والدُئل بضم الدال وكسر الهمزة في كنانة رهط أبي الأسود، وعداده في أهل الكوفة، روي عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن الذي يتحقق من حديث عروة بن مضرس هو فرض الوقوف بعرفة خاصة لا غير. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عُبيد بن أبي أميَّة الكوفي، روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء الليثي الكوفي -وثقه يحيى والنسائي، وقال أبو حاتم: شيخ صالح لا بأس به. روى له الأربعة، عن عبد الرحمن بن يعمر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك،" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، قال: حدثني بكير، عن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: "أتيت النبي -عليه السلام- وهو بعرفة، فجاء أناس أو نفر من أهل نجد، فأمروا رجلاً فنادى رسول الله -عليه السلام-: كيف الحج؟ فأمر رجلاً فنادى: الحج الحج يوم عرفة، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمعٍ فتم حجه، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه. قال: ثم أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك". قال أبو داود: كذلك رواه مهران، عن سفيان: قال: "الحج الحج" مرتين. ورواه يحيى القطان عن سفيان قال: "الحج" مرة. وأخرجه الترمذي (¬2): نا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي، قالا: ثنا سفيان، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر: "أن ناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله -عليه السلام- وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه". قال محمد: وزاد يحيى: "فأردف رجلاً فنادى" ثم قال: وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري. وأخرجه النسائي (¬3): عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن سفيان .. إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬4): أيضًا عن ابن أبي شيبة وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 196 رقم 1949). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 237 رقم 889). (¬3) "المجتبى" (5/ 264 رقم 3044). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1003 رقم 3015).

الثاني: عن علي بن معبد أيضًا، عن شبابة بن سوَّار الفزاري، عن شعبة بن الحجاج، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر. وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا علي بن عبد العزيز ومحمد بن يحيى القزاز البصري، قال: ثنا حفص بن عمر الحوضي، نا شعبة، عن بكير بن عطاء، قال: سمعت عبد الرحمن بن يعمر الديلي: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن الحج، فقال: يوم عرفة أو عرفات. وقال: من أدرك ليلة جمع قبل أن يصلي فقد أدرك، أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه". قوله: "ففي هذا الحديث". أي حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن أهل نجد سألوا رسول الله -عليه السلام- عن الحج فأجاب -عليه السلام- لهم بقوله: "الحج يوم عرفة"، وجوابه -عليه السلام- تام لا يأتي إلاَّ على طِبْق السؤال، فدل أن الوقوف بعرفة فرض، ولو كان سؤالهم عن جميع ما لا بد منه في الحج لكان رسول الله -عليه السلام- يذكر مع عرفة الطواف والسعي والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك، فلما اقتصر في كلامه على قوله: "الحج يوم عرفه" علمنا أن سؤالهم لم يكن إلاَّ عن شيء إذا فات فات الحج بفواته، فلو كان الوقوف بمزدلفة كالوقوف بعرفة لذكرها مع عرفة؛ ولم يذكر إلاَّ عرفة لأنها صلب الحج الذي إذا فات الوقوف بها فات الحج. قوله: "ثم قال كلامًا مستأنفًا". أي: ثم قال النبي -عليه السلام- كلامًا مبتدأ غير متعلق بالكلام الذي قبله وهو قوله: "ومن أدرك جمعًا ... إلى آخره" وإنما استأنف هذا ليُعْلِم الناس -من الإِعلام- من أدرك جمعًا -أي المزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج معناه: فقد أدرك الحج بما تقدم له من الوقوف بعرفة، وليس معناه أنه أدرك جميع الحج عل معنى لم يبق عليه شيء من الحج؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو من فروض الحج. والتحقيق في هذا الموضع أن في قوله: "فقد أدرك الحج"، إضمار شيء، تقديره: فقد أدرك معظم الحج وهو الوقوف بعرفة وإدراك الجمع إذْ لو لم يقدر هذا لفسد المعنى؛ لأنه بقي عليه طواف الزيارة وهو من الفروض،

وكذلك في قوله: "الحج عرفة" إظهار شيء تقديره: معظم الحج الوقوف يوم عرفة، ولا بد من هذا التقدير ليصح وقوع الخبر عن الحج؛ لأن الحج فعل وعرفة مكان ويوم عرفة زمان، فلا يصح أن يكون خبرًا عنه، فكان فيه مضمر في الموضعين وهو قولنا: معظم الحج الوقوف يوم عرفة، والمجمل إذا التحق به التفسير يصير معتبرًا من الأصل، فكأنه قال: الحج الوقوف بعرفة وظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير، إلاَّ أنه زيد عليه طواف الزيارة بدليل آخر قوله: "أيام التشريق" بالرفع بدل من قوله: "أيام منى ثلاثة"، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي أيام التشريق، وتكون الجملة في موضع البيان والتفسير عن الجملة الأولى. وقال الجصاص في "أحكامه": اتفق أهل العلم على أن هذا بيان لمراد الآية في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬1) ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق، وقد روي ذلك عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم، إلاَّ شيئًا رواه ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زر، عن علي -رضي الله عنه- قال: "المعدودات: يوم النحر، ويومان بعده، اذبح في أيها شئت" (¬2). وقد قيل: إن هذا وهم، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات، وظاهر الآية ينفي ذلك أيضًا؛ لأنه قال: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق. قوله: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه". يعني إذا نفر في اليومين ولم يصبر إلى اليوم الثالث للرمي فلا إثم عليه في تعجيله. روي هذا المعنى عن الحسن وغيره، وقد قيل: معناه: فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور. وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وغيره. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [203]. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 197)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 275).

قوله: "ومن تأخر فلا إثم عليه". أي: ومن لم ينفر في اليومين وتأخر إلى اليوم الثالث فلا إثم عليه؛ لأنه يباح له التأخير. ويستفاد منه أحكام: الأول: فرضية الوقوف بعرفة؛ لما ذكرنا. والثاني: استدل بقوله: "ومن أدرك جمعًا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" جماعة من الظاهرية عل فرضية الوقوف بمزدلفة، وقال الجصاص: وهو مذهب الأصم وابن عُليَّة أيضًا، وقال: إن رواية من روى: "من أدرك جمعًا قبل الصبح" وهمٌ، وكيف لا يكون وهمًا وقد نقلت الأمة عن النبي -عليه السلام- وقوفه بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدًا بالوقوف بها ليلاً؟! ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله: "من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف"، وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر أنه قال: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج. وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بعرفة. قلت: وقع مثل ما ذكره الجصاص في رواية الترمذي حيث قال: "من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج"، وفي رواية أبي داود: "من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه"، وبين الروايتين فرق؛ لأن رواية الترمذي تقتضي -ظاهرًا- أن من لم يدرك ليلة جمع قبل طلوع الفجر أنه لا يكون مدركًا للحج، ورواية أبي داود تقتضي -ظاهرًا- أن من لم يدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح أن حجه لا يكون تامًّا. قلنا: ولكنه يكون مدركًا؛ لأن عدم التمام لا يستلزم عدم الإِدراك، فيكون مدركًا، ولكن لا يكون حجه تامًّا، وليس المخلص من هذا الإِشكال إلاَّ بأحد شيئين: أحدهما: أن نقول بما قاله الجصاص.

والثاني: أن نأوله بما أوله الطحاوي، وهو الأشبه؛ لأن الحديث صحيح ليس فيه كلام من جهة الإِسناد ولا غيره، وقد أحسن الطحاوي في تأويله، ولهذا قال: وهذا أحسن ما خرج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد. والله أعلم. الثالث: فيه بيان أيام الرمي وهي أيام منى التي ترمي فيها الجمار وهي ثلاثة، ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار، وينفر، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر. واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني، فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم: "أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد. وقد روي عن الحسن أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله، فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث. وقال أصحابنا: إذا لم ينفر حترل غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث، ولا يلزمه ذلك إلاَّ أن يصبح بمنى، فحينئذٍ يلزمه في اليوم الثالث ولا يجوز له تركه. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأصل المجتمع عليه: أن للضعفة أن يتعجلوا من جمع بليل، وكذلك أمر رسول الله -عليه السلام- أغيلمة بني المطلب، وسنذكر ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. وقد رخص لسودة ترك الوقوف بها. حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت سودة امرأة ثبطة ثقيلة، فاستأذنت النبي -عليه السلام- أن تفيض من جمع قبل أن تقف، فأذن لها، ولوددت أني كنت استأذنته فأذن لي".

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فسقط عنهم الوقوف بمزدلفة للعذر، ورأينا عرفة لا بد من الوقوف بها لا يسقط ذلك لعذر، فما سقط بالعذر فهو الذي ليس من صلب الحج، وما لا بد منه فلا يسقط بعذر ولا بغيره؛ فهو الذي من صلب الحج، ألا ترى أن طواف الزيارة هو من صلب الحج وأنه لا يسقط عن الحائض بالعذر، وأن طواف الصدر ليس من صلب الحج وهو يسقط عن الحائض بالعذر -وهو الحيض- فلما كان الوقوف بمزدلفة مما يسقط بالعذر كان من شكل ما ليس بفرض، فثبت بذلك ما وصفناه، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وأما وجه الوقوف بمزدلفة من طريق النظر والقياس فهو: أن الخصوم كلهم اتفقوا على أن الضعفة لهم التعجل من مزدلفة من الليل بدون الوقوف لأجل العذر. واتفقوا أن الوقوف بعرفة لا يسقط بعذر ولا بغير عذر، فالذي يسقط بعذر لا يكون من صلب الحج، فالنظر على ذلك يقتضي أن يكون الوقوف بمزدلفة من أشكال ما ليس بفرض، فإذا كان من هذا القبيل يكون غير فرض. قوله: "للضعفة" جمع ضعيف، كالنساء والصبيان وأصحاب الأعذار. قوله: "وكذلك أمر رسول الله -عليه السلام- أغيلمة بني عبد المطلب". أراد أنه -عليه السلام- أمرهم بالتعجيل من جمع، على ما يأتي في الباب الذي بعد الباب الذي يليه. والأغيلمة تصغير أغلمة، والأغلمة جمع غلام على ما نبينه مستقصى إن شاء الله تعالى. وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن عائشة.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، نا عبد الرحمن -هو ابن القاسم- عن القاسم، عن عائشة قالت: "استأذنت سودة النبي -عليه السلام- ليلة جمع وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها". وفي رواية قالت (¬2): "نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي -عليه السلام- سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله -عليه السلام- كما استأذنت سودة رسول الله -عليه السلام- أحب إليَّ من مفروح به". وأخرجه مسلم (¬3): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: أنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة أنها قالت: "استأذنت سودة رسول الله -عليه السلام- ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت ثبطة -يقول القاسم: والثبطة: الثقيلة- قال: فأذن لها، فخرجت قبل دفعة الناس، وحُبْسَنا حتى أصبحنا ودفعنا بدفعه، ولأن أكون استأذنت رسول الله -عليه السلام- كما استأذنت سودة فأكون أدفع بإذنه أحب إليّ من مفروح به". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا. وسودة: هي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية أم المؤمنين، تزوجها رسول الله -عليه السلام- بعد موت خديجة -رضي الله عنها- وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهل بن عمرو، توفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. قوله: "ثَبطة". بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة، يعني بطيئة، قال ابن قرقول: كذا ضبطناه، وضبطه الحياني عن ابن سراج بالكسر والإِسكان. وقال عياض: حقيقة الثبطة المتأنية لثقلها وضخامتها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 603 رقم 1596). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 603 رقم 1597). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 939 رقم 1290). (¬4) "المجتبى" (5/ 266 رقم 3049).

قوله: "قبل حطمة الناس". أي زحمتهم، ومنه سمي الحطيم لانحطام الناس عليه أي ازدحامهم. قوله: "من مفروح به". أي مما يسر به المرء، ولا يقال دون "به"، ويقال: "من منُفْرح" بضم الميم وكسر الراء من قولهم: أفرحني الشيء إذا سرني، فهو مفرح. ويستفاد منه أن الوقوف بمزدلفة ليس بفرض، إذ لو كان فرضًا لما أذن -عليه السلام- لسودة أن تترك الوقوف بها. وأن ضعفة الناس يجوز لهم أن يتركوا الوقوف بها لأجل عذرهم. واحتجت الشافعية بهذا الحديث على مذهبهم في جواز الرمي بعد نصف الليل قبل الفجر. قلنا: هذا كان رخصة لأولي الأعذار في الدفع من جمع، والإِفاضة بليل، ولكن السُنَّة المبيت بها وصلاة الفجر بها غلسًا والوقوف بالمشعر الحرام حتى يسفر جدًّا، ثم الدفع قبل طلوع الشمس كما فعل النبي -عليه السلام- في حديث جابر وعدة من الأحاديث. ***

ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو؟

ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية الجمع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عُبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "خرجت مع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إلى مكة، فلما أتى جمعًا صلى الصلاتين كل واحدة منهما بأذان وإقامة، ولم يصل بينهما". ش: إسناده صحيح. وعُبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري، وإسرائيل بن يونس ابن أبي إسحاق. وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله السَّبِيعي. وأخرجه البخاري (¬1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعًا، فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بآذان وإقامة والعشاء بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، وقائل يقول: طلع الفجر. وقائل يقول: لم يطلع الفجر. ثم قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء، فلا يقدم الناس جمعًا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة، ثم وقف حتى أسفر به، ثم قال: [لو] (¬2) أن أمير المؤمنين [أفاض] (¬3) الآن أصاب السُنَّة، فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان -رضي الله عنه-؟ فلم نَزْل نلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1599). (¬2) في "الأصل، ك": "لولا"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) في "الأصل، ك": "أمر"، والمثبت من "صحيح البخاري".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود: "أنه صلى مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صلاتين مرتين بجمع كل صلاة بأذان وإقامة، والعشاء بينهما". ش: إسناده صحيح. وتكرر ذكر رجاله. وأحمد بن يونس هو: أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "كنت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأتى المزدلفة، فصلى المغرب والعشاء كل صلاة بأذان وإقامة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذين الحديثين، فزعموا أن المغرب والعشاء يجمع بينهما بمزدلفة بأذانين وإقامتين. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الرحمن بن يزيد والأسود ومالكًا، فإنهم ذهبوا إلى هذين الحديثين، وقالوا: يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذانين وإقامتين. قال عياض: وهو مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود، وقال ابن القاسم عن مالك: كل صلاة إلى الأئمة فلكل صلاة آذان وإقامة. وقال أحمد بن خالد: أعجب من مالك أخذ في هذا بحديث ابن مسعود ولم يروه، وترك ما روى. قال أبو عمر: لا أعلم مالكًا روى في ذلك حديثًا، وأعجب مما عجب منه أحمد أن أبا حنيفة لا يعدل بابن مسعود أحدًا، وخالفه وأخذ بحديث جابر، وهو حديث مدني لم يروه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 127).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وهم: سعيد بن جبير والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد؛ فإنهم قالوا: يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وهو المروي عن جابر وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري. ص: وقالوا: ما كان من فعل عمر -رضي الله عنه- ومن تأذينه للثانية، فإنما فعل ذلك لأن الناس كانوا تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم، وكذلك نقول نحن: إذا تفرق الناس عن الإِمام لعشاء أو لغيره أمر المؤذن فأذن ليجتمعوا لأذانه، فهذا معنى ما روي في هذا عن عمر -رضي الله عنه-، والذي روي عن عبد الله فهو مثل هذا أيضًا. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبو إسحاق الهمداني، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين" فقد عاد -يعني ما روي عن عبد الله في هذا- إلى معنى ما روي عن عمر أيضًا. ش: أي قال الآخرون، وأشار به إلى الجواب فيما احتج به أهل المقالة الأولى بخبري عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب، بيان ذلك أن يقال: إن ما فعله عمر -رضي الله عنه- من تأذينه الثاني للصلاة الثانية إنما كان لأجل أن الناس قد تفرقوا لأجل عشائهم فأذن إعلامًا لهم بأن يجتمعوا، ولم يفعل ذلك لكونه سنة. فنحن نقول أيضًا: إذا تفرق الناس عن الإِمام لأجل عشائهم أو لغير ذلك من الأمور الداعية إلى التفريق أنه يأمر المؤذن فيؤذن؛ إعلامًا لهم بأن يجتمعوا، وعلى هذا المعنى أيضًا ما روي عن عبد الله بن مسعود، والدليل على ذلك ما قاله عبد الرحمن بن يزيد: "إن ابن مسعود كان يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين". وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن عبد الرحمن بن يزيد.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش وأبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صليت مع عبد الله المغرب بأذان وإقامة، ثم أتينا بعشاء فتعشينا، ثم صلى بنا العشاء بأذان وإقامة". قلت: الأذان والإِقامة للعشاء ها هنا لأجل الفصل بين الصلاتين. "والعشاء" بفتح العين وبالمد هو الطعام بعينه وهو خلاف الغداء. ص: ثم نظرنا فيما روي في ذلك إذا صليتا معًا، كيف نفعل فيهما؟ فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: حدثني أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم: "أنه صلى مع سعيد بن جبير بجمع، المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإِقامة واحدة. ثم حدث أن ابن عمر صنع مثل ذلك، وحدَّث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -عليه السلام- صنع مثل ذلك في ذلك المكان". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل، قالا: "صلى بنا سعيد بن جبير بإقامة المغرب ثلاثًا، فلما سلم قام يصلي ركعتي العشاء، ثم حدث عن ابن عمر أنه صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم قال: "شهدت سعيد بن جبير أقام بجمع الصلاة -وأحسبه قال: أذن- فصلى المغرب ثلاثًا، ثم قام فصلى العشاء ركعتين بالإِقامة الأولى، وحدث أن ابن عمر صنع في هذا المكان هذا، وحدَّث أن رسول الله -عليه السلام- صنع مثل ذلك". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 263 رقم 14045).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك قال: "صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإِقامة واحدة، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما هذا؟ فقال: صليتهما مع رسول الله -عليه السلام- في هذا المكان بإقامة واحدة". حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن مالك بن الحارث، قال: "صلى عبد الله بن عمر بالمزدلفة صلاة المغرب بإقامة ليس معها أذان ثلاث ركعات ثم سلم، ثم قال: الصلاة، ثم قام فصلى العشاء ركعتين ثم سلم، فقال له خالد بن مالك الحارثي: ما هذه الصلاة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: صليت هاتين الصلاتين مع النبي -عليه السلام- في هذا المكان ليس معهما أذان". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني أربعة كلهم ثقة منهم: سعيد بن جبير وعلي الأزدي، عن ابن عمر: "أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة". فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه صلاهما ولم يؤذن بينهما ولم يُقم. ش: لما ذكر حكم الجمع بين المغرب والعشاء بجمع فيما إذا فصل بينهما بشيء؛ شرع يبين حكم الجمع بينهما فيما إذا صليتا معًا بلا فاصل بينهما. وأخرج في ذلك عن ابن عمر من تسع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة ... إلى آخره.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير: "أنه صلى المغرب بجمع والعشاء بإقامة، ثم حدث عن ابن عمر أنه صلى مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل ذلك". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن وهب بن جرير ... إلى آخره. الرابع: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري عن الثوري، عن سلمة بن كهيل ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمرو بن منصور، عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن مالك بن الحارث الهمداني الكوفي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن مالك بن الحارث. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك قال: "صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، فقال ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 937 رقم 1288). (¬2) "المجتبى" (5/ 260 رقم 3030). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 192 رقم 1929).

له مالك بن الحارث: ما هذه الصلاة؟ فقال: صليتهما مع رسول الله -عليه السلام- في هذا المكان بإقامة واحدة". السابع: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك: "أن ابن عمر صلى بجمع، فجمع بين الصلاتين بإقامة، وقال: رأيت رسول الله -عليه السلام- فعل مثل هذا في هذا المكان". الثامن: عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني أيضًا، عن عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو ابن عبد الله السبيعي، عن مالك بن الحارث ... إلى آخره. وهكذا وقع في هذا الطريق: "مالك بن الحارث"، قال البخاري في "تاريخه": لا يصح مالك بن الحارث، يشير إلى رواية زهير هذه. والصحيح ما قاله شعبة: عبد الله بن مالك بن الحارث الهمداني كما هو في الطرق الثلاثة المذكورة. التاسع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد بن جبر المكي ... إلى آخره. وعلي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، روى له الجماعة سوى البخاري. قوله: "فصلى المغرب ثلاثًا". أي ثلاث ركعات على حالها، قال القاضي: وفيه أصل السُّنَّة في تقصير الحاج بمنى وعرفة ومكة الصلاة الرباعية، مكيًّا كان أو غير ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 235 رقم 887).

مكي، إلاَّ أهل منى وأهل عرفة بعرفة وأهل مكة بمكة. هذا قول الأوزاعي ومالك، إلاَّ الإِمام فإنه يقصر وإن كان عندهم من سكان هذه المواضع. وذهب جمهور العلماء إلى أن هؤلاء يتمون، وإنما يقصر من كان في سفر مما تقصر فيه الصلاة على سُنة القصر ولا يختص الحاج بشيء من غيره. وذهب بعض السلف إلى مثل قول مالك إلاَّ أنه سوَّى الإِمام وغيره، وأنه يقصر إن كان من أهل الموضع، وهو مذهب إسحاق. قوله: "فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه صلاهما". أي المغرب والعشاء ولم يؤذن بينهما ولم يقم. وقال: ابن حزم (¬1): روايات ابن عمر مضطربة، وهي ستة أقوال: أحدها: الجمع بينهما بلا آذان ولا إقامة، صح عن ابن عمر. والثاني: يجمع بينهما بإقامة واحدة فقط، صح أيضًا عن ابن عمر، وهو قول سفيان وأحمد وأبي بكر بن داود، وصح به خبر عن رسول الله -عليه السلام-. والثالث: الجمع بينهما بإقامتين فقط، روي عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-، وصح عن سالم بن عبد الله، وهو أحد قولي سفيان وأحمد والشافعي، وصح به خبر عن رسول الله -عليه السلام-. والرابع: الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، روي عن عمر، وصح عن ابنه عبد الله، وهو قول أبي حنيفة، وصح به خبر عن رسول الله -عليه السلام-. والخامس: الجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وصح عن ابن عمر وسالم ابنه وعطاء، وهو أحد قولي الشافعي وبه نأخذ، وصح بذلك خبر عن النبي -عليه السلام-. والسادس: الجمع بينهما بأذانين وإقامتين، صح عن عمر وابن مسعود، وروي عن علي وعن محمد بن علي بن الحسن وأهل بيته، وهو قول مالك. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 128) بتصرف واختصار.

وأما الأخبار في ذلك فبعضها بإقامة واحدة من طريق ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- وبعضها بإقامتين من طريق ابن عمر وأسامة بن زيد، وبعضها بأذان واحد وإقامة واحدة من طريق ابن عمر، وبعضها بأذان واحد وإقامتين من طريق جابر. فاضطربت الروايات عن ابن عمر إلاَّ إحدى الروايات عنه وعن أسامة بن زيد وعن جابر بن عبد الله زادت على الأخرى وعلى رواية أسامة [إقامة، فوجب الأخذ بالزيادة. وإحدى الروايات عنه وعن جابر تزيد على الأخرى وعلى رواية أسامة] (¬1) أذانًا فوجب الأخذ بالزيادة؛ لأنها رواية قائمة بنفسها صحيحة فلا يجوز خلافها، فإذا جمعت رواية سالم وعلاج عن ابن عمر صح منها أذان وإقامتين كما جاء مبينًا في حديث جابر وهذا هو الذي لا يجوز خلافه، ولا حجة لمن خالف ذلك. والله أعلم. انتهى. قلت: الطحاوي -رحمه الله-: أيضًا اختار ما اختاره ابن حزم، وهو أن يكون الأذان واحدًا والإِقامة ثنتين على ما يجيء. وهو قول أحمد والشافعي في رواية أبي ثور. ص: وقد روي عن ابن عمر في هذا شيء بلفظ غير هذا اللفظ. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا لم ينادِ في واحدة منهما إلاَّ بالإِقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي، عن عبد الله ابن نافع، عن ابن أبي ذئب .. فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى" (7/ 129).

غير أنه قال: "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة منهما إلاَّ بإقامة" وهكذا حفظي، عن يونس، عن ابن وهب، غير أني وجدته في كتابي كما نصصته في الحديث الذي قبل هذا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه "أن النبي -عليه السلام- جمع بين الصلاتين بجمع لم يناد في كل واحدة منهما إلاَّ بإقامة، لم يسبح بينهما". فقوله في هذا الحديث: "ولم يناد في كل واحدة منهما إلاَّ بإقامة ولم يسبح بينهما"، فذلك محتمل أن يكون أراد بذلك الإِقامة التي أقامها لكل واحدة منهما، ويحتمل الإِقامة التي أقامها لهما، غير أن أولى الأشياء بنا أن نحمل ذلك على الإِقامة التي أقامها؛ ليتفق معنى ذلك ومعنى ما رويناه قبل ذلك عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في الجمع بين الصلاتين بجمع شيء بلفظ غير اللفظ الذي روي به في الروايات السابقة. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله ... إلى أخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "جمع رسول الله -عليه السلام- بين المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 602 رقم 1589).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه. قوله: "لم يناد". أي لم يؤذن في واحدة منهما ولكن أقام، وبه قال سفيان وأحمد في رواية، وهو أن يقيم مرة فقط ولا يؤذن أصلاً. قوله: "ولم يسبح بينهما". أي لم يتطوع بين الصلاتين بشيء. قوله: "ولا على إثر واحدة منهما". أي ولا تطوع أيضًا عقيب كل واحدة من الصلاتين، وإثر كل شيء عقيبه بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة، ويجوز فتح الهمزة والثاء معًا، ويقال: جاء على أَثَره وإثره أي متبعًا له بعده. الثاني: عن المزني، عن الإِمام الشافعي، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني روى له الجماعة -والبخاري في غير الصحيح- عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر ... إلى آخره. قوله: "وهكذا حفظي ... إلى آخره". من كلام الطحاوي. الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): ثنا عُبيد الله بن عبد المجيد، ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة لم يناد في واحدة منهما إلاَّ بالإِقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما". قوله: "فقوله في هذا الحديث ... إلى آخره". إشارة إلى وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين رواية سعيد بن جبير، عن ابن عمر المذكورة فيما سبق؛ لأن في رواية ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 260). (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 81 رقم 1884).

سعيد بن جبير يخبر بأنه صلاهما بإقامة واحدة، وفي رواية سالم تجده يخبر بأنه صلاهما بإقامتين، فبينهما خلاف، فإذا حملنا قوله: "ولم يناد في كل واحدة منهما إلاَّ بإقامة" على الإِقامة التي أقامها اتفق معنى الحديثين، وقد قلنا: إن الروايات عن ابن عمر مضطربة، فلا نحتاج إلى هذا التكلف. ص: وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- ما يوافق [ذلك] (¬1) أيضًا: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عمر بن الرومي، قال: ثنا قيس بن الربيع، قال: ثنا غيلان، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري، عن أبي أيوب الأنصاري قال: "صليت مع رسول الله -عليه السلام- المغرب والعشاء بإقامة واحدة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا أبو يوسف، عن محمد ابن عبد الرحمن، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن البراء بن عازب، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي قد روي عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، والبراء بن عازب ما يوافق ما روي عن عبد الله بن عمر في هذا الباب. أما حديث أبي أيوب فأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن عمر بن الرومي شيخ البخاري في غير الصحيح، قال أبو زرعة: فيه لين. وقال أبو داود: ضعيف. عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال النسائي: ليس بثقة. عن غيلان بن جامع المحاربي الكوفي قاضيها أحد مشايخ أبي حنيفة، وثقه ابن حبان وغيره، وروى له مسلم [و] (¬2) الأربعة غير الترمذي. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك"، و"شرح معاني الآثار": "من ذلك". (¬2) في "الأصل، ك": "ومن".

عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي روى له الجماعة. عن عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي الصحابي، وهو جد عدي المذكور لأمه. وأخرجه الطبراني (¬1): نا فضيل بن محمد الملطي، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن جابر، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- بجمع المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة". فإن قيل: كلا الإِسنادين ضعيف: أما إسناد الطحاوي ففيه قيس بن الربيع. وأما إسناد الطبراني ففيه جابر الجعفي. قلت: أخرجه أبو حنيفة في "مسنده" (¬2): ثنا أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى المغرب والعشاء بجمع بأذان وإقامة". وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) والدارمي (¬5) في سننهم، وابن أبي شيبة (¬6) في "مصنفه". وأما حديث البراء بن عازب فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري في كتاب الصلاة، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي صاحب أبي حنيفة، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه المشهور فيه لين، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري الصحابي، عن البراء بن عازب مثل الحديث المذكور. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 123 ر قم 3870). (¬2) "مسند أبي حنيفة" (1/ 158). (¬3) "المجتبى" (1/ 291 رقم 605). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1005 رقم 3020). (¬5) "سنن الدارمي" (1/ 427 رقم 1516). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 264 رقم 14051).

فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي في احتجاج أهل المقالة الثانية وهم: أبو حنيفة وأصحابه أحاديث عبد الله بن عمر بعدة طرق، وأبي أيوب الأنصاري والبراء بن عازب. وذكر الطبري في تهذيب الآثار أنه -عليه السلام- صلاها بإِقامة واحدة من حديث ابن مسعود وابن عمر وأُبي بن كعب وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد -رضي الله عنهم-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بلى، يصلي الأولى منهما بأذان وإقامة، والثانية بإِقامة بلا أذان. ش: أي: خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري -في قول- والشافعي، وأحمد -في رواية- وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: يجمع بين الصلاتين بأذان واحد وإقامتين، وهو اختيار الطحاوي أيضًا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان وإقامة". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان وإقامة، وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر، وقد أجمعوا أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك حكم الأول من الصلاتين اللتين تجمعان بجمع. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى عبد الله بن عباس، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: "دفع رسول الله -عليه السلام- من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب حتى جاء المزدلفة، فنزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئًا".

فقد اختلف عن النبي -عليه السلام- في الصلاتين بمزدلفة: هل صلاهما معًا أو عمل بينهما عملاً؟ فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر وأسامة. واختلف عنه: كيف صلاهما؟ فقال بعضهم: بأذان وإقامة، وقال بعضهم: بأذان وإقامتين، وقال بعضهم: بإقامة واحدة ليس معهما أذان. فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا، وكانت الصلاتان يجمع بينهما بمزدلفة وهما المغرب والعشاء، كما يجمع بين الصلاتين بعرفه وهما الظهر والعصر، فكان هذا الجمع في هذين الموطنين جميعًا لا يكون إلَّا لمحرم في حرمة الحج، فلا يكون لحلال، ولا لمعتمر غير حاج، وكانت الصلاتان بعرفة تصلى إحداهما في إثر صاحبتها، ولا يعمل بينهما عمل، وكانتا يؤذن لهما أذان واحد وتقام لهما إقامتان، كان النظر على ذلك أن تكون الصلاتان بمزدلفة كذلك، وأن تكون إحداهما تصلي في إثر صاحبتها ولا يعمل بينهما عمل، وأن يؤذن لهما أذان واحد ويقام لهما إقامتان كما يفعل بعرفة سواء، هذا هو النظر في هذا الباب. ش: أي: واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن الصلاتين يجمع بينهما بمزدلفة بأذانين وإقامتين بحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح، وقد تكرر ذكره في كتاب الحج. وجعفر بن محمد هو جعفر الصادق، وأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- المعروف بابن الحنفية (¬1). وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة ولم سبح بينهما". ¬

_ (¬1) قلت: بل هذا هو المعروف بالباقر، وأما ابن الحنفية فهو محمد بن علي بن أبي طالب. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 264 رقم 14050).

قوله: "وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر". لأن في حديثه يخبر أن رسول الله -عليه السلام- صلى المغرب بالمزدلفة بإقامة ليس معها أذان، فبين الروايتين مخالفة. "وقد أجمعوا" أي: أهل المقالات المذكورة. "أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة" أراد بها الظهر، يؤذن لها ويقام، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كذلك حكم المغرب في مزدلفة. ثم ذكر حديث أسامة الذي بينه وبين حديث ابن عمر خلاف أيضًا؛ لكونه شاهدًا لما يذكره من وجه النظر، وتأييدًا لما يختاره من الأقوال. وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه الجماعة غير الترمذي. فقال البخاري (¬1): ثنا قتيبة، ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن حرملة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أنه قال: "ردفت رسول الله -عليه السلام- من عرفات، فلما بلغ رسول الله -عليه السلام- الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ، فبال، ثم جاء فصببت عليه الوَضوء، فتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب رسول الله -عليه السلام- حتى أتى المزدلفة فصلى، ثم ردف الفضل رسول الله غداة جمع، قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس، عن الفضل أن رسول الله -عليه السلام- لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة". وفي لفظ: "ثم أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء". وقال مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 600 رقم 1586). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 934 رقم 1280).

وقال أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير. وثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان -وهذا لفظ حديث زهير- قال: ثنا إبراهيم بن عقبة، قال: حدثني كريب: "أنه سأل أسامة بن زيد، قلت: أخبرني كيف فعلتم -أو صنعتم- عشية ردفت رسول الله -عليه السلام-؟ قال: جئنا الشِّعب الذي ينيخ فيه الناس للمعرس، فأناخ رسول الله -عليه السلام- ناقته، ثم هراق ماءً -قال زهير: أهراق الماء- ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ جدًّا، فقلت: يا رسول الله، الصلاة، قال: الصلاة أمامك، قال: فركب حتى قدمنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلى -زاد ابن يونس في حديثه: ثم حل الناس- قال: قلت: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس فانطلقت أنا في سُبَّاق قريش على رجلي". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) مختصرًا. قوله: "حتى إذا كان بالشعب" بكسر الشين المعجمة وسكون العين، وهو الطريق في الجبل، ويقال: هو ما انفرج بين الجبلين. ونزوله -عليه السلام- بالشعب كان نزول حاجة وليس هو من سنن الحج. قوله: "فبال" ولم يقل فأهراق الماء؛ إشعارًا بإِيراده للحديث كما سمعه بلفظ محدثه إياه، وأنه لم يورد بمعناه. قوله: "فلم يسبغ الوضوء" وفي حديث آخر: "فتوضأ وضوءًا خفيفًا" وفي حديث آخر: "ليس بالبالغ"، وجاء بعد هذا "فأسبغ الوضوء"، قال القاضي: يوهم لفظه: "لم يسبغ" أن الأول لم يكن وضوء الصلاة، وكذلك تأوله بعضهم، وقيل: بل وضأ بعض أعضاء وضوئه، وليس كذلك، بل كان وضوءه الأول ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 190 رقم 1921). (¬2) "المجتبى" (5/ 260 رقم 3031). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1005 رقم 3019).

للصلاة ثم توضأ آخر بالمزدلفة لعذر طرأ عليه، وليس يقال في الاستنجاء: وضوءًا خفيفًا، ولا: ليس [بالبالغ] (¬1) ومعني لم يسبغ: لم يكرره، وقد يكون وضوءه بالمزدلفة لتمام الفضيلة بتكراره وتمام عدده ثلاثًا، والله أعلم. ويدل على أن وضوءه للصلاة قوله: "ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإِداوة فتوضأ" وخففه ليكون على طهارة، أو لاستعجاله، فلما أتى مزدلفة أتم فضيلته بالتكرار، أو ابتدأ فرضه لحدث اعتراه، ولا وجه لقول من قال: إنه توضأ وضوءين ليخص كل صلاة من الصلاتين التي تجمع بالمزدلفة بوضوء على عادته من الوضوء لكل صلاة؛ إذ تكرر الوضوء قبل أداء فريضة به ممنوع، ومن السرف المنهي عنه، إنما الفضيلة في تكراره بعد صلاة فرض به. وقال أبو عمر (¬2): وأما قوله "نزل فبال فلم يسبغ الوضوء" فوجهه عندي -والله أعلم- أنه استنجى بالماء واغتسل به من بوله، وذلك يسمى وضوءًا في كلام العرب؛ لأنه من الوضاءة التي هي النظافة. ومعنى قوله: "لم يسبغ الوضوء" أي: لم يكمل وضوءًا للصلاة ولم يتوضأ للصلاة. والإِسباغ الإِكمال، فكأنه قال: لم يتوضأ بوضوء الصلاة ولكنه توضأ من البول، هذا وجه الحديث عندي، وهو الصحيح. وقيل: أنه توضأ وضوءًا خفيفًا ليس بالبالغ، وضوءًا بين الوضوءين، وهذا ظاهره غير الاستنجاء. وقيل: إنه توضأ على بعض أعضاء الوضوء ولم يكمل الوضوء للصلاة، وعل ما روي عن ابن عمر: "أنه كان إذا أجنب ليلاً وأراد النوم غسل وجهه ويديه إلى المرفقين وربما مسح برأسه ونام" وهذا وجه ضعيف لا معنى له، ولا يجوز أن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "للبالغ". (¬2) "التمهيد" (13/ 158).

يضاف مثله إلى رسول الله -عليه السلام-، ولعل الذي حكى عن ابن عمر لم يضبط، والوضوء على الجنب عند النوم غير واجب وإنما هو ندب؛ لأنه لا يرفع به حدثه، وفعله سُنَّة وخير، وليس من دفع من عرفة يجد من الفراغ ما يتوضأ به وضوءًا يشتغل به عن النهوض إلى مزدلفة، والنهوض إليها من أفضل أعمال البر فكيف يشتغل عنها بما لا معنى له؟! ألا ترى أنه لما جاءت تلك الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها، أي توضأ لها كما يجب، فالوضوء عندي الاستنجاء بالماء لا غير؛ لأنه لم يحفظ عنه قط أنه توضأ لصلاة واحدة مرتين، وإن كان توضأ لكل صلاة. قوله: "فقلت له: الصلاة" بالنصب على الإِغراء؛ ويجوز الرفع على تقدير جانب الصلاة. قوله: "الصلاة أمامك" مرفوع بالابتداء، وقيل: معناه: المصلى الذي تصلي فيه المغرب والعشاء أمامك. ثم اختلف العلماء فيمن صلى تلك الليلة الصلاة في وقتها هل يعيد إذا أتى المزدلفة أم لا؟ فقيل: يعيد؛ لهذا الحديث، وقيل: لا يعيد؛ لأن الجمع سُنَّة. وقال أبو عمر: فيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يصليها إلاَّ هناك، وذلك توقيف منه -عليه السلام- فإن كان له عذر فعسى الله أن يعذره، وأما من لا عذر له فواجب أن لا تجزئه صلاته قبل ذلك الموضع، على ظاهر هذا الحديث. وروي عن عطاء وعروة وسالم والقاسم وسعيد بن جبير: "لا ينبغي لأحد أن يصليهما قبل جمع، فإن فعل أجزأه". وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق. انتهى. قلت: إذا صلى المغرب في الطريق بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر لم تجزئه صلاته، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن. وقال أبو يوسف: تجزئه وقد أساء.

وعلى هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها. قوله: "فقد اختلف عن النبي -عليه السلام- في الصلاتين بمزدلفة هل صلاهما معًا؟ " يعني من غير فصل بينهما بنفل وغيره. "أو عمل بينهما عملاً، فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر" والذي ذكره في حديث ابن عمر أنه لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما، وقد ذكر عن قريب، فهذا يدل على أنه لم يفصل بينهما بشيء، وفي حديث أسامة المذكور ما يدل على أنه فصل بينهما بعمل، وهذا كما ترى اختلاف، وكذلك اختلف عنه في كيفية صلاته -عليه السلام- إياهما هل كانتا بأذان واحد وإقامة واحدة، أو بأذان وإقامتين، أو بإقامة واحدة بدون أذان، وقد ذكرنا فيه ستة أقوال على ما ذكره ابن حزم. قوله: "فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا" أي فلما اختلفت الرواة في هذا الباب على ما ذكرنا من الأقوال، وأراد بهذا الكلام بيان وجه النظر والقياس، ملخصه: أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بلا فصل بينهما، بأذان واحد وإقامتين، فكذلك ينبغي أن يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بلا فصل بينهما بأذان وإقامتين قياسًا عليه، والجامع كون كل واحدة منهما فرضًا في حق محرم بحج في مكان مخصوص؛ لتدارك الوقوف بعرفة والنهوض إلى مزدلفة بعد الدفع عنها. ص: وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- وذلك أنهم يذهبون في الجمع بين الصلاتين بعرفة إلى ما ذكرنا، وقد يذهبون في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة إلى أن يجعلوا ذلك بأذان وإقامة واحدة، ويحتجون في ذلك بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وكان سفيان الثوري يذهب في ذلك إلى أن يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، على ما روينا عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- والذي رويناه عن جابر من هذا أحب إلينا؛ لما يشهد له من النظر. ش: أي: وجه النظر الذي ذكرناه وهو القياس الذي يقتضي أن يكون الجمع بمزدلفة أيضًا بأذان وإقامتين خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف

ومحمد -رحمهم الله- لأنهم ذهبوا إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، ويستدلون على ذلك بما روي عن عبد الله بن عمر، وهو ما رواه عنه سعيد بن جبير، عنه قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة". قوله: "وكان سفيان الثوري يذهب في ذلك إلى أنه يصليهما" أي المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة لا أذان معها، واستدل في ذلك بما رواه سالم، عن ابن عمر "أن رسول الله -عليه السلام- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعًا لم يناد في واحدة منهما إلا بالإِقامة" (¬1) وقد مرَّ ذكره فيما مضى، وبه قال أحمد في رواية. قوله: "والذي رويناه عن جابر من هذا أحب إلينا" أشار بهذا إلى أنه اختار قول أهل المقالة الثالثة وهو قول الشافعي وأحمد في رواية كما ذكرنا، وإنما اختار هذا القول لأن النقل الصحيح يشهد له على ما قرره آنفًا. ص: ثم وجدنا بعد ذلك حديث ابن عمر قد عاد إلى معنى حديث جابر، وذلك أن هارون بن كامل وفهدًا حدثانا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر قال: "جمع رسول الله -عليه السلام- بين المغرب والعشاء بجمع وهي بالمزدلفة، صلى المغرب ثلاثًا ثم سلم، ثم أقام العشاء فصلاها ركعتين ثم سلم، ليس بينهما سُبحة". فهذا يخبر أنه صلاها بإقامتين. ش: ذكر هذا تأييدًا لما اختاره من رواية جابر، وذلك قد روى حديث عن ابن عمر أيضًا يرجع معناه إلى معنى حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الثالثة. وأخرجه بإسناد صحيح عن هارون بن كامل بن يزيد الفهري، وفهد بن سليمان الكوفي، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي (2/ 81 رقم 1484).

سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، روى له البخاري والترمذي والنسائي، واستشهد به مسلم. عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. وبنحوه أخرج عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبي، قال: قرأت على [حماد] (¬2) بن خالد [الخياط] (¬3) نا ابن أبي ذئب، عن الزهري عن سالم، عن أبيه: "أنه صلى مع رسول الله -عليه السلام- بالمزدلفة المغرب والعشاء بإقامة إقامة، جمع بينهما". ص: وقد وجدنا عن ابن عمر نفسه مما لم يرفعه إلى النبي -عليه السلام-: "أنه أذن لهما". حدثنا يوسف بن يزيد، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: "أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان وإقامة ولم يجعل بينهما شيئًا". فكان محالًا أن يكون أدخل في ذلك أذانًا إلاَّ وقد علمه من رسول الله -عليه السلام-. ش: أشار به إلى الجواب عما احتج به سفيان لما ذهب إليه من أن الجمع بين المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة بلا أذان بما روي عن ابن عمر فيما سبق. وأخرجه بإسناد صحيح موقوف على ابن عمر، عن يوسف بن يزيد بن كامل القراطيسي المصري شيخ النسائي أيضًا والطبراني، قال ابن يونس: ثقة صدوق. عن حجاج بن إبراهيم الأزرق، وثقه أبو حاتم والعجلي وابن حبان، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري روى له الجماعة، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "زوائد مسند أحمد" (2/ 157 رقم 6473). (¬2) في "الأصل، ك": "أبي حامد"، وهو تحريف، والمثبت من "زوائد مسند أحمد" (¬3) في "الأصل، ك": "الخياطم"، وهو تحريف أيضًا، وحماد بن خالد الخياط مشهور من رجال مسلم والأربعة، انظر "تهذيب الكمال"

قوله: "فكان محالاً ... إلى آخره" أراد به أن هذا أمر توقيفي، و [لو] (¬1) لم يكن لابن عمر علم في ذلك عن النبي -عليه السلام- لما أدخل في ذلك أذانًا برأيه. وقوله: "محالًا" نصب على أنه خبر كان واسمه قوله: أن يكون، فافهم. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة ش: أي هذا باب في بيان وقت رمي جمرة العقبة لمن لم يقف بمزدلفة من أصحاب الأعذار والضعفاء كالنسوان والصبيان، ويسبق الناس إلى الرمي. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "كنت فيمن بعث به النبي -عليه السلام- يوم النحر، فرمينا الجمرة مع الفجر". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا خلاد بن يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصفيراء، عن عطاء، قال: أخبرني ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- قال للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى، وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس، قال: فكان عطاء يفعله بعدما كبُر وضعف". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن شعبة بن دينار المدني مولى ابن عباس فيه مقال، فعن مالك: ليس بثقة. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد: لا يحتج به. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا حسين، أنا ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس "أن النبي -عليه السلام- بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس نحوه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 320 رقم 2938).

وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1): عن هاشم، عن ابن أبي ذئب نحوه. الثالث: عن علي بن معبد بن نوح، عن خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي الكوفي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء المكي فيه مقال، فعن أبي حاتم: ليس بقوي في الحديث. وليس حدّه الترك، وفي "الميزان": وهاه ابن مهدي. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن للضعفة أن يرموا جمرة العقبة بعد طلوع الفجر، واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهدًا والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير والشافعي؛ فإنهم قالوا: يجوز رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر للذين يتقدمون الناس. وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ويتعلق بأن أم سلمة قدمت قبل الفجر وكان -عليه السلام- أمرها أن تفيض وتوافيه الصبح بمكة، وظاهر هذا عنده تعجيل الرمي قبل الفجر. ومذهب مالك: أن الرمي يحل بطلوع الفجر. ومذهب الثوري والنخعي أنها لا ترمى إلاَّ بعد طلوع الشمس. وقال الكاساني: قال الشافعي: إذا انتصفت ليلة النحر دخل وقت الجواز، كما قال في الوقوف بعرفة ومزدلفة، وإذا طلعت الشمس وجب. وقال الثوري: لا يجوز قبل طلوع الشمس. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ينبغي لهم أن يرموها حتى تطلع الشمس، فإن رموها قبل ذلك أجزأتهم وأساءوا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 320 رقم 2937).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا ينبغي أن ترمي جمرة العقبة إلاَّ بعد طلوع الشمس فإن رموها قبل طلوع الشمس أجزأتهم، وقد أساءوا، وعند الثوري والنخعي: لا يجزئهم قبل طلوع الشمس ويعيدون هذه، وقال الكاساني: أول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس، وآخر وقته آخر النهار، كذا قال أبو حنيفة: إن وقت الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو يوسف: يمتد إلى وقت الزوال، فإذا زالت الشمس يفوت الوقت ويكون فيما بعده قضاء، فإن لم يرم حتى غابت الشمس يرمي قبل الفجر من اليوم الثاني ولا شيء عليه في قول أصحابنا. وللشافعي قولان: في قول: إذا غربت الشمس فقد فات الوقت وعليه الفدية. وفي قول: لا يفوت إلاَّ في آخر أيام التشريق، فإن أخر الرمي حتى طلع الفجر من اليوم الثاني رمى وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا شيء عليه، وبه قال الشافعي. وقال مالك في "الموطأ" (¬1): سمعت بعض أهل العلم يكره رمي الجمرة حتى يطلع الفجر من يوم النحر، ومن رمى فقد حلَّ له النحر. ص: وقالوا: لم يذكر ابن عباس في حديث شعبة مولاه أنهم رموا الجمرة عند طلوع الفجر بأمر النبي -عليه السلام- أيَّاهم بذلك، وقد يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك بالتوهم منهم أنه وقت الرمي لها، ووقته في الحقيقة غير ذلك، وأما ما رواه عطاء عنه فإنه لم يذكر وقت رمي جمرة العقبة هل هو بعد طلوع الشمس أو قبل ذلك؟ ش: أي قال هؤلاء الآخرون في الجواب عن الحديثين المذكورين، وهما ما رواه شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، وما رواه عطاء بن أبي رباح، عن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 391 رقم 876).

ابن عباس، وهذا لجواب بطريق التنزيل والتسليم، وإلَّا لو قيل: إن هذين الحديثين ضعيفان فلا يحتاج إلى هذا الجواب، فافهم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم: "أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام والمزدلفة بليل فيذكرون الله -عز وجل- ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإِمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "رخص لأولئك رسول الله -عليه السلام-". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. فيونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا. ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وأخرجه البخاري (¬1): نا يحيى بن بكير، نا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: سالم: "كان عبد الله بن عمر يقدم ضعفة أهله ... إلى آخره". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب، عن يونس ... إلى آخره نحوه. قوله: "ضعفة أهله". هو جمع ضعيف، وأراد بهم النساء والصبيان. قوله: "والمزدلفة". بواو العطف في رواية الطحاوي، وفي روايتي البخاري ومسلم: "بالمزدلفة" بالباء الظرفية. فعلى الأول "الواو" تفسيرية، فيكون المشعر الحرام والمزدلفة شيئًا واحدًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 602 رقم 1592). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 941 رقم 1295).

وعلى الثاني يكون المشعر الحرام اسمًا لموضع الوقوف في المزدلفة، فافهم. قوله: "ما بدا لهم" أي ما ظهر لهم، وأراد به: ما تيسر لهم. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأخرى أنه لم يذكر في هذا الحديث عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- رخص لهم في رمي جمرة العقبة حينئدٍ، وقد يجوز أن تكون تلك الرخصة التي كان رخصها لهم هي الدفع عن مزدلفة بليل خاصة. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد به الجواب عن الحديث المذكور، وهو ظاهر. ص: واحتجوا أيضًا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أنها قالت: "أي بني، هل غاب القمر ليلة الجمع؟ قال: قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: أي بني هل غاب القمر -وقد غاب-؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا إذا، فارتحلنا، ثم مضينا بها حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: أي هنتاه، لقد غَلَّسْنَا، قالت: كلّا يا بني، إن النبي -عليه السلام- أذن للظعن". فقد يحتمل أن يكون أراد بالتغليس في الدفع من مزدلفة، ويجوز أن يكون أراد بالتغليس في الرمي، فأخبرته أن نبي الله -عليه السلام- أذن لهم في التغليس لمَّا سألها عن التغليس به من ذلك. ش: أي واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أسماء -رضي الله عنها-، وإسناده صحيح. وسعيد بن سالم القداح أبو عثمان الخراساني، قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: محله الصدق. روى له أبو داود. وابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي.

وأخرجه البخاري (¬1): نا مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء: "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: لا ... إلى آخره نحوه". وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى القطان، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. قوله: "أي بني". يعني يا بني. قوله: "أي هنتاه". أصله من الهن، يكنى به عن الشيء، والأنثى هَنة، فإذا وصلتها بالهاء قلت: يا هَنتاه، ومن العرب من يقول: يا هَنتوه، وللرجل: يا هناه، ولا يستعمل كذا إلاَّ في النداء، ومعنى يا هَنْتَاه: يا هذه، وقال صاحب "العين": إذا أدخلوا التاء في هن فتحوا النون فقالوا: يا هَنَة، وإن زادوا التاء سكنوا النون فقالوا: يا هَنْتَاه ويا هَنْتَوه. وقال أبو حاتم: يقال للمرأة: يا هنة أقبلي استخفافًا، فإذا ألحقت الزوائد قلت: يا هنتاه للمرأة ويا هناه للرجل. وقال السفاقسي: ضبط بإسكان النون وبفتحها مثل قوله: يا هذه، من غير أن يراد به مدح ولا ذم. وقال ابن الأثير: بضم الهاء الأخيرة وتسكن، وفي التثنية هَنْتان، وفي الجمع: هنات، وفي المذكر هَنٌ وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول: يا هَنَّة، وأن تشبع الحركة فتصير ألفًا فتقول: يا هَنَاه، ولك ضم الهاء فتقول: يا هَنَاهُ أقبل، وقال أبو نصر: هذه اللفظة مختصة بالنداء، وقيل: معنى يا هَنْتَاَهُ: يا بلهاء كأنها نسبة إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم. وقال أبو زيد: تلغى الهاء في المدح فيقال: يا هنا، هلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 603 رقم 1595). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 940 رقم 1291).

قوله: "لقد غَلَسْنَا". بتخفيف اللام وأراد به: رمينا بالغلس، والغلس آخر الليل حين يشتد سواده. قاله أبو زيد، ومنه غَلَّسْنَا أي فعلنا ذلك وأتيناه في ذلك الوقت. قوله: "أذن للظُّعُن". بضم الظاء والعين وبإسكانها: جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، سميت به على حد تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تظعن مع زوجها، ولا تسمى ظعينة إلاَّ وهي في هودج، وعن ابن السكيت: كل امرأة ظعينة، كانت في هودج أو غيره. وقال ابن سيده: الجمع ظعائن وظُعُن وأَظْعَان وظَعُنَات الأخيرتان جمع الجمع، وفي "الجامع" قالوا: الظعن والأظعان: الهوادج كانت فيها نساء أو لم تكن، ولا يقال: ظُعُن إلاَّ للإِبل التي عليها الهوادج. وقيل: الظعن الجماعة من النساء والرجال، وفي "المحكم": الظُعُن جمع ظاعن، والظَّعَن اسم للجمع، والظعون من الإِبل الذي تركبه المرأة خاصة. وتقول: ظَعَنَ يَظْعن ظَعِينًا وظُعونًا ذهب، وأظعنه هو، والظعينة: الجمل يظعن عليه، والظعينة المرأة في الهودج. قوله: "فقد يحتمل ... إلى آخره" جواب عن احتجاجهم بالحديث المذكور، وهو ظاهر. ص: فكان من الحجة للذين ذهبوا إلى أن وقت رميهم بعد طلوع الشمس ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، قال: ثنا موسى بن عقبة، قال: ثنا كريب، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسوادٍ، ولا يرموا الجمرة إلاَّ مصبحين". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أمرهم بالإِفاضة مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا حتى يصبحوا، فدل ذلك على أن الوقت الذي أمرهم بالرمي فيه ليس أول طلوع الفجر، ولكن أوله الإِصباح الذي بعد ذلك.

حدثنا محمد بن خزيمة، ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- بعثه في الثقل، وقال: لا ترموا الجمار حتى تصبحوا". ش: من جملة ما احتجت به أهل المقالة الثانية حديث ابن عباس هذا. وأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدَّمي -بفتح الدال- البصري شيخ البخاري ومسلم. والكل رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن كريب ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حجاج بن أرطاة النخعي متكلم فيه، ولكن احتجت به الأربعة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بَجَرَة -بالباء والجيم والراء المفتوحات- مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى عبد الله بن عباس؛ للزومه له، روى له الجماعة سوى مسلم. وأخرجه الطبراني (¬2): من حديث الحجاج بن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس ولفظه: "لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". قوله: "وثقله" بفتح الثاء المثلثة والقاف، وهو متاع المسافر. قوله: "أن يفيضوا" أي بأن يفيضوا، أي بالإِفاضة؛ لأن "أن" مصدرية. قوله: "مصبحين" حال من الضمير الذي في: "ولا ترموا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 132 رقم 9350). (¬2) "المعجم الكبير" (11/ 387 رقم 12078).

قوله: "فدل ذلك" أي أمر النبي -عليه السلام- إياهم بأن لا يرموا إلاَّ مصبحين على أن الوقت الذي أمرهم برمي الجمرة فيه ليس أول طلوع الفجر، ولكن أوله الإِصباح الذي يكون بعد ذلك. ص: فاحتمل أن يكون ذلك الإِصباح هو طلوع الشمس، واحتمل أن يكون قبل ذلك، فنظرنا في ذلك فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام- لبني هاشم: "يا بني أخي، تعجلوا قبل زحام الناس، ولا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "قدَّم رسول الله -عليه السلام- ضعفة أهله ليلة الجمع قال: فأتى رسول الله -عليه السلام- إنسانًا منهم، فحرك فخذه وقال: لا ترمين جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". حدثنا محمد بن عمرو بن يونس قال: ثنا يحيى بن عيسى (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير (ح). وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قالوا: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: "قدمنا رسول الله -عليه السلام- أغيلمة بني عبد المطلب من جمع بليل، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، غير أنه قال: "وكان يأخذ بعضد كل إنسان منا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرني، عن ابن عباس قال: "أفضنا من جمع، فلما أن صرنا بمنى قال رسول الله -عليه السلام-: لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".

فبين رسول الله -عليه السلام- لهم في هذا الحديث وقت الإِصباح الذي أمرهم بالرمي فيه في الحديث الذي في الفصل الذي قبل هذا، وأنه بعد طلوع الشمس. ش: لما دل حديث كريب عن ابن عباس أن وقت الرمي ليس أول طلوع الفجر ولكن أوله الإِصباح الذي بعده؛ شرع يبين المراد من الإِصباح ما هو؟ فإنه يحتمل أن يكون طلوع الشمس، ويحتمل أن يكون قبل طلوعها، ولكن وجدت روايات عن ابن عباس أيضًا تدل صريحًا على أن المراد من ذلك الإِصباح هو طلوع الشمس، وهو ما رواه عن النبي -عليه السلام-: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" فدل ذلك على أن معنى قوله -عليه السلام- في حديث كريب: "حتى تصبحوا" أي حتى تطلع الشمس عليكم؛ وذلك لأن الإِصباح هو الدخول في الصباح، والصباح في اللغة نقيض المساء، وهو وإن كان يتناول ما قبل طلوع الشمس من حين طلوع الفجر ولكن الحديث بيَّن أن المراد منه طلوع الشمس. ثم إنه أخرج تلك الروايات عن ابن عباس من سبع طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، قيل: اسمه محمد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل: شعبة، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة -مسلم في مقدمة كتابه- عن سليمان الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "قال رسول الله -عليه السلام- ليلة المزدلفة: يا بني أخي -لبني هاشم- تعجلوا قبل زحام الناس، ولا يرمين أحد منكم العقبة حتى تطلع الشمس". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 371 رقم 3513).

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني بي محمد المروذي، وثقه يحيى وروى عنه، وروى له أبو داود والنسائي. عن المسعودي، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، وثقه ابن نمير وابن سعد، وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له الأربعة، واستشهد به البخاري. وأخرجه الترمذي (¬1): عن أبي كريب، عن المسعودي ... إلى آخره نحوه، وقال: حديث حسن صحيح. الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي السنوسي، عن يحيى بن عيسى ابن عبد الرحمن النهشلي الكوفي الجزار، روى له الجماعة سوى النسائي، لكن البخاري في الأدب، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن الحسن بن عبد الله العرني البجلي الكوفي، روى له الجماعة سوى الترمذي، لكن البخاري مقرونًا بغيره، وقال المنذري: الحسن العرني ثقة، احتج به مسلم غير أن حديثه عن ابن عباس منقطع. وقال الإِمام أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئًا. وقال يحيى بن معين: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء، ثنا سفيان، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "بعثنا رسول الله -عليه السلام- أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، يلطح أفخاذنا ويقول: أبينيَّ، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 240 رقم 893). (¬2) "المجتبى" (5/ 270 رقم 3064).

وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، قال: حدثني سملة ابن كهيل، عن الحسن العُرني، عن ابن عباس قال: "قدَّمنا رسول الله -عليه السلام- ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، وجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: أبَنيّ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". الخامس: عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، نا مسعر وسفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "قدمنا رسول الله -عليه السلام- أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبنيّ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". زاد سفيان فيه: "ولا إخال أحدًا يرميها حتى تطلع الشمس". السادس: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن محمد بن عمران بن أبي ليلى، وهو محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، عن أبيه عمران بن محمد، عن جده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي قاضيها فيه مقال، روى له الأربعة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة، عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثني أبي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "بعثني النبي -عليه السلام- من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهل بيته، وأخذ بعضد كل إنسان منا فقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 194 رقم 1940). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1007 رقم 3025). (¬3) "المعجم الكبير" (11/ 385 رقم 12073).

السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل ... إلى آخرة". قوله: "أغيلمةً". بالنصب على أنه بدل من الضمير المنصوب في قوله: "قدمنا" وقد عرف أن المظهر يبدل من المضمر الغائب دون المتكلم والمخاطب، وهو من أقسام بدل الكل من الكل، وقد عرف أيضًا أن المبدل هو الذي يعتمد بالحديث، وإنما يذكر الأول لنحو من التوطئة، ولمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإِفراد. "والأغيلمة" تصغير أغلمة جمع غلام في القياس، ولم يرد في جمعه أغلمة وإنما قالوا: غلمة، ومثله: أصيبية تصغير صِبْيَة. وأراد بالأغيلمة: الصبيان، ولذلك صغرهم، قال الجوهري: الغلام معروف، وتصغيره غليم، والجمع غلمة وغلمان، واستغنوا بالغلمة عن الأغلمة، وتصغير الغلمة أغيلمة على غير مكبره، كأنهم صغروا أغلمة وإن كانوا لم يقولوه، وبعضهم يقول: غليمة على القياس. قوله: "من جمع". أي من مزدلفة. قوله: "بليل". أي في ليل. قوله: "فجعل يلطح" بالطاء والحاء المهملتين، قال أبو داود: اللطح: الضرب بالكف، وقال الجوهري: اللطح مثل الحَطْأ وهو الضرب اللين على الظهر ببطن الكف، وقد لطحه، ويقال أيضًا: لطح به إذا ضرب به الأرض. قوله: "أي بني" يعني: يا بني، وأصله يا بنون، فلما أضيف إلى "ياء" المتكلم سقطت النون، فصار يا بنوي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار يا بَنيُّ بضم النون، ثم أبدلت من الضمة كسرة لأجل الياء فصار يا بَني بفتح الياء وكسر النون، ثم دخلت عليه ها هنا حرف النداء وهو الهمزة فقيل: أبَنيَّ يعني: يا بَنيّ، وفي رواية

النسائي وابن ماجه: "أُبَيْنِيَّ" بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وكسر النون وتشديد الياء، قال الأزهري: تصغير بنين، قلت: تحقيقه أنه لما صُغِّرَ عادت الهمزة، فصار: أبنيون، ولما أضيف إلى ياء المتكلم صار: أبينوي؛ لأن النون سقطت للإِضافة، ففعل به ما ذكرنا الآن فصار: أبيني، والتقدير: يا أبيني حذف حرف النداء للعلم به، وقال الجوهري: الابن أصله بَنَوٌ والذاهب منه "واو" كما ذهب من أب وأخ، والتصغير بني وتصغير أبناء أبيناء وإن شئت أبينون على غير مكبره، قال الشاعر: مَنْ يَكُ لا ساءَ فقد ساءني ... تَركُ أُبَيْنِيكَ إلى غَيرِ راعِ كأن واحده ابن، مقطوع الألف، فصغره فقال: أبينون قوله: "على حُمُرات" بضم الحاء المهملة والميم جمع صحة لحمر الذي هو جمع حمار. ص: فهذا الحديث هو أولى من حديث شعبة مولى ابن عباس، لأن هذا قد تواتر عن ابن عباس بأمر رسول الله -عليه السلام- إياهم على ما ذكرنا. ش: هذا جواب عما يقال: إن حديثي ابن عباس متعارضان ظاهرًا، فلا يتم الاستدلال بهما، فقال: هذا الحديث أولى؛ لأنه صحيح الإِسناد ورواته ثقات، وكثرت طرقه وهو معنى قوله: "تواتر عن ابن عباس بأمر رسول الله -عليه السلام- إياهم" بخلاف حديث شعبة مولى ابن عباس المذكور في أول الباب، فإنه ضعيف على ما ذكرنا، وليس فيه أمرٌ من النبي -عليه السلام- بذلك في طريقيه على ما مرَّ. ص: ولأن الإِفاضة من مزدلفة إنما رخص للضعفاء فيها ليلاً، لئلا تصيبهم حطمة الناس في وقت إفاضتهم، فإذا صاروا إلى منى أمكنهم من رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس قبل مجيء الناس ما يمكن غير الضعفاء إذا جاءوا؛ لأن غير الضعفاء إنما يأتونهم في وقت ما يفيضون وذلك قبل طلوع الشمس، هكذا أمرهم رسول الله -عليه السلام-.

ش: هذا دليل عقلي في ترجيح الحديث المذكور على الحديث الأول وهو ظاهر. "والحَطْمة" بفتح الحاء وسكون الطاء: الدفعة، ومنه حطمة السيل وهي دفعته. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق (ح). وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: "كنا وقوفًا مع عمر -رضي الله عنه- بجمع، فقال: إن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِق ثبير، وإن رسول الله -عليه السلام- خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قالا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: "كنا وقوفًا مع عمر -رضي الله عنه- بجمع فقال: إن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرِق ثبير كيما نُغِير، وإن رسول الله -عليه السلام- خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس بقدر صلاة المسافر صلاة الصبح". فلما كان غير الضعفاء إنما يفيضون من مزدلفة قبل طلوع الشمس بهذه المدة اليسيرة؛ أمكن الضعفاء الذين تقدموهم إلى منى أن يرموا الجمرة بعد طلوع الشمس قبل مجيء الآخرين إليهم، فلم يكن للرخصة للضعفاء أن يرموا قبل طلوع الشمس معنى؛ لأن الرخصة إنما تكون في مثل هذا للضرورة، وهذا لا ضرورة فيه، فثبت بذلك ما ذكرنا من حديث ابن عباس الذي رويناه في تأخير جمرة العقبة إلى طلوع الشمس. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا حجاج بن منهال، نا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون يقول: "شهدت عمر -رضي الله عنه- صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي -عليه السلام- خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس". الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا ابن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: قال عمر بن الخطاب: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير، فخالفهم النبي -عليه السلام- فدفع قبل طلوع الشمس". الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن عمرو بن ميمون ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: "حججنا مع عمر بن الخطاب، فلما أردنا أن نفيض من المزدلفة قال: إن المشركين كانوا يقولون: أشرِق ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 604 رقم 1600). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 194 رقم 1938). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1006 رقم 3022).

ثبير كيما نغير، وكانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، فخالفهم رسول الله -عليه السلام- فأفاض قبل طلوع الشمس". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): نا أبو غسان مالك بن إسماعيل، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب قال: "كان أهل الجاهلية يفيضون من جمع بعد طلوع الشمس، وكانوا يقولون: أشرِق ثبير، وإن رسول الله -عليه السلام- خالفهم فدفع قبل طلوع الشمس بقدر صلاة [المسفرين] (¬2). أو قال: المسفرين -بصلاة الغداة". وأخرجه الترمذي (¬3) والنسائي (¬4) وأحمد (¬5) والبيهقي (¬6) وأبو يعلى وغيرهم أيضًا. قوله: "أشرق ثبير" أي: يا ثبير، حذف حرف النداء منه، وأَشرِق بفتح الهمزة من أشرق يشرق إشراقًا، قال الهروي: معناه: ادخل أيها الجبل في الشروق، كما يقال: أجنب إذا دخل في الجنوب، وأشمل إذا دخل في الشمال، ويقال: إشرق بكسر الهمزة من شَرَق أو أضاء وفيه نظر؛ لأن شرق بفتح عين مضارعه يشُرق بالضم والأمر منه لا يجيء إلاَّ بضم الهمزة كما تقول في نصر ينصر انْصُر، فعلى هذا قول القائل ينبغي أن يقال: اشْرُق نحو انصر. و"ثبير" بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة بعدها الياء آخر الحروف وراء: هو ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 83 رقم 1890). (¬2) في "الأصل، ك": "المشرقين" والمثبت من "سنن الدارمي". (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 242 رقم 896). (¬4) "المجتبى" (5/ 265 رقم 3047). (¬5) "مسند أحمد" (1/ 50 رقم 358). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 124 رقم 9302).

جبل المزدلفة على يسار الذاهب إلى منى وقيل: هو أعظم جبال مكة، عُرف برجل من هذيل كان اسمه ثبيرًا دفن فيه، وذكر ياقوت أن بمكة سبعة جبال كل منها يسمى ثبيرًا: الأول: أعظمها وأكبرها بينها وبين عرفة وهو المراد من قولهم: أشرِق ثبير كيما نغير، قال الأصمعي: هو ثبير حراء. وقال البكري: ويقال له: ثبير الأبيرة. الثاني: ثبير الزنج؛ لأن الزنج كانوا يلعبون عنده. الثالث: ثبير الأعرج. الرابع: ثبير الخضراء. الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة على يسار الذاهب إلى منى. السادس: ثبير عينا. السابع: ثبير الأحدب، قال البكري: بالإِضافة، وحكى ابن الأنباري أنه على النعت، وقال الزمخشري: ثبيران جبلان يفترقان تصب بينهما أفاعيه وهي واد يصب من منى، يقال لأحدهما: ثبير عينا، وللآخر ثبير الأعرج. قوله: "كيما نغير" أي ندفع ونفيض للنحر وغيره، وذلك من قولهم: أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع في دفعه، وقال ابن الأثير: أي نذهب سريعًا، يقال: أغار يغير إذا أسرع في العدو، وقيل: أراد نغير على لحوم الأضاحي من الإِغارة النهب، وقيل: ندخل في الغَوْر وهو المنخفض من الأرض على لغة من قال: أغار إذا أتى الغور. ثم هو بنصب الراء؛ لأن "أن" مقدرة بعد "كي"، ولا تظهر إلاَّ في الضرورة، قال: فقالت أَكُل الناس أصبحت مانحا ... لسانك كيما أن تفر وتخدعا

وكي تستعمل على ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون اسمًا مختصرًا من كيف، نحو قوله: كي تجنحون إلى سلم وما ثيرت (¬1) أراد: كيف تجنحون فحذف الفاء. الثاني: أن تكون بمنزلة لام التعليل. الثالث: أن تكون بمنزلة "أن" المصدرية، معنى وعملاً بخبر قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} (¬2) وعن الأخفش: أن "كي" جَارَّة دائمًا، وأن النصب بعدها بـ "أن" ظاهرة أو مضمرة، وقد قال بعضهم: إن نُغير ها هنا بسكون الراء؛ لأجل المناسبة لثبير. قلت: ثبير أصله بضم الراء؛ لأنه منادى مفرد معرفة، فيبنى على الضم، ولكن كأنهم سكنوه لأجل الوقت، فلما سكنوه سكنوا نغير أيضاً إقامة للسجع في كلامهم؛ لأنه مطلوب عندهم. قوله: "فلما كان الضعفاء ... إلى آخره". من كلام الطحاوي. ... ¬

_ (¬1) كذا جاء شطر هذا البيت في "الأصل، ك"، وفي "مغني اللبيب" (1/ 241): كي تجنحون إلى سِلْم وما ثئرت ... قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم (¬2) سورة الحديد، آية: [23].

ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر ش: أي هذا باب في بيان رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد التيمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة: "أن يوم أم سلمة -رضي الله عنها- صار إلى يوم النحر، فأمرها رسول الله -عليه السلام- ليلة جمع أن تفيض، فرمت جمرة العقبة وصلت الفجر بمكة". ش: رجاله ثقات، ذكروا غير مرة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) وكتاب "المعرفة" (¬2): ثنا أبو بكر وأبو زكريا وأبو سعيد قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، عن داود بن عبد الرحمن العطار، وعبد العزيز محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "دار رسول الله -عليه السلام- إلى أم سلمة يوم النحر، فأمرها أن تعجل الإِفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي، وكان يومها [فأحبَّ] (¬3) أن توافقه". وفي رواية أبي سعيد "فأحب أن توافيه" انتهى. وهذا الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، وقال ابن بطال: إن أحمد بن حنبل ضعفه وقال: لم يسنده غير أبي معاوية. وهو خطأ، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر جائز، واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: لا يجوز أن تكون صلت الصبح بمكة إلاَّ وقد كان رميها بجمرة العقبة قبل طلوع الفجر لبعد ما بين الموضعين. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 133 رقم 9356). (¬2) "معرفة السنن والآثار" (4/ 124). (¬3) في "الأصل، ك": "وأحب"، والمثبت من المصادر السابقة.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوسًا ومجاهدًا والشعبي والشافعي؛ فإنهم قالوا: يجوز رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر. وقال ابن أي شيبة في مصنفه (¬1): نا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي، عن عطاء ابن السائب قال: "رأيت أبا جعفر يرمي قبل طلوع الشمس، وكان عطاء وطاوس ومجاهد والنخعي وعامر بن شراحيل وسعيد بن جبير يرمون حين يقدمون أي ساعة قدموا، لا يرون به بأسًا". قوله: "وقالوا". أي هؤلاء القوم. قوله: "لبعد ما بين الموضعين". لأن بينهما ثلاثة أميال. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز لأحد أن يرميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر فهو في حكم من لم يرم، وعليه أن يعيد الرمي في وقت الرمي، فإن لم يفعل كان عليه لذلك دم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة ومحمدا ومالكًا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، حتى قال الثوري: لا يجوز إلاَّ بعد طلوع الشمس، وبه قال النخعي في رواية، وقد مضى الكلام فيه في السابق. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث قد اختلف فيه عن هشام بن عروة، فروي عنه على ما ذكرنا، وروي عنه على خلاف ذلك: حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمد بن خازم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: "أمرها رسول الله -عليه السلام- يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أمرها بما أمرها به من هذا يوم النحر، فذلك ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 320 رقم 14587).

على صلاة الصبح في اليوم الذي بعد يوم النحر، وهذا خلاف الحديث الأول، وقد عجَّل رسول الله -عليه السلام- أيضًا من جمع أزواجه غير أم سلمة، وكان مضيهم إلى منى، وبها صلوا صلاة الصبح ولم يتوجهوا حينئذٍ إلى مكة، فمها روي في ذلك: ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عُبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن سودة بنت زمعة استأذنت رسول الله -عليه السلام- أن تصلي يوم النحر الصبح بمنى، فأذن لها -وكانت امرأة ثبطة، فوددت أني استَأذَنْتْه لما اسْتَأْذَنَتْهُ". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن شوال، أنه سمع أم حبيبة تقول: "كنا نغلس على عهد النبي -عليه السلام- من المزدلفة إلى منى". ففي هذا أنهم كانوا يفيضون [بعد طلوع] (¬1) الفجر، فهذا أبعد لهم مما في الحديث الأول. وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب من حديث أسماء أنها رمت ثم رجعت إلى منزلها فصلت الفجر، فقلت لها: لقد غلسنا، فقالت: رخص رسول الله -عليه السلام- للظعن". فأخبرت أن ما قد كان رخص رسول الله -عليه السلام- في ذلك للظعن هو الإِفاضة من المزدلفة في وقت ما يصيرون إلي منى، في حال ما لهم أن يصلوا صلاة الصبح، ولما اضطرب حديث هشام بن عروة على ما ذكرنا لم يكن العمل بما رواه حماد بن سلمة أولى مما رواه محمد بن خازم، وقد ذكر حماد بن سلمة في حديثه أن رسول الله -عليه السلام- إنما أراد بتعجيله أم سلمة إلى حيث عجلها؛ لأنه يومها ليصيب منها في يومها ذلك ما يصيب الرجل من أهله ورسول الله -عليه السلام- في يوم النحر فلم يبرح منى ولم يطف طواف الزيارة إلى الليل. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "بعد ما طلع"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"، وعليه شرح المؤلف.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: حدثني محمد بن طارق، عن طاوس وأبو الزبير، عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم-: "أن رسول الله -عليه السلام- أخَّر طواف الزيارة إلى الليل". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أحمد بن حميد، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنه قالت: "أفاض رسول الله -عليه السلام- في آخر يومه". فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يطف طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل، استحال أن يكون به إلى حضور أم سلمة إلى مكة قبل ذلك حاجة؛ لأنه إنما يريدها لأنه في يومها وليصيب منها ما يصيب الرجل من أهله، وذلك لا يحل له منها إلاَّ بعد الطواف، فأشبه الأشياء عندنا -والله أعلم- أن يكون أمرها أن توافي صلاة الصبح بمكة في غد يوم النحر في وقت يكون فيه حلالًا بمكة. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، وأراد به الجواب عن حديث حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، وهو على وجهين: الأول: أنه مضطرب، أشار إليه بقوله: إن هذا الحديث قد اختلف فيه عن هشام بن عروة، فروي عنه على ما ذكرنا، وروي عنه على خلاف ذلك، أي على خلاف ما ذكرنا، وبينه بقوله: حدثنا الربيع ... على آخره. وأخرجه بإسناده عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وعن أسد بن موسى، عن محمد بن خازم -بالمعجمتين- روى له الجماعة، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو معاوية، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: "أن رسول الله -عليه السلام- أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 291 رقم 26535).

ففي هذا يخبر أنه -عليه السلام- أمرها بالموافاة لصلاة الصبح بمكة فذلك على صبح اليوم الثاني في يوم النحر؛ لأنه من المستحيل أن تكون هي توافي معه -عليه السلام- صلاة الصبح بمكة من يوم النحر على ما يأتي وجه الاستحالة عن قريب. قوله: "عجل رسول الله -عليه السلام- ... إلى آخره" ذكره تأييدًا لما ذكره من التأويل. قوله: "من جمع" أي من مزدلفة. قوله: "وكان مضيهم إلى منًى" يعني: كان ذهابهم من جمع إلى منى لا إلى مكة. "وبها" أي وبمنى "صلوا صلاة الصبح" أي في يوم النحر ولم يتوجهوا حينئذٍ إلى مكة، والدليل على ذلك حديث عائشة وأم حبيبة -رضي الله عنهما-. أما حديث عائشة فأخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن عبد العزيز محمد الدراوردي، عن عُبيد الله ابن عمر بن حفص بن عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق، عن أبيه القاسم بن أبي بكر، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): نا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة قالت: "وددت أني كنت استأذنت رسول الله -عليه السلام- كما استأذنته سودة، فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس، فقيل لعائشة: فكانت سودة استأذنت؟ فقالت: نعم، إنها كانت امرأة ثقيلة ثبطة فاستأذنت رسول الله -عليه السلام- فأذن لها". وقد أخرج أبو جعفر هذا الحديث في باب: حكم الوقوف بالمزدلفة، عن محمد ابن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن عبد الرحمن بن القاسم ... إلى آخره. و"الثبطة" بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة: المرأة البطيئة الضخمة. وأما حديث أم حبيبة فأخرجه بإسناد صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 939 رقم 1290).

أسد بن موسى، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار المكي، عن سالم بن شوال المكي مولى أم حبيبة زوج النبي -عليه السلام- وثقه النسائي وابن حبان، وروى له مسلم والنسائي هذا الحديث الواحد. عن أم حبيبة -واسمها رملة بنت أبي سفيان أخت معاوية -رضي الله عنهم-. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا عمرو بن دينار (ح). وعمرو الناقد، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن شوال، عن أم حبيبة قالت: "كنا نفعله على عهد النبي -عليه السلام- بغلس من جمع إلى منى". وفي رواية الناقد: "نغلس من مزدلفة". وأخرجه النسائي (¬2): أنا عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن شوال، عن أم حبيبة قالت:"كنا نغلس على عهد النبي -عليه السلام- من المزدلفة إلى منى". قوله: "في هذا" أي ففي حديث عائشة وأم حبيبة أنهم كانوا يفيضون بعد طلوع الفجر يعني من مزدلفة. قوله: "وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب ... إلى آخره" ذكره تأييدًا لقوله: "فهذا أبعد لهم مما في الحديث الأول"، بيانه أنه -عليه السلام- رخص للظعن وكان ذلك للإِفاضة من المزدلفة إلى منًى في حال يكون لهم فيها أداء صلاة الصبح، وهو معنى قوله: "في وقت ما يصيرون إلى منى في حال ما لهم أن يصلوا صلاة الصبح"، فإذا كان كذلك فكيف يتصور أن يكون موافاة أم سلمة مع رسول الله -عليه السلام- صلاة الصبح من يوم النحر بمكة، والحال أنها من الظعن؛ فدل أن المراد: موافاتها معه صلاة الصبح في اليوم الذي بعد يوم النحر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 940 رقم 1292). (¬2) "المجتبى" (5/ 262 رقم 3036).

الوجه الثاني: أنه فاسد، أشار إليه بقوله: "وقد ذكر حماد بن سلمة في حديثه ... إلى آخره". بيانه أنه -عليه السلام- إنما عجل أم سلمة؛ لكونه أراد منها ما يريد الرجل من أهله في يومها ذلك، ورسول الله -عليه السلام- لم يبرح من مكانه في منى يوم النحر، ولم يطف طواف الزيارة إلى الليل على ما روي عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم-. وأخرجه من طريقين: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن محمد بن طارق المكي وثقه النسائي وابن حبان، عن طاوس، عن عائشة وابن عباس، وعن سفيان، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن عائشة وابن عباس. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا بكر بن خلف أبو بشر، ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، حدثني محمد بن طارق، عن طاوس وأبي الزبير، عن عائشة وابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- أخَّر طواف الزيارة إلى الليل". وأخرجه الترمذي (¬2): نا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن ابن عباس وعائشة: "أن النبي -عليه السلام- أخَّر طواف الزيارة إلى الليل". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه أبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1017 رقم 3059). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 262 رقم 920). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 207 رقم 2000). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 460 رقم 4169).

ورواه البخاري (¬1) معلقًا وقال: قال أبو الزبير: عن عائشة وابن عباس: "أخَّر النبي -عليه السلام- الزيارة إلى الليل". وقد قيل: إن هذا الحديث منقطع من جهة عائشة؛ لأن أبا الزبير لم يسمع من عائشة، وقال البخاري: في سماعه منها بُعْدٌ. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن حميد الطريثيثي الكوفي شيخ البخاري عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان الكوفي، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2) بأتم منه: ثنا علي بن بحر وعبد الله بن سعيد -المعنى- قالا: ثنا أبو خالد الأحمر، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أفاض رسول الله -عليه السلام- من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها". انتهى. قوله: "فلما كان رسول الله -عليه السلام- ... إلى آخره " بيان استحالة حضور أم سلمة إلى مكة يوم النحر، وهو ظاهر. ثم اعلم أنه يعارض هذين الحديثين ما رواه جابر في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم (¬3) وأبو داود (¬4) وابن ماجه (¬5): "ثم أفاض رسول الله -عليه السلام- إلى البيت فصلى بمكة الظهر ... الحديث". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 617) باب الزيارة يوم النحر. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 201 رقم 1973). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬4) "سنن أبن داود" (2/ 182 رقم 1905). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1022 رقم 3074).

وأراد به طواف الزيارة، ويسمى أيضًا طواف الإِفاضة. وكذلك ما رواه ابن عمر: "أن رسول -عليه السلام- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى" رواه مسلم (¬1). وروى مسلم (¬2) أيضًا: عن عبد العزيز بن رفيع، قال: "سألت أنس بن مالك قلت: أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله -عليه السلام- أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. وأجبت بأن التوفيق بين هذه الأحاديث هو أن يقال: إنه صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى فوجد الناس ينتظرونه، فصلى بهم. ولكن هذا مشكل على مذهب أبي حنيفة. فإن قيل: الإِشكال باقٍ بين هذه الأحاديث؛ لأن حديث عائشة وابن عباس يخبر أنه -عليه السلام- أخَّر طواف الزيارة إلى الليل، وحديث جابر يخبر أنه طاف قبل صلاة الظهر، وكذلك حديث ابن عمر وأنس. قلت: يحمل حديث عائشة وابن عباس على أنه أخَّر ذلك إلى ما بعد الزوال فكأن معناه: أخَّر النبي -عليه السلام- طواف الزيارة إلى العشي، وأما الحمل على ما بعد الغروب فبعيد جدًّا ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة من أنه -عليه السلام- طاف يوم النحر نهارًا وشرب من سقاية زمزم. فإن قيل: روى أحمد في "مسنده" (¬3): عن عائشة وابن عمر -رضي الله عنهم-: "أن رسول الله -عليه السلام- زار ليلاً". قلت: الظاهر أن المراد منه طواف الوداع، أو طواف زيارة محضة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 950 رقم 1308). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 950 رقم 1309). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 50 رقم 5110).

وقد ورد حديث رواه الييهقي (¬1): "أن رسول الله -عليه السلام- كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى". فإن قيل: ما تقول في الحديث الذي أخرجه البيهقي (¬2) عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهرة، وزار رسول الله -عليه السلام- مع نسائه ليلاً؟ ". قلت: هذا حديث غريب جدًّا، وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير: "أن رسول الله -عليه السلام- أخَّر الطواف يوم النحر إلى الليل". والصحيح من الروايات، وعليه الجمهور أنه -عليه السلام- طاف يوم النحر بالنهار، والأشبه أنه كان قبل الزوال، ويحتمل أن يكون بعده. والحديث الذي أخرجه الطحاوي، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، المذكور آنفًا يدل على أن ذهابه -عليه السلام- إلى مكة كان يوم النحر بعد الزوال، وهذا ينافي حديث ابن عمر قطعًا، وفي منافاته لحديث جابر نظر. فافهم. فإن قيل: يرد على حديث جابر شيء آخر، وهو أنه قد ثبت أنه -عليه السلام- رمى جمرة العقبة بسبع حصيات ثم جاء فنحر بيده ثلاثًا وستين بدنة، ونحر علي -رضي الله عنه- بقية المائة، ثم أخِذ من كل بدنة بضعةً ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من ذلك وشرب من مرقه، وفي عيون ذلك حلق رأسه ولبس وتطيب، وخطب في هذا اليوم خطبة عظيمة". فكيف يمكن أن يعود إلى منى في وقت الظهر ويصلي الظهر في منى؟! على أن عائشة أخبرت في الحديث الذي أخرجه الطحاوي من طريق محمد بن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 146 رقم 9433). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 48 رقم 8836).

إسحاق: "أنه أفاض من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق". وأخرجه أبو داود مطولًا كما ذكرناه عن قريب، وقال ابن حزم: فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه -عليه السلام- صلى الظهر يوم النحر وهما -والله أعلم- أضبط لذلك من ابن عمر. قلت: أما رجوعه -عليه السلام- إلى منى في وقت الظهر ممكن؛ لأن النهار كان طويلاً وإن كان قد صدر منه -عليه السلام- أفعال كثيرة في صدر هذا النهار. وأما خطبته -عليه السلام- في هذا اليوم، فلست أدري كانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى؟. وأما رواية عائشة، فإنها ليست ناصَّة أنه -عليه السلام- صلى الظهر بمكة، بل محتملة إن كان المحفوظ في الرواية "حتى صلى الظهر"، وإن كانت الرواية "حين صلى الظهر" وهو الأشبه؛ فإن ذلك على أنه -عليه السلام- صلى الظهر بمنًى قبل أن يذهب إلى البيت، وهو محتمل والله أعلم. ص: وقد علم المسلمون أوقات رمي جمرة العقبة في يوم النحر بفعل رسول الله -عليه السلام-: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحًى، وما سواها بعد الزوال". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله.

فعلم المسلمون بذلك أن الوقت الذي رمى رسول الله -عليه السلام- فيه الجمار هو وقتها، فأردنا أن ننظر هل رخَّص للضعفة في الرمي قبل ذلك أم لا؟. فوجدناه -عليه السلام- قد تقدم إلى ضعفة بني هاشم حين قدمهم إلى منى: "أن لا ترموا الجمرة إلاَّ بعد طلوع الشمس". فعلمنا كذلك أن الضعفة لم يرخص لهم في ذلك أن يتقدموا غير الضعفة، وأن وقت رميهم جميعًا وقت واحد، وهو بعد طلوع الشمس، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أشار بهذا إلى نفي صحة استدلال أهل المقالة الأولى بحديث أم سلمة فيما ذهبوا إليه من جواز رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر من وجه آخر، وهو أن المسلمين قد علموا وقت رمي جمرة العقبة أنه يوم النحر بفعل رسول الله -عليه السلام- على ما بينه حديث جابر، فبقي الكلام في الضعفة، هل يرخصون فيه قبل أم لا؟ فوجدنا النبي -عليه السلام- قد تقدم إلى ضعفة بني هاشم حين قدَّمهم إلى منى: "ألَّا ترموا الجمرة إلاَّ بعد طلوع الشمس" على ما روي في حديث ابن عباس المذكور في الباب الذي قدمه. فعلم بذلك أن وقت الرمي بعد طلوع الشمس في حق الكل. ثم إنه أخرج حديث جابر من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه الجماعة غير البخاري فقال مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن شيبة، قال: ثنا خالد الأحمر وابن إدريس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "رمى رسول الله -عليه السلام- الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 945 رقم 1299).

وقال أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله -عليه السلام- رمي يوم النحر ضحى، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس". وقال الترمذي (¬2): ثنا علي بن خشرم، نا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: "كان النبي -عليه السلام- يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس". وقال أبو عيسى هذا حديث صحيح. وقال النسائي (¬3): أنا محمد بن يحيى بن أيوب بن إبراهيم الثقفي المروزي، أنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن جابر قال: "رمى رسول الله -عليه السلام- الجمرة يوم النحر ضحى، فرمى بعد يوم النحر إذا زالت الشمس". وقال ابن ماجه (¬4): ثنا حرملة بن يحيى البصري، قال: نا عبد الله بن وهب، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- رمى جمرة العقبة ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5) نحوه. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 201 رقم 1971). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 241 رقم 894). (¬3) "المجتبى" (5/ 270 رقم 3063). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1014 رقم 3053). (¬5) "مسند أحمد" (3/ 319 رقم 14475).

وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): عن عبيد الله بن موسى، عن ابن جريج .. إلى آخره نحوه. قوله: "ضحى" أي في وقت الضحى. قوله: "ما سواها" أي رمى ما سوى جمرة العقبة بعد زوال الشمس، وهو اليوم الثاني والثالث والرابع. وقال مالك: وكان ابن عمر يقول: لا ترمي الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس. قلت: لا خلاف في ذلك، واختلفوا إذا رماها قبل الزوال، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: يعيد رميها بعد الزوال، وقال ابن حبيب عن مالك: هو كمن لم يرم، وقال أبو جعفر محمد بن علي: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها، وقال الكاساني: أما وقت الرمي في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي فبعد الزوال، حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وروي عنه أن الأفضل أن يرمي اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، فإن رمى قبله جاز، فإن أخّر الرمي فيهما إلى الليل فرمى قبل طلوع الفجر جاز ولا شيء عليه، وإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال فأراد أن ينفر من منى إلى مكة فله ذلك، والأفضل ألَّا يعجل بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث منها، فيستوفي الرمي في الأيام كلها ثم ينفر. وأما وقت الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق وهو اليوم الرابع من أيام الرمي فالوقت المستحب له بعد الزوال، ولو رمى قبله يجوز عند أبي حنيفة خلافًا لهما، وهما يحتجان بالحديث المذكور، ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس أنه قال: "إذا انتفج النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي" والظاهر أنه قال سماعًا عن رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 85 رقم 1896).

إذ هو باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد، فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصًا من حديث جابر بهذا الحديث، أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب، ولأن له أن ينفر قبل الرمي ويترك الرمي في هذا اليوم رأسًا، فإذا جاز له ترك الرمي أصلاً فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى. انتهى. قلت: حديث ابن عباس أخرجه البيهقي (¬1) من حديث طلحة بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: "إذا انتفج النهار من يوم النفر الآخر فقد حل الرمي والصدر". قلت: طلحة بن عمرو واه، ومعنى "انتفج" بالفاء والجيم: ارتفع. ص: وأما من طريق النظر فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن من رمى جمرة العقبة لليوم الثاني بعد يوم النحر في الليل قبل طلوع الفجر أن ذلك لا يجزئه حتى يكون رميه لها في يومها، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هي في يوم النحر لا يجوز أن تُرمى إلاَّ في يومها، وإن كان بعض يومها في ذلك أفضل من بعض، كما بعض اليوم الثاني الرمي فيه أفضل من الرمي في بعضه، وهلا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. ش: أي وأما وجهه من طريق النظر والقياس، فإنا قد رأينا الخصوم ... وهذا ظاهر. ص: وقد وجدت في كتاب عبد الله بن سويد بخطه، عن الأثرم -يعني أبا بكر- مما ذكر لنا عبد الله بن سويد، أن الأثرم أجازه لمن كتبه من خطه ذلك، وأجازه لنا عبد الله بن سويد، عن الأثرم، قال: قال لي أبو عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة: "أن النبي -عليه السلام- أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة". ولم يسند ذلك غير أبي معاوية وهو خطأ. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 152 رقم 9469).

وقال أحمد: قال وكيع، عن هشام، عن أبيه -مرسل-: "أن النبي -عليه السلام- أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكه". أو نحو هذا، [قال] (¬1) وهذا أيضًا عجب، قال أبو عبد الله: والنبي -عليه السلام- ما يصنع بمكة يوم النحر؟! كأنه ينكر ذلك، فجئت إلى يحيى بن سعيد، فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- أمرها أن توافي". وليس توافيه، قال: وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الفجر بالأبطح. قال: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن بن مهدي، فسألته، فقال: هكذا عن سفيان، عن هشام، عن أبيه: "توافي"، ثم قال لي أبو عبد الله: رحم الله يحيى، ما كان أضبطه وأشد تفقده، كان محدثًا، وأثنى عليه فأحسن الثناء عليه. ش: لما بين فيما مضى أن حديث حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أم سلمة مضطرب، وأنه رُوي على خلاف ذلك، ثم أخرجه عن ربيع، عن أسد، عن محمد بن خازم -وهو أبو معاوية- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: "أمرها رسول الله -عليه السلام- يوم النحر أن توافي صلاة الصبح بمكه" ثم قال: ولما اضطرب حديث هشام بن عروة، لم يكن العمل بما رواه حماد بن سلمة أولى مما رواه محمد بن خازم نبَّه ها هنا أن حديث معاوية أيضًا خطأ؛ لأنه وجد في كتاب عبد الله بن سويد، وكان قد كتب بخطه، عن أبي بكر الأثرم، وهو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي تلميذ الإِمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: الحافظ الحاذق المصنف، توفى سنة ست وتسعين ومائتين، وقال: قال لي أحمد بن حنبل: ثنا أبو معاوية ... إلى آخره. ثم قال أحمد: لم يسند ذلك غير أبي معاوية وهو خطأ ثم بين أنه مرسل، وقال: قال وكيع: عن هشام، عن أبيه -وهو عروة-: "أن النبي -عليه السلام- أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة" ثم تعجب من ذلك على وجه الإِنكار حيث قال: والنبي -عليه السلام- ما يصنع بمكة يوم النحر؟! ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وقال أبو الوليد بن رشد: يحتمل أن يكون في الحديث تقديم وتأخير، وتقديره: أمرها يوم النحر أن توافي صلاة الصبح بمكة. فيسقط احتجاج الشافعي به لمذهبه الذي شذ فيه عن الجمهور. وقال ابن المنذر في "الإِشراف": لا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر بحال إذْ فاعله مخالف ما سنه الرسول -عليه السلام- لأمته، ولو رمى بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس لا يعيد، إذ لا أعلم أحدًا قال يجزئه ولو اختلفوا فيه لأوجبت الإِعادة. قوله: "فجئت إلى يحيى بن سعيد" أي قال أحمد: جئت إلى يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي البصري الأحول الحافظ، "فسألته" أي عن الحديث المذكور، فقال: عن هشام، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- أمرها أن توافي" وليس توافيه، أراد لفظ الحديث "أن توافي" بدون الضمير المنصوب فيه وليس لفظه أن توافيه بالضمير المنصوب الذي يرجع إلى النبي -عليه السلام-، لأنه إذا كان بالضمير؛ يلزم أن يكون النبي -عليه السلام- بمكة يوم النحر وقت صلاة الصبح وهذا لم يكن، ولأجل هذا قال يحيى بن سعيد: "وبين هذين فرق" أي بين قوله "توافي" وقوله "توافيه" وعن هذا قال البيهقي في كتابه "الخلافيات": "توافي" هو الصحيح فإنه -عليه السلام- لم يكن معها بمكة وقت صلاة الصبح يوم النحر. قوله: "يوم النحر صلاة الصبح" يتعلق بقوله: "أمرها أن توافي"؛ لأن قوله: "يوم النحر" ظرف لقوله: "توافي" وقوله: "وليس توافيه" وقوله: "قال وبين هذين فرق"، كلها جمل معترضة بينها فافهم. قوله: "قال: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن بن مهدي" أي قال أحمد: قال لي يحيى بن سعيد المذكور: سل عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري اللؤلؤي البصري، يعني عن هذا الحديث، فقال: هكذا عن سفيان الثوري، عن هشام، عن أبيه "توافى" يعني بدون الضمير المنصوب.

قوله: "ثم قال لي أبو عبد الله" يعني أحمد بن حنبل "رحم الله يحيى" يعني ابن سعيد القطان، إنما دعا له بالرحمة وأثنى عليه؛ لكونه كثير الاحتياط في نقل الحديث، شديد التفقد في ضبطه، ألا ترى لما سأله أحمد عن هذا الحديث فأجاب بما أجابه، ثم قال له: سل عبد الرحمن بن مهدي؟ ولم يكن هذا إلاَّ من غاية احتياطه في أمر الحديث، وقد قال علي بن المديني: ما رأيت أعلم بالرجال من يحيى ابن سعيد القطان، ولا رأيت أحدًا أعلم بصواب الحديث والخطأ من عبد الرحمن ابن مهدي، فإذا اجتمع يحيى وعبد الرحمن على ترك حديث رجل تركت حديثه، وإذا حدّث عنه أحدهما حدثت عنه. ***

ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يترك رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس يوم النحر ثم يرميها بعد يوم النحر كيف يكون حكمه. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثنى عمر بن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل". ش: يونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، وعمر بن قيس المكي المعروف بسندل فيه مقال، فعن أحمد: متروك الحديث ليس يسوى حديثه شيئًا، لم يكن حديثه بصحيح، أحاديثه بواطيل. وعن يحيى: ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه حديثين، أحدهما: "الحج واجب والعمرة تطوع"، والآخر: "وإذا أحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه". وعطاء هو ابن أبي رباح المكي. وأخرجه البيهقي فى "سننه" (¬1) من حديث عبد الله بن وهب، أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء، سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "الراعي يرمي بالليل ويرعى بالنهار". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب أبو حنيفة -رضي الله عنه- إلى أن في هذا الحديث دلالة على أن الليل والنهار وقت واحد للرمي، فقال: إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم النحر، ثم رماها بعد ذلك في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه، وان لم يرمها حتى أصبح من غد رَماها وعليه دم، لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ، وخالفه في ذلك أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- فقالا: إذا ذكرها في شيء ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 151 رقم 9459).

من أيام الرمي رماها ولا شيء عليه غير ذلك من دم ولا غيره، وإن لم يذكرها حتى مضت أيام الرمي فذكرها لم يرمها وكان عليه في تركها دم. ش: استدل أبو حنيفة بالحديث المذكور على أن الليل وقت للرمي كالنهار، فقال: لو رمى جمرة العقبة في الليلة التي بعدها يوم النحر جاز ولا شيء عليه، وإن أخرها من هذه الليلة حتى أصبح من اليوم الثاني رماها ولكن عليه دم لتأخيره إياها عن وقتها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه. والخلاف يرجع في ذلك إلى أن الرمي مؤقت عند أبي حنيفة، وعندهما ليس بمؤقت، حتى لا يجب الدم عندهما إلاَّ بتأخيره عن أيام الرمي كلها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وذكر في شرح "الموطإ" للإِشبيلي، وقال الشافعي: من أخر أو نسي شيئًا من الرمي أيام منى قضى ذلك أيام منى، فإن مضت أيام منى ولم يرم أراق دمًا إن كان الذي ترك ثلاث حصيات، وإن كان أقل تصدق عن كل حصاة بِمُدٍّ، وقال الزهري وعطاء بن أبي رباح: من نسي أن يرمي نهارًا فليرم ليلاً، فإن مضت أيام منى أهراق دمًا، وقال عطاء: إذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق فقد انقطع الرمي، وقد روي أن الرمي يفوت بطلوع الفجر في آخر أيام التشريق، وهي رواية شاذة، وقال عروة: من فاته الرمي بالنهار لم يرم ليلاً وأخره إلى الغد؛ لأنه لما أرخص النبي -عليه السلام- للرعاء في الرمي ليلاً دل على أن الرمي بالنهار أفضل. وقال مالك: إن رمى جمرة العقبة بعد الغروب فأحبّ إلَّي أن يهريق دمًا، وإن أخرها إلى أيام التشريق كان عليه هدي، وسئل مالك عمن نسي رمي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال: ليرم آية ساعة ذكر من ليلى أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها، فإن كان ذلك بعذر بعدما صدر وهو بمكة، أو بعدما يخرج منها فعليه هدي، وفي "الأحكام" لابن بزيزة: رمي جمرة العقبة هل هو ركن أم لا؟ فيه قولان، والمشهور أن من حج ولم يرمها فحجه

صحيح ويؤمر بالرمي ما لم تفت أيام الرمي، والشاذ بطلان حجه، وبه يقول عبد الملك، وإذا ترك الرمي عند الجمرة الأولى والوسطى، فهل يعيد ما بعدها إذا أداها أو إنما يعد المتروك فقط؟ فيه قولان، والمشهور أن الترتيب غير واجب، وإذا ترك حصاة واحدة فهل يعيد الجمرة كلها أو يرمي حصاة واحدة فقط؟ فيه قولان في المذهب، والأقيس أن يعيد الحصاة وحدها، وقيل: يعيد الجمرة كلها، وفيه قول ثالث: أنه إذا تذكرها يوم الأداء أعاد الجمرة وحدها، وإن تذكرها يوم القضاء أعاد الجمرة من أصلها، وإذا ترك حصاة ولم يدر موضعها، فقيل: لا يعيد شيء، وقيل: يجعل الجميع عن واحدة، وقال أهل الظاهر: من ترك رمي الجمار فلا شيء عليه. فإن قيل: كيف يستدل أبو حنيفة -رحمه الله-: بالحديث المذكور وهو ضعيف كما بيناه؟!. قلت: روي الحديث المذكور من طرق متعددة عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- فيشد ما ضعف منها بما قوى، فيصح الاحتجاج حينئذ. وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا خالد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي قرة، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا ليلاً". وأخرج البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الصغاني، ثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا مسلم بن خالد، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا بالليل". قال الذهبي: مسلم ليّن. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 166 رقم 11379). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 151 رقم 9461).

وقال مالك في "موطإه" (¬1): حدثني يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر "أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل". وقال الإِشبيلي في "شرحه": روى الحديث المذكور يحيى القطان، عن مالك بإسناده: "أنه -عليه السلام- رخص للرعاء في البيتوتة، يرمون يوم النحر واليومين اللذين بعده، يجمعونها في أحدهما". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا ليلًا". وثئا حماد (¬3) بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن عطاء: "أن عمر -رضي الله عنه- رخص للرعاء أن يبيتوا عن منى، قال: فذكرت ذلك [للزهري فقال] (¬4): الرعاء يرمون ليلاً ولا يبيتون". وفي "الأحكام" لابن بزيزة: وقد صح أن رسول الله -عليه السلام- رخص لرعاة الإِبل أن يرموا ليلاً وأن يرموا من الغد. ص: واحتج محمد بن الحسن في ذلك على أبي حنيفة بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح، عن عاصم بن عدي: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يتعاقبوا، وكانوا يرمون غدوة يوم النحر، ويدعون ليلة ويومًا، ثم يرموا في الغد". ففي هذا الحديث أنهم كانوا يرمون غدوة يوم النحر، ثم يدعون يومًا وليلة ثم يرمون من الغد، فقد كانوا يرمون رمي اليوم الثاني في اليوم الثالث، ولم يكن ذلك بموجب عليهم دمًا، ولا بموجب أن حكم اليوم الثالث في الرمي لليوم الثاني ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 409 رقم 920). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 271 رقم 14111). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 271 رقم 14112). (¬4) كذا في "الأصل، ك" وفي "المصنف": "لإبراهيم وللزهري فقالا".

خلاف حكم اليوم الرابع، ففي ذلك دليل أن من ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فذكرها في شيء من أيام التشريق أن يرمي ولا شيء عليه. ش: أي احتج محمد بن الحسن الشيباني على أبي حنيفة في قوله: "إذا أخر رمي جمرة العقبة حتى أصبح من غد اليوم الثاني من النحر رماها ولكن عليه دم" بحديث عاصم بن عدي، فإنه يخبر أن الرعاء كانوا يرمون غدوة يوم النحر، ثم يتركون يومًا وليلة ثم يرمون من الغد، فقد كان رميهم اليوم الثاني في اليوم الثالث ولم يكن ذلك يوجب عليهم دمًا، ففيه دليل على أن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فذكرها في شيء من أيام التشريق أن يرميها ولا شيء عليه. ولقائل أن يقول: هذه رخصة للرعاء أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد، قدموا ذلك أو أخروه، وهذا يستلزم وجوب الدم في حق غيرهم إذا تركوا رمي جمرة العقبة إلى غد اليوم الثاني؛ لأن تأخير الرمي عن وقته بمنزلة تركه، ورمي جمرة العقبة يوم النحر نسك تام فكما أن تركه يوجب الدم، كذلك تأخيره عن وقته. ثم إنه أخرج حديث عاصم بن عدي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري المدني قاضي المدينة أخي عبد الله بن أبي بكر، وكان إكبر من عبد الله، وثقه غير واحد، وروى له الشيخان وأبو داود وابن ماجه. عن أبيه أبي بكر بن محمد الأنصاري المدني، يقال: إن اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، ويقال: اسمه وكنيته واحد، روى له الجماعة. عن أبي البداح -بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال المهملة وفي آخره حاء مهملة- واسمه عدي بن عاصم بن عدي الأنصاري، ويقال: أبو البداح لقب عليه ويكنى أبا عمرو، وقال ابن سعد: كان ثقة. روى له الأربعة.

عن عاصم بن عدي بن الجدِّ بن العجلان القضاعي شهد أُحدًا ولم يشهد بدرًا، وكان رسول الله -عليه السلام- استعمله على أهل قباء وأهل العالية، وضرب له سهمه، فكان كمن شهدها، وأخرجه الأئمة الأربعة، وأخرجه البيهقي (¬1) بإسناد الطحاوي من حديث ابن جريح، ثنا محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح، عن عاصم بن عدي: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يومًا وليلة، ثم يرموا الغد". وقال أبو داود (¬2): ثنا ابن السرح، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- أرخص لرعاء الإِبل في البيتوتة، يرمون [يوم] (¬3) النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر". ثئا مسدد (¬4)، قال: نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر ومحمد، عن أبيهما، عن أبي البداح بن عدي، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- أرخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا". وقال الترمذي (¬5): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم [بن] (¬6) عدي، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- أرخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 150 رقم 9456). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 202 رقم 1975). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 202 رقم 1976). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 289 رقم 954). (¬6) في "الأصل، ك": "عن"، وهو خطأ، والمثبت من "جامع الترمذي".

قال أبو عيسى: هكذا رواه ابن عيينة، ورواه مالك (¬1): عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، ورواية مالك أصح. وقال النسائي (¬2): أنا الحسن بن حريث ومحمد بن المثنى، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا". وأخرجه أيضًا (¬3) عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن مالك ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. وقال ابن ماجه (¬4): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي البداح بن [عاصم] (¬5)، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا". وأخرجه (¬6) عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن مالك أيضًا، وعن أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬7): ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن حبيب، نا خالد بن مخلد، ثنا مالك بن أنس. وأنا أبو عبد الله الصفار، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 408 رقم 919). (¬2) "المجتبى" (5/ 273 رقم 3068). (¬3) "المجتبى" (5/ 273 رقم 3069). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1010 رقم 3036). (¬5) في "الأصل، ك": "عدي"، وهو سبق قلم من المؤلف، أو يكون سقط منه، أو يكون نسبه إلى جده، فأبو البداح هو عدي بن عاصم بن عدي كما تقدم مرارًا، والمثبت من "سنن ابن ماجه". (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 1010 رقم 3037). (¬7) "المستدرك" (1/ 652 رقم 1758).

ونا أبو بكر بن إسحاق الفقية، نا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عدي، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا". هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه. وقال الترمذي أيضًا: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "للرعاء" بكسر الراء، جمع راعي الغنم، وقد يجمع على رُعاء بالضم. قوله: "أن يتعاقبوا" أي بأن يتعاقبوا و"أن" مصدرية، والمعنى: رخص لهم بالتعاقب وهو التناوب بينهم في الرمي، وهو أن يرموا نوبة ويتركوه أخرى، وأصل التعقيب أن يعمل عمل ثم يعاد فيه. قوله: "يدعون" أي يتركون. قوله:"يرمون الغد وبعد الغد" في رواية أبي داود يعني الغد من يوم النحر. قوله: "ثم يرمون يوم النفر" يحتمل أن يريد ثاني أيام منى، يريد النفر الأول، وأراد به تفسير أحد اليومن اللذين يرمي لهما، ويكون فائدة قوله: "ثم يرمون ليوم النفر" أنه لا يجوز أن يرمي لليوم الثاني حتى يكمل رمي الأول، ويحتمل أن يريد بقوله: "ثم يرمون يوم النفر" اليوم الثالث لمن لم يتعجل. ص: ثم النظر في ذلك يشهد لهذا القول أيضًا، وذلك أنا رأينا أشياء تفعل في الحج الدهر كله، وقت لها منها السعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر ومنها أشياء تفعل في وقت خاص هو وقتها خاصة، منها رمي الجمار، وكان ما الدهر وقت له من هذه الأشياء متى فُعل فلا شيء على فاعله مع فعله إياه من دم ولا غيره، وما كان منها له وقت خاص من الدهر إذا لم يفعل في وقته وجب على تاركه الدم، وكان ما كان منها يفعل لبقاء وقته فلا شيء على فاعله غير فعله إياه، وما كان منها لا يفعل لعدم وقته وجب مكانه الدم، وكانت جمرة العقبة إذا

رُميت من غد يوم النحر قضاء عن رمي يوم النحر فقد رُميت في يوم هو من وقتها، ولولا ذلك لما أمر برميها كما لا يؤمر تاركها إلى بعد انقضاء أيام التشريق برميها بعد ذلك، فلما كان اليوم الثاني من أيام النحر هو وقت لها، وقد ذكرنا ما قد أجمعوا عليه أن ما فعل في وقته من أمور الحج فلا شيء على فاعله، كان كذلك هذا الرامي لما رماها في وقتها فلا شيء عليه. ش: أي ثم النظر وهو القياس "في ذلك" أي الخلاف المذكور "يشهد لهذا القول" أي قول محمد في أن من أخر رمي جمرة العقبة إلى غد اليوم الثاني أنه يرميها ولا شيء عليه. قوله: "الدهر" مرفوع بالابتداء، وكله مرفوع لأنه تابع وخبره قوله: "وقت لها". قوله: "منها السعي بين الصفا والمروة" أراد أنه ليس له وقت مخصوص، فأي وقت فعله جاز، ولكن أجمعوا أن السنة الخروج إلى الصفا عند انقضاء الطواف وركعتيه. وفي "شرح الموطإ" للإِشبيلي: ومن طاف فلا ينصرف إلى بيته حتى يسعى إلا من ضرورة يخاف فواتها أو يتعذر المصير لها ويرجو بالخروج ذهابها كالخوف على المنزل، وكره الخروج للمرض لأنه لا يذهب بالخروج، فإن فعل، فروي عن محمد عن مالك يبتدئ طوافه، والظاهر من المذهب أنه إن لم يبتد حين رجع فعليه دم. قلت: فهم من هذا أن السعي بين الصفا والمروة له وقت مخصوص عند مالك، ألا ترى كيف أوجب الدم إذا لم يبتدئه عقيب الطواف من غير ضرورة، ونوقش في كلام الطحاوي من وجه آخر، وهو أنه يفهم من كلامه أنه إذا سعى بين الصفا والمروة قبل طوافه بالبيت ينبغي أن يعتد به، لأنه ليس له وقت مخصوص، مع أنهم قالوا: لا يعتد به ويعيد بعد طوافه.

قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء "في رجل بدأ بالصفا والمروة قبل البيت، قال: يعيد". قلت: هذا ليس بشيء؛ لأن ما ذكره من أن السعي بين الصفا والمروة ليس له وقت مخصوص معناه بعد حلول ابتداء أوانه لا يكون له وقت مخصوص بيوم، وأوان ابتدائه عقيب الطواف بالبيت، ثم بعد ذلك أي وقت كان يسعى فيه بينهما ولا يعين له وقت معلوم، على أنه إذا قدّم السعي على الطواف ثم بعد ذلك أي وقت كان يسعى فيه بينهما أمسى عليه، قالوا: قد قضى ما عليه ولا شيء عليه. قال ابن أبي شيبة (¬2): حدثنا محمد بن جعفر، عن أشعث، عن الحسن قال: "لا يعتد بالسعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت، يطوف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة، فإن لم يفعل حتى يمسي قال: قد قضى ما عليه ولا شيء عليه". قوله: "وكان ما الدهر" أي وكان الشيء الذي الدهر وقت له. ص: فإن قال قائل: إنما أوجبنا عليه الدم بتركه رميها يوم النحر وفي الليلة التي بعده للإِساءة التي كانت منه في ذلك. قيل له: فقد رأينا تارك طواف الصدر حتى يرجع إلى أهله وتارك السعي بين الصفا والمروة حتى يرجع إلى أهله مسيئين، وأنت تقول إنهما إذا رجعا ففعلا ما تركا من ذلك أن إساءتهما لا توجب عليهما دمًا، لأنهما قد فعلا ما فعلا من ذلك في وقته، فكذلك الرامي في اليوم الثاني من أيام منى جمرة العقبة، لما كان وجب عليه في يوم النحر يكون راميًا لها في وقتها، فلا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 251 رقم 13928). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 251 رقم 13927).

شيء عليه في ذلك غير رميها، هذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهم الله. ش: هذا السؤال وجوابه ظاهران، ولقائل أن يقول: كان ينبغي أن يجب الدم لتأخيره، وإن كان قد أتى به كما في الصلاة إذا أخر شيئًا من واجباتها فإن سجدة السهو لا تسقط عنه وإن كان يأتي بما يتركه. قوله: "مسيئين" بالنصب لأنه مفعول ثان لرأينا، وهو تثنية مسيء، لأنه في الحقيقة خبر عن اثنين وهما قوله: "تارك طواف الصدر"، وقوله: "تارك السعي". قوله: "لما كان وجب عليه" بلام التعليل و"ما" مصدرية، أي لأجل كون وجوب الرمي عليه في يوم النحر، فافهم. ***

ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج؟

ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم التلبية في قطعها متى يكون، وقد عرف أن التلبية هي قول الحاج: لبيك اللهم لبيك ... إلى آخره. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا عبد العزيز ابن عبد الله بن أبي سلمة -هو الماجشون- عن عمر بن حسين، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- صبيحة عرفة، فمنا المهل ومنا المكبر، فأما نحن فنكبر ونحن مع رسول الله -عليه السلام- قال: فقلت له: العجب لكم كيف لم تسألوه ما قد كان رسول الله -عليه السلام- يفعل في ذلك؟! ". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وعمر بن حسين بن عبد الله الجمحي أبو قدامة المكي قاضي المدينة، وثقه النسائي وابن حبان وروى له مسلم وأبو داود. وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون والد عبد العزيز المذكور، وثقه النسائي وابن حبان وروى له مسلم وأبو داود. وأبو سلمة اسمه ميمون، ويقال: دينار. وعبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، وهارون بن عبد الله، ويعقوب الدورقي، قالوا: ثنا يزيد بن هارون ... إلى آخره نحوه، غير أن لفظه: "في غداة عرفة". وفي لفظه أيضًا: "قلت: والله لعجبا منكم كيف لم تقولوا له: ماذا رأيت رسول الله يصنع؟! ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 933 رقم 1284).

وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا عبد الله بن نمير، قال: نا يحيى، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: "غدونا مع رسول الله -عليه السلام- من منى إلى عرفات، منا الملبي ومنا المكبر". قوله: "صبيحة عرفة" أي غداة عرفة كما جاء هكذا في رواية مسلم. قوله: "قال: فقلت له" أي قال عبد الله بن أبي سلمة لعبد الله بن عبد الله: كيف لم تسألوا عبد الله بن عمر بن الخطاب ما قد كان رسول الله -عليه السلام- يفعل في ذلك؟ أي فيما قلتم من الإِهلال والتكبير. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد أنه قال: "كنت رِدْف رسول الله -عليه السلام- عشية عرفة، فكان لا يزيد على التكبير والتهليل، وكان إذا وجد فجوة نصَّ". ش: إسناده صحيح، وأبو معاوية اسمه محمد بن خازم روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) من حديث هشام بن عروة ... إلى آخره، وليس فيه: "ولا يزيد على التكبير والتهليل" وفيه: "فكان رسول الله -عليه السلام- إذا التحم عليه الناس أعنق وإذا وجد في فرجة نص". ويعارض هذا ما رواه الحديث في "مسنده" من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن أسامة، وفيه: "فلم يزل يلبي رسول الله -عليه السلام- في ذلك حتى دخل جمعًا". قوله: "كنت رِدْف رسول الله -عليه السلام-" بكسر الراء وسكون الدال، وهو المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب، وكذلك الرديف، وهكذا في لفظ أحمد. قوله: "إذا وجد فجوة" وهي ما اتسع من الأرض، وقيل: ما اتسع منها وانخفض، وقال النووي: "رواه بعضهم في "الموطإ" بضم الفاء وفتحها ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 163 رقم 1816). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 201 رقم 21808).

والفجواء بالمد كالفجوة، وفي "المطالع": فجوة أي سعة من الأرض، والفجواء المتسع من الأرض يخرج إليه من ضيق، وقد روى في "الموطإ": فرجة، وهي رواية يحيى وبكير وأبي مصعب، وعند ابن القاسم والقعنبي: فجوة، قلت: وكذا في رواية أحمد: فرجة. قوله: "نصَّ" أي رفع في سيرة وأسرع، والنص منتهى الغاية في كل شيء، قاله في "المطالع" وقال غيره: النص، والنصيص في السير أن تسار الدابة أو البعير سيرًا شديدًا حتى يستخرج أقصى ما عنده، ونص كل شيء منتهاه. قوله: "أعنق" من العنق وهو أدنى المشي وهو أن يرفع الفرس يديه، ليس برفع هملجة ولا هرولة، وفي "التهذيب" للأزهري: العَنَق، والعَنِيق: ضرب من السير، وقد أعنقت الدابة، وقال ابن سيدة: فهي معنق ومعناق وعنيق. وقال صاحب "الكفاية": العَنَق ضرب من سير الإِبل وهو المشي السرع الذي يتحرك فيه عنق البعير فقال: أعنق البعير يُعْنِق إعناقًا وفي "الموعب": العنق سير مسيطر يعني سهل تمد فيه الدابة عنقها للإِستقامة وهو دون الإِسراع، وقال صاحب "المحل": وهو نوع من سير الدواب طويل. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا وهب، أن مالكًا، حدثه عن محمد بن أبي بكر الثقفي: "إنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان إلى عرفة، كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله -عليه السلام-؟، قال: كان يهل المهل منا فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. أخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، والبخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 337 رقم 745). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 597 رقم 1576).

ومسلم (¬1): عن يحيى، عن مالك. والنسائي (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن مالك. قوله: "وهما غاديان" أي ذاهبان إلى عرفة، والجملة حالية. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر، عن أبيه قال: "أدركت أنس بن مالك ونحن غاديان من منى إلى عرفات، فقلت له: كيف كنتم تصنعون في هذه الغداة؟ قال: سأخبرك، كنت في ركب فيهم رسول الله -عليه السلام- فكان يهل المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه، ولست أثبت ما فعل رسول الله -عليه السلام- من ذلك". ش: إسناده صحيح، وأحمد بن صالح أبو جعفر المصري يعرف بابن الطبري، كان أحد الحفاظ المبرزين والأئمة المذكورين، روى عنه البخاري وأبو داود. وابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك -واسمه دينار- أبو إسماعيل المدني، روى له الجماعة. وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الثقفي المدني رجل مشهور بالرواية عن أبيه، وأبو محمد بن أبي بكر الثقفي روى له البخاري ومسلم والنسائي. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الإِهلال يوم عرفة، فقال: كنا نهل ما دون عرفة ونكبر يوم عرفة". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي، وعبد الله بن صالح وراق الليث بن سعد وشيخ البخاري، وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري وثقه أحمد وإن كان غيره تكلم فيه، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 933 رقم 1285). (¬2) "المجتبى" (5/ 250 رقم 3000).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الحاج لا يلبي في عرفة، واختلفوا في قطعه التلبية متى ينبغي أن يكون؟ فقال قوم: حين يتوجه إلى عرفات، وقال قوم: حين يقف بعرفات، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب ومحمد بن أبي بكر الثقفي ومالكًا وأصحابه وأكثر أهل المدينة؛ فإنهم قالوا: الحاج لا يلبي في عرفة، بل يكبر ويهلل، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله ثم اختلفوا متى يقطع التلبية؟ فقال قوم وهم سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأصحابه: يقطعها إذا توجه إلى عرفات، وروي نحو ذلك عن عائشة وعثمان، وروي عنهما خلاف ذلك، وقال قوم: وهم الزهري والسائب بن يزيد وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب في رواية: يقطعها حين يقف بعرفات، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص. قوله: "احتجوا" أي هؤلاء الأقوام كلهم احتجوا في ترك التلبية في عرفات بالأحاديث المذكورة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يلبي الحاج حتى يرمي جمرة العقبة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وطاوسًا وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والحسن ابن حيي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود ابن علي وأبا عُبيد والطبري؛ فإنهم قالوا: يلبي الحاج ولا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وميمونة -رضي الله عنهم-. ثم اختلف بعض هؤلاء، فقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وقال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر: لا يقطعها حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها، قالوا: وهو

ظاهر الحديث: "أن رسول الله -عليه السلام- لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" ولم يقل: حتى رمى بعضها. قلت: روى البيهقي (¬1): من حديث شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عبد الله: "رمقت النبي -عليه السلام- فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة". فإن قيل: أخرج ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2): عن الفضل بن عباس قال: "أفضت مع رسول الله -عليه السلام- من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة". قلت: قال البيهقي: هذه زيادة غريبة ليست في الروايات عن الفضل، وإن كان ابن خزيمة قد اختارها، وقال الذهبي: فيه نكارة. وقوله: "يكبر مع كل حصاة" يدل على أنه قطع التلبية مع أول حصاة، وهذا ظاهر لا يخفى. فإن قيل: هذا حكم الحاج، فما حكم المعتمر؟. قلت: قال قوم: يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم، وقال قوم: لا يقطعها حتى يري بيوت مكة، وقال قوم: حتى يدخل بيوت مكة، وقال أبو حنيفة: لا يقطعها حتى يستلم الحجر، فإذا استلمه قطعها. وقال الليث: إذا بلغ إلى الكعبة قطعها. وقال الشافعي: لا يقطعها حتى يفتتح الطواف. وقال مالك: إن أحرم من الميقات قطعها إذا دخل الحرم، وإن أحرم من الجعرانة أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة، أو إذا دخل المسجد، واستدل أبو حنيفة ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 137 رقم 9385). (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (4/ 282 رقم 2887).

بما رواه وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: "لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الركن". وقال ابن حزم: والذي نقول به فهو قول ابن مسعود، أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة. ص: وقالوا: لا حجة لكم في هذه الآثار التي احتججتم بها علينا؛ لأن المذكور فيها أن بعضهم كان يكبر وبعضهم كان يهل لا يمنع أن يكونوا فعلوا ذلك، ولهم أن يلبوا، فإن الحاج فيما قبل يوم عرفة له أن يكبر وله أن يهل وله أن يلبي، فلم يكن تكبيره وتهليله يمنعانه من التلبية، فكذلك ما ذكرتموه من تهليل رسول الله -عليه السلام- وتكبره يوم عرفة لا يمنع ذلك من التلبية. ش: أي قال هؤلاء الآخرون لأهل المقالة الأولى: لا حجة لكم في الآثار المذكورة، وهي أحاديث ابن عمر وأسامة بن زيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، أراد أن احتجاج هؤلاء بهذه الأحاديث غير تام، لأن المذكور فيها التكبير والتهليل وهو لا يستلزم نفي وجود التلبية، وكذلك ما ذكروا من تهليل رسول الله -عليه السلام- وتكبيره يوم عرفة لا يستلزم نفي تلبيته، وهذا ظاهر. ص: وقد جاءت عن رسول الله -عليه السلام- آثار متواترة بتلبيته بعد عرفة إلى أن رمي جمرة العقبة، فمن ذلك: ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا عباد بن العوام، عن محمد بن إسماعيل، عن أبان بن صالح، عن عكرمة قال: "وقفت مع الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فكان يلبي حتى رمي جمرة العقبة، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: كان أبي يفعل [ذلك] (¬1)، فقال عبد الله بن عباس: صدق، أخبرني الفضل أخي أن رسول الله -عليه السلام- لبي حتى انتهى إليها، وكان رديفه". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل: "أن رسول الله -عليه السلام- لبى حتى رمي جمرة العقبة". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل قال: "كنت ردف النبي -عليه السلام- ... " فذكر مثله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- لبى حتى رمي جمرة العقبة". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: لما بين أن الآثار المذكورة لا تدل على نفي التلبية، أتى بشواهد تدل على صحة ما قاله، فإنه قد جاءت أحاديث متواترة أي متكاثرة متظاهرة الأسانيد بتلبية النبي -عليه السلام- بعد عرفة إلى أن رمي جمرة العقبة، فمنها ما أخرجه عن الفضل بن عباس وأخيه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- من ست طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بسعدون شيخ البخاري وأبو داود، عن عباد بن العوام بن عمر بن عبد الله الواسطي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق بن يسار احتجت به الأربعة واستشهد به البخاري وروى له مسلم مقرونًا بغيره، عن أبان بن صالح بن عمير المدني وثقه يحيى وأبو زرعة والعجلي وروى له الأربعة واستشهد به البخاري، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة.

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث ابن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن عكرمة قال: "أفضت مع الحسين -رضي الله عنه- فما أزال أسمعه يلبي حتى رمي جمرة العقبة، فلما قذفها أمسك، فقلت: ما هذا؟ فقال: رأيت أبي علي بن أبي طالب يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وأخبرني أن رسول الله -عليه السلام- كان يفعل ذلك". انتهى. في هذا الحديث أربعة من الصحابة يخبرون أن رسول الله -عليه السلام- كان يلبي إلى أن ينتهي [من] (¬2) جمرة العقبة وهم: الحسن بن علي وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأخوه الفضل بن عباس -رضي الله عنهم-. الثاني: عن علي بن معبد أيضًا، عن إسحاق بن منصور السلولي الكوفي روى له الجماعة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) بأتم منه: نا حجين بن المثنى وأبو أحمد الزبيري المعني، قالا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس -قال أبو أحمد: حدثني الفضل بن عباس- قال: "كنت ردف النبي -عليه السلام- حين أفاض من المزدلفة، وأعرابي يسايره وردفه ابنة له حسناء، قال الفضل: فجعلت انظر إليها، فتناول رسول الله -عليه السلام- بوجهي يصرفني عنها، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد أحد أصحاب محمد بن الحسن، عن عُبيد الله بن عمرو الرقي الجزري، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 138 رقم 9388). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬3) "مسند أحمد" (1/ 213 رقم 1823).

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: ثنا أحمد بن عبد الله، قال: ثنا زهير، عن عبد الكريم وخصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس -رضي الله عنهم-: "أن النبي لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة". قوله: "كنت ردف رسول الله -عليه السلام-" أي رديفه. الرابع: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الجرار الكوفي، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن حبيب بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- لبى حتى رمى جمرة العقبة". الخامس: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أبو يزيد، نا مؤمل، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- لبى حتى رمى جمرة العقبة". السادس: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن قيس بن سعد المكي، وثقه ابن سعد، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عطاء بن أبي رباح المكي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عفان، نا حماد، نا قيس، عن عطاء، عن ابن عباس عن الفضل بن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- لبى يوم النحر حتى رمي جمرة العقبة". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (6/ 92 رقم 2144). (¬2) "المجتبى" (5/ 268 رقم 3056). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 211 رقم 1806).

ص: حدثنا علي بن شيبة، ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا شريك، عن ثوير، عن أبيه قال: "حججت مع عبد الله، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، قال: ولم يسمع الناس يلبون عشية عرفة فقال: أيها الناس، أنسيتم؟ والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يلبي حتى رمى جمرة العقبة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:"حججت مع عبد الله، فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي، فقال رجل أعرابي [ما] (¬1) هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس، أم ضلوا؟ ثم لبى حتى رمى جمرة العقبة". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حميد الكوفي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحارث بن أبي ذباب، عن مجاهد، عن عبد الله بن سخبرة، قال: "لبى عبد الله وهو متوجه إلى عرفات، فقال أناس: مَنْ هذا الأعرابي؟ فالتفت إليّ عبد الله فقال: ضل الناس أم نسوا؟ والله مازال رسول الله -عليه السلام- يلبي حتى رمى الجمرة، إلاأن يخلط ذلك بتهليل أو بتكبير". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا الدراوردي، عن الحارث ابن أبي ذباب، عن مجاهد المكي، عن عبد الله بن سخبرة قال: "غدوت مع ابن مسعود غداة جمع، وهو يلبي، فقال ابن مسعود: أضل الناس أم نسوا؟! أشهد كنا مع رسول الله -عليه السلام- فلبى حتى رمى جمرة العقبة". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عاصم بن علي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن كثير بن مدرك، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "قال عبد الله بن مسعود ونحن بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يلبي في هذا المكان: لبيك اللهم لبيك". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحسين بن عبد الأول، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان، عن حصين ... ثم ذكر مثله بإسناده. ش: هذه ست طرق: الأول: عن علي بن شيبة، عن عبيد الله بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، قال النسائي: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة سيء الحفظ جدًا. روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات. عن ثوير بن أبي فاختة الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء، وعنه ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: متروك. وقال يونس بن أبي إسحاق: كان رافضيًّا. روى له الترمذي. عن أبيه أبي فاختة واسمه سعيد بن علاقة الهاشمي الكوفي، قال العجلي والدارقطني وابن حبان: ثقة. روى له الترمذي وابن ماجه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن عبد الله قال: "لبى رسول الله -عليه السلام- حتى رمى جمرة العقبة". قوله: "أنسيتم" الهمزة فيه للاستفهام. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة ... إلى آخره، والكل رجال الجماعة ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه مسلم (¬2): نا سريج بن يونس، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين، عن كثير بن مدرك الأشجعي، عن عبد الرحمن بن يزيد: "أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع، فقيل: أأعرابي هذا؟! فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟! سمعت الذي ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 394 رقم 3739). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 932 رقم 1283).

أنزلت عليه سورة البقرة [يقول] (¬1) في هذا المكان لبيك اللهم لبيك". قوله: "إلى جمع" أي إلى مزدلفة. قوله: "أأعرابي" بهمزتين أولاً هما همزة الاستفهام، والثانية من الكلمة، ومعناه الإِنكار على عبد الله بن مسعود بأن هذا الذي فعله من فعل أهل الجهل، وذلك لأن الأعرابي هو الذي يكون في البادية ولا يدري من العلم شيئًا والجهل عليه غالب، فرد عليه عبد الله بن مسعود "أنسي الناس أم ضلوا؟ " فالهمزة فيه للاستفهام، وأراد أن الناس نسوا ما كان من تلبية النبي -عليه السلام- في هذا الموضع أم هم ضلوا؟ يعني أنهم علموا ذلك ولكنهم لم يعملوا به. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن حميد الطريثيثي الكوفي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن الحارث بن أبي ذباب هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعيد -ويقال: المغيرة- بن أبي ذباب الدوسي المدني، قال أبو زرعة: ليس به بأس. روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. عن مجاهد بن جبر المكي، عن عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث صفوان بن عيسى، ثنا الحارث بن عبد الرحمن، عن مجاهد، عن عبد الله بن سخبرة قال: "غدوت مع عبد الله بن مسعود من منى إلى عرفة، وكان رجلاً أدم له ضفيرتان، عليه مسحة أهل البادية، وكان يلبي، فاجتمع عليه الغوغاء، فقالوا: يا أعرابي إن هذا ليس بيوم تلبية إنما هو التكبير. فالتفت إليَّ فقال: جهل الناس أم نسوا؟! والذي بعث محمدًا بالحق، لقد خرجت معه من منى إلى عرفة، فما ترك التلبية حتى رمى الجمرة؛ إلاَّ أن يخلطها بتكبير أو بتهليل". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 138 رقم 9387).

الرابع: عن روح بن الفرج القطان، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني شيخ الجماعة سوى النسائي، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن الحارث بن أبي ذباب ... إلى آخره وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): من حديث مجاهد، عن عبد الله بن سخبرة، عن عبد الله نحوه. الخامس: عن علي بن شيبة، عن عاصم بن علي بن صهيب الواسطي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة، عن كثير بن مدرك الأشجعي الكوفي روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره. وهذا أيضاً إسناد صحيح، وأخرجه مسلم (¬2): حدثني يوسف بن حماد، قال: نا زياد يعني البكائي عن حصين عن كثير بن مدرك الأشجعي، عن عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد، قالا: سمعنا عبد الله بن مسعود يقول بجمع: "سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة ها هنا يقول: لبيك اللهم لبيك، ثم لبى ولبينا معه". قوله: "ونحن نجمع" جملة حالية، أي والحال أنا كنا بمزدلفة. قوله: "سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة" أراد به سيدنا محمد -عليه السلام- وإنما خصص هذه السورة لكونها مشتملة على معظم أحكام الحج، وفيه حجة لمن يجوّز قولك سورة البقرة وسورة آل عمران ونحوهما، وقد اختلف السلف في هذا، فأجازه بعضهم وكرهه بعضهم، وقال: ينبغي أن يقال: السورة التي يذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 258 رقم 13988). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 933 رقم 1283).

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الحسين بن عبد الأول الأحول الكوفي وثقه ابن حبان، عن يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن حصين بن عبد الرحمن الكوفي، عن كثير بن مدرك الأشجعي، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): أنا هشيم، أنا حصين، عن كثير بن مدرك الأشجعي، عن عبد الله بن يزيد: "أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع، فقيل: أعرابي هذا؟! فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟ سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: لبيك اللهم لبيك". ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت يونس، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس قال: "كان أسامة بن زيد ردف رسول الله -عليه السلام- من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل بن عباس من مزدلفة إلى منى، فكلاهما قالا: لم يزل رسول الله -عليه السلام- يلبي حتى رمى جمرة العقبة". ش: إسناده صحيح، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، روى له الجماعة، والزهري هو محمد بن مسلم، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. وأخرجه البخاري (¬2): نا عبد الله بن محمد، نا وهب بن جرير، نا أبي، عن يونس الأيلي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن أسامة بن زيد كان ردف رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 374 رقم 2549). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 559 رقم 1469).

ص: فقد جاءت هذه الآثار [عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) أنه كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وصح مجيئها، ولم يخالفها عندنا ما قدمناه في أول هذا الباب لما قد شرحنا وبينا، وهذا الفضل بن عباس فقد كان رديف رسول الله -عليه السلام- حين دفع من عرفة، وقد رأى رسول الله -عليه السلام- يلبي حينئذ وبعد ذلك، وقد ذكرنا عن أسامة أنه قال: "كنت رديف رسول الله -عليه السلام- بعرفة فلم يكن يزيد على التهليل والتكبر". فدلت تلبيته بعد عرفة أنه كان له أن يلبي أيضًا بعرفة، وأنه إنما كان بتكبيره وبتهليله بعرفة كما كان له قبلها لا أن يجعل مكان التلبية تهليلًا وتكبيرًا، ألا ترى إلى قول عبد الله في حديث مجاهد: "لبى رسول الله -عليه السلام- حتى رمى جمرة العقبة إلا أنه كان ربما خلط ذلك بتكبير وتهليل". فأخبر عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قد كان يخلط التكبر بالتلبية، وكان التهليل والتكبر لا يدلان على أن لا تلبية في وقتهما، والتلبية في ذلك الوقت تدل على أن ذلك الوقت كان وقت تلبية. فثبت بتصحيح هذه الآثار أن وقت التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر. ش: أي قد جاءت هذه الأحاديث عن حسين بن علي وأبيه علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأخيه الفضل بن عباس وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- أنه -عليه السلام- كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة. قوله: "وصح مجيئها" إشارة إلى صحة هذه الآثار لأنه أخرجها بأسانيد رجالها ثقات. قوله: "ولم يخالفها عندنا ما قدمناه" إشارة إلى نفي المعارضة بين أحاديث هؤلاء وأحاديث عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله؛ لأنا قد ذكرنا أن أحاديث عبد الله بن عمر ومن معه لا تستلزم نفي التلبية، فإذن لا معارضة بين الأحاديث كلها، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك،" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- خلاف ما صححتم عليه هذه الآثار، وذكر ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا موسى بن يعقوب، عن مصعب بن ثابت، عن عمه عامر بن [عبد] (¬1) الله بن الزبير، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- كان يهلل يوم عرفة حتى يروح". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها كانت تترك التلبية إذا راحت إلى الموقف". ش: اعترض هذا القائل على أهل المقالة الثانية بأثرين: أحدهما: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن موسى بن يعقوب بن عبد الله الزمعي المدني وثقه يحيى وضعفه ابن المديني وعن أبي داود: صالح. روى له الأربعة. عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط. عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام روى له الجماعة. والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). قوله: "كان يهل يوم عرفة حتى يروح" أراد أنه كان يهل بالتلبية إلى أن يروح إلى الموقف، ويقال: حتى يروح إلى المصلى ليجمع بين الظهر والعصر، ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عبيد" وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "موطأ مالك" (1/ 338 رقم 747).

ففي هذا اختلف قول مالك فيما يستحب من ذلك، فروى عنه ابن المواز: يقطع التلبية إذا زاغت الشمس، وروى عنه ابن القاسم: إذا راح إلى المصلى، وروى عنه أشهب: إذا راح إلى الموقف، واختاره سحنون. وروى ابن المواز عن مالك: يقطع التلبية إذا وقف بعرفة. ص: فمن الحجة عليهم لأهل المقالة الأخرى، أن القاسم لم يخبر في حديثه الذي رويناه عنه عن عائشة أنها قالت: إن التلبية تنقطع قبل الوقوف بعرفة، وإنما أخبر عن فعلها، فقال: كانت تترك التلبية إذا راحت إلى الموقف، فقد يجوز أن تكون كانت تفعل ذلك لا على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنها تأخذ فيما سواها من الذكر من التهليل والتكبر، كما لها أن تفعل ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، ولا يكون ذلك دليلًا على انقطاع التلبية وخروج وقتها، وكذلك ما رواه عبد الله بن الزبير عن عمر -رضي الله عنهم- في ذلك أيضًا وهو مثل هذا. ش: أي فمن الحجة على أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب على الأثرين المذكورين حاصله: أنه ليس فيما روى عن عائشة ما يدل على انقطاع وقت التلبية قبل الوقوف بعرفة، وإنما فيه أنها كانت تقولها إذا راحت إلى الموقف، فيحتمل أن يكون ذلك لأجل شروعها في غيرها من الأذكار، كما كان لها أن تفعل ذلك قبل يوم عرفة، فإذن لا يرد به السؤال المذكور، وكذلك التخريج فيما رواه ابن الزبير عن عمر -رضي الله عنه-. ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: "حججت مع الأسود، فلما كان يوم عرفة، وخطب ابن الزبير بعرفة، فلما لم يسمعه يلبي صعد إليه الأسود، فقال: ما يمنعك أن تلبي؟ فقال: أو يلبي الرجل إذا كان في مثل مقامي؟! قال الأسود: نعم سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلبي، وهو في مثل مقامك هذا، ثم لم يزل يلبي حتى صدر بعيره عن الموقف، قال: فلبى ابن الزبير".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن صخر بن جويرية، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: "سمعت ابن الزبير يخطب يوم عرفة فقال: إن هذا يوم تسبيح وتكبير فسبحوا وكبروا، فجاء أبي -يعني الأسود- يحرش الناس حتى صعد إليه وهو على المنبر، فقال: أشهد على عمر -رضي الله عنه- أنه لبى على هذا المنبر في هذا اليوم، فقال ابن الزبير: لبيك اللهم لبيك". أفلا ترى أن الأسود لما أخبر ابن الزبير بتلبية عمر -رضي الله عنه- في مثل يومه ذلك قبل ذلك منه وأخذ به فلبى ولم يقل له ابن الزبير: إني رأيت عمر -رضي الله عنه- لا يلبي في هذا اليوم، على ما قد رواه عامر بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، ولكن ابن الزبير إنما حضر من عمر ترك التلبية يومئذ ولم يخبره عمر أن ذلك الترك إنما كان منه لخروج وقت التلبية، فكان ذلك عند ابن الزبير لخروج وقت التلبية، فلما أخبره الأسود أنه لبى يومئذ علم ابن الزبير أن ذلك الوقت الذي لم يكن عمر -رضي الله عنه- لبى فيه وقت للتلبية، وأن ذلك الترك الذي كان من عمر إنما كان لغير خروج وقت التلبية، فتوهم ابن الزبير هو أنه لخروج وقت التلبية وليس كذلك، ورأى ما أخبره به الأسود عن عمر -رضي الله عنه- من تلبيته أولى مما رآه هو منه في ترك التلبية. ش: ذكر هذين الأثرين شاهدًا لما ذكره من التأويل في الأثر الذي رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عمر -رضي الله عنه-. وأخرجهما من طريقين صحيحين، رجالهما ثقات قد ذكروا غير مرة. وأخرج ابن حزم (¬1): من طريق سفيان بن عيينة أنه سمع سعد بن إبراهيم يحدث، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد: "أن أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة، فقال له: ما يمنعك أن تهل، فقد رأيت عمر في مكانك هذا يُهل؟ فأهل ابن الزبير". ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 136).

وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه. قوله: "يحرش الناس" (¬2). قوله: "أفلا ترى" إلى آخره توضيح لما ذكره من التأويل، وهو ظاهر، ومما يؤيد كلام الأسود ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: "حججت مع عمر -رضي الله عنه- سنتين، إحداهما التي أصيب فيها، كل ذلك يلبي حتى يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي". وأخرج أيضًا (¬4) عن عباد بن العوام، عن هلال بن [خباب] (¬5)، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن عمر -رضي الله عنهم- لبى حتى جمرة العقبة، وأن ابن عباس كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وقال: إنما يفتتح الحل الآن". ص: حدثنا علي بن شبية، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن وبرة قال: "صعد الأسود بن يزيد إلى ابن الزبير، وهو على المنبر يوم عرفة فسارَّه بشيء ثم نزل، فلما نزل الأسود لبى ابن الزبير، فظن الناس أن الأسود أمره بذلك". ش: إسناده صحيح، وإسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة والثوري روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 113 رقم 9228). (¬2) بَيَّض له المصنف ولم يذكر معناه، وقال الجوهري: التحريش: الإِغراء بين القوم، وكذلك بين الكلاب، وفي "لسان العرب" (حرش): التحريش بين البهائم هو الإِغراء وتهييج بعضها على بعض. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 258 رقم 13991). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 258 رقم 13992). (¬5) في "الأصل، ك": "حبان" وهو تحريف، والمثبت من "المصنف".

ووبرة -بفتح الواو وسكون الباء الموحدة وفتح الراء- بن عبد الرحمن المسلي، من بني مسلمة بن عامر، قال يحيى والأوزاعي وابن حبان: ثقة. روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلبي غداة المزدلفة". ش: إسناده صحيح، وحجاج هو ابن المنهال شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وعطاء هو ابن أبي رباح، وهؤلاء رجال الصحيح. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن قيس ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "كنت مع عبد الله بعرفة، فلبى عبد الله [فلم يزل يُلبي] (¬2) حتى رمي جمرة العقبة، فقال رجل: من هذا الدي يلبي في هذا الموضع؟ قال: وقال عبد الله في تلبيته شيئًا آخر ما سمعته من أحد: لبيك عدد التراب". ش: إسناده صحيح، ووهب هو ابن جرير بن حازم، وأبو إسحاق هو عمرو ابن عبد الله السبيعي. وأخرجه ابن أبي شبية في "مصنفه" (¬3): نا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: " [كنت] (¬4) مع ابن مسعود بعرفة فلبى، فقال رجل: من هذا الملبي في هذا اليوم؟ فالتفت إليه ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال: لبيك عدد التراب لبيك". ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 136). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 375 رقم 15072). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، نا أبو نعيم، ثنا مسعر، عن عاصم، عن شقيق بن سلمة قال: "لبى ابن مسعود حتى رمي الجمرة". ص: ففي هذه الآثار أن عمر -رضي الله عنه- كان يلبي بعرفة وهو على المنبر، وأن عبد الله بن الزبير فعل ذلك من بعده لما أخبره الأسود عن عمر، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الآفاق، فدلك إجماع وحجة، وهذا عبد الله بن مسعود قد فعل ذلك، فثبت بفعل من ذكرنا لموافقتهم رسول الله -عليه السلام- في فعله ذلك أن التلبية في الحج لا تنقطع حتى يرمي جمرة العقبة، وهو قول أبي حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: حاصل ذلك: أن الإِجماع من الصحابة والتابعين قد وقع على أن التلبية لا تنقطع إلا مع رمي جمرة العقبة، إما مع أول حصاة أو بعد تمامها على الاختلاف الذي ذكرناه، ودليل الإِجماع: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبى بعرفة وهو على المنبر بحضور ملإٍ من الصحابة وغيرهم فلم ينكر عليه أحد منهم بذلك، وكذلك عبد الله بن الزبير لبى على المنبر بعرفة بعد أن أخبره الأسود بن يزيد، ولم ينكر عليه أحد ممن كانوا هناك من أهل الآفاق من الشام والعراق واليمن ومصر وغيرها، فصار ذلك إجماعًا لا يخالف فيه، والله تعالى أعلم. ... ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (9/ 245 رقم 9205).

ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم؟

ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم؟ ش: أي هذا باب في بيان أن اللبس واستعمال الطيب متى يحلان للمحرم؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة، عن جُدَامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب: "أن عكاشة بن وهب صاحب النبي -عليه السلام- وأخا له آخر جاءاها حين غابت الشمس يوم النحر، فألقيا قميصهما فقالت: مالكما؟ فقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يكن أفاض منها فليلق ثيابه، وكانوا تطيبوا ولبسوا الثياب". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم بن أبي داود سليمان البرلسي، وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري، وعبد الله بن لهيعة تكلموا فيه ولكن أحمد وثقه، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود المدني يتيم عروة، روى له الجماعة يروي عن عروة بن الزبير بن العوام، وجُدَامة -بضم الجيم وفتح الدال المهملة- بنت وهب الأسدية الصحابية، هكذا ضبطه يحيى بن يحيى، وكذا قال مالك، وقال سعيد بن أبي أيوب ويحيى بن أيوب: بالذال المعجمة، وفي "التكميل": قال الدارقطني: بالدال المهملة، من أعجمها فقد صحف، و (جُدَامة) (¬1) في اللغة: ما لم يندق من السنبل، قاله أبو حاتم، وقال غيره: إذا ذُرِّي البُرُّ في الريح فما بقي من البُرِّ في الغربال من قصبه فهو الجُدَامة، وقال أبو عمر بن عبد البر: جُدَامة هذه أم قيس بنت وهب بن محصن أخت عكاشة بن محصن الأسدي، وقال القاضي عياض: جاء في حديث سعيد: عن جُدامة بنت وهب أخت عكاشة، قال بعضهم لعلها بنت أخي عكاشة على قول من قال: إنها جُدامة بنت وهب بن محصن. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب" (مادة: جَدَمَ): الجَدَمَة؛ وفيه: والجَدَمَةُ: ما لم يندق من السنبل وبقي أنصافًا.

قلت: في رواية الطحاوي كما تراها: جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب، فدل أن عكاشة من الصحابة اثنان: أحدهما عكاشة بن محصن، والآخر عكاشة بن وهب أخو جدامة بنت وهب، وقال القاضي: عكاشة بن وهب أخو جدامة آخر، يعني غير عكاشة بن محصن. وفي "التكميل": جدامة بنت وهب الأسدية، ويقال: بنت جندب، ويقال: بنت جندل، لها صحبة، أسلمت بمكة وبايعت وهاجرت مع قومها إلى المدينة. وقال الطبري: جدامة بنت جندل هاجرت، وقال: المحدثون قالوا فيها: جدامة بنت وهب، وفي "الكمال": جدامة بنت وهب الأسدية أخت عكاشة بن محصن لأمه. قوله: "وأخًا له آخر" لم أقف على اسمه. قوله: "فألقيا قميصهما" أي نزعاه من جسمهما. "فقالت جدامة: ما لكما ألقيتما قميصكما فقالا: إن رسول الله -عليه السلام- قال: من لم يكن أفاض منها" أي من الكعبة، معناه من لم يطف طواف الزيارة وهي التي تسمى طواف الإِفاضة أيضًا. "فليلق ثيابه" يعني لا يحل من إحرامه ولا يحل له اللبس ولا الطيب حتى يطوف طواف الزيارة، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا يحيى بن عثمان قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أم قيس بنت محصن: "قالت: دخل علي عكاشة بن محصن وآخر في منى مساء يوم الأضحى، فنزعا ثيابهما وتركا الطيب، فقلت: ما لكما؟ فقالا: إن رسول الله -عليه السلام- قال لنا: من لم يفض إلى البيت من عشية هذه فليدع الثياب والطيب". ش: هذا من وجه آخر، ويحيى بن عثمان بن صالح السهمي أبو زكرياء المصري شيخ ابن ماجه والطبراني، قال ابن يونس: كان حافظًا.

وعبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري. وأم القيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن، لها صحبة، أسلمت قديمًا بمكة وهاجرت إلى المدينة، وقد قلنا إن [أبا] (¬1) عمر بن عبد البر قال: جدامة هي أم القيس بنت وهب بن محصن. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، حدثتني أم قيس بنت محصن وكانت جارة لهم قالت: "خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصًا عشية يوم النحر، ثم رجعوا إليّ عشيًا، وقمصهم على أيديهم يحملونها، قالت: فقلت: أي عكاشة، مالكم خرجتم متقمصين ورجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: خير يا أم قيس، كان هذا يومًا رخص رسول الله -عليه السلام- لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة حللنا من كل ما حرمنا منه إلاَّ ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف جعلنا قمصنا على أيدينا". وأخرج أبو داود في "سننه" (¬3): ثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين -المعنى واحد- قالا: نا ابن [أبي] (¬4) عديّ عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عُبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، يحدثان جميعًا ذلك عنها قالت: "كان ليلتي التي يصير إليَّ فيها النبي -عليه السلام- مساء يوم النحر، فصار إليَّ، فدخل عليَّ وهب بن زمعة ودخل معه رجل من آل أبي أُميَّة متقمصين، فقال رسول الله -عليه السلام- لوهب: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: انزع عنك القميص، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 137 رقم 9383). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 207 رقم 1999). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا يعني من كل شيء إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرمًا كهيتئكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: لا يحل اللباس والطيب لأحد حتى يحل له النساء، وذلك حين يطوف طواف الزيارة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عروة بن الزبير وطائفة من السلف؛ فإنهم قالوا: لا يحل اللباس والطيب للحاج يوم النحر وإن رمى وحلق وذبح حتى يحل له النساء، والنساء لا تحل له إلاَّ بطواف الزيارة، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور، وفي بعض شروح البخاري: عن عروة لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب -يعني يوم النحر- إلاَّ بعد طواف الزيارة، وقال البيهقي: لا نعلم أحدًا من الفقهاء قال بهذا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا رمى وحلق حل له اللباس، واختلفوا في الطيب، فقال بعضهم: حكمه حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس، وقال آخرون: حكمه حكم الجماع فلا يحل حتى يحل الجماع. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: علقمة وسالمًا وطاوسًا وعُبيد الله بن الحسن وخارجة بن زيد وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد -في الصحيح- وأبا ثور وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق؛ حل له كل شيء كان محظورًا بالإِحرام إلاَّ النساء. قوله: "واختلفوا" أي الفقهاء "في حكم الطيب فقال بعضهم" أبو حنيفة وأصحابة والشافعي وأصحابه، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس. وقال آخرون: وهم مالك والحسن البصري وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم الجماع فلا يحل له حتى يحل الجماع.

وفي شرح "الموطأ": في هذه المسألة أربعة أقوال: أحدها: قول عمر، وهو ما رواه مالك في "موطإه" (¬1): عن نافع وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج، وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى جمرة العقبة فقد حلّ له ما حرم على الحاج إلاَّ النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت. والثاني: إلاَّ النساء والطيب والصيد، وهو قول مالك. والثالث: النساء والصيد، وهو قول عطاء وطائفة. والرابع: إلاَّ النساء، وهو قول الشافعي، وقول عائشة وابن عباس وابن الزبير وطاوس وعلقمة. واختلف قول مالك فيمن تطيب بعد رمي الجمرة قبل الإِفاضة، فقال: عليه الفدية، وقال: لا شيء عليه. وقال ابن قدامة في "المغني": إذا رمى المحرم جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورًا بالإِحرام إلاَّ النساء من الوطء والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح، هذا هو الصحيح من مذهب أحمد، وعن أحمد: أنه يحل له كل شيء إلاَّ الوطء في الفرج. وقال الكاساني في "البدائع": وأما حكم الحلق فحصول التحلل وهو صيرورته حلالًا يباح له جميع ما حظر عليه الإِحرام إلاَّ النساء، وهذا قول أصحابنا، وقال مالك: إلاَّ النساء والطيب. وقال الليث: إلاَّ النساء والصيد، وقال الشافعي: يحل له بالحلق الوطئ فيما دون الفرج والمباشرة. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 410 رقم 922).

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا الحجاج بن أرطأة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: "قال رسول الله -عليه السلام-: إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلَّا النساء". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الحجاج بن أرطاة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي [أن] (¬1) القاسم بن محمد حدثه، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت". قال أسامة: وحدثني أبو بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله (¬2). حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، قال: حدثني القاسم، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) زاد في "شرح معاني الآثار" حديثًا آخر ولم يتعرض له المؤلف هنا بالشرح، وهو: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: [عن] (¬1) عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه من ثمانية طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، والكل قد ذكروا غير مرة، والحجاج ابن أرطاة وإن تكلم فيه فقد احتجت به الأربعة، وعمرة هي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية روى لها الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من طريق الحجاج بن أرطاة، عن أبي بكر بن محمد ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. فإن قيل: قال أبو حاتم: لم يسمع الحجاج بن أرطاة الزهري. قلت: قال غيره: إنه سمعه، وقول المثبت مقدم. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬3): نا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، نا عبد الرحمن بن القاسم -وكان أفضل أهل زمانه- أنه سمع أباه -وكان أفضل أهل زمانه- ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ثنا عن"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 136 رقم 9379). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 624 رقم 1667).

يقول: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "طيبت رسول الله -رضي الله عنه- بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها". وأخرج الطحاوي هذا الطريق بعينه في باب: التطيب عند الإِحرام، ولكن اقتصر هناك على حكم الطيب عند الإِحرام. الرابع: عن يونس أيضًا، وأخرجه أيضًا بعينه في ذاك الباب. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أنها قالت كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". الخامس: أيضًا بعينه أخرجه في ذاك الباب، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد بن نافع الأنصاري المدني ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (1) أيضًا، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت". السادس: أيضًا بعينه أخرجه في ذاك الباب، عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن عُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (1) أيضًا: ثنا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، قال: سمعت القاسم، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحله ولحرمه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 846 رقم 1189).

السابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر المذكور، عن القاسم، عن عائشة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى، ثنا عُبيد الله، قال: سمعت القاسم يقول: قالت عائشة: "طيبت رسول الله -عليه السلام- لحله وحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يفيض أو يطوف بالبيت". الثامن: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. ص: فهذه عائشة -رضي الله عنها- تخبر عن رسول الله -عليه السلام- في التطيب بعد الرمي والحلق قبل طواف الزيارة ما قد ذكرنا، فقد عارض [ذلك] (¬2) حديث ابن لهيعة الذي بدأنا بذكره في هذا الباب، فهذه أولى لأن معها (مع التواتر صحة المجيء) (¬3) ما ليس مع غيرها مثله. ش: أراد بقوله: "فقد عارض" معناه اللغوي، يعني رد حديث عائشة حديث عبد الله بن لهيعة المصري المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وإنما قلنا هكذا لأن من شرط المعارضة المصطلح عليها المساواة، وليس بين حديث عائشة وحديث عبد الله بن لهيعة مساواة، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لأن معها مع التواتر صحة المجيء" أي لأن مع أحاديث عائشة مع تكاثر الروايات فيها وتظاهرها صحة أسانيدها وحسن طرقها كما قد مرَّ مستقصى، ولا يشك أن حديث ابن لهيعة ضعيف وشاذ. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 192 رقم 25643). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وعليه شرح المؤلف، وفي "شرح معاني الآثار": "من التواتر وصحة المجيء".

ص: ثم قد روي أيضًا عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك، غير أنه زاد عليه معنى آخر. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلاَّ النساء، فقال له رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يضمخ رأسه بالسُّك، أفطيب هو؟ ". ففي هذا الحديث من قول ابن عباس ما قد ذكرنا من إباحة كل شيء إلاَّ النساء إذا رميت الجمرة ولا يذكر في ذلك الحلق، وفيه أنه رأى النبي -عليه السلام- يضمخ رأسه بالسُّك، ولم يخبر بالوقت الذي فعل فيه رسول الله -عليه السلام- ذلك، وقد يجوز أن يكون ذلك من رسول الله -عليه السلام- قبل الحلق، ويجوز أن يكون بعده، إلاَّ أن أولى الأشياء بنا: أن نحمل ذلك على ما يوافق ما قد ذكرناه عن عائشة لا على ما يخالف ذلك، فيكون ما رأى رسول الله -عليه السلام- يفعله من ذلك كان بعد رميه الجمرة وحلقه على ما في حديث عائشة، ثم قال ابن عباس -بعد برأيه-: إذا رمى فحل له برميه أن يحلق؛ حل له أن يلبس ويتطيب. ش: أي ثم قد روي عن عبد الله بن عباس، عن النبي -عليه السلام-، مثل ما روي عن عائشة؛ من حل كل شيء بعد الرمي إلاَّ النساء، وأراد بقوله: "غير أنه زاد عليه معنى آخر" هو قوله: "أما أنا فقد رأيت ... إلى آخره" أي غير أن ابن عباس زاد على ما روي عن عائشة معنى آخر، وفي حديثه شيئان: أحدهما: إباحة كل شيء إلاَّ النساء بعد رمي جمرة العقبة، ولكن لم يذكر في ذلك الحلق. والآخر: أنه رأى النبي -عليه السلام- يضمخ رأسه بالسُّك ولكن لم يخبر في حديثه بالوقت الذي فعل فيه ذلك، فيحتمل أن يكون ذلك قبل الحلق، وأن يكون بعده، ولكن

الأولى أن يحمل ذلك على ما يوافق ما رُوي عن عائشة دفعًا للتعارض والمخالفة، فيحمل ذلك على أنه كان بعد رميه الجمرة وحلقه؛ على ما هو مصرح كذلك في حديث عائشة حيث قال: قالت: قال رسول الله -عليه السلام- (¬1): "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلاَّ النساء". ثم أنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين رجالهما ثقات ولكن فيه انقطاع على ما قال يحيى بن معين: إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. قلت: لم يجزم يحيى بهذا، وإنما قال: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس. وغيره قال: روى عن ابن عباس، والمثبت أولى على ما عرف. الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن علي، ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلاَّ النساء، قيل: والطيب؟ قال: فأما أنا فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يتضمخ بالمسك، أو طيب هو؟! ". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: نا وكيع، ونا أبو بكر بن خلاد الباهلي، ثنا يحيى بن سعيد ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي، قالوا: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، فقال له رجل: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 136 رقم 9379). (¬2) "المجتبى" (5/ 277 رقم 3084). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1011 رقم 3041).

يا ابن عباس، والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟! قوله: "يضمخ" من التضميخ بالخاء المعجمة وهو التلطخ بالطيب وغيره والإِكثار منه. قوله: "بالسُّكِّ" بضم السين وتشديد الكاف وهو طيب معروف يضاف إلى غيره ويستعمل، وفي "المطالع": "السك" طيب مصنوع من أخلاط قد جمعت وهكذا وقع في رواية البيهقي: "السك"، وفي رواية النسائي وابن ماجه: "المسك" بالميم على ما ذكرنا. قوله: "أفطيب هو" بالفاء في رواية الطحاوي، وكذا في رواية ابن ماجه، وفي رواية النسائي بالواو "أو طيب هو" وهو استفهام على سبيل التقرير، والمعنى: أو ليس هو بطيب؟ ومن فوائد هذا الحديث: إباحة استعمال المسك للرجال وكذا في الأكل. ص: وهذا موضع يحتمل النظر، وذلك أن الإِحرام يمنع من حلق الرأس، واللباس والطيب؛ فيحتمل أن يكون حلق الرأس إذا حل حلت هذه الأشياء، واحتمل أن لا تحل حتى يكون الحلق، فاعتبرنا ذلك فرأينا المعتمر يحرم عليه بإحرامه في عمرته ما يحرم عليه بإحرامه في حجته، ثم رأيناه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل له أن يحلق ولا يحل له النساء ولا الطيب ولا اللباس حتى يحلق، فلما كانت حرمة العمرة قائمة وإن حل له قبل أن يحلق حتى يحل من مدخل ولا يكون إذا حل له أن يحلق في حكم من قد حَلَّ له ما سوى ذلك من اللباس والطيب كان كذلك في الحجة، لا يجب لما حل له الحلق فيها أن يحل له كل شيء مما سواه مما كان حرم عليه بها حتى يحلق قياسًا ونظرًا على ما أجمعوا عليه في العمرة.

ش: أي هذا المذكور في الحكم وهو حل اللباس والطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق موضع يحتمل النظر والقياس، ثم بين ذلك بقوله: "وذلك ... إلى آخره" وهو ظاهر قوله: "حتى يكون الحلق" أي حتى يوجد، و"كان" هذه تامة. قوله: "ثم رأيناه" أي المعتمر. قوله: "وإن حل له أن يحلق" كلمة "أن" واصلة بما قبلها. ص: ثم رجعنا إلى النظر بين هذين الفريقين وبين أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى حديث عكاشة -رضي الله عنه- فرأينا الرجل قبل أن يحرم حل له النساء والطيب واللباس والصيد والحلق وسائر الأشياء التي تحرم عليه بالإِحرام، فإذا أحرم حرم عليه ذلك كله بسبب واحد وهو الإِحرام؛ فاحتمل أن يكون كما حرمت عليه بسبب واحد أن يحل منها أيضًا بسبب واحد، واحتمل أن يحل منها بأشياء مختلفة إحلالًا بعد إحلال؛ فاعتبرنا ذلك، فرأيناهم قد أجمعوا أنه إذا رمى فقد حل له الحلق، هذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وأجمعوا أن الجماع حرام عليه على حاله الأولى؛ فثبت أنه حل مما قد كان حرم عليه بسبب واحد بأسباب مختلفة؛ فبطلت بهذا العلة التي ذكرنا، فلما ثبت أن الحلق يحل له إذا رمى، وأنه مباح له بعد حلق رأسه أن يحلق ما يشاء من شعر بدنه ويقص أظفاره؛ أردنا أن ننظر حكم اللباس حكم ذلك أو حكمه حكم الجماع ولا يحل حتى يحل الجماع؟ فاعتبرنا ذلك فرأينا المحرم بالحج إذا جامع قبل أن يقف بعرفة فسد حجة، ورأيناه إذا حلق شعره أو قص أظفاره وجبت عليه في ذلك فدية ولم يفسد بذلك حجه، ورأيناه لو لبس ثيابًا قبل وقوفه بعرفة لم يفسد عليه ذلك إحرامه ووجبت عليه في ذلك فدية؛ فكان حكم اللباس قبل عرفة مثل حكم قص الشعر والأظفار، لا مثل حكم الجماع، فالنظر على ذلك أن يكون حكمه أيضًا بعد الرمي والحلق كحكمهما لا [كحكم] (¬1) الجماع، فهذا هو النظر في ذلك. ¬

_ (¬1) فى "الأصل، ك": "حكم"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي ثم رجعنا إلى بيان وجه النظر والقياس بين هذين الفريقين، وهما الفريقان اللذان افترقا من أهل المقالة الثانية على فرقتين: فرقة قالوا: حكم الطيب للمحرم إذا رمى جمرة العقبة وحلق؛ حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس. وفرقة قالوا: حكمه حكم الجماع لا يحل حتى يحل الجماع، وذلك بعد طواف الزيارة، وأراد أهل المقالة الأولى الذين قالوا: لا يحل اللباس والطيب حتى تحل له النساء، وباقي الكلام ظاهر. قوله: "بسبب واحد بأسباب مختلفة" الباء في قوله: "بسبب واحد" تتعلق بقوله: "قد كان حرم عليه" والباء التي في قوله: "بأسباب" تتعلق بقوله: "حل" في قوله: "فثبت أنه حل". قوله: "فالنظر على ذلك ... إلى آخره" نتيجة ما ذكره من المقدمات. ص: فإن قال قائل: فقد رأينا القبلة حرامًا على المحرم بعد أن يحلق، وهي قبل الوقوف بعرفة في حكم اللباس لا في حكم الجماع، فلم لا كان اللباس بعد الحلق أيضًا كهي؟ قيل له: إن اللباس بالحلق أشبه منه بالقبلة؛ لأن القبلة هي بعض أسباب الجماع، وحكمها حكمه، تحل حيث يحل وتحرم حيث يحرم، في النظر في الأشياء كلها، والحلق واللباس ليسا من أسباب الجماع إنما هما من أسباب إصلاح البدن، فحكم كل واحد منهما بحكم صاحبه أشبه من حكمه بالقبلة. فقد ثبت بما ذكرنا أنه لا بأس باللباس بعد الرمي والحلق. ش: تقدير السؤال أن يقال: لم جعلتم حكم اللباس بعد الرمي والحلق كحكم قص الشعر وقلم الأظفار قياسًا على ما كان من حكمهما مثل حكمه قبل الوقوف بعرفة، فلم لم تجعلوا حكمه بعد الرمي والحلق كحكم القبلة في كونها حرامًا بعد الحلق أيضًا قياسًا على ما كان من حكمهما مثل حكمه قبل الوقوف بعرفة؟

وتقرير الجواب أن يقال: إن قياس اللباس على الحلق أشبه من القياس على القبلة؛ لأن القبلة من بعض أسباب الجماع ومقدماته وحكمها حكمه -أي حكم القبلة حكم الجماع- تحل -أي القبلة- حيث يحل -أي الجماع- وتحرم -أي القبلة- حيث يحرم -أي الجماع- والحلق واللباس ليسا من مقدمات الجماع ولا من دواعيه، وإنما هما من أسباب إصلاح البدن لإِزالة الشعث والدرن ودفع الحر والبرد، فقياس كل واحد منهما على صاحبه لقرب الشبه بينهما أول من القياس على القبلة التي ليس بينها وبين اللباس شبه ما، والله أعلم. ص: وقد قال ذلك أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إذا حلقتم ورميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر -رضي الله عنه- خطب الناس بعرفة ... " فذكر مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج وموسى، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يأخذ من (أطرافه) (¬1) وشاربه ولحيته يعني قبل أن يزور". ش: أي وقد قال ما ذكرنا -أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة وحلق؛ حل له اللباس- جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- منهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وفي "شرح معاني الآثار": "أظفاره".

وأخرج عنه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار المكي، عن طاوس اليماني، عن عبد الله بن عمر، أن عمر -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر يقول: "إذا رميتم وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلاَّ النساء والطيب". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني قارئ أهل المدينة، عن عبد لله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن عمر مثله. وأخرجه ابن أي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن نافع، عن ابن عمر وعمر أنهما قالا: "إذا نحر الرجل وحلق؛ حل له كل شيء إلا النساء والطيب". الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر خطب الناس بعرفة ... ". وأخرجه مالك في"موطإه" (¬3): عن نافع وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن عمر خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم إلى منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحدٌ نساءً ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 135 رقم 9373) بنحوه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 239 رقم 13810). (¬3) "موطأ مالك" (1/ 410 رقم 922).

أما الأثر الذي أخرجه عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن جريج وموسى بن عقبة المدني، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهم- فإنه يدل أيضاً على إباحة اللباس بعد الرمي والحلق؛ لأن قص الأظفار والشارب والأخذ من اللحية كلها لا تكون إلاَّ من اللابس عادة. قوله: "قبل أن يزور" أي بالبيت، وأراد به طواف الزيارة. ص: فهذا عمر -رضي الله عنه- قد أباح لهم إذا رموا وحلقوا كل شيء إلاَّ النساء والطيب، وقد خالفته عائشة وابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم- في الطيب خاصة، فأمَّا عائشة وابن عباس فقد روينا ذلك عنها فيما تقدم من هذا الباب، وأما ابن الزبير: فحدثنا ابن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول: "إذا رمى الجمرة الكبرى فقد حل له ما حرم عليه إلاَّ النساء حتى يطوف بالبيت". ش: أي هذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد أباح للمحرمين إذا رموا جمرة العقبة وحلقوا رؤوسهم كل شيء إلا النساء والطيب، وثبت بهذا جواز اللباس بعد الرمي والحلق، وبقي الكلام في الطيب؛ فإن عمر -رضي الله عنه- استثنى الطيب كما استثنى النساء، فعلم أن مذهبه في الطيب؛ أن لا يباح إلاَّ بعد طواف الزيارة، ولكن خالفته ثلاثة من الصحابة، وهم: عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن الزبير -رضي الله عنهم- في الطيب؛ فإنهم قالوا بإباحة الطيب أيضًا بعد الرمي والحلق، وقد تقدم فيما مضى ما روي فيه عن عائشة وابن عباس. وأما ما روي عن ابن الزبير فأخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ... إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن الزبير قال: "إذا رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء". ص: وقد روي عن ابن عمر ما يدل على هذا أيضًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال عمر -رضي الله عنه- فذكر مثل الذي رويناه عنه في الفصل الذي قبل هذا. قال: فقالت عائشة: "كنت أطيب رسول الله -عليه السلام- إذا رمى جمرة العقبة قبل أن يفيض. فسنة رسول الله -عليه السلام- أحق أن يؤخد بها من سنة عمر -رضي الله عنه-". ش: أي قد رُوي عن ابن عمر ما يدل على أنه قد خالف أباه عمر -رضي الله عنه- فيما ذهب إليه كما خالفه هؤلاء الثلاثة من الصحابة -رضي الله عنهم- وذلك فيما أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق، وقد ذكره -يعني هذا الإِسناد- عن قريب عند قوله: "وقد قال ذلك أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده". قوله: "قال فقالت عائشة ... إلى آخره" أي فقال عبد الله بن عمر قالت عائشة: ... إلى آخره، وقد [مرَّ] (¬2) ما رُوي عن عائشة في هذا الباب. قوله: "فسنة رسول الله -عليه السلام-[أحق] (¬3) أن يؤخذ بها من سنة عمر -رضي الله عنه-" صريح على أنه قد خالف أباه عمر في حكم الطيب، وذهب في ذلك إلى ما ذهب إليه هؤلاء الثلاثة من الصحابة -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 239 رقم 13815). (¬2) في "الأصل، ك": "مار"، وهو تحريف، وما أثبتناه هو الصواب. (¬3) ليست في "الأصل، ك".

وأخرج البيهقي (¬1): من حديث ابن عُيينة، عن عمرو، عن سالم قال: قالت عائشة: "أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- لحله وإحرامه. قال سالم: وسنة رسول الله -عليه السلام- أحق أن تتبع". ص: والنظر بعد ذلك في هذا يدل على ذلك أيضًا؛ لأن حكم الطيب بحكم اللباس أشبه من حكمه بحكم الجماع لما قد فسرنا مما قد تقدم في هذا الباب، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي والقياس بعد ورود الأحاديث في إباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق يدل على ما ذكر من إباحته أيضًا، ووجهه: أن حكم الطيب بحكم اللباس أشبه؛ لأن كلًّا منهما مما يُزَيَّن به، بخلاف الجماع فلا يلحق به، والله أعلم. ص: وقد رُوي ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن أبي بكر بن حزم قال: "دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر؛ أن سر إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعبد الله بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد وابن شهاب -رضي الله عنهم- فسألهم عن الطيب في هذا اليوم قبل أن نفيض، قالوا: تطيب يا أمير المؤمنين، إلاَّ أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله بن عمر رجلاً قد رأى محمدًا -عليه السلام-، وكان إذا رمى جمرة العقبة أناخ فنحر وحلق، ثم مضى مكانه فأفاض إلى البيت". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر وربيعة بن عبد الرحمن: "أن الوليد بن عبد الملك سأل سالم بن عبد الله وخارجة بن زيد بن ثابت بعد أن رمى جمرة العقبة وحلق عن الطيب، فنهاه سالم ورخص له خارجة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 135 رقم 9374).

ش: أي قد رُوي أيضًا ما ذكرنا من جواز الطيب للمحرم بعد رمي الجمرة والحلق عن جماعة من التابعين، فإن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وخارجة بن زيد بن ثابت، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري؛ كلهم أفتوا بجواز استعمال الطيب قبل طواف الإِفاضة، وذلك حين استفتاهم سليمان بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم يوم النحر سنة حج في أيام خلافته، وكان قد تولاها في سنة ست وتسعين بعد أخيه الوليد بن عبد الملك، وتوفى سنة تسع وتسعين يوم الجمعة لعشر خلون من صفر منها، واستخلف بعده عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد بن نافع الأنصاري النجاري المدني روى له الجماعة غير الترمذي، عن أبي بكر بن محمد بن حزم بن [زيد] (¬1) الأنصاري الخزرجي ثم النجاري المدني اسمه وكنيته واحد. قوله: "إلَّا أن عبد الله بن عبد الله ... إلى آخره" إشارة إلى أنه لم يفت لسليمان ابن عبد الملك كما أفتى به رفقته؛ فإنه قال: "كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً رأى محمدًا" وأراد أن عبد الله صحابي شاهد من النبي -عليه السلام- ما لم يشاهده هؤلاء؛ لأنهم لم يدركوا النبي -عليه السلام-، وكان عبد الله إذا رمى جمرة العقبة أناخ بعيره، فنحر هديه وحلق رأسه ثم أفاض إلى البيت لطواف الإِفاضة، ولم يذكر فيه أنه تطيب، ولكن فتوى هؤلاء هي سنة رسول الله -عليه السلام- على ما ثبت في أحاديث عائشة وغيرها، على أن كلام عبد الله لا يفهم منه نفي التطيب؛ لأنه ساكت عنه، ويحتمل أنه ما رأى ذلك منه فحكى ما شاهده فقط، وكيف وقد مضى في حديث طاوس عن ابن عمر قال: قال عمر ... الحديث، وفي آخره: "فسُنَّة رسول الله -عليه السلام- أحق أن يؤخذ بها من سُنة عمر -رضي الله عنه-". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من مصادر ترجمته.

قوله: "حدثنا يونس ... إلى آخره" كلهم رجال الصحيح، والوليد هو ابن عبد الملك بن مروان -ومروان بن الحكم- ولي الخلافة بعد موت أبيه عبد الملك في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وتوفى الوليد سَنة ست وتسعين، فكانت ولايته تسع سنين وخمسة أشهر -وقيل: وسبعة أشهر- والله أعلم. والأثر أخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وفي "شرح الموطأ": لم يختلف فيه عن خارجة، واختلف فيه عن سالم، وقد ذكرنا عن سالم ما أخرجه البيهقي (¬2) عنه قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "أنا طيبت رسول الله -عليه السلام- لحلّه وإحرامه، قال سالم: وسنة رسول الله -عليه السلام- أحق أن تتبع". ... ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 329 رقم 723). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 135 رقم 9374).

ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر ش: أي هذا باب في بيان حكم المرأة التي ترى الحيض بعد طوافها للزيارة قبل طوافها للصدر وهو طواف الوداع "والصَّدَر" بفتح الصاد والدال: الرجوع يقال: صدر يصدر صدورًا وصدرًا. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن أبي عوانة، عن يعلى ابن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن بن الزجاج، عن الحارث بن أوس الثقفي، قال: "سألت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن امرأة حاضت قبل أن تطوف، قال: تجعل آخر عهدها الطواف، قال: هكذا حدثني رسول الله -عليه السلام- حين سألته، فقال لي عمر -رضي الله عنه-: أَرِبْتَ عن يديك؟! سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله -عليه السلام- كيما أخالفه؟ ". حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان، قال: ثنا أبو عوانة ... فذكر بإسناده نحو حديث ابن مرزوق في إسناده ومتنه غير أنه قال: "سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن ابن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يعلى بن عطاء العامري، وثقه النسائي وغيره، وروى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. عن الوليد بن عبد الرحمن بن الزجاج الجرشي الحمصي روى له الجماعة غير البخاري، عن الحارث بن أوس الثقفي الصحابي، ويقال: الحارث بن عبد الله بن أوس على ما يأتي في الطريق الثاني هكذا. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عمر بن عوف، قال: أنا أبو عوانة، عن يعلى بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 208 رقم 2004).

عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال: "أتيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، قال: فقال الحارث: كذلك أفتأني رسول الله -عليه السلام-، فقال عمر: أربت عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله، كيما أخالفه؟! ". الثاني: عن محمد بن علي بن داود البغدادي، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن أبي عوانة الوضاح ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا بهز وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: "سألت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت، قال: فقال الحارث: كذلك أفتأني رسول الله -عليه السلام-، قال: فقال عمر بن الخطاب: أربت عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله -عليه السلام- لكي ما أخالف؟! ". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا محمد بن العباس المؤذن، ثنا عفان بن مسلم. ونا أبو مسلم الكجي، ثنا سهل بن بكار، قالا: ثنا أبو عوانة، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: "سألت عمر بن الخطاب ... " إلى آخره نحو رواية أحمد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (ص / 416 رقم 15478). (¬2) "المعجم الكبير" (3/ 262 رقم 3353).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، قال: ثنا المحاربي، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن أوس، عن الحارث بن عبد الله بن أوس، قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت، فقال عمر -رضي الله عنه-: خررت من يديك، سمعت هذا من رسول الله -عليه السلام- ولم تخبرنا به؟! ". وقال: هذا حديث غريب، وقال الحافظ المنذري: الإِسناد الذي خرجه أبو داود حسن، وأخرجه الترمذي بإسناد ضعيف وقال غريب. قوله: "أربت عن يديك" بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون الباء الموحدة وبتاء الخطاب، وهذه لفظه في موضع الدعاء ومعناها سقطت أَرَابك، وهي جمع "أرب" وهو العضو، وقال ابن الأثير: معناه سقطت آرابك من اليدين خاصة، وقال الهروي: معناه ذهب ما في يديك حتى تحتاج، وفي هذا نظر، لأنه قد جاء في رواية الترمذي كما ذكرنا: "خررت عن يديك" وهي عبارة عن الخجل مشهورة، كأنه أراد أصابك خجل أو ذم، ومعنى خررت: سقطت. قلت: ومن هذا القبيل ما جاء في حديث آخر: "أن رجلاً اعترض النبي -عليه السلام- ليسأله، فصاح به الناس فقال: دعوا الرجل أرب ماله" ففي هذه اللفظة ثلاث روايات: أَرِبَ على وزن عَلِمَ ومعناها الدعاء عليه، أي أصيبت أرابه وسقطت، وهي كلمة لا يراد بها وقوع الأمر، كما يقال: تربت يداك، وقاتلك الله، وإنما تذكر في معرض التعجب. والثانية أَرَبٌ ماله على وزن جَمَلَ أي حاجة له، وكلمة "ما" زائدة للتقليل، أي حاجة يسيرة. والثالث أرِبٌ على وزن كتِفٌ، والأَرَبُ: الحاذق الكامل، أي هو أَرَبٌ، بحذف المبتدأ، ثم سأل فقال: ما له؟ أي ما شأنه؟ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 282 رقم 946).

قوله: "كي ما أخالفه" أي حتى أخالف النبي -عليه السلام- في جوابي، أراد: إنك سألتني عن شيء قد علمته من رسول الله -عليه السلام- حتى أجيب بجواب أخالف فيه ما أجاب به رسول الله -عليه السلام-. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الصدر ولم يعذروا في ذلك حائضًا بحيضها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سالم بن عبد الله وابن شبرمة وطائفة من السلف؛ فإنهم قالوا: لا يجوز لأحد أن ينفر من مكة حتى يطوف طواف الصدر، حتى الحائض فإنها أيضًا لا تعذر في تركها طواف الوداع، بل تصبر إلى أن تطهير وتطوف، وحكى ابن المنذر هذا القول عن عمر وابنه عبد الله وزيد بن ثابت -رضي الله عنه- فإنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع، وقال أبو عمر بن عبد البر: وعن ابن عمر وعائشة مثله. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لها أن تنفر وإن لم تطف بالبيت، وعذروها بالحيض؛ هذا إذا كانت قد طافت طواف الزيارة قبل ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: القاسم وطاوسًا وعطاء بن أبي رباح والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: الحائض إذا كانت قد طافت طواف الزيارة قبل أن تحيض ثم حاضت يسقط عنها طواف الصدر، ولها أن تنفر من غير شيء. واختلفوا في طواف الوداع، فالصحيح في مذهب الشافعي أنه واجب فإن تركه تارك لزمه دم، وبه قال الحسن والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين، ولكنه ساقط عن الحائض عند الكل كما ذكرنا، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: أجمع العلماء أن طواف الإِفاضة فرض، وطواف الوداع سنة، وقال مالك: لا أحب لأحد أن يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف، فإن لم

يفعل فلا شيء عليه، فرآه مستحبًا لسقوطه عن الحائض وعن المكي الذي لا يبرح من مكة، فإن خرج من مكة إلى حاجة طاف للوداع. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن سليمان -وهو ابن أبي مسلم الأحول- عن طاوس، عن ابن عباس قال: "كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض". ش: أي واحتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عباس. وأخرجه من طريقين رجالهما كلهم رجال الصحيح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن سليمان بن أبي مسلم المكي الأحول خال عبد الله بن أبي نجيح، وأبو مسلم يقال اسمه عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): نا سعيد بن منصور وزهير بن حرب، قالا: ثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده باليبت". قال زهير: "ينصرفون كل وجه" لم يقل: في. الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان أيضًا، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬2) أيضاً: ثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لسعيد، قالا: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلاَّ أنه خفف عن المرأة الحائض". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 963 رقم 1327). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 963 رقم 1328).

قوله: "ينفرون" أي يذهبون ويفرون، من نَفَرَ يَنْفِرُ نُفُورًا ونفارًا من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ. قوله: "آخر عهده" أي آخر وقته الذي يفارق فيه مكة. فإن قيل: الرواية الأولى كيف تدل على سقوط طواف الوداع عن الحائض؟ قلت: الرواية الثانية تدل على ذلك، وهي مقيدة فحمل المطلق على المقيد. فإن قيل: ما تقول فيمن طاف طواف الوداع، ثم تشاغل في مكة بعده، ثم خرج، هل عليه طواف آخر أم لا؟ قلت: لا. فيكفيه ذلك الطواف. فإن قيل: أليس أمر في الحديث أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده فيجب أن لا يجوز إذا لم يأت بالمأمور به؟ قلت: المراد منه آخر عهده بالبيت نسكًا لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت وإن تشاغل بغيره، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا طاف للصدر ثم أقام إلى الغد، فأحب أن يطوف طوافًا آخر؛ لئلا يكون بين وداعه وبين نفره حائل. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، قال: قال زيد بن ثابت لابن عباس: "أنت الذي تفتي الحائض أن تصدر قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فقال: سل فلانة الأنصارية هل أمرها النبي -عليه السلام- أن تصدر؟ فسأل المرأة ثم رجع إليه فقال: ما أراك إلا قد صدقت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عمرو بن أبي زيد، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن عكرمة: "أن زيد بن ثابت وابن عباس -رضي الله عنهم- اختلفا في المرأة تحيض بعدما تطوف بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وقال ابن عباس: تنفر إذا شاءت، فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيدًا، فقال: سلوا صاحبتكم أم سليم، فسألوها، فقالت: حضت بعدما طفت يوم

النحر، فأمرني رسول الله -عليه السلام- أن أنفر، وحاضت صفية، فقالت لها عائشة: الخيبة لك؛ حبست أهلنا، فدكر ذلك لرسول الله -عليه السلام- فأمرها أن تنفر". ش: هذان طريقان آخران صحيحان: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن الحسن بن مسلم بن يناق المكي روى له الجماعة سوى الترمذي ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس قال: "كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟! فقال له ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله -عليه السلام-؟ قال: فخرج زيد إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت". والآخر: عن ابن مرزوق أيضًا، عن عمرو بن أبي زيد الخزاعي البصري المشهور الثقة، عن هشام الدستوائي، عن قتادة بن دعامة، عن عكرمة ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو النعمان، ثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة: "أن أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة طافت ثم حاضت، فقال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا: أم سليم، فذكرت حديث صفية". قوله: "فلانة الأنصارية" هي أم سليم على ما فسره في الرواية الثانية. قوله: "إما لا" في رواية مسلم كذا هو بكسر الهمزة وفتح اللام، وعند الطبري: "إما لي" بكسر اللام، قال القاضي: وكذا قرأته بخط الأصيلي في كتاب البخاري، والمعروف في كلام العرب فتح اللام إلا أن تكون على لغة من يميل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 963 رقم 1328). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 625 رقم 1671).

وقال ابن الأنباري: قولهم: افعل هذا إما لا. معناه: افعل كذا وكذا إن كنت لا تفعل غيره، فدخلت "ما" صلة "لأن" كما قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (¬1) فاكتفى بلا من الفعل، كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه وإلا فلا، وفي "المطالع": "إما لا" وقع هذا اللفظ في الصحيحين في مواضع بكسر الهمزة وشد الميم وهو هكذا صحيح، و"لا" مفتوحة عند الجميع إلا أنه وقع للطبري: "إما لي" بكسر الهمزة وكسر اللام بعدها ياء ساكنة متصلة باللام، وكذا ضبطه الأصيلي في "جامع البيوع"، وكذا لبعض رواة مسلم، والمعروف فتح اللام، وقد منع من كسرها أبو حاتم وغيره ونسبوه إلى العامة، ولكنه خارج على مذهب الإِمالة، كأن الكلمة كلها واحدة، وقد فتح بعض الرواة الهمزة فقال: "أما لا" وهو أيضًا خطأ إلاَّ على لغة بني تميم الذين يفتحون همزة "إما" للتخيير فيقولون: "خذ أما هذا وأما هذا" ومعنى هذه الكلمة: "إن كنت لا تفعل هذا فافعل غيره" و"ما" صلة لأن. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا عباد ابن العوام، عن سعيد، عن قتادة عن أنس: "أن أم سليم حاضت بعدما أفاضت يوم النحر، فأمرها النبي -عليه السلام- أن تنفر". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وأم سليم بنت ملحان الأنصارية، أم أنس بن مالك، وفي اسمها أقوال: سهلة، ورميلة، ورميثة وأنيقة؛ ومليكة، وغير ذلك. قوله: "أفاضت" أراد أنها طافت طواف الإِفاضة و (هي) (¬2) طواف الزيارة. قوله: "أن تنفر" أي تذهب ولا تطوف للصدر. ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية: [26]. (¬2) كذا في "الأصل، ك" ولعل الصواب: "وهو".

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما أراد رسول الله -عليه السلام- أن ينفر رأى صفية على باب خبائها كئيبة حزينة وقد حاضت، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنك لحابستنا، أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم، قال: فانفري إذن". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا شعبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- ... بمثل معناه. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا عبد الرحمن الأعرج، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن صفية بنت حُيي زوج النبي -عليه السلام- حاضت، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام- فقال: أحابستنا هي؟! فقلت: إنها قد أفاضت، فقال: فلا إذن". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح، عن القاسم، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه.

ش: هذه تسع طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره. والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق، والحكم هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه مسلم (¬1): نا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة (ح). ونا عبد الله بن معاذ -واللفظ له- قال: نا أبي، قال: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "لما أراد النبي -عليه السلام- أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: عقرى حلقى إنك لحابستنا، ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم، قال: فانفري". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "أراد رسول الله أن ينفر، فرأى صفية على باب خبائها كئيبة أو حزينة لأنها حاضت، فقال: عقرى أو حلقى -لغة لقريش- إنك لحابستنا، ثم قال لها: أما كنت أفضت يوم النحر يعني الطواف؟ قالت: نعم، قال: فانفري إذن". الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الخزاز الكوفي، روى له الجماعة سوى النسائي لكن البخاري في "الأدب". عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 965 رقم 1211). (¬2) "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 1621 رقم 9536).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم، قال النبي -عليه السلام-: عقرى حلقى، أطافت يوم النحر؟ قيل: نعم، قال فانفري". الرابع: رجاله كلهم رجال الصحيح، ويونس الأول: هو ابن عبد الأعلى، ويونس الثاني: هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى وأحمد بن عيسى، قال أحمد: نا، وقال الآخران: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وعروة ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬3): نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث (ح). ونا محمد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وعروة، أن عائشة قالت: "حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: أحابستنا هي؟! قالت: فقلت: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإِفاضة، فقال رسول الله -عليه السلام-: فلتنفر". وأخرجه ابن ماجه (¬4) بهذا الإِسناد نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 628 رقم 1682). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 964 رقم 1211). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 964 رقم 1211). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1021 رقم 3072).

السادس: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين: "أن رسول الله -عليه السلام- ذكر صفية بنت حيي، فقيل له: إنها قد حاضت، فقال رسول الله -عليه السلام-: لعلها حابستنا؟! فقالوا: يا رسول الله، إنها قد طافت، فقال رسول الله -عليه السلام-: فلا إذن". السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره، ورجاله كله رجال الصحيح. ولخرجه مالك في "موطإه" (¬2). التاسع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد ... إلى آخره والكل ثقات. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه وأفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد عن عائشة: "أن صفية حاضت بعدما أفاضت، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام- فقال: أحابستنا هي؟ قلت: إنها كانت قد أفاضت ثم طافت بعد ذلك، قال: فلا إذن". قوله: "باب خبائها" الخباء -بكسر الخاء- واحد الأخبية من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، فما فوق ذلك فهو بيت. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 413 رقم 929). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 412 رقم 926).

قوله: "كنت أفضت" أي هل كنت أفضت إلى مكة لطواف الزيارة. قوله: "عقرى حلقى" قال الزمخشري: هما صفتان للمرأة المشئومة أي أنها تعقر قومها وتحلقهم، أي تستأصلهم من شؤمها عليهم، ومحلها الرفع أي: هي عقرى حلقى، ويحتمل أن تكونا مصدرين على فَعْلَى بمعنى العقر والحلق كالشكوى للشكو، وقيل الألف للتأنيث مثلها في غضبى وسكرى. ويقال: ظاهر هذا الدعاء عليها وليس بالدعاء في الحقيقة، وهو في مذهبهم معروف أي: عقرها الله وأصابها بعقر في جسدها، ومعنى حلقى: حلقها الله يعني أصابها بوجع في حلقها خاصة، والمحدثون يروون هاتين اللفظين بلا تنوين، والمعروف في اللغة التنوين على أنه مصدر فعل متروك اللفظ تقديره: عقرها الله عقرًا وحلقها حلقًا، ويقال للأمر يعجب منه: عقرًا حلقًا، ويقال أيضًا للمرأة إذا كانت مؤذية مشئومة، وقال أبو عُبيد الصواب: عقرًا حلفا بالتنوين لأنها مصدرًا عقَر وحلقَ. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن ميسرة وسليمان خال ابن أبي نجيح، عن طاوس قال: "كان ابن عمر قريبًا من سنتين ينهى أن تنفر الحائض حتى يكون آخر عهدها بالبيت، ثم قال: نبئت أنه قد رخص للنساء". ش: إسناده صحيح، وهب هو ابن جرير بن حازم، وإبراهيم بن ميسرة الطائفي وثقه يحيى وروى له البخاري ومسلم، وسليمان هو ابن أبي مسلم خال عبد الله بن أبي نجيح المكي الأحول روى له الجماعة. قوله: "نبئت" على صيغة المجهول أي أخبرت وهذا يدل على أنه قد رجع عما كان يفتي به من منعه الحائض عن النفر إلى طواف الصدر. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني طاوس اليماني: "أنه سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-

يُسأل عن حبس النساء عن الطواف بالبيت إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر، فقال: إن عائشة كانت تذكر عن رسول الله -عليه السلام- رخصته للنساء، وذلك قبل موت عبد الله بن عمر بعام". ش: إسناده صحيح، وأبو صالح عبد الله بن صالح وراق الليث شيخ البخاري، وعقيل -بضم العين- بن خالد الليثي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري. قوله: "وذلك قبل موت عبد الله بن عمر بعام" وهذا يدل على أنه كان يفتي بمنعها عن النفر إلاَّ بالطواف، ثم رجع عن ذلك حين بلغه خبر عائشة -رضي الله عنها- قبل موته بسنة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أنه كان يرخص للحائض إذا أفاضت أن تنفر، قال طاوس: وسمعت ابن عمر يقول: لا تنفر، ثم سمعته بعد يقول: تنفر؛ رخص لهن رسول الله -عليه السلام-". ش: إسناده صحيح، وسهل بن بكار بن بشر الدارمي البصري شيخ البخاري وأبي داود، ووهيب هو ابن خالد البصري روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسلم، ثنا وهيب، نا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت، قال: فسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد: إن النبي -عليه السلام- رخص لهن". ص: حدثنا أبو أيوب عبد الله بن أيوب المعروف بابن خلف الطبراني قال: ثنا عمرو بن محمد الناقد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف بالبيت إلاَّ الحيض؛ رخص لهن رسول الله -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 625 رقم 1672).

ش: إسناده صحيح، وعمرو الناقد شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، وعيسى ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، وعبيد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب روى له الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أبو عمار الحسن بن [حريث] (¬2) قال: نا عيسى بن يونس ... إلى آخره نحوه سواء. وقال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. قوله: "إلاَّ الحيضَّ" بضم الحاء وتشديد الياء، جمع حائض، كرُّكَّع جمع راكع. ص: فهذه الآثار قد بينت عن رسول الله -عليه السلام- أن الحائض لها أن تنفر قبل أن تطوف طواف الصدر إذا طافت طواف الزيارة قبل ذلك طاهرًا، ورجع إلى ذلك من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ممن قد كان قال بخلافه: زيد بن ثابت وابن عمر -رضي الله عنهم- وجعلا ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في الرخصة في ذلك للحائض رخصة وإخراجًا من رسول الله -عليه السلام- لحكمها من حكم سائر الناس فيما كان أوجب عليهم من ذلك، فثبت بذلك نسخ هذه الآثار لحديث الحارث بن أوس وما كان ذهب إليه عمر من ذلك، وهذا الذي ثبتنا قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي الأحاديث التي رويت عن ابن عباس وعائشة عن رسول الله -عليه السلام- قد بينت وأخبرت أن الحائض ليس عليها طواف الوداع إذا كانت طافت طواف الزيارة قبل ذلك طاهرًا. قوله: "ورجع إلى ذلك" أي إلى ما ذكرنا من الحكم. وقوله: "ممن قد كان قال" بيان لقوله: "من أصحاب رسول الله -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 280 رقم 944). (¬2) في "الأصل، ك": "حاريث"، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته.

وقوله: "زيد بن ثابت" مرفوع لأنه فاعل لقوله: "رجع" و"ابن عمر" عطف عليه. قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من ثبوت الأحاديث ورجوع زيد وابن عمر إلى ما ذكرنا من الحكم نسخ هذه الآثار يعني أحاديث ابن عباس وعائشة لحديث الحارث بن أوس الذي احتجت به أهل المقالة الأولى. وقوله: "نسخ هذه الآثار" المصدر فيه مضاف إلى فاعله. وقوله: "لحديث الحارث بن أوس" في محل النصب على المفعولين؛ فافهم. قوله: "فهذا الذي ثبتنا" من التثبيت، وفي بعض النسخ: "بَيِّنًا" من التبيين، وكلاهما صحيح. ***

ص: باب: من قدم من حجه نسكا قبل نسك

ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك ش: أي هذا باب في بيان حكم من يقدم في حجه نسكًا على نُسُك، والنُسُك بضمتين، والنُّسيكة أمر من أمور الحج، وأمور الحج كلها تسمى مناسك، وقد استوفينا الكلام فيه في أول كتاب الحج. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ربيعة، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- رجل فقال: يا رسول الله، إني أفضت قبل أن أحلق، فقال: احلق ولا حرج، قال: وجاءه آخر وقال: يا رسول الله، إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: أرم ولا حرج". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو أحمد محمد بن عبد الله ابن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن الحارث ابن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة -واسمه عمرو- بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أبو الحارث المدني، وثقه ابن حبان، وعن يحيى: صالح. وروى له الأربعة، وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وثقه بن حبان وقال: رأى جماعة من الصحابة، وروى له الأربعة النسائي في "مسند علي" -رضي الله عنه-. وأبوه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب روى له الجماعة، وعُبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي -عليه السلام- روى له الجماعة، واسم أبي رافع إبراهيم أو أسلم أو هرمز أو ثابت. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬1) مطولاً: حدثني أحمد بن عبدة البصري، نا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، حدثني أبي: عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 76 رقم 564).

الحارث، عن زيد بن علي بن حسين بن علي، عن أبيه علي بن حسين بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله -عليه السلام-، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- وقف بعرفة وهو مردف أسامة بن زيد فقال: هذا الموقف، وكل عرفة موقف، ثم دفع يسير العَنَق، وجعل الناس يضربون يمينًا وشمالًا وهو يلتفت ويقول: أيها الناس، السكينة السكينة، أيها الناس، حتى جاز المزدلفة، وجمع بين الصلاتين، ثم وقف بالمزدلفة، ثم وقف على قزح وأردف الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- وقال: هذا الموقف وكل مزدلفة موقف، ودفع وجعل يسير العَنَق، والناس يضربون يمينًا وشمالًا وهو يلتفت ويقول: السكينة السكينة أيها الناس، حتى جاء مُحَسِّرَ يقرع راحلته فخبب حتى خرج، ثم عاد لسيره الأول حتى رمى الجمرة، ثم جاء المنحر، فقال: هذا المنحر وكل منى منحر، ثم جاءته امرأة شابة من خثعم، فقالت: إن أبي كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج ولا يستطيع أداءها (فيجزؤها) (¬1) عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، وجعل يصرف وجه الفضل بن عباس عنها، ثم أتاه رجل فقال: إني رميت الجمرة وأفضت ولبست ولم أحلق، قال: فلا حرج فاحلق، ثم أتاه رجل آخر فقال: إني رميت وحلقت ونسيت ولم أنحر، فقال: لا حرج فانحر، ثم أفاض رسول الله -عليه السلام- فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ، ثم قال: يا بني عبد المطلب، انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت، قال العباس: يا رسول الله إني رأيتك تصرف وجه ابن عمك! فقال: إني رأيت غلامًا شابًا وجارية شابة؛ فخشيت عليهما الشيطان". قوله: "إني أفضت قبل أن أحلق" أي إني ذهبت إلي مكة لطواف الإِفاضة قبل أن أحلق رأسي، فقال -عليه السلام-: احلق ولا حرج -أو ولا إثم وخطيئة- عليك في تقديمك الإِفاضة على الحلق، واستدل أبو يوسف ومحمد به أن الحلق لا يختص بزمان، حتى لو أخر الحلق عن طواف الزيارة لا يجب عليه شيء، ولا يختص بالمكان ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد": "فيجزئ".

أيضًا عند أبي يوسف، حتى لو حلق خارج الحرم لا شيء عليه، وقال زفر: يختص بالزمان لا بالمكان، وقال أبو حنيفة: يختص بهما جميعًا. واستدل زفر بما روي أنه -عليه السلام- حلق عام الحديبية وأمر أصحابه بالحلق، وحديبية من الحل فلو اختص الحلق بالمكان وهو الحرم لما جاز في غيره. والجواب أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم، فيحتمل أنهم حلقوا بالحرم فلا يكون حجة مع الاحتمال، مع أنه روي أنه -عليه السلام- كان نزل بالحديبية بالحل وكان يصلي في الحرم، فالظاهر أنه لم يحلق في الحل وله سبل الحلق في الحرم. وأما الجواب عما احتج به أبو يوسف ومحمد فنقول بموجبه: إنه لا حرج عليه بظاهر الحديث وهو الإِثم، ولكن انتفاء الإِثم لا يوجب انتفاء الكفارة، كما في كفارة الحلق عند الأذى، وكفارة قتل الخطأ. وقال أبو عمر: اختلف في من قدم نسكًا على نسك أو آخره مما يصنعه الحاج يوم النحر خاصة، فأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يرمي، فإن مالكًا وأصحابه اختلفوا في إيجاب الفدية، وروي عن ابن عباس "أنه من قدم شيئًا أو أخر فعليه دم" ولا يصح ذلك عنه. وعن إبراهيم وجابر بن زيد مثل قول مالك في إيجاب الفدية على من حلق قبل أن يرمي، وهو قول الكوفيين. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق والطبري وداود: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، ولا على من قدم شيئًا أو أخره ساهيًا مما يفعل يوم النحر. وعن الحسن وطاوس: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، مثل قول الشافعي ومن تابعه. وعن عطاء بن أبي رباح: من قدم نسكًا قبل نسك فلا حرج، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعكرمة وقتادة.

وذكر ابن المنذر عن الشافعي: من حلق قبل أن يرمي أن عليه دمًا، وزعم أن ذلك حفظه عن الشافعي، وهو خطأ عن الشافعي، والمشهور من مذهبه: أنه لا شيء على من قدم أو أخر شيئًا من أعمال الحج كلها إذا كان ساهيًا. وأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يذبح، فجمهور العلماء على أنه لا شيء عليه كذلك، قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد ابن جرير، وقال إبراهيم: من حلق قبل أن يذبح اهراق دمًا. وقال أبو الشعثاء: عليه الفداء. وقال أبو حنيفة عليه دم، وإن كان قارنًا فدمان، وقال زفر: على القارن إذا حلق قبل أن ينحر ثلاثة دماء: دم للقران، ودمان للحلق قبل النحر، وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا فيمن نحو قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه، قال: واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمي، فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول يرجع فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض، وقال عطاء ومالك والشافعي وسائر الفقهاء: تجزئه الإِفاضة، ويحلق أو يقصر ولا شيء عليه، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: وقال ابن عبد الحكم عن مالك فيمن طاف للإِفاضة قبل أن يرمي يوم النحر: إنه يرمي ثم يحلق ثم يعيد الطواف، قال: ومن رمى ثم طاف قبل الحلاق حلق وأعاد الطواف، وقال الشافعي: وإن طاف الإِفاضة قبل الرمي أجزأه، وقال الأوزاعي: إن أصاب أهله اهراق دمًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث: أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن الطواف قبل الحلق، فقال: احلق ولا حرج، فاحتمل أن يكون ذلك إباحة منه للطواف قبل الحلق، وتوسعة منه في ذلك، فجعل للحاج أن يقدم ما شاء من هذين على صاحبه، وفيه أيضًا: أن آخر جاءه فقال: إني ذبحت قبل [أن] (¬1) أرمي، فقال: ارم ولا حرج، فذلك أيضًا يحتمل ما ذكرنا في جوابه في السؤال الأول. ¬

_ (¬1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي ففي حديث علي -رضي الله عنه- المذكور: أن رسول الله -عليه السلام-، بيانه أن هذا له احتمالان: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون -عليه السلام- أباح ذلك توسعة وترفيها في حقه، فيكون للحاج أن يقدم ما شاء من الإِفاضة والحلق، فإن شاء أفاض ثم حلق، وإن شاء حلق ثم أفاض، وكذلك التخيير بين الذبح والرمي. والآخر: يحتمل أن يكون قوله -عليه السلام-: "إلا حرج" معناه: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنكم فعلتموه على الجهل منكم به، لا على القصد منكم خلاف السنة وكانت السنة خلاف هذا، وقد دلت على هذين الاحتمالين أحاديث كثيرة، على كل واحد منهما أحاديث مصرحة في هذا الباب على ما تقف عليه إن شاء الله، فلما احتمل الكلام هذين الاحتمالين نظريًّا، فوجدنا الحكم على الاحتمال الثاني وهو أنه -عليه السلام- أسقط عنهم الحرج وأعذرهم لأجل النسيان وعدم العلم، لا أنه أباح لهم ذلك حتى إن لهم أن يفعلوا ذلك في العمد، والدليل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي، قال: لا حرج، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي، قال: لا حرج، ثم قال: عباد الله، وضع الله -عز وجل- الحرج والضيق، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم". فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك، وذلك لأن السائلين عن ذلك كانوا ناسًا أعرابًا لا علم لهم بالمناسك، فأجابهم رسول الله -عليه السلام- بقوله: "لا حرج" يعني فيما فعلتم بالجهل، لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس أنه قال: "من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا" فثبت بذلك أن الذي رفع عنهم من الحرج كان لأجل جهلهم بأمور المناسك، وأنهم أمروا بعد ذلك بتعلم المناسك كما في حديث أبي سعيد، وأنه لا يباح بعد ذلك تقديم نسك يقتضي التأخير على نسك

يقتضي التقديم، وأن من فعل ذلك فعليه دم، هذا خلاصة ما ذكره الطحاوي في هذا الباب، والله أعلم. ص: وقد روي عن ابن عباس، عن رسول الله -عليه السلام- من ذلك شيء: حدثنا علي بن شبية، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عمن حلق قبل أن يذبح، أو ذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج، لا حرج". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-: "أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: "ما سئل رسول الله -عليه السلام- يومئذ عمن قدم شيئًا قبل شيء إلا قال: لا حرج لا حرج فذلك يحتمل ما يحتمله الحديث الأول". ش: هذه ثلاث طرق صحاح دالة على الاحتمال الأول الذي ذكرناه عن قريب. الأول: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1): نا محمد بن عبد الله بن حوشب، ثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن ابن عباس: "سئل رسول الله -عليه السلام- عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه، فقال: لا حرج لا حرج". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن المعلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن عبد الله بن عباس. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 615 رقم 1634).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا بهز، قال: نا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال، عن وهيب بن خالد ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عفان، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن الرجل يذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج". وأخرجه أبو داود (¬3) من وجه آخر: ثنا نصر بن علي، قال: نا يزيد بن زريع، قال: أنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-: "كان يسأل يوم منى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: إني أمسيت ولم أرم، قال: ارم ولا حرج". وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا نحوه. قوله: "فذلك يحتمل ما يحتمله الحديث الأول" أي فذلك الحديث وهو حديث ابن عباس يحتمل ما يحتمل حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأراد الاحتمال الأول من الاحتمالين اللذين ذكرناهما. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله من ذلك شيء: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ذبحت قبل أن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 950 رقم 1307). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 364 رقم 14968). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 203 رقم 1983). (¬4) "المجتبى" (5/ 272 رقم 3067).

أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج". فهلا أيضًا مثل ما قبله. ش: أي قد روي عن جابر مما دل عليه حديث علي وابن عباس -رضي الله عنهم- شيء وهذا أيضًا مما يدل على الاحتمال الأول، وإليه أشار بقوله: فهذا أيضًا مثل ما قبل. وإسناده صحيح، وحجاج هو ابن منهال شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وقيس هو ابن سعد المكي، وعطاء هو ابن أبي رباح. ورواه البخاري معلقًا (¬1) وقال: قال حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد وعباد بن منصور عن عطاء عن جابر، عن النبي -عليه السلام-. وطريق عباد بن منصور أخرجه الإِسماعيلي في "صحيحه": عن القاسم، ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا حماد بن سلمة، عن عباد بن منصور، عن عطاء، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن رجل رمى قبل أن يحلق وحلق قبل أن يرمي وذبح قبل أن يحلق، فقال -عليه السلام-: افعل ولا حرج". ص: وقد روي عن أسامة بن شريك، عن النبي -عليه السلام- من ذلك شيء: حدثنا أحمد بن الحسن -هو ابن القاسم- الكوفي، قال: ثنا أسباط بن محمد، قال: ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك -رضي الله عنه- قال: "حججنا مع رسول الله -عليه السلام-، فسئل عمن حلق قبل أن يذبح أو يذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج، لا حرج، فلما أكثروا عليه قال: أيها الناس قد رفع الحرج إلاَّ من اقترض من أخيه شيئًا ظلمًا فذلك الحرج". فهذا أيضًا مثل ما قبله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 615 رقم 1635).

ش: أي وقد روي عن أسامة بن شريك التغلبي -رضي الله عنه- مما دل عليه معنى الأحاديث المذكورة شيء، وهذا أيضًا مما يدل على الاحتمال الأول، وإليه أشار بقوله: "فهذا أيضًا مثل ما قبله". وإسناده صحيح، وأبو إسحاق الشيباني اسمه سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أسباط بن محمد (ح). وثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، كلاهما عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك: "قال: خرجت مع النبي -عليه السلام- حاجًّا فكان الناس يأتون، فقال قائل: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف -أو أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا- فكان يقول لهم: لا حرج إلاَّ على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك". قوله: "إلَّا من اقترض من أخيه شيئًا ظلمًا" وهَا هنا روايات: في رواية: "من اقترض من أخيه مظلومًا" وفي أخرى: "إلاَّ على رجل اقترض من عرض رجل" وفي رواية: "اقترض عرض رجل" وفي رواية: "وضع الحرج إلاَّ امرءًا اقترض أمرءًا مسلمًا" وفي رواية: "إلاَّ من اقترض مسلمًا ظلمًا" وفي رواية: "من اقترض من عرض أخيه شيئًا" وفي رواية: "إلاَّ من اقترض من أخيه عرضًا" والكل يرجع إلى معنى واحد، وهو أن ينال منه وقطعه بالغيب، وهو افتعال من القرض وهو القطع، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع، وقرض الفأر: قطعه، ويروى بالفاء والضاد المعجمة من "الفرض" وهو القطع أيضًا، لأن أصل الفرض: القطع، ومنه المفرض وهي الحديدة التي بجز بها، ويروى بالفاء والصاد المهملة من "الفرص" وهو القطع أيضًا، ومنه "المفراص" وهو ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 181 رقم 472).

الذي تقطع به الفضة، قال الجوهري: الفَرْص بالفتح: القطع، والمفرص والمفراص الذي تقطع به الفضة. ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون قوله: "لا حرج" هو على الإِثم، أي لا حرج عليكم فيما فعلتموه في هذا، لأنكم فعلتموه على الجهل منكم به لا على التعمد بخلاف السنة، فلا حرج عليكم في ذلك. ش: هذا هو الاحتمال الثاني الذي ذكرناه وهو ظاهر. ص: وقد روي ذلك مبينًا مشروحًا عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ثابت محمد بن عُبيد الله، قال: ثنا عبد العزيز ابن محمد، أراه عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن حسين بن علي، عن ابن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- سأله رجل في حجته فقال: أني رميت وأفضت ونسيت ولم أحلق، قال فاحلق ولا حرج، ثم جاء رجل آخر فقال: إني رميت وحلقت ونسيت أن أنحر، فقال: انحر ولا حرج". ش: إسناده صحيح، أي قد روي معنى الاحتمال الثاني ظاهرًا صريحًا في الحديث، وذلك لأن السائل في هذا الحديث قيّد ما فعله من الأمور بالنسيان، فقال له رسول الله -عليه السلام- في جوابه: "لا حرج" لأنك ما تعمدته، ولا قصدت خلاف السنة وحديث عليّ قد ذكر في أول الباب من وجه آخر، وأبو ثابت شيخ البخاري، وعبد العزيز هو الدراوردي. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا ويونس حدثاه، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "وقف رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، فجاءه آخر فقال: يا رسول الله

لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله -عليه السلام- يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلاَّ قال: افعل ولا حرج". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو قال: "سأل رجل رسول الله -عليه السلام- فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال آخر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج". ش: هذان طريقان صحيحان، رجالهما كلهم رجال الصحيح، يدلان على معنى الاحتمال الثاني أيضاً، لأن السائل قال فيه: "لم أشعر" أي لم أعلم، فأجاب -عليه السلام- بقوله: "لا حرج" لأنك ما علمته. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، ويونس ابن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذ عن شيء قُدَّم ولا أُخِّر إلاَّ قال: افعل ولا حرج". ومسلم (¬2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. وقال أيضًا (2): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عيسى بن طلحة التيمي، أنه سمع عبد الله [بن] (¬3) عمرو بن العاص يقول: "وقف رسول الله -عليه السلام- على راحلته، فطفق ناس ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 618 رقم 1649). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 948 رقم 1306). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم".

يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل الرمي، فقال رسول الله -عليه السلام-: فارم فلا حرج، قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: انحر ولا حرج، قال: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى به المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلاَّ قال: رسول الله -عليه السلام-: افعلوا ذلك ولا حرج. وأبو داود (¬1): نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب ... نحوه. والترمذي (¬2): نا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان ابن عُيينة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو: "أن رجلاً سأل رسول الله -عليه السلام- فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، وسأله آخر فقال: نحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج". وابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمد، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة .... إلى آخره نحوه. الطريق الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عُيينة، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، أن عطاء بن أبي رباح حدثه، أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله -عليه السلام- مثله، يعني: "أنه وقف للناس عام حجة الوداع يسألونه، فجاء رجل فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله -عليه السلام- عن شيء قُدَّم ولا أُخِّر إلاَّ قال: افعل ولا حرج. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 211 رقم 2014). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 258 رقم 916). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1014 رقم 3051).

فدل ما ذكرنا على أنه -عليه السلام- أسقط الحرج عنهم في ذلك للنسيان؛ لا أنه أباح ذلك لهم حتى يكون لهم مباح أن يفعلوا ذلك في العمد. ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي نحوه (¬1): من حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- رمى، ثم جلس للناس، فجاء رجل فقال: حلقت قبل أن أنحر، فقال: لا حرج، ثم جآءه آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي قال: لا حرج، فما سئل عن شيء إلَّا قال: لا حرج. قوله: "فدل ما ذكرنا" أي من هذه الأحاديث الدالة على الاحتمال الثاني؛ أنه -عليه السلام- قد أسقط الحرج عنهم في ذلك لأجل النسيان وعدم الشعور، لا للأجل أن يكون لهم مباحًا يفعلون ذلك أيضًا في حال العمد. ص: وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام- ما يدل على ذلك أيضًا: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا عمر بن علي، عن الحجاج، عن عُبادة بن نسي، قال: حدثني أبو زُبيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي، قال: لا حرج، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي، قال: لا حرج، ثم قال: عباد الله وضع الله -عز وجل- الحرج والضيق، وتعلموا مناسككم؛ فإنها من دينكم". أفلا تَرى أن أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها؟ فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك. ش: أي قد روى أبو سعيد سعد بن مالك الخدري عن النبي -عليه السلام- ما يدل على المعنى الذي ذكرناه وَبَيَّنَ ذلك بقوله: "أفلا ترى أنه ... إلى آخره". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 143 رقم 9412).

وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن عمه عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، فيه لين، عن عبادة بن نُسي -بالضم في أولهما- وثقه العجلي والنسائي ويحيى، وروى له الأربعة، عن أبي زبيد. ص: وقد روي في حديث أسامة بن شريك الذي ذكرناه فيما تقدم من هذا الباب ما يدل على هذا المعنى أيضًا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك: "أن الأعراب سألوا رسول الله -عليه السلام- عن أشياء، ثم قالوا: هل علينا حرج في كذا، وهل علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: إن الله تعالى قد رفع الحرج عن عباده؛ إلاَّ من اقترض من أخيه مظلومًا، فذلك الذي حرج وهلك. أفلا ترى أن السائلين لرسول الله -عليه السلام- إنما كانوا أعرابًا لا علم لهم بمناسك الحج؟ فأجاجهم رسول الله -عليه السلام- بقوله: [لا حرج] (¬1) لا على الإِباحة منه لهم التقديم في ذلك والتأخير فيما قدموا من ذلك وأخروا، ثم قال لهم ما قد ذكر أبو سعيد في حديثه "وتعلموا مناسككم". ش: أخرج حديث أسامة فيما تقدم من هذا الباب عن أحمد بن الحسن، عن أسباط بن محمد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن زياد بن علاقة، كما ذكرنا. وها هنا أخرج عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن شعبة، عن الحجاج، عن زياد بن علاقة ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لا على حرج"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه أبو داود (¬1): نا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: "خرجت مع النبي -عليه السلام- حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف، أو أخرت شيئاً، أو قدمت شيئًا، فكان يقول: لا حرج، لا حرج إلاَّ على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك". قوله: "حرج" بكسر الراء أي إثم. قوله: "أفلا ترى ... إلى آخره" ظاهر وقد أوضحناه فيما مضى. ص: وقد جاء عن ابن عباس ما يدل على هذا المعنى أيضًا: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. فهذا ابن عباس يوجب على من قدم شيئًا من نسكه أو أخره دمًا، وهو أحد من روى عن النبي -عليه السلام- أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر من أمر الحج إلاَّ قال: لا حرج، فلم يكن معنى ذلك عنده [معنى الإِباحة في تقديم ما قدموا، ولا تأخير ما أخروا مما ذكرنا إذ كان يوجب في ذلك دمًا ولكن كان معنى ذلك عنده] (¬2) على أن الذي فعلوه في حجة النبي -عليه السلام- كان على الجهل منهم بالحكم فيه، كيف هو؟ فعذرهم بجهلهم، وأمرهم في المستأنف أن يتعلموا مناسكهم. ش: أي ثم قد جاء عن عبد الله بن عباس ما يدل على المعنى المذكور، وهو أن نفي الحرج عنهم إنما كان للنسيان والجهل، والدليل على ذلك: أن ابن عباس ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 211 رقم 2015). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قد أوجب الدم على من قدم ما كان حقه التأخير أو أخر ما كان حقه التقديم، والحال أنه أحد من روى عن النبي -عليه السلام- أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر من أمور الحج إلاَّ قال: لا حرج، ولو لم يعلم من النبي -عليه السلام- ما ذكرناه من المعنى لما أوجب دمًا على من قدم شيئًا في حجه أو أخره. وأخرجه من طريقين صحيحين موقوفين: الأول: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا سلام بن سليم، عن إبراهيم بن مهاجر ... إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح، عن وهيب بن خالد، عن أيوب السختياني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير ... إلى آخره نحوه. ص: وتكلم الناس بعد هذا في القارن إذا حلق قبل أن يذبح، فقال أبو حنيفة: عليه دم. وقال: زفر عليه دمان. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه. واحتجا في ذلك بقول رسول الله -عليه السلام- للذين سألوه عن ذلك على ما قد روينا في الآثار المتقدمة وبجوابه لهم أن لا حرج عليهم في ذلك، وكان من الحجة عليهما لأبي حنيفة وزفر ما ذكرنا من شرح معاني هذه الآثار. ش: قد بينا فيما مضى اختلاف العلماء من التابعين ومن بعدهم فيمن قدم نسكا على نسك في حجه، وإنما خص القارن بالذكر؛ لأن المفرد لا ذبح عليه، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 363 رقم 14958). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 363 رقم 14959).

فلا يتأتى فيه الخلاف، غير أنه إذا تبرع بالذبح فالأفضل فيه أن يقدمه على الحلق متابعة للسنة. فإن قلت: فلِمَ لم يذكر المتمتع مع أن حكمه مثل القارن في وجوب الذبح عليه؟ قلت: القارن يطلق على المتمتع من حيث إن كلا منهما جامع بين عبادتين، وداخل في حرمتين، غير أنه يفرق بينهما في كيفية الصدر، ولأن المتمتع إذا قدم الحلق على الذبح يجب عليه دم واحد بلا خلاف بين أبي حنيفة وزفر. قوله: "وكان من الحجة عليهما" أي على أبي يوسف ومحمد، وأراد بشرح معاني هذه الآثار: هو أن نفي الحرج لا ينافي وجوب الفدية، وقد حققناه فيما مضى. ص: وحجة أخرى وهي: أن السائل لرسول الله -عليه السلام- لم يعلم هل كان قارنًا أو مفردًا أو متمتعًا؟ فإن كان مفردًا فأبو حنيفة وزفر لا ينكران أن يكون لا يجب عليه في ذلك دم؛ لأن ذلك [الذبح] (¬1) الذي قدم عليه الحلق ذبح غير واجب، ولكن كان الأفضل له أن يقدم الذبح قبل الحلق، ولكنه إذا قدم الحلق أجزأه، ولا شيء عليه، وإن كان قارنًا أو متمتعًا فكان جواب النبي -عليه السلام- له في ذلك على ما ذكرنا، فقد ذكرنا عن ابن عباس في التقديم في الحج والتأخير أن فيه دمًا، وأن قول النبي -عليه السلام- "لا حرج" لا يدفع ذلك، فلما كان قول النبي -عليه السلام- في ذلك "لا حرج" لا ينفي عند ابن عباس وجوب الدم، كان كذلك أيضًا لا ينفيه عند أبي حنيفة وزفر، وكان القارن ذبحه ذبح واجب يحل به، فأردنا أن ننظر في الأشياء التي يحل بها [الحاج] (¬2) إذا أخرها حتى يحل، كيف حكمها؟ فوجدنا الله تعالى قد قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬3) فكان المحصر يحلق بعد بلوغ الهدى محله فيحل بذلك، وإن حلق قبل بلوغه محله وجب عليه دم، هذا إجماع. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "الجماع"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) سورة البقرة، آية: [196].

فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك القارن إذا قدم الحلق قبل الذبح الذي يحل به أن يكون عليه دم؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، فبطل بهذا ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد، وثبت ما قال أبو حنيفة أو ما قال زفر. ش: أي حُجة أخرى على أبي يوسف ومحمد في وجوب الدم على من قدم نسكًا أو آخره وهي ... إلى آخره، ظاهر. قوله: "ولكن الأفضل له" أي للمفرد أن يقدم الذبح متابعة للسنة. قوله: "وإن قول النبي -عليه السلام- لا حرج لا يدفع ذلك" أي وجوب الدم؛ لما ذكرنا من عدم الملازمة بين نفي الحرج ووجوب الفدية. قوله: "وكان القارن" كان هذه تامة. وقوله: "ذبحه" مبتدأ، وخبره "ذبح واجب". وقوله: "يحل به" صفة بعد صفة. قوله: "فأردنا ... إلى آخره" بيان وجه النظر والقياس في وجوب الدم، وهو ظاهر. قوله: "هذا إجماع" أي وجوب الدم على المحصر الذي يحلق رأسه قبل بلوغ الهدى محله. ص: فنظرنا في ذلك، فإذا هذا القارن قد حلق رأسه في وقتٍ الحلقُ عليه حرام، وهو في حرمة حجة وفي حرمة عمرة، وكان القارن ما أصاب في قرانه مما لو أصابه وهو في حجة أو في عمرة مفردة وجب عليه دم، فإذا أصابه وهو قارن وجب عليه دمان، فاحتمل أن يكون حلقه أيضًا قبل وقته يوجب عليه أيضًا دمين كما قال زفر، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الأشياء التي توجب على القارن دمين فيما أصاب في قرانه هي الأشياء التي لو أصابها وهو في حرمة حجة أو في حرمة عمرة وجب عليه دم، فإذا أصابهما في حرمتهما وجب عليه دمان لجماع وما أشبهه، وكان حلقه قبل أن يذبح لم يحرم بسبب العمرة خاصة ولا بسبب الحجة خاصة إنما وجب عليه بسببهما

وبحرمة الجمع بينهما، لا بحرمة الحجة خاصة ولا بحرمة العمرة خاصة، فأردنا أن ننظر أي ننظر في حكم ما يجب بالجمع هل هو شيئان أو شيء واحد، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الرجل إذا أحرم بحجة مفردة أو بعمرة مفردة لم يجب عليه شيء، وإذا جمعهما جميعًا وجب عليه لجمعه بينهما شيء لم يكن يجب عليه في إفراده كل واحدة منهما، فكان ذلك الشيء دمًا واحدًا، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الحلق قبل الذبح الذي منع منه الجمع بين العمرة والحج ولا تمتع منه واحدة منها لو كانت مفردة، أن يكون الذي يجب به فيه دم واحد، فيكون أصل ما يجب على القارن في انتهاكه الحرم في قرانه أن ينظر، فما كان من تلك الحرم يحرم بالحجة خاصة أو بالعمرة خاصة فإذا جمعتا جميعًا فتلك الحرمة محرمة بشيئين مختلفين، فيكون على من انتهكهما كفارتان. وكل حرمة لا تحرمها الحجة على الانفراد ولا العمرة على الانفراد، إنما يحرمها الجمع بينهما، فإذا انتهكت فعلى الذي انتهكها دم واحد؛ لأنه انتهك حرمة حرمت عليه بسبب واحد وهو الجمع بينهما، فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة -رضي الله عنه- وبه نأخذ. ش: لما بين أن وجه النظر والقياس أيضًا اقتضى وجوب الدم على القارن إذا حلق قبل الذبح، وأنه دم واحد عند أبي حنيفة، ودمان عند زفر، شرع يبين أن وجه القياس أيضًا لا يقتضي إلاَّ وجوب دم واحد كما ذهب إليه أبو حنيفة، ولا يقتضي وجوب دمين كما ذهب إليه زفر، وهو ظاهر غني عن مزيد البيان، وحاصله أن نظر زفر في أنه أدخل نقصًا في حرمة الإِحرامين؛ فيجب عليه دمان، ونظر أبي حنيفة في أن السبب هو حرمة الجمع بين الحجة والعمرة فالسبب واحد فلا يجب إلاَّ دم واحد، وقد نقل أبو عمر بن عبد البر عن أبي حنيفة: أنه يجب عليه دمان، وعن زفر: أنه يجب عليه ثلاثة دماء كما قد ذكرناه فيما مضى، وهو غير صحيح، بل الصحيح الذي بَيَّنَهُ الطحاوي واختاره بقوله: "وبه نأخذ" أي بقول أبي حنيفة نأخذ.

قوله: "فإذا هذا القارن" أشار به إلى القارن الذي حلق قبل أن يذبح. قوله: "في وقت" بالتنوين. وقوله: "الحلق عليه حرام" جملة وقعت صفة للوقت، والتقدير: في وقتٍ فيه الحلق عليه حرام، والواو في قوله: "وهو في حجة" للحال. قوله: "فأردنا أن ننظر في حكم ما يجب بالجمع ... إلى آخره" إشارة إلى بيان الفرق في النظر والقياس بين ما إذا حلق القارن قبل الذبح حيث يجب دم واحد، وبين ما إذا جنى جناية حيث يجب عليه دمان؛ لأنه مذهب أبي حنيفة: أن كل ما يجب فيه على المفرد دم، فعلى القارن دمان، فليتدبر فإنه فرق دقيق، والله أعلم. ***

ص: باب: المكي يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم ش: أي هذا باب في بيان من كان بمكة إذا أراد العمرة، من أين ينبغي له أن يحرم؟. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبره عن عمرو بن أوس، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "أمرني النبي -عليه السلام- أن أردف عائشة -رضي الله عنها- إلى التنعيم فأعمرها". حدثنا فهد، قال: أنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أبيها: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لعبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-: أردف أختك فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها من الأكمة فمرها فلتحرم؛ فإنها عمرة متقبلة". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس بن أبي أوس واسمه حذيفة الثقفي الطائفي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والكل رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، سمع عمرو ابن أوس، أن عبد الرحمن بن أبي بكرة أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم". وأخرجه بقية الجماعة (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 632 رقم 1692). (¬2) مسلم في "صحيحه" (2/ 880 رقم 1212)، والترمذي في "جامعه" (2/ 74 رقم 1862)، والنسائي في "الكبرى" (2/ 473 رقم 4230)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 997 رقم 2999).

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي روى له الجماعة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري، من القارة المكي روى له المجماعة البخاري مستشهدًا، عن يوسف بن ماهك -بفتح الهاء- بن بهزاد المكي روى له الجماعة، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم-، قال العجلي: تابعية ثقة روى لها مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهك ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2) وقال: لا نعلم روت حفصة عن أبيها إلاَّ هذا الحديث. قوله: "إلى التنعيم" على وزن تفعيل، قد ذكرنا أنه منتهى حد الحرم من ناحية المدينة، بينه وبين مكة نحو من أربعة أميال، وفيه مسجد عائشة -رضي الله عنها-. قوله: "فأعمرها" بالنصب عطف على قوله: "أن أردف" من الإِعمار يقال: اعتمرت وأعمرت غيري. والعُمرة في اللغة: الزيارة، يقال: اعتمر أي زاد، فهو معتمر. وفي الشرع: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة. قوله: "من الأكمة" بفتح الهمزة وبعدها كاف وميم مفتوحتان وتاء تأنيث، وجمعها آكام بفتح الهمزة والمد، ويقال: إكام بكسر الهمزة، ويجمع أيضًا على أُكُم وأَكَم بضمتين وفتحتين، قيل: هي الجبال الصغار، وقيل: ما اجتمع من التراب أكبر من الكدمة، وقيل: هي ما غلظ من الأرض ولم يبلغ أن يكون حجرًا وكانت أشد ارتفاعًا مما حولها كالتلول ونحوها، وقيل: هي الراية وقيل: التل العظيم المرتفع. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 206 رقم 1995). (¬2) "مسند البزار" (6/ 236 رقم 2270).

قوله: "فمُر" أَمْرٌ من أَمَرَ يَأْمُر، أي "فمر عائشة فلتحرم" من الإِحرام. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصةً وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا لا ينبغي لهم أن يتجاوزوه كما لا ينبغي لغيرهم أن يجاوزوا ميقاتًا مما وقته له رسول الله -عليه السلام-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن دينار وطائفة من السلف؛ فإنهم قالوا: وقت العمرة لمن كان بمكة هو التنعيم، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور؛ لأنه خصصه فدل أنه وقت معين لمن كان بمكة ممن يريد العمرة. وقال القاضي: قال قوم: لا بد من الإِحرام من التنعيم خاصَّة، وهو ميقات المعتمرين من مكة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: وقت أهل مكة الذين يحرمون منه بالعمرة: الحل، فمن أي الحل أحرموا بها أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره من الحل عندهم في ذلك سواء. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء من التابعين وغيرهم، منهم: أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ فإنهم قالوا: وقت العمرة لمن كان بمكة: الحل، وهو خارج الحرم، فمن أي الحل أحرموا بها جاز، سواء كان ذلك التنعيم أو غيره من الحل. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ومن أراد العمرة وهو بمكة إما من أهلها وأما من غير أهلها ففرض عليه أن يخرج للإِحرام بها إلى الحل ولا بد، فيخرج إلى أي الحل شاء ويحرم بها. وقال القاضي: اختلفوا فيمن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل، فذهب أصحاب الرأي وأبو ثور والشافعي -في قول- أن عليه دمًا كتارك الميقات، وقال ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 98).

عطاء: ولا شيء عليه، وقال مالك والشافعي أيضًا: لا يجزئه، ويخرج إلى الحل ثم يعيد عمل العمرة. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- قصد إلى التنعيم في ذلك لأنه كان أقرب الحل منها؛ لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو، ويحتمل أيضًا أن يكون أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة ولا يجاوزوه لها إلى غيره. فنظرنا في ذلك فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: "دخل عليَّ رسول الله -عليه السلام- بسرف وأنا أبكي، فقال: ما ذاك؟ قلت: حضت، قال: فلا تبكي، اصنعي ما يصنع الحاج، فقدمنا مكة، ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر [ارتحل] (¬1) فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلاَّ من أجلي، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- فقال: احمل أختك فأخرجها من الحرم، قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم، فلتهل بعمرة فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة ثم أتينا فارتحل". فأخبرت عائشة أن النبي -عليه السلام- لم يقصد لما أراد أن يعمرها إلاَّ إلى الحل لا إلى موضع منه بعينه خاصة، وأنه إنما قصد بها عبد الرحمن التنعيم لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى فيه يَبِينُ من سائر الحل غيره، فثبت بذلك أن وقت أهل مكة لعمرتهم هو الحل، وأن التنعيم في ذلك وغيره سواء، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين، وأراد بها الجواب عما احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن أمره -عليه السلام- عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم يحتمل ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أن يكون قصد به إلى أنه كان أقرب الحل من مكة لأن غير التنعيم ليس كالتنعيم في ذلك، وهو معنى قوله: "لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو" أي لأن غير التنعيم ليس هو في القرب كهو أي كالتنعيم، ذلك لأن بين التنعيم الذي هو منتهى حد الحرم قربًا من المدينة وبين مكة نحو من أربعة أميال، وغيره أبعد منه؛ لأنهم ذكروا أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن والعراق وعرفة والطائف وبطن نمرة سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال، ومن طريق جدة عشرة أميال، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلًا، فهذا كما رأيت أقرب الحل إلى مكة التنعيم؛ لأن على طريق المدينة، وقال بعضهم: حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال عند بيوت السُّقيا، ومن اليمن سبعة أميال عند أضاة لِيفٍ، ومن العراق سبعة أميال على ثنية رحل وهو جبل بالمنقطع، ومن الجعرانة سبعة أميال من شعب ينُسب إلى عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن جده عشرة أميال عند منقطع الأعناس، ومن الطائف سبعة أميال عند طرف عرنة ومن بطن عرنه أحد عشر ميلاً، ويحتمل أيضًا أن يكون النبي -عليه السلام- أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة، والتعيين به كما ذهب إليه أهل المقالة الأولى. فلما تحقق الاحتمالان نظرنا في ذلك، فوجدنا حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة يخبر أنه -عليه السلام- لما أعمرها لم يقصد إلاَّ إلى الحل الذي هو خارج الحرم ولم يقصد إلى موضع معين خاص، فظهر أن قوله في الحديث الآخر: "أعمرها من التنعيم" إنما كان لكونه أقرب الحل إلى مكة، لا لمعنى آخر في التنعيم مختص به ويمتاز به عن غيره من سائر الحل. فثبت بذلك أن وقت من كان بمكة للعمرة هو الحل أي حل كان، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله رجال الجماعة غير يزيد بن سنان القزاز، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله القرشي أبو محمد الأحول المكي القاضي لابن الزبير والمؤذن له.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "دخل عليَّ النبي -عليه السلام- وأنا بسرف وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ قالت: قلت: يرجع الناس بنسكين ثم أرجع بنسك واحد، قال: ولم ذلك؟ قلت: إني حضت، قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم [اصنعي] (¬2) ما يصنع الحاج، قالت: فقدمنا مكة، ثم ارتحلنا إلى منى، ثم ارتحلنا إلى عرفة، ثم وقفنا مع الناس، ثم وقفت بجمع، ثم رميت الجمرة يوم النحر، ثم رميت الجمار مع الناس تلك الأيام، قالت: ثم ارتحل حتى نزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلاَّ من أجلي -أو قال ابن أبي مليكة فيها: إلاَّ من أجلها- ثم أرسل إلى عبد الرحمن فقال: احملها خلفك حتى تخرجها من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم فلتهل بعمرة، قالت: فانطلقنا، فكان أدنانا إلى الحرم التنعيم، فأهللت منه بعمرة ثم أقبلت، فأتيت البيت فطفت به وطفت بين الصفا والمروة، ثم أتيته فارتحل، قال ابن أبي مليكة: وكانت عائشة -رضي الله عنها- تفعل ذلك بعده". وهذا الحديث أخرجه الجماعة وغيرهم من أهل السنة والمسانيد بوجوه مختلفة وطرق متعددة. قوله: "بسرف" أي من سرف -بفتح السين وكسر الراء المهملتين، وفي آخره فاء- موضع بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقد مر تفسيره مرة. قوله: "فلما كان النفر" أي الرحيل، وهو اليوم الثالث من أيام منى. قوله: "فنزل الحصبة" بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين، أي المحصب وهو موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب وإليها يضاف، ويعرف بالبطحاء ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 245 رقم 26127). (¬2) في "الأصل، ك": "اصنعي بنا"، ولفظة "بنا" ليست في "مسند أحمد" وهي زائدة في السياق.

والأبطح، وهو خيف بني كنانة، قال الخطابي: هو فم الشعب الذي يجمع إلى الأبطح، وهو منزل النبي -عليه السلام- في حجته، وبه كانت تقاسمت قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب في شأن الصحيفة. قوله: "الجعرانة" بكسر الجيم وسكون العين، ويروى بكسر العين وتشديد الراء، وهو موضع معروف بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب، وقد مر تفسيرها مرة. قوله: "فكان أدنانا" أي أقربنا وفي رواية "أدناها" أي أقربها وهي الأظهر. ***

ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم ش: أي هذا باب في بيان أن الهدي إذا منع من بلوغه إلى الحرم، هل ينبغي أن يذبح خارج الحرم أم لا؟ والهدي ما يهدى إلى الحرم من الأنعام. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عُبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت: "أتيت النبي -عليه السلام- بالحديبية أسأله من لحوم الهدي". ش: إسناده صحيح، وأبو بكر اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، وعبيد الله ابن أبي يزيد المكي روى له الجماعة، وأبوه أبو يزيد المكي مولى آل قارظ حلفاء بني زهرة، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة غير النسائي، وسباع بن ثابت حليف بني زهرة وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، وأم كرز الكعبية الخزاعية المكية الصحابية. وأخرجه النسائي (¬1): أنا [عبيد الله بن سعيد] (¬2) نا سفيان، عن عبيد الله -وهو ابن أبي يزيد- عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت: "أتيت النبي -عليه السلام- بالحديبية [أسأله] (¬3) عن لحوم الهدي فسمعته يقول: على الغلام شاتان، وعلى الجارية شاة، لا يضركم ذكرانًا كن أم إناثًا". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 165 رقم 4217). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى": "قتيبة"، ولعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-، فعبيد الله ابن سعيد هو شيخ النسائي في الحديث الذي قبل هذا الحديث في "المجتبى". والله أعلم. (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى".

وأخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3)، ولكن ليس في رواياتهم السؤال عن لحوم الهدي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): نا سفيان، نا عُبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، سمعه من أم كرز الكعبية التي تحدث عن النبي -عليه السلام-[قالت] (¬5): "سمعت النبي -عليه السلام- بالحديبية وذهبت أطلب من اللحم: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكرانًا كن أم إناثًا، قالت: وسمعت النبي -عليه السلام- يقول: أقروا الطير على مكناتها". فهذا كما ترى نحو رواية الطحاوي عن عُبيد الله بن أبي زيد، عن سباع، وليس فيه ذكر عن أبيه، وكلاهما صحيح؛ لأن عُبيد الله هذا روى عن أبيه، عن سباع، وروى عن سباع أيضًا. قوله: "بالحُدَيبية" أي حال كون النبي -عليه السلام- بالحديبية -بضم الحاء وفتح الدال وسكون الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف- وكثير من المحدثين يشددون هذه الياء، وهي قرية كبيرة من مكة سميت ببئر هناك، وقد استوفينا الكلام فيها مرة. قوله: "عن لحوم الهدي" أي الهدي الذي ذبحه رسول الله -عليه السلام- هناك لأجل إحلاله من عمرته التي صد عنها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 105 رقم 2836). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 98 رقم 1516). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1056 رقم 3162). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 381 رقم 27183). (¬5) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الهدي إذا صد عن الحرم نحو في غير الحرم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما نحر رسول الله -عليه السلام- بالحديبية إذ صد عن الحرم؛ دل ذلك على أن لمن منع من إدخال هديه الحرم أن يذبحه في غير الحرم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا والزهري ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: بجواز ذبح الهدي الذي يصد عن الحرم في غير الحرم، واستدلوا على ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز نحر الهدي إلاَّ في الحرم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن إسحاق وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا يجوز ذبح الهدي إلاَّ في الحرم. ص: وكان من حجتهم في ذلك: قول الله -عز وجل-: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} " (¬1) فكان الهدي قد جعله الله -عز وجل- ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذي جعله الله -عز وجل- متتابعًا في كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذي وجب عليه غيرَ مُطيقٍ للإِتيان به متتابعًا فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا، فكذلك الهدي الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ الذي هو عليه كذلك وإن صد عن بلوغ الكعبة للضرورة أن يذبحه فيما سوى ذلك. ش: أي وكان من حجة الآخرين فيما ذهبوا إليه قول الله -عز وجل- {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (1)، وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) وصار بلوغ الكعبة صفة للهدي ولا يجزئ دونها، وأيضًا لما كان ذبحًا تعلق وجوبه بالإِحرام؛ وجب أن يكون مخصوصًا بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [95]. (¬2) سورة الحج، آية: [33].

فإن قيل: لما قال النبي -عليه السلام- لكعب بن عجرة: اذبح شاة، ولم يشترط له مكانًا، وجب أن لا يكون مخصوصًا بموضع. قلت: إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية، وبعضها من الحل وبعضها من الحرم، فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بأن ما تعلق من ذلك بالإِحرام فهو مخصوص بالحرم، وقد كان أصحاب النبي -عليه السلام- عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم، لما كانوا يرون النبي -عليه السلام- يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في نحر النبي -عليه السلام- لذلك الهدي الذي نحره [بالحديبية] (¬1) لما صد عن الحرم، وتصدق بلحمه بقديد، أن قومًا قد زعموا أن نحره إياه كان في الحرم. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا مخول بن إبراهيم بن مخول بن راشد، عن إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر، عن ناجية بن جندب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: "أتيت النبي -عليه السلام- حين صد الهدي فقلت يا رسول الله، ابعث معي بالهدي فلأنحره في الحرم، قال: وكيف يا جندب، قال آخذ به في أودية لا يقدرون عليّ فيها فبعثه معي حتي نحرته في الحرم". فقد دل هذا الحديث أن هدي النبي -عليه السلام- ذلك نحر في الحرم. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية وأراد منها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بنحره -عليه السلام- في الحديبية، وبين ذلك بوجهين: أحدهما: ما أشار إليه بقوله: إن قومًا زعموا أن نحره إياه كان في الحرم، أي أن نحر النبي -عليه السلام- هديه إنما كان في الحرم، ولم يكن في الحل، واستدلوا على ذلك بحديث ناجية بن جندب الأسلمي فإنه يدل على أن هديه -عليه السلام- قد نحر في الحرم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والنخعي وطاوسًا ومحمد بن إسحاق، فإنهم ادعوا ذلك محتجين بالحديث المذكور. وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مخول -بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو- بن إبراهيم بن مخول النهدي الكوفي، رافضي ولكنه صدوق، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن مجزأة -بفتح الميم، وكسرها بعضهم، وسكون الجيم، وفتح الزاي المعجمة بعدها همزة، قاله الجياني، وقال غيره: لا تُهْمَز- ابن زاهر بن الأسود الأسلمي الكوفي، قال أبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له البخاري ومسلم والنسائي. عن ناجية بن جندب بن كعب، وقيل: ناجية بن كعب بن جندب بن عمر بن معمر الأسلمي صاحب بدن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬1) بسند صحيح، عن ناجية بن جندب نحوه. ص: وقال آخرون: كان النبي بالحديبية -عليه السلام- وهو يقدر على دخول الحرم، قالوا: ولم يكن صد إلاَّ عن البيت، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سفيان بن بشر [الكوفي] (¬2) قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور: "أن رسول الله -عليه السلام- كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم". فثبت بما ذكرنا أن النبي -عليه السلام- لم يكن صد عن الحرم، وأنه قد كان يصلي إلى بعضه، ولا يجوز في قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شيء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم، فلما ثبت بالحديث الذي ذكرنا أن النبي -رضي الله عنه- كان يصلي إلى بعض الحرم؛ استحال أن يكون نحو الهدي في غير الحرم؛ لأن الذي يبيح الهدي في غير الحرم إنما يبيحه في حال الصد عن الحرم لا في حال القدرة على ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 453 رقم 4135). (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

دخوله، فانتفى بما ذكرنا أن يكون النبي -عليه السلام- نحر الهدي في غير الحرم، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وقال قوم آخرون، وأراد بهم: عروة بن الزبير ومروان والمسور؛ فإنهم قالوا: كان النبي -عليه السلام- نازلاً بالحديبية والحال أنه يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صد أي منع إلاَّ من دخول البيت، وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما قالوا من هذا القول بما أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سفيان بن بشر بن أيمن الكوفي الأسدي، ذكره ابن يونس في الغرباء، وسكت عنه، عن يحيى بن أبي زائدة الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن المسور -بكسر الميم- بن مخرمة -بفتح الميم- له ولأبيه صحبه توفي رسول الله -عليه السلام- وهو ابن ثمان سنين، وقد روى عن رسول الله -عليه السلام- وصح سماعه منه. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث يونس، عن ابن إسحاق، نا الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة، قالا: "خرج رسول الله -عليه السلام- زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ... " الحديث بطوله، وفيه: "وكان مضطربه في الحل، وكان يصلي في الحرم". انتهى. قلت المضطرب: هو البناء الذي يضرب ويقام على أوتاد مضروبة في الأرض، والخِبَاء -بكسر الخاء- بيت من صوف أو وبر فإذا كان شعر سمى بيتًا، والجمع: أخبية. فإن قيل: روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: إنما ذهبنا إلى أنه نحر الهدي في غير الحرم لأن الله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 215 رقم 9857).

وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬1) والحرم كله محله عند أهل العلم، والحديبية موضع منه ما هو في الحل ومنه ما هو في الحرم، وإنما نحر الهدي عندنا في الحل، وفيه مسجد رسول الله -عليه السلام- الذي بويع فيه تحت الشجرة، فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2) وقال في قوله: {تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬3) محله -والله أعلم- هَا هنا بيّنه أن يكون إذا أحصر نحر حيث أحصر، ومحله من غير الإِحصار الحرم، وهو كلام عربي واسع. قلت: فإذا كانت الحديبية بعضها في الحرم كيف يجوز أن يترك هذا الموضع وينحر في الحل؟ والحال أن بلوغ الكعبة صفة للهدي في قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬4) وحديث ناجية بن جندب الذي ذكره أيضًا وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5): ثنا أبو أسامة، عن أبي العميس، عن عطاء قال: "كان منزل النبي -عليه السلام- يوم الحديبية في الحرم". فإذا كان منزل النبي -عليه السلام- الحرم، كيف ينحر هديه في الحل؟ وهذا محال، وفي "الاستذكار": قال عطاء وابن إسحاق: لم ينحر -عليه السلام- هديه يوم الحديبية إلاَّ في الحرم". ص: وقد احتج قوم في تجويز نحر الهدي في غير الحرم بما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: "خرجت مع عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فاشتكى ¬

_ (¬1) سورة الفتح، آية: [25]. (¬2) سورة الفتح، آية: [18]. (¬3) سورة البقرة، آية: [196]. (¬4) سورة المائدة، آية: [95]. (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 389 رقم 36856).

الحسين -رضي الله عنه- بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومئ إلى رأسه، فحلق علي -رضي الله عنه- رأسه، ونحر عنه جزورًا فأطعم أهل الماء". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر عثمان، ولا أن الحسين كان محرمًا. فاحتجوا بهذا الحديث لأن فيه أن عليًّا -رضي الله عنه- نحر الجزور دون الحرم. ش: أراد بالقوم طائفة من أهل المقالة الأولى، فإنهم احتجوا في جواز نحر الهدي في غير الحرم بحديث أبي أسماء؛ لأنه يخبر أن عليًّا -رضي الله عنه- نحر الجزور في دون الحرم، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يعقوب بن خالد بن المسيب وثقه ابن حبان، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد المخزومي، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر: "أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر فخرج معه من المدينة فمروا على حسين بن علي -رضي الله عنهما- وهو مريض بالسقيا، فأقام عليه عبد الله حتى إذا خاف الفوات خرج، وبعث إلى علي وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة، فقدما عليه، ثم إن حسينًا أشار إلى رأسه، فأمر علي برأسه فَحُلِقَ، ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرًا، قال يحيى: وكان حسين خرج مع عثمان -رضي الله عنهما- في سفره ذاك إلى مكة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 218 رقم 9868).

قوله: "بالسقيا" بضم السين المهملة وسكون القاف وبالياء آخر الحرف مقصور، وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة من عمل الفرع، قال أبو عبيد: إنما سميت بذلك لما سقيت من الماء العذب، وهي كثيرة الآبار والعيون والبرك، وكثير منها صدقات للحسين بن زيد. وقال ياقوت في "المشترك": هي من النحر على سبعة فراسخ. وقال الزمخشري في كتاب "أسماء البلاد": السقيا: المسيل الذي يفرغ في عرفة، بها مسجد إبراهيم -عليه السلام-. وفي "المطالع" السقيا: قرية جامعة من عمل الفرع بينهما مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلًا. قوله: "برسام" بكسر الباء علة معروفة، وهي تحدث عن سوء مزاج حار في الدماغ، أو ورم صار في أغشية الدماغ، فالذي يكون عن ورم يكون أشد خطرًا، ويعرض لصاحب البرسام أن يتنبه من نومه بصياح ووثوب ويخشن لسانه ويسود ومع هذا يكون سيئ الخلق غضوبًا لجوجًا إن كان الورم صفراويًّا، وإن كان دمويًّا يكون عنده ضحك ونوم وحمرة في العين، وإن كان سوداويًّا يكون كثير الهدبابات والفزع والخوف والبكاء. ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك: أنهم لا يبيحون لمن كان غير ممنوع من الحرم أن يذبح في غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا عنه، فدل ما ذكرنا أن عليًّا -رضي الله عنه- لما نحر في هذا الحديث في غير الحرم وهو واصل إلى الحرم أنه لم يكن أراد به الهدي ولكنه أراد به معنى آخر من الصدقة على أهل ذلك الماء والتقرب إلى الله -عز وجل- بذلك، مع أنه ليس في الحديث أنه أراد به الهدي، فكما يجوز لمن حمله أنه هدي ما حمله عليه من ذلك، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدي ما حمله من ذلك، وقد بدأنا بالنظر في ذلك وذكرنا في أول هذا الباب؛ فأغنانا ذلك عن إعادته هَا هنا.

ش: أي فكان من الحجة على هؤلاء القوم، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث أبي أسماء في جواز نحر الهدي في غير الحرم، وهو ظاهر، وقال الجصاص في جواب هذا قريبًا مما قاله الطحاوي، وهو أنه ليس فيه دلالة على أنه يأتي جواز الذبح في غيى الحرم، لأنه يجوز أن يكون جعل اللحم صدقة، وذلك جائز عندنا، وذكر الإِشبيلي في شرح "الموطأ": إن هذا الذي نحره علي -رضي الله عنه- كان فدية الأذى، وفدية الأذى يجوز ذبحها بكل موضع؛ لأنها نسك كالأضحية والعقيقة وليست بهدي فيكون لها تعلق بالبيت، ولا تقلد ولا تشعر ولا تحتاج أن يجمع لها بين الحل والحرم ولا يجوز أن يدعى أن البعير الذي نحر عنه ليتحلل بذلك الموضع، لوجوه أحدهما: أن أبا حنيفة الذي يبيح التحلل في موضع المرض لا يرى أن ينحر الهدي إلاَّ بمكة، والشافعي الذي يرى التحلل بالشرط ويرى أن ينحر [الهدي] (¬1) حيث يحل، لا يمكنه أن يعلم أنه اشترط التحلل، ولا علمنا أن أحدًا عمل به، وقال الزهري: لم يقل أحد بالشرط، ولو سلم له هذا فإن عليًّا اشترى ما نحر حيث نحره، روى ذلك حماد بن زيد، ولم يقلده ولا أشعره، فلم يكن هديًا ساقه وإنما كان دم فدية أذى واختار إخراج الأفضل، وكانت الشاة تجزئه، وكان حسين -رضي الله عنه- خرج مع عثمان يريد الحج، ومرض بالعرج فتحامل، فلما بلغ السقيا اشتد به المرض، فمضى عثمان وتركه بالسقيا. قوله: "ما حمله عليه" في الموضعين فاعل لقوله "يجوز" في الموضعين، فافهم. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "بالهدي".

ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديا ولا يصوم في العشر

ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر ش: أي هذا باب في بيان أن المتمتع الذي لم يجد هديًا يذبحه ولا صام في العشر كيف يكون حكمه هل يصوم أيام التشريق أم لا؟. ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا يحيى بن سلام، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم في العشر أنه يصوم أيام التشريق". ش: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري شيخ النسائي وأبي بكر بن خزيمة وثقه النسائي، ويحيى بن سلام بن أبي ثعلبة أبو زكريا المصري نزيل مصر قال الدارقطني: ضعيف. وابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه مقال، ويقال: هو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي ابن أخي محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال الشافعي: ثقة. وروى له الجماعة وسيجيء الكلام فيه عند الجواب عن هذا الحديث إن شاء الله. والزهري هو محمد بن مسلم، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عبد الحكم، ثنا يحيى بن سلام البصري وهو لين، نا شعبة، عن ابن أبي ليلى عبد الله، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "رخص رسول الله -عليه السلام- في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو كامل فضيل بن الحسين الجحدري، قال: ثنا أبو عوانة، عن عبد الله بن عيسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 25 رقم 8282).

وعن سالم، عن ابن عمر، قالا: "لم يرخص رسول الله -عليه السلام- في صوم أيام التشريق إلاَّ لمحصر أو لمتمتع". حدثنا محمد بن النعمان الواسطي، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وعن سالم، عن أبيه: "أنهما كانا يرخصان للمتمتع إذا لم يجد هديًا ولم يكن صام قبل عرفة أن يصوم أيام التشريق". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان ... إلى آخره، والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد، وأبو عوانة: الوضاح، وعبد الله بن عيسى هو ابن أبي ليلى المذكور. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، عن سعيد، سمعت عبد الله ابن عيسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وسالم، عن ابن عمر قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلاَّ لمن [لم] (¬2) يجد الهدي". الثاني: أيضًا رجاله ثقات، وعبد العزيز الأويسي شيخ البخاري، وأويس أحد أجداده، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر نحوه. وأخرجه البخاري (¬4): من وجه آخر قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: نا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد الهدي ولم يصم صام أيام منى". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 703 رقم 1894). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 155 رقم 12996). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 703 رقم 1895).

وعن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة مثله، تابعه إبراهيم بن سعد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا وأباحوا صيام أيام التشريق للمتمتع والقارن وللمحصر إذا لم يجدوا هديًا، ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، صاموا هذه الأيام، ومنعوا منها من سواهم، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عروة والزهري ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: المتمتع إذا لم يصم في أيام العشر لعدم الهدي يجوز له أن يصوم في أيام التشريق، وكذا القارن والمحصر، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. قوله: "ومنعوا منها من سواهم" أي منع هؤلاء القوم الصوم في أيام التشريق مَنْ سوى المتمتع والقارن والمحصر، وفي شرح "الموطأ" للإِشبيلي: ووقت هذا الصوم من حين يحرم بالحج إلى آخر أيام التشريق، والاختيار تقديمه في أول الإِحرام رواه ابن الجلاب، وإنما اختار تقديمه لتعجيل إبراء الذمة؛ ولأنه وقت متفق على جواز الصوم فيه، فإنه فاته ذلك قبل يوم النحر صامه أيام منى، فإن لم يصم أيام منى صام بعدها. قاله علي وابن عمر وعائشة وابن عباس، وبه قال الشافعي، وروى عن عطاء بن أبي رباح أنه أجاز للمتمتع أن يصوم في العشر وهو حلال، وقال مجاهد وطاوس: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه، وهذان القولان شاذان، وقال أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن": اختلف السلف فيمن لم يجد الهدي ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم وطاوس: لا يجزئه إلاَّ الهدي. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى. وهو قول مالك، وقال علي بن أبي طالب: يصوم بعد أيام التشريق. وهو قول الشافعي انتهى. ثم اعلم أن المتمتع إذا صام الأيام الثلاثة عقيب إحرامه بالعمرة قبل إحرامه بالحج يجوز عندنا، وهو قول الثوري أيضًا، وقال الشافعي ومالك: لا يجوز إلاَّ في

إحرام الحج، وهو قول عائشة وابن عمر، وقال زفر: إذا بدأ بالحج فأحرم به وهو يريد أن يضيف إليه عمرة، فصام قبل إحرام العمرة أجزأه. وقال أبو يوسف: إن بدأ بإحرام العمرة فصام قبل إحرام الحج أجزأه، وإن بدأ بإحرام الحج فصام قبل إحرام العمرة لم يجزئه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس لهؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن يصوموا هذه الأيام عن شيء من ذلك ولا عن شيء من الكفارات ولا في تطوع، لنهي النبي -عليه السلام- عن ذلك، ولكن على المتمتع والقارن الهدي لمتعتهما وقرانهما، وهدي آخر لأنهما حلّا بغير الهدي ولا صوم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح في رواية، وسعيد بن جبير وطاوسًا وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: المتمتع أو القارن إذا فاته صوم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر لا يجوز له الصوم بعد ذلك، وعليه الدم، وأما الصوم في أيام التشريق فلا يجوز أصلاً لا للمتمتع ولا للقارن ولا لمن عليه كفارة ولا لمن يتطوع به، وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس -رضي الله عنه-. ص: واحتجوا في ذلك من الآثار المروية عن رسول الله -عليه السلام- بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع، عن جبير، عن بشر بن سحيم الأسلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "خرج منادي رسول الله -عليه السلام- في أيام التشريق فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من الأحاديث المروية عن النبي -عليه السلام- بما حدثنا ... إلى آخره، والباء فيه تتعلق بقوله: "احتجوا" وكلمة "من" في قوله: "من الأحاديث" بيانية.

منها: حديث علي بن أبي طالب، أخرجه بإسناد حسن، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقريء القصير شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي ثقة إلاَّ أنه اختلط في آخر عمره، وقال النسائي ليس به بأس. وروى له الأربعة والبخاري مستشهدًا. عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن نافع بن جبير بن مطعم النوفلي المدني روى له الجماعة، عن بشر بن سحيم الأسلمي الصحابي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-. وأخرجه النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2) وأحمد (¬3) والدارمي (¬4) والطبراني (¬5) والبيهقي (¬6) كلهم عن بشر بن سحيم، عن النبي -عليه السلام- بدون واسطة علي: "أنه خطب يوم التشريق في أيام الحج فقال: لا يدخل الجنة إلاَّ نفس مسلمة، وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب". وقال أبو عمر بن عبد البر: بشر بن سحيم روى عن نافع بن جبير حديثًا واحدًا في أيام التشريق أنهما أيام أكل وشرب، قال: لا أحفظ له غيره. وقال ابن حبان: له عن النبي -عليه السلام- حديث واحد في أيام التشريق أنهما أيام أكل وشرب، وقيل: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. قلت: أخرج الطحاوي عنه عن علي كما رأيت، وأخرج عنه عن النبي -عليه السلام- على ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 104 رقم 4994). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 548 رقم 1720). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 335 رقم 18975). (¬4) "سنن الدارمي" (2/ 38 رقم 1766). (¬5) "المعجم الكبير" (2/ 36 رقم 1205). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 298 رقم 8247).

ما يجيء عن قريب، وكذلك أخرج ابن حزم (¬1) الحديث المذكور عن بشر بن سحيم عن النبي -عليه السلام- وعن بشر بن سحيم عن علي بن أبي طالب عن النبي -عليه السلام-. وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، سميت بذلك من تشريق اللحم وهو تقديده وبسطه في الشمس ليجف؛ لأن لحوم الأضاحي كانت تشرق فيها بمنى، وقيل: سميت به لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي حتى تطلع. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا محمد بن أبي حميد المدني، قال: ثنا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده، قال: أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أنادي أيام منى إنها أيام أكل وشرب، فلا صوم فيها يعني أيام التشريق". ش: روح بن عبادة شيخ أحمد روى له الجماعة، ومحمد بن أبي حميد واسم أبي حميد إبراهيم الزرقي المدني فيه مقال، وعن يحيى: ضعيف ليس حديثه بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له الترمذي وابن ماجه. وإسماعيل بن محمد روى له الجماعة إلاَّ أبا داود، وأبوه محمد بن سعد روى له الجماعة، وجده سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا روح، نا محمد بن أبي حميد ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله". ¬

_ (¬1) "المحلى": (7/ 28). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 169 رقم 1456).

ش: سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، وهشيم بن بشير روى له الجماعة، وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة فيه لين، وعطاء هو ابن أبي رباح وأخرجه (¬1). ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن أبي مرة، مولى عقيل بن أبي طالب: "أنه دخل هو وعبد الله بن عمرو بن العاص على عمرو بن العاص وذلك الغد أو بعد الغد من أيام التشريق، فقرب إليهم عمرو طعامًا، فقال عبد الله: إني صائم، فقال له عمرو: أفطر؛ فإن هذه الأيام التي كان رسول الله -عليه السلام- يأمرنا بفطرها -أو ينهانا عن صيامها- فأفطر عبد الله، فأكل وأكلت". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني روى له الجماعة، وأبو مرة مولى عقيل بن أبي طالب اسمه يزيد. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "وذلك الغد" ذلك إشارة إلى الدخول الذي دل عليه قوله: "أنه دخل هو وعبد الله" والمعنى دخولهما على عمرو بن العاص كان في الغد من أيام التشريق أو بعد الغد منها. فإن قيل: كيف إعراب "وذلك الغد"؟ قلت: ذلك في محل الرفع على الابتداء، وخبره "الغد" منصوب بتقدير "في " والمعنى: ذلك حصل في الغد، أي الدخول حصل في الغد من أيام التشريق، ونظيره زيد خلفك، فالخبر في الحقيقة حصل، فلما حذف صار الخبر هو الظرف ¬

_ (¬1) بيض له المصنف -رحمه الله- ولم يذكر من أخرجه، وقد أخرجه الإِمام الطبري في "تفسير" (2/ 304) تحت تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} من سورة البقرة. (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 38 رقم 1767).

على المجاز، ولا يجوز الرفع في "الغد" لأن الخبر ما يصدق على المبتدأ، والغد لا يصدق على الدخول؛ لأنه لا يقال: الدخول غد، كما يقال الدخول حصل أو حاصل، ولكن جوز الرفع فيما إذا أخبر عن الحدث بالزمان المعرفة، نحو سرنا شهر رمضان، وذلك على الاتساع تشبيهًا بالخبر الحقيقي، إذ ليس رمضان نفس السير، وذلك ليفيد العموم، كما في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬1) ويجوز النصب أيضًا ليفيد وقوعه فيه لا العموم، وإن أخبر عن النكرة فالجيد الرفع نحو سيرنا يوم؛ لأن القصد عموم اليوم بالسير، ولو نصب لكان ظرف ويفيد وقوع السير في يوم، فافهم، فإنه بحث دقيق لا يدركه إلاَّ ذو قريحة وقادة وطبيعة نقادة. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: حدثني ابن جريج، قال: أخبرني سعيد بن كثير، أن جعفر بن عبد المطلب أخبره: "أن عبد الله بن عمرو بن العاص دخل على عمرو بن العاص فدعاه إلى الغداء فقال: إني صائم، ثم الثانية فكذلك ثم الثالثة، فقال: لا إلَّا أن تكون سمعته من رسول الله -عليه السلام-، قال: فإني قد سمعته من رسول الله -عليه السلام- يعني النهي عن الصيام أيام التشريق". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، وابن جريج هو عبد الملك المكي، وسعيد بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي المكي، أخو كثير بن كثير، وهو ابن أخي جعفر المذكور وثقه ابن حبان، وجعفر بن عبد المطلب بن أبي وداعة وثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا روح، نا ابن جريج ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، آية: [15]. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 197 رقم 17804).

مهدي، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن سالم، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حذافة: "أن النبي -عليه السلام- أمره أن ينادي في أيام التشريق: إنها أيام أكل وشرب". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا، وسفيان هو الثوري، وسالم هو ابن أبي أُميَّة أبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- وسليمان بن يسار الهلالي أبو أيوب المدني مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، وعن يحيى بن معين: أن سليمان بن يسار لم يسمع من عبد الله بن حذافة. وأخرجه أحمد (¬1): عن عبد الرحمن، عن سفيان ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه الطبراني: ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الرحمن ابن مهدي، نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله ابن حذافة، عن النبي -عليه السلام- قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب" وله في رواية أخرى (¬2): "أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أنادي في أهل منى في بردين: أن لا يصومن هذه الأيام أحد، فإنها أيام أكل وشرب وذكر". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر عبد الله بن حذافة أن يطوف في أيام منى: ألا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل-". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 450 رقم 15773). (¬2) "المعجم الأوسط" (1/ 173 رقم 544).

ش: هذان طريقان: الأول: فيه صالح بن أبي الأخضر اليمامي مولى هشام بن عبد الملك، ضعفه يحيى وأبو زرعة، وعن يحيى والبخاري: ليس بشيء. روى له الأربعة. وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): نا يعقوب بن إبراهيم البزاز، نا أحمد بن يحيى بن عطاء الجلاب، ثنا روح بن عبادة ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى". والباقي نحوه سواء. الثاني: فيه عمر بن أبي سلمة، قال ابن سعد: لا يحتج بحديثه. وقال ابن المديني: تركه شعبة وليس بذاك. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال العجلي وابن معين: لا بأس به. وأبوه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أيام منى أيام أكل وشرب". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد -هو ابن منصور- قال: نا هشيم، قال: أنا خالد الحذاء، عن أبي المليح الهذلي، عن نبيشة الهذلي، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأبو المليح بن أسامة الهذلي قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة بن عمير، وقيل: ابن أسامة بن عامر. ونبيشة بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الهاء المعجمة، وهو نبيشة الخير بن عبد الله بن عمرو الهذلي الصحابي -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 187 رقم 33). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 394 رقم 15268).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سريج بن يونس، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، عن أبي مليح، عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن نافع بن جبير أخبره، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-قال عمرو: قد سماه نافع فنسيته- أن النبي -عليه السلام- قال لرجل من بني غفار يقال له: بشر بن سحيم: "قم فأذن في الناس: إنها أيام أكل وشرب في أيام منى". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عليًّا، وابن جريج هو عبد الملك. وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) من حديث سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير. وأخرجه أبو نعيم بإسناده عن نافع بن جبير بن مطعم، عن رجل من الصحابة: "أن النبي -عليه السلام- بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي: أنه لا يدخل الجنة إلاَّ نفس مسلمة، وإنها أيام أكل وشرب" قال: وروي نحو هذا عن جابر. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، قال: أنا عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، وتكرر رجاله. وأخرجه الطبراني (¬4): نا علي بن سعيد الرازي، ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي، ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم، والحجاج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم: "أن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 800 رقم 1141). (¬2) "المجتبى" (8/ 104 رقم 4994). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 548 رقم 1720). (¬4) "المعجم الكبير" (2/ 37 رقم 1215).

رسول الله -عليه السلام- أمره فنادى بمنى أيام التشريق: لا يدخل الجنة إلاَّ نفس مسلمة، وإنها أيام أكل وشرب". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا سعيد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان آخران صحيحان، رجالهما رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي. وأخرجه الييهقي (¬1): من حديث شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن بشر بن سحيم: "أن رسول الله -عليه السلام-: بعثه أيام التشريق بمنى ينادي: إنها أيام أكل وشرب، ولا يدخل الجنة إلاَّ مؤمن". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) نحوه. ص: حدثنا علي، قال: ثنا روح، قال: ثنا الربيع بن صُبيح ومرزوق أبو عبد الله الشامي، قالا: ثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صوم أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان. الأول: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن الربيع بن صَبيح -بفتح الصاد- السعدي أبي حفص البصري، فعن يحيى: ليس به بأس، وعنه: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد والنسائي: ضعيف. وقال أبو زرعة: شيخ صالح صدوق. روى له الترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 298 رقم 8247). (¬2) "المجتبى" (8/ 104 رقم 4994). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 548 رقم 1720).

وعن مرزوق أبي عبد الله الشامي الحمصي، ذكره ابن حبان في الثقات، كلاهما عن يزيد بن أبان الرقاشي أبي عمرو البصري فعن يحيى: ضعيف، وعنه: لا شيء، وعنه: رجل صالح وليس حديثه بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له الترمذي وابن ماجه، والرقاشي -بفتح الراء والقاف- نسبة إلى رقاش بنت ضبيعة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): نا موسى بن محمد، نا كهمس بن المنهال، نا سعيد بن أبي عروبة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن صوم خمسة أيام من السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق". والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي ... إلى آخره. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا أبو عبد الرحمن المقريء، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير، عن معمر بن عبد الله العدوي، قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- أؤذن في أيام التشريق بمنى: لا يصومن أحد، فإنها أيام أكل وشرب". ش: أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقريء القصير شيخ البخاري، وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، ويزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن جبير المصري المؤذن مولى نافع بن عمرو وثقه النسائي وابن حبان وروى له مسلم ومن الأربعة غير ابن ماجه، ومعمر ابن عبد الله بن نافع القرشي العدوي الصحابي -رضي الله عنه-، وأخرجه أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة": ثنا محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي مريم، ثنا: ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير، عن معمر بن عبد الله العدوي قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- أؤذن الناس بمنى: أن لا يصوم أحد أيام التشريق، فإنها أيام أكل وشرب". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (7/ 149 رقم 4117).

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، ويحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، أنه سمع سليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب يحدثان، عن أم الفضل امرأة عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قالت: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- بمنى، فسمعت مناديًا يقول: إن هذه الأيام أيام طعم وشرب وذكر الله، قالت: فأرسلت رسولاً: من الرجل ومن أمره؟ فجاءني الرسول فحدثني أنه رجل يقال له: حذافة، يقول: أمرني بها رسول الله -عليه السلام-". ش: ربيع هو ابن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار المصري راوية ابن لهيعة، قال النسائي: ليس به بأس. وعن يحيى: كان شيخ صدوق. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، وابن لهيعة عبد الله، وأبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي روى له الجماعة، وكذلك سليمان وقبيصة بن ذؤيب بن طلحة الخزاعي روى لهما الجماعة. وأم الفضل اسمها لبابة بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، أخت ميمونة بنت الحارث، وكانت أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكان النبي -عليه السلام- يزورها ويقيل عندها. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرني المنذر، عن عمر بن خلدة الزرقي، عن أمه، قالت: "بعث رسول الله -عليه السلام- علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- في أوسط أيام التشريق، فنادى في الناس: لا تصوموا في هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال". ش: موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي أبو عبد العزيز المدني فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه، وعنه: ضعيف، وعنه: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له الترمذي وابن ماجه.

والمنذر بن جهم، قال البخاري: ابن أبي الجهم، ذكره في "تاريخه" وسكت عنه، وعمر بن خلدة الزرقي وثقه النسائي والفلاس وغيرهما، وأمه أم عمر بن خلدة الأنصارية الصحابية، قال ابن الأثير: هذه أم عمر بضم العين. قلت: إنما قيد بهذا القيد احترازًا عن أم عمرو بفتح العين بن سليم الزرقي؛ فإن لها حديثًا أيضًا في هذا الباب، رواه عنها [ابنها] (¬1) عمرو بن سليم. أخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا قتيبة بن سعيد، نا ليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أمه أنها قالت: "بينا نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل وهو يقول: إن رسول الله -عليه السلام- يقول: إن هذه أيام طعم وشرب، فلا يصومن أحد، فأسمع الناس". أما حديث عمر بن خلدة فأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" (¬3): ثنا وكيع، عن موسى بن عُبيدة، عن منذر بن جهم، عن عمر بن خلدة، عن أمه قالت: "إن النبي -عليه السلام- بعث عليًّا ينادي بمنى: إنها أيام أكل وشرب وبعال". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن حكي ابن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزرقي، قال: حدّثتني أمي قالت: "لكأني انظر إلى علي بن أبي طالب على بغلة النبي -عليه السلام- البيضاء حين قام إلى شعب الأنصار وهو يقول: يا معشر المسلمين، إنها ليست بأيام صوم، إنها أيام أكل وشرب وذكر الله -عز وجل-". ش: الوهبي هو أحمد بن خالد الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه ابن معين وروى له الأربعة، وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق صاحب المغازي، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري المدني، قال ابن سعد: كان قليل الحديث ولا يحتجون بحديثه. ووثقه ابن حبان، وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ابنه" وهو تحريف. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 104 رقم 824). (¬3) "مسند ابن أبي شيبة" (3/ 394 رقم 15265).

ومسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني، ولد في عهد النبي -عليه السلام-، روى له الجماعة سوى البخاري، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وأمه حبيبة بنت شريق بن أبي خيثمة امرأة من هذيل أدركت النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬1): من حديث مسعود بن الحكم الزرقي [قال] (¬2): حدثتني أمي ... إلى آخره نحوه. قوله: "لكأني" اللام فيه لام التأكيد؛ فلذلك جاءت مفتوحة. قوله: "حيث قام إلى شعب الأنصار" بفتح الشين وهو الذي يتفرق منه القبائل. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن تمام، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني ميمون بن يحيى، قال: حدثني مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار يزعم أنه سمع ابن الحكم الزرقي يقول: حدثنا أبي: " أنهم كانوا مع رسول الله -عليه السلام- بمنى، فسمعوا راكبًا وهو يصرخ: لا يصومن أحد؛ فإنها أيام أكل وشرب". ش: محمد بن عمرو يكنى بأبي الكَرَوّس بفتح الكاف والراء وتشديد الواو وفي آخره سين مهملة، ويحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، وميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج مولى بني زهرة ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، ومخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج روى له الجماعة، وسليمان بن يسار الهلالي روى له الجماعة، وابن الحكم هو مسعود بن الحكم المذكور آنفًا، وأبوه الحكم الزرقي ذكره ابن الأثير في الصحابة، وقال: الحكم أبو مسعود الزرقي روى عنه ابنه مسعود، في حديثه اختلاف، رواه ميمون بن يحيى الأشج، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت سلميان بن يسار، أنه سمع ابن الحكم الزرقي وهو مسعود، ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 168 رقم 2886). (¬2) في "الأصل، ك": "قالت"، وهو خطأ.

يقول: حدثني أبي: "أنهم كانوا مع رسول الله -عليه السلام- بمنى، فسمعوا راكبًا وهو يصرخ: لا يصومن أحد؛ فإنها أيام أكل وشرب". قال أبو نعيم: رواه بعض المتأخرين، وذكره وقال: هذا وهم منكر، والصواب ما رواه ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، يزعم أنه الحكم الزرقي يقول: حدثني أبي ... وذكر مثله. ورواه ابن وهب أيضًا عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن سليمان، عن مسعود، عن أبيه. ورواه عمرو بن الحارث، وسليمان بن بلال والناس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يوسف بن مسعود بن الحكم، عن جدته وهي حبيبة بنت شريق: "أنها كانت مع أمها العجفاء بمنى أيام الحج، فجاءهم بديل بن الورقاء فنادى أن النبي -عليه السلام- قال ... " نحوه. ورواه الزهري، عن مسعود بن الحكم، أنه قال: أخبرني بعض أصحاب النبي -عليه السلام-. ورواه سالم أبو النضر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حذافة مثله. ورواه أصحاب قتادة، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي: "أنه رأى رجلاً بمنى ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرهم ينادي ... ". مثله، وذكر أن المنادي كان بلالًا. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر ابن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن سليمان بن يسار، حدثه أن مسعودًا حدثه، عن أمه نحوه. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الله بن محمد الفهمي، قال: أنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع يوسف بن مسعود بن الحكم الزرقي يقول: حدثتني جدتي ... ثم ذكر نحوه.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن مسعود بن الحكم الأنصاري، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "أمر النبي -عليه السلام- عبد الله بن حذافة أن يركب راحلته أيام منى فيصيح في الناس: ألا لا يصومن أحد؛ فإنها أيام أكل وشرب، قال: فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك". ش: هذه ثلاث طرق أخرى في الحديث المذكور: الأول: عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمد أبي عبد الملك المصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب أبي أمية المصري روى له الجماعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن مسعود بن الحكم الزرقي المذكرر آنفًا، عن أمه حبيبة بنت شريق المذكورة آنفًا. الثاني: عن روح بن الفرج القطان أبي الزنباع المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن عبد الله بن محمد بن إسحاق الفهمي وثقه أحمد بن صالح، عن سليمان بن بلال القرشي أبي أيوب المدني روى له الجماعة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يوسف بن مسعود بن الحكم الزرقي الأنصاري وثقه ابن حبان، عن جدته حبيبة بنت شريق المذكورة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، سمع يوسف بن مسعود بن الحكم، أنه حدثته جدته: "أنها رأت وهي بمنى في زمان رسول الله -عليه السلام- راكبًا يصيح يقول: أيها الناس إنها أيام أكل وشرب ونساء وبعال وذكر الله تعالى، قالت: فقلت: من هذا؟ قالوا: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 298 رقم 8246).

وروى أيضًا عن عيسى بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن جدته حبيبة بنت شريق: "أنها كانت مع أمها العجفاء في أيام الحج بمنى، قالت: فجاء بديل بن ورقاء على راحلة رسول الله -عليه السلام- ينادي: إن رسول الله -عليه السلام- قال: من كان صائمًا فليفطر؛ فإنها أيام أكل وشرب". رواه صالح بن كيسان عن عيسى. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن مهدي بن مالك الألي شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق بن همام صاحب "المصنف"، عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن مسعود بن الحكم الأنصاري، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. وأخرجه الدارقطني (¬1) بإسناد ضعيف، وفي آخره زيادة قال: ثنا محمد بن جعفر المطيري، نا عبد الرحمن بن محمد بن منصور، نا أبي، نا سليمان بن أبي داود الحراني، ثنا الزهري، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "أمر رسول الله -عليه السلام- عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق: ألا إن هذه أيام عيد وأكل وشرب وذكر فلا يصومن إلاَّ محصر، أو متمتع لم يجد هديًا ولم يصم في أيام الحج المتتابعة فليصمهن". سليمان بن أبي داود ضعيف، ثم اعلم أن الطحاوي قد أخرج أحاديث نهي الصوم في أيام التشريق عن ستة عشر نفسًا من الصحابة، وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة أم المؤمنين، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو هريرة، ونبيشة الهذلي، ورجل من أصحاب النبي -عليه السلام- سماه نافع ونسيه عمرو بن دينار، وبشر بن سحيم، وأنس بن مالك، ومعمر بن عبد الله، وأم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، وأم عمر بن خلدة، وأم مسعود بن الحكم حبيبة بنت شريق، والحكم الزرقي، ورجل من أصحاب النبي -عليه السلام- روى عنه مسعود الزرقي. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (2/ 187 رقم 36).

قلت: وفي الباب عن عمرو بن سليم، وعقبة بن عامر، وجابر، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وكعب بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وزيد بن خالد. وأما حديث أم عمرو بن سليم فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) وقد ذكرناه عند حديث أم عمرو بن خلدة. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: نا وكيع، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام وهي أيام أكل وشرب". وأخرجه أبو داود (¬3) والنسائي (¬4) والبيهقي (¬5). وأما حديث حمزة بن عمرو الأسلمي فأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬6): ثنا الحسن بن إسحاق التستري، نا عثمان بن أبي شيبة، نا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة الأسلمي: "أنه رأى رجلاً بمنى يطوف على جمل له آدم يقول: لا تصوموا هذه الأيام أيام التشريق، وإنها أيام أكل وشرب. ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرهم". وأما حديث كعب بن مالك فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬7): ثنا محمد بن سابق، نا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن أبي بن كعب بن مالك، عن أبيه كعب بن مالك، أنه حدثه: "أن رسول الله -عليه السلام- بعثه وأوس بن الحدثان في أيام التشريق فنادى: أن لا يدخل الجنة إلاَّ مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 104 رقم 821). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 143 رقم 773). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 320 رقم 2419). (¬4) "المجتبى" (5/ 252 رقم 3004). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 258 رقم 8245). (¬6) "المعجم الكبير" (3/ 157 رقم 2987). (¬7) "مسند أحمد" (3/ 460 رقم 15831).

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه النسائي (¬1): من رواية عاصم، عن المطلب، قال: "دعى أعرابيَّا إلى طعامه بعد يوم النحر بيوم، فقال الأعرابي: إني صائم، قال: إني سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- نهى عن صيام هذه الأيام". وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه الطحاوي كما ذكرنا، وأخرجه أبو داود (¬2) من طريق مالك، عن يزيد بن الهاد، عن أبي مرة مولى أم هانئ: "أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على عمرو بن العاص، فقرب إليهما طعامًا، فقال: كُل، قال: إني صائم، فقال عمرو: كل؛ فهذه الأيام التي كان رسول الله -عليه السلام- يأمرنا بإفطارها، وينهى عن صيامها، قال مالك: وهي أيام التشريق". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وحديث زيد بن خالد عند أبي يعلى (¬4). ص: قالوا: فلما ثبت بهذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- النهي عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى والحجاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن منهم متمتعًا ولا قارنًا؛ دخل المتمتعون والقارنون في ذلك النهي. ش: أي قال أهل المقالة الثانية: وأراد بهذه الآثار تلك الأحاديث التي أخرجها عن ستة عشر نفسًا من الصحابة -رضي الله عنهم- في النهي عن الصوم في أيام التشريق. قوله: "وكان نهيه"، أي والحال أنه كان نهي النبي -عليه السلام- عن ذلك بمنى، والحال أن الحاج مقيمين بها، والحال أن فيهم المتمتعين والقارنين، ولم يستثن منهم أحدًا، فَعَمَّ الكل. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 170 رقم 2899). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 320 رقم 2418). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 170 رقم 2900). (¬4) انظر "تلخيص الحبير" (2/ 197).

فإن قيل: قد مر في رواية الدارقطني: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق: ألا إن هذه أيام عيد وأكل وشرب وذكر، فلا يصومهن إلاَّ محصر أو متمتع". قلت: قد ذكرت لك أن هذا حديث ضعيف، فالدارقطني نفسه علله بسليمان ابن أبي داود الحراني. ص: فإن قال قائل: فلم صار هذا أولى مما رويتم في هذا الباب؟ قيل له: من قِبَل صحة ما جاء في هذا، وتواتر الآثار، وفساد ما جاء في الفصل الأول، من ذلك: حديث يحيى بن سلام، عن شعبة فهو حديث منكر لا يثبته أهل العلم بالرواية؛ لضعف يحيى بن سلام [عندهم] (¬1) وابن أبي ليلى وفساد حفظهما، مع أني لا أطعن على أحد من العلماء بشيء لكن ذكرت ما يقول أهل الرواية في ذلك. ومن ذلك حديث يزيد بن سنان الذي ذكرناه من بعده عن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم- أنهما قالا: "لا نرخص لأحد في صوم أيام التشريق إلاَّ لمحصر أو متمتع" فقولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه الرخصة ما قال الله -عز وجل- في كتابه: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬2) فعداهما أيام التشريق من أيام الحج [فقالا: رخص للحاج والمتمتع والمحصر في صوم أيام التشريق لهذه الآية، ولأن هذه الأيام عندهما من أيام الحج] (¬3) وخفي عليهما ما كان من توقيف رسول الله -عليه السلام- من بعد، على أن هذه الأيام ليست بداخله فيما أباح الله -عز وجل- صومه من ذلك فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح هذه الآثار. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عندكم"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) سورة البقرة، آية: [196]. (¬3) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: بيان السؤال أن يقال: ما توضيح هذه الأحاديث التي استدللتم بها في عموم النهي عن صيام أيام التشريق وشموله القارن والمتمتع، على حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم العشر: أنه يصوم في أيام التشريق، وعلى أثر عائشة وابن عمر قالا: "لم يرخص في صوم أيام التشريق، إلاَّ المحصر أو متمتع". وهما الحديثان اللذان احتج بهما أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة صوم المتمتع والقارن والمحصر أيام التشريق إذا لم يجدوا هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، كما قد مر ذكره مستوفى، وأجاب عن ذلك بقوله: قيل له: من قِبَل صحة ما جاء ... إلى آخره. وحاصله: أنه أجاب عن الحديث الأول بأنه ضعيف؛ لأن في سنده يحيى بن سلام وهو ضعيف عند أهل العلم بالحديث وضعفه الدارقطني، وحديثه منكر، وفي سنده أيضًا محمد بن أبي ليلى، تكلم فيه، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وعن أحمد: كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. وعن يحيى: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيئ الحفظ، شغل بالقضاء فساء حفظه، لا يتهم بشيء من الكذب، إنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وأشار الطحاوي إلى ما قالوا من ذلك بقوله: و"فساد حفظهما" ثم تورع عن ذلك بقوله: "مع أني لا أطعن على أحد من العلماء"، ونبه بذلك على أنه هو ليس بطاعن فيهما ابتداء، وإنما هو ناقل طعن الناس، وما قالوا فيهما على أنه هو أيضًا من أهل الجرح والتعديل. وقوله: "لا يرد في هذا الباب" لكونه إمامًا ثقة ثبتًا عند الكل، ولكن لما كان في معرض الاحتجاج لأصحابنا الحنفية على أخصامهم رد عليهم بما هم قائلون به، وهذا أقوى في هذا الباب حيث يقطع شغب الخصم. فإن قيل: قد قيل: إن ابن أبي ليلى في هذا السند ليس محمد بن أبي ليلى القاضي، وإنما هو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ممن أخرج لهم الجماعة، وقال النسائي فيه: ثقة ثبت، ولهذا قال البيهقي لما أخرج هذا الحديث من طريق شعبة، عن ابن أبي ليلى يعني: عبد الله.

قلت: لا نسلم ذلك؛ فإن كلام الطحاوي يدل على أن المراد منه هو محمد بن أبي ليلى وذلك لأنه قال إن ابن أبي ليلى سيىء الحفظ ولو كان هو عبد الله لم يقل بذاك فإن قلت: قال البيهقي: "يعني عبد الله". ليس تفسيرًا من رواة الحديث، على أنا وإن سلمنا ذلك فقد قال ابن المديني عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى: عندي منكر. وعن يحيى: كان يتشيع. وأجاب عن الحديث الثاني بأنه مأول أشار إلى، ذلك بقوله: "فقولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا" أي: قصدا، من عني يعني عنيًا إذا قصد "بهذه الرخصة ما قال الله -عز وجل- من قوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬1) فعداهما" أي: عائشة وابن عمر وأبرز الضمير تأكيدًا للتثنية "أيام التشريق من أيام الحج وخفي عليهما ما كان من نهي النبي -عليه السلام- عن الصيام في هذه الأيام الذي يدل على أنها لا تدخل فيما أباح الله -عز وجل- صومه من ذلك". فإن قيل: كيف يخفى عليهما هذا المقدار مع مكانتهما في العلم وقربهما من الرسول -عليه السلام-؟ قلت: هذا منهما اجتهاد، المجتهد قد يخفى [عليه] (¬2) ما لا يخفى على غيره، على أن هذا فاسد من وجه آخر، وهو أن الله تعالى قال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) فإذا صام في هذه الأيام لم يكن صومه في الحج؛ لأن الحج فات في هذا الوقت، وذلك لأن معنى قوله: {فِي الْحَجِّ} أي في وقت الحج إذْ الحج لا يصلح ظرف للصوم، والوقت هو الصالح لذلك، كما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬3) أي وقت الحج، فعلى هذا إذا صام في أيام التشريق يكون صائمًا في غير وقت الحج، فلا يجوز؛ لأن الله تعالى أوجب على المتمتع صيام ثلاثة أيام في الحج، ولم يوجد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) في "الأصل، ك": "عليهما"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. (¬3) سورة البقرة، آية: [197].

فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يجوز إذا صام قبل الإِحرام في أشهر الحج؛ لأنه صام في وقت الحج. قلت: نعم كذلك، ولكن ما قبل الإِحرام خُصَّ على النص، فإن قيل: أيام التشريق من أيام الحج وإن كان الحج قد تم، ألا ترى أنها أيام الجمرات؟ قلت: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن نهي النبي -عليه السلام- عن صوم هذه الأيام قاضٍ عليه، ومخصص له كما خص قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} (¬1) نهيه عن صيام هذه الأيام. والثاني: أنه لو كان جائزًا؛ لأنها من أيام الحج لوجب أنه يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث: أنه -عليه السلام- خص يوم عرفة بالحج بقوله: الحج عرفة، فقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬2) يقتضي أن يكون آخرها يوم عرفة. والرابع: أنه روي أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وروي أنه يوم النحر، وقد اتفقوا أنه لا يجوز [صوم] (¬3) يوم النحر مع أنه يوم الحج فما لم يتم من الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصام فيها، والذي بقي بعد النحر وهو رمي الجمار إنما هو من توابع الحج، فلا اعتبار به في ذلك، فليس هي إذن من أيام الحج، فلا يكون صوم الأيام الثلاثة فيها صومًا في الحج؛ فافهم. ص: وأما من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم قد أجمعوا أن يوم النحر لا يصام في شيء من ذلك، وهو إلى أيام الحج أقرب من أيام التشريق؛ لما جاء عن رسول الله -عليه السلام- من النهي عن صومه مما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى، فلما كان نهي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [184]. (¬2) سورة البقرة، آية: [196]. (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

رسول الله -عليه السلام- في ذلك يدخل فيه المتمتعون والقارنون والمحصرون؛ كان كذلك نهيه عن صيام أيام التشريق يدخلون فيه أيضًا. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر. قوله: "وهو" أي يوم النحر. قوله: "لما جاء" يتعلق بقوله: "لا يصام". ص: فمها روي عن رسول الله -عليه السلام- في النهي عن صوم يوم النحر. ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا ابن أبن ذئب، عن سعيد بن خالد، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، قال: "قال شهدت العيد مع علي وعثمان فكانا يصليان ثم ينصرفان، يذكران الناس، فسمعتهما يقولان: نهى رسول الله -عليه السلام- عن صيام هذين اليومين: يوم النحر، ويوم الفطر". ش: ذكر في هذا الباب سبعة من الصحابة وهم: علي، وعثمان، وعمر بن الخطاب، وعائشة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأنس بن مالك -رضي الله عنهم- على ما يأتي مفصلًا، وإنما ذكر أحاديث هؤلاء استطرادًا وإلا فموضعها كتاب الصوم، ورجال الإِسناد المذكور ثقات، فعثمان بن عمر بن فارس البصري روى له الجماعة، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب روى له الجماعة، وسعيد بن خالد بن عبد الله بن قارظ المدني، وثقه ابن حبان، وروى له من الأربعة غير الترمذي. وأبو عبيد سعد بن عُبيد الزهري المدني مولى عبد الرحمن روى له الجماعة. والحديث أخرجه الجماعة (¬1) غير النسائي، وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2) نحو ما أخرجه الطحاوي: ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: نا ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) البخاري (2/ 702 رقم 1889)، ومسلم (2/ 799 رقم 1137)، وأبو داود (2/ 319 رقم 2416)، والترمذي (3/ 141 رقم 771)، وابن ماجه (1/ 549 رقم 1722). (¬2) "مسند البزار" (2/ 64 رقم 407).

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أبي عُبيد قال: "شهدت العيد مع عمر -رضي الله عنه- فقال: هذان يومان نهي رسول الله -عليه السلام- عن صومهما: يوم الفطر، ويوم النحر، فأما يوم الفطر فيوم فطركم من صيامكم، وأما يوم النحر فيوم تأكون فيه من نسككم". ش: هذا طريق آخر، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. قوله: "من نسككم" النُّسُك بضمتين جمع نسيكة وهي الذبيحة. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي عُييد مولى عبد الرحمن بن عوف قال: صليت العيد مع عمر -رضي الله عنه- ... " فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر، عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي وأبي عوانة الإِسفراييني، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي شيخ البخاري، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري المدني، وسفيان بن عيينة، كلاهما عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، ووقع في رواية الطحاوي الأولى: "مولى ابن أزهر" وكذا وقع في رواية البخاري وهو عبد الرحمن بن أزهر، قال الترمذي: عبد الرحمن بن أزهر هو ابن عم عبد الرحمن بن عوف، وقال البخاري: قال ابن عيينة: من قال: مولى ابن أزهر فقد أصاب، ومن قال: مولى عبد الرحمن ابن عوف فقد أصاب. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 702 رقم 1889). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 799 رقم 1137).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، وزهير بن حرب -وهذا حديثه- قالا: نا سفيان، عن الزهري، عن أبي عبيد قال: "شهدت العيد مع عمر -رضي الله عنه- فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم". وأخرجه الترمذى (¬2): ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد ابن هارون، قال: نا معمر، عن الزهري، عن أبي عُبيد مولى عبد الرحمن بن عوف قال: "شهدت عمر بن الخطاب في يوم نحر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن صوم هذين اليومين: أما يوم الفطر ففطركم من صومكم وعيد المسلمين، وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم". قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا سهل بن أبي سهل، نا سفيان، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن سعد بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر". ش: إسناده صحيح، وسعد -بفتح السين وسكون العين- بن سعيد -بالياء- ابن قيس بن عمرو الأنصاري أخو يحيى وعبد ربه، قال يحيى: صالح. وروى له مسلم ومن الأربعة غير النسائي، وعمرة بنت عبد الرحمن. وأخرجه مسلم (¬4): نا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا سعد بن سعيد، قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 319 رقم 2416). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 141 رقم 771). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 945 رقم 1722). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 800 رقم 1140).

أخبرتني عمرة، عن عائشة قالت: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صومين يوم الفطر ويوم الأضحى". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، وحجاج هو ابن المنهال شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وأبو نضرة بالنون والضاد المعجمة، واسمه المنذر بن مالك، روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا الحجاج بن منهال، نا شعبة، نا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت قزعة قال: سمعت أبا سعيد الخدري وكان غزا مع النبي -عليه السلام- ثنتي عشرة غزوة قال: "سمعت أربعًا من النبي -عليه السلام- فأعجبتني: قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر، والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا". ومسلم (¬2): نا أبو كامل الجحدري، قال: نا عبد العزيز بن المختار، قال: نا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر". وأبو داود (¬3): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب، قال: نا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى، وعن لبستين: الصماء، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن الصلاة في ساعتين: بعد الصبح، وبعد العصر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 703 رقم 1893). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 800 رقم 827). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 319 رقم 2417).

والترمذي (¬1): نا قتيبة، قال: نا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صيامين يوم الأضحى ويوم الفطر". وابن ماجه (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يحيى بن يعلى التيمي، عن عبد الملك بن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى". وأخرجه البزار في "مسنده" بإسناد الطحاوي: ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغيب الشمس ونهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر". وهذا الحديث لا يُعلم رواه عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد إلا حماد بن سلمة. ص: بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن المنذر بن عبيد المدني حدثه، أن أبا صالح حدثه، سمع أبا هريرة يخبر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، والمنذر بن عبيد المدني وثقه ابن حبان، وأبو صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده" أنا عمرو بن الحارث، عن المنذر بن عبيد المدني، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن صيامين: يوم الفطر، ويوم الأضحى". وأخرج البخاري (¬3): عن إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن ابن جريج، عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 142 رقم 772). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 549 رقم 1721). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 702 رقم 1891).

عمرو بن دينار، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: "ينهى عن صيامين وبيعتين الفطر والنحر، الملامسة والمنابذة". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: سعيد بن عامر الضبعي شيخ أحمد روى له الجماعة، والربيع بن صبيح -بفتح الصاد- السعدي البصري، قال أحمد: لا بأس به. وعن يحيى: ضعيف، وعنه ليس به بأس. روى له الترمذي وابن ماجه. ويزيد بن أبان الرقاشي البصري، ضعيف متروك الحديث، قاله النسائي وغيره، وروى له الترمذي وابن ماجه. والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): نا موسى بن محمد، نا كهمس بن المنهال، نا سعيد بن أبي عروبة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام-: نهى عن صوم خمسة أيام من السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذا طريق آخر، ورجاله كلهم رجال الصحيح، والأعرج هو عبد الرحمن ابن هرمز. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). وقد قلنا: إن الطحاوي أخرج أحاديث هذا الباب عن سبعة أنفس، وفي الباب عن عقبة وعبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (7/ 149 رقم 4117). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 367 رقم 839).

أما حديث عقبة فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يوم عرفة ويوم الأضحى وأيام التشريق أيام أكل وشرب". وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬5): نا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عُبيدة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى". ص: فلما كان يوم النحر خارجًا من أيام الحج التي جعل الله -عز وجل- للمتمتع الصوم فيها بدلاً من الهدي لما قد أخرجه النبي -عليه السلام- من الأيام التي تصام بنهيه عن صومه؛ كان كذلك أيام التشريق خارجة من أيام الحج التي جعل الله -عز وجل- للمتمتع الصوم فيها بدلاً من الهدي لما قد أخرجها النبي -عليه السلام-[من] (¬6) الأيام التي تصام بنهيه عن صومها؛ فثبت بما ذكرنا أن أيام التشريق ليس لأحد صومها في متعة ولا قران ولا إحصار ولا غير ذلك من الكفارات، ولا من التطوع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا كلام ظاهر. وقوله: "فيها" أي في أيام الحج. قوله: "لما قد أخرجه النبي -عليه السلام-" متعلق بقوله: "خارجًا" واللام للتعليل. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 346 رقم 9770). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 320 رقم 2419). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 143 رقم 773). (¬4) " المجتبى" (5/ 252 رقم 3004). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 347 رقم 9772). (¬6) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وقوله: "بنهيه" متعلق بقوله: "أخرجه". وقوله: "كان كذلك" جواب "لما". ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما يدل على ذلك أيضًا: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: "أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم النحر فقال: يا أمير المؤمنين، إني تمتعت ولم أهد ولم أصم في العشر، فقال: سل في قومك، ثم قال: يا معيقيب أعطه شاة". أفلا ترى أن عمر -رضي الله عنه- لم يقل له: فهذه أيام التشريق فصمها، فدل تركه ذلك وأمره إياه بالهدي أن أيام الحج عنده التي أمر الله -عز وجل- المتمتع بالصوم فيها هي قبل النحر، وأن يوم النحر وما بعده من أيام التشريق ليس منها. ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما يدل على أن أيام التشريق لا تصلح لصوم المتعة والقران ونحوهما. وأخرجه عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة فيه مقال، فقال الدارقطني: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوي. وفي "الميزان" قال: الحجاج بن أرطاة أحد الأعلام على لين فيه. وأخرجه ابن أبي شبية في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن أبي زائدة، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: "أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- متمتعًا قد فاته الصوم في العشر، فقال له: اذبح شاة، قال: ليس عندي، قال: سل قومك، قال: ليس هَا هنا أحد من قومي، قال: أعطه يا معيقيب ثمن شاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 154 رقم 12987).

قوله: "سل في قومك" أراد به سل شاة تذبحها من أحد من قومك، فلما قال له: ليس ها هنا أحد من قومي، قال: "يا معيقيب أعطه شاة" وهو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، أسلم قديمًا بمكة، وهاجر إلى الحبشة، الهجرة الثانية، ثم هاجر إلى المدينة، وكان على خاتم النبي -عليه السلام-، ثم استعمله عمر بن الخطاب خازنا على بيت المال، وأصابه الجذام، وأحضر له عمر الأطباء فعالجوه فوقف المرض، وهو الذي سقط من يده خاتم النبي -عليه السلام- أمام عثمان -رضي الله عنه- في بئر أريس فلم يوجد، ومنذ سقط الخاتم اختلفت الكلمة، توفي معيقيب في سنة أربعين من الهجرة -رضي الله عنه-. قوله: "أولاً ترى ... " إلى آخره، توضيح لما قاله من قبل أن أيام التشريق لا تصلح للصيام مطلقًا. ***

ص: باب: حكم المحصر بالحج

ص: باب: حكم المحصر بالحج ش: أي هذا باب في بيان حكم المحصر بالحج، والمحصَر بفتح الصاد، من أحصره المرض أو السلطان أو العدو إذا منعه عن مقصده، والإِحصار: المنع والحبس، وحصره: إذا حبسه فهو محصور، وقال القاضي إسماعيل: الظاهر أن الإِحصار بالمرض والحمر بالعدو، ومنه: "فلما حصر رسول الله -عليه السلام-". وقال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (¬1) وأصل الإِحصار: المنع، والحصور: الممنوع من النساء إما علة أو طبعًا بمعنى محصور. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا الحجاج الصواف، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج ابن عمرو الأنصاري، قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى، قال: فحدثت بذلك ابن عباس وأبا هريرة -رضي الله عنهم- فقالا صدق". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن الحجاج الصواف ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر ذكر عكرمة ذلك لابن عباس وأبي هريرة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى [بن] (¬2) صالح الوحاظي، قال: ثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، أنه قال: سألت الحجاج بن عمرو عمن حُبس وهو محرم، فقال: قال رسول الله -عليه السلام- ... فذكر مثله "فحدثت بذلك ابن عباس وأبا هريرة، فقالا: صدق". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري شيخ البخاري، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف أبي الصلت الكندي البصري، واسم أبي عثمان ميسرة، قال أحمد: ثقة شيخ. روى له الجماعة. عن يحيى بن أبي كثير روى له الجماعة، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره، عن الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري الخزرجي. وأخرجه الترمذي (¬1): نا إسحاق بن منصور، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا حجاج الصواف، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن عكرمة، قال: حدثني الحجاج بن عمرو قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى، فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا: صدق". ونا إسحاق بن منصور، قال: أنا محمد بن عبد الأنصاري، عن الحجاج ... مثله، وقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن الحجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا مسدد، قال: نا يحيى، عن حجاج الصواف، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 277 رقم 940). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 173 رقم 1862).

والنسائي (¬1): أخبرني حميد بن مسعدة البصري، ثنا سفيان وهو ابن حبيب، عن الحجاج الصواف ... إلى آخره، نحوه. وابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن سعيد، وابن علية، عن حجاج بن أبي عثمان ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، عن معاوية بن سلام بن أبي سلام الحبشي الأسود، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬3): نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- نحوه. قوله: "عرج" بفتح الراء يعرج من باب: نَصَرَ يَنْصُرُ، إذا أصابه شيء في رجله فعرج ومشى مشية العُرْجَان، وليس بخلقة، فإذا كان ذلك خلقه يقال: "عَرِجَ" بكسر الراء، وقال ابن الأثير: عَرَجَ يَعْرُجُ عَرَجانًا إذا غمز من شيء أصابه، وعَرَجَ يَعْرُجُ إذا صار أعرج وكان خلقة فيه. قلت: الأول من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، والثاني: من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. قوله: "فقد حل" معناه جاز له أن يحل كما يقال: حلت المرأة للزوج يعني جاز لها أن تتزوج، وليس المعنى وقوع الإِحلال بنفس عروض هذه الأشياء. قوله: "وعليه حجة أخرى" أي من قابل. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المحرم بالحج أو بالعمرة إذا كسر ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 198 رقم 2860). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1028 رقم 3077). (¬3) " جامع الترمذي" (3/ 277 رقم 940).

أو عرج فقد حل حينئذ، وعليه قضاء ما حل منه إن كانت حجة فحجة، وإن كانت عمرة فعمرة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا ثور، وداود بن علي وأصحابه، فإنهم قالوا: المحرم بالحج أو بالعمرة إذا كسر أو عرج فقد حل من ساعته، وليس عليه هدي قال أبو عمر: أبو ثور يقول بظاهر [حديث] (¬1) الحجاج بن عمرو، ولم يقل أحد: إنه بنفس الكسر يكون حلالاً غير أبي ثور، وتابعه داود بن علي وأصحابه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يحل حتى ينحر عنه الهدي، فإذا نحر عنه الهدي حل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء من التابعين وغيرهم، منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: المحصر لا يحل حتى ينحر عنه الهدي، فإذا نحر عنه الهدي حل. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عمر بن عبد الله بن الرومي، قال: ثنا محمد بن الثور، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة: "أن رسول الله -عليه السلام- نحر يوم الحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث المسور بن مخرمة. أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي شيخ البخاري في غير الصحيح، ضعفه أبو داود، عن محمد بن الثور الصنعاني، وثقه النسائي ويحيى، وروى له أبو داود والنسائي، عن معمر بن راشد روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن المسور بن مخرمة ابن نوفل الزهري له ولأبيه صحبة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "هذا حديث"، وكلمة "هذا" لعلها زائدة.

وأخرجه البخاري (¬1): من حديث معمر، عن الزهري. والطبراني (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: "خرج رسول الله -عليه السلام- زمن الحديبية في بضع عشرة من أصحابه ... ". الحديث بطوله، وفيه: "قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا ... ". وفيه أيضًا: "نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا". وقد دل هذا الحديث على أن المحصر لا يحل بمجرد ما عرض له من أمور الإِحصار، وإنما يحل بنحر الهدي، وفيه دلالة على أن الحلق للمحصر بعد النحر. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن تمام، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني ميمون بن يحيى، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت نافعًا مولى ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال ابن عمر: "إذا عرض للمحرم عدو فإنه يحل حينئذ؛ فقد فعل ذلك رسول الله -عليه السلام- حين حبسته كفار قريش في عمرته عن البيت، فنحر هديه وحلق وحل هو وأصحابه، ثم رجعوا حتى اعتمروا من العام المقبل". فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يحل في عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدي؛ دل ذلك أن كذلك المحصر لا يحل بالإِحصار حتى ينحر الهدي. ش: إسناده صحيح، ويحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري، وميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج مولى بني زهرة، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، ومخرمة بن بكير أبو المسور المدني من رجال مسلم، وأبوه بكير بن عبد الله ابن الأشج روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 643 رقم 1716). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 9 رقم 13).

وأخرج البيهقي (¬1): من حديث نافع، عن ابن عمر قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله -عليه السلام- هديه وحلق رأسه ثم رجع". وأخرجه البخاري (¬2): من حديث جويرية ومن حديث فليح، عن نافع. قوله: "فإنه يحل حينئذ" يعني يجوز له أن يحل، وليس معناه أنه يحل بنفس الإِحصار كما قد ذكرناه؛ والدليل عليه أنه -عليه السلام- لم يحل من عمرته حين أحصر بالعدو حتى نحر هديه، فدل ذلك أن كل محصر لا يحل بالإِحصار حتى ينحر هديه. ص: وليس فيما رويناه أولاً خلاف لهذا عندنا؛ لأن قول رسول الله -عليه السلام-: "من كسر أو عرج فقد حل". قد يحتمل أن يكون: فقد حل له أن يحل لا على أنه قد حل بذلك من إحرامه، ويكون هذا كما يقال: قد حلت فلانة للرجال إذا خرجت من عدة عليها من زوج قد كان لها، ليس على معنى أنها قد حلت لهم فيكون لهم وطئها، ولكني على معنى أنه قد حل لهم أن يتزوجوها تزويجًا يحل لهم وطئها، هذا كلام جائز مستساغ. ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: كيف تقولون: إن المحصر لا يحل بنفس الإِحصار وأنه لا يحل حتى ينحر الهدي وتحتجون بحديث المسور وابن عمر، والحال أن حديث الحجاج بن عمرو يعارض هذا ويخالفه ورد ما ذهبتم إليه؟ وتقرير الجواب: أن معنى هذا الحديث لا يخالف ما روى المسور وابن عمر، وأن معنى قوله: "من كسر أو عرج فقد حل" أي فقد حل له أن يحل، أي الإِحلال صار له حلالًا، وليس المعنى أنه قد حل بذلك من إحرامه حينئذ، ولهذا الكلام نظائر منها: ما ذكره من قوله: "ويكون هذا كما يقال: قد حلت فلانة ... إلى آخره" وهو ظاهر لا يدفع. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 16 رقم 9859). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 641 رقم 1713).

ومنها: قوله -عليه السلام-: "إذا أقبل الليل من هَا هنا وأدبر النهار من هَا هنا فقد أفطر الصائم". ومعناه حل له الإِفطار، وليس معناه صار مفطرًا في ذلك الوقت. ومنها: قولهم: من زار فلانًا فقد أكرم، يعني يستحق الإِكرام في المستقبل، وليس معناه أنه صار مكرمًا في ساعة الزيارة، وأمثال هذا كثيرة لا تدفع، أشار إليه بقوله: "هذا كلام جائز مستساغ". ص: فلما كان هذا الحديث قد احتمل ما ذكرنا، وجاء عن رسول الله -عليه السلام- في حديث عروة عن المسور ما قد وصفنا، قد ثبت بذلك هذا التأويل، وقد بين الله -عز وجل- ذلك في كتابه بقوله -عز وجل-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) فلما أمر الله -عز وجل- المحصر أن لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله؛ عُلِمَ بذلك أنه لا يحل المحصر من إحرامه إلا في وقت ما يحل له حلق رأسه، فهذا قد دل عليه قول الله تعالى، ثم فِعْلُ رسول الله -عليه السلام- زمن الحديبية. ش: أراد به حديث الحجاج بن عمرو، والواو في "وجاء" للحال. قوله: "وقد بين الله -عز وجل- ذلك" أي التأويل الذي ذكرناه، بيانه: أن الله أمر المحصر أنه لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله؛ فاقتضى ذلك أن لا يحل المحصر من إحرامه إلا في الوقت الذي يحل له حلق رأسه، وحلق رأسه لا يكون إلاَّ بعد نحر الهدي. قوله: "ثم فعل الرسول -عليه السلام-" أي ثم بين التأويل المذكور فعل الرسول -عليه السلام- زمن الحديبية، فإنه لم يحل حتى نحر ثم حلق، فدل ذلك أيضًا على أن معنى قوله -عليه السلام- في حديث الحجاج: "فقد حل" أي حل له أن يحل، لا أنه حل بمجرد الإِحصار. ص: والدليل على صحة هذا التأويل أيضًا: أن حديث الحجاج بن عمرو قد ذكر عكرمة أنه حدثه ابن عباس وأبا هريرة فقالا: "صدق" فصار ذلك الحديث ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

عن ابن عباس وعن أبي هريرة أيضًا، وقد قال عبد الله بن عباس في المحصر ما قد وافق التأويل الذي صرفنا إليه حديث الحجاج ودل عليه: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (¬1) ثم قال: إذا أحصر الرجل بعث بالهدي {ولاتَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) فصيام ثلاثة أيام، فإن عجل فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، صام ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، فإذا أمن مما كان به {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فإن مضى على وجهه ذلك فعليه حجة، وإذا أخر العمرة إلى قابل فعليه حجة وعمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ} (1) آخرها يوم عرفة، {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (1) قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: هذا قول ابن عباس، وعقد ثلاثين. حدثنا أبو شريح محمد بن زكريا بن يحيى، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: "أنه قال في قول الله -عز وجل- {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (1) قال: من حبس أو مرض، قال إبراهيم: فحدثت به سعيد بن جبير، فقال: هكذا قال ابن عباس". فهذا ابن عباس لم يجعله يحل من إحرامه بالإحصار حتى ينحر عنه الهدي، وقد روى عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من كسر أو عرج فقد حل". فدل ذلك أن معنى "فقد حل" [عنده أي] (¬2) له أن يحل، على ما ذهبنا إليه في ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: بيان هذا الكلام هو: أن حديث الحجاج بن عمرو كما ينسب إليه لكونه قد رواه، فكذلك ينسب إلى ابن عباس أيضًا لكونه قد قال: "صدق" حين سأله عكرمة عن هذا الحديث بعد أن سمعه من الحجاج، فصار في الحقيقة بتصديقه إياه راويًا لهذا الحديث كالحجاج، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال ابن عباس في المحصر ما وافق التأويل المذكور في حديث الحجاج، فدل ذلك أن معنى "فقد حل": حل له أن يحل؛ لأنه لو لم يكن معناه هكذا عند ابن عباس في حديثه الذي رواه الحجاج؛ لم يقل بما قال ما يوافق التأويل المذكور. ثم إنه أخرج هذا من طريقين صحيحين: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد. الثاني: عن أبي شريح محمد بن زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي، عن محمد ابن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم بن علقمة. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا شريح. وأخرج ابن أبي شبية في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "إذا أهل الرجل بالحج فأحصر فليبعث بهديه، فإن مضى جعله عمرة، وعليه الحج من قابل ولا هدي عليه، وإن هو أخر ذلك حتى يحج فعليه حجة وعمرة وما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج أخرها يوم عرفة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 162 رقم 13069).

ثنا أبو خالد الأحمر (¬1)، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: سألني عن ذلك سعيد ابن جبير فأخبرته فقال بيده هكذا أو عقد ثلاثين هكذا قال ابن عباس". قوله: "وقد روى عن النبي -عليه السلام-" الواو فيه للحال، وإنما قال: روى يعني ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- باعتبار أنه صار راويًا للحديث المذكور بتصديقه الحجاج بن عمرو كما ذكرنا. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن غير ابن عباس من أصحاب رسول الله -عليه السلام-: حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد بن شداد العبدي صاحب محمد بن الحسن، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: "لدغ صاحب لنا بذات التنانير وهو محرم بعمرة فشق [ذلك] (¬2) علينا، فلقينا عبد الله بن مسعود، فذكرنا له أمره، فقال: يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعدًا فإذا نحر عنه حل". حدثنا فهد، قال: ثنا عليّ، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: "ثم عليه عمرة بعد ذلك". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم يحدث، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "أهل رجل من النخع بعمرة يقال له: عمير بن سعيد، فلدغ فينا، فبينا هو صريع في الطريق إذا طلع عليهم ركب فيهم ابن مسعود -رضي الله عنه- فسألوه، فقال: ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 162 رقم 13070). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أمارة، فإذا كان ذلك فليحل" قال الحكم: وقال عمارة بن عميرر-وكان حسبك به- عن عبد الرحمن بن يزيد، أن ابن مسعود قال: "وعليه العمرة من قابل". قال شعبة: وسمعت سليمان حدث به مثل ما حدث الحكم سواء. ش: أي قد روي أيضًا ما ذكرنا من أن المحصر لا يحل إلاَّ بنحر الهدي عن غير عبد الله بن عباس من الصحابة -رضي الله عنهم- بينهم عبد الله بن مسعود، فإنه روي عنه أنه أمر لذلك الملدوغ أن يبعث بهدي، ويواعد أصحابه يومًا بعينه يذبح فيه، فإذا ذبح عنه في ذلك اليوم حل. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد، عن جرير ... إلى آخره. قوله: "لُدغ" على صيغة المجهول من اللدغ، وهو اللسع يقال: لدغته العقرب تلدغه لدغًا وتلداغًا فهو ملدوغ ولديغ، ولسعته العقرب والحية تلسعه لسعًا. قوله: "بذات التنانير" بالتاء المثناة من فوق والنون وبعد الألف نون أخرى مكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وفي آخرها راء، وهي عقبة بحذاء زبالة قال الراعي يصف السحاب: فلما علا ذات التنانير (صَوْبَهُ) (¬1) ... تكشف عن برق قليل صواعقه وفي "العباب": ذات التنانير عقبة بحذاء زبالة وقيل: مُعْشًى بين زبالة والشقوق، وهو وادٍ شجير فيه مزدرع تدعيه بنو سلامة وبنو غاضرة، وفي هذا الموضع بركة، ثم أنشد البيت المذكور، وذكره في باب "تنر" فيما آخره راء مهملة، وقد ضبط بعضهم في الكتاب بالنون في آخره "ذات التنانين" وهو تصحيف. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، و"معجم البلدان"، وفي "لسان العرب": (مادة: تنر: "صَوْتَهُ". وفي "تاج العروس" (مادة: تنر): "غُدْوَةَ".

الطريق الثاني: عن فهد أيضاً، عن علي بن معبد أيضًا، عن جرير بن عبد الحميد أيضًا، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير الكوفي التيمي، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن قيس النخعي ... إلى آخره. قوله: "ثم عليه عمرة" أي قضاء عن تلك العمرة التي أحصر عنها، وهذا يدل على أن الإِحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة أيضًا، وهو مذهب عامة العلماء، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن الأعمش ... إلى آخره. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة ابن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "خرجنا عُمّارًا حتى إذا [كنا] (¬2) بذات الشقوق ولدغ صاحب لنا، فاعترضنا الطريق نسأل ما نصنع به، فإذا ابن مسعود في ركب، فقلنا: لدغ صاحب لنا، فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوم أمارة، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحل وعليه عمرة". وأخرج البيهقي في "سننه الكبرى" (¬3): من حديث أبان بن تغلب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، في الذي لدغ وهو محرم بالعمرة فأحصر، فقال عبد الله: "ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي بمكة حل هذا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 162 رقم 13078). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 221 رقم 9881).

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر أنه قال: "المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها، والدواء، صنع ذلك وافتدى". فقد ثبت بهذه الروايات أيضًا عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما يوافق ما تأولنا عليه حديث الحجاج اللي ذكرنا. ش: رجاله كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). قوله: "لا يحل حتى يطوف بالبيت" هو قول ابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن مسعود: يبعث بهدي ويواعد صاحبه يوم نحره فإذا ذبح في ذلك اليوم حل قبل أن يصل هو إلى البيت، وروي مثله عن زيد بن ثابت، وهو قول جمهور أهل العراق، وقول أبي حنيفة وأصحابه، وقاله عطاء بن أبي رباح أيضًا. قوله: "فقد ثبت بهذه الروايات" أشار بها إلى رواية ابن عباس وابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم-، فإن الروايات عنهم كلها تدل على أن المحصر لا يحل إلا بنحر الهدي، وهي تؤيد ما ذكره من التأويل في حديث الحجاج بن عمرو. والله أعلم. ص: ثم اختلف الناس بعد هذا في الإِحصار الذي هذا حكمه، بأي شيء هو، وبأي معنى يكون؟ فقال قوم: يكون بكل حابس يحبسه من مرض أو غيره، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقد روينا ذلك أيضًا فيما تقدم من هذا الباب عن ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم-. ش: أي بعد أن ثبت أن المحصر لا يحل إلا بنحر الهدي؛ اختلف الناس في الإِحصار بأي شيء يكون، وبأي معنى يكون؟ فقال قوم وهم عطاء بن أبي رباح ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 361 رقم 802).

وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري: يكون الإِحصار بكل حابس، أي بكل شيء يحبس المحرم من مرض، أو غيره من عدو وكسر وذهاب نفقه ونحوها مما يمنعه عن المضي إلى البيت وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر أيضًا، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-. وقال الجصاص في "كتاب الأحكام": وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء: روي عن ابن عباس وابن مسعود: العدو و [المرض] (¬1) سواء، يبعث [بدم] (¬2) ويحل به إذا نحر في الحرم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر الثوري. والثاني: قول ابن عمر: أن المريض لا يحل ولا يكون محصرًا إلا بالعدو، وهو قول مالك والليث والشافعي. والثالث: قول ابن الزبير وعروة بن الزبير: أن [المرض] (1) والعدو سواء؛ لا يحل إلاَّ بالطواف، ولا نعلم لها موافقًا من فقهاء الأمصار. ص: وقال آخرون: لا يكون الإحصار الذي وصفنا حكمه ما وصفنا إلاَّ بالعدو خاصة، ولا يكون بالأمراض، وهو قول ابن عمر: حدثنا محمد بن زكريا أبو شريح، قال: ثنا الفريابي، قال: سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا يكون الإِحصار إلا من عدو". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أنه قال: "من حبس دون البيت بمرض، فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة". ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: الليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "المريض"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 334). (¬2) في "الأصل، ك": "به دم"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص.

وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يكون الإِحصار إلا بالعدو خاصة، ولا يكون بالمرض، وهو قول عبد الله بن عمر وبين ذلك بما أخرجه عنه من طريقين صحيحين: أحدهما: عن أبي شريح القضاعي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) وفي "شرح الموطأ": مذهب مالك والشافعي: أن المحصر بالمرض لا يحل دون البيت، وسواءٌ عند مالك شرط عند إحرامه التحلل للمرض أو لم يشترط، وقال الشافعي: له شرطه. وقال أبو عمر: الإِحصار عند أهل العلم على وجوه: منها المحصر بالعدو، ومنها بالسلطان الجائر، ومنها بالمرض وشبهه، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، ومن حصر بعدو فإنه ينحر هديه حيث حصر، ويتحلل وينصرف ولا قضاء عليه، إلاَّ أن يكون ضرورة؛ فيحج الفريضة، ولا خلاف بين الشافعي ومالك وأصحابهما في ذلك، وقال ابن وهب وغيره: كل من حبس عن الحج بعدما يحرم بمرض، أو حصار من العدو، أو خاف عليه الهلاك، فهو محصر، عليه ما على المحصر، ولا يحل دون البيت، وكذلك من أصابه كسر أو بطن متحرق، وقال مالك: أهل مكة في ذلك كأهل الأفاق؛ لأن الإِحصار عنده في المكي: الحبس عن عرفة خاصة، قال: فإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى، وهو على إحرامه لا يحل من شيء منه حتى يبرأ من مرضه، فإذ برأ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجه أو عمرته، قال أبو عمر: هذا كله قول الشافعي أيضًا، وذهبا في المحصر يمرض إلى قول ابن عمر -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 361 رقم 805).

ص: فلما وقع في هذا الاختلاف، وقد روينا عن رسول الله -عليه السلام- من حديث الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- ما ذكرنا من قوله -يعني النبي -عليه السلام-: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى". ثبت أن الإِحصار يكون بالمرض كما يكون بالعدو؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح الآثار. ش: أي فلما وقع في حكم المحصر هذا الاختلاف بين العلماء من الصحابة وغيرهم، والحال أنا روينا عن النبي -عليه السلام- ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ثبت" جواب لقوله: "فلما". قوله: "هذا" أي ما ذكرنا من ذلك "وجه هذا الباب من طريق" التوفيق بين معاني الآثار. ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن إحصار العدو يجب به للمحصر الإِحلال كما ذكرنا. واختلفوا في المرض؛ فقال قوم: حكمه حكم العدو في ذلك إذا كان قد منعه من المضي في الحج كما منعه العدو، وقال آخرون: حكمه بائن من حكم العدو فأردنا أن ننظر ما أبيح بالضرورة من العدو هل يكون مباحًا بالضرورة بالمرض أم لا؟ فوجدنا الرجل إذا كان يطيق القيام كان فرضه أن يصلي قائمًا، وإن كان يخاف إن قام أن يعاينه العدو فيقتله أو كان العدو قائمًا على رأسه فيمنعه عن القيام؛ فكل قد أجمع أنه قد حل له أن يصلي قاعدًا وسقط عنه فرض القيام. وأجمعوا أن رجلاً لو أصابه مرض أو زمانه [فمنعه] (¬1) ذلك من القيام؛ أنه قد سقط عنه فرض القيام وحل له أن يصلي قاعدًا، يركع ويسجد إذا أطاق ذلك، أو يومئ إن كان لا يطيق ذلك، فرأينا ما أبيح له من هذا بالضرورة في العدو قد أبيح له ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "تمنعه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

بالضرورة من المرض، ورأينا الرجل إذا حال العدو بينه وبين الماء سقط عنه فرض الوضوء ويتيمم ويصلي وكانت هذه الأشياء التي قد عذر فيها بالعدو قد عذر فيها أيضًا بالمرض وكانت الحال في ذلك سواء ثم رأينا المحصر بالعدو قد عذر فجعل له في ذلك أن يفعل ما جعل للمحصر أن يفعل حتى يحل، واختلفوا في المحصر بالمرض فالنظر على ما ذكرنا من ذلك أن يكون ما ذهب له من العدو بالضرورة بالعدو يجب له أيضًا بالضرورة بالمرض ويكون حكمه في ذلك سواء كما كان حكمه في ذلك أيضًا سواء في الطهارات والصلاة. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس. قوله: "فقال قوم" هم أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومن قال بقولهم. قوله: "وقال آخرون" هم مالك والشافعي وأحمد ومن قال بقولهم. قوله: "حكمه بائن" أراد أن حكم من منعه المرض مخالف لحكم من منعه العدو وحاصل وجه هذا القياس أن يقال أن الحج عبادة كالصلاة ففي الصلاة يعذر المكلف بالمرض وبالعدو جميعًا، فالنظر على ذلك ينبغي أن يعذر أيضًا في الحج بالمرض والعدو، ثم اعلم أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل العلم باللغة: الإِحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، والحصر حصر العدو ويقال: أحصره المرض وحصره العدو، وحكي عن الفراء أن أجاز كل واحد منهما مكان الآخر وأنكره المبرد والزجاج وقالا: وهما مختلفان في المعنى ولا يقال في المرض: حصره ولا في العدو أحصره وإنما هذا كقولهم: حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه أي عرضه للحبس وقتله أوقع به القتل وأقتله أي عرضه للقتل، وقبره دفنه في القبر، وأقبره عرضه للدفن في القبر، وكذلك حصره حبسه، وأحصره عرضه للحصر، وقد روى ابن أبي نجيح عن عطاء، عن ابن عباس "أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

لا يسمى حصرًا"، وقال البخاري: قال عطاء: "الإِحصار من كل شيء يحبسه" ولما ثبت أن اسم الإِحصار يختص بالمرض، وقال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وجب أن يكون اللفظ مستعملاً فيما هو حقيقة وهو المرض ويكون العدو داخلًا فيه بالمعنى فإن قيل: قد حكي عن الفراء فيهما لفظ الإِحصار قيل له: لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته بالمرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض وإنما أجازه في العدو فلو وقع الاسم على الأمرين كان عمومًا فيهما موجبًا للحكم في المريض والمحصور جميعًا. فإن قيل: لم يختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية وكان النبي -عليه السلام- وأصحابه -رضي الله عنهم- ممنوعين بالعدو فأمرهم الله بهذه الآية بالإِحلال من الإِحرام فدل على أن المراد بالآية هو العدو. قيل له: لما كان سبب نزول الآية هو العدو ثم عدل عن ذكر الحصر وهو مختص بالعدو إلى الإِحصار الذي يختص بالمرض، دل على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره، ولما أمر النبي -عليه السلام-[أصحابه] (¬1) بالإِحلال وحَلَّ هو، دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ، فكان نزول الآية مقيدًا للحكم في الأمرين، ولو كان مراد الله تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظًا يختص به دون غيره، ومع ذلك لو كان اسمًا للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبًا للاقتصار بحكمه عليه، بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب، ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو -على ما ذكرناه- ومن جهة النظر والقياس على ما ذكره الطحاوي -رحمه الله-. فإن قيل: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (¬2) بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (2) يدل على أن المريض غير مراد بالإِحصار؛ لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرًا مع كونه أول الخطاب. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لأصحابه". وما أثبتناه أنسب للسياق. (¬2) سورة البقرة، آية: [196].

قلت: لما قال: {الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) منعه الإِحلال مع وجود الإِحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم، فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية، وأيضًا ليس كل مرض يمنع الدخول إلى البيت، ألا ترى أنه -عليه السلام- قال لكعب بن عجرة (¬2): "أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، فأنزل الله الآية". ولم يكن هوام رأسه مانعة من الدخول إلى البيت؛ فرخص الله له في الحلق، فأمر بالفدية، وكذلك المرض في الآية يجوز أن يكون المرض الذي لا يمنع الدخول إلى البيت، والله تعالى إنما جعل المرض إحصار إذا منع الوصول إلى البيت، فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارًا؛ فافهم. ص: ثم اختلف الناس بعد هذا في المحرم بعمرة يحصر بعدو أو مرض؛ فقال قوم: يبعث بهدي ويواعدهم أن ينحروه عنه فإذا نحر يحل، وقال آخرون: بل يقيم على إحرامه أبدًا وليس لها وقت كوقت الحج. ش: أي ثم اختلفوا -بعد اختلافهم في الإِحصار هل يكون بالعدو وحده أو بالعدو والمرض وغيرهما- في المحرم بالعمرة إذا أحصر بعدو أو مرض، فقال قوم وأراد بهم جمهور العلماء منهم: أبو حنيفة ومالك -في رواية- والشافعي وأصحابه وأحمد وأبو يوسف ومحمد وزفر؛ فإنهم قالوا: إن المحرم بعمرة إذا أحصر فهو كالمحصر بالحج يبعث هديًا ويواعد ناسًا يذبحونه عنه، فإذا ذبح حل، ثم قال أبو حنيفة وأصحابه: عليه أن يقضيها بعد ذلك، وبه قال عكرمة والشعبي والنخعي ومجاهد. وقال الشافعي وأحمد: لا قضاء عليه؛ لأن تحلله مسقط لما وجب عليه بالدخول فيها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196]. (¬2) متفق عليه: البخاري (4/ 1534 رقم 3954)، ومسلم (2/ 859 رقم 1201).

وفي "شرح الموطأ": وهكذا عند مالك وأكثر أصحابه، وأما ابن الماجشون فذلك عنده بمنزلة إتمامها فتجزئه عن حجة الإِسلام إن كان أرادها بها. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: محمد بن سيرين ومالكًا -في رواية- وبعض الظاهرية، فإنهم قالوا: لا يكون الإِحصار عن العمرة، بل يقيم على إحرامه أبدًا؛ لأنه ليس لها وقت معين يخاف فواتها. وقال أبو عمر: وقد اختلف فيمن أحصر بعمرة، فعلى قول الجمهور له أن يتحلل، وحكي عن مالك ألَّا يتحلل؛ لأنه لا يخاف الفوت. والله أعلم. ص: وكان من حجة الذين ذهبوا إلى أنه يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله -عليه السلام- في أول هذا الباب لما أحصر زمن الحديبية حصرته كفار قريش فنحر الهدي وحل ولم ينتظر أن يذهب عنه الإِحصار إذْ كان لا وقت لها كوقت الحج، ثم جعلوا العدو في الإِحصار بها كالعدو في الإِحصار بالحج، فثبت بذلك أن حكمها في الإِحصار فيهما سواء، وأنه يبعث بالهدي حتى يحل به مما أحصر به منهما، إلاَّ أن عليه في العمرة قضاء عمرة مكان عمرته، وعليه في الحجة حجة مكان حجته وعمرة لإِحلاله، وقد روينا في هذه العمرة أنه قد يكون المحرم محصرًا بها ما قد تقدم في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي وكان من دليل أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن المحرم بعمرة إذا أحصر يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله -عليه السلام-، وهو ما رواه المسور بن مخرمة: "أن رسول الله نحر يوم الحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". وقد تقدم ذكره في أول الباب، وقال الجصاص: وقد تواترت الأخبار بأن النبي -عليه السلام- كان محرمًا بالعمرة عام الحديبية، وأنه أحل من عمرته بغير طواف، ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء، وقال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثم قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) وذلك حكم عائد إليهما ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

جميعًا، وغير جائز الاقتصار على أحدهما دون الآخر؛ لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة. قوله: "إذ كان لا وقت لها يحله" إذْ: للتعليل، والضمير في لها للعمرة. قوله: "إلاَّ أن عليه في العمرة قضاء عمرة" وذلك لأجل العمرة التي دخل فيها ثم أحل عنها بالإِحصار، وإنما يجب عليه القضاء في ذلك لكون اعتمار النبي -عليه السلام- من العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، ولذلك لم يقل لأحد من الصحابة: عليكم قضاء هذه العمرة، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي أحصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه، فدل ذلك أن المحصر بالعمرة إذا أحل منها لا قضاء عليه. قلت: هذا الذي ذكرته كله لا يستلزم نفي وجوب القضاء، وثبت وجوب القضاء بما ذكرنا آنفًا ولقول ابن مسعود -رضي الله عنه- لما استفتى في ذلك اللديغ: "يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعدًا، فإذا نحر عنه حل ثم عليه عمرة بعد ذلك". وقد مر ذكره في هذا الباب، وكذلك قال ابن عباس؛ قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "أمر الله بالقصاص، أفيأخذ منكم العدوان؟! حجة بحجة وعمرة بعمرة". قوله: "وعليه في الحجة حجه" أي وعلى المحصر بالحج حجة من قابل لمكان حجته، وعمرة لإِحلاله قبل أوانها. وقال الشافعي: عليه حجة لا غير، واستدل بما روي عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا، ولأن القضاء يكون مثل الفائت والفائت هو الحجة لا غير فيقضي الحجة وحدها. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 162 رقم 13068).

وأصحابنا استدلوا بما روي عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم- قالا في المحصر بحجة: يلزمه حجة وعمرة، وروي ذلك عن عكرمة والحسن والنخعي ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم. قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عكرمة قال: "إذا أهلّ الرجل بالحج فأحصر فليبعث بهديه؛ فإن مضى جعلها عمرة وعليه الحج من قابل [ولا هدي] (¬2) عليه، وإن هو أخر ذلك حتى يحج فعليه حجة وعمرة وما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة". ثنا [هشيم] (¬3)، عن يونس وحميد، عن الحسن قال: "عليه حجة وعمرة". ثئا هشيم عن مغيرة، عن إبراهيم مثله. ثنا (¬4) ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد: "إذا افترض الرجل الحج فأصابه حصر فإنه يبعث بهديه، فإذا بلغ الهدي محله حل، فإذا كان عام قابل حل بالحج والعمرة". ثنا (¬5) ابن أبي عدي، عن ابن عوف قال: "سألت القاسم وسالمًا عن المحصر، فقالا نحو قول محمد. وأما الجواب عن قول ابن عباس: فإنه تمسك بالسكوت وهو لا يصح؛ لأن قوله: "حجة بحجة وعمرة بعمرة" يقتضي وجوب الحجة بالحجة والعمرة بالعمرة ولا يقتضي نفي وجوب العمرة بالحجة، فكان مسكوتًا عنده، فيقف على قيام ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 162 رقم 13069). (¬2) في "الأصل، ك": "ولا حج"، ولعله سبق قلم من المؤلف، والمثبت من "المصنف". (¬3) في "الأصل، ك": "هشام"، والمثبت من "المصنف" (3/ 163 رقم 13072، 13073). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 163 رقم 13075). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 163 رقم 13076).

الدليل، وقد قام الدليل بما روي عن ابن مسعود وابن عمر، وهؤلاء الذين ذكرناهم، وعن عطاء في رواية في الذي يفوته الحج قال: "يحل بعمرة وليس عليه حج قابل". وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك في المحصر بعذر: "يحل بسنة الإِحصار ويجزئه عن حجة الإِسلام". وهو قول أبي مصعب صاحب مالك، ومحمد ابن سحنون، وابن شعبان. وفي "المدونة": لا قضاء على المحصر في حج التطوع ولا هدي؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدي، إلَّا أن تكون حجة الإِسلام فعليه حج قابل وهدي، وبه قال أبو عبد الله الشافعي وأبو ثور. انتهى. وأما المحصر إذا كان قارنًا فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء الحجة والعمرة فلوجوبهما بالشروع، وأما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامه ذلك، وهذا على أصلنا، وأما على أصل الشافعي فليس عليه إلاَّ حجة بناء على أصله: أن القارن محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فكان حكمه حكم المفرد بالحج والمفرد بالحج إذا حصر لا يجب عليه إلَّا قضاء حجه عنده، وكذا القارن. ص: وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا أشياء قد فرضت على العباد مما جعل لها وقت خاص، وأشياء فرضت [عليهم] (¬1) مما جعل الدهر كله وقتًا لها، منها الصلوات فرضت عليهم في أوقات خاصة تؤدى في تلك الأوقات بأسباب متقدمة لها من التطهر بالماء وستر العورة. ومنها الصيام في كفارات الظهار وكفارات الصيام و [كفارات] (¬2) القتل؛ جعل ذلك على المظاهر والقاتل لا في أيام بعينها بل جعل الدهر كله وقتًا لها، وكذلك كفارة اليمين جعلها الله -عز وجل- على الحانث في يمينه، وهي إطعام عشرة مساكين أو ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "كفارة"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

كسوتهم، أو تحرير رقبة، ثم جعل الله -عز وجل- لن فرض عليه الصلاة بالأسباب التي تتقدمها والأسباب المفعولة فيها في ذلك عذرًا لمن منع منه، فمن ذلك ما جعل له في عدم الماء من سقوط الطهارة بالماء والتيمم، ومن ذلك ما جعل لمن منع من ستر العورة أن يصلي بادي العورة، ومن ذلك ما جعل لمن منع من القبلة أن يصلي إلى غير قبلة، ومن ذلك ما جعل للذي منع من القيام أن يصلي قاعدًا يركع ويسجد فإن منع من ذلك أيضًا أومأ إيماءً، فجعل له ذلك وان كان بقي عليه من الوقت ما قد يجوز أن يذهب عنه ذلك العذر ويعود إلى حاله قبل العذر، وهو في الوقت لم يفته، وكذلك جعل لمن لا يقدر على الصوم في الكفارات التي أوجب الله -عز وجل- عليه فيها صيام، لمرض حل به مما قد يجوز برؤه منه بعد ذلك ورجوعه إلى حال الطاقة لذلك الصوم، فجعل له ذلك عذرًا في إسقاط الصوم عنه به، ولم يمنع من ذلك إذا كان ما جعل عليه من الصوم لا وقت له، وكذلك فيما ذكرنا من الإِطعام في الكفارات والعتق فيها والكسوة إذا كان الذي فرض عليه معدمًا وقد يجوز أن يجد بعد ذلك، فيكون قادرًا على ما أوجب الله -عز وجل- عليه من ذلك من غير فوات لوقت شيء مما كان أوجب عليه فعله فيه، فلما كانت هذه الأشياء يزول فرضها بالضرورة فيها، وإن كان لا يخاف فوت وقتها فجعل ذلك وما خيف فوت وقته سواء من الصلوات في أواخر أوقاتها وما أشبه ذلك؛ فالنظر على ما ذكرت أن تكون كذلك العمرة، وإن كان لا وقت لها أن يباح في الضرورة فيها له ما يباح بالضرورة في غيرها مما له وقت معلوم، فثبت بما ذكرنا قول من ذهب إلى أنه قد يكون الإِحصار بالعمرة كما يكون الإِحصار بالحج سواء، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهم الله-. ش: لما ثبت أن المحرم بالعمرة يكون محصرًا كالمحرم بالحج وقد أشار إليه بقوله: وقد روينا في هذه العمرة أنه قد يكون المحرم محصرًا بها ما تقدم في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- شرع هَا هنا بذكر وجه القياس أيضًا بقوله: "وأما النظر في ذلك" أي وأما وجه النظر والقياس في تحقيق الإِحصار في حق المحرم بالعمرة والمساواة بين المحصر بالعمرة والمحصر بالحج في التحلل بالهدي

ووجوب القضاء بعده، وملخص ما قاله: إنا وجدنا أشياء من الفرائض المؤقتة بوقت معين، وأشياء منها غير مؤقتة بوقت يزول فرضها بالضرورة، وإن كان لا يخاف فوت وقتها، وقد تساوى فيها ما يخاف فوت وقتها وما لم يخف، فالنظر على ذلك أن تكون العمرة كذلك، وإن كان لا يخاف فوت وقتها لعدم وقت معين لها؛ فيباح فيها في حالة الضرورة ما يباح في غيرها كذلك مما له وقت معلوم، وهذا حاصل وجه هذا النظر، والله أعلم. ص: ثم تكلم الناس بعد هذا في المحصر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وممن قال ذلك: أبو حنيفة ومحمد -رحمهم الله-. وقال آخرون: بل يحلق، فإن لم يحلق حل ولا شيء عليه، وممن قال ذلك: أبو يوسف. وقال أخرون: يحلق ويجب ذلك عليه كما يجب على الحاج والمعتمر. ش: أي ثم تكلم الناس بعد اختلافهم في المحرم بعمرة إذا أحصر مطلقًا هل يحل بنحر الهدي أم يقيم على إحرامه أبدًا كما مر؟ وهل يحلق رأسه أم لا بعد نحر هديه؟ فقال قوم وهم سفيان الثوري والنخعي والشافعي: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وممن قال بذلك: أبو حنيفة ومحمد. وقال آخرون أي قوم آخرون وهم: عطاء بن أبي رباح وأبو ثور والشافعي -في قول-: بل يحلق؛ لأنه -عليه السلام- حلق، فإن لم يحلق حل ولا شيء عليه؛ لأنه قد كان حل بنحر الهدي، فإذا حلق بعده صار حلقه وهو حلال فلا شيء عليه، وممن قال بذلك: أبو يوسف. وقال آخرون أي قوم آخرون، وهم: مالك وأحمد وإسحاق والشافعي -في قول-: يحلق، ويجب عليه الحلق كما يجب على الحاج والمعتمر.

وقال أبو عمر (¬1): إنما منع المحصر من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه، وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرًا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه، وإنما يسقط عنه ما قد حيل بينه وبين عمله، وقد روي عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن الحلق باق على المحصر كما هو على من وصل إلى البيت وهو الدعاء للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدة، وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه، الحلاق عندهم نسك يجب على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض، وقد حكى ابن أبي عمران، عن ابن سماعة، عن أبي يوسف في "نوادره": أن عليه الحلاق أو التقصير، لا بد له منه، واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما: أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك. والآخر: ليس من النسك. ص: فكان من حجة أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- في ذلك أنه قد سقط عنه بالإِحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعي بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق فيحل له بذلك الطيب واللباس والنساء قالوا: فلما كان ذلك مما يفعله حتى يحل فسقط ذلك عنه كله بالإِحصار، سقط عنه أيضًا سائر ما يحل به المحرم بسب الإِحصار، هذه حجة أبي حنيفة ومحمد. ش: هذا كلام ظاهر، ولكن الطحاوي لم يختر ذلك وإنما اختار دليل من يقول: لا بد من الحلق على المحصر على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، والصواب معه؛ لأن الحلق من جملة النسك وهو قادر على فعله فلا يسقط عنه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (15/ 237).

ص: وكان من حجة الآخرين عليهما في ذلك: أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، قد صد عنه المحرم وحيل بينه وبينه فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يُحَلْ بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله، فما كان يصل إلى أن يفعله فحكمه فيه في حال الإِحصار كحكمه في غير حال الإِحصار، وما لا يستطيع أن يفعله في حال الإِحصار فهو الذي يسقط عنه بالإِحصار، فهو النظر عندنا، فإذا كان حكمه في وقت الحلق عليه وهو محصر كحكمة في وجوبه عليه وهو غير محصر كان تركه إياه وهو محصر كتركه إياه وهو غير محصر. ش: أي وكان من حجة الآخرين على أبي حنيفة ومحمد: أن تلك الأشياء ... إلى آخره ظاهر غني عن زيادة البيان ولمح بهذه العبارة على أن اختياره هو حجة الآخرين؛ فلذلك قال: فهو النظر عندنا. قوله: "قد صد" أي منع الضمير في "عنه" يرجع إلى كل واحد من الأشياء المذكورة، وكذلك في قوله: "وبينه" وفي "أن يفعله". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد دل على أن حكم الحلق باق على المحصرين كما هو على من وصل إلى البيت، وذلك أن ربيعًا المؤذن حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله -عليه السلام-: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله [و]، (¬1) المقصرين؟ قال: والمقصرين، قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: إنهم لم يَشُكُّوا". حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأنصاري، قال: ثنا أبو سعيد الخدري قال: "سمعت النبي -عليه السلام- يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثًا, وللمقصرين مرة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، وقال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن أبا إبراهيم حدثه، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- عام الحديبية استغفر للمحلقين مرة وللمقصرين مرة وحلق رسول الله -عليه السلام- وأصحابه رءوسهم غير رجلين من الأنصار ورجل من قريش". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما حلقوا جميعًا إلاَّ من قصر منهم، وفضل رسول الله -عليه السلام- من حلق منهم على من قصر؛ ثبت بذلك أنهم قد كان لهم الحلق أو التقصير كما كان عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلاَّ سواء، ولا كان لبعضهم في ذلك فضيلة على بعض، ففي تفضيل النبي -عليه السلام- في ذلك المحلقين على المقصرين دليل على أنهم كانوا في ذلك كغير المحصرين، فقد ثبت بما ذكرنا أن حكم الحلق أو التقصير لا يزيله الإِحصار. ش: لما بين أن حكم الحلق باق في حصر المحصر بالعمرة بالنظر والعقل؛ ذكر أحاديث تدل على ذلك وتقويه، وأخرجها عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري، وأخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد، عن ابن عباس. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا عبد الله بن نمير، نا يونس بن بكير، ثنا ابن إسحاق، حدثني ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "قيل: يا رسول الله، لم ظاهرت المحلقين ثلاثاً والمقصرين واحدة؟ قال: إنهم لم يشكوا". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1012 رقم 3045).

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بهلول التميمي الأنباري شيخ البخاري واحد أصحاب أبي حنيفة، عن عبد الله بن إدريس الأودي الزعافري، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد قال: نا محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين -قالها ثلاثًا- قال: فقالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: إنهم لم يشكوا". وكذلك أخرج حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- من طريقين: الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإِسكندراني اليشكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي إبراهيم الأشهلي الأنصاري المدني، لا يسمى، وذكره ابن أبي حاتم وقال: يروي عن أبيه، روى عنه يحيى ابن أبي كثير سمعت أبي يقول: أبو إبراهيم الأنصاري الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير لا يدري من هو ولا أبوه وفي "التكميل": قال قوم: إن إبراهيم هذا هو عبد الله بن أبي قتادة، وقال شيخنا: ولا يصح ذلك وإن كان عبد الله بن أبي قتادة كنيته أبو إبراهيم؛ لأنه من بني سلمة، وهذا من عبد الأشهل. والله أعلم. روى له الترمذي والنسائي، وصحح الترمذي حديثه، وقد بسطنا الكلام فيه في أسماء رجال الكتاب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا يزيد، نا هشام، عن يحيى، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- أحرم وأصحابه عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 220 رقم 13618). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 20 رقم 11165).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) وقال: ثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- نحوه. قوله: "رحم الله المحلقين" إنشاء في صورة الإِخبار، ومعناه: اللهم ارحم المحلقين. قوله: "والمقصرين" يعني: يا رسول الله، ويرحم الله المقصرين أيضًا؟ أو ادع الله أن يرحم المقصرين أيضًا، والمقصر هو الذي يقصر من شعر رأسه ويأخذ من أطرافه ولا يحلقه. قوله: "فما بال المحلقين"، أي ما شأنهم وما حالهم. قوله: "ظاهرت لهم بالترحم" أي قصرتهم وأعنتهم وساعدتهم. قوله: "إنهم"، أي إن المحلقين "لم يشكوا" قيل: معناه لم يشكوا في أن الحلق أفضل عن التقصير وقيل: معناه لم يتوقفوا فيما أمرهم به النبي -عليه السلام- من الحلق، حيث بادروا بالامتثال وحلقوا واستجابوا له، بخلاف المقصرين فإنهم لم يكن معهم هدي، فلما أمرهم النبي -عليه السلام- بالحلق وجدوا من ذلك وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكانت طاعة رسول الله -عليه السلام- أولى بهم، فلما لم يكن لهم بد من الإِحلال كان القصر في نفوسهم أخف من الحلق فمالوا إليه، فلما رأى رسول الله -عليه السلام- ذلك منهم أخرهم في الدعاء، وقدم عليهم من حلق ثلاث مرات ودعا للمقصرين مرة، وجعل لهم أيضًا نصيبًا من دعوته حتى لا يجنب أحد من أمته من صالح دعوته. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 220 رقم 13617).

وقيل: إنما دعا للمحلقين ثلاثًا لأن الحلق أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في القلب بخلاف المقصر؛ لأنه مبق لنفسه من الزينة التي أراد الله تبارك وتعالى أن يأتيه المستجيبون لدعوته في الحج متبرئين منها مظهرين للمزلة والخشوع. قوله: "غير رجلين: رجل من الأنصار" وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي، ورجل من قريش وهو عثمان بن عفان؛ فإنهم لم يحلقا رءوسهما ولم يقصرا، لأنهم لم يكونا محرمين كما صرح بذلك في رواية أحمد. ويستفاد منه: أن الحلق نسك لا إباحة، ولو كان إباحة لم يستحق الدعاء والثواب عليه. وأيضًا فيه دلالة على أن الحلق أفضل، والتفاضل لا يكون في الإِباحة. وفيه جواز التقصير وفيه أن المحصر لا ينبغي له أن يترك الحلق. فإذا تركه يصير كتركه وهو غير محصر. ثم اعلم أن أحاديث دعوة النبي -عليه السلام- للمحلقين رواها جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقال الترمذي عقيب إخراجه حديث ابن عمر في هذا: وفي الباب عن ابن عباس وأم الحصين ومارب وأبي سعيد وأبي مريم وحبشي بن جنادة وأبي هريرة. قلت: وفي الباب عن جابر بن عبد الله أيضًا وقد أخرج الطحاوي حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري كما مرّ. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين". وقال الليث: ثنا نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قال: وقال عُبيد الله: حدثني نافع، قال: وفي الرابعة قال: "والمقصرين". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 616 رقم 1640).

وأخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3). وأما حديث أم الحصين فأخرجه مسلم (¬4): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع وأبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته: "أنها سمعت النبي -عليه السلام- في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثًا, وللمقصرين مرة واحدة" ولم يقل وكيع: "في حجة الوداع". وأما حديث مارب -بالميم- ويقال: قارب -بالقاف- بن الأسود بن مسعود الثقفي". وهو ابن أخي عروة بن مسعود فأخرجه الحميدي في "مسنده" (¬5): عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن وهب بن عبد الله بن قارب أو مارب -على الشك- عن أبيه، عن جده: "أن النبي -عليه السلام- قال: يرحم الله المحلقين". قال أبو عمر: لا أحفظ هذا الحديث من غير رواية ابن عيينة، وغير الحميدي يقول: "قارب" من غير شك، وهو الصواب وهو مشهور ومعروف من وجوه ثقيف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬6): ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، بن وهب بن عبد الله -أراه عن أبيه- قال: "كنت مع أبي، فرأيت النبي -عليه السلام- يقول بيده: يرحم الله المحلقين، فقال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال في الثالثة: والمقصرين". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 945 رقم 1301). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 202 رقم 1979). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 256 رقم 913). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 946 رقم 1303). (¬5) "مسند الحميدي" (2/ 415 رقم 931). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 220 رقم 13616).

وأما حديث أبي مريم فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مسنده" (¬1): ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا أوس بن عبد الله السلولي، حدثني عمي يزيد بن أبي مريم، عن أبيه مالك بن ربيعة سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "اللهم اغفر للمحلقين، قال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: والمقصرين". وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬2): نا عُبيد الله، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: [اللهم] (¬3) اغفر للمقصرين". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (¬4): نا عياش بن الوليد، نا محمد بن الفضل، نا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ -قالها ثلاثًا- قال: والمقصرين". وأخرجه مسلم أيضًا (¬5). وأما حديث جابر فأخرجه أبو قرة في "سننه" من حديث زمعه بن صالح، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: "حلق رسول الله -عليه السلام- يوم الحديبية، فحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق، وقال آخرون: والله ما طفنا بالبيت، فقصروا، فقال رسول الله -عليه السلام-: يرحم الله المحلقين، وقال في الرابعة وللمقصرين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 221 رقم 13622). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 220 رقم 13621). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 617 رقم 1641). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 946 رقم 1302).

ص: باب: حج الصغير

ص: باب: حج الصغير ش: أي هذا باب في بيان حكم حج الصغير ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: "أن امرأة سألت النبي -عليه السلام- عن صبي، هل لهذا من حج؟ قال: نعم ولك أجرٌ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن إبراهيم، عن عقبة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن إبراهيم بن عقبة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وسفيان هو ابن عيينة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر جميعًا، عن ابن عيينة، قال أبو بكر: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-: "لقي ركبًا بالروحاء، فقال: مَن القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: "كان النبي -عليه السلام- بالروحاء، فلقي ركبًا فسلم عليهم، فقال: من القوم؟ [فقالوا]، (¬3): المسلمون، فقالوا: فمن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 974 رقم 1336). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 142 رقم 1736). (¬3) في "الأصل، ك": "فقال"، والمثبت من "سنن أبي داود".

أنتم؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها، فقالت: يا رسول الله، هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر". الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد، قال: أنا سليمان بن داود والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس "أن رسول الله -عليه السلام- مرَّ بامرأة وهي في خدرها معها صبي، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر". وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2): عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- مر بامرأة وهي في محفتها، فقيل لها: هذا رسول الله، فأخذت بضَبْعَي صبي كان معها، فقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكِ أجر". وهذا مرسل. وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا نحوه مرسلاً: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب: "أن امرأة رفعت صبيًّا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم. ولكِ أجر". وقال أبو عمر: روى هذا الحديث يحيى وسحنون وآخرون، عن كريب، عن النبي -عليه السلام- مرسلاً، ورواه ابن وهب وأبو مصعب والشافعي وغيرهم، عن كريب، عن ابن عباس موصولاً، وهو حديث مسند صحيح أسنده ثقات، ولا يضره تقصير من قصر به، والاختلاف فيه على مالك والثوري، ومن وصله فهو أولى؛ لأن الذين وصلوه وأسندوه ثقات. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 121 رقم 2649). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 422 رقم 943). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 974 رقم 1336).

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قفل، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا فسلم عليهم وقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فمن القوم؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: رسول الله، ففزعت امرأة صبيًّا لها من محفة، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر". ثم قال البيهقي: وكذلك رواه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن إبراهيم. قلت: هذا الحديث روي عن جابر بن عبد الله أيضًا. أخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا علي بن محمد ومحمد بن طريف، قالا: نا أبو معاوية، حدثني محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "رفعت امرأة صبيًّا لها إلى النبي -عليه السلام- في حجته، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر". قوله: "هل لهذا من حج؟ " أي هل يجوز حج هذا أم لا؟ فقال -عليه السلام-: نعم يعني يجوز حجه، ويحصل لك أجر حيث تحججينه. قوله: "فلقي ركبًا بالروحاء"، الركب جمع راكب، قال يعقوب: هو العشرة فما فوقها من الإِبل، والمركبة أقل من الركب، والركاب، الإِبل. والروحاء من عمل الفرع على نحو من أربعين ميلاً من المدينة، وفي "مسلم": على ستة وثلاثين، وفي "كتاب ابن أبي شيبة": ثلاثين. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 155 رقم 9483). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 971 رقم 2910).

قوله: "ففزعت امرأة" بالزاي المعجمة والعين المهملة يعني فأهبت وقامت. أخذ من فزع النائم إذا انتبه من نومه وتحول من مكانه. ويقال: بالراء والغين المعجمة، ومعناه: اهتمت، والأول أكثر، وهذا كما في حديث عائشة في فضل عثمان -رضي الله عنه- (¬1): "ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال: عثمان رجل حييّ". قوله: "من محفتها" المحفة بكسر الميم، مركب من مراكب النساء كالهودج إلاَّ أنها تقبب كما تقبب الهوادج، وقيل: المحفة التي لا غطاء لها. قوله: "وهي في خدرها" أي سترها، والمعنى هي في سترها، وسترها هي هودجها أو محفتها. وقال أبو عمر: الخدر أيضًا الهودج، وهو من مراكب النساء. قلت: هو بكسر الخاء. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه جواز الحج بالصبيان الصغار وعليه جماعة فقهاء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، وكلهم يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحبونه، وقال أبو عمرو: على هذا جمهور العلماء في كل قرن. وقالت طائفة: لا يحج بالصبيان، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه؛ لأن رسول الله -عليه السلام- بأغليمة بني عبد المطلب، وحج السلف بصبيانهم، وروي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه طاف بعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- في خرقة، وقال النبي -عليه السلام- في الصبي: له حج، وللذي يحججه أجر، يعني لمؤنته وقيامه به، فسقط كل ما خالف هذا. وقال مالك: يحج بالصبي ويرمى عنه، ويجتنب ما يجتنبه الكبير من الطيب وغيره، فإن قوي على الطواف والسعي ورمي الجمار وإلَّا طيف به محمولًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 1866 رقم 2402).

وقال مالك: ما أصابه الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدي عنه، وبذلك قال الشافعي. واختلف قول مالك وأصحابه في جزاء ما يقتله الصبي؛ فقال بعضهم: هو كجنايته يكون من ماله، وقال بعضهم هو من مال الوالي، وهو الأشهر عن مالك، وقال أبو حنيفة: لا جزاء عليه ولا فدية كما إذا أفسد الحج لم يكن عليه قضاؤه، وكذلك ما أصابه من صيد أو غيره لم يكن عليه فيه جزاء ولا فدية. وقال ابن القاسم: عن مالك: الصغير الذي لا يتكلم إذا جرد ينوى بتجريده الإِحرام، قال ابن القاسم: يغنيه تجريده عن التلبية عنه، فإن كان يتكلم لبى عن نفسه، فأما المراضيع ونحوهم فلا يجردون للإِحرام، وإنما يجرد غيرهم من المتحركين بأنفسهم، ويجردون من الميقات ولا بأس أن يؤخر إحرام الصبي عن الميقات. وقال أبو القاسم: قال مالك: لا يطوف به أحد ما لم يطف طواف الواجب؛ لأنه يدخل طوافين في طواف. وقال ابن وهب: عن مالك: أرى أن يطوف عن نفسه، ثم يطوف بالصبي، ولا يركع عنه، ولا شيء على الصبي في ركعتيه. الثانى: فيه دلالة على أن أحد الأبوين إذا حج بولده الصغير يحصل له أجر ذلك؛ لقيامه بمؤنته في ذلك، ومباشرته معه مناسك الحج. الثالث: فيه دلالة على أن من أرشد صغير إلى مباشرة نوع من أنواع البر والخير يثاب على ذلك ويؤجر عليه. الرابع: فيه إشارة إلى أن الصبي يثاب على الطاعة؛ لأنه إذا كان له حج، يكون له ثواب، قال عياض: قال كثير من العلماء: إن الصبي يثاب على طاعته، وتكتب له حسناته دون سيئاته، روي ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. الخامس: هل حج الصبي يجزئ عن حجة الإِسلام أم لا؟ يأتي الآن.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه ذلك من حجة الإِسلام، ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: داود من الظاهرية، وطائفة من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: الصبي إذا حج قبل بلوغه كفى ذلك عن حجة الإِسلام، وليس عليه أن يحج، واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجزئه من حجة الإِسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى. ش: أي وخالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومجاهدًا والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، وأخرين من علماء الأمصار؛ فإنهم قالوا: لا يجزئ الصبي ما حجه عن حجة الإِسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى. وفي "أحكام ابن بزيزة": وأما الصبي فقد اختلف العلماء هل ينعقد حجة أم لا؟ والقائلون بأنه منعقد اختلفوا هل يجزئ عن حجة الفريضة إذا عقل أم لا؟ فذهب مالك والشافعي وداود إلى أن حجه ينعقد، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد. واختلف هؤلاء القائلون بانعقاده، فقال داود وغيره يجزئه عن حجة الفريضة بعد البلوغ. وقال مالك والشافعي: لا يجزئه. وأما العبد فقد اختلف العلماء هل يلزمه الحج أم لا؟ والقائلون بأنه لا يلزمه الحج في حال العبودية اختلفوا إذا حج هل يجزئه عن فريضة إذا عتق أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا حج عليه، فإن حج وهو عبد لم يجزئه ذلك عن حجة الإِسلام. وقال أحمد: إذا عتق بعرفة أجزأته تلك الحجة عن الفريضة.

وذهبت طائفة من السلف، الصحابة فمن بعدهم إلى أن الحج لازم له وهو مخاطب بوجوبه كالحر، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عمر وغيرهما، وبه قال داود، وروينا عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: سألت القاسم بن محمد وسليمان ابن يسار عن العبد إذا حج بإذن سيده، فقالا جميعًا: يجزئه عن حجة الإِسلام إن عتق، وإن حج بغير إذن سيده لم يجزئه، وروينا عن ابن عباس والحسن البصري والزهري وغيرهم: أن الصبي إذا احتلم، والعبد إذا أبق، والأعرابي إذا هاجر؛ فعليهم إعادة الحج. وقال عطاء: أما الأعرابي فيجزئه حجه، وأما العبد والصبي فعليهما حجة أخرى بعد البلوغ والعتق. ص: وكان من الحجة لهم عندنا على أهل المقالة الأولى: أن هذا الحديث إنما فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن للصبي حجًّا، وهذا مما قد أجمع الناس جميعًا عليه، ولم يختلفوا أن للصبي حجًّا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة فريضة عليه، فكذلك أيضًا يجوز أن يكون له حج وليس ذلك الحج بفريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبي، فاما من يقول: إن له حجًّا وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- ثم قد صرف هو حج الصبي إلى غير الفريضة، وأنه لا يجزئه بعد بلوغه من حجة الإِسلام. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: "يأيها الناس أَسْمِعُوني ما تقولون، ولا تخرجوا تقولون: (قال ابن عباس، قال ابن عباس) (¬1) أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما عبد حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن أعتق فعليه الحج". ¬

_ (¬1) كذا تكررت في "الأصل"، وكتب المؤلف فوقها: "صح" علامة على صحة تكرارها.

حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن يونس بن عُبيد، عن عُبيد صاحب الحلي قال: "سألت ابن عباس عن المملوك إذا حج ثم عتق بعد ذلك، قال: فعليه الحج أيضًا، وعن الصبي يحج ثم يحتلم، قال: يحج أيضًا". وقد زعمتم أن من روى حديثًا فهو أعلم بتأويله، فهذا ابن عباس قد روى عن النبي -عليه السلام- ما قد ذكرنا في أول هذا الباب، ثم قال هو ما قد ذكرنا، فيجب على أصلكم أن يكون ذلك دليلًا على معنى ما روي عن النبي -عليه السلام- من ذلك. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس المذكور، وهو ظاهر، ولكن ملخصه: أنه لا يدل على مدَّعاهم؛ لأن فيه إخبارًا أن للصبي حجًّا ونحن أيضًا نقول به، ولا خلاف فيه لأحد غير طائفة من أهل البدعة والضلال، ولا يلزم من كون الحج له سقوطه عنه بعد البلوغ، فيحوز أن يكون له حج وهو غير فريضة، كما إذا صلى نقول أن له صلاة ولكنها ليست بفرض. قوله: "وإنما هذا الحديث" أي حديث ابن عباس المذكور حجة على من زعم أنه لا حج للصبي، وهو قول طائفة من أهل البدع ولا يشتغل به، أراد أنكم تحتجون بهذا الحديث علينا فيما ذهبنا إليه وليس ذلك بصحيح؛ فإنا لا ننكر أن يكون للصبي حج، وإنما نقول: إن له حجًّا ولكنه ليس بفريضة فلم نخالف نحن شيئًا من هذا الحديث وإنما خالفنا تأويلكم خاصة؛ لأنكم ادعيتم أنه حجة لسقوط حجة الإِسلام عنه، ونحن أنكرنا ذلك بدلالة أن راوي هذا الحديث الذي هو ابن عباس قد صرف معنى هذا الحديث إلى المعنى الذي صرفنا إليه، وأنتم قد زعمتم أن كل من روى حديثًا فهو أعلم بتأويله، فعلى أصلكم هذا كان يجب ألَّا تخالفوا المعنى الذي صرفه ابن عباس حيث قال: "فإن أدرك فعليه الحج".

ثم إنه أخرج أثر ابن عباس من طريقين: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي السفر -بفتح السنن المهملة والفاء- واسمه سعيد بن محمد الهمداني الثوري روى له الجماعة إلاَّ النسائي، عن عبد الله بن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقى في "سننه" (¬1): من حديث يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس يقول: "أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم، ألا لا تخرجوا، فتقولوا: قال ابن عباس، أيما غلام حج به أهله فبلغ فعليه الحج، فإن مات فقد قضى حجته وأيما عبد مملوك حج به أهله فعتق فعليه الحج، وإن مات فقد قضى حجه". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عُبيد بن دينار البصري روى الجماعة، عن عُبيد الحلى [...] (¬2). وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظيبان، عن ابن عباس قال: "احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس، أيُّما عبد حج به أهله، ثم أعتق فعليه الحج، وأيما صبي حج به أهله صبيًّا ثم أدرك فعليه حجة الرجل، وأيما أعرابي حج أعرابيًّا ثم هاجر فعليه حجة المهاجر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 178 رقم 9629). (¬2) بيض له المصنف، ولم يذكر له ترجمة، وقد أخرج ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 107) هذا الأثر كما أخرجه الطحاوي، ولم أجد لعبيد هذا ترجمة، غير أن مسلم -رحمه الله- ذكره في "المنفردات والوحدان" (1/ 246) فيمن تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه: يونس بن عبيد صاحب الحلي. فالله أعلم. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 355 رقم 14875).

وأخرج البيهقي (¬1): من حديث ابن عيينة، عن مطرف، عن أبي السفر، سمع ابن عباس يقول: "يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم، وأسْمِعُوني ما تقولون، ولا تذهبوا فتقولوا: قال ابن عباس، قال ابن عباس، من طاف بالبيت فليطف من وراء الحِجْر ولا تقولوا: الحطيم فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه، وأيما صبي حج به أهله فقد قضيت حجته ما دام صغيرًا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله فقد قضيت حجته ما دام عبدًا، فإذا عتق فعليه حجة أخرى". وأخرجه البخاري مختصرًا (¬2). ص: فإن قال قائل: فما الذي دلك على أن ذلك الحج لا يجزئه من حجة الإِسلام؟ قلت: قول رسول الله -عليه السلام-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يكبر ... ". وقد ذكرت ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، فلما ثبت أن القلم عن الصبي مرفوع، ثبت أن الحج عليه غير مكتوب، وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل في وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك في وقتها أن عليه أن يعيدها وهو في حكم من لم يصلها، فلما ثبت ذلك من اتفاقهم ثبت أن الحج كذلك، وأنه إذا بلغ وقد حج قبل ذلك أنه في حكم من لم يحج، وعليه أن يحج بعد ذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: قد ثبت في الحديث أن الصبي له حج، وما الدليل على أن ذلك الحج لا يكفيه عن حجة الإِسلام؟ وتقرير الجواب: أن قوله -عليه السلام-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يكبر ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 156 رقم 9479). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1397).

وأخرج في [...] (¬1) يدل على أن الحج غير واجب عليه؛ لأنه غير مكلف لارتفاع القلم عنه، فإذا كان غير واجب عليه وقد حج حج ما ليس فرض عليه فإذا بلغ وجب عليه حجة الإِسلام عند وجود شرائطه، لتوجه الخطاب عليه. قوله: "وقد أجمعوا أن صييًّا ... إلى آخره" ذكره لأجل القياس عليه، وهو متفق عليه، فيكون حكمه حكم ذاك، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فقد رأينا في الحج حكمًا يخالف حكم الصلاة، وذلك أن الله -عز وجل- إنما أوجب الحج على من وجد إليه سبيلًا, ولم يوجبه على غيره، فكان من لم يجد سبيلًا إلى الحج فلا حج عليه كالصبي الذي لم يبلغ، ثم قد أجمعوا أن من لم يجد سبيلًا إلى الحج فحمل على نفسه ومشى حتى حج أن ذلك يجزئه، وان وجد سبيلاً بعد ذلك لم يجب عليه أن يحج ثانية للحجة التي قد كان حجها قبل وجود السبيل، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك الصبي إذا حج قبل البلوغ ففعل ما لم يجب عليه أجزأه ذلك ولم يجب عليه أن يحج ثانية بعد البلوغ. قيل له: إن الذي لا يجد السبيل إنما سقط الفرض عنه لعدم الوصول إلى البيت، فإذا مشى فصار إلى البيت، فقد بلغ البيت وصار من الواجدين السبيل، فوجب الحج عليه لذلك، فلذلك أجزأه حجه لأنه صار بعد بلوغه كمن كان منزله هنالك فعليه الحج، وأما الصبي ففرض الحج غير واجب عليه قبل وصوله لي الييت وبعد وصوله إليه؛ لرفع القلم عنه، فإذا بلغ بعد ذلك فحينئذٍ وجب عليه فرض الحج، فلذلك قلنا: أن ما قد كان من حجه قبل بلوغه لا يجزئه وأن عليه أن يستأنف الحج بعد بلوغه كمن لم يكن حج قبل ذلك، فهذا هو النظر أيضًا في هذا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: قياس الحج على الصلاة في حكم الصبي غير مطرد؛ لأن في الحج حكمًا يخالف حكم الصلاة، وهو أن الحج إنما وجب على واجد ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف، وقد تقدم تخريجه كما ذكر الطحاوي.

السبيل فمن لم يجد سبيلًا لا حج عليه كالصبي الغير بالغ، ثم أنه إذا حمل على نفسه وحج يقع ذلك عن حجة الإِسلام، حتى إذا وجد بعد ذلك سبيلًا لا تجب عليه حجة أخرى، فالقياس على ذلك أن يكون حكم الصبي كذلك إذا حج قبل البلوغ الذي ليس عليه، ولا تجب عليه حجة أخرى. وتقرير الجواب أن يقال: إنما سقط الفرض عن الذي لا يجد السبيل لعدم ما يوصله إلى البيت، فإذا تحمل ذلك بالمشي فقد وصل إلى البيت وصار من الواجدين السبيل، فوقع عن فرضه، فلا تجب عليه حجة أخرى، بخلاف الصبي فإن عدم الفرض عليه لارتفاع القلم عنه، وسواء في حقه الوصول إلى البيت وعدمه، فإذا بلغ توجه عليه الخطاب، ووجب عليه الحج ثانيًا والله أعلم. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" أي هذا الذي ذكر من وجوب الحج على الصبي الذي قد حج قبل البلوغ ثم بلغ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو قول إبراهيم النخعي أيضًا والحسن البصري والزهري وطاوس. وأما العبد فقد ذكرنا حكمه عن قريب. وقال أبو عمر: اختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك وأصحابه: لا سبيل إلى رفض الإِحرام لهذين ولا لأحد، متمسكين بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائزٌ للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفه أن يجدد إحرامًا، فإن تمادى على إحرامه ذلك لم يجزئه عن حجة الإِسلام. وقال أبو حنيفة: إن وصل العبد مع مولاه مكة فلم يحرم من الميقات ثم أذن له فأحرم من مكة بالحج فعليه الدم إذا عتق لتركه الميقات. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

قال أبو عمر: إنما أوجبوا الدم على العبد في تركه الميقات على مذهبهم لأنه لا يجوز للعبد أن يدخل مكة بغير إحرام وهو والحر في ذلك سواء، وليس الصبي والنصراني كذلك؛ لأنه لا يلزمهما الإِحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عن كل واحد منهما، فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي مكة كان حكمهما حكم المكي ولا شيء عليهما في ترك الميقات، وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإِسلام ولا دم عليه وكذلك العبد يعتق والصبي يبلغ إذا لم يكونا محرمين. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرمًا أجزأه من حجة الإِسلام، وكذلك العبد ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما، قال: ولو عتق العبد بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزأه عنهما من حجة الإِسلام، ولم يكن عليهما دم. ***

ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام ش: أي هذا باب في بيان دخول حرم مكة هل يجوز بغير إحرام؟ وقد ذكرنا مقدار حدود الحرم فيما قبل. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور (ح). وحدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا على بن حكيم الأودي (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قالوا: ثنا شريك، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه خمسة طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معلى بن منصور الرازي شيخ البخاري في غير الصحيح وأحد أصحاب أبي حنيفة، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عمار بن معاوية الدهني الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبة، قال: نا معاوية بن عمار، قال: حدثني أبو الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 201 رقم 2869).

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المصري، عن علي بن حكيم ابن ذبيان الأودي شيخ مسلم، عن شريك بن عبد الله، عن عمار ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا علي بن حكيم الأودي، قال: أنا شريك، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث يحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام". وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا. الرابع: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": نا طالوت بن عباد، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة وعليه عمامة سوداء". الخامس: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث يحيى بن حسان، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 990 رقم 1358). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 177 رقم 9622). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 990 رقم 1358). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 177 رقم 9623).

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة وعلى رأسه مغفر، فلما كشف المغفر عن رأسه، قيل: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه". ش: هذان طريقان رجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق، ويونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك. وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال اقتلوه". وأخرجه مسلم (¬2): نا عبد الله بن مسلمة ويحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، أما القعنبي فقال: قرأت على مالك بن أنس، وأما قتيبة، فقال: نا مالك، وقال يحيى -واللفظ له-: قلت لمالك: أحدثك ابن شهاب، عن أنس بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه، فقال نعم". وقال أبو عمر: هذا حديث تفرد به مالك، ولا يحفظ عن غيره، ولم يروه عن ابن شهاب سواه من طريق صحيح، وقد روي عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن أنس، ولا يكاد يصح، وروي من غير هذا الوجه، ولا يثبت أهل العلم فيه إسنادًا غير حديث مالك، ورواه أيضًا أبو أُوَيْس والأوزاعي عن الزهري، وروى محمد بن سليم بن الوليد العسقلاني عن محمد بن أبي السري، عن عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس: "دخل رسول الله -عليه السلام- يوم الفتح وعليه عمامة سوداء". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 655 رقم 1749). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 989 رقم 1357).

ومحمد بن سليم لم يكن ممن يعتمد عليه، وتابعه على ذلك بهذا الإِسناد الوليد بن مسلم ويحيى الوحاظي، ومع هذا فإنه لا يحفظ عن مالك في هذا [الإِسناد] (¬1) إلاَّ المغفر، وروى جماعة منهم بشر بن عمر الزهراني ومنصور بن سلمة الخزاعي حديث المغفر فقالا: "مغفر من حديد". ومنصور وبشر ثقتان وتابعهما على ذلك جماعة ليسوا هناك، وكذا رواه أبو عُبيد بن سلام، عن ابن بكير، عن مالك، ورواه روح بن عبادة، عن مالك بإسناده هذا، وفيه زيادة: "وطاف وعليه المغفر". ولم يقله غيره، ورواه عبد الله بن جعفر المديني، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، قال: "دخل رسول الله -عليه السلام- يوم الفتح وعل رأسه مغفر، واستلم الحجر بمحجن". وهذا لم يقله عن مالك غير عبد الله بن جعفر، وروى داود بن الزبرقان، عن معمر ومالك جميعًا عن ابن شهاب، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل عام الفتح مكة في رمضان وليس بصائم". وهذا اللفظ ليس بمحفوظ بهذا الإِسناد لمالك إلاَّ من هذا الوجه، وقد روى سويد بن سعيد، عن مالك، عن ابن شهاب عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل مكة عام الفتح غير محرم". وتابعه على ذلك عن مالك إبراهيم بن علي المغربي وهذا لا يعرف هكذا إلاَّ بهما وإنما هو في الموطأ عند جماعة الرواة من قول ابن شهاب لم يرفعه إلى أنس. قوله: "مغفر" بكسر الميم، قال أبو عمر: المغفر ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها، من حديد كان ذلك أو غيره. وقال في "الدستور": المغفر ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة والخوذة. وقال ابن سيده: المغفر والمغفرة والغفارة زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس مثل ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (6/ 171).

القلنسوة، وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: هو حلق يتقنع به المتسلح، وقال ابن الأثير: المغفر هو ما يلبسه الدراع على رأسه من الزرد ونحوه، وفي "المطالع" المغفر ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة أو الخمار. قلت: اشتقاقه من الغَفْر وهو التغطية، سمي به لأنه يغطي الرأس ويمنعها من وصول شيء إليها. فإن قيل: بين الروايتين تعارض، وما التوفيق بينهما؟ قلت: قال أبو عمر: ليس عندي هذا بمعارض؛ فإنه يمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها المغفر، فلا يتعارض الحديثان، وذكر أبو العباس أحمد بن طاهر الداني في كتابه "أطراف الموطأ": ولعل المغفر كان تحت العمامة. وقال القرطبي: قد يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة، ولبس العمامة بعده، ومما يؤيد هذا خطبته وعليه العمامة، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح، وقال الحاكم في "الإِكليل": اختلفت الروايات في لبس النبي -عليه السلام- العمامة أو المغفر يوم الفتح، ولم يختلفوا أنه دخلها وهو حلال، قال: وقال بعض الناس: العمامة كالمغفر على الرأس، ويؤيد ذلك حديث جابر، وهذا فيه نظر؛ فإن رواية بشر بن عمر الزهراني ومنصور بن سلمة الخزاعي: "وعلى رأسه مغفر من حديد". تدل على أن المغفر غير العمامة، قال الحاكم: حديث أنس مجمع على صحته، وهو أثبت من حديث جابر الذي فيه العمامة السوداء، فهو وإن صححه مسلم وحده، ولكنه عن أبي الزبير عن جابر، فقد قال عمرو بن دينار، أبو الزبير يحتاج إلى دعامة. قلت: الحديثان صحيحان، ولا تعارض بينهما، فإن النبي -عليه السلام- دخلها وعلى رأسه المغفر، وعلى المغفر عمامة سوداء، وهذا لا يشك فيه، والله أعلم. قوله: "قيل: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" واسم ابن خطل هلال بق خطل، وقيل: عبد الله بن خطل، قال أبو عمر: وقيل: اسمه

عبد العزى، وقيل: إن هلالًا أخوه، ويقال لهما الخطلان، وقيل: غالب بن عبد الله بن عبد مناف ويقال: اسمه هلال وخطل لقب جده عبد مناف، وقال الزبير بن بكَّار: اسمه هلال بن عبد الله بن عبد المناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تميم بن غالب ابن فهر، قال: وعبد الله هو الذي يقال له: الخطل ولأخيه عبد العزى بن عبد مناف أيضًا، هما جميعًا الخطلان، وهما من بني تيم الأدرم، وقيل له ذلك لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر، وقال ابن قتيبة: وبنو تيم الأدرم من أعراب قريش وليس بمكة منهم أحد وكان يقال الابن خطل ذا القلبين، وفيه نزل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ} (¬1) وكان الذي قتله أبو برزة نضلة بن عُبيد الأسلمي، وقيل: سعيد بن حريث المخزومي، وقيل: الزبير بن العوام، قال أبو عمر: وذكر أنه استبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارًا، فقتل بين المقام وزمزم، وقال أبو عمر: أما قتل عبد الله بن خطل فلأنه ارتد بعد إسلامه وكفر بعد إيمانه وبعد قراءته القرآن، وقتل النفس التي حرمها الله، ثم لحق بدار الكفر واتخذ قينتين تغنيان بهجاء رسول الله -عليه السلام-، فعهد فيه رسول الله -عليه السلام- بما عهد وفي ستة نفر معه قد ذكرهم ابن إسحاق وغيره، وامرأتين فيما قال ابن إسحاق، وقال الواقدي أربع نسوة. قلت: النفس التي قتلها هو رجل من الأنصار، وكان -عليه السلام- لما أسلم ابن خطل بعثه متصدقًا وبعث معه هذا الأنصاري، وأمر عليه الأنصاري، فلما كان ببعض الطريق وثب على الأنصاري فقتله وذهب بماله. وعن ابن إسحاق: كان له مولى يخدمه وكان المولى أيضًا مسلمًا، فنزل ابن خطل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا، وقام فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشتركًا. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [4].

ويستفاد منه أحكام: فيه دخول مكة بلا إحرام وبالسلاح، وهو منسوخ على ما يأتي بيانه إن شاء الله وأن الكعبة لا تعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف، قاله البيهقي. قلت: قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬1) ومتى تُعرض إلى من التجأ به يكون سلب الأمن عنه، وهذا لا يجوز، حتى إن من وجب عليه قصاص أو حدٌّ إذا هرب ودخل الحرم لم يقبض في الحرم من النفس عندنا، ويقام عليه فيما دون النفس مما سوى ذلك حتى يخرج من الحرم، وقتل ابن خطل في مكة إنما كان في الوقت الذي أحلت له -عليه السلام- فيه ومذهب زفر: أنه إذا قتل في الحرم أو زنى فيه يقتل ويرجم، وعن أبي يوسف: يخرج من الحرم ويقتل، وكذا في الرجم واختلفوا في تغليظ الدية على من قَتَل في الحرم، فأكثرهم على أنه في الحل والحرم سواء، وعن سالم مَنْ قَتَل خَطَأً في الحرم زيد عليه في الدية ثلث الدية، وهو قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وخالفه في ذلك عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبه استدل جماعة من المالكيين على جواز قتل من سب النبي -عليه السلام- وأنه يقتل ولا يستتاب. وقال أبو عمر: وقد زعم بعض أصحابنا المتأخرين أن رسول الله -عليه السلام- إنما قتل ابن خطل لأنه كان يسبه، والذي ذكر ابن إسحاق في "المغازي" غير هذا، ولو كانت العلة ما ذكر هذا القائل ما ترك من كان يسبه، وما أظن أحدًا منهم امتنع في حين كفره ومحاربته من سبه، وجعل القائل هذا حجة لقتل الذمي إذا سب رسول الله -عليه السلام- وهذا لا يجوز عند أحد من العلماء أن يقيس الذمي على الحربي؛ لأن ابن خطل كان في دار حرب ولا ذمة له، وقد حكم الله في الحربي إذا قدر عليه بتخيير الإِمام إن شاء قتله، وإن شاء مَنَّ عليه، وإن شاء افتدى به؛ فلهذا قتل رسول الله -عليه السلام- ابن خطل وغيره، فمن أراد منهم قتله على أن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [97].

ابن خطل كان قتل رجلاً من الأنصار مسلمًا ثم ارتد وهذا يبيح دمه عند الجميع. واختلف الفقهاء في الذمي يسب رسول الله -عليه السلام-، فقال مالك: من سب النبي -عليه السلام-[من أهل الذمة] (¬1) قتُل إلاَّ أن يسلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: يعزَّر ولا يقتل، وقال الليث: يقتل مكانه، وقال الشافعي: يؤخذ على [من صولح من] (1) الكفار متى ما ذكر أحدهم كتاب الله أو محمدًا -عليه السلام- بما لا ينبغي فقد أحل دمه. وقال الطحاوي: فهذا يدل على أنه إن لم يشرط ذلك عليه لم يستحل دمه، قال أبو عمر: والقول عندي في هذا قول مالك والليث. قلت: وإلى هذا أذهب وأختار هذا المذهب في هذه المسألة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري والحسن البصري والشافعي -في قول- ومالكًا -في رواية عبد الله بن وهب عنه- وداود بن علي وأصحابه من الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام، واستدلوا على ذلك بهذه الأحاديث، وإلى هذا ذهب البخاري أيضًا؛ قاله عياض. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلاَّ بإحرام. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا -في رواية وهي قوله الصحيح- والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد وأبا ثور والحسن بن حي -رحمهم الله- فإنهم قالوا: لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (6/ 168).

مكة إلاَّ بإحرام، فإن لم يفعل أساء، ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور، وعند الثوري وأبي حنيفة عليه حجة أو عمرة، وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك؛ لما عليهم فيه من المشقة، وقال ابن وهب عن مالك: لست آخذ بقول ابن شهاب في دخول الإِنسان مكة بغير إحرام، وقال: إنما يكون ذلك على مثل ما عمل عبد الله بن عمر من القرب، إلاَّ رجلاً يأتي بالفاكهة من الطائف، أو ينقل الحطب يبيعه، فلا أرى بذلك بأسًا، قيل له: فرجوع ابن عمر من قديد إلى مكة بغير إحرام؟ فقال: ذلك أنه جاءه خبر من جيوش المدينة. ص: واختلف هؤلاء فقال بعضهم: وكذلك الناس جميعًا من كان بعد الميقات وقبل الميقات غير أهل مكة خاصة. وقال آخرون: من كان منزله في بعض المواقيت أو فيما بعدها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلاَّ بإحرام، وممن قال هذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقال آخرون: أهل المواقيت حكمهم حكم من كان قبل المواقيت، وجعل أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله- حكم أهل المواقيت كحكم من كان من ورائهم إلى مكة، وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا؛ لأنا رأينا من يريد الإِحرام إذا جاوز الميقات حلالاً حين فرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، فكذلك من أحرم قبلها كان كذلك أيضًا، فلما كان الإِحرام من المواقيت في حكم الإِحرام مما قبله لا في حكم الإِحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها؛ فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلاَّ ما يجوز لأهل الأمصار التي قبل المواقيت فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في حكم [أهل] (¬1) المواقيت. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي اختلف الآخرون فيما بينهم أيضًا، فقال بعضهم وهم عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وإبراهيم النخعي وطاوس وكذلك الناس جميعًا: لا يدخلون مكة بغير إحرام، سواء كان ممن كان بعد الميقات أو قبل الميقات إلاَّ أهل مكة خاصة. "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم الحسن بن حي والثوري والأوزاعي، من كان منزله في بعض المواقيت -مثلًا كان منزله في ذي الحليفة أو في الجحفة- أو كان فيما بعدها أي بعد المواقيت إلى مكة؛ فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لا يدخلها إلاَّ بإحرام، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم أحمد وأبو ثور والشافعي -في قول-: إن حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبل المواقيت، يعني لا يدخلها إلاَّ بإحرام، وإليه ذهب الطحاوي واختاره، على ما يدل عليه كلامه. قوله: "وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا" أي ليس وجه النظر والقياس في هذا ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وجه النظر: أن من أراد الإِحرام إذا جاوز الميقات من غير إحرام حتى دخل مكة وحج وفرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ولو كان أحرم من المواقيت كان محسنًا، فكذلك من أحرم من قبل المواقيت كان كذلك أيضًا، فإذا كان الإِحرام من المواقيت في حكم الإِحرام مما قبل المواقيت لا في حكم الإِحرام مما بعد المواقيت؛ ثبت بذلك أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فحينئذٍ لا يجوز لأحد من أهلها دخول الحرم إلاَّ بالإِحرام، فانتفى بذلك ما قاله أبو حنيفة وصاحباه في حكم المواقيت؛ فافهم. واعلم أنهم اختلفوا فيمن جاوز الميقات وهو يريد الحج أو العمرة، فقال مالك وابن المبارك وأبو حنيفة: عليه دم ولا ينفعه رجوعه إلى الميقات، وقال الشافعي والأوزاعي: إن رجع إلى الميقات سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، وروي عن أبي حنيفة: إن رجع فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط عنه

الدم، وقال عطاء والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات، وقال سعيد بن جبير: إن ترك الرجوع إلى الميقات حتى قضى حجة فلا حج له، وقال الحسن البصري: إن لم يرجع إلى الميقات حتى تم حجه رجع إلى الميقات فأهل بعمرة. وهذه الأقوال الثلاثة شاذة ضعيفة لا أصل لها في أثر ولا نظر، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور على أن من مر بالميقات لا يريد حجًّا ولا عمرة ثم بدا له أن يحرم أحرم من حيث بدا له ولا يرجع إلى الميقات ولا شيء عليه، وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات ويحرم منه. واختلف في العبد يجاوز الميقات من غير نية الإِحرام ثم يحرم، فقال مالك والثوري والأوزاعي: لا شيء عليه، قال مالك: وكذلك الصبي يجاوزه ثم يحتلم فيحرم، وقال الشافعي مرة: عليه دم، وقال أبو حنيفة: عليه دم لتركه الميقات أذن له السيد أو عتق، وقال الشافعي في الكافر يجاوز الميقات ثم يسلم: لا شيء عليه، وقال مرة: عليه الدم. ص: واحتجنا إلى النظر في الأخبار هل فيها ما يدفع دخول الحرم بغير إحرام؟ وهل فيها ما ينبئ عن معنى في هذين الحديثين المتقدمين يجب بذلك المعنى أن ذلك الدخول الذي كان من النبي -عليه السلام- بغير إحرام خاص له. فاعتبرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله -عز وجل- حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضعها بين هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لي إلاَّ ساعة من نهار، لا يختلى خلاها, ولا يعضد شجرها, ولا يرفع لقطتها إلاَّ منشد، فقال العباس: إلاَّ الأذخر، فإنه لا غنى لأهل مكة عنه لبيوتهم وقبورهم، فقال رسول الله -عليه السلام- إلاَّ الأذخر".

ش: لما استدل أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز دخول مكة بغير إحرام بحديثي جابر وأنس -رضي الله عنهما- أراد أن يبين وجه حديثهما، وأورد أحاديث عن ابن عباس وغيره تدل على أن دخوله -عليه السلام- مكة كان وهي حلال ساعتئذ؛ فلذلك دخلها غير محرم، وأن ذلك كان خاصًّا للنبي -عليه السلام- ثم عادت حرامًا إلى يوم القيامة، فلا يجوز دخولها لأحد بغير إحرام. وأخرج حديث ابن عباس عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري في كتاب الصلاة، قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة حجة، عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة، عن يزيد ابن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، فعن أحمد: حديثه ليس بذاك. وعن يحيى: لا يحتج بحديثه، وعنه ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. روى له مسلم مقرونًا بغيره واحتج به الأربعة. عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس. وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلاَّ ساعة من نهار ثم عادت، لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها ولا يخاف صيدها ولا ترفع لقطتها إلاَّ لمنشد، فقال العباس: إلاَّ الأذخر يا رسول الله فإنه لا غنى بأهل مكة عنه، قال: إلاَّ الأذخر". قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عباس من غير وجه وعن غير ابن عباس بألفاظ مختلفة ومعانيها قريبة، وفي هذا الحديث ألفاظ ليست في حديث غيره، فذكرناه من أجل ذلك، ويزيد بن أبي زياد قد ذكرناه في غير هذا الحديث، فإنه ليس بالقوي ولا نعلم أحدًا ترك حديثه من المحدثين لا شعبة ولا الثوري ولا أحد من أهل العلم، وإنما كان يؤتي لأنه كان في حفظه سوء.

قلت: بهذا حصل الجواب عما قيل: إن الطحاوي أخرج حديث ابن عباس بإسناد فيه كلام؛ لأنه قصد بذلك ما قصده البزار، على أن أهل العلم الكبار ما تركوا حديث يزيد بن أبي زياد على ما قاله البزار وأبو داود -رحمهما الله-. وأخرجه البخاري (¬1) مختصرًا في كتاب الحج: ثنا على بن عبد الله، نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام- يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلاَّ من عرفها". وأخرجه في باب غزوة الفتح (¬2): نا إسحاق، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد: "أن رسول الله -عليه السلام- قام يوم الفتح فقال: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي قط إلاَّ ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها, ولا يعضد شوكها, ولا يختلى خلاها, ولا تحل لقطتها إلاَّ لمنشد، فقال العباس بن عبد المطلب: إلاَّ الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقين والبيوت، فسكت ثم قال: إلاَّ الأذخر فإنه حلال". وعن ابن جريج، أخبرني عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا أو نحو هذا. وأخرجه مسلم (¬3): نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -عليه السلام- يوم الفتح فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، وقال يوم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 575 رقم 1510). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1567 رقم 4059). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 986 رقم 1353).

الفتح: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات [والأرض] (¬1) فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلاَّ ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط إلاَّ من عرفها ولا يختلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله، إلاَّ الأذخر". قوله: "حرم مكة" أي جعلها حرامًا، وقد فسر ذلك بقوله: "لم تحل لأحد قبلي ... " إلى آخره. قوله: "بين هذين الأخشبين" وأراد بهما الجبلين المطيفين بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها". قوله: "إلَّا ساعة في نهار" لم يرد بها الساعة من الاثنتي عشرة ساعة، والمراد بها القليل من الوقت والزمان، وأنه كان بعض النهار ولم يكن يومًا تامًّا، ودليله: "وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس". قوله: "لا تختلي خلاها" أي لا يقطع كلاؤها، وقال ابن مالك في كتابه "تحفة المودود": والخلا هو الرطب من الكلأ، الواحدة خلاة، ولامة ياء، لقولهم خليت البقل قطعته وفي "المخصص" تقول: خليت الخلا خليًا: جززته، في "المحكم" وقيل: الخلا: كل بقلة قلعتها، وقد يجمع الخلا على أخلاء، حكاه أبو حنيفة، وأخلت الأرض: كثر خلاها واختلاه: جزه، وقال اللحياني: نزعه وفي كتاب "النبات" للدينوري: الخلا: العشب ما دام رطبًا، فإذا يبس فهو حشيش، وقال القاضي: ومعنى لا يختلى خلاها: لا يحصد كلاؤها، والخلا مقصور: الكلاء الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم، وفي "المطالع" لا يختلى خلاها مقصور، ومده بعض الرواة وهو خطأ، وهو العشب الرطب، والاختلاء القطع، فعل مشتق من الخلا، والمخلا مقصورة حديدة يختلى بها الخلا، والمخلاة وعاء يختلى فيه للدابة، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ثم يسمى كل ما يعتلف فيه مما يعلق في رأسها: مخلاة والخلاء بالمد الموضع الخالي، وأيضًا مصدر من خلا يخلو، وقيل: القولان في قول عائشة -رضي الله عنها- " [حبب] (¬1) إليه الخلاء" (¬2) أي الموضع الخالي، وقيل: أن يخلو. قوله: "لا يعضد شجرها" أي لا يقطع، يقال: عضد واستعضد بمعنى، كما يقال: علا واستعلى، قال القاضي: وقع في الرواية الأخرى: "شجراؤها" وهو الشجر، وقال الطبري: معنى لا يعضد: لا يفسد ويقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ: أصاب عضده بسوء، وفي "الموعب" عضدت الشجر أعضده عضدًا مثال: ضرب، إذا قطعته، والعضَد يقال لكل ما تكسر من الشجر أو قطع وفي "المحكم" الشجر معضود وعضيد. قوله: "ولا يرفع لقطتها إلاَّ منشد" أي معرف، وأما الطالب فيقال له ناشد، يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها، فإذا عرفتها قلت: أنشدتها، وأصل الإِنشاد رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر، وفي رواية البزار وغيره: "ولا يرفع لقطتها إلاَّ لمنشد" أي لأجل منشد أي معرف يعرفها حتى يجيء صاحبها. قوله: "إلاَّ الإِذخر" بكسر الهمزة والخاء المعجمة وبسكون الذال المعجمة، وهو نبت معلوم، وله أصل مندفن وقضبان دقاق ذفر الريح، وهو مثل الأسل أسل الكولان إلاَّ أنه أعرض وأصغر كعوبًا, وله ثمرة كأنها مكاميع القصب إلاَّ أنها أرق وأصغر، وقال أبو زياد: الإِذخر يشبه في نباته الغرز، والغرز نباته نبات الأسل الذي يعمل منه الحصر، والإِذخر أدق منه وله كعوب كثيرة وهو يطحن فيدخل في الطيب، قال أبو نصر: هو من الذكور، وإنما الذكور من البقل، وليس الإِذخر من البقل، وله أرومة فينبت فيها فهو بالحلبة أشبه، قال أبو عمر: هو من الحلبة، وقلما ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كان"، والمثبت من مصادر تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم كلاهما في كتاب بدء الوحي من "صحيحيهما". البخاري (1/ 4 رقم 3)، ومسلم (1/ 140 رقم 160).

ينبت الإِذخر منفردًا، وهو ينبت في السهول والحزون، ويقال: أعذق الإِذخر إذا خرج عذقه وكذلك الكبس كأنه مأخوذ من الكباسة وهي العذق واحجب إذا نبت في نواحيه وإذا حف الأذخر أبيض، وفي "شرح ألفاظ المنصوري": الإِذخر خشب يجلب من الحجاز وبالمغرب صنف منه، قيل: هذا أصح ما قيل في الإِذخر ويدل عليه قول عباس -رضي الله عنه-: "لبيوتهم وقبورهم" فإن البيوت لا تسقف إلاَّ بالخشب، ولا يجعل على اللحود إلاَّ الخشب ولا يمكن أن تسقف البيوت أو يجعل على اللحود حشيش فإنه غير متماسك لا رطبًا ولا يابسًا. قلت: المراد به أنه يسد به الفرج التي تتخلل من لبنات القبر لا أنه يسوى على القبر موضع اللبنات، وكذلك تسد به الفرج التي بين جذوع السقف ولا يسقف به وكذلك الحشيش، فافهم. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه دليل على أن مكة حرام فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلاَّ بإحرام، وأن دخول النبي -عليه السلام- حلالًا كان في الوقت الذي أحلت له مكة. الثاني: فيه أنه لا يجوز قطع حشيش الحرم مما ينبت بنفسه وعلى هذا الإِجماع، فأما الذي يزرعه الناس نحو البقول والخضراوات والقصيل؛ فإن هذا يجوز قطعه واختلاؤه، واختلف في الرعي فيما أنبته الله من خلاها فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد، وأجازه أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد. الثالث: فيه جواز قطع إذخر الحرم لكونه مستثنى. الرابع: فيه أنه لا يجوز قطع شجر الحرم، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم. وقال في الإِمام: اختلف الناس في قطع شجر الحرم هل فيه جزاء أم لا، فعند مالك: لا جزاء فيه، وعند أبي حنيفة والشافعي: فيه الجزاء.

قلت: هذا فيما لم يغرسه الآدمي من الشجر، وأما ما غرسه الآدمي فلا شيء عليه فيه، وحكى الخطابي أن مذهب الشافعي منع قطع ما غرسه الآدمي من شجر البوادي ونماه، وأنه وغيره مما أنبته الله سواء، واختلف قوله في جزاء الشجر على اختلاف مالك وأبي حنيفة، وعند الشافعي في الدوحة بقرة وما دونها شاة وعند أبي حنيفة يؤخذ من قيمة ما قطع فيشتري به هدي، فإن لم يبلغ ثمنه تصدق به بنصف صاع لكل مسكين، وفي بعض شروح البخاري: قد اختلفوا فيما يجب على من قطع شجرة من شجر الحرم، فقال مالك وأبو ثور: لا يجب عليه إلاَّ الاستغفار. وقال الشافعي: عليه الجزاء حلالًا كان أو حرامًا، في الشجرة الكبيرة: بقرة، وقال في الخشب وما أشبهه: فيه قيمته بالغة ما بلغت، وقال الكوفيون: فيها قيمتها والمحرم في ذلك والحلال سواء، وأجمع كل من نحفظ عنه العلم على إباحة أخذ كل ما ينتبه الناس في الحرم من البقول والزروع والرياحين، واختلفوا في أخذ السواك من شجر الحرم فعن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم رخصوا في ذلك، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السَّنا يستمشي به ولا ينزع من أصله، ورخص فيه عمرو بن دينار. الخامس: لا يجوز رفع لقطتها إلاَّ لمنشد، قال القاضي عياض: حكم اللقطة في سائر البلاد واحد، وعند الشافعي أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد، وأنها لا تحل إلاَّ لمن يعرفها؛ تعلقًا بهذا الحديث، ويحمل اللفظ على أصلنا على المبالغة للتعريف؛ لأن الحاج يرجع إلي بلده وقد لا يعود إلاَّ بعد أعوام، فتدعو الضرورة لإِطالة التعريف بها بخلاف غير مكة. قلت: مذهب أصحابنا أيضًا كمذهب مالك؛ لعموم قوله -عليه السلام-: "اعرف وقاصها ووكاءها ثم عرفها سنة". من غير فصل.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى , عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله -عز وجل- حرم مكة ولم يحرمها الناس، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكنَّ فيها دمًا ولا يعضدن فيها شجرًا؛ فإن ترخص مترخص، فقال: قد حلت لرسول الله -عليه السلام- فإن الله -عز وجل- أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلها لي ساعة". حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد البعث إلى مكة لغزو ابن الزبير -رضي الله عنهما- أتاه أبو شريح فكلمه بما سمع من رسول الله -عليه السلام- ثم خرج إلى نادي قومه فجلس، فقمت إليه فجلست معه، قال فحدث عما حدث عمرًا عن رسول الله -عليه السلام- وعما جاوبه عمرو، قال: قلت له: إنا كنا مع رسول الله -عليه السلام- حين فتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح خطبنا فقال: يا أيها الناس، إن الله -عز وجل- حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ولا يعضد بها شجرًا، لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل [لي] (¬1) إلاَّ هذه الساعة غضبًا على أهلها أَلا ثُم قد عادت كحرمتها بالأمس، فمن قال لكم: إن رسول الله -عليه السلام- قد أحلها، فقولوا له إن الله -عز وجل- قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك. فقال لي: انصرف أيها الشيخ فنحن أعرف بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا مانع خربة ولا خالع طاعة، قلت: قد كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا، وقد أمر رسول الله -عليه السلام- أن يُبلِّغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا بحر -هو ابن نصر- عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي -عليه السلام- ... نحوه. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد كيسان المدني، عن أبي شريح الكعبي الخزاعي العدوي الصحابي، قيل: اسمه خويلد بن عمرو وقيل: عبد الرحمن بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، والمشهور: خويلد بن عمرو. وأخرجه الطبراني (¬1): نا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، حدثني أبي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح، أن النبي -عليه السلام- قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا وأن يعضد بها شجرًا، فإن ارتخص بها أحد فقال: أحلت للنبي -عليه السلام- فإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها لأحد غيري، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس". وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5). فإن قيل: قوله -عليه السلام-: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس" يعارضه قوله الآخر: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها". ¬

_ (¬1) " المعجم الكبير" (22/ 186 رقم 486). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 651 رقم 1735). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 987 رقم 1345). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 173 رقم 809). (¬5) "المجتبى" (5/ 205 رقم 2876).

قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأن معنى قوله: "إن إبراهيم حرم مكة" إن إبراهيم أعلن بتحريم مكة، وعَرَّف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها، فلما لم يعرف تحريمها إلاَّ في زمانه على لسانه أضيف التحريم إليه، وذلك كما أضاف الله تعالى توفي النفوس مرة إليه بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (¬1) ومرة إلى ملك الموت بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (¬2) ومرة إلى الملائكة أعوان ملك الموت بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (¬3) ويجوز أن يضاف الشيء إلى من له فيه سبب. وقد يقال: يحتمل أن يكون إبراهيم -عليه السلام- منع من الصيد بمكة والقتال فيها وشبهها، وأني أمنع مثل ذلك في المدينة لأن التحريم في كلام العرب المنع، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} (¬4) أراد منعنا قبول المراضع. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بهلول التميمي شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري، عن محمد بن إسحاق المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5): ثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير -رضي الله عنهما- أتاه أبو شريح فكلمه، وأخبره بما سمع من رسول الله -عليه السلام- ثم خرج إلى نادي قومه فجلس إليه، فقمت إليه فجلست معه، فحدث قومه كما حدث عمرو بن سعيد ما سمع من رسول الله -عليه السلام- وعما قال له عمرو بن سعيد، قال: قلت: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله -عليه السلام- حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، ¬

_ (¬1) سورة الزمر، آية: [42]. (¬2) سورة السجدة، آية: [11]. (¬3) سورة النحل، آية: [28]. (¬4) سورة القصص، آية: [12]. (¬5) "مسند أحمد" (4/ 32 رقم 16424).

فقام رسول الله -عليه السلام- فينا خطيبًا فقال: أيها الناس، إن الله -عز وجل- حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ولا يعضد بها شجرًا، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلاَّ هذه الساعة غضبًا على أهلها، أَلَا ثُم قد رجعت كحرمتها بالأمس، أَلَا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله -عليه السلام- قد قاتل بها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر أن يقع، [لئن] (¬1) قتلتم قتيلًا لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا أخذوا بقتاله، وإن شاءوا بِعَقْله ثم ودَّي رسول الله -عليه السلام- الرجل الذي قتلته خزاعة. فقال عمرو بن سعيد لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم ولا خالع طاعة ولا مانع خربة، قال: فقلت: قد كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا، فقد بلغت وقد أمرنا رسول الله -عليه السلام-، أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك، فأنت وشأنك". وأخرجه الطبراني (¬2): من طريق محمد بن إسحاق أيضًا نحوه. قوله: "لما بعث عمرو بن سعيد" هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو أميَّة المعروف بالأشدق قال الهيثم بن عدي: كان أفقم وذكر المرزباني أنه عُرف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم علي -رضي الله عنه- فأصيب بلقوة، وقال المبرد: كان عبد الله بن الزبير يلقبه لطيم الشيطان، وقال ابن سعد: ولاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان أحب الناس إلى أهل الشام، وكانوا يسمعون له ويطيعون، قال: وكتب إليه يزيد أن يوجه إلى عبد الله بن الزبير بن العوام جيشًا، فوجه إليه جيشًا واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لقد"، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أحمد". (¬2) "المعجم الكبير" (22/ 185 رقم 485).

العوام، ويقال: إنه رأى النبي -عليه السلام-، وروى عنه أنه قال: "ما نحل والد ولدًا أحسن من أدب حسن"، وحديث آخر في العتق، وروى عن عمر وعثمان وعلي وعائشة -رضي الله عنهم- وحدث عنه نبوه أمية وسعيد وموسى وغيرهم، وكان معاوية استنابه على المدينة، وكذلك ابنه يزيد بن معاوية بعد أبيه، وكان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد -عليه ما يستحق- لقتال ابن الزبير، وكان جرى له أمور كثيرة وآخر الأمر قتله عبد الملك بن مروان في سنة تسع وستين من الهجرة. قوله: "إلى نادي قومه" أي مجلس قومه، النادي والنَّدِيّ: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك النُّدوة والنَّدوة والمنتدى والمتندى فإن تفرق القوم فليس بِنَدِيِّ ومنه سميت دار النَّدوة بمكة التي بناها قصي، لأنهم كانوا يندون فيها: أي يجتمعون فيها للمشاورة. قوله: "ولا تحل لأحد بعدي" أي القتال الذي حل لي ومحاربة أهلها؛ لأنهم لا يكفرون فيقاتلون، وهذا على طريق النهي لا على طريق الخبر أنها لا تقاتل، إذ قد قاتلها الحجاج وغيره، وأخبر -عليه السلام- عن غلبة ذي السويقتين عليها وتخزيبه لها، وإنما أخبر عن حكم قتال أهلها أنه لا يحل لأحد بعده. قوله: "ولا مانع خربة" الخربة أصلها العيب، والمراد به ها هنا الذي ينفرد بشيء ويغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة، وقد جاء في سياق الحديث في كتاب البخاري: أن الخربة: الجناية، فعلى هذا يكون المعنى ولا من يمنع الجناية، وفي بعض المواضع الخربة: الزلة يقال: "ما لفلان خربة" أي زلة، قال أبو المعالي: الخارب اللص والخرابة: اللصوصية، قال الأصمعي: الخارب سارق الإِبل خاصة، والجمع خُرَّاب وخَرَب فلان بإبل فلان يَخْربُ خَرَابَةً: مثل كَتَبَ يَكْتِبُ كتابة، والخربة الفعلة منه، وفي "المحكم": الخَربة بالفتح، والخُربة بالضم، والخرَب والخُرب كذلك: الفساد في الدين، وقال اللحياني: خرب فلان بإبل فلان يخرب بها خربا وخروبا وخِرابة أي سرقها، كذا حكاه متعديًا بالباء، وقال مرة: خرب فلان أي

صار لصًّا، وقال عياض في قوله: "ولا فارًا بخربة" كذا رويناه هنا بفتح الخاء وبالراء والباء الموحدة، وضبطه الأصيلي في "صحيح البخاري" بضم الخاء، ورواه الترمذي في بعض الطرق بِخِزْيَة، وأراه وهما، قال ابن الأثير: قال الترمذي: وقد روى بِخِزْيَة فيجوز أن يكون بكسر الخاء وهو الشيء الذي يستحيى منه أو من الهوان والفضيحة، ويجوز أن يكون بالفتح، وهو الفعلة الواحدة منها. الثالث: عن بَحرْ بن نصر بن سابق الخولاني شيخ أبي عوانة الإِسفرائيني، ومحمد بن خزيمة، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة، ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي: "أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة شرفها الله تعالى: اتئذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله -عليه السلام- الغد يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: إنه حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة، فأي أحد ترخص بقتال رسول الله -عليه السلام- فقولوا له: أن الله تعالى قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألَّا ليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بعدم ولا فارًّا بخربة". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه: عن قتيبة، عن ليث ... إلى آخره. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي مريم , قال: أنا ابن الدراوردي، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 651 رقم 1735). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 987 رقم 1354).

عن أبي هريرة قال: "وقف رسول الله -عليه السلام- على الحجون، ثم قال: والله إنك بخير أرض الله وأحب أرضٍ إلى الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وما أحلت لي إلاَّ ساعة من النهار، وهم بعد ساعتها هذه حرام إلى يوم القيامة". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: ثنا أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة قال: "لما فتح الله -عز وجل- على رسوله -عليه السلام- مكة قتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام إليه النبي -عليه السلام- فقال: إن الله -عز وجل- حبس عن أهل مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، وإنها لا تحل لأحد كان قبلي ولا تحل بعدي وإنما أحلت لي ساعتين من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها, ولا يختلي شوكها, ولا يلتقط ساقطها إلاَّ لمنشد". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "إن الله -عز وجل- حبس عن أهل مكة الفيل، قال: فلا يلتقط ضالتها إلاَّ منشد". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن سعيد بن الحكم المصري المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو ابن علقمة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب، نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف عام الفتح بالحجون، فقال: والله إنك لأخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني

أخرجت منك ما خرجت، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام ساعتي هذه، لا يعضد شجرها, ولا يحتش كلاؤها, ولا تلتقط ضالتها إلاَّ لمنشد، قال: فقال رجل -قال: وزعم الناس أنه عباس -رضي الله عنه- يا رسول الله، إلاَّ الإِذخر، فإنه لبيوتنا ولقبورنا ولقيوننا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إلاَّ الإِذخر". وأخرجه الجماعة (¬1) غير ابن ماجه. و"الحَجُون" بفتح الحاء وضم الجيم، قد فسرناها مرة أنها مقبرة أهل مكة. و"القيون" جمع قين وهو الحداد. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، وأبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي -بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة وفتح الذال المعجمة- نسبة إلى تبوذك محلة بالبصرة، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. الثالث: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإِسكندراني السكري، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني إسحاق بن منصور، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى، قال: أخبرني أبو سلمة، أنه سمع أبا هريرة يقول: "إن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك رسول الله -عليه السلام-، فركب راحلته فخطب فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، إلاَّ إنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ألا وإنها ¬

_ (¬1) البخاري (2/ 857 رقم 2302)، ومسلم (2/ 988 رقم 1355)، وأبو داود (2/ 212 رقم 2017)، والترمذي (4/ 21 رقم 1405). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 989 رقم 1355).

أحلت لي ساعة من النهار ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يخبط شوكها ولا يعضد شجراؤها ولا تلتقط ساقطتها إلاَّ منشد". وأخرجه أيضًا (¬1): عن زهير، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قوله: "بقتيل كان لهم" أي بسبب قتيل كان لهم، أو بمقابلة قتيل كان لهم. قوله: "شجراؤها" قال صاحب "المطالع": شجراؤها كذا في حديث إسحاق بن منصور، وعند "الطبري" شجرها كسائر الأحاديث، والشجراء: جمع شجرة، والشجراء: الأرض الكثيرة الشجر، والشجر كل نبات يقوم على ساق ويبقي إلى المصيف حتى أغصان تورق. الرابع: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري البصري العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حرب بن شداد، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "لما فتح الله -عز وجل- على رسول الله -عليه السلام- مكة قام رسول الله -عليه السلام- فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها, ولا ينفر صيدها, ولا تحل لقطتها إلاَّ لمنشد". ص: فأخبر رسول الله -عليه السلام- في هذه الآثار أن مكة لم تحل لأحد كان قبله ولا تحل لأحد بعده، وأنها إنما أحلت له ساعة من نهار، ثم عادت حرامًا كما كانت إلى يوم القيامة، فدل ذلك أن النبي -عليه السلام- كان دخلها وهي له حلال، فكان له بذلك دخولها بغير إحرام، وهي بعدُ حرام، فلا يدخلها أحد إلاَّ بإحرام. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 988 رقم 1355). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 238 رقم 7241).

ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي أخرجها عن ابن عباس وأبي شريح وأبي هريرة -رضي الله عنهم-. قوله: "فذكر ذلك" أي قوله: "أحلت لي ساعة من نهار" والباقي ظاهر. ص: فإن قال قائل: إن معنى ما أحل للنبي -عليه السلام- ها هنا هو شهر السلاح فيها للقتال وسفك الدماء لا غير ذلك، قيل له: هذا محال، لو كان الذي أبيح للنبي -عليه السلام- منها هو ما ذكرت خاصة إذاً لم يقل: "ولا تحل لأحد بعدي" وقد رأيناهم أجمعوا أن المشركين لو غلبوا على مكة فمنعوا المسلمين منها أنه حلال للمسلمين قتالهم وشهر السلاح بها وسفك الدماء، وإن حكم من بعد النبي -عليه السلام- في ذلك في إباحتها في حكم النبي -عليه السلام-، فدل ذلك أن المعنى الذي كان النبي -عليه السلام- خُصُّ به فيها وأحلت له من أجله ليس هو القتال، وإذا انتفى أن يكون هو القتال ثبت أنه الإِحرام، ألا ترى إلى قول عمرو بن سعيد لأبي شريح: "إن الحرم لا يمنع سافك دم ولا مانع خربة ولا خالع طاعة". جوابًا لما حدث به أبو شريح عن النبي -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، ولم يقل له: إن النبي -عليه السلام- إنما أراد بما حدثتك عنه أن الحرم قد يجير كل الناس، ولكن عرف ذلك فلم ينكره. وهذا عبد الله بن عباس فقد روى ذلك عن النبي -عليه السلام- ثم قال في رواية: "لا يدخل أحد الحرم إلاَّ بإحرام" وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله، فدل قوله: هذا أن ما روى عن النبي -عليه السلام- فيما أحلت له ليس هو على إظهار السلاح بها، وإنما هو على المعنى الآخر؛ لأنه لما انتفى هذا القول ولو لم يكن غيره ثبت القول الآخر. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقول: فدل ذلك أن النبي -عليه السلام- كان دخلها وهي له حلال فلذلك كان له دخولها بغير إحرام وإنما الذي حل للنبي -عليه السلام- منها هو شهر السلاح فيها للقتال وسفك الدماء لا غير؟ وهذا السؤال من جهة أهل المقالة الأولى قصدوا به تقرير مذهبهم، وهو جواز دخول الحرم بغير إحرام؛ لأنه -عليه السلام- دخل عام الفتح بغير إحرام، ونحن لما قلنا: لا يجوز دخولها بغير إحرام،

وقلنا: دخول النبي -عليه السلام- كان ومكة حلال له حينئذٍ، وهو من خصائصه فلا يجوز لغيره ذلك، قالوا لم يكن ما حل له من ذلك إلا شهر السلاح وسفك الدماء لا غير. وتقرير الجواب أن يقال: هذه الدعوى ممنوعة؛ إذ لو صحت لما كان لقوله: "ولا تحل لأحد بعدي" فائدة؛ لأنكم مجمعون معنا في أن أهل الشرك لو غلبوا على مكة -والعياذ بالله- ومنعوا المسلمين منها جاز حينئذٍ قتال المسلمين فيها وشهر السلاح وسفك الدماء فيستوي في ذلك حينئذٍ حكم النبي -عليه السلام- وحكم غيره في إباحتها، فعلم من ذلك أن ما كان حل منها للنبي -عليه السلام- لم يكن لأجل القتال وإنما كان خاصًّا له، ثم أوضح ذلك بقوله: "ألا ترى ... " إلى آخره، وبقوله: "وهذا عبد الله بن عباس ... " إلى آخره. قوله: "وإنما هو على المعنى الآخر" وهو كون دخول النبي -عليه السلام- مكة بغير إحرام من خصائصه وهو المراد أيضًا من قوله: "ثبت القول الآخر". ص: ثم احتجنا بعد هذا إلى النظر في حكم من بعد المواقيت إلى مكة هل لهم دخول الحرم بغير إحرام أم لا؟ فرأينا الرجل إذا أراد دخول الحرم لم يدخله إلاَّ بإحرام، وسواء أراد دخول الحرم لإِحرام أو لحاجة غير الإِحرام، ورأينا من أراد دخول المواضع التي بين المواقيت وبين الحرم لحاجة أن له دخولها بغير إحرام، فثبت بذلك أن حكم هذه المواضع إذا كانت تُدْخَل للحوائج بغير إحرام، كحكم ما قبل المواقيت، وأن أهلها لا يدخلون الحرم إلاَّ كما يدخله من كان أهله وراء الميقات إلى الآفاق، فهذا هو النظر عندي في هذا [الباب] (¬1) وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- وذلك أنهم قلدوا فيما ذهبوا إليه من هذا ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديدًا بلغه عن جيش قدم المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معني الآثار".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا لقيه جيش ابن دلجة، فرجع فدخل مكة حلالًا". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة حلالاً". فقلدوا ذلك واتبعوه. وكان النظر عندنا في ذلك خلاف ما ذهبوا إليه. ش: لما ذكر فيما مضى أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: أن من كان منزله في بعض المواقيت أو فيما بعدها إلى مكة فله أن يدخلها بغير إحرام، وذكر أن هذا الذي ذكروه ليس هو النظر عنده، وأن النظر عنده خلاف ذلك، شرع ها هنا يبين ما ذهب إليه واختاره، وما احتج به أبو حنيفة وصاحباه فيما ذهبوا إليه، وهو أثر ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن مسهر، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه أقام بمكة، ثم خرج يريد المدينة حتى إذا كان بقديد بلغه أن جيشًا من جيوش الفتنة دخلوا المدينة، فكره أن يدخل عليهم، فرجع إلى مكة فدخل بغير إحرام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 210 رقم 13526).

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره، والكل رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وجه استدلالهم بهذا: أن ابن عمر رجع من قديد وهو موضع فيما وراء الميقات ودخل مكة بغير إحرام، فدل ذلك على أن لأهل ما وراء المواقيت أن يدخلوا مكة بغير إحرام، وقال الكاساني: ويجوز لمن كان من أهل مكة ومن أهل الميقات وما بعده دخول مكة لغير إحرام الحج والعمرة من غير إحرام عندنا, ولا يجوز ذلك في أحد قولي الشافعي، وفي قوله الثاني: إذا تكرر دخولهم يجب عليه الإِحرام في كل سَنة مرة، والصحيح قولنا؛ لما روي عن النبي -عليه السلام- أنه رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام، وعادة الحطابين أنهم لا يتجاوزون الميقات وروي عن ابن عمر أنه خرج من مكة إلى قديد فبلغه خبر فتنة بالمدينة، فرجع ودخل مكة بغير إحرام، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: وقال الشافعي: من دخل مكة خائفًا من سلطان أو من لا يقدر على دفعه جاز له دخولها بغير إحرام وهو في معنى المحصر، واحتج برجوع ابن عمر من قديد، ومشهور مذهبه أنه لا يدخلها أحد إلاَّ محرمًا، إلاَّ الحطابين وأصحاب الفاكهة، لكنه لا يرى على من دخلها غير محرم شيئًا. ص: وقد روي عن غير ابن عمر في ذلك ما يخالف هذا: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان المؤذن، قال: ثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: قال ابن عباس: "لا عمرة على المكي إلاَّ أن يخرج من الحرم، ولا يدخله إلاَّ حرامًا، فقيل لابن عباس: فإن خرج الرجل من مكة قريبًا؟ قال: نعم يقضي حاجته ويجعل مع قضائها عمرة". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 423 رقم 947).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن عطاء قال: "لا يدخل أحد الحرم إلاَّ بإحرام، فقيل: ولا الحطابون؟ قال: ولا الحطابون، قال: ثم بلغني بعد أنه رخص للحطابين". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، أنه كان يقول: "لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن أنه كان يقول ذلك. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: "لا يدخل أحد مكة إلاَّ محرمًا". ش: أي قد روي عن غير عبد الله بن عمر من الصحابة والتابعين في دخول مكة بغير إحرام ما يخالف ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأشار بهذا إلى تصحيح ما ذكره من وجه النظر الذي يخالف قول أبي حنيفة وصاحبيه، وإلى الجواب عما احتجوا بأثر ابن عمر، وأخرج في ذلك ستة وجوه: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم البصري، مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس وهذا سند صحيح على شرط البخاري. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء قال: "ليس على أهل مكة عمرة؛ قال ابن عباس: أنتم يا أهل مكة لا عمرة لكم، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 431 رقم 15692).

إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن وادي فلا يدخل مكة إلاَّ بإحرام، قال: فقلت لعطاء: يريد ابن عباس وادي في الحل؟ قال: بطن وادي من الحل". واستفيد منه حكمان: أحدهما: أن المكي لا عمرة عليه، وهو مذهب عطاء وسالم وطاوس. والآخر: أن مكة لا يدخلها أحد إلاَّ محرمًا، سواء كان من أهل مكة وخرج إلى الحل أو من أهل الميقات أو من أهل الآفاق. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن علي بن الحكم البناني روى له الجماعة سوى مسلم، عن عطاء بن أبي رباح ... إلى آخره، وهذا أيضًا سند كالذي قبله. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن عبد الملك، عن عطاء قال: "ليس [لأحد أن] (¬2) يدخل مكة إلاَّ بإحرام، وكان عبد الملك رخص للحطابين". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذا أيضًا صحيح. وأخرج البيهقي في "سننه" (¬3): أنا عبد الله بن يوسف، أنا ابن الأعرابي، ثنا سعدان، ثنا إسحاق الأزرق وعبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس: "أنه قال: ما يدخل مكة أحد من أهلها ولا من غير أهلها إلاَّ بإحرام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 209 رقم 13521). (¬2) في "الأصل، ك": "أحد"، والمثبت من "المصنف". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 177 رقم 9620).

الرابع: عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن هشيم بن بشير أيضًا، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن الحسن البصري. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن هاشم ووكيع، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام إلا الحطابين والعجانين وأصحاب منافعها". السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-. وهذا أيضًا سند صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو عامر العقدي، عن أفلح، عن القاسم قال: "لا يدخل مكة إلا محرمًا". وروي أيضًا نحو ذلك عن علي بن أبي طالب ومجاهد، قال ابن أبي شيبة (¬3): نا وكيع، عن إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر، عن علي -رضي الله عنه- قال: "لا يدخلها إلاَّ بإحرام يعني مكة". نا أبو بكر بن عياش (¬4): عن ليث، عن مجاهد قال: "لا يدخل مكة إلاَّ محرمًا". ص: فإن قال قائل: أفيجوز لمن كان بعد المواقيت إلى مكة أن يتمتع؟ قيل له: نعم وهو أيضًا في ذلك خلاف أهل مكة، وهذا خلاف قول أصحابنا, ولكنه النظر عندنا على ما قد ذكرنا وبيّنا، وحاضروا المسجد الحرام عندنا هم أهل مكة خاصة، وقد قال بهذا القول الدي ذهبنا إليه في هذا: نافع مولى ابن عمر، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 209 رقم 13517). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 210 رقم 13525). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 209 رقم 13518). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 210 رقم 13524).

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: "سمعت نافعًا مولى ابن عمر يُسأل عن قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) أجوف مكة أم حولها؟ قال: جوف مكة". وقال ذلك عبد الرحمن الأعرج. ش: لما أثبت أن حكم أهل المواقيت حكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها حتى لم يجوِّز لهم دخول مكة إلاَّ بالإِحرام كما لأهل الآفاق، وأثبت أيضًا أن أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة لا يدخلون مكة إلاَّ بإحرام، ورد عليه سؤال، بيانه: أن يقال: إن التمتع عند أبي حنيفة وأصحابه ليس إلاَّ لأهل الآفاق، وليس لأهل مكة ولا لأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة تمتع، وأنت حملت حكم أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة كحكم ما قبل المواقيت، فعلى هذا ينبغي أن يجوز لهم أن يتمتعوا، ومع هذا لا يجوز عند أصحابك، فأجاب بقوله: نعم يجوز ذلك لهم عندي؛ لأني أخالف قول أصحابنا في هذا، وأقول: إنهم عندي خلاف أهل مكة، فإن عاد السائل وقال: كيف تقول هم خلاف أهل مكة وهم من أهل حاضري المسجد الحرام عند أصحابك؟ فالجواب أن حاضري المسجد الحرام عندي هم أهل مكة خاصة؛ لأني أختار في هذا قول نافع مولى ابن عمر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، فإنهما قالا: حاضروا المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة. وأخرجه عنهما بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع ... إلى آخره. ثم اعلم أنهم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فقال الجصاص: اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه، فقال عطاء ومكحول: من دون المواقيت إلى مكة، وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون: أهل المواقيت بمنزلة من ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

دونها، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل الحرم، وقال الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج: أهل مكة، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: هم من كان أهله دون ليلتين، وهو حينئذ أقرب المواقيت، وما كان وراءهم فعليهم المتعة، قال الجصاص: لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة مما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم من مكة؟ فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة، ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهله من حاضري المسجد الحرام وليس أهل مكة منهم؛ لأنهم قد كانوا أسلموا حين فتحت وإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر -رضي الله عنه- وهم بنو مدلج وبنو الديل، وكانت منازلهم خارص مكة في الحرم وما قرب منه. فإن قيل: كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبين مكة مسيرة عشر ليال؟ قيل له: وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم من باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام، ومن باب أنهم متى أرادوا الإِحرام أحرموا من منازلهم، كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإِحرام أحرموا من منازلهم، فيدل ذلك على أن المعنى: حاضروا المسجد الحرام ومن في حكمهم انتهى. ثم إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران عند الشافعي ومالك وأحمد وداود، وإن تمتع لم يلزمه دم، وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع والقران، فإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرًا، وهما في حق الآفاقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرًا. قوله: "وقد قال بهذا القول" أراد به القول بأن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة "نافع وعبد الرحمن الأعرج" وهو قول عطاء والحسن البصري وطاوس وسفيان وداود ومالك -في رواية-.

وفي "المحلى" قال الشافعي: هم من كان من مكة على أربعة برد بحيث لا يقصروا الصلاة إلى مكة، وصح هذا عن عطاء، وقال مالك: هم أهل مكة وذي طوى، وقال سفيان وداود: هم أهل دور مكة فقط، وصح عن نافع مولى ابن عمر وعن الأعرج، وروينا عن طاوس وعطاء والحسن: أنهم أهل مكة، إلاَّ أن طاوساً قال: إذا اعتمر المكي من أحد المواقيت ثم حج من عامه فعليه ما على المتمتع، وروينا من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: حاضروا المسجد الحرام كل من كان أهله من مكة على يوم أو نحوه، وقال آخرون: هم أهل الحرم. ***

ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي ش: أي هذا باب في بيان من يبعث هديه إلى مكة ويقيم هو في أهله، هل يجب عليه أن يتجرد كما يتجرد المحرم إذا قلد هديه أم لا؟. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة، عن عبد الملك بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: "كنت عند النبي -عليه السلام- جالسًا فقدَّ قميصه [من جيبه] (¬1) حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي -عليه السلام- فقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم، وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي، وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة". ش: إسناده حسن ورجاله ثقات. وأخرجه أبو عمر (¬2): من طريق أسد نحوه، ثم قال: قال مالك وغيره: لم يلتفتوا إلى حديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة، عن جابر وردوه بحديث عائشة لتواتر طرقه وصحة مجيئه على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: "قد قميصه" من القدِّ وهو القطع طولاً كالشق. قوله: "ببدني" -البُدْن بضم الباء وسكون الدال- جمع بدنة وهي من الإِبل والبقر، وأراد بها ها هنا الإِبل. قوله: "أن تقلد اليوم" من التقليد وهو يكون بنعل أو جلد وما أشبهه ليكون علامة للهدي، وقالت الحنفية: لو قلده بعروة مزادة أو لحاء شجرة أو شبه ذلك جاز، لحصول العلامة، وقال الشافعي: ينبغي أن يقلد بنعلين، وقال مالك: ¬

_ (¬1) ليست "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "التمهيد" (2/ 263).

تجزئ واحدة، وعن الثوري يجزئ فم القربة، وأجمعوا أن تقليد الهدي سُنَّة ولكن اختلفوا في أي هدي يقلد، فعن سعيد بن جبير الإِبل تقلد وتشعر والغنم لا تشعر ولا تقلد، والبقر تقلد ولا تشعر، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقلد الغنم، وقال أبو حنيفة أيضًا: لا يقلد إلا هدي المتعة والقران والتطوع في الإِبل والبقر، ولا يقلد هدي الإِحصار ولا الجماع ولا جزاء الصيد، وقال مالك والشافعي: يقلد كل هدي ويشعر. قوله: "وتشعر" من الإِشعار وهو أن يشق أحد جانبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك لها علامة يعرف أنها هدي، وفي "الجامع" للقزاز: أشعرها إشعارًا، وإشعارها أن يوجأ أصل سنامها بسكين، سميت بما حل فيها وذلك لأن الذي فعل بها علامة تعرف بها. وفي "المحكم": هو أن يشق جلدها أو يطعنها حتى يظهر الدم، وقال ابن حبيب: تشعر طولاً، وقال السفاقسي عرضًا، والعرض عرض السنام من العنق إلى الذنب، وهو سنة عند عامة العلماء إلا أن أبا حنيفة لم يره سنة، وقد شنع ابن حزم على أبي حنيفة في كتابه "المحلى" وقال: قال أبو حنيفة: أكره الأشعار وهو مثلة، وقال: هذه طامة من طوام العَالَم أن يكون مثلة شيء فعله رسول الله -عليه السلام- أُفٍّ لكل عقل يتعقب حكم رسول الله -عليه السلام-، ويلزمه أن تكون الحجامة وفتح العرق مثلة، فيمنع من ذلك وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدمًا من السلف، ولا موافقًا من فقهاء عصره إلا من ابتلاه الله بتقليده. قلت: هذه سفاهة وقلة حياء, لأن الطحاوي الذي هو أعلم الناس بمذاهب الفقهاء ولا سيما بمذهب أبي حنيفة ذكر أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإِشعار ولا كونه سنة وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاكها لسراية الجرح، لا سيما في حرِّ الحجاز مع الطعن بالسنان أو الشفرة، فأراد سد الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من وقف على الحد فقطع الجلد دون اللحم فلا يكرهه، وذكر

الكرماني عنه استحسانه قال: وهو الأصح لا سيما أنه كان بمبضع ونحوه فيصير كالفصد أو الحجامة، وأما قوله: "وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدم من السلف" قول فاسد؛ لأن ابن بطال ذكر أن إبراهيم النخعي أيضًا لا يرى الإِشعار. ثم كيفية الإِشعار على ما ذكره أبو يوسف ومحمد: هو أن يطعنها في سنامها من الجانب الأيسر حتى يسيل الدم، وعند الشافعي وأحمد -في رواية-: الأيمن، وهما استدلا بما رواه عن ابن عمر أنه كان يشعرها مرة في الأيمن ومرة في الأيسر، ذكره ابن بطال، وقال السفاقسي: إذا كانت البدنة ذللًا أشعرها من الأيسر، وإن كانت صعبة قرن بدنتين ثم قام بينهما واشعر أحديهما من الأيمن والأخرى من الأيسر، وقال ابن قدامة: وعن أحمد: من الجانب الأيسر؛ لأن ابن عمر فعله، وبه قال مالك، وحكاه ابن حزم عن مجاهد، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: وجائز الإِشعار في الجانب الأيمن وفي الجانب الأيسر، وكان ابن عمر ربما فعل هذا وربما فعل هذا، وأكثر أهل العلم يستحبونه في الجانب الأيمن، منهم الشافعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق؛ لحديث ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها اليمنى، ثم سلت الدم منها، وقلدها بنعليه". وقال مالك: تشعر من الجانب الأيسر كما روى نافع عن ابن عمر وكذلك رواه عبيد الله، وقال مجاهد: أشعر من حيث شئت، قال: والإِشعار طولاً في شق البعير أخذًا من جهة مقدم البعير إلى جهة عجزه فيكون مجرى الدم عريضًا فيتبين الإَشعار، ولو كان مع عرض البعير كان مجرى الدم يسيرًا خفيفًا لا يقع به مقصود الإَعلان بالهدي، فإن لم يكن للإِبل أو البقر أسنمة قلدت ولم تشعر واختار ابن حبيب أن تشعر الإِبل والبقر، وإن لم يكن لها أسنمة، وأما الغنم فلا تشعر جملة، وقال ابن بطال: اختلفوا في إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول تشعر في أسنمتها، وحكاه ابن حزم عن أبي بن كعب، وقال عطاء والشعبي: تقلد وتشعر، وهو قول أبي ثور، وقال مالك: تشعر التي لها سنام وتقلد، ولا تشعر التي لا سنام لها وتقلد، وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بالهدي وأقام في أهله فقلد الهدي وأشعر، أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي والنخعي والحسن البصري ومحمد بن سيرين ومجاهدًا وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وأبا الشعثاء جابر بن زيد، فإنهم قالوا: إن الرجل إذا بعث بهدي إلى الكعبة وأقام هو في بلده فقلد هديه وأشعر، فإنه يلزمه أن يتجرد عن ثيابه ويجتنب كل ما يجتنب الحاج حتى ينحر هديه ويحل الناس من حجهم، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر على خلاف عنه، وعن عمر وعلي أيضًا، ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1). ص: ورووا [ذلك] (¬2) أيضًا عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها أخبرته: "أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة -رضي الله عنها- أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، وقد بعثت بهدي فاكتبي إلي بأمرك أو مري صاحب الهدي، فقالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- بيدي، ثم قلدها رسول الله -عليه السلام- بيده، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله -عليه السلام- شيء أحله الله -عز وجل- له حتى نحر الهدي". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبيد الله، عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا بعث بهديه وهو معتمر أمسك عما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 128 رقم 12719). (¬2) ليست "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا بعث بهديه أمسك عن النساء". ش: أي روى هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-, وأما الذي روي عن ابن عباس فأخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) وابن ماجه (¬5) أيضًا. وزياد بن أبي سفيان، ويقال له: زياد بن أبيه، وزياد بن سمية وهي أمه. قال ابن الأثير: قيل هو زياد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، استلحقه معاوية بن أبي سفيان، وكان يقال له قبل أن يستلحق: زياد بن عبيد النخعي، وأمه سمية جارية الحارث بن كلدة، ولد عام الهجرة، وقيل ولد قبل الهجرة، وقيل: ولد يوم بدر، وليست له صحبة ولا رواية. وقال ابن عساكر: لم ير النبي -عليه السلام-، وأسلم في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-، وولي العراق لمعاوية، وكان من دهاة العرب، والخطباء الفصحاء، ومات في سنة ثلاث وخمسين، ودفن بالبونة خارج الكوفة. قوله: "ثم بعث بها مع أبي" أي ثم بعث رسول الله -عليه السلام- بهديه، وإنما أثبت الضمير باعتبار البدن، وأرادت عائشة -رضي الله عنها- أنه -عليه السلام- بعث ببدنه مع أبي بكر ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 609 رقم 1613). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 959 رقم 1321). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 147 رقم 1758). (¬4) "المجتبى" (5/ 175 رقم 2793). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1033 رقم 3094).

الصديق، وذلك في سَنة تسع، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: يحتمل أن تريد أنه من آخر هدي بعث به؛ لأنه -عليه السلام- حج في العام الذي يليه حجة الوداع، لئلا يظن ظان أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فذهبت إلى رفع الأشكال. وفيه من الفوائد: أن أصحاب النبي -عليه السلام- كانوا يختلفون في مسائل الفقه وعلوم الديانة فلا يعيب بعضهم بعضًا بأكثر من رد قوله ومخالفيه إلى ما عنده من السنة في ذلك، وهكذا يجب على كل مسلم. وفيه ما كان عليه الأمراء من الامتثال بأمر الدين والكتاب فيه إلى البلدان. وفيه عمل أزواج النبي -عليه السلام- بأيديهن وامتهانهن أنفسهن، وكذلك كان رسول الله -عليه السلام- يمتهن نفسه في عمل بيته، فربما خاط ثوبه وخصف نعله، وقد قلد هديه المذكور في هذا الباب بيده الكريمة. وفيه أن عبد الله بن عباس كان يرى أن من بعث هديه إلى الكعبة لزمه إذا قلده أن يحرم ويجتنب ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، وقد تابعه على ذلك القوم الذين ذكرناهم. وفيه ما ذكرته عائشة من أن تقليد الهدي لا يوجب على صاحبه الإِحرام، وهذا هو المعنى الذي ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وفيه ما يرد الحديث الذي رواه شعبة (¬1): عن مالك، عن عمر بن مسلم بن أكيمة، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله -عليه السلام- قال إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئًا". ففي هذا الحديث أنه لا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يحلق شعره ولا يقص ظفره، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أنه -عليه السلام- لم يجتنب شيئًا [مما] (¬2) يجتنبه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1565 رقم 1977). (¬2) في "الأصل، ك": "ما"، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 234) فهذه الفائدة كلها منقولة منه.

المحرم حتى قلد هديه، وبعث به وهو يرد حديث أم سلمة ويدفعه، ومما يؤيد وهنه وضعفه أن مالكًا روى عن عمارة بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب قال: "لا بأس بالإِطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة". فترك سعيد [لاستعماله] (¬1) هذا الحديث وهو روايه دليل على أنه عنده غير ثابت [أو] (¬2) منسوخ، وقد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي، فما دونه أحرى أن يكون مباحًا، ومذهب سائر الفقهاء بالمدينة والكوفة أنه لا بأس بحلق الرأس وتقليم الأظفار وقص الشارب في عشر ذي الحجة، وقال الليث بن سعد وذكر له حديث أم سلمة، فقال: قد روي هذا الحديث والناس على خلافه، قال الأثرم: وبحديث أم سلمة، قال أحمد بن حنبل -رحمه الله-. وأما حديث ابن عمر فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن صالح، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "من قلد فقد أحرم". الثاني: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): نا ابن علية، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك [عما] (¬5) يمسك عنه المحرم غير أنه لا يلبي". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الاستعمال"، والمثبت من "التمهيد" لابن عبد البر. (¬2) في "الأصل، ك": "و"، والمثبت من "التمهيد". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 127 رقم 12711). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 128 رقم 12720). (¬5) في "الأصل، ك": "ما"، والمثبت من "المصنف".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب على أحد تجريد ولا ترك شيء مما يتركه المحرم إلاَّ بدخوله في الإِحرام إما بالحج وإما بالعمرة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والثوري والحسن بن حي وعُبيد الله بن الحسن والليث وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد وأبا ثور والطبري وأبا سليمان وداود -رحمهم الله- فإنهم قالوا: لا يجب على من بعث بهدي أن يتجرد عن ثيابه ولا ترك شيء مما يتركه المحرم إلا بدخوله في الإِحرام إما بالحج وإما بالعمرة، هذا جملة قولهم: وإما تفصيل ذلك: فقال الثوري: إذا قلد فقد أحرم إن كان يريد الحج، وإن لم يرده فليبعث به ويقيم حلالًا. وقال الشافعي وأبو ثور وداود: لا يجب عليه إحرام حتى ينويه ويريده. وقال أبو حنيفة: إن قلده وهو يؤم البيت فقد وجب عليه الإِحرام، وإن جلله أو أشعره لم يكن محرمًا، وإنما يكون محرمًا بالتقليد، قال: وإن كان معه شاة فقلدها لم يجب عليه الإِحرام؛ لأن الغنم لا تقلد، وإن بعث بهديه فقلده وأقام حلالاً، ثم بدا له فخرج واتبع هديه، فلا يكون محرمًا حتى يدرك هديه ويأخذه ويسوقه معه. ص: وكان مما احتجوا به في ذلك ما قد رويناه عن عائشة فيما أجابت به زيادًا، وبما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن مسروق قال: "قلت لعائشة: إن رجالًا ها هنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذين يبعثون معه بمعلم لهم يقلدونها ذلك اليوم، فلا يزالون محرمين حتى يحل الناس، فصفقت بيديها، فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فقالت: سبحان الله، لقد كنت أفتل قلائد هدى رسول الله -عليه السلام- بيدي، فيبعث بها إلى الكعبة ويقيم فينا، فلا يترك شيئًا مما يصنع الحلال حتى يرجع الناس". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد ... فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كنت أفتل بيدي لبدن رسول الله -عليه السلام-، فيبعث بالهدي، وهو مقيم بالمدينة، ويفعل ما يفعل المحل قبل أن يصل إلى البيت". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "لربما فتلت القلائد لهدي رسول الله -عليه السلام- فيقلده ثم يبعث به، ثم يقيم لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا محمد بن جُحَادة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: "كنا نقلد الشاة فنرسل -أو قالت: فترسل- بها ورسول الله -عليه السلام- حلال لم يحرم منه شيء". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "ربما فتلت القلائد لهدي رسول الله -عليه السلام- فيقلده ثم يبعث به، ثم يقيم لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم". حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن زيد، عن منصور، عن إبراهيم ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب، عن منصور ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، حدثه عروة، عن عائشة مثله.

حدثنا ربيع، قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن هشام، عن عروة، عن عائشة مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن وربيع الجيزي، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا أفلح، عن القاسم، عن عائشة مثله. حدثنا يونس، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: أنا الليث، عن عبد الرحمن ابن القاسم ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم ... فذكر بإسناده مثله، وزاد: "ولا نعلم المحرم يحله إلا الطواف بالبيت". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة مثله، غير أنه لم يذكر الزيادة التي فيه على ما قبله. ش: أي وكان مما احتج به هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة، وهو جوابها لزياد بن أبي سفيان بما أجابت في الحديث السابق وبأحاديثها الأُخر التي رويت عنها في هذا الباب. وأخرجها من ثمانية عشر طريقًا كلها صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق قال: سمعت عائشة وهي من وراء الحجاب تصفق وتقول: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- بيدي، ثم يبعث بها، وما يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا. قوله: "بمَعْلَم لهم" المعلم -بفتح الميم- ما جعل علامة لشيء، ومنه معلم الطريق، ويجمع على معالم. قوله: "فقالت: سبحان الله" إنما قالت ذلك تعجبًا واستبعادًا لما كانوا يفعلون، من ذلك الذي أخبرها به مسروق. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي الكوفي ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل، قال: نا عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: "إن كنت لأفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- ثم يقيم ولا يحرم". الثالث: عن علي بن معبد أيضًا، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": نا عمرو بن علي، نا عبد الوهاب، نا داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- فما يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 959 رقم 1321). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2115 رقم 5246). (¬3) "المجتبى" (5/ 171 رقم 2777).

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -قال يحيى: أنا، وقال الآخران: نا- أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "ربما فتلت ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، واللام في "لربما" للتأكيد، وليست هي في رواية مسلم. الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن جُحَادة -بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة- الأودي الكوفي، عن الحكم بن عتيبة -بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا عبد الصمد، نا أبي، قال: حدثني محمد بن جُحَادة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود ... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فنرسل بها". السادس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن إبراهيم النخعي ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عبد الله بن محمد الضعيف، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، [عن عائشة] (¬4) قالت: "كنت أفتل ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 958 رقم 1321). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 959 رقم 1321). (¬3) "المجتبى" (5/ 171 رقم 2778). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي".

القلائد لهدي رسول الله -عليه السلام-، فيقلد هديه، ثم يبعث بها، ثم يقيم، ثم لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم". السابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد بن زيد، عن منصور بن المعتمر ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا زهير بن حرب، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: "لقد رأيتني أفتل القلائد لهدي رسول الله -عليه السلام- من الغنم فيبعث به، ثم يقيم فينا حلالًا". الثامن: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا الحسن بن محمد الزعفراني، عن عُبيدة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "لقد رأيتني أفتل قلائد الغنم لهدي رسول الله -عليه السلام- ثم يمكث حلالًا". التاسع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬3): نا سعيد بن منصور، وخلف بن هشام وقتيبة بن سعيد، قالوا: نا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كأني انظر إليَّ أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... بنحوه". يعني: لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم. العاشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، عن محمد مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، كلاهما عن عائشة -رضي الله عنها-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 958 رقم 1321). (¬2) "المجتبى" (5/ 171 رقم 2779). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 957 رقم 1321).

وأخرجه مسلم أيضًا (¬1): ثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح، قالا: ثنا الليث، ونا قتيبة، قال: ثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، أن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئًا مما يجتنب المحرم". الحادي عشر: عن ربيع بن سليمان المؤذن أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬2): نا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه [ثم] (¬3) لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم". الثاني عشر: عن ربيع المؤذن أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه البزار في "مسنده": عن عُبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أفتل القلائد لهدي رسول الله -عليه السلام-، ثم يبعث بالهدي، ثم يقيم عندنا لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم". الثالث عشر: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن كثير الصنعاني نزيل المصيصة شيخ الدارمي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة -رضي الله عنهم-. وأخرجه مسلم (1): نا سعيد بن منصور، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: سمعت عائشة تقول: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- بيديَّ هاتين، ثم لا يعتزل شيئًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 957 رقم 1321). (¬2) "المجتبى" (5/ 171 رقم 2775). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى".

الرابع عشر: عن صالح بن عبد الرحمن وربيع بن سل1عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: نا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: "فتلت قلائد بدن رسول الله -عليه السلام- بيدي، ثم أشعرها وقلدها، ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان حلًا". الخامس عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- بيديَّ هاتين، ثم لا يعتزل شيئًا مما يعتزله المحرم ولا يتركه، ثم قالت عائشة: ولا نعلم الحاج يحله شيء إلا الطواف بالبيت". السادس عشر: عن ربيع بين سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: نا الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "فتلت قلائد هدي رسول الله -عليه السلام-، ثم لم يحرم ولم يترك شيئًا من الثياب". السابع عشر: عن ربيع بن سليمان أيضًا، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 147رقم 1757). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 251 رقم 908).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، قال: نا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: قالت عائشة: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام-، فلا يجتنب شيئًا، قالت: ولا نعلم الحاج يحله إلا الطواف بالبيت". الثامن عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه النسائي (¬2): أنا إسحاق بن منصور، قال: نا عبد الرحمن، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كنت أفتل قلائد رسول الله -عليه السلام- بيدي، ثم يقلدها رسول الله -عليه السلام- بيده، فيبعث بها مع أبي، فلا يدع رسول الله -عليه السلام- شيئًا أحله الله -عز وجل- له حتى ينحر الهدي". ص: فقد تواترت هذه الآثار عن عائشة بما ذكرنا بما لم يتواتر عن غيرها بما يخالف ذلك، فإن كان هذا يؤخذ من طريق صحة الأسانيد فإن إسناد حديث عائشة صحيح لا تنازع بين أهل العلم فيه، وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك, لأن من رواه دون من روى حديث عائشة. وإن كان ذلك يؤخذ من طريق ظهور الشيء وتواتر الرواية فإن حديث عائشة أولى؛ لأن ذلك موجود فيه ومعدوم في حديث جابر -رضي الله عنه-. ش: أي فقد تكاثرت وتظاهرت هذه الأحاديث المذكورة عن عائشة -رضي الله عنها-. حيث رواها هو وحده من ثمانية عشر طريقًا كلها صحاح كما قد ذكرنا، والذي خالف حديث عائشة هذا لم تتواتر فيه الرواية نحوه، ولا ظهرت به الروايات كذلك، والاستدلال على الأشياء لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 175 رقم 2795). (¬2) "المجتبى (5/ 175 رقم 2793).

الأول: أن توجد فيه من طريق صحة الأسانيد. والثاني: أن توجد فيه بما قد ظهر وشاع وتواترت به الروايات. والثالث: أن توجد فيه من طريق النظر والقياس. فإن كان الأول: فحديث عائشة أولى؛ لأن إسناده صحيح لا خلاف فيه بين أهل العلم بالحديث بخلاف حديث جابر بن عبد الله الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، فإن مَنْ رواه دون من روى حديث عائشة؛ لأن أحد رواته عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة، قال البخاري: فيه نظر، ولا يلحق هو الشعبي ولا النخعي ولا الزهري ولا أمثال هؤلاء، وأحد رواته أيضًا عبد الملك بن جابر بن عتيك، ولا يلحق هو الأسود ولا عروة ولا عمرة ولا القاسم بن محمد بن أبي بكر، وهذا لا نزاع فيه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ابن أبي لبيبة شيخ ليس ممن يحتج فيما ينفرد به، فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه. وإن كان الثاني: فحديث عائشة أيضًا أولى لوجود التواتر في طريقه وظهوره بما ليس في حديث جابر. قال أبو عمر: لم يلتفت مالك ومن قال بقوله إلى حديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة، عن جابر، وردوه بحديث عائشة؛ لتواتر طرقه وصحته. وإن كان الثالث: فوجه النظر والقياس يقتضي فساد قول من ذهب إلى حديث جابر، وقد بين ذلك بقوله: ص: وإن كان ذلك يؤخذ من طريق النظر: فإنا قد رأينا الذين يذهبون إلى حديث جابر يقولون: إن الحرمة التي تجب على باعث الهدي بتقليده إياه وإشعاره، فيحل عنه إذا حل الناس بغير فعل يفعله هو فيحل به، فأردنا أن ننظر في الإِحرام المتفق عليه، هل هو كذلك أم لا؟ فرأينا الرجل إذا أحرم بحج أو عمرة فقد صار محرمًا إحرامًا متفقًا عليه، ورأيناه غير خارج من ذلك الإِحرام إلاَّ بأفعال يفعلها فيحل بها منه ولا يحل بغيرها، ألا ترى أنه إذا كان حاجًّا فلم يقف بعرفة حتى مضى

وقتها أن الحج قد فاته ولا يحل إلاَّ بفعل يفعله من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير، ولو وقف بعرفة وفعل جميع ما يفعله الحاج غير الطواف الواجب لم يحل له النساء أبدًا حتى يطوف الطواف الواجب؟ وكذلك العمرة لا يحل منها أبدًا إلاَّ بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق الذي يكون منه بعد ذلك، فكانت هذه أحكام الإِحرام المتفق عليه لا يخرجه منه مرور مدة، وإنما يخرجه منه الأفعال، وكان من أحرم بعمرة وساق الهدي وهو يريد التمتع، وطاف لعمرته وسعى، لم يحل حتى يفرغ من حجه وينحر الهدي، وكانت هذه حرمة زائدة بسبب الهدي, لأنه لولا الهدي لكان إذا طاف لعمرته وسعى حلق وحل له، فإنما منعه من ذلك الهدي الذي ساقه، ثم كان إحلاله من تلك الحرمة أيضًا إنما يكون بفعل يفعله لا بمرور وقت، فكانت هذه أحكام الإِحرام المتفق عليه لا يخرج منها بمرور الأوقات ولا بأفعال غيره ولكن بأفعال يفعلها هو، وكان من بعث بهدي وأمر أن يقلد أو يشعر فوجب عليه بذلك التجريد، في قول من يوجب ذلك يحل من تلك الحرمة لا بفعل يفعله ولكن في وقت ما يحل الناس، فخالف ذلك الإِحرام المتفق عليه، فلم يجب ثبوته كذلك لأنه إنما تثبت الأشياء المختلف فيها إذا اشتبهت الأشياء المجتمع عليها، فإذا كانت غير مشتبهة لم تثبت إلاَّ أن يكون معها التوقيف الذي تقوم به الحجة، فيجب القول بها لذلك، فإذا وجب ذلك انتفى الخلاف، فثبت بما ذكرنا صحة قول من ذهب إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- وفساد قول من خالف ذلك إلى حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ملخص هذا الكلام: أن القياس يقتضي فساد قول من خالف حديث عائشة، بيانه: أن المحرم بالإِحرام المتفق عليه لا يخرج من إحرامه بمرور وقته ولا بوجود أفعال من غيره، وإنما يخرج بأفعال يفعلها هو بنفسه، والمحرم المختلف فيه وهو الذي حرم عليه ما حرم على المحرم المتفق عليه ببعثه الهدي وتقليده وإشعاره يحل لا بفعل نفسه في وقت يحل الناس فيه، فإذا كان كذلك فقد خالف إحرامه

الإِحرام المتفق عليه فلم يجب ثبوته؛ لأن المختلف فيه إنما يثبت إذا شابه المجتمع عليه فلم يشابه فلم يثبت، اللهم إلاَّ أن يكون معه التوقيف الذي تقوم به الحجة، وأراد به الدليل الكتاب والسنة الصحيحة, أو الإِجماع. فافهم. ص: وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير: "أنه رأى رجلاً متجردًا بالعراق، قال: فسألت الناس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقال: بدعة ورب الكعبة". ولا يجوز عندنا أن يكون ابن الزبير يحلف على ذلك أنه بدعة إلاَّ وقد علم أن السنة خلاف ذلك. ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من فساد قول من ذهب إلى حديث جابر بن عبد الله، وأن السنة خلاف ذلك. وأخرجه بإسناد صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا الثقفي، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، أن ربيعة بن عبد الله بن الهدير، أخبره: "أنه رأى ابن عباس -رضي الله عنه- وهو أمير على البصرة في زمان علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- متجردًا على منبر البصرة، فسأل الناس عنه، فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد، فلقيت ابن الزبير، فذكرت ذلك له، فقال: بدعة ورب الكعبة". قوله: "بدعة" خبر مبتدأ محذوف أي: ما فعل بدعة والبدعة إحداث شيء لم يكن في عهد رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 341 رقم 756). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 128 رقم 12721).

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي العالية قال: "سألت ابن عمر عن الرجل يبعث بهديه أيمسك عن النساء؟ فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: ما علمنا المحرم يحل حتى يطوف بالبيت". فمعنى هذا أن المحرم الذي يحرم عليه النساء هو الذي يحل من ذلك بالطواف بالبيت، وهذا لا طواف عليه، فلا معنى لاجتنابه ذلك، وهذا خلاف ما رويناه عن ابن عمر في أول هذا الباب. ش: ذكر هذا الأثر لأمرين: أحدهما: تأييدًا لما قاله من فساد قول من يذهب إلى حديث جابر. والآخر: جوابًا عما روى من ذهب إلى حديث جابر عن ابن عمر -رضي الله عنهم-: "أنه كان إذا بعث بهديه وهو معتمر أمسك عما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه". وروى نافع عنه أيضًا: "أنه كان إذا بعث بهديه أمسك عن النساء". وقد مضى ذكرهما في أول الباب. وتقرير الجواب أن يقال: إن ما رويتم عن ابن عمر من هذا فهو معارض بما روى عنه أبو العالية، وأخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي العالية رفيع بن مهران البصري روى له الجماعة. ***

ص: باب: نكاح المحرم

ص: باب: نكاح المحرم ش: أي هذا باب في بيان نكاح المحرم هل يجوز أم لا؟. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا وابن أبي ذئب حدثاه، عن نافع، عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار، عن أبان بن عثمان، قال: سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب". حدثنا يزيد بن سنان، قال: نا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن نافع ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل: "ولا يخطب". حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الجبار بن نبيبة بن وهب، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب". حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا يوسف القطان، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن إسحاق بن راشد، عن زيد بن علي، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، عن رسول الله -عليه السلام- مثله؛ غير أنه لم يقل: "ولا يخطب". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا أيوب بن موسى المكي، قال: ثنا نبيه، عن أبان بن عثمان -رضي الله عنه-، قال: حدثني عثمان، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "المحرم لا يَنكح ولا يُنكح". ش: هذه خمس طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني ونُبَيْه -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره هاء- ابن وهب بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجي.

وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب: "أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شبيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك -وهو أمير الحاج- فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب". الثاني: عن يزيد بن سنان، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك ... إلى آخره، وهذا أيضًا صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار: "أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان -وأبان يومئذ أمير الحاج- وهما محرمان. إني أردت أن أنكح طلحة بن عمير بنت شيبة بن جبير، وإني أردت أن تحضر ذلك، فأنكر ذلك عليه أبان، وقال: سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا ينكح المحرم ولا ينُكح". الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة المدني، عن عبد الجبار بن نبيه، عن أبيه نبيه، عن أبان بن عثمان، عن عثمان. وهذا أيضاً إسناد صحيح. وأخرجه أحمد: عن إسحاق، عن فليح، عن عبد الأعلى وعبد الجبار ابني نبيه بن وهب، عن أبيهما، عن أبان، عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك (¬3). الرابع: عن محمد بن جعفر بن حفص الإِمامي شيخ النسائي والطبراني أيضًا، عن يوسف بن موسى القطان الكوفي المعروف بالرازي شيخ الجماعة غير مسلم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1030 رقم 1409). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 169 رقم 1841). (¬3) وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (9/ 434 رقم 4125).

والترمذي، عن سلمة بن الفضل أبي عبد الله الأبرش الأزرق الرازي قاضي الري، قال ابن معين: ليس به بأس يتشيع. وقال البخاري: عنده مناكير، وهنه علي، قال: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه. وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، وهو صاحب مغازي محمد بن إسحاق، روى له أبو داود والترمذي. عن إسحاق بن راشد الجزري الحراني روى له الجماعة إلا مسلمًا، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- ذكره بن حبان في الثقات وقال رأي جماعة من الصحابة روى له الأربعة، النسائي في مسند علي. الخامس: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري ومسلم، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد الأموي المكي روى له الجماعة، عن نبيه بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا عفان، قال: نا عبد الوارث، نا أيوب ابن موسى، عن نبيه بن وهب: "أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبان وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله -عليه السلام- قال: المحرم لا يَنكح ولا ينُكح". وأخرجه الترمذي (¬2) أيضًا: عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن نافع، عن نبيه قال: "أراد ابن معمر أن ينكح ابنه، فبعثني إلى أبان بن عثمان -وهو أمير الموسم- فأتيته فقلت: إن أخاك يريد أن ينكح ابنه فأحب أن يشهدك ذلك، قال: لا أراه إلا أعرابيًّا جافيًا؛ إن المحرم لا يَنكح ولا ينُكح -أو كما قال- ثم حدث عن عثمان مثله" يرفعه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 65 رقم 466). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 199 رقم 840).

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: عن أبي الأشعث، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن مطر ويعلى بن حكيم، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، أن عثمان بن عفان حدث عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". قوله: "لا ينكح المحرم" بفتح الياء وكسر الكاف؛ لأنه من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وذكره في "الدستور" في باب فَعَلَ يَفْعِلُ بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، يقال نكح وتزوج نكحًا ونكاحًا. فإن قيل: فيه حرف الحلق فينبغي أن تفتح العين في المستقبل. قلت: لا يلزم أن تكون كل كلمة فيها حرف حلق أن تكون من باب فَعَلَ يَفْعَلُ بالفتح فيهما بل اللازم أن فعل يفعل بالفتح فيهما أن تكون فيها حرف من حروف الحلق. قال الجوهري: النكاح الوطئ وقد يكون العقد، تقول: نكحتها، ونكحت هي أي تزوجت. قلت: المراد ها هنا العقد؛ لأن المحرم ممنوع من الوطئ إجماعًا. قوله: "ولا يُنكح" بضم الياء وكسر الحاء، من الإِنكاح، ومعناه: لا ينكح غيره، أي لا يعقد على غيره، ووجهه أنه لما كان ممنوعًا من نكاح نفسه مدة الإِحرام كان معزولًا تلك المدة أن يعقد لغيره، وشَاَبَه المرأة التي لا تعقد على نفسها ولا على غيرها. قوله: "ولا يخطب" من خَطَبَ يَخطُبُ -من باب نَصَرَ يَنْصُرُ- خِطبةً بالكسر فهو خاطب، والاسم منه الخِطبة أيضًا فأما الخُطْبَة بالضم فهو من القول والكلام، وإنما نهي عن الخِطبة أيضًا لما فيها من التعرض إلى النكاح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 88 رقم 3276).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يجوز للمحرم أن يَنكح ولا يُنكح ولا يخطب. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب وسالمًا والقاسم وسليمان بن يسار والليث والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا ينكح غيره ولا يخطب، فإن فعل ذلك فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي -رضي الله عنهما- وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي، وقوله: ولا يخطب يحتمل أن يريد السفارة في النكاح ويحتمل إيراد الخطبة حالة النكاح، فأما السفارة فيه فممنوع، فإن سفر فيه وتناول العقد غيره أو سفر فيه لنفسه وأكمل العقد بعد التحلل فلم أر فيه نصًّا، وعندي أنه أساء ولا يفسخ، ويتخرج على قول أصحابنا فيمن خطب في العدة وعقد بعدها القولان، وأما إن خطب في عقد النكاح وتناول العقد غيره فكما ذكرنا، وقد أساء من حضر العقد، رواه أشهب عن مالك، وقال أصبغ: لا شيء عليه، واختلف قول مالك في إبطال نكاح المحرم، فقال مرة: هو فسخ، وقال مرة: هو طلاق، وقوله في قصة طريف ردَّ عمر -رضي الله عنه- نكاحًا يقتضي الفسخ، والفسخ باسم الرد أليق، وعقد النكاح ممنوع حتى يحل بالإِفاضة، فإن تزوج بعد الرمي وقبل الإِفاضة فسخ نكاحه، رواه محمد بن القاسم، وقال مالك: ويراجع المحرم إن شاء إذا كانت في عدة منه , ولا خلاف في ذلك بين أئمة الفتوى بالأمصار، وروي عن ابن حنبل أنه منعه الرجعة والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا نرى بذلك بأسًا, ولكنه إن تزوج فلا ينبغي أن يدخل بها حتى يحل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وعطاء بن أبي رباح والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروقًا وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا بأس للمحرم أن ينكح، ولكنه لا يدخل بها حتى يحل، وهو قول ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهم-.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا محمد بن إسحاق (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن هارون، قال: ثنا أبي، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثنا أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة بنت الحارث وهو حرام قائم بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العُزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فأخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم، فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟! فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا، فخرج رسول الله -عليه السلام- وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار (ح). وحدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، قالا: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله.

قال عمرو: فحدثني ابن شهاب، عن يزيد بن الأصم: "أن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة وهي خالته وهو حلال، قال عمرو: فقلت للزهري: وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال، أتجعله مثل ابن عمر؟! ". ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس. وأخرجه من تسع طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن أبان بن صالح بن عمير المكي، وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي كلاهما، عن مجاهد بن جبر المكي، وعطاء بن أبي رباح المكي، كلاهما عن ابن عباس. ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسًا فقد صرح بالتحديث، وصحح حديثه ابن حبان وغيره، وأخرجه ابن إسحاق في "مغازيه" وموسى بن عقبة أيضًا عن الزهري قال: وبعث رسول الله -عليه السلام- بين يديه يعني بعدما خرج معتمرًا جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس وكان زوج أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله -عليه السلام- ... وساق الحديث إلى أن قال: فقام رسول الله -عليه السلام- وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية، فلما أن أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله -عليه السلام- في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى نناشدك الله والعقد ألا خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث، فقال سعد بن عبادة: كذبت، لا أم لك، ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا يخرج، ثم نادى رسول الله -عليه السلام- سهيلًا وحويطبًا فقال: إني قد نكحت فيكم امرأة، فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت منا، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبارافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله -عليه السلام- حتى نزل بطن سرف وأقام

المسلمون، وخلف رسول الله -عليه السلام- أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة، وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله -عليه السلام- بسرف، فبنى بها ثم أدلج، فسار حتى قدم المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله -عليه السلام-. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن هارون بن أبي عيسى الشامي أبي علي نزيل البصرة، وثقه ابن حبان، عن أبيه هارون بن أبي عيسى الشامي كاتب محمد بن إسحاق، وثقه ابن حبان وروى له النسائي، عن محمد ابن إسحاق ... إلى آخره. قوله: "وهو حرام" جملة حالية، والحرام ضد الحلال، وأراد به: وهو محرم. قوله: "فعرست" هكذا هو من التعريس، قال الجوهري: أعرس فلان: أي أعدّ عرسًا، وأعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها ولا تقل: عَرَّس، والعامة تقوله. انتهى، وهذا كما تراه يرد قول الجوهري، وكذلك قوله: "حتى عرس" بها. قوله: "بين أظهركم" معناه: فعرست بينكم على سبيل الاستظهار، والمعنى بين ظَهْرًا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكشوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرهم. قوله: "بسرف" أي في سرف وقد ذكرنا غيره مرة أنها بفتح السين وكسر الراء وفي آخره فاء، موضع بينه وبين مكة، وهو على ستة أميال من مكة. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رَبَاح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، عن عطاء بن رباح والكل ثقات، وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- ميمونة وهو محرم وهي محرمة، بماء يقال له سرف".

الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني (¬1): نا العباس بن الفضل الأسفاطي، نا سهل بن بكار، ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة وهو محرم". الخامس: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، نا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- تزوج وهو محرم، واحتجم وهو محرم". السادس: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): نا يحيى، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم، واحتجم وهو محرم". السابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬4): أنا عمرو بن علي، عن محمد بن سواء، نا سعيد، عن قتادة، ويعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- ميمونة بنت الحارث وهو محرم" وفي حديث يعلى: "بسرف". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (11/ 23 رقم 10918). (¬2) "المعجم الكبير" (12/ 62 رقم 12476). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 346 رقم 3233). (¬4) "المجتبى" (6/ 87 رقم 3271).

الثامن: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي، جميعًا عن ابن عيينة، قال ابن نمير: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، أن ابن عباس أخبره: "أن النبي -عليه السلام- تزوج وهو محرم" زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أنه نكحها وهو حلال". التاسع: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان ابن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬2): أنا أبو عبد الله وأبو بكر وأبو زكريا، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، قال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أن رسول الله -عليه السلام- نكح وهو حلال" قال عمرو قلت: لابن شهاب أتجعل يزيد ابن الأصم إلى ابن عباس؟! ". قال أحمد (¬3): ورواه الحميدي، عن سفيان، وزاد فيه: قال: "نكح ميمونة وهو حلال، وهي خالته، قال: فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه إلى ابن عباس؟! " وقد ذكره الشافعي في رواية المزني عنه. قوله: "وما يدري ابن الأصم" أي يزيد بن الأصم، واسم الأصم: عمرو -ويقال: عبد عمرو- بن عبيد العامري البكائي أبو عوف المكي نزل الرقة، أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، وخاله عبد الله بن عباس، قيل: إن له رؤية من النبي -عليه السلام-، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1031 رقم 1410). (¬2) "المعرفة" (4/ 36 رقم 2886). (¬3) هو الإِمام البيهقي صاحب "المعرفة".

قوله: "أعرابي بوال" أراد به نسبته إلى الجهل، ومعناه جاهل بالسُّنَّة، والأعرابي: البدوي، والغالب على أهل البادية الجهل، وأراد عمرو بن دينار بهذا الكلام الطعن في حديث زيد بن الأصم، حيث قال: إن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة وهو حلال، وهو يخالف ما قال ابن عباس: "إن النبي -عليه السلام- تزوجها وهو محرم". فإن قيل: قال البيهقي: هذا الذي قاله عمرو بن دينار لا يوجب طعنًا في روايته، ولو كان مطعونًا من الرواية لما احتج به ابن شهاب الزهري، وإنما قصد ابن دينار بما قال ترجيح رواية ابن عباس على رواية يزيد بن الأصم، والزجيح يقع بما قال عمرو لو كان يزيد يقوله مرسلًا كما [كان] (¬1) ابن عباس يقوله مرسلًا إذ لم يشهد عمرة القضية كما لم يشهدها يزيد بن الأصم، إلا أن يزيد إنما رواه عن ميمونة وهي صاحبة الأمر فهي أعلم بأمرها من غيرها. أنا أبو عبد الله الحافظ (¬2)، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد النسوي، قال: ثنا الحسن بن سفيان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: ثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهي حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس". وأخرجه مسلم في "الصحيح" (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة. وكذلك رواه ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة موصولاً، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمونة مرسلًا؛ فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان، ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولاً، ومع روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة عن يزيد موصولاً، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية الثقات. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "معرفة السنن والآثار". (¬2) "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 66 رقم 8940). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1032 رقم 1411).

قلت: هذا إنكار من البيهقي للأمر الصريح مثل الشمس، وكيف لا يكون هذا طعنًا من عمرو بن دينار في رواية يزيد بن الأصم وهو ينادي بأعلى صوته ويقول: أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه إلى ابن عباس؟! وكيف يكون طعن بأكثر من ذلك؟! واحتجاج الزهري بيزيد بن الأصم لا ينفي طعن عمرو بن دينار فيه، فإن عمرو بن دينار نفسه حجة ثبت ولا ينقص عن الزهري، على أن بعضهم قد رجحوه على مثل عطاء ومجاهد وطاوس. قوله: "والترجيح يقع بما قال عمرو ... إلى آخره غير مُسَلَّم؛ لأن مرسل ابن عباس مسند لا ريب فيه، ومرسله خير من مسند غيره من التابعين، ويزيد بن الأصم لا يلحق ابن عباس ولا يقرب منه، ومرسل ابن عباس أعلى من مسند من أكبر من يزيد بن الأصم فضلاً عن يزيد بن الأصم، ثم إن الذين رووا أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم نحو سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد؛ أعلى وأثبت من الذين رووا أنه تزوجها وهو حلال، وميمون بن مهران وحبيب بن الشهيد ونحوهما لا يلحقون هؤلاء الذين ذكرناهم. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلي بن أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "تزوج رسول الله -عليه السلام- بعض نسائه وهو محرم". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين لأن الكل من رجالهما ما خلا ابن خزيمة، وأبو عوانة وهو الوضاح اليشكري، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وأبو الضحى هو مسلم بن صبيح الكوفي العطار، ومسروق هو ابن الأجدع، وروى لهم الأربعة أيضًا. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا الحسن بن سفيان، قال: نا إبراهيم بن ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (9/ 440 رقم 4132).

الحجاج، قال: نا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: "تزوج رسول الله -عليه السلام- بعض نسائه وهو محرم، واحتجم وهو محرم". وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا: من حديث علي بن عبد العزيز، ثنا معلى بن أسد، ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة: "تزوج رسول الله -عليه السلام- بعض نسائه وهو محرم، واحتجم وهو محرم". فإن قيل: قد قال البيهقي: ويروى عن مسدد، عن أبي عوانة، عن مغيرة فقال: عن إبراهيم بدل أبي الضحى، قال أبو علي النيسابوري: كلاهما خطأ، والمحفوظ: عن مغيرة وعن شباك، عن أبي الضحى، عن مسروق مرسلًا عن النبي -عليه السلام- كذا رواه جرير، عن مغيرة. قلت: لا نسلم أنه خطأ بل هو محفوظ، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" كما ذكرنا، وقال الطحاوي: روي عن عائشة ما يوافق ابن عباس، روى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه، ثم ذكر السند المذكور، ثم قال: وكل هؤلاء أئمة يحتج برواتهم، على ما يجيء عن قريب، وقال في "مشكل الحديث": ثم اعلم أن رواية أبو عوانة عن مغيرة مسندًا أولى من رواية جرير بن عبد الحميد عنه مرسلًا لوجهين: الأول: أن أبا عوانة أجَلُّ من جرير، قال أبو حاتم: أبو عوانة أحب إلى من جرير بن عبد الحميد. والثاني: أن أبو عوانة زاد الإِسناد، وزيادة الثقة مقبولة. ويعضد هذا أيضًا ما رواه أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- تزوج وهو محرم". أخرجه البيهقي (¬2): ثم قال: ذكر عائشة فيه وهم، وإنما يروي عن ابن أبي مليكة مرسلاً، وقد رواه الفلاس، عن أبي عاصم مرسلًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 212 رقم 13990). (¬2) "السنن الكبرى" (7/ 212 رقم 13989).

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا كامل أبو العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- وهو محرم". ش: إسناده صحيح، وسليمان بن شعيب الكيساني وثقه أبو سعد السمعاني، وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى وأبو زرعة وأبو حاتم، وروى له أبو داود والنسائي، وكامل بن العلاء أبو العلاء التميمي السعدي وثقه ابن معين والعجلي وابن شاهين، وأخرج له الحاكم في "مستدركه" وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأبو صالح ذكوان الزيات، روى له الجماعة. وقال الطحاوي: هذا ما لا نعلم فيه عن أبي هريرة خلافًا، فهذا كما ترى روي في هذا الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة -رضي الله عنه-. ولما أخرج الترمذي (¬1): حديث ابن عباس قال: وفي الباب عن عائشة. وهذا الطحاوي قد أخرج عنهم جميعًا. ص: فقال لهم أهل المقالة الأولى ومن تابعكم أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم؟ وهذا أبو رافع وميمونة يذكران أن ذلك كان منه وهو حلال، فذكروا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا حماد بن زيد، عن مطر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع: "أن النبي -عليه السلام- تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالاً، وكنت الرسول بينهما". حدثنا ربيع المؤذن، وربيع الجيزي، قالا: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة بنت الحارث [قالت] (¬2): "تزوجني رسول الله -عليه السلام- بسرف ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة", ولم يقل ابن خزيمة: "بعد أن رجع من مكة". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 201 رقم 842). (¬2) في "الأصل": "قال"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم، أنه سمع أبا فزارة يحدث، عن يزيد بن الأصم قال: "أخبرتني ميمونة أن النبي -عليه السلام- تزوجها حلالًا". ش: أي فقال أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية وهذا اعتراض منهم عليهم في احتجاجهم بأحاديث ابن عباس وعائشة وأبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم" تقريره أن يقال: من يتابعكم على دعواكم هذه؟ وقد أخبر أبو رافع الذي كان سفيرًا بين النبي -عليه السلام- وبين ميمونة أنه -عليه السلام- تزوجها وهو حلال، وكذلك أخبرت ميمونة صاحبة القضية أنها تزوجها رسول الله -عليه السلام- وهما حلالان، فهذا أولى من غيره؛ لأن صاحبة القضية ومن يمشي فيها أدرى بحال القضية من غيره. أما حديث أبي رافع فأخرجه: عن ابن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال، عن حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع مولى النبي -عليه السلام- واسمه إبراهيم، وقيل: غير ذلك. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ولا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة، وروى مالك بن أنس، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار: "أن النبي -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال". رواه مالك مرسلًا. وقال: ورواه أيضًا سليمان بن بلال، عن ربيعة مرسلاً. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 200 رقم 841).

وأما حديث ميمونة فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، كلاهما عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة، عن ميمونة قالت: "تزوجني رسول الله -عليه السلام- ونحن حلالان بسرف". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث حماد بن سلمة نحوه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبي فزارة راشد بن كيسان العبسي الكوفي، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: نا جرير بن حازم، قال: ثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس". وأخرجه الترمذي (¬4): نا إسحاق بن منصور، قال: أنا وهب بن جرير، قال: نا أبي، قال: سمعت أبا فزارة يحدث، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهو حلال، وبنى بها حلالاً، وماتت بسرف ودفنها في ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 169 رقم 1843). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 210 رقم 13982). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1032 رقم 1411). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 203 رقم 845).

الظلة التي بني بها فيها". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلاً: "أن النبي -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال". ص: فكان من حجتنا عليهم أن هذا الأمر إن كان يؤخذ من طريق صحة الإِسناد واستقامته وهكذا مذهبهم، فإن حديث أبي رافع الذي ذكروا فإنما رواه مطر الوراق، ومطر عندهم ليس هو ممن يحتج بحديثه، وقد رواه مالك، وهو أضبط منه وأحفظ فقطعه. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا، حدثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج". وحديث يزيد بن الأصم فقد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري، وترك الزهري الإِنكار عليه، وأخرجه من أهل العلم وجعله أعرابيًا بوالاً، وهم يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار والزهري، وقد أجمعا جميعًا على الكلام بما ذكرنا في يزيد بن الأصم، ومع هذا فإن الحجة عندكم في ميمون بن مهران هو جعفر بن برقان، وقد روى هذا الحديث منقطعًا. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: "كنت عند عطاء فجاءه رجل، فقال: هل يتزوج المحرم؟ فقال: ما حرم الله -عز وجل- النكاح منذ أحله، قال ميمون: فقلت له: إن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كتب إليَّ أن سل يزيد بن الأصم أكان رسول الله -عليه السلام- حين تزوج ميمونة حلالًا أو حرامًا؟ فقال يزيد: تزوجها وهو حلال، فقال عطاء: ما كنا نأخذ بهذا إلاَّ عن ميمونة، كنا نسمع أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهو محرم". فأخبر جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران بالسبب الذي وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد لا عن ميمونة

ولا عن غيرها، ثم حَاجَّ ميمون بعد عطاء فذكره عن يزيد ولم يجوزه به، فلو كان عنده عمن هو أبعد منه لاحتج به؛ ليؤكد بذلك حجته، فهذا هو أصل هذا الحديث أيضًا عن يزيد بن الأصم لا عن غيره، والذين رووا أن النبي -عليه السلام- تزوجها وهو محرم أهل علم وثبت أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما- سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد -رضي الله عنهم- وهؤلاء أئمة فقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم، والذين نقلوا عنهم فكذلك أيضًا منهم: عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله ابن أبي نجيح، فهؤلاء أيضًا أئمة يقتدي برواياتهم، ثم قد روي عن عائشة أيضًا ما قد وافق ما روي عن ابن عباس، روى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه: أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، فكل هؤلاء أئمة يحتج بروايتهم، فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط والفقه والأمانة. وأما حديث عثمان -رضي الله عنه- فإنما رواه نبيه بن وهب، وليس كعمرو بن دينار ولا كجابر بن زيد ولا كمن روى ما يوافق ذلك عن مسروق، عن عائشة، ولا لنُبَيْه أيضًا موضع في العلم كموضع أحد [ممن] (¬1) ذكرنا، فلا يجوز إذ كان كذلك أن يعارض بين جميع من ذكرنا ممن روى بخلاف الذي روى هو؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: أبي فكان من حجتنا ودليلنا على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عن الاعتراض المذكور، بيانه أن يقال: إن مذهبكم ومسلككم أنكم تدعون أن هذا الأمر لا يؤخذ إلا من طريق صحة الإِسناد واستقامته، ثم تخالفون هذا وترجحون الأحاديث التي فيها أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال، على حديث ابن عباس أنه -عليه السلام- تزوجها وهو حرام، مع علمكم بأن طرق حديث ابن عباس أصح من تلك الأحاديث! وهذا تعسف منكم وعدم إنصاف، بيان ذلك: أما حديث أبي رافع الذي تحتجون به في جملة حججكم فإنه رواه مطر الوراق، ومطر عندكم ليس ممن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "مما"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

يحتج بحديثه، قال النسائي: مطر بن طهمان الوراق ليس بالقوي. وعن أحمد: كان في حفظه سوء ولين، سلمنا أنه مجمع عليه في ثقته وضبطه ولكنه ليس كرواة حديث ابن عباس ولا قريبًا منهم، ومع هذا فقد روى مالك بن أنس حديث أبي رافع وقطعه ولم يوصله، ولا يشك أحد أن مالكًا أحفظ من مطر وأضبط منه، وقال أبو عمر بن عبد البر: حديث مالك عن ربيعة في هذا الباب غير متصل، قد رواه مطر الوراق فوصله، رواه حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، وذلك عندي غلط من مطر؛ لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين -وقيل: سنة تسع وعشرين- ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير، وكان قتل عثمان -رضي الله عنه- في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان من أبي رافع، فلا معنى لرواية مطر، وما رواه مالك أولى, والله أعلم. انتهى. قلت: العجب من البيهقي يعرف هذا المقدار في هذا الحديث ثم يسكت عنه ويقول مطر بن طهمان الوراق قد احتج به مسلم بن الحجاج! ومن يحتج في كتابه بمثل أبي بكر بن أبي مريم والحجاج بن أرطاة وموسى بن عبيدة وابن لهيعة ومحمد ابن دينار الطاهي ومن هو أضعف منهم لا ينبغي له أن يرد رواية مطر الوراق، فانظر إلى هذا الكلام العجيب الذي لا طعم له، حيث يعرض بهذا ويلوح إلى الطحاوي بغير أصل ولا طريق، فالطحاوي متى ضعف مطر الوراق؟! وإنما أخبر عن الخصم أنهم لا يحتجون بحديثه وبَيَّنَ أن وصله حديث أبي رافع غير صحيح كما ذكره أبو عمر، وأن قطعه هو الصحيح كما رواه مقطوعًا من هو أضبط منه، ولا مناسبة لذكر البيهقي أيضًا هؤلاء الجماعة الذين أشار إليهم بضعفهم؛ لأن الطحاوي لم يحتج في هذا المقام بأحد من هؤلاء حتى يورد عليه شيء، وإن كان قد روى لواحد منهم في غير هذا الموضع من الكتاب فيكون ذلك إما في المتابعات أو الشواهد، أو يكون قد ظهر عنده ما يوجب توثيق هؤلاء فاحتج بهم، فقول الطحاوي في هذا الباب حجة، فتوثيقه توثيق، وتضعيفه تضعيف، ولا ينازعه

أحد في ذلك، ألا ترى إلى الشيخين فإنهما قد احتجا في "صحيحهما" بجماعة من الناس قد ضعفهم غيرهما فلم يعتبر الناس ذلك، فكذلك الطحاوي، والذي ذكره البيهقي هو شأنه وهو واقع فيه، فإنه في "سننه" ربما يحتج بواحد من الرواة عند كون الحجة له، ثم يضعفه في موضع آخر عند كون الحجة عليه، فمن تتبع ذلك في "سننه" وقف على ما ذكرنا، ونعوذ بالله من البهتان. وأما حديث يزيد بن الأصم فإنه قد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري فلم يبق الاستدلال به صحيحًا، وذلك [لأنهم] (¬1) يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار، فما لهم يسكتون ها هنا ولا يقولون بتضعيف حديث يزيد بن الأصم؟! وقد ذكرنا فيما مضى ما قال البيهقي ها هنا، وما أجبت عنه، ولو كان كلام عمرو بن دينار لم يكن طعنًا في يزيد بن الأصم لكان الزهري يرد عليه ما قاله فيه، فسكوته دليل على أن الصواب مع عمرو بن دينار، ومع هذا فإن الحجة عندهم في ميمون بن مهران هو جعفر بن برقان، وقد روى جعفر بن برقان هذا الحديث منقطعًا. أخرجه الطحاوي، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: "كتب عطاء ... ". إلى آخره فأخبر جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران بالسبب الذي له وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد بن الأصم لا عن ميمونة ولا عن غيرها، ما يدفع بذلك ما قال البيهقي: رواه ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة موصولاً، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمون مرسلًا فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولاً، صح روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة، عن يزيد موصولاً، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

الثقات، ولئن سلمنا ما ذكره البيهقي وغيره، ولكن هؤلاء لا يساوون الذي رووه عن ابن عباس: أنه -عليه السلام- تزوجها وهو محرم؛ لأن الذين رووه عن ابن عباس أهل علم وثبت وضبط وإتقان، وهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس وجابر بن زيد أبو الشعثاء، فهؤلاء أئمة أجلاء أثبات وحجج يحتج بروايتهم، ويقتدي بآرائهم، وكذلك الذين رووا عنهم ونقلوا: منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، أئمة ثقات أثبات يحتج برواياتهم فلا يشك أحد ممن له بصيرة وتمييز بين الرجال أن هؤلاء لا يساويهم رواة الأحاديث التي فيها أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال، ولا يدانيهم ولا يقرب منهم، ومع هذا فحديث ابن عباس قد وافقه حديث عائشة وشيَّده وعضده برواة هم أئمة ثقات أجلاء لم يطعن فيهم أحد كأبي عوانة الوضاح الذي روى عن مغيرة بن مقسم، الذي يروي عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، الذي يروي عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأما حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فإن الذي رواه نبيه بن وهب، وليس هو كعمرو بن دينار ولا جابر بن زيد، ولا يداني واحدًا منهما ولا يقرب، ولا له موضع في العلم كموضع أحد منهم، وقال ابن العربي: ضعف البخاري حديث عثمان وصحح رواية ابن عباس. فهذا البخاري لو علم أن رواة حديث عثمان مساوون لرواة حديث ابن عباس لصحح كلا الحديثين، ولئن سلمنا أنهم متساوون فنقول: معنى قوله: لا ينكح المحرم: لا يطأ وهو محمول على الوطئ، والكراهة لكونه سببًا للوقوع في الرفث، لا إن عقده لنفسه أو لغيره بأمره ممتنع، ولهذا قرنه بالخطبة، ولا خلاف في جوازها وإن كانت مكروهة، فكذا النكاح والإِنكاح، وصار كالبيع وقت النداء. فإن قيل: اجتمع ها هنا نصَّان: أحدهما: مثبِت والآخر نافي؛ لأن قول من قال: تزوج ميمونة وهو حلال مثبت؛ لأن معناه أي خارج عن الإِحرام بعد دخوله فيه،

وهذا مثبت, لأنه يثبت أمرًا عارضًا على الإِحرام، وقول من قال: إنه تزوجها وهو محرم نافي؛ لأنه ينفي الأمر العارض وهو الحل، فكان ينبغي أن يكون المثبت أولى لأنه أقرب إلى الصدق من النافي، ولهذا قبلت الشهادة على الإِثبات دون النفي، وهذا اختيار أبي الحسن الكوفي أيضًا. قلت: اتفقت الروايات على أن النكاح لم يكن في الحل الأصلي، وإنما الاختلاف في أنه كان في الحل المعترض على الإِحرام أو كان في الإِحرام؟ وأخذ أصحابنا في هذه الصورة بالنافي وهو أنه لم يكن في الحل الأصلي، وإنما اختاروا هذا وإن كانوا يأخذون في بعض المواضع بالمثبت، واختلاف أصحابنا في هذا يرجع إلى أصل، وهو أن النفي لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون من جنس ما يعرف بدليله بأن يكون مبناه على دليل، أو من جنس ما لا يعرف بدليله بأن يكون مبناه على الاستصحاب دون الدليل، أو احتمل الوجهان، فإن كان الأول فهو مساوٍ للمثبت وتتحقق المعارضة بينهما ويعمل بالراجح منهما، وإن كان الثاثي فالأخذ بالمثبت أولى؛ لأن ما لا دليل عليه لا يعارض ما ثبت بالدليل، وإن كان الثالث يستقصى وينظر في ذلك النفي؛ فإن تبين أنه مما يعرف بالدليل يكون كالإِثبات فيتعارضان فيطلب الترجيح، وإن تبين أنه بناء على الاستصحاب فالإِثبات أولى كالقسم الثاني، ثم النفي في حديث ميمونة مما يعرف بدليله، وهو هيئة المحرم، فإن الإِحرام حالة مخصوصة يدرك عيانًا من لبس ما ليس بمخيط، وكشف الرأس، فيكون كالإِثبات فيقع بينهما المعارضة فيطلب الترجيح، فرجحناه بحال الراوي؛ لأنه تعذر الترجيح من نفس الحجة، فأخذنا برواية ابن عباس؛ لأنه روى القصة على وجهها وذلك دليل إتقانه، فكان الأخذ بروايته أولى؛ لأن راوي المثبت وهو يزيد بن الأصم لا يعادل ابن عباس في الضبط والإِتقان والتفقه التي هي من أسباب ترجيح الرواية, ولهذا أنكر عمرو بن دينار حديثه وقال للزهري: وما يدري يزيد بن الأصم؛ أعرابي بوال على عقبيه، أتجعله مثل ابن عباس؟! فسكت الزهري ولم ينكر عليه. فافهم.

ص: وأما النظر في ذلك: فإن المحرم حرام عليه جماع النساء، فاحتمل أن يكون عقد نكاحهن كذلك، فنظرنا في ذلك فوجدناهم قد أجمعوا أنه لا بأس على المحرم بان يبتاع جارية ولكن لا يطأها حتى يحل، ولا بأس بأن يشتري طيبًا يتطيب به بعد ما يحل، ولا بأس بأن يشتري قميصًا ليلبسه بعدما يحل، وذلك الجماع والتطيب واللباس حرام عليه كله وهو محرم، فلم تكن حرمة ذلك عليه تمنعه عقد الملك عليه، ورأينا المحرم لا يشتري صيدًا، فاحتمل أن يكون حكم عقد النكاح كحكم عقد شراء الصيد، أو كحكم شراء ما وصفنا مما سوى ذلك؛ فنظرنا في ذلك فإذا من أحرم وفي يداه صيد أمر أن يطلقه، ومن أحرم وعليه قميص أو في يده طيب أمر أن يطرحه عنه ويرفعه، ولم يكن ذلك كالصيد الذي يؤمر بتخليته وترك حبسه، ورأيناه إذا أحرم ومعه امرأة لم يؤمر بإطلاقها بل يؤمر بحفظها وصونها، فكانت المرأة في ذلك كاللباس والطيب لا كالصيد، فالنظر على ذلك أن يكون في استقبال عقد النكاح عليها في حكم استقبال عقد الملك على الثياب والطيب الذي يحل له لبس ذلك واستعماله بعد الخروج من الإِحرام. ش: أي وأما وجه النظر والقياس في نكاح المحرم وإنكاحه: فإن المحرم حرام عليه ... إلى آخره ظاهر غني عن زيادة البيان، ولكن ملخصه: أن المحرم ممنوع من شراء الصيد وغير ممنوع من شراء الجارية والطيب والقميص مثلًا, ولكن لا يحل استعمالها في الوطئ والتطيب واللبس إلا بعد الخروج من الإِحرام، وعقد النكاح يحتمل أن يكون كالنوع الأول ويحتمل أن يكون كالنوع الثاني، فاعتبرنا ذلك فرأينا من أحرم وفي يده صيد يؤمر بإطلاقه، ومن أحرم ومعه قميص أو طيب يؤمر بطرحه، ومن أحرم ومعه امرأة لا يؤمر بإطلاقها، فكان حكمها كحكم القميص والطيب لا كحكم الصيد، فالقياس على ذلك يقتضي حكمها أن يكون في استقبال العقد عليها كحكم استقبال العقد على الثياب والطيب الذي يحل استعماله بعد الخروج من الإِحرام.

ص: فقال قائل: فقد رأينا من تزوج أخته من الرضاعة كان نكاحه باطلاً, ولو اشتراها كان شراؤه جائزًا، فكان الشراء يجوز أن يعقد على ما لا يحل وطؤه والنكاح لا يجوز أن يعقد إلا على من يحل وطؤه، وكانت المرأة حرامًا على المحرم جماعها فالنظر على ذلك أن يحرم عليه نكاحها. فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: أنا رأينا الصائم والمعتكف حرام على واحد منهما الجماع، وكل قد أجمع أن حرمة الجماع عليهما لا يمنعهما من عقد النكاح لأنفسهما إذ كان ما حرم الجماع عليهما من ذلك إنما هو حرمة دين، كحرمة حيض المرأة الذي لا يمنعها من عقد النكاح على نفسها، فحرمة الإِحرام في النظر أيضًا كذلك، وقد رأينا الرضاع الذي لا يجوز تزويج المرأة لمكانه إذا طرأ على النكاح فسخ النكاح، فكذلك لا يجوز استقبال النكاح عليه، وكان الإِحرام إذا طرأ على النكاح لم يفسخه فالنظر على ذلك أيضًا أن يكون لا يمنع استقبال عقد النكاح، وحرمة الجماع بالإِحرام كحرمته بالصيام سواء، فإذا كانت حرمة الصيام لا تمنع عقد النكاح، فكذلك حرمة الإِحرام لا تمنع عقد النكاح فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى بيانه: أن يقال: قياس عقد النكاح للمحرم مع حرمة الوطئ حالة الإِحرام على عقد الملك على الثياب والطيب مع حرمة استعمالهما حالة الإِحرام غير صحيح؛ لأنه لا يلزم جواز شراء ما لا يحل استعماله جواز عقد النكاح على ما لا يحل، ألا ترى أنه يجوز للرجل شراء أخته من الرضاع ولا يجوز عقده النكاح عليها؟ فكذلك المحرم لما كان جماع المرأة عليه حرامًا فكذلك يكون عقده عليها حرامًا قياسًا عليه، وأجاب عن ذلك بقوله: "فكان من الحجة للآخرين عليهم"، أي على أهل المقالة الأولى. "في ذلك" أي فيما أوردوه من الاعتراض، وأراد بالحجة، الجواب وهو ظاهر. قوله: "وكلٌ" أي كل طائفة من الفريقين قد أجمعوا إلى آخره.

قوله: "إذا كان" أي حين كان. ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم: "أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان لا يرى بأسًا أن يتزوج المحرم". حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حبيب المعلم وقيس وعبد الكريم، عن عطاء: "أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يتزوج المحرمان". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر، قال: "سألت أنس بن مالك عن نكاح المحرم فقال وما بأس به؟ هل هو إلا كالبيع". ش: أخرج هذه الآثار عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك -رضي الله عنهم- تأكيدًا لما روى من الأحاديث المرفوعة عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة في جواز نكاح المحرم، وتأييدًا لما قاله من وجه النظر والقياس. أما أثر ابن مسعود فأخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل؛ لأن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وقال عباس: سمعت يحيى يقول: مراسيل إبراهيم أحب إليّ من مراسيل الشعبي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن عبد الله: "أنه لم يكن يرى بتزويج المحرم بأسًا". وأما أثر ابن عباس، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة، وحبيب هو ابن أبي قريبة البصري المعلم روى له مسلم وأبو داود والترمذي (¬2)، وقيس هو ابن سعد المكي، قال أحمد وأبو زرعة: ثقة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 151 رقم 12959). (¬2) قلت: بل روى له الجماعة، انظر "تهذيب الكمال" وفروعه.

روى له مسلم ومن الأربعة غير الترمذي، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري أبو سعيد الحراني، روى له الجماعة. وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عائذ بن حبيب وعبد الوهاب بن عطاء عن سعيد، عن قتادة ويعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لا بأس به، يعني المحرم يتزوج". وأما أثر أنس بن مالك فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري أحد الحفاظ المبرزين وشيخ البخاري وأبي داود، عن محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك دينار المدني روى له الجماعة، عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق المعروف بابن أبي عتيق، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، روى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. فهذا كما رأيت قد روى جواز نكاح المحرم عن جماعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبو هريرة وعائشة، وقد ذكر ابن حزم معاذًا أيضًا، فصاروا ستة أنفس من كبار الصحابة وفقهائهم، وقال ابن حزم: أجاز ذلك طائفة، وصح عن ابن عباس، وروي عن ابن مسعود ومعاذ، وبه قال عطاء والقاسم بن محمد وعكرمة والنخعي وأبو حنيفة وسفيان -رضي الله عنهم-. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 152 رقم 12964).

ص: كتاب النكاح

ص: كتاب النكاح ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام النكاح وأنواعه، ولما فرغ عن العبادات الأربعة: الصلاة والزكاة والصوم والحج، التي تعني أركان الإِسلام وأسس الدين؛ شرع في بيان النكاح الذي هو أيضًا من جملة العبادات، ولما كان مشتملًا على مصالح دنياوية أيضًا أخره عن العبادات المحضة، وقدمه على غيره لشدة اتصاله بالعبادات المحضة بخلاف غيره، ثم للنكاح تفسير لغة وشرعًا، وركن وشرط، وحُكم وحِكَم. أما تفسيره لغة: فهو الجمع، يقال: أنكحنا الفَرَا فسنرى، أي جمعنا بين الحمار الوحشي وبين أنثاه، سننظر ما يحدث بينهما، قال الجوهري: النكاح: الوطء، وقد يكون العقد، تقول: نكحتها، ونكحت هي: أي تزوجت، وقال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب: الوطء. وقيل للتزويج: نكاح؛ لأنه سبب الوطء. وقال الزجاجي: هو في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعًا، وفي "المعرب": وقولهم النكاح: الضم مجاز، وفي "المغيث": النكاح التزويج، وقال القرطبي: اشتهر إطلاقه على العقد. وحقيقته عند الفقهاء على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي حسين: أصحها: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وهذا هو الذي صححه أبو الطيب وبه قطع المتولي وغيره. الثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وبه قال أبو حنيفة. والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك. وأما تفسيره شرعًا: فهو عقد يوجب حل البضع قصدًا. وأما ركنه: فهو الإِيجاب والقبول.

وأما شرطه: فهو الرضا، وحضور الشاهدين، وحل المحل، وثبوت المال. وأما حكمه: فهو ثبوت الحل. وأما حِكمه: فكثيرة: منها تكثير عباد الله وأمة رسوله -عليه السلام-، ومنها: صيانة النفس عن الزنا المفضي إلى العذاب في الدنيا والآخرة، ومنها: حصول الولد الصالح ينفع في الدنيا والآخرة، ومنها: الأنس والتسكين والتحصين، ومنها: تفريغ القلب عن مصابرة الشهوة، وتدبير المنزل وما يحتاج إليه فيه من الخدمة وغيرها. ***

ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه ش: أي هذا باب في بيان ما جاء في النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه، والمساومة هي المجاذبة بين البائع والمشتري، وفصل ثمنها، يقال: سام يسوم سومًا وساوم واستام، والمنهي عنه أن يتساوم المتبايعان في السلعة ويتقارب الانعقاد، فيجيء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة ويخرجها من يد المشتري الأول بزيادة على ما استقر الأمر عليه بين المستاومين ورضيانه قبل الانعقاد، فذلك ممنوع عند المقاربة، لما فيه من الإِفساد، ومباح في أول العرض والمساومة. و"الخِطْبة" بكسر الخاء، والنهي في ذلك أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق معلوم ويتراضيا ولم يبق إلا العقد، فأما إذا لم يتفقا ويتراضيا ولم يركن أحدهما إلى الآخر فلا يمنع من خطبتها، وهو خارج عن النهي. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا مسدد بن مسرهد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب وابن مثنى، جميعًا عن يحيى القطان -قال زهير: نا يحيى- عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1032 رقم 1412).

وأبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه". قوله: "لا يبيع الرجل" على صورة النفي، وفي رواية مسلم وأبي داود "لا يبع" على صورة النهي، ثم قيل معناه: لا يشتري، وأما بيعه سلعته على بيع أخيه فغير منهي عنه، قال عياض: والأولى أن يكون على ظاهره، وهو أن يعرض سلعته على المشتري برخص ليذهده في شراء تلك التي ركن إليها أولاً من عند الآخر، فيشتمل عليه النهي، ويكون على ظاهره، قيل في معنى هذا الكلام قولان: أحدهما: إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد فطلب طالب السلعة بأكثر من الثمن ليرغب البائع في فسخ العقد، وهو محرم؛ لأنه إضرار بالغير، ولكنه منعقد؛ لأن نفس البيع غير مقصود بالنهي فإنه لا خلل فيه. الثاني: أن يرغب المشتري في الفسخ بعرض سلعة أجود منها بمثل ثمنها أو مثلها بدون ذلك الثمن، فإنه مثل الأول في النهي، وسواء كان المتعاقدان تعاقدا على البيع أو تساوما وقاربا الانعقاد ولم يبق إلا العقد، فعلى الأول يكون البيع بمعنى الشراء، تقول: ابتعت الشيء بمعنى اشتريته، وكذلك بعت الشيء يكون بمعنى اشتريته، وهو اختيار أبي عبيد في قوله -عليه السلام-: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه"، وعلى الثاني يكون البيع على ظاهره. قوله: "ولا يخطبُ" بضم الباء لأنه عطف على "لا يبيع" المنفي، وأما في رواية مسلم وأبي داود فينبغي أن يكون مجزومًا؛ لأنه عطف على المجزوم، والمعنى فيه: أن الخاطب إذا ركن إليه وقرب أمره ومالت النفوس بعضها إلى بعض في ذلك، وذكر الصداق ونحو ذلك لم تجز حينئذ الخطبة لأحد على رجل قد تناهت حاله وبلغت ما وصفنا, ولم يختلف العلماء في أنه إذا لم يكن ركون ولا رضيً أن النكاح جائز، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 228 رقم 2081).

واختلفوا إذا وقع النكاح مع الثاني بعد الركون إلى الأول والرضا به، فقال مالك: يفسخ على كل حال، وبه قال داود، وروي عنه أنه قال: لا يفسخ أصلاً، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال الشافعي، وقال ابن القاسم: إذا تزوج الرجل المرأة بعد أن ركنت إلى غيره فدخل بها، فإنه يتحلل الذي خطب عليه، ويعرفه بما صنع، فإن حلله وإلا فليستغفر الله من ذلك وليس يلزمه طلاقها، وقد أثم فيما فعل. وقال ابن وهب: إن لم يجعله الأول في حل مما صنع فليطلقها، فإن رغب الأول فيها وتزوجها فقد برئ هذا من الإثم، وإن كره تزويجها فليراجعها الذي فارقها بنكاح جديد، وليس يقضى عليه بالفراق. وقال ابن القاسم: إنما معنى النهي: إذا خطب الرجل على خطبة أخيه في رجلين صالحين، وأما إذا كان الذي خطبها أولاً فركنت إليه رجلاً سوءًا، فإنه ينبغي للولي أن يحضها على تزويج الرجل الصالح الذي يعلمها الخير ويعينها عليه. وقال أبو عمر: تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة: أنه إن لم يكن دخل بها فرق بينهما، فإن كان دخل مضى النكاح بئس ما صنع. ***

ص: باب: نكاح المتعة

ص: باب: نكاح المتعة ش: أي هذا باب في بيان نكاح المتعة، وهو النكاح إلى أجل معين، وهو من التمتع بالشيء: الانتفاع به، يقال: تمتعت به أتمتع تمتعًا، والاسم: المتعة؛ لأنه ينتفع بها إلى أمد معلوم، وقد كان مباحًا في الإِسلام ثم حرم، وهو الآن جائز عند الشيعة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الوليد بن القاسم بن الوليد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنا نغزو مع رسول الله -عليه السلام- وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل، ثم قرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬1). ش: الوليد بن القاسم بن الوليد الهمداني الكوفي، عن أحمد: ثقة قد كتبنا عنه بالكوفة، وعن يحيى: ضعيف الحديث، وقال ابن عدي: إذا روى عن ثقة وروى عنه ثقة فلا بأس به، روى له الترمذي وابن ماجه. وإسماعيل بن أبي خالد العجلي الأحمسي الكوفي، واسم أبي خالد: هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير، روى له الجماعة. وقيس بن أبي حازم واسم أبي حازم: حصين بن عوف البجلي الأحمسي، أبو عبد الله الكوفي، أدرك الجاهلية، وهاجر إلى النبي -عليه السلام- ليبايعه فقبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه وهو يخطب، ولم يثبت ذلك، وأبو حازم له صحبة، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [87].

والحديث أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2): من حديث إسماعيل، عن قيس، عن ابن مسعود نحوه. قوله: "وليس لنا نساء" جملة حالية. قوله: "ألا نستخصي" من الاستخصاء وهو استفعال من الخصاء، وهو نزع البيضتين من الخصيتين، يقال: خصيت العجل خصاء -ممدود- إذا سللت خصيتيه، فالخصيتان هما البيضتان، والخصيتان هما الجلدتان اللتان فيهما البيضتان. قوله: "أن ينكح بالثوب إلى أجل" هو صورة المتعة، وهو أن يتزوج امرأة على ثوب ونحوه إلى أجل معين. ويستفاد منه: حرمة الخصاء والتبتل والانقطاع عن الأزواج، وترك النسل الذي حض -عليه السلام- على تكثيره، وإبطال الحكمة في خلق الله تعالى ذلك العضو وتركيب الشهوة فيه لبقاء النسل وعمارة الأرض وذر عباد الله فيها ليبلوهم كيف يعملون وليعبدوه جل اسمه، وتغيير خلق الله وإفساد خاصة الذكورية، وفيه أيضًا من الدلالة على جواز نكاح المتعة لأنه كان جائزًا في الإِسلام، ولكنه انتسخ على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن سعيد بن جبير، قال: "سمعت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يخطب وهو يعرض بابن عباس يعيب عليه قوله في المتعة، فقال ابن عباس: يسأل أمه إن كان صادقًا، فسألها فقالت: صدق ابن عباس، قد كان ذلك، فقال ابن عباس: لو شئت سميت رجالًا من قريش ولدوا فيها". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، ويونس هو ابن عُبيد بن دينار البصري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1687 رقم 4339). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1022 رقم 1404).

وأخرج البيهقي (¬1): من حديث عبد الله بن وهب، حدثني يونس، قال: قال ابن شهاب: أخبرني عروة: "أن ابن الزبير قام بمكة، فقال: إن أناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، ويعرض بالرجل، فناداه فقال: إنك جلف جافٍ، لعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين -يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- فقال ابن الزبير: فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك". قال البيهقي: وفيه تعريض بابن عباس، وزاد في آخره: قال ابن شهاب: وأخبرني عُبيد الله: "أن ابن عباس كان يفتي بالمتعة ويغمص ذلك عليه أهل العلم، فأبى ابن عباس أن ينتكل عن ذلك، حتى طفق بعض الشعراء يقول فيه: يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في ناعم خود مبتلة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس قال: فازداد أهل العلم بها قدرًا ولها بغضًا حتى قيل فيها الأشعار". وأخرج البيهقي (¬2) أيضًا: من حديث ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "قلت لابن عباس: ماذا صنعت؟! ذهبت الركائب بفتياك، وقالت فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قال: قال الشاعر: أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ياصاح هل لك في بيضاء بَهْكَنةٍ ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ما هذا أردت؛ إن المتعة لا تحل إلاَّ لمضطر ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 205 رقم 13942). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 205 رقم 13943).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أُميَّة بن بسطام، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع: "أن النبي -عليه السلام- أتاهم فأذن لهم في المتعة". ش: إسناده صحيح وأمية بن بسطام بن المنتشر العيشي أبو بكر البصري شيخ البخاري ومسلم، والحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أُميَّة بن بسطام العيشي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- أتانا فأذن لنا في المتعة". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا بأس أن يتمتع الرجل من المرأة أيامًا معلومة بشيء [معلوم] (¬3) فإذا مضت تلك الأيام حرمت عليه لا بطلاق ولكن بانقضاء المدة التي كانا تعاقدا على المتعة فيها, ولا يتوارثان بذلك في قولهم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وطاوس بن كيسان وسائر فقهاء مكة، فإنهم قالوا: لا بأس بالمتعة. وصورتها ما ذكره الطحاوي، وهو مذهب الشيعة، وقال زفر: يصح العقد ويبطل الشرط، وقال ابن حزم: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله -عليه السلام- جماعة من السلف منهم من الصحابة: أسماء بنت أبي بكر وجابر بن عبد الله وابن مسعود وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو ابن حريث وأبو سعيد الخدري وسلمة ومعبد ابنا أُميَّة بن خلف، ورواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله -عليه السلام- ومدة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى قريب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1022 رقم 1405). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 1967 رقم 4827). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

آخر خلافة عمر -رضي الله عنه- واختلف في إباحتها عن ابن الزبير، وعن علي فيها توقف، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إنما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط، وأباحها بشهادة عدلين، وصح تحريمها عن ابن عمر وعن ابن أبي عمرة الأنصاري. قلت: أما ما ذهب إليه الشيعة من ذلك فعجب على قاعدتهم، وإن كانوا ليسوا على قاعدة صحيحة؛ لأن عمدتهم في مذهبهم الرجوع إلى قول علي وأولاده، وقد صح عن علي -رضي الله عنه- على ما يجيء أنها منسوخة، وأنكر على ابن عباس اعتقاده أنها غير منسوخة، وكذا روي عن جعفر بن محمد الصادق -رضي الله عنهما-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز هذا النكاح، واحتجوا بأن الآثار التي احتج بها عليهم أهل المقالة الأول قد كانت ثم نسخت بعد ذلك، وأن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المتعة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وإبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري ومكحولاً والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عُبيد وداود ومحمد بن جرير وجماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، فإنهم قالوا: المتعة حرام، قد كانت مباحة ثم نسخت. وقال الإِمام أبو عبد الله المازري: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الإِسلام، ثم ثبت نسخه بالأحاديث المتأخرة وتقرر الإِجماع على منعه ولم يخالف فيه إلاَّ طائفة من المبتدعة، وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنها منسوخة. وقال عبد الحق: في كلامه مسامحة لقوله: "لم يخالف فيه إلاَّ طائفة من المبتدعة" وقد حكينا من خالف فيه من الصحابة والتابعين، قال: واختلاف الأحاديث في زمن النسخ ليس بقادح.

وقد ذكر عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج، عن عطاء قال: "أخبرني من شئت عن أبي سعيد الخدري قال: "لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقًا". وذكر عن عطاء أيضًا (¬2) قال: "أول من سمعت منه المتعة صفوان بن يعلي قال: أخبرني يعلي أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف فأنكرت ذلك عليه، فدخلنا على ابن عباس فذكر بعضنا له ذلك، فقال: نعم، فلم يقر في نفسي حتى قدم جابر بن عبد الله قال: فجئناه في منزله فسألناه عن أشياء ثم ذكرنا له المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وعمر حتى إذا كان في آخر خلافة عمر -رضي الله عنه- استمتع عمرو بن حريث بامرأة سماها جابر -رضي الله عنه- ونسيت اسمها فحملت المرأة، فبلغ ذلك عمر -رضي الله عنه- فدعاها فسألها, فقالت له: نعم، قال: من أشهد، قال عطاء: فلا أدري أقالت: أمها، أم أخاها وأمها، قال: فهلا غيرهما، فنهى عن ذلك". قال عطاء: وكان ابن عباس يقرأ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3) ذكره أبو عمر في "التمهيد" قال أبو عمر: قد قرأها أيضًا ابن مسعود وعلي بن الحسين -رضي الله عنهم- وجعفر بن محمد وأبوه وابن جبير. وذكر أبو عمر (¬4): عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان قال: "كانت بمكة امرأة عراقية جميلة لها ابن يقال له أبو أُميَّة، وكان سعيد بن جبير يكثر الدخول عليها، قال: فقلت له: يا أبا عبد الله، ما أكثر ما تدخل على هذه المرأة؟! قال: إنا قد نكحناها نكاح المتعة، قال ابن جريج: وقال لي سعيد بن المسيب: هو أحل من شرب الماء -يعني المتعة". ذكره أبو عمر في "التمهيد". وفي "الإِحكام لابن بزيزة" أجمع جمهور العلماء على أن نكاح المتعة يفسخ قبل الدخول وبعده، واختلف المذهب هل يحد فاعله أم لا؛ لشبهة العقد، والمشهور من ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (7/ 498 رقم 14022). (¬2) مصنف عبد الرزاق (7/ 496 رقم 1421). (¬3) سورة النساء، آية: [24]. (¬4) "التمهيد" (10/ 114).

المذهب أنه يعاقب ولا حد عليه، وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (¬1) فقال بعضهم: هي منسوخة بآية الطلاق والصداق والعدة والميراث، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والصداق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الأضحية كل ذبح. ص: وذكروا مما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- من نهيه عنها مما لم يذكر فيه النسخ ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، أن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب والحسن بن محمد بن علي أخبراه: "أن أباهما كان أخبرهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس -رضي الله عنهم- إنك رجل تائه، إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن متعة النساء". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني يونس وأسامة ومالك، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل: "إنك رجل تائه". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما: "أن عليًا -رضي الله عنه- مرّ بابن عباس وهو يفتي بالمتعة، متعة النساء أنه لا بأس بها، فقال علي: قد نهى عنها رسول الله -عليه السلام- وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر". ش: أي وذكر هؤلاء الآخرون ما روي عن النبي -عليه السلام- من نهيه عن المتعة من الأحاديث التي لم يذكر فيها صريح النسخ، وإنما قيد بهذا القيد لأن هذه الأحاديث التي يذكرها الآن يحتمل أن تكون متأخرة عن الأحاديث التي فيها الإِباحة، فتكون منسوخة بتلك الأحاديث، ويحتمل ألَّا تكون متأخرة فلا يثبت ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [24].

النسخ، فلذلك وقع الاختلاف في زمان وقوع النهي عن متعة النساء حتى قال بعضهم نكاح المتعة من أغرب ما وقع في الشريعة، وذلك أنه أبيح ثم نهي عنه، ثم أبيح ثم نهي عنه، ثم أبيح ثم نهي عنه، ولم يعهد ذلك في غيره، وسيأتي الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى، فمن تلك الأحاديث التي فيهن النهي. ما أخرجه عن علي -رضي الله عنه- من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن جويرية بن أسماء بن عُبيد البصري، وهو عم عبد الله بن محمد بن أسماء، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن الأخوين الخليلين العالمين الثقتين عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب إلاَّ أن عبد الله هذا تنتحله الشيعة بأسرها والحسن أول من تكلم بالإِرجاء، وهما يرويان على أبيهما محمد بن علي وهو الذي يقال له: محمد ابن الحنفية. وأخرجه مسلم (¬1): نا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قال: ثنا جويرية، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي وأسامة بن زيد الليثي المدني ومالك بن أنس، ثلاثتهم، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما محمد بن علي، أنه سمع أباه علي بن أبي طالب. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن متعة النساء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1027 رقم 1407). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1028 رقم 1407).

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا نحوه، والبزار (¬2) وأبو يعلى (¬3) في "مسنديهما". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد العمري، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله: "أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن المتعة، فقال: حرام، قال. فإن فلانًا يقول فيها، قال: والله لقد علم أن رسول الله -عليه السلام- حرمها يوم خيبر، وما كنا مسافحين". ش: إسناده صحيح، رجاله كلهم رجال الصحيح، وعمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العمري المدني: نزيل عسقلان الشام، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث ابن وهب، أخبرني عمر بن محمد بن زيد، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "فإن فلانًا" كنى به عن ابن عباس. قوله: "وما كنا مسافحين" أي وما كنا زناة، من السفاح وهو الزنا، مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته. ص: ففي هذه الآثار النهي من رسول الله -عليه السلام- عن المتعة، فاحتمل أن يكون ما ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام- من الإِذن فيها كان ذلك منه قبل النهي، ثم نهى عنها، فكان ذلك النهي ناسخًا لما كان من الإِباحة قبل ذلك، فنظرنا في ذلك ¬

_ (¬1) سبق ذكره. (¬2) "مسند البزار" (2/ 241 رقم 641). (¬3) "مسند أبي يعلى" (1/ 434 رقم 576). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 22 رقم 13926).

فإذا يونس [قد] (¬1): حدثنا، قال: ثنا أنس بن عياض، عن عبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- إلى مكة في حجة الوداع، فأذن لنا في المتعة، فانطلقت أنا وصاحب لي إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء، فعرضنا عليها أنفسنا، فقالت: ما تعطيني؟ قلت: ردائي، وقال صاحبي: ردائي، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشب منه، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إليّ أعجبتها، ثم قالت: إنك ورداؤك تكفيني، فمكثت معها ثلاثة أيام، ثم إن رسول الله -عليه السلام- قال: من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بهن فليخل سبيلها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: أنا الليث، عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهري: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن متعة النساء يوم الفتح، فقلت: ممن سمعته؟ قال: حدثني رجل، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام- عند عمر بن عبد العزيز، وزعم معمر أنه الربيع بن سبرة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن سعيد، عن عبد العزيز بن عمر -هو ابن عبد العزيز- عن الربيع بن سبرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- رخص في المتعة، فتزوج رجل امرأة، فلما كان بعد ذلك إذا هو يحرمها أشد التحريم، ويقول فيها أشد القول". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا أبو عميس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: "أذن رسول الله -عليه السلام- في متعة النساء، ثم نهى عنها". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "قال". وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في غزوة تبوك، فنزل ثنية الوداع، فرأى مصابيح ونساء يبكين، فقال: ما هذا؟! فقيل: نساء تمتع بهن أزواجهن وفارقوهن، فقال: إن الله حرم أو هدر المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث". ففي هذه الآثار تحريم رسول الله -عليه السلام- المتعة بعد إذنه فيها وإباحته إياها؛ فثبت بما ذكرنا نسخ ما في الآثار الأول التي ذكرناها في أول الباب. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن علي، وابن عمر -رضي الله عنهما- بطرقها، وقد ذكرنا أن هذه الأحاديث يحتمل أن تكون متأخرة، فتكون أحاديث الإِباحة منسوخة، فلما نظرنا في الآثار وجدنا أحاديث عن سبرة الجهني، وسلمة بن الأكوع، وأبي هريرة -رضي الله عنهم- تدل على أنها نسخت أحاديث الإِباحة وهو معني قوله: "ففي هذه الآثار تحريم رسول الله -عليه السلام- المتعة بعد إذنه فيها وإباحته إياها" أي: المتعة، فثبت بما ذكرنا يعني من أحاديث هؤلاء الصحابة نسخ ما في الآثار الأُوَل، وهي أحاديث عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع المذكورة في أول الباب، التي احتج بها أهل المقالة الأولى، وإنما قال: إن هذه الأحاديث نسخت الأحاديث الأُول؛ لأن في حديث سبرة يصرح بأن النهي كان في حجة الوداع، فدل ذلك على النسخ قطعًا، وذكر في حديث أبي هريرة أنه كان في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة، وفي "الإِحكام" لابن بزيزة: اختلفت الأحاديث والآثار في الوقت الذي وقع فيه تحريمه، ففي بعض الروايات أن النبي -عليه السلام- حرم ذلك يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها عام أوطاس. قلت: وكذا اختلفت الرواية في كتاب مسلم في النهي عن المتعة وإباحتها، ففيه أن النبي -عليه السلام- نهى عن ذلك يوم فتح مكة، وفيه أنه نهى عن ذلك يوم خيبر، وفيه من

رواية سلمة بن الأكوع إباحتها يوم أوطاس، ومن رواية سبرة الجهني إباحتها يوم الفتح وهما واحد، ثم تحريمها حينئذٍ، ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر، وهو قبل الفتح، وذكر غير مسلم عن علي -رضي الله عنه- نهيه -عليه السلام- عنها في غزوة تبوك من رواية إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبد الله بن محمد بن علي، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه- ولم يتابعه أحد على هذا، وهو غلط منه. وهذا الحديث رواه مالك في "الموطإ" (¬1): وسفيان بن عُيينة، والعمري، ويونس وغيرهم عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني علي وفيه: "يوم خيبر". وكذا ذكره مسلم (¬2): عن جماعة عن الزهري، وهذا هو الصحيح، كذا قال القاضي عياض، وقال أيضًا: فإن تعلق بهذا الخلاف من أجاز المتعة وزعم أن هذا الخلاف يقدح في الأحاديث الناسخة لأنه يراه تناقضًا، قلنا: هذا خطأ وليس بتناقض؛ لأنه يصح أنه ينهى عن ذلك في زمن ثم ينهى عنه في زمن آخر تأكيدًا وإشهارًا، فيسمع بعض الرواة نهيه في زمن، ويسمع آخرون نهيه ولكن في زمن آخر، فينقل كل فريق منهم ما سمعه، ولا يكون في ذلك تكاذب ولا تناقض، وروى أحاديث الإِباحة جماعة من الصحابة، فذكر مسلم منهم ابن مسعود، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد الله وسبرة بن معبد الجهني، وليس في هذه الآثار كلها أنها كانت في الإِقامة وإنما جاءت في مغازيهم، وعند ضروراتهم في أسفارهم وعدم النساء، وبلادهم حارة وصبرهم عنهن قليل، وقد ذكر في حديث ابن أبي عمرة أنها كانت رخصة في أول الإِسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير، ونحوه عن ابن عباس، ولم يذكر مسلم في حديث سبرة تعيين وقت إلاَّ في حديث أحمد بن سعيد الدارمي، وحديث إسحاق بن إبراهيم، وحديث يحيى بن يحيى؛ فإنه ذكر فيه: "عام فتح ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 542 رقم 1129). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1027 رقم 1407).

مكة". قالوا: وذكر الرواية في إباحتها في حجة الوداع خطأ؛ لأنه لم يكن ثمة ضرورة ولا عزبة، وأكثرهم حجوا بنسائهم، والصحيح فيها تجرد النهي كما جاء في غير رواية ويكون تجديد النبي -عليه السلام- النهي عنها يومئذ لاجتماع الناس، وتبليغ الشاهد الغائب، وإتمام الدين، وتقرير الشريعة كما قرر غير شيء وبين حله وحرامه، وتحريم المتعة حينئذٍ لقوله: "إلى يوم القيامة" وعلى هذا يحمل ما جاء في تحريم المتعة يوم خيبر وفي عمرة القضاء ويوم أطاس ويوم الفتح وهو بمعني يوم أوطاس إذ هي غزوة متصلة واحدة، وأنه جدد النهي عنها في هذه المواطن، إذ حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مدفع فيه، من روايات الثقات الأثبات، عن ابن شهاب، لكن في رواية سفيان عنه: "نهى النبي -عليه السلام- عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر". فتأول بعضهم أن الكلام منقطع، وأن يوم خيبر مختص بتحريم الحمر الأهلية، وأرسل تحريم المتعة على غيرها ليوافق بين الأحاديث، وقال هؤلاء: الأشبه في تحريم المتعة أنه كان بمكة، وأما لحوم الحمر الأهلية فبخيبر بغير خلاف، وهذا حسن لو ساعدته سائر الروايات عن غير سفيان، والأولى، ما قلنا من تكرير التحريم لكي يتقي بعد هذا ما جاء في ذكر إباحته في عمرة القضاء، ويوم أوطاس ويوم الفتح فيحتمل أن النبي -عليه السلام- أباحه لهم للضرورة بعد التحريم، ثم أطلق تحريمه للأبد، بقوله: "من يومكم هذا إلى يوم القيامة" فيكون التحريم أولاً بعد الإِباحة للضرورة عند ارتفاعها بخيبر وعمرة القضاء، ثم تأبيد التحريم بمكة في الفتح وحجة الوداع، وترك الرواية بتحليلها في حجة الوداع إذ هي مرويَّة عن سبرة الجهني وروايات الجهني وروايات الأثبات عنه أنها في يوم الفتح، ومجرد النهي يوم حجة الوداع، فيؤخذ من حديثه ما اتفق عليه الجمهور ووافقه عليه عشرة من الصحابة في النهي عنها قبل الفتح، ويترك ما انفرد به من روى عنه تحليلها يوم حجة الوداع، وتصحيح رواية من روى عنه مجرد النهي في حجة الوداع تأكيدًا وإبلاغًا.

وأما قول الحسن: إنها كانت في عمرة القضاء لا قبل ولا بعد، فيرده ثبات حديث خيبر وهي قبلها وما جاء في إباحتها في أحاديث يوم الفتح وأوطاس مع أن الرواية بهذا جاءت عن سبرة وهو راوي الروايات الأُخر وهي أصح، فيترك ما خالف الصحيح، وقد قال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم والإِباحة والنسخ مرتين كما قيل في مسألة القبلة انتهى. قلت: هذا موضع قد استشكله الناس كثيراً، حتى استشكل بعضهم حديث علي: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر". وقال: هذا مشكل من جهتين: الأولى: أن يوم خيبر لم يكن ثمة نساء يتمتعون بهن؛ إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسبايا عن نكاح المتعة. الثانية: أنه ثبت في "صحيح مسلم" أن رسول الله -عليه السلام- أذن لهم في المتعة زمن الفتح ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها، وقال: "إن الله حرمها إلى، يوم القيامة" فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد. قلت: قد روي عن الشافعي أنه قال: لا نعلم شيئًا أبيح ثم حرم ثم أبيح ثم حرم غير نكاح المتعة، وحكى السهيلي وغيره عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات وحرمت ثلاث مرات، وقال آخرون: أربع مرات، واختلفوا أي وقت أول ما حرمت؟ فقيل: في خيبر، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام الفتح، وقيل: في أوطاس، وقيل: في تبوك، وقيل: في حجة الوداع، وقد روى أبو داود في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه النهي عنها في حجة الوداع، وقال أبو داود: هذا أصح ما روي في ذلك، وروي عن الحسن: أنها ما حلت قط إلاَّ في عمرة القضاء والله أعلم.

أما حديث سبرة الجهني. فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح على شرط مسلم، وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا عبد العزيز بن ربيع بن سبرة بن معبد، قال: سمعت أبي: ربيع بن سبرة يحدث، عن أبيه سبرة بن معبد: "أن نبي الله -عليه السلام- عام فتح مكة أمر أصحابه بالتمتع من النساء، قال: فخرجت أنا وصاحب لي من بني سليم حتى وجدنا جارية من بني عامر كأنها بكرة عيطاء، فخطبناها إلى نفسها وعرضنا عليها بُردينا، فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي وترى برد صاحبي أحسن من بردي، فآمرت نفسها ساعة ثم اختارتني على صاحبي، فكن معنا ثلاثًا، ثم أمرنا رسول الله -عليه السلام- بفراقهن". الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وهو أيضًا ثقة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، نا الليث، عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه أنه قال: "أذن رسول الله -عليه السلام- بالمتعة، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر، فعرضنا أنفسنا عليها، فقالت: ما تعطيني ... ". إلى آخره نحو رواية الطحاوي. الثالث: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وهو أيضًا ثقة ثبت. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد (ح). وثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا هدبة بن خالد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: "سمعت الزهري يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن متعة النساء يوم الفتح، فقلت: من حدثك؟ قال: حدثني رجل عن أبيه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1025 رقم 1406). (¬2) "المجتبى" (6/ 126 رقم 3368). (¬3) "المعجم الكبير" (7/ 113 رقم 6535).

قوله: "وزعم معمر" هو معمر بن راشد أن الرجل في قول الزهري "حدثني رجل" هو الربيع بن سبرة، عن أبيه سبرة بن معبد الجهني، فإذن لا جهالة فيه، فافهم. الرابع: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأبو عمر هو حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود. وأخرجه الطبراني (¬1): نا علي بن عبد العزيز، نا مسلم بن إبراهيم، نا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- رخص في المتعة، فلما كان بعد ثلاث انتهيت به وهو محرمها وينهى عنها أشد النهي". قوله: "كأنها بكرة عيطاء" أي شابة طويلة العنق في اعتدال، والبَكْر -بفتح الباء- من الإِبل بمنزلة الغلام في الناس والأنثى: البكرة وتستعار للناس، قال الجوهري: العيط طول العنق، جمل أعيط وناقة عيطاء، والقصر الأعيط: المنيف. قوله: "وكنت أَشَبَّ منه" أي أحدث سنًّا منه، والشباب الحداثة، وكذلك الشبيبة، وهو خلاف الشيب، والشباب: جمع شاب أيضًا، وكذلك الشبان. وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤدب روى له الجماعة، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري روى له الجماعة، عن أبي عميس -بالسين المهملة- عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، عن إياس بن سلمة روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬2): نا أبو بكر بن شيبة، قال: نا يونس بن محمد، قال: نا عبد الواحد بن زياد، قال: نا أبو عميس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: "رخص رسول الله -عليه السلام- عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 109 رقم 6518). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1023 رقم 1405).

قوله: "ثم نهى عنها" بفتح النون وهو المحفوظ، ويقال: بضم النون وكسر الهاء، ويراد بالناهي على هذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن عكرمة بن عمار، عن سعيد المقبري ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث مؤمل بن إسماعيل .... إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فقال رسول الله -عليه السلام-: حرم -أو هدم- المتعة بالنكاح والطلاق والعدة والميراث". قوله: "ثنية الوداع" الثنية في الجبل كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل: أعلى المسيل في رأسه. ص: ثم قد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- النهي عنها: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "ما كانت المتعة إلاَّ رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما زنى إلاَّ شقي قال عطاء: كأني أسمعها من ابن عباس إلاَّ شقي". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن ليث بن أبي سليم، عن طلحة بن مصرف، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن أبي ذر قال: "إنما كانت متعة النساء لنا خاصة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد الملك، عن عطاء، عن جابر: "أنهم كانوا يتمتعون من النساء حتى نهاهم عمر -رضي الله عنه-". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 207 رقم 13956).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: "سألت ابن عباس عن متعة النساء، فقال مولى له: إنما ذلك في الغزو والنساء قليل، قال ابن عباس: صدقت". ش: أي ثم قد روي عن الصحابة أيضًا النهي عن المتعة، وأخرج في ذلك عن ابن عباس، وأبي ذر، وجابر. أما عن ابن عباس فأخرجه من وجهين: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن سعيد بن عفير شيخ البخاري، وهو سعيد بن كثير بن عفير وقد ينسب إلى جده، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. والكل رجال الصحيح ما خلا ربيعًا. وأخرجه أبو عمر (¬1): من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء- اسمه نصر بن عمران الضبعي البصري، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: "أنه سئل عن متعة النساء، فقال مولى له: إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل، فقال ابن عباس: صدق". وأخرجه البخاري (¬3): نا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي جمرة، قال: "سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء، فرخص، فقال مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة -أو نحوه- فقال ابن عباس: نعم"، قلت: هذا من أفراد البخاري. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (10/ 114). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 204 رقم 13940). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 1967 رقم 4826).

وقال الترمذي (¬1): نا محمود بن غيلان، قال: نا سفيان بن عقبة أخو قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عُبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس قال: "إنما كانت المتعة في أول الإِسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت هذه الآية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} قال ابن عباس: "فكل فرج سوى هذين حرام". قال أبو عيسى: إنما رويت الرخصة عن ابن عباس ثم رجع عن قوله، حيث أخبر عن النبي -عليه السلام-. قال الحازمي: هذا إسناد صحيح لولا موسى بن عُبيدة، قال: وأما ما يحكى عن ابن عباس فإنه كان يتأول في إباحته للمضطرين إليه بطول العزبة وقلة اليسار، ثم توقف عنه، فيوشك أن يكون سبب رجوعه عنه قول علي -رضي الله عنه- وإنكاره عليه. وقال أبو عمر (¬2): أصحاب عبد الله بن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرونها حلالًا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس، وروى الليث بن سعد، عن بكير بن الأشج، عن عمار مولى الشريد: "سألت ابن عباس عن المتعة، أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى، قلت: هل عليها حيضة؟ قال: نعم حيضة، قلت: يتوارثان؟ قال: لا. وأما عن أبي ذر فأخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، روى له الجماعة، عن ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، وعن يحيى: لا بأس به، روى له الجماعة، البخاري ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 430 رقم 1122). (¬2) "التمهيد" (10/ 115).

مستشهدًا، ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن طلحة بن مصرف بن عمرو الكوفي، روى له الجماعة، عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الكوفي، لأبيه ولجده صحبة، روى له الجماعة، عن أبي ذر جندب بن جنادة. وأخرجه البيهقي (¬1): من طريق آخر من حديث عباس الدوري، ثنا خنيس بن بكر بن خنيس، ثنا مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبي ذرٍّ، قال: "إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله -عليه السلام- متعة النساء ثلاثة أيام ثم نهى عنها رسول الله -عليه السلام-". قلت: فيه انقطاع. وأخرج أيضًا من حديث يحيى بن أبي زائدة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن إبراهيم التيمي، عن سليم المحاربي، عن يزيد التيمي، عن أبي ذر قال: "إن كانت المتعة لخوفنا ولحربنا". وأما عن جابر بن عبد الله فأخرجه بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيح ما خلا صالح بن عبد الرحمن، وسعيد هو ابن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، وهشيم هو ابن بشير، وعبد الملك هو ابن أبي سليمان العرزمي الكوفي، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، وعطاء هو ابن أبي رباح. فإن قيل: قد ثبت النهي عن النبي -عليه السلام- عن المتعة في حجة الوداع، فكيف كانوا يتمتعون بالنساء بعده -عليه السلام- حتى نهاهم عمر -رضي الله عنه-؟ قلت: يمكن أن يكون النهي لم يبلغ الذين كانوا يتمتعون، فلما بلغ عمر -رضي الله عنه- أنهم كانوا يتمتعون نهاهم عن ذلك. وقد أخرج البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن جابر قال: "قلت: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وابن عباس يأمر بها، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 207 رقم 13954). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 206 رقم 13948).

قال: على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله -عليه السلام- ومع أبي بكر -رضي الله عنه- فلما ولي عمر -رضي الله عنه- خطب الناس فقال: إن رسول الله -عليه السلام- هذا الرسول، وإن هذا القرآن هذا القرآن، وأنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله -عليه السلام-، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: إحداهما: متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلاَّ غيبته في الحجارة. والأخرى: متعة الحج، افْصِلُوا حجكم عن عمرتكم؛ فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". قال البيهقي: لا شك في كون المتعة على عهد رسول الله -عليه السلام-، لكنا وجدناه نهى عنها عام الفتح بعد الإذن فيه، ثم لم نجده أذن بعد، فكان نهي عمر -رضي الله عنه- عن نكاح المتعة موافقًا لسُنَّة رسول الله -عليه السلام- فأخذنا به، ولم نجده -عليه السلام- نهى عن متعة الحج في رواية تصح عنه، ووجدنا في قول عمر -رضي الله عنه- ما دل على أنه أحب أن يفصل بين الحج والعمرة ليكون أتم لهما، فحملنا نهيه عن متعة الحج على التنزيه لا على التحريم. وقد حدثنا (¬1) عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنا عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي بمكة، ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، ثنا أبو خالد الأموي، ثنا منصور بن دينار، ثنا عمر بن محمد، عن سالم، عن أبيه، عن عمر -رضي الله عنه-: "أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال [رجال] (¬2) ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عنها؟! [ألا وإني] (2) لا أوتى بأحد نكحها إلَّا رجمته". فإن صح هذا فهو يبين أن عمر -رضي الله عنه- إنما نهى عنها لنهي النبي -عليه السلام -. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (7/ 206 رقم 13949). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".

ص: فهذا عمر -رضي الله عنه- قد نهى عن متعة النساء بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه من ذلك، وفي إجماعهم على النهي في ذلك عنها دليل على نسخها، ثم هذا ابن عباس يقول: إنما أبيحت والنساء قليل، فلما كثرن ارتفع المعنى الذي من أجله أبيحت، وقال أبو ذرٍّ: "إنما كانت لنا خاصة"، فقد يحتمل أن تكون كانت لهم للمعنى الذي ذكره ابن عباس إنها أبيحت من أجله. وأما قول جابر: "كنا نتمتع حتى نهانا عنها عمر -رضي الله عنه-" فقد يجوز أن يكون لم يعلم بتحريم رسول الله -عليه السلام- إياها حتى علمه من قول عمر -رضي الله عنه- وفي تركه ما قد كان رسول الله -عليه السلام- إباحَهُ لهم دليل على أن الحجة (عليه قد قامت له عنده) (¬1) على نسخ ذلك وتحريمه فوجب لما ذكرنا نسخ ما روينا في أول هذا الباب من إباحة متعة النساء. ش: أشار بقوله: "فهذا عمر -رضي الله عنه-" إلى وقوع الإِجماع على تحريم المتعة في أيامه، وإلى أن إجماعهم على ذلك دليل على أن ما روي من إباحتها قد نسخ ورفع حكمه. قوله: "ثم هذا ابن عباس" إشارة إلى أن ما روي عن ابن عباس من إباحة المتعة إنما كان لعلة ذكرها، وإن تلك العلة قد زالت، وزال الحكم المبني عليها بزوالها. قوله: "وقال أبو ذر إلى آخره" إشارة إلى أن معنى الخصوصية التي ذكرها أبو ذر في المتعة إنما كان للمعنى الذي ذكره ابن عباس، وقد ارتفع ذلك كما ذكرنا. قوله: "وأما قول جابر إلى آخره" إشارة إلى توجيه قوله: "كنا نتمتع حتى نهانا عمر" وهو أنه كان يحتمل أنه لم يبلغه خبر التحريم حتى وقف عليه من عمر -رضي الله عنه- ثم إن تركه دليل على أن الحجة قد قامت بتحريمها عنده، فإذا كان كذلك فقد وقع الاتفاق عن كل من روى إباحة ذلك مع من كان يرى بحرمتها، فصار إجماعًا، فهذا الإِجماع قد دل على أن أحاديث الإِباحة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى منسوخة لا يعمل بها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار". قد قامت عنده. وهو أليق بالسياق.

ص: وقد قال بعض أهل العلم: إن النكاح إذا عقد على متعة أيام، فهو جائز على الأبد، والشرط باطل. ش: من بعض ما قال بهذا القول زفر بن الهذيل، فإنه قال: إذا تزوج امرأة عشرة أيام مثلًا أو شهرًا أو سَنة فالنكاح ثابت أبدًا والشرط باطل؛ لأنه أتى بالنكاح والشرط، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. وقال الأوزاعي: إذا نكح امرأة نكاحًا صحيحًا ولكنه يرى في حين العقد عليها ألَّا يمكث معها إلاَّ شهرًا أو نحوه ويطلقها فهي متعة، ولا خير فيه. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يضره ذلك إذا لم يشترط في نكاحه. ص: فمن الحجة على هذا القول: أن رسول الله -عليه السلام- لما نهاهم عن المتعة قال لهم: من كان عنده من هذه النساء التي يتمتع بهن شيء فليفارقهن، فدل ذلك على أن ذلك العقد المتقدم لا يوجب دوام العقد للأبد؛ لأنه لو كان يوجب دوام العقد للأبد لكان يفسخ الشرط الذي كانا تعاقدا بينهما ولا يفسخ النكاح، إذا كان ثبت على صحة وجواز قبل النهي، ففي أمره إياهم بالمفارقة دليل على أن مثل ذلك العقد لا يوجب ملك بضع، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا بيان رد القول المذكور، وهو ظاهر جدًّا. قوله: "إذا كان" أي حين كان، ويجوز أن تكون إذ للتعليل أي لأجل كون ثبوت العقد على صحة. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" أشار به إلى أن ما ذكر من تحريم المتعة وانتساخها أنه قول أبي حنيفة وصاحبيه -رحمهم الله تعالى- وهو أيضًا قول مالك، والشافعي، وأحمد -رحمهم الله- كما ذكرناه. ***

ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها ش: أي هذا باب في بيان القسم بين البكر والثيب، هل يقيم بينهما على السواء أو تخصص البكر بزيادة؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "للبكر سبع وللثيب ثلاث". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". قال خالد في حديثه: ولو قلت: إنه رفع الحديث لصدقت، ولكنه قال: "السنة كذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، قال: سمعت أبا قلابة يحدث، عن أنس قال: "السُّنَّة إذا تزوج الرجل البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". حدثنا أبو أُمية، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبيّ، قال: ثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس قال: "للبكر سبع، وللثيب ثلاث". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس قال: "سنَّة البكر سبع والثيب ثلاث". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا حميد، عن أنس قال: "إذا تزوج الرجل البكر وعنده غيرها فلها سبع ثم يقسم، وإذا تزوج الثيب فثلاث ثم يقسم".

حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حميد قال: سمعت أنسًا يقول مثل ذلك وزاد أنه قال: "ولو قلت: إنه رفع الحديث لصدقت، ولكنه قال: السُّنة كذلك". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حميد، قال: ثنا أنس بن مالك: "أن رسول الله -عليه السلام- لما أصاب صفية بنت حيي واتخذها أقام عندها ثلاثاً". ش: هذه عشر طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وسفيان هو ابن عُيينة، وأيوب هو السختياني، وأبو قلابة: عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "من السُّنة أن يقيم عند البكر سبعاً". قال سفيان: ولو شئت قلت: رفعه إلى النبي -عليه السلام-. وأخرجه البخاري معلقًا (¬2) وقال الترمذي (¬3): حديث أنس حديث حسن صحيح، وقد رفعه محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، ولم يرفعه بعضهم. وأخرجه ابن ماجه في "سننه" (¬4): عن هناد بن السري، ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "للثيب ثلاث وللبكر سبع". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1084 رقم 1461). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2000 رقم 4916). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 445 رقم 1139). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 617 رقم 1916).

وأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" أيضًا مرفوعًا: ثنا عمران، ثنا عثمان، ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "للبكر سبع وللثيب ثلاث". ورواه ابن خزيمة وابن حبان (¬1) في "صحيحيهما": من حديث عبد الجبار، عن سفيان، ثنا أيوب ... فذكره مرفوعًا. ورواه الدارقطني في "الغرائب والأفراد" وقال: تفرد به عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان بن عُيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة، وفيه: "ثم يعود إلى نسائه". وأخرجه ابن حزم (¬2) أيضًا مرفوعًا: ثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي: قاسم بن محمد بن قاسم، ثنا جدي: ابن قاسم بن أصبغ، ثنا أبو قلابة هو عبد الملك بن يزيد الرقاشي، ثنا أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد، ثنا سفيان الثوري، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء كلاهما، عن أبي قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً". وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يرفع حديث خالد، عن أبي خالد، عن أبي قلابة، عن أنس في هذا غير أبي عاصم فيما زعموا، وأخطأ فيه، وأما حديث أيوب عن أبي قلابة فمرفوع لم يختلفوا في رفعه. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬3): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن خالد، عن ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (10/ 8 رقم 4208). (¬2) "المحلى" (10/ 63). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1084 رقم 1461).

أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: "إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا". قال خالد: ولو قلت: إنه رفعه لصدقت، ولكنه قال: "السُّنة كذلك". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، نا بشير، قال: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس: ولو شئت أن أقول: قال النبي -عليه السلام-، ولكن قال: "السُّنة إذا تزوج بالبكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". وأخرجه الترمذي (¬2): عن يحيى بن خلف، عن بشر، عن خالد ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن أبي أُميَّة محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان، عن أبي قلابة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا يوسف بن راشد، ثنا أبو أسامة، عن سفيان، ثنا أيوب وخالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "من السُّنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي -عليه السلام-". الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن مالك بن أنس، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4): عن حميد الطويل، عن أنس أنه كان يقول: "للبكر سبع، وللثيب ثلاث". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2000 رقم 4915). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 445 رقم 1139). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2000 رقم 4916). (¬4) "موطأ مالك" (2/ 530 رقم 1103).

السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك وحميد الطويل، عن أنس. وأخرجه ابن وهب في "مسنده" عن مالك نحوه. السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث أبي قلابة وحميد، عن أنس قال: "للبكر سبعة أيام، وللثيب ثلاثة أيام". الثامن: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنس. وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا: من حديث حميد، عن أنس: "إذا تزوج بكرًا فلها سبع ثم يقسم، وإن كانت ثيبًا أقام عندها ثلاثًا ثم يقسم". التاسع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك. وأخرجه النسائي نحوه. العاشر: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حميد، عن أنس قال: "لما أصاب ... " إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا وهب بن بقية وعثمان بن أبي شيبة، عن هشيم، عن حميد، عن أنس قال: "لما أخذ رسول الله -عليه السلام- صفية أقام عندها ثلاثاً". زاد عثمان: وكانت ثيبًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 302 رقم 14541). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 302 رقم 14542) (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 240 رقم 2123).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا تزوج الثيب أنه بالخيار إن شاء سبّع لها وسبّع لسائر نسائه، وإن شاء أقام عندها ثالثًا ودار على بقية نسائه يومًا وليلة ليلة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي، وعامرًا الشعبي، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وأبا عُبيد، فإنهم قالوا: إذا تزوج الرجل الثيب أنه بالخيار، إن شاء سبّع لها وسبّع لسائر نسائه، وإن شاء أقام عندها ثلاث ليالٍ ودار على بقية نسائه يومًا يومًا, وليلةً ليلة. تحقيق مذاهب العلماء ها هنا ما ذكره ابن حزم فقال: إذا تزوج الرجل بكرًا حرة أو أَمَة أو كتابية وله امرأة أخرى حرة أو أمَة فعليه أن يخص البكر بمبيت سبع ليال عندها، ثم يقسم فيعدل ولا يحاسب بتلك السبع ولا بشيء منها، فإن تزوج ثيبًا حرة أو أَمة وعنده زوجة أخرى حرة أو أَمة مسلمة أو كتابية فله أن يخصها بمبيت ثلاث ليال ثم يقسم ويعدل ولا يحاسبها بتلك الثلاث، فإن زاد على الثلاث أقام عند غيرها كما أقام عندها سواء بسواء ويسقط حكمها في التفضيل، ثم استدل على ذلك بما روي عن أنس المذكور، ثم قال: وبه يقول أنس بن مالك، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو سليمان، وذهبت طائفة إلى غير ذلك، وهو أن للبكر ثلاث ليال وللثيب ليلتان روينا ذلك عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنه سأل عطاء عن ذلك فقال عطاء: يؤثرون عن أنس بن مالك أنه قال: "للبكر ثلاث وللثيب ليلتان". ومن طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن قال: "للبكر [ثلاث] (¬1) وللثيب ليلتان". ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: "يمكث عند البكر ثلاثًا ثم يقسم، وعند الثيب يومين ثم يقسم"، وهو قول خلاس بن عمرو، وسفيان الثوري، والأوزاعي. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى" (10/ 64).

فقالت طائفة: لا يقيم عند الثيب والبكر إلاَّ ما يقيم عند غيرها ممن عنده، وهو قول الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة وأصحابه. ص: واحتجوا فيما ذكروا بهذا الحديث وبحديث أم سلمة -رضي الله عنها-. حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: "لما بني رسول الله -عليه السلام- بأم سلمة قال لها: ليس [بك] (¬1) على أهلك هوان؛ إن شئت سبعت لك وإلَّا فثلثت ثم أدور". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن هو ابن الحارث: "أن رسول الله -عليه السلام- حين تزوج أم سلمة فأصبحت عنده قال: ليس بك هوان على [أهلك] (¬2) إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ثم درت [قالت] (¬3): ثلث". حدثنا أبو أُميَّة، قال: نا علي بن عبد الله بن جعفر، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا محمد بن أبي بكر، قال: حدثني عبد الملك بن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة: "أن النبي -عليه السلام- قال لأم سلمة حين تزوجها: ما بك [على أهلك] (¬4) هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "ذلك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قالوا: فلما قال رسول الله -عليه السلام-: إن شئت سبعت لك، وإلَّا فثلثت ثم أدور، دل ذلك أن الثلاث حق لها دون سائر النساء. ش: أي أجمع هؤلاء القوم فيما ذكروا من الصورة بحديث أنس المذكور، واحتجوا أيضًا بحديث أم سلمة، وأخرجه من أربع طرق الثلاثة الأولى مرسلة منقطعة: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني، عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة قيل: اسمه محمد وقيل: اسمه كنيته، وهو الصحيح. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا منقطعًا: نا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن عبد الرحمن بن حميد، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن: "أن رسول الله -عليه السلام- حين تزوج أم سلمة فدخل عليها فأراد أن يخرج أخذت بثوبه، فقال رسول الله -عليه السلام-: "إن شئت زدتك وحاسبتك به، البكر سبع وللثيب ثلاث". قوله: "ليس بك على أهلك هوان" معناه ليس يلحقك هوان ولا يتعلق بك بل يوفي حقك من المقام والتأنيس به، وذلك لما أخذت بثوبه -عليه السلام- حين أراد الخروج، فهم منها استقلال مقامه عندها والاستكثار منه، فبين لها ما لها وما عليها من ذلك، وأنه إن زادها على حقها وجب أن يزيد لنسائه فيطول عليها مغيبه، فآثرت القنوع بحقها من الثلاث ثم تعطي من بعدها أيامهن المعلومة ثم يرجع إليها فيقرب ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1083 رقم 460).

رجوعه إليها ونوبتها منه، والمراد بأهلك هنا نفسه -عليه السلام-، أي: لا أفعل فعلاً يظهر به هوانك عليّ أو تظنيه بيّ. قوله: "إن شئت سبعت لك، وإلَّا فثلثت ثم أدور" وفي بعض طرقه: "إن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث"، وفي بعض طرقه: "إن شئت أن أسبع لك وأسبع لنسائي وإن سبعت لك سبعت لنسائي". قوله: "سبعت لك" أي أقمت عندك سبعًا. قوله: "فثلثت" أي أقمت عندك ثلاثًا، وقد اشتقوا فعل من الواحد إلى العشرة، يقال: وَحَّدَ وثنّى وثلّث وربّع وخمَّس وسدّس وسبّع وثمّن وتسّع وعشّر. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- حين تزوج أم سلمة وأصبح عندها قال: ليس بك على أهلك هوان، "إن شئت سبّعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت؟ " فقالت: ثلث". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن: "أن رسول الله -عليه السلام- حين تزوج ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 529 رقم 1102). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1083 رقم 1460).

أم سلمة وأصبحت عنده فقال: ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك وإن شئت ثلثت ثم درت؟ قالت: ثلث". قال أبو عمر -رحمه الله-: هذا حديث ظاهر الانقطاع، وهو متصل بسند صحيح قد سمعه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن أم سلمة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لها: إن شئت سبعت لك وإن أسبع لك أسبع لنسائي". قلت: هذا مما تتبعه الدارقطني على مسلم، وقال أبو عمر: من قال بحديث هذا الباب قال: إن أقام عند البكر أو الثيب سبعًا أقام عند سائر نسائه سبعًا، وإن أقام عندها ثلاثًا أقام عند كل واحدة منهن ثلاثًا ثلاثًا، وتأولوا في قوله: "وإن شئت ثلثت ودرت" أي درت بثلاث ثلاث على سائرهن، وهو قول فقهاء الكوفيين، وفي هذا الباب عجب لأنه صار فيه أهل الكوفة إلى ما رواه أهل المدينة، وصار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل البصرة. الرابع: مسند متصل، عن أبي أُميّة محمد بن مسلم بن إبراهيم الطرسوسي، عن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن حاتم ويعقوب بن إبراهيم -واللفظ لأبي بكر- قالوا: نا يحيى بن سعيد، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. قوله: "وقالوا" أي القوم المذكورين إن قوله -عليه السلام-: و"إلَّا فثلثت ثم أدور" يدل أن الثلاث حق لها دون سائر النساء. ¬

_ (¬1) سبق ذكره.

وقال عياض في قوله: "أدور" أو "درت" حجة لمن ذهب أن القسم لا يكون إلاَّ يوما وإليه ذهب ابن المنذر، وهو قول مالك، وذهب الشافعي إلى جواز قسمه بينهن ثلاثًا ثلاثًا، ويومين يومين، ولم يختلفوا إذا كان القسم أكثر من يومين بتراضيهن أجمع أنه جائز. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن ثلث لها ثلث لسائر نسائه، كما إذا سبع لها سبع لسائر نسائه، واحتجوا في ذلك بحديث أم سلمة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لها: إن سبعت عندك سبعت عندهن". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لها لما بنى بها وأصبحت عنه: لئن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو والقاسم بن محمد بن عبد الرحمن. أخبراه، أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن يخبر عن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- أنها أخبرته فذكرت عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، فإنهم قالوا: إن ثلث للثيب التي تزوجها ثلث أيضًا لسائر نسائه كما إذا سبع للبكر سبع لسائر نسائه أيضًا، واحتجوا

في ذلك بقوله -عليه السلام- لأم سلمة: "إن سبعت عندك سبعت عندهن". وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه عمر بن أبي سلمة، عن أم سلمة أن رسول الله -عليه السلام-. قد ذكرنا في باب "النكاح بغير ولي" أن عمر بن أبي سلمة من الصحابة، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الأسد، وهو أيضًا صحابي جليل، وهذه الطرق الثلاث قد مرت هناك بعينها بهؤلاء الرجال؛ لأن هذا الحديث الذي أخرجه ها هنا من بقية الحديث الذي أخرجه هناك. وذكرنا هناك أن أحمد أخرجه في "مسنده" (¬1): بهذا الطريق مطولاً، وفي آخره قال: "ثم بني بأهله، ثم قال: إن شئت أن أسبع لك وسبَّعت للنساء". وقد ذكرنا أن ابن عمر هذا يحتمل أن يكون محمدًا؛ لأن يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري روى عن عبد الرحمن بن محمد بن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن جده أحاديث. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ البخاري -عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا أبو سلمة الكشي، قال: ثنا أبو عمر الضرير، نا حماد بن سلمة، عن ثابت، قال: أخبرني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة "أن رسول الله -عليه السلام- قال لها حين تزوج بها: إن شئت أسبع لك سبعت لك ثم سبَّعت لسائر نسائي". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 313 رقم 26711). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 250 رقم 506).

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن سليمان بن المغيرة القيسي روى له الجماعة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي، ثنا حماد، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة مطولاً، وفي آخره: "فقال [لها] (¬2): إن شئت أن أسبع لك كما سبعت للنساء". الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أحمد بن صالح المعروف بابن الطبري شيخ البخاري، عن عبد الرزاق، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار روى له الجماعة، عن عبد الحميد بن عبد الله ابن أبي عمرو بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي هذا الحديث فقط. وأخرجه الطبراني مطولًا (¬3): نا إسحاق بن إبراهيم، نا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني حبيب أن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو والقاسم بن محمد بن عبد الرحمن، أخبراه أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن يخبر أن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- أخبرته: "أنها لما قدمت المدينة أخبرتهم أنها بنت أُميَّة بن المغيرة فكذبوها ويقولون: ما أكذب الغرائب؟! حتى أنشأ ناس منهم إلى الحج فقالوا: تكتبين إلى أهلك؟ فكتبت معهم، فرجعوا إلى المدينة فصدقوها وازدادت عليهم كرامة، قالت: فلما وضعت زينب جاءني النبي -عليه السلام- فخطبني فقلت: ما مثلي تنكح، أما أنا فلا ولد فيَّ، وأنا غيور ذات عيال، قال: أنا أكبر منك، وأما المغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله ورسوله، فتزوجها فجعل يأتيها فيقول: كيف زناب، أين زناب؟ حتى جاء ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (12/ 334 رقم 6907). (¬2) في "الأصل، ك": "لأهلها"، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أبي يعلى". (¬3) "المعجم الكبير" (23/ 273 رقم 585).

عمار بن ياسر يومًا فاختلجها وقال: هذه تمنع رسول الله -عليه السلام- وكانت ترضعها، فجاء النبي -عليه السلام- فقال: أين زناب؟ قالت قُرَيْبَة بنت أميَّة -ووافقها عندها-: أخذها عمار بن ياسر، فقال النبي -عليه السلام-: أنا آتيكم الليلة، قالت: فقمت فوضعت ثفالي، وأخرجت حبات من شعير كانت في جرٍّ وأخرجت شحمًا فعصدته له، قال: فبات النبي -عليه السلام- ثم أصبح فقال: إن بك على أهلك كرامةً، وإن شئت سبَّعت وإن أسبِّع أسبع لنسائي". وأخرجه البيهقي (¬1) أيضًا نحوه. قوله: "حتى أنشأ ناس منهم إلى الحج". أي خرج ناس منهم إلى مكة لقصد الحج. قوله: "كيف زناب؟ " أراد بها زينب بنت أم سلمة. قوله: "فاختلجها". أي جذبها ونزعها. قوله: "قُرَيْبَة بنت أبي أُميَّة". بالقاف والراء، وهي قُرَيْبَة بنت أبي أميَّة بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية الصحابية. قوله:"ثمالي" (¬2). ص: قالوا: فلما قال لها رسول الله -عليه السلام-: "إن سبعت لك سبعت لنسائي" أي أعدل بينك وبينهن فأجعل لكل واحدة منهن سبعًا كما أقمت عندك سبعًا؛ كان كذلك أيضًا إذا جعل لها ثلاثًا جعل لكل واحدة منهن كذلك أيضًا. ش: أي قال هؤلاء الآخرون: لما قال النبي -عليه السلام- لها -أي أم سلمة- "إن سبعت لك سبعت لنسائي" معناه: أعدل بينك وبينهن ... إلى آخره. وقال محمد بن ¬

_ (¬1) "سنن الكبرى" (7/ 301 رقم 14537). (¬2) كذا في "الأصل، ك": ثمالي -بالميم- وبيض لها المؤلف، ولم يذكر معناها، وفي "معجم الطبراني الكبير"، و"سنن البيهقي الكبرى": ثفالي -بالفاء-، وفي "النهايه لابن الأثير" (1/ 215): الثفال جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق.

الحسن: قوله: "وإن شئت ثلثت ثم درت" معناه بمثل ذلك أدور ثلاثًا ثلاثًا، فلم يعطها في السبع شيئًا إلاَّ أعلمها أنه يعطي غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن، ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسمة لها لوجب إذا سبَّع عندها أن يربِّع لغيرها من نسائه. وقال الخطابي: قوله: "إن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي" لا حجة فيه لسقوط حقها إذا لم يسبِّع لها وهو الثلاث، ولو كان ذلك لم يكن للتخيير معنى؛ إذ لا يخير الإِنسان بين جميع الحق وبعضه، ولم يختلفوا أنه إذا سبع أنه يسبع لبقية نسائه، وبه قال الشافعي وأحمد. قلت: معنى قوله: "إن سبعت لك" هو ما ذكره الطحاوي، وبه يدفع ما قاله الخطابي. ص: فقال أصحاب المقالة الأول: فما معنى قوله: ثم أدور؟ قيل لهم: يحتمل ثم أدور بالثلاث عليهن جميعًا؛ لأنه لو كانت الثلاثة حقًّا لها دون سائر النساء لكان إذا أقام عندها سبعًا كان ثلاثة منهن غير محسوبة عليها, ولوجب أن يكون لسائر النساء أربع أربع، فلما كان الذي للنساء إذا أقام عندها سبعًا، سبعًا لكل واحدة منهن، كان كذلك إذا أقام عندها ثلاثًا فلكل واحدة منهن ثلاث، ثلاث. هذا هو النظر الصحيح مع استقامة تأويل هذه الآثار عليه. ش: هذا السؤال على التفسير الذي ذكره بقوله: "أن أعدل بينكن ... إلى آخره" بيانه إذا كان المعنى على ما ذكرتم فما معنى: "ثم أدور"؛ لأنه لم يبق له حينئذٍ فائدة؛ لأن معناه: إن سبعت لك سبعت لغيرك أيضًا، وإن لم أسبع لك وثلثت أدور عليهن بيوم يوم. والجواب أن المعنى: أعدل بينك وبينهن، فإذا سبعت لك سبعت لكل واحدة منهن غيرك، وإن ثلثت لك أدور بالثلاث عليهن جميعًا. فافهم. والله أعلم.

ص: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي النظر الصحيح هو قول أبي حنيفة وصاحبيه. واحتجت أصحابنا أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط". أخرجه الترمذي (¬1) وأبو داود (¬2) ولفظه: "مَنْ كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". والنسائي (¬3)، ولفظه: "يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل". وبحديث عائشة أيضًا قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب. أخرجه الأربعة (¬4)، وذكر الترمذي والنسائي أنه روي مرسلاً، وقال الترمذي: إن المرسل أصح، وجه الاستدلال بهذا: أن قوله: "إذا كانت عند الرجل امرأتان" لفظ عام يتناول البكر والثيِّب، والشابة والعجوز، والقديمة والحديثة، والمسلمة والكتابية فحينئذٍ يستوي هؤلاء كلهن في القسم. وأما إذا كانت إحداهما حرَّةً والأخرى أمة فللحرة يومان وللأمَة يوم، روي ذلك عن علي -رضي الله عنه- وقال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء؛ لأنهن حرائر، فلا فرق بينهن في أحكام الأزواج، وروينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: "إذا تزوج الحر الحرة على الأَمة قسم للحرة يومين وللأمة يومًا". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 447 رقم 1141). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 242 رقم 2133). (¬3) "المجتبى" (7/ 63 رقم 3942). (¬4) الترمذي (3/ 446 رقم 1140)، وأبو داود (2/ 242 رقم 2134)، والنسائي (7/ 63 رقم 3943)، وابن ماجه (1/ 633 رقم 1971).

وبه قال سعيد بن المسيب، ومسروق، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبُيد، وأبو ثور. وذكر أبو عُبيد أن هذا قول الثوري، والأوزاعي، وأهل الرأي. وقال مالك: إذا تزوج العبد حرةً وأمةً عدل بينهما بالسوية، وقال الكوفيون: يقسم بينهما كما يقسم الحر. وبه قال أبو ثور. وكان أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، يقولون: الصحيح والمريض والعنين والخصي والمجبوب في القسم سواء. وكان الشافعي يقول في المرأة تثقل: لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفي من بقي من نسائه مثل ما أقام عندها، وبه قال أبو ثور. وقال الكوفيون: ما مضى هدرٌ، ويستقبل العدل فيما يستقبل. وقال مالك: الصغيرة التي جومعت والبالغ سواء. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: الحائض والنفساء والمريضة والمجنونة لا يتمتع بها والصحيحة سواء في القسم. والله أعلم. ***

ص: باب: العزل

ص: باب: العزل ش: أي هذا باب في بيان عزل الرجل عن موطوءته وهو عزل الماء عنها حذر الحمل. يقال: عَزَل الشيء يعزله عزلا إذا نحَّاه وصرفه. ص: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: حدثتني جدامة قالت: "ذكر عند رسول الله -عليه السلام- العزل، فقال: ذاك الوأد الخفيّ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: أخبرني أبو الأسود، قال: ثنا عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب الأسدية، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة، عن أبي الأسود، أنه سمع عروة يحدث، عن عائشة، عن جدامة عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن محمد بن يونس بن مروان البصري، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن سعيد بن أبي أيوب الخزاعي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام-، عن جُدامة -بضم الجيم وبالدال المهملة- بنت وهب الأسدية الصحابية. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا عُبيد الله بن سعيد ومحمد بن أبي عمر، قالا: نا المقرىء، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب -أخت عكاشة- قالت: "حضرت رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1067 رقم 1442).

في أناسٍ وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذاك الوأد الخفي -زاد عُبيد الله في حديثه عن المقرىء- وهي: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (¬1) ". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن المدني، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب -أخت عكاشة- قالت: "حضرت رسول الله -عليه السلام- في ناسٍ وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أوالدهم ولا يضر أولادهم ذلك شيئًا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذاك الوأد الخفي وهو {الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1) ". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه العابد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة. وأخرجه الطبراني (¬3): من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. قوله: "ذاك". إشارة إلى العزل. والوأد من وأَدَهَا يئدها وأدًا فهي موءودة. وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزل عن المرأة بمنزلة الوأد إلاَّ أنه خفيّ؛ لأن من يعزل عن ¬

_ (¬1) سورة التكوير، آية: [8]. (¬2) "مسند أحمد" (6/ 434 رقم 27487). (¬3) "المعجم الكبير" (24/ 209 رقم 535).

امرأته إنما يعزل هربًا من الولد، ولذلك سمَّاه الموءودة الصغرى، والموءودة الكبرى هي التي تدفن وهي حيَّة، كان إذا ولد لأحدهم في الجاهلية بنت دفنها في التراب وهي حيَّة. قوله: "فإذا هم يغيلون" من أغال الرجل وأغيل وأصله من الغَيْل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل امرأته وهي موضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، والغِيلة -بالكسر- الاسم من الغَيْل، ويقال: من الغِيلة والغَيْلهّ بالكسر والفتح، وقيل: الكسر للاسم والفتح للمرة، وقيل: لا يصح الفتح إلاَّ مع حذف الهاء. وقال أبو عمر: قال مالك: الغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي موضع حملت أو لم تحمل، وقال الأخفش: الغيلة والغيل سواء، وهو أن تلد المرأة فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل، فإذا حملت فسد اللبن علي الصبي ويفسد به جسده وتضعف قوته. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكره قومٌ العزل لهذا الأثر المرويّ في كراهة ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والأسود بن يزيد وطاوس بن كيسان؛ فإنهم قالوا: العزل مكروه. وروي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وشدد فيه. وقال ابن حزم (¬1): وصح المنع منه عن جماعة كما روينا عن حماد بن سلمة، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع: "أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال: لو علمت أن أحدًا من ولدي يعزل لنكلته" قال علي: لا يجوز أن ينكل على شيء مباح عنده. ومن طريق الحجاج بن المنهال: نا أبو عوانة، عن عاصم بن بهدلة، عن زِرّ بن حبيش: "أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل". ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 71).

ورواه أيضًا (¬1) ابن حزم، عن ابن مسعود: "أنه قال في العزل: هي الموءودة الخفيَّة"، وعنه أيضًا: "أنه قال في العزل: هو الموءودة الصغرى". وعن أبي أمامة الباهلي "ما كنت أرى مسلمًا يفعله". وعن ابن عمر قال: "ضرب عمر -رضي الله عنه- على العزل بعض بنيه". وعن سعيد بن المسيب قال: "كان عمر بن الخطاب وعثمان يكرهان ذلك -أعني العزل" قال عليّ -رحمه الله-: سماع سعيد من عثمان صحيح. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا به بأسًا إذا أذنت الحرة لزوجها فيه، وإن منعته من ذلك لم يَسَعْه أن يعزل عنها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: لا بأس بالعزل ولكن عن الحرة بإذنها؛ لأن لها حقًّا حتى إذا منعت لا يسع له العزل. وقال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم في العزل. وقال مالك بن أنس: تستأمر الحُرة في العزل ولا تستأمر الأَمَة. وفي "سؤالات مهنَّى": سألت أحمد عن حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سوَّار الكوفي، عن ابن مسعود أنه قال: "يعزل الرجل عن أَمَته ولا يعزل عن الحُرة إلا بإذنها". فقال: كان يزيد يرويه عن هشام، قلت: من سوَّار هذا؟ قال: لا أدري، قلت: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: هذا الحديث شبه لا شيء، فقال أحمد: كذاك هو. وقال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن جمانة -أو أن جمانة- سُريَّة علي بن أبي طالب قالت: "كان علي يعزل عنا، فقلنا له، فقال: أحيي شيئًا أماته الله -عز وجل-؟! "، وقال ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 71).

عياض: وبكراهة العزل قال بعض الصحابة، وبإجازته قال كثير منهم ومن التابعين وفقهاء الأمصار. واختلفوا: هل للمرأة في ذلك حق؟ فرآه مالك والشافعي وأصحابهما حقًّا لها إذا كانت حرة ولا يعزل عنها إلا بإذنها، وكأنهم رأوا الإِنزال من تمام لذتها وحقها في الولد، ولم يروا ذلك لازمًا في الأَمَة. ص: وقد خالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: له أن يعزل عنها إن شاءت أو أبت. ش: أي وخالف القومين المذكورين جماعة آخرون في الحكم المذكور، وأراد بهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة، فإنهم قالوا: له أن يعزل عن امرأته إن شاءت أو أبتْ، وعن الحسن كراهته. وروي الجواز مطلقًا عن زيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص، وعن رافع بن خديج أيضًا وخبَّاب بن الأرت وأبي أيوب الأنصاري وأُبيّ بن كعب وعلي بن الحسين وأنس بن مالك وابن معقل وابن عباس والحسن بن علي بن أبي طالب وعلقمة. وسئل عنه ابن المسيب، فقال: هو حرثك، إن شئت أعطشته وإن شئت رويته. وكذا قال عكرمة. وكل ذلك ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1). ص: والقول الأول عندنا أصح القولين؛ وذلك أنا رأينا الزوج له أن يأخذ المرأة بأن يجامعها وإن كرهت ذلك، وله أن يأخذها بأن يفضي إليها ولا يعزل عنها، فكان له أن يأخذها بأن يفضي إليها في جماعه إياها كما يأخذها بأن يجامعها، وكان للمرأة أن تأخد زوجها بأن يجامعها، فكان لها أن تأخذه بأن يجامعها كما له أن يأخذها بأن يجامعها، وكان حق كل واحد منهما في ذلك على صاحبه سواء، وكان من حقه أن يفضي إليها في جماعه إن أحبت وإن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 511 رقم 16591).

كرهت هي ذلك، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك من حقها عليه أن يفضي إليها في جماعه إياها إن أحب ذلك أو كره. هذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: إنما قال أصح القولين مع أن المذكور ثلاثة أقوال؛ لأن القول الثالث هو الذي يقابل القول الأول، والقول الثاني يقابل القول الأول من وجه ويقابل الثالث من وجه، ففي الحقيقة القول الأول والثاني سواء في كراهة العزل، غير أن في القول الثاني شرطًا زائدًا وهو إذن الحرة، وهو الذي نص عليه الطحاوي بالصحة، وحاصل كلامه يشير إلى أن الحق مشترك بينهما, ولها حق في الولد وبالعزل يفوت ذلك، فإذا أذنت كانت راضية بفوات حقها. وهذا هو النظر والقياس في هذا الباب. ص: وللمولى في قولهم جميعًا عند من كره العزل أصلاً أن يجامع أمته ويعزل عنها في جماعه ولا يستأذنها في ذلك. ش: أي للمولى في قول أصحاب المقالات المذكورة جميعًا عند من كره العزل مطلقًا أن يعزل عن أمته من غير استئذان منها؛ لأن الأمَة ليس لها حق، فلا ضرر لها في العزل، إلاَّ ما روي عن أهل الظاهر من منع ذلك مطلقًا عن الحرة والأمَة جميعًا. فإن قيل: نفس النطفة من الرجل فيها روح، فبصرفها عن الرحم إتلاف لذلك الروح فتستوي فيه الحرة والأمَة لكونه يصير وأدًا. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الله -عز وجل- أوضح في كتابه وقت إمكان الوأد، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1) فأعلمنا الله -عز وجل- بذلك الوقت الذي تكون فيه الحياة في المخلوق من النطفة، فيجوز أن يوأد حينئذٍ فأما قبل ذلك كسائر الأشياء التي لا حياة لها: ألا ترى إلى قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنها لا تكون موءودة حتى ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، آية: [14].

تمر بالتارات السبع ثم تلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ...} إلى آخر الآية، على ما يجيء بيانه عن قريب، إن شاء الله تعالى. ص: وإن كان للرجل زوجة مملوكة فأراد أن يعزل عنها، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا قالوا في ذلك -فيما حدثني محمد بن العباس، عن علي بن معبد، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة-: الإذن في ذلك إلى مولى الأمَة، وقد روى أبو يوسف خلاف هذا القول. حدثني ابن أبي عمران، قال: حدثني محمد بن شجاع، عن الحسن بن زياد، عن أبي يوسف قال: الإذن في ذلك إلى الأمَة لا إلى مولاها -قال ابن أبي عمران: هذا هو النظر على أصول ما بني عليه هذا الباب؛ لأنها لو أباحت زوجها ترك جماعها كان من ذلك في سَعَةٍ ولم يكن لمولاها أن ياخد زوجها بأن يجامعها، فلما كان الجماع الواجب على زوجها، إليها أخذ زوجها به لا إلى مولاها كان كذلك الإِفضاء في ذلك الجماع الأخد به إليها لا إلى مولاها؛ فهذا هو النظر في هذا. ش: إذا تزوج الرجل أمَة فأراد أن يعزل عنها فالإذن في ذلك إلى مولاها عند أبي حنيفة، روى ذلك الطحاوي عن محمد بن العباس بن الربيع الغُبْري البصريّ، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقيّ نزيل مصر، عن محمد بن الحسن الشيباني، عن أبي يوسف يعقوب، عن أبي حنيفة. وروي عن أبي يوسف أن الإذن في ذلك إلى الأمَة لا إلى المولى. رواها الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن محمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة- عن الحسن بن زياد اللؤلؤي، عن أبي يوسف. ثم نقل الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أنه قال: الذي ذهب إليه أبو يوسف هو النظر والقياس على أصول ما بني عليه هذا الباب، وبيَّن ذلك بقوله: لأنها لو أباحت ... إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: وأنكر هؤلاء جميعًا الذين أباحوا العزل ما في حديث جدامة مما روت عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: "إنه الوأد الخفيّ"، ورووا عن رسول الله -عليه السلام- إنكار ذلك القول على من قاله، وذكروا في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله. (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي رفاعة، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- أتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل وأشتهي ما يشتهي الرجال، فإن اليهود يقولون: هي الموءودة الصغرى، فقال رسول الله -عليه السلام-: كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة، عن أبي سعيد، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عياش بن عقبة الحضرمي، عن موسى بن وردان، عن أبي سعيد الخدري قال: "بلغ رسول الله -عليه السلام- أن اليهود يقولون: إن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال رسول الله -عليه السلام-: كذبت يهود، وقال رسول الله -عليه السلام- لو أفضيت لم يكن إلاَّ بقدر". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرَّقام، قال: ثنا عبد الأعلى، عن محمد ابن إسحاق، ثنا محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن وأبي أمامة ابن سهل، عن أبي سعيد قال: "أقمتُ جارية لي بسوق بني قينقاع، فمرّ بي يهودي فقال: ما هذه الجارية؟ قلتُ: جارية لي، قال: أكنتَ تصيبها؟ قلت: نعم، قال: فلعل في بطنها منك سخلة؟ قال: قلت: إني كنتُ أعزل عنها، قال: تلك الموءودة الصغرى، قال: فأتيت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال: كذبت يهود كذبت يهود".

فهذا أبو سعيد حكى عن النبي -عليه السلام- إكذاب من زعم أن العزل موءودة. ش: أشار بهؤلاء إلى أهل المقالة الثالثة الذين أباحوا العزل مطلقًا. وقوله: "الذين أباحوا العزل" بدل من قوله: "هؤلاء". وقوله: "ما في حديث جدامة" في محل النصب؛ لأنه مفعول لقوله: "أنكر هؤلاء"، والحاصل أنهم أنكروا خبر جدامة بنت وهب الذي يخبر أن العزل هو الوأد الخفي، وقالوا: يردّه خبر أبي سعيد الخدري، حيث يخبر في حديثه عن النبي -عليه السلام- أنه أكذب مَنْ زعم أن العزل هو الوأد الخفي. وقد قال ابن حزم ها هنا بعكس هذا، حيث يقول: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمَة، بُرْهان ذلك حديث جدامة، قال: وهو في غاية الصحة. قال: واحتج مَنْ أباحه بخبر أبي سعيد الذي فيه: "لا عليكم أن لا تفعلوا" قال: وهذا إلى النهي أقرب، وكذا قاله ابن سيرين. واحتجوا بتكذيب النبي -عليه السلام- قول يهود، وبأخبار أُخَر لا تصح، ويعارضها كلها خبر جدامة، وقد علمنا بيقين أن كل شيء أصله الإباحة حتى ينزل التحريم، فصح أن خبر جدامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك أنها قبل البعث، وبعد البعث وهذا أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر -عليه السلام- أنه الوأد الخفيّ والوأد محرمٌ، فقد نسخ الإباحة المتقدمة، وبطل قول من ادَّعى غيره. انتهى. قلت: قال الطحاوي في غير هذا الموضع: هذا جواب عما ذكره ابن حزم، وهو أنه يحتمل أن خبر جدامة لما كان عليه الناس من موافقة أهل الكتاب ما لم يحدث الله -عز وجل- ناسخه، ثم إن الله -عز وجل- أعلمه بكذبهم، وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، فأعلم أمته -عليه السلام- بكذبهم وأباح لهم العزل على ما في حديث أبي سعيد، وأن الله -عز وجل- إذا أراد شيئًا لا يمكن وقوع غيره، وبمعناه قال أبو الوليد بن رشد. وقال ابن العربي: خبر جدامة مضطرب، قال: وقد قال قومٌ: إن ذلك كان قبل أن يبيِّن الله له جواز ذلك، فكان يتبع اليهود فيما لم يتبيَّن له فيه شرع، وهذا

سقط عظيم؛ فإنه إنما كان يحب موافقتهم فيما لم ينزل عليه فيه شيء مما لم يكن من كذبهم وتبديلهم، وقد صرَّح ها هنا -عليه السلام- بقوله: "كذبت يهود" فكيف يصح أن يكون معهم على كذبهم ويخبر به ثم يكذبهم فيه؟! هذا محال عقلاً لا يجوز على الأنبياء -عليهم السلام-. فإن قيل: ذكروا أن جدامة أسلمت عام الفتح فحينئذٍ يكون حديثها متأخرًا، فيكون ناسخًا لحديث أبي سعيد وغيره. قلت: ذكروا هذا، وذكروا أنها أسملت قبل الفتح، قال عبد الحق: هو الصحيح، ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد من خمس طرق: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري المدنيّ -وكلهم ثقات أئمة كبارٌ- وهو يروي عن أبي رفاعه، ويقال له: رفاعه أيضًا، ويقال له أيضًا: أبو مطيع بن عوف أحد بني رفاعة بن الحارث، وقد وقع الإِسمان في رواية الطحاوي كما ترى، وهما: أبو رفاعة وأبو مطيع بن عوف وهو أبو مطيع بن رفاعة. وقال الحافظ المنذري: قد اختلف على يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث، فقيل: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2). وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي رفاعة، عن جابر. وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رفاعة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 442 رقم 1136). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 34 رقم 9078).

وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة. وقيل فيه: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قلت: المذكور في حديث أبي سعيد: عن رفاعة، وعن أبي رفاعة، وعن أبي مطيع، عن رفاعة. أما عن رفاعة، فأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، قال: نا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدَّثه، أن رفاعة حدَّثه، عن أبي سعيد الخدريّ أن رجلاً قال: "يا رسول الله، إن لي جاريةً وأنا أعزل عنها، فأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تُحَدِّثُ أن العزل موءودة صغرى، قال: كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه". وأما عن أبي رفاعة فقد أخرجه الطحاوي من طريقين: أحدهما: ما ذكر. والثاني: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن أبي رفاعة، عن أبي سعيد الخدري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): أيضًا نحوه فقال: عن أبي رفاعة. وأما عن أبي مطيع بن رفاعة فأخرجه الطحاوي أيضًا وهو الطريق الثالث عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة، عن أبي سعيد، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 252 رقم 2171). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 341 رقم 9079).

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات أبيه: ثنا أبي (¬1) قال: ثنا وكيع، نا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي مطيع ابن رفاعة، عن أبي سعيد الخدري قال: "قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، -قال أبي: وكان في كتابنا: أبو رفاعة بن مطيع، فغيَّره وكيع وقال: عن أبي مطيع بن رفاعة- فقال النبي -عليه السلام-: "كذبت يهود، إن الله لو أراد أن يخلق شيئًا لم يستطع أحد أن يصرفه". وأخرجه النسائي (¬2) وفي روايته: أبو مطيع بن عوف الأنصاري، عن أبي سعيد. الطريق الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عيَّاش -بتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- بن عقبة الحضرمي، عن موسى بن وردان القرشي العامري المصري- بن العاص مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد. وهذا إسناد مصري صحيح، ورواته كلهم ثقات مصريون. وأخرجه البزَّار في "مسنده": نا عبدة بن عبد الله، أنا زيد بن الحباب، أنا عياش بن عقبة الحضرمي، حدثني موسى بن وردان، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "يا رسول الله -عليه السلام-، إن اليهود يقولون: إن العزل: الموءودة الصغرى، فقال: كذبت يهود" ولا نعلم روى موسى بن وردان عن أبي سعيد إلاَّ هذا الحديث، وموسى بن وردان مدني صالح الحديث، وموسى بن وردان روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وإنما روى عنه محمد بن أبي حميد أحاديث منكرة، فأما هو فلا بأس به. ¬

_ (¬1) هذا الحديث ليس من زيادات عبد الله عن أبيه، إنما رواه عن أبيه كما هنا وفي "مسند أحمد" (3/ 33 رقم 11306). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 341 رقم 9080).

قلت: موسى بن وردان مصري ولكن أصله مدني، والبزار إنما قال: مدني باعتبار أصله، ولكن عِداده في المصريين. الطريق الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن الوليد الرَّقام شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق المدني، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث القرشي التيمي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي أمامة أسعد -أو سعيد- بن سهل بن حنيف الأنصاري، كلاهما عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا سلمة بن الفضل، نا الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبايا بني المصطلق، فأصابني شيء منها -أو شيء منهم- فكنت أعزل عنها لأبيعها، فلقيني رجل من اليهود فقال: ما هذا يا أبا سعيد، أتبيعها؟ قلت: نعم، قال: فلعلك تبيعها وفي بطنها نسمة منك؟ قلت: إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الموءودة الصغرى، فأتيت رسول الله -عليه السلام-أحسبه قال-: فذكرت له ذلك، فقال -عليه السلام-: كذبتْ يهود، كذبت يهود". وحدثنا يوسف بن موسى، ثنا سلمة بن الفضل، نا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك. وحديث أبي إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد أصح من حديث الحجاج؛ لأن الحجاج عندي لم يسمع من محمد بن إبراهيم. وأخرجه ابن أي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عنهما ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 512 رقم 16608).

جميعًا، عن أبي سعيد الخدري قال: "لمَّا أصبنا سبي بني المصطلق استمتعنا من النساء وعزلنا عنهن، ثم إني وقعت على جارية في سوق بني قينقاع، فمرَّ بي رجل من يهود فقال: ما هذه الجارية ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "وأشتهي ما يشتهي الرجال" أي ما يشتهيه الرجال، وأراد به الجماع. قوله: "هي الموءودة الصغرى" أي العزل هي الموءودة الصغرى، والموءودة الكبرى هي أن تدفن البنت وهي حيَّة، وإنما سمي العزل الموءودة الصغرى؛ لأنه بمنزلة الولد إلاَّ إنه خفي؛ لأن مَنْ يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد، وإنما أنَّث الضمير وإن كان يرجع إلى العزل باعتبار الموءودة. قوله: "لو أفضيت لم يكن إلاَّ بقدر". معناه: لو باشرته وجامعته لم يكن الولد إلاَّ بقدر من الله تعالى، وهو من قولك: أفضى الرجل إلى امرأته إذا باشرها وجامعها. قوله: "بسوق بني قينقاع". هو سوق مشهور من أسواق العرب، وفي "المطالع": بني قينُقاع بضم النون وكسرها وفتحها، وهم شِعب من يهود المدينة أضيفت إليهم السوق. قوله: "سَخلة". بفتح السين وسكون الخاء المعجمة، وهي في الأصل ولد الغنم، ولكن أريد بها ها هنا النَّسَمَة كما جاء كذلك في رواية البزار. ص: ثم قد روي عن علي -رضي الله عنه- دفع ذلك والتنبيه على فساده بمعنى لطيف حسن: حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني معمر بن أبي حُيَيَّة، عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار قال: "تذاكر أصحاب رسول الله -عليه السلام- عند عمر -رضي الله عنه- العزل فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار فكيف بالناس بعدكم؟! إذ تناجى رجلان، فقال عمر -رضي الله عنه- ما هذه المناجاة؟ قالا: إن اليهود تزعم أنها الموءودة

الصغرى، فقال علي -رضي الله عنه-: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ...} (¬1) إلى آخر الآية". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حُيَيَّة قال: سمعت عُبيد بن رفاعة الأنصاري قال: "تذاكر أصحاب رسول الله -عليه السلام- العزل ... " ثم ذكر مثله وزاد: "تعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا". فأخبر علي -رضي الله عنه- أنه لا موءودة إلاَّ ما قد نُفخ فيه الروح قبل ذلك، وأما ما لم ينفخ فيه الروح فإنما هو مواتٌ غير موءودة. وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا نظير ما قد ذكرنا عن علي -رضي الله عنه-: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الأعمش، عن أبي الودَّاك: "أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام علي سواءً". فهذا علي وابن عباس -رضي الله عنهم- قد اجتمعا في هذا على ما ذكرنا، وتابع عليًّا على ما قالَ عمرُ -رضي الله عنه- ومن كان بحضرتهما من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، ففي هذا دليل أن العزل غير مكروه من هذه الجهة. ش: أي: ثم قد روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- دفع ما روي عن جدامة بنت وهب والتنبيه على فساده؛ وذلك لأن عليًّا -رضي الله عنه- قد بيَّن في حديثه أن الموءودة لا تكون إلاَّ فيما نفخ فيه روحٌ، وأما ما لم تنفخ فيه الروح فإنه في حكم الجماد والموات فلا تكون موءودة، وكذلك قال ابن عباس لما سئل عن العزل وكفى بواحد منهما حجة، فكيف إذا اجتمعا على قضية واحدة فإنه لا يعدل عنها, ولا سيما وقد تابع عليًّا عمرُ بن الخطاب على ما قاله علي، وكذلك من كان بحضرتهما من الصحابة، فصار ذلك كالإجماع على أن العزل غير مكروه من هذه الجهة. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، آية: [12].

ثم إنه أخرج حديث علي -رضي الله عنه- من طريقين: الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي روى له مسلم وابن ماجه، عن الليث بن سعد، عن معمر بن أبي حيَيَّة -بياء مكررة آخر الحروف على صورة التصغير، ويقال: معمر بن أبي حيَّة على صورة التكبير، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له الترمذي حديثًا واحدًا عن سعيد بن المسيب، عن عمر في الصوم في السفر. عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ القرشي النوفلي المدني -وُلد في زمن النبي -عليه السلام- وكان من فقهاء قريش، قال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. والثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقرئ القصير شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة البصري فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن معمر بن أبي حيَيَّة، عن عُبيد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي الأنصاري -ذكره في "الكمال" في الصحابة، وذكره ابن حبان في التابعين الثقات. قوله: "وأنتم أهل بدر". جملة حاليَّة. قوله: "الأخيار". بالرفع؛ لأنه صفة للأهل في قوله: "أهل بدر" وهو جمع خيِّر بتشديد الياء. قوله: "إذ تناجى رجلان". أي تساررا في الكلام، أراد أنهما تكلما فيما بينهما خفية. قوله: "حتى تمر بالتارات السبع" أراد بها الأحوال السبع، وهي أن تكون أولاً نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، ثم لحمًا، ثم تنفخ فيه الروح، ثم يظهر في

الوجود ويستهلّ، فلا تكون موءودة إلاَّ بعد مرورها على هذه الأحوال السبع، ولقد بيَّن الله تعالى هذه الأحوال في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (¬1). وأخرج حديث ابن عباس بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي الكوفي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الحسين، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الملك الزراد، عن مجاهد "سألنا ابن عباس [عن العزل] (¬3) فقال: اذهبوا فسلوا الناس ثم ائتوني وأخبروني، فسألوا فأخبروه، فتلا هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} حتى [فرغ منها] (¬4) ثم قال: كيف تكون من الموءودة حتى تمر على هذا الخلق". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في العزل أيضًا ما حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أسباط، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري قال: "لما افتتح رسول الله -عليه السلام- خيبر أصبنا نساءً، فكنا نطؤهنَّ فنعزل عنهن، فقال بعضنا لبعض: أتفعلون هذا ورسول الله -عليه السلام- إلى جنبكم فلا تسألونه؟! فسألوه عن ذلك، فقال: ليس مِنْ كل الماء يكون الولد، إن الله -عز وجل- إذا أراد أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء، فلا عليكم أن لا تعزلوا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبَّان، أن ابن محيريز حدَّثه، أن أبا سعيد حدَّثه: "أن بعض الناس كلموا رسول الله -عليه السلام- في شأن العزل، وذلك لشأن غزوة بني ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، آية: [12]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 230 رقم 14099). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬4) في الأصل: "فرغها، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".

المصطلق فاصابوا سبايا وكرهوا أن يلِدْن منهم، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما عليكم أن لا تعزلوا؛ فإن الله -عز وجل- قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري: "أنهم أصابوا سبايا أوطاس، فأرادوا أن يستمتعوا منهن فلا يحملن، فسألوا النبي -عليه السلام- عن ذلك، فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله -عز وجل- قد كتب (ما) (¬1) هو خالق إلى يوم القيامه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن محيريز الجمحي، أن أبا سعيد الخدري أخبره: "أنه بينا هو جالس عند النبي -عليه السلام- إذْ جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إنا نصيب سبيًا ونحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي -عليه السلام-: أو إنكم لتفعلون ذلك؟! لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم، فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلَّا خارجة". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن أنس بن سيرين قال: سمعت معبد بن سيرين يحدث، عن أبي سعيد قال: "سألنا رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإنما هو القدر". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: سمعت أبا الودَّاك يحدث، عن أبي سعيد الخدري قال: "لمَّا أصبنا سبي حنين سألنا رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء". ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "من".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد قال: "أصبنا نساءً يوم حنين، فكنا نعزل عنهن نريد الفداء، فقلنا: لو سألنا رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكر مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ظفر، قال: ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية، عن أبي سعيد قال: "تذاكرنا العزل، فخرج رسول الله -عليه السلام- فقال: لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر". ش: أي قد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا في إباحة العزل، رواه أبو سعيد سعد بن مالك الخدري -رضي الله عنه-، وأخرجه من سبع طرق صحاح: الأول: على شرط مسلم، عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد الكوفي روى له الجماعة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن سعيد الأيلي، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية -يعني ابن صالح- عن علي بن أبي طالب، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، سمعه يقول: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: ما مِنْ كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء". قوله: "لما افتتح خيبر". كانت غزوة خيبر وفتحها سنة سبع من الهجرة. قوله: "أتفعلون هذا". أي العزل، والألف فيه للاستفهام. قوله: "ورسول الله -عليه السلام- إلي جنبكم". كلمة "إلى" ها هنا بمعنى "عند" كما في قوله: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1064 رقم 1438).

وذِكره أشهى إلي من الرحيق السَّلسَلِ (¬1) قوله: "فلا عليكم ألَّا تعزلوا" أي فلا عليكم ترك العزل. وهذا يفهم منه إباحة العزل، وفهم منه الحسن البصري وابن سيرين النهي، فقال الحسن: فكأن هذا زجرٌ، وقال ابن سيرين: هو أقرب إلى النهي، وقال القرطبي: فهمت طائفة من هذا التركيب النهي والزجر عن العزل، كما حكي عن الحسن وابن سيرين، فكأنهم فهموا من "لا" النهي عما سأل عنه، وحذف بعد قوله: "لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألَّا تفعلوا، تأكيدًا لذلك النهي. وفهمت طائفة أخرى منها الإِباحة، كأنها جعلت [جواب] (¬2) السؤال: قوله: "لا عليكم ألَّا تعزلوا" أي ليس عليكم جناح في ألَّا تعزلوا. قال: وهذا التأويل أولى، بدليل قوله: "ما مِنْ نسمةٍ كائنة إلاَّ وستكون"، وبقوله: "افعلوا أو لا تفعلوا فإنما هو القدر"، وبقوله: "إذا أراد الله -عز وجل- خلق شيء لم يمنعه شيء". وهذه الألفاظ كلها مصرِّحه بأن العزل لا يرد القدر، ولا يضر، فكأنه قال: لا بأس به. قلت: الذي [قالته] (¬3) الطائفة الأولى ليس معنى التركيب، بل فيه تعسف على ما [قالته] (¬4) الطائفة الثانية، فلذلك وضعه الطحاوي ها هنا. فافهم. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه عبد الله بن ذكوان، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن منقذ الأنصاري المدني، عن عبد الله بن محيريز بن جنادة المكي، عن أبي سعيد. ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت ذكره ابن منظور في "لسان العرب" عن ابن بري، وعزاه لأبي كبير (مادة: سلسبيل) ونصه: أَم لا سَبِيلَ إِلى الشَّبابِ وذِكْرُه ... أَشْهَى إِليَّ من الرَّحِيق السَّلْسَلِ (¬2) في "الأصل، ك": "جوابًا". (¬3) في "الأصل، ك": "قاله". (¬4) في "الأصل، ك": "قاله".

وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر، قالوا: نا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرني ربيعة، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال: "دخلت أنا وأبو الصرمة على أبي سعيد الخدري، فسأله أبو الصرمة فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله -عليه السلام- يذكر العزل؟ قال: نعم، غزونا مع رسول الله -عليه السلام- غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا: نفعل ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا لا نسأله؟! [فسألنا] (¬2) رسول الله -عليه السلام-، فقال: لا عليكم ألَّا تفعلوا؛ ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلاَّ ستكون -وفي لفظ: فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة". قوله: "غزوة بني المصطلق". وهي غزوة المريسيع، قال أهل الحديث هذا أولى من رواية ابن عقبة أنه كان في غزوة أوطاس، ومعنى "بلمصطلق" أي بني المصطلق. قوله: "سبايا". جمع سبيَّة وهي المأخوذة نهبًا. قوله: "ما عليكم ألَّا تعزلوا". أي لا بأس عليكم بأن تتركوا العزل. الثالث: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز قال: "دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد: خرجنا مع ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1061 رقم 1438). (¬2) في "الأصل، ك": "وسألناه"، بالواو في أوله، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 252 رقم 2172).

رسول الله -عليه السلام- في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء، فأردنا أن نعزل، ثم قلنا: نعزل ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا قبل أن نسأله عن ذلك؟! فسألناه عن ذلك، فقال: ما عليكم ألاَّ تفعلوا، ما مِنْ نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلاَّ وهي كائنة". الرابع: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، نا وهيب، نا موسى بن عقبة، حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد: "في غزوة بني المصطلق أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولا يحملن، فسألوا رسول الله -عليه السلام- فقال: ما عليكم ألَّا تفعلوا؛ فإن الله -عز وجل- قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة" انتهى. فهذا كما ترى قد وقع في روايته بني المصطلق. وفي رواية الطحاوي: أوطاس. وقد قلنا: إن أهل الحديث قالوا: سبايا بني المصطلق أولى من سبايا أوطاس، وفي "المطالع": أوطاس وادٍ في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين. الخامس: على شرط البخاري، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار الأموي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن محيريز. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا أبو اليمان، أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري ... إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 72 رقم 11706). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 8 رقم 11587).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، نا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبيًا وكنا نعزل، فسألنا رسول الله -عليه السلام- فقال: أو إنكم لتفعلون؟! -قالها ثلاثًا- ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلاَّ هي كائنة". وأخرجه مسلم (¬2) نحوه: عن عبد الله بن محمد بن أسماء ... إلى آخره. قوله: "أو إنكم لتفعلون". ظاهره الإِنكار والزجر، غير أن قوله: "فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلاَّ خارجة" يدفع ذلك؛ فإذن يكون معناه الاستبعاد لفعلهم له بدليل ما جاء في الرواية الأخرى: "وَلِمَ يفعل ذلك أحدكم" قال الراوي: ولم يقل: ولا يفعل ذلك أحدكم، فَعُلِمَ أنه ليس بنهي وهو أعلم بالمقال، وفي بعض الروايات: "ما من كل الماء يكون الولد" يعني أنه ينعقد الولد في الرحم من جزء من الماء لا يشعر العازل بخروجه، فيظن أنه قد عزل كل الماء، وإنما عزل بعضه، فيخلق الله تعالى الولد من ذلك الجزء اللطيف، وقال الأطباء: ذلك الجزء هو الشيء الثخين الذي يكون في الماء على هيئة نصف عَدْسَة. قوله: "لا عليكم" أي لا بأس عليكم. قوله: "نسمة" أبي روح ونفس. السادس: على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أنس بن سيرين، عن معبد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك، عن أبي سعيد. وأخرجه مسلم (2): نا نصر بن علي الجهضمي، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري -قلت له: سمعته من أبي سعيد؟ قال: نعم- عن النبي -عليه السلام- قال: "لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1998 رقم 4912). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1062رقم 1438).

ومعناه: لا بأس عليكم ألَّا تفعلوا العزل، ولو فعلتم فإن أمرًا قدره الله لا بد من وقوعه، وعزلكم لا يرد القدر. السابع: على شرط مسلم أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان ابن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي، عن أبي سعيد. وأخرجه مسلم (¬1) نحوه، وقد ذكرناه في الطريق الأول. الثامن: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله ... إلى آخره. قوله: "نريد الفِداء" وأراد به أن يبيعوا السبايا من أهلهن ويأخذون منهم مالاً، وفيه حجة لما عليه الجمهور من الفقهاء من أن بيع أمهات الأولاد لا يجوز، إذ الفداء بيع، وقد تقرر عندهم منعه بسب الحمل، وقال بعضهم: إنما فيه حجة لمنع بيعهن حبالى فقط، لأجل استرقاق الولد، وهو الذي عليه إجماع المسلمين. التاسع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي ظفر -بالظاء المعجمة- عبد السلام بن مطهر البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي، عن أبي سعيد. وهذا الحديث أخرجه بقيَّة الجماعة بطرق مختلفة: فالترمذي (¬2): عن ابن أبي عمر وقتيبة، قالا: ثنا سفيان بن عُيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قزعة -هو ابن يحيى- عن أبي سعيد قال: "ذكر العزل عند رسول الله -عليه السلام- فقال: لِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ -زاد ابن أبي عمر في حديثه ولم يقل: لا يفعل ذلك أحدكم -قالا في حديثهما-: فإنها ليست نفسٌ مخلوقة إلاَّ الله خالقها". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1064 رقم 1438). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 444 رقم 1138).

والنسائي (¬1): عن إسماعيل بن مسعود وحميد بن مسعدة، قالا: ثنا يزيد بن زريع، ثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود، ردَّ الحديث حتى ردَّه إلى أبي سعيد الخدري قال: "ذكر ذلك عند رسول الله -عليه السلام- قال: وما ذاكم؟ قلنا: الرجل يكون له المرأة فيصيبها ويكره الحمل، وتكون له الأمَة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، قال: لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر". وابن ماجه (¬2): عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني، نا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، حدثني عُبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: "سأل رجل رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: أو تفعلون؟! لا عليكم ألَّا تفعلوا؛ فإنه ليس من نسمة قضى الله لها أن تكون إلاَّ هي كائنة". ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي الفيض، قال: سمعت عبد الله بن مرة، عن أبي سعد الزرقي: "أن رجلاً من أشجع سأل رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: ما يُقَدَّر في الرحم يكن". ش: أبو بكرة بكَّار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي وأبو الفيض: اسمه موسى بن أيوب -ويقال: ابن أبي أيوب- المهري الشامي الحمصي، قال العجلي: شامي ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. روى له أبو داود والترمذي والنسائي. وعبد الله بن مرة الزَوفي، روى له الجماعة. وأبو سعد -بفتح السين وسكون العين-، وقيل: أبو سعيد بزيادة الياء، قال أبو عُمَر: أبو سعد أشبه، وقال: ذكره خليفة بن خياط فيمن روى عن النبي -عليه السلام- من الصحابة، وقال: لا يوقف له على اسم، وقال غيره: أبو سعيد الزرقي مشهور بكنيته، واختلف في اسمه؛ فقيل: سعد بن عمارة وقيل: عمارة بن سعد، وقيل: عامر بن مسعود وليس بشيء. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 107 رقم 3327). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 620 رقم 1926).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن بشار، عن محمد، عن شعبة، عن أبي الفيض، سمعت عبد الله بن مرة الزَّوفي، عن أبي سعد الزوفي: "أن رجلاً سأل رسول الله -عليه السلام- عن العزل، فقال: إن امرأتي ترضع وأنا أكره أن تحمل، فقال النبي -عليه السلام-: إن ما قد قُدَّر في الرحم سيكون". واعلم أنه وقع في رواية النسائي: أبو سعد الزوفي -بالزاي المفتوحة وسكون الواو وبالفاء- نسبة إلى زوف بن زاهر بن عامر بن عوبثان بن مراد وهو قَبيل من حمير، ووقع في رواية الطحاوي وغره: الزرقي -بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف- نسبة إلى بني زريق قَبيل من الخزرج. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن جرير قال: "أتى النبي -عليه السلام- رجلٌ فقال: ما وصلت إليك من المشركين إلاَّ بغنية -أو بقينة- أعزل عنها أريد بها السوق، قال: جاءها ما قُدَّر". ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وجعفر بن أبي المغيرة القُمي، وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، ابن ماجه في التفسير. وعبد الله بن أبي الهذيل العنزي الكوفي أبو المغيرة، روى له مسلم والترمذي والنسائي، وجرير بن عبد الله البجلي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا الفضل بن دكين، عن مندل بن علي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبي الهذيل، عن جرير قال: "جاء رجل إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، ما خَلُصْتُ إليك من المشركين إلاَّ بقينة وأنا أعزل عنها أريد بها السوق، فقال رسول الله -عليه السلام-: جاءها ما قُدَّر". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 108رقم 3328). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 512 رقم 16607).

قوله: "بقَيْنَة". بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون، وهي الأمَة سواء كانت مغنية أو لا، وكثيرًا ما تطلق على المغنيات من الإِماء، وجمعها قيان وقينات. ص: ففي هذه الآثار أيضاً ما يدل على أن العزل غير مكروه؛ لأن رسول الله -عليه السلام- لما أخبروه أنهم يفعلونه لم ينكر ذلك عليهم ولم ينههم عنه، وقال: "لا عليكم ألَّا تفعلوه، فإنما هو القدر" أي فإن الله إذا كان قد قدَّر أنه يكون له ولدٌ كان ذلك الولد ولم يمنعه عزل ولا غيره؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذي قد قدّر الله -عز وجل- أن يكون منه ولد، فيكون منه ولد ويكون ما بقي من الماء الذي تمتنعون من الإِفضاء به بالعزل فضلاً، وقد يكون الله -عز وجل- قد قدَّر ألَّا يكون من ماءِ ولدٌ فيكون الإِفضاء بذلك الماء والعزل سواء في ألَّا يكون منه ولد، فكان الإِفضاء بالماء لا يكون [منه] (¬1) ولد إلاَّ بأن يكون في تقدير الله تعالى أن يكون في ذلك الماء ولدٌ، فيكون كما قدَّر وكان العزل إذا كان قد تقدم في تقدير الله -عز وجل- أن يكون من ذلك الماء الذي يُعزل ولدٌ أوصل الله -عز وجل- إلى الرحم منه شيئًا وإن قلّ فيكون منه الولد، فأعلمهم رسول الله -عليه السلام- أن الإِفضاء لا يكون منه ولدٌ إلاَّ أن يكون قد سبق في تقدير الله -عز وجل- وأن العزل لا يمنع أن يكون ولدٌ إذا كان سبق في علم الله أنه كائن، ولم ينههم في جملة ذلك عن العزل. ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن أبي سعيد الخدري بعدة طرق، وأبي سعد الزوفي، وجرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنهم-. وباقي الكلام ظاهر. ص: ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في إباحته أيضًا ما قد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا محمد بن خازم، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي -عليه السلام- رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إن لي جاريةً تستقي على ناضح لي، وأنا أصيب منها فأعزل؟ فقال له رسول الله -عليه السلام-: نعم ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فاعزل، فلم يلبث الرجل أن جاء فقال: يا رسول الله قد عزلت عنها فحملت، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما قدَّر الله لنفس أن يخلقها إلاَّ وهي كائنة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فهذا جابر قد حكى عن رسول الله -عليه السلام- نظير ما حكى عنه أبو سعيد ومن ذكرنا معه في الفصل الذي قبل هذا، وأنه قد أذن له مع ذلك في العزل. ش: أي: ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا في إباحة العزل، رواه جابر بن عبد الله فإنه حكى في حديثه نظير ما حكى أبو سعيد الخدري وأبو سعد الزوفي وجرير بن عبد الله، وزاد جابرٌ في روايته بصريح الإِذن من النبي -عليه السلام- في العزل، فدلَّ ذلك على أن العزل مباح، وأن القدر لا يمنعه العزل. وأخرج حديث جابر من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبي معاوية الضرير، عن سليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي الكوفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا جرير، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، لي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما قدِّر من نسمةٍ تخرج إلاَّ وهي كائنة". وهذا الحديث روي عن جابر من وجوه بألفاظ مختلفة قد ذكرنا كل حديث بلفظه في موضعه.

قلت: حديث جابر في هذا الباب أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4) وابن ماجه (¬5) بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وأخرجه أحمد (¬6) من حديث سالم بن أبي الجعد نحوه. قوله: "تستقي على ناضح" "الناضح" الجمل الذي يستقى عليه، وجمعه نواضح، وفي رواية: تسنو على ناضح، ومعناه تستقي أيضًا، من سنى يسنو إذا استقى. قوله: "نعم فاعزل". صريح بالإِذن بالعزل، فدلَّ على أنه مباح. ص: ثم قد روي عن جابر -رضي الله عنه- في إباحة العزل أيضًا ما قد حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- أذن له في العزل". حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن جابر قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل" قال شعبة: فقلت لعمرو: سمعت هذا من جابر؟ فقال: لا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1998 رقم 4911). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1064 رقم 1439). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 252 رقم 2173). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 442 رقم 1136). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 620 رقم 1927). (¬6) "مسند أحمد" (3/ 388 رقم 15213).

حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله -عليه السلام- ولا ينهانا عن ذلك". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: إسناده على شرط مسلم. وأبو بكر بن أبي شيبة اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه. وحميد بن عبد الرحمن روى له الجماعة، وأبوه عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي الكوفي، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، ونسبته إلى رؤاس -بضم الراء بعدها همزة- بن كلاب من هوازن. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي، من رجال مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه". الثاني: على شرط الشيخين، ورجاله كلهم رجال الصحيح، وسفيان هو ابن عُيينة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، نا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء، سمع جابرًا قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل". وأراد بقوله: "والقرآن ينزل" أن العزل لو كان ممنوعًا لبَيَّنَهُ -عليه السلام-؛ لأن وقت نزول القرآن كان وقت بيان الحلال والحرام، وما يجوز فعله وما لا يجوز، وقد علم أن قول الصحابي: "كنا نفعل" ونحوه من الأمور المشروعة من جهة النبي -عليه السلام-. وقال الخطيب: قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" و"نقول كذا" متى أضيف إلى زمن النبي -عليه السلام- على وجه كان يعلم به رسول الله -عليه السلام- فلا ينكره، وجب القضاء بكونه شرعًا، وقام إقراره له مقام نطقه بالأمر به. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1998 رقم 4911).

الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): وإنما قال عمرو بن دينار: "لا" حين سأله شعبة: أسمعت هذا من جابر؟ لأنه قد كان سمعه عن عطاء عن جابر، ولم يسمعه من جابر، وإن كان هو ممن سمع جابرًا وروى عنه غير هذا. فافهم. الرابع: عن أبي بكرة أيضًا وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي داود سليمان الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو غسان المسمعي، قال: ثنا معاذ -يعني ابن هشام- قال: حدثني أبي، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد نبي الله -عليه السلام-، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا". ص: فلما انتفى المعنى الذي به كُرَه العزل، وما ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ في ذلك أنه من الموءودة، وثبت عن رسول الله -عليه السلام- ما ذكرنا عنه من إباحته ثبت أن لا بأس بالعزل لمن أراده على الشرائط التي ذكرناها، وقد فصلناها في أول هذا الباب، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالمعنى الذي كره به العزل: أي بسببه العزل أنه هو الوأد الخفي، يعني لما انتفى هذا المعنى بالأحاديث المذكورة، وكذلك لما انتفى ما ذكر مَنْ ذكر في ذلك أبي في حكم العزل أنه من الموءودة، وأراد بمن ذكر: أهل المقالة الأولى، وهم: النخعي وسالم وطاوس وآخرون، وثبت عن رسول الله -عليه السلام- إباحة العزل بالأحاديث المذكورة، ثبت أن العزل لا بأس به، ولكن على الشرط الذي ذكره في أول الباب من وجه النظر، وهو أنه إذا كان العزل عن الحرة لا يباح إلاَّ ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 236 رقم 1697). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1065 رقم 1440).

برضاها، وإن كان عن الأمَة فله ذلك مطلقًا. فإن قيل: الأحاديث المذكورة ليس فيها هذا القيد. قلت: روعي هذا القيد بحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): نا الحسن بن خلَّال، نا إسحاق بن عيسى، نا ابن لهيعة، حدثني جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يعزل عن الحرة إلاَّ بإذنها". فإن قيل: قال الدارقطني: تفرد به إسحاق بن عيسى الطباع، عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن الزهري، عن المحرَّر، عن أبيه، عن عمر، ووهم فيه. وخالف عبد الله بن وهب فرواه عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر، قال: ووهم أيضًا، والصواب: مرسل، عن حمزة، عن عمر ليس فيه عن أبيه. وقال أبو حاتم: ثنا أبو صالح كاتب الليث، عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، قال: وهو أصحّ، وهذا من مخاليط ابن لهيعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث إسحاق، عن ابن لهيعة، عن جعفر .. إلى آخره نحو رواية ابن ماجه. ورواه الفسوي في "تاريخه". وقال الذهبي: ولا أعرف إسحاق، والحديث ضعيف. وفي "سؤالات أبي داود": سمعت أبا عبد الله ... وذكر حديث ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يعزل عن الحرة إلاَّ بإذنها". فقال: ما أنكره. قلت: روى البيهقي (¬3): من حديث منصور، عن إبراهيم قال: "تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمَة". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 620 رقم 1928). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 231 رقم 14102). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 231 رقم 14103).

وروى عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن ابن عباس مثله. وأخرج من حديث أبي معاوية (¬1)، عن أبي عرفجة الفائشي، عن عطية، عن ابن عمر قال: "يعزل عن الأمَة وتُستأمر الحرة". وروى جعفر بن برقان (¬2) عن عطاء في العزل قال: "عن الحرة برضاها". وأخرج أبو قرة السكسكي قال: ذكر ابن الصباح، عن عطاء، عن جابر: "أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله -عليه السلام- إذا أُذنت الحرة، وأما الأمَة فيعزل عنها إن شاء" انتهى. وكفى في القيد المذكور حجة بما روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وإبراهيم، ويقوى به الحديث المذكور أيضًا. وهذا جابر -رضي الله عنه- ممن روي عنه إباحة العزل مطلقًا، ثم روي عنه أنه قيَّده بإذن الحرة، فدلَّ على أن كل ما روي من إباحة العزل فالمراد منه بالإذن في حق الحرة. ... ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 231 رقم 14104). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 231 رقم 14105)، وزاد في آخره: "وأما الأمة فذاك إليك".

ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها ش: أي هذا باب في بيان الحائض كيف يستمتع بها زوجها؟ وكان المناسب أن يذكر هذا الباب في باب الحيض في كتاب الطهارة، ولكن لما كان متعلقًا بالنساء ومخصوصًا بهن ذكره في هذا الموضع؛ لأنه مشتمل على أحكام النساء. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: "كان النبي -عليه السلام- يأمر إحدانا أن تتَّزر وهي حائض ثم يضاجعها" -قال شعبة: وقالت مرةً: "يباشرها". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عُبيد، قال: ثنا حريث بن عمرو، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: "ربما يباشرني النبي -عليه السلام- وأنا حائض فوق الإزار". ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد. وأخرجه الجماعة مطولاً ومختصرًا: فالبخاري (¬1) عن قتيبة قال: نا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي -عليه السلام- من إناء واحد كلانا جُنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسَه إليَّ وهو معتكف فأغسله وأنا حائض". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 115 رقم 295).

ومسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -قال إسحاق: أنا وقال الآخران: ثنا- جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرها رسول الله -عليه السلام- فتأتزر بإزار ثم يباشرها". وأبو داود (¬2): عن مسلم، قال: أنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يأمر إحدانا إذا كانت حائضًا أن تَتَّزر ثم يضاجعها زوجها -وقال مرة: يباشرها-". والترمذي (¬3): عن محمد بن بشار، قال: نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا حِضْت يأمرني أن أتَّزر ثم يباشرني". والنسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، عن منصور ... إلى آخره نحو رواية أبي داود. وابن ماجه (¬5): عن ابن أبي شيبة، نا جرير ... إلى آخره نحو رواية مسلم. قوله: "أن تتَّزر". أي تشد إزارًا، والمعنى: تستر سرتها وما تحتها إلى الركبة. قوله: "يضاجعها": أي ينام معها. قوله: "يباشرها": يعني يستمتع بها من وجوه الملامسة والتقبيل ونحو ذلك. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عُبيد بن أبي أميَّة الطنافسي الكوفي، وعن يحيى: ضعيف في سفيان، وعنه: ثقة في غيره، روى له ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 242 رقم 293). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 70 رقم 268). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 239 رقم 132). (¬4) "المجتبى" (1/ 151 رقم 286). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 208 رقم 636).

الجماعة، عن حريث بن عمرو وهو حريث بن أبي مطر الفزاري أبو عمرو الحناط -بالنون- الكوفي، قال ابن معين: لا شيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر. روى له الترمذي وابن ماجه، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا أسباط (ح). وحدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أسباط، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيَّض". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرنى يونس والليث، عن ابن شهاب، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، عن نَدَبة مولاة ميمونة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين -في حديث الليث:- محتجرةً به". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أسباط بن محمد الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان الشيباني الكوفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن خالته ميمونة زوج النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا خالد بن عبد الله، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيَّض". الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد، عن الشيباني ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 243 رقم 294).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا سفيان بن عيينة، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيَّض". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي والليث بن سعد، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حبيب الأعور القرشي الحجازي مولى عروة بن الزبير، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. عن نَدْبة، بفتح النون وسكون الدال المهملة وفتح الباء الموحدة، وقال معمر: بضم النون، وقال يونس: بضم الباء الموحدة في أولها وسكون الياء آخر الحروف، ووقع في كتاب عبد الله بن الربيع التميمي: نَدَبة بفتح النون وفتح الدال وفتح الباء الموحدة، وفي الأصل من "سنن النَّسائي" -بفتح النون-: بَذِيَّة بفتح الباء الموحدة وكسرالذال المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف، ويقال: بُذَيَّة بضم الباء الموحدة وفتح الذال المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف، وقال الدارقطني: نَدَبة هكذا يقول المحدثون: نَدَبة بفتح الدال، ومثله الحسن بن حبيب بن نَدَبة، وخفاف بن ندبة. وقال أهل اللغة: هو نَدْبة الدال ساكنة، وهي مولاة ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، وثقها ابن حبان. وأخرجه النسائي (¬2): أنا الحارث بن مسكين قراءةً عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب، عن يونس والليث، عن ابن شهاب، عن حبيب مولى عروة، عن بَذيَّة -وكان الليث يقول: بُذيَّة- مولاة ميمونة، عن ميمونة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين والركبتين -في حديث الليث-: محتجرةً به". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 336 رقم 26897). (¬2) "المجتبى" (1/ 151 رقم 287).

قوله: "كان يباشر". من المباشرة التي بمعنى الملامسة، وأصله من لمس بشرة الرجل بشرة المرأة، وقد ترد بمعنى الوطء في الفرج، والمراد ها هنا المعنى الأول بالإجماع. قوله: "وهي حائض". جملة اسمية حاليَّة. قوله: "أنصاف الفخدين". الأنصاف جمع نصف، وإنما جمعه باعتبار أن التثنية يطلق عليها الجمع، ووقع في رواية أبي داود: "إلى أنصاف الفخذ" وجمع ها هنا باعتبار وقوع الفخذ معرفًا باللام. قوله: "محتجرة" بالراء المهملة، من الاحتجار وهو الامتناع، والمعنى: ممتنعة بالإزار، والأصح أنه بالزاي المعجمة، ومعناه: شادَّة مئزرها على العورة وما لا يحل مباشرته، والحاجز الحائل بين الشيئين وأصله من حجزه يحجزه حجزًا أي منعه، من باب: نَصَرَ يَنْصُرُ، وحجزة الإزار: معقده، وحجزة السراويل: التي فيها التكة، ثم إنه وقع في بعض النسخ بالرفع، وكذا وقع في نسخة النسائي، ووجهه -إن صحّ-: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هي محتجزة به، والمشهور أنه منصوب على الحال من الحائض. الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن حبيب، عن نَدْبَة، عن ميمونة -رضي الله عنها-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب، قال: حدثني الليث، عن ابن شهاب، عن حبيب مولى عروة، عن نُدْبَة مولاة ميمونة، عن ميمونة: "أن النبي -عليه السلام- كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذ والركبتين، تحتجز به". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 69 رقم 267).

ص: فذهب قومٌ إلى أن الحائض لا ينبغي لزوجها أن يجامعها إلاَّ كذلك، ولا يطلع منها على عورة، واحتجوا في ذلك بفعل رسول الله -عليه السلام- الذي ذكرنا، وممن قال ذلك أبو حنيفة -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب وشريحًا وطاوسًا وعطاء بن أبي رباح وسليمان بن يسار وقتادة ومالكًا والشافعي -في قول- فإنهم قالوا: لزوج الحائض أن يباشرها فيما فوق الإزار ويحرم عليه مباشرة ما تحت الإزار وهو ما بين السرة والركبة، واحتجوا في ذلك بفعل رسول الله -عليه السلام- الذي ذكر في حديث ميمونة. وممن قال بهذا القول: الإِمام أبو حنيفة وأبو يوسف -في رواية-. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي من قول رسول الله -عليه السلام- فإنه حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو الشامي، عن أحد النفر الذين أتوا عمر بن الخطاب --رضي الله عنه- وكانوا ثلاثة- فسألوه: "ما للرجل من أمرأته إذا أحدثت -يعنون الحيض؟ - فقال: سألتموني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ منذ سألت عنه رسول الله -عليه السلام-، فقال: له منها ما فوق الإزار من التقبيل والضم، ولا يطلع على ما تحته". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو البجلي: "أن قومًا [أتوا] (¬1) عمر بن الخطاب فسألوه ... " ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا عاصم بن عمرو البجلي: "أن قومًا أتوا عمر بن الخطاب ... " ثم ذكر مثله. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن عمير مولى لعمر، عن عمر مثله. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أتى"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا بقول رسول الله -عليه السلام- الذي رواه عنه عمر -رضي الله عنه-. وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن الجعد بن عُبيد الجوهري البغدادي، شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية بن حديج، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن عمرو البجلي، من أهل الشام، قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات، وهو يروي عن أحد النفر الذين أتوا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- وهو مجهول. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا محمد بن جعفر، نا شعبة، سمعت عاصم ابن عمرو البجلي يحدث، عن رجل، عن القوم الذين سألوا عمر بن الخطاب فقالوا: "إنما أتينا نسألك عن ثلاث: عن صلاة الرجل في بيته تطوعًا، وعن الغسل من الجنابة، وعن الرجل ما يصلح له من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقال: أَسُحَّارٌ أَنْتم؟! لقد سألتموني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ منذ سألت عنه رسول الله -عليه السلام-، فقال: صلاة الرجل في بيته تطوعًا نور فمن شاء نوَّر بيته، وقال في الغسل من الجنابة: يغسل فرجه ثم يتوضأ ثم يفيض على رأسه ثلاثًا، وقال في الحائض: له ما فوق الإزار". قوله: "إذا أحدثت" أي حاضت، وقد فسره هكذا في الحديث بقوله: "يعنون الحيض". قوله: "له منها" أي للرجل من امرأته الحائض ما فوق الإزار، وهو مما فوق السرة ومما تحت الركبة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 14 رقم 86).

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي عثمان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي، عن عاصم بن عمرو البجلي ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬1): من حديث أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو البجلي: "أن نفرًا سألوا عمر بن الخطاب فقال: سألت رسول الله -عليه السلام-: ما يحل للرجل من امرأته حائضًا؟ قال رسول الله -عليه السلام-: لك ما فوق الإزار لا تطلعن إلى ما تحته حتى تطهر". قال: ورواه عاصم بن عمرو عن مجهول. الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن عاصم بن عمرو البجلي. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2). الرابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن عُبيد الله ابن عمرو بن أبي الوليد الجزري، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن عمرو البجلي، عن عمير مولى عمر بن الخطاب، ذكره ابن حبان في الثقات، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن حزم (¬3): من حديث زهير بن حرب، نا عبد الله بن جعفر المخرمي، نا عُبيد الله بن عمرو الجزري، عن زيد بن أبي أُنَيسة، عن أبي إسحاق، عن عاصم ابن عمرو، عن عمير مولى عمر بن الخطاب ... فذكر نحوه. وأخرجه أيضًا (2): من حديث أبي إسحاق، عن عمير، عن عمر. ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 178). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 11 رقم 49). (¬3) "المحلى" (2/ 180).

وهذا منقطع؛ لأن أبا إسحاق لم يسمعه من عمير، وإنما رواه عن عاصم عن عمرو البجلي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس بما تحت الإزار منها إذا اجتنبت مواضع الدم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عكرمة ومجاهدًا والشعبي، والنخعي والثوري والأوزاعي والحكم بن عتيبة ومسروقًا والشافعي -في الأصح- وأحمد بن حنبل وأصبغ بن الفرج وإسحاق وأبا ثور وداود، فإنهم قالوا: لا بأس أن يستمتع الرجل بما تحت الإزار من الحائض إذا اجتنب موضع الدم. وممن قال بهذا القول: محمد بن الحسن وأبو يوسف -في رواية- قالوا: وهذا أقوى دليلاً؛ لحديث أنس: "اصنعوا كل شيء إلا الجماع" واقتصار النبي -عليه السلام- في مباشرته على ما فوق الإزار محمول على الاستحباب. واعلم أن مباشرة الحائض أقسام: إحداهما: حرام بالإجماع، ولو اعتقد حلَّه يكفر، وهو أن يباشرها في الفرج عامدًا، فإن فعله غير مستحل يستغفر إلله تعالى ولا يعود إليه. وهل تجب عليه الكفارة؟ فيه خلاف للعلماء. الثاني: المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر أو بالقبلة أو بالمعانقة أو اللمس أو غير ذلك، فهذا حلال بالإجماع، إلاَّ ما حكي عن عَبيدة السلماني وغيره: "أنه لا يباشر شيئاً" فهو شاذ منكر مردود بالأحاديث الصحيحة. والثالث: المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر، فعند أبي حنيفة ومن ذكرنا معه: حرام. وعند محمد ومَن ذكرنا معه: يجتنب شعار الدم فقط. ص: وقالوا: أما ما ذكرتم مِنْ فعل النبي -عليه السلام- فلا حجة لكم في ذلك؛ لأنا نحن لا ننكر أن لزوج الحائض منها ما فوق الإزار فيكون هذا الحديث حجةً علينا، بل نحن نقول: له منها ما فوق الإزار وما تحته إذا اجتنب مواضع الدم كما له أن يفعل

ذلك قبل حدوث الحيض، وإنما هذا الحديث حجةٌ على مَنْ أنكر أن لزوج الحائض منها ما فوق الإزار، فاما مَنْ أباح ذلك له فإن هذا الحديث ليس بحجة عليه، وعليكم البُرهان بعدُ، لقولكم: إنه ليس له منها إلاَّ ذلك. وقد روي عن عائشة في هذا عن النبي -عليه السلام- ما يوافق ما ذهبنا نحن إليه ويخالف ما ذهبتم أنتم إليه، وهي أحدُ مَنْ رويتم عنها ما كان رسول الله -عليه السلام- يفعل بنسائه إذا حضن ما ذكرتم من ذلك. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشرني في شعار واحد وأنا حائض، ولكنه كان أملككم -أو أملك- لإرْبه". فهذا على أنه كان يباشرها في إزار واحد، ففي ذلك إباحة ما تحت الإزار، فلما جاء هذا عنها، وقد جاء عنها أنه كان يأمرها أن تأتزر ثم يباشرها، كان هذا عندنا على أنه كان يفعل هكذا مرةً وهكذا مرة، وفي ذلك إباحة المعنيين جميعًا. ش: هذا جواب عما قاله أهل المقالة الأولى من استدلالهم فيما ذهبوا إليه بفعل النبي -عليه السلام-، أي قال أهل المقالة الثانية: أما ما ذكرتم من فعل النبي -عليه السلام- وهو أنه كان يباشر نساءه فوق الإزار وهنَّ حيَّض فلا حجة لكم في ذلك؛ لأنه لا يتم به الاستدلال, لأنا لا ننكر أن لزوج الحائض أن يباشر منها ما فوق الإزار حتى يكون هذا الحديث حجةً علينا، وهو معنى قوله: "فيكون هذا الحديث حجَّهً علينا" بنصب "فيكونَ"؛ لأنه جواب النفي، و"أن" الناصبة مُقدَّرة فيه، بل نحن نقول: له أن يباشرها ما فوق الإزار وما تحته أيضًا إذا اجتنب مواضع الدم، كما جاز له أن يفعل ذلك قبل حدوث الحيض، وهذا الحديث إنما هو حجة على من أنكر أن يباشرها فيما فوق الإزار وهي حائض، كما ذهب إليه عَبيدة السلماني وغيره؛ فإنهم منعوا زوج الحائض عن المباشرة مطلقًا، فأما الذين أباحوا ذلك له، فإن هذا الحديث ليس بحجة عليهم، فإذا كان كذلك فقد دلَّ هذا الحديث على إباحة المباشرة فيما

فوق الإزار، ولا يستلزم ذلك نفي المباشرة فيما تحت الإزار فحينئذٍ يجب عليكم أن تأتوا ببرهان يدل على مُدَّعاكم أنه ليس له منها إلاَّ ما فوق الإزار. ومع هذا روي عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -عليه السلام- في هذا الباب ما يوافق ما ذهبنا إليه، ويخالف ما ذهبتم أنتم إليه، والحال أنها أحد مَنْ رويتم عنها ما كان رسول الله -عليه السلام- يفعل بنسائه إذا حضن، وهي أنها قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشرني في شعار واحد". فهذا يدل على إباحة المباشرة فيما تحت الإزار، وبقي الكلام في التوفيق بين روايتي عائشة-رضي الله عنها-، وقد أشار إليه بقوله: "فلما جاء هذا عنها ... " إلى آخره، أي فلما جاءه هذا الحديث عن عائشة وهو قولها: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشرني في شعار واحد" وقد جاء عنها أيضًا: "أنه كان يأمرها أن تأتزر ثم يباشرها" كان هذا محمولًا على أنه كان يفعل هكذا مرَّةً وهكذا مرةً، وفي ذلك إباحة المعنيين جميعًا فيرتفع بذلك التناقض بين الروايتين ويحصل التوفيق بينهما، ففي هذا الإِعمال بالروايتين، وفيما ذكر هؤلاء الإِعمال بإحداهما والإِهمال بالأخرى ,فالإِعمال أولى مِنَ الإِهمال. ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- بإسناد صحيح، عن فهد ابن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي روى له الجماعة سوى ابن ماجه , عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه الجماعة بوجوه مختلفة، ولكن البيهقي أخرجه في "سننه" (¬1): نحوه من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عائشة: "كان رسول الله -عليه السلام- يباشرني في شعار واحد وأنا حائض، ولكنه كان أملككم لإرْبه -أو يملك إرْبَه-". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 314 رقم 1402).

فقال البخاري (¬1): نا إسماعيل بن خليل، قال: أنا علي بن مسهر، قال: أنا أبو إسحاق -هو الشيباني- عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأراد رسول الله -عليه السلام- أن يباشرها أمرها أن تتَّزر في فور حيضها ثم يباشرها، قالت: وأيكم يملك إِرْبه كما كان النبي -عليه السلام- يملك إرْبَه؟! ". وقال مسلم (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني. وحدثني علي بن حجر السعدي -واللفظ له- قال: أنا علي بن مسهر، قال: أنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة نحوه. وقال أبو داود (¬3): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يأمرنا في فوح حيضتنا أن تتزر ثم يباشرها، وأيكم كان يملك إِرْبه؟ كان رسول الله -عليه السلام- يملك إرْبَه؟ ". وأما رواية البقية الثلاثة فقد ذكرناها في أول الباب. قوله: "في شعار واحدٍ". الشعار -بكسر السين-: الثوب الذي يلي الجسد؛ لأنه يلي شعره. قوله:"لإِرْبه" أكثر الروايات فيه بكسر الهمزة وسكون الراء، ومعناه: عضوه الذي يستمتع به، الفرج. ورواه جماعة بفتح الهمزة والراء ومعناه: حاجته، وهي شهوة الجماع، واختار الخطابي هذه الرواية وأنكر الأولي وعابها على المحدثين، وفي رواية: "أيكم أملك لنفسه"، والمقصود أنه -عليه السلام- أملككم لنفسه، فيأمن مع هذه المباشرة الوقوع في المحرم وهو مباشرة فرج الحائض. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 115 رقم 296). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 77 رقم 1106). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 71 رقم 273).

قوله: "في فور حَيضتنا". بفتح الفاء وإسكان الواو أي في معظم حيضتنا ووقت كثرتها، والحيضة ها هنا بفتح الحاء أراد بها الحيض وذلك معنى قوله: "في فوح حيضتنا" وهو بالحاء المهملة. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- من غير هذا الوجه أيضًا ما يوافق هذا القول الذي صححنا عليه حديثي عائشة -رضي الله عنها- اللذين ذكرنا. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس -رضي الله عنه-: "أن اليهود كانوا لا يأكلون ولا يشربون ولا يقعدون مع الحيَّض في بيت، فذكر ذلك للنبي -عليه السلام-، فأنزل الله -عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1) فقال رسول الله -عليه السلام-: اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع". ففي هذا الحديث أنهم قد أبيحوا من الحائض كل شيء منها غير جماعها خاصّةً، وذلك على الجماع في الفرج دون الجماع فيما دونه. ش: ذكر هذا تأييدًا لما صحَّح عليه حديثي عائشة اللذين أحدهما قد ذكره في أول الباب في معرض الاحتجاج لأهل المقالة الأولى، والآخر الذي ذكره أهل المقالة الثانية، وذلك أن أنسًا قد صرَّح في حديثه أنهم أبيح لهم من الحائض كل شيء منها غير جماعها خاصّةً، وذلك الجماع هو جماع الفرج دون جماع غيره، والفرج يتناول القُبل والدُّبر. وأخرج حديثه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن أبي الوليد هشام ابن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [222].

وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: نا سليمان بن حرب، قال: نا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: "كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهنّ ولم يجامعوهنّ في البيوت، فسألوا نبي الله -عز وجل- عن ذلك، فأنزل الله -عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ...} (¬2) الآية، فأمرهم رسول الله -عليه السلام- أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ ويجامعوهنّ في البيوت، وأن يصنعوا كل شيء ما خلا الجماع". وأخرجه مسلم (¬3) مطولاً: حدثني زهير بن حرب، قال: نا عبد الرحمن بن مهدي، قال: نا حماد بن سلمة، قال: نا ثابت، عن أنس: "أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها, ولم يجامعوهنَّ في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ -عليه السلام- النبيَّ -عليه السلام-، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ...} (2) إلى آخر الآية، فقال رسول الله -عليه السلام-: اصنعوا كل شيء إلاَّ النكاح، فبلغ ذلك اليهود وقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلاَّ خالفنا فيه، فجاء أسَيد بن حضير وعبَّاد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهنَّ؟ فتغير وجه رسول الله -عليه السلام- حتى ظننا أن قد وجد [عليهما] (¬4)، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله -عليه السلام-، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفنا أن لم يجد علينا". ص: وقد روي هذا القول بعينه عن عائشة -رضي الله عنها-: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا عُبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن أبي قلابة: "أن رجلاً سأل عائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلاَّ فرجها". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 152 رقم 288). (¬2) سورة البقرة، آية: [222]. (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 246 رقم 302). (¬4) في "الأصل، ك": "عليها"، والمثبت من "صحيح مسلم".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عُبيد الله، عن أيوب، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة، مثل ذلك. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن بكير، عن أبي مرة مولى عقيل، عن حكيم بن عقال قال: "سألت عائشة عمَّا يحرم عليَّ من امرأتي إذا حاضت، قالت: فرجها". فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: أي قد روي هذا القول الذي روي عن أنس، عن النبي -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء إلَّا الجماع" بعينه عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحرارني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عُبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم، ولكن هذا مرسل؛ لأن أبا قلابة لم يدرك عائشة، وفي "التكميل": حدَّث أبو قلابة عن جماعة من الصحابة ولم يدركهم؛ منهم: حذيفة وابن عباس وابن عمر وعمر بن الخطاب ومعاوية والنعمان بن بشير وأبو ثعلبة وأبو هريرة وعائشة -رضي الله عنهم- وروى عن أنس بن مالك الأنصاري وأنس بن مالك الكعبي وسمرة بن جندب. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي أيضًا، عن عمرو بن خالد أيضًا، عن عُبيد الله الرِّقِّي أيضًا، عن أيوب السختياني أيضًا، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها-. وهذا إسناد صحيح متصل.

وأخرجه ابن حزم (¬1): من حديث أيوب، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق قال: "سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلَّا الفرج". الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن أبي مرة يزيد مولى عقيل بن أبي طالب روى له الجماعة، عن حكيم بن عقال العجلي البصري، ذكره ابن حبَّان في الثقات التابعين. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الليث، عن بكير، عن أبي مرة مولى عقيل، عن حكيم بن عقال أنه قال: "سألت عائشة: ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها، قلت: ما يحرم عليَّ من امرأتي إذا حاضت؟ قالت: فرجها". ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأينا المرأة قبل أن تحيض لزوجها أن يجامعها في فرجها وله منها ما فوق الإزار وما تحت الإزار أيضًا، ثم إذا حاضت حرم عليه الجماع في فرجها وحلَّ له منها ما فوق الإزار باتفاقهم، واختلفوا فيما تحت الإزار على ما ذكرنا، فأباحه بعضهم فجعل حكمه حكم ما فوق الإزار، ومنع منه بعضهم وجعل حكمه في حكم الجماع في الفرج. فلما اختلفوا في ذلك وجب النظر لنعلم أي الوجهين هو به أشبه فنحكم له بحكمه، فرأينا الجماع في الفرج يوجب الحدَّ والمهر والغسل، ورأينا الجماع في ما سوى الفرج لا يوجب من ذلك شيئًا، ويساوي في ذلك حكم ما فوق الإزار وما تحت الإزار، فثبت بما ذكرنا أن حكم ما تحت الإزار أشبه بما فوق الإزار منه بالجماع في الفرج، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو في حكم الحائض، فيكون حكمه حكم الجماع فوق الإزار لا حكم الجماع في الفرج. وهذا قول محمد بن الحسن -رحمه الله-. وبه نأخذ. ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 182). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 314 رقم 1403).

ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس: أن للرجل الاستمتاع بامرأته طاهرةً مطلقًا، بالجماع في فرجها والمباشرة فيما فوق الإزار وتحتها بلا خلاف، فإذا حاضت حرم عليه الجماع ولكن حلَّ له الاستمتاع بما فوق الإزار بلا خلاف، واختلافهم فيما تحت الإزار؛ فأباحه بعضهم -وهم أهل المقالة الثانية- فجعلوا حكمه حكم ما فوق الإزار، ومنعه بعضهم -وهم أهل المقالة الأولى- وجعلوا حكمه كحكم الجماع في الفرج، فلما اختلفوا هذا الاختلاف نظرنا فيه، فوجدنا المختلف فيه أشبه بحكم ما فوق الإزار فألحقناه به في أن حكمه حكم الجماع فوق الإزار لا حكم الجماع في الفرج، ووجه المشابهة الذي هو الجامع: ما ذكره. قوله: "وبه نأخذ". أي: وبِقَوْل محمدٍ نأخذ، نبَّه به على أنه اختار قول محمد في هذا الباب. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ثم نظرت بعد ذلك في هذا الباب وفي تصحيح الآثار فيه، فإذا هي تدل على ما ذهب إليه أبو حنيفة لا على ما ذهب إليه محمد بن الحسن، وذلك أنَّا وجدناها على ثلاثة أنواع: فنوعٌ منها ما روي عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه كان يباشر نساءه وهنّ حُيَّض فوق الإزار" فلم يكن في ذلك دليل على منع الحيض من المباشرة تحت الإزار لما قد ذكرناه في موضعه من هذا الباب. ونوعٌ منها وهو ما روى عُمير مولى عمر، عن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام-[على] (¬1) ما قد ذكرناه في موضعه، فكان في ذلك منعٌ من جماع الحيَّض تحت الإزار؛ لأن ما فيه من كلام رسول الله -عليه السلام-، وذِكْره ما فوق الإزار فإنما هو جوابٌ لسؤال عمر -رضي الله عنه- إياه "ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقال له: ما فوق الإزار" فكان ذلك جواب سؤاله لا نقصان فيه ولا تقصير. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ونوعٌ آخر: وهو ما روي عن أنس -رضي الله عنه- على ما قد ذكرناه عنه، فذلك نصٌّ على أنه مبيحٌ لإتيان الحيُّض دون الفرج وان كانت تحت الإزار، فأردنا أن ننظر أي هذين النوعين تأخر عن صاحبه فنجعله ناسخًا له، فنظرنا في ذلك فإذا حديث أنس -رضي الله عنه- فيه إخبارٌ عما كانت اليهود عليه، وقد كان رسول الله -عليه السلام- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بخلافهم، قد روينا ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في كتاب الجنائز، وقد أمره الله -عز وجل- في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، فكان عليه اتباع مَنْ تقدَّمه من الأنبياء -عليه السلام- حتى تُحْدَث له شريعة تنسخ شريعته، فكان الذي نُسخ ما كان اليهود عليه من اجتناب كلام الحائض ومؤاكلتها والاجتماع معها في بيتٍ هو ما في حديث أنس -رضي الله عنه- لا واسطة بينهما، وفي حديث أنسٍ هذا إباحة جماعها فيما دون الفرج، وكان الذي في حديث عمر -رضي الله عنه- الإباحة لما فوق الإزار والمنع مما تحت الإزار، فاستحال أن يكون ذلك متقدمًا لحديث أنسٍ إذ كان حديث أنس هو الناسخ لاجتناب الاجتماع مع الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وثبت أنه متأخر عنه وناسخٌ لبعض الذي أبيح فيه، فثبت ما ذهب إليه أبو حنيفة من هذا بتصحيح الآثار، وانتفى ما ذهب إليه محمد بن الحسن -رحمه الله-. ش: لما ذكر أن وجه النظر والقياس في هذا الباب اقتضى أن يكون الممنوع من الاستمتاع بالحائض موضع الدم فقط، وأشار إليه أنه اختياره، ثم لما نظر في تصحيح الأحاديث الواردة في هذا الباب تبيَّن له أن الأمر ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن معه لا ما ذهب إليه محمد بن الحسن ومَنْ معه، وأشار إلى، بيان [ذلك] (¬2) بقوله: "وذلك أنَّا وجدنا ... " إلى آخره، تقريره: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب على ثلاثة أنواع: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، السياق يقتضيها.

الأول: ما روي عن عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-: "أنه كان يباشر نساءه وهنَّ حيَّض فوق الإزار" فهذا لا دليل فيه على منع الحيَّض من المباشرة تحت الإزار؛ لما قد ذكرنا أن فعله -عليه السلام- هذا لا يستلزم عدم جواز المباشرة تحت الإزار. النوع الثاني: ما رواه عمير مولى عمر بن الخطاب، عن عمر -رضي الله عنه- وفيه المنع من المباشرة تحت الإزار؛ لأن فيه أن عمر سأل رسول الله -عليه السلام-: ما للرجل من امرأته إذا حاضت؟ وأجاب رسول الله -عليه السلام- بقوله: "له منها ما فوق الإزار" فدل على منع ما تحت الإزار؛ إذ لو لم يدل على ذلك لم يكن الجواب مطابقًا للسؤال، وأشار إلى ذلك بقوله: "فكان ذلك جواب سؤاله لا نقصان فيه ولا تقصير". أي فكان قوله -عليه السلام-: "له منها ما فوق الإزار" جواب سؤال -عمر -رضي الله عنه-- حين سأله: ما للرجل من امرأته إذا حاضت؟ جوابًا مطابقًا لسؤاله مقنعًا، لا نقصان فيه للإقناع ولا تقصير فيه للتطابق. النوع الثالث: ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عنه -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع " ففيه إباحة المباشرة ما فوق الإزار وما تحتها دون الفرج، وهو معنى قوله: "فذلك نص على أنه مبيح لإتيان الحيَّض دون الفرج وإن كان تحت الإزار". والحُيَّض -بضم الحاء وتشديد الياء- جمع حائض. فهذه ثلاثة أقسام يجب تصحيح معانيها على وجه يقع التطابق فيها ويرتفع الخلاف، وأشار إلى ذلك بقوله: "فأردنا أن ننظر أيَّ هذين النوعين تأخر عن صاحبه" وأراد بهما حديث عمر وحديث أنس، وإنما عيَّن النوعين الأخيرين؛ لأن النوع الأول داخل في النوع الثالث في الحقيقة، ثم بيان ذلك أن يقال: إن بين حديثي عمر وأنس تعارضًا ظاهرًا على ما لا يخفى، ودفعه بأن يقال: إن حديث عمر -رضي الله عنه- ناسخ لحديث أنس -رضي الله عنه- بيان ذلك: أن حديث أنس فيه إخبار عما كانت اليهود تفعل مع الحيَّض، وقد كان -عليه السلام- يحبُّ موافقة أهل الكتاب في الذي لم يؤمر فيه بخلافهم. روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- وقد ذكر ذلك في كتاب الجنائز، وأيضًا فالله تعالى أمر نبينا -عليه السلام- أن يتبع من تقدَّمَه من الأنبياء -عليهم السلام-

والقرآن نطق به، وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1) فأمره باتباعه لهم إلى أن يحدث له شريعة تنسخ ما أمر به من اتباعه، وقد نسخ ما في حديث أنس [ما] (¬2) كانت اليهود تفعله مع الحيَّض بقوله -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع" فهذا فيه إباحة جماعها فيما دون الفرج. وفي حديث عمر الإباحة لما فوق الإزار، والمنع مما تحت الإزار، فمن المحال أن يكون حديثه متقدمًا على حديث أنس؛ لأن في حديث عمر حظرًا لبعض ما في حديث أنس ومحرمًا له، فلا شك أن المُحرِّم متأخر عن المبيح، فهذا نسخ بدلالة التاريخ لا بعين التاريخ إذْ التاريخ لم يعلم، ولكن القاعدة: أن الإباحة والحظر إذا اجتمعا فالحظر أولى، ومن أبين الدلالة على تأخر حديث عمر -رضي الله عنه- أن في حديث أنس -رضي الله عنه- نزول قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3) الآية. ولو كان سؤال عمر -رضي الله عنه- حَالَ نزول الآية لاكتفى بما ذكر أنس من قوله -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع" فحيث لم يكتف وسأل عما للرجل من امرأته إذا حاضت، فدلَّ ذلك على أن سؤاله كان بعد ذلك. والله أعلم وأيضًا يعضد ظاهر قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (3) خبر عمر -رضي الله عنه-، وخبر أنس يوجب تخصيصه، وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصّه. وأيضًا إن خبر أنس مجمل تام، ليس فيه إباحة موضع بعينه، وخبر عمر -رضي الله عنه- مفسَّر فيه بيان لحكم الموضعين فيما تحت الإزار وما فوقه. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) في "الأصل، ك": "مما". (¬3) سورة البقرة، آية: [222].

ص: باب: وطء النساء في أدبارهن

ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ ش: أي هذا باب في بيان حكم وطء النساء في أدبارهنَّ، وهو جمع دُبُر، خلاف القُبُل. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-: "أن رجلاً أصاب امرأة في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا: أثغَرَها، فأنزل الله -عز وجل-: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) ". ش: يعقوب بن حميد بن كاسب الذي قد قلنا غير مرة: إنه ضعفه بعضهم، ووثقه آخرون. وعبد الله بن نافع الصائغ المقرىء، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح، والباقي من رجال الجماعة. قوله: "أثغرها". من أثغرت الدابة إذا شددت عليها الثغر، وإثغار المرأة كناية عن الوطء في دُبُرها. قوله: {حَرْثٌ لَكُمْ} (1). الحرث: المزدرع، وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع؛ وسمى النساء حرثًا لأنهن مزدرع الأولاد، وقال الزمخشري: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (1) مواضع حرث لكم، وهذا مجاز، شبههنَّ بالمحارث تشبيهًا لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) تمثيل أي: فائتوهنَّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يُحظَر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أي شقٍ أردتم بعد أن يكون المأتى واحدًا وهو موضع الحرث، ولكن طائفة استدلوا على إباحة إتيان النساء في أدبارهن، وتأوَّلوا هذه الآية على وفق ما ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223].

ذهبوا إليه، وقالوا: معناه حيث شئتم من القبل والدبر، وهذا تأويل فاسد على ما نذكره إن شاء الله تعالى". واعلم أن "أنَّى" يستفهم بها عن الحال نحو: أنَّى لقيت زيدًا أو مكافحًا؟ وقد يستفهم بها عن المكان فيقال: أنَّى كنت أي: أين كنت، وعن الزمان كقولك: أنَّى سرتَ أي: متى سرت، ويجزم بهما الشرط والجزاء نحو: أنَّى تذهب اذهبْ، وأصل وضعها للاستفهام ككيف، والمعنى في الآية: فائتوا حرثكم كيف شئتم مستقبلين أو مستدبرين غير أن يكون المأتى واحدًا وهو موضع الحرث. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن وطء المرأة في دبرها جائز، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وتأولوا هذه الآية على إباحة ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن كعب القرظي وسعيد بن سيار المدني ومالكًا وبعض الشافعية فإنهم قالوا: وطء المرأة في دُبُرها جائز، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وتأولوا هذه الآية -يعني قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1). وقالوا: معناه حيث شئتم من القبل والدبر. وقال عياض -رحمه الله-: اختلف الناس في وطء النساء في أدبارهن، هل ذلك حرام أم لا؟ وقد تعلَّق من قال بالتحليل بظاهر الآية، ولا يفصل عنها من يحرّم بأن المراد بها ما نزلت عليه من السبب والرد على اليهود فيما قالت، والعموم إذا خرج على سبب قَصُر عليه عند بعض أهل الأصول، ومن قال بتعدِّيه وحمله على مقتضى اللفظ من التفهم كانت الآية حجة له في نفي التحريم، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع منه فيكون ذلك تخصيصًا لعموم الآية بأخبار الآحاد وفي ذلك خلافٌ بين الأصوليين. وقال الحافظ أبو بكر ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها. فجوزته طائفة كبيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223].

كتابه "جماع النسوان وأحكام القرآن" وأسند جوازه إلى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة. وقال أبو بكر الجصاص في كتابه "أحكام القرآن": المشهور عن مالك إباحة ذلك، وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن تندفع بنفيهم عنه. وقد روى محمد بن سعد، عن أبي سليمان الجوزجاني قال: "كنت عند مالك بن أنس فسئل عن النكاح في الدبر، فضرب بيده إلى رأسه وقال: الساعة اغتسلتُ منه". وقد رواه عنه ابن القاسم على ما يجيء، وقال: قال الطحاوي: وحكى لنا محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: "ما صحَّ عن رسول الله -عليه السلام- في تحريمه ولا تحليله شيء، والقياس أنه حلال". وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم، عن مالك: "ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال -يعني وطء المرأة في دُبُرها- ثم قرأ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1). قال: فأي شيء أبين من هذا، وما أشك فيه، قال ابن القاسم: فقلت لمالك بن أنس: إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدثنا عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال: قلت لابن عمر -رضي الله عنهما-: "ما تقول في الجواري، أنُخَمِّض لهنّ؟ فقال: وما التخميض؟ فذكرت الدبر، قال: أو يفعل ذلك أحدٌ من المسلمين؟! " فقال مالك: فأشهد على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، يحدثني عن أبي الحباب سعيد بن يسار، أنه سأل ابن عمر عنه فقال: "لا بأس به". قال ابن القاسم: فقال رجل في المجلس: يا أبا عبد الله، فإنك تذكر عن سالم أنه قال: "كذب العلج على أبي -يعني نافعًا- كما كذب عكرمة على ابن عباس"، فقال مالك: وأشهد على يزيد بن رومان يحدثني، عن سالم، عن أبيه "أنه كان يفعله". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223].

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا وطء النساء في أدبارهن ومنعوا من ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح ومجاهدًا والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي -في الصحيح- وأحمد وإسحاق وآخرين كثيرين؛ فإنهم كرهوا وطء النساء في أدبارهن ومنعوا من ذلك، ويروى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: علي بن طلق وابن عباس وأبو الدرداء وابن مسعود وأبو هريرة وخزيمة بن ثابت وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعلي بن أبي طالب وأم سلمة -رضي الله عنهم-. وقد اختلف فيه عن عبد الله بن عمر، والأصح عنه المنع. ص: وتأولوا هذه الآية على غير هذا التأويل: فحدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جاب -رضي الله عنه-: "أن اليهود قالوا: من أتى امرأةً في فرجها من دبرها خرج ولدُها أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1). حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان الثوري، أن محمد بن المنكدر حدثه، عن جابر بن عبد الله، مثله. حدثنا محمد بن زكريا أبو شريح، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان الثوري، فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: "قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته باركةً جاء الولد أحول، فذكر ذلك النبي -عليه السلام- ثم ذكر مثله. قالوا: فإنما كان من قول اليهود ما ذكرنا، فأنزل الله -عز وجل- دفعًا لقولهم واباحة للوطء في الفرج من الدبر والقبل جميعًا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223].

ش: أي وتأول هؤلاء الآخرون قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1). على غير التأويل الذي تأوله أهل المقالة الأولى والمعنى: أولوه {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1). مستقبلين أو مستدبرين ولكن في موضع الحرث وهو الفرج خاصّة؛ وذلك لأن اليهود لما قالوا: مَنْ أتى امرأته باركةً جاء الولد أحول، أنزل الله -عز وجل- {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) دفعًا لقولهم وإنكارًا عليهم، فبيَّن الله تعالى في ذلك كذبهم، وإباحة الوطء في الفرج سواء كان من جهة الدبر أو من جهة القبل، فحينئذٍ تقتصر إباحة الوطء في الفرج، ويبقى الوطء في الدبر حرامًا كما كان قبل. ولقائل أن يقول: إن القاعدة عندكم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. قلنا: نعم، هذه هي القاعدة، ولكن وردت أحاديث كثيرة، فأخرجت الآية عن عمومها واقتصرتها على إباحة الوطء في الفرج، ولكن على أي وجه كان، من أي شيء كان، وفيه مناقشة، وهي أن يقال: نقل عن الشافعي ثم عن النسائي أيضًا أنه لم يصح عن النبي -عليه السلام- شيء في تحريم إتيان النساء في أدبارهن ولا في إباحته. قلت: عدم الصحة عندهما لا ينافي الصحة عند غيرهما. والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث جابر من أربع طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، سمع جابرًا يقول: "كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (1) ". الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية [223]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 517 رقم 16662).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) كلاهما من حديث سفيان، عن ابن المنكدر، سمعت جابرًا يقول: "إن اليهود يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬3) " وفي لفظ للبخاري "يقولون: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول". الثالث: عن أبي شريح محمد بن زكريا بن يحيى القضاعي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬4): نا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: نا سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرًا يقول: "إن اليهود تقول: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها كان الولد أحول، فأنزل الله -عز وجل-: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (3) ". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬5): نا محمد بن مثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه-: "أن يهود كانت تقول: إذا أُتيت المرأة من دبرها ثم حملت كان ولدها أحول قال: فأنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (3) ". ص: وقد روى آخرون: هذا الحديث عن ابن المنكدر -على ما ذكرنا- وزادوا فيه: "إذا كان من الفرج". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1645 رقم 4254). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1058 رقم 1435). (¬3) سورة البقرة، آية: [223]. (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 249 رقم 2163). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 1059 رقم 1435).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدَّث، عن الزهري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله: "أن يهوديًّا قال: إذا نكح الرجل امرأته مجبية خرج ولده أحول، فأنزل الله -عز وجل-: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1).إن شئتم مجبية وإن شئتم غير مجبية، إذا كان ذلك في صمام واحد". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن محمد بن المنكدر حدَّثه، عن جابر بن عبد الله: "أن اليهود قالوا للمسلمين: مَنْ أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولدُه أحول، فأنزل الله -عز وجل-: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) فقال رسول الله -عليه السلام-: مدبرة ومقبلةً ما كان في الفرج". ففي توقيف النبي -عليه السلام- إياهم في ذلك على الفرج إعلامٌ منه إياهم أن الدبر بخلاف ذلك. ش: أي قد روى جماعة آخرون من المحدثين مثل جرير بن حازم وعبد الملك بن جريج والنعمان بن راشد ومحمد بن مسلم الزهري هذا الحديث، وزادوا فيه حرفًا وهو قولهم: "إذا كان في الفرج". وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي الثقفي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم بن زيد البصري روى له الجماعة، عن النعمان بن راشد الجزري أبي إسحاق الرقي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن محمد بن مسلم الزهري، عن محمد بن المنكدر المصري، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني عُبيد الله بن سعيد وهارون بن عبد الله وأبو معن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223]. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1059 رقم 1435).

الرقَاشي، قالوا: ثنا وهب بن جرير، قال: نا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه- نحوه. قوله: "مجبية": يعني على وجهها، وقال ابن الأثير: أي منكبةً على وجهها تشبيهًا بهيئة السجود، وقال أبو عُبيدة في حديث عبد الله وذكر القيامة فقال: "وتجبُّون تجبية رجل واحد لله رب العالمين": والتجبية تكون في الحالين: أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم. والوجه الآخر: أن ينكبّ على وجهه باركًا، قال: وهذا الوجه هو المعروف عند الناس، وقد حمله بعضهم على أنهم يَخرُّون سجَّدًا، فجعل السجود هو التجبية. قلت: هو من جبَّى يجبِّي، كعلَّى يُعلِّي تعليةً، ومادته: جيم، وباء موحدة، وألف. قوله: "إذا كان ذلك في صمام واحد". بكسر الصاد المهملة، أي إذا كان في مسلك واحد، والصمام ما يسدّ به الفُرجة، فسمي به الفرج، ويجوز أن يكون التقدير: في موضع صمام واحد، على حذف المضاف، ويروى بالسين "في سمامٍ واحد" أي مأتى واحد، وهو من سمام الإبرة: ثقبها. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج المكي ... إلى آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. قوله: "مدبرةً ومقبلةً". منصوبان على الحال، والتقدير: يأتي أحدكم امرأته حال كونها مقبلة، وحال كونها مدبرةَّ، ويجوز أن يكون خبر كان المقدر، أي: سواء كانت مقبلةً أو مدبرةَّ مَا دام الوطء في الفرج. قوله: "ففي توقيف النبي -عليه السلام- إياهم في ذلك". أي في وطء امرأته على الفرج، "إعلامٌ منه" أي من النبي -عليه السلام-.

"أن الدبر بخلاف ذلك" أي بخلاف القبل في الوطء؛ لأن تنصيصه على الفرج ينافي دخول الدبر فيه. فافهم. ص: وقد قيل في تأويل هذه الآية أيضًا غير هذا التأويل: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: نا أبو الأحوص، قال: ثنا أبو إسحاق، عن زائدة -هو ابن عمير- قال: "سألت ابن عباس عن العزل فقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (¬1)، إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل". ش: أي قد قيل في تأويل قوله يعني: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) غير التأويل المذكور، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد -شيخ البخاري- عن أبي الأحوص سلَّام بن سليم، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبِيعي، عن زائدة بن عمير الطائي وثقه ابن حبان عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عباس: "في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (1) فمن شاء أن يعزل فليعزل، ومن شاء أن لا يعزل فلا يعزل". وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب؛ أخرجه الدارمي (¬3) قال: أنا خليفة، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت ليثًا حدَّث، عن عيسى بن قيس، عن سعيد بن المسيب: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1)، قال: إن شئت فاعزل وإن شئت فلا تعزل". انتهى. فإذا كان تأويل الآية هكذا عند ابن عباس، لا يبقى فيها حجة لأهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 510 رقم 16581). (¬3) "سنن الدارمي" (1/ 274 رقم 1130).

ص: وكان من حجة أهل المقالة الأولى أيضًا لقولهم في ذلك ما قد روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من إباحة ذلك، كما حدثنا أبو قرة محمد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: ثنا أصبغ بن الفرج وأبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغَمْر، قالا: قال ابن القاسم: حدثني مالك بن أنس، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أبي الحباب سعيد بن يسار: "أنه سأل ابن عمر عنه -يعني وطء النساء في أدبارهن- فقال: لا بأس به". ش: أي وكان من جملة ما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة إتيان النساء في أدبارهن ما روي عن عبد الله بن عمر: "أنه قال: لا بأس بالوطء في أدبار النساء". أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي قرة محمد بن حميد بن هشام الرعَيْني، عن أصبغ بن الفرج الفقيه القرشي الأموي، ورَّاق عبد الله بن وهب وشيخ البخاري، وعن عبد الرحمن بن أبي الغمر -بالغين المعجمة- أبي زر، كلاهما عن محمد بن القاسم بن شعبان المصري الفقيه المالكي، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المدني، عن أبي، الحبُاب -بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة المخففة وفي آخره باء أيضًا- سعيد بن يسار المدني مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-: "أنه سأل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ... " إلى آخره. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: قد روي [هذا] (¬1) عن عبد الله بن عمر كما ذكرتم، وروي عنه خلافه: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قالا: ثنا الليث -قال ابن وهب في حديثه: عن الحارث بن يعقوب، وقال عبد الله بن صالح: حدثني الحارث بن يعقوب- عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: "قلت لابن عمر: ما ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

تقول في الجواري، أنُحَمِّض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت الدُبُر، فقال: وهل يفعل ذلك أحدٌ من المسلمين؟! ". فقد ضادَّ هذا عن ابن عمر ما قد رواه عنه أهل المقالة الأولى، والدليل على صحة هذا: إنكار سالم بن عبد الله أن يكون ذلك من أبيه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا عطَّاف بن خالد، عن موسى بن عبد الله بن حسن، أن أباه سأل سالم بن عبد الله أن يحدثه بحديث نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يرى بأسًا بإتيان النساء في أدبارهن، فقال سالم: كذب العبد -أو أخطأ- إنما قال: لا بأس أن يؤتين في فروجهن من أدبارهن". ولقد قال ميمون بن مهران: "إن نافعًا إنما قال ذلك بعدما كبُر وذهب عقله". حدثنا بذلك فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عُبيد الله، عن ميمون بن مهران، فقد يضعف ما هو كثر من هذا بأقل من قول ميمون، ولقد أنكره نافع أيضًا على من رواه عنه: حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا زكريا بن يحيى كاتب العمري قال: ثنا المفضَّل بن فضالة، عن عبد الله بن عياش، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر، أنه أخبره قال لنافع مولى عبد الله بن عمر: "أنه قد أُكثِر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن، قال نافع: كذبوا عليَّ ولكن سأخبرك كيف الأمر، إن ابن عمر -رضي الله عنهما- عرض المصحف يومًا وأنا عنده حتى بلغ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، قال: يا نافع هل تعلم مِنْ أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال: إنا كنا معشر قريش نجبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قدْ كَرِهْنَ ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله -عز وجل-: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، ففي هذا الحديث إنكار نافع لما روي عنه عن ابن عمر من إباحة وطء النساء في أدبارهن وأخبار منه عن ابن عمر أن تأويل قوله الله -عز وجل-:

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ليس على ما تأوله أهل المقالة الأولى، ولكن على إباحة وطء النساء باركات في فروجهن. ش: هذا جواب عما رواه مالك، عن عبد الله بن عمر من إباحة وطء النساء في أدبارهن، بيان ذلك أن يقال: سلمنا أن ما ذكرتم روي عن ابن عمر رواه عنه سعيد بن يسار، ولكن روى سعيد بن يسار عنه أيضًا ما يضادّه ويخالفه وهو ما أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح -وراق الليث بن سعد، وشيخ البخاري- عن الليث بن سعد قال: حدثني الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬1): أنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: "قلت: لابن عمر: ما تقول في الجواري أُحمِّضهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت الدُّبُر، قال: وهل يفعل ذلك أحدٌ من المسلمين". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار ... إلى آخره نحوه. قوله: "أنُحَمِّض" بالحاء المهملة والضاد المعجمة، يقال: أحمضت الرجل عن الأمر أي حولت عنه وهو من أحمضت الإِبل إذا ملَّت من رعي الخُلة وهو الحلو من النبات واشتهت الحمض فتحولت إليه ومنه قيل للتفخيذ في الجماع: تحميض فهذا قد ضادّ وخالف ما رواه أهل المقالة الأول عن ابن عمر مع ما فيه من الإنكار البليغ حيث نَسَبَ ابن عمر مَنْ يفعل ذلك إلى الخروج من زمرة المسلمين فدلَّ ذلك ما روي عنه في إباحة ذلك ساقط غير صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 277 رقم 1143).

قوله: "والدليل على صحة هذا إنكار سالم بن عبد الله أن يكون هذا من أبيه". أي الدليل على صحة مضادة هذه الرواية ما رواه أهل المقالة الأولى وعلى صحة هذه الرواية وسقوط ما رواه أهل المقالة الأول إنكار سالم بن عبد الله بن عمر أن يكون ذلك -أي خبر إباحة إتيان النساء في أدبارهن- من أبيه؛ حيث قال: كذب العبد أو أخطأ يعني نافعًا مولى أبيه عبد الله وذلك لما قال نافع عن ابن عمر "أنه كان لا يرى بأسًا بإتيان النساء في أدبارهن" أخرج ذلك عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم -المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري- عن عطاف بن خالد بن عبد الله بن العاص القرشي المخزومي أبي صفوان المدني، وثقه يحيى وأحمد وأبو داود، وروى له الترمذي والنسائي وأبو داود في القدر، عن موسى بن عبد الله ابن حسين بن حسن العلوي -وثقه ابن معين، وقال البخاري: فيه نظر- عن أبيه عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وثقه أبو حاتم والنسائي، وقال يحيى ابن معين: ثقة مأمون، وقال الواقدي: كان من العبَّاد -عن سالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. قوله: "ولقد قال ميمون بن مهران ... إلى أخره" إشارة إلى وجه آخر في فساد ما روي عن نافع، عن ابن عمر في إباحة إتيان النساء في أدبارهن والحاصل أنه بيَّن فساد رواية نافع عن مولاه التي احتج بها أهل المقالة الأولى بثلاثة أشياء: الأول: أن سالمًا قد كذبه في هذا أو نسبه إلى الخطأ، وفي رواية قال: "كذب العلج على أبي -يعني نافعًا- كما كذب عكرمة على ابن عباس". الثاني: أن ميمون بن مهران الجزري الأسدي قال: "إنما قال ذلك نافع بعد ما ذهب عقله"، قال الطحاوي: حدثنا بذلك -أي بما روي عن ميمون هذا- فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي -نزيل مصر- عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي، عن ميمون. فيكون هذا الكلام عن نافع وقت خرفه فلا يعبأ به وقد يضعف ما هو أكثر من هذا بما هو أقل مما قال ميمون.

الثالث: أن نافعًا نفسه أنكر هذا القول على مَنْ رواه عنه أشار إليه بقوله: ولقد أنكره نافع أيضًا على مَنْ رواه عنه. وقد عُلِم أن الراوي إذا أنكر ما روي عنه يسقط الاحتجاج به ويفسد ذلك الخبر. أخرج ذلك بإسناد صحيح عن يزيد بن سنان القزاز -شيخ النسائي أيضًا- عن زكريا بن يحيى كاتب العمري وهو زكريا بن يحيى بن صالح بن يعقوب القُضَاعي أبو يحيى المصري الحرسي- كاتب العمري القاضي واسمه عبد الرحمن بن عبد الله، روى عنه مسلم وغيره، قال ابن يونس: وكانت القضاة تقبله، عن المفضل بن فضالة بن عبيد أبي معاوية المصري قاضي مصر، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف بالشين المعجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القتباني المصري -وثقه ابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه- عن كعب بن علقمة بن كعب التنوخي أبي عبد الحميد المصري، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي -عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي المقرئ -روى له الجماعة- عن نافع ... إلى، آخره. وأخرجه الجصَّاص في أحكامه معلقًا من حديث المفضل بن فضالة ... إلى آخره. قوله: "قد أُكْثر عليك" القول على صيغة المجهول. قوله: "تجبَّى النساء" من التجبية بالجيم وقد ذكرناه ويجوز أن يكون بالحاء المهملة والنون من التحنية وثلاثيه حنا يحنو إذا طأطأ رأسه أسفل شبه الراكع. ص: وقد روي عن أم سلمة -رضي الله عنها- أيضاً نحوٌ من ذلك. حدثنا فهدٌ قال: ثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي قال: أنا وهيب قال: أنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "أتيت حفصة بنت عبد الرحمن فقلت لها: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي منكِ، فقال: سل يا ابن أخي عمَّا بدا لك، فقلت: عن إتيان النساء في

أدبارهن، فقالت: حدثتني أم سلمة: أن الأنصار كانوا لا يجبُّون، وكان المهاجرون يجبُّون، وكانت اليهود تقول: من جبَّى خرج ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا نساء الأنصار فنكح رجل من المهاجرين أمرأةً من الأنصار فجبَّاها فأتت أم سلمة فذكرت لها ذلك، فلما دخل النبي -عليه السلام- ذكرت ذلك له أم سلمة واستحيت الأنصارية فخرجت، فقال النبي -عليه السلام-: ادعيها فدعتها، فقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} صمامًا واحدًا"، فقد أخبرت أم سلمة بتأويل هذه الآية وبتوقيف النبي -عليه السلام- إياهم بقوله: "صمامًا واحدًا" فدلَّ ذلك أن حكم ضدّ ذلك الصمام بخلاف ذلك الصمام، ولولا ذلك لما كان لقوله: صمامًا واحدًا معنًى. ش: أي قد روي عن أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين مثل ما روي عن عبد الله بن عمر. أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم عن فهد بن سليمان، عن موسى بن إسماعيل المنقري التَّبُوذكي -بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الذال المعجمة بعدها كاف نسبة إلى تبوذك محلة بالبصرة وهو شيخ البخاري وأبي داود، يروي عن وهيب بن خالد البصري، روى له الجماعة- عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القارئ أبي عثمان المكي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن عبد الرحمن بن سابط -ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط- القرشي الجمحي المكي، روى له الجماعة سوى البخاري- عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-، قال العجلي: تابعية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود وابن ماجه. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬1): عن مسلم بن إبراهيم، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان ... إلى آخره نحوه سواء. غير أن في لفظه: سِمامًا بالسين المهملة، ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 272 رقم 1119).

ثم قال: والسمام السبيل الواحد، وانتصابه على الظرفية أي في صمام واحد لكنه ظرف مخصوص أجري مجرى المبهم. فافهم. ص: وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تأويل هذه الآية ما يَرْجع معناه إلى هذا المعنى أيضًا. حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو الأسود قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أن حبيب أن عامر بن يحيى المعافريّ حدَّثه أن حنش بن عبد الله السبائي حدَّثه أنه سمع ابن عباس يقول: "إن ناسًا من حمير أتوا إلى رسول الله -عليه السلام- يسألونه عن النساء، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) فقال رسول الله -عليه السلام-: ائتها مقبلةً ومدبرةً إذا كان ذلك في الفرج". ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس في تأويل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) ما يرجع معناه إلى معنى ما روي عن أم سلمة. أخرجه عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، عن يحيى: كان راوية ابن لهيعة وكان شيخ صدق، عن عبد الله بن لهيعة -فيه ما فيه- عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، روي له الجماعة، عن عامر بن يحيى بن جشيب بن مالك بن سريج المعافري الشرعبي أبي خُنَيْس -بالخاء المعجمة المضمومة والنون والسين المهملة- وثقه أبو داود والنسائي، وروى له مسلم والترمذي وابن ماجه، عن حَنش -بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة- بن عبد الله السبائي أبي رِشْدين الصنعاني، من صنعاء دمشق، قال العجلي وأبو زرعة: ثقة، روى له الجماعة إلا البخاري. والسبائي -بفتح السين المهملة بعدها باء موحدة- نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [223].

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، نا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس: "أن أناسًا من حمير أتوا النبي -عليه السلام- يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: إني أحب النساء وأحب أن آتي امرأتي مجبَّية فكيف ترى في ذلك، فأنزل الله -عز وجل- {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬2) فقال رسول الله -عليه السلام-: ائتها مقبلةً ومدبرةً إذا كان ذلك في الفرج". ص: ثم قد جاءت الآثار متواترة بالنهي عن إتيان النساء في أدبارهن فمن ذلك: ما حدثنا يونس قال: أنا سفيان، عن ابن الهاد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الله لا يستحيي من الحق؛ لا تأتوا النساء في أدبارهن". حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال: ثنا الليث بن سعد قال: حدثني عمر مولى عفرة بنت رباح -أخت بلال مؤذن رسول الله -عليه السلام- عن عبد الله بن علي بن السائب، عن عبيد الله بن الحصين، عن عبد الله بن هرمي الخطمي، عن خزيمة بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: فذكر مثله". حدثنا روح قال: ثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال: ثنا محمد بن علي قال: "كنت مع محمد بن كعب القرظي، فسأله رجل قال: يا أبا حمزة ما ترى في إتيان النساء في أدبارهنّ؟ فأعرض أو سكت، فقال: هذا شيخ قريش فاسأله -يعني عبد الله بن علي بن السائب- فقال عبد الله: اللهم قذرًا, ولو كان حلالاً، قال جدِّي: ولم يكن سمع في ذلك شيئًا. قال: ثم أخبرني عبد الله بن علي أنه لقي عمرو بن أحيحة بن الجلاح فسأله عن ذلك فقال: أشهد لَسَمعت خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله -عليه السلام- شهادته شهادة رجلين يقول: أتى رجل إلي النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله آتي امرأتي من دُبُرها؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: نعم مرتين أو ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 236 رقم 12983). (¬2) سورة البقرة، آية: [223].

ثلاثًا، قال: ثم فطن رسول الله -عليه السلام- فقال: في أي الخصفتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخربتين؟ أَمِن دُبُرها في قبلها فنعم، فأما في دُبُرها فإن الله -عز وجل- ينهاكم أن تأتوا النساء في أدبارهنّ". حدثنا عبد الرحمن بن الجارود قال: ثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث بن سعد قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري ثم الوائلي، عن هرمي ابن عبد الله الوائلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". حدثنا بكر بن إدريس قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا حيوة وابن لهيعة قالا: أنا حسان مولى محمد بن سهل، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن علي، عن هرمي بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن قال: ثنا أبو عبد الرحمن ... فذكرنا بإسناده مثله. حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو زرعة قال: أخبرني حيوة قال: أنا حسان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو الأسود قال: أخبرني ابن لهيعة عن حسان مولى محمد بن سهل بن عبد العزيز، عن سعيد ... فذكر بإسناده مثله. ش: أي قد جاءت الأحاديث عن النبي -عليه السلام- والآثار عمن بعده من الصحابة متواترة -أي متكاثرة مترادفة- منها حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-. وأخرجه من ثمان طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عمارة بن خزيمة وهو أيضًا ثقة، روى له الأربعة. عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن عبد إلله بن أسامة بن الهاد الليثي، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه-.

وأخرجه الطبراني (¬1): نا أبو يزيد القراطيسي، نا أسد بن موسى (ح) وثنا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله لا يستحيي من الحق؛ لا تأتوا النساء في أدبارهن". الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري -شيخ البخاري- عن الليث بن سعد، عن عمر بن عبد الله مولى عفرة بنت رباح -بالباء الموحدة- فيه مقال؛ فعن أحمد: لا بأس به ولكن أكثر حديثه مراسيل، وعن يحيى: ضعيف وكذا عن النسائي، وقال ابن حبان: يقلب الأخبار فلا يحتج به، روى له أبو داود والترمذي -عن عبد الله بن علي بن السائب بن عبيد القرشي المطلبي- لم أرَ أحدًا تكلم فيه، روى له أبو داود والنسائي، عن عبيد الله بن الحصين -هو عبيد الله- بالتصغير ابن عبد الله-بالتكبير- بن الحصين بن محصن الأنصاري الخطمي وقد ينسب إلى جده، ويقال فيه: عبد الله بن عبد الله -بالتكبير فيهما- قال البخاري: لا يصح، قال أبو زرعة وابن حبان: ثقة، ولكن في حديثه هذا اضطراب؛ لأن عبد الله بن هرمي الخطمي قد اضطرب فيه، فقيل: هرمي بن عبد الله، وقيل: هرمي بن عقبة، وقيل: هرمي ابن عمرو، وقيل: عبد الله بن هرمي الأنصاري الواقفي ويقال: الخِطمي المدني مختلف في صحته له هذا الحديث الواحد عن خزيمة بن ثابت، وذكره ابن حبَّان في الثقات، من التابعين، وقال ابن منده: هرمي بن عبد الله الواقفي ذكر في الصحابة ولا يثبت، وقال ابن الأثير: قال أبو عمر -رحمه الله-: هرم -بغير ياء- الأنصاري من بني عمرو بن عوف، هو أحد البكائين، وكذا قال أبو نعيم والكبي. وقال ابن ماكولا: إنه شهد الخندق والمشاهد إلا تبوكًا وهو أحد البكائين، وجعله ابن منده وأبو موسى صغيرًا في زمن النبي -عليه السلام-، والأول أصح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 84 رقم 3716).

وأخرجه الطبراني (¬1): نا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عمر مولى عفرة، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن عبيد الله ابن الحصين، عن عبد الله بن هرمي، عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا يحل لأحدٍ أن يأتي النساء في أدبارهن". الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن إبراهيم بن محمد بن العباس ابن عثمان بن شافع القرشي أبي إسحاق المطلبي المكي الشافعي ابن عم الإِمام محمد ابن إدريس الشافعي وشيخ ابن ماجه ومسلم في غير الصحيح، قال أبو زرعة: صدوق، وقال الدارقطني: ثقة -عن محمد بن علي بن شافع القرشي المطلبي عم محمد ابن إدريس الشافعي، وقال عمي: ثقة، وهو جد إبراهيم بن محمد الشافعي، عن محمد بن كعب القرظي أبي حمزة المدني روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث إبراهيم بن محمد بن عباس الشافعي قال: ثنا جدِّي محمد بن علي قال: "كنت عند محمد بن كعب القرظي فجاءه رجل فقال: يا أبا عمرو ما تقول في إتيان المرأة في دبرها، فقال: هذا شيخ من قريش فسله -يعني عبد الله بن علي- وكان عبد الله لم يسمع في ذاك شيئًا، قال: اللهم قذر ولو كان حلالاً، ثم إن عبد الله لقي عمرو بن أحيحة فقال: هل سمعت في إتيان المرأة في دبرها شيئًا؟ فقال: أشهد لسمعت ... إلى آخره نحوه". قوله: "يا أبا حمزة" كنية محمد بن كعب القرظي ويكنى بأبي عبد الله وبأبي عمرو أيضًا كما وقع كذلك في رواية البيهقي. قوله: "فقال عبد الله بن عبد الله بن علي بن السائب". قوله: "اللهم قذرًا ولو كان حلالًا" قد وقع قذرًا منصوبًا في رواية الطحاوي ومرفوعًا في رواية البيهقي، فوجه النصب على المفعولية، والتقدير نرى ذلك قذرًا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 88 رقم 3736). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 196 رقم 13891).

ولو كان حلالاً، ووجه الرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي هو قذَر -يعني هذا الفعل قذر- ولو كان حلالاً، والقذر ضدّ النظافة، وشيء قذر أي بيِّن القذارة، وقذِرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته. قوله: "ولو كان حلالاً" معطوف على شيء محذوف تقديره: إن لم يكن حلالًا ولو كان حلالًا. فإن قيل: ما وجه قوله: اللهم في هذا الموضع. قلت: "اللهم" تستعمل في الكلام على ثلاثة أنحاء: الأول: للنداء المحض وهو ظاهر. الثاني: للإيذان بقدرة المستثنى كقول الجريري: اللهم إلا أن نفد زاد الجوع. الثالث: لتدل على تيقن المجيب في الجواب المقترن بمؤيد كقولك لمن قال: أزيدٌ قائم؟ اللهم نعم، أو اللهم لا. والتي ها هنا من القبيل الثالث. قوله: "قال: حدثني أبي قال إبراهيم بن محمد الشافعي قال جدي" وجده هو محمد بن علي بن شافع وهو جده من أمه كما ذكرنا. قوله:"ولم يكن سمع في ذلك شيئًا" أي لم يكن عبد الله بن علي بن السائب سمع في حكم الإتيان في أدبار النساء شيئًا. قوله: "قال: ثم أخبرني" أي قال محمد بن علي بن شافع، ثم أخبرني عبد الله بن علي بن السائب. قوله: "لقي عمرو بن أُحَيْحَه" -بضم الهمزة وفتح الحائين المهملتين بينهما ياء آخر الحروف- ابن الجُلاح -بضم الجيم وتخفيف اللام وفي آخره حاء مهملة- بن الحريش الأنصاري المدني الصحابي. قوله: "ثم فَطَن رسول الله -عليه السلام- بفتح الطاء ومعناه فهم، فكأنه -عليه السلام- لمَّا قال لذلك الرجل: نعم مرتين أو ثلاثًا لم يكن ذهنه حاضرًا في ذلك الجواب لكنه

مشغولًا بشيء آخر، فلما فطَن لذلك عاد وسأل فقال: في أي الخصفتين. قال ابن الأثير: معناه في أي الثقبتين، وكذلك معنى قوله: في أي الخربتين أو في أي الخرزتين والثلاثة بمعنًى واحد، وكلها قد رويت. قلت: الخصفة بضم الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة: الثقبة، وكذلك الخزرة بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي، وكذلك الخربة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وكل ثُقْب مستدير فهو خربة. الرابع: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن سعيد بن كثير بن عُفَير الأنصاري المصري -شيخ البخاري- عن الليث بن سعد المصري عن عبيد الله ابن عبد الله -بالتصغير في الابن والتكبير في الأب- عن هرمي بن عبد الله -هو عبد الله بن هرمي- وقد ذكرنا الاضطراب فيه عن قريب. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث سعيد: نا عبد العزيز بن محمد، عن ابن الهاد، عن عبيد الله بن عبد الله بن حصين، عن هرمن بن عبد الله، عن خزيمة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن" وقال الشافعي: أخطأ في سنده". الخامس: عن بكر بن إدريس، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقرئ القصير -شيخ البخاري- عن حيوة بن شريح وعبد الله بن لهيعة كلاهما عن حبيب بن عبد الله الأموي مولى محمد بن سهل بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم -وثقه ابن حبان- عن سعيد بن أبي هلال أبي العلا المصري مولى عروة بن شُيَيْم -روى له الجماعة- عن عبد الله بن علي بن السائب -المذكور عن قريب- عن هرمن بن عمرو -وهو هرمن بن عبد الله- عن خزيمة بن ثابت. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا هارون بن ملول المصري، ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا: ثنا حسان مولى محمد بن سهل، عن سعيد بن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 197 رقم 13894). (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 89 رقم 3739).

أبي هلال، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن هرمن بن عبد الله، عن خزيمة بن ثابت، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن". السادس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وابن لهيعة ... إلى آخره نحوه. السابع: عن ربيع بن سليمان الخيري الأعرج، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري، عن حيوة بن شريح بن صفوانا لتجيبي المصري الفقيه العابد، عن حسان بن عبد الله مولى محمد بن سهل، عن سعيد بن أبي هلال عن عبد الله بن علي بن السائب، عن هرمن بن عبد الله، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". الثامن: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن حسان بن عبد الله ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" (¬1): نا عبد الله بن علي، نا حيوة وابن لهيعة قالا: ثنا حسان مولى محمد بن سعيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن علي، عن هرمن بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت -صاحب رسول الله -عليه السلام-- "أن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن". ص: حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا الخصيب بن ناصح قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام- قال: "هي اللوطية الصغرى -يعني وطء النساء في أدبارهن". ش: رجاله ثقات ذكروا غير مرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 214 رقم 21914).

وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1): نا همام، عن قتادة، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- قال: "تلك اللوطية الصغرى يعني إتيان المرأة في دبرها". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من طريق الطيالسي. ص: حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا معلى بن أسد قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لا ينظر الله -عز وجل- إلى رجل وطئ امرأةً في دُبُرها". حدثنا الربيع الجيزي قال: ثنا حيوة بن شريح قال: أنا يزيد بن الهاد، فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "امرأته". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن سهيل فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سهيل، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة -وهو الهُجَيمي- عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أتى حائضًا أو امرأةً في دُبُرها، أو كاهنًا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد -عليه السلام-". ش: هذه خمس طرق: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمِّي البصري -شيخ البخاري- عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري أبي إسحاق الدباغ البصري -روى له الجماعة- عن سهيل بن أبي صالح ذكوان المدني -روى له الجماعة؛ البخاري ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 299 رقم 2266). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 198 رقم 13900).

مقرونًا بغيره- عن الحارث بن مخلد -بتشديد اللام- الزرقي الأنصاري المدني -وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا أحمد بن إسحاق، عن وهيب عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا ينظر الله -عز وجل- إلى رجل جَامعَ امرأة في دُبُرها". الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزيّ، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد العزيز بن المختار، نا سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلَّد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا ينظر الله إلى رجل جَامَع امرأته في دُبُرها". الثالث: عن روح بن الفرج القطان، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلّد، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عفان، ثنا وهيب، نا سهيل، عن الحارث ابن مخلَّد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا ينظر الله -عز وجل- إلى رجل جَامَعَ امرأته في دُبُرها". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف -شيخ البخاري- عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- الشامي الحمصي، عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلدَّ، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 530 رقم 16811). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 619 رقم 1923). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 344 رقم 8513).

الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم البصري، عن أبي تميمة طريف بن مجالد الهجيمي البصري، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي نعيم، عن حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- قال: "مَنْ أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، ومن أتى حائضًا، ومن أتى امرأةً في دُبُرها فقد برئ مما أنزل الله على محمد -عليه السلام-". وأخرجه أبو داود (¬2): أيضًا، عن أبي هريرة، ولفظه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ أتى امرأته في دُبُرها". قوله: "كفر" معناه إذا كان مستحلًّا، أو المراد كُفران النعمة أو هو على وجه التغليظ. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: ثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن سهيل بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله (أن رسول الله -عليه السلام-) (¬3) قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في محاشهن". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسد قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سهيل بن أبي صالح وعمر مولى عفرة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا يحل مأتاهُ النساء في حشوشهن". ش: هذان طريقان رجالهما ثقات، إلا أن عمر مولى عفرة فيه مقال وقد ذكرناه عن قريب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 530 رقم 16809). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 249 رقم 2162). (¬3) تكررت في "الأصل، ك".

قوله: "في محاشهن" بفتح الميم وتشديد الشين المعجمة جمع محَشَّة وهي الدُّبُر، قال الأزهري: وتقال أيضًا بالسين المهملة، كنَّى بالمحاشّ عن الأدبار كما يكنى بالحشوش عن مواضع الغائط، ومنه حديث ابن مسعود "محاشّ النساء عليكم حرام". قوله: "لا يحل مأتاة النساء" هو من قولك: أتيت الأمر من مأتاته أي من وجهه الذي يؤتي منه. قوله: "في حشوشهن" أي أدبارهن، جمع حش وهو في الأصل البستان والجمع حيشان كضيف وضيفان، والمراد به ها هنا المخرج وكذلك الحُشُّ بضم الحاء؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، والجمع حشوش، والمَحش بفتح الميم الدُّبُر فالحاصل أن الحشوش ها هنا كناية عن المخارج التي هي الأدبار. فافهم. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عيسى بن حطَّان، عن مسلم بن سلَّام، عن علي بن طلق -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن". حدثنا أبو أمية -يعني محمد بن إبراهيم- قال: ثنا المعلَّى بن منصور، قال: ثنا جرير، عن عاصم الأحول (ح). وحدثنا أبو أمية قال: ثنا محمد بن الصبَّاح قال: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاثة طرق: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم -روى له الجماعة- عن عاصم بن سليمان الأحول -روى له الجماعة- عن عيسى بن حطان الرقاشي ويقال: العائذي -وثقه ابن حبان- عن مسلم بن سلَّام الحنفي أبي عبد الملك -وثقه ابن حبان- عن علي بن طلق الحنفي الصحابي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا حصين، عن عاصم، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلَّام، عن علي بن طلق قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن -أو قال-: في أدبارهن". وأخرجه الترمذي (¬2): نا أحمد بن منيع وهناد قالا: نا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلَّام، عن علي بن طلق قال: "أتى أعرابي النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله الرجل منا يكون في الفلاة فتكون منه الرويحة ويكون في الماء قلة، فقال رسول الله -عليه السلام-: إذا فسى أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحيي من الحق". وقال الترمذي: حديث حسن. الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن المعلَّى بن منصور الرازي -أحد أصحاب أبي حنيفة- عن جرير بن حازم، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلَّام، عن علي بن طلق. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث حسين بن حصين، عن سفيان، عن عاصم، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلَّام، عن علي بن طلق قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تأتوا النساء في أدبارهن". الثالث: عن أبي أمية أيضًا عن محمد بن الصبَّاح الدولابي البغدادي البزار صاحب كتاب "السنن" وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن إسماعيل بن زكريا الخلفاني الكوفي الأسدي، عن عاصم الأحول ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬4): أنا عبد الله بن يحيى، نا عبد الواحد بن زياد، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 529 رقم 16802). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 468 رقم 1164). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 198 رقم 13904). (¬4) "سنن الدارمي" (1/ 276 رقم 1141 - 1142).

عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلَّام الحنفي، عن علي بن طلق قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا أحدث أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ ثم يصلي، وقال رسول الله -عليه السلام-: لا تأتوا النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحيي من الحق". ص: وقد احتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن محمد بن كعب القرظي "أنه كان لا يرى بأسًا بإتيان النساء في أدبارهن، ويحتج بقول الله -عز وجل- في ذلك: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (¬1) أي من أزواجكم مثل ذلك إن كنتم تشتهون". قيل لهم: ومَنْ يوافق محمد بن كعب القرظي على هذا التأويل وقد قال مخالفوه: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (1) مما قد أحل لكم من جماعهن في فروجهن؟ وهذا التأويل عندنا أولى من التأويل الأول؛ لموافقته لما جاء عن رسول الله -عليه السلام- مما قد ذكرنا. ولئن وجب أن يقلد في هذا القول محمد بن كعب فإن [تقليد] (¬2) سعيد بن المسيب أولى. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: "كان سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن -أو أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأكبر ظني أنه أبو بكر- ينهيان أن تؤتى [النساء] (¬3) في دُبُرها أشد النهي". وكيف وقد قال بذلك مَنْ هو أجلّ منهما؟!. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [165, 166]. (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "المرأة".

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن الحجاج، عن أبي القعقاع الجرميّ، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "محاشّ النساء حرامٌ". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثني ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو: "قال في الذي يأتي امرأته في دُبُرها، قال: اللوطية الصغرى". ش: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بما روي عن محمد بن كعب بن سليم القرظي -من التابعين الكبار والصالحين العالمين بالقرآن. والحديث أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن محمد ابن زيد بن المهاجر بن قنفذ المدني، روى له الجماعة سوى البخاري، عن محمد ابن كعب ... إلى آخره. وأجاب عنه بقوله: "قيل لهم: ومن يوافق ... " إلى آخره، أراد أنه لم يوافق أحدٌ من أهل العلم مِنَ التابعين ومَنْ بعدهم محمد بن كعب على هذا التأويل الذي أوله في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬1) بل هم قد خالفوه فيه، وأولوا بتأويلٍ أحسن من تأويله، فالأخذ بتأويلهم أولى؛ لموافقة الأحاديث التي جاءت بالنهي عن إتيان النساء في أدبارهن. قوله: "ولئن وجب أن يقلّد .. " إلى آخره. جوابٌ عما يقال: كيف لا يقلد محمد بن كعب فيما ذهب إليه بالتأويل الذي أوله وهو عالم بمعاني القرآن وتأويلاته؟! فقال: إن وجب تقليد محمد بن كعب في هذا القول فتقليد غيره ممن هو أكبر منه أولى؛ فإن سعيد بن المسيب سيد التابعين قد روي عنه أنه كان ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن، أخرج ذلك بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [165].

ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن الحارث بن هشام ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني أحد الفقهاء السبعة، قيل: إن اسمه محمد، وقيل: اسمه هو كنيته. وأبو سلمة بن عبد الرحمن اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني. قوله: "وكيف وقد قال بذلك مَنْ هو أجلّ منهما" أي وكيف لا يقلد سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن -أو أبو سلمة بن عبد الرحمن- والحال أنه قد قال بما قالا مَنْ هو أعظم منهما مقدارًا كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وعلي بن أبي طالب وأبي الدرداء وابن عباس -رضي الله عنه-. أما الذي روي عن ابن مسعود: فأخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرِّقِّي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن الحجاج بن أرطاة النخعي القاضي فيه لين، عن أبي القعقاع الجرمي ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي الكوفة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): بأتم منه من حديث ابن عليَّة: أخبرني أبو عبد لله الشقري، حدثني أبو القعقاع قال: "شهدت القادسية وأنا غلام -أو يافع- قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: آتي امرأتي كيف شئت؟ قال: نعم، قال: وحيث شئت؟ قال: نعم، قال: وأنَّى شئت؟ قال: نعم، ففطن له رجل، فقال: إنه يريد أن يأتيها في تنورتها، فقال: لا، محاشّ النساء عليكم حرام -أي أدبارهنَّ" وقد ذكرناه. وأما الذي روي عن عبد الله بن عمرو: فأخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي يحيى بن مالك -ويقال: حبيب بن مالك- عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 199 رقم 13907).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال: "هي اللوطية الصغرى -يعني الإتيان في أدبار النساء". وأمَّا الذي روي عن علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه-. فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن نمير، عن الصلت بن بَهْرَام، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي المعتمر -أو أبي الجويرية- قال: "نادى علي -رضي الله عنه- على المنبر فقال: سلوني، فقال رجل: أتؤتى النساء في أدبارهن؟ فقال: سفلت سفَّل الله بك، ألم تر أن الله يقول: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} (¬3). وأخرجه البيهقي (¬4) أيضًا. وأما الذي روي عن أبي الدرداء: فأخرجه ابن أبي شيبة (¬5) أيضًا: نا وكيع، عن همام، عن قتادة، عن عقبة بن وشاح، عن أبي الدرداء قال: "وهل يفعل ذلك إلاَّ كافر". وأما الذي روي عن ابن عباس فأخرجه البيهقي (¬6): من حديث داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنه كان يعيب النكاح في الدبر عيبًا شديدًا". ص: وما في هذا الباب عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- وتابعيهم فأكثر من أن يُستقصى، ولكنَّا حذفنا ذلك من كتابنا هذا؛ لكثرته وطوله، فلما تواترت الأخبار عن رسول الله -عليه السلام- بالنهي عن وطء المرأة في دبرها، ثم جاء عن أصحابه وعن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 529 رقم 16805). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 530 رقم 16812). (¬3) سورة الأعراف، آية: [80]. (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 198رقم 13905). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 529 رقم 16806). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 199 رقم 13908).

تابعيهم ما يوافق ذلك، وجب القول به وترك ما خالفه، وهذا أيضًا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: قوله: "ومَا". في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "فأكثر من أن يستقصى"، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. قوله: "فلما تواترت" أي تكاثرت وتظاهرت. وقوله: "وجب القول"، جواب "لمَا". قوله: "وهذا أيضًا". إشارة إلى ما ذكره من قوله بالنهي عن وطء المرأة في دُبُرها. ووجه القياس أيضًا يقتضي ذلك؛ لأن العقل السليم، والطبع المستقيم لا يميل إلى موضع النجاسة لاستقذاره إياها, ولا يقع ذلك إلا عن فرط شبق وكثافة طبع، فيصير في ذلك مَنْ يفعله شبيه حيوان لا يميز بين المحلين عند شدة الغَلَمَة.

ص: باب: وطء الحبالى

ص: باب: وطء الحُبالى ش: أي هذا باب في بيان حكم وطء النساء الحبُالى، وهو جمع حُبلى. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن أبي غنية عبد الملك بن حميد، عن محمد بن المهاجر الأنصاري، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية، قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإن قتل الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن المهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا؛ فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن ابن أبي غنية عبد الملك بن حميد الخزاعي الكوفي روى له الجماعة. عن محمد بن المهاجر الأنصاري الأشهلي الشامي مولى أسماء بنت يزيد، قال يحيى وأبو زرعة الدمشقي وسفيان بن يعقوب: ثقة، روى له الأربعة. عن أبيه المهاجر بن دينار الأنصاري الشامي مولى أسماء بنت يزيد ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود وابن ماجه. عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهليَّة الصحابية. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، قال: ثنا محمد بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت النبي -عليه السلام- ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وفي لفظ له: "لا تغتالوا أولادكم"، وفي لفظ: "لا تغيلوا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 9 رقم 3881).

وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1): عن الفضل بن دُكين ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن إسماعيل بن عياش ابن سليم العنسي الحمصي، عن عمرو بن مهاجر بن أبي مسلم الدمشقي أخي محمد ابن مهاجر المذكور، عن أبيه: مهاجر مولى أسماء بنت يزيد، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية. وأخرجه الطبراني (¬2): نا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا هشام بن عمار، نا يحيى ابن حمزة، عن عمرو بن المهاجر، أنه سمع أباه يحدث، عن أسماء بنت يزيد -وكانت مولاته- أنها سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فوالذي نفسي بيده، إن الغيل ليدرك الفارس على ظهر فرسه حتى يصرعه". وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن هشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن عمرو بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء، عن النبي -عليه السلام- نحوه. قوله: "فإن قتل الغيل ... " إلى آخره. المراد النهي عن الغيلة، وهو أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع، فربما حملت، واسم ذلك اللبن "الغيل" بفتح الغين المعجمة، فإذا حملت فَسَدَ لبنها يريد أن من سوء أثره في بدن الطفل وإفساد مزاجه وإرخاء قواه، وإن ذلك لا يزال ماثلًا فيه إلى أن يشتد ويبلغ مبلغ الرجال، فأراد منازلة قِرْنٍ في الحرب وَهَنَ عنه وانكسر، وسبب وهنه وانكساره الغيل. قوله: "فيدعثره" من الدعثرة وهو الهدم، والمُدَعْثَر: المهدوم، وقال الجوهري في معنى الحديث في قوله: "فيدعثره" أي يهدمه ويطحطحه يعني بعدما صار رجلاً. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى هذا، فكرهوا وطء الرجل امرأته أو جاريته إذا كانت حبلى، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 453 رقم 27603). (¬2) "المعجم الكبير" (24/ 183 رقم 462). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 648 رقم 2012).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: قتادة وأبا قلابة عبد الله بن زيد وسعيد بن المسيب وآخرين؛ فإنهم قالوا: يكره للرجل أن يطأ امرأته أو أَمَته وهي حبلى، واستدلوا على ذلك بالحديث المذكور، وهذا الخلاف إنما هو في المرأة الحبلى أو الجارية الحبلى إذا كانت حبلت منه، أما إذا اشترى جارية حبلى أو سبى امرأةً وهي حبلى لا يجوز له أن يطأها بالإجماع حتى تضع حملها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بذلك، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، أخبرني عياش بن عباس، قال: أخبرني أبو النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: "إن رجلاً جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال: لِمَ؟ قال: شفقًا على الولد، فقال رسول الله -عليه السلام-: إذا كان لذلك فلا، ما كان ضارَّ فارس أو الروم". ففي هذا الحديث إباحة وطء الحامل، وإخبارٌ من رسول الله -عليه السلام- أنَّ ذلك إذ كان لا يضر فارس والروم فإنه لا يضر غيرهم، فخالف هذا الحديث حديث أسماء -رضي الله عنها-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح ومجاهدًا والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وآخرين، فإنهم قالوا: لا بأس بذلك -أي بوطء الحامل واستدلوا على ذلك بحديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-؛ فإن في حديثه إباحة وطء الحامل، وأخبر فيه رسول الله -عليه السلام- أن ذلك كان لا يضر فارس والروم، فإذا كان لا يضر هؤلاء فكذلك لا يضر غيرهم، وهو معنى قوله: "وإخبار من رسول الله -عليه السلام- أن ذلك" أي وطء الحامل "إذْ كان" أي حين كان "لا يضر فارس والروم؛ فإنه لا يضر غيرهم". ثم إنه أخرج حديث أسامة بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ

البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- بن عبَّاس -بالباء الموحدة والسين المهملة القتباني المصري، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أميَّة المدني روى له الجماعة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المدني روى له الجماعة، أن أسامة ابن زيد بن حارثة الصحابي -رضي الله عنه- أخبر والده سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة قال: "إن رجلاً ... إلى آخره". وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب -واللفظ لابن نمير- قالا: ثنا عبد الله بن يزيد، قال: ثنا حيوة، قال: حدثني عياش بن عباس، أن أبا النضر أخبره، عن عامر بن سعد، أن أسامة بن زيد أخبر والده سعد بن أبي وقاص: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله -عليه السلام-: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها -أو على أولادها-، فقال رسول الله -عليه السلام-: لو كان ذلك ضارًّا؛ ضرَّ فارس والروم -وقال زهيرٌ في رواية: إن كان لِذلك فلا، ما كان ضارَّ ذلك فارس والروم". وأخرجه الكجِّي في "سننه": من حديث حيوة، عن عياش، عن أبي النضر، عن عامر، سمعت أسامة بن زيد يحدث عن والده -أو قال: يحدث والده شك عياش بن عباس: "أن رجلاً سأل ... الحديث". قوله: "لِمَ" أي: لِمَ تعزل. قوله: "شفقًا على الولد" أي خوفًا عليه من فساد اللبن. قوله: "ما كان ضار" أي ما كان ضرَّ، وضار -بالتخفيف- من الضير، يقال: ضاره يضيره ضيرًا أي ضرَّه -لغة فيه-، ويروى: "ما ضارر فارس والروم" من ضَارَّه يضارّه مضاررة مثل ضره يضره، وفي "المطالع": الضرر والضير والضَرّ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1076 رقم 1443).

والضُرُّ والضرار كل ذلك بمعنى، ومنه في الحديث: "لا ضير -أو لا يضير- ولا ضرر ولا ضرار" قيل: هما بمعنى على التأكيد، وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك مما تنتفع به أنت، والضرار أن تضره من غير أن تنفع نفسك، ومتى قرن بالنفع لم يكن فيه إلاَّ الضُر أو الضَر لا غير. انتهى. وفارس والروم جيلان مشهوران. واستفيد منه: وطء الحبالى من نسائه أو إمائه من غير كراهة، وإباحة العزل أيضًا إذ لم ينه -عليه السلام- عن ذلك. وفيه: أنه -عليه السلام- كان يجتهد في الأحكام برأيه، وهي مسألة اختلف فيها أرباب الأصول. والله أعلم. قوله: "فخالف هذا الحديث" أي حديث أسامة "حديث أسماء بنت يزيد بن السكن"، أراد أن بينهما تعارضًا، وقد علم أنه إذا وقع تعارض بين الحديثين يحتاج إلى دفعه بوجه من الوجوه المذكورة في بابه، وقد أشار إلى بيان ذلك بقوله: ص: فأردنا أن نعلم أيهما الناسخ للآخر، فنظرنا في ذلك، فوجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا، قال: ثنا أبو مسهر، قال: ثنا مالك بن أنس (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد هممت أن أنهى عن الغَيْلة، حتى ذكرت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم". حدثني ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: حدثني أبو الأسود، محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، قال: ثنا عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام-، عن جدامة بنت وهب الأسديَّة، عن رسول الله -عليه السلام- "أنه همَّ أن ينهى عن الغيال، قال: فنظرتُ فإذا فارس والروم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم".

حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا المقرىء -يعني أبا عبد الرحمن- قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: "حدثتني جدامة ... " فذكر نحوه. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة، عن أبي الأسود، أنه سمع عروة يحدث، عن عائشة، عن جدامة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- همَّ بالنهي عن ذلك، حتى بلغه أن فارس والروم يفعلونه فلا يضرّ أولادهم، ففي ذلك إباحة ما قد حظر الحديث الأول، فاحتمل أن يكون أحد الأمرين ناسخًا للآخر، فنظرنا في ذلك، فإذا روح بن الفرج قد حدثنا، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- كان ينهى عن الاغتيال، ثم قال: لو ضرَّ أحدًا لضرَّ فارس والروم". فثبت بهذا الحديث الإباحة بعد النهي، فهو أولى من غيره، ودلَّ نهي رسول الله -عليه السلام- عن ذلك من جهة خوف الضرر من أجله، ثم أباحه لما تحقق عنده أنه لا يضر؛ أنه لم يكن منع منه في وقت ما منع منه من طريق ما يحل ويحرم، ولكنه على طريق ما وقع في قلبه منه شيء، فأمر به على الشفقة منه على أمته لا غير ذلك. ش: أشار بهذا إلى بيان دفع المعارضة بين الحديثين المذكورين وهما حديث أسماء بنت يزيد، وحديث أسامة بن زيد، أي: فأردنا أن نعلم أي الحديثين ناسخ للآخر؛ فحديث أسماء ناسخ أم حديث أسامة؟ وإنما عيَّن صورة النسخ من بين وجوه ما تدفع به المعارضة؛ لأن فيهما التحريم والإِباحة، ودفع أحدهما بالآخر من باب النسخ على ما عرف في موضعه؛ بيان ذلك: أن حديث أسماء فيه حظرٌ لأجل النهي فيه، وحديث أسامة فيه الإباحة، فوقع التعارض بينهما، فاحتمل أن يكون [أي] (¬1) منهما ناسخًا للآخر، ولم يتحقق ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كل" والمثبت أولى للسياق.

أيهما الناسخ لعدم التاريخ, ووجدنا حديث جدامة بنت وهب أيضًا يدل على إباحة ما حظره حديث أسماء بنت يزيد، ولكن الاحتمال المذكور لم يُدْفع بعد، فنظرنا في هذا الباب فوجدنا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- يدل على أن الإباحة بعد النهي؛ لأنه صريح في حديثه أن النبي -عليه السلام- كان ينهي عن الاغتيال ثم قال: لو ضرَّ أحدًا لضر فارس والروم، فتحقق من ذلك أن الإباحة بعد النهي، فثبت نسخ ما كان من الحظر في حيدث أسماء بنت يزيد، وهو معنى قوله: "فثبت بهذا الحديث" أي حديث ابن عباس "الإباحة بعد النهي فهو أولى، من غيره" أي فحديث ابن عباس أولى بالعمل من غيره؛ لأن فيه صريح الإباحة بعد الحظر بدون الاحتمال المذكور. وأشار الطحاوي إلى أن حديث ابن عباس دلَّ على شيء آخر، وهو أن نهيه -عليه السلام- في حديث أسماء بنت يزيد لم يكن من طريق الوحي ولا من طريق التشريع لأمته، وهو معنى قوله: "ولا من طريق ما يحل ويحرم، وإنما كان على طريق ما وقع في قلبه من ذلك شيء فأمر به" -أي بترك وطء الحبالى على سبيل الشفقة منه على أمته لا غير ذلك، كما قد كان أمر بترك تأبير النحل فإن ذلك أيضًا لم يكن منه على طريق الوحي، وإنما كان ذلك على طريق الظن، ولهذا قال: "إنما هو ظن ظننته" على ما يجيء بيانه إن شاء الله. قوله: "إنه لا يضر". فاعل لقوله: لما تحقق. وقوله: "أنه لم يكن" متعلق بقوله: "ودلَّ نهي رسول الله -عليه السلام-" والتقدير: ودلَّ نهي رسول الله -عليه السلام- بأنه لم يكن منع منه، أي بأن رسول الله -عليه السلام- لم يكن منع من وطء الحبالى في وقت ما منع منه أي في وقت منعه إياه. وكلمة "ما" مصدرية. وقوله: "من طريق الوحي". متعلق بقوله: "لم يكن منع" فافهم.

ثم إنه أخرج حديث جدامة بنت وهب الأسديَّة من خمس طرق صحاح: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن أبي مُسْهِر -بضم الميم- عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، عن مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب: "أن رسول الله -عليه السلام- .... ". وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن محمد بن عبد الرحمن ... إلى آخره نحوه. وقد استوفينا ترجمة جدامة بنت وهب في باب: اللباس والطيب متى يحلَّان للمحرم. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي أبو عمرو، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا خلف بن هشام، قال: نا مالك بن أنس. ونا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ... إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن أبي مريم المصري -شيخ البخاري- عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل. وأخرجه مسلم (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا يحيى بن إسحاق، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب الأسديَّة، أنها قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- ... فذكر مثل حديث سعيد بن أبي أيوب الآتي ذكره الآن. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 607 رقم 1269). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1066 رقم 1442). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1067 رقم 1442).

الرابع: عن إبراهيم بن محمد بن يونس، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرىء شيخ البخاري ومسلم، عن سعيد ابن أبي أيوب مقلاص الخزاعي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عُبيد الله بن سعيد ومحمد بن أبي عمرة، قالا: نا المقرىء، قال: نا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: "حضرت رسول الله -عليه السلام- في أناسٍ وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا". الحديث الخامس: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث أبي الأسود، عن عروة ... إلى آخره نحوه. قوله: "عن الغيلة" بكسر الغين المعجمة وسكون الياء. قال أبو عمر: اختلف العلماء وأهل الثقة في معنى الغيلة؛ فقال منهم قائلون كما قال مالك: الغيلة أن يمسّ الرجل امرأته وهي مرضع حملت أو لم تحمل. وقال الأخفش: الغيلة والغيل سواء، وهو أن تلد المرأة فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل، فإذا حملت فسد اللبن علي الصبي، ويفسد به جسده وتضعف قوته، حتى ربما كان ذلك في عقله. وقال بعض أهل العلم وأهل اللغة: المغيال أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل. وقال الأصمعي: الغِيْل لبن الحامل. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 231 رقم 14108).

وفي "المطالع": ونهيه عن الغَيلة بفتح الغين وكسرها، وقال بعضهم: لا يصح الفتح إلاَّ مع حذف الهاء. وحكى أبو مروان وغيره من أهل اللغة: الغيله بالهاء والفتح والكسر معًا هذا في الرضاع، وأما في القتل فبالكسر لا غير. وقال بعضهم: هو بالفتح من الرضاع المرة الواحدة، وفي بعض روايات مسلم: "عن الغيال" وكله وطء المرضع، يقال: أغال الرجل ولده. والاسم: الغيل والاغتيال والإغالة، وقوله: "ما سقي بالغَيْل ففيه العشر". الغَيْل بالفتح الماء الجاري على وجه الأرض من أو غيره، وكذلك الغال. قاله أبو عُبيد. والغَيلة أن يقتل في خفية ومخادعة وحيلة. وقوله: "ولا غائلة" أي لا خديعة ولا حيلة. وأخرج حديث ابن عباس بإسناد صحيح على شرط الشيخين: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن ابن عباس -رضي الله عنه-. ص: كما قد كان أَمَرَ في ترك تأبير النخل، فإنه حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: "مررت مع النبي -عليه السلام- في نخل المدينة، فإذا ناسٌ في رءوس النخل يلقحون النخل، فقال النبي -عليه السلام-: ما يصنع هؤلاء؟ فقيل: يأخذون الذكر ويجعلونه في الأنثى، فقال: ما أظن ذلك يغني شيئًا، فبلغهم فتركوه ونزعوا عنها، فلم تحمل تلك السنة شيئًا، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فقال: إنما هو ظنٌ ظننته، إن كان يغني شيئًا فلتصنعوه؛ فإنما أنا بشر مثلكم، وإنما هو ظن ظننته، والظن يخطيء ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله". حدثنا يزيد، قال: ثنا أحمد بن عَبْدة، قال: أنا حفص بن جميع، قال: ثنا سماك أنه سمع موسى بن طلحة يحدث عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحوه.

حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو الوليد ويحيى بن حماد، قالا: ثنا أبو عوانة، عن سماك ابن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- ... نحوه. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة، عن سماك ... فذكر بإسناده مثله. فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن ما قاله من جهة الظن فهو فيه كسائر البشر في ظنونهم، وأن الذي يقوله مما لا يكون على خلاف ما يقوله، هو ما يقوله عن الله -عز وجل- فلما كان نهيُه عن الغيلة لما كان خاف منها على أولاد الحوامل، ثم أباحها لما علم أنها لا تضرهم؛ دلَّ ذلك على أن ما كان نهى عنه لم يكن من قبل الله -عز وجل- ولو كان من قِبَل الله -عز وجل- لكان يقف به على حقيقة ذلك، ولكنه من قبل ظنه الذي وقف بعده على أن ما في الحقيقة مما نهى عما نهى عنه من ذلك من أجله بخلاف ما وقع في قلبه من ذلك. فثبت بما ذكرنا أن وطء الرجل امرأته أو أمَته حاملًا حلال لم يحرّم عليه قط. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: مَثَّل نهيه -عليه السلام- عن الغيلة بنهيه عن تأبير النخل في كون كل منهما عن ظن ظنه ولم يكن ذلك من طريق الوحي، إذ الذي يقوله من طريق الوحي لا يكون على خلاف ما يقوله، وقد صرَّح في حديث التأبير بقوله: إنما هو ظن ظننته، وصرَّح بأن الظن يخطيء ويصيب، فدلَّ ذلك أن ما قاله من جهة الظن فهو فيه كسائر الناس في ظنونهم، وأما الذي يقوله ولا يخالف فيه فهو الذي يقوله عن الله تعالى؛ لأن ما كان عن الله لا خلاف فيه ولا يقع ما هو خلافه، وبهذا يحصل الجواب عما يقال: كيف يجوز على النبي -عليه السلام- أن يقول شيئًا ويقع خلافه؟ والتحقيق فيه: أن النبي -عليه السلام- له حالتان: حالة مطلق البشرية؛ فهو وسائر الناس فيه سواء، والدليل عليه قوله: "أنا بشرٌ مثلكم"؛ لأنه من جنسهم وليس من جنس غيرهم، بالنظر إلى هذه الحالة ربما يظن أمرًا وقد كان الواقع خلافه؛ لأن الظن يخطىء ويصيب كما في سائر الخلق.

والحالة الأخرى -التي هي زائدة على تلك الحالة-: وهي كونه نبيًّا رسولاً من عند الله معصومًا في قوله وفعله، بحيث أنه إذا قال قولاً أو فعل فعلاً فهو الحق عند الله تعالى ولا يقع خلافه أصلًا؛ لأنه من الله تعالى وعليه قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬1) غير أن الوحي قسمان: أحدهما: متلوّ، وهو القرآن. والآخر: غير متلوّ، وهو أقواله وأفعاله التي في أبواب التشريع. ثم وجه التمثيل المذكور هو صدور ذلك القول عن ظن ظنه، ألا ترى أنه لمَّا قال في تأبير النخل: ما أظن ذلك يغني شيئًا، وبلغهم ذلك فتركوه، فلم تحمل نخلهم تلك السنة شيئًا، قال: إنما هو ظن ظننته والظن يخطىء ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله. ولو كان ذلك القول من الله لحملت نخلهم تلك السنة بدون التأبير، فكذلك نهيه عن الاغتيال إنما كان ظنًّا منه لأجل خوفه على أولاد الحوامل، فلما علم من الله تعالى أن ذلك لا يضرهم، قال: لو ضرَّ أحدًا لضرَّ فارس والروم، فدلَّ ذلك أن ما كان من نهيه صار منسوخًا، وثبت أن وطء الرجل امرأته أو أمته حاملاً حلال لا يحرم عليه قط. والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث طلحة من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك ابن عمرو العقدي، عن إسرائيل بن يونس، عن سماك بن حرب، عن موسى ابن طلحة، عن أبيه: طلحة بن عُبيد الله بن عثمان التيمي -أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، واحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإِسلام، واحد الخمسة الذين أسلموا على يدي أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله -عليه السلام- وهو عنهم راضٍ. ¬

_ (¬1) سورة النجم، آية: [3, 4].

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل، عن سماك، أنه سمع موسى بن طلحة يحدث، عن أبيه قال: "مررت مع رسول الله -عليه السلام- في نخل المدينة، فرأى أقوامًا في رءوس النخل يلقحون، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال: يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى يلقحون به، فقال: ما أظن ذلك يغني شيئًا، فبلغهم، فتركوه ونزلوا عنها، فلم تحمل تلك السنة شيئًا، فبلغ رسول الله -عليه السلام- فقال: إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئًا فاصنعوا، فإنما أنا بشر مثلكم والظن يخطىء ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله؛ فلن أكذب على الله -عز وجل-". وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا: عن علي بن محمد، عن عُبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن موسى بن طلحة، عن أبيه نحوه. الثاني: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أحمد بن عبدة بن موسى الضبي شيخ الجماعة غير البخاري، عن حفص بن جميع الكوفي ضعفه أبو حاتم الرازي. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطىء حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، وهو يروي عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن، النبي -عليه السلام-. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬3): ثنا أحمد بن عبدة، نا حفص بن جميع، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحوه. الثالث: عن يزيد أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، ويحيى بن حماد بن أبي زياد السيباني البصري ختن أبي عوانة، كلاهما عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 162 رقم 1399). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 825 رقم 2470). (¬3) "مسند البزار" (3/ 153 رقم 938).

وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده" (¬1): نا أبو كامل الجحدري، نا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: "مررتُ مع رسول الله -عليه السلام- في نخل، فرأى قومًا في رءوس النخل يلقحون، فقال: ما يصنعون -أو ما يصنع هؤلاء- قال: يأخذون من الذكر ويجعلون في الأنثى، فقال: ما أظن هذا يغني شيئًا، فبلغهم ذلك فتركوه، فصار شِيصًا، فقال: أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وإني قلت لكم ظنًّا ظننته، فما قلت لكم: قال الله -عز وجل- فلن أكذب على الله تبارك وتعالى". وقال البزار: وقد روي هذا الحديث عن سماك بن حرب إسرائيل وأسباط بن نصر وغير واحد، ولا نعلم يروى عن طلحة إلاَّ من هذا الوجه بهذا الإسناد ورواه عن النبي -عليه السلام- جماعة منهم: أنس وعائشة ورافع بن خديج وجابر بن عبد الله ويُسَير بن عمرو -رضي الله عنهم-. الرابع: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2). قوله: "يلقحون" من ألقحت النخل إذا وضعت طلع الذكر في طلع الأنثى أول ما ينشق. "والتأبير" مصدر من قولك: أبَّرت النخل -بالتشديد وأبرتها- بالتخفيف -أي لقحتها، والنخلة مؤبرة ومأبورة أي ملقحة. و"الشيص" بكسر الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره صاد مهملة، وهو: فاسد التمر ورَدِيُّه الذي لم يتم ويبس قبل تمام نضجه ولم ينعقد نواه. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (3/ 152 رقم 937). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 31 رقم 230).

ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح ش: أي هذا باب في بيان حكم انتهاب النثار الذي ينثر على الناس عند عقد النكاح أو ليلة الزفاف أو نحو ذلك، هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصُنَابحي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -عليه السلام- على ألَّا ننتهب". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ربيعًا. وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري. روى له الجماعة. والصنابحي هو عبد الرحمن بن عُسَيلة -بضم العين- أبي عِسْل -بكسر العين وسكون السِّين- بن عسَّال -بالتشديد- المرادي. والصنابح بطن من مراد من اليمن، رحل إلى النبي -عليه السلام- فقُبَض النبي -عليه السلام- وهو بالجحفة قبل أن يصل بخمسٍ أو ستٍّ أو دون ذلك، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1) بأتم منه: ثنا قتيبة، ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله -عليه السلام-، وقال: بايعناه على ألَّا نشرك بالله شيئًا, ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، ولا ننتهب، ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غَشِينا مِنْ ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله". وأخرجه مسلم أيضًا (¬2). قوله: "على ألَّا ننتهب"، من الانتهاب وهو من النهب، وهو الغارة والسلب، أي: على ألَّا نسلب شيئًا لأحد له قيمة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1414 رقم 3680). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1333 رقم 1709).

ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: أنا زهيرٌ، قال: ثنا حميد الطويل، عن الحسن، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ انتهب فليس منَّا". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وزهير هو أبي معاوية. والحسن هو البصري. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا حميد بن مسعدة، ثنا يزيد بن زريع، ثنا حميد، عن الحسن، عن عمران بن حصين، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من انتهب نهبةً فليس منا" معناه: فليس هو على شريعتنا وسنتنا". ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن الجعْد، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس وحميد، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن النهب، وقال: مَنْ انتهب فليس منا". ش: علي بن الجعد بن عُبيد الجوهري -أحد أصحاب أبي يوسف وشيخ البخاري وأبي داود. وأبو جعفر الرازي مولى بني تيم. قيل: اسمه عيسى بن أبي عيسى. واسم أبي عيسى: ماهان، وقيل: اسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان، وعن يحيى: ثقة. وروى له الأربعة. والربيع بن أنس البكري الحنفي البصري ثم الخراساني، قال العجلي: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1299 رقم 3937).

وأخرجه الترمذي (¬1): نا محمود بن غيلان، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام- "من انتهب فليس منا". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أنس. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن ابن أبي ذئب، عن مولى لجهينة، عن عبد الرحمن بن زيد بن خالد الجهني، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الخُلَيْسة والنهبة". ش: أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، روى له الجماعة. وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن ثابت بن المغيرة بن أبي ذئب المدني، روى له الجماعة. ومولى جهينة مجهول. وعبد الرحمن بن زيد بن خالد، روى له أحمد في "مسنده", ولم أرَ أحدًا تكلم فيه بشيء. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا يزيد بن هارون، أنا ابن أبي ذئب، عن مولى، جهينة، عن عبد الرحمن بن زيد بن خالد، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- أنه نهى عن النهبة والمثلة". وأخرجه الطبراني (¬4) -وليس فيه ذِكر مولى جهينة- قال: نا أحمد بن داود المكي، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، نا معن بن عيسى، نا ابن أبي ذئب، عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 154 رقم 1601). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 193 رقم 21731). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 482 رقم 22328). (¬4) "المعجم الكبير" (5/ 255 رقم 5264).

عبد الرحمن بن زيد بن خالد الجهني، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الخُلسة والنُّهبة". قوله: "الخُلسة": -بضم الخاء المعجمة- من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته. وفي الحديث: "ليس في النُّهبة ولا في الخُلْسة قطع" (¬1) أي ما يؤخذ سَلْبًا ومكابرةً. و"النُّهبةً" بضم النون اسم للانتهاب، وكذلك النُّهبى، قال في "المطالع": وهي أخذ الجماعة الشيء اختطافًا على غير سويَّة لكي يجتنب السبق إليه. "والمُثلة" بضم الميم وهي التشويه بالخلق مِنْ قطع الأنوف والآذان، وجمعها مثلات ومُثَل، وأما المثلات في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (¬2) فهي العقوبات. ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهيرٌ، قال: ثنا سماك بن حرب، قال: أنبأنا ثعلبة بن الحكم أخو بني ليث: "أنه [أتى رسول الله -عليه السلام-] (¬3) بقدور فيها لحم غَنَم انتهبوها، فأمر بها رسول الله فألقيت، وقال: إن النهبة لا تحل". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن ثعلبة بن الحكم قال: "أصاب الناس على عهد رسول الله -عليه السلام- غنمًا فانتهبوها، فقال النبي -عليه السلام-: لا تصلح النهبة، ثم أمَرَ بالقدور فأكفئت". حدثنا حسين بن نصر، قال ثنا الفريابي، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا سماك ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا أبي وغيره، عن سماك ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) انظر "النهاية في غريب الحديث" (2/ 61). (¬2) سورة الرعد، آية: [6]. (¬3) كذا في "الأصل"، وفي "شرح معاني الآثار": رأى النبي -عليه السلام- مَرَّ.

ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم الليثي الصحابي عداده في الكوفيين. وأخرجه الطبراني (¬1): نا أبو مسلم الكشي، نا أبو الوليد. وثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أحمد بن يونس، وثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، نا أبي، قالوا: نا زهير، ثنا سماك بن حرب، أنبأني ثعلبة بن الحكم أخو بني ليث: "أنه رأى رسول الله -عليه السلام- مرَّ على قدور فيها لحم غنم انتهبوها، فأمر بها فأكفئت، وقال: إن النهبة لا تحل". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم. وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن ثعلبة بن الحكم قال: "أصبنا غنمًا للعدو فانتهبناها، فنصبنا قدورًا فمرَّ النبي -عليه السلام- بالقدور فأمر بها فألقيت، ثم قال: النهبة لا تحل". قوله: "فأكفئت". أي أقلبت، من كفأت القدر إذا كببتها لأفرغ ما فيها، يقال: كفأت الإناء وأكفأته إذا كببته وأَمَلْتُه. الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا روح بن عبد المؤمن، ثنا أبو عوانة، عن سماك ابن حرب، عن ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "انتهبوا يوم خيبر غنمًا فنصبوا القدور، فأمر بها رسول الله -عليه السلام- فأكفئت، وقال: إن النهبة لا تصلح". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 83 رقم 1372). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 129 رقم 3938).

الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكريا، عن أبيه زكريا بن أبي زائدة، وغيره، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". قلت: هذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي في هذا الباب عن عبادة بن الصامت وعمران بن حصين وأنس بن مالك وزيد بن خالد الجهني وثعلبة بن الحكم. وفي الباب أيضًا عن رافع بن خديج وأبي ريحانة وأبي الدرداء وعبد الرحمن ابن سمرة وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وأبي أيوب. أما حديث رافع فأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن أبيه، عن جده رافع قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في سفر فتقدم سرعان الناس، فتعجلوا من القيام فاطبخوا ورسول الله -عليه السلام- في أخرى الناس، فمرَّ بالقدور فأمر بها فأكفئت، ثم قسم بينهم، فعدل بعيرًا بعشر شياه". وأما حديث أبي ريحانة فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا زيد بن الحباب، نا يحيى بن أيوب، عن عياش بن عباس الحميري، عن أبي الحصين الحجري، [عن عامر الحجري] (¬3) عن أبي ريحانة، عن النبي -عليه السلام- "أنه كَرِه عشر خصال: الوشر والنتف، والوشم، [ومكامعة] (¬4) الرجل الرجل والمرأة المرأة ليس بينهما ثوب، والنهبة، وركوب [النمور] (¬5)، واتخاذ الديباج ها هنا وها هنا أسفل من الثياب وفي المناكب والخاتم إلاَّ لذي سلطان". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 153 رقم 1600). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 134 رقم 17249). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) في "الأصل، ك": "والمجامعة والمكامعة"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬5) في "الأصل، ك": "الخيل"، وهو خطأ، والمثبت من "مسند أحمد".

وأمَّا حديث أبي الدرداء فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): بإسناده إليه، أنه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن كلِّ خطفة، وعن كل نهبة، وعن كل مجثمة، وعن كلِّ ذي ناب من السباع". وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فأخرجه الطبراني (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عفان. ونا أبو مسلم الكشي، نا سليمان بن حرب قالا: ثنا جرير بن حازم، عن يعلى ابن حكيم، عن أبي لبيد قال: "غزوت مع عبد الرحمن بن سمرة كابل، فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام خطيبًا فقال: إني سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن النهُّبى، فردوا ما أخذوا، فقسمه بينهم" واللفظ لحديث سليمان بن حرب. وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا محمد بن بشار ومحمد ابن المثنى، قالا: ثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ انتهب نهبةً مشهورةً فليس منا". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجه (¬4) أيضًا: نا عيسى بن حماد، أنا الليث بن سعد، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن". ¬

_ (¬1) وأخرجه أحمد في "مسنده" (4/ 514 رقم 27552) وعبد الرزاق في "مصنفه" (4/ 514 رقم 8688). (¬2) وأخرجه أحمد في "مسنده" (5/ 63 رقم 20650) من طريق عفان به. (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1298 رقم 3935). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1298 رقم 3936).

وأما حديث أبي أيوب -رضي الله عنه- فأخرجه الطبراني (¬1): نا محمد بن محمد الجذوعي القاضي، نا عقبة بن مكرم، ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، ثنا شعبة، عن عدي ابن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن النهبة والمثلة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا نثر على قوم شيئًا وأباحهم أخذه أن أخذه مكروه لهم حرام عليهم؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه من النهبة التي نهى عنها رسول الله -عليه السلام- في هذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: لا يجوز الأخذ من النثار على القوم من الذهب والفضة وإن كان الناثر أباح ذلك لمن أخذه؛ لأنه في معنى النهبة التي نهى عنها النبي -عليه السلام- في الأحاديث المذكورة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: النهبة التي نهى عنها النبي -عليه السلام- في هذه الآثار هي نهبة ما لم يؤذن في انتهابه، أما ما نثره رجل على قومه وأباحهم انتهابه وأخذه فليس كذلك؛ لأنه مأذون فيه، والأول ممنوع منه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين والثرري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: النهبة ... إلى آخره. فالحاصل أن النهبة على نوعين: الأول: حرام بالإجماع، وهي التي لا إذن فيها من صاحب المتاع ولا إباحة وهو المراد من الأحاديث المذكورة. والثاني: مباح، وهي التي فيها إذن وإباحة، وسواء في ذلك الدراهم والدنانير والثياب وسائر الأمتعة والأطعمة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 124 رقم 3872).

ص: وقد وجدنا مثل هذا قد أباحه رسول الله -عليه السلام-: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن لُحَيًّ، عن عبد الله بن قُرْط، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أحب الأيام إلى الله يوم النحر ثم يوم القرِّ، فقربت إلى رسول الله -عليه السلام- بدنات خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفقهها، فقلت للذي كان إلى جنبي: ما قال رسول الله -عليه السلام-؟ فقال: قال رسول الله -عليه السلام-: مَنْ شاء اقتطع". فلما قال رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث: "من شاء اقتطع"، وأباح ذلك دلَّ هذا أن ما أباحه [ربه للناس] (¬1) من طعام أو غيره فلهم أن يأخذوا من ذلك ما أحبوا، وذلك خلاف النهبة التي نهي عنها في الآثار الأُوَل، فثبت بما ذكرنا أن النهبة التي هي في الآثار الأُول هي نهبة ما لم يؤذن فيه، وإن أبيح ذلك وأُذن فيه فعلى ما في هذا الأثر الثاني. ش: أي قد وجدنا مثل الانتهاب الذي نثر فيه رجل متاعه وأباحه لهم أخذه ونهبه ما قد أباحه رسول الله -عليه السلام- في حديث عبد الله بن قُرْط الأزدي الثمالي الصحابي، وكان اسمه شيطان بن قرط فلما أسلم سمَّاه رسول الله -عليه السلام- عبد الله، عِداده في الشاميين، وكان أميرًا على حمص من قبل أبي عُبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- وإنما قال مثل هذا؛ لأنه يماثل النثار الذي فيه الإذن والإباحة، وليس هو حقيقة النهبة؛ لأن قوله -عليه السلام-: "من شاء اقتطع" ليس بنثار حقيقة وإنما هو مجرد إباحة. وأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكَّار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد بن زياد الرحبي أبي خالد الشامي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم، عن راشد بن سعد المقرائي، ويقال: الخبراني الحمصي، قال يحيى وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "به الناس"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وروى له الأربعة، عن عبد الله بن لحي الهوزاني الشامي، قال العجلي: شامي تابعي ثقة من كبار التابعين. روى له من الأربعة غير الترمذي. وأخرجه أبو داود (¬1): نا إبراهيم بن موسى الرازي [أخبرنا عيسى] (¬2) ونا مسدد، قال: ثنا عيسى -وهذا لفظ إبراهيم- عن ثور، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن عامر بن لحي، عن عبد الله بن قرط، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن أعظم الأيام عند الله -تبارك وتعالى- يوم النحر ويوم القرّ -قال عيسى: قال ثور: وهو اليوم الثاني- قال: وقرب لرسول الله -عليه السلام- بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ قال: فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم كلمة خفيَّة لم أفهمها، فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع". وأخرجه النسائي أيضًا (¬3): قوله: "يوم القَر" بفتح القاف، وهو اليوم الذي يلي يوم النحر، سمِّي به لأن الناس يقرون فيه بمنى؛ لأنهم قد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر. قوله: "فطفقن يزدلفن" أي يقتربن من الازدلاف، يقال: ازدلف إذا اقترب، أصله من زلف، فنقل إلى باب الافتعال فصار ازتلف ثم أبدلت التاء دالاً فصار ازدلف. وقوله: "طفق" من أفعال المقاربة، يقال: طفق يفعل كذا: أي جعل يفعل كذا، وهو بفتح الطاء وكسر الفاء، ويقال فيه: طفَق بفتح الفاء أيضًا، وإنما تقوله العرب في الإيجاب. قوله: "فلما وجبت جنوبها" أي سقطت أنفسها فسقطت على جنوبها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 148 رقم 1765). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 444 رقم 4098).

ويستفاد منه أحكام: فضيلة يوم النحر وأنه أعظم الأيام عند الله ثم من بعده يوم القر وهو اليوم الثاني منه. وفيه دليل على جواز هبة المشاع وفيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله. وفيه دليل على جواز أخذ النثار الذي فيه الإذن والإباحة والله أعلم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام-. حديث منقطع قد فسر حكم النهبة المنهي عنها والنهبة المباحة وإنما أردنا بذكره ها هنا تفسيره لمعنى هذا المتصل. حدثنا عبد العزيز بن معاوية العنَّابي، قال: ثنا عون بن عمارة، قال: ثنا لمازة بن المغيرة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "شهد رسول الله -عليه السلام- إملاك شاب من الأنصار، فلما زوجوه قال: على الألفة والطير الميمون والسعة في الرزق، بارك الله لكم، دفِّفُوا على رأس صاحبكم، فلم يلبث أن جاءت الجواري معهن الأطباق عليها اللوز والسكر، فأمسك القوم أيديهم، فقال رسول الله -عليه السلام-: ألا تنتهبون، فقالوا: يا رسول الله إنك كنت نهيت عن النهبة! قال: تلك نهبة العساكر، فأمَّا العرسات فلا. قال: فرأيت رسول الله -عليه السلام- يجاذبهم ويجاذبونه". ش: حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- هذا يفسر حكم النهبة الحرام والنهبة المباحة، ويبن الفرق بينهما، وهو الفيصل بين الأحاديث المذكورة في هذا الباب، فهذا وإن كان منقطعًا ولكنه يصلح للتفسير لما ذكرنا؛ فلذلك اعتذر الطحاوي بقوله: "وإنما أرادنا بذكره ... " إلى آخره. وأما انقطاعه فلأنه [من] (¬1) رواية خالد بن معدان، عن معاذ، وخالد هذا من ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

تابعي أهل الشام الثقات، ولم يسمع من معاذ. وعون بن عثمان منكر الحديث، قاله أبو زرعة، وقال أبو داود: ضعيف، روى له ابن ماجه. ولمازة بن المغيرة مجهول، قاله البيهقي، وقال أبو حاتم: لا أعرفه. وثور بن زيد قد مرَّ ذكره الآن. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا إسماعيل بن إبراهيم بن عروة البندار ببغداد، أنا أبو سهل القطان، نا صالح بن محمد الرازي، حدثني عصمة بن سليمان، ثنا لمازة بن المغيرة، عن ثور بن يزيد، عن خالد، عن معاذ قال: "شهد النبي -عليه السلام- إملاك رجلٍ فقال: على الألفة والطير الميمون والسعة في الرزق، بارك الله لكم، دفِّفُوا على رأسه، فجيء بالدف وجيء بأطباق عليها فاكهة وسكر، فقال النبي -عليه السلام-: انتهبوا، فقالوا: يا رسول الله، أو لم تنهنا عن النهبة؟! قال: إنما نهيتكم عن نهبة العساكر، أما العرسات فلا". وقال البيهقي: في إسناده مجاهيل وانقطاع. وقال الذهبي في "مختصر السنن": صالح ثقة، وعصمة قال أبو حاتم: ما كان به بأس. فالآفة من لمازة ولا أعرفه بحال. وقال البيهقي: ويروى نحوه بإسناد مجهول، عن عروة، عن عائشة، عن معاذ -رضي الله عنهما-. قوله: "إملاك شاب". بكسر الهمزة، أي تزويجه وعقد نكاحه، قال ابن الأثير: الملاك والإملاك: التزويج وعقد النكاح. قال الجوهري: لا يقال مِلاك. قوله: "على الألفة". أي ليكن زواجك على الألفة. "والطير الميمون" أي الحظ المبارك. قوله: "دفِّفُوا" من دففت أي ضربت بالدف. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 288 رقم 14461).

قوله: "نهبة العساكر" أراد بها نهبة الغنائم التي تنتهبها العسكر. قوله: "فأما العُرسات". بضم العين والراء، جمع عرس وهو طعام الوليمة، قال الجوهري: العُرس طعام الوليمة يذكر ويؤنث، والجمع: الأعراس والعرسات، وقد أعرس فلان إذا اتخذ عُرسًا. ويستفاد منه فوائد: استحباب الحضور لإملاك شخص ونكاحه. واستحباب الدعاء للزوجين بقوله: على الألفة والطير الميمون والسعة في الرزق، بارك الله لكم. واستحباب ضرب الدف في العرس. واستحباب النثار فيه. وجواز أخذ النثار المباح، وجواز التجاذب عليه. وحرمة النهبة في الغنائم. والله أعلم. ص: وقد روي عن جماعة من المتقدمين في ذلك اختلاف أيضًا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان أنه قال: "كان لأبي مسعود صبيان في الكُتَّاب، فأرادوا أن ينهبوا عليهم، فاشترى لهم جوزًا بدرهمين وكره أن ينهبوا مع الصبيان". فقد يجوز أن يكون ذلك كان على الخوف [منه] (¬1) عليهم من النهبة لا لغير ذلك. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم: "أنه كان يستحب أن يوضع السكر في الإملاك، ويكره أن ينثر". حدثنا ابن أبي دود قال: ثنا ابن أبي الجعد، قال: ثنا شعبة، عن حصين، عن عكرمة: "أنه كرهه". ¬

_ (¬1) في "الأصل": "منهم"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي قد روي عن جماعة من الصحابة ومَنْ بعدهم من التابعين أيضًا اختلاف في إباحة أخذ النثار؛ فممن كره ذلك من الصحابة: أبو مسعود البدري واسمه عقبة بن عمرو. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن فارس البصري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي حصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- واسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي، روى له الجماعة. عن عبد الله بن سنان الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وابن سعد. وأخرج البيهقي (¬1) من حديث نصر بن حماد، ثنا شعبة، عن قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن خالد بن سعد: "أن غلامًا من الكتاب حذق، فأمر أبو مسعود فاشترى لصبيانه بدرهم جوزًا، وكره النهب". وأخرج أيضًا (¬2): من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، نا شعبة، عن قيس، عن أبي حصين، عن خالد: "أن أبا مسعود كره نهاب الغلمان" وفي لفظ: "كره نهاب العرس". قوله: "حَذِق" بفتح الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة وفي آخره قاف، ويقال: حَذَقَ أيضًا بفتح الذال، قال الجوهري: حَذَقَ الصبي القرآن والعمل، يحذق حَذَقًا وحِذقًا وحِذاقة إذا مهر فيه، وحذِق بالكسر لغة فيه، ويقال لليوم الذي يختم فيه القرآن: هذا يوم حذاقه، وفلان في صنعته حاذق باذق وهو اتباع له. قوله: "فقد يجوز أن يكون ... " إلى آخره. جواب عمَّا ذهب إليه أبو مسعود من كراهة ذلك، وهو ظاهر. وممن كره ذلك من التابعين: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعكرمة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14453). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14454).

أما ما روي عن القاسم: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي عنه. قوله: "في الإملاك" بكسر الهمزة وهو التزويج. وأما ما روي عن عكرمة: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن علي بن الجعد بن عُبيد الجوهري شيخ البخاري، وأبي داود، عن حَصِين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة، عن عكرمة. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث شعبة، عن حصين، عن عكرمة: "أنه كرهه -أي كره نثار العُرس". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن الحكم قال: "كنت أمشي بين إبراهيم والشعبي فتذاكرا نثار العرس، فكرهه إبراهيم ولم يكرهه الشعبي". فقد يجوز أن يكون إبراهيم كره ذلك من أجل ما ذكرنا من خوف العطب على المنتهبين، فنظرنا في ذلك فإذا صالح عبد الرحمن قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: "في النهاب في العُرس، قال: كانوا يأخذونه للصبيان". فدلَّ ما روي عن إبراهيم في هذا مع ذكره عمن كان قبله ممن يُقتدى به أنهم كانوا يأخذونه للصبيان في هذا الحديث أن كراهته في الباب الأول ليس من جهة تحريمه، ولكن من جهة ما ذكرنا. ش: الحكم هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعي، والشعبي هو عامر بن شراحيل. قوله: "فقد يجوز ... " إلى آخره. إشارة إلى تأويل ما ذهب إليه إبراهيم من كراهة النهبة. والباقي ظاهر. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14458).

وهذا الأثر أخرجه البيهقي (¬1) أيضًا: من حديث شعبة، عن الحكم قال: "كنت أمشي بين إبراهيم والشعبي ... " إلى آخره نحوه. ص: حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: "أنه كان لا يرى بذلك بأسًا". ش: صالح هو ابن عبد الرحمن، وسعيد هو ابن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، وهشيم هو ابن بشير، ويونس هو ابن عُبيد بن دينار البصري، والحسن هو البصري. قوله: "لا يرى بذلك بأسًا" أي بنهب النثار في العرس. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى القطان، عن أشعث، عن الحسن قال: "لا بأس بانتهاب الجوز. وقال محمد بن سيرين: يعطون في أيديهم". ش: أشعث هو ابن عبد الملك الحمراني البصري، روى له البخاري تعليقًا، وروى له الأربعة. قوله: "يعطون في أيديهم" إشارة إلى أن ابن سيرين كان يكره الانتهاب، وإنما عنده يوضع النثار، ثم يعطى كل واحد بيده، وذلك خوفًا من العطب عليهم عند التجاذب. وأخرج البيهقي (¬2): عن محمد بن سيرين أنه قال: "أدركت رجالًا صالحين إذا أتوا بالسكر وضعوه، وكرهوا أن ينثر". ص: وما فيه الإباحة من هذه الآثار عندنا أوجه في النظر مما فيه الكراهية، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14457). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى " (7/ 287 رقم 14456).

ش: وجه كون ذلك أوجه في النظر: هو أن وجود الإذن من صاحب النثارة يستدعي الإباحة لمن أخذه، فلا وجه حينئذٍ لكراهة ذلك، ولا سيَّما وردت أحاديث وأخبار كثيرة في إباحة ذلك. وأخرج البيهقي (¬1): من حديث الحسن بن عمرو بن سيف، عن القاسم بن عطية، عن منصور، عن صفية، عن أمه، عن عائشة -رضي الله عنها- "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج بعض نساءه فَنُثِرِ عليه التمر". وأخرج أيضًا (¬2): عن عاصم بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "كان النبي -عليه السلام- إذا زوَّج أو تزوج نثر تمرًا". قلت: كلاهما ضعيف؛ قال الذهبي: الحسن بن عمرو بن سيف هالك، وعاصم ابن سليمان كذبوه. والله أعلم. قد فرغت يُمْنَى مؤلفه عن تنقيح هذا الجزء يوم الخميس المبارك الثالث من شوال المبارك عام (819 هـ) بحارة كتامة بالقاهرة المحروسة بمدرسته التي أنشأها فيها -عمَّرها الله تعالى بذكره، والمسئول من فضله ولطفه الخفي البلوغ إلى آخره، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله. يتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى، وأوله: كتاب الطلاق. ... ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14459). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 287 رقم 14460).

ص: كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي ص: كتاب الطلاق ش: [أي هذا كتاب في بيان] (¬1) أحكام الطلاق وأنواعه. وجه المناسبة بين الكتابين ظاهر؛ إذ الطلاق يعقب [النكاح في الوجود، فكذلك في] (1) وضع الأحكام فيهما. والطلاق اسم للتطليق كالسلام اسم للتسليم، يقال: طلق [يطلق تطليقًا وطلَّقت] (1) هي بالفتح تَطْلُق طلاقًا فهي طالق وطالقة أيضًا، قال الأخفش: لا يقال: طَلُقت بالضم] ومعناه في اللغة: رفع القيد مطلقًا مأخوذ من إطلاق البعير وهو إرساله من عقاله، وفي [الشرع] (1) رفع قيد النكاح. ... ¬

_ (¬1) بياض في "الأصل"، والمثبت من "عمدة القارئ" (20/ 320).

ص: باب: الرجل يطلق امرأته وهي حائض ثم يريد أن يطلقها للسنة متى يكون له ذلك؟

ص: باب: الرجل يُطلِّق امرأته وهي حائض ثم يريد أن يطلقها للسُنَّة متى يكون له ذلك؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم من يطلق امرأته في حالة الحيض ثم يريد أن يطلقها طلاق السُنَّة، متى يكون له ذلك؟ ص: حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير قال: "سمعت عبد الرحمن بن أيمن يسأل عبد الله بن عمر عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض، فقال: فعل ذلك عبد الله بن عمر، فسأل عمر عن ذلك رسول الله فقال: مُرْهُ فليراجعها حتى تطهر ثم يطلقها، قال: ثم تلا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) في قُبُلِ عدتهن". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر -رضي الله عنه- النبي -عليه السلام-، فقال: مُرْه فليراجعها، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم قال: أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "طلقت امرأتي وهي حائض، فردَّها عليَّ رسول الله -عليه السلام- حتى طلقتها وهي طاهر". حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر ... ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير قال: "سألت ابن عمر عن رجل طلَّق امرأته وهي حائض، فقال: هل تعرف عبد الله بن عمر؟ قلتُ: نعم، قال: ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1].

فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر -رضي الله عنه- النبي -عليه السلام- فذكر ذلك له، فقال: مُرْه فليراجعها. قلت: ويعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه! أرأيت إن عجز واستحمق". ولم يذكر أبو بكرة في حديثه هذا غير ما ذكرنا. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: أنا شعبة، قال: أخبرني أنس بن سيرين، قال: سمعت ابن عمر يقول: "طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر -رضي الله عنه- للنبي -عليه السلام-، فقال النبي -عليه السلام-: مُرْه فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها. فقيل: أحتسِب بها؟ قال: فمه! ". حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن أنس بن سيرين قال: "سألت ابن عمر: كيف صنعت في امرأتك التي طلقت؟ فقال: طلقتها وهي حائض، فذكرت ذلك لعمر -رضي الله عنه-، فأتى رسول الله -عليه السلام- فسأله فقال: مُرْه فليراجعها، ثم ليطلقها عند طهرٍ. قال: فقلت: جُعلتُ فداك، اعتدت بالطلاق الأول؟ قال: وما يمنعني، وإن كنت أسأت واستحمقت؟! ". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصيب، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني يونس -هو ابن جبير- قال: "سألت عبد الله بن عمر، قلت: رجل طلق امرأته وهي حائض؟ قال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ فقلت: نعم، قال: فإن عبد الله بن عمر طلق أمرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي -عليه السلام- فسأله, فأمره النبي -عليه السلام- أن يراجعها ثم يطلقها في عدتها". ش: هذه ثمان طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي روى له

الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن عبد الرحمن بن أيمن -ويقال: مولى أيمن- القرشي المخزومي المكي، وثقه ابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني هارون بن عبد الله، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع: "كيف قال في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله -عليه السلام-، فسأل عمر -رضي الله عنه- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال له النبي -عليه السلام-: ليراجعها، فردها، وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، فقال ابن عمر: وقرأ النبي -عليه السلام-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) لقبل عدتهن". حدثني (¬3) هارون بن عبد الله، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر نحو هذه القصة. وأخرجه أبو داود (¬4) والنسائي (¬5) أيضًا. الثاني: عن فهد بن سليمان ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬6): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير -واللفظ لأبي بكر- قالوا: نا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر -رضي الله عنه- للنبي -عليه السلام- فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1098 رقم 1471). (¬2) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1098رقم 1471). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 256 رقم 2185). (¬5) "المجتبى" (6/ 139 رقم 3392). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 1095 رقم 1471).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن عثمان بن أبي شيبة ثنا عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره. والترمذي (¬2): عن هناد، عن وكيع. والنسائي (¬3): عن محمود بن غيلان، عن وكيع. وابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع ... إلى آخره. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشر، عن أبي بشر جعفر بن إياس بن أبي وحشية اليشكري روى له الجماعة عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه النسائي (¬5): أخبرني زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا أبو بشر، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فردَّ عليه رسول الله -عليه السلام- حتى طلقها وهي طاهر". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد (¬6) في "مسنده" نحوه. الخامس: عن أبي بكرة بكّار ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬7): حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن عُلية، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير قال: "قلت لابن عمر: رجل ¬

_ (¬1) أبو داود (2/ 1095 رقم 1471). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 479 رقم 1176). (¬3) "المجتبى" (6/ 141رقم 3397). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 652 رقم 2023). (¬5) "المجتبى" (6/ 141 رقم 3398). (¬6) "مسندأحمد" (2/ 158 رقم 5228). (¬7) "صحيح مسلم" (2/ 1096 رقم 1471).

طلق امرأته وهي حائض؟ فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ فإنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي -عليه السلام- فسأله, فأمره أن يرجعها، ثم تستقبل عدتها، قال: فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أتعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟! أو إن عجز واستحمق". وأخرجه أبو داود (¬1) عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4). السادس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬5): حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين قال: "سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر -رضي الله عنه- للنبي -عليه السلام- فقال: فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: فمه؟! ". وعن قتادة، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر قال: "مره فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق". السابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي الكوفي، عن أنس بن سيرين. وأخرجه مسلم (¬6): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا خالد بن عبد الله، عن عبد الملك، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 256 رقم 2184). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 478 رقم 1175). (¬3) "المجتبى" (6/ 141 رقم 3399). (¬4) "سنن ابن ماجه" (6/ 212 رقم 3555). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2011 رقم 4954). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 1097 رقم 1471).

عن أنس بن سيرين قال: "سألت ابن عمر -رضي الله عنهما- عن امرأته التي طلق، قال: طلقتها وهي حائض، فَذُكِرَ ذلك لعمر، فذكره للنبي -عليه السلام-، فقال: فمره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت بتلك التي طلقت وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها، أو إن كنت عجزت واستحمقت؟! ". الثامن: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن يزيد بن إبراهيم العنبري، عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فقيل له: احتسبت بها -يعني التطليقة؟ قال: فقال: فما يمنعني إن كنت عجزت واستحمقت؟! ". وأخرجه البخاري (¬2): عن حجاج، عن يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جبير، عن ابن عمر نحوه. قوله: "يسأل عبد الله" جملة فعلية موضعها النصب على الحال. وقوله: "يطلق امرأته" أيضًا جملة حالية. وكذلك قوله: "وهي حائض". قوله: "فعل ذلك" أي الطلاق في الحيض. قوله: "في قبل عدتهن" تفسير لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3)، وقرئت: "لقبل عدتهن". وهما لا تختلفان في المعنى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 58 رقم 17765). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2041 رقم 5023). (¬3) سورة الطلاق، آية: [1].

وروى مالك (¬1) عن عبد الله بن دينار: "سمعت ابن عمر قرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لقبل عدتهن". وقال ابن جريج: "كان مجاهد يقرؤها هكذا". وقال الواحدي في "تفسيره": عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- قال: "طلق رسول الله -عليه السلام- حفصة، فأنزل الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ ...} (¬2) الآية وقيل له: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنة". وقال السدي: "نزلت في عبد الله بن عمر؛ وذلك أنه طلق امرأته حائضًا، فأمره رسول الله -عليه السلام- أن يراجعها". وقال مقاتل: "نزلت في عبد الله بن عمر وعقبة بن عمرو المازني وطفيل بن الحارث بن المطلب وعمرو بن سعيد بن العاص -رضي الله عنهم-". وفي "تفسير ابن عباس" -رضي الله عنهما- قال عبد الله: "وذلك أن ابن عمر ونفرًا معه من المهاجرين كانوا يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود، فنزلت". وقال الزجاج في "تفسيره": هذا خطاب للنبي -عليه السلام- والمؤمنون داخلون معه في الخطاب، ومعناه: إذا أردتم طلاق النساء كما قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (2) معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم. قوله: "فمه". استفهام، كأنه قال: فما يكون إن لم تحتسب بتلك التطليقة، قال القاضي عياض: "فمه" استفهام معناه التقرير، أي: فما يكون إن لم تحتسب بتلك التطليقة، أي هل يكون إلا ذلك، فأبدل من "الألف" "هاء" كما قالوا: مهما وإنما هي ما ما، أيْ: أيّ شيء. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 587 رقم 1221). (¬2) سورة المائدة، آية: [6].

قوله: "أرأيت إن عجز أو استحمق". كلاهما على صيغة المعلوم، وتروى: "أو استُحْمِق" على صيغة المجهول، والأول أولى ليزاوج عجز؛ فافهم. وفيه حذف تقديره: أفيرتفع عنه الطلاق إن عجز أو استحمق، قال القاضي: معناه: إن عجز عن الرجعة وفَعَل فِعل الفجار أو فَعَل فِعْلَ الحمقى. وقيل: أرأيت إن عجز في المراجعة التي أُمر بها -يعني حين فاته وقتها بتمام عدتها، أو ذهب عقله فلم يمكنه بعد في الحالين مراجعة- أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، فلا بد من احتسابه بذلك الطلاق الذي أوقعه على غير وجهه، كما لو عجز عن بعض فرائضه فلم يقضه، أو استحمق فضيعه، أكان يَسقُط عنه؟ فهذا إنكار كبير وحجة على مَنْ قال: لا يعتد به، وقائله راوي القصة وصاحب النازلة، وقد جاء مفسرًا في حديث آخر: "أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا؟! ". قوله: "وما يمنعني". أي عن اعتداد تلك الطلقة. قوله: "واستحمقت". أي فعلت فعل الحمقى، وحقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه، يقال: استحمقته أي وجدته أحمق، فهو لازم ومتعدّ. ويستنبط منه أحكام: الأول: أن الطلاق في الحيض يحرم، ولكنه إن أُوقع لزم، وقد ذكر ابن عمر أنه اعتد بها. وقال عياض: ذهب بعض الناس ممن شذَّ أنه لا يقع الطلاق، وذكر في هذا الحديث أنه لم يعتد بها. ورواية مسلم وغيره ها هنا أصح، وذكر بعض الناس أنه طلقها ثلاثًا. وذكر مسلم (¬1) عن ابن سيرين "أنه أقام عشرين سنة يحدثه من لا يتهم أنه طلقها ثلاثاً حتى لقي الباهلي -وكان ذا ثبت- فحدثه عن ابن عمر أنه طلقها تطليقة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1093 رقم 1471).

وقد نص مسلم (¬1) على أنها تطليقة واحدة من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر. وقال ابن حزم في "المحلى" (1) كلامًا طويلًا في هذا الموضع، فملخصه أنه قال: من أراد طلاق امرأة له قد وطئها لم يحل له أن يطلقها في حيضها, ولا في طهر وطئها فيه، فإن طلقها طلقتين أو طلقة في طهر وطئها فيه أو في حيضها؛ لم ينفذ ذلك الطلاق، وهي امرأته كما كانت إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاث مجموعة فيلزم, فإن طلقها في طهر لم يطأها فيه فهو طلاق سُنَّة لازم كيف ما أوقعه، إن شاء طلقة واحدة، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاث مجموعة، وإن كانت حاملًا منه أو من غيره فله أن يطلقها حاملاً، وهو لازم، ولو إثر وطئه إياها، فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها وفي حال حيضها إن شاء واحدةً وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثًا، فإن كانت لم تحض قط أو قد انقطع حيضها طلقها أيضًا -كما قلنا في الحامل- متى شاء، وفيما ذكرنا اختلاف في ثلاثة مواضع: أحدها: هل ينفذ الطلاق الذي هو بدعة مخالف لأمر الله تعالى أم لا ينفذ؟ والثاني: هل طلاق الثلاث بدعة أم لا؟ والثالث: صفة طلاق السُنَّة. أما الأول: فقد اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم ذلك الطلاق أم لا؟ قال علي: ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع، وقد كذب مدعي ذلك، والخلاف في ذلك موجود، روينا من طريق عبد الرزاق (¬2) عن وهب بن نافع أن عكرمة أخبره أنه سمع ابن عباس يقول: "الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال، ووجهان حرام؛ فأما الحلال: فأن ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 162 - 172). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 307 رقم 10950).

يطلقها من غير جماع أو حاملًا مستبينًا حملها، وأما الحرام: فأن يطلقها حائضًا أو حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على ولد أم لا؟ ". ومن طريق ابن وهب: أخبرني جرير بن حازم، عن الأعمش أن ابن مسعود قال: "من طلق كما أمره الله فقد بين الله له، ومَنْ خالف فإنا لا نطيق خلافه". وروى أيضًا بإسناده إلى ابن عمر أنه قال: في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: "لا تعتد بذلك". وبإسناده عن طاوس: "أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا عن غير جماع وإذا استبان حملها". وبإسناده (¬1) عن خلاس بن عمرو: أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: "لا يعتد بها". قال علي: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة غير رواية عن ابن عمر، وقد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان، زيد بن ثابت -رضي الله عنهما-: إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب، عن ابن سمعان، عن رجل أخبره: "أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك وتعتد بعدها ثلاثة قروء". والآخر: عن طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى ابن علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض: "يلزمه الطلاق، وتعتد ثلاث حيض سوى تلك الحيضة". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 311 رقم 10966).

قال علي: واحتجوا من الآثار بما روينا من طريق ابن وهب، نا ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبرهم، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله -عليه السلام- فقال: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهير، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة". ومن طريق مسلم (¬1): عن سالم، عن أبيه: فذكر طلاقه لامرأته وهي حائض، وقال في آخره: "فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها". وبدا في معرض تلك الآثار من قول ابن عمر: "ما يمنعني أن أعتد بها" وفي بعضها: "فمه؟! أرأيت إن عجز واستحمق". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبًا إلى المدينة ونحن مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله -عليه السلام- قال: نعم". وذكر بعضهم (¬2) رواية من طريق عبد الباقي بن قانع، عن أبي يحيى الساجي نا إسماعيل بن أميّة الذارع، ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته". قال علي: كل هذا لا حجة لهم فيه: أما حديث أنس فموضوع بلا شك لم يروه أحد من أصحاب حماد بن زيد الثقات، إنما هو من طريق إسماعيل بن أميّة الذارع، فإن كان القرشي الصغير البصري وهو بلا شك، فهو ضعيف متروك، وإن كان غيره فهو مجهول لا يعرف من هو. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1095 رقم 1471). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 20 رقم 54).

ومن طريق عبد الباقي بن قانع راوي كل كذبة، المنفرد بكل طامةٍ، وليس بحجة, لأنه تغيَّر بأخرة، ثم لو صح -ولم يصح قط- لكان لا حجة فيه لأنه كان معنى قوله: ألزمناه بدعته أي إثمها. وأما خبر نافع فموقوف عليه وليس فيه أنه سمعه من ابن عمر؛ فبطل الاحتجاج به. وأما ما روي عن ابن عمر: "فمه! أرأيت إن عجز أو استحمق" فلا بيان فيه أن تلك الطلقة عُدَّت له طلقة، والشرائع لا تؤخذ بلفظ لا بيان فيه، بل قد يحتمل أن يكون أراد الزجر عن السؤال عن هذا، والإخبار بأنه عجز واستحمق في ذلك. وأما ما روي من قوله: "ما يمنعني أن أعتد بها"، وقوله: "وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" فلم يقل فيه أن رسول الله -عليه السلام- حسبها تطليقة ولا أنه -عليه السلام- هو الذي اعتد بها طلقةً، إنما هو إخبار عن نفسه، ولا حجة في فعله ولا في فعل أحد دون رسول الله -عليه السلام-. وأما حديث ابن أبي ذئب الذي في آخره (¬1) "وهي واحدة" فهذه لفظة أتى بها ابن أبي ذئب وحده، ولا يقطع على أنها من كلام رسول الله -عليه السلام-، ويمكن أن تكون من قول مَنْ دونه -عليه السلام- والشرائع لا تؤخذ بالظنون، ثم لو صح يقينًا أنها من كلام رسول الله -عليه السلام- لكان معناه وهي واحدة أخطأ فيها ابن عمر، أو هي قضية واحدة لازمة لكل مطلق. وأما الثاني وهو الاختلاف في هل الطلاق الثلاث مجموعة بدعة أم لا؟ فزعم قومٌ أنها بدعة، ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: لا يقع البتة؛ لأن البدعة مردودة. وقالت طائفة: بل تُرد إلى حكم الواحدة المأمور بأن يكون حكم الطلاق كذلك. وقالت طائفة: بل تقع كما هي، ويؤدب المطلق كذلك. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 9 رقم 24).

وقالت طائفة: ليست بدعة ولكنها سُنَّة لا كراهة فيها. واحتج من قال: إنها تبطل بحديثٍ أخرجه النسائي (¬1): عن محمود بن لَبِيد قال: "أُخْبر رسول الله -عليه السلام- عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ ". قال النسائي: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير بن الأشج، عن أبيه، عن محمود بن لبيد. وقال ابن حزم: خبر ابن لبيد مرسل ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا. واحتج من قال: إن الثلاث تجعل طلقة واحدة بما رواه مسلم (¬2) عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر -رضي الله عنه- الثلاث بواحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". وبما رواه عبد الرزاق (¬3) عن ابن جريج: أخبرني طاوس، عن أبيه: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: تعلم أنها كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر -رضي الله عنه-؟ قال: نعم". وقال ابن حزم: ليس في شيء من هذا أنه -عليه السلام- علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صحَّ أنه -عليه السلام- قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره. واحتج من قال: إنها معصية وأنها تقع بما رواه عبد الرزاق (¬4): عن يحيى بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 142 رقم 3401). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1099 رقم 1472). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 392 رقم 11337). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 393 رقم 11339).

العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي العجلي، عن إبراهيم -هو ابن عبيد الله بن عبادة بن الصامت- عن داود، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله -عليه السلام- فذكر ذلك له، فقال له النبي -عليه السلام-: أما أتقى الله جدُّك؛ أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذَّبه وإن شاء غفر له". ورواه بعض الناس (¬1) عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده قال: "طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله -عليه السلام- فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق أمنا ألفًا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السُنَّة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه". وبما رواه محمد بن شاذان (¬2)، عن معلى بن منصور، عن شعيب بن رزيق، أن عطاء الخراساني حدثهم، عن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أُخريين عند القرئين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله -عليه السلام- فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السُنَّة ... " وذكر الخبر وفيه "فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثاً كان لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين وتكون معصية". وقال ابن حزم: أما حديث عبادة بن الصامت ففي غاية السقوط؛ لأنه من طريق يحيى بن العلاء -وليس بالقوي- عن عبيد الله بن الوليد الوصافي -وهو هالك- عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت وهو مجهول لا يعرف. ثم هو منكر جدًّا؛ لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار أن والد عبادة -رضي الله عنه- أدرك الإِسلام، فكيف جده؟! وهو محال بلا شك. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 20 رقم 53). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 334 رقم 14732).

وأما حديث ابن عمر ففي غاية السقوط؛ لأنه عن شعيب بن رزيق الشامي، وهو ضعيف. واحتج من قال: إن الثلاث مجموعة سُنَّة لا بدعة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1)، فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض. وبما رواه مالك (¬2) عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث لعان عويمر العجلاني مع امرأته ... وفي آخره أنه قال: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام-، قال: وأنا مع الناس عند رسول الله -عليه السلام-". وقال ابن حزم: لو كان الطلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى لما سكت رسول الله -عليه السلام- عن بيان ذلك، فصح يقينًا أنها سُنَّة مباحة، ثم إن ابن حزم ذكر حججًا أخرى في ذلك من الأحاديث والأخبار وقال في آخره: لا نعلم عن أحد من التابعين -أن الثلاث معصية- صرَّح بذلك إلا الحسن، والقول بأن الثلاث سُنَّة قول الشافعي وأبي ثور وأصحابهما. وأما الثالث وهو صفة طلاق السُنَّة: فقال ابن حزم: قد ذكرنا قول ابن مسعود (¬3) من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود "إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى"، ومثله عن قتادة وابن المسيب وإبراهيم النخعي، وهو قول الشافعي. وممن كره أن يطلقها أكثر من واحدة: الليث والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وعبد العزيز بن الماجشون والحسن بن حي وأبو سليمان وأصحابهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية: [230]. (¬2) "موطأ مالك" (2/ 566 رقم 1177). (¬3) "المجتبى" (6/ 140 رقم 3394).

قلت: ها هنا مناقشات: المناقشة الأولى: فيما ذكره من وجوه الرد فيما احتج به مَنْ يذهب إلى وقوع الطلاق في الحيض وفي الطهر الذي وطئها فيه بحديث ابن عمر الذي رواه عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر وغيره مما ذكرناه آنفًا. فنقول في ذلك: كل ما ذكره من وجوه الرد فهو مردود بما رواه الدارقطني (¬1) بسند صحيح: ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا عبد الملك بن محمد أبو قلابة، ثنا بشر بن عمر، ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين، سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي -عليه السلام- فسأله فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء، قال: فقال عمر: يا رسول الله، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم". وبنحوه أخرجه الطحاوي والبخاري (¬2)، وقد ذكرناه. وبما رواه النسائي (¬3) بسند صحيح: عن سالم، أن عبد الله قال: "طلقت امرأتي الحديث ... " وفيه: "وكان عبد الله طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله". وبما رواه الدارقطني (¬4) بسند صحيح: "أن رجلاً قال لعمر: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله -عليه السلام- أمر ابن عمر حين فارق امرأته أن يراجعها، فقال له عمر: إن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يراجع امرأته بطلاق بقي له، وأنت لم تُبْق ما ترتجع به امرأتك". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 5 رقم 6). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2011 رقم 4954). (¬3) "المجتبى" (6/ 138 رقم 3391). (¬4) "سنن الدارقطني" (4/ 7 رقم 17).

قال أبو الحسن: قال لنا البغوي: روى هذا الحديث غير واحد لم يذكروا فيه كلام عمر -رضي الله عنه- ولا أعلم روى هذا الكلام غير سعيد بن عبد الرحمن الجمحي. وبما رواه أيضًا بسند صحيح (¬1): عن أبي غلاب قال: "قلت لابن عمر: أكنت اعتددت بتلك التطليقة؟ قال: وما لي لا أعتد بها! ". وبسند صحيح أيضًا (¬2): عن جابر: "قلت لابن عمر: اعتددت بتلك التطليقة؟ قال: نعم". وبسند جيد أيضًا (¬3): عن الشعبي "طلق ابن عمر امرأته واحدة وهي حائض، فانطلق عمر -رضي الله عنه- إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، ويحتسب بهذه التطليقة التي طلق أول مرة". وبما رواه البيهقي (¬4) بسند صحيح: عن عبيد الله، عن نافع قال: "اعتد ابن عمر بالتطليقة، ولم تعتد امرأته بالحيضة". المناقشة الثانية: في قوله: "وأما حديث ابن أبي ذئب ... إلى آخره". فما ذكره ها هنا يرده ما رواه الدارقطني (¬5) عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- "قال: هي واحدة". قال: فهذا نص في موضع الخلاف، وليس مما تقدم من الكلام شيء يصلح أن يعود عليه الضمير إلا الطلاق المتقدم. وكذلك يرده ما رواه ابن وهب في "مسنده": أبنا ابن أبي ذئب، عن نافع ... فذكر الحديث، وفيه قال ابن أبي ذئب في الحديث عن رسول الله -عليه السلام-: " وهي واحدة". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 8 رقم 18). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 10 رقم 28). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 11 رقم 30). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 418 رقم 15179). (¬5) "سنن الدارقطني" (4/ 9 رقم 24).

قال: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان، سمع سالمًا يحدث، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- بذلك. وقال عبد الحق الخزرجي: وكيف يكون ما قاله ابن حزم مُوَجِّهًا وفي الحديث: فقال رسول الله -عليه السلام-، قال: وحديث الدارقطني (¬1) يدفع قوله أيضًا؛ لأنه لم يورد فيه غير قوله -عليه السلام-: "هي واحدة". وقوله: "ثم لو صح يقينًا ... إلى أخره" كلام ساقط وتأويل بعيد يرده الحديث وسياق الكلام. فافهم. المناقشة الثالثة: في قوله: "خبر ابن لبيد مرسل ولا حجة في مرسل". فنقول: لا نسلم ذلك؛ لأن شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل لما ذكره في "تاريخه" جعله من جملة الصحابة وقال (¬2): قال أبو نعيم: عن عبد الرحمن بن الغسِّيل، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد قال: "أسرع النبي -عليه السلام- حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ"، وقال ابن حبان البستي في كتاب "الصحابة": له صحبة. ولما ذكره الترمذي فيهم قال: رأى سيدنا رسول الله -عليه السلام- وهو غلام. وقال عنه أبو عمر: "إن الشمس كسفت فخرج النبي -عليه السلام- وخرجنا حتى أتينا في المسجد، فأطال القيام ... " الحديث. قال أبو عمر: قول البخاري أولى يعني كونه ذكره في الصحابة، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يشهد له، وهو أولى بأن يذكر في الصحابة من محمود بن الربيع فإنه أسنّ منه، وذكره مسلم في التابعين فلم يصنع شيئًا, ولا عَلِمَ منه ما عَلِمَ غيره. وذكره في جملة الصحابة أيضًا جماعة منهم: أبو منصور الباوردي وأبو سليمان بن زبر وأبو يعلى الموصلي، وابن أبي خيثمة في "تاريخه" ويعقوب بن شيبة وأحمد بن حنبل وأبو أحمد العسكري وأبو القاسم البغوي وابن منده وأبو نعيم -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 10 رقم 27). (¬2) "التاريخ الكبير" (7/ 402 رقم 1762).

المناقشة الرابعة: في قوله: "ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا". فنقول: يرد ذلك قول مالك بن أنس: "قلتُ لمخرمة: ما حدثت به عن أبيك سمعته منه؟ فحلف بالله: لقد سمعته". وذكر ابن الطحان في كتابه "رجال مالك": قال محمد بن الحسن بن أنس: قال لي مالك: "لقيت مخرمة بالروضة، فقلت: أسألك برب هذه الروضة، أسمعت من أبيك شيئًا؟ قال: نعم". وقال معن بن عيسى القزاز: مخرمة سمع من أبيه. المناقشة الخامسة: في قوله: "ليس في شيء من هذا أنه -عليه السلام- علم بذلك فأقره ... " إلى آخره. فنقول: قول الصحابي: كان الأمر كذا على عهد رسول الله -عليه السلام-، أو: كنا نفعل كذا، يدل على أن ذلك الأمر كان شرعًا، على ما ذكره المحققون، ولكن الجواب عن حديث ابن عباس هذا ما ذكره الشافعي: فقال: يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا ثم نسخ. وسيجيء ذلك في بابه إن شاء الله تعالى. وقال ابن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول: أنت طالق أنت طالق كان في عهد النبي -عليه السلام- وأبي بكر وعمر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن طريقهم الخداع، فكانوا يُصَدِّقُون بأنهم أرادوا الثالثة لا الثلاث، فلما رأى عمر -رضي الله عنه- أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث. وقال بعضهم: إنما ذلك في غير المدخول بها. وإلى هذا ذهب جماعة من أصحاب ابن عباس رأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين.

وقوله: "ثلاثًا" كلام وقع بعد البينونة، فلا يعتد به، وقال بعضهم: المراد أنه كان المعتاد في زمن النبي -عليه السلام- تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس التطليق بالثلاث والمعنى: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا يوقع واحدة فيما قبل، إنكارًا لخروجهم عن السُنَّة. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن حديث ابن عباس -يعني هذا- بأي شيء ندفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عكرمة عن ابن عباس: "أنها ثلاث" قال: وإلى هذا نذهب. وقال الخلال عن أحمد: كل أصحاب عبد الله رووا خلاف ما قال طاوس، ولم يروه عنه غيره. وقال البيهقي: إنما ترك البخاري رواية هذا الحديث لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس أنه أجاز الطلاق الثلاث وأمضاه. وقال ابن المنذر: فغير جائز أن يُظَن بابن عباس أنه يحفظ عن رسول الله -عليه السلام- ثم يفتي بخلافه. المناقشة السادسة: في قوله: "وأما حديث عبادة بن الصامت ففي غاية السقوط ... " إلى آخره. فيه نظر من وجوه: الأول: قوله في يحيى بن العلاء: ليس بالقوي. غير حسن؛ لأن أحمد قال فيه: كان كذابًا يضع الحديث. وقال عمرو الفلاس والفسوي والأزدي متروك الحديث. وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعات. وقال ابن حبان: يتفرد عن الثقات بالمقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الساجي وصالح بن محمد: منكر الحديث.

الثاني: في الإسناد من يصلح أن يكون علة وهو عبيد الله بن الوليد؛ لأن أبا عبد الرحمن وعمرو الفلاس قالا: هو متروك الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات حتى بسبق إلى القلب أنه المتعمد لها، فاستحق الترك. وقال أبو عبد الله النيسابوري: والنقاش يروي عن محارب أحاديث موضوعة وقال أبو داود: ليس بشيء، وكذا قال ابن معين. الثالث: إذا قدرنا أن الوصافي ويحيى علة للحديث فقد وجدنا الدارقطني (¬1) لما روى هذا الحديث من طريق محمد بن عُيينة قال: ثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي وصدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم. وصدقة هذا حديثه مخرج في "صحيح مسلم" فكأن الوصافي لم يكن، وكذلك يحيى (¬2). الرابع: حديث الدارقطني هذا يفهم منه غير الذي يفهم من حديث ابن حزم؛ وذلك أنه قال: عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده قال: "طلق بعض آبائي امرأته ألفًا ... " الحديث. فإن جد إبراهيم عبد الله، وقوله: "بعض آبائي" يحتمل أن اسمه عبادة ويحتمل أن يكون أبا لأمه أو جدًا لها، أو أبا أو جدًّا من الرضاعة، وما أشبه ذلك، [.....] (¬3) ابن حزم من دخول الصامت أو أبيه في الحديث. الخامس: سكوته عن حال إبراهيم بن عبيد الله [......] (3) مشهورة عند غالب من ينظر في كتابه وليست كذلك؛ فإنا لم نجد من عرفها وكذلك أبوه وجده لم نر مَنْ [......] (3) جملة. فافهم. المناقشة السابعة: في قوله: وأما حديث ابن عمر ففي غاية السقوط. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 20 رقم 53). (¬2) وقال الدارقطني عقبه: رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي -أي يحيى-. (¬3) طمس في "الأصل" وليست في "ح".

فنقول: إنما أعل ابن حزم هذا الحديث بشعيب بن رزيق الشامي، وقال: هو ضعيف وليس كذلك؛ فإن الدارقطني قال فيه لما سأله عنه البرقاني: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وكذلك ابن خلفون، وأخرج له الحاكم في "مستدركه" حديثًا وصحح سنده. ثم إن هذا الحديث رواه الدارقطني (¬1) أيضًا ثم البيهقي (¬2)، ثم قال البيهقي: أتى عطاء الخراساني في هذا الحديث بزيادات لم يتابَع عليها وهو ضعيف في الحديث لا يقبل منه ما ينفرد به. قلت: ليس هو كذلك؛ فإن عطاء هذا وثقه جماعة منهم: الطبراني ومحمد بن سعد وابن عبد البر والدارقطني ويحيى بن معين وأبو حاتم، وخرّج حديثه الجماعة كلهم. الثاني: من الأحكام أنهم اختلفوا في معنى قوله -عليه السلام-: "مُره فليراجعها" فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها. فسوَّى دم النفاس بدم الحيض. وقال مالك: يجبر على الرجعة في الحيضة التي طلق فيها وفي الطهر بعده، وفي الحيض بعد الطهر، وفي الطهر بعد، ما لم تنقض العدة. وقال أشهب: يجبر على الرجعة في الحيضة الأولي، خاصةً، فإذا طهرت منها لم يجبر على رجعتها. وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يؤمر بالرجعة ولا يجبر، وحملوا الأمر في ذلك على الندب ليقع الطلاق على السُنَّة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها لا يجبر على رجعتها. وأجمعوا أنه إذا ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 31 رقم 84). (¬2) "سنن البيهقي" (7/ 334 رقم 14732).

طلقها في طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سُنَّة. الثالث: يستفاد منه أنه طلاق السُنَّة أن يكون في طهر، وهذا باب اختلفوا فيه؛ فقال مالك: طلاق السُنَّة أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يمسها فيه تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تنقضي العدة برؤية أول الدم من الحيضة الثالثة. وهو قول الليث والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: هذا حسنٌ من الطلاق. وله قول آخر، قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدةً من غير جماع، وهو قول الثوري وأشهب. وزعم المرغناني أن الطلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة: حسنٌ، وأحسن، وبدعي؛ فالأحسن: أن يطلقها تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، والحسن: هو طلاق السُنَّة، وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار. والبدعي: أن يطلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طهر واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا. وقال عياض: اختلف العلماء في صفة طلاق السُنَّة فقال مالك وعامَّة أصحابه: هو أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تكمل عدتها. وقاله الليث والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا أحسن الطلاق. وله قول آخر: أنه إن شاء يطلقها ثلاثًا طلقها في كل طهر مرة، وكلاهما عند الكوفيين طلاق سُنَّه. وقاله ابن مسعود. واختلف فيه قول أشهب، فقال مثله مرة، وأجاز أيضًا ارتجاعها ثم يطلق ثم يرتجع ثم يطلق فيتم الثلاث.

وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة وإنما ذلك في الوقت. الرابع: في قوله: "فليراجعها" دليل على أن الطلاق غير البائن لا يحتاج إلى رضى المرأة. الخامس: فيه دليل أن الرجعة تصح بالقول، ولا خلاف في ذلك، وأما الرجعة بالفعل فقد اختلفوا فيه، فقال عياض: وتصح عندنا أيضًا بالفعل الحال محل القول الدال في العبارة على الارتجاع كالوطء والتقبيل واللمس؛ بشرط القصد إلى الارتجاع به، وأنكر الشافعي صحة الارتجاع بالفعل أصلاً، وأثبته أبو حنيفة وإن وقع من غير قصد. وهو قول ابن وهب من أصحابنا في الواطيء بغير قصد. السادس: استدل به أبو حنيفة أن مَنْ طلق امرأته وهي حائض فقد أثم وينبغي له أن يراجعها، فإن تركها تمضي في العدة بانت منه بطلاق، على ما يجيء عن قريب مستقصى إن شاء الله تعالى. السابع: أن في قوله: ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل، أن طلاق الحامل طلاق سُنَّة أي وقت شاء من الحمل ما لم يقرب ويصير في حد المرض وهو قول كافة العلماء. وقال الشافعي: ويكرر الطلاق عليها فيه متى شاء حتى يتم الثلاث على أصله. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجعل بين التطليقتين شهرًا. وقال مالك ومحمد بن الحسن وزفر: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع. وفي "البدائع": وأما الحامل إذا استبان حملها فالأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان قد جامعها وطلقها عقيب الجماع؛ لأن الكراهة في ذات القرء؛ لاحتمال الندامة لاحتمال الحبل، فمتى طلقها مع علمه بالحبل فالظاهر أنه لا يندم، وكذلك في ذات الشهر في الآيسة والصغيرة؛ الأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان عقيب طهر جامعها فيه، وهذا قول أصحابنا الثلاثة.

وقال زفر: يَفْصِل بين طلاق الآيسة والصغيرة وبين جماعها بشهر. الثامن: أن الظاهرية استدلوا بما روى (¬1) سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: "طلقت امرأتي وهي حائض، فردَّها عليَّ رسول الله -عليه السلام- حتى طلقتها وهي طاهر" أن الرجل إذا طلق امرأته في حيضها لم ينفذ ذلك الطلاق، ولا يحل له أن يطلقها في حيضها. وهو مذهب الخوارج والرافضة أيضًا، وحُكي عن ابن عُلية أيضًا. وأجمع أئمة الفتوى من التابعين وغيرهم على أن الطلاق في الحيض واقع ولكنه محرم؛ أمَّا وقوعه فلأمر رسول الله -عليه السلام- لابن عمر بمراجعة امرأته إذْ طلقها حائضًا، والمراجعة لا تكون إلا بعد لزوم الطلاق؛ لأنه لو لم يكن لازمًا ما قال له: راجعها؛ لأن مَنْ لم تطلق ولم يقع عليها طلاق لا يقال فيه: راجعها؛ لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها: راجعها. وأما كونه محرمًا فلكون المطلق في الحيض مطلقًا لغير العدة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) وقرئ: "فطلقوهن لقبل عدتهن" على ما مرَّ عن قريب، وكذا كان يقرأ ابن عمر وغيره. وقال أبو عمر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور علماء المسلمين وإن كان عندهم بدعة غير سنَّة فهو لازم عند جميعهم ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال والجهل؛ فإنهم يقولون: إن الطلاق لغير السُنَّة غير واقع ولا لازم. وروي مثل ذلك عن بعض التابعين، وهو شذوذ لم يعرِّج عليه أهل العلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار وقالوا: مَنْ طلق امرأته وهي حائض فقد أثِم وينبغي له أن يراجعها؛ لأن طلاقه ذلك طلاق خطأ، فإن تركها تمضي في العدة بانت منه بطلاقٍ خطأ, ولكن يؤمر أن يراجعها ليخرجها بذلك من أسباب الطلاق الخطأ ثم يتركها حتى تطهر من هذه الحيضة ثم يطلقها ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 141 رقم 3398). (¬2) سورة الطلاق، آية: [1].

طلاقًا صوابًا، فتمضي في عدةٍ من طلاق صواب، فإن شاء راجعها فكانت امرأته وبطلت العدة، وإن شاء تركها حتى تبين منه بطلاق صواب. وهذا قول أبي حنيفة -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: شقيق بن سلمة وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي والثوري والمزني من أصحاب الشافعي؛ فإنهم قالوا: "مَنْ طلق امرأته ... " إلى آخره. وهذا أيضًا قول أبي حنيفة. وقال الكاساني في "البدائع": ولو طلق امرأته في حالة الحيض ثم راجعها، ثم أراد طلاقها ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء. وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة. وذكر الكرخي أن ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة، وما ذُكِرَ في الأصل قول أبي يوسف ومحمد. ص: وخالفهم في ذلك آخرون منهم: أبو يوسف، فزعموا أنه إذا طلقها حائضًا لم يكن له بعد ذلك أن يطلقها حتى تطهر من هذه الحيضة، ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر منها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سالمًا والليث بن سعد وعبد الملك بن جريج والزهري وعطاء الخراساني والحسن البصري ومالكًا وأبا يوسف والشافعي؛ فإنهم قالوا: إذا طلقها حال كونها حائضًا ... إلى آخر ما قاله، والتحقيق فيما قال هؤلاء ما قاله أبو عمر: أن للحيضة الثانية والطهر الثاني وجودًا عندهم ها هنا؛ لأن المراجعة لا يكاد يُعلم صحتها إلا بالوطء؛ لأنه المبتغي من النكاح في الأغلب، فكان ذلك الطهر موضعًا للوطء الذي يستبقى به المراجعة، فإذا مسها لم يكن سبيل إلى طلاقها في طهر قد مس فيه؛ لإجماعهم على أن المطلق في طهر قد مس فيه ليس بمطلق للعدة كما أمر الله -عز وجل- فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم طلِّق إن شئت قبل أن تمس.

وقد جاء هذا منصوصًا في الحديث عن ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فأمره رسول الله -عليه السلام- أن يراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها". وبه قال مالك وأصحابه لا خلاف في ذلك عنهم، ولا يطلقها بعد طهرها من ذلك الدم الذي ارتجعها فيه بالقضاء، فإن فعل لزم، وقد قال بعض أصحابنا: إن الذي يمس في الطهر إنما نهي عن الطلاق فيه؛ لأنها لا تدري أعِدّة حامل تعتد أم عِدّة حائل؟ ص: وعارضوا الآثار التي رويناها في موافقة القول بما حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر أخبره: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر -رضي الله عنه- لرسول الله -عليه السلام-، فتغيظ عليه رسول الله -عليه السلام-، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو صالح ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله -عليه السلام-، فسأل عمر عن ذلك رسول الله -عليه السلام- فقال: مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "ثم يتركها حتى تطهر ثم تحيض، ثم إن شاء طلق". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب وعبيد الله (ح).

وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب قال: ثنا حماد، عن أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، قال: أخبرني يحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد وحسين بن نصر قالا: ثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير قال: ثنا موسى بن عقبة قال: حدثني نافع أن عبد الله بن عمر ... ثم ذكر مثله. حدثنا فهد وحسين بن نصر، قالا: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، قال: حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر، ثم ذكر مثله. فقد أخبر سالم ونافع، عن ابن عمر في هذه الآثار، أن رسول الله أمره أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض، فزاد على ما في الآثار الأُول، فهو أولى منها. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي عارض هؤلاء الآخرون أحاديث ابن عمر التي رويناها في موافقة قول أهل المقالة الأولى بما روي عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه أخبره "أنه طلق امرأته وهي حائض .. الحديث" فإنه أخبر في حديثه هذا مثل ما في الأحاديث المذكورة، وزاد عليها؛ فوجب الأخذ بهذه الزيادة. وكذلك رواه نافع عن ابن عمر بهذه الزيادة على ما يجيء، ولم تشتمل على هذه الزيادة رواية أبي الزبير وسعيد بن جبير ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين وأنس ابن سيرين التي ذُكرت في الفصل الأول، والأخذ بها أولى؛ لكونها من الثقات، ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قضية واحدة، وإنما ساق بعضهم لفظ النبي -عليه السلام- على وجهه، وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالًا أو نسيانًا؛ فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة؛ إذ لم يثبت أن النبي -عليه السلام- قال ذلك مرةً عاريًا من غير ذكر الزيادة، وذكره مرةً مقرونًا بها، إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين، وهذا مما

لا نعلمه، فغير جائز إثباته، وعلى تقدير أنه لو كان -عليه السلام- قد قال ذلك في حالين لم يخل أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخر عنه، فيكون ناسخًا له، أو يكون الخبر الذي لا زيادة فيه هو المتقدم، ثم ورد بعده ذكر الزيادة فيكون ناسخًا للأول بإثبات الزيادة، ولا سبيل إلى العلم بتاريخ الخبرين لا سيما وقد أشار الجمع من الرواة إلى قصة واحدة، فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين: أحدهما: أن كل شيئين لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معًا ولا يحكم بتقدم أحدهما على الآخر كالغرقى، والقوم يقع عليهم البيت، فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معًا؛ إذْ لم يثبت لهما تاريخ، فلم يثبت الحكم إلا مقرونًا بالزيادة المذكورة فيه. والوجه الثاني: أنه قد ثبت أنه -عليه السلام- قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمرنا باعتبارها بقوله مرةً: "فليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء"؛ لورودها من طرق صحيحة، فإذا كانت ثابتة في وقت، واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة، واحتمل أن تكون غير منسوخة؛ لم يجز لنا إثبات النسخ بالاحتمال، ووجب بقاء حكم الزيادة. فافهم. وقال أبو داود: والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال أبو عمر: وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف فيما خالفه مَنْ هو أثبت منه. وقال الشافعي: نافع أثبت في ابن عمر مِنْ أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه. وكذلك رواه عطاء الخراساني عن الحسن، عن ابن عمر بهذه الزيادة. وقال أبو عمر: وكذلك رواه علقمة عن ابن عمر. وقال البيهقي: وكذلك رواه عمرو بن دينار مثل رواية سالم ونافع.

وقال البيهقي: وأكثر الروايات عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك". فإن كانت الرواية عن سالم ونافع وابن دينار في أمره أن يراجعها حتل تطهر ثم تحيض ثم تطهر محفوظة؛ فقد قال الشافعي -رحمه الله-: يحتمل أن يكون إنما أراد بذلك الاستبراء أن يكون يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام، ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها الحمل هي أم الحيض؟ أو ليكون تطليقها بعد علمه يحمل وهو غير جاهل ما صنع، أو يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه حاملًا. وقال غيره: عاقبه بتأخير الطلاق جزاءً بما فعله في المحرم عليه، وفي هذا نظر؛ لأن ابن عمر لم يكن ليعلم الحكم ولا تحقق التحريم فتعمد ركوبه، وحاشاه من ذلك فلا وجه لعقوبته. وقيل: إن الطهر الذي بعد الحيض والحيضة قبله الموقع فيها الطلاق كالقرء الواحد، فلو طلق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء واحد، وهذا ليس هو طلاق السُنَّة. وقيل: إنما أمره بالتأخير؛ لأن الطهر الذي يلي الحيضة الموقع الطلاق فيها ينبغي أن ينُهى عن الطلاق فيه حتى يطأ فيه فتتحقق الرجعة؛ لئلا يكون إذا طلق فيه قبل أن يمس كمن ارتجع الطلاق لا للنكاح، وفي هذا نظر؛ فإنه يوجب أن يُنهى عن الطلاق قبل الدخول؛ لئلا يكون نكح أيضًا للطلاق لا للنكاح. وقيل: إنما نُهي عن الطلاق في هذا الطهر ليطول مقامه معها، والظن من ابن عمر أنه لا يمنعها حقها من الوطء حينئذٍ وتفويت ما في نفسه من الكراهية وأمسكها، ويكون ذلك حرصًا على ارتفاع الطلاق وحضًّا على استقرار الزوجية.

ثم إنه أخرج هذا الحديث بهذه الزيادة من ثمان طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا نصرًا وإبراهيم بن أبي داود البرلسي. وعقيل -بضم العين- ابن خالد الآيلي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم أن أباه أخبره: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر -رضي الله عنه- لرسول الله -عليه السلام-، فتغيظ منه رسول الله -عليه السلام-، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله -عز وجل-. وأخرجه النسائي (¬2): أخبرني كثير بن عُبيد، عن محمد بن حرب، ثنا الزبيدي قال: "سئل الزهري: كيف الطلاق للعدّة؟ فقال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي في حياة رسول الله -عليه السلام- وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -عليه السلام-، فتغيظ وجه رسول الله -عليه السلام- في ذلك فقال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تحيض حيضة وتطهر، فإن بدا له أن يطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أنزل الله -عز وجل- قال عبد الله بن عمر: فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها". الثاني: عن يزيد بن سنان الفراء، عن أبي صالح عبد الله بن صالح -شيخ البخاري- عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن ابن عمر نحوه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا روح، ثنا محمد بن أبي حفصة، ثنا ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك لعمر، فانطلق ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 324 رقم 14686). (¬2) "المجتبى" (60/ 138 رقم 3391). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 61 رقم 5270).

عمر إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبره، فقال رسول الله -عليه السلام-: ليمسكها حتى تحيض غير هذه الحيضة ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها طلقها كما أمره الله -عز وجل- وإن بدا له أن يمسكها أمسكها". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن نافع ... إلى آخره نحوه. قوله: "أن تطلق لها النساء" احتجت به الشافعية والمالكية أن الأقراء التي تعتد بها المرأة هي الأطهار؛ لأنه قال: "فإن شاء طلق -يعني- عند طهرها" ثم قال: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". ومعنى "لها" أي فيها، فثبت -عليه السلام- الطهر عنده. قلت: لا نسلم أن "اللام" ها هنا بمعنى الظرف؛ لأن "اللام" تنصرف على معاني ليس من أقسامها ما يدل على كونها ظرفًا؛ لأن معانيها التي تستعمل على أوجه: "لام" الملك كقوله: له مال، و"لام" الفعل كقوله: له كلام وله حركة، و"لام" العلة كقولك: قام لأن زيدًا جاءه، وأعطاه لأنه سأله, و"لام" النسبة كقولك: له أخ وله أب، و"لام" الاختصاص كقولك: له علم وله إرادة، و"لام" الاستغاثة كقولك: يالَ بكر، ويالَ مضر و"لام" كي كقوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُوا} (¬3)، و"لام" العاقبة كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2011 رقم 4953). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1093 رقم 1471). (¬3) سورة الأنعام، آية: [113]. (¬4) سورة القصص، (8).

بل اللام ها هنا للاستقبال كما في قولهم: لثلاث بقين من الشهر أي مستقبلاً لثلاث، وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) يعني مستقبلات لعدتهن، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اللام قد تكون لحال ماضية ولحال مستقبلة، ألا ترى إلى قوله -علية السلام-: "صوموا لرؤيته" يعني صوموا لرؤية ماضية، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} (¬2)، يعني للآخرة، فاللام فيما نحن فيه للاستقبال كما ذكرنا، فإذا كان للاستقبال وليس في مقتضاه وجوده عقيب المذكور وإذا كان كذلك ووجدنا قوله -عليه السلام- لابن عمر فيه ذكر حيضة ماضية، الحيضة المستقبلة مفقودة، وإذْ لم تكن مذكورة وذلك في قوله: "مُره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهير، ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فاحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الحيضة الماضية، فيدل ذلك على أن العدة إنما هي الحيض. وجائز أن يريد حيضة مستقبلة إذ هي معلوم كونها على مجرى العادة، فليس الطهر حينئذٍ بأولى بالاعتبار من الحيض؛ لأن الحيض في المستقبل وإن لم يكن مذكورًا فجائز أن يراد به؛ إذ كان معلومًا كما أنه لم يذكر طهرًا لعدة الطلاق وإنما ذكر طهرًا قبله، ولكن الطهر لما كان معلومًا وجوده بعد الطلاق إذا طلقها فيه على مجرى العادة، جاز عندك رجوع الكلام فيه، وإرادته باللفظ، ومع ذلك فجائز أن تحيض عقيب الطلاق بلا فصل، فليس إذًا في اللفظ دلالة على أن المعتبر في الاعتداد به هو الطهر دون الحيض. فافهم. الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬2) سورة الإسراء، آية: [19].

وأخرجه أبو داود (¬1): نا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله -عليه السلام- فسأل عمر بن الخطاب رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهير، ثم تحيض ثم تطهير، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ابن الخطاب، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬2): نا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي، قال: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "طلقت امرأتي على عهد رسول الله -عليه السلام- وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله -عليه السلام- فقال: مُرْه فليراجعها، وليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا ظهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها؛ فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدتها". وحدثني (¬3) زهير بن حرب قال: نا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ النبي -عليه السلام- فأمره أن يرجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها؛ فتلك العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء". السادس: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 255 رقم 2179). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1094 رقم 1471). (¬3) المرجع السابق.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، نا يحيى، عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "طلقت امرأتي وهي حائض على عهد رسول الله -عليه السلام-، فأتى عمر رسول الله -عليه السلام- فقال: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، قال: مُرْه فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإن شاء طلقها قبل أن يجامعها وإن شاء أمسكها؛ فإنها العدة التي قال الله تعالى". السابع: عن أحمد البرقي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبي حفص الدمشقي مولى بني هاشم نزيل تِنِّيس، روى له الجماعة. عن زهير بن محمد التميمي العنبري أبي المنذر الخراساني روى له الجماعة. عن يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي الأسدي المدني، وعبيد الله بن عمر، ثلاثتهم عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فحديث يحيى بن سعيد عن نافع أخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى، ثنا يزيد بن هارون، نا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر -رضي الله عنه- رسول الله -عليه السلام- فأمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها إن لم يُرْد إمساكها؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وحديث عبيد الله بن عمر، عن نافع أخرجه مسلم (¬1) كما ذكرناه، وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. وحديث موسى بن عقبة عن نافع: أخرجه الدارقطني (¬4): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1094 رقم 1471). (¬2) "المجتبى" (6/ 137 رقم 3389). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 651 رقم 2019). (¬4) "سنن الدارقطني" (4/ 10 رقم 25).

موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته في عهد رسول الله -عليه السلام- تطليقة واحدة وهي حائض، فاستفتى عمر رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكر نحو الحديث المذكور. الثامن: عن فهد بن سليمان وحسين بن نصر، كلاهما عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه الدارقطني (¬1) نحوه، وقد ذكرناه الآن. ص: وأما وجهه من طريق النظر؛ فإنا وجدنا الأصل في ذلك أن الرجل نُهي أن يطلق امرأته حائضًا، ونُهي أن يطلقها في طهر قد طلقها فيه؛ فكان قد نهي عن الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه كما نُهي عن الطلاق في الحيض. ثم رأيناهم لا يختلفون في رجل جامع امرأته حائضًا ثم أراد أن يطلقها للسُنَّة أنه ممنوع من ذلك حتى تطهر من هذه الحيضة التي كان الجماع فيها ومن حيضة أخرى بعدها، وجعل جماعه إياها في الحيضة كجماعه إياها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة، فلما كان حكم الطهر الذي بعد كل حيضة كحكم نفس الحيضة في وقوع الطلاق في الجماع، وكان مَن جامع امرأته وهي حائض فليس له أن يطلقها بعد ذلك حتى يكون بين ذلك الجماع وبين الطلاق الذي يوقعه حيضة كاملة مستقبلة؛ كان كذلك في النظر أنه إذا طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد بعد ذلك أن يطلقها، لم يكن له ذلك حتى يكون بين طلاقه الأول الذي طلقها إياه وبين طلاقه إياها الثاني حيضة مستقبلة. فهذا وجه النظر عندنا في هذا الباب مع موافقة الآثار، وهو قول أبي يوسف -رحمه الله-. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، تقريره أن الأصل في هذا الباب أن الرجل منهي عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي طلق امرأته فيه كما هو ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 10 رقم 25).

منهي عن إيقاعه في الحيض، ثم إنه إذا جامعها وهي حائض وأراد أن يطلقها للسُنَّة فإنه يمنع من الطلاق حتى تطهر من هذه الحيضة التي جامعها فيها ومن حيضة أخرى مستقبلة بعدها، فلم يعتبر الطهر الذي يعقب الحيضة التي كان فيها الجماع، فصار حكمه كحكم نفس الحيضة، فلما لم يكن لهذا المجامع في الحيض أن يطلقها للسُنَّة حتى يكون بين جماعه الذي وقع في الحيضة وبين الطلاق الذي يريد وقوعه حيضة كاملة مستقبلة؛ كان القياس على ذلك يقتضي للذي طلق امرأته وهي حائض ثم أراد بعد ذلك أن يطلقها أنْ لا يطلقها حتى يكون بين طلاقه الأول الذي قد أوقعه وبين طلاقه الذي يريد وقوعه حيضة مستقبلة. فافهم. فهذا وجه النظر في هذا الباب، وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف ومَنْ ذكرناهم معه فيما مضى. ص: وفي منع النبي -عليه السلام- ابنَ عمر أن يطلق امرأته بعد الطلاق الأول حتى يكون بعد ذلك حيضة مستقبلة فتكون بين التطليقتين حيضة مستقبلة دليلٌ أن حكم الطلاق في السُنَّة ألا يجمع منه تطليقتان في طهر واحد، فافهم ذلك فإنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذه إشارة وتنبيه على فائدة تستنبط من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وهي خفيّة لا تظهر إلا لمن له بصيرة نَفَّاذَة وقريحة وقَّادة؛ فلذلك نبه على ذلك بقوله: "فافهم"، وهذه الفائدة هي التي تستفاد من منع النبي -عليه السلام- عبد الله بن عمر أن يطلق امرأته بعد طلاقه الأول وهي حائض حتى يكون بعد الطلاق الأول حيضة مستقبلة، ففي هذا دليل على أن حكم الطلاق في السُنَّة ألا يجمع بين تطليقتين في طهر واحد. فإن قيل: كيف يفهم ذلك من هذا الحديث؟ قلت: لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق غير محسوبة من العدة، فكان إيقاع الطلاق فيها كإيقاعه في الطهر الذي يليها، ثم إنه -عليه السلام- أمره ألا يطلق بعد ذلك حتى تكون حيضة مستقبلة، فظهر من هذا أنه لو طلقها قبل الحيضة المستقبلة يكون مُوقِعًا

تطليقتين في طهر واحد، فلو لم يكن هذا مكروهًا لما منعه -عليه السلام- أن يطلقها بعد الطلاق الأول قبل الحيضة المستقبلة فلما منع من ذلك علمنا أن إيقاع الطلقتين في طهر واحد مكروه بالمعنى الذي ذكرناه، فافهم؛ فإنه موضع يحتاج إلى دقة نظر. قوله: "فإنه قول أبي حنيفة" أي فإن ما ذكرنا من الطلاق في السُنَّة ألا يجمع منه تطليقتان في طهر واحد قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- ثم اعلم أن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب في العدة كما ذكرنا، وهو مذهب أبي قلابة والزهري وقتادة والليث وشريح والشعبي وطاوس وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومالك بن دينار وجابر بن زيد ومحمد بن سيرين ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بأسانيد جياد، وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقول: تعتد بتلك الحيضة. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 56).

ص: باب: الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا

ص: باب: الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يطلق امرأته ثلاث تطليقات جملة واحدة. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن جريج هو عبد الملك بن جريج المكي. وابن طاوس هو عبد الله. وأبو الصهباء البصري مولى ابن عباس اسمه صهيب، وثقه أبو زرعة وابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا روح بن عبادة، قال: أنا ابن جريج، (ح). ونا ابن رافع واللفظ له، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: أنا ابن طاوس، عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنه كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي -عليه السلام- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1099 رقم 1472). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 261 رقم 2200). (¬3) "المجتبى" (6/ 145 رقم 3406).

قوله: "أتعلم" استفهام على سبيل التقرير. قوله: "أن الثلاث" أي الطلقات الثلاث كانت تجعل واحدة أي طلقة واحدة. قوله: "على عهد رسول الله -عليه السلام-" أي في زمنه وأيامه. قوله: "وثلاثًا من إمارة عمر -رضي الله عنه-" أي وثلاث سنين من خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. قوله: "نعم" أي نعم كان الأمر كذلك. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت في وقت سنةٍ، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله -عز وجل- إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به؛ لم يقع طلاقهم. وقالوا: ألا ترون أن رجلاً لو أمر رجُلاً أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع؛ إذ كان قد خالف ما أُمِر به، قالوا: فكذلك الطلاق الذي أمر به العباد فإذا أوقعوه كما أمروا به وقع، وإذا [أوقعوه] (¬1) على خلاف ذلك لم يقع. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوسًا ومحمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة والنخعي وابن مقاتل وبعض الظاهرية؛ فإنهم قالوا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات فإنه يقع عليها واحدة والثنتان لغو، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. قوله: "وقالوا ... " إلى آخره. ظاهر. ص: وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فقالوا: الذي أُمِر به العباد من إيقاع الطلاق فهو كما ذكرتم إذا كانت المرأة طاهرًا من غير جماع، أو حاملاً وأُمِروا بتفريق الثلاث إذا أرادوا إيقاعهن ولا يوقعهن معًا، فإذا خالفوا ذلك فطلقوا في الوقت ¬

_ (¬1) في "الأصل": أوقعوا. والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الذي لا ينبغي لهم أن يطلقوا فيه وأوقعوا الطلاق أكثر مما أُمِروا بإيقاعه؛ لزمهم ما أوقعوا من ذلك، وهم آثمون في تعديهم ما أمرهم الله به، وليس ذلك كالوكالات؛ لأن الوكلاء إنما يفعلون ذلك للموكِّلين فيحلون في أفعالهم تلك محلهم، فإن فعلوا ذلك كما أُمِروا لزم، وإن فعلوا ذلك على غير ما أمروا لم يلزم، والعباد في طلاقهم إنما يفعلونه لأنفسهم لا لغيرهم، ولا يحلون في فعلهم ذلك محل غيرهم، فيراد منهم في ذلك إصابة ما أمرهم به الذين يحلون في فعلهم ذلك محله. فلما كان ذلك كذلك لزمهم ما فعلوا وإن كان ذلك مما قد نهوا عنه لأنا قد رأينا أشياء مما قد نهى الله العباد عن فعلها أوجبت عليهم إذا فعلوها أحكامًا، من ذلك: أنه نهاهم عن الظهار ووصفه بأنه منكر من القول وزور، ولم يمنع ما كان كذلك أن تحرم به المرأة على زوجها حتى يفعل ما أمره الله به من الكفارة. فلما رأينا الظهار قولاً منكرًا وزورًا ولقد لزمت به حرمة؛ كان كذلك الطلاق المنهيّ عنه هو منكر من القول وزورٌ، والحرمة به واجبة. وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- لما سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن طلاق عبد الله امرأته وهي حائض، أمره بمراجعتها، وتواترت عنه بذلك الآثار، وقد ذكرناها في الباب الأول، ولا يجوز أن يؤمر بالمراجعة مَنْ لم يقع طلاقه، فلما كان النبي -عليه السلام- قد ألزمه الطلاق في الحيض -وهو وقت لا يحل إيقاع الطلاق فيه- كان كذلك مَنْ طلق امرأته ثلاثًا، فأوقع كل الطلاق في وقت بعضه دون ما بقي منه؛ لزمه في ذلك ما ألزم نفسه وإن كان فعله على خلاف ما أُمِر به، فهذا هو النظر في هذا الباب. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: الأوزاعي والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عُبيد وآخرون كثيرون، فإنهم قالوا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاث طلقات وقعن ولكنه يأثم، أما وقوعه فلأن الطلاق في نفسه مشروع ما فيه حظر وإنما

الحظر، في غيره وهو كون إيقاع الثلاث في طهر واحد بدعة لمخالفته السُنَّة، فوقع الطلاق وأثم لذلك، فصار كالبيع وقت أذان الجمعة، والصلاة في الأرض المغصوبة. والقياس على الوكالة فاسد؛ لأن الوكيل قائم مقام موكِّله فإن فعل كما أمر به لزم، وإن خالف لم يلزم للمخالفة. قوله: "وإن كان فعله على خلاف ما أمر به" وذلك لأن المأمور به أن يطلقها للسُنَّة وهو الذي أذن الله فيه للعدة كما قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) أي في قبل عدتهن كما ذكرنا. ثم اختلفوا في طلاق السُنَّة، فقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر أهل الكوفة: من أراد أن يطلق امرأته للسُنَّة طلقها حين تطهر من حيضها قبل أن يجامعها طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها أخرى، ثم يدعها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها ثالثةً، فبالثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. وقال مالك وأصحابه: طلاق السُنَّة أن يطلق طلقة في طهر لم يمسها فيه -ولو كان في آخر ساعة منه- ثم يمهلها حتول تنقضي عدتها وذلك بظهور أول الحيضة الثالثة في الحرة، أو الحيضة الثانية في الأَمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء وللأَمة قرآن، فإن طلقها في كل طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثًا مجتمعات في طهر لم يمسها فيه؛ فقد لزم، وليس بمطلق للسُنَّة. وهو قول الأوزاعي وأبي عُبيد القاسم بن سلام. وقال الشافعي وأحمد وداود: ليس في عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة، وإنما السُنَّة في وقت الطلاق، فإذا أراد أن يطلق امرأته للسُنَّة أمهلها حتى تحيض ثم تطهر، فإذا طهرت طلقها من قبل أن يجامعها كم شاء، إن شاء واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، أيّ ذلك فعل فهو مطلق للسُنَّة. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1].

وأجمع العلماء أن طلاق السُنَّة إنما هو في المدخول بها، وأما غير المدخول بها فليس في طلاقها سُنَّة ولا بدعة؛ لأنه لا عدة عليهن. وقال أشهب: لا يطلقها وإن كانت غير مدخول بها حائضًا. وقال ابن القاسم: يطلقها متى شاء دان كانت حائضًا، وعليه الناس. ولا خلاف بينهم في الحامل أن طلاقها للسنَّة من أول الحمل إلى آخره؛ لأن عدتها أن تضع ما في بطنها. ص: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كان حجة قاطعة، وذلك أنه قال: "فلما كان زمن عمر -رضي الله عنه- قال: يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، وإنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياها". حدثنا بذلك ابن أبي عمران قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: أنا عبد الرزاق (ح). وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، مثل الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس، وأنهما ذكرا مثل جواب ابن عباس الذي في ذلك الحديث، وذكرا من كلام عمر -رضي الله عنه- ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر بذلك الناس جميعًا وفيهم أصحاب رسول الله -عليه السلام- الذين قد علموا ما قد تقدم من ذلك في زمن رسول الله -عليه السلام- فلم ينكره عليه منهم منكر ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لمَّا كان نقل أصحاب رسول الله -عليه السلام- فعلاً تجب به الحجة، كان كذلك إجماعهم على القول إجماعًا تجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريء من الوهم والزلل، كان كذلك إجماعهم على الرأي بريء مِنَ الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله -عليه السلام- على معاني؛ فجعلها أصحابه من بعده على خلاف تلك المعاني لِمَا رأوا منه مما قد خفي على من بعدهم، فكان ذلك

حجة ناسخًا لما قد تَقدَّمه، من ذلك تدوين الدواوين، ومنع بيع أمهات الأولاد، وقد كنَّ يُبعْن قبل ذلك، والتوقيت في حدّ الخمر ولم يكن فيه توقيت، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفونا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما رويناه مما تقدم فعلهم به، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معًا أنه يلزم، لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك. ش: هذا جواب عن حديث ابن عباس الذي احتجت به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه، بيان ذلك أن يقال: روي عن ابن عباس في هذا الحديث مما لو اكتفينا به لقامت به حجة قاطعة فيما ندعيه من وقوع ثلاث طلقات عند التلفظ بها، وهو أنه قال في روايته: "فلما كان زمن عمر -رضي الله عنه- قال: أيها الناس، قد كان لكم في الطلاق أناة، وأنه مَنْ تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه". أخرجه مِنْ طريقين صحيحين: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن إسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم المروزي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن عبد الرزاق ابن همام، عن معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع -واللفظ لابن رافع قال إسحاق: أنا، وقال [ابن] (¬2) رافع-: نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1099 رقم 1472). (¬2) تكررت في "الأصل".

الثاني: عن عبد الحميد بن عبد العزيز أبي خازم -بالمعجمتين- القاضي، أحد فقهاء الدنيا واحد الأئمة الحنفيَّة الكبار، الثقة الثبت، عن أحمد بن منصور بن سيَّار الرمادي شيخ ابن ماجه وأبي عوانة الإِسفراييني، عن عبد الرزاق ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬1) وغيره من حديث عبد الرزاق نحوه. قوله: "أناة" بفتح الهمزة أي مهلة وبقية استمتاع وانتظار للرجعة. وفي "المطالع": الأناة -بالفتح والقصر- وهو الثبت في الأمور وترك العجلة. والثاني هو المكث والإبطاء، يقال: أَنَيْتُ وأَنَّيْتُ -مشددًا- وتَأَنَّيت. قوله: "فخاطب عمر بذلك" أي بهذا القول الناس جميعًا، والحال أن فيهم أصحاب رسول الله -عليه السلام-. قوله: "فكان ذلك" أي رضاهم كلام عمر وعدم ردهم إياه أكبر الحجة؛ لأنه صار إجماعًا، والإجماع من أقوى الحجج؛ بدليل قوله -عليه السلام-: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" (¬2) ولا سيما هؤلاء السادات من الصحابة -رضي الله عنهم- ومثل عمر بينهم. قوله: "في نسخ ما تقدم من ذلك" أي من حديث ابن عباس. فإن قيل: ما وجه هذا النسخ وعمر -رضي الله عنه- لا ينسخ؟! وكيف يكون النسخ بعد النبي -عليه السلام-؟! ولو كان عمر نسخ ذلك لبادرت الصحابة إلى إنكار ذلك عليه، وإن كان يراد أنه نسخ في حياة النبي -عليه السلام- فهو إرادة صحيحة ولكنه يُلزم المحذور من وجه آخر؛ وهو أنه يخرج عن ظاهر الخبر في قوله: "كان على عهد النبي -عليه السلام- وأبي بكر"؛ لأنه إذا نسخ في عهد النبي -عليه السلام- لم يصدق الراوي فيما قال. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 336 رقم 14749). (¬2) أخرجه الترمذي (4/ 466 رقم 2167)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 199 رقم 391) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. ورواه أحمد في "مسنده" (6/ 396 رقم 27267) من حديث أبي بصرة الغفاري، ورواه ابن ماجه في "سننه" (2/ 1303 رقم 3950) وغيره من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

قلت: قد ذكرنا لك أن هذا بخطاب عمر للصحابة قد كان إجماعًا، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النسخ يجوز بالخبر المشهور في الزيادة على النص، فجوازه بالإجماع أولى، وقد اعترض بعضهم بأن إجماعهم على النسخ من تلقاء أنفسهم لا يجوز في حقهم؛ لأنه يكون إجماعًا على الخطأ وهم معصومون من ذلك. وأجيب عن ذلك بأنه قد يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا ذلك. وقد أجاب الناس عن حديث ابن عباس بأجوبة غير ذلك منها: ما قال أحمد بن حنبل: إن رواية ابن عباس هذه مدفوعة برواية الناس عنه من وجوه بخلاف ذلك، وقال: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى عنه طاوس. وقال البيهقي: فلذلك ترك البخاري رواية هذا الحديث؛ لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق وأمضاه، وقال بعضهم: هذا الحديث في غير المدخول بها، وذهب إلى هذا جماعة من أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين، فإذا قال: أنتِ طالق بانت، وقوله: ثلاثًا كلام وقع بعد البينونة فلا يُعتد به، وقال بعضهم: المراد به: أنه كان المعتاد في زمن النبي -عليه السلام- تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس الآن التطليق بالثلاث. وقال أبو العباس أحمد بن سريج جوابًا آخر قد ذكرناه في باب الرجل يطلق امرأته وهي حائض؛ فليعاود هناك. وقال الجصاص: حديث ابن عباس هذا منكر على ما قيل. قلت: قاله الطحاوي هكذا في غير هذا الموضع.

قوله: "من ذلك تدوين الدواوين". الدواوين: جمع ديوان، وهو الكتاب الذي يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة، وأول من دوَّان الدواوين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. والديوان أصله دوَّن -بتشديد الواو- فعوض من إحدى الواوين ياءً؛ لأنه جمع على دواوين، ولو كانت الياء أصلية لقالوا: دياوين. قاله الجوهري، وحكى ابن دريد: دياون، فافهم. قوله: "ولم يكن فيه توقيت" أي حَدّ معلوم. ص: ثم هذا ابن عباس قد كان من بعد يفتي من طلق امرأته ثلاثًا أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله -فأثمه الله- وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقلت: فكيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه". ش: ذكر هذا وما بعده من أحاديث ابن عباس شاهدًا لما قاله من انتساخ حديثه ذاك، أي: ثم هذا عبد الله بن عباس قد كان يفتي من بعد أن روى الحديث المذكور بوقوع الطلاق الثلاث عند التلفظ بها، فالراوي إذا روى شيئًا ثم أفتى بخلافه أو عمل بخلافه، دَلَّ على أنه قد ثبت عنده نسخ ما رواه. وقال الشافعي: يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا ثم نسخ؛ لأنه لا يروي عن رسول الله -عليه السلام- شيئًا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي -عليه السلام- فيه خلاف. وقال البيهقي: رواية عكرمة عن ابن عباس قد مضت في النسخ، وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل. قلت: رواية عكرمة هي ما رواه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) بإسنادها إلى ابن عباس ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 259 رقم 2195). (¬2) "المجتبى" (6/ 212 رقم 3554).

قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ...} (¬1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا فسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) الآية". وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا. وقال البيهقي (¬4): قال الشافعي: فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن [عمر] (¬5) فقال فيه ابن عباس بقول [عمر] (7) -رضي الله عنه-. قيل له: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة وفي بيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي -عليه السلام- خلافه. ثم إنه أخرج أثر ابن عباس بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن مالك بن الحارث السلمي الكوفي وثقه يحيى وابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه البيهقي (¬6) من حديث الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس قال: "أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله -فأندمه الله- وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخادعه". قوله: "فآثمه الله" أي عدَّه عليه إثمًا، يقال: أثمه الله في كذا يَأْثُمُه ويَأْثِمُه -بضم عين الفعل في المستقبل وكسرها- فهو مأثوم، هذا بالقصر، ويقال: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [228]. (¬2) سورة البقرة، آية: [229]. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 337 رقم 14752). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 338 رقم 14760). (¬5) في "الأصل": ابن عمر. وهو خطأ، والمثبت من "سنن البيهقي". (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 337 رقم 14758).

بالمد آثمه الله أي أوقعه في الإثم، وأثمَّه أيضًا بالتشديد، وفي رواية البيهقي: "فأندمه الله" من الندامة. قوله: "من يخادع الله" أي من يعامل الله معاملة المخادعين. وقوله: "يخادعه" مجزوم؛ لأنه جواب "مَنْ" التي تضمنت معنى الشرط، أي يجازيه بما عمل من خداعه، وهذا من باب المشاكلة والازدواج، والمعنى أنه لما عصى الله تعالى في إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة وسدَّ الباب على نفسه وخالف السُنَّة؛ جازاه الله تعالى بأن أحوجه إلي رجل يحللها له. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن بكير قال: "طلق رجل امرأته ثلاثًا قبل الدخول بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك، فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجًا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدةً، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وفيه دليل أن ابن عباس أفتى بوقوع الثلاث لمن طلق ثلاثًا، وأن المطلقة بالثلاث لا تحل لزوجها إلا بعد زوج آخر، وأن من طلق امرأته قبل الدخول بها ثلاثًا تقع عليه الثلاث، وفيه خلاف؛ فعند طاوس وعطاء وقتادة وجابر بن زيد: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة. روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 570 رقم 11803). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 69 رقم 17880).

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن يحيى بن سعيد، أن بكير بن الأشج أخبره، عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري: "أنه كان جالسًا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلاً من أهل البادية طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا أمرٌ ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وإلى أبي هريرة -رضي الله عنهم- فسلهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها والثلاث تحرِّمها حتى تنكح زوجًا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك أيضًا". ش: إسناده صحيح. ورجاله كلهم رجال الصحيح. ويحيى بن سعيد هو الأنصاري قاضي المدينة. وبكير بن الأشج هو بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي المخزومي المدني. ومعاوية بن أبي عياش الزرقي الأنصاري المدني، وهو أخو النعمان، وعيَّاش بتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة. وأبو عيَّاش صحابي مشهور؛ فقيل: اسمه زيد بن الصامت، وقيل: عبيد الله بن زيد بن صامت الأنصاري الخزرجي الزرقي، وعاش إلى زمن معاوية، ومات بعد الأربعين، وقيل: بعد الخمسين. وعاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-. ومحمد بن إياس بن بكير بن عبد ياليل الليثي المدني، وكان أبوه وعماه خالد بن البكير وعاقل بن البكير ممن شهد بدرًا. والحديث أخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وقال في آخره: وقال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. وقال أيضًا: والثيب إذا ملكها الرجل ولم يدخل بها تجري مجرى البكر؛ الواحدة تُبينها، والثلاث تحرِّمها حتى تنكح زوجًا غيره. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 571 رقم 1182).

قوله: "قد جاءتك معضلة" أي حادثة معضلة أو مسألة معضلة أي: مشكلة؛ من أعضل الأمر إذا أشكل. قوله: "الواحدة تُبينها" أي: الطلقة الواحدة تبين المرأة؛ من الإبانة، والطلقات الثلاث تحرمها يعني: لا يبقى له سبيل معها حتى تنكح زوجًا غيره، فيدخل بها دخولاً صحيحًا، ثم يطلقها، فتنقضي عدتها منه، فحينئذٍ لزوجها الأول أن يعيدها إلى عصمة نكاحه بعقد جديد. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير: "أن رجلاً سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم- عن طلاق البكر ثلاثًا وهو معهم، فكلهم قال: حرمت عليك". ش: إسناده صحيح. وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به. وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، روى له الجماعة. والزهري هو محمد بن مسلم. وأخرجه أبو داود (¬1): نا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس: "أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا فكلهم قال: لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 260 رقم 2198).

وهذا كما قد رأيت وقع في روايته: عبد الله بن عمرو بن العاص. وفي رواية الطحاوي: عبد الله بن عمر، وكذا وقع في رواية ابن أبي شيبة (¬1): عبد الله بن عمر مع زيادة عائشة فيها فقال: ثنا أبو أسامة، نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وعن محمد بن إياس بن بكير، عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة: "في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". قوله: "حرمت عليك" أرادوا به التحريم بوقوع الثلاث عليها. ص: حدثنا يونس قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثًا: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. وسفيان هو ابن عُيينة. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) عن ابن فضيل، عن مطرف، عن الحكم، عن ابن عباس وابن مسعود، قالا في رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قالا: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير: "أن رجلاً سأل ابن عباس أن رجلاً طلق امرأته مائة، فقال: ثلاث تحرمها عليه، وسبعة وتسعون في رقبته؛ إنه اتخذ آيات الله هزوًا". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17860). وكذا رواه في "مصنفه" (4/ 66 رقم 17854) من حديث عبد الله بن عمرو -وهو ابن العاص- من طريق عطاء بن يسار، عنه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 66 رقم 17852).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد: "أن رجلاً قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك؛ لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا من يتق الله يجعل له مخرجًا قال الله -عز وجل-: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) في قبل عدتهن". ش: هذه ثلاث طرق آخرى عن ابن عباس، وهي صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة بن عبد الله المرادي الجملي أبي عبد الله الكوفي الأعمى، أحد مشايخ أبي حنيفة، وروى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، قال: حدثني عمرو بن مًرة، عن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا -أو مائة- قال: بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر، اتخذت آيات الله هزوًا". "الهُزء" بضم الهاء والزاي وبتسكين الزاي أيضًا: السخرية، تقول منه: هزئت منه وهزئت به، وعن الأخفش: استهزأت به وهَزَأت به -بالفتح أيضًا- هَزوًا ومهزاءً. وإنما قال ابن عباس هذا القول؛ إنكارًا عليه في طلاقه بمائة طلقة أو بألف طلقة؛ لأنه كلام لا يعتد به في الوقوع بأكثر من ثلاث طلقات؛ لأن الله تعالى شرَّع في كتابه ثلاث طلقات بقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3)، ثم قال: {فَإنِ طَلقَهَا} (¬4) أي الثالثة، فإذا ذكر أكثر من ذلك يكون آتيًا بما ليس في كتاب الله، فيكون كالمستهزئ. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 62 رقم 17804). (¬3) سورة البقرة، آية: [229]. (¬4) سورة البقرة، آية: [230].

الثاني: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة والعين المهملة- الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحو الأثر المذكور. وعبد الأعلى هذا وإن كان ضعفه أحمد فقد وثقه غيره، وروى له الأربعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن إبراهيم، عن عبيدة وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قالا: "إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي وحميد الأعرج، كلاهما عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة، قال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك؛ لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) في قُبُل عدتهن". قوله: "عصيت ربك"؛ لأنه خالف السُنَّة في الإيقاع. قوله: "وبانت منك امرأتك" دليل على وقوع الثلاث بهذه اللفظة، وما فوق الثلاث لغو. قوله: "لم تتق الله" أي لم تخف الله "فيجعل لك مخرجًا" فيما إذا أراد إعادة امرأته؛ لأنه سدَّ عليه باب الإعادة إلا بعد زوج آخر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 68 رقم 18). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 337 رقم 14755). (¬3) سورة الطلاق، آية: [1].

قوله: "في قبُل عدتهن" قراءة قرأ بها ابن عباس وابن عمر ومجاهد وآخرون، والمعنى في استقبال عدتهن. ص: ثم قد روي عن غيره من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما يوافق ذلك أيضًا. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا سفيان وأبو عوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله: قال فيمن طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاثة تبينها منك، وسائرها عُدوان". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا أخبره عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن الأشج، عن النعمان بن أبي عياش الأنصاري، عن عطاء بن يسار قال: "جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يمسَّها، فقال عطاء: فقلت له: طلاق البكر واحدة، فقال عبد الله: إنما أنت قاصٌّ، الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب، قالا: ثنا ابن الهاد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: "الواحدة تبينها، والثلاث تحرِّمها". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد -هو ابن منصور- قال: ثنا أبو عوانة، عن شقيق، عن أنس قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. قال: وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا أُتي برجل طلق امرأته ثلاثًا؛ أوجع ظهره". حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن عاصم بن بهدلة، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: قال في الرجل يطلق امرأته البكر ثلاثًا: "إنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.

حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، حدثني شقيق، عن أنس بن مالك، عن عمر -رضي الله عنهما- مثله. ش: أي ثم قد روي عن غير ابن عباس من الصحابة ما يوافق ما روي عن ابن عباس في وقوع الطلقات الثلاث بالتلفظ به؛ وأخرج في ذلك عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. أما عن ابن مسعود فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن سفيان الثوري وأبي عوانة الوضاح اليشكري، كلاهما عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة الأسدي، عن عبد الله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن ابن عُيينة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله. وأخرجه من حديث وكيع (¬2)، عن سفيان، عن منصور والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة؟ قال: بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: فما قالوا لك؟ قال: قالوا: حرمت عليك، قال: فقال عبد الله: لقد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17859). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 61 رقم 17800). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 61 رقم 17798).

أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان" انتهى. أي: سائر المائة غير الثلاث ظلم وتعدي؛ لأنه مخالف للكتاب والسُنَّة. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عُيينة، عن عاصم ابن بهدلة، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) عن ابن عُيينة، عن عاصم، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله مثله. وأما عن عبد الله بن عمرو بن العاص، فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. والنعمان بن أبي عياش هو أخو معاوية بن أبي عياش المذكور عن قريب، ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬2). وقيل: إن هذا الحديث لبكير عن عطاء ولم يتابع مالكًا أحدٌ على ذكر النعمان في هذا الحديث. قلت: قال مسلم: والنعمان أقدم من عطاء بن يسار، أدرك عمر وعثمان -رضي الله عنهما-. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة ويحيى بن أيوب الغافقي المصري، كلاهما عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، عن عطاء بن يسار الهلالي المدني القاصّ -مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام- عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17859). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 570 رقم 1181).

وأما عن أنس وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فأخرجه من طريقين صحيحين أيضًا: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن شقيق بن أبي عبد الله مولى آل الحضرمي -من أهل الكوفة، وثقه ابن حبان- عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". قوله: "أوجع ظهره" أي ضربًا، وإنما كان يفعل ذلك عمر -رضي الله عنه- لكون إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة بدعة تخالف لسُنَّة الطلاق. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن شقيق بن أبي عبد الله الكوفي، عن أنس بن مالك، عن عمر بن الخطاب. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث سعيد بن منصور: نا سفيان، عن شقيق، سمع أنسًا يقول: "قال عمر -رضي الله عنه- في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: هي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وكان إذا أُتي به أوجعه". ثم اعلم أن الطحاوي قد أخرج في هذا الباب من الصحابة: عن ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. قلت: وفي الباب عن علي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن بن علي وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وعائشة وأم سلمة -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 68 رقم 18). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 334 رقم 14735).

أما حديث علي -رضي الله عنه- فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه- قال: "إذا طلق البكر واحدة فقد بتَّها، وإذا طلقها ثلاثًا لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وأما حديث المغيرة فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث معاذ بن معاذ: ثنا شعبة، عن طارق بن عبد الرحمن، سمعت قيس بن أبي حازم قال: "سأل رجل المغيرة -وأنا شاهد- عن رجل طلق امرأته مائةً، قال: ثلاثة تُحَرِّم، وسبع وتسعون فضل". وكذا حديث الحسن بن علي فأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا من حديث ابن حميد، نا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة قال: "كانت عائشة الخثعمية عند الحسن، فلما قتل علي -رضي الله عنه- قالت: لتهنئك الخلافة، قال: بقتل علي -رضي الله عنه- تُظهرين الشماتة؟! اذهبي فأنت طالق -يعني ثلاثًا- فتلفعت بثيابها وقعدت حتى مضت عدتها، فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها، وعشرة آلاف صدقة، فقالت لَمَّا جاءها الرسول: متاع قليل من حبيب مفارق، فلما بلغه قولها بكى، ثم قال: لولا أني سمعت جدي -أو حدثني أبي أنه سمع جدي- يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو ثلاثًا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره؛ لراجعتها". وأما حديث عمران بن الحصين وأبي موسى -رضي الله عنهما- فأخرجه البيهقي أيضًا (¬4) من حديث حميد الطويل، عن واقع بن سحبان: "أن رجلاً أتى عمران بن الحصين وهو ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 66 رقم 17853). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 336 رقم 14747). (¬3) "السنن الكبرى" (7/ 336 رقم 14748). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 332 رقم 14726).

في المسجد، فقال: رجل طلق امرأته ثلاثًا في مجلس قال: أثم بربه وحرمت عليه امرأته، فأنطلق الرجل فذكر ذلك لأبي موسى -يريد بذلك عيبه- فقال: ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا؟! فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد". وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن أبي سعيد الخدري في الذي يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فقال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وأما حديث عائشة فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬2): نا أبو أسامة، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وعن محمد بن إياس، عن بكير، عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها قالوا: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وأما حديث [أم] (¬3) سلمة فأخرجه ابن أبي شيبة (¬4) أيضًا: نا عبد الله بن نمير، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "سمعت أم سلمة سئلت عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، [فقالت] (¬5): لا تحل له حتى يطأها غيره". ص: فإن قال قائل: فقد رأينا العباد أمروا ألا ينكحوا النساء إلا على شرائط، منها: أنهم مُنعوا من نكاحهن في عِددهن، فكان مَنْ نكح امرأةً في عدتها لم يثبت نكاحه عليها، وهو في حكم مَنْ لم يعقد عليها نكاحًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17856). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17860). (¬3) في "الأصل": أبي. وهو خطأ. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 67 رقم 17857). (¬5) في "الأصل": فقال. والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة".

فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو إذا عقد عليها طلاقًا في وقت قد نُهِي عن إيقاع الطلاق فيه؛ أن لا يقع طلاقه ذلك، وأن يكون في حكم مَنْ لم يوقع طلاقًا. فالجواب في ذلك أن ما ذكر من عقد النكاح كذلك هو، وكذلك العقود كلها التي يدخل العباد بها في أشياء لا يدخلون فيها إلا من حيث أُمِروا بالدخول فيها، وأما الخروج منها فقد يجوز بغير ما أمروا بالخروج به، مِنْ ذلك أنا قد رأينا الصلوات قد أمر العباد ألا يدخلوها إلا بالتكبير والأسباب التي يدخلون بها فيها، وأُمِروا ألا يخرجوا منها إلا بالتسليم، فكان من دخل في الصلاة بغير طهارة وبغير تكبير لم يكن داخلاً ليها، وكان من تكلم فيها بكلام مكروه أو فَعَلَ فيها شيئًا مما لا يُفْعَلُ فيها من الأكل والشرب والمشي وما أشبهه، خرج به من الصلاة وكان مسيئًا فيما فعل من ذلك في صلاته، فكذلك الدخول في النكاح لا يكون إلا من حيث أُمِر العباد بالدخول فيه، والخروج منه قد يكون بما أُمِروا بالخروج به منه وبغير ذلك. وهذا كله قول أيضًا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: أُمرنا ألا ننكح إلا بشرائط منها: ألا تكون المرأة في العدة، فناكحها فيها كلا ناكح. فالقياس على ذلك أن يكون المطلق في وقت نهي عن إيقاع الطلاق فيه كلا مطلق، فلا يقع طلاقه. قوله: "في عِدَدهن" بكسر العين وفتح الدال الأولى وهو جمع عِدَّة بالكسر. قوله: "إذا عقد عليها طلاقًا" والنسخة الصحيحة: إذا أوقع عليها طلاقًا. وتقرير الجواب أن يقال: إن الطلاق هو الخروج عن النكاح، والنكاح من العقود التي لا يدخل فيها إلا مِنْ حيث أمر بالدخول فيها، وأما الخروج منها فلا

يلزم أن يكون من حيث أمر بها، ويجوز أن يكون بغير ما أُمِر بها كالصلاة مثلاً فإن الدخول فيها لا يكون إلا بالتكبير وغيره من الشروط، والخروج منها بالسلام، فإذا خرج منها بشيء لا يفعل فيها كالأكل ونحوه، فإنه يخرج به من الصلاة وإن كان مسيئًا، وكذلك الطلاق يخرج به من النكاح وإن كان من غير ما أُمِر به من إيقاعه في وقتٍ نهي عنه فيه. فافهم. وكان ينبغي أن يذكر هذا السؤال والجواب في الباب السابق؛ لأنه محله. فافهم. ***

ص: باب: الأقراء

ص: باب: الأقراء ش: أي هذا باب في بيان الأقراء، وهو جمع قُرء بضم القاف. قاله الأصمعي. وقال أبو زيد: هو بفتح القاف، وقال البخاري: قال معمر: يقال: أقرأت المرأة إذا دنى حيضها، وأقرأت إذا دنى طهرها فهي مقرئ، وقرأت الناقة إذا حملت فهي قارئ، وأقرأت المرأة إذا استقر الماء في رحمها، وقعدت المرأة أيام أقرائها أي أيام حيضها. وقال أبو عمر: أصل القرء في اللغة الوقت والطهور والحمل والجمع. وقال ثعلب: القروء: الأوقات، والواحد: قرء، وهو الوقت، وقد يكون حيضًا، ويكون طهرًا. وقال قطرب: تقول العرب: ما أقرأت الناقة سلاً قط أي لم ترم به، وقالوا: أقرأت الناقة قراءً، وذلك معاودة الفحل إياها أوان كل ضراب. وقالوا أيضًا: قرأت المرأة قرءًا إذا حاضت وطهرت، وقرأت أيضًا إذا حملت. وفي "المطالع": الأقراء جمع قُرء وقَرء، وهي الأطهار عند أهل الحجاز، والحيض عند أهل العراق، ومِنَ الأضداد عند أهل اللغة. وحقيقة القرء الوقت عند بعضهم، وعند آخرين الجمع والانتقال من حال إلى حال وهو أظهر عند أهل التحقيق. قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك" يردّ قول أهل الحجاز. قلت: لفظ القرء من الأسماء المشتركة، والمشترك كل لفظ تشترك فيه معاني أو أسامي لا على سبيل الانتظام، بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المراد به على الانفراد، وإذا تعين الواحد مرادًا به انتفى الآخر، مثل اسم العين فإنه للناظر ولعين الماء وللشمس وللمرأة وللنقد من المال، وللشيء المعين ... إلي غير ذلك من المعاني قد عدَّها بعضهم سبعة عشر معنى لا على أن جميع ذلك مراد بمطلق اللفظ، ولكن على احتمال كون كل واحد مرادًا بانفراده عند الإطلاق، وأما بيان الاشتراك في لفظ

القرء فإن العلماء متفقون أنه يحتمل الأطهار ويحتمل الحيض وأنه غير منتظم لهما، بل إذا حملناه على الحيض لدليل في اللفظ؛ وهو أن المرأة لا تسمى ذات القروء إلا باعتبار الحيض ينفي كون الأطهار مرادًا وإذا حمله الخصم على الأطهار لدليل في اللفظ وهو الإجماع، أخرج الحيض أن يكون مرادًا باللفظ، وقيل: لفظ القرء حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. والمقصود: هذا باب قد اختلف فيه السلف والخلف من اللغويين والفقهاء، وسيجيء بيانه مستقصى إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: اختلف الناس في الأقراء التي تجب على المرأة إذا طلقت، فقال قوم: هي الحيض، وقال آخرون: هي الأطهار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الضحاك والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وأحمد -في الصحيح- وسائر الكوفيين وأكثر العراقيين؛ فإنهم قالوا: الأقراء: الحيض. قال أبو عمر: هو المروي عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، وقولهم كلهم: إن المطلقة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، قال: وهو الذي استقر عليه أحمد بن حنبل فيما ذكر عمر بن الحسن الخرقي عنه في "مختصره". قوله: "وقال أخرون" أي جماعة آخرون: "الأقراء هي الأطهار"، وأراد بهم: القاسم وسالمًا وأبان بن عثمان وأبا بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وربيعة ويحيى بن سعيد والزهري ومالكًا والشافعي وأحمد في رواية وداود وأبا ثور وأبا سليمان.

وقال أبو عمر: وهو قول عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو، وروي عن ابن عباس أيضًا. كل هؤلاء يقولون: الأقراء: الأطهار، فالمطلقة عندهم تحل للأزواج بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة، وسواء بقي من الطهر الذي طلقت فيه المرأة يوم واحد أو أقل أو أكثر أو ساعة واحدة فإنها تحتسب به المرأة قرءًا. واعلم أن طائفة أخرى توقفوا في الأقراء: هل هي حيض أم أطهار، وهم: سليمان بن يسار وفضالة بن عبيد وأحمد في رواية؛ فعن أحمد ثلاث روايات: الأولى مع الطائفة الأولى، والثانية مع الثانية، والثالثة مع هؤلاء المتوقفين. والله أعلم. ص: فكان من حجة من ذهب إلى أنها الأطهار: قول رسول الله -عليه السلام- لعمر -رضي الله عنه- حين طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض: "مُرْه أن يراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر أن تطلق لها النساء". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في الباب الذي قبل هذا الباب. قالوا: فلما أمره رسول الله -عليه السلام- أن يطلقها في الطهر، وجعله العدة، ونهاه أن يطلقها في الحيض، وأخرجه من أن يكون عدة؛ ثبت بذلك أن الأقراء هي الأطهار. ش: احتجاج هؤلاء بالحديث المذكور ظاهر، ولكنه معارض بما يحتج به أهل المقالة الأولي بحديث ابن عمر أيضًا، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، فإذا كان معارضًا يسقط الاحتجاج به. ص: فكان من الحجة للآخرين عليهم أن هذا الحديث قد روي عن ابن عمر كما ذكروا، وقد روي عنه ما هو أتم من ذلك، فروي عنه: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر عمر -رضي الله عنه- أن يأمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء، وقال: تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وقد ذكرنا ذلك بإسناده في الباب الذي قبل هذا الباب؛ فلما نهاه رسول الله -عليه السلام- عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة التي طلق فيها، حتى يكون طهر وحيضة أخرى

بعدها، ثبت بذلك أنه لو كان أراد بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" الأطهار إذًا لجعل له أن يطلقها بعد طهرها في هذه الحيضة ولا ينتظر ما بعدها؛ لأن ذلك طهر، فلما لم يبح له الطلاق في ذلك الطهر حتى يكون طهرًا آخر بينه وبين ذلك الطهر حيضة؛ ثبت بذلك أن تلك العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء إنما هي وقت ما تطلق النساء، وليس لأنها عدة تطلق لها النساء، يجب بذلك أن تكون هي العدة التي تعتد بها النساء، لأن العِدد مختلفة، منها: عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومنها: عدة المطلقة ثلاثة قروء، ومنها: عدة الحامل أن تضع حملها، فكانت العدة اسمًا واحدًا لمعانٍ مختلفة، ولم يكن كل ما لزمه اسم عدة وجب أن يكون قرءًا، فكذلك لما لزم اسم الوقت التي تطلق فيه النساء اسم عدة، لم يثبت له بذلك اسم القرء، فهذه معارضة صحيحة. ش: أي فكان من الحجة والبرهان للجماعة الأخرى وهم الذين قالوا: إن الأقراء: الحيض. عليهم -أي على الذين ذهبوا إلى أنها الأطهار- وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث ابن عمر على سبيل المعارضة. وهي لغةً عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة والمرافعة. واصطلاحًا عبارة عن تسليم الدليل مع المنع في المدلول بدليل آخر، وهذا الاعتراض صحيح عند جمهور المحققين من الفقهاء والمتكلمين؛ فلذلك أشار إليه بقوله: فهذه معارضة صحيحة، بيان ذلك أن من قال: إن الأقراء هي الحيض، قالوا لمن قال: إنها الأطهار: ما ذكرتم من الدليل وإن دلَّ على ما ذكرتم من المدلول، ولكن عندنا من الدليل على خلافه، ثم بين ذلك بقوله: فلما نهاه رسول الله -عليه السلام- عن إيقاع الطلاق ... إلي آخره، فهذه معارضة صحيحة؛ لأنها لا تتضمن إبطال تعليل الخصم المستدل، وإنما هي بيان دليل آخر يوجب خلاف ما أوجبه دليل المستدل من غير تعرض لإبطال دليله، بخلاف المعارضة التي فيها المناقضة؛ فإنها متضمنة لإبطال تعليل المستدل. فافهم.

قوله: "فلما نهاه رسول الله -عليه السلام-" أي فلما نهى ابن عمر رسولُ الله -عليه السلام-. قوله: "الأطهار" بالنصب مفعول لقوله: "لو كان أراد". قوله: إذًا" أي حينئذٍ. قوله: "ولا ينتظر" بالنصب عطفًا على قوله: أن يطلقها. قوله: "إنما هي وقت ما تطلق النساء" أي إنما هي وقت تطليق النساء، وكلمة "ما" مصدرية. قوله: "لأن العِدد" بكسر العين جمع عِدة. قوله: "فكانت العدة اسمًا واحدًا لمعانٍ مختلفة" أراد به أنها لفظ مشترك بين معانٍ مختلفة. قوله: "ولم يكن كل ما لزمه اسم عدة" يعني لا يلزم من إطلاق اسم عدة على شيء أن يكون ذلك الشيء قرءًا، فكذلك لا يلزم من إطلاق اسم العدة على الوقت الذي تطلق فيه النساء أن يطلق عليه اسم القرء؛ لامتناع الملازمة. فافهم. ص: ولو أردنا أن نكثر ها هنا فنحتج بقول رسول الله -عليه السلام- للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك" فنقول: الأقراء هي الحيض على لسان رسول الله -عليه السلام- لكان ذلك قد تعلق به بعض مَنْ قد تقدم، ولكنا لا نفعل ذلك؛ لأن العرب قد تسمى الحيض قرءًا وتسمي الطهر قرءًا، وتجمع الطهر والحيض فتسميهما قرءًا. أخبرني بذلك محمود بن حسان النحوي قال: ثنا عبد الملك بن هشام، عن أبي زيد، عن أبي عمرو بن العلاء بذلك. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الاحتجاج بقوله -عليه السلام- للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك" كما أن المراد من الأقراء في باب العدة هي الحيض لا يعم؛ لأنه لما ثبت عن العرب أنهم يطلقون على الحيض قرءًا وعلى الطهر قرءًا بالاشتراك لم يلزم حينئذٍ من كون المراد من الأقراء في هذا الحديث الحيض أن يكون كذلك في باب العدة لوجود الاشتراك.

قوله: "وتجمع الطهر والحيض" أي وتجمع العرب بين هذين اللفظين فتسميهما قرءًا، فهذا لا يتأتى من طريق الاشتراك؛ لأنه قد عرف أن إرادة المعنيين معًا في المشترك محال. قوله: "أخبرني بذلك" أي بما ذكرنا من أن العرب تسمي ... إلى آخره. أبو عبد الله محمود بن حسان النحوي نزيل مصر، توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين. وهو يروي عن عبد الملك بن هشام بن أيوب النحوي -صاحب المغازي- مغازي ابن إسحاق- نحوي قدم مصر، وثقه ابن يونس، توفي سنة ثمان عشرة ومائتين. وهو يروي عن أبي زيد سعيد بن أوس بن بشير الأنصاري النحوي البصري، قال يحيى وأبو حاتم: صدوق. وقال صالح بن محمد البغدادي: ثقة. وقال أبو حاتم السجستاني: مات سنة خمس عشرة ومائتين وله ثلاث وتسعون سنة. وهو يروي عن أبي عمرو بن العلاء البصري أحد الأئمة القراء السبعة، اختلف في اسمه؛ فقيل: عمرو بن عبد الله، وقيل: زبان، وقيل: عريان، وقيل: يحيى، وقيل: اسمه كنيته، وعن يحيى: ثقة. توفي بالكوفة سنة أربع وخمسن ومائة وهو ابن أربع وثمانين سنة، روى له أبو داود في "القدر"، وابن ماجه في "التفسير". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): القرء في لغة العرب الذي نزل بها القرآن يقع على الطهر، ويقع على الحيض، ويقع على الطهر والحيض، حدثنا بذلك أبو سعيد الجعفري، ثنا محمد بن علي المقرئ، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، ثنا أبو جعفر الطحاوي، ثنا محمود بن حسان، ثنا عبد الملك بن هشام، نا أبو زيد الأنصاري، قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول ... فذكره. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 257).

ص: وفي ذلك أيضًا حجة أخرى: أن عمر -رضي الله عنه- هو الذي خاطبه رسول الله -عليه السلام- بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" ولم يكن ذلك عنده دليلاً على أن الأقراء: الأطهار؛ إذ قد جعل الأقراء الحيض فيما روي عنه، فإذا كان هذا عند [عمر] (¬1)، وقد خاطبه رسول الله -عليه السلام- به لا دليل فيه على أن القرء الطهر كان من بعده أيضًا فيه كذلك، وسنذكر ما روي عن عمر في هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي: وفي كون الأقراء الحيض برهان آخر: وهو أن النبي -عليه السلام- قد خاطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، وقد جعل عمر الأقراء الحيض؛ لأنه لم يقم عنده دليل على أن الأقراء الأطهار، فإذا لم يقم عند عمر -رضي الله عنه- دليل على أن القرء هو الطهر، كان مَنْ بعده أيضًا كذلك، بل بالأولى؛ لأن مثل عمر إذا لم يبلغ له إطلاق القرء على الطهر في الحديث الذي خاطبه رسول الله؛ فغيره بالطريق الأولى، فافهم. ص: وكان مما احتج به الذين جعلوا الأقراء الأطهار أيضًا: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها نقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم- حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق عروة، قد جادلها في ذلك أناس، وقالوا: إن الله يقول: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) فقالت عائشة: صدقتم، أتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، قال: قال ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: "ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا- يريد الذي قالت عائشة -رضي الله عنها-". ¬

_ (¬1) في "الأصل": ابن عمر. وهو خطأ أو سبق قلم، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) سورة البقرة، آية: [228].

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بريء منها، ولا ترثه ولا يرثها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحجاج، عن إبراهيم الأزرق، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "إذا طعنت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب قال: "قضى زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ... فذكر مثله. قال ابن شهاب: وأخبرني بذلك عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع "أن معاوية كتب إلى زيد بن ثابت يسأله، فكتب: إنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت منه، قال نافع: وكان ابن عمر يقوله". قالوا: فهذه أقاويل أصحاب رسول الله -عليه السلام- تدل على ما ذكرنا. ش: أي وكان من الذي احتج به القوم الذين جعلوا الأقراء الأطهار: ما روي عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم قالوا: الأقراء الأطهار. وأخرج في ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-: أما عن عائشة فأخرجه بإسناد صحيح. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) والبيهقي في "سننه" (¬2) من حديث مالك. قوله: "نقلت حفصة" أي نقلت عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن؛ وإنما، نقلتها لأنها لما دخلت في الدم من الحيضة الثالثة انقضت عدتها بالأطهار حتى إن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 576 رقم 1197). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 415 رقم 15159).

المطلقة الرجعية إذا دخلت في الحيضة الثالثة بانت على قول هؤلاء، وبهذا أخذ الزهري، وهو قول مالك والشافعي كما ذكرناه، وفي بعض النسخ: "أنها انتقلت حفصة". قوله: "حدثنا يونس" إلى قوله: "سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن ... " إلى آخره. أخرجه مالك في "موطأه" (¬1). وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، والأصح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة. قوله: "إلا وهو يقول هذا" أي إلا وهو يقول: إن الأقراء الأطهار، كما قالت عائشة. وأما عن ابن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬2) والبيهقي في "سننه" (¬3) من حديث مالك. قوله: "فقد برئ منها" أراد أن الزوجية تنقطع بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة؛ لانقضاء عدتها بالأطهار، حتى إنه إذا مات وهي في الحيضة الثالثة لا ترثه هي، أو ماتت هي وهي فيها لا يرثها هو؛ لارتفاع الزوجية بانقضاء العدة. وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق، عن سفيان الثوري، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلي آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 5770 رقم 1198). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 578 رقم 1201). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 415 رقم 15164). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 158 رقم 18890).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار، عن زيد بن ثابت قال: "إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وجلت للأزواج". وأخرجه البيهقي (¬2) عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت قال: "إذا رأت المطلقة قطرة من الدم في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال: "إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت منه". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع مولى ابن عمر ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): نا سفيان، عن الزهري، عن سليمان ابن يسار "أن معاوية سأل زيد بن ثابت فقال: إذا طعنت في الحيضة الثالثة؛ فقد برئت منه". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 319 رقم 11003). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 415 رقم 15166). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 158 رقم 18895). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 158 رقم 18890).

وأخرجه البيهقي (¬1) بأتم منه من حديث مالك عن نافع، وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار: "أن الأحوص هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة، وكان قد طلقها، فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت يسأله، فكتب إليه زيد: إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبريء منها، ولا ترثه ولا يرثها". قوله: "قالوا: فهذه أقاويل أصحاب رسول الله -عليه السلام-" أي قال الذين جعلوا الأقراء أطهارًا: هذه أقاويل الصحابة، تدل على ما ذكرناه من أن الأقراء هي الأطهار لا الحيض. ص: قيل لهم: هذا لو لم يختلف أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فأما إذا اختلفوا فيه، فقال بعضهم ما ذكرتم، وقال أخرون بخلاف ذلك لم تجب بما ذكرتم لكم حجة، فمها روي خلاف ما احتجوا به من الآثار المذكورة عمن رويت عنه من أصحاب رسول الله -عليه السلام- الدَّالة على أن الأقراء غير الأطهار: ما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة". حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة: "أن رجلاً طلق امرأته فحاضت حيضتين، فلما كانت الثالثة ودخلت المغتسل، أتاها زوجها فقال: قد راجعتك -ثلاثًا- فارتفعا إلى عمر -رضي الله عنه-، فأجمع عمر وعبد الله على أنه أحق بها ما لم تحل لها الصلاة، فردَّها عمر عليه". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: "إذا طلق العبد امرأته ثنتين فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، حرةً كانت أو أَمةً، وعدَّة الحرة ثلاث حيض، وعدة الأمة الحيضتان". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (7/ 415 رقم 15162).

فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وهو الذي روى عن رسول الله -عليه السلام- قوله لعمر: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" ولم يدل ذلك على أن الأقراء الأطهار، إذا كان قد جعلها الحيض. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا محمد بن راشد، عن مكحول: "أنه قدم المدينة فذكر له سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فرأت أُول قطرة من دم حيضتها الثالثة فلا رجعة له عليها، قال: فسألت عن ذلك بالمدينة، فبلغني أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء كانوا يجعلون له عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب، أنه سمع زيد بن ثابت يقول: "الطلاق إلى الرجال والعدة إلى المرأة، إن كان الرجل حرًّا وكانت المرأة أَمَة فثلاث تطليقات وتعتد عدة الأَمة حيضتين، وإن كان عبدًا وامرأته حرة طلق طلاق العبد تطليقتين واعتدت عدة الحرة ثلاث حيض". فلما جاء هذا الاختلاف عنهم؛ ثبت أنه لا يحتج في ذلك بقول أحد منهم؛ لأنه متى احتج محتج في ذلك بقول بعضهم احتج مخالفه عليه بقول مثله، فارتفع ذلك كله أن يكون حجة لأحد الفريقين على الفريق الآخر. ش: أي: قيل لهؤلاء الذين احتجوا في قولهم: إن الأقراء هي الأطهار بآثار عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-: نعم الاحتجاج بهذه إنما يتم ويستقيم أي لو لم يختلف أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك فأما إذا اختلفوا فيه، فمنهم مَن قال ما ذكرتم، ومنهم من قال بخلافه لم تجب لكم بذلك حجة؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك لا يتم الاستدلال لأحد الخصمين؛ لأن أحدهما إذا ادعى أن الأقراء هي الأطهار واحتج على ذلك بآثار تدل على مدعاه؛ ينتهض الخصم الآخر ويقول: بل الأقراء هي الحيض، ويستدل على ذلك بآثار تدل على مدَّعاه،

فلا يحصل بهذا قطع في الاحتجاج، فحينئذٍ يرتفع هذا كله من أن يكون حجة لأحد الخصمين على الآخر، وهذا معنى قوله: "فلما جاء هذا الاختلاف عنهم أي عن الصحابة ... " إلى آخره. والصواب أن لا يقال في مثل هذا: إنه خلاف، بل يقال: إن هذا اختياره، وذلك لأن القرء لما كان لفظًا مشتركًا بين الحيض والطهر، وكان حقيقة في أحدهما عند قيام قرينة، ووردت أخبار تدل على المعنيين، اختارت طائفة أحد المعنيين، وطائفة المعنى الآخر بحسب ما قام عنده من الشاهد لذلك. ثم إنه أخرج مما يخالف ما رووه عن جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت. أما عن علي -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي -رضي الله عنه- قال: "هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: "إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، في الواحدة والاثنتين". وأما عن عمر وعبد الله بن مسعود فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليًّا. وسفيان بن سعيد هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 159 رقم 18901). (¬2) "سنن البيهقي الكبري" (7/ 417 رقم 15170).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة: "أن امرأة جاءت إلى عمر -رضي الله عنه- فقالت: إن زوجي طلقني، ثم تركني حتى رددت بابي ووضعت مائي، وخلعت ثيابي، فقال: قد راجعتك، قد راجعتك، فقال عمر لابن مسعود -وهو إلى جنبه-: ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة، فقال عمر -رضي الله عنه-: وأنا أرى ذلك". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا عباد بن العوام، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم: "أن امرأة تزوجت شابًّا، وطلقها تطليقة أو تطليقتين، قال: فأتاها وهي تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال: يا فلانة، إني قد راجعتك، فقالت: كذبت، ليس ذلك إليك، فارتفعا إلي عمر بن الخطاب -وعنده عبد الله بن مسعود- فقال عمر: [ما ترى] (¬3) يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: أنشدك بالله، هل كنت لطمتيه بالماء؟ قالت: ما فعلتُ، قال: فقال: خُذْ يدها". قوله: "فلما كانت الثالثة" أي الحيضة الثالثة. قوله: "قد راجعتك ثلاثًا" أي قال ثلاث مرات: راجعتك، راجعتك، راجعتك. قوله: "فأجمع عمر وعبد الله" أي اتفق عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- على أن الزوج أحق بتلك المرأة ما لم تحل لها الصلاة؛ لأنها ما لم تحل لها الصلاة كانت عدتها، باقية فتصح الرجعة فيها، فإذا حلَّت لها الصلاة خرجت العدة فلم يبق محلاً للرجعة. وأما عن عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 417 رقم 15171). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 159 رقم 18903). (¬3) تكررت في "الأصل".

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وهذا اشتمل على أحكام: الأول: أن العبد لا يملك من الطلقات إلا ثنتين سواء كانت امرأته حرة أو أمَة، فإذا طلق امرأته طلقتين حرمت عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وفي هذا خلاف بيننا وبين الشافعي؛ فعنده عدد الطلاق معتبر بحال الرجل، وعندنا بحال المرأة حتى إن العبد إذا كانت تحته حرة يملك عليها ثلاث طلقات عندنا، وعنده لا يملك عليها إلا طلقتين، والحر إذا كانت تحته أمَة لا يملك عليها إلا طلقتين عنده، وعندنا تلك عليها ثلاث طلقات، والمسألة مختلفة بين الصحابة؛ فروي عن علي وعبد الله بن مسعود مثل قولنا، وعن عثمان وزيد بن ثابت مثل قوله، وسيجيء الكلام فيه مستقصي. الثاني: أن عدة الحرة ثلاث حيض. الثالث: أن عدة الأَمَة حيضتان. الرابع: أن هذا يدل على أن الأقراء هي الحيض؛ وذلك لأن عبد الله بن عمر هو الذي كان روى عن رسول الله -عليه السلام- قوله لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "فتلك العدة هي التي أمر أن تطلق لها النساء"، ثم إنه جعل العدة الحيض، فدلَّ ذلك أن الأقراء هي الحيض لا الأطهار. وأما عن معاذ وأبي الدرداء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن راشد الخزاعي أبي يحيى الشامي الدمشقي المعروف بالمكحولي، وعن أحمد: ثقة ثقة. وعن يحيى: ثقة صدوق. وعن شعبة: إنه لصدوق ولكنه شيعي أو قدري. روى له الأربعة، وهو يروي عن مكحول الشامي الدمشقي الفقيه. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 574 رقم 1193).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا إسماعيل بن عياش عن عبيد الله الكلاعي، عن مكحول: "أن أبا بكر وعمر وعليًّا وابن مسعود وأبا الدرداء وعبادة بن الصامت وعبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنهم- كانوا يقولون في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين: إنه أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة، ويرثها وترثه ما دامت في العدة". وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي أبو إسحاق المدني، ولُد عام الفتح وسكن الشام، وعن الشعبي: قبيصة بن ذؤيب أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. روى له الجماعة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا إسماعيل بن عُلية، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: "أن نُفَيعًا فتى أم سلمة طلق امرأته -وهي حرة- تطليقتين فحرصوا على أن يردوها عليه، وأبي عثمان وزيد. وقال سليمان: ويقول أحدٌ غير هذا؟! فلما قدمت المدينة كتبت إلى أبي قلابة، فكتب إليَّ: أنه حدثني مَنْ أطمئن إلى حديثه أن زيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب قالا: إذا كان زوجها حرًّا وهي أَمَة فطلاقه طلاق حرة وعدتها عدة أَمَة، وإن كان زوجها عبدًا وهي حرة فطلاقه طلاق عبد وعدتها عدة حرة". فهذا مشتمل على حكمين: الأول: أن الطلاق إلى الرجال. وإليه ذهب الشافعي ومالك وأحمد، وقد قلنا: إنه مختلف فيه بين الصحابة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 158 رقم 18899). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 101 رقم 18248).

الثاني: أنه يدل على أن الأقراء هي الحيض وهذا ظاهر لا يخفى. ص: وكان من حجة مَنْ جعل الأقراء الحيض على مخالفه: أن قال: فإذا كانت الأقراء الأطهار، فإذا طلق المرأةَ زوجُها وهي طاهر فحاضت بعد ذلك بساعة فحسب ذلك لها قرءًا مع قرءين متتابعين كانت عدتها قرءين وبعض قرءٍ، وإنما قال الله -عز وجل- {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). ش: هذا محذور يلزم مَن قال: إن الأقراء هي الأطهار، بيانه: أن الأقراء إذا كانت أطهارًا يلزم من ذلك أن تكون عدتها قرءين وبعض قُرء، وهذا خلاف النص؛ لأن الله تعالى قال: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) توضيحه: أن الله تعالى خص الأقراء بعدد يقتضي استيفاؤه العدة، وهو ثلاثة قروء، واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاؤها بكمالها فيمن طلقها للسُنَّة؛ لأن طلاق السنة أوقعه في طهر قد جامعها فيه؛ فلا أبدًا إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهرًا قد مضى بعضه، ثم تعتد بعده بطهرين آخرين فهذان طهران وبعض الثالث، فلما تعذر استيفاء الثالث إذا أراد طلاق السُنَّة، علمنا أن الأقراء الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله. فافهم. ويلزم محذور آخر إذا قلنا: إن الأقراء هي الأطهار؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) والثلاثة اسم خاص وضع لعدد معلوم، والخاص بمنزلة العلم قطعًا؛ لكونه بيِّنًا في نفسه، فلو حملت الأقراء على الأطهار لانتقص العدد عن الثلاثة بالطريق الذي ذكرنا فيلزم حينئذٍ ترك العمل بالخاص. فإن قيل: لِمَ قلتم: إنه إذا احتسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق فيكون الواجب طهرين وبعض طهر، بل الواجب ثلاثة؛ لأن بعض الطهر طهر؛ إذ المراد بالطهر أدنى ما يطلق عليه طهر وهو طهرين عندنا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [228].

قلت: لا نسلم أن بعض الطهر طهر، بل هو ليس بطهر؛ لأن بعض الطهر لو كان طهرًا لا يكون بين الأول والثالث قرءين، فينبغي أن يكتفي في الثالث ببعضه، فإذا مضى منه شيء شرع أن يحل لها التزوج وهو خلاف الإجماع؛ ولأنه لو كان كذلك لانقضت العدة في طهر واحد، حيث إن المراد من الطهر هو الشرعي. فإن قيل: لا يحسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق كما هو مذهب بعض المالكية فحينئذٍ تكون باقي الأطهار كاملة، وهي أن الأقراء هي الأطهار. قلت: الخصم لا يقول بذلك، بل هو يحسب ذلك الطهر، فحينئذٍ يجب طهران وبعض، فيجب الانتقاص عن الثلاثة، وإن قلنا على مذهب من لا يحتسب هذا الطهر الذي وقع فيه الطلاق يجب ثلاثة أطهار وبعض، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأنها تزيد على الثلاثة، وقد قلنا: إن الثلاث عدد خاص بمنزلة العلم بعدد معلوم لا يحتمل غيره، سواء كان أقل منه أو أكثر. فافهم. ص: فكان حجة مَنْ ذهب إلى أن الأقراء الأطهار في ذلك: أن قال: فقد قال الله -عز وجل-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1) فكان ذلك على شهرين وبعض الشهر، فكذلك جعلنا الأقراء الثلاثة على قرءين وبعض قرء. ش: هذا جواب من جهة الخصم عن المحذور المذكور، بيانه أن يقال: لم لا يجوز أن يذكر الثلاثة ويراد بها الاثنان وبعض الثالث كما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) حيث أريد به شهران وبعض الثالث؟ فكذلك نجعل الأقراء الثلاثة على قرءين وبعض قرء. ص: فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن الله -عز وجل- قال في الأقراء: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) ولم يقل في الحج: ثلاثة أشهر، ولو قال في ذلك: ثلاثة أشهر، فاجمعوا أن ذلك على شهرين وبعض شهر؛ ثبت بذلك ما قال المخالف لنا، ولكنه إنما قال: {أشهُر} (1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [197]. (¬2) سورة البقرة، آية: [228].

ولم يقل: ثلاثة، فاما ما حصره بالثلاثة فقد حصره بعدد معلوم، فلا يكون أقل من ذلك العدد، كما أنه لما قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1)، فحصر ذلك بالعدد، فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد، فكذلك لما خص الأقراء بالعدد فقال: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) لم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد. ش: هذا تزييف للجواب المذكور وردُّ إياه، تقريره: أن "الأشهر" اسم عام لا عَلَم فيقبل المجاز بإرادة النقص، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} (¬3) فإن المراد بالملائكة جبريل -عليه السلام- فقط، فأما أسماء الأعداد فلا يجوز فيه ذلك لكونها أعلامًا، والأعلام لا يجزئ عنها المجاز. قوله: "لو قال في ذلك" أي لو قال الله عن الحج: الحج ثلاثة أشهر بالتنصيص على هذا العدد، ثم أجمع العلماء على أن المراد منها شهران وبعض شهر؛ كان قد ثبت بذلك ما يقوله الخصم، ولكنه إنما قال: {أَشْهُر} (¬4) والأشهر اسم عام يقبل المجاز كما ذكرنا. فإذا قيل: لو أريد بالقروء الحيض على ما ذكرتم، لزمكم ما ألزمتمونا به وهو الازدياد على الثلاثة؛ وذلك أنه إذا طلقها في الحيض لا يحتسب بتلك الحيضة إجماعًا، فيجب ثلاثة أقراء وبعض، واسم الثلاثة لا يحتمل ذلك، فهذا معارضة بالمثل. قلت: إن ذلك الازدياد ثبت ضرورة وجوب التكميل فلا يعبأ به، إذ الحيضة الواحدة إجماعًا لا تقبل التجزئة فوجب التكميل، والثابت لضرورة العمل بالنصوص لا يعد زيادةً لتخلل الأطهار والحيض بين الثلاثة على اختلاف المذهبين. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [4]. (¬2) سورة البقرة، آية: [228]. (¬3) سورة آل عمران، آية: [42]. (¬4) سورة البقرة، آية: [197].

وقد اعترض بأن الثلاثة اسم خاص لا يحتمل الزيادة والنقصان بأي طريق كان. وأجيب بعد التسليم بذلك أن أحوال المسلمين محمولة على الصلاح ما أمكن، فالظاهر من حاله الإتيان بالمشروع وهو الطلاق في حالة الطهر، والاحتراز عن محظور دينه وهو الطلاق في الحيض، والله أعلم. ص: وكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار أيضًا أن قال: لما كانت الهاء تثبت في عدد المذكر؛ فيقال: ثلاثة رجال. وتنتفي من عدد المؤنث فيقال: ثلاث نسوة. فقال الله -عز وجل-: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) فأثبت الهاء ثبت أنه أراد بذلك مذكرًا وهو الطهر لا الحيض. ش: احتج من ذهب إلى أن الأقراء هي الأطهار أيضًا بدخول الهاء في {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1)؛ لأن الهاء لا تدخل إلا فيما يكون معدوده مذكرًا كما في قولك: ثلاثة رجال. وأما إذا كان معدوده مؤنثًا لا تدخل فيه الهاء كما في قولك: ثلاث نسوة. فلما دخلت الهاء في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) علمنا أن معدودها مذكر وهو الطهر لا الحيض. ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الشيء إذا كان له اسمان أحدهما مؤنث والآخر مذكر، فإن جُمع بالمذكر أثبتت الهاء، وإن جُمع بالمؤنث أسقطت الهاء، من ذلك أنك تقول: هذا ثوب، وهذه ملحفة، فإن جمعت بالثوب قلت: ثلاثة أثواب. وإن جمعت بالملحفة قلتَ: ثلاث ملاحف. وكذلك: هذه دار وهذا منزل لشيء واحدٍ، فكأن الشيء قد يكون واحدًا مسمَّى باسمين أحدهما مذكر والآخر مؤنث، فإذا جمع بالمذكر فُعِل فيه كما يفعل في جمع المذكر فأُثبت الهاء، وإن جُمع بالمؤنث فُعِل فيه كما يُفعل في جمع المؤنث فاُسقطت الهاء فقيل: ثلاث حيض، وإن جُمع بالقروء أثبت الهاء فقيل: ثلاثة قروء، وذلك كله اسمان لشيء واحد، فانتفى بذلك ما ذكرنا مما احتج به المخالف لنا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [228].

ش: هذا جواب عن الاحتجاج المذكور، تقريره أن يقال: إن الحيضة وإن كانت مؤنثًا ولكن لفظ القرء مذكر فروعي فيه جانب اللفظ مع جواز الأمر الآخر؛ لأن عادة العرب شاعت في أن المعدود إذا كان مؤنثًا واللفظ مذكرًا أو بالعكس فوجهان، لكن اعتبار اللفظ عندهم أولى من اعتبار المعنى. قال القاضي عياض: تعلق بعض أصحابنا بدخول الهاء في الثلاث في قوله سبحانه وتعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) على أن المراد بالأقراء: الأطهار، ولو أراد الحيض لقال: ثلاث قروء؛ لأن العرب تدخل الهاء في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة، وتحذفها من المؤنث. فإتيانها في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) يدل على أن المراد الأطهار. وهذا غلط؛ لأن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظ المقرون به العدد، فتقول: ثلاث منازل. وهي تريد: ثلاث ديار إذ كانت الدار مؤنثة؛ لأن لفظ المنزل مذكر وقد يعتبر المعنى أحيانًا، قال ابن أبي ربيعة: وكان مجني دون من كنتُ أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصرُ. فأنث على معنى الشخوص لا على اللفظ. وحكى أبو عمرو بن العلاء: أنه سمع أعرابيًّا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، قال: فقلت له: أفتقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ فأخبر أنه أنَّث مراعاة للفظة الصحيفة الذي لم يذكره لما كانت في المعنى؛ ففي الكتاب المذكور. ص: فأما وجه هذا الباب من طريق النظر؛ فإنا قد رأينا الأمة جُعل عليها في العدة نصف ما جُعل على الحرَّة فكانت الأمة إذا كانت ممن لا تحيض كان عليها نصف عدة الحرة إذا كانت ممن لا تحيض وذلك شهر ونصف، فإذا كانت ممن تحيض جُعل عليها -باتفاقهم- حيضتان وأريد بذلك نصف ما على الحرة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [228].

ولقد قال عمر -رضي الله عنه- بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام-: "لو قدرت أن أجعلها حيضةً ونصف لفعلت" فلما كان ما على الأمة هو الحيض لا الأطهار وذلك نصف ما على الحرة ثبت أن ما على الحرة أيضًا هو من جنس ما على الأمة وهو الحيض لا الأطهار، فثبت بذلك قول الذين ذهبوا في الأقراء إلى أنها الحيض، وانتفى قول مخالفيهم، وهذا قول في حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: وجه النظر والقياس الذي ذكره قوي؛ لأن العدة على الأمة نصف عدة الحرة بلا نزاع فإذا كانت الأمة آيسة تجعل عدتها شهرًا ونصف، وإذا كانت حائضًا تجعل عدتها حيضتان، فإذا كان ما عليها من العدة هو الحيض وذلك نصف ما على الحرة، ثبت بالضرورة أن ما على الحرة هو من جنس ما على الأمة وهو الحيض لا الأطهار. قوله: "ولقد قال عمر -رضي الله عنه-: ... " ذكر هذا تاكيدًا لما قاله من وجوب العمل على الأمة على نصف ما يجب على [أطراف الحديث] الحرة، وبيانًا للواجب على الأمة الاعتداد بالحيض لا بالطهر. ألا ترى كيف قال: "لو قدرت أن أجعلها حيضةً ونصفًا" أي أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصف حيضة تحقيقًا للتنصيف، ولكن لما لم تتجزأ الحيضة جعلت كاملة فصارت حيضتان، ألا ترى أنه لما أمكن التنصيف الحقيقي في الأشهر جعلت عدتها شهرًا ونصفًا لإمكان التجزيء فيه. ثم إن الطحاوي ذكر ما روي عن عمر -رضي الله عنه- معلقًا ها هنا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مسندًا: نا ابن عيينة، عن عمرو [سمع عمرو بن أَوْس يقول]: أخبرني رجل من ثقيف يقول: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضةً ونصفًا فعلت". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 146 رقم 18775).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، أن عمر -رضي الله عنه- قال: "لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضةً ونصفًا لفعلتُ. فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرًا ونصفًا. فسكت". قلت: هذا الإسناد أصح من الأول؛ لأن في الأول مجهولاً، فافهم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في عدة الأمة ما حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "تعتد الأمة حَيْضَتَيْن، وتطلق تطليقتين". حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا الصلت بن مسعود الجحدري، عن عمر بن شبيب المسلي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. فدل ذلك أيضًا على ما ذكرنا والله أعلم. ش: ذكر حديثين في عدة الأمة لدلالتهما على ما ذكره من اعتداد الأمة بحيضتين. أحدهما: أخرجه عن عائشة -رضي الله عنها- رواه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن مظاهر -بضم الميم وبالظاء المعجمة وكسر الهاء- بن أسلم، ويقال: مظاهر بن محمد بن أسلم القرشي المخزومي المدني وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن مسعود قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-: ... مثله. إلا أنه قال: "وعدتها حيضتان". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 426 رقم 15231). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 664 رقم 2189).

وأخرجه الترمذي (¬1): نا محمد بن يحيى النيسابوري قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثني مظاهر بن أسلم قال: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان". وأخرجه ابن ماجه (¬2): نا محمد بن بشار، نا أبو عاصم ... إلى آخره نحوه. وقال الترمذي: حديث عائشة حديث غريب لا يعرف مرفوعًا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر بن أسلم لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث. وقال أبو داود: وهو حديث مجهول. وقال الخطابي: هو حديث ضعيف. وقال البيهقي: مظاهر بن أسلم مجهول. قلت: أما قول الترمذي: لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث. يَرُدُّه ما رواه أبو أحمد بن عدي (¬3)، وإسناده: عن مظاهر بن أسلم، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة". وأما قول أبي داود: وهو حديث مجهول. يعني: لجهالة مظاهر فغير مُسَلَم؛ لأنه كيف يكون مجهولاً وقد روى عن الأئمة الكبار مثل ابن جريج والثوري وأبي عاصم النبيل. وأما قول الخطابي: إن الحديث ضعيف. غير مسلَّم أيضًا؛ لأن مظاهرًا وثقه ابن حبان على ما ذكرنا، وقال الحاكم (¬4) في "المستدرك": لم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجَرْح فالحديث إذًا صحيح. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 488 رقم 1182). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 672 رقم 2080). (¬3) "الكامل" (6/ 449). (¬4) "مستدرك الحاكم" (2/ 223 رقم 2822).

ويشده أيضًا الحديث الثاني، وهو حديث عبد الله بن عمر الذي رواه من أصحاب السنن ابن ماجه (¬1). وقال: ثنا محمد بن طريف وإبراهيم بن سعيد الجوهري قالا: ثنا عمر بن شبيب المُسْلي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان". وأخرجه الطحاوي: عن يزيد بن سنان، عن الصلت بن مسعود بن طريف الجحدري شيخ مسلم، عن عمر بن شبيب بن عمر المُسْلِي المذحجي الكوفي فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بثقة. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان شيخًا صدوقًا، ولكنه كان يخطئ كثيرًا. والمُسْلي -بضم الميم وسكون السين المهملة- نسبة إلى بني مسلية. وهو يروي عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي روى له الجماعة، عن عطية بن سَعْد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي الكوفي، فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن أبي زرعة: لين. وعن يحيى بن معين: صالح. روى له الأربعة غير الترمذي. فهذان الحديثان يشدُّ بعضهما بعضًا ولا سيما وافقهما ما روي عمن نذكرهم من الصحابة والتابعين ممن قولهم: "طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حَيْضتان". ويستفاد منهما أحكام: الأول: فيه دلالة صريحة أن عدة الأمة حيضتان وقال ابن حزم في "المحلى": مذهب جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن عدة الأمة حيضتان، وصح عن عمر وابنه وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 672 رقم 2079).

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن مُسْهر، عن سعيد، عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي -رضي الله عنه-: "عدة الأمة حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف". وكذا روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والحسن البصري والزهري وعطاء بن أبي رباح والشعبي، وهذا كله حجة على الشافعي ومن تبعه من أن عدة الأمة طهران. الثاني: فيه دلالة على أن المراد من الأقراء الحيض لا الأطهار؛ لأنه إذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض، وثبت أن الأقراء هي الحيض مع ما تأيد بحديث: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"، وقوله -عليه السلام- في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" (¬2). الثالث: فيه دلالة صريحة أن عدد الطلاق يعتبر بحال المرأة؛ لأن النبي -عليه السلام- جعل طلاق جنس الإماء ثنتين؛ لأنه أدخل لام الجنس على الأمة في رواية أبي داود (¬3): "طلاق الأمة تطليقتان" كأنه قال: طلاق كل أمة ثنتان من غير فصل بين ما إذا كان زوجها عبدًا أو حرًا، وهذا أيضًا حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم: عدد الطلاق يعتبر بالرجال. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 146 رقم 18768). (¬2) أخرجه أبو داود في "السنن" (2/ 224 رقم 2295)، وأحمد في "المسند" (3/ 28 رقم 11244)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 329 رقم 10572). (¬3) تقدم.

ص: باب: المطلقة طلاقا بائنا ماذا لها على زوجها في عدتها؟

ص: باب: المطلقة طلاقًا بائنًا ماذا لها على زوجها في عدتها؟ ش: أي هذا باب في بيان ما يجب على الرجل لامرأته إذا طلقها طلاقًا بائنًا. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا المغيرة وحصين وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود وسيار ومجالد، عن الشعبي قال: "دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة، فسألتها عن قضاء رسول الله -عليه السلام-، فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله -عليه السلام- في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم". وقال مجالد في حديثه: "يا بنت قيس، إنما النفقة والسكنى على من كانت له الرجعى". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثتني فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو ابن حفص المخزومي طلقها ثلاثًا، فأمر لها بنفقة، فاستعملتها وكان النبي -عليه السلام- بعثه نحو اليمن، فانطلق خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في نفرٍ من بني مخزوم إلى النبي -عليه السلام- وهو في بيت ميمونة، فقال: يا رسول الله، إن أبا عمرو بن حفص طلق فاطمة ثلاثًا، فهل لها نفقة؟ فقال النبي -عليه السلام-: ليس لها نفقة ولا سكنى. وأرسل إليها أن تنتقل إلى أم شريك، ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانتقلي إلى ابن أم مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا بحر بن نصر، قال: قُرئ على شعيب بن الليث: أخبرك أبوك، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة أنه قال: "سألت فاطمة بنت قيس فأخبرتني:

أن زوجها المخزومي طلقها، وأنه أبى أن ينفق عليها، فجاءت إلى رسول الله -عليه السلام-، فأخبرته، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا نفقة لك، انتقلي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا الليث ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن أبي الزبير المكي: "أنه سأل عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده أبي عمرو؛ فاطمة بنت قيس، فقال له عبد الحميد: طلقها البتة، ثم خرج إلى اليمن، ووكل عياش بن أبي ربيعة، فأرسل إليها عياش بعض النفقة فسخطتها، فقال لها عياش: ما لك علينا من حق ولا مسكن، فهذا رسول الله -عليه السلام- فسليه، فسألت رسول الله -عليه السلام- عن ما قاله، فقال: ليس لك نفقة ولا مسكن ولكن متاع بالمعروف، اخرجي عنهم. فقالت: أخرج إلى بيت أم شريك؟ فقال لها النبي -عليه السلام-: إن بيتها يوطأ، انتقلي إلى بيت عبد الله بن أم مكتوم، فهو أقل أعمى". حدثنا روح، قال: ثنا يحيى قال: حدثني الليث، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس نفسها ... بمثل حديث الليث عن الزبير حرفًا بحرف. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائبٌ، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت إلى رسول الله -عليه السلام-، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، واعتدي في بيت أم شريك".

حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة: أن فاطمة بنت قيس حدثته، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله سواء. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله، قال: حدثني الليث ... فذكر بإسناده مثله وزاد: "فأنكر الناس عليها ما كانت تُحدِث من خروجها قبل أن تحل". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس: "أنها كانت تحت رجل من بني مخزوم، فطلقها البتة، فأرسلت إلى أهله تبتغي النفقة، فقالوا: ليس لك علينا نفقة، فبلغ ذلك رسول الله -عليه السلام-، فقال: ليس لك عليهم النفقة وعليك العدة، فانتقلي إلي أم شريك، ثم قال: إن أم شريك يدخل عليها إخوتها من المهاجرين فانتقلي إلى ابن أم مكتوم". حدثنا ربيع المؤذن وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن فاطمة بنت قيس: "أنها استفتت النبي -عليه السلام- حين طلقها زوجها، فقال لها النبي -عليه السلام-: لا نفقة لك عنده ولا سكنى، وكان يأتيها أصحابه، فقال: اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه أعمى". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عاصم بن ثابت أن فاطمة بنت قيس أخبرته -وكانت عند رجل من بني مخزوم فأخبرته-: "أنه طلقها ثلاثًا، وخرج إلى بعض المغازي وأمر وكيلاً له أن يعطيها بعض النفقة، فاستقلتها، فانطلقت إلى إحدى نساء النبي -عليه السلام-، فدخل النبي -عليه السلام- وهي عندها، فقال: يا رسول الله هذه فاطمة بنت قيس، طلقها فلانٌ، فأرسل إليها ببعض النفقة فردتها، وزعم أنه شيء تطوَّل به، قال: صدق،

وقال النبي -عليه السلام-: انتقلي إلى أم شريك فاعتدي عندها، ثم قال: إن أم شريك يكثر روادها ولكن انتقلي إلى عبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه أعمى، فانتقلت إلى عبد الله، فاعتدت عنده حتى انقضت عدتها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن أي الجهم، قال: "دخلت أنا وأم سلمة على فاطمة بنت قيس، فحدثت أن زوجها طلقها طلاقًا بائنًا وأمر أبا حفص بن عمر أن يرسل إليها بنفقتها خمسة أوساق، فأتت النبي -عليه السلام-، فقالت: إن زوجي طلقني ولم يجعل لي السكنى ولا النفقة. فقال: صدق، فاعتدي في بيت ابن أم مكتوم. ثم قال: إن ابن أم مكتوم رجل يغشى، فاعتدي في بيت ابن فلان". حدثنا فهد قال: حدثني محمد بن سعيد قال: أنا شريك، عن أبي بكر بن صُخَيْرة، قال: "دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس، وكان زوجها قد طلقها ثلاثًا، فقالت: أتيت النبي -عليه السلام- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن فاطمة بنت قيس، عن رسول الله -عليه السلام- ... نحوه. ش: هذه ستة عشر طريقًا كلهم صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هُشَيْم بن بشير بن مغيرة، عن مقسم الضَّبِّي الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة. وحُصَين -بضم الحاء- بن عبد الرحمن السُّلَمي الكوفي روى له الجماعة. وأشعث بن سوَّار الكندي الكوفي روى له مسلم متابعةً والأربعة. وإسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي روى له الجماعة. وداود بن أبي هند روى له الجماعة.

وسيَّار -بالياء آخر الحروف المشددة- أبو الحكم العنزي الواسطي روى له الجماعة. ومُجَالد -بضم الميم والجيم- بن سعيد الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف واهي الحديث. وقال النسائي: ثقة. وعنه: ليس بالقوي. روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره. سبعتهم عن عامر الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية الصحابية أخت الضحاك بن قيس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا هشيم، قال: أنا سيَّار وحُصين والمغيرة وأشعث ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد وداود كلهم، عن الشعبي قال: "دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله -عليه السلام- عليها، فقالت: طلقها زوجها البتة، قالت: فخاصمته إلى رسول الله -عليه السلام- في السكنى والنفقة، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت أم مكتوم". قوله: "فقالت: طلقني زوجي البته". وفي رواية مسلم: "طلقها زوجها" قالوا: هذا هو الصحيح الذي جاءت به الرواية من الحفاظ، واسم زوجها أبو عمرو بن حفص على ما يأتي في الطريق الثاني. وقوله: "البتة" وتفسرها رواية أخرى: "يا رسول الله، طلقني ثلاثًا". قوله: "في بيت ابن أم مكتوم" واسمه عمرو بن قيس، وقيل: زياد بن الأحمر، وقيل: عبد الله، وهو مؤذن النبي -عليه السلام-، واسم أم مكتوم: عاتكة. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن المبانة ليس لها النفقة والسكنى، وفيه الخلاف على ما يأتي. الثاني: أن المرأة غير واجب عليها أن تحتجب من الأعمى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480).

فإن قيل: قد روى نبهان، عن أم سلمة قالت: "دخل عليَّ رسول الله -عليه السلام-، وأنا وميمونة جالستان، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: احتجبا منه. فقلنا: يا رسول الله، أليس بأعمى؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ " (¬1). ففي هذا دليل على أنه واجب على المرء أن يحجب امرأته عن الأعمى، ويشهد له قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (¬2). قلت: نبهان مجهول، لم يرو عنه غير ابن شهاب، روى عنه حديثين، أحدهما هذا، والآخر حديث "المكاتب إذا كان معه ما يؤدي وجب الاحتجاب منه" (¬3). وهذان الحديثان لا أصل لهما، وحديث فاطمة بنت قيس حديث صحيح الإسناد، والحجة به لازمة، وحديث نبهان لا تقوم به حجة. وقال أبو داود بعد أن ذكر حديث نبهان عن أم سلمة: وهذا لأزواج النبي -عليه السلام- خاصة. الثالث: فيه إشارة إلى جواز إخراج المعتدة من بيتها الذي طلقت فيه إذا آذت وفحشت على أهل الدار، قال الله تعالى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬4) قال ابن عباس: هو النشوز وسوء الخلق. وقيل: هو أن تأتي فاحشةً فتخرج لإقامة الحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "السنن" (2/ 462 رقم 4112)، والترمذي في "الجامع" (5/ 102 رقم 2778) وأحمد في "المسند" (6/ 296 رقم 26579). (¬2) سورة النور، آية: [31]. (¬3) أخرجه بنحوه أبو داود في "السنن" (2/ 414 رقم 3928)، والترمذي في "الجامع" (؟؟؟؟)، والنسائي في "السنن الكبرى" (2/ 198 رقم 5030)، وابن ماجه في "السنن" (2/ 842 رقم 2520)، وأحمد في "المسند" (6/ 289 رقم 26516). (¬4) سورة الطلاق آية: [1].

وقيل: الفاحشة: بذاؤها على أهل زوجها. الرابع: فيه جواز استفتاء المرأة وسماع المفتي كلامها. الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه أبو داود (¬1): عن محمود بن خالد، عن الوليد، عن أبي عمرو -هو الأوزاعي- عن يحيى، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس إلى آخره نحوه. قوله: "أن أبا عمرو بن حفص" هكذا قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وكذا قال مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة. وكذا الزهري، عن أبي سلمة. وعن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سلمة. وقال شيبان وأبان العطار، عن يحيى: أن أبا حفص بن عمرو، فقلَبَ، والمحفوظ ما قالت الجماعة. وذكر الدولابي، عن النسائي: أن اسم أبي عمرو هذا: أحمد. وقال القاضي: الأشهر في اسمه: عبد الحميد. وقيل: اسمه كنيته. قوله: "فانطلق خالد بن الوليد -رضي الله عنه-" إنما مشى خالد بن الوليد في هذا الأمر؛ لأن أبا عمرو بن حفص كان ابن عم خالد بن الوليد -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 696 رقم 2286).

قوله: "إلى أم شريك" هي أم شريك بنت دودان العامرية ويقال: الأنصارية، ويقال: الدوسية، يقال: اسمها غزية، ويقال: غزيلة، ويقال: هي التي وهبت نفسها للنبي -عليه السلام-. قوله: "إن أم شريك يأتيها المهاجرون" فيه دلالة على جواز زيارة الرجال للمرأة إذا أمنوا عليها. فإن قيل: كيف أجاز رسول الله -عليه السلام- لأم شريك أن تجتمع بالرجال؛ ولم يجز ذلك لفاطمة بنت قيس حتى قال لها: "فانتقلي إلى ابن أم مكتوم" مع أن كلاً منهما عورة؟ قلت: لأنه -عليه السلام- علم أن أم شريك من الستر والاحتجاب بحال ليست عليه فاطمة بنت قيس، ولعل فاطمة من شأنها أن تقعد فضلاً لا تحترز كاحتراز أم شريك، ويحتمل أن تكون فاطمة ليست من القواعد وأم شريك من القواعد فليس عليها جناح ما لم تتزين بزينة، فهذا كله فرق بين أم شريك وفاطمة، ولاختلاف الحالتين أمر فاطمة أن تصير إلى ابن أم مكتوم الأعمى حيث لا يراها هو ولا غيره من الرجال في بيته. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا حسين بن محمد، قال: ثنا شيبان، عن يحيى -وهو ابن أبي كثير- قال: أخبرني أبو سلمة: "أن فاطمة بنت قيس -أخت الضحاك بن قيس- أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة. فانطلق خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في نفرٍ، فأتوا رسول الله -عليه السلام- في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 114 رقم 1480).

طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: ليست لها نفقة، وعليها العدة. وأرسل إليها: أن لا تسبقيني بنفسك. فأمرها أن تنتقل إلى أم شريك، ثم أرسل إليها: إن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانطلقي إلى ابن أم مكتوم؛ فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فانطلقت إليه، فلما مضت عدتها أنكحها رسول الله -عليه السلام- أسامة بن زيد بن حارثة". الرابع: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن عمران بن أبي أنس المصري العامري، عن أبي سلمة عبد الله، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه مسلم: نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة قال: "سألت فاطمة بنت قيس ... " إلى آخره نحوه سواء. الخامس: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة: "سألت فاطمة فأخبرتني أن زوجها المخزومي طلقها، فأبى أن ينفق عليها، فجاءت إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبرته، فقال: لا نفقة لكِ، واذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده؛ فإنه أعمى، تضعين ثيابك عنده". السادس: عن روح بن الفرج القطان أيضًا، عن يحيى بن عبد الله بن بكر القرشي المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد المصري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، عن طلاق جده أبي عمرو، فاطمة بنت قيس ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 471 رقم 15491).

وعبد الحميد هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وجده هو أبو عمرو زوج فاطمة بنت قيس، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: "فاطمةَ بنت قيس" نصب؛ لأنه مفعول لمصدر المضاف إلى فاعله، أعني قوله: "عن طلاق جده". قوله: "ووكل عياش بن أبي ربيعه" أي: وكّل أبو عمرو لما خرج إلى اليمن عياش بن أبي ربيعة عمرو القرشي المخزومي الصحابي. قوله: "فسخطتها" أي: فسخطت فاطمة بعض النفقة الذي أرسله عياش، وتأنيث الضمير باعتبار النفقة؛ لأن المضاف يكتسب من المضاف إليه حكمه من التسخط وهو الكراهية للشيء وعدم الرضا به، وجاء سَخَطَ مثل سَقَمَ، وسُخْط مثل سُقْم. قوله: "فسليه" أصله: اسأليه فخفف بحذف الهمزتين. قوله: "إن بيتها يوطأ" من وطئ برجله على، كذا وأراد أن بيتها يدخله ناس كثير. وقوله: "أقل واطئةً" أي أقل من حيث الأرجل الواطئة، ويجوز أن تكون الواطئة هنا مصدر مثل الكاذبة أي أقل وطئًا، وأراد به قلة دخول الناس فيه. واعلم أن أبا القاسم البغوي روى في "معجمه" في ترجمة ابن أبي حفص: ثنا وهب بن بقية، أبنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن عبد الحميد، عن أبي عمرو وكانت تحته فاطمة بنت قيس فطلقها، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: "لا نفقة لك" انتهى. فهذا يدل ظاهرًا أن عبد الحميد روى هذا الحديث عن جدِّه أبي عمرو بن حفص المذكور. وطريق الطحاوي المذكور ساكت عن هذا، وإنما فيه سؤال أبي الزبير عنه عبد الحميد وإخبار عبد الحميد إياه بالقضية فقط.

السابع: عن روح بن الفرج أيضًا، عن يحيى بن عبد الله بن بكير أيضًا، عن الليث بن سعد أيضًا، عن عبد الله بن يزيد القرشي المخزومي المدني المقرئ الأعور مولى الأسود بن سفيان روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس نفسها ... إلى آخره. إنما قال: "نفسها" بالتأكيد ليدل على أن أبا سلمة روى هذا الحديث عن فاطمة بدون واسطة بينهما، بخلاف الطريق الذي قبله؛ فإن عبد الحميد المذكور فيه لم يرو عن نفس فاطمة، وأخبر بالقضية لأبي الزبير المكي حين سأله. قوله: "حرفًا بحرف" يعني: من غير اختلاف كلمة ولا تغيير لفظ من حديث الليث عن أبي الزبير المذكور في الطريق السابق. الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب .... إلي آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله -عليه السلام-، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة. فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللتِ فآذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا يهم خطباني. فقال رسول الله -عليه السلام-: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد. فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة. فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت". التاسع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- ابن خالد ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480).

الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه الطبراني مختصرًا (¬1): ثنا محمد بن عبد الرحيم بن نمير المصري، ثنا سعيد بن نفير، نا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس: "أنها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها ثلاث تطليقات، فجاءت رسول -عليه السلام-، فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم". وأخرجه مسلم (¬2): حدثني محمد بن رافع، قال: ثنا حجين قال: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة ... إلي آخره نحوه. العاشر: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة، أن فاطمة بنت قيس -وهي أخت الضحاك بن قيس- أخبرته: "أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص، فطلقها ثلاثًا، فأمر وكيله لها بنفقة، فرغبت عنها، فقال: مالك علينا من نفقة. فجاءت رسول الله -عليه السلام-، فسألته عن ذلك، فقال لها: صدق. وجعلها إلى ابن أم مكتوم، فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل". وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا يزيد بن خالد الرملي، قال: ثنا الليث، عن عقيل، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 366 رقم 910). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 427 رقم 15494). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 697 رقم 2289).

عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته: "أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاث تطليقات، فزعمت أنها جاءت رسول الله -عليه السلام-، فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق حديث فاطمة في خروج المطلقة من بيتها قال عروة: وأنكرت عائشة على فاطمة بنت قيس". قال أبو داود: وكذلك رواه صالح بن كيسان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري. الحادي عشر: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة، عن فاطمة. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس ... إلي آخره نحوه. الثاني عشر: عن ربيع المؤذن صاحب الشافعي، وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي المدني خال ابن أبي ذئب، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري المدني، كلاهما عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه الطبراني (¬2): نا حفص بن عمرو السدوسي، ثنا عاصم بن علي، نا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي، وكان يرزقني طعامًا فيه سيء، وكنت امرأة ليس لي أحد؛ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480). (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (24/ 368 رقم 914).

فقلت: والله لئن كانت لي نفقة فلأطلبنها، فأتيت النبي -عليه السلام-، فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه أعمى". الثالث عشر: عن روح بن الفرج القطان، عن أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري الحافظ المبرز وشيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الرزاق بن همام -صاحب المصنف- عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الرحمن بن عاصم بن ثابت الحجازي، عن فاطمة بنت قيس. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبد الحميد بن محمد، ثنا مخلد، قال: ثنا ابن جريج، عن عطاء، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عاصم: "أن فاطمة بنت قيس أخبرته -وكانت عند رجل من بني مخزوم- أنه طلقها ثلاثًا، وخرج عنها إلى بعض المغازي، وأمرَ وكيلَه أن يعطيها بعض النفقة، فتقالَّتها، فانطلقت إلى بعض نساء النبي -عليه السلام-، فدخل رسول الله -عليه السلام- وهي عندها، فقالت: يا رسول الله هذه فاطمة بنت قيس، طلقها فلان، فأرسل إليها ببعض النفقة، فردتها، وزعم أنه شيء تطوَّل به. قال: صدق. قال النبي -عليه السلام-: فانتقلي إلى أم كلثوم فاعتدي عندها. ثم قال: إن أم كلثوم امرأة يكثر عوادها، فانتقلي إلي عبد الله بن أم مكتوم فإنه أعمى. فانتقلت إلى عبد الله، فاعتدت عنده، حتى انقضت عدتها، ثم خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبي سفيان، فجاءت رسول الله -عليه السلام- تستأمره فيهما، فقال: أما أبو الجهم فرجل أخاف عليك قسقاسته العصا وأما معاوية فرجلٌ أملق من المال، فتزوجت أسامة بن زيد بعد ذلك". قوله: "تطوَّل به" أي: تفضل به وتبرع من غير وجوب شيء عليه. قوله: "قسقاسته" وقع في أصل الحافظ المنذري بخطه بالقافين والشينين المعجمتين. وقال صاحب "النهاية" والهَرَوي: بالقافين والسينين المهملتين وهو الصواب، ومعناه: تحريكه العصا عند الضرب، يقال: قسقس الرجل في مَشْيه إذا أسرع. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 207 رقم 3545).

الرابع عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بكر بن أبي الجهم، وهو أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم القرشي العدوي وقد ينسب إلى جده، واسم أبي الجهم صُخَيْر، ويقال: عبيد بن حذيفة بن غانم، وثقه يحيى، وابن حبان وروى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. وأخرجه ابن ماجه (¬1) مختصرًا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي الجهم صُخَيْر العدوي، قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: "إن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله -عليه السلام- سكنى ولا نفقة". قوله: "رجل يُغشَى" بضم الياء آخر الحروف وسكون الغين وفتح الشين المعجمتين -أي يُقْرَب، وأراد أنه يأتي إليه ناس كثير، وهذه الرواية تخالف سائر الروايات، فإن في سائر الروايات المأمور لها بالسكنى للاعتداد عنده: ابن أم مكتوم، وعلله بأنه أعمى، وفي هذه الرواية المأمور لها عدم السكنى عنده، والانتقال إلى ابن فلان وهو مجهول، والله أعلم. الخامس عشر: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي بكر بن أبي الجهم صُخَيْر ... إلي آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): نا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، أنا شريك، عن أبي بكر بن صخير قال: "دخلت أنا وأبو سلمة ... " إلي آخره نحوه سواء. السادس عشر: عن فهد أيضًا، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار البصري، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله -بالتصغير- بن عبد الله -بالتكبير- بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة، عن فاطمة بنت قيس. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 656 رقم 2035). (¬2) "معجم الطبراني الكبير" (24/ رقم 930).

وذكر أبو مسعود الدمشقي أن حديث عبيد الله هذا مرسل. والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار فقلدوها، وقالوا: لا تجب النفقة ولا السكنى إلا لمن كانت عليها الرجعة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وعمرو بن دينار وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشعبي وأحمد بن حنبل وإسحاق وإبراهيم -في رواية- وأهل الظاهر، فإنهم قلدوا هذه الأحاديث المذكورة، وقالوا: لا نفقة ولا سكنى إلا للمطلقة طلاقًا رجعيًا، والمبتاتة لا نفقة لها ولا سكنى. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل مطلقة فلها في عدتها السكنى حتى تنقضي عدتها، وسواء كان الطلاق بائنًا أو غير بائن، فأما إذا كان بائنًا فإنهم يختلفون في ذلك. فقال بعضهم: لها النفقة أيضًا مع السكنى، حاملاً كانت أو غير حامل. وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقال بعضهم: لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: حماد بن أبي سليمان وشريحًا القاضي وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح وعثمان وعبد الله بن الحسن وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي ومالكًا وأبا عبيد. ولكنهم اختلفوا أيضًا، فقال حماد وشريح والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح: كل مطلقة لها السكنى والنفقة، حاملاً كانت أو غير حامل. وهو معنى قوله: "فقال بعضهم: لها النفقة أيضًا مع السكنى ... " إلي آخره، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-، وهو مذهب عمر بن الخطاب

وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-. وقال عبد الرحمن بن مهدي ومالك والشافعي وأبو عبيد: المطلقة لها السكنى بكل حال، والنفقة إن كانت حاملاً. وهو معنى قوله: "وقال بعضهم: لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً". وعن عطاء وقتادة: المبتوتة إذا كانت حبل لها النفقة حتى تضع حملها. وكذا عن عروة وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن. وعن ربيعة: إذا قض لها بالنفقة لحملها ثم ظهر أنها غير حامل ردت ما أخذت من النفقة. ص: واحتجوا في دفع حديث فاطمة بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق قال: "كنت عند الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فذكروا المطلقة ثلاثًا، فقال الشعبي: حدثتني فاطمة بنت قيس أن رسول الله -عليه السلام- قال لها: لا سكنى لك ولا نفقة. قال: فرماه الأسود بحصاةٍ، فقال: ويلك، أتحدث بمثل هذا؟! قد رُفِعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: لسنا بتاركي كتاب ربنا وسنة نبينا -عليه السلام- بقول امرأةٍ لا ندري لعلها كذبت، قال الله تعالى: {تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا ...} (¬1) الآية". ش: أي احتج الذين قالوا: المطلقة -أي مطلقة كانت- لها النفقة والسكنى في دفع حديث فاطمة بنت قيس بحديث الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي الزبيري الكوفي، قال ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1].

العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو زرعة وابن خراش: صدوق، روى له الجماعة، عن عمار بن رزيق -بتقديم الراء على الزاي المعجمة- الضبي التميمي أبي الأحوص الكوفي، قال يحيى وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم والنسائي: لا بأس به. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن الأسود بن يزيد روى له الجماعة. والشعبي اسمه عامر بن شراحيل. وأخرجه مسلم (¬1): نا محمد بن عمرو بن جبلة، قال: نا أبو أحمد، قال: نا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق قال: "كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله -عليه السلام- لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟! قال عمر: لا نترك كتاب الله تعالى وسنة نبينا -عليه السلام- لقول امرأة لا ندري حَفِظَتْ أم نَسِيَتْ، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. (¬2) ". وأخرجه أبو داود (¬3): نا نصر بن علي، قال: أنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق قال: "كنت في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأةٍ لا ندري أحفظت أم لا؟ ". وأخرجه النسائي (¬4): أنا أبو بكر بن إسحاق، نا أبو الجواب الأحوص بن جواب، نا عمار -هو ابن رزيق- عن الشعبي، عن فاطمة بن قيس ... فذكر ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480). (¬2) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 698 رقم 2291). (¬4) "سنن أبي داود" (6/ 902 رقم 3549).

الحديث: "فحصبه الأسود، وقال: ويلك، لِمَ تفتي بمثل هذا؟! قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لها: إن جئت بشاهدين يَشْهدان أنهما سمعاه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) " انتهى. وهذا صريح إنكار من عمر بن الخطاب بحضرة من أصحاب رسول -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه مُنْكِر؛ فدل ذلك أن مذهبهم في ذلك كمذهبه، وكذلك أنكره من الصحابة أسامة بن زيد، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهم- وكذا أنكره من التابعين سعيد بن المسيب والأسود بن عبد الرحمن وغيرهم -على ما يجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى. فقد ظهر من هؤلاء السلف النكير على فاطمة في روايتها لهذا الحديث، ومعلوم أنهم كانوا لا ينكرون روايات الأفراد بالنظر والقياس، فلولا أنهم قد علموا خلافه من سنة النبي -عليه السلام- ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها، وقد استفاض خبر فاطمة في الصحابة، فلم يعمل به أحدٌ منهم إلا شيئًا روي عن ابن عباس؛ رواه الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن ابن عباس: "أنه كان يقول في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها: لا نفقة لهما وتعتدان حيث شاءتا" (¬1). فإن قيل: قال البيهقي (¬2): روى هذا الحديث يحيى بن آدم عن عمار بن رزيق، ولم يقل فيه: "وسنة نبينا" ثم حكى عن الدارقطني أن يحيى بن آدم أحفظ من الزبيري وأثبت منه، ثم قال: قال الشافعي -رحمه الله-: ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة، إنما في كتاب الله ذكر السكنى. قلت: لا معارضة بين رواية يحيى بن آدم وبين رواية الزبيري حتى يرجح يحيى عليه؛ لأن الزبيري ما خالفه بل وافقه وزاد عليه قوله: "وسنة نبينا" وهو إمام ¬

_ (¬1) يأتي إن شاء الله. (¬2) "سنن البيهقي" (7/ 475).

حافظ، قال محمد بن بشار: ما رأيت رجلاً أحفظ من الزبيري. فهذه زيادة مِنْ ثقة فوجب أن تقبل. وقال مسلم (¬1) عقيب حديث الزبيري: ثنا أحمد بن عبدة، ثنا أبو داود، ثنا سليمان بن معاذ، عن أبي إسحاق بهذا الإِسناد نحو حديث أبي أحمد عن عمار بن رزيق بقصته. فهذا شاهد لحديث الزبيري. وأيضًا فالحديث رواه أشعث، عن الحكم، وحماد عن إبراهيم عن الأسود، عن عمر نحوه. فرواية أشعث هذا تشهد له أيضًا وهو يصلح للمتابعة؛ لأن العجلي وثقه، ووثقه ابن معين في رواية، وروى له مسلم في المتابعات. وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه". وتشهد له أيضًا ثلاثة أوجه: وجهان أخرجهما ابن أبي شيبة (¬2): ثنا وكيع، نا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقولة امرأة". وقال أيضًا (¬3): ثنا جرير، عن مغيرة: ذكرت لإبراهيم حديث فاطمة، فقال: قال عمر -رضي الله عنه- "لا ندع كتاب ربنا وسنة رسوله لقول امرأة، لا ندري حفظت أو نسيت، وكان عمر -رضي الله عنه- يجعل لها السكنى والنفقة". والوجه الثالث: أخرجه عبد الرازق في "مصنفه" (¬4): عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا، فجئت إلى ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1114 رقم 1480). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 137 رقم 18663). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 136 رقم 18659). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 24 رقم 12027).

النبي -عليه السلام- فسألته، فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا، لها النفقة والسكنى. قال فذكرت ذلك لإبراهيم". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أنا أبو خليفة، نا محمد بن كثير العبدي، أنا الثوري ... فذكره. وإذا ثبت هذه الزيادة وهي قوله: "وسنة نبينا". وهي حديث مرفوع عندهم فالظاهر إنما أراد بسنة نبينا: النفقة، وأراد بالكتاب: السكنى، وأما نقله عن الشافعي: "ما نعلم في كتاب الله ذكر نفقة" غير مسلَّم؛ لأن قوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (¬2) إيجاب للنفقة؛ لأنها إذا حبست لحقه ولم ينفق عليها فقد ضارَّها وضيق عليها. فإن قيل: المراد إيجاب السكنى؛ إذ التضييق إنما هو في المكان. قلت: هذا حمل الكلام على التكرار إذ السكنى مذكورة أولاً بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (2). وفيما قلنا إثبات فائدة أخرى؛ ولأن منع النفقة تضييق، ومنع السكنى ليس بتضييق؛ إذ الواجب أن تقيم في مكان واحد، فإذا منعها منه تقيم حيث شاءت وذلك توسعة. ذكره القدوري في "التجريد"، وقد تكلم ابن حزم ها هنا كلامًا ساقطًا ليس فيه شيء حتى يجاب عنه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن الشعبي، عن فاطمة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه لم يجعل لها حين طلقها زوجها سكنى ولا نفقة. فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: قد رفع ذلك إلى عمر -رضي الله عنه- فقال: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا -عليه السلام- لقول امرأة، لها السكنى والنفقة". ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (10/ 63 رقم 4250). (¬2) سورة الطلاق، آية: [6].

ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. ومحمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، وسفيان هو الثوري، وسلمة بن كهيل الكوفي، والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، نحوه. وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬2) عن أبي خليفة، عن محمد بن كثير، عن الثوري ... إلي آخره نحوه. فإن قيل: قد قال ابن حزم: هذا مرسل؛ لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر بسنتين. قلت: مراسيل النخعي صحيحة إلا حديثين كذا قال ابن معين، وليس هذا الحديث منهما. وقال صاحب "التمهيد": مراسيل النخعي صحيحة، ثم ذكر بسنده عن الأعمش. قلت للنخعي: "إذا حدثتني حديثًا فأسنده، فقال: إذا قلت: عن عبد الله فاعلم أنه عن غير واحد، وإذا سميت لك أحدًا فهو الذي سميت". قال أبو عمر: في هذا ما يدل على أن مراسيله أقوى من مسانيده، وقال في موضع آخر: مراسيله عن ابن مسعود وعمر -رضي الله عنه- صحاح كلها، وأما ما أرسل منهما أقوى من الذي أسند. حكاه يحيى القطان وغيره (¬3). ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 24 رقم 12027) وقد تقدم قريبًا. (¬2) "صحيح ابن حبان" (10/ 63 رقم 4250) وقد تقدم. (¬3) في هذا نظر؛ لأن قول إبراهيم "فهو عن غير واحد" قد يكونا اثنين وقد تكون فيهما جهالة أو ضعف. وقال البخاري في "القراءة خلف الإِمام" بعد حديث إبراهيم عن عبد الله: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام ملئ فمه نتنًا" قال: هذا مرسل لا يحتج به. ونقل العلامة مغلطاي في شرحه لسنن ابن ماجه "الإعلام" (4/ ق101 - أ) عن الشافعي قال: لم يقبل منه؛ لأنه لم =

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر وعبد الله أنهما كانا يقولان: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة". وكان الشعبي يذكر عن فاطمة بنت قيس عن النبي -عليه السلام-: "أنه ليس لها نفقة ولا سكنى". ش: هذا مرسل صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. والأعمش هو سليمان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم، عن عمر وعبد الله -رضي الله عنهما- قالا: "لها السكنى والنفقة". ص: حدثنا نصر بن مرزوق وسليمان بن شعيب، قالا: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: "أن زوجها طلقها ثلاثًا، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: لا نفقة لك ولا سكنى، قال: فأخبرت بذلك النخعي فقال: قال عمر -رضي الله عنه- وأخبر بذلك فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول رسول الله -عليه السلام- لقول امرأة لعلها وهمتْ؛ سمِعتُ رسول الله -عليه السلام- يقول: لها السكنى والنفقة". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات قد تكرر ذكرهم. وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن حزم (¬2) من حديث حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، فقال إبراهيم: إن ¬

_ = يلق واحدًا منهما. وحسم ذلك كله الحافظ الناقد الإِمام الذهبي في "الميزان" (1/ 75) فقال: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة. (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 136 رقم 18654). (¬2) "المحلى" (10/ 297).

عمر -رضي الله عنه- أُخْبِر بقولها، فقال: "لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول رسول الله -عليه السلام- لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعت النبي -عليه السلام- يقول: لها السكنى والنفقة". وأخرجه القاضي إسماعيل: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الشعبي: "أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها بائنًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا نفقة لك ولا سكنى. قال: فأخبرت بذلك النخعي فقال: إن عمر -رضي الله عنه- أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آيةً من كتاب الله وقول رسول الله -عليه السلام- لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعتُ رسول الله -عليه السلام- يقول: لها السكنى والنفقة". انتهى. وقضية يكون مثل عمر بن الخطاب يقول فيها: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لها السكنى والنفقة"، لا يجوز ترك قوله لقول امرأة من آحاد الصحابيات يخالف قول عمر بن الخطاب مع موافقة مثل عبد الله بن مسعود إياه فيما قاله، ولو لم يكن لابن مسعود أيضًا علم من رسول الله -عليه السلام- يوافق ما رواه عمر لما وافقه ولما ذهب إلى مذهبه؛ لأن هذا الباب لا مجال للرأي فيه. وألله أعلم. ص: حدثنا نصر، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود: "أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود قالا في المطلقة ثلاثًا: "لها السكنى والنفقة". قالوا: فهذا عمر -رضي الله عنه- قد أنكر حديث فاطمة هذا ولم يقبله. ش: إسناده صحيح. والخصيب هو ابن ناصح الحارثي، وأبو عوانة: الوضاح اليشكري، والأعمش هو سليمان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص بن غياث ومحمد بن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 136 رقم 18653).

قوله: "قالوا" أي الذين ذهبوا إلى أن المطلقة -أي مطلقة كانت- لها السكنى والنفقة. ص: وقد أنكره أيضًا عليها أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن قال: "كانت فاطمة بنت قيس تحدث عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال لها: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم". وكان محمد بن أسامة بن زيد قد أنكر من ذلك، يقول: "كان أسامة إذا ذكرت فاطمة -رضي الله عنهما- من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده". فهذا أسامة بن زيد قد أنكر من ذلك أيضًا ما أنكره عمر بن الخطاب. ش: أي وقد أنكر الحديث المذكور أيضًا على فاطمة أسامة بن زيد بن حارثة؛ وذلك لأنه كان إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده، فلو لم يكن عنده علم من النبي -عليه السلام- يخالف ما ذكرته فاطمة لما كان ينكر عليها، ولا رماها بما كان في يده حين تذكر من ذلك شيئًا. وأخرج ما روي عن أسامة بإسناد صحيح. عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، وثقه الخطيب وابن حبان. عن شعيب بن الليث، روى له مسلم وأبو داود والنسائي. عن الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له المجاعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، روى له الجماعة ... إلى آخره. ومحمد بن أسامة بن زيد بن حارثة الضبي المدني، وثقه ابن سعد وابن حبان، وروى له الترمذي.

وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): ثنا حُمام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا مطلب، نا أبو صالح -هو عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد- نا جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: "كان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة عن ذلك [شيئًا] (¬2) من ذلك -يعني عن انتقالها في عدتها- رماها بما في يده". ثم قال ابن حزم: وهذا ساقط؛ لأن روايه عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف جدًّا. قلت: لا نسلِّم ذلك؛ لأن يحيى بن معين كان يوثقه، وروى عنه البخاري في الصحيح على الصحيح ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله. وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب وكان حسن الحديث، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ولئن سلَّمنا ما قاله فهذا شعيب بن الليث في طريق الطحاوي تابعه في ذلك. والله أعلم. ص: وقد أنكرت ذلك أيضًا عائشة -رضي الله عنها-: حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد وسليمان بن يسار تذاكرا، أن يحيى بن سعيد بن العاص طلَّق ابنة عبد الرحمن بن الحكم فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة إلى مروان وهو أمير المدينة: أن اتق الله واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان -في حديث سليمان-: إن عبد الرحمن غلبني، وقال -في حديث القاسم-: أما بلغك حديث فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة بنت قيس: فقال مروان: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر". ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 294 - 295). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المحلى".

ش: أي وقد أنكرت حديث فاطمة بنت قيس عائشة أيضًا كما أنكره عمر وأسامه -رضي الله عنهم-. وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة روى له الجماعة ... إلى آخره. وأخرجه رزين في كتابه من حديث القاسم بن محمد وسليمان بن يسار: "أن يحيى بن سعيد [بن] (¬1) العاص طلق امرأته ابنة عبد الرحمن بن الحكم ثلاثاً، فانتقلها أبوها، فأرسلت عائشة إلى أخيه مروان -وكان واليًا على المدينة- تقول له: اتق الله وارددها إلى بيتها تعتد فيه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2). قال مروان للرسول: قل لها: يقول لكِ: إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني -أو قال: إن أباها قد غلبني- وقال: أَوَمَا بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟! فقالت عائشة -رضي الله عنهما-: لا يضرك ألا تذكر حديثها، فبلغ ذلك مروان فقال: إن كان بك شر فحسب ما بين هذين من الشر، أما لفاطمة ألا تتقي الله في قولها: لا سكنى ولا نفقة؟ ". قوله: "إن يحيى بن سعيد بن العاص" هو يحيى بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميَّة القرشي الأموي أبو أيوب -ويقال: أبو الحارث- المدني أخو عمرو بن سعيد الأشدق ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة. قوله: "ابنة عبد الرحمن بن الحكم" هو أخو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، كما جاء في رواية رزين: "فأرسلت عائشة إلى أخيه مروان وكان واليًا على المدينة" وكان عبد الرحمن بن الحكم شاعرًا مجيدًا. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) سورة الطلاق، آية: [1].

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن يحيى بن سعيد ... فذكر بإسناده مثله. ش: أخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار أنه سمعهما يذكران: "أن يحيى بن سعيد بن العاص طلَّق بنت عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن بن الحكم، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان بن الحكم -وهو يومئذٍ أمير المدينة- فقالت: اتق الله واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان -في حديث سليمان-: إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان -في حديث القاسم-: أو ما بلغكِ شأن فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة -رضي الله عنها-: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر". وأخرجه أبو داود (¬2) عن القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) عنه مختصرًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما لفاطمة من خير حين تذكر هذا الحديث -تعني قولها: لا نفقة ولا سكنى". فهذه عائشة -رضي الله عنها- أيضًا لم تر العمل بحديث فاطمة أيضًا. ش: إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (¬5): [ثنا محمد بن بشار] (¬6)، نا غندر، ثنا شعبة، عن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 579 رقم 1206). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 699 رقم 2295). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2039 رقم 5015). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 1120 رقم 1481). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2039 رقم 5016). (¬6) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح البخاري".

عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "ما لفاطمة، ألا تتقي الله -تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة". قوله: "فهذه عائشة ... " إلى آخره أراد أن عائشة -رضي الله عنها- أيضًا لم تر العمل بحديث فاطمة بنت قيس؛ لأن قولها هذا على سبيل الإنكار عليها كما كان عمر وأسامة -رضي الله عنها- لم يريا العمل به. وقال القاضي إسماعيل: وإذا كان هذا الإنكار كله وقع في حديث فاطمة بنت قيس، فكيف يجعل أصلاً؟! ص: وقد صرف ذلك سعيد بن المسيب إلى خلاف المعنى الذي صرفه إليه أهل المقالة الأولى: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: "قلت لسعيد بن المسيب: أين تعتد المطلقة ثلاثًا؟ فقال: في بيتها، فقلت له: أليس قد أمر رسول الله -عليه السلام- فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فقال: تلك امرأة أفتنت الناس واستطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها رسول الله -عليه السلام- أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وكان رجلاً مكفوف البصر". فكان ما روت فاطمة بنت قيس عن رسول الله -عليه السلام- من قولها: "لا سكنى لك ولانفقة" لا دليل فيه عند سعيد بن المسيب أن لا نفقة للمطلقة ثلاثًا ولا سكنى؛ إذ كان قد صرف ذلك إلى المعنى الذي ذكرناه عنه. ش: أي قد صرف معنى حديث فاطمة بنت قيس سعيدُ بن المسيب إلى خلاف المعنى الذي صرفه إليه أهل المقالة الأولى الذين قالوا: لا نفقة ولا سكنى للمطلقة ثلاثًا. حاصل ذلك: أن سعيد بن المسيب أيضًا لم يعمل بحديث فاطمة، ألا ترى أنه قال: تعتد في بيتها حين سأله ميمون بن مهران الجزري؟

أخرجه عن أبي بشر: عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير روى له الجماعة، عن عمرو بن ميمون أبي عبد الرحمن الرقي روى له الجماعة، عن أبيه ميمون بن مهران أبي أيوب الجزري وثقه النسائي، وقال أحمد: أوثق من عكرمة. وروى له الأربعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا جعفر بن برقان، قال: ثنا ميمون بن مهران قال: "قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: لفاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، قال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس؛ لأنها كانت لَسِنَة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى". قوله: "أفتنت الناس" وفي رواية أبي داود: "فتنت" بدون الهمزة، وكلاهما لغة، والأكثر بدون الهمزة. قوله: "على أحمائها" جمع "حم" وهم أقارب الزوج، وأصله حمو، وفي الحديث: "ألا حموها الموت" وفي رواية "ألا إن الحمو الموت" كذا بضم الميم وسكون الواو، وهذا كما قال: الأسد: الموت، أي في لقائه الموت، أو لقاؤه مثل الموت لما فيه من الغرر المؤدي إلى الموت، وكذلك الخلوة بالحمو وقيل: معناه: فليمت ولا يفعله، وقيل: لعله إنما قال: "الحمو الموت" لما فيه من أحرف الموت؛ فإن فيه الحاء والميم، وهما من الحِمَام الذي هو الموت، وهو ضعيف، والآخال: أقارب المرأة، والصهر تجمع الأصهار والأختان. قوله: "فكان مما روت فاطمة ... " بلى آخره تفسير لقوله: "وقد صرف ذلك سعيد بن المسيب ... " إلى آخره. وقوله: "لا دليل فيه" خبر كان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 699 رقم 2296).

قوله: "إذا كان قد صرف" أي حين كان سعيد بن المسيب صرف ذلك أي معنى حديث فاطمة إلى المعنى الذي ذكرناه عنه، وهو قوله: "تلك امرأة أفتنت الناس" وإنما قال: هذا حين عارضه ميمون بن مهران بحديث فاطمة بنت قيس حين قال له سعيد بن المسيب: "تعتد في بيتها" وأراد أن السبب في أمر رسول الله -عليه السلام- فاطمة بالانتقال إلى بيت ابن أم مكتوم إنما كان لكونها قد استطالت بلسانها على أحمائها، فأمرها بالانتقال؛ فأمرها بالنقلة لأنها كانت لَسِنة أي طويلة اللسان، وقال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1). وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تأويله: أن تستطيل على أهلها فيخرجوها، ولما كان سبب النقلة من جهتها؛ كانت بمنزله الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعًا، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى. فإن قيل: ليست النفقة كالسكنى، لأن السكنى حق الله تعالى لا يجوز تراضيهما على إسقاطها، والنفقة حق لها ولو رضيت بإسقاطها لسقطت. قلت: لا فرق بينهما من الوجه الذي وجب قياسًا عليها، وذلك أن السكنى فيها معنيان: أحدهما: حق الله تعالى؛ وهو كونها في بيت الزوج. والآخر: حق لها وهو ما يلزم في المال من أجرة البيت إن لم يكن له، ولو رضيت بأن تعطي هي الأجرة من مالها وتسقطها عن الزوج جاز فمن حيث نفي حق في المال قد استويا. فإن قيل: قال ابن حزم: هذا مرسل، لا ندري مَنْ أخبر سعيد بن المسيب فهو ساقط. قلت: اعتراض ابن حزم ساقط؛ لأن مراسيل سعيد بن المسيب كلها صحاح ومراسيله مسانيد، وقال شمس الأئمة: والحسن وسعيد بن المسيب وغيرها من أئمة ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1].

التابعين كان كثيرًا ما يروون مرسلاً، حتى قال: أكثر ما رواه سعيد بن المسيب مرسلاً إنما سمعه من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ ولهذا قال عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند؛ لأن من اشتهر عنده حديث فإن سمعه بطرق طوى الإسناد؛ لوضوح الطريق عنده وقطع الشهادة بقوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا سمعه بطريق واحد لا يتضح الأمر عنده على وجه لا يبقى له فيه شبهة، فيذكره مسندًا على قصد أن يحمله ما تحمل عنه. وقال الشافعي: لا أقبل من المراسيل إلا مراسيل سعيد بن المسيب فإني تتبعتها ووجدتها مسانيد. فإن قيل: فعلى ما ذكرت ينبغي أن يجوز النسخ بالمراسيل كما يجوز من الإخبار بالمشهور عندكم. قلت: إنما لم نجوِّز ذلك؛ لأن قوة المرسل من هذا الوجه بنوع من الاجتهاد، فيكون نظير قوة ما ثبت بطريق القياس، والنسخ بمثله لا يجوز. ص: وقد حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن فاطمة بنت قيس أخبرته، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث به من خروجها قبل أن تحل". فهذا أبو سلمة يخبر أيضًا أن الناس قد أنكروا ذلك على فاطمة، وفيهم أصحاب رسول الله -عليه السلام- ومن لحق بها من التابعين؛ فقد أنكر عمر وأسامة وسعيد بن المسيب مع من سمَّينا معهم حديث فاطمة بنت قيس هذا، ولم يعملوا به، وذلك من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه منكِرٌ، فدلَّ تركهم النكير في ذلك عليه؛ أن مذهبهم فيه كمذهبه.

ش: أشار بهذا إلى أن أبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني الذي هو أيضًا من كبار التابعين، قد أخبر إنكار الناس على فاطمة ما قالت، وقولها ذلك، والحال أن فيهم جماعة من الصحابة والتابعين. أخرجه عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله ابن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث الليث، عن عقيل ... إلى آخره نحوه. وقد ذكرنا فيما مضى قوله: "فقد أنكر عمر وأسامة وسعيد بن المسيب -رضي الله عنهم- ... " إلى آخره. يعني إذا كان الأمر كذلك فقد أنكر مثل عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد من الصحابة ومثل سعيد بن المسيب من التابعين حديث فاطمة بنت قيس المذكور ولم يعملوا به. والحال أن إنكار عمر -رضي الله عنه- كان بحضرة الصحابة -رضي الله عنهم- فلم ينكر عليه أحد منهم ذلك، فدلَّ ذلك أن مذهبهم في هذا الحكم كمذهب عمر -رضي الله عنه-؛ فصار كالإجماع بينهم على ذلك. ص: فقال الذين ذهبوا إلى حديث فاطمة وعملوا به: إن عمر -رضي الله عنه- إنما أنكر ذلك عليها؛ لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قول الله -عز وجل-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬2)؛ فهذا إنما هو في المطلقة طلاقًا لزوجها عليها فيه الرجعة، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت: إن رسول الله -عليه السلام- قال لها: "إن النفقة والسكنى لمن كانت عليه الرجعه" فما ذكر الله -عز وجل- في كتابه من ذلك إنما هو في المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة، وفاطمة فلم تكن عليها رجعة، فما روي من ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 432 رقم 15265). (¬2) سورة الطلاق، آية: [6].

ذلك فلا يدفعه كتاب الله -عز وجل- ولا سنة نبيه -عليه السلام-، وقد تابعها على ذلك منهم عبد الله بن عباس والحسن. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس (ح). وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن: "أنهما كانا يقولان في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها: لا نفقة لهما، وتعتدان حيث شاءتا". قالوا: وإن كان عمر وعائشة وأسامة قد أنكروا على فاطمة ما روت عن النبي -عليه السلام- وقالوا بخلافه؛ فهذا ابن عباس قد وافقها على ما روت في ذلك، فعمل به، وتابعه على ذلك الحسن -رحمه الله-. ش: هذا إيراد ومعارضة بالمثل: بيان الأول: أن إنكار عمر -رضي الله عنه- على فاطمة، لكونها خالفت عنده كتاب الله وهو قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬1) فهذا في حق المطلقة الرجعية، وفاطمة لم تكن كذلك، إنما كانت مبانة، فلا يدفع كتاب الله ما روته في ذلك ولا سنة النبي -عليه السلام-. وبيان الثاني: أن يقال: إنكم إذا ادعيتم مخالفة عمر وعائشة وأسامة -رضي الله عنهم- لفاطمة بنت قيس، فيما روته عن النبي -عليه السلام- وعملهم بخلافه، فنحن أيضًا ندعي موافقة عبد الله بن عباس والحسن البصري إياها فيما روته عن النبي -عليه السلام- وعملهما به، وهو معنى قوله: "قالوا: وإن كان عمر ... " إلى آخره. وأخرج ذلك عن ابن عباس، من طريق صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، فيه مقال؛ فقال الدارقطني: لا يحتج به. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [6].

عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرج عن الحسن من طريق عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن هشيم بن بشير أيضًا، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، روى له الجماعة، عن الحسن البصري. وأخرجهما البيهقي في "سننه" (¬1). وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة والحسن، قال: سمعتهما يقولان في المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها: "ليس لهما سكنى ولا نفقة". ص: فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة أن ما أخذ به عمر -رضي الله عنه- في دفع حديث فاطمة حجة صحيحة؛ وذلك أن الله -عز وجل-؛ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) ثم قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (3). وأجمعوا أن ذلك الأمر هو المراجعة، ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (¬4)، ثم قال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (3)، يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة على ما أمره الله -عز وجل- ثم راجعها ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه ووجبت عليها العدة التي جعل الله -عز وجل- لها فيها السكنى وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله -عز وجل- دين هذه المطلقة للسنة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي -عليه السلام- أنه قال لها: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة؛ خالفت بذلك كتاب الله -عز وجل- نصًّا؛ لأن كتاب الله تعالى قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة رسول الله -عليه السلام-؛ لأن عمر -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 425 رقم 15283). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 137 رقم 18669). (¬3) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬4) سورة الطلاق، آية: [6].

قد روى عن رسول الله -عليه السلام- خلاف ما روت فخرج المعنى الذي منه أنكر عليها عمر ما أنكر؛ خروجًا صحيحًا؛ وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً لما ذكرنا وبيَّنا. ش: هذا جواب عن الإيراد والمعارضة المذكورين، تقريره: أن الله تعالى قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (2) بعد قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1)، وأجمعوا أن المراد من ذلك الأمر هو المراجعة، والمعنى أنه يحدث له ندم فلا ينفعه؛ لأنه قد طلق ثلاثًا، وفي غير الثلاث يبدو له فيراجعها، ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (1) وهو يشتمل البائن والرجعي؛ لأن قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) قد تضمن البائن، ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬2) وجب ذلك للجميع من البائن والرجعي، ثم قال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (2) فيه نهي للزوج عن إخراجها، ونهي لها عن الخروج، وفيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة؛ لأن بيوتهن التي نهى الله عن إخراجهن منها هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق، فأمر بتبقيتها في بيتها ونسبها إليها بالسكنى كما قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وإنما كانت البيوت للنبي -عليه السلام-، ولهذه الآية قال أصحابنا: لا يجوز له أن يسافر بها حتى يشُهد على رجعتها، ومنعوها من السفر في العدة، ثم إن الله تعالى لم يفرق في ذلك بين المطلقة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة التي عليها الرجعة، وقد تضمنت الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه: أحدها: السكنى لما كانت حقًّا في مال قد أوجبها الله بنص الكتاب، إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقًّا في مال وهي بعض النفقة. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [6]. (¬2) سورة الأحزاب، آية: [33].

والثاني: قوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} (1) والمضارة تقع في النفقة كهي في السكنى. والثالث: قوله: {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (1) والتضييق قد يكون في النفقة أيضًا، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها، فإذا كان الأمر كذلك، فقد جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي -عليه السلام- أنه قال لها: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، فقد خالفت بذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قلنا: إنه جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وأما السنة فلأن عمر -رضي الله عنه- قد روى عن النبي -عليه السلام- خلاف ما روت هي، حيث قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لها السكنى والنفقة" أي للمبتوتة، وقد مرَّ ذكره فيما مضى، وكذلك روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- قال: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة". رواه الدارقطني من حديث حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام-، وحرب بن أبي العالية حديثه في صحيح مسلم. وأخرج له أيضًا الحاكم في "مستدركه" ويكفيه توثيقًا رواية مسلم له، فإذا ثبت هذا؛ ظهر أن ما أنكر عليها عمر -رضي الله عنه- هو إنكار صحيح وبطل بذلك حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً، ولا يعمل به إلا مَنْ خالف الكتاب والسنة، والله أعلم. ص: فقال قائل: لم يجيء تخليط حديث فاطمة إلا مما رواه الشعبي عنها، وذلك أنه هو الذي روى عنها: "أن رسول الله -عليه السلام- لم يجعل لها السكنى ولا النفقة". قال: وليس ذلك في حديث أصحابنا الحجازيين، فأغفل في ذلك أو ذهل عنه؛ لأنه لم يرو ما في هذا الباب بكماله كما رواه غيره، فتوهم هو أنه جمع كل ما روي في هذا الباب فتكلم على ذلك فقال: ما حكينا عنه مما وصفنا، وليس كما توهم؛ لأن الشعبي أضبط مما يظن وأوثق وأتقن، وقد وافقه على ما روى من قد ذكرنا في أول هذا الباب ما يغنينا ذلك عن إعادته في هذا الموضع، ويقال: إن حديث مالك عن عبد الله بن يزيد الذي لم يذكر فيه "لا سكنى لك" قد رواه الليث بن سعد، عن

عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة، بمثل ما رواه الشعبي عنها، فما جاء عن الشعبي في هذا تخليط، وإنما جاء التخليط ممن روى عن أبي سلمة عن فاطمة فحذف بعض ما فيه وجاء ببعض، فأما أصل الحديث فكما رواه الشعبيي -رحمه الله-. ش: أراد بهذا القائل الشافعي: فإن عنده المبتوتة لها السكنى وليست لها النفقة إلا إذا كانت حاملاً، فلأجل هذا قال: لم يجئ تخليط حديث فاطمة بنت قيس من رواية الشعبي؛ انما قال كذلك لأن رواية الشعبي عن فاطمة تخبر بأن المبتوتة ليس لها السكنى ولا النفقة فهي في الظاهر حجة عليه لكونه يرى لها السكنى دون النفقة، ويرى لها النفقة أيضًا إذا كانت حاملاً، وقد سرد الطحاوي هذا الكلام مفسرًا في كتابه "الأحكام" حيث قال: وذكر الشافعي فيما ذكره لنا الربيع عنه هذا، وأن معنى حديث فاطمة الذي ذكرنا يرجع إلى المعنى الذي كان يذهب إليه في المطلقات المبتوتات غير الحوامل؛ لا نفقة لهن في عددهن على من طلقهن، وأن لهن السكنى عليهم إلى انقضاء عددهن، وقال: قول رسول الله -عليه السلام- لفاطمة في حديثها الذي ذكرناه يعني حديث مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة: "لا نفقة لك" أي لأنك غير حامل، وانتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم لبذائك الذي صرت به من أهل الفاحشة التي أباح الله -عز وجل- بها إخراج المطلقات اللاتي تكون منهن، فقال: وإنما جاء تخليط هذا الحديث عن فاطمة غير ما رواه عنها الشعبي، لأنه روى عنها أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا نفقة لك ولا سكنى"، وأما ما روى عنها الحجازيون فموافق لقولنا وغير خارج عن مذهبنا الذي ذكرناه، يعني أن لها السكنى دون النفقة. قال الطحاوي: ولم يكن القول في ذلك كما ذكر، ولا كان أصل حديث فاطمة إلا كما رواه الشعبي عنها؛ لإتقانه وضبطه ولفضل حفظه، ولتقدمه في العلم وعلو مرتبته فيه، ولأنه قد وافقه على ذلك غير واحد من أهل الحجاز منهم: عبد الله بن عبد الله وقبيصة ومحمد بن عبد الرحمن وأبو سلمة فقد وافقه

على ذلك إلا أن مالكًا وإن كان لم يرو ذلك إلا عن عبد الله عن أبي سلمة إلا كما أشرنا إليه وكما ذكرناه عنه، فإن الليث قد رواه عنه عن عبد الله عن أبي سلمة كما رواه الشعبي عن فاطمة سواء، ووافقه على ذلك يحيى بن أبي كثير مع جلالته وعلمه وفضل حفظه وإتقانه وعلو مرتبته، حتى لقد قال أيوب السختياني فيه ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المنقري، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: سمعت أيوب السختياني فيه يقول: "ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير" فقدمه على الناس جميعًا. ووافق يحيى على ذلك الحارث بن عبد الرحمن خال: ابن أبي ذئب -وهو رجل من أهل العلم صحيح الرواية- فروى عن أم سلمة عن فاطمة عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب مثل الذي رواه الشعبي، عن فاطمة، عن رسول الله -عليه السلام- فيه. قوله: "وليس كما توهم". أي هذا القائل، والباقي ظاهر. ص: وكان من قول هذا المخالف أيضًا أن قال: ولو كان أصل حديث فاطمة كما رواه الشعبي لكان موافقًا لمذهبنا أيضًا؛ لأن معنى قوله: "لا نفقة لك" لأنك غير حامل، "ولا سكنى لك" لأنك بذية، والبذاء هو الفاحشة التي قال الله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) وذكر في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنه سئل عن قوله: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) فقال: الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم". قال: ففاطمة حرمت السكنى ببذائها، والنفقة لأنها غير حامل. قال: وهذا حجة لنا في قولنا: إن المبتوتة لا تجب لها النفقة إلا أن تكون حاملاً. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1].

ش: أراد من المخالف هذا هو الشافعي؛ لأنه أشار به إلى القائل في قوله: "فقال قائل" وكان المراد من هذا القائل هو الشافعي. وتحقيق هذا الكلام أن الشافعي أجاب في كتبه حين اعترض عليه بأن استدلالك بحديث فاطمة بنت قيس على ما ذهبت إليه من وجوب السكنى دون النفقة للمبتوتة؛ ليس بحجة لك وإنما هو حجة عليك؛ لأن فيه عدم وجوب السكنى والنفقة جميعًا، وأنت أوجبت السكن دون النفقة، وفيه عدم النفقة للمبتوتة مطلقًا وأنت قلت: إذا كانت حاملًا فلها النفقة بجوابين: أحدهما: بطريق المنع، وهو قوله: لم يجئ تخليط حديث فاطمة إلا مما رواه الشعبي، وقد ردَّه الطحاوي كما ذكرناه. والآخر: بطريق التسليم، وهو أنه قال: ولئن سلَّمنا أن أصل الحديث مثل ما رواه الشعبي فهو أيضًا موأفق لمذهبنا؛ لأن معنى قوله: "لا نفقة لك" إلى آخره. فهذا جواب بعد التسليم بهذا التأويل الذي ذكره، وهو ظاهر. وقوله: "بذية" أي في لسانها فحش، يقال فلان بذئ اللسان إذا كان في قوله فحش، والبذاء -بفتح الباء وبالمد- مصدر، من قولك: بذوت على القوم وأبذيت بذاءً. وقال الشافعي: والبذاء هو الفاحشة التي قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) واستدل على ذلك بما روي عن ابن عباس: "الفاحشة المبينة أن تفحش على أهل الرجل وتؤذيهم" رواه الشافعي في كتبه (¬2). وأخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن عمرو بن أبي عمرو ميسرة المخزومي المدني مولى المطلب، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1]. (¬2) "الأم" (5/ 153، 340).

وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث سليمان بن بلال ... إلى آخره. وقال: قال الشافعي: سنة رسول الله -عليه السلام- في حديث فاطمة يدل على ما تأول ابن عباس، وهو البذاء. ص: قيل له: لو خُرِّج معنى حديث فاطمة من حيث ذكرت لوقع الوهم على عمر وعائشة وأسامة -رضي الله عنهم-، ومن أنكر ذلك على فاطمة معهم، وقد كان ينبغي أن يُنزل أمرهم على الصواب حتى يعلم يقينًا ما سوى ذلك، فكيف ولو صَحَّ حديث فاطمة لكان قد يجوز أن يكون معناه على غير ما حملته أنت عليه؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- حرمها السكنى لبذائها كما ذكرت ورأى أن ذلك هو الفاحشة التي قال الله -عز وجل-. وحرمها النفقة لنشوزها ببذائها التي خرجت به من بيت زوجها؛ لأن المطلقة لو خرجت من بيت زوجها في عدتها لم تجب لها نفقة حتى ترجع إلي منزله، فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي به خرجت من منزل زوجها، فهذا معنىً قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراده إن كان حديث فاطمة صحيحًا، وقد يجوز أن يكون أراد ما وصفت أنت، وقد يجوز أن يكون أراد معنىً غير هذين مما لا يبلغه علمنا، ولا نحكم على رسول الله -عليه السلام- أنه أراد في ذلك معنى بعينه دون معنى، كما حكمت أنت عليه؛ لأن القول عليه بالظن حرام كما القول بالظن على الله حرام، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في الفاحشة المبينة غير ما قال ابن عباس: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "قال في قول الله -عز وجل- {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) قال: خروجها من بيتها فاحشة مبينة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 432 رقم 15262). (¬2) سورة الطلاق، آية: [1].

وقد قال آخرون: إن الفاحشة المبينة أن تزني فتخرج ليقام عليها الحد، فمن جعل لك أن تثبت ما روي عن ابن عباس في تأويل هذه الآية، وتحتج به على مخالفك وتدع ما قال ابن عمر؟! ش: أي قيل لهذا المخالف، وأراد به الجواب عن ما قاله الشافعي وهو ظاهر. وأبين من ذلك ما قال الطحاوي في كتابه "الأحكام": فأما ما ذهب إليه الشافعي من إبطال النفقة على فاطمة؛ لأنها كانت غير ذات حمل فإنما تأول ذلك في حديثها ولم نجده منصوصًا وقد تأوله غيره على غير ما تأوله عليه، فتأوله على أنها إنما منعت بالبذاء الذي كان فيها الواجب به عليها الخروج من منزلها، وصار ذلك بالخروج الذي لزمها بالعمل الذي كان منها نشوزًا، فحرمت النفقة بذلك النشوز، كما نقول في المطلقة المستحقة للنفقة إذا نشزت بالخروج من منزل زوجها: لم يكن لها عليه نفقة ما كانت كذلك. فلم يكن أحد التأويلن اللذين ذكرناهما في حديث فاطمة أولى من الآخر به. ثم عدنا إلى النفقة على المطلقات الحوامل اللاتي لا رجعة عليهن لمن طلقهن فقال: قائلون من أهل العلم: أمره -عز وجل- إلى أولات الأحمال بالإنفاق عليهن إذ كُنَّ كذلك؛ دليل على أنهن إذا لم يَكُنَّ كذلك فلا نفقة لهن. فإن قيل: قول الطحاوي: فإنما ذلك تأويل في حديثها ولم نجده منصوصًا؛ فيه نظر؛ لأن عبد الرازق روى في "مصنفه " (¬1): عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: لا أرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة بنت قيس يسألها، فأخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص المخزومي ... " فذكر الحديث، "وأنه طلقها ثلاث تطليقات إذ خرج إلى اليمن مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأن عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام قالا: والله ما ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 20 رقم 12024).

لها نفقة إلا أن تكون حاملاً، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً، واستأذنته في الانتقال فأذن لها". قلت: قال ابن حزم: هذه اللفظة: "إلا أن تكوني حاملًا" لم تأت إلا من هذه الطريق، ولم يذكرها أحد ممن روى هذا الخبر عن فاطمة غير قبيصة، وعلة هذا الخبر أنه منقطع، لم يسمعه عبيد الله بن عبد الله لا من قبيصة ولا من مروان، فلا ندري ممن سمعه، ولا حجة في منقطع. قوله: "فهذا معنىً قد يجوز" أشار به إلى ما ذكره من قوله: فكذلك فاطمة منعت من النفقة لنشوزها الذي خرجت به من منزل زوجها. قوله: "ما وصفت أنت" خطاب للشافعي، وحاصله أن هذا الحديث يحتمل معاني كثيرة، وتعيين الشافعي المعنى الذي أوله تَحَكُّم؛ لأنه ترجيح بلا مرجح. فإن قيل: حديث ابن عباس الذي ذكره هو الذي يرجح ما ذكره. قلت: منع الطحاوي ذلك بقوله: "وقد روي عن ابن عمر في الفاحشة المبينة غير ما قال" أي غير ما قال هذا المخالف وهو الشافعي -رحمه الله-، يعني إذا رجحت تأويلك بما رويته عن ابن عباس من تفسير الفاحشة المبينة، نعارضك بما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "الفاحشة المبينة هي خروجها من بيتها". أخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، روى له الجماعة -عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ ¬

_ (¬1) "مصنف" ابن أبي شيبة " (4/ 189 رقم 19206) ولفظه غير ذلك وفيه هذا اللفظ منسوب إلى الشعبي في الأثر الذي يلي هذا.

بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) قال: "خروجها من بيتها فاحشة". قوله: "فمن جعل لك ... " إلى آخره. إشارة إلى أن ترجيح الشافعي ما تأوله بما روي عن ابن عباس، وترك ما روي عن ابن عمر أيضًا تحكم؛ لأن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بلا مرجح لا يسمع على أنه قد روي عن [غيرهما] (¬2) أيضًا في تفسير الفاحشة غير ما ذكراه، أشار إليه بقوله: "قال آخرون" أي جماعة آخرون وهم: الحسن البصري وزيد بن أسلم وحماد بن أبي سليمان؛ فإنهم قالوا: إن الفاحشة المبينة: أن تزني المعتدة فتخرج ليقام عليها الحدّ. وقتادة؛ فإنه قال: هي النشوز، فإذا فعلت حلَّ إخراجها. والضحاك فإنه قال: هي عصيان الزوج. والطبري فإنه قال: هي كل معصية. ص: وقد روي عن فاطمة بنت قيس في حديثها معنىً غير ما ذكرنا؛ وذلك أن أبا شعيب البصري صالح بن شعيب حدثنا، قال: ثنا محمد بن المثنى الزَّمن، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت: "قلت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني وهو يريد أن يقتحم عليَّ، فقال: انتقلي عنه". فهذه فاطمة تخبر في هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- إنما أمرها أن تنتقل حين خافت زوجها. ش: أشار بهذا إلى أنه قد روي في سبب انتقال فاطمة بنت قيس من بيتها في عدتها، وفي قوله -عليه السلام-: "لا سكنى لك" معنىً غير المعاني المذكورة، وهو أن زوجها كان يريد أن يقتحم عليها، فأعلمت بذلك رسول الله -عليه السلام- فأمرها بالانتقال خوفًا عليها من اقتحام زوجها عليها، أي من دخوله عليها. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [1] (¬2) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

يقال: اقتحم النهر أي دخله، ويقال: اقتحم الإنسان الأمر العظيم وتقحمه إذا رمى بنفسه فيه من غير رَوِيَّة وتثبت. وأخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح، عن صالح بن شعيب بن أبان الزاهد البصري نزيل مصر، عن محمد بن المثنى بن عبيد الحافظ المعروف بالزَّمِن شيخ الجماعة، عن حفص بن غياث ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) عن محمد بن مثنى، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا هشام، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت: "قلت: يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثًا وأخاف أن يقتحم عليَّ، قال: فأمرها فتحولت". قال ابن حزم (¬2): قوله: "فأمرها فتحولت" ليس من كلام النبي -عليه السلام- ولا من كلام فاطمة؛ لأن نصّه: "قال: فأمرها فتحولت" يصح أنه من كلام عروة، ولا يخلو هذا الخبر من أن يكون لم يسمعه عروة عن فاطمة فيكون مرسلاً، ويوضح ذلك أنه حدثنا به يونس بن عبد الله بن مغيث، قال: ثنا محمد بن أحمد بن خالد، ثنا أبي، نا محمد بن وضاح، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن هشام ابن عروة، عن أبيه قال: "قالت فاطمة بنت قيس: يا رسول الله، إني أخاف أن يقتحم عليَّ، فأمرها أن تتحول". فإن كان هذا هو أصل هذا الخبر فهو منقطع، ولا حجة في منقطع. أو يكون عروة سمعه من فاطمة فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله -عليه السلام- قال: إنما آمرك بالتحول من أجل خوفك أن يقتحم عليك، وإذا لم يقل -عليه السلام- هذا فليس يحل لمسلم يخاف النار أن يقول أنه -عليه السلام- إنما أمرها بالتحول من أجل ذلك؛ لأنه إخبار عن النبي -عليه السلام- بما لم يخبر به عن نفسه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1121 رقم 1482). (¬2) "المحلى" (10/ 300).

قلت: كل ما ذكره تنقضه رواية الطحاوي؛ لأنه صرَّح فيها بأنه -عليه السلام- قال لها: "انتقلي" فافهم. ص: فقال قائل: وكيف يجوز هذا وفي بعض ما قد رويت في هذ الباب أنه طلقها وهو غائب -أو طلقها ثم غاب- فخاصمت ابن عمه في نفقتها، وفي هذا أنها كانت تخافه، فأحد الخبرين يخبر أنه كان غائبًا، والخبر الآخر يخبر أنه كان حاضرًا فقد تضاد هذان الخبران؟ قيل له: ما تضادَّا؛ لأنه قد يجوز أن تكون فاطمة لمَّا طلقها زوجها خافته على الهجوم عليها، فسالت النبي -عليه السلام- فأفتاها بالنقلى، ثم غاب بعد ذلك ووكل ابن عمِّه بنفقتها، فخاصمت حينئذٍ في النفقة وهو غائب، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: "لا سكنى لكِ ولا نفقة" فاتفق معنى حديث عروة هذا ومعنى حديث الشعبي وأبي سلمة ومَنْ وافقهما على ذلك عن فاطمة. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث هشام بن عروة يخبر أن زوج فاطمة بنت قيس قد طلقها وهو حاضر، وفي حديث الشعبي وأبي سلمة وغيرهما أنه طلقها وهو غائب، وبين الخبرين تضاد. والجواب ظاهر، وحاصله أنه طلقها وهو حاضر ثم غاب، والدليل عليه رواية أبي الزبير المكي "أنه سأل عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده أبي عمرو فاطمة بنت قيس، فقال له عبد الحميد: طلقها البتة ثم خرج إلى اليمن"، فهذا صريح في أنه طلقها وهو حاضر ثم سافر بعد الطلاق، بل رواية داود بن أبي هند وسيار ومجالد عن الشعبي تنوه بأنه إنما سافر بعد الطلاق، وبعد مخاصمة فاطمة إياه إلى رسول الله -عليه السلام- حيث صرح الشعبي في روايته وقال: "دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله -عليه السلام- عليها فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله -عليه السلام- في السكنى والنفقة".

فإن قيل: قد صرح بذلك في رواية بأنه طلقها وهو غائب، حيث قال مالك عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير ... " الحديث. قلت: قوله: "وهو غائب" جملة اسمية وقعت حالًا، ولكنها من الأحوال المنتظرة، تقديره: طلقها البتة والحال أنه يريد الغياب في السفر لا أنه طلقها وهو غائب حقيقة، ونظير هذه الحال نظير قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} (¬1) ما يريد الدخول ما كانوا محلقين، وإنما معناه: مقدرين التحليق، فكذلك ها هنا معناه: طلقها وهو مقدر السفر والغياب، ولولا هذا التقدير لم يندفع التعارض. فافهم. قوله: "ووكل ابن عمه" أي وكل زوج فاطمة وهو أبو عمرو بن حفص بن عمر ابن عمه وهو عياش بن أبي ربيعة المخزومي -رضي الله عنه-. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المطلقة طلاقًا بائنًا وهي حامل من زوجها أن لها النفقة على زوجها، وبذلك حكم الله لها في كتابه فقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2)، فاحتمل أن تكون تلك النفقة جعلت على المطلق؛ لأنه يكون عنها ما يغذي الصبي في بطن أمه، فيجب ذلك عليه لولده كما يجب عليه أن يغذيه في حال رضاعه بالنفقة على من ترضعه وتوصل الغذاء إليه، ثم يغذيه بعد ذلك بما يغذى به مثله من الطعام والشراب، فيحتمل أيضًا إذا كان حملا في بطن أمه أن يجب على أبيه غذاؤه بما يغذى به مثله في حاله تلك من النفقة على أمه؛ لأن ذلك يوصل الغذاء إليه. ويحتمل أن تكون تلك النفقة إنما جعلت للمطلقة خاصة لعلة العدة لا لعلة الولد الذي في بطنها، فإن كانت النفقة على الحامل إنما جعلت لها لمعنى العدة؛ ثبت قول الذين قالوا: للمبتوتة النفقة والسكنى حاملاً كانت أو غير حامل. ¬

_ (¬1) سورة الفتح، آية: [27]. (¬2) سورة الطلاق، آية: [6].

وإن كانت العلة التي لها وجبت النفقة هي الولد فإن ذلك لا يدل على أن النفقة واجبة لغير الحامل، فاعتبرنا ذلك لنعلم كيف الوجه فيما أشكل من ذلك، فرأينا الرجل يجب عليه أن ينفق على ابنه الصغير في رضاعه حتى يستغنى عن ذلك، وينفق عليه بعد ذلك ما ينفق على مثله ما كان الصبي محتاجًا إلى ذلك، فإن كان غنيًّا بمال له قد ورثه من أمه أو قد ملكه بوجه سوى ذلك من هبة أو غيرها لم يجب على أبيه أن ينفق عليه من ماله، وأنفق عليه مما ورث أو مما وهب له، فكان إنما ينفق عليه من ماله لحاجته إلى ذلك، فإذا ارتفع ذلك لم يجب عليه الإنفاق عليه من ماله، ولو أنفق عليه الأب من ماله على أنه فقير إلى ذلك بحكم القاضي له عليه، ثم علم أن الصبي قد كان وجه له مال قبل ذلك بميراث أو غيره، كان للأب أن يرجع بذلك المال الذي أنفقه في مال الصبي الذي وجب له بالوجه الذي ذكرنا. وكان الرجل إذا طلق امرأته وهي حامل، فحكم القاضي لها عليه بالنفقة فأنفق عليها حتى وضعت ولدًا حيًّا وقد كان له أخ من أمه مات قبل ذلك فورثه الولد وأمه حامل به لم يكن للأب -في قولهم جيعًا- أن يرجع على ابنه بما كان أنفق على أمه بحكم القاضي لها عليه بذلك إذا كانت حاملًا به، فثبت بذلك أن النفقة على المطلقة الحامل هي لعلة العدة التي هي فيها من الذي طلقها، لا لعلة ما هي به حامل منه. فلما كان ما ذكرناه ثبت أن كل معتدة من طلاق فلها من النفقة مثل ما للمعتدة من الطلاق إذا كانت حاملًا قياسًا ونظرًا على ما ذكرناه مما وصفنا وبيَّنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر حاصله: أن المطلقة إذا كانت حاملاً تجب لها عليه النفقة بنص القرآن ولكن لا يخلو من أن تكون مستحقة للحمل أو لأنها محبوسة عليه في بيته؛ فلو كانت مستحقة للحمل لوجب أنه إذا كان للحمل مال أن ينفق عليها من ماله كما أن نفقة الصغير في مال نفسه.

فلما اتفق الجميع على أن الحمل لو كان له مال كانت نفقة أمه على الزوج لا في مال الحمل؛ دل على أن وجوب النفقة متعلق بكونها محبوسة في بيته؛ فإذا كانت العلة ذلك ثبت أن كل معتدة من طلاق لها النفقة مثل ما للمعتدة من الطلاق إذا كانت حاملاً؛ قياسًا ونظرًا. وأيضًا كان يجب أن يكون في الطلاق الرجعي نفقة الحامل في مال الحمل إذا كان له مال كما أن نفقته بعد الولادة في ماله، فلما اتفق الجميع على أن نفقتها في الطلاق الرجعي لم تجب في مال الحمل وجب مثله في البائن. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فما فائدة تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة؟ قلت: لأن مدة الحمل قد تطول وقد تقصر فأراد بذلك إعلامنا وجوب النفقة. فإن قيل: ما حكم المتوفى عنها زوجها في هذا الباب؟ قلت: لا يخلو إما أن تكون حاملاً أو لم تكن، فإن لم تكن فاتفق العلماء كلهم على أن لا نفقة لها ولا سكنى، وإن كانت حاملاً ففيه اختلاف بين الصحابة ومَنْ بعدهم؛ فقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وشريح وأبو العالية والشعبي وإبراهيم: نفقتها في جميع المال. وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير والحسن البصري وسعيد بن المسيب: لا نفقة لها في مال الزوج بل هي على نفسها. واختلف فقهاء الأمصار أيضًا، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد وزفر: لا سكنى لها ولا نفقة لها في مال الميت، وإن كانت حاملاً فلها السكنى إن كانت الدار للزوج، وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بنفسها حتى تنقضي عدتها، وإن كانت في بيت بكرى فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج. هذه رواية ابن وهب أيضًا، وقال ابن القاسم عن مالك: لا نفقة لها في مال الزوج الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت، وان كان على الميت دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء، وتباع للغرماء بشرط السكنى على المشترى.

وقال الثوري: إن كانت حاملاً؛ أنفق عليها من جميع المال حتى تضع، فإذا وضعت أنفق على الصبي من نصيبه. وروى المعافى عن الثوري: إن نفقتها من حصتها. وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل: لا نفقة لها، وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال، فإذا ولدت كان ذلك في حظ ولدها، وإن لم تلد كان ذلك دينًا يُتبع به. وقال الحسن بن صالح: للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال. وقال الشافعي: لها السكنى والنفقة. وعنه: لا سكنى ولا نفقة. وقال ابن حزم (¬1): وأما المتوفى عنها الحامل، فطائفة قالت: إن كانت وارثةً فمن نصيبها حاملاً كانت أو غير حامل، وإن لم تكن وارثة فمن نصيب ذي بطنها إن كان وارثًا، فإن لم يكونا وارثين فمن مال نفسها إن كان لها مال وإلا فهي أحد فقراء المسلمين، فإن مات ذو بطنها قبل أن يخرج حيًّا ردَّت ما أنفق عليها من نصيبه إلى الورثة. وتفسير قولنا: إن لم يكن وارثًا أن تكون أسلمت بعد موت زوجها وهو كافر فيكون هو مسلمًا بإسلام أمه ولا يرث كافرًا مسلم. وهذا قولنا. وقالت طائفة: إن كان المال كثيرًا أنفق عليها من نصيبها، فإن كان قليلاً فمن جميع المال. وقالت طائفة: نفقتها من جميع المال. وقالت طائفة: إن كانت وارثة أو لم تكن نفقتها عليها من مالها إن كان لها مال، ومن سؤلها إن كان لا مال لها من ميراثها ولا من ميراث ذي بطنها ولا من جميع المال. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 288 - 289).

فالقول الأول كما روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "نفقة المتوفى عنها الحامل من نصيبها". وكذا روي عن ابن عباس وعطاء والحكم بن عتيبة وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وعامر الشعبي، ثم قال: وبه يقول أبو حنيفة وأحمد وأبو سليمان وجميع أصحابهم، وهو أحد قولي الشافعي وأحد قولي سفيان. والقول الثاني: كما روينا من طريق سعيد بن منصور، نا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم النخعي، قال في المتوفى عنها زوجها "كان أصحابنا يقولون: إن كان المال كثيرًا أنفق عليها من نصيبها، وإن كان قليلًا أنفق عليها من جميع المال. والقول الثالث: انقسم القائلون به أقسامًا؛ فقالت طائفة: إن ورثت فمن نصيب ذي بطنها، وإن لم ترث فمن جميع المال. وطائفة قالت: نفقة الحامل المتوفى عنها من جميع المال. وقالت طائفة: لها النفقة من رأس المال حاملاً كانت أو غير حامل ما كانت في العدة. والقول الرابع: كما روينا [من] (¬1) طريق عبد الرازق، عن ابن جريج، قال: سئل ابن شهاب عن المتوفى عنها على مَنْ نفقتها؟ فقال: "كان ابن عمر يرى نفقتها حاملاً كانت أو غير حامل من جميع المال الذي ترك زوجها". وكذا روي عن علي وابن مسعود وشريح وقتادة وحماد بن أبي سليمان والمغيرة وإبراهيم والحسن وعطاء بن أبي رباح. ثم قال: وهو قول أيوب السختياني وابن أبي ليلى والحسن بن حي وأبي عبيد، وأحد قولي سفيان، وأحد قولي الشافعي. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وقال مالك: لا ينفق عليها من نصيبها ولا من نصيب ذي بطنها ولا من جميع المال حتى تضع ولا ينصف الغرماء من ديونهم حتى تضع. ص: وقد روي ذلك عن عمر وعبد الله -رضي الله عنهما-. وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال: "المطلقة ثلاثًا لها النفقة والسكنى". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن المغيرة، عن إبراهيم مثله. ش: أي قد روي وجوب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وقد مرَّت روايتهما فيما مضى في هذا الباب، وكذا روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم بن يزيد النخعي. أما ما روي عن سعيد، فأخرجه بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمرو الأسدي الجزري، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عنه. وأما ما روي عن إبراهيم، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي بشر عبد الملك ابن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم. وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن شبابة، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح قال: "المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 137 رقم 18661).

وأخرج أيضًا (¬1) عن وكيع، عن المسعودي، عن الحكم أن شريحًا قال: "المطلقة ثلاثًا لها النفقة والسكنى". وعن وكيع أيضًا (¬2) عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم قال: "المطلقة ئلاثًا لها السكنى والنفقة". وأخرج عبد الرزاق (¬3) عن الثوري، عن حماد بن أبي سليمان قال: "للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة". وأخرج ابن حزم (¬4) من طريق إسماعيل بن إسحاق، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حميد، عن الحسن بن صالح بن حيي، عن السدي، عن الشعبي في المطلقة ثلاثًا قال: "لها النفقة والسكنى". والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 137 رقم 18664). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 137 رقم 18665). (¬3) وأخرجه في "المحلى" (10/ 288) بإسناده عن الثوري به. (¬4) "المحلى" (10/ 288).

ص: باب: المتوفى عنها زوجها هل لها أن تسافر في عدتها؟ وما دخل في ذلك من حكم المطلقة في وجوب الإحداد عليها.

ص: باب: المتوفى عنها زوجها هل لها أن تسافر في عدتها؟ وما دخل في ذلك من حكم المطلقة في وجوب الإحداد عليها. ش: أي هذا الباب في بيان حكم المرأة التي توفي عنها زوجها، هل يجوز لها أن تسافر في عدتها؟ وهل يجوز لها أن تخرج من بيتها؟ وفي بيان ما يجب على المطلقة من الإحداد. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: تقول: حدَّت المرأة على زوجها تحِدُ وتَحَدُّ إذا تركت الزينة فهي حادّ، ويقال أيضًا: أحَدّت فهي مُحِدٌّ، وقال القزاز إنما كانت بغير هاء؛ لأنه لا يكون للذكر. وعن الفراء: حدّت المرأة حدادًا وقال ابن درستويه: المعنى أنها منعت الزينة نفسها والطيب بدنها ومنعت بذلك الخطاب خطبتها والطمع فيها، كما منع حدّ السكين وحدّ الدار ما منعا. وفي "نوادر اللحياني" بأحدّ جاء الحديث لا تُحدُّ، قال: وحكى الكسائي عن عُقَيْل: حدَّت بغير ألف. وقال الفراء: كان الأولون من النحويين يؤثرون أحدَّت فهي مُحِدّ، والأخرى أكثر في كلام العرب، وسُمِّي الحديد حديدًا للامتناع به، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات، وفي "شرح التدميري": يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة وما كانت عليه قبل ذلك، وفي "تقويم المفسد" لأبي حاتم: أَبَى الأصمعي إلا أحدَّت ولم يعرف حدَّت. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم (ح). وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قالا جميعًا: عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "طلقت خالة لي، فأرادت

أن تخرج في عدتها إلى نخل لها، فقال لها رجل: ليس لكِ ذلك، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: اخرجي إلى نخلك وجدِّيه؛ فعسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفًا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: سمعت جابرًا يقول: "أخبرتني خالتي أنها طلقت البتة، فأرادت أن تجدَّ نخلها، فزجرها رجال أن تخرج، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: بل تجدِّي نخلك، فإنك عسى أن تصَّدقي وتفعلي معروفًا". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج. ونا محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرازق، قال: ثنا ابن جريج. وحدثني هارون بن عبد الله -واللفظ له- قال: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "طلِّقت خالتي، فأرادت أن تجدّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: بلى، فجدِّي نخلك فإنك عسى أن تصَّدَّقي أو تفعلي معروفًا". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. وهذا أيضًا صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1121 رقم 1483).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدثني أبو الزبير، عن جابر قال: "طلِّقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجدّ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال لها النبي -عليه السلام-: اخرجي فجدِّي نخلك؛ لعلك أن تصَّدَّقي منه أو تفعلي خيرًا". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال- عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر. وفيه رواية صحابي عن صحابية وهي خالة جابر -رضي الله عنه-. قوله: "طلِّقت خالة لي" على صيغة المجهول. و"خالة" مرفوع بإسناد "طلقت" إليها. قوله: "وجدِّيه" أمر من جدَّ الثمرة يجدها جدًّا، وهو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ. والِجدَاد -بالفتح والكسر- صرام النخل، وهو قطع ثمرتها. قوله: "أن تَصَّدقي" بفتح التاء، وأصله تتصدقي حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف. قولى: "أو معروفًا". وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن للمطلقة وللمتوقى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 699 رقم 2297). (¬2) "المجتبى" (6/ 209 رقم 3550). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 656 رقم 2034).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وابن جريج وجابر بن زيد والحسن البصري وطاوسًا وعمرو بن دينار وعكرمة؛ فإنهم قالوا: للمطلقة وللمتوفى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا. وروي ذلك عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهم-. وهو مذهب الظاهرية أيضًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما المتوفى عنها زوجها فإن لها أن تخرج في عدتها من بيتها نهارًا ولا تبيت إلا في بيتها، وأما المطلقة فلا تخرج من بيتها في عدتها لا ليلاً ولا نهارًا؛ وفرقوا بينهما لأن المطلقة في قولهم لها النفقة والسكنى في عدتها على زوجها الذي طلقها، فذلك يغنيها عن الخروج من بيتها، والمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها فلها أن تخرج في بياض نهارها تبتغي من فضل ربها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والليث وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، ولكن في مذاهبهم تفصيل؛ فعند الليث ومالك والثوري: تخرج المعتدة من النهار سواء كانت رجعية أو مبتوتة، ولا تخرج بالليل. وعند الشافعي: الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أما المتوفى عنها زوجها تخرج نهارًا ولا تبيت إلا في بيتها، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلاً ولا نهارًا. وحكى القاضي عياض عن محمد بن الحسن: أن الجميع لا يخرج، لا ليلاً ولا نهارًا. وقال الكاساني (¬1): المعتدة لا تخلو إما أن تكون معتدة عن نكاح صحيح أو نكاح فاسد، ولا تخلو إما أن تكون حرة أو أمة، بالغة أو صغيرة، عاقلة أو مجنونة، مسلمة أو كتابية، مطلقة أو متوفى عنها زوجها، والحال حال الاختيار، وحال الاضطرار. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (3/ 322 - 321) بتصرف واختصار.

فإن كانت معتدة من نكاح صحيح وهي حرة بالغة عاقلة مسلمة والحال حال الاختيار فإنها لا تخرج لا ليلاً ولا نهارًا، سواء كان الطلاق ثلاثًا أو بائنًا أو رجعيًّا. وأما المتوفى عنها زوجها فلا تخرج ليلًا، ولا بأس أن تخرج بالنهار في حوائجها، وروي عن محمد: أنه لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل، هذا في حال الاختيار، فأما في حال الضرورة فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها، فإن خافت سقوط منزلها أو خافت على متاعها أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة، فلا بأس عند ذلك أن تنتقل، وإن كانت تقدر على الأجرة لا تنتقل، وإن كان المنزل لزوجها وقد مات عنها فلها أن تسكن في نصيبها إن كان ما يصيبها من ذلك مما يكفى به في السكنى وتستتر عن سائر الورثة ممن ليس بمحرم لها، وإن كان نصيبها لا يكفيها أو خافت على متاعها منهم فلا بأس أن تنتقل. وكذا ليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر، إذا كانت معتدة من نكاح صحيح وهي على الصفات التي ذكرناها. ولا يجوز للزوج أن يسافر بها أيضًا. وكذا المعتدة من طلاق رجعي ليس لها أن تخرج إلى سفر سواء كان سفر حج فريضة أو غير ذلك، لا مع زوجها ولا مع غيره، حتى تنقضي عدتها أو يراجعها. وأما المعتدة في النكاح الفاسد فلها أن تخرج. وأما الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة فيخرجن في ذلك كله في الطلاق والوفاة، وكذا المجنونة لها أن تخرج من منزلها؛ لأنها غير مخاطبة كالصغيرة إلا أن لزوجها أن يمنعها من الخروج لتحصين مائه بخلاف الصغيرة فإن الزوج لا يملك منعها، وأما الكتابية فلها أن تخرج؛ لأن السكنى في العدة حق الله من وجه فتكون عبادة من هذا الوجه، والكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات، إلا إذا منعها الزوج لتحصين مائه، وإن أسلمت في العدة لزمها فيما بقي من عدتها ما لزم المسلمة. والله أعلم.

ص: وكان من الحجة لهم في حديث جابر الذي احتج به عليهم أهل المقالة الأولى: أنه قد يجوز أن [يكون] (¬1) ما ذكرنا فيه [كان] (1) في وقت ما لم يكن الإحداد يجب في كل العدة، فإنه قد كان ذلك كذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حبان (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا جبارة بن المغلس (ح). وحدثنا ربيع المؤذن وسليمان بن شعيب قالا: ثنا أسد، قالوا: ثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت: "لما أصيب جعفر -رضي الله عنه- أمرني رسول الله -عليه السلام- فقال: تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت". ففي هذا الحديث أن الإحداد لم يكن على المعتدة في كل عدتها، وإنما كان في وقت منها خاص، ثم نسخ ذلك وأمرت أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين، وأراد بها الجواب عن حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيان ذلك أن يقال: إن أذن النبي -عليه السلام- لخالة جابر بالخروج في عدتها يحتمل أن يكون إنما كان في وقت لم يكن فيه الإحداد واجبًا في كل العدة بل في أيام مخصوصة كما يدل عليه حديث أسماء بنت عميس؛ فإنه لما أصيب زوجها جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- في غزوة مؤتة في سنة ثمان من الهجرة أمرها رسول الله -عليه السلام- بالتسلب وهو لبس ثوب الحداد ثلاثة أيام، ثم قال لها: "اصنعي ما شئت" فهذا يدل على أن الإحداد لم يكن على المعتدة في جميع عدتها، بل كان في وقت منها معين، ثم نسخ ذلك بأحاديث زينب بنت جحش وعائشة ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأم سلمة وأم حبيبة وغيرهن على ما يجيء إن شاء الله، وأمرت المعتدة بالإحداد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وكلهم أجمعوا على هذا النسخ لتركهم حديث أسماء بنت عميس واستعمالهم أحاديث هؤلاء المذكورات، فإن كان كذلك؛ يُحتمل أن يكون ما أمرت به خالة جابر كان والإحداد إنما هو في ثلاثة أيام من العدة ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة؛ فكذلك نسخ الآخر بذلك أيضًا؛ فإن جابرًا -رضي الله عنه- قد روى عن النبي -عليه السلام- في إذنه لخالته في الخروج، ثم قال هو بخلافه على ما يأتي، فهذا أيضًا دليل على ثبوت نسخ ذلك عنده؛ إذ لو لم يكن عنده علم من النبي -عليه السلام- بأن ذاك منسوخ لم يكن يقدم إلى القول بخلاف ما روى؛ وذلك لأن الراوي إذا ظهر منه المخالفة قولاً أو فعلاً لما رواه، لا يخلو عن حالات: إما أن تكون روايته تلك تَقَوّلًا منه لا عن سماع، أو تكون فتواه وعمله بخلاف روايته على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث، أو عن غفلة ونسيان، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم روايته. فكل هذا يستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير وهو أن يكون قد علم انتساخ حكم روايته فأفتى بخلافها أو عمل بخلافها؛ وإنما قلنا: إن هذه الأشياء تستحيل في حق الصحابي إلا الوجه الأخير؛ لأن في الوجه الأول يكون الراوي كذابًا، وفي الوجه الثاني يكون فاسقًا، وفي الوجه الثالث يكون مغفلاً، وكل هذه تسقط الرواية، والصحابة -رضي الله عنهم- منزهون عن هذه الأشياء؛ فتعين الوجه الأخير، فافهم. ثم إنه أخرج حديث أسماء بنت عميس من خمس طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري، عن محمد بن طلحة بن مصرِّف اليامي، عن الحكم بن عتيبة -بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني، عن خالته أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث -زوج النبي -عليه السلام- لأمها.

وهذا إسناد صحيح، وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث محمد بن طلحة بن مصرِّف، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. ثم قال البيهقي: لم يثبت سماع ابن شداد منها، ومحمد ليس بالقوي، وقد قيل فيه: "أنَّ أسماء" مرسل. قلت: عبد الله بن شداد لم يذكر من المدلسين، والعنعنة من غير المدلس محمول على الاتصال إذا ثبت اللقاء أو أمكن على الاختلاف المعروف بين البخاري ومسلم، ولا يشترط ثبوت السماع. وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أنَّ "عن" و"أنَّ" سواء. قال: وأجمعوا على أن قول الصحابي: عن رسول الله -عليه السلام-، أو: أن رسول الله -عليه السلام- قال، أو: سمعت؛ سواء. ومحمد بن طلحة بن مصرِّف اتفق الشيخان عليه. فكيف يقول البيهقي: ومحمد ليس بالقوي؟ (¬2) وقد جاء لحديثه هذا متابعة وشاهد. أخرجه قاسم بن أصبغ من طريق شعبة: ثنا الحكم، عن عبد الله بن شداد: "أنه -عليه السلام- قال لامرأة جعفر: إذا كان ثلاثة أيام أو بعد ثلاثة أيام البسي ما شئت". وروي أيضًا من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد: "أن أسماء استأذنت النبي -عليه السلام- أن تبكي على جعفر، فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث لها: أن تطهري واكتحلي" ذكره ابن حزم في "المحلى" (¬3)، وذكر الحافظ ابن منده أيضًا رواية ابن سعد في "معرفة الصحابة". وأخرج أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا يزيد، نا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عتيبة، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 438 رقم 15300). (¬2) قلت: تكلم فيه أيضًا غير واحد من الأئمة، انظر ترجمته من "تهذيب الكمال" و"ميزان الاعتدال". (¬3) "المحلى" (10/ 280). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 369 رقم 27128).

عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت: "دخل عليَّ رسول الله -عليه السلام- اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: لا تحدِّي بعد يومك هذا". الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن حبان بن هلال أيضًا، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره. وهذا أيضًا صحيح. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن منهال وعاصم بن علي وأحمد بن يونس، قالوا: نا محمد بن طلحة بن مصرف، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: "لما أصيب جعفر أمرني رسول الله -عليه السلام- فقال: تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن جبارة بن مغلس الحماني الكوفي شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره. الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وسليمان بن شعيب الكيساني، كلاهما عن أسد بن موسى، عن محمد بن طلحة ... إلى آخره. قوله: "لما أصيب جعفر" وهو جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وابن عم النبي -عليه السلام- وكان قد أصيب في غزوة مؤتة كما ذكرناه عن قريب. قوله: "تسلبي" أمر من سلَّب تتسلب، ومعناه: البسي ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سُلُبٌ وتسلبت المرأة إذا لبِسَتْه، وقيل: هو ثوب أسود تغطي به المحد رأسها، ومنه حديث بنت أم سلمة: "أنها بكت على حمزة ثلاثة أيام فتسلبت" ¬

_ (¬1) "المعجم "الكبير" (24/ 139 رقم 369).

وقد احتج الحكم بن عتيبة بهذا الحديث أن المتوفى عنها زوجها لا حداد عليها، وقد ذكرنا أنه منسوخ فلا يعمل به. والله أعلم. ص: فمها روي في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن النبى -عليه السلام- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله وياليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". ش: أي: فمها روي في الأمر بالإحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرًا: حديث عائشة. أخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح. وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمد بن مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير ابن حرب -واللفظ ليحيى- قال يحيى: أنا: وقال الآخرون: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجها". وأخرجه النسائي (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن الزهري ... إلى آخره. قوله: "أن تُحِدَّ" في محل الرفع، و"أن" مصدرية، والتقدير: لا يحل الإحداد وهو الامتناع عن الزينة والطيب، وقد مر تفسيره مستقصًى عن قريب وهو بضم التاء وكسر الحاء؛ لأنه من أحدت تُحِدُّ إحدادًا، ويجوز بفتح التاء وضم الحاء من حدَّت تَحُدُّ حدادًا، والأول أكثر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1127 رقم 1491). (¬2) "المجتبى" (6/ 198 رقم 3525).

قوله: "أربعة أشهر وعشرًا" هذا لفظ عدد المؤنث، ولو كان هذا على ظاهره لاختصت به الليالي، وقال المبرد: أنث العشر؛ لأنه أراد به المدة، وقيل: أراد بذلك الأيام بلياليهن، وإلى هذا ذهب كافة العلماء أنها عشرة أيام بعد أربعة أشهر، وقال الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير: إنها أربعة أشهر وعشر ليال، وأن المعتدة تحل في اليوم العاشر، وحجتهما تأنيث العشر، والأصح قول الجمهور: إنها لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر. قوله: "عشرًا" نصب على الظرف، والعامل فيه "تُحِدُّ"، وقال القاضي: وقد احتج قوم بقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" على أن ما زاد على العدد إذا كانت حاملاً لا يلزم فيه إحداد، وقد قال أصحابنا: عليها الإحداد حتى تضع وإن تمادى أمرها، وقال ابن حزم: إن كانت عدة المتوفى عنها وضع حملها فلا بُدَّ لها من الإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ولا يجب عليها بعد ذلك. وقال القاضي: وفي قوله: "لا يحل لمؤمنة" حجة؛ لأحد القولين لمالك: إن الإحداد يختص بالمؤمنات دون الكتابيات؛ إذ ظاهره اختصاصه بالمؤمنات، وعلى قوله الآخر: إن الإحداد يلزم الكتابيات يكون هذا القول على التغليظ للمؤمنات. وبالقول الأول قال أبو حنيفة والكوفيون وابن نافع وابن كنانة وأشهب من أصحابنا. وبالثاني قال الشافعي وعامة أصحابنا. وقال القاضي أيضًا: وفي عمومه دليل على وجوب الإحداد لجميع الزوجات، المدخول بها وغيرها، والصغائر والكبائر، والإماء والحرائر، وأجمعوا أنه لا حداد على أمة أو أم ولد إذا توفي عنهن ساداتهن، وهو قول كافة العلماء في جميع ما ذكرناه. وقال أبو حنيفة: لا إحداد على الأمة ولا على الصغيرة، ولا خلاف في أن المطلقة واحدةً لا إحداد عليها، واختلف في الإحداد على المطلقة بثلاث، فذهب

مالك والليث والشافعي وربيعة وعطاء وابن المنذر: لا إحداد عليها. ومذهب أبي حنيفة والكوفيين وأبي ثور والحكم وأبي عبيد: أن المطلقة ثلاثًا كالمتوفى عنها زوجها في وجوب الإحداد. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. وشذَّ الحسن البصري في قوله: لا إحداد جملة على المطلقة والمتوفى عنها. انتهى. وقال الكاساني: لا خلاف بين الفقهاء أن المتوفى عنها زوجها يلزمها الإحداد، وقال نفاة القياس: لا إحداد عليها، وهم محجوجون بالأحاديث وإجماع الصحابة. واختلف في المطلقة ثلاثًا أو بائنًا، قال أصحابنا: يلزمها الإحداد. وقال الشافعي: لا يلزمها. وأما شرائط وجوبه فهو أن تكون المعتدة بالغة عاقلة مسلمة، من نكاح صحيح، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة ثلاثًا أو بائنًا، فلا يجب على الصغيرة والمجنونة الكبيرة والكتابية والمعتدة من نكاح فاسد والمطلقة طلاقًا رجعيًّا. وهذا عندنا. وقال الشافعي: يجب على الصغيرة والكتابية، وأما الحرية فليست بشرط لوجوب الإحداد؛ فيجب الإحداد على الأمة والمدبرة وأم الولد إذا كان لها زوج فمات عنها أو طلقها والمكاتبة والمستسعاة؛ لأن ما يجب له الإحداد لا يختلف بالرق والحرية، فكانت الأمة فيه كالحرة. والله أعلم. وقال القاضي عياض: قوله: "أن تحد على ميت" يدل [على] (¬1) اختصاص ذلك بالأموات دون المطلقات على ما ذهب إليه الجمهور. وقوله هذا محمول عند القائلين به على الوجوب لا على الندب. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

قلت: قوله: "إلا على زوج" يقتضي كل زوج فيشمل زوج المطلقة ثلاثًا أو بائنًا وزوج المتوفى عنها فيشمل الإحداد الجميع. فإن قيل: فيشمل أيضًا زوج الصغيرة وزوج الكتابية وزوج المجنونة ومع هذا لا يجب عليهن الإحداد. قلت: نعم، ولكن خرجت الكتابية بقوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله"، وأما الصغيرة والمجنونة فلكونهما لا تدخلان تحت الخطاب. فافهم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "لما جاء نعي أبي سفيان دعت أم حبيبة بصفرة فمسحت بذراعيها وعارضيها، وقالت: إني عن هذا لغنية لولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكرت مثل حديث عائشة -رضي الله عنها- سواء. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "بينما أنا عند أم حبيبة -رضي الله عنها- ... " ثم ذكرت مثل حديث يونس سواء. وزاد: قال حميد: وحدثتني زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة أنها قالت: "جاءت امرأة من قريش؛ بنت النحَّام إلى رسول الله -عليه السلام- فقالت: إنا نخاف على بصرها، فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا، قد كانت إحداكن تحِدّ على زوجها السنة، ثم ترمي على رأس السنة بالبعر". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع مولى الأنصار، أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أمها وأم حبيبة مثل ما في حديث ربيع عنهما. قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ فقالت: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها عمدت إلى شرِّ بيت لها فجلست فيه سنة، فإذا مرَّت به سنة خرجت ورمت ببعرة وراءها".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد الله بن أبي بكر، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنهما أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة؛ قالت: "دخلت على أم حبيبة -رضي الله عنها- ... " ثم ذكرت عنها مثل ما ذكرناه عنها فيما تقدم من هذه الأحاديث عن النبي -عليه السلام-. قالت: وسمعت أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكرت نحو ما ذكرناه عنها. قالت: "ودخلت على زينب بنت جحش ... " فذكرت عنها عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك. قالت: وسمعت أم سلمة تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكرت نحو ما ذكرناه في حديث يونس عن علي، وفي حديث ربيع عن شعيب، مما ذكراه في حديثيهما عن أم سلمة عن النبي -عليه السلام- في بنت النحام". ش: هذه أربع طرق صحاح على شرط مسلم، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا وعلي بن معبد، وهما أيضًا ثقتان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى بن عمرو القرشي الأموي المكي، عن حميد بن نافع الأنصاري مولى أبي أيوب الأنصاري، عن زينب بنت أبي سلمة -واسمه عبد الله بن عبد الأسد- المخزومية ربيبة النبي -عليه السلام-، أخت عمر بن أبي سلمة، وأمهما أم سلمة زوج النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): نا عمرو الناقد وابن أبي عمر -واللفظ لعمرو- قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "لما أتى أم حبيبة نَعِيُّ أبي سفيان، دعت في اليوم الثالث بصفرة فمسحت بذراعيها وعارضيها، وقالت: كنت عن هذا غنية، سمعت النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1124 رقم 1486).

يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". قوله: "لما جاء نَعِيُّ أبي سيفان". أي خبر موته، والنَّعِيُّ -بفتح النون وكسر العين وتشديد الياء، وجاء بسكون العين وتخفيف الياء- من نعى الميت ينعاه نعيًا ونعيًّا إذا ذاع موته وأُخْبِرَ، به وإذا ندبه. وقال الجوهري: النعي خبر الموت، يقال: نعاه ينعاه نعيًا ونُعيانًا بالضم، وكذلك النعي على فعيل، يقال: جاء نِعيّ فلان، والنَّعِيُّ أيضًا الناعي، وهو الذي يأتي بخبر الموت. وفي "المطالع": قوله: "نعي أبي سفيان" بإسكان العين وبكسرها وشد الياء، وهو اسم نداء الرجل الذي يأتي بالنعي، وهو أيضًا اسم الميت، ومنه قام النعيّ فأسمعا (¬1). وأبو سفيان اسمه صخر بن حرب بن أمية، والد معاوية وأم حبيبة -رضي الله عنها-، وكانت وفاته في خلافة عثمان -رضي الله عنه- سنة اثنتن وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين. وصلى عليه عثمان، وقيل: ابنه معاوية، وكان عمره ثمانيًا وثمانين سنة، وقيل: ثلاثًا وتسعين، وقيل غير ذلك. قوله: "دعت أم حبيبة بصفرة". أي طلبت بصفرة لتتخلق بها. واسم أم حبيبة: رملة. قوله: "وعارضيها" أي خديها، قال القرطبي: وأصل العوارض الأسنان، وسميت الخدود: عوارض من باب تسمية الشيء بالشيء إذا جاوره، وفي "الموعب" ¬

_ (¬1) هذا شطر بيت، وعجزه كما في "لسان العرب" (مادة: نعي): ونعى الكريم الأروعا. وانظر كتاب "العين" (2/ 256).

لابن التياني: العارض الخد، يقال: أخذ من عارضيه أي من خديه. وقال القزاز: عارض الوجه: صفحه أي خده. وقال الأزهري في "التهذيب": العارض: الخد، يقال: أخذ الشعر من عارضيه. وقال اللحياني: عارضا الوجه وعروضاه: جانباه. وقال ابن سيده: العارضان جانبا اللحية. وقال الجوهري: عارضي الإنسان: صفحتا خديه، وقولهم: فلان خفيف العارضين، يراد به خفة شعر عارضيه. قوله: "إني عن هذا لَغَنِيَّة. "اللام" فيها للتأكيد؛ فلذلك جاءت مفتوحة. قوله: "ثم ذكرت مثل حديث عائشة" يعني قالت: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا الربيع بن سليمان، ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، نا أيوب -وهو ابن موسى- قال حميد: وحدثتني زينب بنت أبي سلمة، عن أمها أم سلمة فقالت: "جاءت امرأة من قريش فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي رمدت أفأكحلها؟ -وكانت متوفى عنها- فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا، ثم قالت: إني أخاف على بصرها، فقال: لا، أربعة أشهر وعشرًا؛ قد كانت إحداكن في الجاهلية تحد على زوجها سنة ثم ترمي على رأس السنة بالبعرة". قوله: "بنتُ النَّحَّام" بالرفع عطف بيان لقوله: "جاءت امرأة من قريش". واسمها عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام -بفتح النون وتشديد الحاء المهملة- ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 205 رقم 3538).

وإنما سمي نعيم به؛ لأن النبي -عليه السلام- قال: "دخلت الجنة فسمعت نحمةً من نعيم -أي سعلة" فبقى عليه. وقد جاء اسمها مصرحًا في رواية ابن عمر من حديث عبد الله بن عقبة، عن أبي الأسود، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام: "أنها جاءت رسول الله -عليه السلام- فقالت: إن ابنتها توفي زوجها فحدت عليه، فرمدت رمدًا شديدًا، وقد خشيت على بصرها، هل تكتحل؟ قال: إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، قد كانت المرأة منكن تحد سنةً، ثم تخرج فترمي بالبعرة على رأس الحول". وقال ابن شكوال: اسم زوجها المغيرة. قوله: "فقال: لا، أريعة أشهر وعشرًا". فيه حذف، وتقديره: ليس خوفٌ على بصرها، فلتصبر أربعة أشهر وعشرًا، أو فلتحد أربعة أشهر وعشرًا. فهذا على تقدير انتصاب أربعة. ويجوز أن تكون بالرفع، والتقدير: ليس خوف على بصرها، ومدة الصبر والحداد أربعة أشهر، فحينئذٍ تكون العشر أيضًا مرفوعًا على الأربعة. فافهم. ويقال: "لا" ها هنا نهي تنزيه، والمعنى: لا تكتحل. قال النووي: جوزه بعضهم للحاجة وإن كان فيه طيب. ومذهبنا جوازه ليلاً عند الحاجة بما لا طيب فيه. وقال القرطبي: فإن اضطرت إلى الكحل قال بعضهم: تجعله بالليل وتمسحه بالنهار. وهو قول النخعي وعطاء وأبي حنيفة والشافعي ومالك. حكاه الباجي. قوله: "ثم ترمي على رأس السنة بالبعر". قيل: معناه أنها رمت بالعدة وراء ظهرها كما رمت بالبعرة، وقيل: هو إشارة إلى أن طول مقامها في سوء تلك الحال أسفًا على الزوج هينٌ لما توجبه المراعاة وكرم العشرة كما يهون الرمي بالبعرة.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي نزيل مصر، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حميد بن نافع ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، قالا: نا يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع أنه سمع زينب بنت أبي سلمة، تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة تذكران: "أن امرأة أتت النبي -عليه السلام- فذكرت أن ابنةً لها توفي عنها زوجها، فاشتكت عينها فهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله -عليه السلام-: قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة عند رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشرًا". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2)، وابن ماجه عنه في "سننه" (¬3)، والنسائي (¬4) أيضًا نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة: قالت: "دخلت على أم حبيبة -زوج النبي -عليه السلام- حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة -خلوق أو غيره- فدهنت منه جارية ثم مسحت بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1124 رقم 1488). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 199 رقم 19285). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 673 رقم 2084). (¬4) "المجتبى" (6/ 205 رقم 3539).

قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش زوج النبي -عليه السلام- حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا. قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- تقول: جاءت امرأة إلى النبي -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها أفأكحلها؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: لا -مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: لا- ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد بن نافع: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها، فلم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلَّ ما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بَعْدُ ما شاءت من طيب أو غيره. قال يحيى: قال مالك: الحِفْشُ البيت الرديء. وتفتض تمسح به جلدها كالنشرة". وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى عن مالك. وأبو داود (¬3): عن القعنبي عن مالك. والنسائي (¬4): عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2042 رقم 5024). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1123رقم 1486). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 700 رقم 2299). (¬4) "المجتبى" (6/ 201 رقم 3533).

والترمذي (¬1): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك إلى قوله: "قال حميد بن نافع"، نحو رواية الطحاوي. قوله: "فيه صفرة خلوق". برفع خلوق على أنه بدل من صفرة أو عطف بيان، ويجوز بالجر على إضافة الصفة إليه. و"الخَلُوق" -بفتح الخاء وضم اللام-: طيب معروف مركب يتخذ من رعوان وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. قوله: "بعارضيها". أي خديها، وقد ذكرناه مستوفى. قوله: "حين توفي أخوها" وهو عبيد الله بن جحش، خرج إلى الحبشة ثم تنصر بها، ومات على نصرانيته. قوله: "جاءت امرأة" هي عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام. قوله: "توفي زوجها" اسمه المغيرة كما ذكرناه فيما مضى. قوله: "وقد اشتكت عينيها". وفي رواية البخاري ومسلم: "وقد اشتكت عينها" بتوحيد العين، ثم قالت شرَّاح البخاري: يجوز ضم نون العين على أن تكون العين هي المشتكية، ويجوز فتحها على أن تكون في "اشتكت" ضمير الفاعل وهي المرأة الحادة، وقيل: رجح الأول بما وقع في بعض الروايات: "وقد اشتكت عيناها". قوله: "أفأكحلها". بهمزة الاستفهام، أي أفأكحل عينيها أنا؟ وفي رواية: "أفتكحلهما" أي أفتكحل عينيها هي، وفي رواية البخاري ومسلم: "أفنكحلها" [أي أفنكحل عينها] (¬2) هي. ثم هو من باب كَحَلَ يَكْحُلُ -كَنَصَرَ يَنْصُرُ- كَحْلًا بفتح الكاف. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 501 رقم 1197). (¬2) تكررت في "الأصل".

قوله: "دخلت حِفْشًا" الحِفْش -بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبالشين المعجمة- قد فسره مالك في روايته بالبيت الرديء، وهو بيت صغير حقير قريب السمك. وقال المازرى: هو خصٌّ حقير. وقال أبو عبيد: الحِفش البيت الذليل قريب السمك؛ سمي به لضيقه، والتحفش الانضمام والاجتماع. وكذلك قال ابن الأعرابي. وقال القاضي: هو الدرج، وجمعه أحفاش. وفي "المطالع" مثل الحِفْش شِبه القفة، تجمع فيه المرأة غزلها وسقطها كالدرج يصنع من الخوص يشبه البيت الصغير الحقير، ومنه: دخلت حفشًا لها. قوله: "حمارٍ". بالجر بدل من قوله: "بدابة"، وما بعده عطف عليه. قوله: "فتفتض به". قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالفاء والضاد المعجمة، قال القتيبي: سألت الحجازيين عنها فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا وتخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش. وقال مالك: تفتض به تمسح به جلدها كالنشرة. قلت: النشرة -بضم النون- ضرب من الرقية والطلع، يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يُكشف ويزال. وقال الحسن: النشرة من السحر، وفي الحديث أنه سئل عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان. وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه وعلى ظهره، وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل بالماء العذب حتى تصير بيضاء نقية كالفضة، وقيل: تفتض أي تفارق ما كانت عليه، وقال الأخفش: معناه تتنظف وتُنَقَّى من الدرن، تشبيهًا لها بالفضة في نقائها وبياضها. وقال الخليل: الفضض الماء العذب، يقال: افتضضت به إذا اغتسلت به.

وذكر الأزهري أن الشافعي رواه: "تقبص" بالقاف والباء الموحدة والصاد المهملة، وهو الأخذ بأطراف الأصابع، وقرأ الحسن: "فقبصت قبصة من أثر الرسول" (¬1) والمعروف الأول. وقال أبو داود (¬2): أخطأ فيه الشافعي وقال: تقبص. وفي "المطالع": فتفتض به بالفاء. كذا الرواية في هذه الكتب إلا أن المروزي رواه بالقاف في كتاب الطلاق، ونقله عنه بعضهم "فتقبض" بالباء، ومعنى الباء: تمسح به قبلها، فيموت بقبح ريحها وقذارتها، وسمي فعلها ذلك افتضاضًا؛ كأنه كسر لعدتها، والفض: الكسر. ص: حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن حفصة بنت عمر زوج النبي -عليه السلام-أو عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- أو عنهما كلتيهما-: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على متوفًى فوق ثلاث ليال إلا على زوجها". ش: إسناده صحيح. وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، روى له الجماعة. وصفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية أخت المختار بن أبي عبيد الكذاب، امرأة عبد الله بن عمر، قال العجلي: هي مدنية ثقفية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والحديث أخرجه مسلم (¬3): نا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وابن رمح، عن الليث بن سعد، عن نافع، أن صفية بنت أبي عبيد حدثته عن حفصة أو عن عائشة ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [96]. (¬2) رواه "أبو داود" في "سننه" (2/ 399 رقم 3868)، وأحمد في "مسنده" (3/ 294 رقم 14167) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1126 رقم 1490).

أو عن كلتيهما: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر -أو تؤمن بالله ورسوله- أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها". ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي -عليه السلام-وهي أم سلمة- عن النبي -عليه السلام- مثله. وزاد: "فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليًّا. وأيوب هو السختياني. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت نافعًا يحدث عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أمهات المؤمنين، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: أحدهما: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزول النبي -عليه السلام- نحوه. والآخر: عنه أيضًا، عن عارم أبي النعمان واسمه محمد بن الفضل السدوسي البصري، شيخ البخاري، وعارم لقبه، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1126 رقم 1490).

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج، ولا تكتحل ولا تطَّيب، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هشام بن حسان، عن حفصة، عن أم عطية، عن النبي -عليه السلام- مثله. غير أنه لم يذكر قوله: "إلا ثوب عَصْب". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن حفصة بنت سيرين -أخت محمد بن سيرين- عن يحيى: ثقة حجة، روى لها الجماعة، عن أم عطية -واسمها نُسَيْبَة- بنت كعب، ويقال: بنت الحارث الأنصارية الصحابية. وأخرجه البخاري (1): حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل، ولا نطَّيب، ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار، وكنا نُنْهى عن اتباع الجنائز". وأخرجه مسلم (¬2): ثثا أبو الربيع الزهراني قال: ثنا حماد قال: ثنا أيوب، عن حفصة، عن أم عطية ... إلى آخره نحوه. غير قوله: "وكنا ننهى عن اتباع الجنائز" (¬3). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 119 رقم 307). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1127 رقم 938). (¬3) وهذا الجزء من الحديث أخرجه أيضًا (2/ 646 رقم 938) من طرق ابن علية، عن أيوب.

وأخرجه بقية الجماعة (¬1) غير الترمذي. قوله: "إلا ثوب عَصْب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين وفي آخره باء موحدة. والعصب برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشيًّا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ، يقال: بردٌ عصب وبرود عصب بالتنوين والإضافة، وقيل: هي برود مخططة، والعصب الفتل، والعَصَّاب الغزَّال فيكون النهي للمعتدة عما صبغ بعد النسج. وقال أحمد بن نصر: قوله: ثوب عصب يعني النضرة وهي الحِبَر. وقوله الخضرة ليس بصواب. قاله القاضي. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس المصبغة والمعصفر إلا ما صبغ بالسواد، وّرخَّصَ في السواد مالك والشافعي، وهو قول عروة. وكره ذلك الزهري وكره عروة والشافعي العصب، وأجاز ذلك الزهري لها. وأجاز مالك غليظه. وقال ابن المنذر: ورخَّص كل من يُحفظ عنه العلم في البياض. وذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة فلا تلبسه الحادّ غليظًا كان أو رقيقًا، ونحوه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب قال: كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فتمتنع عنه الحادّ. ومنع بعض متأخري شيوخنا من جيد البياض الذي يتزين به ويتجمل، وكذلك الرفيع من السواد. وعن مالك: تجتنب الحِناء والصباغ إلا السواد إن لم يكن حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف، قال في "المدونة": إلا أن لا تجد غيره، ولا تلبس رقيقًا ولا عَصْب اليمن، ووسع في غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظ الحرير والكتان والقطن. ¬

_ (¬1) أبو داود (1/ 702 رقم 2302)، والنسائي (6/ 202 رقم 3534)، وابن ماجه (1/ 674 رقم 2087).

وقال النووي: ويجوز لها لبس الحرير في الأصح، وتحرم حلي الذهب والفضة وكذلك اللؤلؤة، وفي اللؤلؤة وجه أنه يجوز. والثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن هشام بن حسان الأزدي البصري، عن حفصة بنت سيرين ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): وقال: قال الأنصاري: حدثنا هشام، حدثتنا حفصة، حدثتني أم عطية: "نهى النبي -عليه السلام- ولا تمس الطيب إلا أدنى طهرها، وإذا طهرت نبذة من قسط وأظفار". قلت: الأنصاري هو محمد بن عبد الله بن المثنى، قاضي البصرة شيخه، ولعله أخذه عنه مذاكرةً فلهذا لم يأت عنه بصيغة التحديث. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا حسان بن غالب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، أنه سمع القاسم بن محمد يخبر، عن زينب، أن أمها أم سلمة أخبرتها: "أن ابنة نعيم بن عبد الله العدوي أتت رسول الله -عليه السلام- فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وهي محدة، وقد اشتكت عينيها، أفتكتحل؟ فقال: لا، فقالت: يا نبي الله، إنما تشتكي عينيها فوق ما تظن، أفتكتحل؟ قال: لا يحل لمسلمة أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج. ثم قال: أَوَلستن؛ كنتن في الجاهلية تحد المرأة السنة، وتُجعل في السنة في بيت وحدها إلا أنها تطعم وتسقى، حتى إذا كان رأس السنة أخرجت ثم أتيت بكلب أو دابة، فإذا مستها ماتت، فخفف ذلك عنهن وجعل أربعة أشهر وعشرًا". ش: حسان بن غالب بن نجيح المصري، ضعفه ابن حبان وغيره، ووثقه ابن يونس. وابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2042 عقب رقم 5028).

وأبو الأسود اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود المدني يتيم عروة، روى له الجماعة. وأخرجه الطبراني (¬1) مختصرًا: ثنا الحسن بن غليب المصري، ثنا عمران بن هارون الرملي (ح). وحدثنا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن، أنه سمع القاسم بن محمد يحدث، عن زينب، أن أم سلمة أخبرتها: "أن بنت نعيم بن عبد الله العدوي أتت النبي -عليه السلام- فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها -وكانت تحت المغيرة المخزومي- وهي تحدّ، وهي تشتكي عينيها، أفتكتحل؟ قال: لا، ثم صمتت ساعة، ثم قالت: إنها تشتكي عينيها فوق ما تظن، أفتكتحل؟ قال: لا، ثم قال: لا يحل لمسلمة أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا". قوله: "إن ابنة نعيم بن عبد الله" قد ذكرنا عن قريب أن اسمها عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام. قوله: "توفي زوجها" قد صرَّح الطبراني في روايته أن زوجها المغيرة المخزومي. قوله: "وهي محدة" جملة اسمية وقعت حالاً. ومحدَّة من أَحَدَّت تُحِدُّ إحدادًا. قوله: "أفتكتحل؟ " الهمزة فيه للاستفهام. ص: ففي هذه الآثار ما قد دل أن إحداد المتوفى عنها زوجها قد جعل في كل عدتها، وقد كان قبل ذلك في ثلاثة أيام من عدتها خاصةً على ما في حديث أسماء -رضي الله عنها-. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رويت عن عائشة وأم سلمة وأم حبيبة وحفصة بنت عمر وبعض أمهات المؤمنين وأم عطية -رضي الله عنهن- يعني هذه ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 349 رقم 818).

الأحاديث كلها تخبر أن إحداد المتوفى عنها زوجها قد جعل في جميع عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك بعد أن كان في ثلاثة أيام من عدتها خاصةً على ما بينه في حديث أسماء بنت عميس، وقد ذكرنا أنه نسخ بالأحاديث المذكورة، واستمر الحكم على أن تحد المرأة مقدار أيام عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، ولا تحد على ميت غير زوجها كثر من ثلاثة أيام. فإن قيل: قد روي عن النبي -عليه السلام- أنه رخَّص للمرأة أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، وعلى أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام. قلت: هذا حديث غير صحيح؛ لما قدمنا من أن أم حبيبة لما توفي أبوها تطيبت بعد ثلاثة أيام؛ ولعموم الأحاديث، ولأن هذا الحديث ذكره أبو داود في المراسيل (¬1) عن عمرو بن شعيب، أن النبي -عليه السلام- قال ... فذكره معضلاً، ثم إن ذكر أبي داود هذا في المراسيل غير موجه؛ لأن عمروًا ليس تابعيًّا، اللهم إلا إذا أراد بالإرسال الانقطاع، فيتجه حينئذٍ. فافهم. ص: ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في أمر الفريعة بنت مالك ما حدثنا يونس، قال: أخبرني أنس بن عياض، قال: أخبرني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة الأنصاري، عن زينب بنت كعب، قالت: أخبرتني الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنه أتاها نَعِيّ زوجها، خرج في طلب أعلاج له فأدركهم بطرف القدوم فقتلوه، قالت: فجئت رسول الله -عليه السلام- فقلت: يا رسول الله، إنه أتاني نَعِيّ، زوجي وأنا في دارٍ من دور الأنصار شاسعة عن دور أهلي، وأنا أكره القعدة فيها، وإنه لم يتركني في مسكن ولا مال يملكه ولا نفقة أنفق عليَّ، فإن رأيت أن ألحق بأخي فيكون أمرنا جميعًا، فإنه أجمع لي في شأني وأحب إلي. قال: إن شئت فالحقي بأهلك. قالت: فخرجت مستبشرة بذلك حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني -أو دعيت له- فقال: كيف زعمت؟ فرددت عليه ¬

_ (¬1) "مراسيل أبي داود" (1/ 295 رقم 409).

الحديث من أوله، فقال: امكثي في البيت الذي جاءك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فأرسل إليها عثمان -رضي الله عنه- فسألها فأخبرته فقضى به. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: حدثني الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن يزيد بن محمد، عن سعد بن إسحاق بن كعب ... ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: حدثني يزيد بن زريع، قال: حدثني شعبة وروح بن القاسم، جميعًا عن سعد بن إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن إسحاق ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن سعد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سعد ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يذكر سؤال عثمان إياها ولا قضائه به. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن سعد ... فذكر بإسناده مثله. غير أنه قال: الفارعة. ولم يقل: الفريعة. وذكر أيضًا سؤال عثمان إياها ولم يذكر قضاءه به. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن سعد بن إسحاق -أو إسحاق بن سعد- ثم ذكر بإسناده مثله. وقال: الفريعة، ولا أدري أذكر سؤال عثمان إياها وقضاءه به أم لا؟

ش: هذه ثمانية طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة القضاعي ثم البلوي المدني، قال يحيى والنسائي وابن حبان والدارقطني: ثقة. روى له الأربعة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة زوجة أبي سعيد الخدري، ذكرها ابن حبان في الثقات التابعيات، عن الفُرَيعة -بضم الفاء، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح العين المهملة، وبعدها تاء تأنيث- بنت مالك بن شيبان الخدرية الأنصارية، أخت أبي سعيد الخدري، ويقال لها: الفارعة أيضًا. وأخرجه الأربعة على ما نذكره، ولكن الطبراني (¬1) أخرجه بهذا الإسناد: ثنا أحمد بن عمرو الخلال، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا عبد العزيز بن محمد وأنس بن عياض ومروان بن معاوية، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، أخبرتني عمتي زينب بنت كعب، عن فريعة، عن النبي -عليه السلام- مثله. فإن قيل: كيف قلت: إنه صحيح وقد قال ابن حزم: في سنده زينب بنت كعب وهي مجهولة لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب، وهو غير مشهور بالعدالة، على أن الناس أخذوا عنه هذا الحديث آخرًا منه؛ ولأنه لم يوجد عند أحد سواه، فسفيان يقول: سعيد ومالك وغيره يقولون: سعد، والزهري يقول: عن ابن كعب بن عجرة. فبطل الاحتجاج به؛ إذ لا يحل أن يؤخذ عن رسول الله -عليه السلام- إلا ما ليس في إسناده مجهول ولا ضعيف. قلت: هو صحيح، وكلام ابن حزم فاسد، وليس في إسناده مجهول ولا ضعيف، أما المجهول الذي زعم أنه زينب بنت كعب بن عجرة فهو زعم فاسد؛ لأن زينب بنت كعب مشهورة؛ حتى إن أبا إسحاق الطليطلي وابن فتحون ذكراها في جملة الصحابة ومَنْ كانت بهذه المثابة فلا يقال فيها ما ذكره من الكلام الساقط. وأما ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1091).

الضعيف الذي زعم أنه سعد بن إسحاق فليس كذلك؛ لأنا ذكرنا أن جماعة قد وثقوه، وقال أبو عمر: هو ثقة لا يختلف في عدالته، وقال أيضًا: هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق. وأخرجه ابن حبان (¬1) وابن الجارود (¬2) والحاكم (¬3) والطوسي والأربعة (¬4). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ولم يلتفت إلى قول أحد، بل حكم عليه بالصحة. وأما ما ذكره سفيان: "يقول سعيد" فإن جماعة قالوا: وَهِمَ سفيان في تسميته، وأن مالكًا وغيره هم المصيبون في اسمه. قوله: "في طلب أعلاج له". الأعلاج جمع عِلْج -بكسر العين وسكون اللام- وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، ويجمع على علوج، وأريد بهم ها هنا مواليه من العجم. قوله: "بطرف القدوم" أي في طرف القَدُوم -وهو بفتح القاف وضم الدال المخففة- اسم موضع على ستة أميال من المدينة، وجاء في الحديث الآخر: "أن إبراهيم -عليه السلام- اختتن بالقدوم" قيل: هي قرية بالشام. والقَدُّوم -بتشديد الدال-: قَدُّوم النجار، ويقال بالتخفيف أيضًا. قوله: "شاسعة" أي بعيدة، يقال: رجل شاسع الدار أي بعيدها. قوله: "وأنا أكره القِعْدة فيها" بكسر القاف أي القعود، ولكن القعدة بالكسر تدل على هيئة مخصوصة، وبالفتح على المرة. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (10/ 128 رقم 4292). (¬2) "المنتقى" (1/ 190 رقم 795). (¬3) "المستدرك" (2/ 226 رقم 2832). (¬4) أبو داود (1/ 107 رقم 2300)، والنسائي (6/ 199 رقم 3528)، والترمذي (2/ 508 رقم 1204)، وابن ماجه (1/ 654 رقم 2031).

قوله: "حتى يبلغ الكتاب أجله" أراد به انقضاء عدتها. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه. وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها ليس لها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت. قاله أبو عمر. وقال ابن حزم (¬1) في "المحلى": وروينا من طريق عبد الرازق، عن ابن جريج، عن عطاء قال: "لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت". وروي كذلك عن الحسن البصري، وقد استوفينا الكلام فيه في أول الباب. الثاني: فيه إيجاب العمل بخبر واحد، ألا ترى إلى عمل عثمان -رضي الله عنه- به وقضائه في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيتها في جماعة من الصحابة من غير نكير؟ الثالث: فيه جواز إتيان المرأة إلى العالم وسؤالها عن ما أعضل عليها من أمر دينها. الرابع: فيه جواز خروج المعتدة من الوفاة عن بيتها بالنهار لأجل ضرورتها وحاجتها. الطريق الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن يزيد بن محمد بن قيس بن عكرمة المطلبي المصري -وثقه ابن حبان، وروى له البخاري مقرونًا بيزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 285).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبة، نا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن يزيد بن محمد، عن سعد بن إسحاق، عن عمته زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك: "أن زوجها تكارى علوجًا ليعملوا له فقتلوه، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- وقالت: إني لست في مسكنٍ له ولا يجري عليَّ منه رزق، أفأنتقل إلى أهلي وأقوم عليهم؟ قال: افعلي، ثم قال: كيف قلتِ؟ فأعادت عليه قولها، فقال: اعتدي حيث بلغك الخبر". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن منهال الضرير البصري الحافظ شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن شعبة بن الحجاج وروح بن القاسم التميمي العنبري البصري، كلاهما عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2): نا شعبة، عن سعد بن إسحاق، عن زينب، عن فريعة أخت أبي سعيد: "أن زوجها تَبِعَ أعلاجًا فقتلوه وهو في قرية من قرى المدينة، فأتت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، واستأذنت بأن تأتي إخوانها فتعتد عندهم، فأذن لها، ثم دعاها -أو دعيت له- فقال: امكثي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي -نزيل مصر- عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان، ثنا حماد بن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 199 رقم 3529). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 231 رقم 1664). (¬3) " المعجم الكبير" (24/ 440 رقم 1077).

زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن فريعة بنت مالك -قال حماد: وقد سمعته من سعد بن إسحاق-: "أن زوجها خرج في طلب غلام له فقتل بطرف القدوم، فأتت النبي -عليه السلام- فاستأذنته أن تنتقل إلى أهلها فأذن لها، فلما أدبرت ناداها، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". الخامس: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفريعة بنت مالك. وأخرجه مالك (¬1) في "موطإه": عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت مالك بن سنان -وهي أخت أبي سعيد الخدري- أخبرتها: "أنها جاءت إلى رسول الله -عليه السلام- تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة؛ فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أَبِقُوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله -عليه السلام- أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله -عليه السلام-: نعم. قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله -عليه السلام-أو أمر بي فنوديت له- فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان [عثمان] (¬2) -رضي الله عنه- أرسل إليَّ، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به". وأخرجه أبو داود (¬3): عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 591 رقم 1229). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 291 رقم 2300).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن الأنصاري، عن معن، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ثم اعلم أنه وقع في رواية يحيى بن يحيى، عن مالك، عن سعيد بن إسحاق بزيادة الياء بعد العين، وكذا وقع في رواية عبد الرازق والبخاري في "تاريخه"، ووقع في رواية الجمهور عنه سعد بدون الياء وهو الصحيح، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك عن قريب. السادس: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سعد بن إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، عن فريعة بنت مالك: "أن زوجها قتل بالقدوم، فأتت النبي -عليه السلام- فقالت: إن لها أهلاً، فأمرها أن تنتقل، فلما أدبرت دعاها، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". وهذا كما ترى وقع في روايته سعيد بالياء. السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن سعد بن إسحاق ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمد بن العلاء، نا ابن إدريس، عن شعبة وابن جريج ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن الفارعة بنت مالك: "أن زوجها خرج في طلب أعلاج -قال شعبة وابن جريج: وكانت في دار قاصية- فجاءت ومعها أخواها إلى رسول الله -عليه السلام- فذكروا له، فرخَّص لها، حتى إذا رجعت، دعاها فقال: اجلسي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 508 رقم 1204). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 34 رقم 12075). (¬3) "المجتبى" (6/ 199 رقم 3528)، و"السنن الكبرى" (3/ 393 رقم 5722).

الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية بن حديج، أحد الأئمة الحنفية الكبار، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة -أو إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة، وشك فيه زهير. وكذا أخرجه الطبراني (¬1): عن الفضل بن حباب، عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة -أو إسحاق بن سعد شك شعبة- أنه سمع عمته زينب تحدث عن فريعة: "أنها كانت مع زوجها في قرية من قرى المدينة، وأنه أتبع أعلاجًا فقتلوه، فأتت رسول الله -عليه السلام- فذكرت له الوحشة، وذكرت أنها استأذنته أن تأتي إخوتها بالمدينة فأذن لها، ثم دعاها فقال: امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله". ص: فمنع رسول الله -عليه السلام- الفريعة عن الانتقال من منزلها في عدتها، وجعل ذلك من إحدادها، وقد ذكرنا في حديث أسماء أن النبي -عليه السلام- قال لها: "تسلبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت" حين توفي زوجها وهو جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ ففي ذلك أنه ليس عليها أن تحد أكثر من ثلاث. وكلُّ قد أجمع أن ذلك منسوخ؛ لزكهم ذلك واستعمالهم حديث زينب بنت جحش وعائشة وأم سلمة وأم حبيبة، وما ذكرنا مع ذلك مما يوجب الإحداد في العدة كلها، وكل ما ذكرنا في الإحداد. وإنما قصد بذكره المتوفى عنها زوجها فاحتمل أن يكون ذلك للعدة التي تجب بعقد النكاح، فتكون كذلك المطلقة، عليها في ذلك من الإحداد في عدتها مثل ما على المتوفى عنها زوجها. واحتمل أن يكون ذلك خصت به العدة من الوفاة خاصةً. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (24/ 442 رقم 1081).

فنظرنا في ذلك إذ كانوا قد تنازعوا في ذلك واختلفوا، فقال قائلون: لا يجب على المطلقة في عدتها إحدادٌ. وقال آخرون: بل الإحداد عليها في عدتها كما هو على المتوفى عنها زوجها. فرأينا المطلقة في عدتها منهية عن الانتقال من منزلها في عدتها كما نهيت المتوفى عنها زوجها، وذلك حق عليها ليس لها ترك ذلك كما ليس لها ترك العدة. فلما ساوت المتوفى عنها زوجها في وجوب بعض الإحداد عليها ساوتها في وجوب كليته عليها. فثبت بما ذكرنا وجوب الإحداد على المطلقة في عدتها. ش: هذا كلام ظاهر، وقد حققناه في أول الباب. قوله: "وجعل ذلك" أي عدم انتقالها من منزلها. قوله: "وكلٌّ قد أجمع" أي الأخصام كلهم مجمعون "أن ذلك منسوخ". قوله: "إذ كانوا قد تنازعوا" أي حين كانوا قد تنازعوا. قوله: "فقال قائلون" وهم: عطاء بن أبي رباح وربيعة ومالك والشافعي والليث ابن سعد وابن المنذر وأهل الظاهر. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم: سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عتيبة وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأبو عبيد وأبو ثور، والشافعي في قول. وقد استوفينا ذكر ذلك فيما مضى. ص: وقد قال بذلك جماعة من المتقدمين: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال "سألت جابرًا: أتعتد المطلقة والمتوفى عنها زوجها أم تخرجان؟ فقال: لا، فقلت: أتتربصان حيث أرادتا؟ فقال جابر: لا".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الله بن محمد الفهمي، قال: أنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أنه قال في المطلقة: أنها لا تعتكف، ولا المتوفى عنها، ولا تخرجان من بيوتهما حتى توفيا أجلهما". فهذا جابر بن عبد الله قد روى عن النبي -عليه السلام- في إذنه لخالته في الخروج في جداد نخلها في عدتها، مما قد ذكرناه فيما قد تقدم من هذا الكتاب. ثم قال هو بخلاف ذلك؛ فهذا دليل على ثبوت نسخ ذلك عنده. وفي حديث جابر أيضًا الذي ذكرناه عنه من قوله؛ تسويته بين المطلقة والمتوفى عنها في ذلك؛ فلما كانتا في عدتهما سواء في بعض الأحداد، كذلك في كل الإحداد، وقد كان قبل ذلك في بعض العدة على ما ذكرنا في حديث أسماء، ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة، فيحتمل أن يكون ما أمرت به خالة جابر -رضي الله عنه- كان والإحداد إنما هو في الثلاثة الأيام من العدة، ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة. ش: أي وقد قال بوجوب الإحداد على المطلقة كالمتوفى عنها زوجها، وبعدم جواز انتقال المتوفى عنها زوجها من بيتها، جماعة من المتقدمين منهم: جابر بن عبد الله -رضي الله عنها- فإنه قد سوَّى بين المطلقة والمتوفى عنها زوجها في عدم جواز خروجهما من بيتهما، فكانتا في عدتهما سواء في بعض الإحداد، وهو النهي عن الخروج من البيت، فكذلك كانتا سواء في كل الإحداد، فوجب على المطلقة الإحداد كما وجب على المتوفى عنها زوجها، وقد ذكر فيما مضى أن الإحداد كان في بعض العدة وهو ثلاثة أيام كما صرَّح بذلك في حديث أسماء بنت عميس ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في كل العدة. فإذا كان كذلك يحتمل أن ما أمرت به خالة جابر من خروجها إلى جداد نخلها إنما كان حين كان وجوب الإحداد في ثلاثة أيام من العدة ثم نسخ ذلك وجعل الإحداد في جميع العدة، وقد حققنا هذا فيما مضى مستقصًى.

قوله: "فهذا جابر ... " إلى آخره. إشارة إلى بيان نسخ حديثه الذي روى عن خالته حين أذن لها بالخروج إلى جداد نخلها، وذلك لأن جابرًا قد أفتى بخلاف ذلك بعد روايته، فهذا يدل على أن ذلك قد نُسخ وثبت نسخه عنده، إذ لو لم يثبت ذلك لما أقدم إلى القول بخلافه. ثم إنه أخرج ما روي عن جابر من طريقين رجالهما ثقات، غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، ولكن الطحاوي قد يحتج بحديثه لما ثبت عنده من ثقته وأمانته، وكيف وقد روى عنه أئمة كبار مثل: الليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري ومات قبله، والأوزاعي ومات قبله، وعبد الله بن وهب. وعن أحمد: مَنْ كان بمصر مثل ابن لهيعة في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟! وحدث عنه أحمد بحديث كثير. قوله: "أتتربصان" من التربص وهو المكث والانتظار. فإن قيل: قول جابر هذا يعارضه قوله الآخر. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا محمد بن [ميسر] (¬2)، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن أبي الزبير، عن جابر أنهما قالا: "تعتد المتوفى عنها زوجها حيث شاءت". قلت: يحتمل أن يكون قوله هذا قبل قوله: "لا تخرج المتوفى عنها زوجها من بيتها" كما أنه قد روى عن خالته بما يوافق قوله هذا، ثم لما ظهر عنده انتساخ حديث خالته رجع عما قاله وأفتى بخلافه. والله أعلم. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن المتقدمين: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا منصور (ح). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 156 رقم 18876). (¬2) في "الأصل": مبشر. وهو تحريف، والمثبت من "المصنف"، و"تهذيب الكمال" ومصادر ترجمته.

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر -رضي الله عنه- ردَّ نسوة من ذي الحليفة توفي عنهن أزواجهن، فخرجن في عدتهن". ش: أي وقد روي أيضًا في عدم جواز خروج المتوفى عنها زوجها من بيتها إلى انقضاء عدتها عن المتقدمين، منهم: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. أخرج عنه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب. وأخرجه ابن حزم (¬1): من حديث منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر -رضي الله عنه- ردَّ نسوة من ذي الحليفة حَاجَّات أو معتمرات توفي عنهن أزواجهن". الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن منصور ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر -رضي الله عنه- ردَّ نسوةً حاجات أو معتمرات خرجن في عدتهن". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: "أن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت -رضي الله عنها- قالا في المتوفى عنها زوجها وبها فاقة شديدة، فلم يرخصا لها أن تخرج من بيتها إلا في بياض نهارها، تصيب من طعامهم، ثم ترجع إلى بيتها فتبيت فيه". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعًا. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 286). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 154 رقم 18848).

والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) في "مصنفه": ثنا وكيع، عن علي بن مبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن ابن ثوبان: "أن امرأة توفي عنها زوجها وبها فاقة، فسألت عمر -رضي الله عنه- أن تأتي أهلها، فرخص لها أن تأتي أهلها بياض يومها". ثنا وكيع (¬2)، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن "أن امرأة من الأنصار توفي عنها زوجها، فسألت زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فلم يرخص لها إلا في بياض يومها أو ليلتها" (1). قوله: "وبها فاقة" أي احتياج وفقر. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله وابن أبي ليلى وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه قال في المتوفى عنها زوجها: لا تبيت في غير بيتها". ش: إسناده صحيح. وقبيصة هو ابن عقبة شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري. وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي الفقيه، قاضي الكوفة، فيه مقال، ذكر متابعًا. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) في "مصنفه": ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا تبيت المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها إلا في بيتها حتى تنقضي عدتها". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن قسيط، عن مسلم بن السائب، عن أمه قالت: "لما توفي السائب ترك زرعًا بقناة، فجئت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن السائب توفي وترك ضيعة من زرع ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 155 رقم 18862). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 155 رقم 18863). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 153 رقم 18837).

بقناة، وترك غلمانًا صغارًا، ولا حيلة لهم، وهي لنا دار ومنزل، أفأنتقل إليها؟ قال: لا تعتدي إلا في البيت الذي توفي فيه زوجك، اذهبي إلى ضيعتك بالنهار وارجعي إلى بيتك بالليل فبيتي فيه، فكنت أفعل ذلك". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم، قد تكرر ذكره. والوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي، شيخ البخاري في غير الصحيح. وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني. ويزيد بن قسيط: هو يزيد بن عبد الله بن قسيط المدني الأعرج، روى له الجماعة. ومسلم بن السائب بن خباب صاحب المقصورة، قال ابن حبان: هو من التابعين الثقات، وأدخله قوم في الصحابة ظنوا أن له صحبة، روى له النسائي في "اليوم والليلة". وأمه أم مسلم (¬1). وأخرجه مالك (¬2) في "موطإه": عن يحيى بن سعيد: "أنه بلغه أن السائب بن خباب توفي، وأن امرأته جاءت إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فذكرت له وفاة زوجها، وذكرت له حرثًا لهم بقناة، وسألته: هل يصلح لها أن تبيت فيه، فنهاها عن ذلك، فكانت تخرج من المدينة سَحَرًا فتصبح في حرثهم، فتظل فيه يومها ثم تدخل المدينة إذا أمست فتبيت في بيتها". قوله: "لما توفي السائب" هو السائب بن خباب صاحب المقصورة، مولى فاطمة بنت عقبة بن ربيعة بن عبد شمس، له صحبة، توفي سنة سبع وستين. قوله: "بقناة" أي في قناة، قال ابن الأثير: القناة واد من أودية المدينة عليه حرث وزرع ومال، وقد يقال: وادي قناة وهو غير مصروف. قلت: للعلمية والتأنيث. ¬

_ (¬1) بيَّض لها المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "موطأ مالك" (2/ 592 رقم 1231).

قوله: "لا حيلة لهم" أي لا قوة لهم في العمل؛ لصغرهم. قوله: "أفأنتقل إليها" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "فَبِيتِي" بكسر الباء، أمر للمؤنث من بَاتَ يَبِيتُ، وللمذكر: بِتْ، كبِع وبيعي. واستفيد منه: أن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها أن تنتقل من بيتها حتى تنقضي عدتها، وأن لها أن تخرج بالنهار لأجل ضروراتها، ولا تبيت إلا في منزلها. وعن محمد بن الحسن: أنه لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل؛ لأن البيتوتة في العرف عبارة عن الكون في البيت أكثر الليل، فما دونه لا تسمى بيتوتة في العرف. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: سمعت أم مخرمة تقول: [سمعت] (¬1) أم مسلم بن السائب تقول: "لما توفي السائب فسألت ابن عمر عن الخروج فقال: لا تخرجي من بيتك إلا لحاجة، ولا تبيتي إلا فيه، حتى تنقضي عدتك". ش: هذا طريق آخر، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير أبي المسور المدني، عن مالك: كان رجلاً صالحًا. وعن أحمد: ثقة، ولم يسمع من أبيه شيئًا إنما يروي عن كتاب أبيه. وعن ابن معين: ضعيف. وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا في الوتر. روى له البخاري في "الأدب"، ومسلم وأبو داود والنسائي. عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي مولى بني مخزوم -روى له الجماعة. عن أم مخرمة (¬2). ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) بيَّض لها المؤلف -رحمه الله-.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "لا تنتقل المبتوتة من بيت زوجها في عدتها". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال في المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثًا: "لا تنتقلان، ولا تبيتان إلا في بيوتهما". ش: هذان وجهان آخران عن عبد الله بن عمر، وإسنادهما صحيح. وحسين بن مهدي بن مالك البصري، شيخ الترمذي وابن ماجه. ومعمر هو ابن راشد، والزهري هو محمد بن مسلم، والخصيب هو ابن ناصح الحارثي، وحماد هو ابن سلمة، وأيوب هو السختياني. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر نحوه. وابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن عبدة، عن عبيد الله، عن نافع نحوه. ص: حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كانت امرأة في عدتها، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنَّ ما ترين فإن أبي اشتكى، أفآتيه فَأُمُرِّضُه؟ قالت: بيتي في بيتك طرفي الليل". ش: سليمان هو ابن شعيب الكيساني. وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي، وثقه أبو حاتم (¬3). ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 26 رقم 12039). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 153 رقم 18837). (¬3) بل قال صدوق كما في "الجرح والتعديل" (5/ 235) وفيه: قال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن حبان: ربما أخطأ. كما في "الثقات" (8/ 374).

ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، لم يدرك أم سلمة -رضي الله عنها-، واسمها هند. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كانت امرأة تعتد من زوجها توفي عنها، فاشتكى أبوها، فأرسلت إلى أم سلمة تسألها: أتأتي أباها تمرضه؟ فقالت: إذا كنت أحد طرفي النهار في بيتك". قوله: "فاشتكى أبوها" أي مرض، من الشكْو وهو المرض، وكذلك الشكوى والشكاة والشكاية. قوله: "أن ما ترين" وفي بعض النسخ: "أن ما تأمرين" وكلاهما صحيح، و"أن" بالفتح والتخفيف: مفسرة. قوله: "أفآتيه، الهمزة للاستفهام، أي أفآتي أبي فأمرضه؟ من التمريض وهو القيام على المريض بمصالحه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، أنه سمع القاسم بن محمد "يرى أن تخرج المطلقة إلى المسجد". قال بكير: وقالت عمرة عن عائشة -رضي الله عنها-: "تخرج من غير أن تبيت عن بيتها". ش: رجاله ثقات؛ وقد ذكر مخرمة وأبوه بكير بن عبد الله الآن. والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-. وعمرة هي بنت عبد الرحمن الأنصارية، مدنية تابعية ثقة. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع: "أن ابنة سعيد كانت تحت عبد الله بن عمر فطلقها البتة، فانتقلت، فأنكر ذلك عبد الله بن عمر - رضي الله عنها". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 155 رقم 18864).

وسعيد هو ابن زيد أحد العشرة المبشرة. قوله: "البتة" أراد بها الطلاق البائن. قوله: "فأنكر ذلك" أي انتقالها من بيتها وهي معتدة عن الطلاق البائن. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن حميد بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج". ش: إسناده صحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا أبو خالد الأحمر، عن مالك بن أنس، عن حميد بن قيس، عن سعيد بن المسيب قال: "رد عمر -رضي الله عنه- نسوة توفي عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج" انتهى. و"البيداء" الصحراء المتصلة بذي الحليفة. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المطلقة إلا في بيتها". ش: أخرجه مالك في "موطإه" (¬3). ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن الدؤلي: "أن علقمة بن عبد الرحمن بن أبي سفيان طلق امرأة من أهله البتة، ثم خرج إلى العراق. فسألت ابن المسيب والقاسم وسالم بن عبد الله وخارجة وسليمان بن يسار: هل تخرج من بيتها؟ فكلهم يقول: لا، تقعد في بيتها". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 591 رقم 1230). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 154 رقم 18854). (¬3) "موطأ مالك" (2/ 592 رقم 1233).

ش: يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري شيخ البخاري. والليث هو ابن سعد، وأيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبو موسى المكي، روى له الجماعة. ومحمد بن عبد الرحمن بن نضلة الدؤلي من أهل المدينة، وثقه ابن حبان. والدُّؤَلِي -بضم الدال وفتح الهمزة- نسبة إلى الدئل من كنانة -بضم الدال وكسر الهمزة- وإنما تفتح في النسبة. وعلقمة بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب بن عبد العزى القرشي المدني، وهو الذي طلق امرأة من أهل محمد بن عبد الرحمن الدؤلي وكانت بنت عم محمد بن عبد الرحمن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا أبو زكير يحيى بن محمد القرشي، عن ابن عجلان، عن عبد الرحمن بن نضلة قال: "طلقت بنت عمٍ لي ثلاثًا البتة، فأتيت سعيد بن المسيب أسأله فقال: تعتد في بيت زوجها حيث طُلِّقت. قال: وسألت القاسم وسالمًا وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار، كلهم يقول مثل قول سعيد". قوله: "فكلهم يقول: لا" أي لا تخرج من بيتها. قوله: "تقعد في بيتها" كلام مستأنف وليس هو مدخول "لا" التي للنهى، أي تقعد في بيتها ولا تخرج. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام قال: ثنا حماد، عن إبراهيم قال: "المطلقة ثلاثًا والمختلعة والمتوفى عنها زوجها والملاعنة، لا يختضبن، ولا يتطيبن، ولا يلبسن ثوبًا مصبوغًا ولا يخرجن من بيوتهن". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 152 رقم 18834).

ومسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي البصري، شيخ البخاري وأبي داود. وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، روى له الجماعة. وحماد هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. وإبراهيم هو النخعي. وأخرجه أبو حنيفة: عن حماد، عن إبراهيم نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "تعتد المعتدة في بيت زوجها، ولا تكتحل بكحل زينة". وكذا أخرج عن محمد بن سيرين وابن المسيب، وقال (¬2): نا أبو داود، عن حماد ابن سلمة، عن أيوب، عن محمد، قال: "المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها لا تكتحلان ولا تختضبان". وثنا وكيع (¬3)، عن سفيان، عن عبد العزيز، عن سعيد بن المسيب قال: "المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها سواء في الزينة". ص: فهؤلاء الذين روينا عنهم الآثار من أصحاب رسول الله -عليه السلام- والتابعين قد منعوا المتوفى عنها من السفر والانتقال من بيتها في عدتها، ورخصوا لها في الخروج في بياض نهارها على أن تبيت في بيتها، وقد قرن بعضهم معها المطلقة المبتوتة فجعلها كذلك في منعه إياها من السفر والانتقال من بيتها في عدتها ولم يرخص أحد منهم لها في الخروج نهارًا كما رخص للمتوفى عنها زوجها في الخروج من بيتها في بياض نهارها على الضرورة. وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا كله ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 164 رقم 18964). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 164 رقم 18965). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 164 رقم 18963).

قوله: "وقد قرن بعضهم معها" أي مع المتوفى عنها زوجها، وأراد بالبعض عبد الله بن عمر من الصحابة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد ابن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار وإبراهيم النخعي -رضي الله عنهم-. ص: فإن قال قائل: فإن عائشة -رضي الله عنها- قد سافرت بأختها أم كلثوم في عدتها، وذكر في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا أحمد بن يونس، قال: حدثني جرير بن حازم، قال: سمعت عطاء يقول: "حجت عائشة بأختها أم كلثوم في عدتها". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو غسان، قال: حدثني جرير، قال: سمعت عطاء يقول: "حجت عائشة بأختها في عدتها من طلحة بن عبيد الله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أفلح، عق القاسم، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها حجت بأختها أم كلثوم في عدتها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة مثله. ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى أن للمطلقة والمتوفى عنها زوجها أن تسافرا في عدتهما إلى حيث ما شاءتا. تقريره أن يقال: إن ما رويتم من الآثار يعارضها ما روي عن عائشة؛ فإنها قد سافرت إلى مكة ومعها أختها أم كلثوم وهي في العدة من طلحة بن عبيد الله. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس -شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن جرير بن حازم، عن عطاء بن أبي رباح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن أسامة، عن القاسم. وعن جرير بن حازم، عن عطاء: "أن عائشة أحجت أم كلثوم في عدتها". الثاني: عن علي بن شيبة، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن جرير بن حازم، عن عطاء. وأخرجه عبد الرازق (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن عائشة: "أنها خرجت بأختها أم كلثوم -حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله- إلى مكة في عمرة". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن وكيع، عن أسامة، عن القاسم، عن عائشة، نحوه. الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أيوب بن موسى بن عمرو المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة. وأخرجه ابن حزم (¬4): من حديث حماد بن سلمة، عن قيس بن عباد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة أم المؤمنين: "أنها حجت بأختها أم كلثوم -امرأة طلحة بن عبيد الله- في عدتها في الفتنة" انتهى. وطلحة بن عبيد الله بن عثمان أحد العشرة المبشرين بالجنة، قتل يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وهو وابن أربع وستين، وقبره بالبصرة. وقال الواحدي: قتل يوم الجمل، قال خليفة: أصابته سهم غريب فقتله، قال العجلي: ويقال: إن مروان قتله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 325 رقم 14642). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 29 رقم 12054). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 325 رقم 14642). (¬4) "المحلى" (10/ 302).

ص: قيل له: إنما كان ذاك للضرورة؛ لأنهم كانوا في فتنة، وقد بين ذلك ما حدثنا أبو داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: "لما قتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل وسارت عائشة إلى مكة، بعثت عائشة إلى أم كلثوم وهم بالمدينة فنقلتها إليها لما تتخوف من الفتنة، وهي في عدتها". وهكذا نقول إذا كانت فتنة يخاف على المعتدة من الإقامة فيها، فهي في سعة من الخروج فيها إلى حيث أحبت من الأماكن التي تأمن مَنْ فيها من تلك الفتنة. ش: أي قيل لهذا القائل، وأراد به الجواب عما اعترضه، بيانه: أن ما ذكرتم من حج عائشة مع أختها أم كلثوم وهي في العدة إنما كان لأجل الخوف من عائشة على أم كلثوم؛ لأن زوجها طلحة بن عبيد الله قتل يوم الجمل كما ذكرنا، وكانت أم كلثوم في المدينة، ولما قدمت عائشة إلى مكة بعثت وراءها فنقلتها إلى مكة عندها؛ خوفًا عليها من الفتنة، قال: وقد بيَّن هذا المعنى القاسم بن محمد في حديثه. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق المدني، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-. قوله: "يوم الجمل" وهو يوم كانت فيه وقعة عظيمة بين علي وعائشة -رضي الله عنهما- وهي مشهورة، وكانت في سنة ست وثلاثين من الهجرة، وسميت يوم الجمل؛ لأن عائشة كانت يومئذٍ في هودج على جمل، ولم ينهزم عسكرها حتى عقروا جملها فوقع بالهودج، فانفلت الناس عنها فرجعت وجاءت إلى مكة. قوله: "وهكذا القول" يعني بجواز انتقال المعتدة عن الوفاة إلى حيث شاءت إذا كانت فتنة تخاف عليها، وكذا إذا خافت سقوط منزلها، أو خافت على متاعها من اللصوص، أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه من أجرته. والله أعلم. ***

ص: باب: الأمة تعتق ولها زوج هل لها خيار؟

ص: باب: الأمة تعتق ولها زوج هل لها خيار؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الأمة يعتقها مولاها ولها زوج، هل لها خيار في نفسها أم لا؟ ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان زوج بريرة حرًّا، فلما عتقت خيرها رسول الله -عليه السلام- فاختارت نفسها". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا بشر عبد الملك ابن مروان الرقي. وأبو معاوية اسمه محمد بن خازم -بالمعجمتين- الضرير. والأعمش هو سليمان. وإبراهيم هو النخعي. والأسود هو ابن يزيد النخعي. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن زوج بريرة كان حرًّا حين أعتقت، وأنها خيِّرت، فقالت: ما أحب أن أكون معه وأن لي كذا وكذا". وأخرجه الترمذي (¬2): وقال: نا هناد، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان زوج بريرة حرًّا، فخيرها رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام- فقال: أعتقيها فإنما الولاء لمن أعطى الوَرِق، قالت: فأعتقتها، فدعاها ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 270 رقم 2235). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 461 رقم 461). (¬3) "المجتبى" (6/ 163 رقم 3449).

رسول الله -عليه السلام- فخيرها من زوجها، قالت: لو أعطاني كذا وكذا ما أقمت عنده، فاختارت نفسها، وكان زوجها حرًّا". وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أنها أعتقت بريرة، فخيرها النبي -عليه السلام-، وكان لها زوج حر" انتهى. وبريرة كانت مولاةً لعتبة بن أبي لهب، وقال أبو عمر: كانت مولاة لبعض بني هلال، فكاتبوها، ثم باعوها من عائشة -رضي الله عنها-. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي هذا الحديث، وجعلوا للمعتقة الخيار، حرًّا كان زوجها أو عبدًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي والنخعي والثوري ومحمد بن سيرين وطاوسًا ومجاهدًا وحماد بن أبي سليمان والحسن بن مسلم وأبا قلابة وأيوب السختياني والحسن بن صالح وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأبا ثور؛ فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث، وقالوا: الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها، سواء كان زوجها حرًّا أو عبدًا. وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال ابن حزم: وإذا كانت مملوكة لها زوج عبد أو حر ولو أنه قرشي، فأعتقت في واجب أو تطوعًا أو تمام أداء كتابتها أو بأي وجه عتقت، فإنها تخيَّر، فإن اختارت فراقه فلها ذلك وإن اختارت أن تقر عنده فلها ذلك، وقد بطل خيارها، وعليها العدة في اختيارها فراقه كعدة الطلاق. ثم قال: ومما اختلفوا فيه: هل اختيارها فراق زوجها فسخ أو طلاق؟ ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 670 رقم 2074).

فصحَّ عن قتادة أنها واحدة بائنة، ورويناه عن عمر بن عبد العزيز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما. وعن عطاء أنها طلقة واحدة. وصحَّ أنه فسخٌ لا طلاق عن حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي، ورويناه عن طاوس، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابهم. ومما اختلفوا فيه: إن خُيِّرت قبل الدخول فاختارت فراقه ماذا لها من الصداق؟ فقال قوم: لا صداق لها. صحَّ ذلك عن الزهري، وصَحَّ عن قتادة: لها نصف الصداق وقال أصحابنا: لها الصداق كله. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن كان زوجها عبدًا فلها الخيار، وإن كان حرًا فلا خيار لها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن أبي ليلى والأوزاعي والزهري والليث بن سعد والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا أُعتقت الأمة، فإن كان زوجها عبدًا فلها الخيار، وأن كان حرًّا فلا خيار لها. قال ابن حزم: صح ذلك عن الزهري وعطاء وصفية بنت أبي عبيد وعروة بن الزبير، ونسب قوم ذلك إلى ابن عباس ولا نعلم هذا عنه. ص: وقالوا: إنما كان زوج بريرة عبدًا، وذكروا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان زوج بريرة عبدًا، ولو كان حرَّا لم يخيرها رسول الله -عليه السلام-". حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد وابن أبي حازم، عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم -قال عبد العزيز:

عن أبيه- قالا: عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- لما أعتقت بريرة خيَّرها، وكان زوجها عبدًا". قالوا: فهذه عائشة -رضي الله عنها- تخبر أن زوج بريرة كان عبدًا، فهذا خلاف ما رويتموه عن الأسود، ثم قالت عائشة: "لو كان حرًّا لم يخيرها رسول الله -عليه السلام-. ش: أي قال أهل المقالة الثانية: كان زوج بريرة عبدًا؛ لأن عائشة أخبرت في حديثها أن زوجها كان عبدًا؛ فهذأ خلاف ما رواه الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة أن زوجها كان حرَّا" وأيضًا قالت عائشة: "لو كان زوجها حرَّا لم يُخَيِّرْهَا رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه من طريقين: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي شيخ مسلم، عن جرير بن عبد الحميد، عن هشام ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي كريب ووكيع وزهير وإسحاق، جميعًا عن جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود المكي أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، روى له الجماعة، وعبد العزيز بن أبي حازم -واسمه سلمة بن دينار المدني- روى له الجماعة، كلاهما عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه مسلم (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أنها اشترت بريرة من أناسٍ من الأنصار واشترطوا الولاء، فقال رسول الله -عليه السلام-: الولاء لمن ولي النعمة، وخيَّرها رسول الله -عليه السلام- وكان زوجها عبدًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1143 رقم 1504).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا حسين بن علي والوليد بن عقبة، عن زائدة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن بريرة خيَّرها رسول الله -عليه السلام- وكان زوجها عبدًا". وأخرجه النسائي (¬2): أنا القاسم بن زكرياء بن دينار، نا حسين، عن زائدة، عن سماك ... إلى آخره نحو رواية مسلم. وقال البيهقي (¬3) بعد أن روى حديث بريرة من طريق سفيان وأبي عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن زوج بريرة كان حرًّا". لفظ سفيان، هكذا أدرجه "وكان حرًّا" من قول الأسود، فإن أبا عوانة فصله، ولفظه: "أنها اشترت بريرة واشترط أهلها ولاءها، قالت: يا رسول الله إني اشتريتها لأُعْتِقَهَا، وإن أهلها يشترطون ولاءها، فقال: أعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق -أو لمن أعطى الثمن- فاشترتها فأعتقتها، قال: وخُيِّرَت فاختارت نفسها، فقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنتُ معه. قال الأسود: وكان زوجها حرًّا". قال البخاري: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: "رأيته عبدًا" [أصح] (¬4). وروى البيهقي الحديث أيضًا (¬5) من طريق ابن راهويه، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أنها أرادت أن تشتري بريرة ... " فذكر الحديث، وفي آخره: قال الأسود: عن عائشة وفيه: "اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق، وخيرها من زوجها، وكان زوجها حرًّا ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 270 رقم 2234). (¬2) "المجتبى" (6/ 165 رقم 3452). (¬3) "السنن الكبرى" (7/ 223 رقم 14054). (¬4) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري" (6/ 2482 رقم 6373)، و"سنن البيهقي الكبرى" (7/ 223 رقم 14054). (¬5) "السنن الكبرى" (7/ 223 رقم 14055).

ثم قال (¬1): هكذا أدرجه أبو داود. ورواه البيهقي (¬2) أيضًا من حديث آدم عن شعبة نحوه. وفيه: قال الحكم: قال إبراهيم: "وكان زوجها حرًّا". ورواه (¬3) عن حفص بن عمر، عن شعبة، وفي آخره: قال الحكم: "وكان زوجها حرًّا". ثم قال: قال البخاري: قول الحكم مرسل، وقال ابن عباس: "رأيته عبدًا". ثم قال البيهقي: وروى القاسم وعروة ومجاهد وعمرة، عن عائشة: "أنه كان عبدًا". قال إبراهيم بن أبي طالب (¬4): خالف الأسود الناس في قوله: "كان حرًّا". قلت: إذا كان في السند الأول من قول الأسود، وفي الثاني من قول إبراهيم أو الحكم وقد أدرجها في الحديث فقول البخاري في الأول: منقطع، وفي الثاني: مرسل، مخالف للاصطلاح (¬5)؛ إذ الكلام الموقوف على بعض الرواة لا يسمى منقطعًا ولا مرسلاً، وقد تابع منصورًا الأعمشُ فرواه كذلك عن إبراهيم. هكذا أخرجه الطحاوي كما ذكر، وابن ماجه (¬6) ¬

_ (¬1) إنما قال البيهقي هذا القول على الرواية التي تلي هذه وهي من طريق أبي داود، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم به. وهي في "السنن الكبرى" (7/ 223 رقم 14056)، ونص كلامه: هكذا أدرجه أبو داود الطيالسي وبعض الرواة عن شعبة في الحديث، قد جعله بعضهم من قول إبراهيم، وبعضهم من قول الحكم. (¬2) "السنن الكبرى" (7/ 224 رقم 14057). (¬3) الضمير في "رواه" عائد على البخاري: فقد قال البيهقي بعد ذكره رواية آدم السابقة: رواه البخاري في "الصحيح" عن آدم دون هذه اللفظة ورواه عن حفص بن عمر عن شعبة، وفي آخره: قال الحكم: "وكان زوجها حرًّا". (¬4) "السنن الكبرى" (7/ 244 رقم 14058). (¬5) علم المصطلح لم يدون وينشأ إلا بعد وفاة البخاري بأزمان، ومراد البخاري: أن كلام الأسود أو إبراهيم أو الحكم غير مسند -أي لم يسندوه، ولم يدركوه-. (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 670 رقم 2074).

أيضًا والترمذي (¬1) وقال: حسن صحيح، وقول إبراهيم بن أبي طالب: خالف الأسود الناس غير مُسَلَّم، بل وافقه على ذلك القاسم وعُروة في رواية، وابن المسيب. روى عبد الرزاق (¬2): عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب قال: "كان زوج بريرة حرًّا". وإذا اختلفت الآثار في زوجها وجب حملها على وجه لا يكون فيها تضاد، والحريّة تعقب الرقّ، ولا ينعكس، فثبت أنه كان حرًّا عندما خيرت، عبدًا قبله، ومَنْ أخبر بعبوديته لم يعلم بحريته قبل ذلك. وقال ابن حزم ما ملخصه (¬3): أنه لا خلاف أن من شهد بالحرية يقدم على من شهد بالرق؛ لأن عنده زيادة علم، ثم لو لم يُختلف أنه كان عبدًا هل جاء في شيء من الآثار أنه -عليه السلام- إنما خيرها لأنه كان عبدًا، وبين من يدعي أنه إنما خيرها لأنه كان حرًّا، وكان أسود، واسمه مغيث، فالحق أنه إنما خيرها لكونها أعتقت؛ فوجب تخيير كل معتقة. ولأنه روي في بعض الآثار أنه -عليه السلام- قال لها: "ملكتِ نفسك فاختاري" كذا في "التمهيد" (¬4). فكل مَنْ ملكت نفسها تختار، سواء كان زوجها حرًّا أو عبدًا، ويأتي عن قريب ما قاله الطحاوي في وجه التوفيق بين هذه الأخبار، وقد أكثر الناس في معاني هذه الأحاديث المروية في قصة بريرة، وتخريج وجوهها؛ فلمحمد بن جرير الطبري في ذلك كتاب، ولمحمد بن خزيمة في ذلك كتاب، ولجماعة في ذلك أبواب، أكثر ذلك تكلف واستنباط واستخراجات محتملة وتأويلات ممكنة لا يُقطع بصحتها. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ /461 رقم 1155). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 254 رقم 13031). (¬3) "المحلى" (10/ 156 - 157). (¬4) "التمهيد" (3/ 57).

ص: قيل لهم: أما هذا الحرف فقد يجوز أن يكون من كلام عائشة، وقد يجوز أن يكون من كلام عروة. ش: أي قيل لأهل هذه المقالة -وهي المقالة الثانية-: هذا جواب عن قولهم: هذه عائشة تخبر أن زوج بريرة كان عبدًا، وأراد بـ"هذا الحرف" هو قولهم: "وكان زوجها عبدًا"، فهذا يحتمل أن يكون من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام عروة بن الزبير، فالاحتمال لا يُثْبِت الاحتجاج القطعي. ولئن سلمنا أنه كان من كلام عائشة ولكن قد تعارضت روايتاها فسقط الاحتجاج بها. وأيضًا فالذي رواه أهل المقالة الثانية يُبْقي الرق، والمثبت أولى؛ لأن البقاء قد يكون باستصحاب الحال، والثبوت يكون بناء على الدليل لا محالة، فمن قال: "كان عبدًا" احتُمل أنه اعتمد استصحاب الحال، ومن قال: "كان حرًّا" بني الأمر على الدليل لا محالة، فصار كالمزكيين جَرح أحدهما شاهدًا والآخر زكاه، أنه يؤخذ بقول الجارح (¬1) لما قلنا. كذا هذا. ص: واحتج أهل هذه المقالة في تثبيت ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا: بما حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عثمان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، فخيَّرها النبي -عليه السلام-، وأمرها أن تعتد". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد عن ابن عباس قال: "لما خُيِّرت بريرة، رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته، فكلم له العباس النبي -عليه السلام- أن يطلب إليها، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: زوجك وأبو ولدك، فقالت: أتأمرني به يا رسول الله؟ ¬

_ (¬1) وفي هذا نظر؛ فليس الأمر على عمومه، كما هو معلوم في علم الجرح والتعديل.

فقال: إنما أنا شافع، قالت: إن كنت شافعًا فلا حاجة لي فيه، واختارت نفسها، وكان يقال له: مغيث، وكان عبدًا لآل المغيرة من بني مخزوم". قالوا: فإنما خيرها رسول الله -عليه السلام- من أجل أن زوجها كان عبدًا. ش: أي واحتج أهل المقالة الثانية في تثبيت ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا، يعني في تحقيق كونه عبدًا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنه قال: إن زوج بريرة كان عبدًا أسود، وكان يقال له: مغيث، وكان عبدًا لآل المغيرة من بني مخزوم، فخير رسول الله -عليه السلام- بريرة وأمرها أن تعتد، وقالوا: إنما خير رسول الله -عليه السلام- بريرة لأجل كون زوجها عبدًا. وأخرجه عن ابن عباس من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1) مختصرًا: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة وهمام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "رأيته عبدًا -يعني زوج بريرة-". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا، فخيرها -يعني النبي -عليه السلام- وأمرها أن تعتد". وأخرجه الترمذي (¬3) والنسائي (¬4) وابن ماجه (¬5) بمعناه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2023 رقم 4976). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 270 رقم 2232). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 462 رقم 1156). (¬4) "المجتبى" (8/ 245 رقم 5417). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 671 رقم 2075).

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود. عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬1): نا محمد، أنا عبد الوهاب، نا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يَطُوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي -عليه السلام- لعباسٍ: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟! فقال النبي -عليه السلام-: لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه". وأخرجه أبو داود (¬2): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن خالد الحذاء، عن عكرمة [عن ابن عباس] (¬3): "أن مغيثًا كان عبدًا، فقال: يا رسول الله، اشفع إليها، فقال رسول الله -عليه السلام-: يا بريرة اتقي الله؛ فإنه زوجك وأبو ولدك، فقالت: يا رسول الله، تأمرني بذلك؟ قال: إنما أنا شافع، فكأن دموعه تسيل على خده، فقال رسول الله -عليه السلام-: ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه". قوله: "يسمى مغيثًا" هو بضم الميم، وكسر الغبن المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره ثاء مثلثة. قوله: "وأمرها أن تعتد"؛ لأنها باختيارها نفسها انقطع النكاح بينهما فعليها العدة، وقد ذكرنا أن الفرقة بينهما فسخ أو طلاق، وقال الكاساني في "البدائع": وإذا اختارت نفسها حتى وقعت الفرقة كانت فرقة بغير طلاق، فلا تفتقر هذه الفرقة إلى قضاء القاضي بخلاف الفرقة بخيار البلوغ. قوله: "ودموعه تسيل" جملة اسمية حالية. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2023 رقم 4979). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 270 رقم 2231). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

قوله: "زوجك" مبتدأ محذوف أي: بريرة، زوجك وأبو ولدك. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن أولى الأشياء بنا إذا جاءت الآثار هكذا فوجدنا السبيل إلى أن نحملها على غير التضاد أن نحملها على ذلك ولا نحملها على التضاد والتكاذب، ويكون حال رواتها عندنا على الصدق والعدالة فيما رووا حتى لا نجد بدًا من أن نحملها على خلاف ذلك. فلما ثبت أن ما ذكرنا كذلك، وكان زوج بريرة قد قيل فيه: إنه كان عبدًا في حال، حرًّا في حالٍ أخرى، فثبت بذلك تأخر إحدى الحالتين عن الأخرى، فكان الرق قد تكون بعده الحرية، والحرية لا يكون بعدها رقٌّ، فلما كان ذلك كذلك جعلنا حال العبودية متقدمًا، وحال الحرية متأخرًا فثبت بذلك أنه كان حرًّا في وقت ما خُيرت بريرة، عبدًا قبل ذلك. هكذا تصحيح الآثار في هذا الباب، ولو اتفقت الروايات كلها على أنه كان عبدًا لما كان في ذلك ما ينفي أن يكون إذا كان حرًّا زال حكمه عن ذلك؛ لأنه لم يجئ عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: إنما خيرتها لأن زوجها عبدٌ، ولو كان ذلك كذلك لانتفى أن يكون لها خيار إذا كان زوجها حرًّا، فلما لم يجئ من ذلك شيء، وجاء عنه أنه خَيَّرها وكان زوجها عبدًا نظرنا هل يفترق في ذلك حكم الحر وحكم العبد؟ فنظرنا في ذلك فرأينا الأَمَة في حال رقها، لمولاها أن يعقد النكاح عليها للحر والعبد، ورأيناها بعدما تعتق ليس له أن يستأنف عليها عقد نكاح لحر ولا لعبد، فاستوى حكم ما إلى المولى في العبيد والأحرار، وما ليس إليه في العبيد والأحرار، فلما كان ذلك كذلك، ورأيناها إذا أعتقت بعد عقد مولاها نكاح العبد عليها يكون لها الخيار في حلّ النكاح عنها، كان كذلك في الحرة إذا أعتقت يكون لها حلّ نكاحه عنها قياسًا ونظرًا على ما بينا من ذلك. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب على احتجاجهم في تحقيق ما رووه في زوج بريرة أنه كان عبدًا بحديث ابن عباس. تقرير ذلك أن يقال: احتجاجكم بهذه الطريقة فاسد؛ لأنكم تحققون الخبر الذي فيه أن زوج بريرة كان عبدًا، وتهملون الخبر الذي فيه أنه كان حرًّا، مع أن كِلاَ الخبرين صحيح، فهذا ليس من شرط الاحتجاج، بل الوجه في مثل هذا الموضع أن تحمل هذه الآثار التي تجيء متعارضة على وجه لا يكون فيه التضاد ولا التخالف، وهذا هو الواجب؛ لما في ذلك من حمل الآثار على التعادل والتوافق، وحمل حال رواتها على الصدق والعدالة فيما رووا من ذلك. فإذا ثبت هذا فنقول: قد اختلف في زوج بريرة فقيل: كان عبدًا، وقيل: كان حرًّا، وهاتان صفتان لا تجتمعان في حالة واحدة، فنجعلهما في حالتين، بمعنى أنه كان عبدًا في حالة، حرًّا في حالة أخري، فبالضرورة تكون إحدى الحالتين متأخرة عن الأخرى، وقد عُلم أن الرق تعقبه الحرية، والحرية لا يعقبها الرق، وهذا مما لا نزاع فيه، فإذا كان كذلك جعلنا حال العبودية متقدمة، وحال الحرية متأخرة؛ لما ذكرنا. فثبت بهذه الطريقة أنه كان حرًّا في الوقت الذي خيرت فيه بريرة، وعبدًا قبل ذلك، فيكون قول من قال: "كان عبدًا"، محمولًا على الحالة المتقدمة، وقول من قال: "كان حرًّا"، محمولًا على الحالة المتأخرة، فإذًا لا يبقى تعارض ويثبت قول من قال: "إنه كان حرًّا" ويتعلق الحكم به. قوله: "ولو اتفقت الروايات كلها ... " إلى آخره. جواب آخر بطريق التسليم، يعني لو سلمنا أن جميع الروايات أخبرت بأن زوج بريرة كان عبدًا فليس فيه ما يدل على صحة ما يذهبون إليه من أن زوج الأمة إذا كان حرًّا، فأعتقت الأمة، ليس لها الخيار؛ لأنه ليس فيه ما يدل على ذلك؛ لأنه لم يأت عنه -عليه السلام- أنه قال: إنما خيرتها

لأن زوجها عبد، وهذا لا يوجد أصلاً في الآثار، فثبت أنه إنما خيرها لكونها قد أعتقت، فحينئذٍ يستوي في ذلك أن يكون زوجها حرًّا أو عبدًا. فافهم. وها هنا شيء آخر: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ملكها بضعها علةً لثبوت الخيار لها، حيث قال لها -على ما جاء في بعض الروايات-: "ملكت بضعك فاختاري" وفي رواية "نفسك" فأخبر أنها ملكت نفسها، ثم أعقبه بإثبات الخيار لها بحرف التعقيب، وملكها نفسها يؤثر في دفع الولاية في الجملة؛ لأن الملك اختصاص، والحكم إذا ذكر عقيب وصف له أثر في الجملة في جنس ذلك الحكم في الشرع؛ كان ذلك تعليقًا لذلك الحكم بذلك الوصف كما في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ...} (¬1)، وقوله: {لزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ...} (¬2)، وروي أن ماعزًا زنى فرجم، والحكم يتعمم بعموم العلة، ولا يتخصص بخصوص المحل كما في سائر العلل الشرعية والفعلية، فزوج بريرة -وإن كان عبدًا- لكن النبي -عليه السلام- لما بني الخيار فيه على معنى عام -وهو ملك البضع- يعتبر عموم المعنى لا خصوص المحل. فافهم. قوله: "فنظرنا في ذلك ... " إلى آخره. بيان وجه النظر والقياس في هذا الباب، وهو ظاهر. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن طاوس: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: "للأمة الخيار إذا أعتقت، وإن كانت تحت قرشي". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه قال: "لها الخيار" يعني في العبد والحرِّ، قال: وأخبرني الحسن بن مسلم مثل ذلك". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [38]. (¬2) سورة النور، آية: [2].

ش: أي قد روي نحو قول أبي حنيفة وصاحبيه -رحمهم الله- عن طاوس بن كيسان اليماني. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن سفيان، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه -في الأمة تعتق تحت زوج-: "أنهما تخير ولو كانت تحت قرشي". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه ... إلى آخره. قوله: "قال: وأخبرني الحسن بن مسلم" أي قال ابن جريج: وأخبرني الحسن بن مسلم بن يناق المكي -وهو ممن روى لهم الجماعة سوى الترمذي- مثل ما أخبرني ابن طاوس، عن أبيه. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن ابن جريج، عن حسن بن مسلم قال: "إذا أعتقت عند حر، فلها الخيار". وأخرج ابن حزم (¬3) مثل ذلك عن جماعة من الصحابة وغيرهم فقال: وروينا من طريق سعيد بن منصور: نا هشيم، أنا ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان يجعل لها الخيار على الحرِّ، وبه يقول هشيم". ومن طريق الحجاج بن منهال، ثنا يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إذا أعتقت الأمة فلها الخيار ما لم يطأها زوجها". فَعَمَّ عمر -رضي الله عنه-، ولم يَخُص عبدًا من حرٍّ. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 255 رقم 13035). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 254 رقم 13033). (¬3) "المحلى" (10/ 153).

ومن طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي أنه قال في الأمة تعتق تحت زوج: "فهي عليه بالخيار؛ حرًّا كان أو عبدًا، ولو أنه هشام بن عبد الملك". ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم، عن الشعبي قال: "إذا أعتقت تحت حرٍّ فلها الخيار". ومن طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين: "إذا أعتقت عند حرٍّ فلها الخيار". ***

ص: باب: الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟

ص: باب: الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ ش: أي هذا باب في بيان الطلاق المعلق وقوعه بليلة القدر، بأن قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ ص: حدثنا محمد بن حميد وفهد، قالا: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأنا أسمع- عن ليلة القدر، فقال: هي في كل رمضان". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا: أنها في كل رمضان. فقال قوم: هذا دليل على أنها قد تكون في أوله، وفي أوسطه، كما تكون في آخره. وقد يحتمل قوله: "في كل رمضان" هذا المعنى، ويحتمل أنها في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة، مع أن أصل الحديث موقوف، كذلك رواه الأثبات عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر مثله، ولم يرفعه. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق الهمداني ... فذكر بإسناده مثله. وقد رَوَى هذا الحديث أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، بلفظٍ غير هذه اللفظ: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: "سألت ابن عمر -رضي الله عنهما- عن عن ليلة القدر، فقال: هي في رمضان كله". فإن كان هذا هو لفظ هذا الحديث؛ فقد ثبت به أن معنى قوله: "هي في كل رمضان" يريد أنها في كل الشهر. ش: إسناد حديث فهد بن سليمان صحيح. وسعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري وما بعده كلهم من رجال الجماعة.

وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي. وأخرجه أبو داود (¬1): نا حميد بن زنجويه النسائي، ثنا سعيد بن أبي مريم، نا محمد بن جعفر بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "وأنا أسمع" جملة اسمية وقعت حالاً. قوله: "عن ليلة القدر" سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في السنة؛ لقول تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬2) ويقال: سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها. قوله: "ففي هذا" أي في هذا الحديث أنها -أي ليلة القدر- في كل رمضان. قوله: "فقال قوم" وهم: الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة: "هذا دليل" -أي هذا الحديث يدل على أن ليلة القدر قد تكون في العشر الأول من رمضان، وقد تكون في العشر الأوسط منه، كما تكون في العشر الأخير منه. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬3): مذهب أربعة من الصحابة -رضي الله عنهم-: أنها في كل رمضان، وهم: ابن عمر، وأبو ذر، وأبو هريرة، وابن عباس. وهو قول الحسن. وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: أنا حجاج، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: أنا ربيعة بن كلثوم قال: "سأل رجل الحسن -وأنا عنده- فقال: يا أبا سعيد: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، إنها ليلة فيها يفرق كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها، وقد قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬4)، وقال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 53 رقم 1387). (¬2) سورة الدخان، آية: [41]. (¬3) "التمهيد" (2/ 208). (¬4) سورة البقرة، آية: [185].

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬1)، وهذا يدل على أنه لا بد أن تكون في رمضان كله. والله أعلم. قوله: "وقد يحتمل قوله: في كل رمضان ... " إلى آخره. أشار الطحاوي: بهذا الكلام إلى أن هذا الحديث لا يدل قطعًا على أن ليلة القدر تكون في رمضان كله؛ لأن هذا اللفظ يحتمل معنيين. الأول: هو ما ذكره هؤلاء القوم. والثاني: أن يكون معناه: أنها تكون في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة. ومثل هذا الاحتمال يدفع الدلالة القطعية على المدعى، على أن أصل هذا الحديث موقوف على عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-، كذلك رواه الحفاظ الأثبات عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا. وقال البيهقي: رواه سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق موقوفًا. وذكر المنذري أن أبا داود ذكر أن سفيان وشعبة روياه موقوفًا على ابن عمر، لم يرفعاه إلى النبي -عليه السلام-. وأخرجه الطحاوي موقوفًا أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا عليه. وحديث سفيان عن أبي إسحاق أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: "ليلة القدر في كل شهر رمضان". قلت: إن كان الطحاوي يريد بقوله: مع أن أصل الحديث موقوف وَهْن استدلال القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه؛ فليس ذلك بشيء؛ فإن الموقوف مما تحتج ¬

_ (¬1) سورة الدخان، آية: [3]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 325 رقم 9528).

يه طائفة من أهل العلم، على أن الأثبات وإن كانوا قد رووه موقوفًا فإنه في الحقيقة مرفوع؛ فإن هذا مما لا يدخل فيه الرأي، بل هو محمول على السماع. فافهم. قوله: "وقد روى هذا الحديث أبو الأحوص ... " إلى آخره. إشارة إلى أن رواية أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي مما يرجح الاحتمال الثاني. في قوله: "هي في كل رمضان" وهو أن المعنى: أن ليلة القدر في كل الشهر فحينئذٍ يدل الحديث قطعًا على مدعى هؤلاء القوم. وإسناده صحيح. وعدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري. واعلم أن ها هنا أقوال: الأول: قول أبي حنيفة ومن معه قد ذكرناه. الثاني: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متنقلة، تكون في سنة في ليلة، وتكون في سنة أخرى في ليلة، وهكذا. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي ذلك عن الثوري أيضًا. قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل تنتقل في رمضان كله. الثالث: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متعينة لا تنتقل أبدًا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها، وعلى هذا قيل: في السنة كلها. وهو قول ابن مسعود -رضي الله عنه-، وروي عن أبي حنيفة أيضًا. الرابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تكون في شهر رمضان في ليلة واحدة لا تتقدم ولا تتأخر. وهو قول أبي يوسف ومحمد، وسيجيء الكلام فيه مستقصىً إن شاء الله تعالى. الخامس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأوسط والأواخر، ولكن غير معروفة العين.

السادس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأواخر ولكن غير معروفة العين. روي ذلك عن عائشة -رضي الله عنها-، وإليه ذهب عروة. السابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأوتار العشر. وروي ذلك عن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-. الثامن: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأشفاع العشر. التاسع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الثالثة والعشرين أو السابعة والعشرين. روي ذلك عن ابن عباس. العاشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تُطلب في ليلة سبعة عشر وإحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين. وحكي ذلك عن علي وابن عباس وإبن مسعود -رضي الله عنهم-. الحادي عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الثالثة والعشرين. وهو قول كثير من الصحابة. الثاني عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الرابعة والعشرين. وهو محكي عن بلال وابن عباس والحسن البصري وقتادة -رضي الله عنهم-. الثالث عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة والعشرين. وهو قول جماعة من الصحابة، وهو المشهور بين الناس. الرابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة عشرين، وهو يحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضًا. الخامس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة التاسعة عشر. وحكي ذلك أيضًا عن ابن مسعود وعلي -رضي الله عنهما-. السادس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في آخر ليلة من الشهر. السابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها كانت في زمن النبي -عليه السلام- خاصةً، وأنها قد رفعت، لقوله -عليه السلام- حين تلاحى الرجلان: "فرفعت".

والصحيح بقاؤها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة، واستدلالهم غير صحيح؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه -عليه السلام- قال: "فرفعت فعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في السبع والتسع"؛ وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- خلاف ذلك: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنى سليمان ابن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن ليلة القدر فقال: تحروها في السبع الأواخر من رمضان". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني الزهري، عن حديث سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "التمسوا ليلة القدر في السبع الأواخر". حدثنا يزيد بن سنان وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ش: أي قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما روي من أنها في كل رمضان. وأخرجه من ست طرق صحاح، ورجالها رجال الصحيح ما خلا مشايخ الطحاوي.

وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك، والزهري هو محمد بن مسلم، وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، وابن شهاب هو الزهري، والقعنبي عبد الله بن مسلمة بن قعنب. وهذا الحديث أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2)، من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (2) أيضًا: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر". وأخرجه أبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك، نحوه. وأخرجه البخاري (¬4) أيضًا: من حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن أناسًا منكم رأوا ليلة القدر في السبع الأول، وإن أناسًا رأوها في السبع الأواخر، فالتمسوها في السبع الأواخر". وأخرجه مسلم أيضًا (¬5) نحوه، من حديث يونس، عن ابن شهاب. وأخرجه عبد الرزاق (¬6): عن معمر وابن جريج، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال: "التمسوا ليلة القدر في العشر الغوابر في السبع الغوابر". وأخرجه البيهقي (¬7) من حديث مالك والليث ويونس، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أُرِي رجل في المنام أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 709 رقم 1911). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 822 رقم 1165). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 53 رقم 1385). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2565 رقم 6590). (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 823 رقم 1165). (¬6) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 247 رقم 7681). (¬7) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 310 رقم 8327).

رسول الله -عليه السلام-: "أسمع رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". قوله: "تحروها" أي اطلبوها، أي احرصوا على طلب ليلة القدر، واجتهدوا فيه في السبع الأواخر. فإن قيل: ما تقول في الاختلاف الذي جاء في هذا الباب؟ فإن ابن عمر -رضي الله عنهما- قد روى عنه -عليه السلام- أنه قال: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان"، وجاء في حديث أبي سعيد "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في كل وتر، والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، وجاء في حديث أبي بن كعب: "أنها ليلة سبع وعشرين"، وفي حديث ابن عباس: "ليلة ثلاث وعشرين"، وكذا في حديث عبد الله بن أنيس، وفي حديث ابن مسعود: "من يقم الحول يصب ليلة القدر"، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب. قلت: هذه الآثار كلها محمولة [على] (¬1) الوفاق دون الخلاف، والجمع بينها: بأنها في اختلاف السنين؛ فحديث أبي في سنة، وحديث عبد الله في سنة، وحديث أبي سعيد في أخرى، وأمر بها النبي -عليه السلام- في العشر الأواخر في عام، وفي السبع في عام، وكلتاهما في العشر الأوسط في عام، فهذا يدل على أنها ليست في ليلة معينة أبدًا، وأنها في الأعوام أو في شهر رمضان على ما ذهب إليه أبو حنيفة -رحمه الله-، وسيجيء ما يقرب من هذا في أثناء كلام الطحاوي -رحمه الله-. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو زُمَيل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه قال: "سألت أبا ذر، فقلت: أسألت رسول الله -عليه السلام- عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها -قال عكرمة: يعني أشبع سؤالًا- قلت: يا رسول الله، أخبرني ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

عن ليلة القدر في رمضان هي، أم في غيره؟ قال: في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا رفعوا رفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: في أي رمضان هي؟ قال: في العشر الأول أو في العشر الآخر، ثم حدث رسول الله -عليه السلام- وحدثت، فقلت: يا رسول الله في أي العُشْرَيْن هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها، ثم حدث رسول الله -عليه السلام- فقلت: يا رسول الله، أقسمت عليك لتخبرني بحقِّي عليك في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب عليَّ قبلُ ولا بعدُ، ثم قال: إن الله -عز وجل- لو شاء لأطلعكم عليها، التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها". ش: رجاله ثقات. ويعقوب بن إسحاق النحوي، روى له الجماعة سوى البخاري، الترمذي في "الشمائل". وعكرمة بن عمار العجلي اليمامي، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأبو زُمَيل -بضم الزاي المعجمة- اسمه سماك بن الوليد الحنفي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". ومالك بن مرثد بن عبد الله الزماني، وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي والنسائي وابن ماجه. وأبوه مرثد بن عبد الله، وثقه ابن حبان روى له الترمذي وابن ماجه. وأبو ذر الغفاري اسمه جندب بن جنادة. وأخرجه النسائي (¬1) من حديث ابن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد قال: "قلت لأبي ذر: سألت رسول الله -عليه السلام- عن ليلة القدر؟ قال: أنا كنت أسألَ الناسِ عنها -يعني أشد الناس مسألة- فقلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أَوَ في رمضان هي أو في غيره؟ قال: لا، بل في شهر رمضان فقلت: ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 278 رقم 3427).

أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضت الأنبياء ورفعوا رفعت معهم، أو هي إلى يوم القيامة؟ قال: لا، بل هي إلى يوم القيامة، فقلت: فأخبرني في أي شهر رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، والعشر الأول، ثم حدث نبي الله وحدثت، فاهتبلت غفلته فقلت: يا نبي الله، أخبرني في أي العشر هي؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد هذا، ثم حدث وحدثت، فاهتبلت غفلته، فقلت: أقسمت عليك يا رسول الله بحقي عليك؛ لتحدثني في أي العشر هي؟ فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ من قبلُ ولا بعدُ، ثم قال: التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعد". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، قال: نا سفيان، عن الأوزاعي، عن مرثد بن أبي مرثد، عن أبيه قال: "كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كنت أَسْأَلَ الناس عنها رسول الله -عليه السلام-، قلت: يا رسول الله، ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء -عليهم السلام-، فإذا ذهبوا رفعت؟ قال: لا، ولكن تكون إلى يوم القيامة. قال: قلت: يا رسول الله، فأخبرنا بها، قال: لو أُذن لي فيها لأخبرتكم ولكن التمسوها في أحد السبعين، لا تسألني عنها بعد مقامي أو مقامك هذا، ثم أخذ في حديث، فلما انبسط، قلت: يا رسول الله أقسمت عليك إِلا حدثتني بها، قال أبو ذر: فغضب عليَّ غضبة لم يغضب علي قبلها ولا بعدها مثلها". قوله: "كنت أسألَ الناس" أي أكثر الناس سؤالاً، وأسأل ها هنا أفعل التفضيل، وقد فَسَّره عكرمة الراوي بقوله: "أشبع سؤالًا" أي أكثر وأشد سؤالًا. قوله: "لَتخبرني" اللام فيه مفتوحة؛ لأنها للتأكيد. قوله: "فغضب" إنما كان غضبه -عليه السلام- لأمرين: الأول: أنه أقسم على النبي -عليه السلام-، وليس لأحد يمين على النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 249 رقم 1664).

والثاني: أنه سأل عن شيء لم يكن النبي -عليه السلام- مأذونًا في تعيينه، كما جاء في رواية ابن أبي شيبة: "لو أذن لي فيها لأخبرتكم". قوله: "فاهتبلت غفلته" في رواية النسائي، أي اغتنمت من الهبالة وهي الغنيمة. وهذا الحديث ردٌّ على من يقول: إن ليلة القدر في جميع السنة، وبيان أنها في السبع الأواخر ولكنها غير معينة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: أخبرني جابر: "أن عبد الله بن أنيس الأنصاري سأل النبي -عليه السلام- عن ليلة القدر، وقد خلت اثنان وعشرون ليلة، فقال رسول الله -عليه السلام-: التمسوها في السبع الأواخر التي تبقين من الشهر". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن عبد الله بن عبد الله بن خبيب -أراه- عن عبد الله بن أنيس -عليه السلام-: "أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: سمعت رسول -عليه السلام- يقول: التمسوها الليلة -وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين- فقال رجل: هذا إذًا أول ثمان، فقال: بل أول سبع فإن الشهر لا يتم". فقد ثبت بهذا الحديث أيضًا أنها في السبع الأواخر، وأنه إنما قصد ليلة ثلاثة وعشرين؛ لأن ذلك الشهر كان تسعًا وعشرين. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو زيد بن أبي الغَمْر، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: "كنت جالسًا مع أبي على الباب إذْ مرَّ بنا ابن عبد الله ابن أنيس فقال أبي: سمعتَ من أبيك يذكر عن رسول الله -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، إني رجل تنازعني البادية، فمرني بليلة آتي فيها المدينة، فقال: ائت في ثلاث وعشرين". حدثني ابن أبي داود، قال: حدثني الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن معاذ ابن عبد الله، عن أخيه عبد الله بن عبد الله قال: "كان رجل في زمن عمر بن

الخطاب -رضي الله عنه- قد سأله فأعطاه، قال: جلس إلينا عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- في مجلس جهينة في آخر رمضان، فقلنا له: يا أبا يحيى، هل سمعت من رسول الله -عليه السلام- في هذه الليلة المباركة شيئًا؟ قال: نعم، جلسنا مع رسول الله -عليه السلام- في آخر هذا الشهر فقلنا: يا نبي الله متى تلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال: التمسوا هذه الليلة لمساء ثلاث وعشرين، فقال رجل من القوم: فهي إذًا أُولى ثمان؟ فقال: إنها ليست بأولى ثمان، ولكنها أولى سبع، ما تريد بشهر لا يتم؟ ". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أخبر عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن أنيس قال: "كنا بالبادية، فقلنا: إن قدمنا بأهلنا شق ذلك علينا، وإن خلفناهم أصابتهم ضيعة، فبعثوني -وكنت أصغرهم- إلى رسول الله -عليه السلام-، فذكرت ذلك له، فامرنا بليلة ثلاث وعشرين". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: ثنا بكير بن الأشج، قال: سألت ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن ليلة القدر فقال: سمعت أبي يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "تحروها ليلة ثلاثة وعشرين، فكان ينزل كذلك". حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى ابن عقبة، عن سالم أبي النضر، عن أي سلمة بن عبد الرحمن، عن بُسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتني في ليلة القدر كأني أسجد في ماء وطين، فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين". ش: هذه سبع طرق: الأول: فيه عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري الصحابي، وعبد الله بن أنيس الجهني الأنصاري الصحابي -رضي الله عنهم-.

الثاني: إسناده حسن جيد. ومعاذ بن عبد الله بن خبيب -بضم الخاء المعجمة- الجهني المدني، وثقه ابن معين، وروى له الأربعة. وعبد الله بن عبد الله بن خبيب أخو معاذ بن عبد الله المذكور، وثقه ابن حبان. وأخرجه الطبراني: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن إسحاق، عن معاذ ابن عبد الله بن خُبيب، عن عبد الله بن عبد الله بن خبيب، عن عبد الله بن أنيس صاحب رسول الله -عليه السلام-: "أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: التمسوها الليلة -وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين- فقال رجل: يا رسول الله هي إذًا أول ثمان؟ قال: لا، بل أول سبع، إن الشهر لا يتم". الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أبي زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر -بالغين المعجمة- واسمه عمر بن عبد العزيز مولى بني سهم المصري، ذكره ابن يونس في "تاريخه" ولم يتعرض له بشيء، عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد القارئ المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. عن أبيه عبد الرحمن بن محمد -وثقه ابن حبان- قال: "كنت جالسًا مع أبي على الباب" وهو محمد بن عبد الله بن عبد القاري، ذكره ابن حبان في "الثقات"-: "إذْ مرَّ بنا ابن عبد الله بن أنيس" والظاهر أنه ضمرة بن عبد الله ابن أنيس، ويحتمل أن يكون عمرو بن عبد الله بن أنيس؛ لأن عبد الله بن أنيس له ابنان يرويان عنه في ليلة القدر وهما: ضمرة، وعمرو، وقال في "التكميل ": ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه في التماس ليلة القدر، وعنه محمد بن إبراهيم التيمي، وروى الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، وعن عمرو بن عبد الله بن أنيس نحوًا منه.

وقال أبو داود في "سننه" (¬1): حدثنا أحمد بن يونس، قال: نا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم، عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني، عن أبيه قال: قلت: "يا رسول الله، إنَّ لي بادية كون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين، فقلت لابنه: فكيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد، فجلس عليها فلحق بباديته". انتهى. قوله: "فقال أبي" القائل هو محمد بن عبد الله بن عبدٍ، والد عبد الرحمن بن محمد الذي يروي عنه ابنه يعقوب. قوله: "سمعتَ" بتاء الخطاب، يخاطب به ابنَ عبد الله بن أنيس، أي: هل سمعت من أبيك عبد الله بن أنيس يذكر عن رسول الله -عليه السلام- شيئًا في شأن ليلة القدر. قوله: "فقال: سمعت أبي" القائل هو إما ضمرة -وهو الظاهر- أو عمرو، على ما ذكرنا. قوله: "تنازعني البادية" أي تشاغلني البادية عن المجيء إلى المدينة كل وقت. قوله: "ائت" أمر من أَتَى يَأْتِي إِتْيَانًا. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد ابن إسحاق، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أخيه عبد الله بن عبد الله بن خبيب ... إلي آخره. وهؤلاء ثقات، غير أن قوله: "كان رجل" مجهول. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يعقوب، نا أبي، عن أبي إسحاق، حدثني معاذ بن عبد الله بن خُبيب الجهني، عن أخيه عبد الله بن عبد الله بن خُبيب قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 439 رقم 1380). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 495 رقم 16089).

"كان رجل في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد سأله فأعطاه، قال: جلس معنا عبد الله بن أنيس صاحب رسول الله -عليه السلام- في مجلسه في مجلس جهينة -قال: في رمضان- فقال: فقلنا له: يا أبا يحيى، هل سمعت من رسول الله -عليه السلام- في هذه الليلة المباركة من شيء؟ قال: نعم، جلسنا مع رسول الله -عليه السلام- في آخر هذا الشهر، فقلنا له: يا رسول الله، متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ قال: التمسوها هذه الليلة -قال: وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين- فقال له رجل من القوم: وهي إذًا يا رسول الله، أُولى ليلة ثمان؟ قال: فقال رسول الله -عليه السلام-: إنها ليست بأولى ثمان، ولكنها أولى سبع؛ إن الشهر لا يتم". الخامس: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي، روى له الجماعة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث يحيى بن أيوب، حدثني يزيد بن الهاد، أن أبا بكر بن حزم أخبره، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن أنيس قال: "كنا بالبادية، فقلنا: إن قدمنا بأهلنا شَقَّ علينا، وإن خلفناهم أصابتهم ضيعة، فبعثوني وكنت أصغرهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له قولهم، فأمرنا بليلة ثلاث وعشرين، قال ابن الهاد: كان محمد بن إبراهيم يجتهد تلك الليلة". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي -شيخ البخاري- عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه عبد الله بن أنيس. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 309 رقم 8320).

وأخرجه الطبراني: نا أبو مسلم الكشي، نا يحيى بن كثير الباجي، نا ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله قال: "سألت ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن ليلة القدر، فقال: سمعت أبي يحدث عن النبي -عليه السلام- فقال: تحروها ليلة ثلاث وعشرين". السابع: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني، عن عبد الله بن أنيس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا سعيد بن عمرو وعلي بن خشرم، قالا: أنا أبو ضمرة، قال: حدثني الضحاك بن عثمان -قال ابن خشرم: عن الضحاك بن عثمان- عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بُسْر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أُريتُ ليلة القدر، ثم أنسيتها وأُراني صبحتها أسجد في ماء وطين. قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله -عليه السلام-، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرون". قوله: "رأيتُني" بضم التاء، أي رأيت نفسي. قوله: "وأراني صبحتها أسجد في ماء وطين" علامة جعلت له تلك السنة. والله أعلم. استدل بها عليها كما استدل بالشمس في غيرها، ذكر البخاري عن الحميدي أنه كان تحتج بهذا الحديث، أنه لا تمسح الجبهة في الصلاة. ص: فأما ما رويناه في هذا الباب عن ابن عمر وأبي ذر، فإن فيه الأمر بتحريها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فقد يحتمل أن تكون في تلك السبع دون سائر ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 827 رقم 1168).

الشهر، ويحتمل أن تكون في تلك السبع وتكون في غيره من الشهر إلا أنهما أكثر ما تكون في تلك السبع، فأمرهم رسول الله -عليه السلام- بالتحري فيها لذلك. ش: أشار بهذا إلى وجه التوفيق بين ما روى عن عبد الله بن عمر وأبي ذر -رضي الله عنهم-، وبين ما روي عن عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه-، فإن فيما روى هذان: الأمر بتحري ليلة القدر في السبع الأواخر من شهر رمضان، وفيما رواه ابن أنيس: الأمر بتحريها في ليلة ثلاث وعشرين وبينهما معارضة ظاهرًا لا تخفى. ووجه التوفيق: أن ما روياه من التحري في السبع الأواخر لا ينافي كونها في سائر الشهر، فحينئذٍ يدخل فيه ما رواه ابن أنيس، ولكن لما كانت أكثر ما تكون في تلك السبع أمر رسول الله -عليه السلام- بالتحري فيها، فيكون التنصيص على السبع الأواخر لهذا المعنى. ص: وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم أن يتحروها في العشر الأواخر من الشهر: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأى رجل ليلة القدر في النوم كأنها في العشر الأواخر في سبع وعشرين أو في تسع وعشرين، فقال النبي -عليه السلام-: أرى أن رؤيكم قد تواطأت، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر". ش: ذكر هذه الرواية عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- شاهدة لما ذكره من التوفيق؛ لأن روايته هذه وهي التماسها في العشر الأواخر تدل على أن روايته تلك -وهي التماسها في السبع الأواخر- لا ينافي كونها في غير السبع الأواخر على ما ذكرنا.

وأخرجها من طريقين صحيحين: أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. قوله: "التمسوا" أي اطلبوا. والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب، قال زهير: نا سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي -عليه السلام-: أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها". قوله: "تواطأت" أي توافقت. وحقيقة ذلك: أن كل واحدة من رؤياهم وطئ ما وطئه الآخر. ص: فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه ابن عمر في هذا الحديث أن تُتحرى في العشر الأواخر، كما أمر فيما قد روينا عنه قبل هذا من حديث ابن عمر أيضًا أن تُتحرى في السبع الأواخر، فلم يكن ما روي عنه من أمره إياهم بالتماسها في السبع الأواخر ما ينفي أن تكون تلتمس أيضًا فيما قبله من العشر الأواخر، فلم يدلنا ما روي عن ابن عمر أنها في السبع الأواخر دون سائر الشهر، إلا أنه قد يجوز أن يكون السبع الأواخر أمر بالتماسها فيها بعدما أمر بالتماسها في العشر الأواخر على ما في حديث أبي ذر، فتكون السبع الأواخر تُتحرى دون ما سواها من ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 249 رقم 8662). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 823 رقم 1165).

الشهر، وذلك تحرٍّ لا حقيقة معه، فأردنا أن نعلم هل روي عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- ما يدل على ذلك؟ فإذا بكر بن إدريس قد حدثنا، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عقبة بن حريث، قال: سمعت ابن عمر يقول: عن النبي -عليه السلام- قال: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن عجز أحدكم أو ضعف فلا يُغْلبن عن السبع البواقي". فدل ما ذكرنا من هذا عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- أنها قد تكون في السبع الأواخر أحرى من أن تكون فيما قبله في العشر الأواخر. وأما ما ذكرناه عن عبد الله بن أنيس؛ فإن فيه الأمر من رسول الله -عليه السلام- له أن يلتمسها ليلة ثلاث وعشرين، فاحتمل أن تكون تلتمس في كل شهر رمضان في تلك الليلة بعينها، فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن تكون قبل السبع الأواخر، فيخرج ذلك مما أمر فيه بالتماسها في السبع الأواخر؛ لأن الشهر قد يجوز أن لا ينقص عن ثلاثين، فتكون تلك الليلة أو ثمان يبقين، فدل على معنى ما أشكل من ذلك ما قد رويناه فيما قد تقدم من هذا الباب، عن عبد الله بن أنيس: "أن رسول الله -عليه السلام- إنما أمره بذلك في شهر كان تسعًا وعشرين، فكانت الليلة أول سبع لا أول ثمان، فقد دخل ذلك أيضًا فيما أمر فيه بالتماس تلك الليلة في السبع الأواخر، وذلك كله على التحري، لا على اليقين". ش: هذا كله بيان التوفيق بين ما روي عن ابن عمر من الروايتين: إحداهما: تحريها في العشر الأواخر. والأخرى: تحريها في السبع الأواخر. وبين ما روي عن عبد الله بن أنيس من تحريها ليلة ثلاث وعشرين، وذلك كله ظاهر يعلم بالتأمل. والحقيقة في هذا الباب أن هذا الاختلاف فيه بحسب اختلاف السنين، فكل واحد منهما يجعل في سنة وعلى تمام الشهر ونقصانه.

فعلى هذا يأتي أنها ليست في ليلة معينة أبدًا وأنها تنتقل في الأعوام، فمن ذلك قيل: في رمضان كله، وقيل: في العشر الأواخر منه، وبحسب هذا ما اختلف العلماء في ذلك كما ذكرنا فيما مضى. قوله: "فأردنا أن نعلم ... " إلى آخره. إشارة إلى إيضاح ما ذكره من وجه التوفيق، بيانه: أنه لما قال: إن رواية ابن عمر من أمره -عليه السلام- بالتماسها فيما قبله من العشر الأواخر. ولا دل هذا أيضًا أنها في السبع الأواخر دون سائر الشهر، ولكن يجوز أن يكون أمره -عليه السلام- بالتماسها في السبع الأواخر بعد أمره بالتماسها في العشر الأواخر كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-؛ فإنه أمر فيه أولاً بالتماسها في العشر الأواخر، ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر" واقتصر على هذا حتى قال لأبي ذر: "لا تسألني عن شيء بعدها" وكان قد غضب عليه كما ذكرنا فيما مضى، فعلى هذا يكون التحري في السبع الأواخر دون ما سواها من الشهر، ولكن هذا تحرٍّ لا حقيقة معه، فنظرنا في ذلك فوجدنا رواية عقبة بن حريث التغلبي الكوفي -من رجال الصحيح- عن ابن عمر، دلت على أنها قد تكون في السبع الأواخر أحرى وأولى، أن تكون فيما قبله في العشر الأواخر. ورجال حديثه كلهم ثقات. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عقبة -وهو ابن حريث- قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "التمسوها في العشر الأواخر -يعني ليلة القدر- فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يُغْلَبن على السبع البواقي". قوله: "فلا يُغْلَبن" على صيغة المجهول المؤكد بالنون الثقيلة. قوله: "وأما ما ذكرناه عن عبد الله بن أنيس ... " إلى آخره. بيان وجه التنصيص على ثلاث وعشرين، ووجه توفيقه مع غيره من الروايات على ما تقدم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 823 رقم 1165).

ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهيي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، قال: حدثني ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، أنه قال لرسول الله -عليه السلام-: "إني أكون ببادية يقال لها: الوطأة، وإني بحمد الله أصلي بهم؛ فمرني بليلة في هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه، قال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه فإن أحببت أن تستتم آخر الشهر فافعل، وإن أحببت فكف، فكان إذا صلى صلاة العصر دخل المسجد ولا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد". ففي هذا الحديث أنه قد جعل لليلة ثلاث وعشرين في التحري ما لم يجعل لسائر السبع الأواخر، وقد حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عبد العزيز بن بلال بن عبد الله، عن أبيه بلال بن عبد الله، عن عطية بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن أنيس: "أنه سأل النبي -عليه السلام- عن ليلة القدر، فقال: إني رأيتها فأنسيتها فتحرها في النصف الآخر، ثم عاد فسأله، فقال: في ثلاث وعشرين تمضي من الشهر". قال عبد العزيز: وأخبرني أبي: "أن عبد الله بن أنيس كان يحيي ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين، ثم يُقصر". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يتحراها في النصف الآخر من الشهر، ثم أمره بعد ذلك أن يتحراها ليلة ثلاث وعشرين، فقد رجع معنى هذا الحديث إلي معنى ما رويناه قبله عن عبد الله بن أنيس، وقد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- إنما أمر عبد الله بن أنيس بتحري ليلة القدر في الليلة التي ذكرنا، على أن تحريه ذلك إنما دله أنها تكون في تلك السنة كذلك لرؤياه التي رآها، وإن كانت قد تكون في غيرها من السنين بخلاف ذلك، فأما ما روي عنه في رؤياه التي كان رآها فيما قد ذكرناه عنه في حديث بسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس. ش: ذكر هذين الوجهين من حديث عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه-، ووجه التوفيق بينهما ما روي عنه من غير هذين الوجهين، بيانه أن الذي أمر له في الحديث الأول:

هو أن يتحرى ليلة ثلاث وعشرين، وفي الحديث الثاني: هو أن يتحرى في النصف الأخير، ثم لما أعاد السؤال أمر أن يتحراها ليلة ثلاث وعشرين، فاتفق معنى الحديثين بلا شك. وقوله: "وقد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره. إشارة إلى وجه آخر من التوفيق، وبيان وجه التنصيص في أحاديث عبد الله بن أنيس على ليلة ثلاث وعشرين، بيانه: أنه -عليه السلام- إنما أمره بالتحري في ليلة ثلاث وعشرين؛ لدلالة تحريه -عليه السلام- في تلك السنة على أنها تكون فيها ليلة ثلاث وعشرين، وإن كان يجوز أن تكون في غير تلك السنة في غير تلك الليلة، وكان الدال على تحريه -عليه السلام- في تلك السنة هو رؤياه التي كان رآها -عليه السلام- وهو ما روي في حديث بُسر بن سعيد، عن عبد الله بن أنيس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "رأيتني في ليلة القدر كأني أسجد في ماء وطين فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين". فأما الحديث الأول فرجاله ثقات. والوهبي هو أحمد بن خالد الكندي، شيخ البخاري في غير "الصحيح". وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني. وابن عبد الله بن أنيس قد مَرَّ الكلام فيه عن قريب. وأخرجه الطبراني: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا عياش بن الوليد الرقام، ثنا عبد الأعلى، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه أنه قال: "يا رسول الله، إنا نكون في باديتنا، وأنا بحمد الله أصلي بها، فأْمُرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد فأصلي فيه، فقال: أنزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها، وإن أحببت أن تستتم إلى آخر الشهر فافعل، وإن أحببت أن ترجع إلى أهلك بليل فاصنع". قوله: "يقال لها: الوطأة". وقع في "مسند أبي يعلى الموصلي" في روايته: "وهي من المدينة على بريد وأميال".

وأما الحديث الثاني فرجاله ثقات أيضًا، فأحمد بن صالح المصري الحافظ المبرز المعروف بابن الطبري شيخ البخاري وأبي داود. وابن أبي فديك هو هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار الديلي المدني، روى له الجماعة. وعبد العزيز بن بلال بن عبد العزيز بن أنيس، ذكره البخاري في "تاريخه" وسكت عنه. وأبوه بلال بن عبد الله وثقه ابن حبان. وأخوه عطية بن عبد الله بن أنيس وثقه ابن حبان أيضًا. وأخرجه الطبراني: ثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري، ثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن أبي فديك، ثنا عبد العزيز بن بلال بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه بلال بن عبد الله، عن عطية بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن أنيس: "أنه سأل رسول الله -عليه السلام- عن ليلة القدر، فقال: رأيتها فأنسيتها، فتحرها في النصف الآخر، ثم عاد فسأله، فقال: في ثلاث وعشرين تمضي من الشهر. قال عبد العزيز: فأخبرتني أمي أن عبد الله بن أنيس كان يحيى ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين". قوله: "فَأُنسيتها" على صيغة المجهول. قوله: "فتحرها" أي فتحر ليلة القدر، وهو أمر من تحرى يتحرى. قوله: "قال عبد العزيز: وأخبرني أبي" هو عبد العزيز بن بلال المذكور، وفي رواية الطبراني كما ذكرناها "قال عبد العزيز: فأخبرتني أمي"، فلم أدْرِ، أي النسختين صحيحة؟ والله أعلم. ص: وقد روي عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى، أن أبا سلمة حدثه قال: "أتيت أبا سعيد الخدري فقلت: هل سمعت النبي -عليه السلام- يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع النبي -عليه السلام- العشر

الأوسط من شهر رمضان، فلما كان صبيحة عشرين قام النبي -عليه السلام- فينا فقال: من كان خرج فليرجع، فإني أُريت الليلة فأنسيتها، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان في وتر، قال أبو سعيد: وما نرى في السماء قزعة، فلما كان الليل إذا سحاب مثل الجبال فمطرنا حتى سال سقف المسجد -وسقفه يومئذٍ من جريد النخل- حتى رأيت النبي -عليه السلام- يسجد في ماء وطين، حتى رأيت الطين في أنف النبي -عليه السلام-". ففي هذا الحديث أنها كانت عامئذٍ في ليلة إحدى وعشرين، فقد يجوز أن يكون ذلك العام هو عام آخر خلاف العام الذي كانت فيه في حديث ابن أنيس ليلة ثلاث وعشرين، وذلك أولى ما حمل عليه هذان الحديثان حتى لا يتضادا. ش: أي قد روي عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري، عن النبي -عليه السلام- خلاف ما روي عن عبد الله بن أنيس، فإن حديث ابن أنيس يدل على أن ليلة القدر إنما أمر بالتماسها في ليلة ثلاث وعشرين، وفي حديث أبي سعيد هذا إنما كانت في ذلك العام في ليلة إحدى وعشرين، وبينهما تضاد ظاهرًا، وأشار إلى وجه التوفيق بقوله: فقد يجوز أن يكون ذلك العام ... إلى آخره، وهو ظاهر. ثم إسناد هذا الحديث صحيح. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، ويحيى هو ابن أبي كثير الطائي، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم-. وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة. وأخرجه أيضًا (1): عن محمد بن مثنى، قال: نا أبو عامر، قال: نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: "تذاكرنا ليلة القدر، فأتيت أبا سعيد الخدري وكان لي صديقًا، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ فخرج وعليه خميصة، فقلت ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 826 رقم 1167).

له: سمعتَ رسول الله -عليه السلام- يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله -عليه السلام- العشر الوسطى في رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله -عليه السلام- فقال: إني رأيت ليلة القدر، وإني تَسيتها أو نُسِّيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله -عليه السلام- فليرجع، قال: فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، قال: وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله -عليه السلام- يسجد في الماء والطين، قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته". وأخرجه البخاري (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا. قوله: "العشر الأوسط" رواه بعضهم: "العُشر الوسط" -بضم الواو والسين- جمع واسط، كمنازل ونُزُل، ورواه بعضهم: "الوُسَط" -بضم الواو وفتح السين- جمع وسطى ككُبر وكبرى، وأكثر الروايات فيه: الأوسط، وقيل: إنه جاء على لفظ العشر، فإن لفظ العشر مذكر. وقوله: "أُريت الليلةَ" على صيغة المجهول، و"الليلة" نصب على الظرف. قوله: "وإني أُنسيتها" على صيغة المجهول من الإنساء، وفي رواية مسلم: "فَنَسِيتها" على صيغة المعلوم من الثلاثي، وفي رواية "فَنُسِّيتها" على صيغة المجهول من باب نُسي بالتشديد. قوله: "قزعة" بالعين أي قطعة من الغيم، وجمعها قُزَع. قوله: "فَمُطرنا" على صيغة المجهول، يقال: مطرت السماء تمطر مطرًا، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 709 رقم 1912). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 52 رقم 1382). (¬3) "المجتبى" (3/ 79 رقم 1356). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 561 رقم 1766).

وأمطرها الله، وقد مُطرنا، وناسٌ يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنىً، ومنهم من يخص أمطر في العذاب، كما في قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} (¬1). قوله: "حتى سال سقف المسجد" من قبيل: سال الوادي وأُريد ماؤها؛ لأن السقف لا يسيل ولا نفس الوادي، وهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحالّ. قوله: "وسقفه يومئذٍ" حال. ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسَّان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت قال: "خرج علينا رسول الله -عليه السلام- ليخبرنا ليلة القدر، فتلاحى رجلان، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت وحميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عن النبي -عليه السلام- مثله. ففي هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- رآها في ليلة بعينها وقد أمرهم بعد رؤيته أن يتحروها فيما بعد في التاسعة والسابعة والخامسة، فدل ذلك على أنها قد تكون في عام في ليلة بعينها ثم تكون فيما بعد غير تلك الليلة، فدل ذلك على المعنى الذي ذهبنا إليه في حديث ابن أنيس -رضي الله عنه-. ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما قاله من جواز انتقال ليلة القدر إذا كانت في ليلة مخصوصة في عام إلى ليلة أخرى في عام آخر. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل -شيخ البخاري- عن زهير بن معاوية بن حديج، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: [74].

وأخرجه البخاري (¬1): من حديث حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال النبي -عليه السلام-: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي النحوي المقرئ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وحميد الطويل، كلاهما عن أنس، عن عبادة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، نا حماد، أنا ثابت وحميد، عن أنس بن مالك، عن عُبادة بن الصامت "أن النبي -عليه السلام- خرج ذات ليلة على أصحابه وهو يريد أن يخبرهم بليلة القدر، فتلاحى رجلان، فقال رسول الله -عليه السلام-: خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فاطلبوها في العشر الأواخر فمن تاسعة أو سابعة أو خامسة". قوله: "فتلاحى رجلان" أي تخاصما وتنازعا، من لاحيته ملاحاة ولحاءً: إذا نازعته، واللَّحي: اللوم والعَذْل، يقال: لَحَيت الرجل أَلْحاه لَحْيًا: إذا لمته وعذلته. قوله: "فرفعت" أي ليلة القدر، وبهذا احتج بعضهم أن ليلة القدر قد رفعت، وأنها كانت في زمن النبي -عليه السلام- خاصةً، وهذا غير صحيح؛ لأن المراد من رفعها رفع بيان علمها بالعين، والدليل على ذلك أنه -عليه السلام- أمر بالتماسها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يكن في الأمر بالتماسها فائدة. قوله: "وعسى أن تكون خيرًا لكم" أي عسى أن يكون رفع بيان علم عينها خيرًا لكم؛ لتجتهدوا في طلبها، وتُكثروا العمل، ولو كانت عُيِّنت لهم كانوا اتكلوا على عملهم فيها فقط. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 27 رقم 49). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 313 رقم 22726).

وفي هذا الحديث ما يدل على شؤم الاختلاف والمراء، والعقوبة عليه، وأن الاختلاف والمراء من الشيطان كما جاء في النسائي (¬1) "فجاء رجلان معهما الشيطان فأنسيتها". ص: وقد روي ذلك عن أبي هريرة: أخبرنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا إسحاق بن يحيى، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أُريت ليلة القدر، فانسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المَسْعُودي، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- نسي الليلة التي كان أُريها أنهما ليلة القدر، وذلك قبل كون تلك الليلة، فأمر بالتماس ليلة القدر فيما بعد من ذلك الشهر في العشر الأواخر، فهذا خلاف ما في حديث عبادة بن الصامت، إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك كان في عامين؛ فرأى رسول الله -عليه السلام- في إحداهما ما ذكره عنه أبو هريرة [قبل] (¬2) كون الليلة التي هي ليلة القدر، وذلك لا ينفي أن تكون فيما بعد ذلك العام من الأعوام الجائية فيما قبل ذلك من الشهر، ويكون ما ذكر عبادة على أن رسول الله -عليه السلام- وقف في ذلك العام على ليلة القدر بعينها، ثم خرج ليخبرهم بها، ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 274 رقم 3405). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فرفعت ثم أمرهم بالتماسها فيما بعد ذلك من الأعوام في السابعة والخامسة والتاسعة، وذلك أيضًا على التحري لا على اليقين. ش: أي قد روي ما ذكر من رؤية ليلة القدر في حديث عبادة عن أبي هريرة أيضًا، ولكن بين حديثيهما خلاف؛ لأن في حديث عبادة رآها في ليلة بعينها، ثم رفعت بسبب ملاحاة الرجلين المذكورين، ثم أمرهم بالتماسها في التاسعة والسابعة والخامسة، وفي حديث أبي هريرة نسي الليلة التي كان أُريها أنها ليلة القدر، وذلك قبل كون تلك الليلة، وأشار إلى وجه التوفيق بينهما بقوله: "إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك ... " إلى آخره. وهو ظاهر. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ... إلى آخره نحوه سواء، وفي آخره قال حرملة: "فَنُسِّيتها". الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يحيى بن صالح الوُحاظي شيخ البخاري، عن إسحاق بن يحيى الكلبي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري ... إلى آخره. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه كليب بن شهاب الجَرْمي الكوفي، عن أبي هريرة. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 824 رقم 1166).

قوله: "فنسيتها" بفتح النون والتخفيف، وفي رواية بالضم والتشديد، وفي رواية "فأنسيتها" من الإنساء على صيغة المجهول. قوله: "الغوابر" أي: البواقي، جمع غابر، وهذه اللفظة من الأضداد؛ فإنها تستعمل بمعنى الماضي وبمعنى الباقي، وها هنا بمعنى الباقي. ص: وقد حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر: تسعًا بقين، وسبعًا بقين، وخمسًا بقين". فقد يجوز أن يكون أراد بذلك العام الذي كان اعتكف فيه ورأى ليلة القدر فأنسيها، إلا أنه كان علم أنها في وتر، فأمرهم بالتماسها في وتر من تلك العشر، ثم جاء المطر فاستدل به أنها كانت في عامه ذلك في تلك الليلة بعينها، وليس في ذلك دليل على وقتها في الأعوام الجائية بعد ذلك، هل هي في تلك الليلة بعينها، أو فيما قبلها، أو فيما بعدها؟ وقد يجوز أن يكون ما حكاه أبو نضرة في هذا عن أبي سعيد عن النبي -عليه السلام- هو للأعوام كلها، فيعود مع ذلك إلى معنى ما رويناه متقدمًا في هذا الباب عن ابن عمر، إلا أن في حديث أبي سعيد زيادة معنىً واحد، وهو: أنها تكون في الوتر من ذلك. ش: هذا الحديث الذي رواه أبو نَضْرة -بالنون والضاد المعجمة- واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ثم العوقي -بالقاف- نسبة إلى عوق بطن من عبد القيس، روى له الجماعة. يحتمل وجهين في المعنى: أحدهما: أن يكون تفسيرًا للحديث، رواه أبو سلمة، عن أبي سعيد، أشار إليه بقوله: فقد يجوز أن يكون أراد بذلك -أي بقوله: "اطلبوا ليلة القدر ... " إلى آخره- العام الذي كان اعتكف فيه ورأى ليلة القدر فيه على التعيين، ولكنه أنسيها، إلا أنه قد كان علم أنها كانت في وتر، فلذلك أمرهم بالتماسها -أي: طلبها- في الأوتار بأن قال: "تسعًا بقين" وهي ليلة إحدى وعشرين، "وسبعًا

بقين" وهي ليلة ثلاث وعشرين، "وخمسًا بقين" وهي ليلة خمس وعشرين، وانتصاب "تسعًا" و"سبعًا" و"خمسًا" على الظرفية. وقوله: "بقين" في المواضع الثلاثة: صفات للأعداد. وقيل: إنما يصح معناه ويوافق ليلة القدر وترًا من الليالي إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إذا كان كاملًا فإنها لا تكون إلا في سبع، فتكون التسع الباقية: ليلة اثنين وعشرين، والسبع الباقية: ليلة أربع وعشرين، والخمس الباقية ليلة: ست وعشرين، فلا تصادف واحدة منهن وترًا، وهذا على طريقة العرب في التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤخرون بالباقي منه لا بالماضي، هكذا ذكره بعضهم. والوجه الآخر: أن يكون معناه مثل معنى حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الذي مضى ذكره في أوائل الباب، وهو قوله -عليه السلام-: "التمسوا ليلة القدر في العشر الغوابر: في السبع الغوابر" وفي رواية: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان" ولكن الفرق بينهما أن في حديث أبي سعيد تنصيصًا على الأوتار، وليس ذلك في حديث ابن عمر. وهذا الحديث أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) مطولًا ومختصرً. وقال أبو داود (2): ثنا محمد بن المثنى، حدثني عبد الأعلى، نا سعيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال: قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا؟ قال: أجل، قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها التاسعة، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 826 رقم 1167). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 52 رقم 1383). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 274 رقم 3405).

ص: وقد حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا حسين بن علي الجُعْفي، عن زائدة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، عن ابن عمر -رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". وكذا فالكلام في هذا أيضًا مثل الكلام في حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-. ش: حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا أيضًا في المعنى مثل حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- وهو أن كلًا منهما مشتمل على أن ليلة القدر تُلتمس في العشر الأواخر من رمضان في الأوتار. ورجال حديث عمر ثقات. وزائدة هو ابن قدامة الثقفي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، نا عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عمر -رضي الله عنهم-: "أن النبي -عليه السلام- ذكر ليلة القدر فقال: التمسوها في العشر الأواخر في وتر منها". قوله: "وترًا" نُصِب على الحال، من ليلة القدر. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحرُّوها لعشر بقين من شهر رمضان". فالكلام في هذا أيضًا مثل الكلام في حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد. ش: إسناده صحيح. وأبو معاوية الضرير اسمه محمد بن خازم، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (1/ 327 رقم 210).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا ابن نمير ووكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: -قال ابن نمير: "التمسوها وقال وكيع: تحروا- ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". وأخرجه البخاري (¬2) والترمذي (¬3) أيضًا. ص: وقد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "تَحرُّوها ليلة سبع وعشرين -يعني ليلة القدر-". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارمٌ أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "أرى رؤياكم قد تواطأت أنها ليلة السابعة في العشر الأواخر". فقد يحتمل أن يكون هذا في عام بعينه، ويحتمل أن يكون في كل الأعوام كذلك، إلا أن ذلك كله على التحري لا على اليقين، وكللك ما ذكرناه قبل هذا عن عبد الله بن أنيس مما أمره به رسول الله -عليه السلام- من ذلك يحتمل أن يكون ذلك على التحري من رسول الله -عليه السلام- لها في ذلك العام؛ لِمَا قد كان أُريه من وقتها الذي تكون فيه فأنسيها. فلم يكن في شيء من هذه الآثار ما يدلنا على ليلة القدر أَيُّ ليلة هي بعينها؟ غير أن في حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه السلام- قال له: "هي في العشر الأولى أو في العشر الأواخر من رمضان" إذْ سأله عن وقتها، على ما قد ذكرناه في حديثه الذي ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 828 رقم 1169). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 710 رقم 1913). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 158/ رقم 7920).

رويناه عنه في أول هذا الباب، فنفى بذلك أن تكون في العشر الأوسط، وثبت أنها في أحد العشرين، إما في الأَول وإما في الآخر. وفي هذا الحديث أيضًا رجوع أبي ذر بالسؤال على رسول الله -عليه السلام- في أي العشرين، وجواب رسول الله -عليه السلام- إياه بأَنْ يتحراها في العشر الأواخر. فنظرنا فيما روي في غير هذه الآثار هل فيه ما يدل على أنها في ليلة من هذين العشرين بعينها؟ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصُّنابحي، عن بلال -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين". ففي هذا الحديث أنها في هذه الليلة بعينها. ش: لما جاء عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام-: "تحروها في السبع الأواخر من رمضان" كما مرَّ ذكره في أول الباب، وجاء عنه أيضًا: "تحروها ليلة سبع وعشرين"، وجاء عنه أيضًا: "أنها في كل رمضان" وجب توجيه ذلك كله. أما قوله: "في كل رمضان" فقد مَرَّ الكلام فيه مستوفى. وأما قوله: "في السبع الأواخر" فهو متضمن لقوله: "ليلة سبع وعشرين" إلا أن قوله: "ليلة سبع وعشرين" فيه تعيين لذلك، ثم هذا يحتمل أن يكون في عام بعينه، ويحتمل أن يكون كذلك في كل الأعوام، ولكن كل ذلك على وجه التحري لا على وجه اليقين. وكذلك ما رواه عبد الله بن أنيس: "أنها ليلة ثلاث وعشرين" فيشمله ما رواه عبد الله بن عمر: "تحروها في السبع الأواخر" ويحتمل أن يكون ذلك على وجه التحري من رسول الله -عليه السلام- لليلة القدر في ذلك العام؛ لأجل أنه قد أُريها في وقتها الذي تكون هي فيه، ولكنه أنسيها، فحينئذٍ لم يكن في شيء من الأحاديث المذكورة ما يدل على ليلة القدر أَيُّ ليلة هي بعينها، غير أنه جاء في

حديث أبي ذر المذكور فيما مضى أن رسول الله -عليه السلام- قال له: "هي في العشر الأول أو في العشر الأواخر من رمضان" فهذا ينفي أن تكون في العشر الأوسط، ويثبت أنها في أحد العشرين: إما في العشر الأول، أو في العشر الآخر، فإذا كان كذلك؛ نحتاج إلى النظر في الآثار، هل روي فيها ما يدل على أنها في ليلة معينة من هذين العشرين، فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث بلال -رضي الله عنه- يدل على أنها في ليلة معينة، وهي ليلة أربع وعشرين على ما يجيء، ووجدنا في حديث آخر عن أُبي بن كعب: أنها ليلة سبع وعشرين، وكذا عن معاوية: أنها ليلة سبع وعشرين، وكل ذلك على التحري لا على اليقين، وقد ذكرنا من هذه الروايات المختلفة كلها محمولة على اختلاف الأعوام. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ كان متحريًّا فليتحرها ليلة سبع وعشرين -يعني ليلة القدر-". الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2): عن شعبة، عن عبد الله بن دينار ... إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 27 رقم 4808). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 257 رقم 1888).

وأخرجه البزار "مسنده": عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر نحوه. وأما حديث بلال: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيْلة الصُّنابحي، ونسبته إلى صنابح بطن من مراد من اليمن، عن بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أبو مسلم الكشّي، نا يحيى بن كثير الناجي، نا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) موقوفًا، ولكن في روايته: "ليلة ثلاث وعشرين". ثنا عبد الأعلى وابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن الصُّنابحي قال: "سألت بلالًا عن ليلة القدر، قال: ثلاث وعشرين". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- خلاف ذلك: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا يزيد بن عبد الله، قال: ثنا بقيَّة، عن ابن ثوبان، قال: حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وعلامتها أن الشمس تصعد ليس لها شعاع كأنها طَسْتٌ". حدثنا يونس، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني عَبْدة بن أي لبابة، قال: حدثني زِرّ بن حُبيش، قال: سمعت أبي بن كعب، بلغه أن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 360 رقم 1102). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 250 رقم 8669).

ابن مسعود قال: "مَنْ قام السنة كلها أصاب ليلة القدر، فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إني لأعلم أي ليلة هي، أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نقومها ليلة صبيحة سبع وعشرين". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن سابق، قال: ثنا مالك بن مغول، عن عاصم بن أبي النجود، عن زِرّ بن حُبَيش قال: "قلت لأبي بن كعب: "إن عبد الله كان يقول في ليلة القدر: مَنْ قام الحول أدركها، فقال: رحمةُ الله على أي عبد الرحمن، أما والذي يُحْلَف به لقد علم أنها لفي رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، قال: فلما رأيته يحلف لا يستثني، قلت: ما علمك قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَحَسبْنا وعَدَدْنَا، فإذا هي ليلة سبع وعشرين -يعني أن الشمس ليس لها شعاع-". فهذا أبي بن كعب يُخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنها في ليلة سبع وعشرين، وينفي قول عبد الله: "من يقم الحول يصيبها" غير أنه قد روي عن عبد الله في ليلة القدر: أنها في رمضان، على ما قد حلف عليه أبي أن عبد الله قد علمه، ولكنه في خلاف ليلة سبع وعشرين: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نُعيم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير التغليي، عن الأسود، أن عبد الله قال: "التمسوا ليلة القدر في ليلة سبع عشرة من رمضان، صبحتها بدر، وإلا ففي إحدى وعشرين أو في ثلاث وعشرين". فأما ما ذكرنا عن عبد الله أنها ليلة تسع عشرة فقد نفاه ما حكى أبو ذر عن النبي -عليه السلام-: "أنها في العَشْرَيْن من الشهر الأول والآخر". ش: أي: قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما روي عن بلال -رضي الله عنه-: أنها ليلة أربع وعشرين، وهو أنه روي عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-: أنها ليلة سبع وعشرين. وأخرج حديثه من ثلاث طرق: الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يزيد بن عبد ربِّه

الزُّبَيْدي أبي الفضل الحمصي المؤذن المعروف بالجُرْجُسِي، شيخ أبي داود وأحمد ويحيى بن معين، فقال يحيى: ثقة صاحب حديث، وروى له مسلم والنسائي. وهو يروي عن بقية بن الوليد الحمصي كان مدلسًا؛ فإذا قال: "عن" فليس بحجة، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، ومسلم في "المتابعات"، عن عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان العَنْسي الدمشقي الزاهد، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ضعيف. وعنه: لا شيء. وعنه: صالح. وقال العجلي وأبو زرعة وابن المديني: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي، أبي القاسم البزاز، أحد مشايخ أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، روى له الجماعة؛ أبو داود في كتاب المسائل. وهو يروي عن زِرّ بن حُبَيش بن حباشة أبي مريم الكوفي، مخضرم أدرك الجاهلية، روى له الجماعة. والحديث أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) بألفاظ مختلفة، فقال مسلم (1): نا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة، يحدث عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: "قال أبي في ليلة القدر: والله إني لأعلمها -قال شعبة: وأكثر علمي- هذه الليلة التي أمرنا رسول الله -عليه السلام- بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين". قوله: "ليس لها شعاع" قيل: هذه الصفة يحتمل أنها اختصت بعلامة صبيحة الليلة التي أنبأهم النبي -عليه السلام- أنها ليلة القدر، وجعلها دليلًا لهم عليها في ذلك، لا أنَّ تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر، كما أعلمهم -عليه السلام- أنه سجد في صبيحتها في ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 525 رقم 762). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 51 رقم 1378). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 274 رقم 3410).

ماء وطين، ويحتمل أنها صفة خاصة لها، وقيل: الحكمة من ذلك: أنه لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزلت به من عند الله، وبكل أمر حكيم، وبالثواب من الأجور سترت أجسامها اللطيفة وأجنحتها شعاعها، وحجبت نورها. قوله: "كأنها طَسْت" أي كأنها مثل الطست، وفيها لغات: طَسْت وطِست -بالفتح والكسر- وطسَ وطِس كذلك، وطَسَة وطِسَة كذلك. الطريق الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عَبدة بن أبي لبابة ... إلى آخره. وأخرجه (¬1) ....... الطريق الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي. عن محمد بن سابق التميمي البزاز الكوفي -شيخ البخاري في "الأدب"- وروى له بقية الجماعة غير ابن ماجه. عن مالك بن مغول البجلي الكوفي، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. عن عاصم بن أبي النَّجُود -بفتح النون وضم الجيم- وأبو النجود اسمه بَهْدلة، وهو الصحيح، وقيل: بهدلة أمه، وليس بشيء. وعاصم هذا هو أحد القراء السبعة، واحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، الشيخان مقرونًا بغيره. وأخرجه مسلم (¬2): نا محمد بن حاتم وابن أبي عمر، كلاهما عن ابن عيينة -قال ابن حاتم: نا سفيان بن عيينة- عن عبدة وعاصم بن أبي النجود، سمعا زِرّ بن ¬

_ (¬1) بيَّض له المؤلف -رحمه الله-، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 525 رقم 762) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي به. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 828 رقم 762).

حبيش يقول: "سألت أبي بن كعب، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: أراد أن لا يتكل الناس، أمَا إنه قد عَلِمَ أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني إنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة -أو بالآية- التي أخبر رسول الله -عليه السلام-، أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها". وأخرج أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا مصعب بن سلام، ثنا الأجلح، عن الشعبي، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: "تذاكر أصحاب رسول الله -عليه السلام- ليلة القدر، فقال أُبَيّ: أنا والذي لا إله غيره أعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أخبرنا بها رسول الله -عليه السلام-؛ ليلة سبع وعشرين تمضي من رمضان، وآية ذلك أن الشمس تصبح الغد من تلك الليلة؛ ترقرق ليس لها شعاع". قوله: "ترقرق" بالراءين والقافين، أي تدور، وتجيء وتذهب، وهو كناية عن ظهور حركتها عند طلوعها؛ فإنها ترى لها حركة متخيلة بسبب قربها من الأفق، والأبخرة المعترضة بينها وبين الأبصار، بخلاف ما إذا عَلَت وارتفعت. قوله: "من قام الحول" الحول نُصب على الظرفية، والتقدير: مَنْ قام من الحول. قوله: "أدركها" أي أدرك ليلة القدر، أراد بهذا أن ليلة القدر في جميع السنة. قوله: "على أبي عبد الرحمن" هو عبد الله بن مسعود، وأبو عبد الرحمن كنيته. قوله: "أمَا والذي يُحْلَف به" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهو حرف استفتاح بمنزلة "أَلا" ويذكر قبل القسم، كقوله: "أما والذي أبكى وأضحك، والذي أمات وأحيى، والذي أَمْرُهُ الأمر"، وقد تستعمل بمعنى "حقًّا" في غير هذا الموضع. قوله: "إنها في رمضان" اللام فيه للتأكيد، وهي مفتوحة. قوله: "لا يسثثني" في موضع النصب على الحال. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 130 رقم 21228).

قوله: "غير أنه" استثناء من قوله: "وينفي قول عبد الله" أي: غير أن الشأن قد روي عن عبد الله بن مسعود في ليلة القدر أنها في شهر رمضان، على ما حلف عليه أبي بن كعب، أن عبد الله بن مسعود قد عَلِمَ ليلة القدر في رمضان، ولكنه في خلاف ليلة سبع وعشرين، وبيَّن ذلك بقوله: حدثنا أبو أمية ... إلى آخره. وهو محمد بن مسلم الطرسوسي، يروي عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حجير التغلبي وثقه العجلي، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، قال: نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير التغلبي، عن الأسود، عن عبد الله قال: "التمسوا ليلة القدر ليلة سبع عشرة فإنها صبيحة يوم بدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان". قوله: "فأما ما ذكرنا عن عبد الله ... " إلى آخره. أراد أن الذي روي عن عبد الله بن مسعود أن ليلة القدر ليلة تسع عشرة، ينفيه ما روي عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، عن النبي -عليه السلام-: "أنها في العَشْرين" بفتح العين وسكون الشين تثنية عَشْر، وأراد بهما العَشْر الأول من رمضان، والعَشْر الثاني منه، والذي روي عن أبي ذَرٍّ مَرَّ في هذا الباب. ص: وقد روي عن عبد الله أيضًا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المسعودي، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة القدر، فقال: أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ قال عبد الله: أنا والله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وبيدي تمرات أتسحر بهن، وأنا مستتر بمؤخرة رحلي من الفجر، وذلك حين طلع الفجر". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- لما سُئل عن ليلة القدر، أخبرهم أي ليلة هي ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 251 رقم 8680).

وأنها ليلة الصهباوات، فوصفها عبد الله بما وصفها به في ضوء القمر عند طلوع الفجر؛ وذلك لا يكون إلا في آخر الشهر، فقد دل أيضًا على ما قال أُبَيّ. وفي كتاب الله -عز وجل- ما يدل أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصةً، قال الله -عز وجل-: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬1)، فأخبر الله -عز وجل- أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬2)، فثبت بذلك أن تلك الليلة في شهر رمضان، واحتجنا إلى أن نعلم أي ليلة هي من لياليه، فكان الذي يدل على ذلك ما قد رويناه عن بلال عن النبي -عليه السلام-: "أنها ليلة أربع وعشرين"، والذي روي عن أبي بن كعب، عن النبي -عليه السلام-: أنها ليلة سبع وعشرين". ش: أي: وقد روي عن عبد الله بن مسعود أيضًا، ما يدل على أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصة، وأشار بهذا الكلام إلى آخره إلى رد ما روي عن عبد الله أيضًا: "أن ليلة القدر في كل الحول" كما ذهبت إليه طائفة؛ وذلك لأن حديثه هذا الذي فيه ذكر ليلة الصهباوات يدل على أنها في شهر رمضان خاصة، موافقًا لما قال أبي بن كعب من أنها في رمضان، وحلف على ذلك كما مَرَّ ذكره. وفي كتاب الله تعالى أيضًا ما يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} (1) أي القرآن دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬3)، ثم وصف هذه الليلة بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬4) من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمرهم منها إلى الأخرى القابلة، والمعنى: كل أمر: أي شأن ذي حكمة، ثم أخبر الله تعالى أن ¬

_ (¬1) سورة الدخان، آية: [1 - 3]. (¬2) سورة البقرة، آية: [185]. (¬3) سورة الدخان، آية: [3]. (¬4) سورة الدخان، آية: [4].

تلك الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أُنزل فيها القرآن، ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬1)، فإذا كان كذلك ثبت أن ليلة القدر في شهر رمضان خاصةً، ولكن بَقِيَ لنا أن نعلم أي ليلة هي من ليالي رمضان، فرأينا حديث بلال يدل على أنها ليلة أربع وعشرين، وحديث أبي بن كعب: أنها ليلة سبع وعشرين. ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير الصحيح. عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، احتج به الأربعة، واستشهد به البخاري. عن سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي، وثقه ابن حبان. عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود -ويقال: اسمه كنيته- وقال الترمذي: لا يُعرف اسمه، ولم يسمع من أبيه شيئًا. وقال غيره: سمع من أبيه. روى له الجماعة. وأخرجه اللهقي (¬2) من حديث المسعودي ... إلى آخره نحوه، ولكن في روايته: "وذلك حين طلع القمر"، وقال الذهبي في "مختصر السنن": سعيد لا أعرفه، والخبر منكر. قلت: أراد به سعيد بن عمرو بن جعدة، وهو كما قد ذكرناه وثقه ابن حبان ولعل الذهبي لم يطلع عليه؛ وعدم علمه به لا ينافي علم غيره. قوله: "ليلة الصهباوات" هي جمع صهباء، وهو موضع على روحة من خيبر. قوله: "بأبي أنت وأمي" فيه حذف، وتقديره: أنت مفدَّى بأبي وأمي، وقيل: فديتك بأبي وأمي، فعلى الأول محل "الباء" مرفوع، وعلى الثاني منصوب، فافهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [185]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 312 رقم 8337).

قوله: "بِمؤخِّرة رحلي" بضم الميم وكسر الخاء، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير، وأراد بالرحل ها هنا: الكور الذي يركب عليه، وهو له كالسرج للفرس. ص: وقد روي عن معاوية، عن النبي -عليه السلام- مثل ما روي عن أبي من ذلك، عن النبي -عليه السلام-: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت مطرف بن عبد الله يُحدث، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي -عليه السلام- في ليلة القدر قال: "ليلة سبع وعشرين". ش: أي: قد روي عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي -عليه السلام- "أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" كما روي عن أبي بن كعب، عن النبي -عليه السلام-. وهو ما أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله ابن معاذ العنبري البصري شيخ مسلم، عن أبيه معاذ بن معاذ بن نصر، قاضي البصرة الثقة الثبت. عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة بن دعامة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير البصري، عن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة ... إلى آخره نحوه سواء. ص: فهذا منتهى ما وقفنا عليه من علم ليلة القدر، بما دلنا عليه كتاب الله -عز وجل- وسنة رسول الله -عليه السلام-، فأما ما روي بعد ذلك عن أصحابه وتابعيهم فمعناه داخل في المعاني التي ذكرنا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 53 رقم 1386).

ش: انتهى الطحاوي في هذا الباب إلى ما لم ينته إليه غيره، ممن كان في عصره، ومَن بعده، حيث أخرج فيه عن خمسة عشر نفرًا من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم: عبد الله بن عمر، وأبو ذر، وعبد الله بن أنيس، وأبو سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب، وعائشة أم المؤمنين، وبلال بن رباح، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاوية بن أبي سفيان، فهؤلاء اثني عشر نفرًا. ومنهم أيضًا: جابر بن عبد الله روى عن عبد الله بن أنيس، وأنس بن مالك روى عن عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس روى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. ولما أخرج الترمذي (¬1) حديث عائشة في ليلة القدر قال: وفي الباب عن عمر، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، والفلتان بن عاصم، وأنس، وأبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأبي بكرة، وابن عباس، وبلال، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء أربعة عشر نفرًا، وقد فات الطحاوي منهم: الفلتان بن عاصم، وأبو بكرة نفيع بن الحارث، وجابر بن سمرة. أما حديث الفلتان بن عاصم فأخرجه الطبراني (¬2): نا محمد بن النضر الأزدي، نا معاوية بن عمرو، نا زائدة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، أن خاله الفلتان بن عاصم أخبره، أنه رأى النبي -عليه السلام-، وأن رسول الله -عليه السلام- قال: "أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا". وأما حديث أبي بكرة فأخرجه الترمذي (¬3): نا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، نا عيينة بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبي، قال: "ذكرت ليلة القدر عند ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 158 رقم 792). (¬2) "المعجم الكبير" (18/ 335 رقم 858). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 160 رقم 794).

أبي بكرة، فقال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله -عليه السلام- إلا في العشر الأواخر، وإنني سمعته يقول: التمسوها في تسع تبقين أو في خمس تبقين أو في ثلاث تبقين أو آخر ليلة". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): ثنا عمرو بن طلحة، عن أسباط بن نصر، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". ص: وإنما احتجنا إلى ذكر ما روي في ليلة القدر لما قد اختلف فيه أصحابنا من قول الرجل لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ قال أبو حنيفة: إن قال لها ذلك قبل شهر رمضان لم يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله لما قد اختلف في موضع ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، على ما قد ذكرنا في هذا الباب، مما روي أنها في الشهر كله ومما روي أنها في خاصٍّ منه، قال: فلا أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد مضي الشهر كله؛ لأني أعلم بذلك أنه قد مضى الوقت الذي أوقع الطلاق فيه، وأن الطلاق قد وقع. قال: وإن قال ذلك لها في شهر رمضان في أوله أو في آخره أو في وسطه لم يقع الطلاق حتى يمضي ما بقي من ذلك الشهر، وحتى يمضي شهر رمضان أيضًا كله من السنة القابلة. قال: لأنه قد يجوز أن تكون فيما مضى من هذا الشهر الذي هو فيه، فلا يقع الطلاق حتى يمضي شهر رمضان كله من السنة الجائية، وقد يجوز أن تكون فيما بقي من ذلك الشهر الذي هو فيه فيقع الطلاق فيها، وبكون كمن قال قبل شهر رمضان لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، فيكون الطلاق لا يحكم به عليه إلا بعد مضي شهر رمضان، قال: فلما أشكل ذلكم، لم أحكم بوقوع الطلاق إلا بعد علمي بوقوعه، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 250 رقم 867).

ولا أعلم ذلك إلا بعد مضي شهر رمضان الذي هو فيه، وشهر رمضان الجائي. فهذا مذهب أبي حنيفة في هذا الباب، وكان أبو يوسف قال مرةً هذا القول أيضًا، وقال مرةً أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي مثل ذلك الوقت من شهر رمضان من السنة الجائية. قال: لأن ذلك إذا كان فقد كمل حولٌ منذ قال ذلك القول، فهي في كل حول فعلمنا بذلك وقوع الطلاق. قال أبو جعفر: وهذا القول عندي ليس بشيء؛ لأنه لم ينقل لنا أن كل حول يكون فيه ليلة القدر، على أن ذلك الحول ليس فيه شهر رمضان بكماله من سنة واحدة، وإنما كان نقل لنا أنها في شهر رمضان من كل سنة، هكذا ولنا عليه كتاب الله، وقاله لنا رسول الله -عليه السلام-، على ما قد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب. فلما كان ذلك كذلك احتمل أن يكون إذا قال لها في بعض شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر أن تكون ليلة القدر فيما مضى من ذلك الشهر، فيكون إذا مضى حول من حينئذٍ إلي مثله من شهر رمضان من السنة الجائية لا ليلة فيه، ففسد بما ذكرنا قول أبي يوسف الذي وصفنا وثبت على هذا الترتيب ما ذهب إليه أبو حنيفة. وقد كان أبو يوسف قال مرة أخرى: إذا قال لها ذلك القول في بعض شهر رمضان؛ أن الطلاق لا يقع حتى تمضي ليلة سبع وعشرين، وذهب في ذلك فيما نرى والله أعلم إلى ما روي عن النبي -عليه السلام- فيه أنها في ليلة القدر من شهر رمضان بعينها هو حديث بلال وحديث أبي بن كعب -رضي الله عنه-، فإذا مضت ليلة سبع وعشرين علم أن ليلة القدر قد كانت، فحكم بوقوع الطلاق، وقبل ذلك فليس يعلم كونها؛ فلذلك لم يحكم بوقوع الطلاق. فهذا القول تشهد له الآثار التي رويناها في هذا الباب عن النبي -عليه السلام-. ش: هذا كله واضح لظهوره. قوله: "وقال مرة أخرى ... " إلى آخره، أراد أن أبا يوسف ذهب في هذا القول إلى أن ليلة القدر تكون في جميع السنة، كما قد ذهب إليه طائفة، واختار الإِمام

أبو بكر الرازي هذا القول حيث قال في كتابه "الأحكام": هذه الأخبار كلها جائز أن تكون صحيحة -وأراد بها الأحاديث التي وردت في ليلة القدر- فتكون في سنة في بعض الليالي، وفي سنة أخرى في غيرها، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان، وفي سنة أخرى في العشر الأوسط، وفي سنة في العشر الأول، وفي سنة في غير رمضان، ولم يقل عبد الله بن مسعود "من يقم الحول يصبها" إلا من طريق التوقيف، ولا يعلم ذلك إلا بوحي من الله إلى نبيه -عليه السلام- فثبت بذلك أن ليلة القدر غير مخصوصة بشهر في السنة، وأنها قد تكون في سائر السنة، ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لامرأته: "أنت طالق في ليلة القدر" أنها لا تطلق حتى يمضي حول؛ لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت أنها مخصوصة بوقت، فلا يجعل اليقين بوقوع الطلاق إلا بمضي حول. قلت: قد أفسد الطحاوي هذا القول الذي ذهب إليه الرازي فيما مضى، فالذي ذكره الرازي ليس مذهب أبي حنيفة، والمذهب هو الذي بينه الطحاوي. وقال شمس الأئمة في "المبسوط" (¬1): ذكر الفقيه أبو جعفر أن المذهب عند أبي حنيفة أن ليلة القدر تكون في شهر رمضان، ولكنها تتقدم وتتأخر، وعل قول أبي يوسف ومحمد تكون في شهر رمضان لا تتقدم ولا تتأخر، وفائدة هذا الخلاف أن من قال لعبده: أنت حر ليلة القدر؛ فإن قال ذلك قبل دخول شهر رمضان عُتِقَ إذا انسلخ الشهر، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة من الشهر لم يعتق حتى ينسلخ شهر رمضان من العام القابل، في قول أبي حنيفة؛ لجواز أنها كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى من الشهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد إذا مضى من الشهر في العام القابل فجاء الوقت الذي حلف؛ عُتِقَ لأنها عندهما لا تتقدم ولا تتأخر، بل هي ليلة من الشهر في كل وقت؛ فإذا جاء الوقت فقد تَيَقَّنَّا بمجيء الوقت المضاف إليه العتق بعد يمينه، فهذا عتق والله أعلم. انتهى. ¬

_ (¬1) "المبسوط" (3/ 125).

وقد ذكر بعض أصحابنا أَنَّه عن أبي حنيفة روايتان: في رواية: أن ليلة القدر تدور في كل سنة، وفي أخرى: تدور في كل رمضان كله، وهي المختارة، وهي قول أبي يوسف ومحمد، وعند الشافعي ومالك وأحمد تدور في العشر الأخير، وذكر النووي في "الروضة": مذهب جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من رمضان، وفي أوتارها أرجى، ومَالَ الشافعي: إلى أنها ليلة الحادي والعشرين، ومال في موضع آخر إلى ليلة ثلاث وعشرين، وعند المزني هي متنقلة في ليالي العشر، تنتقل كل سنة إلى ليلة. انتهى. ومذهب مالك: أرجاها في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين، وعند أحمد يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان، وفي العشر الأخير آكد، وفي ليالي الوتر آكد. ***

ص: باب: طلاق المكره

ص: باب: طلاق المكره ش: أي هذا باب في بيان أحكام طلاق المكره. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: أنا الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ربيعًا. والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه الدارقطني (¬1): عن أبي بكر النيسابوري وابن صاعد، ثنا الربيع بن سليمان ... إلى آخره نحوه سواء. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمد بن المصفى الحمصي، ثنا الوليد بن مسلم، نا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". فهذا كما ترى أسقط عبيد بن عمير في روايته. ورواه ابن حزم (¬3) من طريق الربيع وصححه، وقال النووي في الأربعين: هو حديث حسن. وقال عبد الله بن أحمد: ذكرت حديث ابن المصفى الحمصي لأبي، فأنكره جدًّا، وقال: هذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد جيد أصلح من هذا. قلت: أشار بجودة الإسناد إلى الوجه الذي أخرجه الطحاوي والدارقطني، وأما الذي أنكره فهو الوجه الذي أخرجه ابن ماجه. قوله: "تجاوز الله" أي عفا الله، من جازه يجوزه إذا تعداه وعبر عليه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 170 رقم 33). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 659 رقم 2045). (¬3) "المحلى" (4/ 4).

قوله: "لي" أي لأجلي، وذلك لأنه لم يتجاوز ذلك إلا عن هذه الأمة؛ لأجل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "الخطأ والنسيان" منصوبان بقوله: "تجاوز" وفيه حذف، أي: تجاوز حكمهما لأن عينهما لم ترفع، ثم الخطأ في اللغة هو ضد العمد، والنسيان ضد الذكر والحفظ، وفي الاصطلاح: الخطأ هو الفعل من غير قصد تام، والنسيان معنى يزول به العلم في الشيء مع كونه ذاكرًا لأمور كثيرة، وإنما قيل ذلك احترازًا عن النوم والجنون والإغماء. وقيل: النسيان عبارة عن معنىً يعتري الإنسان بدون اختياره، فيوجب الغفلة عن الحفظ. وقيل: النسيان عبارة عن الجهل الطارئ، ويقال: المأتي به إن كان على جهة ما ينبغي فهو الصواب، وإن كان لا على ما ينبغي نُظر، فإن كان مع قصد من الآتي به يسمى الغلط، وإن كان من غير قصد منه فإن كان يَتَنَبَّه بأيسر تنبيه يسمى السهو وإلا يسمى الخطأ. قوله: "وما استكرهوا عليه" عطف على ما قبله في محل النصب وهو على صيغة المجهول من الاستكراه، والإكراه حمل الغير على أمرٍ لا يريد مباشرته. ويستفاد منه أحكام: الأول: حكم الخطأ مرفوع، لكن في حق الله تعالى لا في حقوق العباد؛ لأن في حقه عذرًا صالحًا لسقوطه، حتى قيل: إن الخاطئ لا يأثم ولا يؤاخذ بحدٍّ ولا قصاص، وأما في حقوق العباد فلم يجعل عذرًا، حتى وجب ضمان العدوان على الخاطئ لأنه ضمان مال لا جزاء فعل، ووجبت به الدية وصح طلاقه عندنا، وقال الشافعي: لا يصح؛ لعدم الاختيار منه فصار كالنائم والمغمى عليه. قلنا: الاختيار أمر باطن لا يوقف عليه إلا بحرج، فلا يصح تعليق الحكم عليه. الثاني: أن حكم النسيان مرفوع، ولكنه لا ينافي الوجوب، ولا يصلح عذرًا في سقوط شيء من الواجبات؛ لأنه لا يزول به العقل فلا يخل بالأهلية، لكنه لما كان

من جهة صاحب الشرع يكون عذرًا في حقه فيما يقع فيه غالبًا لا في حق العباد، وهو إما أن يقع فيه المرء بتقصيره كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام والاعتكاف، فإن حالها يذكره. وإما لا يقع بتقصيره إما بأن يدعو إليه الطبع كالأكل في الصوم فإن الغالب فيه ميل الطبع لأنه وقت أكل وشرب في عامة الأوقات، فيغلبه النسيان، أو بمجرد أنه مركوز في الإنسان كما في الذبيحة فإن الذبح حالة خوف وإزهاق روح فتكثر الغفلة والنسيان عن التسمية في تلك الحالة، والأول ليس بعذر بخلاف الأخيرين. الثالث: فيه أن الله تجاوز عما استكرهوا عليه، والإكراه لا ينافي الوجوب، ولا أهلية الأداء؛ لأن الأهلية ثابتة بالذمة والبلوغ والعقل وهي قائمة سواء كان إكراهًا كاملًا أو إكراهًا قاصرًا، ولكن المكره متردد في الإتيان بالإكراه عليه بين فرض عليه: كما لو أكره على شرب الخمر بالقتل فإنه يفرض عليه الإقدام، وحرام عليه: كما لو أكره على قتل مسلم ظلمًا فإنه يحرم عليه الإقدام، وإباحة: كما لو أكره على الإفطار في رمضان فإنه يباح له ذلك، ورخصه: كما لو أكره على إجراء كلمة الكفر، فإنه يرخص له ذلك، وتارة يأثم المكره في الإكراه بالإقدام على الفعل كما في قتل النفس ظلمًا، وتارة يؤجر كما في شرب الخمر، وتحقيق هذه الأشياء -من الفرضية والحرمة والإباحة والإثم والأجر- دليل ثبوت الخطاب في حقه، فإذا كان كذلك فلا يصلح الإكراه لإبطال شيء من الأقوال كالطلاق والعتاق والبيع، والأفعال كالقتل والزنا وإتلاف مال الغير. ص: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أكره على طلاق أو نكاح أو يمين أو عتاق أو ما أشبه ذلك حتى فعله كرهًا، أن ذلك كله باطل؛ لأنه قد دخل فيما تجاوز الله فيه للنبي -عليه السلام- عن أمته، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز في رواية وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والضحاك وشريحًا القاضي وعكرمة وعبد الله بن عبيد بن عمير وطاوسًا وأبا الشعثاء جابر بن زيد والحسن بن حي والأوزاعي والشافعي

ومالكًا وأحمد -رحمهم الله-، فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث، وقالوا: لا يقع طلاق المكره ولا عتاقه ولا يصح نكاحه ولا يمينه وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم في "المحلى": وطلاق المكره غير لازم له، ثم روي ذلك عن عمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يلزمه ما حلف به في حال الإكراه من يمين، وينفذ عليه طلاقه وعتاقه ونكاحه ومراجعته لزوجته المطلقة إن كان راجعها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وعمر بن عبد العزيز -في رواية- وأبا قلابة عبد الله بن زيد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقتادة وشريحًا -في رواية- والنخعي والزهري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يقع طلاق المكره، وينفذ عتاقه، ويلزمه ما حلف من اليمين. وروي ذلك عن عمر وابن عمر وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-. وقال ابن حزم قولاً ثالثًا وهو: أن طلاق المكره إن أكرهه اللصوص لم يلزمه وإن أكرهه السلطان لزمه، رويناه عن الشعبي. وقال قولاً رابعًا أيضًا عن إبراهيم أنه قال: "إن كره ظلمًا على الطلاق [فورَّى] (¬1) إلى شيء آخر لم يلزمه، وإن لم [يور] (¬2) لزمه ولا ينتفع الظالم [بالتورية] (¬3) وهو أحد قولي سفيان. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المحلى" (10/ 203): فورك. آخره "ك" وهو من التوريك في اليمين، وهو نية ينويها الحالف غير ما ينويه مستحلفه، من وركت في الوادي إذا عدلت وذهبت. انظر "النهاية" (5/ 177). والذي في "الأصل": من التورية من ورَّى عن الشيء: أي ستره وكنى عنه. انظر "النهاية" (5/ 177). (¬2) في "المحلى": "يورك". (¬3) في "المحلى": "بالتوريك".

ص: وتأولوا في هذا الحديث معنى غير المعنى الذي تأوله أهل المقالة الأولى، فقالوا: إنما ذلك في الشرك خاصة؛ لأن القوم كانوا حديث عهد بالكفر في دار كانت دار كفر، فكان المشركون إذا قدروا عليهم استكرهوهم على الإقرار بالكفر، فيقرون بذلك بألسنتهم كما قد فعلوا ذلك بعمار بن ياسر وبغيره من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فنزلت فيهم {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬1) وربما سهوا فتكلموا بما جرت [عليه] (¬2) عاداتهم قبل الإِسلام، وربما أخطأوا فتكلموا بذلك أيضًا، فتجاوز الله -عز وجل- عن ذلك؛ لأنهم غير مختارين ولا قاصدين إليه. وقد ذهب أبو يوسف إلى هذا التفسير أيضًا. حدثناه الكيساني عن أبيه عنه. فالحديث يحتمل هذا المعنى، ويحتمل ما قاله أهل المقالة الأولى، فلما احتمل ذلك احتجنا إلى كشف معانيه ليدلنا على أحد التأويلين فنصرف معنى هذا الحديث إليه، فنظرنا في ذلك فوجدنا الخطأ هو ما أراد الرجل غيره بفعله لا عن قصد منه إليه ولا إرادة منه إياه، وكان السهو ما قصد إليه بفعله على القصد منه إليه؛ على أنه ساه عن المعنى الذي يمنعه من ذلك الفعل، فكان الرجل إذا نَسِيَ أن تكون هذه المرأة له زوجة فقصد إليها فطلقها فكلٌّ قد أجمع على أن طلاقه عامل ولم يبطلوا ذلك لسهوه، ولم يدخل ذلك السهو في السهو المعفو عنه فإذا كان السهو المعفو عنه ليس فيه ما ذكرنا من الطلاق والأيمان والعتاق؛ كان كذلك الاستكراه المعفو عنه ليس فيه أيضًا من ذلك شيء؛ فثبت بذلك فساد قول الذين أدخلوا الطلاق والعتاق والأيمان في ذلك. ش: أي تأول أهل المقالة الثانية من الحديث المذكور معنى غير المعنى الذي تأوله أهل المقالة الأولى، حاصله أنهم حملوا الحديث على الشرك وخصُّوه به، وبيَّن وجه ذلك بقوله: "لأن القوم ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [106]. (¬2) في "الأصل، ك": عليهم، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وقد قالوا جوابًا آخر: وهو أن عمومات النصوص وإطلاقها يقتضي شرعية هذه التصرفات من غير تخصيص، وتقييد الفائت بالإكراه ليس إلا الرضا طبعًا، وأنه ليس بشرط لوقوع الطلاق، فإن طلاق الهازل واقع وليس براضٍ به طبعًا، وكذلك الرجل قد يطلق امرأته الفائقة حسنًا وجمالًا الرائقة (تغنجًا) (¬1) ودلالًا لخلل في دينها وإن كان لا يرضى به طبعًا، ويقع الطلاق عليها، والحديث نحن نقول بموجبه: أن كل مستكره عليه معفوٌّ عن هذه الأمة، لكن لا نُسلِّم أن الطلاق وكل تصرف قَوْليّ مستكره عليه؛ وهذا لأن الإكراه لا يعمل على الأقوال كما يعمل على الاعتقادات؛ لأن أحدًا لا يقدر على استعمال لسان غيره بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جَبْرًا، فكان كل مسلم مختارًا فيما يتكلم به، فلا يكون مستكرهًا عليه حقيقةً فلا يتناوله الحديث. قلت: تحقيق هذا الكلام أن الإكراه لا يزيل الخطاب، ولهذا دخل المكره تحت الخطاب بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬2) هذا في غير ما أكره عليه ظاهر، وكذا فيما أكره عليه، ألا يرى أنه يباح له الفعل مرة ويفترض أخرى كشرب الخمر، وتارة يحرم كالقتل والزنا، فدل على تحقق الخطاب فلما تحقق الخطاب صح تصرفه. غاية ما في الباب أنه ينعدم الرضا بالإكراه والطلاق ولا يتوقف على الرضا؛ ولهذا يقع طلاق الهازل مع أنه غير راضٍ لوقوع الطلاق. قوله: "وحدثناه الكيساني" أراد به سليمان بن شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان الكلبي الكيساني، فإنه يروي عن أبيه شعيب بن سليمان، وهو روى عن أبي يوسف -رحمه الله-، وعن محمد بن الحسن. وسليمان بن شعيب وثقه ابن السمعاني. ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 389): الغنج في الجارية تكسُّر وتدلل، وقد غَنِجَتْ وتَغَنَّجَت. (¬2) سورة النحل، آية: [106].

قوله: "فنظرنا في ذلك ... " إلى آخره، يُبيِّنُ به فساد استدلال أهل المقالة الأولى بالحديث المذكور، ولكن هذا غير تام في الجواب عن الحديث لأن الذي ذكره هو وجه النظر والقياس على ما لا يخفى. فنقول: الجواب على الحديث لا يخلو إما أن يكون المراد رفع الخطأ والنسيان والإكراه، حقيقة ذلك أو حكم ذلك، فلا يجوز الأول؛ لأنه قد يوجد حقيقة ذلك وهذا ظاهر متعين. الثاني: ثم هو على نوعين؛ إما أن يُراد به حكم الدنيا أو حكم الآخرة، فلا يجوز الأول؛ لأن في القتل الخطأ تجب الدية والكفارة بالنص، وذاك من أحكام الدنيا فَتَعَيَّن الثاني وهو حكم الآخرة، وكذا جِماعُ المُكرَه يوجب الغسل ويفسد عليه حِجَّه وصومه، وذاك من أحكام الدنيا، فتعين الثاني وهو حكم الآخرة وهو رفع إثم هذه الأشياء، وبه نقول. على أنا نقول: إن الترمذي (¬1) روى مسندًا إلى أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله". وهذا بعمومه يدل على وقوع طلاق المكره. ص: واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا لقولهم بما رُوي عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا يونس، أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي: "أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: الأعمال بالنيَّة، وأنما لامرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله؛ فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومَنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 496 رقم 1191).

قالوا: فلما قال: "الأعمال بالنية" ثبت أن عملًا لا ينفذ من طلاقٍ ولا عتاقٍ ولا غيره إلا أن تكون معه نية. ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ فإنه قال في حديثه عن النبي -عليه السلام-: "الأعمال بالنية". وطلاق المُكرَه حاكي لما أُمِرَ أن يقوله فقط، ولا طلاق على من حكى كلامًا ما، لم يعتقده. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. والثاني: كذلك ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه الجماعة (¬1). فأول ما افتتح به البخاريُّ كتابه هذا الحديث. وهو حديث مشهور، وفيه أبحاث كثيرة بين أهل العلم. ص: فكان من الحجة للآخرين في ذلك: أن هذا الكلام لم يُقصدْ به إلى المعنى الذي ذكره هذا المخالف؛ وإنما قُصِدَ به إلى الأعمال التي يجبُ بها الثواب، ألا تراه يقول: "الأعمال بالنية، وإنما لامرئٍ ما نوى" يريد: من الثواب؟ ثم قال: "فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله؛ فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها. فهجرته إلى ما هاجر إليه". فذلك لا يكون إلا جوابًا لسؤالٍ، كأن النبي -عليه السلام- سئل عمَّا للمهاجر من عمله أي: من هجرته؟ فقال: "إنما الأعمال بالنية". ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 30 رقم 54)، ومسلم (3/ 1515 رقم 1907)، وأبو داود (1/ 670 رقم 2201)، والترمذي (4/ 179 رقم 1647)، والنسائي (7/ 13 رقم 3794)، وابن ماجه (2/ 1413 رقم 4227).

حتى أتى على الكلام الذي في الحديث، وليس ذلك من أمر الإكراه على الطلاق والعتاق والرجعة والأَيْمان في شيء. فانتفى هذا الحديث أن يكون فيه حجة لأهل المقالة التي بدأنا بذكرها على أهل المقالة التي ثنَّينا بذكرها. ش: أي: فكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، وأراد به الجواب عن احتجاج أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث عمر بن الخطاب المذكور. تقريره: أن يقال: لا نُسلِّم صحة الاحتجاج بهذا الحديث على عدم وقوع طلاق المكره وعتاقه، وعدم وجوب أَيْمانه، فإن الحديث ليس معناه على ما ذكره هؤلاء؛ وإنما معناه: الأعمال التي يجب بها الثواب بالنيات؛ لأن الحديث خرج مخرج الجواب، وذلك أنهم سألوا النبي -عليه السلام- عمَّا للمهاجر في عمله؟ أي: هجرته؟ فأجاب لهم بقوله: "الأعمال بالنية" أي: ثواب الأعمال يحصل بالنيَّة، حتى أن من كانت نيته في هجرته أن تكون لوجه الله تعالى، وابتغاء مرضاة رسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله يعني: فهجرته واقعة إلى الله فيجازيه على ذلك بأحسن الجزاء. ومن كانت هجرته لأجل تحصيل دنيا، أو لأجل امرأةٍ يتزوجها، فهجرته واقعة إلي تلك الجهة وليس له ثواب، لأن الأعمال على مقدار النية وأصلُ ذلك: أنه جاء في رجلٍ كان يخطب امرأة بمكة تسمى أم قيس، فهاجرت إلى المدينة، فتبعها الرجل رغبةً في نكاحها، فقيل له: مهاجر أُم قيس. أي: الذي هاجر لأجل أم قيس لا لله ولا لرسوله، فالنبي -عليه السلام- عرَّض بهذا القول توبيخًا له على صنيعه، وتنبيهًا لغيره على الإعراض عن مثل ذلك، وليس في ذلك شيء من أمر الإكراه على الطلاق وغيره، فكيف يصح به الاستدلال على أن بالإكراه لا يقع الطلاق ونحوه؟! قوله: "التى بدأنا بذكرها" وهم أهل المقالة الأولى. قوله: "التي ثنَّيْنا" من التثنية، وأراد بهم أهل المقالة الثانية.

ص: وكان مما احتج به أهل المقالة الثانية لقولهم الذي ذكرنا: ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن جُمَيْع، قال: ثنا أبو الطفيل، قال: ثنا حذيفة بن اليمان قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي، فَأَخَذَنَا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لنَنْصَرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -عليه السلام-، فأخبرناه، فقال: انصرفا، نَفِي لهم بعهودهم، ونستعين الله عليهم". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثني يونس بن بكير، عن الوليد، عن أبي الطفيل، عن حذيفة قال: "خرجت أنا وأبي حُسَيْلٌ، ونحن نريد رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكر نحوه. قالوا: فلما منعهما رسولُ الله -عليه السلام- من حضور بدرٍ لاستحلاف المشركين القاهرين لهما على ما استحلفوهما عليه، ثبت بذلك أن الحلف على الطواعية والإكراه سواء، وكذلك الطلاق والعتاق، فهذا أولى ما فُعِلَ في الآثار إذا وُقِف على معاني بعضها، أن يُحمل ما بقي منها على ما لا يخالف ذلك المعنى متى قُدِرَ على ذلك، حتى لا تتضادّ. فثبت بما ذكرنا أن حديث ابن عباس في الشرك وحديث حذيفة في الطلاق والأَيْمان وما أشبه ذلك. ش: وجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع حذيفة وأباه حُسَيْلًا من حضور بدرٍ؛ لأجل ما استحلفهما المشركون المتغلبون عليهما، على أن ينصرفا إلى المدينة ولا يُقَاتلاهُم مع النبي -عليه السلام-. فدل ذلك أن الحلف على الاختيار والإكراه سواء؛ إذْ لو لم يصح وجوب اليمين بالإكراه لما منعهما النبي -عليه السلام- من حضور بدر، ولقال لهما: يمينكما كرهًا لا يضركما. بل قال: "نَفِي لهم بعهودهم". فدل على أن اليمين يجب بالإكراه كما يجب بالاختيار.

فإذا كان الحلف على الاختيار والإكراه سواء دخل فيه الطلاق والعتاق. وقد شنَّع ابن حزم في هذا الموضع على أصحابنا؛ فقال: ومِنْ أعظم تناقضهم: أنهم يجيزون طلاق المكره ونكاحه وإنكاحه ورجعته وعتقه ولا يجيزون بيعه ولا ابتياعه ولا هبته ولا إقراره، وهذا تلاعب بالدين. قلت: حطه على العلماء النقاد بغير وجه هو التلاعب بالدين، ولا تناقض ها هنا؛ لأن التصرفات الشرعية في الأصل نوعان: إنشاء، وإقرار: والإنشاء نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع يحتمله. أما الذي لا يحتمل الفسخ: فالطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفيء من الإيلاء، والتدبير، والعفو عن القصاص، وهذه التصرفات جائزة مع الإكراه لما ذكرنا: أن عمومات النصوص وإطلاقها تقتضي شرعية هذه التصرفات من غير تخصيص ولا تقييد. وأما النوع الذي يحتمل الفسخ: فالبيع، والشراء، والهبة، والإجارة، ونحوها. فالإكراه يوجب فسادَ التصرفات؛ لعدم الرضا، وصحة هذه مبنية على الرضى، ولم يوجد، بخلاف القسم الأول؛ فإنه لا يتوقف على الاختيار. ألا ترى كيف ينفذ مع الهزل، وأما الإقرار فإن الإكراه يمنع صحته، سواء كان المُقِرُّ به محتملًا للفسخ أو لم يكن؛ لأن الإقرار إخبار، وصحة الإخبار عن الماضي بوجود المخبر به سابق على الإخبار، والمخبر به ها هنا يحتمل الوجود والعدم، وإنما تترجح جَنَبَة الوجود على جَنَبَةِ العدم بالصدق، وحال الإكراه لا يدل على الصدق؛ لأن الإنسان لا يتحرج عن الكذب حالة الإكراه، فلا يثبت الرجحان. ثم إنه أخرج حديث حذيفة من طريقين صحيحين. الأول: عن فهد بن سليمان. عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، شيخ مسلم وابن ماجه. عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي.

عن الوليد بن جُميْع، هو الوليد بن عبد الله بن جُميْع الزهري الكوفي. عن أبي الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي، الصحابي. عن حذيفة بن اليمان، واليمان لقب حُسَيْل والد حذيفة -بضم الحاء وفتح السين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف- ويقال له: حِسْل -بكسر الحاء وسكون السين-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن جُميْع ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود المكي. عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي. عن يونس بن بُكير بن واصل الشيباني الكوفي. عن الوليد بن جُميْع ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا علي بن المنذر، نا محمد بن فضيل، نا الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، عن حذيفة، قال: "ما منعني أنا وأبي أن نشهد بدرًا إلا أني أقبلتُ أنا وهو نريد النبي -عليه السلام-، فاعترَضَنَا كفار قريش، فقالوا: أين تريدون؟ قلنا: إلى المدينة. قالوا: تريدون محمدًا؛ فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفُنَّ إلى المدينة ولا تقاتلون معه. فأعطيناهم ما أرادوا، فخلَّوا سبيلنا، ثم أتينا النبي -عليه السلام-، فأخبرناه الخبر، فقال: فُوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم. وانصرفوا إلى المدينة، وانصرفنا، فذلك الذي منعنا". قوله: "نَفِي لهم" بنون الجماعة، من الوفاء. وقوله: "فُوا" في رواية البزار أمر للجمع من وفَّى، يَفِي، فِ، فِيَا، فُوا، كما تقول: قِ، قِيَا، قُوا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 395 رقم 23402).

قوله: "وأبي حُسَيْلٌ" برفع حُسَيْل؛ لأنه عطف بيان عن قوله: "أبي"، وقد قلنا: إن اسم والد حذيفة حُسَيْل أو حِسْل، واليمان لقب عليه. قتل حُسَيْل بن جابر؛ قتله المسلمون خطأ في غزوة أحد، فقال حذيفة: أبي، أبي. فقالوا: والله ما عرفناه. فصدقوا، فتصدق رسول الله -عليه السلام- بديته على المسلمين. ومات حذيفة بعد مقتل عثمان بأربعين يومًا. ص: وأما حكم ذلك من طريق النظر؛ فإن فِعْل الرجل مكرهًا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون المُكرَه على ذلك الفعل إذا فعله مكرهًا في حكم مَنْ لم يفعله، فلا يجب عليه شيء. أو يكون في حكم من فعله فيجب عليه ما يجب عليه لو فعله غير مُسْتكره. فنظرنا في ذلك، فرأيناهم لا يختلفون في المرأة إذا أكرهها زوجها وهي صائمة في شهر رمضان أو حاجَّةٌ فجامعها؛ أن حجَّها يبطل، وكذلك صومُها، ولم يراعوا في ذلك الاستكراه، فَيَفْرِقُوا بينها وبين الطواعية، ولا جعلت المرأة فيه في حكم من لم يفعل شيئًا، بل قد جعلت في حكم مَنْ قد فعل فعلاً يجب عليه الحكم، ورفع عنها الاثم في ذلك خاصةً، وكذلك لو أن رجلاً أكره رجلاً على جماع امرأةٍ، اضطره إلى ذلك، كان المهر في النظر على المجامع لا على المكرِه، ولا يرجع به المجامع على المكره؛ لأن المكرِه لم يجامع فيجب عليه بجماعه مهرٌ، وما وجب في ذلك الجماع فهو على المجامِع لا على غيره. فلما ثبت في هذه الأشياء أن المكرَه عليها محكوم عليه بحكم الفاعل لذلك في الطواعية، فيوجبون عليه فيها من الأموال ما يجب على الفاعل لها في الطواعية. ثبت أنه كذلك المُطَلِّق والمعتِق والمراجع في الاستكراه يحكم عليه بحكم الفاعل، فَيُلْزَم أفعاله كلها.

فإن قال قائل: فلِمَ لا ألزمت بَيْعَه وإجارته؟ قيل له: إنَّا قد رأينا البيوع والإجارات قد تُردُّ بالعيوب وبخيار الرؤية، وبخيار الشرط، وليس النكاح كذلك، ولا الطلاق، ولا المراجعة، ولا العتق، فما كان قد ينقض بالخيار المشروط فيه، وبالأسباب التي هي في أصله من عدم الرؤية، والردّ بالعيوب، نُقِضَ بالإكراه، وما لا يجب نقضه بشيء بعد ثبوته، لم يُنْقص بالإكراه ولا بغيره. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وأمَّا حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس، وهذا كله واضح. قوله: "إما أن يكون المكرَه" بفتح الراء، وكذلك قوله: "إذا فعله مكرَهًا". قوله: "لا على المكرِه" بكسر الراء، وكذلك قوله: "ولا يرجع به المجامع على المكرِه" وكذا قوله: "لأن المكرِه". وقوله: "إن المكرَه عليها محكوم عليه" بفتح الراء. قوله: "في الطواعية" مصدر بمعنى الطوع. قوله: "فإن قال قائل" سؤال يَرِد على قوله: "ثبت أنه كذلك المطلق ... " إلى آخره. وقد حققنا هذا فيما مضى عن قريب. ص: وقد رأينا مثل هذا قد جاءت به السنة. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عبد الرحمن بن حبيب بن أَرْدَك، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: أخبرني يوسف ابن مَاهَك، أنه سمع أبا هريرة يحدث، عن النبي -عليه السلام- قال: "ثلاث جِدُّهن جِدّ وهزلهن جِدُّ: النكاح، والطلاق، والرجعة".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيب وأسدُ، قالا: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبد الرحمن بن أرْدَك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهَك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن حبيب بن أرْدَك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن مَاهَك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ش: أي: قد رأينا مثل ما ذكرنا من أن طلاق المكره واقع، جاءت به السنة عن النبي -عليه السلام-. وهي قوله -عليه السلام-: "ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ ... " الحديث، فإنه يدل على أن طلاق المكرَه واقع. بيان ذلك: أن طلاق الهازل لما وقع بالنظر إلى التلفظ به وإن لم يكن له قصد بذلك، فكذلك المكرَه يقع طلاقه لِتلفظه به وإن لم يكن له قصد واختيار. ثم إنه أخرج الحديث المذكور من ثلاث طرق. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. عن يحيى بن صالح الوُحاظي الشامي الدمشقي شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة. عن سليمان بن بلال القرشي المدني روى له الجماعة. عن عبد الرحمن بن حبيب أرْدَك المدني، وثقه ابن حبان. عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن يوسف بن ماهَك بن بُهْزَاذ، روى له الجماعة. عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 490 رقم 1184).

أردَك المديني، عن عطاء، عن ابن ماهَك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب بن ناصح الحارثي، وأسد بن موسى، كلاهما عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا القعنبي، قال: ثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد- عن عبد الرحمن بن حبيب ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن حبيب بن أردَك ... إلى آخره. وإنما جاء في هذا الطريق: عن حبيب بن أَرْدَك؛ لأن عبد الرحمن بن حبيب بن أَرْدَك يقال فيه: حبيب بن عبد الرحمن بن أَرْدَك. وأخرجه أحمد (¬2) بنحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، عن ابن أردك ... إلى آخره. فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟ قلت: حسن؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم، وصححه الحاكم في "مستدركه" (¬4). فإن قلت: قال ابن الجوزي في كتابه "التحقيق": عطاء الذي في سند هذا الحديث هو ابن عَجْلان، وهو متروك الحديث، وقال ابن حزم: هذا من الأخبار الموضوعة ورويناه من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو منكر الحديث مجهول؛ لأن قومًا قالوا: عبد الرحمن بن حبيب متفق على ضعف روايته. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 666 رقم 2194). (¬2) وكذا عزاه الحافظ في "تلخيص الحبير" (3/ 209) لأحمد في "مسنده". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 658 رقم 2039). (¬4) "مستدرك الحاكم" (2/ 216 حدث رقم 2800).

قلت: قول ابن الجوزي غلط؛ لأن عطاء الذي في سند هذا الحديث هو ابن أبي رباح كما صرح به الطحاوي وأصحاب السنن في رواياتهم. وقول ابن حزم باطل؛ لأن الحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه، فهذا دليل رضاه به، والترمذي حسنه، وعبد الرحمن بن حبيب بن أردك وثقه ابن حبان والحاكم، وقال: هو من ثقات المدنيين، وذكره ابن خَلْفُون أيضًا في الثقات. قوله: "ثلاثٌ" مبتدأ. وقوله: "جدهن" مبتدأ ثان. وخبره: "جدٌّ" والجملة خبر المبتدأ الأول، أي: ثلاثة أشياء جدهن وهزلهن سواء، حتى إذا عقد النكاح بالهزل وقع النكاح، وكذا إذا طلق هازلًا وقع الطلاق، وكذا إذا راجع مطلقته هازلًا. والِجدُّ -بكسر الجيم- ضد الهزل، يقال: جَدَّ يَجِدُّ جِدًّا. ص: فلما قال رسول الله -عليه السلام-: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد" فمنع النكاح من البطلان بعد وقوعه، وكذلك الطلاق، والمراجعة، ولم نَرَ البيوع حملت على ذلك المعنى، بل حملت على ضده، فجعل من باع لاغيًا كان بيعه باطلاً، وكذلك إن أجَّرَ لاغيًا كانت إجارته باطلة، فلم يكن ذلك عندنا إلا لأن البيوع والإجارات مما تنقض بالأسباب التي ذكرنا، فنقضت بالهزل كما نقضت بذلك، وكانت الأشياء الأُخَر من الطلاق والعتاق والرجعة لا تبطل بشيء من ذلك، فجعلت غير مردودة بالهزل. فكذلك أيضًا في النظر ما كان ينقض بالأسباب التي ذكرنا ينقض بالإكراه، وما كان لا ينقض بتلك الأسباب لم ينقض بالإكراه. ش: هذه إشارة إلى بيان وجه الاستدلال بهذا الحديث في وقوع طلاق المكره. بيانه: أنه -عليه السلام- منع النكاح والطلاق والرجعة من البطلان بعد وقوعها، وذلك لأنها مما لا يُنقض بالخيار المشروط فيه، ولا تُرَدُّ بالعيوب وبخيار الرؤية، فلا تُنْقض بالهزل؛ بخلاف البيوع والإجارات، فإنها مما ينقض بالهزل كما تنقض بتلك الأشياء،

فإذا كان كذلك اقتضي وجه النظر والقياس أن لا ينقض طلاق المكرَه بالإكراه؛ لأنه مما لا ينقض بتلك الأشياء، بخلاف بيع المكرَه وشراءه فإنه ينقض؛ لأنه مما ينقض بتلك الأشياء. ص: وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن العلاف، قال: ثنا ابن سواء، قال: ثنا أبو سنان، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- يقول: "طلاق السكران والمستكره جائز". ش: أي: قد روي وقوع طلاق المكره عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، أحد الخلفاء الراشدين المهديين. وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. عن محمد بن عبد الرحمن العلاف العنبري البصري الثقة. عن محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري، روى له الجماعة؛ أبو داود في "الناسخ والمنسوخ". عن أبي سنان عيسى بن سنان الحنفي القسملي، وثقه يحيى، وعنه: ضعيف. وقال ابن خراش: ثقة صدوق. وعنه: في حديثه نكرة. روى له الترمذي وابن ماجه. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) خلاف هذا: نا يحيى بن بشير، عن زيد بن رفيع، عن عمر بن عبد العزيز قال: "لا طلاق ولا عتاق على مكره". حدثنا أبو أسامة (¬2)، قال: أنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن: "أن عاملًا من العمال ضرب رجلاً حتى طلق امرأته، فكتب فيه إلي عمر بن عبد العزيز، قال: فلم يجز ذلك". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 82 رقم 18031). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 82 رقم 18037).

وكذلك اختلفت الرواية عنه في السكران فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن عبد الرحمن بن عتبة: "أن عمر بن عبد العزيز أجاز طلاق السكران، وجلده". حدثنا (¬2) يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد: "أن القاسم وعمر بن عبد العزيز كانا لا يجيزان طلاق السكران". قلت: وبه قال عطاء وطاوس وعكرمة وجابر بن زيد وربيعة والليث بن سعد وإسحاق والشافعي -في قول- والمزني وأحمد في رواية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي. وروي ذلك عن عثمان بن عفان وابن عباس -رضي الله عنهم-. وقالت جماعة: إن طلاق السكران جائز. وهو قول مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وحميد بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والزهري والشعبي والحكم بن عتيبة وشريح وسالم بن عبد الله والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي -في قول- وأحمد في رواية. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 76 رقم 17962). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 77 رقم 17975).

ص: باب: الرجل ينفي حمل امرأته أن يكون منه

ص: باب: الرجل ينفي حمل امرأته أن يكون منه ش: أي هذا باب في بيان الرجل الذي يقول لامرأته: حملك ليس مني. كيف يكون حكمه؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا نفى حمل امرأته أن يكون منه؛ لاعن القاضي بينها وبينه بذلك الحمل، وألزمه أمه، وأبان المرأة من زوجها. واحتجوا في ذلك بحديثٍ يحدثه عبدةُ بن سليمان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- لاعن بالحمل". وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول مرةً وليس بالمشهور من قوله. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى وعبيد الله بن الحسن ومالكًا وأبا عبيد وأبا يوسف في رواية؛ فإنهم قالوا: من نفى حمل امرأته؛ لاعن بينهما القاضي وألحق الولد بأمه. واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن مسعود المذكور أخرجه الطحاوي ها هنا معلقًا، عن عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسماعيل بن حفص، ثنا عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- لاعن بالحمل". وسيجيء مسندًا بأتم من هذا على وجوهٍ مختلفة. قوله: "وأبان المرأة" أي: أبان القاضي، بمعنى: حكم بالبينونة بينهما. واختلفوا في ذلك؛ فقال أبو حنيفة: لا تقع فرقة اللعان إلا بحكم حاكم. وبه قال الثوري وأحمد. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 405 رقم 15123).

وفي مذهب مالك أربعة أقوال: أحدها: أن الفرقة لا تقع إلا بالتعانهما جميعًا. والثاني: وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ": أنها تقع بالتعان الزوج، وهو رواية أصبغ. والثالث: قول سحنون أنه يتم بلعان الزوج مع سكوت المرأة. والرابع: قول ابن القاسم يتم بلعان الزوج إن التعنت فحاصل مذهب مالك: أنها تقع بينهما بغير حكم حاكم ولا تطليق. وبه قال الليث والأوزاعي وأبو عبيد وزفر بن الهذيل، وعند الشافعي: تقع الفرقة بالتعان الزوج. واتفق أبو حنيفة والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور؛ أن اللعان حكمه وسنته الفرقة بين المتلاعنين إما باللعان وإما بتفريق الحاكم على ما ذكرنا من مذاهبهم، وهو مذهب أهل المدينة ومكة والكوفة والشام ومصر. وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة: إذا تلاعنا لم ينقص اللعان شيئًا من العصمة حتى يطلق الزوج. قال: وأحب إليَّ أن يطلق. قال الإشبيلي في "شرح الموطأ": هذا قول لم يتقدمه أحدٌ إليه. قلت: حكى ابن جرير هذا القول أيضًا عن أبي الشعثاء جابر بن زيد. ثم اختلفوا: هل الفرقة بين المتلاعنين فسخ أو تطليقة؛ فعند أبي حنيفة ومحمد وعبيد الله بن الحسن وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب: هي طلقة واحدة. وقال مالك: هي فسخ. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يلاعن يحمل لأنه قد يجوز أن لا يكون حملاً، لأن ما يظهر من المرأة مما يُتَوَهَّم به أنها حامل ليس يعلم أنه حمل على حقيقة، إنما هو توهم، فنفي المتوهم لا يوجب اللعان.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف -في المشهور عنه- ومحمدًا وأحمد -في رواية- وابن الماجشون من أصحاب مالك وزفر بن الهذيل، فإنهم قالوا: لا تلاعن يحمل وسواء عند أبي حنيفة وزفر بعد النفي لتمام ستة أشهر أو لأقل منها. وعند أبي يوسف ومحمد وأحمد: إن ولدت لأقل من ستة أشهر ثم نفاه وجب عليه اللعان؛ لأنه حينئذٍ يُتَيَقَّن بوجوده عند النفي، ولأكثر منها احتمل أن يكون حمل حادث، وبه قال مالك، إلا أنه يشترط عدم وطئها بعد النفي. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن الحديث اللي احتجوا به عليهم حديث مختصر، اختصره الذي رواه فغلط فيه، وإنما أصله: "أن رسول الله -عليه السلام- لاعن بينهما وهي حامل فذلك عندنا لعان بالقذف لا لعان بنفي الحمل، فتوهم الذي رواه أن ذلك لعان بالحمل فاختصر الحديث كما ذكرنا، وأصل الحديث في ذلك: ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: نا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "بينا نحن عشية في المسجد إذ قال رجل: إنْ أحدنا رأى مع امرأته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن هو تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! لأسألن رسول الله -عليه السلام-، فسألَ فقال: يا رسول الله، إنْ أحدنا رأى مع امرأته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن هو تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! اللهم احكم؟ فأنزلت آية اللعان، قال عبد الله: فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به". حدثنا يزيد، قال: ثنا حكيم بن سيف، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "قام رجل في مسجد رسول الله -عليه السلام- ليلة الجمعة" فقال: أرأيتم إنْ وجد رجل مع امرأته رجلاً ... " ثم ذكر نحوه. وزاد: "قال عبد الله: فابتلي به، وكان رجلاً من الأنصار، جاء إلى

رسول الله -عليه السلام- يلاعن امرأته، فلما أخذت امرأته تلتعن، قال لها رسول الله -عليه السلام-: مَهْ. فالتعنت، فلما أدبرت قال رسول الله -عليه السلام-: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا. فجاءت به أسود جعدًا". حدثنا يزيد، قال: ثنا الحسن بن عمر بن شقيق، قال: ثنا جرير، عن الأعمش ... فذكر بإسناده مثله. فهذا هو أصل حديث عبد الله في اللعان، وهو لعان بقذف كان من ذلك الرجل لامرأته وهم حامل، لا بحملها. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به من حديث عبد الله المذكور. بيانه: أن ذلك الحديث ليس على أصله؛ لأن راويه اختصره فغلط فيه، وإنما أصله: "أن رسول الله -عليه السلام- لاعن بينهما وهي حامل". فذلك لا شك أنه لعان بالقذف وليس بنفي الحمل فتوهم الراوي الذي رواه أن ذلك لعان بنفي الحمل؛ لكون المرأة حاملاً وقت اللعان، فاختصر الحديث وقال: "لاعن النبي -عليه السلام- بالحمل". وأصله ما أخرجه من حديث يزيد بن سنان القزاز من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يزيد، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد البصري ختن أبي عوانة وشيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق ابن إبراهيم -واللفظ لزهير، قال إسحاق: أنا، وقال الآخران: ثنا- جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إنا ليلة الجمعة في المسجد، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1133 رقم 1495).

إذ دخل رجل من الأنصار، فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! والله لأسألن رسول الله -عليه السلام-، فلما كان من الغد، أتى رسول الله -عليه السلام-، فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ؟! فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...} (¬1) هذه الآيات، فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله -عليه السلام- فتلاعنا، فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم لَعَّن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبت لتلتعن، فقال لها النبي -عليه السلام-: مَهْ. فأتت فَلَعَّنت، فلما أدبرا قال: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا، فجاءت به أسود جعدًا". الثاني: عن يزيد، عن حكيم بن سيف الأسدي أبي عمرو الرقي شيخ أبي داود، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان الأعمش ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إنا ليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار ... " إلى آخره نحو رواية مسلم. الثالث: عن يزيد، عن الحسن بن عمر بن شقيق البصري شيخ البخاري وأحمد وأبي يعلى، عن جرير بن عبد الحميد، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله ... ثم ذكر نحوه. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬3): نا يوسف بن موسى، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "إني ليلة جمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار ... " إلى آخره نحو رواية مسلم. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [6]. (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 683 رقم 2253). (¬3) "مسند البزار" (4/ 317 رقم 1501).

وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (¬1). قوله: "بَيْنَا نحن" أصله "بين" فزيدت فيه "الألف" لإشباع فتحة النون. واعلم أن "بينا" و"بينما" ظرفان زمانيان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذْ" و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا. قوله: "عشية" نصب على الظرفية. قوله: "اللهم احكم" وفي رواية مسلم: "اللهم افتح". قال الخطابي: معناه: اللهم احكم أو بيِّن الحكم. والفتاح: الحاكم. قوله: "فنزلت آية اللعان" وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} (¬2) الآيات. قوله: "أرأيتم" معناه: أخبروني. قوله: "مَهْ" كلمة زجر، قيل: أصلها: ما هذا؟ ثم حذفت "الألفان" و"الذال" استخفافًا، تقال مكررة ومفردة، ومثله: بَهْ بُهْ. قال ابن السكيت: هي لتعظيم الأمر، بمعنى بَخٍ بخٍ، وتقال بسكون الهاء فيهما والتنوين أيضًا. وقال الجوهري: "مَهْ" كلمة بنيت على السكون، وهو اسم سُمِّي به الفعل، ومعناه: اكفف؛ لأنه زجر، وإن ثُنِّيَت نُوِّنت، فقلت: مَهٍ مَهٍ. قوله: "أسود جعدًا" منصوبان على الحالية، وقال الهروي: الجعد في صفة الرجال يكون مدحًا ويكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا فله معنيان: أحدهما: أن يكون معصوب الخلق شديد الأسر. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 669 رقم 2068). (¬2) سورة النور، آية: [6].

والثاني: أن يكون شعره جعدًا غير سبط؛ لأن السبوطة كثرها في شعر العجم. وأما الجعد المذموم فله معنيان: أحدهما: القصير المتردد. والثاني: البخيل. ص: وقد رواه على ذلك غير ابن مسعود -رضي الله عنه-: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: ثنا القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العَجْلاني وامرأته، وكانت حُبلى، فقال زوجها: والله ما قربتها مند عفرنا -والعفر أن يسقى النخل بعد أن تترك من السَّقْي بعد الإبار بشهرين- فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بيِّن. فزعموا أن زوج المرأة كان حمش الذراعين والساقين أصهب الشعر، وكان الذي رميت به ابن السحماء. قال: فجاءت بغلام أسود أجلى جعدٍ قطط عَبل الذراعين خَدْل الساقين. قال القاسم: فقال ابن شداد بن الهاد: يا ابن عباس، هي المرأة التي قال رسول الله -عليه السلام-: لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمتها؟ فقال ابن عباس: لا، ولكن تلك المرأة كانت قد أعلنت في الإِسلام". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن القاسم، عن ابن عباس، عن رسول الله -عليه السلام-، نحوه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، أن القاسم بن محمد حدثه، عن ابن عباس، مثله. غير أنه لم يذكر سؤال عبد الله بن شداد ... إلي آخر الحديث. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: ما لي عهد بأهلي منذ عفَّرنا النخل، فوجدت مع امرأتي رجلاً

-وزوجها نضوٌ، حمشٌ، سبط الشعر، والذي رُميت به إلى السواد جعدٌ قطط- فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بيِّن. ثم لاعن بينهما، فجاءت به يشبه الذي رُميت به". ش: أي قد روى الحديث المذكور على أصله الذي ذكرنا غير ابن مسعود من الصحابة، منهم: ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرج حديثه من أربع طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- فيه مقال. عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، روى له الجماعة، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه ابن وهب في "مسنده": من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ... إلى آخره. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عبد الله بن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث العقدي، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن القاسم، عن ابن عباس: "سمع رسول الله -عليه السلام- لاعن بين العجلاني وامرأته -وكانت حاملاً- فقال زوجها: والله ما قربتها منذ عفَّرنا. فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بيِّن. فدعى الزوج حمش الذراعين والساقين أصهب الشعر، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 407 رقم 15127).

وكان الذي رُميت به ابن السحماء، فجاءت بغلام أسود أكحل جعد عَبْل الذراعين خَدْل الساقين. قال القاسم: فقال ابن شداد لابن عباس: هي المرأة التي قال رسول الله -عليه السلام-: لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة أعلنت في الإِسلام". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس ... مثله. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد "مسنده" (¬1): ثنا روح بن عبادة، ثنا ابن جريج، أخبرني يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس: "أن رجلاً جاء رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، ما لي عهد بأهلي منذ عفار النخل -قال: وعفارها أنها إذا كانت تؤبر تعفر أربعين يومًا لا تسقى بعد الإبار- فوجدت مع امرأتي رجلاً، وكان زوجها مصفرًّا حمشًا سبط الشعر، والذي رُميت به خَدْل إلى السواد، جعدٌ قططٌ، فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بيِّن. فجاءت برجل يشبه الذي رُميت به". قوله: "لاعن بين العجلاني" هو عويمر بن أبيض العجلاني الأنصاري، وهو الذي رمى زوجته بشريك بن سحماء، فلاعن رسول الله -عليه السلام- بينهما، وذلك في شعبان سنة تسع لما قدم من تبوك، واسم امرأته خولة بنت قيس. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 357 رقم 3360).

قوله: "منذ عفرنا" بالفاء، ويروى بالقاف وهو خطأ، ذكره ابن الأثير في باب العين المهملة بعدها الفاء، وقال: التعفير أنهم كانوا إذا أبَّروا النخل تركوها أربعين يومًا لا تُسقى لئلا ينتفض حملها، ثم تسقى، ثم تترك إلى أن تعطش، ثم تسقى. وقد عفَّر القوم إذا فعلوا ذلك وهو من تعفير الوحشية ولدها، وذلك أن تفطمه عند الرضاع أيامًا ثم ترضعه، تفعل ذلك مرارًا ليعتاده. قوله: "بعد الإِبَار" بكسر الهمزة وتخفيف الباء الموحدة، اسم من أَبَرْت النخلة فهي مأبورة، إذا أصلحتها، وكذلك أبَّرتها بالتشديد فهي مؤبرة. قوله: "كان حمش الساقين" أي: دقيق الساقين، يقال: رجل حمش الساقين، وأحمش الساقين، أي: دقيقهما، ومنه حديث علي -رضي الله عنه- في هدم الكعبة: "كأني برجل أصعل أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تُهدم" (¬1). ومنه حديث صفته -عليه السلام-: "في ساقيه حموشة" (¬2). ومادته: حاء مهملة وميم وشين معجمة. قوله: "أصهب الشعر" الصهوبة في الشعر حمرة يعلوها سواد، ورجل أصهب: الذي تعلو لونه صهبة، وهي كالشقرة. قال الخطابي: المعروف أن الصهبة مختصة بالشعر. قوله: "وكان الذي رُميت به" أي كان الرجل الذي رميت به امرأة العجلاني هو شريك بن السحماء -بسين وحاء مهملتين وألف ممدودة- وهي أُمُّه، وأبو عَبَدة - ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (5/ 137 رقم 9178) بنحوه. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل ومعرفة الرجال": حدثني أبي، قال: سمعت سفيان يقول: أصعل: صغير الرأس، أصمع: صغير الأذن. وانظر "فتح الباري" (3/ 461). (¬2) أخرجه الترمذي في "جامعه" (5/ 603 رقم 3645) وقال: حسن غريب من هذا الوجه صحيح. وأحمد في "مسنده" (5/ 97 رقم 20955)، والحاكم في "مستدركه" (2/ 662 رقم 4196) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: حجاج لين الحديث.

بفتحتين- بن معتب بن الجد بن عجلان بن ضُبَيعة البلوي، وهو ابن عم معن وعاصم ابني عدي بن الجعد، قيل: إنه شهد مع أبيه أُحُدًا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. وقال الكلبي: الذي شهد أُحدًا هو أبوه، وأما هو فلم يشهدها. وقال ابن سعد: وكان شريك عند الناس بحال سوء بعد ولم يبلغنا أنه أحدث توبة ولا نزع. قوله: "أجلى" الأجلى خفيف شعر ما بين النَّزْعَتين من الصُّدْغين، والذي انحسر الشعر عن جبهته. وفي رواية البيهقي: "أكحل" بدل: "أجلى". قوله: "جعد قَطط" أي جعد الشعر، وهو ضِدُّ السبط والقَطط الشديد الجعودة، وقيل: الحسن الجعودة، والأول أكثر. وقال الجوهري: جعد قطط أي شديد الجعودة، وقد قَطِطَ شعره -بالكسر- وهو أحد ما جاء على الأصل بإظهار التضعيف، ورجل قط الشعر وقطط الشعر بمعنىً. قوله: "عَبْل الذراعين" أي: غليظ الذراعين. قال الجوهري: رجل عَبْل الذراعين أي: ضخمهما. وهو بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة. قوله: "خَدْل الساقين" الخدل: الغليظ الممتلئ الساق. قال الجوهري: امرأة خدلاء بَيِّنَة الخدل والخدالة وهي الممتلئة الساقين والذراعين، وكذلك الخِدلم -بالكسر- والميم زائدة. قوله: "فقال ابن شداد بن الهاد" هو عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني من كبار التابعين وثقاتهم. قوله: "قد أعلنت في الإسلام" من الإعلان في الأصل وهو إظهار الشيء، والمراد به أنها كانت قد أظهرت الفاحشة.

قوله: "ما لي عهد بأهلي مند عفرنا النخل" أراد أنه لم يجامعها من وقت تعفير النخل. قوله: "وزوجها نِضْوٌ" بكسر النون وسكون الضاد المعجمة أي: مهزول. قال الجوهري: النِّضْو -بالكسر- البعير المهزول، والناقة نِضْوة، وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة. ويستفاد من حديث ابن عباس هذا أحكام: الأول: فيه إثبات اللعان، وأجمع المسلمون على صحة حكم اللعان بين الزوجين إذا ادعى رؤية، وأما القذف المجرد فقد اختلفوا فيه، فقالت فرقة: لا لعان في القذف المجرد. وهو أحد قولي مالك وقول الليث وأبي الزناد وعثمان البتي ويحيى بن سعيد، وأن في هذا الحدُّ بكل حال، وقال الكوفيون والشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث باللعان في القذف المجرد، وروي عن مالك أيضًا. واختلفوا إذا أقام الزوج البينة على زناها، فعند مالك والشافعي يلاعن. وقال أبو حنيفة وداود: إنما اللعان لمن لم يأت بأربعة شهداء، فمن أتى بهم فلا لعان. واختلفوا في اللعان بنفي الحمل، وقد ذكرناه. الثاني: فيه دليل على جواز لعان الحامل في حال حملها. الثالث: اختلف الناس إذا قذف الرجل امرأته بشخص بعينه هل يحدُّ له أم لا؟ وإن لاعن لزوجته فعند مالك يحدُّ الرجل؛ لأن الأصل إثبات الحد على القاذف، وإنما سقط عن الزوج بلعانه لأجل الضرورة إلى ذلك، وأنه لا يستغنى عن ذكر زوجته، وأما الزاني بها فلا ضرورة إلى ذكره، وهو غني عن قذفه فيبقى على الأصل في وجوب الحدِّ له. وقال الشافعي: لا يحد الرجل إذا أدخله في لعانه وتعلق بأنه -عليه السلام- لم يحدّ الزوج لشريك، وقد سماه.

وقال القاضي: قال أصحابنا: لا حجة له فيه لوجهين: أحدهما: أن شريكًا كان يهوديًّا. والثاني: أن شريكًا لم يطلب حدَّه ولا قام بطلب عرضه، فلم يكن في ذلك تعلق. قال القاضي: لا يصح قول من قال: إن شريكًا كان يهوديًّا وهو باطل، وهو شريك بن عَبَدَة بن معتب، وهو بلوي حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن كثير، عن مخلد بن حسين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك: "أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرفع ذلك إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: "ائتِ بأربعة شهداء؛ وإلا فحدٌّ في ظهرك، فقال: والله يا رسول الله إن الله يَعْلَمُ أني صادق. فجعل النبي -عليه السلام- يقول له: أربعة؛ وإلا فحدٌّ في ظهرك فقال: والله يا رسول الله إن الله يعلمُ إني لصادق -يقول ذلك مرارًا- فقال له: يا رسول الله، إن الله يعلم إني لصادق، ولَيُنزلنَّ الله عليك ما يُبرِّئ به ظهري من الجلد. فنزلت آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬1) قال: فدعن هلالاً، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين قال: ثم دُعيت المرأة تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قال رسول الله -عليه السلام-: وقِّفوها فإنها موجبة، قال: فتلكأت حتى ما شككنا أن سَتُقِرُّ، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على اليمين، فقال رسول الله -عليه السلام-: انظروا، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين، فهو لهلال بن أمية؛ وإن جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء، قال: فجاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين، فقال رسول الله -عليه السلام-: لولا ما سبق فيها من كتاب الله كان لي ولها شأن". قال: والقضيء العينيين: طويل شق العينين ليس بمفتوح العينين. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [6].

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: نا هشام، عن محمد، عن أنس ابن مالك: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال رسول الله -عليه السلام-: أنظروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين، فهو لهلال بن أمية؛ وإن جاءت به أكحل جعدًا حَمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فقال: فجاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان. عن محمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود. عن مخلد -بفتح الميم- بن حسين الأزدي البصري، نزيل المِصيصة، قال العجلي: ثقة رجل صالح. روى له النسائي ومسلم في مقدمة كتابه. عن هشام بن حسان الأزدي البصري، روى له الجماعة. عن محمد بن سيرين. عن أنس. وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمران بن يزيد، نا مخلد بن حسين الأزدي، ثنا هشام ابن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: إن أول لعان كان في الإِسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته فأتى النبي -عليه السلام- فأخبره بذلك، فقال له النبي -عليه السلام-: "أربعة شهداء، وإلا فحدٌّ في ظهرك -فردَّدَ ذلك عليه مرارًا- فقال له هلال: والله يا رسول الله إن الله -عز وجل- يعلم إني صادق، وليُنزلنَّ الله عليك ما يبرِّئ ظهري من الجلد، فبينما هم كذلك إذْ نزلت عليه آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} (¬2) إلى آخر الآية فدُعي هلال، فشهد أربع شهادات ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 172 رقم 3469). (¬2) سورة النور، آية: [6].

بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعيت المرأة لتشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، فلما كان في الرابعة -أو الخامسة- قال رسول الله -عليه السلام-: وَقِّفُوها؛ فإنها موجبة، فتلكأت حتى ما شككنا أنها ستعترف؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على اليمين، فقال رسول الله -عليه السلام-: أنظروها؛ فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العَيْنين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به آدم جعدًا ربْعًا حمش الساقين، فهو لشريك بن السحماء، فجاءت به آدم جعدًا ربعًا حمش الساقين، فقال رسول الله -عليه السلام-: لو ما سبق فيها من كتاب الله لكان لي ولها شأن". قال الشيخ: والقضيء: طويل شعر العينين ليس بمفتوح العين، ولا جاحظهما. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: نا هشام، عن محمد، قال: سألت أنس بن مالك -وأنا أرى أنَّ عنده منه علمًا- فقال: "إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخًا لبراء بن مالك لأمه، فكان أول رجل لاعن في الإِسلام، قال: فلاعنها، فقال رسول الله -عليه السلام-: أبصروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين؛ فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء، فَأُنْبِئْتُ أنها جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين". قوله: "وإلا فحد في ظهرك" أي: أربعة شهداء يشهدون على ما قلت، فيجب حد في ظهرك لأجل القذف. قوله: "يقول له أريعة" أي: أربعة شهداء يأتي بهم؛ وإلا فحدٌّ. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1134 رقم 1496).

قوله: "وَقِّفُوها فإنها موجبةٍ" أي فإن الخامسة هى موجبة عذاب الله -عز وجل-؛ وذلك كما جاء في رواية أبي داود (¬1) في الحديث الطويل: فقال رسول الله -عليه السلام-: "لاعنوا بينهما؛ فقيل لهلال: اشهد؛ فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة؛ قيل: يا هلال، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ... " الحديث. قوله: "فتلكأت" أي توقفت وتباطأت؛ وقال صاحب "المطالع": أي ترددت وتجشمت عن المتقدم. قوله: "قضيء العينين" أي فاسد العينين؛ قال ابن دريد في الجمهرة: يقال: قضئت عين الرجل إذا احمرت ودمعت، وقد قضئت القربة تقضَأ قضًا، فهي قضيئة، على وزن فعيلة، إذا عَفِنَت وتهافَتَت، قال ابن ولاد: وسقاء قضيء، إذا طال مكثه في مكان ففسد وبَلي. والقَضْء -مهموز مقصور- العيبُ. قال ابن دريد: قَضِئَ حَسَبُ الرجل قَضَأً وقضوءًا، وقَضاءةً: إذا دخله عيب، وإن في حسبه لَقَضَأً، ولا تفعل كذا فإن فيه قضاءةً عليَّ. وقال الهروي: قضئ الثوب إذا تَفَرَّزَ وتشقق. قال غيرُه: من طول البلى. قلتُ: بابه من باب عَلِمَ يَعْلَمْ. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه أن شرط وجوب اللعان عدم إقامة البينة؛ لأن رسول الله -عليه السلام- أمر هلال بن أمية بأن يأتي بأربعة شهداء؛ ليقيم عليها الحد؛ فلما عجز عن ذلك، ونزلت آية اللعان، شرط فيها عدم إقامة البينة بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬2) حتى لو أقام الزوج أربعة من الشهداء عليها بالزنا، لا يجب اللعان، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 284 رقم 2256). (¬2) سورة النور، آية: [4].

ويقام عليها حدُّ الزنا؛ لأنه قد ظهر زناها بشهادة الشهود؛ ولو شهد أربعة أحدهم الزوج، فإن لم يكن من الزوج قذف مثل ذلك، تقبل شهادتهم، ويقام عليها الحد عندنا، وعند الشافعي لا تقبل شهادة الزوج. الثاني: فيه إشارة إلى أن شرط وجوب اللعان إنكار المرأة وجود الزنا، حتى لو أقرت بذلك لا يجب اللعان، ويلزمها حدُّ الزنا، وهو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة، وفهم ذلك من شهادة المرأة، إذْ لو أقرت لَحَدَّها النبي -عليه السلام- ولم يلاعن بينهما. الثالث: فيه دليل أن شرط اللعان أن يكون بين الزوجين؛ لأن هلال بن أمية إنما قذف بالزنا امرأته، وأيضًا فإنه خُصَّ اللعان بالأزواج بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬1) فعلى هذا إذا تزوج امرأة نكاحًا فاسدًا، ثم قذفها، لم يلاعنها؛ لعدم الزوجية، وقال الشافعي: يلاعنها إذا كان القذف بنفي الولد، وكذا لو طلق امرأته طلاقًا بائنًا، أو ثلاثًا، ثم قذفها بالزنا، لا يجب اللعان؛ ولو طلقها رجعيًّا ثم قذفها، يجب اللعان عندنا لعموم الآية، خلافًا للشافعي؛ ولو قذف امرأته بعد موتها لم يلاعن عندنا؛ وعند الشافعي يلاعن على قبرها؛ لأن الآية لم تفصل بين الحياة والموت؛ قلنا: خَصَّ الله اللعان بالأزواج، وقد زالت الزوجية بالموت. الرابع: فيه أن يبدأ الحاكم بالرجل؛ لأنه القاذف الذي يدرأ الحدّ بشهادته عن نفسه، والذي بدأ الله به وأيمانه، فإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة ثم بالرجل، فينبغي له أن يعيد اللعان على المرأة فإن لم يُعد حتى فرق بينهما فسدت الفرقة. الخامس: فيه سقوط الحد عن الرجل، وذلك لأجل أيمانه سقط الحد. السادس: فيه بيان حدُّ اللعان؛ ثم قال أصحابنا: اللعان شهادات مُوكدة بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانبها قائم مقام حد الزنا. وقال الشافعي: اللعان أيمان بلفظ الشهادة، ¬

_ (¬1) سورة النور، آية [6].

مقرونة بالغضب أو اللعن. فكل من كان من أهل الشهادة واليمين، كان من أهل اللعان، ومن لا فلا عندنا؛ وكل من كان من أهل اليمين، فهو من أهل اللعان عنده، سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن، ومن لم يكن من أهل الشهادة ولا من أهل اليمين، لا يكون من أهل اللعان بالإجماع. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: نا أسدح. وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي "أن عويمر جاء إلى عاصم بن عدي، فقال: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أتقتلونه؟ سلْ يا عاصم رسول الله -عليه السلام-؛ فجاء عاصم فسأل رسول الله -عليه السلام-، فكرِه رسول الله -عليه السلام- المسألة وعابها؛ فقال عويمر: والله لآتينَّ النبي -عليه السلام-، فجاء وقد أنزل الله -عز وجل- خلاف قول عاصم، فسأل النبي -عليه السلام- فقال: قد أنزل الله -عز وجل- فيكم قرآنًا، فدعاهما فتلاعنا، ثم قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، ففارقها وما أمره رسول الله -عليه السلام- بفراقها، فجرت السنةُ في المتلاعين؛ فقال رسول الله -عليه السلام-: انظروا فإن جاءت به أحمر قصيرًا مثل وَحَرَة فلا أراه إلا وقد كذب عليها، إن جاءت به أسحم أعين ذا إليتين فلا أحسبه إلا وقد صدق عليها، قال: فجاءت به على الأمر المكروه". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، شيخ أبي داود والنسائي، عن أسد ابن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا يحيى بن موسى، قال: أنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن الملاعنة، وعن السنة فيها عن حديث سهل ابن سعد أخي بني ساعدة "أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2033 رقم 5003).

يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي -عليه السلام-: قد قضى الله فيك وفي امرأتك، قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام- حتى فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي -عليه السلام- فقال: ذلك تفريق بين كل متلاعنين"، قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً، وكان ابنها يُدعى لأمه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله له، قال ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي في هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- قال: إن جاءت به أحمر قصيرًا كأنه وحرة، فلا أُراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا إليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على المكروه من ذلك. وأخرجه البخاري (¬1) أيضًا: عن إسماعيل، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: عن يحيى بن يحيى، عن مالك نحوه. وأخرجه أيضًا (2): عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمد بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه أبو داود (¬3): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2033 رقم 5002). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1129 رقم 1492). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 681 رقم 2245).

وعن عبد العزيز بن يحيى (¬1)، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه مختصرًا. وعن أحمد بن صالح (¬2)، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد. وعن أحمد بن عمرو (¬3)، عن ابن وهب، عن عياض بن عبد الله وغيره، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، وعن مسدد، ووهب بن بيان، وأحمد بن عمرو، وعمرو بن عثمان (¬4) كلهم، عن سفيان، عن الزهري، عن سهل. وعن سليمان بن داود (¬5)، عن فليح، عن الزهري، عن سهل. وأخرجه ابن ماجه (¬6) عن محمد بن عثمان العثماني، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد. قوله: "إن عويمرًا" هو عويمر بن أبيض العجلاني، ووقع في رواية أبي داود عويمر بن أشقر العجلاني (¬7)، وقال الطبري: هو عويمر بن الحارث. قوله: "جاء إلى عاصم بن عدي"، بن الجد بن العجلان العجلاني القضاعي. قوله: "أرأيت رجلًا" أي أخبرني عن رجل. قوله: "مثل وحرة" بفتح الواو والحاء المهملة والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض، وقيل: هي الوزغة، وقيل: نوع من الوزغ يكون في الصحاري. قوله: "فلا أراه" بضم الهمزة، أي فلا أظنه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 682 رقم 2246). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 682 رقم 2247). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 683 رقم 2250). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 683 رقم 2251). (¬5) "سنن أبي داود" (1/ 683 رقم 2252). (¬6) "سنن ابن ماجه" (1/ 667 رقم 2066). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 681 رقم 2245) وقد تقدم.

قوله: "أسحم" بالسين والحاء المهملتين، وهو الأسود كون الغراب، يقال: ليل مظلم أسود أسحم، وللسحاب الأسود أسحم، وقال الشاعر: عماه كل أسحم مستديم. قوله: "أعين" أي واسع العين، يقال: رجل أعين وامرأة عيناء، ويجمع على عِين، وفي الحديث "إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين". وها هنا فوائد: الأول: أنه ذكر في هذا الحديث عويمر، وفي حديث أنس بن مالك: هلال بن أمية، وفي حديث عبد الله بن عباس: لاعن بين العجلاني وامرأته، وفي حديث عبد الله بن مسعود: وكان رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فلاعن امرأته. قال المهلب: الصحيح أن القاذف عويمر، والذي ذكر في حديث ابن عباس في قوله: "العجلاني" هو عويمر، وكذا في قول عبد الله بن مسعود: وكان رجلاً. وهلال بن أمية خطأ وأظن غلطًا من هشام بن حسان؛ وذلك لأنها قصة واحدة، والدليل على ذلك توقفه -عليه السلام- فيها حتى نزلت الآية الكريمة، ولو أنهما قصتان لم توقف عن الحكم في الثانية بما أنزل عليه في الأولى. قلت: كأنه تبع في هذا الكلام محمد بن جرير فإنه قال في "التهذيب": نستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلان. وفيما قالاه نظر؛ لأن قصة هلال وقذفه زوجته بشريك ثابتة في "صحيح البخاري" في موضعين: الشهادات، والتفسير، وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، وكذا ذكره الطحاوي في روايته عن أنس، وقول المهلب: وأظنه غلطًا من هشام يردُّه كلام الترمذي، فإنه لما ذكر حديث هشام هذا قال: سألت محمدًا عنه وقلت: روى عباد بن منصور هذا الحديث عن عكرمة عن ابن عباس مثل حديث هشام، وروى أيوب عن عكرمة: "أن هلال بن أمية" مرسلاً، فأي الروايات

أصح؟ فقال: حديث عكرمة عن ابن عباس هو محفوظ ورآه حديثًا صحيحًا، وحديث عباد هذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس: "جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم من أرضه عشاءً، فوجد مع أهله رجلاً فرأى بعَيْنه وسمع بأذنه ... " الحديث. وقال أبو عمر: وروى جرير بن حازم، عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قذف هلال بن أمية امرأته قيل له: والله ليُجلدنّك رسول الله -عليه السلام- ثمانين، فقال: الله أعدل، وقد علم أني رأيت، فنزلت آية الملاعنة. وقال ابن التين: الصحيح أن هلال لاعن قبل عُويمر. وقال الماوردي في "الهادي": الأكثرون على أن قصة هلال اسبق من قصة عويمر. وفي "الشامل" لابن الصباغ: قصة هلال تبيِّن أن الآية الكريمة نزلت فيه أولاً. الثانية: في قوله: "كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتها" وهي أنه تدل على أن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع إلا بحكم حاكم؛ لأن فيه إخبارًا بأنه ممسك لها بعد اللعان، إذْ لو كانت الفرقة بين المتلاعنين وقعت قبل ذلك لاستحال. قوله: "كذبت عليها" وهو غير ممسك لها بحضرة سيدنا رسول الله -عليه السلام- ولم يكره. قال الجصاص: فدل على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان إذْ غير جائز أن يقرّه رسول الله على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل. الثالثة: "في قوله جرت السنة في المتلاعنين" تأوله أي نافع المالكي على استحباب إظهار الطلاق بعد اللعان؛ والجمهور على أن معناه حصول بنفس اللعان أو بحكم الحاكم على الاختلاف المذكور فيه. الرابعة: أن الملاعنة لا تكون إلا عند السلطان، وأنها ليست كالطلاق وهذا ما لا خلاف فيه، وكذلك لا خلاف أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع، واستحب جماعة أن يكون بعد العصر وفي أي وقت كان في المسجد الجامع أجزأ.

ص: فقد ثبث بما ذكرنا أن لا حجة في شيء من ذلك لمن يوجب اللعان بالحمل، فإن قال قائل: فإن في قول رسول الله -عليه السلام-: "إن جاءت به كذا فهو لزوجها لان جاءت به كذا فهو لفلان؛ دليلًا على أن الحمل هو المقصود إليه بالقذف واللعان، فجوابنا له في ذلك أن اللعان لو كان بالحمل إذن فكان منتفيًا في الزوج غير لاحق به أشبهه أو لم يشبهه، ألا ترى أنها لو كانت وضعته قبل أن يقذفها فنفى ولدها وكان أشبه الناس به أنه يلاعن بينهما ويفرق بينهما ويلزم الولد أمه، ولا يلحق بالملاعن لشبهه به، فلما كان الشبه لا يجب به ثبوت النسب ولا يجب بعدمه انتفاء النسب وكان في الحديث الذي ذكرنا أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن جاءت به كذا فهو للذي لاعنها" دل ذلك على أنه لم يكن بالعان نافيًا له؛ لأنه لو كان نافيًا له، إذًا لما كان شبهه به دليلًا على أنه منه، ولا بعد شبهه إياه دليل على أنه من غيره. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله فقال: إن امرأتي ولدَتْ غلامًا أسود ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن أعرابيًّا أتى النبي -عليه السلام- فقال: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرتُه، فقال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمرٌ، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله إنه عرقٌ نزعها، قال: فلعل هذا عرقٌ نزعه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، وابن أبي ذئب، وسفيان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن رسول رسول الله -عليه السلام- مثله. فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يُرخص له من نفيه لبُعْد شبهه منه، وكان الشبه غير دليل على شيء ثبت أن جعل النبي -عليه السلام- ولد الملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه دليل على أن اللعان لم يكن نفاه منه، فقد ثبت بما ذكرنا فساد ما احتج به الذين

يَرَوْن اللعان بالحمل، وفي ذلك حجة أخرى وهي أن في حديث سهل بن سعد، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "انظروها فإن جاءت به كذا فلا أُراه إلا وقد صدق عليها". فكان ذلك القول من رسول الله -عليه السلام- على الظن لا على اليقين، وذلك فما دلّ أيضًا أنه لم يكن جرى منه في الحمل حكم أصلاً، فثبت بذلك فساد قول من ذهب إلى اللعان بالحمل، وإنما احتججنا به لمن ذهب إلى خلافه في أول هذا الباب ممن أَبَى اللعان بالحمل، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول أبي يوسف في المشهور. ش: أي فقد ثبت بما ذكرنا من هذه الأحاديث أن لا حجة في شيء منها لأهل المقالة الأولى الذين أوجبوا اللعان بالحمل. قوله: "فإن قال قائل" سؤال يرد على قوله أن لا حجة في شيء من ذلك، وهو جواب ظاهر أن قوله دليلًا على أن الحمل اسم إن في قوله: فإن في قول رسول الله -عليه السلام-. قوله: "ولا بُعد شبه إياه" بضم الباء وسكون العين بمعنى ضد القرب. قوله: "وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي" إنما ذكره تأكيدًا للحجة. قوله: "إن الشبه غير دليل على شيء إذ لو كان دليلًا على شيء كان يرخص للأعرابي أن ينفي ولده منه" فلما لم يرخص له بذلك مع بعد شبه الابن إياه دلَّ على أنه غير دليل على شيء، ودل أيضًا أن جعل النبي -عليه السلام- ولد للملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه كان دليلًا على أن اللعان لم يكن نافيًا له منه، فإذا كان كذلك ثبت فساد من يرى اللعان بالحمل. فإن قيل: كيف ألحق النبي -عليه السلام- الولد بالملاعنة لما لاعن بينها وبين هلال بن أمية؟ فلو لم يكن اللعان بالحمل صحيحًا لما نفى نسبه منه؟ قلت: قد مر أن هلالًا لم يقذفها بالحمل بل بصريح الزنا وذكر الحمل، وبه نقول أن من قال لامرأته زنَيتِ وأنت حامل يلاعن؛ لأنه لم يعلق القذف بالشرط، ولأنه -عليه السلام- علم من طريق الوحي أن هناك ولدًا؛ ألا ترى أنه قال: إن جاء على صفة

كذا فهو لكذا، وإن جاء على صفة كذا فهو لكذا، ولا يعلم ذلك إلا بالوحي ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك فلا ننفي الولد. فإن قيل: ذكر البيهقي حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، أخبرني عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس: "ذكر المتلاعنان عند رسول الله -عليه السلام-، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبر به بالذي وجد على امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرَّا قليل اللحم سَبِط الشعر، وكان الذي وجد عند أهله آدم خَدْلًا كثير اللحم جعدًا قططًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بيِّن، فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله -عليه السلام-، فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال رسول الله -عليه السلام-: لو رجمت أحدًا بغير بينة لرجمت هذه، فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإِسلام"، ثم قال البيهقي: هذه الرواية توهم أنه لاعن بينهما بعد الوضع، قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل، عن سليمان بن بلال، عن يحيى. وأخرجه مسلم عن محمد بن رمح وعيسى بن حماد المصريان، عن الليث، عن يحيى بن سعيد. وقول البيهقي: "هذه الرواية توهم" ليس كذلك؛ بل هي صريحة فيه، فإن كان اللعان فيه بالقذف ولا خلاف فيه، وإن كان بالحمل فبعد أن وضع وباتت حقيقة؛ فلا حجة فيه، وقال الطحاوي: ومذهب أبي حنيفة أنه إذا نفى حملها لا يلاعن؛ لأنه يجوز أن يكون حاملًا كما ذكرنا فيما مضى، ولهذا لو كانت له أمة حامل فقال لعبده: إذا كانت أمتي حاملاً فأنت حرّ، فمات أبو العبد قبل أن تضع، لا يرثه العبد في قول جميعهم، فقد لا يكون حملًا فلا يستحق العبد، وإنما نفى النبي -عليه السلام- الولد لأنه علم بالوحي وجوده؛ ولهذا قال: إن جاءت به كذا فهو لفلان ... الحديث.

فإن قيل: أوجب الله النفقة للمطلقة الحامل بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1)، فكما ينفق عليها ما يغذي به ولدها قبل أن يضمه فكذا اللعان. قلت: النفقة عليها بسبب العدة، إذ لو كانت للحمل لسقطت إذا كان للحمل مال بإرث أو غيره، ولو أوصى للحمل بمال لا ينفق على المطلقة من ذلك المال، ولو كانت المطلقة آيسة من الحمل تجب النفقة. وقوله تعالى: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) غاية لوجوب النفقة يقضي به وجوبها عليه، وبعد الوضع يعلم حقيقة أنها كانت حاملاً. وذكر ابن رشد في "القواعد" وضعًا آخر وهو: أن اللعان إذا مضى لا يمكن ردّه والنفقة يمكن ردّها. وعن مالك: لا نفقة للمطلقة الحامل حتى تضع فيقضى لها بنفقة ما مضى، وهو قياس القول بأن اللعان لا يكون إلا بعد وضعه، إلا أنه مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ ...} (1) الآية. فإن قيل: قضاؤه -عليه السلام- في دية شبه العمد بالخلْفات التي في بطونها أولادها دليل على أن الحمل يدرك. قلنا: هن حوامل بغلبة الظن ظاهرًا لا تحقيقًا، فإن تبين ذلك الظاهر بوضعهن مضى الأمر وإلَّا ردَّهن وطَالَبَ بالحوامل، ولا يمكن ذلك في اللعان إذا مضى. وقال الخطابي: وإنما ترد الجارية بعيب الحمل إذا قالت النساء: هي حبلى؛ لأن الردّ بالعيب يثبت بالشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة، والحدّ لا يجوز إثباته بالشبهة. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- من طريقين صحيحين رجالهما كلهم من رجال "الصحيحين": ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [6].

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن مالك بن أنس ومحمد ابن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب وسفيان الثوري؛ ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة: فقال البخاري (¬1): حدثنا يحيى بن قزعة، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: "أن رجلاً أتى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود. فقال: هل لك من إبل، قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرقه". وقال مسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -واللفظ لحرملة- قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وقال أبو داود (¬3): نا ابن أبي خلف، قال: نا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- من بني فزارة، فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فما تراه؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2032 رقم 4999). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1137 رقم 1500). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 278 رقم 2260).

وقال الترمذي (¬1): نا عبد الجبار بن العلاء العطار وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: "جاء رجل من بني فزارة إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي -عليه السلام-: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم، إن فيها لورقًا، قال: أنَّى أتاها ذلك؟ قال: لعل عرقًا نزعها. قال: فهذا لعل عرقًا نزعه". وقال النسائي (¬2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. قوله: "إن أعرابيًّا" وفي رواية البخاري: "أن رجلا"، وفي رواية أبي داود والترمذي: "رجل من بني فزارة" والكل واحد، وهو ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني بن سعيد في كتاب "الغوامض"، وقال فيه: ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل، وقال فيه أيضًا: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرني أنه كان للمرأة جدة سوداء، ذكره المنذري، وقال إسناده غريب. قلت: رواه أبو موسى المديني في كتابه "المستفاد بالنظر والكتابة" من طريق: عبد الغني بن سعيد، نا أبو إسحاق بن إبراهيم بن عمر الدمشقي، أبنا القاسم بن عيسى العصار، ثنا محمد بن أحمد بن مطهر، حدثني يحيي بن الغمر -وكان زوج بنت مطر بن العلاء- قال: أخبرني جدك، قال سمعته يحدث عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة: "أن مدلوكا حدثهم أن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 439 رقم 2128). (¬2) "المجتبى" (6/ 178 رقم 3478). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 645 رقم 2002).

له من بني عجل، فأوجس لذلك، فشكى إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: هل لك من إبل، قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: فيها الأحمر والأسود وغير ذلك، قال: فأنى ذلك؟ قال: عرق نزع، قال: وهذا عرقه نزع، قال: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء". وقال أبو موسى: هذا إسناد عجيب، والحديث صحيح من رواية أبي هريرة، ولم يسمى فيه الرجل، وقال امرأة من بني فزارة. قوله: "قال: حمر" بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر. قوله: "إن فيها لورق" بضم الواو وسكون الراء جمع أورق. والأورق المغبر الذي ليس بناصع البياض كون الرماد، ومنه سميت الحمامة ورقاء، وقال ابن الأثير: الأورق الأسمر، يقال: جمل أورق وناقة ورقاء، واللام فيه مفتوحة لأنها للتأكيد. قوله: "فأنى ترى ذلك" أي من أين ترى ذلك. قوله: "عرق نزعه" أي أصل أشبهه وأظهر لونه. والعرق هنا الأصل من النسب، شبه بعرق الثمرة، يقال: معرق في النسب وفي اللؤم والكرم، وأصل النزع الجذب، كأنه جذبه لشبهه به، يقال منه: نزع ينزع، وهو ما شذ عن الأصل مما جاء على فَعَلَ يَفْعَلُ، فيما عينه من حروف الحلق أو لامه وأصله المطرد فعل يفعل، يقال: نزع الولد لأبيه ونزع إليه ونزعه أبوه، ونزع إليه، كله وارد. ويستفاد من أحكام: الأول: احتج به أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حَدَّ في التعريض ولا لعان؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يلاعن على هذا الرجل المعرِّض حَدًّا، وقال مالك: يجب الحد بالتعريض.

الثاني: فيه دليل قاطع على صحة القياس والأعتبار بنظره من طريق واحدة قوية، وهو اعتبار الشبه الخلقي. الثالث: قال يحيى: الذي فيه أن الولد يلحق الزوج وإن اختلفت ألوانهما، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون. الرابع: فيه تقديم حكم الفراش على اعتبار الشبه. الخامس: فيه الزجر عن تحقيق ظن السوء، والله أعلم. ***

ص: باب: الرجل ينفي ولد امرأته حين يولد هل يلاعن به أم لا؟

ص: باب: الرجل ينفي ولد امرأته حين يولد هل يلاعن به أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقول لامرأته حين ولادتها: الولد هذا ليس منِّي، هل يترتب على ذلك اللعان أم لا؟ ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد -قال ربيع في حديثه: مولى الحسن بن علي- عن رباح قال: أتيت عثمان بن عفان قال: "إن رسول الله -عليه السلام- قضى أن الولد للفراش. ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وحبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري، روى له الجماعة، والحسن بن سعد القرشي الهاشمي الكوفي مولي على بن أبي طالب، وقال الربيع في حديثه: مولى الحسن بن علي بن أبي طالب، وثقه النسائي وابن حبان، وروى له مسلم ومن الأربعة غير الترمذي. ورباح -بالباء الموحدة- الكوفي من الموالى وثقه ابن حبان. وروى له أبو داود (¬1) هذا الحديث: نا موسى بن إسماعيل، قال: نا مهدي بن ميمون أبو يحيى، قال: نا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب، عن رباح، قال: "زوجني أهلي أمة لهم رومية، فوقعت عليها، فولدت غلامًا أسود مثل فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلامًا أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومى -يقال له يوحنة- يراطنها بلسانه، فولدت غلامًا كأنه وزغة من الوزغات، فقلت لها: ما هذا؟ قالت: ليوحنة. فرفعنا إلى عثمان -رضي الله عنه-أحسب قال مهدي- قال: فسألهما، فاعترفا، فقال لهما: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 283 رقم 2275).

رسول الله -عليه السلام-، إن رسول الله -عليه السلام- قضى أن الولد للفراش، وأحسبه قال: فخجدها وجلده، وكانا مملوكين". قوله: "ثم طبن" بالباء الموحدة بعد الطاء من الطبن والطبانة، وهي الفطنة، يقال: طبن لكذا طبانة فهو طبن، أي هجم على باطنها وخبر أمرها، وأنها ممن تواتيه على المروادة، هذا إذا روي بكسر الباء، وإن روي بفتحها كان معناه: خببها وأفسدها. ويستفاد منه: أن الولد للفراش، وأنه بالنفي لا ينتفى، وأنه لا يوجب اللعان، وإليه ذهب جماعة على ما نبين إن شاء الله. وفيه دلالة على أن من أنكر ولده بالعزل فإنه يلحق به الولد، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وكذلك كل من وطأ في موضع يمكن وصول الماء منه إلى الفرج وكذلك الدبر فإن الماء قد يخرج منه إلى الفرج، حكاه ابن المواز، ويبعد عندي إن لحق من الوطأ في غير الفرج ولد، ولو صح هذا لما جاز أن تحد امرأة ظهر بها حمل ولا زوج لها؛ لجواز أن يكون من وطأ في غير الفرج، فلا يجب به حَدٌّ وإن وجبت به عقوبة. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". ش: إسناده صحيح ورجالهم كلهم رجال الصحيح. وأخرجه عبد الله بن وهب وأبو جعفر العقيلي والقعنبي عن مالك في غير "الموطأ" هكذا مختصرًا، ورواه غيرهم عن مالك بأتم منه مثل ما أخرجه في "الموطأ" (¬1): عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 739 رقم 1418).

"كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه، فقام إليه عبد بن زمعة وقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي -عليه السلام-: هو لك يا عبد بن زمعة. ثم قال رسول الله -عليه السلام-: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه. لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقى الله". وأخرجه البخاري (¬1): من طريق مالك نحوه، وكذلك بقية الجماعة (¬2) غير الترمذي. وعتبة بن أبي وقاص هو أخو سعد بن أبي وقاص لأبيه، شهد أحدًا مع المشركين، ويقال: هو الذي رمى رسول الله -عليه السلام- وكسر رباعيته ودمَّى وجهه، ومات بعد ذلك كافرًا. وأصل القضية: أنهم كانت لهم في الجاهلية إماء يبغين، وكانت السادة يأيتهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني، فإن مات السيد ولم يكن ادَّعاه ولا أنكره، فادَّعاه ورثته لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة، وإن كان السيد أنكره لم يلحق به بحال، وكان لزمعة بن قيس والد سودة زوج النبي -عليه السلام- أمة على ما وصف من أن عليها خريبة وهو يُلم بها، فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد بن أبي وقاص وهلك كافرًا، فعهد إلى أخيه سعد قبل موته، فقال: استلحق الحمل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1007 رقم 2594). (¬2) مسلم (2/ 1080 رقم 1457)، وأبو داود (2/ 282 رقم 2273)، والنسائي (6/ 181 رقم 3487)، وابن ماجه (1/ 646 رقم 2004).

الذي بأمة زمعة، فلما استلحقه سعد خاصمه عبد بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد بن زمعة: بل هو أخي، ولد على فراش أبي، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإِسلام، فقضى رسول الله -عليه السلام- لعبد بن زمعة؛ إبطالا الحكم الجاهلية. قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" قال الطحاوي: معناه هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن يمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما قال في اللقطة: هي لك بيدك عليها، يدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنه ملك له، ولا يجوز أن يجعله رسول الله -عليه السلام- ابنا لزمعة ثم يأمر أخته تحتجب عنه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى النبي -عليه السلام-. وقال الطبري: هو لك يا عبد بن زمعة معناه: هو لك عبد؛ لأنه ابن وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد، يريد أنه لما لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ولا شهد بذلك عليه، كانت الأصول تدفع قول ابنه عليه، لم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبع لأمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه؛ لأنها لم تملك منه إلا شقصًا، وقال أبو عمر: هذا تحكم من الطبري، وهو خلاف ظاهر الحديث. قوله: "احتجبي عنه يا سودة" أشكل معناه قديما على العلماء، فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال وأن الزنا لا تأثير له في التحريم، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، أي أن قوله كان ذلك منه على وجه الاحتياط والتنزه، وأن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، هذا قول الشافعي، وقالت طائفة: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر، فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر وهو الولد للفراش، وحكم باطن وهو الاحتجاب من أجل الشبه، وكأنه قال: ليس بأخٍ لك يا سودة إلا في حكم الله، فأمرها بالاحتجاب منه.

قلت: ومن هذا أخذ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد: أن وطء الزنا أنه محرم وموجب للحكم وأنه يجري مجرى الوطء الحلال في التحريم منه، وحملوا أمره -عليه السلام- لسودة بالاحتجاب على الوجوب، وهو أحد قولي مالك، وفي قوله الآخر: الأمر ها هنا للاستحباب، وهو قول الشافعي وأبي ثور؛ وذلك لأنهم يقولون: إن وطء الزنا لا يحرم شيئًا، ولا يوجب حكمًا، والحديث حجة عليهم. قوله: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش، وأجمعت جماعة من العلماء بأن الحرة فراش بالعقد عليها، مع إمكان الوطء وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل، فالولد لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدًا بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان. واختلف الفقهاء في المرأة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم أو الشهود، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدًا من ذلك الوقت عقيب العقد، فقال مالك والشافعي: لا يلحق به؛ لأنها ليست بفراش له، إذ لم يمكنه الوطء في العصمة، وهو كالصغير أو الصغيرة اللذين لا يمكن منهما الولد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي فراش له، ويلحق به ولدها. واختلفوا في الأمة، فقال مالك: إذا أقر بوطئها صارت فراشا، وإن لم يدع استبراء لحق به ولدها وإن ادعى استبراء من ولدها، وقال العراقيون: لا تكون الأمة فراشًا بالوطء إلا بأن يدعي سيدها ولدها، وأما إن نفاه فلا يلحق به، سواء أقر بوطئها أو لم يُقر وسواء استبرأ أو لم يستبرئ. قوله: "وللعاهر الحجر" العاهر الزاني، فقيل: معناه أن الحجر يرجم به الزاني المحصن، وقيل: معناه أن الزاني له الخيبة ولاحظ له في الولد؛ لأن العرب تجعل هذا مثلًا في الخيبة، كما يقال: له التراب إذا أراد له الخيبة.

والعهر: الزنا ومنه الحديث: "اللهم أبدله بالعهر العفة" وقد عهر الرجل إلى المرأة يعْهر إذا أتاها للفجور، وقد عيهرت هي وتعيهرت إذا زنت. وقال أبو عمر: قد قيل: معناه أن الزاني لا شيء له في الولد ادعاه أو لم يدعه، فإنه لصاحب الفراش دونه لا ينتفي عنه أبدًا إلا بلعان، وقوله: "وللعاهر الحجر" كقولهم: بفيك الحجر: أي لا شيء لك، قالوا: ولم يقصد بقوله: "وللعاهر الحجر" الرجم، وإنما قصد به إلى نفي الولد، واللفظ يحتمل التأويلين جميعًا. وقال ابن الأثير، في "النهاية": العاهر: الزاني، وقد عَهَرَ يَعْهَرُ عَهْرًا وعُهُورًا إذا أتى المرأة ليلاً للفجور بها ثم غلب على الزنا مطلقًا، والمعنى لا حظ للزاني في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش أي لصاحب أم الولد وهو زوجها أو مولاها، وهو كقول الآخر: له التراب، أي لا شيء له، وقال أيضًا، وللعاهر الحجر: أي الخيبة، يعني أن الولد لصاحب الفراش من الزوج أو السيد، وللزاني الخيبة والحرمان، كقولك: مالك عندي شيء غير التراب، وما بيدك غير الحجر، وذهب بعضهم إلى أنه كني بالحجر عن الرجم، وليس كذلك؛ لأنه ليس كل زاني يرجم. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يحدث عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، ومحمد بن زياد القرشي أبو الحارث المدني مولى عثمان بن مظعون، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): عن مسدد، عن يحيى وعن آدم (¬2) كلاهما، عن شعبة ابن الحجاج، عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة، سمع النبي -عليه السلام- يقول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2481 رقم 6369). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2499 رقم 6432).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: ثنا عبد الرزاق- قال: أنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأخرجه الترمذي (¬2): عن أحمد بن منيع، عن سفيان، عن الزهري، ن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: إسناده حسن، وإسماعيل بن عياش بن سليم الحمصي، قال دحيم: في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين، واحتجت به الأربعة، وشرحبيل بن مسلم ابن حامد الخولاني الشامي، قال يحيى والعجلي: تابعي ثقة. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وأبو أمامة، اسمه صدي بن عجلان الباهلي. وأخرجه ابن ماجه (¬3): نا هشام بن عمار، قال: نا إسماعيل بن عياش، نا شرحبيل بن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال نا الشافعي، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، سمع عمر -رضي الله عنه- يقول: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالولد للفراش". ش: إسناده صحيح، وسفيان هو ابن عيينة، وعبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى آل قارظ، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1081 رقم 1458). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 463 رقم 1175). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 647 رقم 2007).

وأبوه: أبو يزيد المكي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. والحديث أخرجه الشافعي في "مسنده" (¬1). وابن ماجه في "سننه" (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن عمر -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى بالولد للفراش". فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي هذا الحديث عن خمسة من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم: عثمان بن عفان وعائشة الصديقة وأبو هريرة وأبو أمامة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. ولما أخرج الترمذي (¬3) حديث أبي هريرة قال وفي الباب عن عمر وعثمان وعائشة وأبي أمامة وعمرو بن خارجه وعبد الله بن عمرو والبراء بن عازب وزيد بن أرقم. قلت: وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-. أما حديث عمرو بن خارجة فأخرجه الترمذي (¬4): ثنا قتيبة، نا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة أنه قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام- بمنى وهو على ناقته، وإني لتحت جرانها، ولعابها يسيل بين كتفي، وإنها لتقصع بجرتها يقول: إن الله -عز وجل- قد أعطى كل ذي حق من الميراث ولا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر". ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 188). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 646 رقم 2005). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 463 رقم 1157). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 434 رقم 2121).

وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود (¬1): ثنا زهير بن حرب، قال: نا يزيد بن هارون، قال: أنا الحسن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: "قام رجل فقال: يا رسول الله، إن فلانا ابني؛ عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا دعوة في الإِسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأما حديث البراء وزيد بن أرقم فأخرجه الطبراني (¬2): نا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا ضرار بن صرد (ح). وثنا موسى بن هارون وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قالا: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، نا موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء وزيد بن أرقم قالا: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- يوم غدير خُمّ ونحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه، فقال: إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، ولعن الله من تولى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر، ليس لوارث وصية". وأما حديث عبد الله بن الزبير فأخرجه النسائي (¬3): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، مولى لهم- عن عبد الله بن الزبير، قال: "كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر يقع عليها، فجاءت بولد شبه الذي كان يطؤها به فمات زمعة وهي حبلى فذكرت ذلك سودة لرسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة، فليس لك بأخ". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 283 رقم 2274). (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 191 رقم 5057). (¬3) "المجتبى" (6/ 180 رقم 3485).

وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا إسحاق بن إبراهيم، نا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا نفى ولد امرأته لم ينتف به، ولم يلاعن به، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب قالوا: فالفراش يوجب حق الولد في إثبات نسبه من الزوج والمرأة، فليس لهما إخراجه منه بلعان ولا غيره. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي ومحمد بن أبي ذئب وبعض أهل المدينة؛ فإنهم قالوا: إذا نفى ولد امرأته لم ينتف به ولا يجب به اللعان، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يلاعن وينتفي نسبه منه ويلزم أمه وذلك إذا كان لم يُقر به قبل ذلك، ولم يكن منه ما حكمه حكم الإقرار، ولم يتطاول ذلك. واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- فرق بين المتلاعنين وألزم الولد أمه". قالوا: فهذه سنة عن رسول الله -عليه السلام- لم نعلم شيئًا عارضها ولا نسخها، فعلمنا بها أن قول رسول الله -عليه السلام- الولد للفراش لا ينفي أن يكون اللعان به واجبًا إذا نفى، إذ كان رسول الله -عليه السلام- قد فعل ذلك، وأجمع أصحابه من بعده على ما حكموا في ميراث ابن الملاعنة، فجعلوه لا أب له، وجعلوه من قوم أمه، وأخرجوه من قوم الملاعن، ثم اتفق على ذلك تابعوهم من بعدهم، ثم لم يزل الناس على ذلك إلى أن شذَّ هذا المخالف لهم، فالقول عندنا في ذلك على ما فعله ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 181 رقم 3486).

رسول الله -عليه السلام- وأصحابه من بعده، وتابعوهم من بعدهم على ما ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أبي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، منهم: الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: إذا نفى الرجل ولد امرأته يلاعن، وينتفي نسبه منه ويلزم أمه، ثم في هذا تفصيل وخلاف من وجه آخر بينهم، فقال أصحابنا: إذا كان القذف ينفي الولد بحضرة الولادة أو بعدها بيوم أو يومين، أو نحو ذلك من مدة يأخذ فيها التهنئة وانبياع الأب الولادة عادة صح ذلك، فإن نفاه بعد ذلك لا ينتفي، ولم يؤقت أبو حنيفة لذلك، وقتًا وروي عنه أنه وقت لذلك سبعة أيام، وأبو يوسف ومحمد وقتاه بأكثر النفاس وهو أربعون يومًا، واعتبر الشافعي الفور فقال: إن نفاه على الفور ينتفي وإلا لا، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قال أبو حنيفة: إذا ولدت فنفاه من يوم يولد أو بعد يوم أو يومين لاعن وانتفى الولد، وإن لم ينفه حتى مضت سنة أو سنتان لاعن، ولزمه الولد، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا، ووقت أبو يوسف ومحمد بمقدار النفاس أربعين يومًا، وقال أبو يوسف: إن كان غائبًا فقدم فله نفيه ما بينه وبين مقدار النفاس منذ يوم قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد الحولين، لم ينتف عنه أبدًا، وقال الشافعي: إذا علم بالحمل وأمكنه التحاكم فترك اللعان لم يكن له نفيه كالشفعة، وقال في القديم: إن لم ينفه في يوم أو يومين، وقال بمصر: أو ثلاثة لم يكن له نفيه، ولو أشهد على نفسه لشغل ما أمكنه فوته أو لمرض أو كان غائبًا وقال: لم أصدق حملها، فهو على نفيه، وكذلك الحاضر إذا قال لم أعلم ولو رآها حبلى وقال: لم أعلم أنه حمل حتى ولدت كان له نفيه. قوله: "ويلزم أمه" أي يلزم الولد المنفي أمه، حتى لا يرث إلا من أمه، وإذا مات هو لا يرثه إلا أمه.

وقد روينا عن البخاري (¬1) في حديث سهل بن سعد، قال ابن جريج: قال ابن شهاب: "فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملاً، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله". قلت: ما فرض الله لها هو الثلث إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات فإن كان شيء من ذلك فلها السدس، ثم إذا وقع لأمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض وبقي شيء فهو لموالي أمه، فإن لم يكن لها موالى فهو لبيت المال. قاله الشافعي ومالك وأبو ثور وقبلهم ابن شهاب. وقال الحكم وحماد: يرثه ورثة أمه، وقال الآخرون: عصبته أمه، روي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل، قال أحمد: فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة، قال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، الثلث بالفرض، والباقي بالرد على قاعدته. قوله: "وذلك إذا لم يقر به" أي بالولد قبل ذلك، أي قبل نفيه، قيَّدَ بذلك؛ لأنه إذا كان قد أقر به وهو حمل ثم نفاه بعد الولادة لا ينتفي، ولا يصح نفيه. قوله: "ولم يكن منه" أي من الرجل الذي ينفي فيه، أي في الولد ما حكمه حكم الإقرار، قيَّد به لأنه إذا وجد منه فيه ما يدل على أنه إقرار لا يصح نفيه، وذلك نحو أن يسكت إذا هنئ به ولا يرد على المهنئ، فكان السكوت -والحالة هذه- اعترافا بنسب الولد، فلا يمكن نفيه بعد الاعتراف؛ وذلك لأن العاقل لا يسكت عند التهنئة بولد ليس منه عادة. وروى ابن رستم عن محمد: إذا هنئ بالولد من الأمة فسكت لم يكن اعترافا، وإن سكت في ولد الزوجة كان اعترافا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2033 رقم 5002).

قوله: "ولم يتطاول ذلك" أي النفي بعد الولادة، حتى إذا تطاول أيامًا ثم نفاه لا يصح نفيه، وقد ذكرنا حد التطاول في ذلك آنفا. قوله: "احتجوا في ذلك" أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وإسناده صحيح، وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، وأخرجه الجماعة. قال البخاري (¬2): ثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة". وقال مسلم (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو أسامة. ونا ابن نمير، قال: نا أبي، قالا: أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لاعن رسول الله -عليه السلام- بين رجل من الأنصار وامرأته ففرق بينهما". ورواه (3) أيضًا عن مالك وفي آخره: "وألحق الولد بأمه". وقال أبو داود (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة القعبني، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله ابن عمر، نحوه. وقال الترمذي (¬5): نا قتيبة، قال: نا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. وقال: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 567 رقم 1178). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2036 رقم 5009). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 133 رقم 1494). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 278 رقم 2259). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 508 رقم 1203).

وقال النسائي (¬1): أخبرنا قتيبة، حدثنا مالك ... إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬2): ثنا أحمد بن سنان، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه. قوله: "وألزم الولد أمه" أي ألحقه به. فإن قيل: ما معنى هذا الكلام ومعلوم أنه قد لحق بأمه، وأنها على كل حال أمه؟! قيل له: المعنى أنه ألحقه بأمه دون أبيه، ونفاه عن أبيه بلعانه وصيره إلى أمه وحدها، ولهذا ما اختلف العلماء في ميراثه. قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء القوم الآخرون: إن هذه سنة عن رسول الله -عليه السلام- يعني التفريق بين المتلاعنين وإلحاق الولد بالأم سنة النبي -عليه السلام- فإنه -عليه السلام- قد فعل ذلك وأجمع أصحابه على ذلك أيضًا من بعده، ثم اتفق على ذلك أيضًا من بعد الصحابة تابعوهم، فكلهم أجمعوا على أن ولد الملاعنة لا أب له، وأنه من قوم أمه دون أبيه، ثم لم يزل الناس على ذلك العمل إلا ما شذَّ ما ذكرنا من أهل المقالة الأولى، فلا عبرة لقولهم ذلك لشذوذه، ولا يصح أيضًا استدلالهم بقوله -عليه السلام-: "الولد للفراش" فيما ذهبوا إليه، لأنه لا ينفي وجوب اللعان بنفي الولد، ولا يعارض الأحاديث التي تدل على ذلك، فافهم. والله أعلم بالصواب. ... ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 178 رقم 3477). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 669 رقم 2069).

ص: كتاب البيوع

ص: كتاب البيوع ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام البيوع وأنواعها وأقسامها، وهو جمع بيع، وإنما جمعه؛ لاختلاف أنواعه، وهي المطلق إذا كان بيع العين بالثمن، والمقايضة إذا كان عينا بعين، والسَّلَم إذا كان بيع الدين بالعين، والصرف إذا كان بيع الثمن بالثمن والمرابحة إذا كان بالثمن الأول مع زيادة، والتولية إن لم يكن بزيادة، والوضيعة إذا كان بتقصان، واللازم إن كان تامًّا، وغير اللازم إذا كان بالخيار، والصحيح والباطل والفاسد والمكروه. وهو في اللغة مطلق المبادلة، وفي الشرع: مبادلة المال بالمال على سبيل التراضي. ولما فرغ عن بيان العبادات شرع في بيان المعاملات، وقدم البيوع على غيرها لكثرة الاحتياج إلى علمها لابتلاء الناس بها في جميع أوقاتهم. ***

ص: باب: بيع الشعير بالحنطة متفاضلا

ص: باب: بيع الشعير بالحنطة متفاضلًا ش: أي هذا باب في بيان بيع الشعير بالحنطة حال كون البيع بينهما بالتفاضل. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال أخبرني عمرو بن الحارث، أن أبا النضر حدثه، أن بسر بن سعيد حدثه، عن معمر بن عبد الله: "أنه أرسل غلامًا له بصاع من قمح فقال: بعه واشتر به شعيرًا، فذهب الغلام فأخد صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمر أخبره، فقال له معمر: لم فعلت؟ انطلق فرده ولا تأخذ إلا مثلا بمثل؛ فإني كنت أسمع رسول الله -عليه السلام- يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل، فكان طعامنا يؤمئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس مثله، قال: إني أخاف أن يضارعه". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين وأبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني، روى له الجماعة وبُسر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): نا هارون بن معروف، قال: نا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو (ح). وحدثني أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث ... إلى آخره نحوه سواء. قوله: "غلامًا له" وفي بعض الرواية: وغلامه وهي الأصح، وكذا وقع في "صحيح مسلم" على الاختلاف. قوله: "بصاع من قمح" قد فسرنا الصالح في كتاب الزكاة: أنه مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه، فقيل: هو رطل وثلث بالعراقي، وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1214 رقم 1592).

وقيل: هو رطلان، وبه أخذ أبو حنيفة، وفقهاء العراق، فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثًا، أو ثمانية أرطال. قوله: "ثم اشتر به شعيرًا" أي ثم اشتر بالقمح شعيرًا، والمعنى بيع القمح وخذ عوض ثمنه شعيرًا، لا أنه يبيع القمح بثمن ثم يأخذ بذلك الثمن شعيرًا؛ فإن في هذه الصورة يجوز الزيادة بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا بيع القمح بالشعير بأن يصير أحدهما مبيعًا والآخر ثمنًا؛ فإنه يجوز متفاضلًا خلافا لمالك على ما يجيء الآن. وعلى هذا عرفت أن قول عياض في شرح "صحيح مسلم"، وقوله في حدث معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامًا له بصاع قمح ليبيعه ويشتري بثمنه شعيرًا، وأنه أخذ به صاعًا وزيادة ... إلى أن قال: فيه حجة للمالكية في جعلهما واحداً، كلام صادر من غير ترو ولا تأمل وذلك لأنه إذا باع القمح بثمن ثم اشترى بذلك الثمن شعيرًا أكثر من ذلك القمح فإنه يجوز بلا خلاف، فكيف يصور هذه الصورة ثم يقول فيه حجة للمالكية وإنما العبارة الصحيحة ما ذكرنا فافهم. قوله: "فلما جاء معمر" ووقع في بعض نسخ "مسلم": "فلما جاء معمرًا" بنصب معمر، فوجهه إن صح فيكون منصوبا على المفعولية ويكون الضمير الذي في جاء كناية عن الغلام، وفي رواية الرفع التي هي كما قد وقعت أيضًا في رواية الطحاوي يكون ارتفاع معمر بقوله: "جاء به". قوله: "مثلا بمثل" حال، وتقديره الطعام بالطعام يجوز حال كونها متماثلين. قوله: "أن يضارعه" أي أن يشابهه، من المضارعة وهي المشابهة. ص: قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقلدوه وقالوا: لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا عبد الرحمن السلمي والقاسم وسالما وسعيد بن المسيب وربيعة وأبا الزناد والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان والليث بن سعد ومالكًا؛ فإنهم قالوا لا لمجوز بيع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد ابن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يعوث ومعيقيب -رضي الله عنهم-. أما رواية عمر -رضي الله عنه- فأخرجها الطيالسي عن هشام الدستوائي، عن يحيي بن أبي كثير، قال: "أرسل عمر بن الخطاب غلامًا له بصاع من برٍّ يشتر له به صاعًا من شعير، وزجره إن زادوه أن يزداد". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): عن الطيالسي. وأما رواية سعد بن أبي وقاص فأخرجها ابن أبي شيبة (¬2) في مصنفه: نا شبابة، عن ليث، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن سعد بن أبي وقاص، بمثل هذا. وأما رواية عبد الرحمن بن الأسود فأخرجها مالك (¬3): عن نافع، عن سليمان ابن يسار، قال: "قال عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث لغلامه: خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرًا، ولا تأخذ إلا مثله". وأما رواية معيقيب فأخرجها مالك (¬4) أيضًا: عن القاسم بن محمد، عن معيقيب، بمثل هذا. والجواب: أن حديث عبادة بن الصامت الآتي يرد هذا كله، على ما يجيء، وحديث عمر ومعيقيب -رضي الله عنهما- منقطع. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 320 رقم 20605). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة " (4/ 320 رقم 20607). (¬3) "موطأ مالك" (2/ 645 رقم 1322). (¬4) "موطأ مالك" (2/ 646 رقم 1323).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس ببيع الحنطة بالشعير متفاضلا مثلين بمثل أو أكثر من ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والشعبي والزهري وعطاء والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: يجوز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا، وروي ذلك عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهم- أخرج ذلك عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد جياد (¬1). ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في الحديث الذي احتجوا به عليهم أن معمرًا أخبر عن النبي -عليه السلام- أنه كان سمعه يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل، ثم قال معمر: وكان طعامنا يومئذ الشعير" فيكون ذلك على الشعير بالشعير، فيجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بقوله -الذي حكاه عنه معمر- الطعام الذي كان طعامهم يومئذ، فيكون ذلك على الشعير بالشعير، فلا يكون في هذا الحديث شيء من ذكر بيع الحنطة بالشعير مما ذكر فيه عن النبي -عليه السلام- وإنما هو مذكور عن معمر من رأيه، ومن تأويله ما كان سمع من النبي -عليه السلام-، ألا ترى أنه قيل له: "فإنه ليس مثله" أي ليس من نوعه، فلم ينكر ذلك على من قاله، وكان من جوابه "أني أخشى أن يضارعه"، كأنه خاف أن يكون قول النبي -عليه السلام- الذي سمعه يقول -وهو ما ذكرنا في حديثه- على الأطعمة كلها فتوقى ذلك وتنزه عنه (*)، للريب الذي وقع في قلبه منه، فلما انتفى أن يكون في هذا الحديث حجة لأحد الفريقين على صاحبه، نظرنا هل في غيره ما ينبئنا عن حكم ذلك، كيف هو؟ فاعتبرنا ذلك، فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "أنه قام فقال: يا أيها الناس قد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 319 - 320). (*) قال معد الكتاب للشاملة: في المطبوعة: "عن"، وهو خطأ يغير السياق، فأصلحناه، وهو على الصواب في طبعة المنهاج.

أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي، وإن الذهب بالذهب وزنًا بوزن تِبْرُهُ وعينه، والفضة بالفضة وزنًا بوزنٍ تِبْرُها وعينها، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما، يدًا بيدٍ، ولا يصلح نَسَاءً، والبُرُّ بالبرِّ مُدًّا بمدًّ يدًا بيد، والشعير بالشعير مدَّا بمدٍّ يدًا بيدٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدًا بيدٍ، ولا يصلح نسيئة، والتمر بالتمر، حتى عدَّ الملح مثلا بمثل، من زاد أو استزاد فقد أربى". فهذا عبادة بن الصامت قد خالف معمر بن عبد الله فيما ذهب إليه، على ما ذكرنا عنه في الحديث الأول. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث معمر بن عبد الله، تقرير ذلك: أن حديث معمر لا يتم به الاستدلال ولا يصح؛ لأنه يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بقوله: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، الطعام الذي كان طعامهم يومئذ، فيكون المراد الشعير لأن طعامهم يومئذ كان الشعير، فيكون المعنى: الشعير بالشعير مثلا بمثل، فلا يكون حينئذ في الحديث تعرض إلى بيع الحنطة بالشعير من النبي -عليه السلام-، وإنما المذكور فيه من ذلك فمن معمر من رأيه وتأويله ما كان سمع من النبي -عليه السلام- فإذا كان كذلك لا يكون الاستدلال به على عدم جواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلًا غير صحيح، وقال ابن حزم: وأما حديث معمر فهو حجة عليهم لأنهم يسمون التمر طعامًا ويبيحون فيه التفاضل بالبر، فقد خالفوا الحديث على تأويلهم بإقرارهم، ولا حجة لهم أصلاً فيه؛ لأنه ليس فيه إلا الطعام بالطعام مثلا بمثل، وهذا ما لا نخالفهم فيه، ولا في جوازه، ليس فيه أن الطعام لا يجوز بالطعام إلا مثلا بمثل، هذا مسكوت عنه جملة في خبر معمر، ومنصوص على جوازه في خبر أبي هريرة وعبادة بن الصامت عن رسول الله -عليه السلام-، فبطل تعلقهم به جملة، وعاد حجة عليهم، وأما قول معمر من رأيه فلا

حجة لهم فيه لأنه قد صرح بالشعير ليس مثلا للقمح لكن يخوف أن يضارعه، فتركه احتياطًا لا إيجابًا. ثم قال: والعجب من مالك إذ يجعل ها هنا وفي الزكاة البر الشعير والسلت صنفا واحداً ثم لا يجيز لمن يتقوت البر إخراج الشعير أو السلت في زكاة الفطر، وقوله: كل أحد يخرج مما يأكل، وهذا تناقض فاحش. وعجب آخر: وهو أنه يجمع بين الذهب والفضة في الزكاة ويرى إخراج أحدهما عن الآخر في الزكاة المفروضة، ويجيز ها هنا أن يباع الذهب بالفضة متفاضلين، وهذا تناقض لا خفاء به، وما علم أحد قط لا في شريعة ولا في لغة ولا في طبيعة: أن الشعير بر، ولا أن البر شعير، بل كل ذلك يشهد بأنهما صنفان مختلفان كاختلاف التمر والزبيب والتين، ولا يختلفون في أن من حلف أن لا يأكل برًّا فأكل شعيرًا، أو أن لا يأكل شعيرًا فأكل برًّا، ولا يشتري برًا فاشترى شعيرًا، أو لا يشتري شعيرًا فاشترى برًّا، فإنه لا يحنث انتهى. ثم إذا لم يصح الاستدلال بحديث معمر للخصم ولا لنا فيما ذهبنا إليه وجب الرجوع إلى غيره من الأحاديث، هل نجد فيها ما يدل على ما ذهبنا إليه من جواز بيع الحنطة بالشعير ... فوجدنا حديث عبادة بن الصامت يدل صريحًا على جواز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا. وأخرجه بإسناد رجاله ثقات. وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن آدة، روى له الجماعة، البخاري في غير صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): عن محمد بن آدم، عن عبدة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 276 رقم 4563).

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬1) نحوه ثم قال: قتادة لم يسمعه من مسلم ابن يسار، قال: والصحيح: رواية همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم ابن يسار أنه شهد خطبة عبادة بهذا. قلت: ذكر المزي في ترجمة مسلم بن يسار أن قتادة سمع منه فروى عنه، على أن هذا الذي ذكره البيهقي لا يضر؛ لأن حديث عبادة هذا وإن كان موقوفًا، فقد روي مرفوعًا متصلاً أيضًا كما يجيء الآن، إن شاء الله. قوله: "إن قام" أي قام خطيبًا. قوله: "إن الذهب بالذهب" الباء فيه للمقابلة، وتسمى باء العرض أيضًا، وهي الداخلة على الأعراض، كما تقول: اشتريت هذا بألف، حتى إذا قال لغيره: بعت مثل هذا العبد بكرٍّ من حنطة يكون الكرّ ثمنًا، حتى يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولو قال بعت مثل كذا من حنطة جيدة بهذا العبد تكون الحنطة سلمًا حتى لا يجوز إلا مؤجلا، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض. قوله: "وزنًا بوزن" نصب على الحال، والمعنى أن الذهب يباع بالذهب، حال كونهما موزونين متساويين. قوله: "تبره" مبتدأ، و"عينه" عطف عليه، والخبر محذوف، أي تبر الذهب، وهي القطعة المأخوذة من المعدن، وعين الذهب وهو المصوغ منه وغيره سواء في الحكم، وكذلك الكلام في قوله: "والفضة بالفضة وزنا بوزن تبرها وعينها". قوله: "ولا بأس بيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما" أي والحال أن الفضة أكثر من الذهب. قوله: "يدًا بيد" نصب على الحال. فإن قيل: من شرط الحال أن يكون من المشتقات. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 276 رقم 10258).

قلت: نعم، ولكن قد يجيء من غير المشتقات، ويجعل بالتأويل في حكم المشتق، والمعنى ها هنا: لا بأس ببيع الذهب بالفضة وإن كانت الفضة أكثر من الذهب، حال كونهما متناجزين، فافهم. قوله: "ولا يصلح نَساءً" بفتح النون والمد، أي بالتأخير، قال الجوهري: تقول: نسأته البيع وأنساته، وبعته بنسأة وبعته بكلاءة أي بأخرة، وكذلك بعته بنسيئة، وقال الأخفش: أنسأته الدين إذا جعلته له مؤخرًا، كأنك جعلته له مؤخرًا، ونسأت عنه دينه إذا أخرته، نَسَاءً بالمد، قال: وكذلك النَّسَاء في العمر ممدود، وانتصاب نساءً على الحال أيضًا، أي لا يصلح بيع الذهب بالفضة المتفاضلة حال كون البيع متأخرًا. قوله: "والبر بالبر" مثل قوله: "الذهب بالذهب" يعني يباع البر بالبر أو يجوز بيع البُرَّ بالبُرِّ ولكن متساويين، بَيَّن هذا القيد بقوله: "مُدَّا بمدٍّ" وتخصيص المد بالذكر، ليس لأجل التعيين في جواز العقد، وإنما هو تمثيل للمساواة المشروطة في بيع البر بالبر، ونحو ذلك في سائر الحبوب وغيرها التي تقابل عينها، ألا ترى إلى ما جاء في رواية البيهقي مُدْيًا بِمُدْي، والمُدْى -بضم الميم، وسكون الدال، وفي آخره ياء آخر الحروف-: هو مكيال لأهل الشام، يسع خمسة عشر مكوكًا، والمكوك صاع ونصف، وقيل: أكثر من ذلك. قوله: "والشعير أكثرهما" جملة اسمية حالية، وهذه نظير قوله: "والفضة أكثرهما". قوله: "أو استزاد" أي أو طلب الزيادة. قوله: "فقد أربى" أي فعل الربا المنهي عنه. ص: وقد روي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- هذا الكلام أيضًا عن النبي -عليه السلام-: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن

يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح؛ إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيدٍ، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد كيف شئتم، قال: ونقص أحدهما: "التمر بالملح"، وزاد الآخر: "من زاد أو ازداد فقد أربى". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن أيوب ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن إبراهيم بن طهمان، عن أيوب بن أبي تميمة، عن محمد بن سيرين، عن ابن يسار، عن أبي الأشعث، قال: سمعت عبادة بن الصامت يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام-أو قال رسول الله -عليه السلام--: لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن ولا التمر بالتمر ولا الحنطة بالحنطة ولا الشعير بالشعير ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى ولكن بيعوا الذهب بالورق والحنطة بالشعير والتمر بالملح يدا بيد كيف شيئتم". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت: "أن النبي -عليه السلام- نهى أن يباع الذهب بالذهب تبره وعينه إلا وزنا بوزن، والفضة بالفضة تبرها وعينها إلا مثلًا بمثل، وذكر الشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح كيلا بكيل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الشعير بالبر يدًا بيد والشعير أكثرهما".

حدثنا سليمان قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة، عن النبي -عليه السلام- بمثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ... وذكر آخر حدثاه -أو حدثا- قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية في كنيسة أو بيعة، فحدث عبادة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، قال أحدهما: ولم يقل الآخر: قال عبادة: أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نبيع الذهب بالفضة والبر بالشعير والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا". ش: لما أخرج حديث عبادة أولاً موقوفًا عليه؛ ردًّا على حديث معمر بن عبد الله الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وأخرجه ها هنا من ستة طرق: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار المكي ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. وهؤلاء كلهم ثقات، وأخرجه الشافعي في "مسنده" (¬1). الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن المعلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن مسلم المكي ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 147). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 276 رقم 10256).

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن محمد بن الحسن الشيباني، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني أحد أصحاب أبي حنيفة، عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. وأخرجه محمد بن الحسن في آثاره. الرابع: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن الخَصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم البصري، عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث، عن عبادة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن المثني، نا عمرو بن عاصم، نا همام -هو ابن يحيى- نا قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الذهب بالذهب تبره وعينه وزنًا بوزن، والفضة بالفضة تبرها وعينها وزنًا بوزن، والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير؛ كيلًا بكيل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما، يدًا بيد". وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا: عن الحسن بن علي، عن بشر بن عمر، عن همام ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن الخَصِيب بن ناصح، عن همام ابن يحيى، عن قتادة، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 276 رقم 4564). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 248 رقم 3349).

وأخرجه الترمذي (¬1) وقال: نا سويد بن نصر قال: أنا عبد الله ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل، [والفضة بالفضة] (¬2) مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وبيعوا البُرَّ بالتمر كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدًا بيد". قال أبو عيسى: حديث عبادة حديث حسن صحيح، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن خالد بهذا الإسناد، قال: "بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن منهال الأنماطي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن سلمة بن علقمة التميمي البصري، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار وعن آخر، قالا: جمع المنزل ... " إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث يزيد بن زريع، نا سلمة بن علقمة، ثنا محمد بن سيرين ... إلى آخره نحوه. فإن قيل: ما حال هذا الحديث وما حال هذه الطرق المذكورة؟ قلت: الطرق كلها صحيحة ورجالها ثقات. فإن قيل: كيف تكون صحيحة وفي الطريق الأول والثاني والسادس علتان: إحداهما أن مسلم بن يسار لم يسمع عبادة بن الصامت، وكل ما روى عنه فهو مرسل، والأخرى: فيه مجهول، وهو قوله: "ورجل آخر"؟! ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 541 رقم 1240). (¬2) في "الأصل، ك": والشعير بالشعير. وهو سبق قلم، أو انتقال نظر من المؤلف. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 276 رقم 10257).

قلت: سلمنا عدم سماع مسلمُ عبادةَ، ولكن الإسناد متصل في الطريق الثالث والرابع والخامس، وأما الطريق الأول والثاني والسادس فالمجهول فيها مفسر في رواية غيره بأنه عبد الله بن عتيك، أو عتيق، أو عبيد، على اختلاف الروايات في اسم أبيه، وهو ثقة سمع عبادة بن الصامت، وروى عنه محمد بن سيرين، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد قال النسائي (¬1): أنا محمد بن عبد الله بن بزيع، نا يزيد بن سلمة -وهو ابن علقمة- عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية، حدثهم عبادة قال: "نهانا رسول الله -عليه السلام- عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر -قال أحدهما: والملح بالملح. ولم يقله الآخر- إلا مثلا بمثل يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا" قال أحدهما: "فمن زاد وازداد فقد أربى". وأخرجه أيضًا من طريق آخر (¬2): وفيه: عبد الله بن عبيد موضع عبد الله بن عتيك، وهذا هو المشهور أنه عبد الله بن عبيد وبه جزم البخاري في "تاريخه" وابن أبي حاتم، وكان يدعى ابن هرمز. وأخرجه مسلم أيضًا (¬3): نا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: "كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس، فقالوا له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 274 رقم 4560). (¬2) "المجتبى" (7/ 275 رقم 4561). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1210رقم 1587).

معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة ابن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح؛ إلا سواء بسواء عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبًا، وقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله -عليه السلام- أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصة فقال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله -عليه السلام- وإن كره معاوية -أو قال: وإن رغم- ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء". وله في رواية أخرى (¬1) نحوه، وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد". قوله: "ولا الورق بالورق" بفتح الواو وكسر الراء، قال الجوهري: الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، و"الهاء" عوض من "الواو"، وفي الحديث (¬2): "في الرقة ربع العشر"، وتجمع على رقين مثل أرة وأرين وقال أيضًا: في الورق ثلاث لغات وَرِق، ووِرْق، ووَرْق مثل: كَبِد وكِبْد وكَبْد. قوله: "إلا سواء بسواء" أي إلا متساوية. قوله: "عينا بعين" نصبت على الحال، أي حال كونها متعينة، وكذلك قوله: "يدًا بيد" أي متناجزة. قوله: "كيف شئتم" يعني بزيادة أو نقصان لاختلاف الجنس. قوله: "ونقص أحدهما" أي أحد الراويَيْن عن عبادة، وهما مسلم بن يسار ورجل آخر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1211 رقم 1587). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (2/ 527 رقم 1386) من حديث أبي بكر الصديق.

قوله: "فقد أربى" أي فعل فعل الربا. قوله: "في كنيسة" هي للنصارى، "والبِيعَة" بكسر الباء لليهود، وفي بعض نسخ الطحاوي جمع المنزل بين عبادة بن الصامت، ومعاوية وعبد الله بن عتيبة، وهو عبد الله بن عتيبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن أخي معاوية ابن أبي سفيان. ويستفاد من أحكام: الأول: استدلت به جماعة على أن الربا لا يكون إلا في الأصناف الستة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخصصها بالذكر وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وهو مذهب طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبي سليمان وجميع الظاهرية. قلنا (¬1): إنما ذكر هذه الأشياء لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها في العلة فحيثما وجدت تلك العلة يوجد الربا، ثم اختلفوا في هذه العلة فقال طائفة: هي الطعم واللون، وهو مذهب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة، وروي ذلك عن ابن مسعود، وروى ابن وهب عن يونس بن يزيد قال: سألت ابن شهاب عن الحمص بالعدس اثنان بواحد يدًا بيد، فقال ابن شهاب: كل شيء خالف صاحبه باللون والطعم فلا أراهم إلا شبه الطعام. وقال ابن حزم: هذا قول بلا دليل، وهو ساقط، وقد بين ابن شهاب أنه رأي منه والرأي إذا لم ينسب إلى النبي -عليه السلام- فهو خطأ بلا شك. وقالت طائفة: إذا هي وجود الزكاة، وروى ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه كان لا يرى بأسًا بالتفاحتين بالتفاحة، والخوخ مثل ذلك، وكل ما لم تجز فيه الزكاة. ¬

_ (¬1) هذا الكلام وما بعده هو كلام ابن حزم في "المحلى" (8/ 468 - 470).

قال ابن حزم: هذا أيضًا قول بلا دليل، ووجدنا الملح لا زكاة فيه والربا يقع فيه بالنص، فبطل. وقالت طائفة: هي الجنس، فلم يجوزوا التفاضل في جنس واحد كائنا ما كان، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان، وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن كثير، عن شعبة سألت الحكم بن عتيبة عن من اشترى خمسة عشر جريبًا من أرض بعشرة أجربة، فقال: لا بأس به، وكرهه حماد بن أبي سليمان. وقالت المالكية: العلة هي الاقتيات والادخار في الجنس فما كان يدخر مما يكون قوتا في الأكل فالربا فيه نقدًا ونسيئة وما كان لا يقتات ولا يدخر فلا يدخل فيه الربا يدا بيد، وإن كان جنسًا واحدًا ولكن يدخل الربا في النسيئة إذا كان جنسًا واحدًا. وقال ابن حزم: هي علة المتقدمين منهم، ثم رغب عنها المتأخرون منهم؛ لأنهم وجدوها تفسد عليهم؛ لأن الثوم والبصل والكراث والكرويا والكسبر والخل والفلفل، نعم والملح الذي جاء فيه النص ليس شيء فيه يكون قوتًا أصلا بل بعضه يقتل إذا أكل منه مثل نصف وزن ما يؤكل مما يتقوت يه كالملح والفلفل، فلو أن إنسانًا أكل رطل فلفل في جلسة لقُتِلَ بلا شك، كذلك الملح والخل الحازق، وكذلك الثوم. ووجدوها أيضًا تفسد عليهم في اللبن والبيض فإنهما لا يمكن إدخارهما، والربا عندهم يدخل فيه. ووجدوها أيضًا تفسد عليهم في الكون والشونيز والحلبة الرطبة والكسبر والكرويا ليس بشيء من ذلك قوتًا والربا عندهم في كل ذلك. قلت: ذهب مالك في "الموطإ" أن العلة هي الادخار والاكل غالبًا، وإليه ذهب ابن نافع.

وفي "التمهيد": قال مالك: فلا يجوز الفواكه التي تيبس وتدخر إلا مثلا بمثل يدا بيد، إذا كانت من صنف واحد، ويجيء على ما روي عن مالك: أن العلة الأدخار لا الاقتيات أن لا يجرى الربا في الفواكه التي تيبس؛ لأنها ليست مقتاتة، ولا يجرى الربا في البيض، ولأنها وإن كانت مقتاتة فليست بمدخرة وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: فإذا قلنا: العلة الاقتيات قصر الحكم على كل مقتات دون ما يؤكل على وجه التفكه أو التدواي فيجرى الربا في الحنطة والشعير والسلت والعدس والأرز والدخن والذرة والقطنية والزبيب والتمر والعسل والسكر والزيت على اختلاف أنواعه واللحم واللبن وما يكون منه والملح والأبزاز والفلفل والكرويا وحب الكزبر والقرفة والتسنيل والخردل والقرطم، قال محمد عن ابن القاسم، وددك الروس وغير ذلك مما يقتات على اختلاف عادات البلاد، واختلف أصحابنا في الشمار والأنيسون والكمون، فقال بن القاسم: هي مما يجري فيه الربا؛ لأنها من الأقوات، وقال أصبغ: لا يجري فيها الربا؛ لأنها أكثر ما يستعمل على وجه التدواي، وبه قال ابن المواز، فرأى ابن القاسم أن الشمار والأنيسون والكمون الأسود تستعمل في الخبز لتطييبه وتحسين طعمه، والكمون الأبيض يستعمل في الطبخ كالفلفل، ورأى أصبغ أن الخبز لا يستعمل في صناعته الأبزار غالبًا. ومن جعل العلة الادخار للأكل دون الاقتيات أجرى الربا في الجوز واللوز والبندق والصنوبر والفستق والفواكه كلها التي تدخر، وبه قال ابن نافع وابن حبيب. واختلفوا فيما يقل ادخارها كالخوخ والرمان والأجاص وعيون البقر مما ييبس ويدخر، فروى يحيي عن ابن نافع أنه لا يجوز التفاضل فيها؛ لأنها تدخر وتيبس، وأجاز مالك في "الموطإ" التفاضل في الرمان، زاد عيسى في "المدونة" عن ابن القاسم: الخوخ والأجاص وعيون البقر؛ لأنها وإن يبست لم تكن فاكهة،

وأجاز مالك وابن نافع التفاضل في البطيخ والخريز والقثاء والأترج والخوخ، فوجه قول مالك أنها لا تدخر غالبا ولا تعلق للأحكام بما يندر، وقول ابن نافع: مما يدخر وييبس، فإنه راجع إلى غير الموز؛ لأنه لا ييبس بوجه، ويجب أن يلحق بهذا المختلف فيه البرقوق والقراسيا. ومن جعل العلة الاقتيات لم يُجر الربا في شيء من ذلك. ومن جعل العلة الادخار والاقتيات لم يُجر الربا في الجوز واللوز؛ لأنها غير مقتات، ولم يُجْرِ الربا في البيض لأنه غير مدخر. وعلى المذاهب الثلاثة فلا يجرى الربا في الفواكه الرطبة كالتفاح والرمان والكمثرى وعيون البقر والخوخ، وإن كان بعضها يدخر فليس يعتاد فيها. وذكر صاحب "الجواهر": ينقسم ما يطعم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما اتفق على أنه طعام يجري فيه حكم الربا كالفواكه والخضر والبقول والزرارع التي تؤكل غذاء أو يعتصر منها ما يغتذى من الزيت كحب القرطم وزريعة الفجل الحمراء، وما أشبه ذلك. والثاني: ما اتفق على أنه ليس بغذاء بل هو داوء، وذلك كالصبر والزعفران والشاهترج وما يشبهها. والثالث: ما اختلف فيه للاختلاف في أحواله وعادات الناس فيه، فمنه الطلع والبلح الصغير، ومنه التوابل كالفلفل والكزبرة وما في معناهما من الكمونين الزاريانج والأنيسون ففي إلحاق كل واحد منها بالطعام قولان، ومنها الحلبة وفي إلحاقها بالطعام ثلاثة أقوال مفرق عن الثالث، فيلحق به الخضراء دون اليابسة، ومنها الماء العذب قيل بإلحاقه بالطعام لما كان مما يتطعم، وبه قوام الأجسام، وقيل: يمنع إلحاقه به لأنه مشروب وليس بمطعوم، وأما العلة في تحريم الربا ففي النقدين الثمنية، وهل المعتبر في ذلك كونهما ثمين في كل الأمصار أو جلها، وفي كل الأعصار فتكون العلة بحسب ذلك قاصرة عليها إذْ

المعتبر مطلق الثمنية فتكون متعدية إلى غيرهما في ذلك خلاف يبنى عليه الخلاف في جريان الربا في الفلوس إذا بيع بعضها ببعض أو بذهب أو بورق. وقالت طائفة: العلة هي الأكل والشرب والكيل والوزن والتثمين، وهو قول أبي ثور وابن المنذر والشافعي في أول قوليه، فما كان مما يؤكل أو يشرب ويكال أو يوزن لم يجز منه من جنس واحدٍ واحدٌ باثنين لا يدًا بيد ولا نسيئة، وكذلك الذهب والفضة وما كان يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب، أو كان يؤكل أو يشرب مما لا يكال ولا يوزن فلا ربا فيه يدًا بيد، والتفاضل فيه جائز، فالأترج بالأترج متفاضلًا يجوز بنسيئة، وكذلك كل ما لا يكال ولا يوزن مما يؤكل، وكل ما يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب ولا فضة، وصح هذا القول عن سعيد بن المسيب، ذكره مالك عن أبي الزناد عنه في "موطإه". وقالت طائفة: العلة هي الطعم في الجنس أو الجنسين والتثمين في الجنس أو الجنسين مما كان يؤكل أو يشرب فلا يجوز متفاضلا أصلا ولا نسيئة أصلا، وإنما يجوز فيه التماثل نقدًا فقط إذا كان جنس واحد، فإن كان من جنسين جاز فيه التماثل والتقابل فقدًا ولم يجز فيهما النسيئة، وما كان لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب ولا فضة، فالتفاضل والتماثل والنقد والنسيئة جائز فيه جنسًا كان أو جنسين، فأجازوا رطل حديد برطلين من حديد إلى أجل، وكذلك في كل ما لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب ولا فضة، ومنعوا من بيع رطل سقمونيا فيه برطلين منها، وكذلك كل ما يتدواى به؛ لأنه يطعم على وجه ما. وهو قول الشافعي أخيرًا وعليه يعتمد أصحابه وإياه ينصرون. قلت: هو قول أحمد أيضًا في رواية، وذكر في "الروضة": المراد بالمطعوم ما يعد للطعم غالبا تقويا أو تأدمًا أو تفكهًا أو غيرها، فتدخل فيه الفواكه والحبوب والبقول والتوابل وغيرها، وسواء ما أكل نادرًا كالبلوط والطرثوث، وما أكل غالبًا وما أكل وحده أو مع غيره، ويجرى الربا في الزعفران على الأصح، وسواء

ما أكل للتداوي كالإهليلج والبليلج والسقمونيا وغيرها، وما أكل لغرض آخر، وفي "التتمة": وجه أن ما يقتل كثيره ويستعمل قليله في الأدوية كالسقمونيا لا ربا فيه وهو ضعيف، والطين الخرساني ليس ربويا على المذهب والأرمني ربوي على الصحيح؛ لأن دواء، ودهن البنفسج والورد والبان ربوي على الأصح، ودهن الكتان والسمك وحب الكتان وماء الورد والعود ليس ربويًا على الأصح، والزنجبيل والمصطكي ربوي على الأصح، والماء إذا صححنا بيعه ربوي على الأصح ولا ربا في الحيوان لكن ما يباح أكله على هيئته كالسمك الصغير على وجه، لا يجرى فيه الربا في الأصح. وأما الذهب والفضة، فقيل: يثبت فيهما الربا لعينهما لا لعلة، وقال الجمهور: العلة فيهما: صلاحية الثمنية العالية، وإن شئت قلت: جوهرية الأثمان غالبا، والعبارتان تشملان التبر والمضروب، والحلى والأواني منهما، وفي تعدى الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه، والصحيح أنها لا ربا فيها لانتفاء الثمنية العالية ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرها قطعًا. وقال طائفة: علة الربا هي الكيل والوزن في جنس أو جنسين فقط. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وحاصل ما ذكره أصحابنا أن هذا الحديث الوارد في هذا الباب معلول باتفاق القايسين غير أنهم اختلفوا في العلة، فالعلة عندنا في الأشياء الأربعة المنصوص عليها وهي البر والشعير والتمر والملح: الكيل مع الجنس، وفي الذهب والورق الوزن مع الجنس، فلا تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين، وهما: القدر والجنس، وعلة ربى النَّسَاء هي أحد وصفي ربا الفضل، إما الكيل أو الوزن المتفق، أو الجنس، وعلى هذا الأصل تبني مسائل الربا نقدًا ونسيئًا فاستخرجها إن كنت على ذكر منها. الثاني: من الأحكام احتج به أبو حنيفة على أن بيع الحنطة المبلولة أو الندية بالندية، أو الرطبة بالرطبة، أو المبلولة بالمبلولة، أو اليابسة جائز، وكذلك بيع

التمر بالرطب والرطب بالتمر والرطب بالرطب والمنقع بالمنقع والعنب بالزبيب اليابس واليابس بالمنقع، والمنقع بالمنقع متساويًا في الكل، وذلك لأنه -عليه السلام- جَوَّز بيع الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر مثلًا بمثلٍ مطلقًا من غير تخصيص وتقييد، ولا شك أن اسم الحنطة والشعير يقع على كل جنس على اختلاف أنواعها وأوصافها، وكذلك اسم التمر يقع على التمر والرطب والبسر؛ لأنه اسم لثمر النخل لغة؛ فيدخل فيه الرطب واليابس والبسر والمنقع، وقال أبو يوسف: البيع في هذه الأشياء كلها جائز إلا بيع التمر بالرطب، وقال محمد: كله فاسد إلا بيع الرطب بالرطب والعنب بالعنب، وقال الشافعي: كله باطل والحديث بعمومه حجة عليهم. الثالث: فيه أن اعتبار الجودة والصياغة عند اتحاد الجنس ساقط، فيجري الربا بين الذهب والتبر والمسبوك المضروب، وبين جيده ورديئه وكذلك الورق التبر والمسبوك منه. الرابع: فيه نص على أن الذهب والورق موزون، وإن ترك الناس الوزن فيه. الخامس: فيه أن بقية الأشياء الستة وهي البر والشعير والتمر والملح مكيل وإن ترك الناس الكيل فيه؛ لأن في حديث عبادة الموقوف لاحظ معنى الكيل، وهو قوله: "مدًّا بمد" وفي رواية "مديا بمدي" وما سوى ذلك يحمل على عادات الناس. السادس: فيه جواز بيع الحنطة الجيدة بالجيدة، والرديئة بالرديئة وإحداهما بالأخرى، والعتيقة بالعتيقة، والمقلوة بالمقلوة، وكذلك الشعير على هذا، وكذلك دقيق الحنطة ودقيق الشعير، فيجوز بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة، وسويق الحنطة بسويق الحنطة، وكذا دقيق الشعير وسويقه، وكذلك التمر بالتمر البرني بالبرني والصيحاني بالصيحاني، والبرني بالصيحاني، والجيد بالرديء، والجديد بالجديد، والعتيق بالعتيق، وأحدهما بالآخر، فكل ذلك لعموم النص.

السابع: فيه جواز بيع الذهب بالورق متفاضلا ولكن يدًا بيدٍ. الثامن: فيه جواز بيع البرِّ بالشعير متفاضلا ولكن يدا بيد. التاسع: فيه بيع التمر بالملح متفاضلا ولكن يدا بيد. العاشر: جواز بيع الذهب بالذهب متساويًا يدًا بيدٍ، وكذلك الورق بالورق، وكذا كل شيء مُقَابَل بجنسه يجوز بيعه بما يجانسه بشرط المساواة والتنجيز. واعلم أن الترمذي (¬1) لما أخرج حديث عبادة المذكور قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وبلال، ثم قال بعد إخراج حديث أبي سعيد، وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء -رضي الله عنهم-. قلت: أما حديث أبي سعيد فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه مسلم (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع، قال: نا إسماعيل ابن مسلم العبدي، قال: نا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء". وأخرجه البخاري (¬3) والترمذي (3) والنسائي (¬4). وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم (¬5) أيضًا: نا أبو كريب محمد بن العلاء وواصل بن عبد الأعلى، قالا: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي زرعة، عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 541 رقم 1240). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1211 رقم 1584). (¬3) بل لم يروه إلا مسلم والنسائي كما في "تحفة الأشراف" (3/ 430 رقم 4255). (¬4) "المجتبى" (7/ 277 رقم 4565). (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1211 رقم 1588).

أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعيى والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيدٍ فمن زاد أو استزاد فقد أربى، إلا ما اختلفت ألوانه". وله في لفظة: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا". وأخرجه النسائي (¬1). وأما حديث بلال فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): نا عمر بن حفص السدوسي، ثنا أبو بلال الأشعري، ثنا قيس بن الربيع، عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر ابن الخطاب، عن بلال -رضي الله عنهما- قال: "كان لرسول الله -عليه السلام- عندي تمر فتغير، فأخرجته إلى السوق، فبعت صاعين بصاع، فلما قربت إليه منه، قال: ما هذا يا بلال؟ فأخبرته، فقال: مهلا، أربيت، اردد البيع، ثم بيع تمرًا بذهب أو فضة، ثم اشتر به تمرًا، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: التمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فإذا اختلف النوعان فلا بأس واحد بعشرة". وأما حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فأخرجه البزار في "مسنده" (¬3): نا أحمد بن عبدة والحسن بن يحيى الأزدي -واللفظ للحسن- قالا: نا الحسين بن الأشقر، قال: نا زهير -يعني ابن معاوية- عن موسى بن أبي عائشة، عن حفص بن أبي حفص، عن أبي رافع، قال: سمعت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل، الزائد والمستزيد في النار" ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 273 رقم 4559). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 339 رقم 1017). (¬3) "مسند البزار" (1/ 109 رقم 45).

وأما حديث عمر -رضي الله عنه- فأخرجه الطحاوي في باب الصرف، وأخرجه مسلم (¬1): نا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث (ح). ونا ابن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: "أقبلت أقول من يصطرف الدراهم. فقال طلحة بن عبيد الله -وهو عند عمر بن الخطاب-: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك، فقال عمر -رضي الله عنه-: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردنَّ إليه ذهبه، فإن رسول الله -عليه السلام- قال: الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء". وأخرجه بقية الجماعة (¬2). وأما حديث عثمان -رضي الله عنه- فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا: ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد وأحمد بن عيسى، قالوا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: إنه سمع مالك بن أبي عامر، يحدث عن عثمان بن عفان، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". وأما حديث هشام بن عامر فأخرجه الطبراني (¬4): نا علي بن عبد العزيز، نا عارم أبو النعمان. ونا أبو مسلم الكشي ويوسف القاضي، قالا: ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: "قدم هشام بن عامر البصرة، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1209 رقم 1586). (¬2) البخاري (2/ 761 رقم 2065)، وأبو داود (3/ 248 رقم 3348)، والترمذي (3/ 545 رقم 1243)، والنسائي (7/ 273 رقم 1243)، وابن ماجه (2/ 759 رقم 2260). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1209 رقم 1585). (¬4) "المعجم الكبير" (22/ 176 رقم 457).

فوجدهم يتبايعون الذهب في أعطياتهم، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الذهب بالورق نسيئة، وأخبرنا أن ذلك هو الربا" واللفظ لسليمان بن حرب. وأما حديث البراء وزيد بن أرقم فأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث شعبة، عن حبيب، سمعت أبا المنهال، قال: "سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الذهب بالورق والورق بالذهب دينًا". وأما حديث فضالة بن عبيد فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا: نا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن ابن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، قال: حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر نبايع اليهود؛ الأوقية من الذهب بالدينار -قال غير قتيبة: بالدينارين والثلاثة- فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن". وأما حديث أبي بكرة فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا: أنا محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، نا أبو توبة، نا معاوية بن سلام، عن يحي بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: "نهانا رسول الله -عليه السلام- أن نبيع الفضة بالفضة إلا عينا بعين سواء بسواء، ولا نبيع الذهب بالذهب إلا عينا بعين سواء بسواء". وأخرجه البخاري (¬5) ومسلم (¬6) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 762 رقم 2070). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1212رقم 1589). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 249 رقم 3353). (¬4) "المجتبى" (7/ 281 رقم 4579). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 761 رقم 2066). (¬6) "صحيح مسلم" (3/ 1213 رقم 590).

وأما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فأخرجه الطحاوي في باب الصرف. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1): أنا أبي السماك، نا عبد الملك بن محمد، نا بشر بن عمر، نا مالك، عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد، قال: "كنت مع ابن عمر فجاء صائغ، فقال: إني أصوغ الذهب، ثم أبيع شيئًا من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عملي، فنهاه ابن عمر عن ذلك، فجعل الصائغ يرد عليه المسألة، وابن عمر ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد إلى دابة يركبها، فقال ابن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا -عليه السلام- إلينا وعهدنا إليكم". ورواه الشافعي (¬2) عن مالك رواه عنه الربيع مختصرًا، ورواه عنه المزني بتمامه ثم قال هذا خطأ؛ أنا سفيان، عن وردان الرومي، أنه سأل ابن عمر فقال: "إني رجل أصوغ الحلي، ثم أبيعه وأستفضل فيه قدر أجرتي -أو عمل يدي- فقال ابن عمر: الذهب بالذهب لا فضل بينهما، هذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم" ثم قال الشافعي: يعني "بصاحبنا": عمر -رضي الله عنه-، قال البيهقي (¬3): لم يسمع ابن عمر من النبي -عليه السلام- في ذاك شيئًا وإنما سمعه من أبيه ثم عن أبي سعيد. قلت: حكى صاحب "التمهيد" هذا القول عن الشافعي ثم قال: قول الشافعي عندي غلط على أصله؛ لأن قوله: "صاحبنا" مجمل يحتمل أن يريد رسول الله -عليه السلام- وهو الأظهر، ويحتمل أن يريد عمر -رضي الله عنه-، فلما قال مجاهد عن ابن عمر: "هذا عهد نبينا" فسر ما أجمل وردان، وهذا أصل ما يعتمد عليه الشافعي في الآثار" ولكن الناس لا يسلم منهم أحد من الغلط وإنما دخلت الداخلة على الناس من قبل التقليد؛ لأنهم إذا تكلم العالم عند من لا يُمْعن النظر بشيء كتبه، وجعله دِينًا يرد به ما خالفه دون أن يعرف الوجه فيه فيقع الخلل. ¬

_ (¬1) لم أجده في "المستدرك"، وهو في "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 279 رقم 10271). (¬2) "السنن المأثورة" (1/ 265 رقم 220)، (1/ 266 رقم 222). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 279 رقم 10271).

وأما حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- فأخرجه النسائي (¬1): نا قتيبة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: "أن معاوية باع سقايةً من ذهب أو وَرِق أكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل". ص: ففي هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- إباحة بيع الشعير بالحنطة مثلين بمثل، فقد ثبت القول بذلك من طريق الآثار، ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر لنعلم كيف هو؟ فرأينا أصحاب رسول الله -عليه السلام- اختلفوا في كفارة اليمين من الحنطة، كيف هو؟ فقال بعضهم: هي نصف صاع لكل مسكين، وقال بعضهم: هي مدّ لكل مسكين، فكان الذين جعلوها من الحنطة نصف صاع يجعلونها في الشعير صاعًا، وكان الذين جعلوها من الحنطة مُدًّا يجعلونها من الشعير مُدَّين، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده عنهم في غير هذا الموضع. فثبت بذلك أنهما نوعان مختلفان؛ لأنهما لو كانا من نوع واحد إذن لأجزى من أحدهما ما يجزي عن الآخر. فإن قال قائل: إنه إنما زيد في الشعير على ما جعل في ذلك من الحنطة لغلو الحنطة واتضاع الشعير. فالجواب له في ذلك: أنا رأينا ما يعطي من جيد الحنطة ومن رديئها في كفارة الأيمان سواء، وكذلك الشعير، ألا ترى أن من وجبت عليه كفارة يمين فاعطى كل مسكين نصف مد يساوي نصف صاع، أن ذلك لا يجزئه من نصف صاع ولا من مُدٍّ، فلما كان ما ذكرنا كذلك وكان الشعير يؤدي في كفارات الإيمان مثلي ما يؤدى من الحنطة؛ ثبت أنه نوع خلاف الحنطة، فثبت بذلك أنه لا بأس ببيعه بالحنطة مثلين بمثل وأكثر من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 279 رقم 4572).

ش: أراد بهذه الآثار حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وإنما جمعه باعتبار كونه مخرجًا من وجوه كثيرة وطرق متعددة، فكان كل طريق منها أثر مستقل بذاته فجمعه على آثار. قوله: "ثم التمسنا حكم ذلك" أي فطلبنا حكم بيع الحنطة بالشعير متفاضلا من طريق النظر والقياس. قوله: "فقال بعضهم هي نصف صاع" أي فقال بعض الصحابة -رضي الله عنهم-: كفارة اليمين نصف صاع من الحنطة، وأراد بهؤلاء البعض: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنهم-، فإنه صح عنهم في كفارة اليمين لكل مسكين نصف صاع من الحنطة أو صاع من تمر أو شعير، وهو قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وقتادة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. قوله: "وقال بعضهم: هي مد" أي وقال بعض الصحابة: كفارة اليمين، مدّ وهو رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، ورطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق، وأراد بهؤلاء البعض: عبد الله بن عباس وابن عمر أيضًا وزيد ابن ثابت أيضًا فإن الرواية عن ابن عمر وزيد مختلفة. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب مالك والشافعي، وسيجيء في بابه زيادة البيان إن شاء الله تعالى. قوله: "وقد ذكرنا ذلك" أي المذكور من أقوال الصحابة -رضي الله عنهم- ذكره في كتاب الأيمان على ما يجيء إن شاء الله تعالى، وقد وُضِعَ كتاب الأيمان والنذور في بعض نسخ الطحاوي عقيب كتاب الحج. فقوله هذا بالإخبار عن الماضي يدل على أن ترتيبه الكتاب كان كذا، والله أعلم. قوله: "فإن قال قائل" سؤال يرد على ما تقدم من قوله: "فكان الذين جعلوها من الحنطة ... " إلى آخره، وتقريره أن يقال: إن تلك الزيادة في الموضعين لأجل

غلو الحنطة ورخص الشعير، وهو معنى قوله: واتضاع الشعير، فلا يدل ذلك على أنهما نوعان مختلفان. قوله: "فلما كان ما ذكرنا كذلك" أشار به إلى ما بَيَّنه من وجه النظر والقياس. قوله: "وكان الشعير يؤدى منه" عطف عليه، وقوله: "ثبت أنه نوع خلاف الحنطة" جواب لما وضحه القياس المذكور، أي ثبت أن الشعير نوع بذاته خلاف الحنطة. قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" أشار به إلى ما بَيَّنه من وجه النظر، أن الشعير خلاف الحنطة، وأنه نوع بذاته، وأنه لا بأس ببيعه بالحنطة مثلين بمثل أو أكثر، والله أعلم. ***

ص: باب: الرطب بالتمر

ص: باب: الرطب بالتمر ش: أي هذا باب في بيان حكم بيع الرطب بالتمر هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا وأسامة بن زيد أخبراه، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، أن زيدًا أبا عياش أخبره: "أنه سأل سعدًا عن السلت بالبيضاء، فقال سعد: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا إذن، وكرهه". ش: عبد الله بن يزيد القرشي المدني الأعور مولى الأسود بن سفيان روى له الجماعة وقال أبو عمر: ظن قوم أنه عبد الله بن يزيد بن هرمز الفارسي الفقيه وليس كذلك، وإنما هو مولى الأسود بن سفيان، وكذلك في رواية أبي مصعب والشافعي وغيرهما، ولم يذكر مالك عن عبد الله بن يزيد بن هرمز حديثًا ولا مسألةً، يقولون: إنه خرَّج عليه وعلى غيره إن تحدثوا بحديث أو رأي عنه. وأبو عياش بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة اسمه زيد، يقال له: أبو عياش الزرقي. وفي "التكميل": زيد بن عياش أبو عياش الزرقي ويقال: المخزومي، ويقال: مولى بني زهرة المدني تابعي. عن سعد بن أبي وقاص: "أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم". وعنه عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنس السلمي، وقد صحح هذا الحديث الترمذي وابن خزيمة والحاكم، ووثق زيد الدارقطني، وقال الإِمام أبو حنيفة وأبو محمد بن حزم: مجهول. انتهى. وقيل: لم يرو عنه أحد غير عبد الله بن يزيد، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وزيد هذا قيل: هو أبو عياش الزُّرَقي وقيل: أبو عياش الزرقي اسمه زيد بن

الصامت، وهو من صغار الصحابة وممن شهد بعض مشاهدهم، وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" من التابعين. والحديث أخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن عبد الله بن يزيد، أن زيدًا أبا عياش أخبره: "أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البَيْضاء بالسُّلْت، فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ فقال: البيضاء. فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يُسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله -عليه السلام-: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك". وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن مالك نحوه، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي، ثنا يحيي، عن مالك، حدثني عبد الله بن يزيد، عن زيدٍ بن أبي عياش، عن سعد قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن التمر بالرطب فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عنه". وأخرجه أبو داود (¬4): من حديث معاوية بن سلام، عن يحيى، أنا عبد الله ابن يزيد، أن أبا عياش أخبره أنه سمع سعدًا يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الرطب بالتمر نسيئة". وقال الدارقطني: خالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد، رووه عن ابن يزيد، وما قالوا فيه: "نسيئة". فإن قلت: بم حكمت في هذا الحديث؟ ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 624 رقم 1293). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 528 رقم 1225). (¬3) "المجتبى" (7/ 268 رقم 4545). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 251 رقم 3360).

قلت: هذا كما ترى قد صححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وسكت عنه أبو داود، وسكوته دليل الرضا به، ولكن فيه مقال كثير، وهو مضطرب متنًا وسندًا على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: "عن السلت بالبيضاء" أي عن بيع السلت بالبيضاء، والسلت -بضم السين المهملة وسكون اللام وفي آخره تاء مثناة من فوق- وهو ضرب من الشعير أبيض لا قشر له، والبيضاء ممدود: الحنطة، وتسمى السمراء أيضًا. وقال الخطابي: السلت: نوع من البر أبيض اللون فيه رخاوة يكون بمصر، والسلت أدق حبا منه، والبيضاء: الشعير. وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وخرج قاسم هذا الحديث فقال فيه: "سأل رجل سعدًا عن السلت بالشعير ... " فساق الحديث، فبان بهذا أن البيضاء هي الشعير، ولا خلاف في ذلك أن البيضاء هي الشعير إلا ما ذكره وكيع، فإنه وهم في هذا الحديث على مالك، وساق عنه بسنده، وقال فيه: عن زيد أبي عياش، وقال: "سألت سعدًا عن السلت بالذرة فكرهه، وقال: سُئل رسول الله -عليه السلام- عن الرطب بالتمر ... " وذكر الحديث، وجعل الذرة موضع البيضاء وذلك وهم، والبيضاء عند العرب الشعير، والسمراء عندهم البر، والذرة صنف منفرد عند العلماء. انتهى. وروى الترمذي (¬1): ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياش قال: "تبايع رجلان على عهد سعد بن أبي وقاص بسلت وشعير، فقال سعد: تبايع رجلان على عهد ¬

_ (¬1) لم يروه الترمذي في "جامعه" من هذا الطريق، وإنما رواه (3/ 528 رقم 1225) من طريق قتيبة، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد بنحوه. وانظر "تحفة الأشراف" (3/ 283 رقم 3854). وأخرجه الحميدي في "مسنده" (1/ 41 رقم 75) عن سفيان به.

رسول الله -عليه السلام- بتمر ورطب، فقال رسول الله -عليه السلام-: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن". قال أبو عمر: في هذا الحديث تفسير البيضاء المذكورة في حديث مالك أنها الشعير، وهو كذلك عند أهل العلم. قلت: إذا كان البيضاء هو الشعير، وقد ذكرنا أن السلت أيضًا نوع من الشعير وقد ذكره الجوهري هكذا أيضًا يكون سؤال أبي عياش سعدًا عن بيع الشعير بالشعير، وعن هذا قال أبو عمر: في هذا الحديث من قول سعد ما يدل على أن السلت والشعير عنده صنف واحد، فلا يجوز التفاضل بينهما، ولا يجوز إلا مثلًا بمثل وكذلك القمح معهما صنف واحد، وهو مذهب مشهور معروف من مذهب سعد بن أبي وقاص إليه ذهب مالك وأصحابه، وقال أيضًا: جعل الليث بن سعد البر والشعير والسلت والدخن والأرز والذرة صنفًا واحدًا هذه الستة كلها لا يجوز بيع شيء منها بشيء إلا مثلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ عنده. انتهى. وقال صاحب "المطالع": السلت حب بين البر والشعير لا قشر له. وقال أيضًا: وفي حديث سعد البيضاء بالسلت جاء في حديث سفيان أنه الشعير، وقال الداودي: هو الأبيض من البر. وقال الخطابي: هي الرطب من السلت، كرهه من باب الرطب باليابس من جنسه، ويدل على صحة قول الداودي قول مالك في "الموطأ": الحنطة كلها؛ البيضاء والسمراء والشعير. فجعلها غير الشعير وهي المحمولة، وهي الحنطة في الحجاز. قوله: "أينقص الرطب" الهمزة فيه للاستفهام، ومعناه التقرير والتنبيه على نكتة الحكم ليعتبروها في نظائرها، ولا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب ينقص إذا يبس ليستفهم عنه. قوله: "فلا إذن" أي فلا يجوز حينئذ. واستفيد منه: أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز، وصحة القول بالقياس.

وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وأَخْذُ سعد حكم السلت بالبيضاء من حكم النبي -عليه السلام- في الرطب بالتمر؛ دليل على قوله بالقياس، وعلى هذا جماعة الصحابة، ولا نعلم أحد منهم حفظ عنه قضية إلا وجميعها أو معظمها القياس، وقوله -عليه السلام-: "أينقص الرطب إذا يبس" تنبيه على القياس، فإنه لا يخفى على أحد أن الرطب ينقص إذا يبس، فنبههم النبي -عليه السلام- أن علة التحريم هو التفاضل في هذا الجنس. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: فذكر مثله. ش: هذا طريق آخر عن صالح، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا القعنبي، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد، أن زيدًا أبا عياش أخبره: "أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء. قال: فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يُسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله -عليه السلام-: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهاه عن ذلك". انتهى. قلت: فيه تصريح أن المراد من البيضاء هي الحنطة، ومن السلت الشعير. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه وجعلوه أصلاً، ومنعوا بيع الرطب بالتمر، وممن ذهب إلى ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والثوري والليث بن سعد ومالكا والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجوز بيع الرطب بالتمر. واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وممن قال بقولهم: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 251 رقم 3359).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فجعلوا الرطب بالتمر نوعًا واحدًا، وأجازوا بيع كل واحد منهما بصاحبه مثلًا بمثل، وكرهوا نسيئة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: أبا حنيفة والمزني وأبا ثور وداود؛ فإنهم قالوا: يجوز بيع الرطب بالتمر مثلًا بمثل؛ لأنهما نوع واحد وهو اختيار الطحاوي أيضًا، ولا يجوز عندهم أن يبيعوا الرطب بالتمر نسيئة وإن كان مثلًا بمثل لوجود علة الربا. ص: فاعتبرنا هذا الحديث الذي احتج به عليهم مخالفهم، هل دخله شيء؟ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي، قال: ثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن يزيد، أن زيدًا أبا عياش أخبره، عن سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة". فكان هذا هو أصل هذا الحديث، فيه ذكر النسيئة، زاده يحيى بن أبي كثير على مالك بن أنس، فهو أولى، وقد روي هذا الحديث أيضًا عن غير عبد الله بن يزيد على مثل ما رواه يحيى بن أبي كثير أيضًا. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا عمرو بن الحارث، عن بكير ابن عبد الله، حدثه عن عمران بن أبي أنيس، أن مولى بني مخزوم: "حدثه أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل، فقال سعد: نهانا رسول الله -عليه السلام- عن هذا". فهذا عمران بن أبي أنيس وهو رجل متقدم معروف قد روى هذا الحديث كما رواه يحيى، فكان ينبغي في تصحيح معاني الآثار أن يكون حديث عبد الله بن يزيد لما اختلف عنه فيه أن يرتفع ويثبت حديث عمران هذا، فيكون النهي الذي جاء في حديث سعد هذا إنما هو لعلة النسيئة لا غير ذلك؛ فهذا سبيل هذا الباب من طريق تصحيح الآثار.

ش: هذه إشارة إلى الجواب عن الحديث المذكور الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيان ذلك أن حديث سعد بن أبي وقاص الذي رواه مالك عن عبد الله ابن يزيد، فيه زيادة ذكرها غير مالك بن أنس عن عبد الله بن يزيد وهي لفظة: "نسيئة"، رواها يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الرطب بالتمر نسئية". أخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي الشامي الدمشقي -ويقال: الحمصي- أحد أصحاب أبي حنيفة، وشيخ البخاري. عن معاوية بن سلام الحبشي الأسود روى له الجماعة. عن يحيى بن أبي كثير الطائي، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام ... إلى آخره نحوه. والأخذ بهذه الزيادة أولى ولا سيما إذا كانت من ثقة، ويحيى بن أبي كثير ثقة حجة ثبت. وقد روى هذا الحديث أيضًا عن غير عبد الله بن يزيد بهذه الزيادة، مثل رواية يحيى بن أبي كثير، وهو عمران بن أبي أنيس، أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج -والكل رجال الصحيح- عن عمران بن أبي أنيس إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمران بت أبي أنيس، سمعت أبا عياش يقول: "سألت سعدًا عن شراء السلت ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 251 رقم 3360). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 295 رقم 10343).

بالتمر، فقال سعدٌ أبينهما فضل؟ قالوا: نعم. قال: لا يصلح، وقال: وسئل رسول الله -عليه السلام- عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: أبينهما فضل؟ قالوا: نعم، الرطب ينقص. فقال: لا يصلح". فإذا كان الأمر كذلك؛ كان ينبغي في تصحيح معاني الآثار أن يكون حديث عمران بن أبي أنيس أولى بالعمل؛ لكونه لم يختلف فيه، بخلاف حديث عبد الله بن يزيد فإنه ينبغي أن يترك ولا يعمل به؛ لكونه قد اختلف فيه عن عبد الله بن يزيد على ما ذكرنا من أن مالكًا روى عنه بدون هذه الزيادة، ويحيى ابن أبي كثير روى عنه بهذه الزيادة، فحصل الاختلاف، فالذي اتفق فيه أولى من الذي اختلف فيه، فحينئذ يكون النهي الذي جاء في حديث سعد إنما كان لأجل علة النسئة لا غير ذلك، فإذا كان كذلك يجوز بيع الرطب بالتمر إذا كان يدًا بيدٍ فلا يبقى فيه حجة لأهل المقالة الأولى. فإن قيل: كيف تكون رواية عمران أولى من وراية غيره، وفيها مجهول. قلت: لا نسلم أنه مجهول بل هو زيد أبو عياش المذكور في رواية مالك ويحيى بن أبي كثير، على أن البيهقي قد صرح به في روايته في حديث عمران على ما ذكرنا الآن، ولئن سلمنا أن يكون هذا غير أبي عياش، ففي رواية مالك أبو عياش، وقد قيل فيه: إنه مجهول كما ذكرنا، فتساويا، ويترجح خبر عمران أيضًا لأجل الزيادة المذكورة. فإن قيل: أيا ما كان لا يتم به الاستدلال لأهل المقالة الثانية كما لا يتم لأهل المقالة الأولى. قلت: لا نسلم بل يتم لأهل المقالة الثانية؛ لأنه يؤيد استدلالهم بهذا حديث عبادة بن الصامت الصحيح بالاتفاق، فإنه ذكر فيه جواز بيع التمر بالتمر مثلًا بمثل يدًا بيد، واسم التمر يقع على الرطب أيضًا، لأن اسم ثمر النخل لغة، فيدخل فيه الرطب واليابس والمذنب والبسر والمتقع، وروي أن عامل خيبر

أهدى إلى رسول الله -عليه السلام- تمرًا جنيبًا فقال -عليه السلام-: أَوَكل تمر خيبر هكذا؟ وكان أهدى إليه رطبًا، أطلق اسم التمر على الرطب، وقد احتج الكاساني لأبي حنيفة بهذا الطريق، ثم قال: وأما الحديث، وأراد به حديث سعد المذكور فمداره على زيد أبي عياش، وهو ضعيف عند النقلة، فلا يقبل في معارضة السنة المشهورة؛ ولهذا لم يقبله أبو حنيفة في المناظرة في معارضة الحديث المشهور مع أنه كان من صيارفة الحديث، وكان من مذهبة تقديم الخبر وإن كان في حدّ الآحاد على القياس، بعد أن كان روايه عدلاً ظاهر العدالة، أو تأوله على بيع الرطب بالتمر نسيئة، أو تمرًا من مال اليتيم توفيقًا بين الدلائل؛ صيانة عن التناقض، والله أعلم. فإن قيل: أخرج البيهقي في "سننه" (¬1) حديث سعد من طريق يحيى بن أبي كثير بالزيادة المذكورة ثم قال: قال الدارقطني: خالفه مالك وإسماعيل ابن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد، رووه عن ابن يزيد وما قالوا فيه: "نسيئة". قلت: قد علمت أن عمران بن أبي أنيس قد تابع يحيى في ذلك وتوافقا في الزيادة المذكورة، ولا تضر مخالفتهما هؤلاء القوم؛ لأنهما إمامان جليلان حجتان، ومالك قد اختلف عليه كما ذكرنا، واختلف أيضًا على إسماعيل بن أمية، وروي عنه نحو رواية مالك، ذكره "البيهقي" (¬2) من حديث الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد أبي عياش، عن سعد: "سئل النبي -عليه السلام- عن الرطب بالتمر، قال: أينقص إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه". تابعه ابن عيينة، عن إسماعيل. وروى الطحاوي أيضًا في "مشكل الآثار" الحديث عن المزني، عن الشافعي، عن ابن عيينة، عن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياش الزرقي، عن سعد ... الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 294 رقم 10342). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 294 رقم 10339).

قال الطحاوي: وهذا محال، أبو عياش الزرقي صحابي جليل. وليس في سن عبد الله بن يزيد لقاء مثله. واختلف أيضًا على أسامة بن يزيد، فرواه عنه ابن وهب نحو رواية مالك، ورواه الليث عن أسامة وغيره، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي -عليه السلام-، وذكره الطحاوي في "مشكل الحديث" وابن عبد البر، وفي أطراف المزني رواه زياد بن أيوب، عن علي بن غراب، عن أسامة بن يزيد، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياش، عن سعد موقوفًا. ولم يذكر الدارقطني ولا غيره فيما علمنا سند رواية الضحاك بن عثمان لننظر فيه، ولئن سلم حديث هؤلاء من الاختلاف كان حديث يحيى بن أبي كثير أولى بالقبول من حديثهم؛ لأنه زاد عليهم، وهو إمام جليل، وزيادة الثقة مقبولة، كيف وفي رواية عمران بن أبي أنيس المذكورة ما يقوى حديثه ويُبين أنه لم ينفرد به فظهر من هذا كله أن الحديث قد اضطرب اضطرابًا شديدًا في سنده ومتنه، وزيد مع الاختلاف فيه هو مجهول لا يعرف كما قال ابن حزم وغيره. وأخرج صاحب "المستدرك" (¬1) هذا الحديث من طرق، منها رواية يحيى، ثم صححه، ثم قال: لم يخرجه الشيخان لِمَا خشيا من جهالة زيد. وقال الطبري في "التهذيب": الخبر معلول بانفراد زيد به؛ لأنه غير معروف في نقلة العلم، والله أعلم. ص: وأما وجهه من طريق النظر فإنا قد رأيناهم لا يختلفون في بيع الرطب بالرطب مثلًا بمثل أنه جائز، وكذلك التمر بالتمر مثلًا بمثل وإن كانت في أحدها رطوبة ليست في الآخر، وكل ذلك ينقص إذا بقى نقصانًا مختلفًا ويجفُّ، فلم ينظروا في ذلك في حالة الجفوف فيبطلوا البيع به، بل نظروا إلى ¬

_ (¬1) "المستدرك" للحاكم (2/ 45 رقم 2266 - 2267).

حاله وقت وقوع البيع فعملوا على ذلك ولم يراعوا ما يئول إليه من جفوف ونقصان، فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك التمر بالرطب ينظر إلى ذلك في وقت وقوع البيع ولاينظر إلى ما يئول إليه من تغيير وجفوف، وهذا قول أي حنيفة وهو النظر عندنا. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس؛ فإنا قد رأينا الخصوم كلهم ... إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "وهو النظر عندنا" أشار به إلى أنه اختار قول أبي حنيفة في هذا الباب وأنه ذهب إليه، والله أعلم. ***

ص: باب: تلقي الجلب

ص: باب: تلقي الجلب ش: أي هذا باب في بيان حكم تلقي الجلب، هل يكره أم لا؟ والجلب - بفتحتين- ما يجلب للبيع، وكذلك الجلوبة قال الجوهري: جَلَبَ الشيء يَجْلِبُهُ ويَجْلُبُهُ جَلْبًا وجَلَبًا. قلت: وأشار به إلى أنه يجيء بين بابين نَصَرَ يَنْصُر والآخر من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وفي المصدر أيضًا وجهان تسكين اللام وتحريكها، ولكن بتحريك اللام يجوز أن يكون مصدرًا ويجوز أن يكون اسمًا للشيء المجلوب، والله أعلم. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: أنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا السوق، ولا يُنَفِّق بعضكم لبعض". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا السوق". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن أبي الأحوص سلام ابن سليم الكوفي، عن سماك بن حرب، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله ابن عباس. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: لا تستقبلوا السوق، ولا تحفلوا، ولا يُنَفَّق بعضكم لبعض"، وقال: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 568 رقم 1268).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) مطولاً: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أراد أن يخرج إلى سفر، قال: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من الضُّبْنة في السفر، والكآبة في المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر، فإذا أراد الرجوع قال: تائبون عابدون لربنا حامدون، فإذا دخل أهله قال: توبا لربنا أوبًا لا يغادر علينا حوبًا". وقال رسول الله -عليه السلام-: "ليقرأن القرآن أقوام من أمتي يمرقون من الإِسلام كما يمرق السهم الرمية" (¬2). وقال رسول الله -عليه السلام-: "لا تستقبلوا السوق ولا تحفلوا ولا ينفق بعضكم لبعض" (¬3). الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي نزيل مصر وشيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عباد بن يعقوب، ثنا الوليد بن أبي ثور، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا تناجشوا ولا تستقبلوا السوق". قوله: "لا تستقبلوا السوق" معناه: لا تستقبلوا السلع فتتساوموا عليها قبل أن تصل إلى السوق وإنما نهي عن ذلك لأن فيه غشًّا لصاحب السلعة، لأن سلعته ربما كانت تساوى بأضعاف ما اشتراها مَنْ يتلقاها قبل وصولها إلى السوق، والسوق تظهر فيها قِيَمُ الأشياء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 255 رقم 2311). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 256 رقم 2312). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 256 رقم 2313).

قوله: "ولا يُنَفِّق" بتشديد الفاء، من التنفيق وهو من النَّفَاق ضد الكساد، ويقال: نفقت السلعة فهي نافقة، وأنفَقْتُها ونفَّقْتُها إذا جعلتها نافقة، والمعنى ها هنا: لا يقصد أن يُنَفِّق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغب الناس، فيكون قوله سببًا لابتياعها ومنفقًا لها. قوله: "ولا تحفلوا" من التحفيل وهو أن يترك اللبن في ضرع الشاة أو البقرة أو الناقة، ولا يحلب إياها حتى يراها المشتري ويحسبها غزيرة اللبن، وهي المصراة. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا بن نمير ... فذكر بإسناد مثله. حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا صخر بن جويرية، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتلقوا البيوع". حدثنا محمد بن عبد العزيز الأيلي، قال: ثنا سلامة، عن عُقيل، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن تتلقى السلع حتى يبلغ به سوق الطعام". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تتلقى الركبان". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عمرو، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- القرشي العدوي العمري المدني، روى له الجماعة ... إلى آخره.

وأخرجه البخاري (¬1): من حديث مالك وغيره، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن أبي زائدة. وثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد. وثنا بن نمير، قال: نا أبي، كلهم عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن تتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق" وهذا لفظ ابن نمير، وقال الآخران: "إن النبي -عليه السلام- نهى عن التلقي". الثالث: عن علي بن عبد الرحمن، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود، عن صخر بن جويرية البصري، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): من حديث ابن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهاها النبي -عليه السلام- أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام". الرابع: عن محمد بن عُزيز -بزائين معجمتين أولاهما مفتوحة- بن عبد الله الأيلي شيخ النسائي وابن ماجه، عن ابن عمِّه سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عمِّه عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 759 رقم 2057). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1156 رقم 1517). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 759 رقم 2058).

وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. الخامس: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن ابن الحارث بن أبي ذئب، عن مسلم بن أبي مسلم الخياط المدني، وثقة ابن حبان، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". و"السلع" جمع سلعة وهي المتاع. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن داود بن صالح بن دينار، عن أبيه، عن أبي سعيد، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تتلقوا شيئًا من البيع حتى يقوم سوقكم". ش: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه فيه مقال، وعبد العزيز ابن محمد الدراوردي روي له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره، وداود بن صالح بن دينار المدني مولى الأنصار، وثقه ابن حبان وروى له أبو داود حديثًا وابن ماجه آخر، وأبوه صالح بن دينار وثقه ابن حيان، روى له ابن ماجه حديثًا واحدًا، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن العباس بن الوليد بن صبيح الخلال، عن مروان بن محمد الطاطري، عن عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن داود بن صالح المدني، عن أبيه، عن أبي سعيد نحوه. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 269 رقم 3436). (¬2) "المجتبى" (7/ 257 رقم 4499). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 737 رقم 2185) بهذا الإسناد، ولفظه: "إنما البيع" وانظر "تحفة الأشراف" (3/ 364 رقم 4076).

عدي بن ثابت، قال: سمعت أبا حازم يحدث، عن أبي هريرة قال: "نهينا -أو نهي- عن التلقي". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تلقوا الركبان". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك، قال ابن يونس: ثقة ثبت. عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي وثقه أبو حاتم، عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي روى له الجماعة، عن أبي حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- اسمه سلمان الأشجعي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه النسائي (¬1) بأتم منه: أخبرني عبد الله بن محمد بن تميم، ثنا حجاج، حدثني شعبة، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن التلقي، وأن يبيع مهاجر للأعرابي، وعن التصرية والنجش، وأنْ يستام الرجل على سوم أخيه، وأن تسأل المرأة طلاق أختها". قوله: "نُهينا أو نُهي" كلاهما على صيغة المجهول وقد ذكرنا غير مرة أن قول الصحابي: نهى أو نهينا أو أمر أو أمرنا ونحو ذلك مسند إلى رسول الله -عليه السلام-. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي وثقه يحيى وغيره، عن سفيان الثوري عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3): من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تلقوا الركبان للبيع". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 255 رقم 4491). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 755 رقم 2043). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1154 رقم 1515).

قوله: "لا تلقوا الركبان" أصله لا تتلقوا فحذفت إحدى التائين كما في قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} (¬1) أصله تتلظى، و"الركبان" -بضم الراء- جمع ركب، والركب جمع راكب، والركب أصحاب الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها، ثم استعمل في كل راكب توسعًا. وقال أبو عمر: معناه النهي عن تلقي السلع. وقال ابن الأثير: تلقي الركبان هو أن يستقبل الحضري البدوي قبل وصوله إلى البلد ويخبره بكساد ما معه كذبًا؛ ليشتري منه سعلته بالوكس، وأقل من ثمن المثل، وذلك تغرير محرَّم، ولكن الشراء منعقد، ثم إذا كذب وظهر الغبن؛ ثبت الخيار للبائع، وإن صدق ففيه على مذهب الشافعي خلاف. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: نا شعبة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تلقوا الجلب". ش: إسناده صحيح والحكم هو ابن عتيبة، وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي. وأخرجه أحمد فى "مسنده" (¬2): نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يُتلقى الجلب ولا يبع حاضر لباد". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فاحتج قوم بهذه الآثار، فقالوا: من تلقى شيئًا قبل دخوله السوق ثم اشتراه؛ فشراؤه باطل. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد وبعض المالكية وجماعة من الظاهرية فإنهم قالوا: من تلقى شيئًا قبل دخوله السوق ثم اشتراه، فشراؤه باطل. ¬

_ (¬1) سورة الليل، آية: [14]. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 314 رقم 18839).

وقال ابن حزم (¬1): ولا يحل لأحد تلقي الجلب سواء خرج لذلك أو كان ساكنًا على طريق الجلّاب، وسواء بَعُد موضع تلقيه أو قرب، ولو أنه عن السوق على ذراع فصاعدًا، لا لأضحية ولا لقوت ولا لغير ذلك، أضر ذلك بالناس أو لم يضر، فمن تلقى جلبًا أي شيء كان فاشتراه، فإن الجالب بالخيار إذا دخل السوق متى ما دخله ولو بعد أعوام في إمضائه البيع أو ردَّه، فإن رده حكم فيه بالحكم في البيع يرد بالعيب لا في المأخوذ بغير حق ولا يكون رضا الجالب إلا بأن يلفظ بالرضا لا بأن يسكت علم أو لم يعلم، فإن مات المشتري فالخيار للبائع باق، فإن مات البائع قبل أن يرد أو يُمض فالبيع تام. ثم قال: وممن نهى عن تلقي الركبان الجالبين جملة: الليث بن سعد والحسن ابن حيي وأحمد بن حنبل وإسحاق والشافعي وأبو سليمان وأصحابهم، وقال الشافعي وأبو سليمان بإيجاب الخيار للبائع إذا قدم السوق، ونهى عنه الأوزاعي إن كان بالناس إليه حاجة، وقال مالك: لا يجوز ذلك للتجارة خاصة، ويؤدب من فعل ذلك في نواحي المصر فقط، ولا بأس بالتلقي لابتياع القوت من الطعام، والأضحية. انتهى. وقال عياض في "شرح مسلم": واختلف في تلقي الجلب إذا وقع، فعن مالك وبعض أصحابه: ينهى ولا يتتزع منه، ورأى بعض أصحابنا فسخ بيع المتلقي، والشافعي وأحمد يريان للبائع الخيار كما جاء في الحديث، ومال إليه بعض أصحابنا، والمشهور عن مالك وكثر أصحابه أن يعرض على أهل السوق، فإن لم يكن سوق فأهل المصر، فيشترك فيهم من شاء منهم. وقال الاصطخرى: إما يكون البائع بالخيار إذا اشتريت بأعلى من ثمنها، واختلف عندنا في حد التلقي الممنوع، فعن مالك: كراهة ذلك على مسيرة يومين، وعن مالك: تخفيفه وإباحته على ستة أميال، ولا خلاف في منعه إذا كان قرب المصر ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 449 - 450).

وأطرافه، وقال بعض المتأخرين: وكذلك يجوز تلقيها في أول السوق لا في خارجه، وكذلك إذا لم يكن للسلعة سوق فشراؤها إذا دخلت البلد جائز، وإن لم يبلغ أسواقه. انتهى. وقال أبو عمر في "التمهيد" (¬1): وجملة قول مالك في ذلك: أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب، والسلع الهابطة إلى الأسواق، وسواء هبطت من أطراف المصر أو من البوادي حتى يبلغ بالسلعة سوقها، وهذا إذا كان التلقي في أطراف المصر أو قريبًا منه. قيل لمالك: أرأيت إن كان ذلك على ستة أميال؟ فقال: لا بأس بذلك، والحيوان وغير الحيوان في ذلك كله سواء. وروى أشهب عن مالك أنه كره أن يخرج الرجل من أهل الحاضرة إلى أهل الحوائط فيشتري منهم الثمرة، وكأنه رآه من التلقي، ومن بيع الحاضر للبادي، وقال أشهب: لا بأس بذلك. وروى أبو قرة، قال مالك: إني لأكره تلقي السلع وأن تبلغوا بالتلقي أربعة برد. وقال أصحاب الشافعي -رحمه الله-: تفسير النهي عن التلقي: أن يخرج أهل السوق فيخدعون أهل القافلة فيشترون منهم رخيصًا، فلهم الخيار؛ لأنهم غروهم وخدعوهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: كل مدينة يضر التلقي بأهلها فالتلقي فيها مكروه، والشراء جائز، وكل مدينة لا يضر التلقي بأهلها فلا بأس بالتلقي فيها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر بن الهذيل، فإنهم قالوا: كل مدينة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (18/ 187 - 188).

والشافعي ومالك وأحمد مع هؤلاء في انعقاد عقد المتلقي، ولكن عندهم الخيار للبائع وقد ذكرنا مذاهبم مستقصاة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كنا نلتقى الركبان فنشتري منهم الطعام جزافًا، فنهانا رسول الله -عليه السلام- أن نبيعه حتى نحوله من مكانه، أو ننقله". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا حسان بن غالب، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله -عليه السلام- فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى يبلغوه حيث يبيعون الطعام". ففي هذه الآثار إباحة التلقي، وفي الأُوَل النهي عنه فأولى بنا أن نجعل ذلك على غير التضاد والخلاف، فيكون ما نهي عنه من التلقي لما في ذلك من الضرر على غير المتلقين المقيمين في الأسواق، ويكون ما أبيح من التلقي هو الذي لا ضرر فيه على المقيمين في الأسواق، فهذا وجه هذه الآثار عندنا، والله أعلم. ش: أي احتج هؤلاء الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؛ فإنه يخبر عن إباحة التلقي ولكن في الآثار الأُول التي احتجت بها أهل المقالة الأولى: النهي عن التلقي، فيكون بين هذه الآثار تضاد ظاهرًا، فإذا كان كذلك يجب التوفيق بينهما لئلا يبقى التضاد والخلاف، ووجهه ما أشار إليه بقوله: "فيكون ما نُهي عنه من التلقي ... " إلى آخره. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ الشيخين، عن علي بن مسهر القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قال ابن أبي شيبة: نا علي بن مسهر وقال ابن نمير: نا أبي، ثم اتفق علي بن مسهر وعبد الله ابن نمير كلاهما، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن حسان بن غالب بن نجيح المصري، قال ابن يونس: كان ثقة. وفي الميزان: متروك. عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري المدني، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي الأسدي المدني روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة -هو أنس بن عياض- ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه. وقد ناقش ابن حزم (¬3) ها هنا مناقشة شديدة، وقال: احتج من أجاز تلقي السلع بما رويناه من طريق البخاري (¬4): عن موسى بن إسماعيل، ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كنا نلتقي الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي -عليه السلام- أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام". ومن طريق البخاري (4): ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة ... إلى آخره، وقد ذكرناه آنفًا، وهذا لا حجة لهم فيه، لستة أوجه: أحدها: أن المحتجين بها هم القائلون بأن الصاحب إذا روى خبرًا عن النبي -عليه السلام- ثم خالفه أو حمله على تفسير ما فهو أعلم بما فسر، وقوله حجة في ردّ الخبر، وابن عمر هو راوي هذا الخبر، وقد صح عنه الفتيا بترك التلقي، والأخذ بما روى منه النهي عن التلقي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1161 رقم 1526). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 747 رقم 2017). (¬3) "المحلى" (8/ 450 - 453). (¬4) تقدم.

وثانيها: أن هذين خبران هم أول مخالف لما فيهما، فلا كراهة عندهم في بيع الطعام حيث ابتاعه، ولا أسوأ طريقة ممن يحتج بحجة هو أول مبطل لها مخالف لموجبها. وثالثها: أنهما موافقان لقولنا؛ لأن معنى نهي النبي -عليه السلام- أن يبيعوه حتى يبلغوا به سوق الطعام هو نهي للبائع أن يبيعه وللمشتري أن يبتاعه حتى يبلغ به سوق الطعام. ورابعها: أنه لو حتى كان فيها نص قال على جواز التلقي -وليس ذلك فيهما- لكان النهي ناسخًا. وخامسها: أن يضم هذان الخبران إلى أخبار النهي، فيكون البائعون يخيرون في إمضاء البيع، فأمر المبتاعون بنقله حينئذ إلى السوق، فتتفق الأخبار كلها، ولا تحمل على التضاد. وسادسها: أنا روينا هذا الخبر ببيان صحيح رافع للإشكال من طريق من هو أحفظ وأضبط من جويرية كما روينا من طريق البخاري (¬1): نا مسدد، نا يحيى، عن عبيد الله -هو ابن عمر- حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: "كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق، ويبيعونه في مكانه، فنهاهم النبي -عليه السلام- أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه". ومن طريق مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير .. إلى آخر ما ذكرناه عن قريب. فهذا يبين أن البيع كان في السوق إلا أنه في أعلاه، وفي الجزاف خاصة فنهي المشترون عن ذلك. انتهى. قلت: هذا الذي ذكره كله فاسد. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 759 رقم 2059). (¬2) تقدم.

أما الأول: فلأن قولهم: إن الصاحب إذا روى خبرًا عن النبي -عليه السلام- ثم خالفه، يكون هذا ردًّا لما رواه، ليس في مثل هذا الموضع، وإنما هو في موضع لا يختلف فيه الحال، وقد قلنا: إن ها هنا اختلفت الأحوال؛ لأن رواية ابن عمر بإباحة التلقي في الحال التي لا تضر المقيمين بالسوق، وفتواه بترك التلقي ومنعه إياه في الحال التي لا تضر المقيمين بالسوق كما قد ذكرنا. وأما الثاني: فلا نسلم أنهم أول مخالف لما في الخبرين، بل هم أول عامل لما فيهما إذ لو تركوا العمل بما فيها لقالوا: يُمنع التلقي مطلقًا، وابن حزم ومن نحا نحوه هم أول مخالف لما فيها حيث منعوا من التلقي مطلقًا. وأما الثالث: فلا مناسبة لذكره في هذا الموضع لأن النزاع في إباحة التلقي وكراهته وليس في نهي بيع ما اشتراه، حتى يبلغ به سوق الطعام. وأما الرابع: ففساده ظاهر؛ لأن الخبرين فيهما نص جليّ بإباحة التلقي، ولا يلزم من النهي عن ذلك وجود النسخ؛ لعدم العلم بالتاريخ، بل تحمل الإباحة على ما إذا انتفى الضرر بالمقيمين في السوق، ويحمل النهي على ما إذا وجد الضرر عليهم، كما قد ذكرناه. وأما الخامس: فكذلك فساده ظاهر؛ لأن تصحيح معاني الآثار المختلفة لأجل اتفاقها ونفيها عن التضاد، لا يكون بما ذكره، بل إنما يكون بالطريقة التي ذكرنا. وأما السادس: فأشد فسادًا مما قلبه ولا وجه لذكره أصلاً في معرض الاعتراض؛ لأنه لا تعلق له بمحل النزاع، يظهر ذلك بالتأمل. ص: واحتجوا في إجازة الشراء مع التلقي المنهي عنه بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا هشام، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه شيئًا فهو بالخيار إذا أتى السوق".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تستقبلوا الجلب، ولا يبيعن حاضر لبادٍ، والبائع بالخيار إذا أتى السوق". ففي هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- أنه نهى عن تلقي الجلب، ثم جعل للبائع في ذلك الخيار إذا دخل السوق، والخيار لا يكون إلا في بيع صحيح؛ لأنه لو كان فاسدًا لأجبر بائعه ومشتريه على نسخه، ولم يكن لواحد منها إباؤه ذلك، فلما جعل النبي -عليه السلام- الخيار في ذلك البيع؛ ثبت بذلك صحته؛ وإن كان معه تلق مكروه. ش: أي احتج الآخرون وهو أهل المقالة الثانية في جواز شراء الملتقي مع ورود النهي عن التلقي بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فإن فيه النهي عن التلقي والخيار للبائع إذا دخل السوق، ولا شك أن الخيار لا يكون إلا بتبايع صحيح؛ لأن العقد لو كان فاسدًا لأجبر المتعاقدان على فسخه، ولا يُمكَّن واحد منهما عن الإباء عن ذلك، فلما كان الأمر كذلك ثبت أن العقد في ذلك صحيح وإن كان يجاوره التلقي المنهي عنه. ثم إنه خرج حديث أبي هريرة من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الله بن بكر السهمي، عن هشام بن حسان القردوسي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأحْرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا هشام بن سليمان، عن ابن جريج، أخبرني هشام القردوسي -هو ابن حسان- عن ابن سيرين، سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيدُه السوق فهو بالخيار". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1157 رقم 1519).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه متلقٍ فاشتراه، فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق". واحتج الشافعي ومالك وأحمد بالحديث المذكور على ثبوت الخيار للبائع في هذه المسألة، فقالا الشافعي: لا تتلقي السلعة، فمن تلقاها فصاحبها بالخيار إذا بلغ السوق، وقال ابن خواز منداد: البيع في تلقي السلع صحيح على قول الجميع، وإنما الخلاف هو أن المشتري لا يفوز بالسلعة ويشركه فيها أهل الأسواق، وأن البائع بالخيار. قال أبو عمر: ما حكاه ابن خواز منداد عن الجميع في جواز البيع هو الصحيح، لدلالة الحديث الصحيح عليه، لا ما حكاه سحنون عن بعضهم أنه يفسخ البيع. قوله: "ولا يبيعن حاضر لباد" الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية، وسجيء بيان ذلك مستقصى. ص: فإن قال قائل: فأنتم لا تجعلون الخيار للبائع المتلقى كما جعله له النبي -عليه السلام- في هذا الحديث، فجوابنا له في ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وتواترت عنه الآثار بذلك، وسنذكرها في موضعها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فعلمنا بذلك أنهما إن تفرقا فلا خيار لهما. فإن قال قائل: فأنت قد جعلت لمن اشترى ما لم يره خيار الرؤية حتى يراه فيرضاه، فيما أنكرت أن يكون خيار المتلقى كذلك أيضًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 296 رقم 3437).

قيل له: إن خيار الرؤية لم نوجبه قياسيًا وإنما وجدنا أصحاب النبي -عليه السلام- أثبتوه وحكموا به وأجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه، وإنما جاء الاختلاف في ذلك ممن بعدهم، فجعلنا ذلك خارجًا من قول النبي -عليه السلام- البيعان بالخيار حتى يتفرقا، وعلمنا أن النبي -عليه السلام- لم يعن ذلك لإجماعهم على خروجه منه، كما علمنا بإجماعهم على تجويز السلم أنه خارج من نهي رسول الله -عليه السلام- عن بيع ما ليس عندك. فإن قال قائل: فهل رويتم عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيار الرؤية شيئًا؟ قيل له: نعم. حدثنا أبو بكرة ومحمد بن شاذان، قالا: ثنا هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: "اشترى طلبة بن عبيد الله من عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- مالاً، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت وكان المال بالكوفة -قال: وهو مال آل طلحة الآن بها- فقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أر، فقال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر، فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة ولا خيار لعثمان". والآثار في ذلك قد جاءت متواترة وإن كان أكثرها منقطعًا؛ فإنه منقطع لم يضاده متصل. ش: توجيه هذا السؤال أن يقال: إنكم قد استدللتم بحديث أبي هريرة على صحة عقد المتلقي، وقلتم: إن جعل النبي -عليه السلام- الخيار لصاحب السلعة يدل على صحة البيع، فما بالكم تركتم العمل ببعض الحديث وما جعلتم الخيار للبائع كما جعله النبي -عليه السلام-؟ وتقرير الجواب أن يقال: قد ثبت عن النبي -عليه السلام- بوجوه متعددة أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فعلمنا بذلك أنهما إن تفرقا فلا خيار لهما، وفيه نظر، لأن المراد من هذا التفرق لا يخلو إما أن يكون عن أقوال أو عن أبدان، فإن قلت:

عن أقوال كما ذهبت إليه الحنفية فقد يعارضه قوله -عليه السلام-: "والبائع بالخيار إذا دخل السوق" فإنه -عليه السلام- أثبت الخيار بعد تفرقهما بالأقوال؛ لأنه لا شك أن عقد المتلقي يكون قبل دخول السلعة الأسواق. وإن قلت: عن أبدان كما ذهبت إليه الشافعية، فقد يلزم هذا الجيب أن يقول بالخيار، في كل عقد ما لم يتفرق المتعاقدان بالأبدان، وهو لا يقول بذلك". قوله: "وسنذكرها في موضعها" أي وسنذكر هذه الآثار التي وردت في خيار المتباعين ما لم يتفرقا، وموضعها هو الباب الذي يلي هذا الباب، فإنه عقد لها بابًا عقيب هذا الباب كما سنقف عليه إن شاء الله تعالى. قوله: "فإن قال قائل ... " إلى آخره تقرير السؤال أن يقال: من اشترى شيئًا لم يره له الخيار عندك إذا رآه فلم لا تجعل خيار المتلقي كذلك قياساً عليه، والجامع: دفع الضرر عن المسلم؟ وتقرير الجواب أن يقال: إن خيار الرؤية لم يثبت قياسًا حتى يثبت خيار المتلقي أيضًا بالقياس، وإنما ثبت ذلك بحكم الصحابة -رضي الله عنهم- وإجماعهم عليه، ولم يختلف أحد منهم في ذلك، وذكر في "نوادر الفقهاء" لابن بنت نعيم: اجمع الصحابة على جواز بيع الغائب المقدور على تسليمه، وأن لمشتريه خيار الرؤية إذا رآه، وقال الطحاوي في كتاب اختلاف العلماء: قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) فأباح تعالى في التجارة عن تراض، ولم يفرق بين ما يُرى أو لم يُر، وأجاز -عليه السلام- بيع العنب إذا اسودَّ والحب إذا اشتدَّ وهما غير مرئيين، وأصحاب رسول الله -عليه السلام- جَوَّزوا بيع الغائب، وليس هو من باب الملامسة والمنابذة كما زعم أصحاب الشافعي، ولا من باب الغرر؛ لأن الغرر: ما كان على خطر لا يدري أيكون أم لا، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، وما لا يقدر على تسليمه، كذا قال أهل اللغة، والغائب ليس كذلك. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [29].

فإن قيل: قد يهلك. قلنا: وكذا سائر الأشياء، وليس هذا بيع ما ليس عند الإنسان، إذ المراد من ذلك ما ليس في ملكه، ولا خلاف في اللغة أن الإنسان يقول: عندي ضياع ودور أي في ملكي، وإن كانت غائبة، فإن قيل: الآبق متفق على منع بيعه فكذا الغائب. قلنا: لم يُمتنع بيع الآبق لغيبته، بل لتعذر تسليمه كالطير في الهواء، وقال ابن حزم: إذا وصف الغائب عن رؤية وخبرة وملكه المشتري، فأين الغرر؟ ولم يزل المسلمون يتبايعون الضياع في البلاد البعيدة بالصفة، باع عثمان -رضي الله عنه- لطلحة أرضًا بالكوفة ولم يرياه، فقضى جبير بن مطعم أن الخيار لطلحة، وما نعلم للشافعي سلفًا في بيع الغائب الموصوف، ولا خلاف في اللغة أن ما في ملك بائعه هو عنده، وما ليس في ملكه فليس عنده وإن كان بيده. قوله: "وإنما جاء الاختلاف في ذلك" أي في الحكم المذكور "ممن بعدهم" أي ممن بعد الصحابة، فجعلنا ذلك أي حكم خيار المتلقي خارجًا من قول النبي -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فإذا خرج من ذلك، لم يثبت، ولا يكون خيار في عقد المتلقي للبائع، وأشار إلى الدليل على الخروج من ذلك بقوله: "وعلمنا أن النبي -عليه السلام- لم يعن ذلك" أي لم يقصد ذلك لإجماعهم أي لإجماع الصحابة "على خروجه منه"، أي على خروج حكم خيار المتلقي من قوله: "البيعان بالخيار ... " الحديث كما دل إجماعهم على تجويز السلم أنه خارج من نهيه -عليه السلام- عن بيع ما ليس عندك، وبهذا الحديث استدلت الشافعية على عدم جواز بيع ما لم يره، فإذا لم يجز لا يثبت فيه الخيار للمشتري؛ لأن الخيار يترتب على صحة البيع. والجواب عنه ما ذكرناه الآن، على أنهم قد تركوا ظاهر هذا الحديث؛ إذ يجوز بيع ما ليس عنده اتفاقًا إذا كان رآه، ويبطل عندهم بيع ما عنده إذا لم يكن رآه، ذكره القدروي في "التجريد".

والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، أنا أبو بشر، سمعت يوسف بن ماهك، يحدث عن حكيم: "قلت: يا رسول الله، الرجل يطلب البيع وليس عندي، أفأبيعه له؟ قال: لا تبع ما ليس عندك". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف ابن ماهك، عن حكيم بن حزام قال: "يا رسول الله، يأتيني الرجل ليريد مني البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك". وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا قتيبة، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر ... إلى آخره نحوه. وقال (¬4) أيضًا: ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام قال: "نهاني النبي -عليه السلام- أن أبيع ما ليس عندي" ثم قال: حديث حكيم بن حزام حديث حسن. قلت: هذا الحديث قد اختلف فيه على ابن ماهك، فروي عنه كذلك، وروي عنه عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم. وأخرجه البيهقي (¬5) أيضًا كذلك ثم قال: إسناده حسن، وكيف يكون حسنًا وابن عصمة متروك قاله ابن حزم، وفي "الأحكام" لعبد الحق: ضعيف. ولئن سلمنا أن حديث حكيم حسن أو صحيح فنقول: المراد منه الطعام، قاله صاحب "الاستذكار" واستدل على ذلك برواية الحفاظ لحديث حكيم بن حزام أنه -عليه السلام- قال له: "إذا ابتعت طعامًا فلا تبتعه حتى تقبضه". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 267 رقم 10202). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 283 رقم 3 - 35). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 534 رقم 11232). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 534 رقم 1233). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 267 رقم 10202).

وأخرجه النسائي (¬1) كذلك. ولئن سلمنا أن المراد منه الطعام وغيره، فالجواب عنه ما قدمناه آنفًا. قوله: "فإن قال قائل: فهل رويتم ... " إلى آخره لما ذكر في السؤال السابق أن من اشترى ما لم يره فله خيار الرؤية، ولم يذكر عليه دليلًا من الآثار، انتهض السائل فقال: فهل رويتم عن أصحاب النبي -عليه السلام- في خيار الرؤية شيئًا؟ فأجاب عنه بقوله: نعم، ثم بين ذلك بقوله: حدثنا أبو بكرة ... إلى آخره، وهو بكار القاضي، ومحمد بن شاذان أبو بكر المصري أحد الأئمة الفقهاء الحنيفة وكان نائب القاضي بكار وخليفته على مصر حين خرج إلى الشام، وأصله بصري قدم إلى مصر، وكلاهما يرويان عن هلال سبن يحيى مسلم الرأي البصري أحد أصحاب أبي يوسف وزفر بن الهذيل، وأثنى عليه جماعة من السلف، وقد تحامل عليه ابن حبان وذكره في "الضعفاء"، ولا يلتفت إلى ذلك وكان هلال أجل من ذلك، وإنما لقب الرأي لسعة علمة وكثره فقهه، وبذلك لقب ربيعة الرأي شيخ الإِمام مالك -رحمه الله-، وله ذكر في "سنن أبي داود". وعبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري اللؤلؤي البصري، روى له الجماعة. ورباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، قال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي. وعن يحيى: ضعيف. وقال ابن عدي: ما أرى به بأسًا، ولم أجد له حديثًا منكرًا، روى له مسلم والنسائي. وهو يروي عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي الأحول قاضي عبد الله بن الزبير، ومؤذنه، روى له الجماعة. عن علقمة بن وقاص بن محصن الليثي العتواري المدني، قال النسائي وابن سعد: ثقة. روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 289 رقم 4613).

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا رباح بن أبي معروف، عن ابن أبي مليكة: "أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ابتاع من طلحة أرضًا بالمدينة ناقلة بأرض له بالكوفة، فلما تباينا ندم عثمان، ثم قال: بايعتك ما لم أره. فقال طلحة: إنما النظر لي إنما ابتعت مغيبًا، وأما أنت فقد رأيت ما ابتعت، فجعلا بينهما حكمًا، فحكَّما جبير بن مطعم، فقضى على عثمان -رضي الله عنه- أن البيع جائز وأن النظر لطلحة أنه ابتاع مغيبا". قال الذهبي: فيه انقطاع. قوله: "قد غُبنت" على صيغة المجهول أي قد خُدعت قال الجوهري: الغُبْن -بالتسكين- في البيع، والغَبَن -بالتحريك- في الرأي، يقال: غبنته في البيع أي خدعته، وقد غُبِنَ فهو مغبون، وغَبِنَ رأيه -بالكسر- إذا نقضه فهو غبين أي ضعيف الرأي، وفيه غبانة. واستفيد منه: جواز بيع ما لم يره وثبوت الخيار للمشتري إذا رآه، وجواز التحكيم. قوله: "والآثار في ذلك" أي في ثبوت الخيار للمشتري إذا اشترى ما لم يره قد جاءت متواترة أي مستفيضة كثيرة، وليس المراد بها التواتر المصطلح عليه في الأصول. فمن ذلك ما رواه البيهقي (¬2): من حديث إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن مكحول، عن النبي -عليه السلام- قال: "من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه". وهذا مرسل، وأبو بكر واهٍ. ومنها: ما رواه (¬3) من حديث داهر بن نوح، ثنا عمر بن إبراهيم بن خالد، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 268 رقم 10204). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 268 رقم 10205). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 268 رقم 10206).

وهب اليشكري، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اشترى شيئًا لم يره، فهو بالخيار إذا رآه". قال الدارقطني: عمر يضع الحديث، وهذا باطل، وإنما يُروي عن ابن سيرين من قوله. ومنها: ما رواه (¬1) من حديث أيوب، سمعت الحسن يقول: "من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه". قوله: "وإن كان أكثرها منقطعًا ... " إلى آخره كأنه جواب عما يقال: إن الأخبار التي وردت في ثبوت الخيار للمشتري إذا اشترى ما لم يره، كثرها منقطع، فكيف تحتجون بها. وبيان الجواب: أن هذا الانقطاع لا يضر الاستدلال؛ لأنه سالم عن المعارضة فلم يعارضه خبر متصل حتى يسقط الاستدلال به، فإذا كان سالمًا عن المعارض لا يترك عن الاستدلال به والله أعلم (¬2). ص: وفي هذا أيضًا حجة أخرى، وهي أن النبي -عليه السلام- جعل في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- للمتلقي البائع الخيار فيما باع إذا دخل الأسواق وعلم بالأسعار، فأردنا أن ننظر هل ضاد ذلك شيء أم لا؟ فاعتبرنا ذلك، فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا حسين بن حفص الأصبهاني، قال: ثنا سفيان، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه أو أخاه". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبد الله بن حمران، عن ابن عون، عن محمد، عن أنس قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 268 رقم 10208). (¬2) في هذا نظر، وأيضًا لم يسلم رواته من ضعف شديد كما ترى.

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبيع حاضر لباد". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله، وزاد "ولا يشتري له". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثثا الدوردي، عن داود بن صالح بن دينار، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يبيع حاضر لباد". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب (ح). وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قالا: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أسباط، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، أن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: حدثني أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن حفص، قال: ثنا سفيان، عن صالح بن نبهان مولى التوأمة، عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت أبا حزم يحدث، عن أبي هريرة قال: "نهى -أو نهي- أن يبيع المهاجر للأعرابي".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى أن يبيع حاضر لباد". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يشتري حاضر لباد". فنظرنا في العلة التي نُهي الحاضر أن يبيع للباد ما هي؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابرًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". حدثنا فهد، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب، عن عطاء، عن حكيم بن أبي يزيد، أنه جاءه في حاجة قال: فحدثني عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "دعوا الناس فليصب بعضهم من بعض، وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له". فعلمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى الحاضر أن يبيع للباد؛ لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصي على الحاضرين فلا يكون لهم في ذلك ربح، وإذا باعهم الأعرابي على غرته وجهله بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النبي -عليه السلام- أن يخلى بين الحاضرين وبين الأعراب في البيوع ومنع الحاضرين أن يدخلوا عليهم، فإذا كان ما وصفنا كذلك وثبت إباحة التلقي الذي لا ضرر فيه بما وصفنا من الآثار التي ذكرنا؛ صار شراء المتلقي منهم شراء حاضر من باد، فهو داخل في قول النبي -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وبطل أن يكون في ذلك خيار البائع؛ لأنه لو كان له فيه خيار إذًا لما كان للمشتري في ذلك ربح، ولا أمر النبي -عليه السلام- حاضرًا أن يعترض، ولا أن يتولى البيع للباد منه لأنه يكون بالخيار في

فسخ ذلك البيع، أو يردّ له ثمنه إلى الأثمان التي تكون في بياعات أهل الحضر بعضهم من بعض، ففي منع النبي -عليه السلام- الحاضرين من ذلك إباحة الحاضرين التماس غرة البادي في البيع منهم والشراء منهم، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وفي عدم ثبوت الخيار للبائع الجالب الذي يتلقاه الناس فيشترون منه أيضًا برهان آخر، تقريره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- للبائع المتلقى الخيار فيما باعه إذا دخل الأسواق وعلم بأسعار الأشياء، فبعد ذلك ننظر هل ورد شيء يضاد ذلك أم لا؟ فاعتبرنا ذلك فوجدنا جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة ورجل من الصحابة وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- قد رَوَوْا عن النبي -عليه السلام- النهي عن بيع الحاضر للبادي. ثم نظرنا في العلة في هذا النهي ما هي؟ فوجدناها في رواية جابر -رضي الله عنه- وهي أن نهيه -عليه السلام- عن بيع الحاضر للبادي هي كونه يعلم أسعار الأسواق فيستقصي على الحاضرين، فلا يجعل لهم في ذلك ربح إذا باعهم البادي على جهله وعدم معرفته بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون فأمر النبي -عليه السلام- أن يخلي بين الحاضرين والبادين في البياعات حيث قال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ومنع الحاضرين أن يدخلوا عليهم، فإذا كان الأمر كذلك وقد ثبت إباحة التلقي الذي لا ضرر فيه بالآثار المذكورة، صار شرى المتلقي من الجلّاب كشرى الحاضر من البادي فهو داخل في قوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وبطل في ذلك أن يكون خيار للبائع؛ لأنه لو كان له خيار إذن لم يكن للمشتري في ذلك ربح لأن البادي ربما اختار الفسخ لعلمه بعد نزوله السوق الأسعار، فيحرم المشتري حينئذ من الربح الذي كان قد حصل له بشراءه عند التلقي، وأيضًا لو كان للبائع خيار

لكان له فسخ ذلك البيع أو رد ثمن المبيع الذي باعه إلى الأثمان التي تكون في بيوع أهل الحضر بعضهم من بعض، فحينئذ لم يكن للأمر في قوله: "دعوا الناس ... " الحديث، فائدة، فدل ذلك على إباحة الحاضرين طلب غرة البادين في البيع منهم والشراء منهم، ليرتزقوا بذلك فافهم. ثم إنه أخرج حديث أنس من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن حفص بن الفضل الأصبهاني روى له مسلم، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن محمد بن سيرين، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال أنا هشيم، عن يونس، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه". الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله البصري، عن عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، عن محمد بن سيرين، عن أنس. وأخرجه مسلم أيضًا (1): ثنا ابن مثنى، قال: ثنا معاذ، قال: ثنا ابن عون، عن محمد، قال: قال أنس بن مالك: "نهينا أن يبيع حاضر لباد". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا. وأما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فأخرجه من خمس طرق، ثلاثة منها صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن مسلم بن أبي مسلم الخياط المدني، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقد مرَّ هذا بعينه في أول الباب في تلقي الركبان، والظاهر أن هذا من تتمة ذاك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1158 رقم 1523). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 758 رقم 2053).

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود، عن صخر بن جويرية البصري، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره. وقد مرَّ هذا الإسناد أيضًا بعينه في هذا الباب. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من طريق الربيع، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع حاضر لباد". وقال البيهقي: عُدَّ هذا في أفراد الشافعي. وقد رواه القعنبي، عن مالك؛ أنبأناه الحاكم، قال: ثنا أحمد بن إسحاق الفقيه من أصله، أنا محمد بن غالب عنه، ورواه إبراهيم بن نصر الرازي عنه، وقد رواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر، ولمالك مسانيد لم يودعها "الموطأ". الثالث: عن روح بن الفرج القطان، عن عمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحراني، عن موسى بن أعين الجزري الحراني، عن ليث بن أبي سليم القرشي الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه البزار في "مسند": نا يوسف بن موسى، نا جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يبيع حاضر لباد". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن عبد الله بن نافع، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وعن النسائي: متروك. عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- نحوه. الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، أحد أصحاب أبي حنيفة، وشيخ أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 346 رقم 10688).

وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد قد مر بعينه في هذا الباب، ويعقوب بن حميد فيه مقال، وقد تكرر ذكره. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من خمس طرق: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن أسباط بن محمد الكوفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن قزعة وعمرو بن عيسى، قالا: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ثنا هشام -يعني ابن حسان- عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -عليه السلام- أن يبيع حاضر لباد". الثاني: عن إبرهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن النعمان بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة يبلغ به النبي -عليه السلام- قال: "لا يبع حاضر لباد". وأخرجه البخاري (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن حفص الأصفهاني، عن سفيان الثوري، عن صالح بن النبهان مولى التوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي فيه مقال، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1157 رقم 1520). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 752 رقم 2033). (¬3) "المجتبى" (6/ 71 رقم 3239).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع حاضر لباد". الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم سلمان الأشجعي، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح، وقد مرَّ بعينه في هذا الباب. وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) من حديث أبي حازم عن أبي هريرة: "نهى أن يبيع مهاجري لأعرابي". الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن صالح بن نبهان، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله وقبيصة، عن سفيان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة. أما حديث رجل من الصحابة -رضي الله عنه- فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "لا يتلقي الجلب ولا يبع حاضر لباد". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 481 رقم 10240). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 971 رقم 2577). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1154 رقم 1515) بنحوه. (¬4) "مسند أحمد" (4/ 314 رقم 18839).

وأما حديث جابر -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1) ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: أنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-. وثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يبع حاضر لباد؛ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وبقي الكلام في حديث أبي يزيد -بفتح الياء آخر حروف- ذكره ابن الأثير في الصحابة وقال: أبو يزيد والد حكيم روى عنه عطاء بن السائب، وقال البغوي في "معجمه": أبو يزيد أبو حكيم بن أبي يزيد الكرخي، روى عن النبي -عليه السلام- حديثًا لا أعلم حدث به إلا عطاء بن السائب، ويقال: إن لأبي يزيد صحبة وسكن الكوفة، وحدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض؛ فإذا استنصح الرجل أخاه فلينصحه". وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬2) نحوه عن عبد الصمد، عن أبيه، عن عطاء ابن السائب، عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال ... الحديث. وقال: وهذا الحديث رواه أبو عوانة، عن عطاء، عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عن رجل سمع النبي -عليه السلام- يقول، نحوه. ورواه حماد بن سلمة عن عطاء، عن حكيم بن يزيد، عن أبيه -وإنما هو ابن أبي يزيد- وقال البيهقي رُوي ذلك عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- وقيل: عن أبيه، عمن سمع النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1157 رقم 1522). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 418 رقم 15493).

وذكر ابن حبان حكيمًا هذا اتباع التابعين، فيدل هذا على أن والده أبا يزيد ليس من الصحابة، والله تعالى أعلم. قوله: "نُهِينا" على صيغة المجهول، وقد مرَّ غير مرة أن مثل هذا اللفظ مستند إلى النبي -عليه السلام-. قوله: "أن يبيع حاضر لباد" الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية، وقال ابن حبيب: البادى الذي لا يبيع له الحاضر: هم أهل العمود وأهل البوادي والبراري مثل الأعراب. قوله: "وإن كان أباه" واصل بما قبله، أي وإن كان البادي أَبُ الحاضر أو أخاه. قوله: "لا يبيع حاضر" على صورة النفي وفي بعض الروايات "لا يبع" بالجزم على صورة النهي. قوله: "نَهى أو نُهي" الأول: على صورة المعلوم، أي نهى رسول الله -عليه السلام-، والثاني: على صيغة المجهول وهو أيضًا مستند إلى النبي -عليه السلام-. قوله: "أن يبيع المهاجر للأعرابي" أراد بالمهاجر الحاضر الذي هاجر، ومن الأعرابي الذي يأتي من البادية، وكان الحاضر المهاجر نهي أن يبيع للأعرابي، ثم جاء النهي عن بيع الحاضر للبادي مطلقًا، سواء كان الحاضر مهاجرًا أو لم يكن، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يبيع حاضر لباد" فهذا أعم من أن يكون مهاجرًا أو غيره. قوله: "دعوا الناس" أي اتركوهم. قوله: "وإذا استنصح" أي وإذا طلب أحدكم من أحدٍ النصيحة. ويستفاد منه أحكام: الأول: قال أبو عمر (¬1): قال أبو حنيفة وأصحابه -رضي الله عنهم-: لا بأس أن يبيع ¬

_ (¬1) "التمهيد" (18/ 198).

الحاضر للبادي، واحتجوا في ذلك بقوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وقال الشافعي: لا يبيع حاضر لباد، فإن باع فهو عاص إذا كان عالمًا بالنهي، ويجوز البيع لقوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وقال ابن حزم: بيع الحاضر للباد باطل، فإن فعل فسخ البيع والشراء أبدًا وحكم فيه بحكم الغصب، ولا خيار لأحد في إمضائه، واستدل بأحاديث رواها عن أبي هريرة وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- في النهي عن بيع الحاضر للباد. ثم قال: هذا نُقِل عن خمسة من الصحابة بالطرق الثابتة، ثم روى آثارًا عن جماعة من الصحابة في ذلك المعنى. ثم قال: فهؤلاء المهاجرون جملة، وعمر بن الخطاب وأنس وابن عباس وأبو هريرة وطلحة لا مخالف لهم يعرف من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز. ثم قال: "وروينا عن بعض المتأخرين خلافًا، روينا عن الحسن أنه كان لا يري بأسًا أن يشتري من الأعرابي للأعرابي، قيل له: فيشتري منه المهاجر؟ قال: لا. وعنه أيضًا: "اشترِ للبدوي ولا تبع له" وروى عن إبراهيم قال: كان يعجبهم أن يصيبوا من الأعراب رخصة. وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي وأبي سليمان ومالك والليث، قال الأوزاعي: لا يبع له، ولكن يشير عليه، وليس الإشارة بيعًا إلا أن الشافعي قال: إن وقع البيع لم يفسخ، وقال مالك والليث: لا يشير عليه، وقال مالك: لا يبع الحاضر أيضًا لأهل القرى، ولا بأس بأن يشتري الحاضر للبادي، وإنما منع من البيع له فقط، ثم قال: لا يبع مدني لمصري، ولا مصري لمدني، ولكن يشير كل واحد منهما على الآخر، ويخبر بالبيع.

وقال أبو حنيفة: بيع الحاضر للباد لا بأس به، وقال أبو عمر: (¬1): قال ابن وهب عن مالك: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادي، ولا لأهل القرى وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن فعل ذلك أنه يفسخ بيعه وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم، قال: وإن تاب فلا شيء عليه، وروى عيسى وسحنون عن ابن القاسم أنه قال: يؤدب الحاضر إذا باع للبادي، قال في رواية عيسى: إن كان معتادًا لذلك، وقال ابن وهب: لا يؤدب عالمًا كان بالنهي عن ذلك أو جاهلًا. وقال أبو عمر: لم يختلف قول مالك في كراهية بيع الحاضر للبادي، واختلف قوله في شراء الحاضر للبادي، فمرة قال: لا بأس أن يشتري له، ومرة قال: لا يشتري له، ولا يشير عليه، وبه قال ابن حبيب. وقال ابن الأثير: والمنهي عن ذلك أن يأتي البدوي البلد ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا فيقول له الحضري: أتركه عندي لأغالي في بيعه، فهذا الصنيع محرم لما فيه من الإضرار بالغير والبيع إذا جرى مع المغالاة منعقد، وقال أيضًا: هذا إذا كانت السلعة مما تعم الحاجة إليها كالأقوات، فإن كانت لا تعم، أو كثر القوت واستغني عنه ففي التحريم تردد ويعوَّل في أحدهما على عموم ظاهر النهي، وحسم باب الضرر، وفي الثاني على معنى الضرر وزواله، وقد جاء عن ابن عباس (¬2) أن سئل عن معنى "لا يبع حاضر لباد" فقال: "لا يكون له سمسارًا". وقال الكاساني في "البدائع": بيع الحاضر للبادي هو أن يكون لرجل طعام وعلف لا يبيعهما إلا لأهل البادية بثمن غال، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: ولو باع جاز البيع؛ لأن النهي لمعنى في غير البيع، وهو الإضرار بأهل المصر، ¬

_ (¬1) "التمهيد" (18/ 196). (¬2) حكم عليه ابن الأثير بالصحة كما في "الشافي شرح مسند الشافعي" وهو بتحقيقنا (4/ 66)، والحديث متفق عليه، فأخرجه البخاري (2/ 758 رقم 2055)، ومسلم (3/ 1157 رقم 1521).

فلا يوجب فساد البيع كالبيع وقت النداء، وهذا إذا كان ذلك يضر بأهل البلد بأن كان أهله في قحط من الطعام والعلف فإن كانوا في خصب وسعة فلا بأس به لانعدام الضرر. الثاني: فيه أن الناس لا يتعرض بعضهم بعضًا في مكاسبهم، ووجوه طلبهم للأرزاق. الثالث: فيه الندب إلى النصيحة للمسلمين، وأنه من الدين؛ قال -عليه السلام-: "الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين" ولا سيما للمستنصح، والله أعلم. ***

ص: باب: خيار البيعين حتى يتفرقا

ص: باب: خيار البيعين حتى يتفرقا ش: أي هذا باب خيار المتبايعين إلى أن يتفرقا، والبيِّع -بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة على وزن السيد والضيِّق- بمعنى البائع وهو من الصفات المشبَّهة. وقال ابن الأثير: والمراد من البيعين: البائع والمشتري، ويقال لكل واحد منهما: بيع وبائع. قلت: نعم المراد منهما البائع والمشتري، ولكن هذا من قبيل العمرين والقمرين، فافهم. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: قال ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قالوا جميعًا: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي -عليه السلام- قال: "كل بيِّعيْن فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، أو يكون بيع خيار". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربَّما قال: أو يكون بيع خيار". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بيِّعين بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيع خيار". ش: هذه ست طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ... إلى آخره.

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمر بن يزيد، عن بهز بن أسد، ثنا شعبة، ثنا عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "كل بيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار". وأخرجه بقية الجماعة أيضًا (¬2). الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأخرجه البخاري (¬3): من حديث سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "كل يبيعن لا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار. وأخرجه النسائي (¬4) أنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار". الرابع: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬5): ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، أنه ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 251 رقم 4479). (¬2) البخاري (2/ 744 رقم 2007)، ومسلم (3/ 1163 رقم 1531)، وهو عند بقية الجماعة من طرق أخرى وألفاظ متغايرة. (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 744 رقم 2007). (¬4) "المجتبى" (7/ 251 رقم 4480). (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1163 رقم 1531).

سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار". الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، وعن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه البخاري (¬1): عن عارم، عن حماد بن زيد ... إلى آخره نحوه سواء. السادس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن الوليد بن قيس السكوني، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن علي، ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يكون خيارًا". قوله: "كل بيعين" كلام إضافي مبتدأ تضمن معنى الشرط؛ فلذلك فصلت الفاء في جوابه -أعنى الخبر- وهو قوله: "فلا بيع بينهما"، والبيع صفه مشبهة وقد ذكرناه، و"حتى" ها هنا للغاية، بمعنى إلى والمعنى: كل متبايعين من الناس لا بيع بينهما حاصل إلى أن يتفرقا، إما بالأقوال أو بالأبدان على الاختلاف كما سنقرره إن شاء الله. قوله "أو يكون بيع خيار" عطف على قوله "حتى يتفرقا" والمعنى: كل بيعين [فلا بيع بينهما] (¬3) حاصل إلا في صورتين: إحداهما عند التفرق إما بالأقوال وإما بالأبدان، والأخرى: عند وجود شرط الخيار لأحد المتبايعين، بأن يشترط أحدهما الخيار ثلاثة أيام أو نحوها، وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والشافعي وأبو ثور وآخرون. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 742 رقم 2003). (¬2) "المجتبى" (7/ 248 رقم 4466). (¬3) تكررت في "الأصل".

وقالت طائفة: معنى هذا الكلام: أن يقول أحد المتبايعين بعد تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع، تم البيع بينهما وإن لم يتفرقا، هذا قول الثوري والأوزاعي وسفيان بن عيينة وعبيد الله بن الحسن وإسحاق، وروي ذلك أيضًا عن الشافعي، وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدًا؛ قالا هذا القول أو لم يقولا حتى يتفرقا بأبدانهما من مكانهما. وفي "شرح الموطأ": معنى هذا الكلام على مذهب مالك: إلا أن يشترط الخيار مدة مقدرة فيقضي في ذلك بالواجب، فكأنه قال: لا خيار لهما بعد التفرق إلا في البيع الذي يشترط فيه الخيار، ومعناه على تأويل ابن حبيب: أن كل واحد منهما بالخيار في المجلس إلا بيع الخيار، وذلك أن يقول أحدهما اختر الإمضاء أو الرد، فيختار، فينقطع بذلك الخيار، فمعناه عندهم: أن عقد البيع على الخيار إلا أن يوقف على قطع الخيار بعده، والأول أظهر؛ لأن بيع الخيار إذا أطلق في الشرع فإنه يفهم منه إثبات الخيار لا قطعه، ومدة الخيار الثابت بالشرط مختلفة باختلاف المبيع بقدر ما يحتاج إليه من مدة النظر إلى المبيع والاختيار والسؤال عنه، مع سرعة استحالة المبيع وإبطائها، ففي "المدونة": هو في الدار الشهر ونحوه، وقال ابن الماجشون في "الواضحة": والشهرين قال مالك في "المدونة": في الرقيق الخمسة أيام والجمعة. وقال ابن القاسم: والعشرة الأيام. قال محمد: وأفسخه في الشهر، وروى ابن وهب أن مالكًا أجازه في الشهر وأباه ابن القاسم وأشهب. وأما الدابة في "المدونة": يجوز أن يشترط ركوب اليوم وشبهه ولا بأس أن يشترط السير عليها البريد والبريدين ما لم يتباعد، وقال عبد الحق: يشترط الخيار في الدابة اليوم واليومين والثلاثة. وأما الفاكهة كالبطيخ والرمان والتفاح، فقال ابن القاسم في "المدونة": إن كان الناس ييسرون في مثل هذا نفعه من الخيار بقدر الحاجة، وقال عياض في قوله: "إلا بيع الخيار" وقوله: "أو يكون بيع خيار": هذا أصل في جواز بيع الخيار

المطلق والمقيد، ولا خلاف فيه على الجملة، واختلف هل يجوز إذا أطلق وإذا قيد؟ وهل البائع والمشتري سواء في اشتراطه؟ وهل له حدٌّ لا يتعدى أم لا حد له إلا ما ضرباه، أم حده مقدار ما تختبر فيه السلعة؟ فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا حدَّ له لا يُتعدى، لكن يجوز أن يضرب لكل سلعة في الأصل مقدار ما تختبر فيه، فالثوب اليوم واليومين، والعبد إلى الجمعة، وروي عنه في ذلك شهر، والدابة تركب اليوم وشبهه الدار الشهر ونحوه، قال الداودي: وقيل الشهران والثلاثة، وحكى عنه الخطابي: في الضيعة السنة، قال بعض أصحابنا: وهذا قول مالك في "الموطأ" في حديث "البيعين بالخيار" ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به، وأن هذا اللفظ راجع إلى قوله في آخر الحديث: "إلا بيع الخيار" وهو أولى ما يؤول على مالك لا سواه، قال أصحابنا: وهذا إذا كان خيارهما للاختبار، وإن كان خيارهم للشورى فمقدار ما يُشاور فيه، وعلى هذا المعنى تترتب عند أصحابنا مدة الخيار في طولها وقصرها، وهذا يصح كله في المشتري، وأما خيار البائع فهو أيضًا بمقدار ما يحتاج فيه الخيار في أخذ الرأي والمشاورة، فإن ضرب من الأجل أبعد مما تقدم بكثير فسخ عند مالك البيع، وأجاز الثوري اشتراط عشرة أيام في الخيار للمشتري، ولا يجوز اشتراطه للبائع، فإن شرطه فسد البيع، وأجاز الأوزاعي اشتراط الخيار شهرًا وأكثر، وروي مثله لمالك، ونحوه قول ابن أبي ليلى والعنبري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وأبي ثور وفقهاء أصحاب الحديث وداود: أن الشرط لازم إلى الوقت الذي شرطاه. وذهب أبو حنيفة والشافعي وزفر والأوزاعي في أحد قوليه إلى أن الخيار لا يعدو ثلاثة أيام، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن زاد فسد البيع، وحجتهم حديث منقذ بن حبان، وحديث المصراة وفيها ذكر ثلاثة أيام. وقال الشافعي: ولولا ما جاء ما فيه زاد ساعة، وكذلك اختلفوا إذا أطلقا الخيار وتبايعا عليه ولم يسميا مدة، فعند مالك أن البيع جائز ويضرب للسلعة مقدار ما تختبر فيه كما لو ضرباه وبيناه.

وقال إسحاق وأحمد: يجوز البيع ويلزم الشرط وله الخيار أبدًا حتى يرد أو يأخذ. وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي: البيع جائز والشرط باطل ويسقط الخيار. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري والشافعي: البيع فاسد. قال أبو حنيفة: إلا أن يجيزه في الثلاث فيجوز، ولا يجوز بعد الثلاث، وقال صاحباه: يجوز متى أجازه، وقال الشافعي: لا يجوز وإن أجازه في الثلاث. وقال الطبري: البيع صحيح والثمن حال ويوقف، فإما أجاز في الحين أورد. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا -أو ما لم يفترقا- فإن صدقا وبيَّنا بورك لها في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما. ش: إسناد صحيح، وأبو الخليل صالح بن أبي مريم الضبعي البصري روى له الجماعة، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهامشي المدني البصري ولد على عهد النبي -عليه السلام- فحنكة النبي -عليه السلام-، روى له الجماعة. وحكيم به حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي الأسدي القرشي من مسلمة الفتح، وكان من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإِسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم، عاش مائة وعشرين سنة: ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإِسلام، وتوفي سنة أربع وخمسين أيام معاوية -رضي الله عنه-، وحزام بالزاي المعجمة. والحديث أخرجه مسلم (¬1): نا ابن مثنى، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1164 رقم 1532).

وأخرجه البخاري (¬1) وأبو داود (¬2) الترمذي (¬3) والنسائي (¬4). قوله: "فإن صدقا" أي البيعان إن صدقا في قولهما وبَيَّنَا ما في المبيع والثمن من العيب إذا كان بيع العرض بالعرض؛ لأن كلًا منهما مبيع من وجه وثمن من وجه. وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": يريد به بعض الباعة لا كلهم إذ قد يتبايعان العرض بالعرض، فيكون على كل واحد منها أن يبين ما في عَرَضِه ولا يكتم شيئًا من عيوبه، وأن يبين ما عليه أن يبيِّنه من ثمنه إن كان باعه مرابحة وقد يبيع أحدهما عَرَضًا بثمن إلى أجل فلا يكون على المبتاع أن يبين شيئًا؛ لأن الثمن في ذمته، وإنما يكون ذلك على البائع. وقال أبو الوليد: وقد يكون عليه أن يبين حال ذمته إن كانت خربة لا تفي بالثمن عنه الأجل، فحمل الحديث على عمومه أولى. قلت: إن مال الله غادٍ ورائح فمن أين يعلم عدم القدرة على الوفاء عند الأجل؟! قوله: "وكتما" أي أخفيا ما في المبيع والثمن من العيوب. قوله: "محقت" أي محيت وبطلت بركة بيعهما، لأجل شؤم الكذب والكتمان. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام بن حسان، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة [أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية، فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضاها، فقال أبو برزة: إن] (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا في خباء شعر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 732 رقم 1973). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 273 رقم 3459). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 548 رقم 1246). (¬4) "المجتبى" (7/ 24 رقم 4457). (¬5) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، قال: "نزلنا منزلا، فباع صاحب لنا من رجل فرسًا، فأقمنا في منزلنا يومنا وليلتنا، فلما كان الغد قام الرجل يسرج فرسه، فقال له صاحبه: إنك قد بعتني، فاختصما إلى أبي برزة، فقال: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وما أراكما تفرقتما". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن صالح، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن هشام بن حسان، عن أبي الوضيء عباد بن نسيب، تابعي ثقة، وثقه يحيى وغيره، وكان يلي شرطة علي -رضي الله عنه-. يروي عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي -رضي الله عنه-. وأخرجه الطبراني: نا إدريس بن جعفر العطار، نا عثمان بن عمير، نا هشام بن حسان، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن جميل بن مرة الشيباني البصري، وثقه النسائي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا حماد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء اسمه عباد بن نسيب، قال: "غزونا غزوة لنا، فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسًا بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل، فقام إلى فرسه ليسرجه وندم فأبي الرجل وأخذه بالبيع، فأبي الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي -عليه السلام-، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 273 رقم 3457).

فقالوا له هذه القصة، قال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله -عليه السلام-، قال رسول الله -عليه السلام-: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: ما أراكما افترقتما". وقال الطحاوي: في "مشكل الآثار": قد كان بعض من يذهب إلى أن الخيار يجب للمتبايعين بعد عقد البيع يحتج بهذا الحديث وبما كان من أبي برزة فيه من قوله "وما أراكما تفرقتما" وهذا لا يصح لأنهما قد قاما بعد البيع فإنه يعلم أن كل واحد منها قد قام إلى ما لا بد له منه من حاجة الإنسان، ومن قيام إلى صلاة يكون بذلك تاركًا لما كان فيه مشتغلًا بما سواه، مما لو وقع مثله في صرف تصارفاه قبيل القبض لفسد الصرف، فكذلك لو كان الخيار واجبًا في البيع بعد عقده لقطعته هذه الأشياء، فدل ذلك أن المّفرق عند أبي برزة لم يكن التفرق بالأبدان، والحديث اختلف أيضًا بالروايتين عن أبي برزة كما ذكرنا، ولم تكن إحداهما أولى من الأخرى فلم يكن لأحد أن يحتج بأحدهما إلا احتج عليه مخالفه بالآخر منهما، وليس في واحدٍ منها ما يوجب أن التفرق المذكور في الحديث هو التفرق بالأبدان. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا -أو ما لم يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يدور بينهما فضل وتمحق بركة بيعهما". قال همام: فسمعت أبا التياح يقول: سمعت هذا الحديث عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي -عليه السلام- بمثل هذا. ش: هذا طريق آخر في حديث حكيم بن حزام، وهو صحيح، عن أبي بكرة بكار بن قتيبة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى ... إلى آخره.

وأخرجه البخاري (¬1): نا إسحاق، أنا حبان، نا همام، أنا قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، أن النبي -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا -قال همام: وجدت في كتابي- بخيار -ثلاث مرار- فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا، ويمحقا بركة بيعهما". قوله: "قال همام: فسمعت أبا التياح ... " إلى آخره إشارة إلى أن همام بن يحيى قد روى هذا الحديث عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام. وقال مسلم (¬2): نا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا همام، عن أبي التياح، قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث، عن حكيم بن حزام، عن النبي -عليه السلام- بمثله. ص: حدثنا محمد بن بحر بن مطر، قال: ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا أيوب بن عتبة، عن أبي كثير الغبري، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار". ش: أبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- هاشم بن القاسم الليثي البغدادي شيخ أحمد وابن المديني ويحيى بن معين، ثقة ثبت، روى له الجماعة. وأيوب بن عتبة اليمامي أبو يحيى قاضي اليمامة، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف. وعن يحيى: ليس بشي. قال البخاري: هو عندهم لين، وقال النسائي: مضطرب الحديث. وقال الدارقطني: يترك. وقال مرة: يعتبر به شيخ. وقال العجلي: يكتب حديثه. وأبو كثير الغبري اليمامي الأعمى، قيل: اسمه يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أذينة. وقيل ابن غفيلة، وثقه أبو حاتم وأبو داود ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 744 رقم 2008). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1164 رقم 1532).

والنسائي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، والغُبَري -بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى غُبَر بن غنم بن حُبَيِّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل. وحبيب -بضم الحاء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء. والحديث أخرجه البزار في "مسنده": نا زيد بن أخرم الطائي، نا أبو داود، نا أيوب بن عتبة، عن أبي كثير، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". وهذا الحديث قد روي عن أبي هريرة من غير وجه. وأخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) بغير هذا اللفظ. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا الحسن، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ كل واحدٍ منها ما رضى من البيع". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه النسائي (¬3): أنا عمرو بن علي، نا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن نبي الله -عليه السلام- قال: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى ويتخايران ثلاث مرات". وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": قوله في هذا الحديث: "ويأخذ كل واحد منها ما رضي من البيع" يدل على أن الخيار الذي للمتبايعين إنما هو قبل انعقاد البيع بينها من قول أحدهما لصحابه قد بعتك، وقول الآخر: قد قبلت منك، في الحال الذي يكون لكل واحد منهما أن يأخذ ما رضي من البيع ويترك بعضه وذلك قبل عقد البيع، فيكون البيع ينعقد بينه وبين صاحبه فيما يرضاه منه لا فيما سواه مما ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 273 رقم 3458). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 551 رقم 1248). (¬3) "المجتبى" (7/ 251 رقم 4481).

لا يرضاه، إذا لا خلاف بين القائلين في هذا الباب بأن الافتراق المذكور في الحديث هو بعد البيع بالأبدان، أنه ليس للمبيع أن للمبتاع أن يأخذ ما رضي به من البيع ويترك بقيته؛ إنما له عنده أن يأخذه كله أو يدعه كله، والله أعلم. انتهى. وهذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي حديث هذا الباب عن خمسة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وحكيم بن حزام وأبو برزة وأبو هريرة وسمرة بن جندب -رضي الله عنهم-. وفي الباب عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وجابر وعبد الله بن عمرو. أما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي محمد حفص بن غيلان، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أنهما كانا يقولان، عن رسول الله -رضي الله عنه-: "من اشترى بيعًا فوجب له فهو بالخيار ما لم يفارقه صاحبه، إن شاء أخذه، فإن فارقه فلا خيار له". وأما حديث أنس فأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا من حديث علي بن عاصم، أنا الحذاء، عن أبي قلابة، قال أنس: "مرَّ رسول الله -عليه السلام- على أهل البقيع، فقال: يا أهل البقيع فاشرأبوا، فقال: يا أهل البقيع، لا يفترقن بيعان إلا عن رضا". قلت: علي واهٍ. وأما حديث جابر -رضي الله عنه- فأخرجه البيهقي أيضًا (¬3): من حديث يحيى بن أيوب، وابن وهب -واللفظ له- أنا ابن جريج، أن أبا الزبير حدثه، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- اشترى من أعرابي حِمْل خَبط، فلما وجب البيع قال له النبي -عليه السلام-: اختر، فقال له الأعرابي: عمرك الله بَيِّعًا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 270 رقم 10220). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 271 رقم 10227). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 270 رقم 10222).

قلت: رواه ابن عيينة (¬1)، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن طاوس مرسلًا قال: "ابتاع النبي -عليه السلام- قبل النبوة من أعرابي بعيرًا أو غيره فقال له النبي -عليه السلام-: اختر، فنظر الأعرابي إليه فقال: عمرك الله ممن أنت؟ فلما كان الإِسلام جعل النبي -عليه السلام- بعد البيع الخيار". وهذا على الاختيار لا على الوجوب، وقد أجاب الطحاوي عن ما رواه أبو الزبير عن جابر بأنه -عليه السلام- إنما خير ذلك الأعرابي ليكون له ثواب من أقال نادمًا بيعته. وأما الحديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود (¬2): نا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". وأخرجه الترمدي (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا، والطحاوي أيضًا في كتابه "مشكل الآثار". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأختلف الناس في تأويل قول رسول الله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، فقال قوم: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا وانقطع خيارهما. وقالوا: الذي كان لهما من الخيار هو ما كان للبائع أن يبطل قوله للمشتري: قد بعتك هذا العبد بألف درهم قبل قبول المشتري، فإذا قبل المشتري فقد تفرق هو والبائع وانقطع الخيار. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي أيضًا في "سننه الكبرى" (5/ 270 رقم 10224، 10225). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 273 رقم 3456). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 550 رقم 1247). (¬4) "المجتبى" (7/ 251 رقم 4483).

وقالوا: هذا كما ذكر الله -عز وجل- في الطلاق، فقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) فقالوا: الزوج إذا قال للمرأة قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قبلت، فقد بانت، وتفرقا بهذا القول، وإن لم يتفرقا بأبدانهما، قالوا: فكذلك إذا قال الرجل للرجل: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا بذلك القول وإن لم يتفرقا بأبدانها. وممن قال بهذا القول وفسر بهذا التفسير: محمد بن الحسن -رحمه الله-. ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف العلماء في تأويل التفرق المذكور في الآثار المذكورة، وقد افترقوا ثلاث فرق، وأشار إلى ما قال أهل المقالة الأولى بقوله: "فقال قوم" وأراد بهم: إبراهيم النخعي والثوري في رواية، وربيعة الرأي ومالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن؛ فإنهم قالوا: المراد من قوله -عليه السلام-: "ما لم يتفرقا" هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم به البيع، ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار الرؤية، أو خيار العيب، أو خيار الشرط إن شرطه. قوله: "وقالوا: الذي كان لهما" أي قال هؤلاء القوم: الذي كان للبائع والمشتري هو ما كان للبائع أن يبطل قوله الذي خاطب به المشتري، وهو قوله: قد بعتك هذا العبد بألف مثلًا قبل قبول المشتري ذلك، فهذا هو الذي له أن يبطله، فأما إذا قبل المشتري ذلك فقد تفرق هو والبائع، وانقطع الخيار. قوله: "وقالوا: هذا كما ذكر الله ... " إلى آخره إشارة إلى انهم أيدوا تأويلهم بما ذكر الله -عز وجل- في الطلاق حيث قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (1) فإن التفرق ها هنا بالأقوال بلا خلاف، فإن الزوج إذا قال لامرأته: قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرآة: قد قبلت، فقد بانت وتفرقا بذلك، وإن لم يحصل الافتراق بأبدانها، فكذلك في البيع كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [130].

وقال عياض: لم يأخذ مالك بهذا الحديث -يعني حديث: "ما لم يتفرقا" واعتذر أصحابه عن مخالفته إياه -مع أنه رواه بنفسه- بمعاذير منها: أنهم قالوا: لعله حمل التفرق ها هنا على التفرق بالأقوال فيكون معنى قوله: "المتبايعان" أي المتساومان، فكأنهما بالخيار ما داما يتساومان حتى يفترقا بالإيجاب والقبول، فيجب البيع وإن لم يفترقا بالأبدان. قالوا: والافتراق بالأقوال تسمية غير مستنكرة، وقد قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) يعني المطلق، والطلاق لا يشترط فيه فرقة الأبدان، واستدلوا على هذا بما وقع في الترمذي (¬2) والنسائي (¬3) وأبي داود (¬4) من قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" ولا وجه لحمل الاستقالة على الفسخ؛ لأن ذلك بعيد من مقتضاها في اللسان، ولأنه أيضًا إذا قال أحدهما لصاحبه: اختر، فاختار، وجب البيع، ولا فرق بين هذا الالتزام الثاني، والالتزام الأول؛ لأن المجلس لم يفترقا عنه، فإذا وجب بالقول الثاني وجه بالقول الأول. واعتذر آخرون بأن قالوا: العمل إذا خالف الحديث وجب الرجوع إلى العمل؛ لأن من تقدم لا يُتَّهمون بمخالفة هذا الحديث الظاهر، إلا أنهم علموا الناسخ له فتركوه لأجله. وقال آخرون: لعل المراد به الاستحباب على قبول استقالة أحد المتبايعين بالفسخ وتكون الإقامة في المجلس سنة بهذا الحديث وبعد الافتراق في المجلس تفضلا واستحبابا. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [130]. (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 550 رقم 1247). (¬3) "المجتبى" (7/ 251 رقم 4483). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 294 رقم 3456).

قلت: ولقد شنع بعض المتعصبين على أبي حنيفة -رضي الله عنه- في هذا المقام، منهم البيهقي؛ فإنه حكى عن ابن المديني، عن سفيان، أنه حدث الكوفيين بحديث "البيعان بالخيار" قال: فحدثوا به أبا حنيفة فقال: أن هذا ليس بشيء، أرأيت إن كان في سفينة، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال. قلت: هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الركبان وشحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من ورعه المشهور، ولقد حكى الخطيب في "تاريخه" أن الخليفة في زمنه أرسل إليه يستفتيه في مسألة، فأرسل إليه بجوابها، فحدثه بعض من كان جالسًا في حلقته بحديث يخالف فتياه فرجع عن الفتيا، وأرسل الجواب إلى الخليفة على مقتضى الحديث، ويحتمل أن تكون الآفة من بعض رواة هذه الحكاية، ولم يعين ابن عيينة من حدثه بذلك، بل قال: حدثونا. وعلى تقدير صحة الحكاية؛ لم يرد بقوله: "ليس بشيء" الحديث، وإنما أراد ليس هذا لاحتجاج بشيء، يعني تأويله بالتفرق بالأبدان، فلم يَرُدَّ الحديث بل تأوله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة، وتأول المتبايعين بالمتساومَيْن على ما هو معروف من مذهب الحنفية، ومذهبه هو قول طائفة من أهل المدينة وإليه ذهب مالك وربيعة والنخعي على ما ذكرناه، ورواه عبد الرزاق عن الثوري أيضًا والله أعلم. ص: وقال عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار المذكور في هذه الآثار هي الفرقة بالأبدان، وذلك أن الرجل إذا قال للرجل: قد بعتك عبدي بألف درهم فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما علمنا ما يقطع بما للمخاطب من قبول المخاطبة التي خاطب بها صاحبه وأوجب له بها البيع، فلما جاء هذا ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [130].

الحديث علمنا أن افتراق أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يقطع قبول تلك المخاطبة، وقد روى هذا التفسير عن أبي يوسف -رحمه الله-. قال عيسى: وهذا أولى ما حمل عليه تأوبل هذا الحديث؛ لأنا رأينا الفرقة التي لها حكم -فيما اتفقوا عليه- هي الفرقة في الصرف، فكانت تلك الفرقة إنما يجب بها فساد عقد متقدم ولا يجب بها صلاحه، وكانت هذه الفرقة المروية عن رسول الله -عليه السلام- في خيار المتبايعين، إذا جعلناها على ما ذكرنا فسد بها ما كان تقدم من عقد المخاطب، وإن جعلناها على ما قال الذين جعلوا الفرقة بالأبدان يتم بها البيع بخلاف فرقة الصرف، ولم يكن لها أصل فيما اتفقوا عليه؛ لأن الفرقة المتفق عليها إنما يفسد بها ما تقدمها، إذا لم يكن تم حتى كانت، فأولى الأشياء بنا أن نجعل هذه الفرقة المختلف فيها كالفرقة المتفق عليها؛ فيجب بها فساد ما قد تقدمها ما لم يكن تم حتى كانت، فثبت بذلك ما ذكرنا. ش: هذا بيان مقالة الفرقة الثانية وهم: أبو يوسف وعيسى بن أبان وآخرون. وعيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى الإِمام الكبير تفقه على الإِمام محمد بن الحسن، وكان ولي قضاء البصرة، وصنف التصانيف، وكان حسن الحفظ للحديث، وقال الذهبي: ما علمت أحدًا ضعفه ولا وثقه. قلت: إذا سلم من الطعن يكون ثقة؛ لأن الأصل هو العدالة (¬1). قوله: "وذلك أن الرجل إذا قال ... " إلى آخره إشارة إلى بيان معنى قول عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار: هي الفرقة بالأبدان، وإنما فسر بذلك احترازًا عما فسره أهل المقالة الثالثة؛ فإنهم قالوا أيضًا: إن المراد من الفرقة هي الفرقة بالأبدان، ولكن فسروها بغير تفسير عيسى بن أبان، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) في هذا الكلام نظر، وهو عين ما أُنكر على ابن حبان في إدخال الرواة في ثقاته، والمعوَّل في توثيق الراوي ليس بأصل ظاهر في العدالة بالإِسلام فقط ولكن ينضم إليها الحفظ والضبط والإتقان كما هو معلوم في علم الجرح والتعديل. والله أعلم.

ص: وقال آخرون: هذه الفُرقة المذكورة في هذا الحديث هي الفرقة بالأبدان، فلا يتم البيع حتى تكون، فإذا كانت تم البيع، واحتجوا في ذلك بأن الخبر أطلق ذكر متبايعين فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، قالوا: فهما قبل البيع متساومان، فإذا تبايعا صارا متبايعين، فكان اسم التبايع لا يجب لها إلا بعد العقد، فثم يجب لهما الخيار. ش: أي قال قوم آخرون: وأراد بهم سعيد بن المسبب والزهري وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد وابن أبي مليكة والحسن البصري وهشام بن يوسف وابنه عبد الرحمن وعبد الله بن الحسن القاضي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد وأبا سليمان ومحمد بن جرير الطبري وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: الفرقة المذكورة في هذا الحديث هي التفرق بالأبدان، فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان. وقال ابن حزم (¬1): إلا أن الأوزاعي قال كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما إلا بيوعًا ثلاثًا: المغنم، والشركاء في الميراث يتقاومونه، والشركاء في التجارة يتقاومونها، قال الأوزاعي: وحدُّ التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه، وقال عياض: قال الليث: هو أن يقوم أحدهما. وقال الباقون: هو افتراقهما عن مجلسهما أو مقامها. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أنه كان إذا بايع رجلاً شيئًا فأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم رجع" قالوا: وهو قد سمع من النبي -عليه السلام- قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فكان ذلك عنده على التفرق بالأبدان، وعلى أن البيع يتم بذلك، فدل ما فكرنا على أن مراد النبي -عليه السلام- كان كذلك أيضًا. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن المراد من التفرق هو التفرق بالأبدان، بما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 355).

أخرجه مسلم (¬1): ثنا زهير بن حرب وابن أبي عمر، كلاهما عن سفيان -قال زهير: نا سفيان بن عيينة- عن ابن جريج، قال أملى عليّ نافع، سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا تبايع المتبايعان بالبيع، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب" زاد ابن أبي عمر في روايته: قال نافع: "فكان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله؛ قام يمشي هنيهة ثم رجع إليه". انتهى. قالوا: وهو أي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قد سمع من النبي -عليه السلام- قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فكان معنى ذلك عنده على التفرق بالأبدان، وعلى أن البيع لا يتم إلا بذلك، حتى كان قبل التفرق لكل منهما الفسخ. وقال عياض: هذا يدل على أخذ ابن عمر بالحديث، وأن التفرق بالأبدان. ص: واحتجوا في ذلك بحديث أبي برزة الذي قد ذكرناه عنه في أول هذا الباب، وبقوله للرجلين اللذين اختصما إليه: "ما أراكما تفرقتما" فكان ذلك التفرق عنده هو التفرق بالأبدان، ولم يتم البيع عنده قبل ذلك التفرق. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون أيضًا بحديث أبي برزة المذكور في هذا الباب، وفيه: "وما أراكما تفرقتما" فهذا يدل على أن التفرق بالأبدان، وأن البيع لا يتم قبل ذلك، ولو كان التفرق بالأقوال لحكم -عليه السلام- بتمام البيع بين ذينك الرجلين اللذين اختصما عنده، فحيث قال: "ما أراكما تفرقتما" دل أن المراد من التفرق هو التفرق بالأبدان، وقد مَرَّ الجواب عن ذلك عند ذكر الحديث، فافهم. ص: فكان من الحجة عندنا على أهل هذه المقالة لأهل المقالتين الأولين: أن ما ذكروا من قولهم لا يكونان متبايعين إلا بعد أن يتعاقد البيع، وهما قبل ذلك متساومان غير متبايعين، فذلك إغفال منهم لسعة اللغة، لأنه قد يحتمل أن يكونا سميا متبايعين لقربهما من التبايع، وان لم يكونا تبايعا، وهذا موجود في اللغة، قد ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1163 رقم 1531).

سمي إسحاق أو إسماعيل -عليهما السلام- ذبيحا؛ لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح، فكذلك يطلق على المتساومين اسم المتبايعين إذا قربا من البيع وإن لم يكونا تبايعا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه، وقال: لا يبيع الرجل على بيع أخيه" ومعناهما واحد، فلما سمى رسول الله -عليه السلام- المساوم الذي قرب من البيع متبايعا، وإن كان ذلك قبل عقده البيع، احتمل أيضًا أن يكون كذلك المتساومان سماهما متبايعين لقربهما من البيع، وإن لم يكونا عقدا عقدة البيع، فهذه معارضة صحيحة. ش: هذا جواب عن ما قاله أهل المقالة الثالثة، من قولهم: الخبر أطلق ذكر المتبايعين فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ... " إلى آخره، تقريره أن يقال: إن الذي ذكروه من أن المتبايعين قبل أن يتعاقدا البيع متساومان مُسَلَّم، وأنه وإن دلَّ على مدَّعاكم؛ ولكن عندنا من الدليل على خلافه، وهو أن المتبايعين يحتمل أن يكونا سميا بذلك لقربهما من التبايع أن لم يكونا تبايعا حقيقة؛ لأن الشيء إذا قرب إلى الشيء يأخذ حكمه، ومثل هذا كثير في لغة العرب، ألا ترى أنه قد أطلق على إسحاق أو على إسماعيل -على اختلاف المفسرين فيه- ذبيح لا بكونه قد ذبح حقيقة، إنما أطلق عليه لكونه قد قرب من الذبح، فكذلك يكون إطلاق اسم المتبايعين على المتساومين لقربهما من البيع فيكونان متبايعان والدليل على ذلك إطلاق النبي -عليه السلام- على لفظ السوم لفظ البيع، حيث قال: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" وقال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه" ومعناهما واحد، فلما أطلق رسول الله -عليه السلام- على المساوم الذي قد قرب من البيع وكان ذلك قبل عقده البيع، احتمل أيضًا أن يكون كذلك المتساومان أطلق عليهما اسم المتبايعين لقربهما من البيع وإن لم يكونا عقدا عقد البيع فهذا الذي ذكرناه معارضة صحيحة. فإن قيل: قد قال ابن حزم: وأما قولهم كما سمي الذبيح ولم يذبح فما سماه الله تعالى قط ذبيحًا، ولا صح قط ذلك عن رسول الله -عليه السلام- وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه، وإنما أطلق ذلك من أطلق مسامحة، أو لأنه حمل

الخليل -عليه السلام- السكين على حلقه، وهذا فعل يسمى من فعاله ذبحًا، وما نبالي عن هذه التسمية؛ لأنها لم تأت قط في قرآن ولا في سمة، فلا تقوم بها حجة. قلت: هذه مكابرة من ابن حزم وعدم معرفة بدلالات المعاني من الألفاظ؛ لأنا لم ندع أن الله تعالى سمي ذبيحًا أو ثبت عن رسول الله -عليه السلام- أنه سمى ذبيحًا، ولكن ضرب هذا تمثيلًا لإطلاق اسم الشيء على الشيء باعتبار قربه منه، وهذا باب واسع شائع ذاع في العربية ولا ينكر إلا العامي وهو ناقص في كلامه فلم يفهمه؛ لأن قوله: "وإن أطلق ذلك ... " إلى آخره يؤيد ما ذكره من أن الشيء يطلق على الشيء باعتبار قربه منه، وإن لم يكن حقيقةً ذلك الشيء. فافهم. ص: وأما ما ذكروا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- من فعله الذي استدلوا به على مراد رسول الله -عليه السلام- في الفرقة، بأن ذلك قد يحتمل عندنا ما قالوا ويحتمل غير ذلك، قد يجوز أن يكون ابن عمر أشكلت عليه تلك الفرقة التي قد سمعها من رسول الله -عليه السلام- ما هي؟ فاحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذكره أهل المقالة الأولى، واحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذكره أهل المقالة التي ذهب إليها عيسى، واحتملت عنده الفرقة بالأقوال على ما ذهب إليه الآخرون، ولم يحضره دليل يدله أنه بأحدها أولى منه مما سواه عنها، ففارق بائعه ببدنه احتياطًا. ويحتمل أيضًا أن يكون فعل ذلك لأن بعض الناس يرى أن البيع لا يتم إلا بذلك، وهو يرى أن البيع يتم بغيره، فأراد أن يتم البيع في قوله وقول مخالفه حتى لا يكون لبائعه نقض البيع عليه في قوله ولا قول مخالفه. ش: هذا جواب عن ما ذكره أهل المقالة الثالثة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من فعله في البيع: "أنه إذا بايع رجلاً شيئًا فأراد أن لا يقيله قام يمشي ثم رجع". على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفرقة، بيان ذلك، أن يقال: إن الاستدلال به لا يتم؛ لأنه يحتمل ذلك ما قالوا، ويحتمل غير ذلك، بيانه أنه قد يجوز أن تكون الفرقة التي سمعها من النبي -عليه السلام- أشكلت عليه ولم يتحقق ما هي فاحتملت أن تكون الفرقة

بالأبدان على ما فسره أهل المقالة الأولى، واحتملت أن تكون على ما ذكره عيسى بن أبان، واحتملت أن تكون الفرقة بالأقوال على ما فسره أهل المقالة الأخيرة، ولم ينتصب عنده دليل على ترجيح واحد من هذه المعاني على البقية، فلأجل ذلك فارق بائعه ببدنه؛ احتياطًا ليخرج بذلك من الشبهة، ويحتمل أيضًا أن يكون قد فعل ذلك ليكون بيعه على وجه لا يكون فيه خلاف، فإن بعض الناس قد ذهبوا أن البيع لا يتم إلا بذلك، وهو قد يرى أنه يتم بغيره، ففعل ذلك ليكون بيعه تامًّا في قوله وقول مخالفه، حتى لا يكون لبائعه سبيل في نقض البيع عليه عند الكل، فإذا كان كذلك فبذا يدفع الاستدلال به على الخصم. ص: وقد روي عنه ما يدل على أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ما ذهب إليه من ذهب أن البيع يتم بها، وذلك أن سليمان بن شعيب قد حدثنا، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ما أدركت الصفقة حيًّا، فهو من مال المبتاع". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حيًّا فهلك بعدها أنه من مال المشتري؛ فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بتلك الأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع، حتى يهلك من ماله إن هلك، فهذا الذي ذكرنا أدل على مذهب ابن عمر في الفرقة التي شمعها من النبي -عليه السلام- مما ذكروا. ش: هذا جواب آخر عن ما ذكروه من فعل ابن عمر المذكور، تقريره أن يقال: إن ما ذكرتم عن ابن عمر -رضي الله عنه- من فعله الذي استدل به على مراد رسول الله -عليه السلام- في الفرقة يعارضه ما روي عنه مما يدل على أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ذلك، بيانه أنه قال: "ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع" فهذا يدل على أنه قد كان

يذهب فيما أدركت الصفقة حيا فهلك بعدها أنه من مال المشتري، ويدل أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل التفرق بالأبدان الذي يكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بتلك الأقوال من ملك البائع إلى ملك المشتري، حتى إنه إذا هلك يهلك من مال المشتري، وقد اعترض ابن حزم ها هنا باعتراض ساقط، وقال: هذا من عجائبهم لأنهم أول مخالف لهذا الخبر، فالحنفيون يقولون: بل هو من البائع ما لم يره المبتاع أو يسلم إليه البائع، والمالكيون يقولون: بل إن كان غائبًا غيبة بعيدة فهو من البائع، فمن أعجب ممن يحتج بخبر هو عليه لا له؟! ويجاهر هذه المجاهرة، وما في كلام ابن عمر هذا شيء يخالف ما صح عنه من أن البيع لا يصح إلا بتفرق الأبدان، فقوله: ما أدركت الصفقة إنما أراد البيع التام بلا شك، ومن قوله المشهور عنه أنه لا بيع يتم البتة إلا بتفرق الأبدان، أو بالتخيير بعد العقد. انتهى. قلت: لا نسلم أنهم أول مخالف لهذا الخبر؛ لأن الحنفية إنما يقولون: يهلك المبيع من مال البائع إذا منعه بعد العقد عن تسلم المشتري، وأما إذا تم العقد وأخل بينه وبن المشتري فهلك المبيع، فإنه يهلك من مال المشتري، وذلك لأن التخلية بمنزلة القبض حقيقة، وقوله: "وما في كلام ابن عمر هذا شيء يخالف ما صح عنه ... " إلى آخره. غير صحيح، لأن قوله هذا يعارض فعله ذاك صريحًا على أن فعله ذاك قد يحتمل الاحتمالات المذكورة. وقوله: "هذا يدل على أن الفرقة بالأقوال" فهذا يكون دالًا على أن الفرقة التي سمعها من النبي -عليه السلام-، هي الفرقة بالأقوال لا بالأبدان. فافهم. ثم إنه أخرج الأثر المذكور من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

وهذا أخرجه البخاري (¬1) تعليقًا ولفظه: وقال ابن عمر: "ما أدركت الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من المبتاع". وأخرجه الدارقطني (¬2) موصولاً من طريق الأوزاعي نحو رواية الطحاوي. والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن حزم أيضًا (¬3) من طريق ابن وهب، وفي روايته: "ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع". و"الصفقة" البيعة، سميت بذلك لأنهم كانوا يضربون الأيدي على الأيدي عند البيع، ومنه يقال: "صفقة رابحة" و"صفقة خاسرة" يقال: "صفقت له بالبيع والبيعة صفقا" أي ضربت يدي على يده. قوله: "من مال المبتاع" أي المشتري، وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": ولا يكون من المبتاع إلا ما قد وقع ملكه، فالصفقة عليه. ص: وأما ما ذكروه عن أبي برزة فلا حجة لهم فيه أيضًا عندنا، لأن ذلك الحديث إنما هو فيما رواه حماد بن زيد عن جميل بن مرة: أن رجلاً باع صاحبه فرسًا، فباتا في منزل، فلما أصبحا قام الرجل يسرج فرسه، فقال له: قد بعتني، فقال أبو برزة: إن شئتما قضيت بينكما بقضاء رسول الله -عليه السلام-، قال رسول الله -عليه السلام-: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وما أراكما تفرقتما". ففى هذا الحديث ما يدل على أنهما قد كانا تفرقا بأبدانهما؛ لأن فيه أن الرجل قام يسرج فرسه، فقد تنحى بذلك من موضع إلى موضع، فلم يراع أبو برزة ذلك، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 751 قبل رقم 2031). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 53 رقم 215). (¬3) "المحلى" (8/ 383).

وقال: ما أركما تفرقتما، أي لما كنتما متشاجرين، أحدكما يدعي البيع والآخر ينكره، لم تكونا تفرقتما الفرقة التي يتم بها البيع، وهي خلاف ما قد تفرقا بأبدانهما. ثم بعد هذا فقد وجدنا عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على أن البيع يملكه المشتري بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن رسول الله -عليه السلام- قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" فكان ذلك دليلاً على أنه إذا قبضه حل له بيعه، وقد يكون قابضا له قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه" وسنذكر هذه الآثار في موضعها من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة (ح). وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يخطب على المنبر يقول: "كنت أشتري التمر فأبيعه بربح الآصع، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فَكِلْ، فكان من ابتاع طعاما مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه ثم فارق بائعه فكلٌّ قد أجمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق، وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالا يحل له بيعه، فقد كان ذلك الاكتيال منه وهو له مالك. وإذا اكتاله اكتيالا لا يحل له بيعه فقد كاله وهو غير مالك له. فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشتري في البيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي ثم بعد ما ذكرنا من الدلائل الدالة على أن المراد من التفرق هو التفرق بالأقوال لا بالأبدان، قد وجدنا في الأحاديث عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن المشتري يملك المبيع بالقبول من غير شرط التفرق بالأبدان، وهو في قوله -عليه السلام-: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" على ما يأتي إن شاء الله تعالى،

ففيه دليل صريح على أن المشتري إذا قبض المبيع يحل له بيعه، ولا يتصور أن يحل له ذلك إلا إذا ملكه، وهذا يدل على أنه يملكه بالقبول من غير اشتراط التفرق بالأبدان، والقبض قد يكون قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، ولا يلزم أن يكون بعد افتراقهما، فدل ذلك أن البيع يتم بالإيجاب والقبول من غير اشتراط التفرق بالأبدان. وأن قوله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" هو التفرق بالأقوال؛ وإلا يلزم التضاد بين الآثار. فافهم. قوله: "حدثنا يونس ... " إلى آخره ذكره تأكيدًا لما قاله من أن المبيع يملكه المشتري بالقبول دون التفرق بالأبدان، وهو ظاهر. وأخرجه عن طريقين فيهما عبد الله بن لهيعة الذي تكلم فيه ولكن لا يضره ذلك لأنه إنما يخرج له إما في المتابعات وإما في الشواهد على أنا قد ذكرنا غير مرة أن أحمد بن حنبل وثقه وأثنى عليه غاية الثناء، وحدث عنه بكثير. الطريق الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن موسى بن وردان المصري القاضي، مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، مدني الأصل، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. روى له البخاري في غير "الصحيح" واحتجت به الأربعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، نا عبد الله بن لهيعة، حدثني موسى بن وردان، سمعت سعيد بن المسيب يقول: "سمعت عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- وهو يخطب على المنبر: كنت ابتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع، وأبيعه بربح، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا عثمان إذا اشتريت فاكتل وإذا بعت فكل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 62 رقم 4440).

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المصري كاتب لهيعة بن عيسى قاضي مصر، عن عبد الله بن لهيعة، عن موسى بن وردان ... إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) نا محمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا الحسن بن موسى، قال ابن لهيعة: نا موسى بن وردان، قال: سمعت سعيد بن المسيب، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول على المنبر: "كنت ابتاع التمر واكتال في أوعيتي، ثم أهبط به إلى السوق، فأقول فيه كذا وكذا، فآخذ ربحي وأخلي بينهم وبينه، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام-، فقال: إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل". قوله: "الآصُع" بمد الهمزة وضم الصاد: جمع صاع، ويجيء على أصوع أيضًا وهو الأكثر، وقد تبدل الهمزة من الواو، وقد قيل: إن الآصع اصله الأصوع الذي هو جمع صاع، فَنُقِلت الواو إلى ما قبل الصاد، فصار أوصعًا، ثم قلبت الواو ألفا فصار آصعًا، فيكون فيه قلبان قلب "الواو" من وضعه وقلبها "ألفا". فافهم. قوله: "اكتل" أمر من اكتال يكتال، وكذلك قوله: "كِلْ" أمر من كال يكيل، كباع يبيع الأمر منه بيع، فالاكتيال له والكيل عليه. ص: وأما من طريق النظر: فإنا قد رأينا الأقوال تملك بعقود في أبدان وفي أموال وفي منافع وفي أبضاع، فكان ما تملك به من الأبضاع هو النكاح، فكان يتم بالعقد لا بفرقه بعد العقد، وكان ما تملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكا بالعقد لا بفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المعقودة بسائر العقود من البيوع وغيرها، تكون مملوكة بالأقوال لا بفرقه بعدها؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 33 رقم 379).

ش: وجه النظر والقياس ظاهر، وهو قياس العقود من البيع ونحوه على العقود التي تكون بالمنافع كالإجارات وبالأبضاع كالأنكحة، فكما لا يشترط فيهما الفرقة بالأبدان بعد العقد؛ فكذلك لا يشترط في عقود البيع، والجامع كون كل منهما عقدا يتم بالإيجاب والقبول وقد اعترض ابن حزم اعتراضا تافها، حاصله: أن القياس باطل، ثم لو صح لكان هذا منكم عين الباطل؛ لأن النكاح فيه إباحة فرج كان محرمًا ملك رقبته، ولا يجوز فيه اشتراط خيار أصلاً ولا تأجيل، وأنتم تجيزون الخيار المشروط في البيع والتأجيل ولا ترونه قياس أحدهما على الآخر. والإجارة إباحة منافع بعوض لا تملك به الرقبة بخلاف البيع. قلت: القياس في الحقيقة تشبيه حكم بحكم شيء آخر دون التشبه على العموم والجامع ها هنا في صفة خاصة وهو تملك الأبضاع في النكاح بمجرد العقد بدون الاحتياج إلى التفرق وذلك مثل تملك المنافع فيقاس على ذلك تملك الأموال بعقد البيع بمجرد وجوب العقد بدون الاحتياج إلى التفرق فهذا هو وجه هذا القياس الذي خفي على ابن حزم حتى تصدى به إلى الاعتراض الذي طعن به علينا. ***

ص: باب: بيع المصراة

ص: باب: بيع المصراة ش: أي هذا باب في بيان حكم بيع المصراة، و"المصراة" الناقة أو البقرة أو الشاة يُصَرَّى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس، قال الأزهري: ذكر الشافعي المصراة وفسرها: أنها التي تصر أخلافها، ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها، وقال الأزهري: جائز أن تكون سميت مصراة من صرَّ أخلافها كما ذكر، إلا أنهم لما اجتمع لهم في الكلمة ثلاث راءات قلبت إحداهما ياء كما قالوا: تظنيت في تظننت، ومثله تقضَّي البازي في تقضَّض، وتصدَّى في تصدد، وكثير من أمثال ذلك أبدلوا من إحدى الأحرف المكررة ياء؛ كراهية لاجتماع الأمثال. قال: وجائز أن تكون سميت مصراة من الصَّرْي، وهو الجمع، وإليه ذهب الأكثرون، فعلى هذا قوله -عليه السلام-: "لا تصروا الإبل والغنم" إن كان من الصرَّ فهو بفتح التاء وضم الصاد، وإن كان من الصَّرْي فيكون بضم التاء وفتح الصاد، فافهم. وقال عياض: قال الخطابي: اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة ومن أين أخذت واشتقت، فقال الشافعي -رحمه الله-: التصرية أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها، فيزيد مشتريها في ثمنها لما يرى من ذلك، وقال أبو عبيد: إنه من صري الإبل في ضرعها يعني حقنه فيه، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه، قال أبو عبيد: ولو كان من الربط لكانت مصرورة. قال الخطابي: وقول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح، والعرب تصر ضروع الحلوبات، وتسمرل ذلك الرباط صرارًا، واستشهد تصحيحا لقول الشافعي بقولهم: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا عوف، عن محمد بن سيرين وخلاس بن عمرو، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى شاة مصراة أو لقحة مصراة فحلبها فهو بخير النظرين: بين أن يختارها، وبين أن يردها وإناء من طعام". حدثنا فهد، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وحدثنا فهد، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين- عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع مصراة فهو بالخيار: إن شاء ردها وصاعًا من تمر". هكذا في حديث محمد بن زياد وفي حديث أيوب: "وصاعًا من طعام لا سمراء". حدثنا ربيع الجيزي وصالح بن عبد الرحمن قالا: ثنا عبد الله بن سلمة (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قالا: ثنا داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشترى شاة مصراة فينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عبد الرحمن بن سعد وعن عكرمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اشترى شاة مصراة فإنه إن شاء ردها ومعها صاع من تمر". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، أن أبا إسحاق حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر".

ش: هذه ثمان طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، وهو طريق صحيح ورجاله ثقات. وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي أبو سهل البصري المعروف بابن الأعرابي روى له الجماعة. وخِلاس -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- ابن عمرو الهجري البصري روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) بألفاظ مختلفة وأسانيد متباينة، وأخرجه بهذا الإسناد أحمد في "مسنده" (¬2): حدثنا عبد الواحد، عن عوف، عن خِلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من اشترى لقحة مصراة -أو شاة مصراة- فحلبها، فهو بآخر النظرين بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها وإناء من طعام". الثاني: صحيح أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد القرشي المدني مولى عثمان بن مظعون عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال النبي -عليه السلام-: "من اشترى مصراة فهو بالخيار -يعني إذا حلبها- إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2/ 756 رقم 2044)، ومسلم (3/ 1159 رقم 1524)، وأبو داود (3/ 270 رقم 3444)، والترمذي (3/ 553 رقم 1252)، والنسائي (7/ 253 رقم 4488)، وابن ماجه (3/ 753 رقم 2239). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 259 رقم 7519). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 553 رقم 1251).

الثالث: عن فهد أيضًا، عن حجاج، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشتري شاة مصراة فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء". الرابع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، وصالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، كلاهما عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن موسى بن يسار القرشي المطلبي، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬2): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا داود بن قيس ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا ومتنًا، غير أن في لفظه: "ردها ومعها صاع من تمر". الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب المصري، عن داود بن قيس ... إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه النسائي (¬3): أنا إسحاق بن إبراهيم، نا عبد الله بن الحارث، حدثني داود بن قيس، عن ابن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشترى مصراة، فإن رضيها إذا حلبها فليمسكها، وإن كرهها فليردها ومعها صاع من تمر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1159 رقم 1524). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1158 رقم 1524). (¬3) "المجتبى" (7/ 253 رقم 4488).

السادس: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سَخِطها ردها وصاع من تمر". السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني، عن عبد الرحمن بن سعد المدني، وعن عكرمة مولى ابن عباس، كلاهما عن أبي هريرة. وكل هؤلاء ثقات غير أن ابن لهيعة فيه مقال. الثامن: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المعروف بعلان، عن عبد الله ابن صالح كاتب الليث، عن بكر بن مضر بن محمد المصري، عن عمرو بن الحارث المصري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي هريرة. وهؤلاء كلهم ثقات تكرر ذكرهم. قوله: "أو لِقْحة" بكسر اللام وفتحها وهي الناقة القريبة العهد بالنتاج، والجمع لقح، وقد لَقِحَت لَقْحًا ولِقَاحًا، وناقة لَقُوح إذا كانت غزيرة [اللبن] (¬3)، وناقة لاقح إذا كانت حاملاً، ونوق لواقح واللقاح ذوات الألبان، الواحدة لقوح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 755 رقم 2043). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1155 رقم 1515). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث".

قوله: "وإناء" أي ويرد معها إناء، وقد فُسِّر الإناء في بعض الروايات بالصاع، وقد قال البخاري: وقال بعضهم: عن ابن سيرين: "صاعًا من طعام". قوله: "من طعام" الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك. وقال الخليل: إن الغالب في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، ولكن أهل الحديث خصوا الطعام ها هنا بالتمر لأمرين: أحدهما: أنه كان الغالب على أطعمتهم. والثاني: أن معظم روايات هذا الحديث إنما جاءت: "صاعا من تمر" وفي بعضها قال: "من طعام" ثم أعقبه بالاستثناء فقال: لا سمراء، والسمراء هي الحنطة. وقال البيهقي: المراد بالطعام التمر، فقد قال: لا سمراء. وقال عياض: قوله: "وإناء من طعام" يحتج به من قال بظاهره، أو عند عدم التمر، وقال الداودي: معناه من تمر، فسره في الحديث الآخر قوله: "لا سمراء" أي لا بر، إنما أنثها باعتبار الحنطة أو الحبة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد رويت هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- كما ذكرنا، ولم يذكر فيها لخيار المشترى وقتا، وقد روي عنه أنه جعل الخيار له في ذلك ثلاثة أيام. حدثنا بذلك أبو أمية قال: ثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى عن بيع الشاة وهي محفلة، فإذا باعها فإن صاحبها بالخيار ثلاثة أيام؛ فإن كرهها ردها ورد معها صاعا من تمر". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، أن سهيل بن أبي صالح أخبره، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي -عليه السلام- قال: "من

ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، فإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- ... مثله، غير أنه قال: "ردها وصاعا من طعام لا سمراء". ش: لما كانت أحاديث المصراة على نوعين: نوع منها مطلق عن ذكر مدة الخيار وبه أخذ بعض المالكية وحكموا فيه بالرد مطلقا. ونوع منها مقيد بذكر مدة الخيار ثلاثة أيام، وبه أخذت الشافعية على ما نبينه إن شاء الله تعالى. أشار الطحاوي إلى النوعين المذكورين، وأشار إلى النوع الأول بقوله: "فقد رويت هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- كما ذكرنا"، وإلى النوع الثاني بقوله: "وقد روي عنه" أي النبي -عليه السلام- "أنه جعل الخيار له في ذلك" أي للمشتري في شراء المصراة "ثلاثة أيام" وبين ذلك بقوله: "حدثنا بذلك أبو أمية ... " إلى آخره. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن عبد الله بن جعفر بن غيلان القرشي الرقي الثقة، عن عبد الله بن المبارك، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة ... إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده": نا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي -عليه السلام-: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن اشترى من ذلك شيئًا فهو بالخيار ثلاثا، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب -يعني بن عبد الرحمن- القاري، عن سهيل ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات. الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وهشام بن حسان وحبيب بن الشهيد، ثلاثتهم عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث حماد بن سلمة، عن أيوب وهشام وحبيب، عن محمد ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬3): عن محمد بن عمرو، عن أبي عامر، عن قرة، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها ردَّ معها صاعا من طعام لا سمراء". وأخرجه الترمذي (¬4): عن محمد بن بشار، عن أبي عامر، عن قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬5): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أيوب، عن محمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع محفلة أو مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أن يمسكها أمسكها، وإن شاء أن يردها ردها وصاعا من تمر لا سمراء". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1158 رقم 1524). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 318 رقم 10502). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1158 رقم 1524). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 553 رقم 1252). (¬5) "المجتبى" (7/ 254 رقم 4489).

ولما أخرج الترمذي (¬1): هذا الحديث عن أبي هريرة قال: وفي الباب عن أنس، ورجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. قلت: وفي الباب عن ابن عمر -رضي الله عنه-. أما حديث أنس فأخرجه البيهقي (¬2): من حديث إسماعيل بن مسلم، وهو واهٍ عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحلبها، فإن رضيها فليمسكها، وإلا فليردها وصاعا من تمر". وأما حديث رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فأخرجه البيهقي أيضًا (¬3): من حديث يزيد، أنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى أن تتلقى الأجلاب وأن يبيع حاضر لباد، ومن اشترى مصراة فهو بخير النظرين، فإن حلبها ورضيها أمسكها، وإن ردها ردَّ معها صاعًا من طعام، أو صاعا من تمر". وأما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فأخرجه أبو داود (¬4): ثنا أبو كامل، قال: نا عبد الواحد، قال: ثنا صدقة بن سعيد، عن جميع بن عمير التيمي، قال: سمعت عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام؛ فإن ردها رد معها مثل -أو مثلي- لبنها قمحا". وأخرجه البيهقي (¬5): وقال: قال البخاري: جُمِيع فيه نظر. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، وحسن له الترمذي حديثًا وذكره ابن حبان في "الضعفاء" أيضًا، وقال: كان رافضيا يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 553 رقم 1251). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 319 رقم 10506). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 319 رقم 10507). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 271 رقم 3446). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 319 رقم 10504).

ص: فذهب قوم إلى أن الشاة المصراة إذا اشتراها رجل، فحلبها فلم يرضى حلابها فيما بينه وبين ثلاثة أيام كان بالخيار، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وردَّ معها صاعا من تمر، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وممن ذهب إلى ذلك: ابن أبي ليلى، إلا أنه قال: يردها ويرد معها قيمة صاع من تمر. وقد كان أبو يوسف أيضًا قال بهذا القول في بعض أماليه، غير أنه ليس بالمشهور عنه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد والشافعي ومالكًا -في قول- وأحمد وأبا ثور وإسحاق وأبا عبيد وأبا سليمان وزفر وأبا يوسف -في بعض الروايات- ومحمد بن أبي ليلى، فإنهم قالوا: من اشترى مصراة فحلبها فلم يرض بها، فإنه يردها إن شاء ويرد معها صاعا من تمر، إلا أن مالكا قال: يؤدي أهل كل بلد صاعا من أغلب عيشهم، وابن أبي ليلى قال: يرد معها قيمة صاع من تمر، وهو قول أبي يوسف ولكنه غير مشهور عنه. وقال زفر: يرد معها صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر. وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قال مالك: إذا احتلبها ثلاثاً وسخطها لاختلاف لبنها ردها ورد معها صاعا من قوت ذلك البلد، تمرا كان أو بُرَّا أو غيره، وبه قال الطبري، وأبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي، ورواه ابن القاسم عن مالك قال: من غالب قوت البلد، وروى زياد عن مالك يرد مكيلة ما حلب من اللبن تمرّا أو قيمته، وقال أكثر أصحاب الشافعي: لا يكون إلا من التمر، واختلف أصحاب الشافعي إذا وجب رد صاع التمر فكان يساوي قيمة الشاة أو كثر، فأوجب بعضهم رد الصالح ولم يوجبه بعضهم. قال بعض أصحابنا: والأول أظهر وأتْبَع للحديث.

ص: وخالف ذلك كله آخرون، فقالوا: ليس للمشتري ردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، وممن قال ذلك: أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-. ش: أي خالف ما ذكر من الحكم كله جماعة آخرون، وأرد بهم: فقهاء الكوفيين وأبا حنيفة ومحمدًا ومالكا -في رواية- وأبا يوسف -في المشهور عنه- وأشهب من المالكية فإنهم قالوا: ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب. وفي "المحلى" (¬1) قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إن كان اللبن حاضرًا لم يتغير ردها ورد اللبن، وإلا يرد معها صاعا من تمر ولا شيئًا، وإن كان قد أكل اللبن ردها وقيمة ما أكل من اللبن. قلت: وفي كتب أصحابنا الحنفية: ليس له أن يرد المصراة؛ لأنه وجد ما يمنع الرد، وهو الزيادة المنفصلة عنها، وفي الرجوع بالنقصان روايتان عن أبي حنيفة، في رواية شرح الطحاوي يرجع على البائع بالنقصان من الثمن لتعذر الرد، وفي رواية الإصرار لا يرجع؛ لأن اجتماع اللبن وجمعه لا يكون عيبا. والله أعلم. ص: وذهبوا إلى أن ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك -مما قد تقدم ذكرنا له في هذا الباب- منسوخ، فروي عنهم هذا الكلام مجملا، ثم اختلف عنهم من بعد في الذي نسخ ذلك ما هو؟ فقال محمد بن شجاع فيما أخبرني به ابن أبي عمران عنه نسخه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من هذا الكتاب، فلما قطع رسول الله -عليه السلام- بالفرقة الخيار؛ ثبت بذلك أنه لا خيار لأحد بعدها، إلا لمن استثناه رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث بقوله: "إلا بيع الخيار". ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 67).

قال أبو جعفر -رحمه الله-: وهذا التأويل عندي فاسد، لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب، وخيار العيب لا تقطعه الفرقة، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى عبدًا وقبضه وتفرقا، ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين؟ ولا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله -عليه السلام- في الآثار المذكورة عنه في ذلك، فكذلك المبتاع للشاة المصراة إذا قبضها فاحتلبها، فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها، وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين، جعلت له في ذلك هذه المدة -وهي ثلاثة أيام- ليحتلبها في ذلك، فيقف على حقيقة ما هي عليه، فإن كان باطنها كظاهرها فقد لزمته واستوفي ما اشترى، وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها، فإن حلبها بعد الثلاثة الأيام فقد حلبها بعد علمه بعيبها، فذلك رضا منه بها، فلهذه العلة التي ذكرت وجب بها فساد التأويل الذي وصفت. ش: هذا جواب عن أحاديث المصراة التي سبقت، أي ذهب هؤلاء الآخرون إلى أن الأحاديث التي تقدم ذكرها التي احتجت بها أهل المقالة الأولى منسوخة، ثم بين الطحاوي وجه هذا النسخ من ثلاثة أوجه: الأول: عن محمد بن شجاع البغدادي الفقيه المشهور بابن الثلجي -بالثاء المثلثة- من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب المصنفات الكثيرة. الثاني: عن عيسى بن أبان بن صدقة الفقيه، قاضي البصرة صاحب محمد بن الحسن الشيباني. الثالث: هو اختيار نفسه علي ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. أما ما ذكره محمد بن شجاع فقد قال الطحاوي: أخبرني به أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، أن الناسخ للأحاديث المذكورة: قوله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وقد ذكر ذلك الطحاوي بأسانيده ووجوهه فيما سبق في باب معقود لذلك، ووجه ما ذكره ابن شجاع ظاهر، ولكن الطحاوي أفسده، وهو أحرى بالفساد لما يظهر ذلك مما قاله الطحاوي.

قوله: "فلهذه العلة التي ذكرتُ" بضم التاء على أنه إخبار عن نفسه، وكذا قوله: "الذي وصف". ص: وقال عيسى بن إبان: كان ما روي عن رسول الله -عليه السلام- من الحكم في المصراة بما في الآثار الأُول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب تؤخذ بها الأموال، فمن ذلك ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في الزكاة: "أنه من أدى طائعا فله أجرها، وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا -عز وجل-"، ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق الثمرة التي لم تحرز: "أنه يضرب جلدات نكالا، ويغرم مثليها"، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب وطْء الرجل جارية امرأته، فأغنانا ذلك عن إعادة ذكرها ها هنا. قال: فلما كان الحكم في أول الإسلام كان كذلك حتى نسخ الله -عز وجل- الربا فَرُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها، وكان رسول الله -عليه السلام- نهى عن التصرية وروي عنه في ذلك. فذكر ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المسعودي، عن جابر الجعفي، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: اشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن بيع المحفلات خِلابة ولا تحل خِلابة مسلم" فكان من فعل ذلك وباع ما قد جعل بيعه إياه مخالفا لما أمر به رسول الله -عليه السلام-، وداخلا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصُعا كثيرة، ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء إلى ما ذكرنا، فلما كان ذلك كذلك، ووجب رد المصراة بعينها، وقد زايلها اللبن؛ علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري، فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع إذ كان بعضه مما لم يملك ببيعه، ولم يمكن أن يجعل

اللبن كله للمشتري إذ كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاة التي قد ردها عليه بالعيب، وقد كان ملكه له بجزء من الثمن الذي كان وقع به البيع، فلم يجز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللبن سالمًا له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بايعه بنقصان عيبها. قال عيسى -رحمه الله-: فهذا وجه حكم بيع المصراة. ش: هذا هو الوجه الثاني من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله عيسى بن أبان، وهو أيضًا ظاهر، ولكن ملخصه أن حكم المصراة كان حين يؤخذ بالأموال في العقوبات كما في الزكاة إذا امتنع صاحبها عن أدائها كان يؤخذ منه جبرًا، ويؤخذ معها نصف ماله، وكذا سارق الثمرة التي لم تحرز، كان يضرب جلدات عقوبة، ويغرم مثلي ما أخذه، وكذا الغالّ كان يحرق رحله، فلما نسخت هذه الأشياء بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬1) ونزلت آية تحريم الربا؛ صار الحكم أن يؤخذ في الأموال مثلها، إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت لا مثل لها، ثم في حكم المصراة التمر ليس من جنس اللبن، ومتلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته كما ذكرنا، فإذا كان كذلك دل على أن هذا الحكم قد كان ثم نسخ، وأيضًا فإن في دفع التمر لأجل اللبن ربا؛ لأنه بيع الطعام بالطعام متفاضلا، وقد قال -عليه السلام-: "الطعام بالطعام ربا إلا هاء وهاء" فإذا تقرر ذلك قلنا: إن المشتري يمنع من رد المصراة ولكن يرجع على بائعها بنقصان العيب؛ لأن السلامة في البيع مطلوبة المشتري فكانت شرطا في العقد دلالة، فإذا فأتت يثبت له خيار الرجوع بنقصان العيب، وإنما يمتنع رجوعه بالمصراة بجميع الثمن للمعنى الذي ذكره الطحاوي عن عيسى بن أبان، وهو قوله: "فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع ... " إلى آخره، وهو ظاهر. ثم الذي روي عن النبي -عليه السلام- في الزكاة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [194].

وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا بهز بن حكيم. ونا محمد بن العلاء، أنا أبو أسامة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا -قال ابن العلاء: مؤتجرا بها- فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة عن عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شئ". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. قوله: "شطر ماله" أي نصف ماله. قوله: "عزمة" منصوب بفعلٍ محذوف، تقديره: عزم الله علينا عزمة، والعزمة الحق والواجب، وعزمة الله حقوقه وواجباته. قوله: "ليس لآل محمد منها شيء" تأكيد لقوله: "عزمة من عزمات ربنا" والمعنى: إن هذا حق وفرض من فرائض الله تعالى وليس لآل محمد من هذا الفرض شيء أي نصيب حتى يتركوا ما ينالهم. وفيه دليل على أن مانع الزكاة تؤخذ منه جبرًا، ويؤخذا أيضًا شطر ماله عقوبة عليه لامتناعه، ولكن كان هذا في أول الإِسلام ثم نسخ. واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- فيما أفسدت ناقته، فلم ينقل عن النبي -عليه السلام- في تلك القضية أن ضَعَّف الغرامة، بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط. وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن جابر بن يزيد الجعفي -فيه مقال كثير- عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 101 رقم 1575). (¬2) "المجتبى" (5/ 25 رقم 2449).

أبي الضحى مسلم بن صُبَيْح الكوفي العطار، عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث المسعودي، عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بيع المحفلات خلابة لا تحل خلابة المسلم". وقال البيهقي: هذا جاء بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله: ثم أخرجه من حديث الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود قال: قال عبد الله: "إياكم والمحفلات فإنها خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم". قوله: "أشهد على الصادق المصدوق" أراد به النبي -عليه السلام- فإنه هو الصادق في أقواله، المصدوق في نفسه من جهة غيره. و"المحفلات" جمع مُحَفَّلة -بضم الميم وتشديد الفاء- وهي الشاة أو البقرة أو الناقة لا يحلبها صاحبها أياما حتى يجتمع لبنها في ضرعها، فإذا احتلبها المشتري حسبها غزيرة فزاد في ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك نقص لبنها عن أيام تحفيلها، سميت محفلة لأن اللبن حُفِّل في ضرعها، أي جمع. قوله: "خِلابه" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، وهي الخداع والتغرير، وقال الجوهري: الخلابة: الخديعة باللسان، تقول منه خَلَبَه يَخْلُبُه بالضم، واختلبه مثله، وفي المثل: إذا لم تَغْلب فاخلب، أي: فاخدع. وفيه: دلالة على أن التصرية والتحفيل مكروه منهي عنها، وأن بائع المحفلات مخالف ما أمر به رسول الله -عليه السلام- وداخل فيما نهى عنه، فلأجل هذا كانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في هذه الأيام كانت تساوي جملة من الصيعان، فكانت فيه عقوبة للبائع بالمال، ولكن لما نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، ردت إلى ما ذكرنا من أن الحكم استقر على أن يؤخذ في الأموال مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت لا مثل لها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 317 رقم 10492).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: والذي قاله عيسى: من هذا يحتمل، غير أني رأيت في ذلك وجها، وهو أشبه عندي بنسخ هذا الحديث من غير هذا الوجه الذي ذهب إليه عيسى، وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتري منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعض في ملك البائع قبل الشراء، وبعضه حدث في ملك المشتري بعد الشراء؛ لأنه قد احتلبها مرة بعد مرة، فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا، إذا وجب نقص البيع في الشاة [وجب نقض البيع فيه، وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضًا، وحكمه حكم الشاة] (¬1) لأنه من بدنها، هذا على مذهبنا، وكان النبي -عليه السلام- قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي كان حلبه منها بالصاع التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة، وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه، فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر ودين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين. حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم -قال: أبو بكرة في حديثه قال: أنا موسى بن عبيدة، وقال ابن مرزوق في حديثه: عن موسى بن عبيدة الربذي، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" يعني الدين بالدين فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روي عنه في المصراة، مما حكمه حكم الدين بالدين. ش: هذا هو الوجه الثالث من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله الطحاوي من قوله واختاره على الوجهين الأولين، ملخص ذلك: أن حديث المصراة منسوخ بحديث النهي عن بيع الدين بالدين؛ وذلك لأن في المصراة على الوجه الذي ذكره الخصم بيع الدين بالدين، فيكون منسوخًا، وقد أوضح ذلك الطحاوي، فلا حاجة إلى تكراره. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

موسى بن عبيدة بن نشيط الرَّبَذي المدني، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وعن يحيى: موسى بن عبيدة ليس بالكذوب ولكنه يروي عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. روى له الترمذي وابن ماجه، والرَّبَذي بفتح الراء والباء الموحدة وبالذال المعجمة، نسبة إلى رَبَذة قرية من قرى مدينة الرسول -عليه السلام- وبها قبر أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث مقدام بن داود، ثنا ذؤيب بن عمامة، نا حمزة بن عبد الواحد، عن موسى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): بأتم منه: نا محمد بن معمر، نا بهلول، نا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الشغار، وعن بيع المجر، وعن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع عاجل بآجل" قال: والمجر: ما في الأرحام، والغرر: أن تبيع ما ليس عندك، وكالئ بكالئ: دين بدين، والآجل بالعاجل: أن يكون لك على الرجل ألف درهم، فيقول رجل أُعَجِّل لك خمسمائة ودع البقية، والشغار: أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لهما صداق، وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بهذا التمام. وأخرجه البيهقي أيضًا (¬3): من حديث الخصيب بن ناصح، نا الدراوردي، عن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" ثم قال: موسى هو ابن عبيدة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 290 رقم 10320). (¬2) ذكره البيهقي في "مجمع الزوائد" (4/ 81) وقال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 290 رقم 10316).

وقال ابن عدي أيضًا: هذا معروف موسى بن عبيدة، وقال البيهقي، ورواه عبيد الله بن موسى وزيد بن الحباب والواقدي عن سالم ثم ساقه البيهقي إليهم ثم قال: العجب من الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في "سننه" فقال عن الدراوردي عن موسى بن عقبة، وقال الذهبي: وكذا وهم غيره فيه. قوله: "الكالئ بالكالئ" أي النسيئة بالنسيئة وهو مهموز اللام يقال: كلأ الدين كلوءا فهو كالئ إذا تأخر، ومن قولهم: "بلغ الله بك أكلأ العمر" أي أطوله وأكثره تأخرا، وكلأته إذا أنسأته وبعض الرواة لا يهمز الكالئ تخفيفا. ص: ويقال للذي ذهب إلى العمل بما روي في المصراة ما قد ذكرناه في أول هذا الباب: قد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي ذئب (ح). وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الزنجي بن خالد، سمعته يقول: زعم لنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رجلاً اشترى عبدًا فاستغله، ثم رأى به عيبا فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرده بالعيب، فقال: يا رسول الله إنه قد استغله، فقال له: الغلة بالضمان". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا مطرف بن عبد الله، قال: ثنا الزنجي بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال: ثنا مسلم بن خالد ... فذكر بإسناد مثله.

فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول، وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها، ثم أصاب بها عيبًا غير التحصيل أنه يردها، ويكون اللبن له، وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته، ردها على البائع وكان الولد له، وكان ذلك عندك من الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان، فليس يخلو الصاع الذي توجبه على مشتري المصراة إذا ردها على البائع بالتصرية أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعض في ضرعها في وقت وقوع البيع، وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع، أو يكون عوضا من اللبن الذي كان في ضرعها في وقت البيع خاصة، فإن كان عوضا منهما فقد نقضت بذلك أصلك الذي جعلت به الولد واللبن للمشتري بعد الرد بالعيب؛ لأنك جعلت حكمهما حكم الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان. وإن كان ذلك الصالح عوضا عما كان في ضرعها في وقت وقوع البيع خاصة، والباقي سالم للمشتري لأنه من الخراج، فقد جعلت للبائع صاعًا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز في قولك ولا في قول غيرك، فعلى أي الوجهين كان هذا المعنى عليه عندك؟! فأنت به تارك أصلاً من أصولك، وقد كنت بالقول بنسخ هذا الحكم في المصراة أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن في حكم الخراج، وغيرك لا يجعله كذلك. ش: هذه إشارة إلى بيان فساد قول من يذهب إلى العمل بحديث المصراة الذي هو منسوخ بالوجوه التي ذكرناها، وأن القائلين به تاركون لأصلهم الذي يذهبون إليه، ومتناقضون في كلامهم، والمراد من هؤلاء هم الشافعية ومن تبعهم في هذا القول، والمراد من الخطابات في قوله: "وزعمت أنت" وقوله: "فقد نقضت بذلك أصلك"، وقوله: "الذي جعلت به الولد"، وقوله: "جعلت حكمهما" وقوله: "فقد جعلت" وقوله: "وقولك ولا في قول غيرك" وقوله: "عندك"، وقوله: "فأنت به تارك أصلا من أصولك" وقوله: "وقد كنت"، وقوله: "أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن"، وقوله: "وغيرك".

بيان الفساد المذكور أن النبي -عليه السلام- قد روي عنه أنه قال: "الخراج بالضمان"، وفي رواية: "الغلة بالضمان" يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو مُلكًا، وذلك أن تشتريه فتستغله زمانا ثم تعثر منه على عيب قد ثم لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، ومعنى قوله: "الغلة بالضمان" مثل معنى قوله: "الخراج بالضمان"، والغلة الدخل الذي يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والنتاج، والباء في قوله "بالضمان" للسببية، ومتعلقها محذوف تقديره: الخراج مستحق بسبب الضمان، والغلة مستحقة بسبب الضمان، ومحل الباء رفع على الخبرية، وقوله "الخراج" مبتدأ وكذا قوله "الغلة". ثم إن هؤلاء قد زعموا أن رجلاً لو اشترى شاه فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل والتصرية أنه يردها ويكون اللبن له، وكذلك لو اشترى جارية مثلًا فولدت عنده، ثم ردها على البائع لعيب وجد بها، يكون الولد له. قالوا: لأن ذلك من الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان، فإذا كان الأمر كذلك فالصاع من التمر الذي يوجبه هؤلاء على مشتري المصراة إذا ردها على بائعها بسبب التصرية والتحفيل، لا يخلو إما أن يكون عوضًا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعضه في ضرعها وقت البيع وحدث بعض في ضرعها بعد البيع. وإما أن يكون عوضا عن اللبن الذي كان في ضرعها وقت وقوع البيع خاصة. فإن أرادوا الوجه الأول فقد ناقضوا أصلهم الذي جعلوا به اللبن والولد للمشتري بعد الرد بالعيب في الصورتين اللتين ذكرناهما، وذلك لأنهم جعلوا حكمهما كحكم الخراج الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشتري بالضمان.

وإن أرادوا الوجه الثاني، فقد جعلوا للبائع صاعًا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم فأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلاً من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسخ الحكم في المصراة؛ لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج، وغيرهم لا يجعلون كذلك؛ فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه. فإن قيل: لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج، لأن اللبن ليس بغلة وإنما كان محفلا فيها، فلزم رده. قلت: هذا ممنوع؛ لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل على ما ذكرنا، وهو أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضًا يلزمهم على هذا أن يقولوا: برد عوض اللبن إذا ردَّ المصراة بعيب آخر غير النصرية؛ ولم يقولوا به. فإن قيل: هذا حكم خاص في نفسه، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام. قلت: هذا زعمك وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله -عليه السلام-: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس في الخضروات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأمثال ذلك كثيرة. ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- من خمس طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن مخلد -بفتح الميم وسكون الخاء- ابن خفاف -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء- ابن أيماء الغفاري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة -رضي الله عنها-.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي دواد، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): نا محمد بن [المثنى] (¬3) قال: نا عثمان بن عمرو وأبو عامر العقدي، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى أن الخراج بالضمان". وأخرجه النسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس ووكيع، كلاهما عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف ... إلى آخره نحوه. وهذان الطريقان حسنان جيدان. فإن قيل: كيف تقول هذا، وقد قال أبو حاتم: مخلد بن خفاف روى عن عروة عن عائشة: حديث "الخراج بالضمان" روى عنه ابن أبي ذئب ولم يرو عنه غيره. وليس هذا إسنادا تقوم بمثله الحجة. وقال ابن عدي: لا يعرف له غير هذا الحديث. وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء"، وقال: قال الأزدي: ضعيف. وقال البخاري: هذا حديث منكر، ولا أعلم لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث؟! قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الترمذي: بعد أن أخرج هذا الحديث عنه: هذا حديث حسن، وأشار الطحاوي أيضًا إلى تحسينه وقبوله، بقوله: "فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 284 رقم 3508). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 581 رقم 1285). (¬3) في "الأصل": بشار. وهو خطأ، والمثبت من "جامع الترمذي"، و"تحفة الأشراف" (2/ 119رقم 16755). (¬4) "المجتبى" (7/ 254 رقم 4490).

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن مسلم -المعروف بالزنجي- بن خالد بن قرقرة المكي شيخ الشافعي، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الزنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلاً اشترى غلاما في زمن النبي -عليه السلام- وفيه عيب لم يعلم به، فاستغله ثم علم بالعيب فرده، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمان، فقال رسول الله -عليه السلام-: الغلة بالضمان"، وفي رواية يحيى بن يحيى عن الزنجي: "الخراج بالضمان". الرابع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن مطرف بن عبد الله المديني شيخ البخاري، عن مسلم الزنجي، عن هشام بن عروة ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): نا إبراهيم بن مروان الدمشقي، قال: ثنا أبي، قال: نا مسلم بن خالد الزنجي، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلاً ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد عيبا، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- فرد عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال رسول الله -عليه السلام-: "الخراج بالضمان". الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن عبد العزيز ... إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬3) وابن ماجه (¬4) والبزار كلهم من حديث الزنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 321 رقم 10523). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 284 رقم 3510). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 80 رقم 24558). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 754 رقم 2243).

وهذه الطرق الثلاثة ضعيفة لأن فيها مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف، وقال البخاري: هو ذاهب الحديث. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو داود ويحيى: ضعيف. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وإنما سمي زنجيا لأنه كان شديد السواد، قاله سويد بن سعيد، وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: الزنجي إمام في الفقه والعلم، وكان أبيض مشربا بالحمرة، وإنما لقب بالزنجي لمحبته التمر، فقالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي؛ لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب والله أعلم. ثم إن الشافعي: استدل به أن كل ما حدث من غلة أو نتاج في ملك المشتري فهو للمشتري لا يرد من ذلك شيئًا، إذا رد المبيع لأجل العيب، وبه قال مالك: إلا في النتاج خاصة؛ فإنه يرده مع الأمهات، وقال أصحابنا في الدار والدابة والعبد: له الغلة ويرد بالعيب، وفي النخل والشجر والماشية: يرجع بالأرش ولا يرد، واختلفوا في المبيع إذا كانت جارية فوطئها ثم وجد بها عيبًا، فقال أصحابنا تلزمه ويرجع بأرش العيب. وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وقال مالك يردها إن كانت ثيبا ولا يرد معها شيئًا، وإن كانت بكرًا فعليه ما نقص من ثمنها، وقال الشافعي: ترد الثيب ولا شيء عليه، ولا ترد البكر ويرجع بما نقصها العيب من أجل الثمن. وقاس أصحابنا الغصب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب، ولم يجعلوا عليه رد الغلة، واحتجوا بعموم الحديث. وقال الخطابي: والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتتابعين بالتراضي، وليس الغصب بعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان، وأصله وفرعه سواء في وجوب الرد، ولفظ الحديث مبهم لأن قوله: "الخراج بالضمان" يحتمل أن يكون معناه أن يملك الخراج بضمان الأصل، ويحتمل أن يكون

المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل، واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين، والحديث في نفسه ليس بالقوي إلا أن الأكثر استعملوه في البيوع والأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه. قلت: ذهل الخطابي عن قولهم: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وقوله: "واقتضاء العموم ... " إلى آخره. غير سديد؛ لأنه يلزم أن تكون كذلك سائر الألفاظ العامة المحتملة للمعنيين أو المعاني، وليس كذلك. فافهم. ***

ص: باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى

ص: باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى ش: أي هذا باب في بيان حكم بيع الثمار قبل تناهيها وبدو صلاحها. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أخبرني يونس بن يزيد، قال: حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الثمر واشتراؤه حتى يبدو صلاحه". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة (ح). وحدثنا يزيد، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني عقيل، قالا جميعًا: عن ابن شهاب (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء -هو الغداني- قال: أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله، وزاد: "فكان إذا سئل عن صلاحها، قال: حتى تذهب عاهتها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قال: قلت: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: طلوع الثريا".

ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن أبي زرعة ... إلى آخره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث موسى بن داود، ثنا عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه". الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- ابن خالد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-: "نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه". ¬

_ (¬1) البخاري (2/ 766 رقم 2087)، ومسلم (3/ 1166 رقم 1534)، وأبو داود (3/ 252 رقم 3367)، والترمذي (3/ 529 رقم 1226)، والنسائي (7/ 264 رقم 4519، وابن ماجه (2/ 746 رقم 2214). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 304 رقم 10396). (¬3) "المجتبى" (7/ 262 رقم 4520).

الخامس: عن نصر بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى بن يحيى: أنا. وقال الآخرون-: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله ابن دينار، أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". السادس: عن محمد بن خزيمة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: نا زهير بن حرب، قال: نا عبد الرحمن، عن سفيان. ونا ابن مثنى، نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، كلاهما عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر ... بهذا الإسناد. وزاد في حديث شعبة: "فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته". السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني شيخ يحيى بن معين، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة بن المعتمر القرشي العدوي المدني، عن خاله عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير" (¬3) من حديث ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن ابن عمر: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى يؤمن عليها العاهة، قيل: ومتى ذلك يا عبد الرحمن؟ قال: إذا طلعت الثريا". قوله: "حتى يبدو صلاحه" وبدو صلاح الثمر يتفاوت بتفاوت الأثمار، فبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة ويظهر السواد في أسوده والبياض ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1166 رقم 1534). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1166 رقم 1534). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 300 رقم 10372).

في أبيضه، وكذلك العنب الأسود بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وأن ينحو أبيضه إلى البياض مع النضج، وكذلك الزيتون بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وبدو صلاح القثاء والفقوص أن ينعقد ويبلغ مبلغا يوجد له طعم، وأما البطيخ فإنه ينحو ناحية الاصفرار والطيب. وروى أصبغ عن أشهب: بدو صلاح البطيخ أن يؤكل فقوصا، قال أصبغ: فقوصا قد تهيأ ليتسطح. وأما الموز فروى أشهب وابن نافع عن مالك: أنه يباع إذا بلغ في شجره قبل أن يطيب، فإنه لا يطيب حتى ينزع. وأما الجزر واللفت والفجل والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استقل ورقه وتم وانْتُفِعَ به، ولم يكن في قلعه فساد. وقصب السكر إذا طاب ولم يكن كسره فسادًا والبر والفول والجلبان والحمص والعدس إذ يَبُس ذلك، والورد والياسمين وسائر الأنوار أن تتفتح كمامه ويظهر نَوْره، والقصيل والقصب والقرطم إذا بلغ أن يرعى دون فساد. قوله: "حتى تذهب عاهتها" أي الآفة التي تصيبها فتفسدها، يقال: عاه القوم، وأعوهوا إذا أصابت ثمارهم وماشيتهم العاهة، وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: الإزهاء في ثمر النخل أن تبدو فيها الحمرة والصفرة، وهو بدو الصلاح، وبذلك ينجو من العاهة، وذلك بعد أن تطلع الثُّرَيَّا مع طلوع الفجر في النصف الأخير من شهر بابه الأعجمي، ويقال: طلوعها صباحا عند أهل العلم بها لاثني عشرة ليلة تمضي لأيار وهو بابه، وحينئذ يبدو صلاح الثمار بالحجاز، والثريا النجم المعروف، وهو تصغير ثروى. فافهم. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليم بن حيان، قال: ثنا سعيد ابن ميناء، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى تُشْقِح، فقيل لجابر: فما تُشْقِح؟ [قال] (¬1): تحمر وتصفر، يؤكل منها". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري الثقة ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): نا أحمد بن عثمان النوفلي، قال: ثنا أبو عاصم. وحدثني محمد بن حاتم -واللفظ له- قال: ثنا روح، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَلِيم -بفتح السين وكسر اللام- ابن حَيَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد إلياء آخر الحروف- ابن بسطام الهذلي البصري، عن سعيد بن ميناء المكي، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سليم بن حيان، قال: حدثني سعيد بن ميناء، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تباع الثمرة حتى تُشْقِح؟ قيل: وما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار، ويؤكل منها". وأخرجه البخاري (¬4) ومسلم (¬5) أيضًا. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1167 رقم 1536). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 553 رقم 3370). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 766 رقم 2084). (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1175 رقم 1536).

قوله: "حتى تُشْقِح" من الإشقاح والتشقيح أيضًا، يقال: اشقحت البسرة، وشَقَّحت إشقاحا وتشقيحا، والاسم الشُّقْحَة، وقد فسره في الحديث بقوله: "أن تحمر أو تصفر". ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن وربيع الجيزي، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة". ش: عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ الشيخين وأبي داود. وخارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري، أبو ذر المدني، وقد ينسب إلى جده، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو داود: شيخ. روى له الترمذي والنسائي. وأبو الرجال -بالجيم- محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري المدني، قال أبو داود والنسائي وابن حبان: ثقة. وروى له غير أبي داود والترمذي. وأمه عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، ثقة تابعية، روى لها الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا الحكم، نا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا ثماركم حتى يبدو صلاحها، وتنجو من العاهة". ص: حدثنا محمد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا إبراهيم بن حميد الطويل، قال: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 70 رقم 24452).

ش: محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي الواسطي، قال الدارقطني: لا بأس به. وإبراهيم بن حميد الطويل وثقة أبو حاتم الرازي وكتب عنه، وصالح بن أبي الأخضر اليمامي فيه مقال، فعن يحيى بن معين: بصري ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو زرعة والنسائي: ضعيف الحديث. وروى له الأربعة. والزهري هو محمد بن مسلم، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري المدني، أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا إبراهيم بن حميد الطويل، ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الثمر حتى تطلع الثريا، ويبدو صلاحها". ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس بن القاسم، قال: حدثني أبي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- بيع المحاقلة والمزابنة والمخاضرة والملامسة والمنابذة، قال عمر: فسَّر لي أبي في المخاضرة قال: لا ينبغي أن يُشترى شيء من ثمر النخل حتى يونع، يحمر أو يصفر". ش: هذا إسناد صحيح ورجالة ثقات. وأخرجه البخاري (¬2) نحوه. غير أنه ليس فيه قال عمر ... إلى آخره. و"المحاقلة" هي اكتراء الأرض بالحنطة هكذا جاء مفسرًا في الحديث، وهو الذي يسميه الزرَّاعون المحارثة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 130 رقم 4845). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 754 رقم 2039).

وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: هي بيع الزرع قبل إدراكه، وهي مفاعلة من الحقل وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه، وقيل: هو من الحقل، وهي الأرض التي تزرع، ويسميه أهل العراق: القراح. وفي "الموطأ" (¬1): "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة والمحاقلة، والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل، والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة، وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: معنى قوله: "المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة" أنه يؤول إلى بيع الحنطة بالحنطة، جزافًا بجزافٍ، أو جزافًا بمكيل. وقال صاحب "العين": المحاقلة: بيع الزرع قبل بدو صلاحه، وقال سفيان: المحاقلة: بيع السنبل في الزرع بالحب. وأما "المزابنة": فقال ابن الأثير: هي بيع الرطب في رءوس النخل، بالتمر، وأصله من الزَّبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. وفي "شرح الموطأ": المزابنة اسم لبيع رطب كل جنس بيابسه ومجهول منه بمعلوم، ولعله مأخوذ من الزبن وهو الدفع عن البيع الشرعي، وعن معرفة التساوي. وقال ابن حبيب: الزبن والزبان هو الخطر والخطار، وقال مالك: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة، وتفسيرها: أنها كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده بيع بشيء من الكيل أو الوزن أو العدد، مثل أن يكون لرجل صبرة طعام حنطة أو تمر وشبه ذلك أو صبرة خبط أو نوى أو قصب أو عصفر أو كتان أو قزَّ لا يعلم كيل ذلك ولا وزنه ولا عدده، فيقول له رجل: كِل ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 625 رقم 1295).

سلعتك هذه، أو زِنْ ما يوزن، أو اعدد ما يعدّ من ذلك، فما نقص من كذا فَعَلَيَّ غرمه وما زاد فلي، أضمن ما نقص على أن يكون لي ما زاد، فليس ذلك بيعا ولكنه مخاطرة أو قمار. قال: ومن ذلك أن يكون له ثوب فيقول له رجل أضمن لك من ثوبك هذا كذا وكذا ظهارة، قدر كل ظهارة كذا أو يقول لرجل له جلود: أضمن لك من جلودك هذه نعالًا مائة، فما ينقص من ذلك كله فَعَلَيّ، وما زاد فلي، بما ضمنت لك، ومثله أن يقول لرجل له حب البان: اعصر حبك، فما نقص من كذا وكذا رطلا فعلي أن أعطيكه وما زاد فهو لي، أو يقول لرجل له خبط أو نوى أو غير ذلك: أبتاع منك هذا الخبط بخبط مثله، أو هذا النوى بكذا وكذا صاعًا من نوى مثله، أو في غير ذلك مثل هذا. فهذا كله من المزابنة التي لا تصح ولا تجوز، وقال الشافعي: المزابنة الجزاف بالمكيل، والجزاف بالجزاف فيما لا يجوز بعضه ببعض متفاضلاً، يدًا بيدٍ ونحوه نقل عن أحمد، وقال أصحابنا: المزابنة: بيع الرطب على النخل بتمر مجزوز مثل كيله خرصًا وهو بيع فاسد، وقال الشافعي: يجوز فيما دون خمسة أوسق، وبه قال أحمد، وله في الخمسة قولان، وفي الزائد يبطل قولاً واحدًا. قوله: "والمخاضرة" بالخاء والضاد المعجمتين، وهي بيع الثمار خاضرًا لم يبد صلاحها. وقال أبو عمر: المزابنة عام؛ لأنها تطلق على اشتراء التمر بالتمر، وعلى اشتراء الزرع بالحنطة، وعلى بيع تمر حائط إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما بزبيب كيلا، وإن كان زرعا بكيلٍ طعاما، والمحاقلة خاص في الزرع، والمخاضرة خاص في الخضرة. قوله: "والملامسة" وهي أن يقول إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المباع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه، نهى عنه؛ لأنه غرر، أو لأنه تعليق أو عدول عن الصيغة

الشرعية، وقيل: معناه أن يجعل اللمس بالليل قاطعا للخيار ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم، وهو غير نافذ، وقال مالك في "الموطأ" (¬1): والملامسة: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلاً ولا يعلم ما فيه. قوله: "والمنابذة" وهي أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك فيجب البيع، وقيل: هي أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع فيكون البيع معاطاة من غير عقد ولا يصح، يقال: نبذت الشيء انبذه نبذا، فهو منبوذ إذا رميته وأبعدته. وقال مالك (1): المنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما هذا بهذا. وقال أصحابنا: كانت بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة بيوعا للجاهلية، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك. وبيع الحصاة أن تكون ثياب مبسوطة فيقول المبتاع للبائع: أي ثوب من هذه وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم. فهذا كله وما كان مثله غرر وقمار. قوله: "وحتى يونع" من أينع الثمر ويُونِع ويَنَعَ، يَيْنع وينع فهو مُونِع ويَانِع، إذا أدرك ونضج، وأَيْنَعَ أكثر استعمالا. قوله. "يحمر أو يصفر" تفسير لقوله يونع. ص: حدثنا إبراهيم بن محمد أبو بكر الصيرفي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن العنب حتى يسود، وعن الحب حتى يشتد". ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 666 بعد رقم 1346).

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى تزهو فقلت لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ ". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع ثمرة النخل حتى تزهو، قيل له: ما تزهو؟ قال: تحمر وتصفر". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتبايعوا الثمار حتى تزهو، قلنا: يا رسول الله، وما تزهو؟ قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " ش: هذه أربع طرق أخرى عن أنس، وهي أيضًا صحاح: الأول: عن إبراهيم، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا عبد الله بن عبد الرحمن الحرضي، أنا أبو بكر بن مقسم المقرئ، ثنا موسى بن الحسن، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا حميد، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، وعن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود". الثاني: عن نصر بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) من حديث إسماعيل، عن حميد، عن أنس، نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 301 رقم 10378). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 766 رقم 2085). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1190 رقم 1555).

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) نحوه. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) من حديث مالك، عن حميد، عن أنس، نحوه. وكذا أخرجه النسائي (¬4): عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. قوله: "حتى يزهو" وفي رواية: "حتى يزهى" يقال: زها النخل يزهو، إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يزهي إذا احمر واصفر، وقيل هما بمعنى الاحمرار والاصفرار، ومنهم من أنكر يزهو، ومنهم من أنكر يزهي. وقال ابن حبيب: لثمرة النخل سبع درجات، الطلع ثم يتفتح الزهر عنه فيكون إغريضًا ثم يذهب عنه بياض الإغريض ويعظم حبَّه وتعلوه خضرة فيكون بلحًا، ثم تعلو الخضرة حمرة فيكون زهوًا، ثم يصفر فيكون بسرًا، ثم تعلو الصفرة كدرة وتنضج الثمرة فتكون رطبا، ثم ييبس فيكون تمرًا". قوله: "حتى يزهو" غاية النهي، فإذا وقع الزهو، وقعت الإجازة على الإطلاق بخلاف ما قبل الزهو، فإنه نهى عن ذلك أيضًا مطلقا، ولم تجر في ذلك عادة واضحة، فوقع الاضطراب لذلك. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد وأبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 115 رقم 12159). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 766 رقم 2086). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1190 رقم 1555). (¬4) "المجتبى" (7/ 264 رقم 4526).

ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح، ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري وسعيد هو ابن المسيب، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة -واللفظ لحرملة- قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس [عن ابن شهاب] (¬2) قال: حدثني سعيد ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الفصل عن ستة من الصحابة -رضي الله عنه-، وهم: عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبو هريرة -رضي الله عنهم-. ولما أخرج الترمذي (¬4) حديث ابن عمر في هذا الباب قال: وفي الباب عن أنس وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وجابر وأبي سعيد وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-. قلت: لم يَفُت الطحاوي ممن ذكرهم إلا حديث أبي سعيد. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطحاوي في هذا الباب على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬5): ثنا أبي، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، نا ابن هبيرة، عن حنش بن عبد الله، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 168 رقم 1539). (¬2) ليس في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "المجتبى" (7/ 263 رقم 4521). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 529 رقم 10227). (¬5) "مسند أحمد" (3/ 15 رقم 11126) وهو كما ترى من "مسند أحمد، وليس من زوائد ابنه عبد الله عنه. فالله

أبي سعيد الخدري -قال أبي: ليس مرفوعا- قال: "لا يصلح السلف في القمح والشعير والسلت حتى يفرك، ولا في العنب والزيتون وأشباه ذلك حتى يمجج، ولا ذهبا عينا بورق دينا، ولا ورق دينا بذهب عينا". قوله: "حتى يمجج" من قولهم مَجَّج العنب يُمَجِّج إذا طاب وصار حلوا، ومنه الحديث: "لا تبع العنب حتلى يظهر مججه" أي بلوغه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فزعموا أن الثمار لا يجوز بيعها في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري وابن أبي ليلي والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجوز بيع الثمار في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: وإذا وقع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط الجد فلا خلاف في جوازه، وإن شرط التبقية فلا خلاف في منعه إلا ما روي عن يزيد بن أبي حبيب في العريَّة، وإن أطلق البيع فالمشهور عن مالك منعه، وبه قال الشافعي. وروى ابن القاسم عن مالك في البيوع الفاسدة من "المدونة": جوازه ويكون مقتضاه الجذ وبه قال أبو حنيفة، ولا يباع الزرع إذا أفرك ولا الفول إذا اخضر، ولا الحمص ولا الجلبان إلا بشرط القطع؛ لأن المقصود منه اليبس، وإنما يؤكل اليسير أخضر كما يؤكل البلح، وعل هذا عندي حكم الجوز واللوز والفستق، فإن بيع الفول أو الحنطة أو العدس أو الحمص على الإطلاق قبل يبسه وبعد أن أفرك، فقال ابن عبد الحكم: يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وروى يحيى عن ابن القاسم يفوت باليبس ويمضي. وقال مالك في "المدونة": أكرهه، فإذا وقع وفات فلا أرى أن يفسخ، قال أبو محمد: معناه يفوت بالقبض، وروى محمد عن مالك: إن ترك لم أفسخه، وظاهره أنه يمضي بنفس العقد وإذا كانت النخل في جهة واحدة، فبدا الصلاح

في نخلة منها؛ جاز بيع ذلك الصنف كله، وكذلك إذا بدا صلاح نوع؛ جاز بيع سائر أنواع ذلك الجنس مما يقرب منه في بدو الصلاح، وإن لم يبد صلاح تلك الأنواع. وقال مالك: لا يجوز بيع التين بطيب الباكور منه حتى يطيب أول تين العصير، ويكون طيبه متتابعا. وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط، وإن لم يره إذا أزهى ما حوله، وكان الزمن قد أمنت فيه العاهة -يعني بطلوع الثريا- وقال ابن القاسم: أحب إلى أن لا يبيعه حتى يزهي؛ لنهيه -عليه السلام- عن ذلك، ولا أراه حراما، وقال أيضًا في "شرح الموطأ": ولا يباع جنس من الثمار ببدو صلاح جنس آخر، خلافا لليث بن سعد، وإذا بدا صلاح نخلة في حائط جاز بيعه وبيع ما حواليه من الحوائط مما يكون كحاله في التبكير والتأخير خلافًا لمطرف من أصحابنا وللشافعي، ولا خلاف أنه لا يجوز أن تفرد الحنطة في سنبلها بالشراء دون السنبل، وكذلك الجوز واللوز والباقلاء لا يجوز أن يفرد بالبيع دون قشره على الجزاف ما دام فيه، وأما شراء السنبل إذا يبس ولم ينقعه الماء فجائز، وكذلك الجوز والباقلاء، وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك. وقال مالك: الأمر عندنا في بيع البطيخ والقثاء والخربز والجزر أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما نبت حي ينقطع ثمره ويهلك، وليس في ذلك وقت يوقت؛ وذلك أن وقته معروف عند الناس، وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه. ثم قال ابن زرقون: هذا قول مالك وأصحابه، وقال الشافعي والكوفيون وأحمد وإسحاق: لا يجوز بيع شيء من ذلك إلا بطَنَا بعد بطن، ولا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما خلق ولم تقدر على قبضه في حين البيع، ولا بيع ما خُلق وقُدر

عليه إذا لم ينظر إليه قبل العقد، وكذلك بيع كل مغيب في الأرض مثل الجزر والبصل. وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: ما يباع من هذا فعلى ثلاثة أضرب: ضرب تتميز بطونه ولا تتصل كشجر التين والنخيل والورد والياسمين والتفاح والرمان والجوز؛ فهذا الايباع ما لم يظهر من بطونه بظهور ما ظهر منها، وبدا صلاحه، وحكم كل بطن منها مختص به. وضرب تتميز بطونه ويتصل كالقصيل والقصب والقرط بإطلاق العقد في هذا يتناول ما ظهر منه دون ما لم يظهر، ويكون خلفته لمن له أصله لأنه لم يبعه أصله، ولذلك لا يجوز له تبقيته إلى أن يبدو صلاحه، فإن شرط المبتاع خلفته فروى محمد عن أشهب عن مالك فيها روايتين: إحداهما: أنه يجوز إذا كان لا يختلف وإن كان يختلف فلا أحب اشتراطها. والثانية: أنه قال: ما هذا عندي بحسن؛ لأنها مختلفة. وضرب لا تتميز بطونه ولكنه يتصل فيتقدر بالزمان كالمياه وألبان الغنم، وأما الموز فقال محمد بن سلمة يباع سنين كألبان الغنم يباع إذا ولدت شهرا أو شهرين، وأما الجميز فقال محمد عن مالك: إن كان نباته متصلا فهو مثل المقاتي، وإن كان منفصلا فلا خير فيه والسدر كذلك. وفي "شرح الموطأ" وفي نهيه -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها دليل على جواز بيعها بعد ذلك في رءوس الأشجار وإن لم تصرم. وعك ذلك جماعة العلماء، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة: لا يجوز بيع الثمرة في رءوس الشجر قبل أن تصرم. وفي "المحلى" (¬1) لابن حزم: فإذا سنبل الزرع لا يحل بيعه أصلا على القطع ولا على الترك إلا حتى يشتد، فإذا اشتد حل بيعه حينئذ، وروى ذلك عن ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 404 - 408).

الحسن وابن سيرين وعكرمة أيضًا، قال: ومنع أبو حنيفة ومالك والشافعي من بيع القصيل حتى يصير حبا يابسًا. وقال سفيان الثورى وابن أبي ليلى: لا يجوز بيع القصيل لا على القطع ولا على الترك، واختلفوا إن ترك الزرع فزاد، فقال مالك: يفسخ البيع جملة. وقال أبو حنيفة: للمشتري المقدار الذي اشترى ويتصدق بالزيادة، وروي عنه أنه رجع فقال: للمشتري المقدار الذي اشترى، وأما الزيادة فللبائع. وقال الشافعي: البائع غير بين أن يدع له الزيادة فيجوز البيع والهبة معا أو يفسخ البيع. وقال أبو سليمان: الزيادة للمشتري مع ما اشترى. وقال ابن حزم أيضًا: ويجوز بيع ما ظهر من المقاثي وإن كان صغيرًا جدًّا؛ لأنه يؤكل، ولا يحل بيع ما لم يظهر بعد من المقاثي والياسمين والموز وغير ذلك، ولا جزة ثانية من القصيل؛ لأن كل ذلك بيع ما لم يخلق، ولعله لا يخلق، وإن خلق فلا يدري أحد غير الله ما كميته ولا ما صفاته؛ فهو حرام بكل وجه، وبيع غرر وأكل مال بالباطل. وأجاز مالك كل ذلك، وما نعلم له في تخصيص هذه الأشياء سلفًا ولا أحدًا قاله غيره قبله، ولا حجة، واحتج بعضهم باستئجار الطير، وهذا تحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه، وأين الاستئجار من البيع، ثم أين اللبن المرتضع من القثاء والياسمين، وهم يحرمون بيع لبن شاة قبل حلبه، ولا يقيسونه على الطير، ثم يقيسون عليه بيع القثاء والموز والياسمين قبل أن يخلق. ومن طريق سعيد بن منصور: ثنا هشيم، أنا يونس بن عبيد، عن الحسن: "أن كره بيع الرطب جزتين". ومن طريق ابن أبي شيبة: نا شريك، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي والشعبي، قالا جميعًا: "لا بأس ببيع الرطاب جزة جزة". ومن طريق وكيع، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة قال: "سألت عطاء عن بيع الرطبة جزتين، فقال: لا يصلح إلا جزة".

ومن طريق وكيع عن محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أنه كره بيع القصب والحناء إلا جزة، وكره بيع الخيار والحزبز إلا جنية". ومن طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن ابن أشوع والقاسم: "أنهما كرها بيع الرطاب إلا جزة". وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي سليمان وغيرهم. وقال الشيخ محي الدين: في "الروضة" (¬1): فإذا باع ثمرة لا كمام لها كالتين والعنب والكمثرى جاز، سواء باعها على الشجرة أو على الأرض، ولو باع الشعير أو السلت مع سنبله جاز بعد الحصاد وقبله؛ لأن حباته ظاهرة، ولو كان للثمر أو الحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والعلس فكمثل، وأما ما له كمامان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج فيجوز بيعه في القشر الأعلى مادام رطبا وبيع الباقلاء في القشر الأعلى فيه على هذا الخلاف، وادعى إمام الحرمين أن الظاهر فيه الصحة؛ لأن الشافعي أمر أن يشتري له الباقلاء الرطب. وقال النووي: المنصوص في "الأم": أنه لا يصح بيعه، وقال صاحب "التهذيب" وغيره: هو الأصح. وقطع به صاحب "التنبيه" هذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبا، فإن بقي في قشره الأعلى فيبس؛ لم يجز بيعه وجهًا واحدًا، وقيل: يصح. ويصح بيع طلع النخل مع قشره في الأصح، وأما ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والسمسم فما دام في سنبلة لا يجوز بيعه مفردًا عن سنبله قطعًا، ولا معه على الجديد الأظهر، كبيع تراب الصاغة، وكبيع الحنطة في تبنها، فإنه لا يصح قطعًا. وفي الأرز طريقان: المذهب أنه كالشعير فيصح بيعه في سنبله، وقيل: كالحنطة. ¬

_ (¬1) "روضة الطالبين" (1/ 478).

ولا يصح بيع الجزر والثوم والبصل والفجل والسلعق في الأرض، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع، ويجوز بيع القنبيط في الأرض لظهوره، وكذا نوع من السَّلجم يكون ظاهرًا. ويجوز بيع اللوز في القشر الأعلى قبل انعقاد الأسفل. وفي "الحاوي" في فقه أحمد: ويجوز بيع الزرع المسند في سنبله سواء كان الحب ظاهرًا كالشعير أو في عصفره كالحنطة، ويجوز بيع الباقلاء والجوز واللوز والفستق والبندق في قشرته والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: هذه الآثار كلها عندنا ثابتة صحيح مجيئها، فنحن آخذون بها غير تاركين لها، ولكن تأويلها عندنا غير ما تأولها عليه أهل المقالة الأولى، واحتمل أن يكون أراد به بيع الثمار قبل أن تكون، فيكون بائعها بائعًا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في نهيه عن بيع السنين. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين". قال يونس: قال لنا سفيان: "هو بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها". حدثنا ربيع الجيزي وابن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا كهمس بن المنهال، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب: "قال نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع السنين". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن عفير، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريح، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر حتى يطعم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن أبي البختري قال: "سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يأكل منه، أو حتى يؤكل منه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البختري الطائي يقول: "سألت ابن عباس عن السلَم، فقلت: إنا ندع أشياء لا نجد لها في كتاب الله -عز وجل- تحريمًا، فقال: إنا نفعل ذلك؛ نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يؤكل منه". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الفضل ابن فضالة، عن خالد: "أنه سمع عطاء بن أبي رباح عن الرجل يبيع ثمرة أرضه رطبا كان أو عنبا، يسلف فيها قبل أن تطيب، فقال: لا يصلح؛ إن ابن الزبير -رضي الله عنهما- باع ثمرة أرض له ثلاث سنين، فسمع بذلك جابر بن عبد الله الأنصاري، فخرج إلى المسجد فقال في أناس: منعنا رسول الله -عليه السلام- أن نبيع الثمرة حتى تطيب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: "سألت ابن عمر -رضي الله عنهما- عن السلف في الثمر، فقال: نهى عمر - رضي الله عنه- عن بيع الثمر حتى يصلح". فدلت هذه الآثار التي ذكرناها على الثمار المنهي عن بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها ما هي، وأنها المبيعة قبل كونها المسلف عليها، فنهى عن ذلك رسول الله -عليه السلام- حتى تكون، وحتى يؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلم فيها، أَوَلا ترى أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سأله أبو البختري عن السلم في النخل كان جوابه له في ذلك ما ذكر في حديثه من النهي عن بيع الثمار حتى تطعم، فدل ذلك على أن النهي إنما وقع في الآثار التي قدمنا ذكرها في هذا الباب على بيع الثمار قبل أن تكون ثمارًا، ألا ترى إلى قول النبي -عليه السلام-: "أرأيت إن منع الله الثمرة. بما يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ".

فلا يكون ذلك إلا على البيع من ثمرة لم يكن أن تكون، وإنما الذي في هذه الآثار هو النهي عن السلم في الثمار في غير حينها، وهذه الآثار تدل على النهي عن ذلك، فاما بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، فإن ذلك عندنا جائز صحيح. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا في رواية وأحمد في قول، فإنهم قالوا: بيع الثمار على الأشجار بعد ظهورها جائز، وحججهم في ذلك إن شاء الله تعالى: قوله: "فقالوا هذه الآثار ... " إلى آخره جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الآثار المذكورة، بيان ذلك أن الأحاديث المذكورة عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- أحاديث صحيحة لا نزاع في صحتها ولا يتمكن أحد من ردها، ونحن آخذون بها غير تاركين لها، وإنما تأويلها عندنا على غير الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى، وهو أن المراد به بيع الثمار قبل كونها، وقبل أن تخلق، وذلك لأنه حينئذ يكون بائعًا لما ليس عنده، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك وهو نهيه عن بيع سنين، وإنما نهى عن ذلك لأنه من المعلوم أن ثمرة السنة، والثانية والثالثة لم تخلق، فهي لو خلقت ولم يَبْدُ صلاحها لم يجز العقد عليها، فإذا لم تخلق فأولى أن لا يجوز، ووردت آثار أخرى دلت على الثمار المنهي [عن] (¬1) بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها ما هي، وأنها هي التي تباع قبل كونها ويسلف عليها، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك حتى تكون وتخلق ويؤمن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلف -وهو السلم- فيها، ومن الدليل على صحة ما أولنا من التأويل المذكور: قوله -عليه السلام- في حديث أنس -رضي الله عنه-، الذي هو من جملة حجج أهل المقالة الأولى: "أرأيت إن منع الله الثمر، بما يستحل أحدكم مال أخيه" فهذا يدل صريحًا على أن البيع كان قبل كون الثمار، وقبل أن تخلق، فإذا كان الأمر كذلك لم ¬

_ (¬1) في "الأصل": "عنها".

يبق في الأحاديث المذكورة طريق إلى صحة استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وأما استدلالنا نحن فيما ذهبنا إليه من جواز بيع الثمار على الأشجار بعد ما ظهرت، فبأحاديث وأخبار يأتي ذكرها عن قريب، إن شاء الله تعالى. ثم إنه أخرج حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن حميد بن قيس الأعرج المكي أبي صفوان القارئ الأسدي، عن سليمان بن عتيق الحجازي المكي -ويقال: ابن عتيك وهو وهم- عن جابر بن عبد الله. وهذا على شرط مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): نا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: نا سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن بيع السنين" وفي رواية ابن أبي شيبة: "عن بيع الثمر سنين". وأخرجه أبو داود (¬2): أيضًا بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره، وفي آخره: "ووضع الجوائح". وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة بن سعيد، نا سفيان، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيك -قال قتيبة: عتيك بالكاف، والصواب عتيق- عن جابر، عن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر سنين. قلت: معناه أن يبيع الرجل ثمرة حائطه سنين، وهو الذي يسمى أيضًا بيع المعاومة، وفيه دلالة على أن بيع الإنسان ما ليس عنده باطل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1178 رقم 1536). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 254 رقم 3374). (¬3) "المجتبى" (7/ 266 رقم 4531).

الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج وإبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما عن عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري أبي عثمان المصري من رجال مسلم، عن كهمس بن المنهال السدوسي أبي عثمان البصري اللؤلؤي، قال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، أدخله البخاري في كتابه "الضعفاء" يحول منه. وذكره ابن حبان في "الثقات" قال: وكان يقول بالقدر. روى له البخاري حديثًا واحدًا مقرونا بغيره. وهو يروي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، قال أبو بكر البزار: يقال: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديثا واحدًا، وهو ما حدثناه إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، عن قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي محمد بن سيرين: "سل الحسن ممن سمع الحديث في العقيقة، فسألته فقال: من سمرة -رضي الله عنه-" وقال الترمذي: قلت للبخاري في قولهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، قال سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عنه سماعًا وصححها. وأخرج حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم من مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الجُملي الكوفي الأعمى أحد مشايخ أبي حنيفة، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناه من فوق وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي روى له الجماعة. عن عبد الله بن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): نا محمد بن مثنى، وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: "سألت ابن عباس ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1167رقم 1537).

عن بيع النخل، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع النخل حتى يأكل منه -أو يؤكل- وحتى يوزن، فقلت: ما يوزن، فقال رجل عنده: حتى يحرز". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغذاني، عن شعبة ... إلى آخره. قوله: "حتى يأكل منه" على صيغة المعلوم أي حتى يأكل البائع منه. قوله: "أو حتى يؤكل منه" شك من الراوي. وأخرج حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب ابن جرير، عن شعبة ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. ص: والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". حدثنا يزيد، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اشترى عبدًا ولم يشثرط ماله فلا شيء له، ومن اشترى نخلا بعد إبارها ولم يشترط الثمر فلا شيء له". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن ابن عمر: "أن رجلاً اشترى نخلا قد أبرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- فقضى رسول الله -عليه السلام- أن الثمرة لصاحبها الذي أبرها إلا أن يشترط المشتري". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فجعل النبي -عليه السلام- في هذه الآثار، ثمر النخل لبائعها إلا أن يشترط مبتاعها، فيكون له باشتراطه إياها ويكون بذلك مبتاعًا لها.

فقد أباح النبي -عليه السلام- ها هنا بيع ثمرة في رءوس النخل قبل بدو صلاحها، فدل ذلك أن المعنى المنهي عنه في الآثار الأُول هو خلاف هذا المعنى. ش: أي الدليل على جواز بيع الثمار في أشجارها بعد ما ظهرت: ما جاء عن النبي -عليه السلام- من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وهو ما أخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- ... إلى آخره نحوه. وأخرجه بقية الجماعة (¬2). الثاني: عن يزيد أيضًا، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه ... إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬3): عن عبد الله بن مسلمة، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد المخزومي المكي، عن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1173 رقم 1543). (¬2) البخاري (2/ 838 رقم 2250)، وأبو داود (3/ 268 رقم 3433)، والترمذي (3/ 546 رقم 1244)، والنسائي (7/ 297 رقم 4636)، وابن ماجه (2/ 746 رقم 2211). (¬3) "سنن الدارمي" (2/ 330 رقم 2561).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "أيما رجل باع مملوكا له مال فماله لربه الأول، إلا أن يشترط المبتاع، وأيما رجل باع نخلا قد أينعت فثمرتها لربها الأول إلا أن يشترط المبتاع". قوله: "من ابتاع نخلة" أي من اشترى نخلا، وذكر النخل ليس بقيد وإنما ذكرها لأجل أن سبب ورود الحديث كان في النخل، وهو الظاهر بدلالة قوله: "أن رجلاً اشترى نخلا قد أبَّرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- ... الحديث، وإما لأن الغالب في أشجارهم كان النخل. فافهم. قوله: "بعد أن تؤبر" من التأبير وهو التلقيح (¬2)، يقال: أبَّرت النخلة -بالتشديد- وأبَّرتها -بالتخفيف- فهي مؤبرة ومأبورة. قال القاضي: التأبير في النخل كالتذكير لها، وهو أن يجعل في طلعها أول ما يطلع من طلع فحل النخل أو يعلق عليه لئلا يسقط، وهو اللقاح أيضًا، وقال ابن حبيب: الإبار: شق الطلع عن الثمرة. قوله: "بعد إبارها" بكسر الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وهو اسم من أَبَرَت النخلة، ومعناه ما ذكرنا. ويستفاد من أحكام: الأول: ما ذكره الطحاوي وهو أنه يدل علي جواز بيع الثمرة على رءوس النخل قبل بُدُوِّ صلاحها؛ وذلك لأنه -عليه السلام- جعل في هذه الآثار ثمر النخل للبائع عند عدم اشتراط المشتري، فإذا اشترط المشتري ذلك يكون له، ويكون المشتري مشتريا لها أيضًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 325 رقم 10548). (¬2) وقال في "عمدة القاري" (12/ 10): وهو التشقيق والتلقيح، ومعناه: شق طلع النخلة الأنثى، ليُذِرَّ فيه شيء من طلع النخلة الذكر. ونقل عن القرطبي قال: وإبار كل ثمر بحسبه، وبما جرت عاداتهم فيه. بما يثبت ثمره ويعقده، وقد يعبر بالتأبير عن ظهور الثمرة وعن انعقادها.

الثاني: استدلت به المالكية على كون الثمرة مع الإطلاق للبائع بعد الإبار إلا أن يشترط، وأنها قبل الإبار للمشتري. قلت: إنما قالوا كذلك لأن مالكا يرى أن ذكر الإبار ها هنا لتعليق الحكم عليه ليدل على أن ما عداه بخلافه. وقال أبو حنيفة: تعليق الحكم به إما للتنبيه به على ما لا يؤبر أو لغير ذلك، ولم يقصد به نفي الحكم عما سوى الحكم المذكور. وقال القاضي عياض: الثمرة قبل الإبار تشبه الجنين قبل الوضع، وبعد الإبار تشبه الجنين بعد الوضع، فكما كانت الأجنة قبل وضعها للمشتري، وبعد وضعها للبائع، وجب أن يجري الثمر هذا المجرى، وأما إذا لم تؤبر، وثبت أنها للمشتري، فهل يجوز للبائع أن يشترطها؟ المشهور في المذهب عندنا: أن ذلك لا يجوز، وبالإجازة قال الشافعي، وتلخيص مآخذ اختلافهم في الحديث: أن أبا حنيفة استعمل الحديث لفظا ومعقولا، واستعمله مالك والشافعي لفظا ودليلا ولكن الشافعي يستعمل دلالته من غير تخصيص ويستعملها مالك مخصصة. وبيان ذلك: أن أبا حنيفة جعل الثمرة للبائع في الحالين وكأنه رأى أن ذكر الإبار تنبيه على ما قبل الإبار، وهذا المعنى يسمي في الأصول معقول الخطاب، واستعمله مالك والشافعي على أن المسكوت عنه حكم غير حكم المنطوق وهذا يسميه أهل الأصول: دليل الخطاب. الثالث: قال مالك: إذا لم يشترط المشتري الثمرة في شراء الأصل جاز له شراؤها بعد شراء الأصل، وهذا مشهور قوله، وعنه أنه لا يجوز له إفرادها بالشراء ما لم تطب. وهو قول الشافعي، والثوري وأهل الظاهر وفقهاء أصحاب الحديث. وأبو حنيفة يراها إذا لم يشترطها المشتري قبل الإبار، وبعده إذا كانت قد ظهرت للبائع إلا أن عليه قلعها لحينه، وليس عليه تركها للجذاذ والقطاف فمتى اشترط بقاءها فسد عنده البيع.

وقال محمد بن الحسن: إلا أن يكون بدا صلاحها فيجوز له اشتراط بقاءها، وقد خالف ابن أبي ليلي هذا الحديث وقال: سواء أبرت أو لم تؤبر الثمرة للمشتري، اشترط أو لم يشترط. وقال أبو عمر: وأما ابن أبي ليلى فإنه رد هذا الحديث جهلا به، وأما أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي فلا يفرقون بين المؤبر وغيره، ويجعلون الثمرة للبائع أبدًا إذا كانت قد ظهرت ولم يشترطها المبتاع قبل البيع. الرابع: استدل به أشهب من المالكية على جواز اشتراط بعض الثمر، وقال: يجوز لمن ابتاع نخلا قد أبرت أن يشترط من الثمرة نصفها أو جزءًا منها، وكذلك في مال العبد؛ لأن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه، وما لم يدخل الربا في جميعه فأحرى أن لا يدخل في بعضه، وقال أبو عمر: قال ابن القاسم: لا يجوز لمبتاع النخل المؤبر أن يشترط منها جزءًا، وإنما له أن يشترط جميعها لا يشترط شيئًا منها. الخامس: استدلت به أصحابنا على أن من باع رقيقا وله مال، أن ماله لا يدخل في البيع ويكون للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وعلى هذا يقتضي القياس أن لا تدخل ثياب بدنه كما لا يدخل اللجام والسرج والعذار في بيع الدابة؛ لأن العبد وما في يده لمولاه، ولكنهم استحسنوا في ثياب البذلة والمهنة وهي التي يلبسها في اليوم والليلة لتعامل الناس وتعازفهم. وأما الثياب النفيسة التي لا يلبسها إلا عند العرض للبيع فلا تدخل في البيع؛ لانعدام التعارف في ذلك فبقي على أصل القياس، وكذا لو أعتق عبده على مال فماله لمولاه، وكذا لو أعتق مدبره أو أم ولده ولو كانت عنده فما كان له من المال وقت الكتابة يكون لمولاه، وما اكتسبه بعد الكتابة يكون له. وقال أبو عمر: لا أعلم خلافا عن مالك وأصحابه أنه يجوز أن يشتري العبد وماله بدراهم إلى أجل، وإن كان ماله دراهم ودنانير وعروضًا، وأن ماله كله

تبع، وكان الشافعي يقول ببغداد في كتابه "البغدادي" كقول مالك، هذا حكاه عنه الحسن بن محمد الزعفراني، وهو قول أبي ثور أيضًا، وقال الشافعي بمصر في كتابه "المصري" -ذكره عنه الربيع والمزني والبويطي- لا يجوز اشتراط مال العبد إذا كان له مال فضة فاشتراه بفضة أو ذهب فاشتراه بذهب إلا أن يكون ثمنه خلاف الثمن، أو يكون عروضًا كما يكون في سائر البيوع، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن يباع العبد بألف درهم وله ألف درهم، حتى يكون مع الألف زيادة فيكون الألف بالألف وتكون الزيادة ثمنا للعبد، وقال أيضًا: قال الحسن والشعبي: مال العبد تبع له أبدا في البيع والعتق جميعًا، لا يحتاج مشتريه فيه إلى اشتراط، وهذا قول مردود بالسنة لا يُعَرَّج عليه. وقال مالك والزهري وأكثر أهل المدينة: إذا أعتق العبد تبعه ماله، وفي البيع لا يتبعه فيه وهو لبائعه، وقال الشافعي بمصر والكوفيون: إذا أعتق العبد أو بيع؛ لم يتبعه ماله، ولا مال له ولا ملك إلا مجازًا أو اتساعًا لا حقيقة. وقال القاضي عياض: قال الإِمام مالك: العبد يزول عن سيده على أربعة أوجه: الأول: بعقد معاوضة كالبيع والنكاح، فالمال في ذلك للسيد إلا أن يشترط عليه، خلافا للحسن والزهري في قولهم: إن المال يتبع العبد في البيع، وهذا الحديث يرد عليهما. الثاني: العتق وما في معناه من العقود التي تفضي [إلى] (¬1) العتق وتسقط النفقة عن السيد كالكتابة، فالمال للعبد إلا أن يشترط؛ خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه للسيد في العتق. الثالث: الكتابة فالمال فيها يتبع الرقبة وينتقل بانتقالها. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

الرابع: الهبة والصدقة، وفيها قولان عندنا، والله أعلم. ومن أحاديث هذا الباب التي فاتت الطحاوي -رحمه الله-: حديث عبادة بن الصامت، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-. أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه ابن ماجه (¬1) بإسناده إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع، وقضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع". وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬2) فقال: وجدت في كتاب أبي، أنا الحكم بن موسى، قال: عبد الله: وحدثناه الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة، عن أبي وهب، عن سليمان بن موسى، أنا نافعا حدثه، عن عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من باع عبدًا وله مال، فله ماله وعليه دينه إلا أن يشترط المبتاع، ومن أبر نخلا وباعه بعد تأبيره فله ثمرته، إلا أن يشترط المبتاع". وأما حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) من حديث سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًا -رضي الله عنه- قال: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، قضى به رسول الله -عليه السلام-، ومن باع نخلا ... " الحديث. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البيهقي أيضًا (¬4) مقتصرًا على قضية مال العبد من حديث الأنصاري، ثنا عبد الأعلى بن أبي المساور، ثنا عمران بن عمير، عن أبيه -وكان مملوكًا لابن مسعود- قال: "قال له عبد الله: ما لك ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 746 رقم 2213). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 309 رقم 14364). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 326 رقم 10552). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 326 رقم 10554).

يا عمير؟ لأني أريد أن أعتقك، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أعتق عبدًا فماله للذي أعتق". قلت: عبد الأعلى متروك، قاله الذهبي. ص: فإن قال قائل: إنما أجيز بيع الثمر في هذه الآثار لأنه مبيع مع غيره وليس في جواز بيعه مع غيره ما يدل أن بيعه وحده كذلك؛ لأنا قد رأينا أشياء تدخل مع غيرها في البياعات ولا يجوز إفرادها بالبيع، من ذلك: الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور، ولا يجوز أن تفرد بالبيع، فجوابنا له في ذلك أن الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور وإن لم تشترط، والثمر لا يدخل في بيع النخل إلا أن يشترط، فالذي يدخل في بيع غيره لا باشتراط هو الذي لا يجوز أن يكون مبيعًا وحده، والذي لا يكون داخلا في بيع غيره إلا باشتراط هو الذي إذا اشترط كان مبيعًا، فلم يجز أن يكون مبيعًا مع غيره إلا وبيعه وحده جائز، ألا ترى أن رجلاً لو باع دارًا وفيها متاع أن ذلك المبتاع لا يدخل في البيع، وأن مشتريها لو اشترطه في شرائه الدار صار له باشتراطه إياه، ولو كان الذي في الدار خمرًا أو خنزيرًا باشتراطه في البيع فسد البيع، فكان لا يدخل في شرائه الدار باشتراطه في ذلك إلا ما يجوز له شراؤه وحده لو اشتراه، فكان الثمر الذي ذكرنا يجوز له اشتراطه مع النخل، فلم يكن ذلك إلا لأنه يجوز بيعه وحده أَوَلا ترى، أن النبي -عليه السلام- قد قال في هذا الحديث وقرنه مع ذكر النخل: "من باع عبدًا له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فجعل المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع، وجعله للمبتاع باشتراطه إياه، فكان دلك المال لو كان خمرًا أو خنزيرًا فسد بيع العبد إذا اشترطه فيه، وإنما يجوز أن يشترط مع العبد من ماله ما يجوز بيعه وحده، فأما ما لا يجوز بيعه وحده فلا يجوز اشتراطه في بيعه؛ لأنه يكون بذلك مبيعا، وبيع ذلك الشيء لا يصلح، فذلك أيضًا دليل صحيح على ما ذكرنا في الثمار الداخلة في بيع النخل بالاشتراط، أنها الثمار التي يجوز بيعها على الانفراد دون بيع النخل؛ فثبت بذلك ما ذكرنا.

وهذا قول أن أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-. وقد كان محمد بن الحسن يذهب إلى أن النهي الذي ذكرناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول هذا الباب هو بيع الثمر على أن يترك في رءوس النخل حتى يبلغ ويتناهى، وحتى يجذ، وقد وقع البيع عليه قبل التناهي، فيكون المشتري قد ابتاع ثمرًا ظاهرًا، وما ينميه على نخل البائع بعد ذلك إلي أن يُجذ فذلك باطل، قال: فأما إن وقع البيع بعدما تناهى عظمه وانقطعت زيادته، فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى حصاده وجذاذه، قال: فإنما وقع النهي عن ذلك لاشتراط الترك؛ لمكان الزيادة، قال: وفي ذلك دليل على أن لا بأس بذلك الاشتراط في ابتياعه بعد عدم الزيادة، حدثني سليمان بن شعيب بهذا، عن أبيه، عن محمد. وتأويل أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا حسن عندنا. والله أعلم. والنظر أيضًا يشهد له؛ لأنه إذا وقع البيع على الثمار بعد تناهيها على أن ترك إلى الحصاد فالنخل ها هنا مستأجرة لتكون الثمار فيها إلى وقت جذاذها عنها، وذلك لو كان على الانفراد لم يجز، فإذا كان مع غيره، فهو أيضًا كذلك. ش: هذا سؤال وارد من جهة أهل المقالة الأولى على ما استدلت به أهل المقالة الثانية، فيما ذهبوا إليه من جواز بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، وتقريره أن يقال: إنما أجيز بيع الثمار في الأحاديث التي استدللتم؛ لأنها مبيعة مع غيرها، وليس شيء يدل على جواز بيعها بانفرادها؛ لأنه لا ملازمة بين جواز بيعها مع غيرها، وبين بيعها وحدها، والدليل على ذلك أنا وجدنا أشياء تدخل مع غيرها في البيع بالتبعية مع أن بيعها بانفرادها لا يجوز، وذلك كالطريق، وفناء الدار، فإن من باع دارًا يدخل فيه طريقها وفناؤها، ومع هذا لا يجوز بيع الطريق ولا الفناء بانفرادها. والجواب عنه ظاهر غنيّ عن الشرح.

قوله: "في البياعات" بكسر الباء: جمع بياعة بمعنى البيع، والبياعة السلعة أيضًا، قاله الجوهري. و"الأفنية" جمع فناء الدار -بكسر الفاء- وهو ما امتَدَّ من جوانبها. قوله: "وحتى تُجَذّ" على صيغة المجهول من جذَّ الثمرة يجذها جذًّا إذا قطعها، والحذاذ بالفتح والكسر صرام النخل، وهو قطع ثمراتها، وبابه فَعَلَ يَفْعَلُ، كنَصَرَ يَنْصُر. قوله: "بعدما تناهى عظمه" بكسر العين وفتح الظاء ويجوز بضم العين وسكون الظاء. ثم تحقيق الخلاف في هذه المسألة بين أصحابنا وغيرهم أن بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره، وبيع الزرع في الأرض بشرط الترك لا يخلو إما أن يكون لم يبد صلاحه بعد بأن صار منتفعًا به بوجه من الوجوه، وإما أن يكون قد بدا صلاحه وكل ذلك يخلو من أن يكون بشرط القطع، أو مطلقا، أو بشرط الترك حتى يبلغ، فإن كان لم يبد صلاحه فباع بشرط القطع جاز، وعلى المشتري أن يقطع للحال، وليس له أن يترك من غير إذن البائع، ومن مشايخنا من قال: لا يجوز بيعه قبل بدو صلاحه، وهو خلاف ظاهر الرواية، ولو باع مطلقا عن شرط؛ جاز أيضًا عندنا، خلافا للشافعي، وأما إن بدا صلاحه فباع بشرط القطع، أو مطلقا، جاز أيضًا، وإن باع بشرط الترك، فإن لم يكن تناهى عظمه فالبيع فاسد بلا خلاف، وإن كان قد تناهى عظمة فكذلك فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يجوز استحسانا، لتعارف الناس على ذلك وتعاملهم، فلو اشترى مطلقا عن شرط، فترك فإن كان قد تناهي عظمه ولم يبق إلا النضج لم يبطل بشيء، سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه؛ لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حالة النضج، وإن كان لم يتناه عِظمه ينظر، إن كان الترك بإذن البائع جاز وطاب له الفضل، وإن كان بغير إذنه يتصدق بما زاد في

ذاته على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بجهة محظورة، فأوجبت خبثا فيها، فكان سبيلها التصدق، فإن استأجر المشتري من البائع الشجر للترك إلى وقت الإدراك، طاب له الفضل لأن الترك حصل بإذن البائع، ولكن لا تجب الأجرة؛ لأن هذه الإجارة باطلة؛ لأن جوازها ثبت على مخالفة القياس، لتعامل الناس، فما لم يتعاملوا فيه لا تصح فيه الإجارة، ولهذا لم تصح إجارة للأشجار لتجفيف الثياب، وإجارة الأوتاد لتعليق الأشياء عليها، وإجارة الكتب للقراءة، ونحو ذلك حتى لم تجب الأجرة. ولو أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى فهي للبائع سواء كان الترك بإذنه أو بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع فيكون له، ولو حللها له الباع جاز أن اختلط الحادث بعد العقد بالوجود عنده حتى لا يعرف بنظر، إن كان قبل التخلية بطل البيع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز، فأشبه العجز عن التسليم بالهلاك. وإن كان بعد التخلية لم يبطل؛ لأن التخلية قبض، وحكم البيع يتم ويتناهى بالقبض، والثمرة تكون بينهما لاختلاط ملك أحدهما بالآخرة اختلاطا لا يمكن التميز بينهما، فكان الكل مشتركا بينهما، والقول قول المشتري في المقدار؛ لأنه صاحب يد لوجود التخلية، فكان الظاهر شاهدًا له فكان القول قوله، ولو اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها دون بعض بأن أدرك البعض دون البعض بشرط الترك، فالبيع فاسد على أصلهما وأما على أصل محمد -رحمه الله-: فهو اختيار العادة، فإن كان صلاح المتأخر متقاربا جاز؛ لأن العادة في الثمار أن لا يدرك الكل دفعة واحدة، بل يتقدم إدراك البعض على البعض، يلحق بعضها بعضا، فصار كأنه اشتراها بعد إدراك الكل، ولو كان كذلك يصح الشراء عنده بشرط الترك، فكذا هذا. وإن كان يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخرًا فاحشًا كالعنب ونحوه؛ يجوز البيع فيما أدرك، ولا يجوز فيما لم يدرك، والله أعلم.

ص: وقد قال قوم أن النهي الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه تحريم ذلك، ولكنه على المشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله، عن يونس بن يزيد، قال: قال أبو الزناد: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل ابن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره، أن زيد بن ثابت كان يقول: "كان الناس في عهد رسول الله -عليه السلام- يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن والرمان وأصابه مراق". قال أبو جعفر -رحمه الله-: الصواب هو مراق وأصابه قشام عاهات يحتجون بها، والقشاب شيء يصيبه حتى لا يرطب، قال: فقال رسول الله -عليه السلام- لما كثرت عنده الحصومة في ذلك: فلا تبايعوا حتى يبدو صلاخ الثمر؛ كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم. فدل ما ذكرنا أن ما روينا في أول هذا الباب عن رسول الله -عليه السلام- من نهيه -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إنما كان على هذا المعنى لا على ما سواه. ش: أشار بهذا الجواب الآخر عن الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهو أن قوما من العلماء قالوا: إن النهي الذي صدر من النبي -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ لم يكن ذلك على التحريم ولكنه على التشاور فيما بينهم؛ لأجل ما كانوا يختصمون إليه في كل وقت في ذلك، والدليل على ذلك ما قاله زيد بن ثابت -رضي الله عنه- في الحديث المذكور، فإنه يدل على أن نهيه -عليه السلام- عن ذلك كان على التشاور فيما بينهم؛ لقطع اختصامهم حين كثر ذلك عنده -عليه السلام-. وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري شيخ النسائي وأبي بكر بن خزيمة، قال النسائي: ثقة. وعنه: صدوق، وعن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المؤذن، غمزه سعيد بن أبي مريم.

عن يونس بن يزيد الأيلي روى له الجماعة، عن أبي الزناد بالنون عبد الله بن ذكوان المدني روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن سهل بن أبي حثمة واسمه عبد الله، أبو محمد المدني، صاحب النبي -عليه السلام- قال الواقدي: مات النبي -عليه السلام- وهو ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه. عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) نحوه من حديث وهب الله بن راشد، عن يونس بن يزيد قال: قال أبو الزناد: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره، أن زيد بن ثابت كان يقول: "كان الناس في عهد رسول الله -عليه السلام- يتبايعون الثمار، فإذا جَدَّ الناس وحضر تقاضيهم. قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن الدمان، أصابه مراق، أصابه قشام؛ عاهات يحتجون بها -والقشام شيء يصيبه حتى لا يرطب- قال: فقال رسول الله -عليه السلام- لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فأما لا، فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر، كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم"، قال أبو الزناد: وأخبرني خارجة بن زيد: "أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أمواله حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثني يونس، قال: سألت أبا الزناد، عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وما ذكر في ذلك. فقال: كان عروة بن الزبير يحدث، عن سهل بن أبي حثمة، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جدَّ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: قد أصاب الثمر الدمان، وأصابه قشام، وأصابه مراض؛ عاهات يحتجون بها، فلما كثرت خصومتهم عند النبي -عليه السلام- قال رسول الله -عليه السلام- كالمشورة يشير بها: فأما لا فلا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها؛ لكثرة خصومتهم واختلافهم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 301 رقم 10385). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 253 رقم 3372).

وأخرجه البخاري (¬1) أيضًا ولكن غير موصول، وأخرجه عن الليث معلقًا. قوله: "في عهد رسول الله -عليه السلام-" أي في زمنه وأيامه. قوله: "فإذا جدَّ الناس" أي فإذا قطع الناس ثمارهم. قوله: "العفنُ" بالرفع فاعل لقوله: "أصاب الثمر" والثمر مفعولَه. والعفن بفتح العين والفاء: الفساد، والعفن -بفتح العين وكسر الفاء- من الصفات المشبهة، يقال: شيء عفن إذا كان بيِّن العفونة، وعَفِن الحبل -بالكسر- عَفَنًا إذا بلي من الماء. قوله: "والدمان" بفتح الدال المهملة وتخفيف الميم وفي آخره نون، وهو فساد الثمر قبل إدراكه حتول يسود، من الدمن وهو السرقي، ويقال: "الدمال" باللام موضع النون، وقد قيد الجوهري وغيره "الدال" بالفتح، وقال الخطابي: بالضم. وكأنه أشبه؛ لأن ما كان من الأدواء فهو بالضم كالسُّعال، والزكام، قال الخطابي: ويروى بـ"الراء" موضع النون، ولا معنى له. قلت: وقد وقع في بعض نسخ الطحاوي بالراء، وله وجه؛ لأن الدمار: الهلاك. قوله: "وأصابه مراق" بضم الميم وتخفيف الراء وفي آخره قاف وهو آفة تصيب الزرع، قال الجوهري: المرق آفة تصيب الزرع. قوله: "قال أبو جعفر -رحمه الله-: الصواب هو مراق" أشار بهذا أن المراق تفسير الدمان، وتقدير الكلام: أصاب الثمر العفن والدمان هو مراق، وقال البيهقي بعد أن روى الحديث المذكور: رواه البخاري فقال: وقال الليث، عن أبي الزناد ... فذكره، وعنده مراض بدل مراق، وقال الأصمعي: أن تنشق النخلة أو ما يبدو طلعها عن عفص وسواد، قال: والقشام أن ينتفض ثمر النخل قبل أن يصير بلحًا، والمراض اسم لأنواع الأمراض. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 765 رقم 2081).

قلت: القُشام بضم القاف، والمُراض بضم اليم: داء يقع في الثمرة فتهلك، وقد أمرض الرجل إذا وقع في ماله العاهة. قوله: "عاهات" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي المذكورات من العفن والدمان والمراق والقشام: عاهات، أي آفات وأمراض يحتجون بها، وهي جمع عاهة، وأصلها عوهة، ذكرها الجوهري: في الأجوف الواوي، وقال: العاهة الآفة، يقال: عِيه الزرع وإيف وأرض معيوهة، وأعاه القوم: أصابت ماشيتهم العاهة، وقال الأموي: أعوه القوم مثله. قوله: "حتى لا يرطب" من الإرطاب، يقال: أرطب النخل: صار ما عليه رطبًا، وأرطب البسر: صار رطبًا. ***

ص: باب: العرايا

ص: باب: العرايا ش: أي هذا باب في بيان حكم العرايا، وهو جمع عرية، فعلية بمعنى مفعولة، من عراه يعروه: إذا قصده، ويحتمل أن تكون فعلية بمعنى فاعلة، من عَرِيَ يَعْرَى: إذا خلع ثوبه كأنها عُرِّيت من جملة التحريم، فَعَرِيَت أي خرجت، قال القاضي: قد اختلف أهل اللغة في هذه التسمية، فقال بعضهم: ذلك مأخوذ من عروت الرجل إذا أتيته تسأل معروفه، فأعراه نخلة على هذا أعطاه ثمرها، فهو يعروها: أي يأتيها ليأكل ثمرها، وهم يقولون: سألني فأسألته، وطلبني فأطلبته، فعلى هذه الطريقة هي التي فسرها بعض أهل العلم، وهي التي صوَّب أبو عبيد في التفسير وهو من أئمة اللغة، وقد قال بعض أهل اللغة: إنها مأخوذة من كون المُعري قد أخلى ملكه عنها وأعراها من ملكه، وعلى هذا يصح صرف العرية إلى إخلائه ملكه من الثمر، أو من بعض الشجر، وقال ابن الأثير في "النهاية": اختلف في تفسيرها، فقيل: إنه لما نهى عن المزابنة وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر؛ رخَّص من جملة المزابنة في العرايا، وهو أن من لا نخل له من ذوي الحاجة يدرك الرطب ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل لهم يطعمهم منه، ويكون قد فضل له من قوته تمر، فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له: بعني ثمر نخلة أو نخلتين بخرصها من التمر فيعطيه ذلك الفاضل من التمر بثمر تلك النخلات ليصيب من رطبها مع الناس، فرخص فيه إذا كان دون خمس أوسقه، وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: العرايا: جمع عرية، وهي عطية ثمر النخل دون الرقاب كانوا يعطون ذلك إذا دهمتهم سنة لمن لا نخل له، فيعطيه من نخله ما سمحت به نفسه مثل الأفقار والأحبال والمنحة والعمرى، وكانت العرب تتمدح بالإعراء، وفي "الاستذكار": قال أهل اللغة: العرية مأخوذة من قولهم: عَرَوت الرجل أعروه إذا أتيته تلتمس بِرَّه ومعروفه من قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬1) وقيل: هو مأخوذ من تخلي الإنسان عن ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [36].

ملكه من الثمرة، من قوله تعالى {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} (¬1) أي بالموضوع الخالي، وقال صاحب "العين": العرية من النخل الذي تعرى من المساومة عند بيع النخل. قال عبد الوهاب: معنى العرية عندنا أن يهب الرجل ثمر نخلة أو نخلات من حائطه لرجل. قال ابن زرقون: وهذا الذي ذكر يجيء على مذهب أشهب وابن حبيب، وأما ابن القاسم فالعرية عنده أن يعطيه الثمرة على وجه مخصوص، وهو أن يكون على المعرى ما يلزمها إلى بدو صلاحها. وذلك عنده يلزم الموهوب له من يوم الهبة، ففرق في ذلك بين العرية والهبة، ولذلك قال: عن مالك: زكاة العرية على المعرى، وزكاة الهبة على الموهوب له، قال: ففرق بينهما في الزكاة والسقي، وقال أشهب: زكاة العرية على المعري كالهبة إلا أن يعروه بعد الزهو، ويلزمه مثل ذلك في السقي، وقال محمد: لا خلاف بينهم أن السقي على المعري، وقال ابن حبيب: السقى والزكاة على المعري والواهب، وقال سحنون: إن كانت العرية والهبة بيد المعري والواهب يسقيها ويقوم عليها فالزكاة عليه، وإن كانتا بيد المعرى أو الموهوب له يقوم عليها ويأكل منها فالزكاة عليه. قلت: الذي ذكره الأئمة الأربعة وغيرهم في تفسير العرايا وحكمها سيجيء في موضعها في هذا الباب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر". قال عبد الله: وحدثنا زيد بن ثابت "أن رسول الله -عليه السلام- أرخص في العرايا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- "أنه نهى عن المزابنة". قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: وأخبرني زيد بن ثابت "أن رسول الله -عليه السلام- أرخص في العرايا". ¬

_ (¬1) سورة الصافات، آية: [245].

حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنهم-: "أن رسول الله -عليه السلام- أرخص في العرايا". حدثنا على بن شيبة بهذا الإسناد قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة، ورخص في العرايا". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى قال: نا سفيان، عن الزهري (ح). وثنا ابن نمير وزهير بن حرب -واللفظ لهما- قالا: نا سفيان، قال: أنا الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وعن بيع الثمر بالتمر". قال ابن عمر: وثنا زيد بن ثابت "أن رسول الله -عليه السلام- رخص في بيع العرايا -زاد ابن نمير في روايته-: أن تباع". وأخرجه البخاري أيضًا (¬2). الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو محمد بن الفضل السدوسي البصري شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (167 - 168 رقم 1534). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 763 رقم 2072). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 595 رقم 1302).

عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت: " [أن رسول الله -عليه السلام-] (¬1) أرخص في بيع العرايا بخرصها". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي البصري شيخ البخاري وأبي داود عن حماد بن زيد ... إلى آخره. وأخرجه الكجي في "مسنده": عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- رخص في بيع العرايا بخرصها كيلًا". الرابع: عن على بن شيبة .. إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): ثنا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن على بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون ... إلى آخره بعين الإسناد المذكور، ولكن المتن مختلف كما ذكره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزابنة والمحاقلة، إلا أنه رخص لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها". قوله: "عن بيع الثمر" بفتح الثاء المثلثة والميم. وقوله: "التمر" بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الميم. قوله: "أرخص في العرايا" وفي رواية مسلم "رخص" بالتشديد، ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 507 رقم 22592). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 190 رقم 21700).

وقد ذكرناها، والرخصة عند الفقهاء تخصيص بعض الجملة المحظورة بالإباحة. وباقي تفسير الألفاظ قد مَرَّ مستوفي. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث سالم، عن أبيه عن زيد بن ثابت، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك". وذكر ابن زرقون في "شرح الموطأ" أنه سماه بيعًا لما فيه من معنى المعاوضة، ولوجه آخر من معني البيع وهو أنه لا يثبت حكمه إلا باختيار المبتايعين. وقال القاضي في "شرح مسلم": هذا الحديث مخالف لما قبله؛ لأنه لا يجوز بيعها بالرطب وإنما هي رخصة فلا تجوز إلا على ما وردت به، وجل الأحاديث لم يُذكر فيها إلا شراءها بالتمر، وهذا الذي وقع ها هنا بالرطب أو بالتمر، لو تركنا نقيض اللسان لاحتمل أن يكون شكا من الراوي؛ هل قال -عليه السلام-: بالرطب، أم قال: بالتمر؟ وشك الراوي يمنع من النطق به في الرطب. قلت: يدفع ما قاله في ذلك ما جاء في رواية أبي داود "بالتمر والرطب" بحرف الواو دون "أو"، وكذلك في رواية الطحاوي على ما مَرَّت. وقال القاضي أيضًا: قد قال بعض أصحابنا في حديث خارجة: هو حديث أنفرد به راويه وجاء بخلاف سائر الأحاديث وذلك يقدح فيه. قلت: لا نسلم هذا الكلام؛ لأن رواة هذا الحديث كلهم حفاظ ثقات، وأئمة مشهورون، وتفرد واحد منهم برواية لا يضر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1168 رقم 1539).

ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن إسماعيل الشيباني، قال: "بعت ما في رءوس نخلي بمائة وسق؛ إن زاد فلهم، وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر عن ذلك فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمرة بالتمر، إلا أنه رخص في العرايا". ش: إسناده صحيح. وسفيان هو ابن عيينة، وإسماعيل هو ابن إبراهيم الشيباني، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان، عن عمرو، عن إسماعيل الشيباني: "بعت ما في رءوس نخلي بمائة وسق؛ إن زاد فلهم، وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر، فقال: نهى عنه رسول الله -عليه السلام-، ورخص في العرايا". قوله: "بمائة وسق" الوسق -بفتح الواو- ستون صاعًا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق، على اختلافهم في مقدار الصالح والمد، والأصل في الوسق الحمل، وكل شيء وسقته فقد حملته، والوسق أيضًا ضم الشيء إلى الشيء. ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر حتى يُطعم، وقال: لا يباع شيء منه إلا بالدراهم والدنانير؛ إلا العرايا فإن رسول الله -عليه السلام- رخص فيها". ش: قد مر هذا في الباب السابق بعين هذا الإسناد والمتن إلى قوله: "حتى يطعم". وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والنسائي (¬4). ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 11 رقم 4590). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 764 رقم 2077). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1167 رقم 1536). (¬4) "المجتبى" (7/ 37 رقم 3879).

ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة، إلا أنه رخص في العرايا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي الزبير وسعيد بن ميناء، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المحاقلة والمزانبة والمخابرة -وقال أحدهما: والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين -ونهى عن الثنيا ورخص في العرايا". ش: هذان طريقان آخران صحيحان: الأول: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح المكي .... إلى آخره. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: نا مخلد بن يؤيد الجزري، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة، وعن بيع الثمرة حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا ... " الحديث. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي وسعيد بن ميناء كلاهما، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (1): ثنا عبيد الله بن عمر القواريرى ومحمد بن عبيد الغبري -واللفظ لعبيد الله- قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن أبي الزبير وسعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة -قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة- وعن الثُنْيا، ورخص في العرايا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1172 رقم 1536).

وقد مَرَّ تفسير المحاقلة والمزابنة، وأما المخابرة فقد فسرها جابر في كتاب مسلم بأنها الأرض يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر، وقال أهل اللغة: المخابرة هي المزارعة على النصيب كالثلث وغيره، والخُبرة النصيب، وقال الأزهري: الخُبر يكون زرعًا ويكون إكارًا، وقال ابن الأعرابي: أصل المخابر مأخوذ من خيبر؛ لأن النبي -عليه السلام- كان أقرها في أيدي أهلها على النصف، فقيل: خابرهم أي عاملهم في خيبر. وقيل: هي من الخبار وهي الأرض اللينة، قاله ابن الأثير. قوله: "والمعاومة" وهي بيع السنين، يعني بيع ثمرة حائطه سنين، وقد مَرَّ الكلام فيه أيضًا. قوله: "ونهى عن الثُنْيا" بضم الثاء المثلثة وسكون النون، وهي أن يستثني في البيع شيء مجهول فيفسده. وقيل: هو أن يباع شيء جزافًا فلا يجوز أن يستثني منه شيء، قَلَّ أو كَثُر، وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث كيل معلوم. وقد استدل أبو حنيفة والشافعي بظاهر هذا الحديث، وتمسكًا بعموم نهيه عن بيع الثنيا، ولم يُجَوِّزا إذا باع صبرة واستثني منها جزءًا، وإن كان معلومًا، وأجاز مالك أن يستثني منها من الملكية ما يعلم أنه لا يزيد على ثلث جميعه، لأن ذلك عنده في حكم اليسير الذي لا يؤدي إلى الجهالة بالبيع، فوجب أن يجوز. وقال القاضي: ومن الثنيا اشتراط البائع على المبتاع متي جاءه بالثمن فالسلعة له، وهذا الذي يسميه الموثوقون بيع الثُّنْيا، ومنها قول المشتري: إن لم آتك بالثمر يوم كذا فلا بيع بيني وبينك. فاختلف العلماء، فبعضهم أبطل الشرط وصحح البيع، ومنهم من ألزم قائله ما شرط وجعل الآخر بالخيار. والوجهان يرويان عن مالك، وما كان من ذلك على التطوع بعد العقد لزم الوفاء به. وأما ثُنْيا المشتري بعض ثمرة نخله التى باع فلا يخلوا أن يكون على الكيل أو الجزء أو ثمرة نخلات معينات، فأما النخلات المعينات فلا خلاف في جواز استثنائها؛ لأنه لم يقع عليها بيع جملة، وإن استثني بعضها على الكيل

فمذهب عامة العلماء وفقهاء الفتيا بالأمصار: أنه لا يجوز من ذلك قليل ولا كثير، وذهب مالك في جماعة أهل المدينة إلى جواز ذلك ما بينه وبين ثلث الثمرة، لا يزيد على ذلك، وإن استثني جزءًا مشاعًا فيجوز عند مالك وعامة أصحابه؛ قل أو كثر. وذهب عبد الملك إلى أنه لا يجوز استثناء الأكثر، والخلاف في ذلك مبني على جواز استثناء الأكثر من الأقل، وقد اختلف في ذلك النحاة والأصوليون وكتاب الله يشهد بجوازه؛ فإن الله تعالى قال عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬1)، ثم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬2) فقد استثني كل صنف من الآخر [....] (¬3) لا سيما ما وردت به الآثار في تكثير الغاوين. ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- نهي عن بيع الثمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها من التمر، يأكلها أهلها رطبًا". ش: إسناده صحيح. وسفيان هو ابن عيينة، ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وبُشَير -بضم الباء ¬

_ (¬1) سورة ص، آية: [82 - 83] ولعل مراد المؤلف: ذكر آية الحجر رقم (39، 40) وفيها: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. (¬2) سورة الحجر، آية: [42]. (¬3) طمس في "الأصل"، وجاء في "عمدة القاري" (14/ 21): وإنما الحجة في ذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، وقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فإن جعلت المخلصين الأكثر فقد استثناهم، وإن جعلت الغاوين الأكثر فقد استثناهم أيضًا، ولأن الاستثناء إخراج، فإذا جاز إخراج الأقل؛ جاز إخراج الأكثر. ومذهب البصريين من أهل اللغة وابن الماجشون المنع.

الموحدة وفتح الشين المعجمة -بن يسار- بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة- الحارثي الأنصاري المدني روي له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): نا عمرو الناقد وابن نمير، قالا: نا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وأخرجه بقية الجماعة بألفاظ مختلفة (¬2). قوله: "عن بيع الثمر" بالثاء المثلثة، والميم المفتوحتين. وقوله: "بالتمر" بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الميم. قوله: "بخرصها" أي بخرص العرية من التمر، وهو أن يتحرى ذلك ويخرص في رءوس النخل وليست له مكيلة. قوله: "رطبا" نصبت على الحال من التبادل، فافهم. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن بعض أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل دارهم منهم: سهل بن أبي حثمة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا؛ تلك المزابنة، إلا أنه رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها يأكلونها رطبًا". ش: إسناده صحيح. والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وبقية الرجال ذكروا الآن. وأخرجه مسلم (¬3): عن القعنبي، نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 170 رقم 1540). (¬2) البخاري (2/ 764 رقم 2079)، وأبو داود (2/ 271 رقم 3363)، والترمذي (3/ 596 رقم 1303)، والنسائي (7/ 268 رقم 4542). وأما ابن ماجه فلم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" (4/ 93 رقم 4646). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1170 رقم 1540).

قوله: "ذلك الربا" أي بيع الثمر بالتمر، وإنما أنث اسم الإشارة في قوله: "تلك المزابنة" باعتبار لفظ المزابنة. قوله: "النخلة والنخلتين ... " إلى آخره تفسير لقوله: "العرية". قوله: "بخرصها" الباء فيه متعلقة بقوله: "يأخذها". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي وعثمان بن عمر، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولي ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق -أو فيما دون خمسة أوسق، شك داود هي خمسة أو فيها دون خمسة؟ ". ش: إسناده صحيح. ورجاله ثقات. وعثمان بن عمر بن فارس، شيخ أحمد، روي له الجماعة، وأبو سفيان اسمه قُزمان، قاله الدارقطني، روي له الجماعة، وهو مولي عبد الله بن أبي أحمد بن جحش القرشي الأسدي. والحديث أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2): عن القعنبي. والترمذي (¬3): عن قتيبة، عن مالك، وعن أبي كريب، عن زيد بن حباب، عن مالك. وأخرجه البخاري (¬4) والنسائي (¬5) وابن ماجه (¬6). وقال القاضي: قوله: "فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق" ما يدل أنه يختص ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1171 رقم 1541). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 272 رقم 3364). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 595 رقم 1301). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 764 رقم 2078). (¬5) "المجتبى" (7/ 268 رقم 4541). (¬6) ولم يعزه المزي لسنن ابن ماجه؛ انظر "التحفة" (10/ 457 رقم 14943).

بما يوسق ويكال، ويحتج به لأحد القولين، لاختصاص ذلك بالتمر والزبيب، وما في معناه مما ييبس ويدخر ويأخذه المكيل. وقد ذكر أبو داود عن أبي هريرة الحديث وفيه: "فيما دون خمسة أوسق". فقد قصر -عليه السلام- الرخصة والحكم في العرية على هذا القدر المذكور في الحديث فلا يزاد عليه، وكان الخمسة الأوسق هو أول مقادير المال الكثير الذي تجب فيه الزكاة من هذا الجنس، وقد اختلف قول مالك في إجراء حكم العرية في خمسة أوسق فقال به في مشهور قوله؛ اتباعًا لما وجد عليه العمل عندهم بالمدينة، وقال أيضًا: لا يجوز في الخمسة ويجوز فيما دونها، لأنه المتحقق في الحديث، والخمسة مشكوك فيها، وبهذا قال الشافعي إلا أنه قال: لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق وأفسخه فيما وراءه، وحكي ابن القصار عنه اختلاف قوله كاختلاف قول مالك، وهذا في شرائها بخرصها تمرًا، وأما شراؤها بالدنانير والدراهم والعروض على مشهور قول مالك؛ فجائز من ربها وغيره وإن جاوزت خمسة أوسق، وقال الإِمام أما شك الرواي في الخمسة أوسق فعندنا اختلاف في جواز البلوغ إليها، وقد قال بعض المخالفين: إذا شك الراوي بين خمسة فما دون فلا وجه للتعلق بروايته في تحديد مقدار ما دون الخمسة أوسق، ولكن وقع في بعض الروايات: "أربعة أوسق" فوجب الانتهاء إلى هذا للتيقن، وإسقاط ما زاد عليه، وإلى هذا المذهب مال ابن المنذر، وألزم المزني الشافعي أن يقول به. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن الواسع بن حَبَّان، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في كل عشرة أقناء قنو، يوضع في المسجد للمساكين". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات قد تكرر ذكرهم. وحَبَّان في الموضعين بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة.

وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع، عن جابر: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة، وأذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها، ثم قال: الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا أحمد بن عبد الملك، نا محمد (¬3) بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله قال: "أمر رسول الله -عليه السلام- من كل جاد بعشرة أوسق من تمر بقنو، يعلق في المسجد للمساكين". حدثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام-حين أَذِنَ لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها- يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة". قوله: "أقناء" جمع قِنْو -بكسر القاف- وهو العِذق بما فيه من الرطب. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق ... فذكر ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 311 رقم 10449). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 359 رقم 14910). (¬3) الذي في "الأصل": حماد بن سلمة. وكذلك وقع في النسخة المطبوعة من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 110 رقم 2469). والصحيح: محمد بن سلمة. كذا هو في "مسند أحمد" (3/ 359 رقم 14910)، و"سنن أبي داود" (1/ 522 رقم 1662)، و" مسند أبي يعلى" (4/ 34 رقم 2038). فإن حماد بن سلمة لم يُذكر في شيوخ أحمد بن عبد الملك الحراني، وقال الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" (1/ 411): فممن يروي عن حماد بن زيد دون ابن سلمة أحمد بن إبراهيم الموصلي وأحمد بن عبد الملك الحراني ... ". وأحمد بن عبد الملك عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق إسناد دائر. انظر "مسند أحمد" في الأحاديث (1757، 5353، 7035، 9220، 9224، 11801، 14910، 18352، 21825، 24923، 24924) والله أعلم.

بإسناده مثله، غير أنه قال: "ثم قال: الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" ولم يذكر قوله: "في كل عشرة". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي الحمصي أحد مشايخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن عمه واسع بن حَبَّان، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. ص: قال أبو جعفر -رحمة الله-: فقد جاءت عن الآثار، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتواترت في الرخصة في بيع العرايا، فقبلها أهل العلم جميعًا ولم يختلفوا في صحة مجيئها، وتنازعوا في تأويلها، فقال قوم: العرايا أن يكون الرجل له النخلة والنخلتان في وسط النخل الكثير لرجل آخر، وقد كان أهل المدينة إذا كان وقت الثمار خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم، فيجيء صاحب النخلة والنخلتين بأهله؛ فيضر ذلك بصاحب النخل الكثير. فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب النخل الكثير أن يعطي صاحب النخلة أو النخلتين بخرص ماله من ذلك تمرًا، لينصرف هو وأهله عنه، ويخلص تمر الحائط كله لصاحب النخل الكثير، فيكون فيه هو وأهله. وقد روي هذا القول عن مالك بن أنس -رضي الله عنه-. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن هذه الأحاديث التى وردت في العرايا لم ينازع أحد في صحتها، ولا اختلف في صحة مجيئها وإنما تنازعوا في تأويلها، فقال قوم: "العرايا أن يكون الرجل له النخلة أو النخلتين ... " إلى آخره. وأراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير والأوزاعي ومالك بن أنس -رحمهم الله-، فإنهم قالوا: العرايا هي أن يهب الرجل لآخر ثمر نخلة -أو نخلتين أو نخلات- من ماله ويكون الواهب سكن بأهله في ذلك الحائط، فيشق عليه دخول المعرى في

الحائط، فله أن يبتاع منه ذلك الثمر يخرصه تمرًا إلى الجداد، ولا يجوز عندهم إلا نسيئة، وأما يدًا بيد فلا. وقال أبو عمر (¬1): فجملة قول مالك وأصحابه في العرايا: أن العرية هي أن يهب الرجل من حائطه خمسة أوسق فما دونها، ثم يريد أن يشتريها من المعرى عند طيب الثمرة، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرًا عند الجذاذ، وإن عَجَّل له لم يجز، ولا يجوز ذلك لغير المعرى؛ لأن الرخصة فيه وردت، وجائز بيعها من غيره بالدنانير والدراهم وسائر العروض. وقال أيضًا ولا يجوز البيع في العرايا عند مالك وأصحابه إلا لوجهين: إما لدفع ضرر دخول المعرى على المعري، وإما لأن يرفق المعري المعرى فيكفيه المؤنة فيها فأرخص له أن يشتريها منه بخرصها تمرًا إلى الجذاذ. وفي "الاستذكار": يجوز الإعراء في كل نوع من الثمر كان مما ييبس ويدخر أم لا؟ وفي القثاء والموز والبطيخ قاله ابن حبيب قبل الأبار وبعده لعام أو لأعوام في جميع الحائط أو بعضه، وقال ابن حبيب عن مالك: يكون باجتماع أمرين: أن يصلح فيها ثمره وأن يقبضها، فإن عدم أحد الأمرين قبل موت المعري فلا شيء فيها للمعرى، وقال عبد الوهاب: بيع العرية جائز بأربعة شروط: أحدهما: أن تزهى وهو قول جمهور الفقهاء، وقال يزيد بن أبي حبيب: يجوز قبل بدو الصلاح. والثاني: أن تكون خمسة أوسق فأدنى، وهو رواية المصريين عن مالك، وروى عنه أبو الفرج عمرو بن محمد: أنه لا يجوز إلا في أقل من خمسة أوسق، فإن خرصت أقل من خمسة أوسق فلما جذت وجد أكثر، ففي "المدونة" روى صدقة بن حبيب عن مالك: أن الفضل لصاحب العرية، ولو جذ أقل من الخرص ضمن الخرص، ولو خلطه قبل أن يكيله لم يكن عليه زيادة ولا نقص. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (2/ 327 - 328).

والثالث: أن يعطيه خرصها عند الجذاذ، ولا يجوز له تعجيل الخرص تمرًا خلافًا للشافعي في قوله: إنه يجب عليه أن يعجل الخرص تمرًا، ولا يجوز أن يفترقا حتى يتقابضا. والشرط الرابع: أن يكون من صنعها فإذا باعها بخرصها إلى الجذاذ، ثم أراد تعجيل الخرص جاز، قاله ابن حبيب. وعن مالك فيما يصح ذلك فيه من الثمار روايتان: إحداهما: أنه لا يجوز إلا في النخل والعنب، وبه قال الشافعي. والثانية: أنه يجوز في كل ما ييبس ويدخر من الثمار، كالجوز واللوز والتين والزيتون والفستق. رواه محمد، وقال أشهب في الزيتون: يجوز إذا كان ييبس ويدخر، وأما النخل الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب؛ فعلى اشتراط التيبيس يجب أن لايجوز. انتهي. وقال قوم: العرية النخلة والنخلتان والثلاث تجعل للقوم، فيبيعون ثمرها يخرصها تمرًا. وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق، وروي عن زيد بن ثابت. وقال قوم مثل هذا إلا أنهم خصوا بذلك المساكين يجعل لهم ثمر النخل فيصعب عليهم القيام عليها، فأبيح لهم أن يبيعوه بما شاءوا من التمر؛ وهو قول سفيان بن حسين، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل. وقال قوم: العرية: الرجل يعري النخلة -أو يستثني من ماله النخلة- أو النخلتين يأكلها، فيبيعها بمثل خرصها. وهو قول عبد ربه بن سعيد الأنصاري. وقال قوم: العرية أن يأتي أوان الرطب، وهنالك قوم فقراء لا مال لهم ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ولهم فضول تمر من أقواتهم، فإنه لهم أن يشتروا الرطب بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق.

وهو قول الشافعي وأبي ثور، ولا عرية عندهما في غير النخل والعنب، وقال ابن قدامة في "المغني": العرايا لا تجوز إلا فيما دون خمسة أوسق. وبهذا قال ابن المنذر والشافعي -في أحد قوليه- وقال مالك والشافعي -في القول الآخر-: يجوز في الخمسة، ورواه الجوزقاني عن إسماعيل بن سعيد، عن أحمد، واتفقوا على أنها لا تجوز في الزيادة على خمسة أوسق. وقال أيضًا: إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر لا أقل منه ولا أكثر، ويجب أن يكون التمر الذي يشترى به معلومًا بالكيل، ولا يجوز جزافًا، ولا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافًا. واختلف في معني خرصها من التمر، فقيل: معناه: أن يطيف الخارص بالعرية فينظر كم يجيء منها تمرًا فيشتريها بمثله من التمر، وهذا مذهب الشافعي. ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: يخرصها رطبًا ويعطي تمرًا، ولا يجوز أن يشتريها بخرصها رطبًا. وهو أحد الوجوه لأصحاب الشافعي. والثاني: يجوز. والثالث: يجوز مع اختلاف النوع، ولا يجوز مع اتفاقه، ولا يجوز بيعها إلا لمحتاج إلى أكلها رطبًا، ولا يجوز بيعها لغني، وهذا أحد قولي الشافعي، وأباحها في القول الآخر مطلقًا للغني والمحتاج، ولا يجوز بيعها في غير النخل، وهو مذهب الليث، وقال القاضي: يجوز في بقية الثمار من العنب والتين وغيرهما. وهو قول مالك والأوزاعي. وأجازه الشافعي في النخل والعنب دون غيرهما. ص: وكان أبو حنيفة -رحمة الله- يقول -فيما سمعت أحمد بن أبي عمران يذكر-: أنه سمع محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: معني ذلك عندنا: أن يعري الرجلُ الرجلَ ثمر نخلة من نخله فلم يُسَلِّم ذلك إليه حتى يبدو له، فرخص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه خرصه تمرًا. وكان هذا التأويل أشبه وأولى

مما قال مالك؛ لأن العرية إنما هي العطية، ألا تري إلى الذي مدح الأنصار كيف مدحهم إذ يقول: ليست بسَنْهَاءَ ولا رُجَبيَّة ... ولكن عرايا في السّنين الجَوَائِحِ أي أنهم كانوا يعرونها في السنين الجوائح، فلو كانت العرية كما ذهب إليه مالك إذا؛ لما كانوا ممدوحين بها إذ كانوا يُعْطَون كما يُعْطَون، ولكن العرية بخلاف ذلك. ش: أوَّل أبو حنيفة: معني العرايا بأن يهب الرجل رجلاً آخر ثمر نخلة أو نخلتين، فلم يسلِّم ذلك إليه ثم يبدو له -يعني يظهر له أن لا يُمَكِّنه من ذلك- فيعطيه مكان ثمر ما أعطاه تمرًا يابسًا، فيخرج بذلك عن إخلاف الوعد، وهذا هو معنى العرية عند أبي حنيفة وحكمها، ثم ادعي الطحاوي أن هذا التأويل هو أشبه وأولي التأويلين -أعني التأويل الذي أوله وتأويل مالك وذلك لأن العرية معناها: العطية، ألا تري إلى الذي مدح الأنصار بقوله: ليست بِسَنْهاءَ ... إلى آخره، ذكر العرايا وأراد بها العطايا، يعني أنهم كانوا يعرونها أي يعطونها في السنين الجوائح؟ ولو كانت العرايا كما ذهب إليه مالك؛ إذًا لما وقع كلام الشاعر مدحًا في حقهم، ولا كانوا هم ممدوحين بها، لأنهم كما كانوا يُعْطُون كانوا يُعْطَون أيضًا، فتقع المعاوضة؛ فلا يصير فيه فضل لأحدهما على الآخر. فعلم من ذلك أن معنى العرية على ما قاله أبو حنيفة، لا على ما قاله مالك ولا غيره من الأئمة. ثم اعلم أن قائل هذا الشعر هو سويد بن الصامت من شعراء الأنصار. قوله: "ليست بسنهاء". أي ليست نخلهم بسنهاء، والسنهاء النخل التي تحمل سنة وتحول سنة فلا تحمل، وذلك عيب في النخل، فوصف نخله أنها ليست كذلك، ولكنها تحمل في كل عام، وهو على وزن صحراء، يقال: سَنَهَت النخلة وتَسَنَّهت إذا أتت عليها السنون والسَّنْهَة -مثل الجَبْهة- أصل السنة.

قوله: "ولا رُجَبِيَّة" بضم الراء المهملة وفتح الجيم وكسر الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف، نسبة إلى الرجب وهو جمع رُجْبَة مثل ركبة تجمع على رُكَب، والرجبة اسم من الترجيب، وهو أن تدعم الشجرة إذا كثر حملها لئلا تنكسر أغصانها، وقال ابن قتيبة: الرجبية هي التى تميل لضعفها؛ فَتُدْعَم من تحتها. قوله: "ولكن عرايا" استدراك من المعني الأول، أي ولكن كانوا يُعْرون عرايا: أي عطايا. قوله: "من السنين الجوائح". بالجيم، وفي آخره حاء مهملة، وهو جمع جائحة وهي الشدة التى تجتاح المال من سنة أو فتنة، يقال جاحتهم الجائحة واجتاحتهم، وجاح الله ماله وأجاحه واجتاحه بمعنى، أي أهلكه بالجائحة، وأصل الكلمة من الجوح وهو الاستئصال، يقال: جحت الشيء أجوحه، ويروى: في السنين المواحل، وهو جمع ماحلة من المحل، وهو الجدب والقحط، والمعني أنهم يعرونها في السنين الجدبة، يعني يعطون ثمرتها أهل الحاجة في سِنِيّ الجدب والمجاعة والشدة. ص: فإن قال قائل: فقد ذكر في حديث زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا" فصارت العرايا في هذا الحديث أيضًا هي بيع ثمر بتمر، قيل له: ليس في الحديث من ذلك شيء [إنما] (¬1) فيه ذكر الرخصة في العرايا مع النهي عن بيع الثمر بالتمر، وقد يقرن الشيء بالشيء، وحكمهما يختلف. ش: هذا السؤال وارد على تأويل أبي حنيفة، يعني العرية: هي العطية بلا بدل، وليست بيعًا، تقريره أن يقال: إن ما ذكره أبو حنيفة منقوض بما رواه زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر -بالثاء المثلثة- بالتمر -بالتاء المثناة من فوق- ورخص في العرايا" فدل ذلك أن العرية أيضًا بيع ثمر بتمر، ولكنه رَخَّص فيها ترفيقًا للناس. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل".

وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يدل هذا الحديث على ما ذكرتم، غاية ما في الباب أن هذا الحديث مشتمل على حكمين مقرونين: أحدهما: النهي عن بيع الثمر بالتمر. والآخر: الترخيص في العرايا. ولا يلزم من ذكرهما مقرونين أن يكون حكمهما واحد، وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما يختلف، ونظائر هذا كثيرة، وقد ذكر أهل التحقيق من الأصوليين: أن من العمل بالوجوه الفاسدة ما قال بعضهم: إن القران في النظم يوجب القران في الحكم، ووجه فساد ذلك: أن ما يجب في الجملة الناقصة لافتقارها إلى ما يتم به، فإذا تم بنفسه لم تجب الشركة إلا فيما يفتقر إليه، وقوله -عليه السلام-: "ورخص في العرايا" جملة تامة لا تفتقر إلى ما تتم به، فلا يطلق حينئذ على العرية أنها البيع. فإن قيل: حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا" وحديث سهل بن أبي حثمة: "إلا أنه رخص في بيع العرية" يدل على أن العرية بيع ثمر بتمر، وأنه يرد ما قاله أبو حنيفة -ومن تبعه-: إن العرية هي العطية. قلت: الراوي هو الذي سماها بيعًا لتصورها بصورة البيع لا أن يكون بيعًا حقيقة، ألا تري أنه لم يملكها المعرى له لانعدام القبض، فكيف يجعل بيعًا؟ ولأنه لو جعل بيعًا لكان بيع الثمر بالتمر إلى أجل، وأنه لا يجوز بلا خلاف، فدل ذلك أن العرية المرخص فيها ليست ببيعٍ حقيقة، بل هي عطية. ص: فإن قال: فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- على خمسة أوسق، وفي ذكره ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه. قيل له: ما فيه ما ينفي شيئًا مما ذكرت، وإنما يكون ذلك كذلك لو قال رسول الله -عليه السلام-: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق، فأما إذا كان الحديث إنما فيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق فذلك يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا

مقدارها، فنقل أبو هريرة ذلك، وأخبر بالرخصة فيما كانت، ولا ينفي أن تكون تلك الرخصة جارية فيما هو أكثر من ذلك. ش: هذا السؤال وارد على تأويل أبي حنيفة، حيث لم يقدر بخمسة أوسق ولا بما دونها. وحديث أبي هريرة يرده؛ لأن فيه توقيفًا على خمسة أوسق، وتنصيصه بذلك ينفي أن يكون حكم الأكثر من ذلك كحكم الخمسة أو ما دونها. وأيضًا لو كانت العرية عطية -على ما ذكره- لما حددها وقصرها على خمسة أوسق، فقصره عليها يدل على أنها بيع رخَّص فيه واستثني من البيع المحرم الذي هو بيع الثمر بالتمر. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن التحديد بالخمسة ينفي أن يكون ما هو أكثر خارجًا عن حكم الخمسة، وإنما يلزم ذلك أن لو كان فيه شيء يدل على الحصر، نحو ما إذا قال: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق، وليس نظم الحديث كذلك وإنما هو أنه -عليه السلام- رخص فيها لقوم في عرية كانت عندهم هذا المقدار، فنقل الراوي ذلك كما كان عليه أهل القضية وذلك لا ينفي أن تكون الرخصة فيما هو أكثر من ذلك، ثم العجب أنهم يجعلون الخمسة تحديدًا ويقصرون الحكم عليها، والحال أنها مشكوك فيها، والنهي عن المزابنة ثابت بيقين؛ فوجب أن لا يستثنى منها إلا الثابت بيقين، وهو أربعة أوسق، فافهم. والله أعلم. ص: فإن قال قائل: ففي حديث ابن عمر وجابر -رضي الله عنهم-: "إلا أنه رخص في العرايا" فصار ذلك مستثنى من بيع الثمر بالتمر، فثبت بذلك أنه بيع ثمر بتمر. قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المعرى، فرخص له أن يأخذ تمرًا بدلاً من ثمرٍ في رءوس النخل، لأنه يكون ذلك في معني البيع، وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذه العلة، وفي حديث سهل بن أبي حثمة: "إلا أنه رخص في بيع العرية بخرصها تمرًا، يأكلها رطبًا" فقد ذكر للعرية أهلًا وجعلهم يأكلونها رطبًا، ولا يكون ذلك إلا ومَلَكها الذين عادت إليهم بالبدل الذي أُخِذَ منهم.

فبذلك ثبت قول أبي حنيفة -رضي الله عنه-. ش: تقرير السؤال أن يقال: نظم حديث عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله يدل على أن العرية بيع؛ لأن في حديثهما: "إلا أنه رخص في العرايا" وقد استثني ذلك من بيع الثمر بالتمر، والمستثنى من جنس المستثنى منه، فثبت بذلك أن العرية بيع ثمر بتمر مستثنى من البيع المحرم المنهي عنه، وهو بيع الثمر بالتمر. وتقرير الجواب أن يقال: يجوز أن يكون الاستثناء ها هنا لا لما ذكرتم، بل يكون قصد بذلك إلى أن المعرَى -بفتح الراء- قد قصد له أن يأخذ تمرًا بدلاً من التمر الذي في رءوس النخل التى أعريت له، فهذه الصورة في حق غيره حرام، وفي حق المعرَى -بفتح الراء- حلال، فاستثني بذلك بيانًا لهذه العلة ثم إن المعرَى -بفتح الراء- بأخذه التمر بدلاً عن الثمر الذي في رءوس النخل يكون كالبائع لذلك الثمر بالتمر الذي يأخذه من المعري -بكسر الراء- فإطلاق البيع على العرية بهذه الحيثية؛ لا باعتبار أن هناك بائع حقيقة أو بيع حقيقة. ص: فإن قال قائل: لو كان تأويل هذه الآثار ما ذهب إليه أبو حنيفة، لما كان لذكر الرخصة فيها معني. قيل له: بل له معنى صحيح، ولكن قد اختلف فيه، ما هو؟ فقال عيسى بن أبان: معني الرخصة في ذلك أن الأموال كلها لا تملك بها أبدالًا إلا من كان مالكها لا يبيع الرجل ما لا يملك ببدل، فيملك ذلك البدل، فإنما يملك ذلك البدل إذا ملكه بصحة ملكه للشيء الذي هو بدل منه. قال: فالمعرَى لم يكن يملك العرية، لأنه لم يكن قبضها، والتمر الذي يأخذه بدلاً منها، فقد جعل طَيِّيًا له في هذا الحديث، وهو بدل من رطبٍ لم يكن ملكه. قال: فهذا هو الذي قصد بالرخصة إليه.

وقال غيره: الرخصة أن الرجل إذا عرَى الرجل الشيء من ثمره، فقد وعد أن يسلمه إليه ليملكه المُسَلَّم إليه بقبضه إياه، وعلى الرجل في دينه أن يفي بوعده، وإن كان غير مأخوذ به في الحكم، فرخص للمعرِي أن يحبس ما أعرى بأن يعطي المعرى خرصه تمرًا بدلاً منه من غير أن يكون آثمًا، ولا في حكم من أخلف موعدًا، فهذا موضع الرخصة. ش: تقرير السؤال أن يقال: أحاديث العرايا ذُكرت بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا في شيء محرم، والعرايا لو كانت عطية على ما أَوَّله أبو حنيفة لم يكن لذكر الرخصة فيها فائدة ولا معني؛ لأن الرخصة لا دخل لها في العطايا والهبات، فَذِكْر الرخصة يدل على أنها بيع مستثنى من البيوع الحرمة. وقد أجاب عنه الطحاوي بجوابين: أحدهما: عن عيسى بن أبان، والآخر: عن غيره، وكلاهما ظاهر. قوله: "قال: فالمعرى" بفتح الراء. قوله: "وقال غيره" أي غير عيسى بن أبان. قوله: "وعلى الرجل في دينه أن يفي بوعده" لورود النصوص من الكتاب والسنة على الحث والتحريض بوفاء المواعيد. قوله: "فرخص للمعري" بكسر الراء. قوله: "بأن يعطي المعرَى" بفتح الراء. ص: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن أبي حنيفة أولى ما حُمل عليه وجه هذا الحديث، لأن الآثار قد جاءت عن رسول الله -عليه السلام- متواترة بالنهي عن بيع الثمر بالتمر، منها ما قد ذكرناه في أول هذا الباب، ومنها: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد وأبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبايعوا الثمر بالتمر".

قال ابن شهاب: وحدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. مثله سواء. حدثنا يزيد وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، قال: "سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- سئل عن رجل اشتري ثمرة بمائة فرق يكيل له، قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن هذا -يعني المزابنة". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكريا قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، والزبيب بالعنب كيلا، والزرع بالحنطة كيلًا". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن عون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار: "أن ابن عمر سئل عن رجل باع ثمرة أرضه من رجل بمائة فرق، فقال: نهي رسول الله -عليه السلام- عن هذا، وهو المزابنة". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، قال: أخبرني يونس، قال: حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة، قال: والمزابنة: أن يشتري الرجل -أو يبيع- حائطه بتمر كيلاً، أو كرمه بزبيب كيلاً، أو أن يبيع الزرع كيلًا بشيء من الطعام". حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نهي رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة". حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر عن النبي -عليه السلام-، مثله، وزاد: "أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رءوس النخل بمائة فرق".

حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم قال: ثنا محمد بن مسلم الطائفي، قال: أنا إبراهيم بن ميسرة، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المخابرة والمزابنة والمحاقلة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن حفص، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني سَعْد بن إبراهيم، قال: حدثني عمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة. قال والمحاقلة: الشرك في الزرع، والمزابنة: التمر بالتمر في النخل". فهذه الآثار قد تواترت عن رسول الله -عليه السلام- بالنهي عن بيع الكيل من التمر بالثمر في رءوس النخل، فإن حمل تأويل العرايا على ما ذهب إليه أبو حنيفة كان النهي على عمومه ولم يبطل منه شيء، وإن حمل على ما ذهب إليه مالك بن أنس: خرج منه ما تأول هو العرية عليه، فلا ينبغي أن يخرج شيء من حديث متفق عليه إلا بحديث متفق على تأويله، أو بدلالة أخري متفق عليها، وقد روي أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد ذكرناه في غير هذا الموضع، في النهي عن بيع الرطب بالتمر، فإن حملنا معني العرية على ما قال مالك؛ ضاد ما روي في النهي عن بيع الرطب بالتمر، وإن حملناه على ما قال أبو حنيفة؛ اتفقت معانيها ولم تتضاد، وأولى بنا في صرف وجوه الآثار ومعانيها ما ليس فيه تضاد ولا معارضة سنة بسنة. فقد ثبت بما ذكرنا في العرايا ما ذهب إليه أبو حنيفة، والله أسأله التوفيق. ش: أشار بهذا الكلام إلى ترجيح تأويل أبي حنيفة في العرايا على تأويل غيره، بيان ذلك أن الأحاديث الصحيحة قد جاءت عن النبي -عليه السلام- متواترة -يعني متكاثرة، ولم يرد بها التواتر المصطلح عليه- بالنهي عن بيع الثَّمَر -بالثاء المثلثة وفتح الميم- بالتمر -بالتاء المثناة من فوق وسكون الميم- فمنها أي من هذه الأحاديث: ما قد مر ذكره في أول هذا الباب، وهو حديث ابن عمر الذي أخرجه من طرق متعددة، وفيه نهي رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر بالتمر، ومنها ما أخرجه

عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- من ستة طرق صحاح: الأول فيه: عن أبي هريرة وعن ابن عمر كليهما. أخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح. وهو عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة. وعن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة -واللفظ لحرملة- قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". قال ابن شهاب: وحدثني سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، مثله سواء. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن ليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬2): من حديث الليث، عن عُقَيل، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المَرْوذي -وثقه يحيى- عن حماد بن سلمة إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1168 رقم 1538). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 763 رقم 2072).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا يوسف القاضي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار: "أن ابن عمر سئل عن رجل قال لرجل: بعني ثمرة أرضك بما كنت تكيل منها، قال ابن عمر: نهى رسول الله -عليه السلام- عن هذا، وهي المزابنة". الرابع: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكرياء .... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله أخبره: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المزابنة؛ بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، وبيع الزرع بالحنطة كيلًا". الخامس: عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن عون الزيادي مولي آل زياد بن أبي سفيان البصري، وثقة أبو زرعة وابن حبان. السادس: عن نصر بن مرزوق، عن أبي زرعة المصري المؤذن، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة؛ أن يبيع ثمر حائطه وإن كان نخلًا بتمر كيلاً، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله". قوله: "بمائة فَرَق" بفتح الفاء والراء وفي آخره قاف، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وهي اثني عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفَرَق: خمسة أقساط، والقسط نصف صاع، وأما الفَرْق بالسكون فمائة وعشرون رطلًا. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 456 رقم 13652). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1171 رقم 1543). (¬3) "المجتبى" (7/ 270 رقم 4549).

قوله: "عن بيع ثَمَر النخل" بالثاء المثلثة وفتح الميم. وقوله: "بالتمر" بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الميم. قوله: "حائطه" أراد بالحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، ويجمع على حوائط. ومنها ما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بإسناد صحيح، عن محمد بن عمرو بن يونس، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي. وأخرجه البخاري (¬1) من حديث أبي إسحاق الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة". ومنها ما أخرجه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من طريقتين صحيحين: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان ابن عيينة، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) من طريق الشافعي نحوه، وفيه: "والمحاقلة: أن يبيع الزرع بمائة فَرَق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رءوس النخل بمائة فَرَق تمر، والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع". وأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة (¬3). الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المصري المعروف بابن أبي مريم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 763 رقم 275). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 307 رقم 10420). (¬3) البخاري (2/ 839 رقم 2252)، ومسلم (3/ 1172 رقم 1536)، وأبو داود (2/ 273 رقم 3373)، والترمذي (3/ 585 رقم 1290)، والنسائي (7/ 37 رقم 3879)، وابن ماجه (2/ 762 رقم 2266).

شيخ البخاري، عن محمد بن مسلم بن سُوسَن الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي ... إلى آخره. ومنها ما أخرجه عن أبي هريرة بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن حفص الأصبهاني، عن سفيان الثوري، عن سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو داود، نا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن ابن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة" انتهي. ففي هذه الأحاديث النهي عن بيع الكيل من التمر بالثمر في رءوس الأشجار، فمتى ما حملنا تأويل العرايا على ما ذهب إليه غير أبي حنيفة، منها ما تأوله هؤلاء، فيخرج النهي عن عمومه. وإذا حملناه على ما ذهب إليه أبو حنيفة، كان النهي على عمومه ولم يبطل منه شيء، ولا شك أن هذا أولى؛ لأن فيه العمل بالعموم، وفيما ذهب إليه غيره إبطال بعض العموم. وأيضًا فقد روي عن النبي -عليه السلام- النهي عن بيع الرطب بالتمر كما مرت أحاديثه في الباب المعقود لها فيما مضى، فمتى ما حملنا معني العرية على ما قال غير أبي حنيفة؛ يلزم التضاد بين أحاديث النهي عن بيع الرطب بالتمر وبين أحاديث العرايا، وإذا حملناها على ما قال أبو حنيفة لا يلزم من ذلك شيء وتتفق معاني أحاديث البابين. والأولي بل الواجب صرف وجوه الأحاديث إلى معنى ليس فيه تضاد، ولا معارضة سنة بسنة، فافهم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 506 رقم 22587).

ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا أنه قال: "خففوا في الصدقات؛ فإن في المال العرية والوصيه". حدثنا بذلك أبو بكرة قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا جرير بن حازم، قال: سمعت قيس بن سعد يحدث، عن مكحول الشامي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فدل ذلك أن العرية إنما هي شيء يُمَلِّكه أرباب الأموال قومًا في حياتهم، كما يملكون الوصايا بعد وفاتهم. ش: هذه حجة أخري تدل على صحة تأويل أبي حنيفة في العرايا، وهو أن معناها العطايا لا البيع، على ما لا يخفى. والحديث المذكور مرسل، وإسناده صحيح، وهو حجة عندنا على ما عرف في موضعه. وأبو بكرة هو بكار القاضي. وأبو عمر الضرير اسمه: حفص بن عمر المصري، شيخ أبي داود وابن ماجه وقيس بن سعد المكي مولي نافع بن علقمة وثقه أحمد وأبو زرعة. ص: وحجة أخرى في أن معنى العرية كما قال أبو حنيفة لا كما قال مخالفه: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن عون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى البائع والمبتاع عن المزابنة، قال: وقال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: رخص في العرايا في النخلة والنخلتين توهبان للرجل فيبيعهما بخرصهما تمرًا". فهذا زيد بن ثابت وهو أحد من روى عن النبي -عليه السلام- الرخصة في العرية، فقد أخبر أنها الهبة. ش: دلالة هذا الحديث على ما قال أبو حنيفة ظاهرة لا تخفى إلا على المعاند.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن عون الزيادي، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، كلاهما عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يوسف القاضي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال زيد ثابت -رضي الله عنه-: "رخص رسول الله -عليه السلام- في العرايا؛ النخلة والنخلتين توهبان للرجل، فيبيعهما بخرصهما تمرًا". قوله: "توهبان" على صيغة المجهول صفة لقوله: "والنخلتين" فافهم. ... ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 112 رقم 4770).

ص: باب: الرجل يشتري الثمرة فيقبضها فتصيبها جائحة

ص: باب: الرجل يشتري الثمرة فيقبضها فتصيبها جائحة ش: أي هذا باب في بيان حكم الثمرة التي يشتريها الرجل فيقبضها، ثم تصيبها آفة. والجائحة -بالجيم ثم الحاء-: من الجوح، يقال: جاحهم يجوحهم جوحًا إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم. والجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مُبِيرَة: جائحة. ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح". حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام-، بمثله. ش: هذان طريقان صحيحان. والمزني هو إسماعيل بن يحيى خال الطحاوي، وسفيان هو ابن عيينة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي، وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث في باب: بيع الثمار قبل أن تتناهى، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع السنين" واقتصر على هذا هناك. وكذا أخرجه مسلم (¬1) والنسائي (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1172 رقم 1536). (¬2) "المجتبى" (7/ 294 رقم 4627).

وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع السنين ووضع الجوائح". وقد ذكرنا أن بيع السنين هو أن يبيع ثمرة حائطه سنين، وهو الذي يسمي أيضًا بيع المعاومة. و"الوضع" من وَضِعَ في البيع يُوضع وَضِعية، وهو أن تكون الخسارة من رأس المال. والجوائح جمع جائحة وهي الآفة. ص: قال أبو جعفر -رحمة الله-: فذهب قوم إلى أن معني هذه الجوائح التي أمر النبي -عليه السلام- بوضعها في الثمار يبتاعها الرجل فيقبضها، فتصيبها في يده جائحة فتذهب بثلثها فصاعدًا، قالوا: فذلك يبطل ثمنها عن المشتري. قالوا: وما أصابها فأذهب بشيء منها دون ثلثها ذلك من مال المشتري، ولم يبطل عنه من ثمنه شيء. قالوا: وهذا مثل الحديث المروي عن رسول الله -عليه السلام-، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، لم يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، [بم] (¬1) تأخذ [مال] (¬2) أخيك بغير حق". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، فذكر بإسناده مثله. قالوا: فقد بين هذا الحديث المعني الذي ذكرنا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مالكًا والشافعي -في القديم- وأحمد وأبا عبيد وطائفة من أهل الحديث، ولكن فيما بينهم اختلاف أيضًا، فقال مالك والشافعي -في ¬

_ (¬1) في "الأصل": ثم. والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل": من. والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قول-: الجائحة التي توضع عن المشتري: الثلث فصاعدًا، ولا تكون فيما دون الثلث جائحة، وقال أحمد وأبو عبيد والشافعي -في قول-: تحط الجائحة في الثمار عن المشتري قلَّت أو كثرت. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬1): الكلام في هذه المسألة على فصول: الأول: أن ما تهلكة الجائحة من الثمار من ضمان البائع في الجملة، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث. الثاني: أن الجائحة: كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح والبرد والجراد والعطش. الثالث: أن ظاهر المذهب أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه. وقال أحمد: إني لا أقول في عشر تمرات وعشرين تمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة فوق -الثلث أو الربع أو الخمس- توضع. وعنه رواية أخري: أن ما كان دون الثلث فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطائر، منها وتنثُر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بن هذا وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها: الوصية وعطايا المريض. وقال الأثرم: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، ودليله قوله -عليه السلام- في الوصية: "الثلث والثلث كثير" ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث، فإن النبي -عليه السلام- أمر بوضع الجوائح، ولم يفرق بين القليل والكثير، إذا ثبت هذا؛ فإنه إذا تلف شيء له قدر خارج عن العادة؛ وضع من الثمن بقدر الذاهب، وإن تلف الجميع بطل العقد ويرجع المشتري بجميع الثمن، ¬

_ (¬1) "المغني" (4/ 233).

وإن تلف البعض وكان الثلث فما زاد؛ رجع بقسطه من الثمن، وإن كان دونه لم يرجع بشيء، وإن اختلفا في الجائحة أو في قدر ما أتلفت، فالقول قول البائع لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول قول الغارم. وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: والذي يوضع من الجوائح عند ابن القاسم: كل ما لا يستطاع دفعه وإن علم به، والذي يستطاع دفعه إن علم به ليس بجائحة، كالسارق، وهو مذهب ابن نافع في "المدونة" وقال ابن القاسم في "المدونة": كل ما أصاب الثمرة بأي وجه كان فهو جائحة سارقًا كان أو غيره، وقال مطرف وابن الماجشون: لا تكون جائحة إلا ما أصاب الثمر من أمر السماء؛ من عفن أو برد أو عطش أو فساد بِحَرٍّ أو بَرْدٍ أو بكسر الشجر، وأما صنع الآدمي فليس بجائحة، وإذا كانت الجائحة من قبل العطش فقال مالك وابن القاسم في "الواضحة": يوضع قليل ذلك وكثيره؛ كانت تشرب مطرًا أو غيره، وأما الجائحة بكثرة المطر فهو نوع من العفن يوضع كثيره دون قليله، وكل مبيع يحتاج إلى بقائه في أصلة لانتهاء صلاحه وطيبه كثمرة النخل والعنب؛ إذا اشتري عند بدو صلاحه، وكثمرة التفاح والتين والبطيخ والورد والياسمين والفول فلا خلاف عندنا في وضع الجائحة فيه، وأما ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولا لبقاء نضارة كالتمر اليابس والزرع، فلا خلاف أنه لا توضع فيه جائحة، لأن تسليمه قد كمل، وهو كالصبرة الموضوعة في الأرض. وأما ما يحتاج إلى بقائه في أصله لحفظ نضارته كالعنب يشترى بعد تمام صلاحه، وكالقصيل والقصب والقرط والبقول والأصول المغيبة، فروى ابن القاسم في "المدونة": إن اشترى التمر في رءوس النخل وقد طابت طيبًا بيِّنًا، فأصابتها جائحة، فليس على البائع شيء، لأنه مثل ما في الجرن. وروي أصبغ، عن ابن القاسم: لا توضع في قصب السكر جائحة، لأنه لا يباع حتى يتم، وروى سحنون عن ابن القاسم في قصب السكر والخريز وسائر البقول

والقصيل الجائحة، وبه قال ابن عبد الحكم، وقال سحنون: إذا تناهى العنب وآن قطافه حتى لا يتركه تارك إلا لسوق يرجوه أو لشغل يعرض له لم توضع فيه جائحة، هذا في البيع. وأما إن كان مهرًا في النكاح فقال ابن القاسم: لا جائحة فيه. وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة. وقال ابن زرقون أيضًا: وما بيع من الثمار كالتين والعنب والتمر واللوز والجوز والتفاح فيراعي في جائحته الثلث، فإن قصرت الجائحة عن الثلث لم يوضع عن المشتري شيء، وما كان من أنواع البقول والأصول المغيبة مما الغرض في أعيانها دون ما يخرج منها، ففيها روايتان: نفي الجائحة جملة، وإثباتها. فإذا قلنا بإثباتها فيها، فروى ابن القاسم عن مالك: أن الجائحة توضع فيها قليلها وكثيرها، وإن كانت دون الثلث قال ابن القاسم: عن مالك في "المدونة": إلا أن يكون الشيء التافه، وروي عنه: أنه لا يوضع من جائحتها إلا ما بلغ الثلث. وأما القثاء والبطيخ والقرع والباذنجان والفول والجلبان، فروى ابن القاسم وجميع أصحابنا: أن الثلث يعتبر في جائحتها، وقال محمد عن أشهب: المقاثي كالبقل يوضع قليل جائحتها وكثيرها، فإن كان المبيع من الثمار في عقد واحد أجناسًا: عنبًا وتينًا وسفرجلًا أو ياسمينًا ووردًا، فأصاب جنسًا منها جائحة دون سائرها: فروى ابن حبيب عن مالك: كل جنس معتبر بنفسه إن بلغت ثلثه وضعت، وإن لم تبلغه لم توضع. وروى محمد عن أصبغ: أن جائحة المصاب معتبرة بالجملة، سواء كان في حائط أو حوائط مختلفة، ولو أشتري حوائط كثيرة من جنس واحد فأصابت الجائحة حائطًا منها اعتبر ثلث الجملة، والله أعلم. قال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وأما قول مالك في الجوائح فإنه لا يعرف عن أحد قبله ما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار والمقاثي، وبين البقول والموز، ولا يعضد ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 384 - 386).

قوله في ذلك قرآن ولا سنة، ولا رواية سقيمة أصلًا ولا قول أحد من السلف، ولا قياس ولا رأي له وجه، ولهم في تخصيص الثلث آثار ساقطة، وهي التي روينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ثنا مطرف، عن أبي طوالة، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا أصيب ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضيعة". قال عبد الملك: وحدثني أصبغ بن الفرج، عن السبيعي، عن عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة الرأي: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدًا". قال عبد الملك: وحدثني عبد الله بن موسي، عن خالد بن إياس، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خمس من الجوائح: الريح، والبرد، والحريق، والجراد، والسيل". قال علي: هذا كله كذب، عبد الملك مذكور بالكذب، والأول مرسل مع ذلك، والسبيعي مجهول، لا يدري أحد من هو، وعبد الجبار بن عمر ضعيف، وهو أيضًا مرسل؛ فسقط كل ذلك، وخالد بن إياس ساقط. وذكروا أيضًا عمن دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما روينا من طريق عبد الملك بن حبيب: نا ابن أبي أويس، عن الحسين بن عبيد الله بن ضَمْرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنه كان يقضي بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمن فصاعدًا". ومن طريق ابن حبيب أيضًا: حدثني الحزامي، عن الواقدي، عن موسى بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن سليمان بن يسار قال: "باع عبد الرحمن بن عوف من سعد بن أبي وقاص عنبًا له، فأصابه الجراد، فأذهبه -أو أكثره- فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقضى على عبد الرحمن برد الثمن إلى سعد". قال الواقدي: وكان سهل بن أبي حثمة وعمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وعلي بن الحسين وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح يرون الجائحة موضوعة عن المشتري إذا بلغت الثلث فصاعدًا.

قال علي: هذا كله باطل؛ لأن كله من طريق عبد الملك بن حبيب. ثم الحسين ابن عبد الله بن ضَمْرة مطرح متفق على أن لا يحتج بروايته؛ وأبوه مجهول، والواقدي مذكور بالكذب، والله أعلم. قوله: "وهذا مثل الحديث المذكور عن رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره، إشارة إلى أن ما ذكر هؤلاء القوم من معنى الجوائح التي تصيب الثمرة وتبطل من الثمن ثلثه على ما ذكر مثل ما روي عنه -عليه السلام- من قوله: "إن بعت من أخيك تمرًا ... " الحديث وذلك لأنه يدل على أن الرجل إذا باع من آخر ثمرًا ثم أصابته جائحة؛ فإنه لا يحل له أن يأخذ من المشتري شيئًا، فإن أخذ منه شيئًا يرده عليه، وهذا معنى ما روي من قوله -عليه السلام-: "أنه أمر بوضع الجوائح". ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقتين صحيحتين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر، قال: نا ابن وهب، عن ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن بعت من أخيك ثمرًا- (ح). ونا محمد بن عباد، قال: نا أبو ضمرة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو بعت من أخيك ثمرًا- فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا؛ بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1190 رقم 1554).

وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث ابن وهب وأبي عاصم، قالا: أنا ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ". وقالت أهل المقالة الأولى: هذا الحديث قد بَيَّن المعني الذي ذكرنا في وضع الجوائح. وسيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله تعالى. وقال ابن حزم: لا حجة في هذا الحديث لقول مالك ومن تبعه؛ بل هو حجة عليه، لأنه ليس فيه تخصيص ثلث من غيره، وكذا الحديث الأول. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما ذهب من ذلك من شيء -قَلَّ أو كثر- بعد أن يقبضه المشتري؛ ذهب من مال المشتري وما ذهب في يدي البائع قبل أن يقبضه المشتري بطل ثمنه عن المشتري. وقالوا: ما في هذه الآثار المروية عن رسول الله -عليه السلام- التي ذكرتموها فمقبول صحيح على ما جاء، ولسنا ندفع من ذلك شيئًا؛ لصحة مخرجه، ولكنا نخالف التأويل الذي تأولها عليه أهل المقالة الأولى. ونقول: إن معنى الجوائح المذكورة فيها: هي الجوائح التى يصاب الناس بها وتجتاحهم في الأرضين الخِرَاجية التي خراجها للمسلمين، فوضع ذلك الخراج عنهم واجب لازم؛ لأن في ذلك صلاحًا للمسلمين، وتقوية لهم في عمارة أرضهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا؛ فهذا تأويل حديث جابر -رضي الله عنه- الذي في أول هذا الباب. وأما حديث جابر الثاني فمعناه غير هذا المعني، وذلك أنه ذكر فيه البيع ولم يذكر فيه القبض، فذلك عندنا على البياعات التي تصاب في أيدي باعتها قبل قبض المشتري لها، فلا يحل للباعة أخذ ثمنها، لأنهم يأخذونها بغير حق، فهذا تأويل هذا الحديث عندهم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 306 رقم 10411).

فأما ما قد قبضه المشترون وصار في أيديهم، فذلك كسائر البياعات التبم يقبضها المشتري لها فتحدث بها الآفات في أيديهم، فلما كان غير الثمار يذهب من أموال المشتري لها لا من أموال باعتها؛ فكذلك الثمار. فهذا هو النظر وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث؛ لأنه قد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث (ح). وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب (ح). وحدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قالوا: ثنا الليث، قالا جميعًا: عن بكير بن الأشج، عن عياض بن عبد الله، عن أي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "أصيب رجل في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك". فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يرده على الباعة بالثمن، إن كانوا قد قبضوا ذلك منه؛ ثبت أن الجوائح الحادثة في يد المشتري لا تكون مبطلة عنه شيئًا من الثمن الذي عليه للبائع. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: وهم جمهور السلف والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في الجديد وأبا جعفر الطبري وداود وأصحابه، فإنهم قالوا: ما ذهب من ذلك -أي من المبيع- الثمر الذي أصابته جائحة من شيء، سواء كان قليلاً أو كثيرًا بعد قبض المشتري إياه، فهو ذاهب من مال المشتري، والذي ذهب في يد البائع قبل قبض [المشتري] (¬1) فذاك يبطل الثمن عن المشتري. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "مشتري" بدون ألف ولام.

قوله: "وقالوا: ما في هذه الأحاديث ... " إلى آخره جواب عن الأحاديث التي رويت عن رسول الله -عليه السلام- في الجائحة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر. وقوله: "ما" في محل الرفع على الابتداء، موصولة تتضمن معني الشرط، ولهذا دخلت "الفاء" في خبره، وهو قوله: "فمقبول". قوله: "على البياعات" جمع بياعة، بمعني البيع. قوله: "باعتها" جمع بائع، كالحاكة جمع حائك. قوله: "فهذا هو النظر" أي هذا الذي أوَّلناه هو وجه النظر والقياس، وهذا هو أولى ما حُمِلَ عليه حديث جابر -رضي الله عنه- أعني حديثه الثاني الذي رواه ابن جريج عن أبي الزبير عنه. وقوله: "لأن ما روي عن رسول الله -عليه السلام- إلى آخره دليل لما ذكره من التأويل الذي يقتضيه النظر. وقد بَيَّن ذلك بقوله: "فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يبطل دين الغرماء ... " إلى آخره. ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث ابن يعقوب الأنصاري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عياض بن عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1) بنفس هذا الإسناد: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب. وقد ذكرنا في ترجمة الطحاوي أنه قد شارك مسلمًا في بعض مشايخه، منهم: يونس بن عبد الأعلى هذا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1191 رقم 1556).

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري عن الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ... إلى آخره. وأخرجه مسلم أيضًا (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله -عليه السلام-: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك". الثالث: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث، عن بكير ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (1)، عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن بكير ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن يحيى بن إسحاق البجلي أبي بكر السيلحيني -ويقال: السيلحوني، والسالحيني أيضًا، والسيلحين: قرية بالقرب من بغداد. وأخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة، عن الليث، عن بكير ... إلى آخره نحوه. قوله: "أصيب رجل في ثماره" قيل: إنه هو معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. قوله: "ابتاعها" أي اشتراها. قوله: "فلم يبلغ ذلك" أي الذي تصدق عليه. وهذا الحديث يشتمل على أحكام: الأول: فيه دلالة على أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تكون مبطلة ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 298 رقم 3469). (¬2) "المجتبى" (7/ 265 رقم 4530).

للثمن الذي عليه للبائع، ولا شيئًا منه؛ لأنه -عليه السلام- لم يحكم ببطلان دين الغرماء فيه بذهاب الثمار. وقال ابن حزم: أخرج رسول الله -عليه السلام- هذا الرجل الذي أصيب في ثمار من ماله كله لغرمائه، ولم يسقط عنه لأجل الجائحة شيئًا، فدل ذلك أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تبطل شيئًا من الثمن. فإن قيل: لا نُسَلِّم هذا الذي ذكرتم لأن الحديث الأول عام، والمقصود منه البيان بوضع الجوائح، وهذا الحديث حكم في عين، ولعله اشتراها بعد تمام طيبها وإمكان جِذاذها. قلت: هذا ممنوع؛ لأن الحديث الأول قد ذكرنا أنه في الأرضيين الخَرَاجِيَّة وليس فيه شيء يدل على أنه في الأشياء المبيعات. وأما الحديث الثاني فإن العبرة فيه لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فافهم. الثاني: فيه الحض على الصدقة على المديان ليقضي منها دينه. الثالث: فيه أن الحر لا يباع في الدين، على ما كان في أول الإِسلام ثم نسخ بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). الرابع: فيه أنه لم يلزمهم بلزومه، ولا سوغه لهم، وهو حجة على من يذهب إلى خلاف ذلك. الخامس: فيه أنه لم يسجنه -عليه السلام-، وهو حجة على شريح: في قوله: يسجن أبدًا حتى يؤدي، وإن ثبت عدمه. السادس: فيه الحكم بأن يسلم للغرماء جميع ما يملكه، ويسوغه لهم الحاكم إن كان دينهم من جنسه، وإن كان غيره، باعه لهم الحاكم، وقسم ثمنه بينهم. ص: فإن قال قائل: إن الثمار لا تشبه سائر البياعات، لأنها معلقة في رءوس النخل، لا تصل إليها يد من ابتاعها إلا بقطعه إياها، وسائر الأشياء ليست كذلك، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [280].

فما يكون مقبوضًا بغير قطع مستأنف فهو الذي يذهب من مال المشتري، وما كان لا يقبض إلا بقطع مستأنف فهو الذي يذهب من مال البائع. قيل له: هذا الكلام فاسد من وجهين: أما أحدهما: فإنا رأينا هذه الثمار إذا بيعت في رءوس النخل فذهبت بكمالها أو ذهب منها شيء في أيدي باعتها؛ ذهب ذلك من أموالهم دون أموال المشتري. فكان ذهاب قليلها وكثيرها في ذلك سواء؛ لأنهم لم يقبضوها، فإذا قبضوها فذهب منها ما دون الثلث؛ فقد أجمع أنه ذاهب من مال المشتري؛ لأنه ذهب بعد قبضه إياه. فلما استوي ذهاب قليله وكثيره في يد البائع، وكان قليلة إذا ذهب في يد المشتري ذهب من ماله؛ كان كثيره كذلك، وكان المشتري بتخلية البائع بينه وبين ثمر النخل قابضًا له، وإن لم يقطعه. فهذا وجه. ووجه أخر: أنا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهي عن بيع الطعام حتى يقبض، وأجمع المسلمون على ذلك، وكانت الثمار في ذلك داخلة باتفاقهم، وأجمعوا أن المشتري لها لو باعها في يد بائعها كان بيعه باطلاً، ولو باعها بعد أن خلى البائع بينه وبينها ولم يقطعها كان بيعه جائزًا، فصار قابضًا لها بتخلية البائع بينه وبينها قبل قطعه إياها. فثبت بذلك أن قبض المشتري للثمار في رءوس النخل هو بتخلية البائع بينه وبينها وإمكانه إياه منها، فإذا فعل ذلك به فقد صارت في يده وفي ضمانه وبريء منها البائع، فما حدث فيها من جائحة أتت عليها كلها أو على بعضها فهي ذاهبة من مال المشتري لا من مال البائع. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران غنيان عن الشرح. قوله: "وكانت الثمار في ذلك داخلة باتفاقهم". قيل: لا نسلم أنها داخلة في ذلك؛ لأن المراد من بيع الطعام: هو الحنطة والثمار لا تدخل في ذلك، وأجيب بأن

هذا غير صحيح؛ لأن العلماء متفقون على أن المراد من الطعام في الحديث الذي نهي فيه عن بيعه حتى يقبض ما يتناول كل مقبوض. وقال القاضي في شرح هذا الحديث: والمشهور عن مالك عمومه في جميع المطعومات وهو قول أبي ثور وأحمد في كل ما يقع عليه اسم مطعوم، وذهب الشافعي إلى عموم ذلك في أنواع المبيعات، ووافقه أبو حنيفة -رضي الله عنه- واستثني العقار وحده. وقال آخرون: كل بيع يكون على الكيل أو الوزن -طعامًا أو غيره- فلا يباع حتى يقبض، وسيجيء التحقيق فيه في الباب التالي إن شاء الله تعالى. ***

ص: باب: ما نهي عن بيعه حتى يقبض

ص: باب: ما نهي عن بيعه حتى يقبض ش: أي هذا باب في بيان ما نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعه إلا بعد القبض. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وعفان، قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اشتري طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه". حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبد بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا على بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن عبيد الله، عن نافع، ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَه". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا على بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عمر وعمر بن محمد ومالك وغيرهم، أن نافعًا حدثهم، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفِيَه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-، مثله. قال مالك: "حتى يقبضه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وغيره، عن

المنذر بن عبيد المدني، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه". ش: هذه ثمان طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، وعفان بن مسلم، كلاهما عن شعبة .... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر يحدث، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه". قوله: " فلا يبيعه" نفي، فلذلك لم يجزم. وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي بأسانيد مختلفة وألفاظ مبتاينة. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ابتاع طعامًا، فلا يبيعه حتى يقبضه ويستوفيه". الثالث: عن علي بن معبد، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤدب -روى له الجماعة- عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الذي احتج به الأربعة. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا إبراهيم بن زياد الصائغ، ثنا يونس بن محمد، نا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب، عن النبي -عليه السلام- قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 79 رقم 5500). (¬2) "مسند البزار" (1/ 265 رقم 162).

الرابع: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني -روي له الجماعة- عن عبيد الله بن عمر ... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَه". قوله: "فلا يبعه" نهي، فلذلك جزم. الخامس: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني قارئ أهل المدينة، عن عبد الله بن دينار .... إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى وعلي بن حجر، قال يحيى: أنا إسماعيل بن جعفر، وقال علي: ثنا إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وعمر بن محمد ابن زيد بن عبد الله بن عمر الخطاب، ومالك بن أنس، ثلاثتهم عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب .... إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطأه" (2). الثامن: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن عمرو بن الحارث ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1160 رقم 1526). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 640 رقم 1311).

وغيره، عن المنذر بن عبيد المدني -وثقه ابن حبان وروى له أبو داود والنسائي- عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه النسائي (¬1): أنا سليمان بن داود والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن المنذر بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه". ش: إسناده صحيح. وابن جريج هو عبد الملك، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان رسول الله -عليه السلام- يقول: "إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تَستوفِيَهُ". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اشتري طعامًا فلا يبعه حتى يستوفِيَه". ش: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه فيه مقال. وابن أبي حازم هو عبد العزيز بن أبي حازم واسمه سلمة بن دينار المدني، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 286 رقم 4604). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1163 رقم 1529).

والضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي أبو عثمان المدني الكبير، وثقه يحيى وأحمد، وروى له الجماعة سوي البخاري. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله -وفي رواية أبي بكر: من ابتاع". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عصمة الجشُمي، عن حكيم بن حزام قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم أُنبأ -أو ألم أُخْبَر- أنك تبيع الطعام؟ فلا تبعه حتى تستوفيه". حدثنا ابن مرزوق، قال: أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن صفوان بن موهب، عن عبد الله بن محمد بن صيفي، عن حكيم بن حزام، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، غير أنه قال: "حتى تقبضه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز ابن رفيع، عن عطاء، عن حزام بن حكيم بن حزام، عن حكيم بن حزام قال: "كنت اشتري طعامًا فأربح فيه قبل أن أقبضه، فسألت النبي -عليه السلام- فقال: لا تبعه حتى تقبضه". ش: هذه ثلاث طرق حسان جياد: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس روي له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عصمة الجشمي الحجازي، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي (¬2) وأخرج الحديث: أخبرني إبراهيم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1162 رقم 1528). (¬2) "المجتبى" (7/ 276 رقم 4602).

ابن الحسن، ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء، عن عبد الله بن عصمة الجُشُمي، عن حكيم بن حزام، عن النبي -عليه السلام-، نحوه. قوله: "ألَمْ أُئْبَا" على صيغة المجهول وكذا قوله: "أَلَم أُخْبَر" ومعناهما واحد. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن موهب الحجازي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن محمد بن صيفي القرشي المخزومي وثقه ابن حبان، عن حكيم بن حزام ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن موهب، عن عبد الله بن محمد بن صيفي، عن حكيم بن حزام، أن النبي -عليه السلام- قال له: "ألم أُنْبَأ -أو: ألم أُخْبَر، أو: ألم يبلغني، أو كما شاء الله- أنك تبيع الطعام؟ قلت: بلي، قال: فإذا ابتعت طعامًا فلًا تبعه حتى تستوفيه". وأخرجه النسائي أيضًا (¬2): عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن عبد العزيز ابن رفيع الأسدي المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم بن حزام، عن أبيه حكيم بن حزام ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا سليمان بن منصور، نا أبو الأحوص، عن عبد العزيز ابن رفيع، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم قال: قال حكيم بن حزام: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 312 رقم 10459). (¬2) "المجتبى" (7/ 286 رقم 4602). (¬3) " المجتبى" (7/ 286 رقم 4603).

"ابتعت طعامًا من طعام الصدقة، فربحت فيه قبل أن أقبضه، فأتيت رسول الله -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال: لا تبعه حتى تقبضه". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن من اشترى طعامًا لم يجز له بيعه حتى يقبضه، ومن اشترى غير الطعام حل له بيعه وإن لم يقبضه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وقالوا: لما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي إلى الطعام، دل ذلك أن حكم غير الطعام في ذلك بخلاف حكم الطعام. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عثمان البتي وسعيد بن المسيب، والحسن والأوزاعي وإسحاق ومالكًا في رواية وأحمد في قول، فإنهم قالوا: من اشترى طعامًا لم يجز له بيعه حتى يقبضه، ومن اشترى غير الطعام حل له بيعه وان لم يقبضه. وتحقيق الخلاف أن مذهب عثمان البتي: جواز بيع كل شيء قبل قبضه سواء كان طعامًا أو غيره ومذهب غيره، ممن ذكرناهم على التفصيل المذكور، وهو مذهب الحكم بن عتيبة وحماد أيضًا، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. وقال ابن قدامة في "المغني": ومن اشتري ما يحتاج إلى قبض لم يجز بيعه حتى يقبضه، ولا أرى بين أهل العلم في هذا خلافًا، إلا ما حكي عن عثمان البتي، أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: هذا قول مردود بالسنة، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه -في أظهر الروايتين- ونحوه قول مالك وابن المنذر. وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": اختلف الناس في جواز بيع المشتريات قبل قبضها، فمنعه الشافعي في كل شيء، وانفرد عثمان البتي فأجازه في كل شيء، ومنعه أبو حنيفة -رحمة الله- في كل شيء إلا العقار وما لا ينقل، ومنعه آخرون في سائر المكيلات والموزونات، ومنعه مالك في سائر المكيلات والموزونات إذا كانت طعامًا. وقال أيضًا: اختلف العلماء فيما بيع من الطعام جزافًا هل هو مثل ما بيع على الكيل أو العد والوزن، يجوز بيعه قبل استيفائه ونقله أم لا؟ فمشهور

مذهب مالك جوازه؛ لأنه بتمام العقد صار في ضمان البائع، فخرج من النهي عن ربح ما لم يضمن، وبجوازه قال عثمان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وإسحاق. وذهب الكوفيون والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود إلى منعه. وقد بقي من الخلاف في أصل المسألة ما روي عن مالك: أن ذلك يختص فيما لا يجوز فيه التفاضل والطعام، رواه عنه ابن وهب، وإن كان قد ذكر غير واحد أن العلماء لم يختلفوا في منع ذلك في جميع الطعام، والمشهور عن مالك عمومه في جميع المطعومات، وهو قول أبي ثور وأحمد، في كل ما يقع عليه اسم مطعوم، وذهب الشافعي إلى عموم ذلك في أنواع المبيعات، ووافقه أبو حنيفة واستثني العقار وحده. وقال آخرون: كل بيع على الكيل أو الوزن طعامًا أو غيره، فلا يباع حتى يقبض. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ذلك النهي قد وقع على الطعام وغير الطعام، وإن كان المذكور في الآثار التي ذكر ذلك النهي فيها هو الطعام. واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ابتعت زيتًا بالسوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ إليه، فإذا زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله -عليه السلام- نهانا أن نبيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". فلما أخبر زيد -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام- بأن الزيت قد دخل فيما كان نهى عن بيعه قبل قبضه -وهو غير الطعام الذي كان ابن عمر علم من رسول الله -عليه السلام- النهي عن منعه بعد ابتياعه حتى يقبض، وعمل ابن عمر على ذلك، فأراد بيع الزيت قبل قبضه، لأنه ليس من الطعام، فقُبِلَ ذلك منه ابن عمر -رضي الله عنهما-، ولم يكن ما كان سمع من رسول الله -عليه السلام-مما ذكرناه عنه في أول هذا الباب من قصده إلى الطعام- بمانع

أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام، ثم أكد زيد بن ثابت -رضي الله عنه- الأمر في ذلك، فقال: "كان رسول الله -عليه السلام- ينهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فجمع بذلك كل السلع، وفيها غير الطعام. فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء ابتيع إلا بعد قبض مبتاعه إياه، طعامًا كان أو غيره، وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقد علم من رسول الله -عليه السلام- قصده بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام- فبيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس برأيه: وأحسب كل شيء مثله". فهذا ابن عباس لم يمنعه قصد النبي -عليه السلام- بالنهي إلى الطعام أن يُدخل في ذلك النهي غير الطعام. وقد روي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مثل ذلك أيضًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: "في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه، قال: أكرهه". فهذا جابر -رضي الله عنه- قد سوى بين الأشياء المبيعة في ذلك، وقد عَلِمَ من رسول الله -عليه السلام- قصده -بالنهي عن البيع فيه حتى يُقبض- إلى الطعام بعينه، فدل ذلك على ما قد تقدم وصفنا لذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والثوري وابن عيينة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في الجديد، ومالكًا في رواية، وأحمد في رواية، وأبا ثور وداود، فإنهم قالوا: النهي المذكور في الأحاديث المذكورة قد وقع على الطعام وغيره، وهو مذهب ابن عباس أيضًا، ولكن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل القبض، لأنها لا تنقل، ولا تحول وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال أبو حنيفة هذا الحكم -يعني عدم جواز البيع قبل القبض- في كل مبيع ينقل ويحول. وقال الشافعي: هو في

كل مبيع. وقال أبو حنيفة: أما المهر والجعل وما يؤخذ في الخلع من طعام أو غيره فيجوز بيعه قبل قبضه. قال: وما ملك بالشراء -أو بالإجارة- فلا يجوز بيعه قبل القبض إلا العقار وحده، ومنعه الشافعي في كل مبيع؛ عقارًا أو غيره، وهو قول الثوري وابن عيينة ومحمد بن الحسن. وهو مذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن النهي المذكور عام يتناول الطعام وغيره، وإن كان المذكور -في الأحاديث التي ذكر فيها النهي المذكور- فيها هو الطعام، بحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، فإنه أخبر عن النبي بأن الزيت قد دخل في الذي نهي -عليه السلام- عن بيعه قبل القبض، والزيت غير الطعام الذي قد علم ابن عمر -رضي الله عنهما- من النبي -عليه السلام- النهي عن بيعه بعد الشراء قبل القبض. ثم إن ابن عمر -رضي الله عنهما- قد عمل بما قال له زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، والحال أن ما كان سمع منه -عليه السلام- ما قد تقدم ذكره في أول الباب من قصده إلى الطعام لم يكن مانعًا أن يكون غير الطعام في ذلك بخلاف الطعام. ثم إن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قد أكد عموم النهي وتناوله للطعام وغيره بقوله: "كان رسول الله -عليه السلام- نهانا عن ابتياع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" فقوله: "السلع" يتناول كل سلعة كانت، وهي أعم من أن تكون طعامًا أو غيره، فدل ذلك على أنه لا يجوز بيع شيء أشتراه الرجل إلا بعد قبضه؛ سواء كان طعامًا أو غيره، ويؤكد ما ذكرنا أيضًا قول ابن عباس: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام-: فبيع الطعام قبل أن يستوفى"، ثم قال برأيه: "وأحسب كل شيء مثله". فكلامه هذا يدل على أن قصد النبي -عليه السلام- بالنهي إلى الطعام لم يمنع فيه أن يدخل في النهي المذكور غير الطعام؛ لأن ابن عباس قد علم منه -عليه السلام- ذلك القصد، ثم قال: "وأحسب كل شيء مثله".

وكذلك جابر بن عبد الله قد علم من رسول الله -عليه السلام- قصده بالنهي عن البيع قبل القبض إلى الطعام، ثم قال في الرجل يبتاع البيع فيبيعه قبل أن يقبضه قال: "أكرهه" فعمم في كلامه؛ لأن قوله: "يبتاع البيع" يتناول الطعام وغيره. فدل هذا كله أن المراد من النهي عن البيع قبل القبض عامٌّ، يتناول الطعام وغيره، وإن كانت الأحاديث المذكورة قد عُيِّنَ فيها الطعام بالوجه الذي ذكرناه. فإن قيل: دليل خطاب الأحاديث المذكورة في أول الباب يقتضي جواز بيع غير الطعام قبل القبض؛ لأن سائر المكيلات لو كان بيعها ممنوعًا قبل القبض لما خص الطعام بالذكر، فلما خصَّه؛ دل على أن ما عداه بخلافه. قلت: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك فيتناول سائر المطعومات من المكيلات وغيرها، والطعام يطلق على غير ما يؤكل أيضًا، فإنه أطلق على ماء زمزم على ما جاء في الحديث (¬1) "أنها طعام طعم وشفاء سقم" ولئن سَلَّمنا أن الطعام مقتصر على ما يطعم أو على الحنطة خاصة، ولكن ما ذكرنا من حديث زيد وغيره يدل على أن تعيين الطعام في الأحاديث المذكورة ليس المراد منه تخصيصه، بل حكم غيره مثل حكمه، لأن النهي لأجل أن فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه؛ لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض بطل البيع الأول، فينفسخ الثاني؛ لأنه بناءً على الأول، وقد "نهي رسول الله -عليه السلام- عن بيع فيه غرر" رواه مسلم (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 147 رقم 9441)، والبزار في "المسند" (9/ 367 - 369 رقم 3946)، والطبراني في "الصغير" (1/ 186 رقم295). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 621 رقم 5711): رواه البزار والطبراني في "الصغير"، ورجال البزار رجال الصحيح. وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (4/ 1919 رقم 2473)، و"مسند أحمد" (5/ 174 رقم 21565) دون لفظة: "وشفاء سقم". (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1153 رقم 1513).

والترمذي (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. ثم حديث زيد بن ثابت أخرجه بإسناد حسن جيِّد عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبيد بن حنين المدني -روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا محمد بن عوف الطائي، قال: نا أحمد بن خالد الوهبي، قال: نا محمد بن إسحاق ... إلى آخره نحوه. وأخرجه الدارقطني (¬5) والبيهقي (¬6) أيضًا. فإن قلت: كيف قلت: إسناده جيد حسن وقد قال ابن حزم: حديث زيد بن ثابت هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول؟! قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن الوهبي رجل مشهور روى عنه أئمة حفاظ، وقد وثقه يحيى، واحتج به الأربعة. قوله: "ابتعت زيتًا" أي اشتريت. قوله: "فأردت أن أضرب على يده" أي أعقد به البيع لأن من عادة المتبايعين أن يضع أحدهما يده في يد الآخر عند عقد التبايع. قوله: "حتى تحوزه إلى رحلك" أي حتى تضمه وتسوقه إلى منزلك، يقال: حازه يحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به. ورحل الرجل: منزله ومسكنه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 532 رقم 1230). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 274 رقم 3376). (¬3) "المجتبى" (7/ 262 رقم 4518). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 304 رقم 3499). (¬5) "سنن الدارقطني" (3/ 13 رقم 36). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 314 رقم 10473).

وأما أثر ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس. وأحْرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس يقول: "أما الذي نهى عنه رسول الله -عليه السلام- فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله". ولفظ مسلم: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفِيَهُ قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله". وأما أثر جابر -رضي الله عنه- فأخرجه أيضًا بإسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. وأخرجه عبد الرزاق (¬3)، عن ابن جريج ... إلى آخره نحوه. ص: فإن قال قائل: فكيف قصد بالنهي في ذلك إلى الطعام بعينه ولم يعم الأشياء؟! قيل له: قد وجدنا مثل هذا في القرآن، قال الله -عز وجل- {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬4) فأوجب عليه الجزاء المذكور في الآية، ولم يختلف أهل العلم في قاتل الصيد خطأً أن عليه مثل ذلك، وأن ذكره العمد لا ينفي الخطأ، فكذلك ذكره الطعام في النهي عن بيعه قبل القبض لا ينفي غير الطعام، وقد رأينا الطعام يجوز فيه السَّلَم، ولا يجوز السَّلَم في العروض، فكان الطعام أوسع أمرًا في البيوع من غير الطعام؛ لأن الطعام يجوز السَّلَم فيه وإن لم يكن عند المُسَلَّم إليه، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 751 رقم 2028). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1159 رقم 1525). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 43 رقم 14229). (¬4) سورة المائدة، آية: [95].

ولا يكون ذلك في غيره، فلما كان الطعام أوسع أمرًا في البيوع، وكثر جوازًا، ورأيناه قد نهى عن بيعه حتى يقبض، كان ذلك فيما لا يجوز السلم فيه أحرى أن لا يجوز بيعه حتى يقبض، فقصد رسول الله -عليه السلام- بالنهي الذي إذا نهى عنه دل نهيه على نهيه عن غيره، وأغناه ذكره له، عن ذكره لغيره، فقام ذلك مقام النهي إلى الذي لو عمَّ به الأشياء كلها. ولو قصد بالنهي إلى غير الطعام أشكل حكم الطعام في ذلك على السامع، فلم يدر هل هو كذلك أم لا؟ لأنه قد يجد الطعام يجوز السَّلَم فيه، وليس هو بقائم حينئذ، ولشى يجوز ذلك في العروض، فيقول: كما خالف الطعام العروض في جواز السَّلَم فيه، وليس عند المسلم إليه، وليس ذلك في العروض، فكذلك يحتمل أن يكون مخالفًا له في جواز بيعه قبل أن يقبض، وإن كان ذلك غير جائز في العروض. فهذا هو المعنى الذي له قصد النبي -عليه السلام- بالنهي عن بيع ما لم يقبض إلى الطعام خاصة. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم ادعيتم أن النهي المذكور في الأحاديث المتقدمة وقع على الطعام وغيره، وإن كان النهي فيها عن الطعام خاصة، ولو كان المراد هذا لم يكن النبي -عليه السلام- يقصد بالنهي إلى الطعام بعينه، ولَكَانَ يذكر شيئًا يعمّ الأشياء كلها، فلما لم يعمّ الأشياء، وقصد بالنهي إلى الطعام؛ دل أن غير الطعام يخالف الطعام فيه، فافهم. وتقرير الجواب ما ذكره بقوله: "قيل له .... " إلى آخره، ملخصه أن تعيين الطعام بالذكر من قبيل تعيين العمد بالذكر في قوله تعالي: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬1) فإنهم اتفقوا على أن ذكر العمد في الآية ليس يقيد، بل حكم الخطأ فيه كالعمد، فكذلك الطعام ها هنا ليس بقيد، بل غير الطعام فيه كالطعام. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [95].

فإن قيل: قد ذكروا أن نزول الآية في العمد، والحقوا به الخطأ والنسيان تغليظًا، وها هنا كيف يلحق غير الطعام بالطعام؟ قلت: لما كان النهي عن بيع الطعام قبل قبضه معلَّلا بأن فيه غرر انفساخ البيع، فهذا المعنى يوجد في غير الطعام أيضًا، فيلحق به، مع ما جاء من الآثار الدالة على بيع الطعام وغير كما تقدم ذكره. فإن قيل: لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسًا، وليس في المخطئ نصٌّ في إيجاب الجزاء، فكيف توجبون عليه الكفارة كالعامد؟! قلت: ليس هذا قياس بل بالنص؛ لأنه لما استوى حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام، كان مقصودًا في ظاهر النهي بتساوي حال العامد والمخطئ، وليس ذلك قياسًا، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي -عليه السلام- في بريرة ليس بقياس، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة، وحكم الزيت بحكم السمن إذا مات فيه، ليس هو قياسًا على الفأرة والسمن؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا، فإذا ورد في شيء منه كان حكمًا في جميعه. قوله: "وقد رأينا الطعام ... " إلى آخره دليل آخر يلحق غير الطعام بالطعام تأكيدًا لما ذكره من الجواب، وهو ظاهر. قوله: "ولا يجوز السلم في العروض" ليس على الإطلاق ففي العروض التي يمكن ضبط صفتها ومعرفة مقدارها يجوز السلم فيها، كما عرف في موضعه. ص: وفي ذلك حجة أخرى: أن المعني الذي حرم به على مشتري الطعام بيعه قبل قبضه، هو أنه لا يطيب له ربح ما في ضمان غيره، فإذا قبضه صار في ضمانه، فطاب له ربحه، فجاز أن يبيعه متى أحب، والعروض المبيمعة هذا المعنى بعينه موجود فيها، وذلك أن الربح فيها قبل قبضها غير حلال لمبتاعها؛ لأن النبي -عليه السلام- قد نهي عن ربح ما لم يضمن.

فلما كان ذلك قد دخل فيه الطعام وغير الطعام، ولم يكن الربح يطيب لأحد إلا بتقدم ضمانه، لما كان عنه ذلك الربح، فكذلك الأشياء المبيعة كلها ما كان منها يطيب الربح فيه لبائعه، فحلال له بيعه، وما كان منها يحرم الربح فيه على بائعه، فحرام عليه بيعه. ش: أي وفي عموم النهي وتناوله الطعام وغيره حجة أخرى، حاصل ذلك أن بيع المبيع قبل قبضه يستلزم ربح ما لم يضمن، وقد نهي رسول الله -عليه السلام- عن ربح ما لم يضمن على ما نبينه الآن إن شاء الله تعالى. بيان ذلك أن المبيع ما لم يقبض هو في ضمان البائع، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال المشتري، فإذا باعه المشتري قبل قبضه يكون فيه ربح ما في ضمان غيره، فلا يطيب له ذلك، فإذا قبضه دخل في ضمانه، حتى إذا هلك يهلك من ماله دون مال البائع، فإذا باعه بعد القبض يكون فيه ربح ما في ضمان نفسه، فيطيب له ذلك على أي وجه كان. ثم هذا المعني يستوي فيه الطعام وغيره من العروض والسلع، فدل ذلك أن النهي عن بيع ما لم يقبض يتناول الطعام وغيره، وقد أجاب بعض المالكية عن هذا فقال: إن النهي عن ربح ما لم يضمن محمول على بيع الخيار، وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام، ثم يخص عمومه إذا حملته على بيع الخيار وأن يبيع المشتري قبل أن يختار، أو هو محمول على الطعام ثم يخص عمومه إذا حملناه على الطعام بإحدي طريقتين: إما دليل الخطاب في قوله: "نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى" فدل أن ما عداه بخلافه. أو يخص بما ذكره ابن عمر -رضي الله عنهما- من أنهم كانوا يبيعون الإبل بالدراهم ويأخذون عنها ذهبًا، أو بالذهب، ويأخذون عنها دراهم وأضاف إجازة ذلك إلى النبي -عليه السلام- وهذا إجازة ربح ما لم يضمن في العين، ونقيس عليه ما سوى الطعام ونخص به النهي عن ربح ما لم يضمن، ويحمل قول ابن عمر من منع بيع الطعام

الجزاف حتى يؤوه إلى رحالهم؛ على الاستحباب، والرواية التى فيها ذكر ضربهم، وهو أنهم كانوا يضربون على عهد النبي -عليه السلام- إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحركوه، تحمل على أنه فعل ذلك حماية للذريعة وعلى أنهم اتخذوا ذلك غيبة ممنوعة. وقال هؤلاء أيضًا: إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبدًا فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف، ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره. والجواب عن ذلك أن ما ذكر كله فاسد: أما الأول: فلأن نهيه -عليه السلام- عن ربح ما لم يضمن عامّ، وحمله على بيع الخيار تحكم ليس فيه دليل. وأما الثاني: فممنوع؛ لأن تعليق الخبر بالاسم لا يدل على نفيه ما عداه، وقد قلنا أن تنصيص الطعام بالذكر ليس لأجل التعيين والتقييد، وأنه لا ينافي أن يكون غير الطعام في ذلك كالطعام. وأما الثالث: فلأن أخذ الذهب عن الدراهم، أو أخذ الدراهم عن الذهب ليس مما نحن فيه؛ لأنه لا يقصد به الربح حتى يدل على إجازة ربح ما لم يضمن، وإنما يراد به الاقتضاء والاقتصاص، والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء، وبعضها ينوب عن بعض، وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالاً بأيهما شاء، لأنهما كالنوع الواحد في هذا المعني. وأما الرابع: فلأن العتق إتلاف، وإتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض، فافهم. وأما حديث النهي عن ربح ما لم يضمن فأخرجه أبو داود (¬1): ثنا زهير بن حرب، نا إسماعيل -هو ابن علية- عن أيوب السختياني، حدثني عمرو بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 305 رقم 3504).

شعيب، حدثني أبي، عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". وأخرجه الترمذي أيضًا (¬1): عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل .. إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. وأخرجه الطحاوي في الباب الذي يأتي، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ص: وقد جاءت أيضًا آثار أخر عن رسول الله -عليه السلام- بالنهي عن بيع ما لم يقبض، لم يقصد فيها إلى الطعام ولا إلى غيره: حدثنا أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا محمد بن بشار بندار، قال: ثنا حبان بن هلال، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، أن يعلى بن حكيم أخبره، أن يوسف بن ماهك أخبره، أن عبد الله بن عصمة أخبره، عن حكيم بن حزام أخبره قال: "أخد النبي -عليه السلام- بيدي، فقال إذا ابتعت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: ثنا يعلى بن حكيم بن حزام: "أن أباه سأل النبي -عليه السلام- فقال: إني اشتريت بيوعًا فما يحل لي؟ قال: إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه". قال أبو جعفر: فبهذا نأخد، وهو قول أبي حنيفه وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-؛ غير أن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل قبض مشتريها إياها، لأنها لا تنقل ولا تحول، وسائر البياعات ليست كذلك والنظر في هذا عندنا: أن تكون العروض وسائر الأشياء في ذلك سواء على ما ذكرنا في الطعام. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 535 رقم 1234). (¬2) "المجتبى" (7/ 295 رقم 4630).

ش: هذا بيان حجة أخرى في عدم جواز البيع قبل القبض، سواء كان طعامًا أو غيره، بيان ذلك: أن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- روى عن النبي -عليه السلام- أنه قال له: "إذا ابتعت شيئًا، فلا تبعه حتى تقبضه". فقوله: "شيئًا" أعم من الطعام وغيره، والنبي -عليه السلام- لم ينص فيه على الطعام ولا على غيره، بل عمم الحكم، فاقتضى أن لا يجوز البيع قبل القبض مطلقًا، إلا أن أبا حنيفة استثنى من ذلك بيع الدور والأرضين، فقال بجواز بيعها قبل القبض، لأنها لا تنقل ولا تحول بخلاف غيرها. والنظر في ذلك له: أن الامتناع فيما ينقل ويحوَّل لعارض الغرر، وهو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه، ولا يتوهم هلاك العقار، فلا يتحقق الغرر، فبقي حكمه على حكم الأصل. وذكر في "البدائع" قول أبي يوسف مع أبي حنيفه في جواز بيع الدور والأرضين قبل القبض، وذكر قول زفر والشافعي مع محمد في عدم الجواز مطلقًا؛ لعموم النهي، وهو اختيار الطحاوي أيضًا أشار إليه بقوله: "فبهذا نأخذ". ثم إنه أخرج حديث حكيم بن حزام المذكور من طريقين: الأول: عن أبي حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري أحد الأئمة الحنفية الكبار، قال ابن الجوزي: كان عالمًا ورعًا، ثقة، قدوة في العلوم، غزير الفضل والدين، ولي القضاء بالشام والكوفة والكرخ من مدينة السلام وله مصنفات كثيرة، ذكره صاحب "الهداية" في كتاب الرهن، وهو يروي عن محمد بن بشار البصري الملقب بندار، والبندار: الحافظ كان بندارًا في الحديث، وهو شيخ الجماعة، رووا عنه. وهو يروي عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي ثقة، روى له الجماعة. وهو يروي عن أبان بن يزيد العطار البصري، عن أحمد: ثبت في كل المشايخ، روي له الجماعة غير ابن ماجه.

وهو يروي عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، روي له الجماعة. وهو يروي عن يعلى بن حكيم الثقفي البصري، ثقة، روى له الجماعة سوى الترمذي. وهو يروي عن يوسف بن مَاهَك بن بهزاد الفارسي المكي، روى له الجماعة. وهو يروي عن عبد الله بن عصمة الجشمي الحجازي، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي. وهو يروي عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن حزم (¬1) من طريق قاسم بن أصبغ، ثنا أحمد بن زهير بن حرب، ثنا حبان بن هلال، ثنا همام بن يحيى، نا يحيى بن أبي كثير، أن يعلى بن حكيم حدثه، أن يوسف بن مَاهَك حدثه، أن حكيم بن حزام حدثه، أنه قال: "يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني رجل أشتري هذه البيوع، فما يحل لي منها مما يحرم على؟ قال: يا ابن أخي إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه". ورواه أيضًا (1) من طريق خالد بن الحارث الهجيمي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني رجل من إخواننا، حدثني يوسف بن ماهك، أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه، أن حكيم بن حزام حدثه ... فذكر هذا الخبر، ثم قال: وعبد الله بن عصمة متروك. قلت: هو ثقة، وثقه ابن حبان كما ذكرناه. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: ثنا على بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عمار الموصلي، ثنا سالم بن نوح، ثنا عمرو بن عامر، عن عامر الأحول، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، أن حكيم بن حزام قال: "يا رسول الله، إني أبيع بيوعًا كثيرة، فما يحل منها مما يحرم علي؟ فقال: لا تبيعن ما لم تقبض". ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 519). (¬2) "المعجم الكبير" (3/ 196 رقم 3107).

الطريق الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن يعلى بن حكيم بن حزام، عن أبيه. وأخرجه الترمذي (¬1): عن قتيبة، عن هشيم، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام. ثم قال: وقد روى يحيى بن أبي كثير هذا الحديث عن يعلى بن حكيم، وعن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام، عن النبي -عليه السلام-. ... ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 534 رقم 1232).

ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه

ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه ش: أي هذا باب في بيان حكم البيع الذي يشترط فيه شرط ليس فيه، ولا من مقتضياته. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنه كان يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جمل له فأعياه، فأدركه رسول الله -عليه السلام-، فقال: ما شأنك يا جابر؟ فقال: أُعْيِيَ ناضحي يا رسول الله، فقال: أمعك شيء؟ فأعطاه قضييًا -أو عودًا فنخسه به- أو قال: فضربه به- فسار مسيرة يكن يسير مثلها، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعْنِيه بأوقية، قال: قلت: يا رسول الله، هو ناضحك، فبعته بأوقية واستثنيت حملانه حتى أقدم على أهلي، فلما قدمت أتيت بالبعير، فقلت: هذا بعيرك يا رسول الله، قال: لعلك ترى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك، يا بلال أعطه من العيبة، أوقية وقال: انطلق ببعيرك فهما لك". ش: إسناده صحيح: والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه بألفاظ مختلفة وأسانيد متغيرة: فقال البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، ثنا زكرياء، سمعت عامرًا يقول: حدثني جابر: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا (*)، فمر النبي -عليه السلام- فضربه، فدعا له، فسار سيرًا ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بوقية. قلت: لا، ثم قال بعنيه بوقية، فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيت بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك فهو مالك". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 968 رقم 2569). (*) قال معد الكتاب للشاملة: في المطبوعة: "أعيي"، والصواب ما أثبتناه كما في الصحيح، وقد وردت على الصواب في طبعة المنهاج.

وقال شعبة: عن مغيرة، [عن جابر] (¬1): "فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة". وقال عطاء وغيره: "لك ظهره إلى المدينة". وقال ابن المنكدر: عن جابر: "شرط ظهره إلى المدينة". وقال زيد بن أسلم عن جابر: ["ولك ظهره حتى ترجع". وقال أبو الزبير، عن جابر: "أفقرناك ظهره إلى المدينة". وقال الأعمش، عن سالم، عن جابر: "تبلغ عليه إلى أهلك". وقال عبيد الله بن إسحاق، عن وهب، عن جابر] (¬2): "اشتراه النبي -عليه السلام- بوقية". وتابعه زيد بن أسلم عن جابر. وقال ابن جريج، عن عطاء وغيره، عن جابر: "أخذته بأربعة دنانير" وهذا يكون وقية على حساب الدينار بعشرة دراهم، ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي، عن جابر، وابن المنكدر وأبو الزبير، عن جابر. وقال الأعمش: عن سالم، عن جابر: "وقية ذهب". وقال أبو إسحاق عن سالم عن جابر: "بمائتي درهم". وقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر: "اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال: بأربع أواق". وقال أبو نضرة: عن جابر: "اشتراه بعشرين دينارًا". وقول الشعبي: "بوقية" أكثر. قال أبو عبد الله: الاشتراط أكثر وأصح عندي. أخرج البخاري هذا في كتاب الشرط. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من "صحيح البخاري".

وأخرجه أيضًا في كتاب الاستقراض (¬1): عن محمد، عن جرير. وفي كتاب الجهاد أيضًا (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن مغيرة. وقال مسلم (¬3): ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، ثنا زكرياء، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد الله: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيب، قال: فلحقني النبي -عليه السلام-، فدعى لي وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه بأوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت، أتيته بالحمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في إثري فقال: أتراني ماكستك لأخذ جملك؟! خذ جملك ودراهمك، فهو لك". وأخرجه مسلم في كتاب البيوع. وأخرجه أيضًا (3): عن على بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن زكرياء. وعن (3) عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه، عن جرير، عن مغيرة، كلاهما عن الشعبي، عن جابر بهذا. وقال أبو داود (¬4): ثنا مسدد، قال: نا يحيى بن سعيد، عن زكرياء قال: ثنا عامر، عن جابر بن عبد الله قال: "بعته -يعني بعيره- من النبي -عليه السلام-، واشترطت حملانه إلى أهلي، وقال في آخره: تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك". وقال الترمذي (¬5): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا وكيع، عن زكرياء، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله: "أنه باع من النبي -عليه السلام- بعيرًا، واشترط ظهره إلى أهله". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 847 رقم 2275). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1083 رقم 2805). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1219 رقم 715). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 306 رقم 3505). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 554 رقم 1253).

وقال النسائي (¬1): أخبرنا علي بن حجر، أبنا سعدان بن يحيى، عن زكرياء، عن عامر، عن جابر بن عبد الله قال: "كنت مع النبي -عليه السلام- في سفر، فأعيى جملي، فأردت أن أُسيبه، فلحقني رسول الله -عليه السلام-، ودعى له، فضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه بوقية، قلت: لا، قال: بعنيه، فبعته بوقية، واستثنيت حملانه إلى المدينة، فلما بلغنا المدينة أتيته بالجمل وابتغيت ثمنه ثم رجعت، فأرسل إلي فقال: أَتُرَاني إنما ماكستك لاَخذ جملك؟! خذ جملك ودراهمك" (¬2). وأخرجه (¬3) من طريق آخر بأتم منه: قوله: "على جمل له" قال الفراء: الجمل زوج الناقة والجمع: جمال، وأجمال، وجملات، وجمائل، ويطلق عليه البعير؛ لأن جابرًا -رضي الله عنه- قال في الحديث: "ثم أتيت بالبعير" وأراد به الجمل المذكور. وقال أهل اللغة: البعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى. وحكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعير لي، فإذا استثنيته قلت: جمل أو ناقة ويجمع على أبعرة وأباعر وأباعير وبُعران وبَعران. قوله: "فأعياه" أي أعجزه عن الذهاب إلى مقصده؛ لعيِّه وعجزه عن المشي، يقال: عييت بأمري إذا لم تهتد بوجهه، وأعياني هو، ويقال: هذا مرض أعيى الأطباء: إذا أعجزهم عن مداواته. قوله: "أعيى ناضحي" من قولهم: أعيى الرجل في مشيه فهو معيى، ولا يقال: عيان، وأعياه الله، كلاهما بالألف. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 297 رقم 4637). (¬2) طمس من "الأصل" بمقدار لوحة، يبدأ من هنا، والمثبت من "ك". وقد استشرى الطمس في هذا المجلد من "الأصل" في كل اللوحات "ب" واستدركناه من "ك" وسنضع معكوفًا عند أول الطمس، وننبه عند آخر الطمس إن شاء الله. (¬3) "المجتبى" (7/ 298 رقم 2638).

و"الناضح" بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة، هو البعير الذي يستقى عليه والأنثى: ناضحة وسائبة، وأراد به ها هنا الجمل المذكور. قوله: "أمعك شيء؟ " الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "فنخسه" بالنون والخاء المعجمة والسين المهملة، أي: طعنه. قوله: "بأوقية" بضم الهمزة وتشديد الياء والجمع يشدد ويخفف، مثل: أثفية وأثافيّ وأثاف، وقد جاء في رواية البخاري وغيره "وقية" بدون الهمزة وليست بلغة عالية، وكانت الوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، وقد اختلفت الروايات ها هنا، ففي رواية: "أنه باعه بخمس أواقي وزادني أوقية"، وفي بعضها: "بأوقيتين ودرهم أو درهمين"، وفي بعضها: "بأوقية ذهب"، وفي رواية: "بأربعة دنانير"، وفي الأخرى: "بأوقة" ولم يقل: ذهبًا، وقد ذكر البخاري أيضًا اختلاف هذه الروايات وقد بَيَّنَّاها الآن. وقال أبو جعفر الداودي: ليس لأوقية الذهب وزن يحفظ، وأما أوقية الفضة فأربعون درهمًا. وأما اختلاف هذه الروايات فسببها نقل الحديث على المعنى، وبمثل هذا يحتج من يجيز ذلك، وقال: إنا نجد الحديث الواحد قد حدث به جماعة من الصحابة والتابعين بألفاظ مختلفة وعبارات متقاربة ترجع إلى معنى واحد، وإنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة في قصة منفردة، فأما ذكر الأوقية المهملة فيفسرها قوله: "أوقية ذهب" وإليه يرجع اختلاف الألفاظ؛ إذ هي في رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر مفسرة بقوله: "إن لرجل عليَّ أوقية ذهب، فهو لك بها" ويكون قوله في الرواية الأخرى: "فبعته منه بخمس أواقي" أي: فضة صرف أوقية الذهب حينئذ، كأنه أخبر مرة عما وقع به البيع من أوقية الذهب أولاً ومرة عما كان به القضاء من عدلها فضة، والله أعلم.

ويعضد هذا قوله آخر الحديث: "خذ جملك ودراهمك" ورواية من قال: "مائتي درهم"؛ لأنه خمس أواقي أو يكون هذا كله زيادة على الأوقية كما قال: "فما زال يزيدني". وأما ذكر الأربعة الدنانير فموافقة لأوقية؛ إذ قد يحتمل أن يكون وزن أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانر كبار؛ لأن دنانيرهم كانت مختلفة وكذلك دراهمهم على ما مرَّ بيانه في الزكاة، ولأن أوقية الذهب غير محققة الوزن بخلاف الفضة، أو يكون المراد بذلك أنها صرفت أربعين درهمًا، فأربعة دنانير موافقة للأوقية الفضة؛ إذ هي صرفها. ثم قال: "أوقية ذهب"؛ لأنه أخذ عن الأوقية عدلها من الذهب الدنانير المذكورة، أو يكون ذكر الأربعة دنانير في ابتداء المماكسة، وانعقد البيع بأوقية. وأما قوله: "أوقيتان" فيحتمل أن الواحدة هي التي وقع بها البيع، والثانية زاده إياها، ألا تراه كيف قال في الرواية الأخرى: "فزادني أوقية"؟ وذكره الدرهم والدرهمين مطابق لقوله: "وزادني قيراطًا" في بعض الروايات يحتمل أنه أرجح له في كل (¬1) دينار قيراطًا، وأنها الزيادة التى زاده أولاً، فذكر مرة قيراطًا، وشك في هذه الرواية في مقدار الزيادة، إذ صرف قيراط الذهب على ما كان قبل: درهم ونحوه، لأن دنانيرهم كان بعضها من عشرة قراريط، وبعضها من عشرين قيراطًا، فوجه بناء هذه الروايات -المختلف ظاهرها- والجمع بينها وترتيب منازلها: أنه -عليه السلام- أولاً أعطاه أربعة دنانير حين ساومه به، ولم ينعقد البيع بذلك ولا أمضاه جابر -رضي الله عنه-، وإنما أمضاه له بأوقية ذهب، ألا تراه إنما قال له: "قد أخذته منك بأربعة دنانير"؟ ولم يزد في هذا الحديث على ذلك، وفي الحديث أنه ماكسه في البيع ثم أمضاه له بأوقية ذهب، وبها أنعقد البيع كما بينه في حديث سالم بن أبي الجعد، وهذا يضعف تأويل البخاري: أن الأوقية دراهم لتوافق أربعة دنانير، ¬

_ (¬1) آخر ما أثبتناه من "ك".

وقول البخاري هذا يكون على حساب الدينار بعشرة دراهم، إذ قد يفسر في الحديث أنها أوقية ذهب، وبدليل قوله في الرواية الأولى: "عشرين دينارًا". إذ كانت دنانيرهم مختلفة، فيها ما هو من درهم وثلثين، ومن درهم وثلاثة أسباع، ومن ثلاثة دراهم، فقد يحتمل إذا اجتمعت منها عشرون كان وزنها أربعين درهمًا، وهي أوقية، ويكون ما في الرواية الأخرى: "خذ جملك ودراهمك" وفي الرواية الأخرى: "مائتي درهم" وذلك صرف العشرين دينارًا، لكل دينار عشرة دراهم، وذلك صرف الأوقية الذهب. وأما رواية "أربع" فقد شك فيها رواتها، فلا تعتبر، وكذلك الرواية باقتضاء أربعة دنانير، والله أعلم؛ لأن سائر الروايات تخالفها. وقوله في الرواية الأخري: "بأوقيتين" الأولى التي وقع بها البيع من الذهب، والثانية التي زاده، كما بين ذلك في الحديث: "وزادني أوقية" فيحتمل أن تكون ذهبًا ويحتمل أن تكون فضة، ألا تراه قال: "فما زال يزيدني" وتكون زيادة الأوقية زيادة في عدد الأواقي، كل ذلك بفضل منه وإحسان، ثم زاده أيضًا في الوزن والرجحان بقوله: "فزادني قيراطًا" وهو وفق الدرهم أو الدرهمين في الرواية الأخرى كما بيَّناه. قوله: "واستثنيت حُمْلانه" بضم الحاء وسكون الميم: مصدر من حَمَلَ يَحْمِلُ، من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وذلك كالغُفْرَان من غَفَرَ يَغْفِرُ. قوله: "لعلك تُرَى" بضم التاء أي: تظنّ. قوله: "إنما حبستك" أي إنما منعتك ثمن جملك، وفي رواية غيره: "أتراني ماكستك" من المماكسة وهي المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها من النقص، ومنه: مكس العشَّار، وهو ما ينتقصه ويأخذه من أموال الناس. قوله: "من العَيْبَة" العيبة -بفتح الين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الباء الموحدة، وفي آخره هاء-: ما تجعل فيه الثياب، وأراد بها ها هنا ما يحفظ فيها الذهب والفضة.

ويستنبط منها أحكام: الأول: احتج به من يقول بجواز شرط البائع ركوب الدابة التي يبيعها من غيره، إلى مسافة معلومة على ما يجيء بيانه مفصلًا عن قريب إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه علامة من علامات النبوة: فيما نخسه أو ضربه بالعود. الثالث: فيه جواز طلب البيع من الرجل سلعته ابتداء، وإن لم يعرضها للبيع. الرابع: فيه جواز الزيادة والرجحان في ثمن المبيع، كَثرَ أو قَلَّ، كان في مجلس القضاء أو بعده، وبهذا قال كافة العلماء. الخامس: فيه أن الوزن والكيل في المييع على البائع، وفي الثمن على المشتري، إذ توفية ما يؤخذ من كل واحد منها عليه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا باع من رجل دابة بثمن معلوم على أن يركبها البائع إلى موضع معلوم؛ أن البيع جائز والشرط جائز واحتجوا في ذلك بحديث جابر -رضي الله عنه- هذا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وأبا ثور وابن المنذر؛ فإنهم قالوا: إذا باع دابةً بشرط أن يركبها البائع إلى موضع معلوم؛ أن البيع صحيح والشرط صحيح. وقال ابن قدامة في "المغني": ويصح أن يشترط البائع منفعة البيع مدةً معلومةً، مثل أن يبيع دارًا ويستثني سكناها شهرًا، أو عبدًا ويشترط خدمته سنة، أو جملًا ويشترط ظهره إلى مكان؛ نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، ثم احتج لهم بحديث جابر المذكور. وقال القاضي في "شرح مسلم": من الناس من أجاز بيع الدابة واستثناء البائع ركوبها أخذ بظاهر الحديث. وأما مالك فيجيزه بشرط أن تكون مسافة الركوب قريبة ويحمل هذا الحديث عليه.

وقال الترمذي عقيب إخراج هذا الحديث: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، يرون الشرط جائزًا في البيع إذا كان شرطًا واحدًا، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال ابن حزم في "المحلى": قال أحمد: يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ويجوز إذا كان فيه شرط واحد. وذهب أبو ثور إلى جواز اشتراط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله، أو خدمة العبد كذلك، أو ركوب الدابة كذلك، أو لباس الثوب كذلك، وقال: جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع، فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل، كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو على المشتري فالبيع والشرط باطلان معًا. وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال أبو ثور: كل شرط اشترطه البائع على المبتاع مما كان البائع يملكه فهو جائز مثل ركوب الدابة وسكنى الدار، وكان مَنْ شرط على المشتري بعد ملكه مما لم يكن في ملك البائع مثل أن يعتق العبد ويكون ولاؤه للبائع، وأن لا يبيع ولا يهب ولا يتصدق فالبيع جائز والشرط باطل لا يجوز. وقاله ابن أبي ليلى أيضًا. وقال أحمد: إذا كان في البيع شرط واحد جاز، وإن كان فيه شرطان بطل؛ للحديث: "لا يحل شرطان في بيع"، وشرطان في بيع أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهرٍ بكذا وإلى شهرين بكذا. قال أحمد: ومن شرطين في بيع أن يقول: أبيعك بذهب على أن تأخذ منه دراهم، الدينار بكذا، أو يبيعه بدراهم على أن يأخذ منه ذهبًا، وحجته في إجازة شرط واحد حديث جابر -رضي الله عنه- في بيعه بعيره من النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن له ظهره إلى المدينة.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، ثم افترق المخالفون لهم على فرقتين، فقالت فرقة: البيع جائز والشرط باطل. وقالت فرقة: البيع فاسد. وسنبيِّن ما ذهب إليه الفريقان جميعًا في هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأشهب وأحمد في رواية. ثم افترق هؤلاء على فرقتين، فقالت فرقة -وهم: ابن أبي ليلى وأحمد- في رواية -وأشهب-: البيع جائز والشرط باطل. وقالت فرقة -وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي-: البيع فاسد. وفي "شرح الموطأ" قال أبو حنيفة: لا يجوز أن يشترط سكنى الدار ولا خدمة العبد ولا ركوب الدابة وقتًا بحال؛ والبيع فاسد. وكره الليث بن سعد أن يشترط سكنى الدار عشرين سنة، وأجاز اشتراط سكناها سنة، وإن احترقت في السنة كانت من المشتري، ولم يُجِز اشتراط ركوب الدابة إلى موضع قريب ولا بعيد، وإن اشترط البائع على المبتاع إيقاع معنى من معاني البر، فإن اشترط عليه من ذلك ما يتعجل كالعتق المعجل؛ فذلك جائز لبعده عن الغرر، وبه قال الشافعي، ولم يجزه أبو حنيفة. فإن امتنع البائع من إنفاذ العتق، فقال أشهب: يجبر على العتق] (¬1) وقاله ابن كنانة في المدينة، وزاد: ولو رضي البائع بذلك لم يكن له ذلك، ويعتق عليه. وقال ابن القاسم: إن كان اشتراه على إيجاب العتق فهو حُر، وإن كان اشتراه من غير إيجاب عتق لم يجبر على عتقه، والإيجاب أن يقول: اشتريته منك فهو حُر، وإن لم يقل ذلك وإنما اشترط أن يستأنف عنه بعد كمال ملكه فليس بإيجاب. ¬

_ (¬1) آخر ما أثبتناه من "ك".

وقال الشافعي: البيع فاسد، ويمضي العتق اتباعًا للسنة. وروي عنه: البيع جائز والشرط باطل. وروى المزني عنه: لا يجوز تصرف المشتري في البيع الفاسد بحال. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واستحسن أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يجيز له العتق ويجعل عليه الثمن، وإن مات قبل أن يعتقه كانت عليه القيمة. وقال أبو يوسف: العتق جائز وعليه القيمة. وانفرد الشافعي بقوله فيمن اشترى عبدًا شراءً فاسدًا وقبضه وأعتقه: إنه لا يجوز عتقه؛ لأنه لم يملكه بالبيع الفاسد، ولا يجوز له التصرف فيه. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضا الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع وبعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين -يعني قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تامٌّ، والشرط باطل لا يلزم. فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان؛ لا يحاش شيئًا إلا سبعة شروط فإنها لازمة، والبيع صحيح إن اشترطت في البيع وهي: اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلاً، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معًا ويبتاعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينًا أو جزءًا منسوبًا مشاعًا في جميعه سواء كان مالهما مجهولًا كله أو معلومًا كله، أو معلومًا بعضه ومجهولًا بعضه، وبيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءًا معينًا منها أو مسمى مشاعًا في جميعها. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 412).

فهذه ولا مزيد وسائرها باطل، كمن باع مملوكًا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة -قلَّت أو كثرت- أو إلى مكان مسمى -قريب أو بعيد- أو دارًا واشترط سكناها ساعةً فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها. وقال ابن حزم (¬1): حدثني محمد بن إسماعيل بن إسحاق العذري القاضي بسرقُسْطة، ثنا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ثنا جعفر بن محمد الخلدي، ثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير، ثنا محمد بن سليمان الذهلي، ثنا عبد الوارث -هو ابن سعيد- التنوري: "قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعًا واشترط شرطًا، فقال: البيع باطل والشرط باطل. ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل. ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء. البيع جائز والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: أنه باع من رسول الله -عليه السلام- جملًا واشترط ظهره إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز". والله أعلم. ص: فكان من الحجة لهاتين الفرقتين جميعًا على الفرقة الأولى في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي ذكرنا: أن فيه معنيين يدلان أن لا حجة لهم فيه، فأما أحد ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 415، 416).

المعنيين: فإن مساومة النبي -عليه السلام- لجابر -رضي الله عنه- إنما كانت على البعير ولم يشترط في ذلك لجابر ركوبًا. قال جابر: "فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي". فوجه هذا الحديث أن البيع إنما كان على ما كانت عليه المساومة من النبي -عليه السلام-، ثم كان الاسئثناء للركوب من بعد وكان ذلك الاستثناء مفصولًا من البيع؛ لأنه إنما كان بعده؛ فليس في ذلك حجة تدلنا كيف كان حكم البيع لو كان ذلك الاسئثناء مشروطًا في عقدته، هل هو كذلك أم لا؟ وأما الحجة الأخرى: فإن جابرًا -رضي الله عنه- قال: "فلما قدمت المدينة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعير فقلت: هذا بعيرك، فقال: لعلك تُرَى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك؟! يا بلال أعطه أوقية وحد بعيرك فهما لك" فدلَّ ذلك أن ذلك القول الأول لم يكن على التبايع، فلو ثبت أن الاشتراط للركوب كان في أصله بعد ثبوت هذه العلة لم يكن في هذا الحديث حجة؛ لأن المشروط فيه ذلك الشرط لم يكن بيعًا، ولأن النبي -عليه السلام- لم يكن ملك البعير على جابر -رضي الله عنه-؛ فكان اشتراط جابر للركوب اشتراطًا فيما هو له مالك، فليس في هذا دليل على حكم ذلك الشرط لو وقع في بيع يوجب الملك للمشتري كيف كان حكمه. ش: أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين الذين افترقوا على فرقتين، وأراد به: الجواب عن استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث جابر -رضي الله عنه- المذكور. وحاصله: أنه أجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة: الأول والثاني بطريق المنع، والثالث بطريق التسليم. أما الأول: فلا نسلم أن هذا العقد كان فيه شرط؛ لأنه -عليه السلام- إنما ساوم جابرًا على البعير ولم يشترط له ركوبًا، وإنما جابر هو الذي قال: "بعته واستثنيت حملانه إلى أهلي" فيكون استثناؤه للركوب مفصولًا من العقد؛ لأنه إنما وقع بعد العقد.

وأما الثاني: فلا نسلم أن ذلك القول من النبي -عليه السلام- كان على التبايع، ألا ترى إلى قوله لجابر -رضي الله عنه-: "تُرَى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك؟! يا بلال أعطه أوقية وخذ بعيرك فهما لك". فهذا صريح أنه لم يكن ثمة عقد فضلاً عن أن يكون فيه شرط. وقال ابن حزم: أخبر -عليه السلام- أنه لم يماكسه ليأخذ جمله؛ فصح أن البيع لم يتم فيه فقط، وإنما اشترط جابر -رضي الله عنه- ركوب جمل نفسه فقط. وأما الثالث: فلئن سلمنا أن هناك شرطًا قد شرط فيه الركوب، ولكن لا يدل أن الحديث حجة لهم أيضًا؛ وذلك لأن المشروط فيه ذلك الشرط لم يكن بيعًا؛ لأنه -عليه السلام- لم يكن ملك البعير على جابر فكان اشتراط جابر للركوب اشتراطًا فيما هو له مالك. وقال ابن حزم (¬1): روي هذا: أن ركوب جابر -رضي الله عنه- للجمل كان تطوعًا من النبي -عليه السلام-، واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير؛ فروي عنهما، عن جابر -رضي الله عنه- أنه كان شرطًا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نسلم لهم أنه كان شرطًا ثم نقول وبالله التوفيق: إنه قد صح أنه -عليه السلام- قال: "قد أخذته بأوقية"، وصح أنه -عليه السلام- قال: "أَتُرَاني ماكستك لآخذ جملك؟! فخذ جملك ذلك فهو مالك" فصح يقينًا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله -عليه السلام-، والآخر لم يفعله، بل انتفى عنه، وهو أنه -عليه السلام- أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك أخذه؛ فصح أن البيع لم يتم فيه فقط؛ فيكون اشتراط جابر -رضي الله عنه- اشتراطًا لركوب جمل نفسه فقط، والله أعلم. ص: وذهب الذين أبطلوا الشرط في ذلك وجوزوا البيع إلى حديث بريرة. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عائشة -رضي الله عنها- أرادت أن تشتري بريرة فَتُعْتقها، فقال لها أهلها: ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 418).

نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يمنعنك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أن بريرة جاءت تستعين عائشة، فقالت لها عائشة: إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فقالوا: لا، إلا أن يكون ولاؤك لنا". قال مالك: قال يحيى: فزعمت عمرة: "أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها أرادت أن تشتري بريرة فَتُعتقها، فاشترط مواليها ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام-، فقال: اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها ويشترطوا الولاء، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام- فقال: اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: "أن بريرة جاءتها تستعينها في كتابتها، فقالت عائشة: إن شاء أهلك اشتريتك ونقدتهم ثمنك صبة واحدة، فذهبت إلي أهلها فقالت لهم ذلك، [فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشتريها لا يضرك ما قالوا؛ فإنما الولاء لمن أعتق". ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قالوا: فلما كان أهل بريرة أرادوا بيعها على أن تعتق فيكون ولاؤها لهم، فقال النبي -عليه السلام- لعائشة: "لا يمنعك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق". دلَّ أن هكذا الشروط كلها التي تشترط في البيوع، وأنها تبطل وتثبت البيوع. ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان حجة أحد الفرقتين من أهل المقالة الثانية وهم الذين قالوا: البيع جائز والشرط باطل. أي ذهبت الفرقة الذين أبطلوا الشرط وجوزوا البيع -فيما إذا باع بالشرط- إلى حديث بريرة، فإن أهل بريرة لما أرادوا بيعها بشرط أن تعتق ويكون ولاءها لهم؛ قال النبي -عليه السلام- لعائشة: "لا يمنعك ذلك" أي اشتراطهم الولاء لا يمنع صحة العقد "فإنما الولاء لمن أعتق" سواء اشترط أهلها أن يكون لهم أو لم يشترطوا. فدلَّ هذا الكلام أن الشروط كلها التي تشترط في البيوع لا تضر صحة البيوع، فتثبت البيوع وتبطل الشروط. ثم إنه أخرج حديث عائشة في بريرة ها هنا من خمس طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق وأبا بشر وعلي بن عبد الرحمن: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عائشة -رضي الله عنهم- ... " إلخ. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة: "أنها أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا. فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام-، فقال: لا يمنعك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق". الثاني: عن يونس أيضًا ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1141 رقم 1504).

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني البصري، عن شعبة ابن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي، قالا: ثنا محمد ابن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أنها أرادت أن تشتري بريرة، فشرطوا ولاءها، فقال رسول الله -عليه السلام-: اشتريها وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق". الرابع: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد ابن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬2): أنا قتيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام- فقال: أعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعطى الورِق". الخامس: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، عن القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3). ثم اعلم أن الناس قد أكثروا في حديث عائشة في قصة بريرة. قال أبو عمر: قد أكثر الناس في تشقيق معاني الأحاديث المروية في قصة بريرة وتنسيقها وتخريج وجوهها؛ فلمحمد بن جرير في ذلك كتاب، ولمحمد بن خزيمة ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 781 رقم 1479). (¬2) "المجتبى" (6/ 163 رقم 3449). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 161 رقم 25323).

في ذلك كتاب، ولجماعة في ذلك أبواب، أكثر ذلك تكلُّف واستنباط، واستخراج محتمل، وتأويل ممكن لا يُقطع بصحته ولا يُستغنى عن الاستدلال عليه. ثم إنه يشتمل على أحكام: الأول: فيه من الفقه استعمال عموم الخطاب في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬1) دخل في ذلك الأَمَةُ ذات الزوج وغيرها؛ لأن بريرة كانت ذات زوج خيرت تحته إذ أعتقت. الثاني: فيه جواز كتابة الأمة دون زوجها. الثالث: فيه دليل على أن زوج الأَمَة ليس له منعها من السعي في كتابتها. قال أبو عمر: لو استدل مستدلّ من هذا المعنى بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها كان حسنًا. الرابع: فيه دليل على أن العبد زوج الأمة ليس له منعها من الكتابة التي تؤول إلى عتقها وفراقها له، كما أن لسيد الأمة عتق أمته تحت العبد وإن أدى ذلك إلى إبطال نكاحه، وكذلك له أن يبيع أمته من زوجها الحر وإن كان في ذلك بطلان عقده. الخامس: فيه دليل على جواز نكاح العبد الحرة؛ لأنها إذ خيرت فاختارته؛ بقيت معه وهي حرة، وهو عبد. السادس: فيه أن المكاتب يجوز له السعي في كتابته والسؤال والتكسب به. السابع: فيه جوازركتابة مملوكه وهو لا شيء معه، وفيه ردٌّ على من يقول: لا يجوز كتابة المكاتب حتى يكون له مال؛ واحتجوا بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (1) قالوا: هو المال. روي ذلك عن ابن عباس وعطاء، وقال عمرو بن دينار: المال والصلاح. وقال مجاهد: الغني والأداء. وكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [33].

وقال إبراهيم النخعي: صدقًا ووفاءً. وقال الثوري: دينًا وأمانةً. وقال الشافعي: القوة على الاكتساب. وقال أبو عمر: رخص مالك وأبو حنيفة والشافعي في مكاتبة من لا حرفة له؛ وإن كان قد اختلف قول مالك في ذلك. وكره الأوزاعي وأحمد وإسحاق مكاتبة من لا حرفة له. وروي نحو ذلك عن عمر وابن عمر ومسروق. الثامن: فيه دليل على إجازة كتابة الأمة وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، وهو ظاهر الخبر، ولم يسأل النبي -عليه السلام- هل لها كسب -أو عمل أو مال-؟ ولو كان هذا واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بُعِثَ مبينًا ومعلمًا -عليه السلام-. التاسع: فيه دليل على جواز أخد السيد نجوم المكاتب من مسألة الناس؛ لترك النبي -عليه السلام- زجرها عن مسألة عائشة -رضي الله عنها-؛ إذ كانت تستعينها في أداء نجمها، وهذا يرد قول من كره كتابة المكاتب الذي يسأل الناس وقال: يطعمني أوساخ الناس. العاشر: فيه دليل على أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته. الحادي عشر: فيه دليل على أن عقد الكتابة من غير أداء لا يوجب شيئًا من العتق؛ خلافًا لمن جعله غريمًا من الغرماء؛ لأن النبي -عليه السلام- قد أجاز بيع بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك، وفي السنة المجتمع عليها: أن لا يباع الحُرّ. قال أبو عمر في حديث بريرة: روي عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم واحد" وهو قول سعيد بن المسيب والقاسم وابن يسار والزهري وقتادة وعطاء، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري.

الثاني عشر: فيه دليل على جواز بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزًا عن أداء نجم قد دخل عليه؛ خلافًا لمن يقول أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز. قلت: مذهب الفقهاء في ذلك واختلافهم: ما ذكره أبو عمر في "التمهيد" فقال: قال مالك: لا يجوز بيع المكاتب إلا أن يعجز عن الأداء، فإن لم يعجز عن الأداء فليس له ولا لسيده بيعه. وقال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة: لا يجوز بيعه إلا برضاه، فإن رضي بالبيع فهو عجز منه. وقال إبراهيم النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور: يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته؛ فإن أدَّى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، وإن عجز فهو عبد له. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبًا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال. وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه، وأما بيع كتابته فغير جائز بحال. الثالث عشر: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق لها؛ لأن العلماء قد اجتمعوا -ولم تختلف في ذلك الآثار أيضًا-: أن بريرة كانت حين اشترتها عائشة -رضي الله عنها- ذات زوج، وإنما اختلفوا في زوجها هل كان حرًّا أو عبدًا. وقد أجمع علماء المسلمين على أن الأمة إذا أعتقت زوجها عبد أنها تُخَيَّر، واختلفوا إذا كان زوجها حرًّا هل تُخَيّر أم لا؟ وقد مضى الكلام فيه في كتاب النكاح. الرابع عشر: فيه أن النبي -عليه السلام- أجاز بيع بريرة على ذلك الشرط الفاسد وهو اشتراط موالي بريرة لأنفسهم الولاء دون عائشة وهي مُعْتِقَة، وقد احتجت به إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية؛ كما ذكرناه، وسيجيء الجواب عن ذلك إن شاء الله تعالى.

الخامس عشر: فيه حجة واضحة أن الولاء لمن أعتق، سواء كان ذكرًا أو أنثى، أو واحداً أو جمعًا؛ لأن قوله -عليه السلام-: "فإن الولاء لمن أعتق" عام؛ لأن "مَنْ" تصلح لما ذكرنا؛ لأن النساء ليس لهم من الولاء إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن. وقال أبو عمر (¬1): أما قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق" فإنه يدخل فيه كل مالك نافذ أمره مستقر ملكه من الرجال والنساء البالغين؛ إلا أن نساء ليس لهم من الولاء إلا ما أعتقن أو ولاء معتق من أعتقن؛ لأن الولاء للعصبات، وليس لذوي الفروض مدخل في ميراث الولاء إلا أن يكونوا عصبةً، وليس للنساء عَصَبة. روى ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، أنه أخبره، عن سالم: "أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يونس موالي عمر دون بنات عمر". وروي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بمعناه، وعليه جماعة أهل العلم، ولا يستحق الولاء من العصبات إلا الأقرب فالأقرب، ولا يدخل بعيد على قريب [وإن قربت قرابتهم] (¬2) فأقرب العصبات: الأبناء، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب؛ لأنه ألصق الناس به بعد ولده وولد ولده، ثم الإخوة لأنهم بنو الأب، ثم بنوا الإخوة وإن سفلوا، ثم الجد أبو الأب، ثم العم لابن الجد، ثم بنو العم، فعلى هذا التنزيل ميراث الولاء. ذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا هشام، قال: ثنا المغيرة، عن إبراهيم، أن عليًّا وابن مسعود وزيد -رضي الله عنهم- كانوا يقولون: "الولاء للكبر". قال أبو عمر: [على] (¬3) قول علي وعبد الله وزيد: جمهور الفقهاء، وكثر أهل العلم كلهم يقولون: الولاء لا يحرزه في الميراث إلا أقرب الناس إلى المعتق يوم يموت الموروث المعتق، وأنه ينتقل أبدًا كهذه الحال. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (3/ 60). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد". (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (3/ 63)، وقد اختصر المؤلف الكلام اختصارًا شديدًا مخلًّا فراجعه هناك.

قال إسماعيل: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة: "أن شريحًا قال في رجل ترك جدة وابنة ومولى، قال: للجد السدس من الولاء، وما بقي فللابن". قال قتادة: وقال زيد: "الولاء كله للابن". قال أبو عمر: وعليه الناس اليوم. السادس عشر: احتج بقوله: "الولاء لمن أعتق" من لا يجيز العتق عن غيره بغير أمره. وتحقيق الكلام ها هنا ما قاله أبو عمر في "التمهيد": أجمع المسلمون على أن المسلم إذا أعتق عبده المسلم عن نفسه فإن الولاء له، هذا ما لا خلاف فيه. واختلفوا فيمن أعتق عن غيره رقبة بغير إذن المعتق عنه ودون أمره. وكذلك اختلفوا في النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه، وفي ولاء المعتق سائبة، وفي ولاء الذي يُسْلم على يد رجل. فقالوا في ذلك كله أقاويل شتى. فأما عتق الرجل عن غيره: فإن مالكًا وأصحابه إلا أشهبًا قالوا: الولاء للمعتق عنه وسواء أمر بذلك أو لم يأمره إذا كان مسلمًا، فإن كان نصرانيًّا فالولاء لجماعة المسلمين. وكذلك قال الليث بن سعد في ذلك كله. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه كقول مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إن قال: أعتق عبدك عني. على مال ذكره، فالولاء للمعتق عنه؛ لأنه بيع صحيح. وإذا قال: أعتق عبدك عني بغير مال، فأعتقه فالولاء للمعتق؛ لأن الآمر لم يملك منه شيئًا وهي هبة باطلة؛ لأنها لا يصح فيها القبض. وقال الشافعي: إذا أعتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير إكراه فولاؤه لك، وإن أعتقته عنه بأمره بعوض أو غير عوض فولاؤه له دونك، ويجزئه بمال أو بغير مال، وسواء قبله المعتق عنه بعد ذلك أو لم يقبله.

قال الشافعي: ولا يكون ولاء لغير معتق أبدًا، وكذلك قال أحمد وداود. وقال الأوزاعي فيمن أعتق عن غيره: الولاء للمعتق. وأما النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه؛ فإن مالكًا قال: ليس له من ولائه شيء، وولاؤه لجماعة المسلمين، ولا يرجع إليه الولاء أبدًا وإن أسلم، ولا إلى ورثته وإن كانوا مسلمين. وقال الشافعي والعراقيون وأصحابهم: ولاؤه له، واحتجوا بعموم قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق" لم يخص مسلمًا من كافر ولو لم يكن له عليه ملك ما بيع عليه، ودفع ثمنه إليه. قال أبو عمر -رحمه الله-: أما المسلم إذا أعتق عبده النصراني فلا خلاف بين العلماء أن له ولاءه، وأنه يرثه إن أسلم إذا لم يكن له وارث من نسبه يحجبه، فإن مات العبد وهو نصراني فلا خلاف علمته أيضًا بين الفقهاء أن ماله يوضع في بيت مال المسلمين ويجري مجرى الفيء؛ إلا ما ذكره أشهب عن المخزومي، فإنه قال عنه: إن ميراثه لأهل دينه. وأما الحربي يعتق مملوكه ثم يخرجان مسلمين: فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: للعبد أن يوالي من شاء، ولا يكون ولاؤه للمعتق، فكذلك عندهم كل كافر أعتق كافرًا، وقال الشافعي: له ولاؤه ويرثه إذا أسلم، واستحسنه أبو يوسف، وهو قياس قول مالك في الذمي يعتق الذمي ثم يسلمان. وأما المعتق سائبة: فإن ابن وهب روى عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة. قال أبو عمر: كل من أعتق سائبة نفذ عتقه وكان ولاؤه لجماعة المسلمين، هكذا روى ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم عن مالك، وهو المشهور من مذهبه. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: من أعتق سائبة فولاؤه له، وهو يرثه دون الناس، وهو قول الشعبي وعطاء والحسن وابن سيرين وضمرة بن حبيب وراشد بن سعد، وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.

وحجتهم في ذلك: قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق" فانتفى بذلك أن يكون الولاء لغير معتق. وأما الذي يسلم على يدي رجل أو يواليه: فإن مالكًا وأصحابه وعبد الله بن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه قالوا: لا ميراث للذي أسلم على يديه ولا ولاء له بحال، وميراث ذلك إن لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين، وهو قول أحمد وداود، وحجتهم: قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق". وقال الليث بن سعد وربيعة: من أسلم على يدي رجل فولاؤه وميراثه للذي أسلم على يديه، قال الليث: إذا لم يدع وارثًا غيره. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ إذا والاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له، والله أعلم. ص: فكان من الحجة عليهم: أن هذه الآثار هكذا رويت: "أنها أرادت أن تشتريها فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون ولاءها لهم"، وقد رواها آخرون على خلاف ذلك. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم: يونس بن يزيد والليث، عن ابن شهاب، حدثهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "جاءت بريرة إليَّ فقالت: يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعًا ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: لا يمنعك منها ذلك، ابتاعي وأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فما بال ناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، فإنما الولاء لمن أعتق".

قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث غير ما في الأحاديث الأُوَل؛ وذلك أن في الأحاديث الأُوَل: أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها، على أن تعتقها عائشة ويكون ولاؤها لهم، فقال النبي -عليه السلام-: "لا يمنعك ذلك، اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق". فكان في هذا الحديث إباحة البيع أن يعتق المشتري، وعلى أن يكون ولاء المُعْتق للبائع، فإذا وقع ذلك ثبت البيع بطل الشرط، وكان الولاء للمعتق. وفي حديث عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت لها: "إن أحب أهلك أن أعطيهم ذلك -تريد الكتابة- صبة واحدة فعلت ويكون ولاؤك لي، فلما عرضت عليهم بريرة ذلك، قالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، فقال رسول الله -عليه السلام- لعائشة: لا يمنعك ذلك منها، فأعتقيها؛ فإن الولاء لمن أعتق". فكان الذي في هذا الحديث فيما كان من أهل بريرة من اشتراط الولاء ليس في بيع، ولكن في أداء عائشة إليهم الكتابة عن بريرة، وهم تولوا عقد تلك الكتابية، ولم يكن تقدَّم ذلك الأداء من عائشة ملك، فذكرت ذلك عائشة للنبي -عليه السلام-، فقال: لا يمنعك ذلك منها، أي لا ترجعي لهذا المعنى عما كنت نويت في عتاقها من الثواب؛ اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي -عليه السلام- ليس مما كان قبل ذلك بين عائشة وبين أهل بريرة في شيء. ثم قام النبي -عليه السلام- فخطب فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" إنكارًا منه على عائشة في طلبها ولاء من تولى غيرها كتابته بحق ملكه عليه، ثم نبهها وعلمها بقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق" أي أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فمكاتبه هو الذي أعتقه، فولاؤه له. فهذا حديث فيه ضد ما في غيره من الأحاديث الأول، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه، هل يجب به فساد البيع أم لا؟

ش: هذه إشارة إلى الجواب عما احتج به إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه -من جواز البيع وفساد الشرط- بحديث عائشة في قصة بريرة؛ نصرة للفرقة الأخرى من أهل المقالة الثانية الذين ذهبوا إلى فساد البيع والشرط جميعًا. وملخص هذا: أن الاحتجاج بالأحاديث المذكورة على جواز البيع وفساد الشرط غير تام؛ لأن عروة بن الزبير روى عن عائشة في هذا الباب ما يضاد تلك الأحاديث، بيانه: أن تلك الأحاديث يفهم منها إباحة البيع على أن يعتق المشتري، وأن يكون الولاء للبائع، فإذا وجد ذلك ثبت البيع وبطل الشرط ويكون الولاء للمعتق؛ لقوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق". حديث عروة يفهم منه: أن اشتراط الولاء للبائع لم يكن في البيع وإنما كان في أداء عائشة الكتابة عن بريرة إلى أهلها، والحال أنهم هم الذين قد تولوا عقد تلك الكتابة، ولم يكن لعائشة ملك متقدم على الأداء، فذكرت عائشة ذلك للنبي -عليه السلام-، فقال لها -عليه السلام-: لا يمنعك منها ذلك أداء، وأنك لا ترجعي لأجل ما قالوا عما نويت من الثواب في عتاقها، اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي -عليه السلام- ولم يكن ذلك فيما قيل بين عائشة وبين أهل بريرة، ثم إنه -عليه السلام- خطب فقال في خطبته مما قال إنكارًا منه على عائشة في كونها قد طلبت ولاء من تولى غيرها كتابته بحق تملكه عليه، ثم علمها بأن الولاء لا يكون إلا للمعتق؛ لقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق" أراد أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فالذي كاتبه هو الذي أعتقه فيكون ولاؤه له، فهذا المعنى كله ضد ما في تلك الأحاديث، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه هل يجب به فساد البيع أم لا؟ ثم رجال حديث عروة المذكور كلهم من رجال الصحيح وقد ذكروا غير مرة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني رجال من أهل العلم منهم: يونس والليث ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 305 رقم 4656).

فهذا النسائي والطحاوي اشتركا في إخراج هذا الحديث عن يونس ابن عبد الأعلى المصري، وقد روى عن يونس مسلم أيضًا على ما ذكرناه غير مرة. قوله: "على تسع أواقٍ" جمع أوقية، وهي أربعون درهما، وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى. وفيه دليل على أن التبايع كان بين الناس في ذلك الزمان بالأواق وبالنواة وبالنش، وهي أوزان معروفة. قوله: "إن شاءت أن تحتسب عليك" معناه: تفعل ذلك احتسابا لله وطلبًا للأجر لا طلبًا للولاء. قوله: "ابتاعي" أي اشتري؛ وسيجيء الكلام فيه عن قريب. قوله: "أما بعد" كلمة قالها داود -عليه السلام-، قال الله -عز وجل-: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (¬1) قيل: فصل الخطاب هو: أما بعد، وقيل: البينات ومعرفة الشهود ومعرفة القضاء. قوله: "فما بال ناس" أي شأنهم. قوله: "كل شرط ليس في كتاب الله" أي ليس في حكم الله وقضائه في كتابه أو سنة رسوله -عليه السلام-. قال أبو عمر: لا يُعلم نصٌّ في كتاب الله ولا في دلالة منه أن الولاء للمعتق، وذلك في سنة رسول الله -عليه السلام- المأثورة بنقل أهل العدالة من جهة الخبر الخالص، ولما أمر الله تعالى باتباع رسوله؛ جاز أن يقال لكل حكم حكم رسول الله -عليه السلام-: حكم الله وقضاؤه. وقال أيضًا: وفيه دليل على أن الشروط وإن كثرت حتى تبلغ مائة شرط أو أكثر جائز اشتراطها إذا كانت لا يردها كتاب ولا سنة. ¬

_ (¬1) سورة ص، آية: [20].

وقال عياض: فقوله -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فيجب أن يعلم أن الشروط المقارنة للبيع لا تخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون من مقتضى العقد كالتسليم وجواز التصرف في المبيع، وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه؛ لأنه يقضى به وإن لم يشترط. والثاني: أن لا تكون من مقتضاه ولكنها من مصلحته كالحميل والزهي واشتراط الخيار، فهذا أيضًا يجوز اشتراطه؛ لأنه من مصلحته؛ فأشبه ما كان من مقتضاه، ولكنه إنما يقضى به مع الاشتراط، وإن لم يشترط فلا يقضي به، وهذا يفارق القسم الأول. والثالث: أن تكون خارجة عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، بل يمنع من مقتضى العقد أو يوقع فيه غررًا أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة، فهذا موضع اضطراب العلماء، ومسائل المذهب مضطربة فيه، ولكن المشهور فيه على الجملة في القول المطلق: أن البيع والشرط جميعًا يُنْقَضان ويبطلان؛ لقوله -عليه السلام-: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد". قوله: "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق" قال الداودي: وشرط الله ها هنا أُرَاهُ -والله وأعلم- قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1)، وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (¬2)، وقال في موضع آخر هو قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬3)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...} (¬4) الآية. قال القاضي: وعندي أن الأظهر هو ما أعلم به -عليه السلام- من قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، و"مولى القوم منهم"، و"الولاء لحمة كالنسب". ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [5]. (¬2) سورة الأحزاب، آية: [37]. (¬3) سورة البقرة، آية: [188]. (¬4) سورة الحشر، آية: [7].

قال: وقوله في بعض الروايات: "كتاب الله أحق" يحتمل أن يريد حكمه، ويحتمل أن يريد القرآن، ويرجع إلى ما تقدم من قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1) أو الآيتين الآخرين. وفيه جواز السجع غير المتكلف، وإنما نهى النبي -عليه السلام- عن سجع الكهان وما أشبهه مما فيه تكلف، وإقسام على مطوي الغيب. ص: فإن قال قائل: فإن هشام بن عروة قد رواه عن أبيه فزاد فيه شيئًا. قلنا له: صدقت. حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، ثنا الشافعي، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية؛ فأعينيني، فقالت لها عائشة: إن أحبَّ أهلك أن أعدها لهم عددتها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول الله -عليه السلام- جالس فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها، فأخبرته عائشة فقال: خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت عائشة -رضي الله عنها-، فقام رسول الله -عليه السلام- في الناس ... " فذكر مثل ما في حديث الزهري. حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ... فذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث مثل ما في حديث الزهري: أن الذي كان فيه الاشتراط من أهل بريرة أن يكون الولاء لهم وإباء عائشة إلا أن يكون الولاء لها هو أداء عائشة عن بريرة الكتابة، فقد اتفق الزهري وهشام على هذا الحديث، وخالفا في ذلك أصحاب الأحاديث الأُوَل، وزاد هشام على الزهري قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق". ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [5].

هكذا في حديث هشام، وموضع هذا الكلام في حديث الزهري: "ابتاعي وأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق". ففي هذا اختلف هشام والزهري، فإن كان الذي يعتبر في هذا هو الضبط والحفظ فيؤخذ بما روى أهله ويترك ما روى الآخرون، فإن ما روى الزهري أولى؛ لأنه أضبط وأتقن وأحفظ من هشام. وإن كان الذي يعتبر في ذلك هو التأويل، فإن قوله: "خذيها" قد يجوز أن يكون معناه: وابتاعيها، كما يقول الرجل لصاحبه: بكم أخذت هذا العبد؟ يريد: بكم ابتعت هذا العبد؟ وكما يقول الرجل للرجل: خذ هذا العبد بألف درهم، يريد بذلك: البيع، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: "واشترطي" فلم يبين رسول الله -عليه السلام- ما يشترط، فقد يجوز أن يكون أراد: واشترطي ما يشترط في البياعات الصحاح. فليس في حديث هشام هذا -لما كشف معناه- خلاف لشيء عما في حديث الزهري، ولا بيان فيهما كيف حكم البيع إذا وقع فيه مثل هذا الشرط، هل يكون فاسدًا أو يكون جائزًا؟ ش: حاصل هذا السؤال أن يقال: كيف تقول: وليس في حديث عروة المذكور ما يدل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه: هل يجب به فساد البيع أم لا؟ وقد روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، نحو حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، وزاد فيه شيئًا وهو قوله: "خذيها واشترطي" على ما يجيء بيانه الآن؟ فإنه يدل على أن البيع صحيح بهذا الشرط مع بطلان الشرط. وتقرير الجواب أن يقال: إن حديث الزهري وحديث هشام متفقان على أن الذي كان فيه الاشتراط من أهل بريرة أن يكون الولاء لهم، وأن عائشة أَبَتْ إلا أن يكون الولاء لها، فقد اتفق الزهري وهشام على هذا، ولكنهما خالفا في ذلك سائر رواة الحديث التي مضت في الفصل الأول، وزاد هشام على الزهري قوله -عليه السلام-: "خذيها"، وفي حديث الزهري عوض هذه اللفظة: "ابتاعيها".

فقد اختلف الزهري وهشام في هذا الموضع، فإن كان الاعتبار في مثل هذا القول مَنْ هو أحفظ وأضبط؛ فيكون ما رواه الزهري أولى؛ لأنه أحفظ وأضبط وأتقن من هشام. وإن كان الاعتبار فيه للتأويل؛ فإن قول هشام: "خذيها" قد يجوز أن يكون معناه: ابتاعيها كلفظ الزهري؛ فإن مثل هذا كثير كما ذكره في المتن. ثم قوله -عليه السلام-: "واشترطي" ليس فيه بيان ما يشترط، فقد يجوز أن يكون أراد: واشترطي ما يشترط في البيوع الصحيحة، فإذا كان الأمر كذلك لا يكون في حديث هشام ما يخالف ما في حديث الزهري، ولا في حديثهما بيان كيف حكم المبيع إذا وقع فيه مثل هذا الشرط هل يكون فاسدًا أو جائزًا؟ فإذا كان كذلك لا يتم به الاستدلال على أن البيع صحيح والشرط باطل. وقال الطحاوي في "مشكل الآثار" ما ملخصه: أنه لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام، فأما من سواه -وهو الليث بن سعد وعمرو بن الحارث- فقد رويا عن هشام من السؤال لولاء بريرة إنما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم، فقال -عليه السلام-: "لا يمنعك ذلك منها، ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق" وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام: "خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق" مع أنه يحتمل أن يكون معنى "اشترطي": أظهري؛ لأن الاشتراط في كلام العرب هو الإظهار، ومنه قول أوس بن حجر: فَأَشْرَطَ فيها نَفْسَهُ وهو مُعْصِمٌ ... فَأَلْقَى بأسبابٍ لَهُ وَتَوكَّلا أي أظهر نفسه. أي أظهري الولاء الذي يوجبه عتاقك أنه لمن يكون ذلك العتاق منه دون من سواه. وقال بعضهم: إن معنى "اشترطي لهم" أي عليهم كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [7].

وقال محمد بن شجاع: هو على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬1)، وكقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} (¬2)، ألا ترى أنه -عليه السلام- صعد المنبر وقال: "ما بال رجال ... " إلى آخره. وقال القاضي: المشكل في هذا الحديث ما وقع من طريق هشام ها هنا، وهو قوله -عليه السلام-: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء" كيف أمرها رسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا وفيه عقد بيع على شرط لا يجوز؟ وتغرير بالبائعين إذ اشترطت لهم ما لا يصح وخدعتهم فيه، ولما صعب الانفصال عن هذا على بعض الناس أنكر هذا الحديث أصلاً. فحكي ذلك عن يحيى بن أكثم، وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللفظة، وهذا ما يشجع يحيى على إنكارها، وأما المحصلون من أهل العلم فطلبوا لذلك تأويلًا واختلفوا فيه، فقال بعضهم: "لهم" ها هنا بمعنى "عليهم"، فيكون معناه: اشترطي عليهم الولاء، وعبَّر عن "عليهم" بلفظ "لهم" كما قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬3) بمعنى: عليهم. وقال آخرون: معنى "اشترطي" ها هنا: أظهري حكم الولاء. وقال أوس بن حجر: يذكر رجلاً تدلى من رأس جبل إلى نبقةٍ ليقطفها فيتخذ منها قوسًا: فَأَشْرِط مِنْها نفسه ... إلى آخره على ما مرَّ الآن، ومعناه: جعل نفسه علمًا لذلك الأمر، ومنه قيل: أشراط الساعة: أي علاماتها، ومنه سُمُّوا أصحاب الشرط؛ لأنه كان لهم في القديم علامات يعرفون بها، ومنه: الشرط في كذا بمعنى أنه علم عليه. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: [40]. (¬2) سورة الإسراء، آية: [64]. (¬3) سورة الرعد، آية: [25].

ثم إنه أخرج حديث هشام بن عروة من طريقين صحيحين: الأول: عن المزني، عن الشافعي، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): عن إسماعيل، عن مالك ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. قوله: "أن أعدها لهم عددتها لهم" فيه دليل على أن العد في الدراهم الصحاح يقوم مقام الوزن، وأن الشراء بها جائز من غير ذكر الوزن. قوله: "خذيها وأشرطي"، قال القاضي: قال الطحاوي: رواية الشافعي عن مالك في هذا الحديث: "أشرطي" بغير تاء؛ أي أظهري لهم حكمه وعلميهم سنته، وليس من الاشتراط، والله أعلم. ص: وأما ما احتج به الذين فسدوا البيع بذلك الشرط: فما حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع وسلف، وعن شرطين في بيعة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 972 رقم 2579). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1142 رقم 1504).

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن الفضل، قال: ثنا حماد بن زيد ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني، قال: أنا همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع وسلف". قالوا: فالبيع في نفسه شرط، فإذا شُرِطَ فيه شَرْطٌ آخر فقد صار شرطين في بيع؛ فهذا هو الشرطان المنهي عنهما عندهم، المذكورين في هذا الحديث. ش: هذا بيان استدلال الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من فسافى البيع وفساد الشرط، وقد استدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فإنه يدل على أن البيع بالشرط غير جائز، وفسروا قوله -عليه السلام-: "وعن شرطين في بيع"، وقوله: "ولا شرطان في بيع" بأن البيع في نفسه شرطًا، فإذا شُرِطَ فيه شرط آخر فقد صار شرطين في بيع. ويفهم من هذا أن كل بيع يشرط فيه شرط واحد يطلق عليه أنه بيع فيه شرطان، وبهذا نرد على قول بعض الحنابلة في نهيه -عليه السلام- عن شرطين في بيع: أن هذا يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد؛ وذلك لأن الشرط الواحد حيث ما يكون في البيوع يطلق عليه أن فيه شرطين، ولا يتصور حينئذٍ إطلاق شرط واحد فقط فضلاً عن أن يحكم بجوازه، فافهم؛ فإنه موضع دقيق.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور من سبعة طرق: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا عبد الأعلى، ثنا حماد النرسي، ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وبيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم تضمن". فإن قيل: ما حالة هذا الإسناد؟ قلت: جيد حسن، بل صحيح؛ لأن الترمذي لما أخرجه قال: هذا حديث حسن صحيح. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا إسماعيل، عن أيوب، قال: حدثني عمرو بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك". الثالث: عن إبراهيم أيضًا، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب ... إلي آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 283 رقم 3504).

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن زيد وحماد بن سلمة، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم تضمن، وبيع ما ليس عندك". الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن محمد بن الفضل عارم شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب. وأخرجه النسائي (¬1): ثنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن". الخامس: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، عن الهيثم بن جميل الحافظ نزيل أنطاكية، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي الكوفي، عن عمرو بن شعيب ... إلى آخره. السادس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري، عن عمرو بن شعيب ... إلى آخره. السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ شيخ الشافعي، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن عمرو بن شعيب ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2)، وابن ماجه (¬3) أيضًا. وهذه الطرق كلها صحاح، ورجالها ثقات قد تكرر ذكرهم. قوله: "لا يحل سلف وبيع" مثاله أن تقول: أبيعك هذه السلعة بكذا على أن تسلفني في متاع أبيعه منك إلى أجل، أو تقول: أبيعك بكذا على أن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 295 رقم 4630). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 535 رقم 1234). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 737 رقم 2188).

تقرضني كذا، ويكون معنى السلف: القرض، وذلك فاسد؛ لأنه إنما يقرضه على أن يحاسبه في الثمن، فقد حلّ الثمن في حد الجهالة، ولأن "كل قرض جر نفعًا فهو ربا". قوله: "ولا شرطان في بيع" أي: ولا يحل شرطان في بيع، وقد مرَّ الكلام فيه عن قريب. قوله: "وبيع ما ليس عندك" يريد العين لا تبع للصفة؛ لأن المسلم فيه بيع ما ليس عند البائع في الحال وهو جائز بالصفة، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق أو جمله الشارد. قوله: "وعن ربح ما لم تضمن" وهو أن يبيعه سلعة عند اشترائها ولم يكن قبضها، فهو على ضمان البائع الأول ليس من ضمانه، فهذا لا يجوز بيعها حتى يقبضها فتكون من ضمانه. ص: وقد خولفوا في ذلك، فقيل: الشرطان في البيع هو أن يقع البيع على ألف درهم حالّ أو مائة دينار إلى سنة، فيقع البيع على أن يعطيه المشتري أيهما شاء، فالبيع فاسد؛ لأنه وقع بثمن مجهول، وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-: أن مبشر بن الحسن حدثنا، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن خالد بن سلمة، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحارث يحدث، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-: "أنها باعت عبد الله جاريةً واشترطت خدمتها، فذكرت ذلك لعمر -رضي الله عنه- فقال: لا يقربها ولأحدٍ فيها مشوبة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، قال: "لا يحل فرج إلا فرج إن شاء صاحبه باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه؛ لا شرط فيه". حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب".

فقد أبطل عمر -رضي الله عنه- بيع عبد الله، وتابعه عبد الله على ذلك، ولم يخالفه فيه، وقد كان له خلافه أن لو كان يرى خلاف ذلك؛ لأن ما كان من عمر -رضي الله عنه- لم يكن على جهة الحكم، وإنما كان على جهة الفتيا، وتابعتهما زينب امرأة عبد الله على ذلك، ولها من رسول الله -عليه السلام- صحبة، وتابعهم على ذلك عبد الله بن عمر وقد علم من رسول الله -عليه السلام- ما كان من قوله لعائشة -رضي الله عنها- في أمر بريرة، على ما قد رويناه عنه في هذا الباب. فدل ذلك أن معناه كان عنده على خلاف ما حمله عليه الذين احتجوا بحديثه، ولم نعلم أحدًا من أصحاب النبي -عليه السلام- غير من ذكرنا ذهب إلى غير ما ذهب إليه عمر ومن تابعه على ذلك ممن ذكر في هذه الآثار؛ فكان ينبغي أن يجعل هذا أصلاً وإجماعًا من أصحاب النبي -عليه السلام- ولا يخالف ذلك. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي: وقد خولف القوم الذين أفسدوا البيع بذلك على الشرط، والمخالفون هم بعض الحنابلة، فإنهم قالوا: المراد من الشرطين من نهيه -عليه السلام- عن شرطين في بيعة: هو أن يقع البيع على ألف درهم حالّ أو مائة دينار ... إلى آخره، فهذه الصورة عند هؤلاء يكون فيها ثلاث شروط؛ لأن البيع نفسه شرط، وشرطان آخران: أحدهما: قوله: على ألف درهم حالَّة، والآخر: قوله: أو مائة دينار إلى سنة. وقال الخطابي: معنى قوله: "ولا شرطان في بيع" هو أن يقول: بعت هذا الثوب نقدًا بدينار، ونسيئة بدينارين، فهذا بيع واحد يضمن شرطين يختلف المقصود منه بأختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة، ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين اثنين. قوله: "وكان من الحجة لهم في ذلك ... " إلى آخره، جواب عما قاله هؤلاء المخالفون، بيانه: أن عمر -رضي الله عنه- أبطل بيع عبد الله بن مسعود، وعبد الله تابع عمر على ذلك ولم يخالفه فيه، ولو كان عنده خلافه لخالفه في ذلك، ولكن كان عنده مثل

ما أفتي به عمر -رضي الله عنه- ولا سيما تابعته أيضًا على ذلك زينب امرأة عبد الله وهي أيضًا صحابية، وتابعهم على ذلك أيضًا عبد الله بن عمر فيما روى نافع عنه، والحال أنه قد علم من رسول الله -عليه السلام- ما كان من قوله لعائشة في أمر بريرة على ما مرت روايته فيما مضى، فدلَّ ذلك على شيئين: الأول: أن معنى حديث بريرة كان عند عبد الله بن عمر على خلاف ما حمله عليه أهل المقالة الأولى. والثاني: أن هذا الحكم، أعني فساد البيع بفساد الشرط صار كالمجمع عليه؛ لأنا لا نعلم أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- ذهب في ذلك إلى خلاف ما ذهب إليه عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وامرأته زينب -رضي الله عنهم-. فإن قيل: الأظهر من أمر عمر -رضي الله عنه-: "لا يقربها" أنه أمضى شراءه لها ونهاه عن وطئها، فلا يدلُّ ذلك على فساد البيع بالشرط. قلت: لا نسلم ذلك، ولكن معنى كلامه: تنح عنها وافسخ البيع فهو فاسد، وهكذا فُسِّر كلامه في بعض شروح "الموطأ"، ثم قال: وروي عنه نحو هذا الخبر، وأن عمر -رضي الله عنه- قال له: "ليس من مالك ما فيه مشوبة لغيرك". وقال أبو مصعب: قال مالك: قول عمر -رضي الله عنه-: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يريد: لا تشترها، ليس: لا تطأها. وقال محمد بن معاوية الحضرمي: سمعت مالكًا يقول في قول عمر -رضي الله عنه-: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يقول: لا تطأها، وهذا خلاف مذهب مالك عند أصحابه، والصحيح عندهم ما ذكره أبو مصعب عنه. قاله ابن زرقون في "شرح الموطأ". وقال أبو عمر: ظاهر قوله: "اشترطت خدمتها" أن ذلك كان في نفس العقد لا تطوعًا بعد كماله، وهذا يسمى بيع الثُنْيا، وهو بيع فاسد مع النقد، وإذا كانت الثنيا غير مؤقتة مثل أن يقول: متى جئت بالثمن رددت عليك المبيع، أو: متى أردت بيعه رددته عليك بالثمن الذي أعطى بها أو بالثمن الذي اشتريتها به، فهذا كله غير جائز؛ لنهي رسول الله -عليه السلام- عن الثُنْيَا.

ثم إسناد أثر زينب امرأة عبد الله صحيح، ورجاله ثقات. فأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو، روى له الجماعة. وأخرجه مال في "موطئه" (¬1): عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخبره: "أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من زينب الثقفية واشترطت عليه إن بعتها فهي بالثمن الذي تبيعها به، فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد". وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، قال: "ابتعت جارية وشرط علي أهلها أن لا أبيع ولا أهب ولا أمهر فإذا مت فهي حرة، فسألت الحكم بن عتيبة فقال: لا بأس به. وسألت مكحولًا فقال: لا بأس به. قلت: يخاف عليّ منه؟ قال: بل أرجو لك فيه أجرين، وسألت عطاء أو سئل فكرهه. قال الأوزاعي: فحدثني يحيى بن أبي كثير، عن الحسن قال: "البيع جائز والشرط باطل. وسألت عبدة بن أبي لبابة فقال: هذا فرج سوء. وسألت الزهري فأخبرني أن ابن مسعود كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن جارية ابتاعها من امرأته على أنه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فقال عمر -رضي الله عنه-: لا تطأ فرجًا فيه شيء لغيرك". حدثنا (¬3) وكيع وابن أبي زائدة، عن مسعر، عن القاسم، قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "ليس من مالك ما كان فيه شوبة لغيرك". حدثنا (¬4) وكيع، قال: ثنا جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة: "أن ابن مسعود اشترى من امرأته زينب جارية واشترطت عليه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر -رضي الله عنهما- فكره أن يطأها". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 616 رقم 1275). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 424 رقم 21747) بنحوه. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 425 رقم 21748). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 425 رقم 21757).

حدثنا (¬1) وكيع، عن مسعر، عن عمران بن عمير، أن عمر -رضي الله عنه- قال لعبد الله: "لا تقربها". ثم إنه أخرج أثر ابن عمر -رضي الله عنه- من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية الكوفي أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن نافع ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "لا يحل للرجل أن يطأ فرجًا إلا فرجًا إن شاء وهبه وإن شاء باعه وإن شاء عتقه، ليس فيه شرط". الثاني: عن محمد بن النعمان السقطي، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير ... إلى آخره. وأخرج مالك في "موطئه" (¬3): عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدةً إن شاء باعها وإن شاء وهبها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء". قوله: "لا يحل فرج" أي وطء فرج إلا وطء فرج خالص له؛ إن شاء باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه، والحال أنه لا شرط فيه ولا نزاع فيه لأحد. ص: وأما وجهه من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن شروطًا صحاحًا قد تعقد في الشيء المبيع مثل الخيار إلى أجل معلوم للبائع أو للمبتاع فيكون البيع على ذلك جائزًا، وكذلك الأثمان قد تعقد فيها آجال يشترطها المبتاع فتكون ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 426 رقم 21758). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 336 رقم 10613). (¬3) "موطأ مالك" (2/ 616 رقم 1276).

لازمة إذا كانت معلومة، ويكون البيع مضمنًا بها، ورأينا ذلك الأجل لو كان فاسدًا أفسد بفساده البيع، ولم يثبت البيع وينتفي هو إذا كان معقودًا فيه، فلما جعل البيع مضمنًا بهذه الشرائط المشروطة في ثمنه من صحتها وفسادها فجعله جائزًا بجوازها وفاسدًا بفسادها، ثم كان البيع إذا وقع على المبيع وكان عبدًا على أن يخدم البائع شهرًا، فقد ملك البائع المشتري العبد على أن ملكه المشتري ألف درهم وخدمة العبد شهرًا، والمشتري حينئذٍ فغير مالك للخدمة ولا للعبد؛ لأن ملكه إنما يكون بعد تمام البيع، فصار البيع واقعًا بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري في وقت ابتياعه بالمال وبخدمته. وقد رأيناه لو ابتاع عبدًا بخدمة أمة لا يملكها كان البيع فاسدًا، فالنظر على ذلك أن يكون البيع أيضًا كذلك إذا عقد بخدمة من لم يكن تقدم ملكه له قبل ذلك العقد؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قد نهى عن بيع ما ليس عندك، ولما كانت الأثمان مضمنة بالآجال الصحيحة والفاسدة على ما قد ذكرنا؛ كان كذلك الأشياء المثمونة أيضًا المضمنة بالشرائط الفاسدة والصحيحة. فثبت بذلك أن البيع لو وقع واشترط فيه شرط مجهول أن البيع يفسد بفساد ذلك الشرط على ما قد ذكرنا؛ فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع يبطل الشرط، وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط، ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين وغير القول الآخر: أن البيع يبطل إذا اشترط فيه ما ليس منه. فلما انتفى القولان الأولان ثبت القول الآخر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: وجه هذا النظر والقياس ظاهر. ملخصه: أن الشروط التي هي من مقتضيات العقد لا تفسد العقد إذا كانت معلومة كالخيار لأحد المتعاقدين والتأجيل في الثمن، وتُفسد العقد إذا كانت مجهولة، فالنظر على ذلك أن نفسد العقد بشروط ليست من مقتضيات العقد سواء كانت معلومة أو مجهولة.

فإن قيل: إذا كانت مجهولة فمسلّم، وإذا كانت معلومة فلم تبطل؟ قلت: لأن فيه معنى آخر وهو أنه يؤدي إلى بيع ما ليس عندك وهو باطل. بيان ذلك: أنه إذا اشترى عبدًا وشرط فيه البائع أن يخدمه العبد شهرًا فالعقد يكون بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري وقت العقد، فيكون نظيره كمن اشترى عبدًا بخدمة أمة لا يملكها، فلما كان هذا فاسدًا فكذلك هناك؛ لأنه عقد بخدمة عما ليس عندك. فإن قيل: روى ابن وهب في "مسنده": حدثني سليمان بن بلال، ثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم". وأخرج ابن حزم (¬1): من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ثنا الحزامي، عن محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك، عن عطاء، بلغنا أن النبي -عليه السلام- قال: "المسلمون على شروطهم". حدثنا (¬3) ابن أبي زائدة، عن الحجاج بن أرطاة، عن خالد بن محمد، عن شيخ من بني كنانة، سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: "المسلم عند شرطه". ثنا (¬4) حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: "المسلمون عند شروطهم". فهذا كله يدل على أن الشرط لا يضر صحة البيع. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 414). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 450 رقم 22022). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 450 رقم 22023). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 450 رقم 22030).

قلت: المراد من هذه الشروط هي التي أباحها الله تعالى، لا التي نهاهم عنها، وقد قال -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط"، على أن ابن حزم قد قال: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمرو بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، وعبد الملك هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، وهو مرسل أيضًا، والحجاج بن أرطاة هالك، وخالد بن محمد مجهول، وكذلك شيخ من بني كنانة. وخبر علي -رضي الله عنه- مرسل. قوله: "فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع يبطل الشرط" وهو قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية. قوله: "وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط" وهو قول أهل المقالة الأولى الذي ذكر في أول الباب. قوله: "ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين" أشار به إلى قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية وقول أهل المقالة الأولى، وأراد بقوله: "وغير القول الآخر" هو قول الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية، وهو قول أصحابنا ومن معهم، والله أعلم.

ص: باب: بيع أراضي مكة وإجارتها

ص: باب: بيع أراضي مكة وإجارتها ش: أي: هذا باب في بيان حكم بيع أراضي مكة وإجارتها هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الرحيم ابن سليمان، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها". ش: يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري. وعبد الرحيم بن سليمان أبو علي الأشلَّ الطائي، روى له الجماعة. وإسماعيل بن إبراهيم فيه مقال، فعن يحيى والنسائي: ضعيف. وعن يحيى مرةً: لا شيء. روى له الترمذي. وأبوه إبراهيم بن المهاجر أبو إسحاق الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري. والحديث أخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن عمر بن سعيد، عن ابن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة، قال: "توفي رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ورباع مكة تدعى السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن سليم، عن عمرو بن سعيد، قال: ثنا عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة، قال: "كانت الدور على عهد النبي -عليه السلام- وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ما تباع ولا تكرى ولا تدعى إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 35 رقم 10965).

ش: هذان طريقان رجالهما ثقات، ولكنهما منقطعان إلا علقمة بن نضلة ليس بصحابي. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين القرشي النوفلي المكي، روى له الجماعة إلا أبا داود. عن ابن أبي سليمان عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم النوفلي المكي قاضي مكة، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، والترمذي في "الشمائل". عن علقمة بن نضلة بن عبد الرحمن الكناني المكي، ذكره ابن حبان في أتباع التابعين من "الثقات". وأخرجه ابن ماجه (¬1): من رواية ابن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن سليم المكي، طائفي نزل مكة، يقال له: أبو زكرياء الخزاز -بالزاي في آخره- روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث أبي الجواب، عن سفيان، عن عمر بن سعيد، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني قال: "كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن". قوله: "ورباع مكة" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله: "تدعى السوائب"، والرباع جمع رَبْع، وهو المنزل. قال الجوهري: الرَّبَعُ: الدار بعينها حيث كانت، وجمعها: رباع ورُبُوع وأَرْبَاع وأَرْبُع، والرَّبْعُ: المحلة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1037 رقم 3107). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 35 رقم 10968).

والسوائب: جمع سائبة وأصلها من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وأراد بها أنها كانت سائبة لكل أحد؛ من شاء كان يسكنها، فإذا فرغ منها أسكن غيره بلا بيع ولا أجرة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع أرض مكة ولا إجارتها، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة ومحمد وسفيان الثوري. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومجاهدًا ومالكًا وإسحاق وأبا عبيد، فإنهم ذهبوا إلى الآثار المذكورة وقالوا: لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارتها؛ لأنها مباحة غير مملوكة؛ فصار كبيع الصيد في البراري والطير الذي لم يُصَد، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد، وإليه ذهب سفيان الثوري. وفي "البدائع": لا ينعقد البيع فيما ليس بمملوك، كمن باع الكلأ في أرض مملوكة والماء الذي في نهره أو في بئره، وكذلك بيع الكمأة، وبيع صيد لم يوجد في أرضه لا ينعقد؛ لأنه مباح غير مملوك لانعدام سبب الملك فيه، وكذا بيع الحطب والحشيش والصيود التي في البراري، والطير الذي لم يصد في الهواء، والسمك الذي لم يؤخذ من الماء، وعلى هذا يخرج بيع رباع مكة وإجارتها أنه لا يجوز عند أبي حنيفة -رضي الله عنه-. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن عطاء ومجاهد. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا قرة بن حبيب، قال: ثنا شعبة، عن العوام بن حوشب، عن عطاء بن أبي رباح: "أنه كان يكره أجور بيوت مكة". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد أنه قال: "مكة مناخ، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها". ش: أي وقد روي عدم جواز بيع بيوت مكة وعدم جواز إجارتها عن عطاء بن أبي رباح المكي ومجاهد بن جبر المكي، وبيَّن ذلك بقوله: حدثنا أحمد بن داود ... إلى آخره. واسناد الأثرين صحيح.

وقرة بن حبيب بن يزيد الرماح البصري شيخ البخاري. والعوام بن حوشب بن يزيد الواسطي وثقه ابن معين وغيره، وروى له الجماعة إلا أبا داود. وابن الأصبهاني هو محمد بن سعيد شيخ البخاري. وروى عبد الرزاق (¬1): عن ابن جريج قال: "كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم". وروى عن منصور (¬2)، عن مجاهد: "نهى عن إجارة بيوت مكة وبيع رباعها". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجارتها، وجعلوها في ذلك كسائر البلدان، وممن ذهب إلى هذا القول: أبو يوسف. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا وعمرو بن دينار والشافعي وأبا يوسف وأحمد وابن المنذر معهم؛ فإنهم قالوا: يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا نقلها صاحب "البدائع"، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: وبيع دور مكة -أعزها الله- وابتياعها وإجارتها جائز. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن علي بن حسين أخبره، أن عمرو بن عثمان أخبره، عن أسامة بن زيد أنه قال: "يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟! وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي -رضي الله عنهما-؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أجل ذلك يقول: لا يرث المؤمن الكافر". حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب ... فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 146 رقم 9210). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 147 رقم 9211).

قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث ما يدل أن أرض مكة تملك وتورث؛ لأنه قد ذكر فيها ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، فهذا خلاف الحديث الأول. ولما اختلفا احتيج إلى النظر في ذلك ليستخرج من القولين قول صحيح، ولو كان على طريق اختيار الأسانيد وصرف القول إلى ذلك؛ لكان حديث علي بن حسين أصحهما إسنادًا ولكنها تحتاج إلى كشف ذلك من طريق النظر. فاعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام كل الناس فيه سواء؛ لا يجوز لأحد أن يبني فيه بناء ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التي لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء، ألا ترى أن عرفة لو أراد الرجل أن يبني في المكان الذي يقف فيه الناس بناء لم يكن ذلك له؟ وكذلك منى لو أراد أن يبني فيه دارًا كان من ذلك ممنوعًا؟ وكذلك جاء الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحكم بن مروان الضرير الكوفي، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: "قلت: يا رسول الله، ألا نتخد لك بمنى بيتًا تستظل فيه؟ فقال: يا عائشة إنها مبنية لمن سبق". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لم يأذن لهم أن يجعلوا له فيها بيتًا يستظل فيه؟ لأنه مناخ من سبق؛ لأن الناس كلهم فيها سواء. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي (ح). وحدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه -وكانت تخدم عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-- فحدثته عن عائشة مثله. قال: وسألت أمي مكان عائشة بعدما توفي النبي -عليه السلام- أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة: لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتي أن يستحل هذا المكان -تعني منى.

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا حكم المواضع التي الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها، ورأينا مكة على غير ذلك قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم دخلها: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن". حدثنا بذلك ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. فلما كانت مكة مما تغلق عليه الأبواب ومما تبنى فيه المنازل كانت صفتها صفة المواضع التبم تجري عليها الأملاك وتقع فيها المواريث. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من جواز بيع دور مكة وإجارتها بحديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، فإنه يدل على أن أرض مكة تملك وتورث، ألا ترى كيف ذكر فيها ميراث عقيل وطالب بن أبي طالب لما تركه أبو طالب في مكة من رباع ودور ومنازل، وإنما ورث هذان أبا طالب ولم يرثه علي وجعفر أبناء أبي طالب أيضًا لأنهما كانا مسلمين، والمسلم لا يرث الكافر، وكان عقيل وطالب كافرين فلذلك ورثاه. ثم حديث أسامة هذا يعارض حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي احتج به أهل المقالة الأولى، فإذا تعارض الحديثان ينظر فيهما ليعمل بأصحهما، فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أسامة أصحهما إسنادًا وأقواهما مجيئًا، وهذا ظاهر لا يخفى، فحيئذٍ يسقط حديث عبد الله بن عمرو؛ على أنَّا لم نكتف بذلك، بل كشفنا وجه ذلك من طريق النظر والقياس، فوجدنا أن ما يقتضي به حديث أسامة أولى وأصوب من حديث عبد الله بن عمرو. بيان ذلك: أن المسجد الحرام وغيره من المساجد وجميع المواضع التي لا تدخل في ملك أحد لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناءً أو يحتجز موضعًا منها، ألا ترى أن موضع الوقوف بعرفة لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناءً؟ وكذلك منى لا يجوز لأحد أن يبني فيها دارًا؟ والدليل على ذلك حديث عائشة المذكور.

ووجدنا مكة على خلاف هذا؛ لأنه قد أجيز فيها البناء، وقد قال -عليه السلام- يوم دخل مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ... " الحديث، فهذا يدل على أن مكة مما تبنى فيها الدور ومما تغلق عليها الأبواب، فإذا كان كذلك تكون صفتها صفة المواضع التي تجري عليها الأملاك، وتقع فيها المواريث، فحينئذٍ يجوز بيع الدور التي فيها ويجوز إجارتها، والله أعلم. وقال ابن قدامة: أضاف النبي -عليه السلام- الدار إلى أبي سفيان إضافة الملك بقوله: "من دخل دار أبي سفيان"، ولأن أصحاب النبي -عليه السلام- كانت لهم دور بمكة: دار لأبي بكر -رضي الله عنه- وللزبير -رضي الله عنه- وحكيم بن حزام -رضي الله عنه- وغيرهم مما يكثر تعدادهم، فبعضٌ بيع وبعضٌ في يد أعقابهم إلى اليوم، وأن عمر -رضي الله عنه- اشترى من صفوان بن أمية دارًا بأربعة آلاف، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة إحداهما بستين ألف درهم والأخرى بأربعين ألف درهم، وهذه قصص اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعًا، ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأراضي. ثم إنه أخرج حديث أسامة بن زيد بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين، عن عمرو بن عثمان بن عفان، عن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهم- حِبّ رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أصبغ، قال: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد: "قلت: يا رسول الله، أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟! ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 575 رقم 1511).

وزاد عبد الرزاق عن معمر: "نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر". وأخرجه البخاري في كتاب الحج (¬1). وأخرجه في المغازي أيضًا (¬2): عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سعدان بن يحيى، عن محمد بن أبي حفصة. وفي كتاب الفرائض (¬3) أيضًا مختصرًا عن أبي عاصم، عن ابن جريج. وأخرجه مسلم في كتاب المناسك (¬4): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني موسى بن زيد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه أبو داود أيضًا في الحج (¬5): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله أين تنزل غذا؟ -في حجته- قال: هل ترك لنا عقيل منزلًا؟! ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر -يعني المحصب- وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤووهم". قال الزهري: والخيف: الوادي. وأخرجه النسائي (¬6): عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، وفي آخره: "فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول من أجل ذلك: لا يرث المؤمن الكافر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري " (2/ 576 رقم 1512). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1560 رقم 4023). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2484 رقم 6383). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 984 رقم 1351). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 210 رقم 2010). (¬6) "السنن الكبرى" (2/ 480 رقم 4255).

وأخرجه ابن ماجه أيضًا في الحج (¬1): عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر به. قوله: "أتنزل" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "وهل ترك لنا عَقِيل" بفتح العين المهملة وكسر القاف هو أخو علي بن أبي طالب وجعفر وكان يكنى بأبي يزيد، وقيل: بأبي عيسى، والأول هو المشهور، وكان أسنّ من علي وجعفر، وكان طالب أسنّ منه وعليٌّ أحدثهم سنًّا. وقال ابن سعد: كان عقيل ممن خرج من المشركين إلى بدر مكرهًا فأسر يومئذٍ وكان لا مال له ففداه عمه العباس -رضي الله عنه-، ثم أتى مسلمًا قبل الحديبية، وهاجر إلى النبي -عليه السلام- سنة ثمان وشهد غزوة مؤتة، وتوفي عقيل في خلافة معاوية -رضي الله عنه-. قوله: "وطالبُ" مرفوع؛ لأنه عطف على الضمير المرفوع الذي في قوله: "ورث"، وإنما فصل بينهما بقوله: "هو" لئلا يتوهم عطف الاسم على الفعل، وقد عُلِمَ أن الضمير المرفوع مطلقًا لا يحسن العطف عليه إلا بفصل، والأكثر أن يكون ضمير الفصل كما في السورة المذكورة، وقد يكون بكلمة "لا" كما في قوله {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (¬2). قوله: "وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب" وإنما ورثاه لأنهما كانا كافرين وقت الإرث بخلاف جعفر وعلي -رضي الله عنهما- لأنهما كانا مسلمين وقتئذٍ، ثم أسلم عقيل بعد ذلك كما ذكرنا. قوله: "من أجل ذلك" أي من أجل عدم إرث علي وجعفر أباهما أبا طالب. "قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لا يرث المؤمن الكافر". ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه دليل على بقاء دور مكة لأربابها. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 981 رقم 2942). (¬2) سورة الأنعام، آية: [148].

الثاني: ذكر بعضهم أن فيه دليلًا على أن من خرج من بلده مسلمًا وبقي أهله وولده في دار الكفر ثم غزاها مع المسلمين أن ما فيها من ماله وولده بحكم البلد كما كانت دار رسول الله -عليه السلام- على حكم البلد ولم ير نفسه أحق بها. وأجيب بأن هذا لو كان هكذا لعلل به -عليه السلام-، وقد قيل: إنه -عليه السلام- إنما ترك النزول بها وكرهه؛ لأنه ترك ذلك حين هاجر لله تعالى، فلم يرجع فيما تركه لله تعالى. الثالث: فيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر، وهذا أصل في ذلك، وفقهاء الأمصار على ذلك إلا ما حُكِيَ عن معاوية ومعاذ ومسروق والحسن البصري وإبراهيم النخعي وإسحاق: أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا أن الكافر لا يرث المسلم. ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- من ثلاث طرق جياد حسان: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحكم بن مروان الكوفي الضرير الصدوق شيخ أحمد، عن إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي، عن يوسف بن ماهك، عن أمه واسمها مسيكة المكية، عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) مصرحًا باسمها: ثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: "قلنا: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتًا بمنى؟ قال: لا، منى مناخ من سبق". الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس ... إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2) من حديث ابن مهدي، عن إسرائيل ... إلى آخره، وقال: "عن أمه"، ولم يسمها. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 206 رقم 25759). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 212 رقم 2019).

وأخرجه الترمذي (¬1) وابن ماجه (¬2): من حديث وكيع، عن إسرائيل ... كما أخرجه أحمد. الثالث: عن أبي زرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسرائيل ... إلى آخره. ولما أخرجه الترمذي قال: حديث حسن. قوله: "ألا نتخذ لك بمنى بيتًا" وفي رواية: "شيئًا"، وفي رواية أبي داود: "بيتًا أو شيئًا". قوله: "مُنَاخ" بضم الميم وبالخاء المعجمة، قال أبو حاتم: مناخ الإبل بضم الميم، ولا يقال بفتحها. قلت: لأنه اسم موضع، من أناخ إبله: إذا أبركها. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة: عن ربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى ... إلى آخره. وأخرجه مسلم مطولًا جدًّا (¬3): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، قال: ثنا ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة قال: "وفدت وفود إلى معاوية وذلك في رمضان ... " الحديث بطوله. وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن". ص: فإن احتج محتج في ذلك بقول الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬4). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 228 رقم 881). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1000 رقم 3006). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1405رقم 1780). (¬4) سورة الحج، آية: [25].

قيل له: قد روي في تأويل هذا عن المتقدمين ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬1) قال: خَلْقُ الله فيه سواء". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، قال: "أردت أن أعتكف فسألت سعيد بن جبير وأنا بمكة، فقال: أنت عاكف، ثم قرأ {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الملك، عن عطاء قال: " {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: الناس في البيت سواء، ليس أحد أحق به من أحد". فثبت بذلك أنه إنما قصد بذلك إلى البيت أو إلى المسجد الحرام لا إلى سائر مكة. وهذا قول أبي يوسف -رحمه الله-. ش: لما احتج بعض أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بقوله تعالى: {نَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ....} (1) ذكر ذلك الطحاوي ثم أجاب عنه. أما بيان احتجاجهم فهو أن الله تعالى جعل المسجد الحرام للناس سواء العاكف فيه والبادي، فمقتضاه أن يتساووا كلهم في سكناه والمقام فيه. وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه؛ لأن لغير المشتري سكناه كما للمشتري، ولا يصح للمشتري تسليمه والانتفاع به حسب الانتفاع بالأملاك، وهذا يدل على أنه غير مملوك. فإن قيل: يحتمل أنه يريد به أنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته. قيل له: هو على الأمرين جميعًا من اعتقاد تعظيمه وحرمته، ومَنْ يساويهم في سكناه والمقام به. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [25].

وأما الجواب عنه: فهو أنه روي في تأويل هذه الآية عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح -رضي الله عنهم- ما يدل على أن المراد من قوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬1) وهو البيت نفسه أو المسجد الحرام نفسه، وليس المراد منه سائر مكة. فإذا كان كذلك لا يتساوى الناس في غير المسجد الحرام؛ لأن بعضهم يكونون ملاكًا وبعضهم يكونون سكانًا، فالمالك يجوز له بيع ملكه وإجارته ونحوهما فافهم. ويخدش هذا: ما روي عن ابن عباس أيضًا قال: كانوا يرون الحرم كله مسجدًا سواء العاكف فيه والبادي. وروى يزيد بن زياد، عن عبد الرحمن بن سابط: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: من يجيء من الحاج والمعتمرين سواء في المنازل، ينزلون حيث شاءوا غير أن لا يخرج من ساكنه". قال: وقال ابن عباس في قوله: " {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (1) قال: العاكف: فيه أهله، والبادي: من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل سواء". وروى الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث شاء". وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عمر -رضي الله عنه- نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج". وروى ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمر قال: "من أكل من كراء بيوت أهل مكة فإنما يأكل نارًا في بطنه". وروى عثمان بن الأسود، عن عطاء، قال: "يكره بيع بيوت مكة وكراها" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [25]. (¬2) كل هذه الآثار ذكرها الجصاص في كتابه "أحكام القرآن".

وقال أبو بكر الجصاص -رحمه الله-: لم يتأول السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا والاسم شامل له من طريق الشرع، إذ غير جائز أن تتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ، وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف، ويدل عليه قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1)، والمراد -فيما روي-: الحديبية، وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم، وروي أنها على شفير الحرم. وروى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: "أن النبي -عليه السلام- كان مضربه في الحل ومصلاه في الحرم"، وهذا يدل على أنه أراد بالمسجد الحرام ها هنا الحرم كله، ويدل عليه قوله تعالى: {يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬2) والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم، ويدل أن المراد جميع الحرم كله قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3) والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه. وإذا ثبت ذلك اقتضى بقوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (3) تساوي الناس كلهم في سكناه والمقام فيه، والله أعلم. ثم أثر ابن عباس: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف ليس بشيء. وعن يحيى والنسائي: ضعيف. وقال عمرو بن علي: ليس بشيء. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [7]. (¬2) سورة البقرة، آية: [217]. (¬3) سورة الحج، آية: [25].

وأثر سعيد بن جبير: أخرجه عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- اسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي، روى له الجماعة. وأثر عطاء: أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، والله أعلم. ***

ص: باب: ثمن الكلب

ص: باب: ثمن الكلب ش: أي هذا باب في بيان حكم ثمن الكلب هل يباح أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، عن ابن مسعود: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب ومهر البغيّ وحلوان الكاهن". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي مسعود، أن النبي -عليه السلام- قال: "ثلاث هن سحتٌ ... " ثم ذكر مثله. ش: هذان إسنادان رجالهما كلهم رجال الصحيح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد. عن أبي مسعود البدري، واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري في الطلاق (¬1): عن علي. وفي الطب (¬2): عن عبد الله بن محمد، كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. وأخرجه في البيوع (¬3): عن عبد الله بن يوسف. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2045 رقم 5031). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2172 رقم 5428). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 779 رقم 2162).

وفي الإجارة (¬1): عن قتيبة كلاهما، عن مالك، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم في البيوع (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة، ثلاثتهم، عن الزهري، عن أبي بكر ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬3): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري ... إلى آخره. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره. قوله: "ومهر البغي" البَغِيّ -بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء- الفاجرة، وأصله: بغوى على وزن فَعْوَل بمعنى فاعلة وهي صفة لمؤنث فلذلك جاءت بغير هاء كما تجيء إذا كانت بمعنى مفعول نحو رَكُوب وَحَلُوب، ولا يجوز أن تكون بغي ها هنا على وزن فعيل؛ إذ لو كان كذلك للزمته الهاء كامرأة حليمة وكريمة، والبِغَاء -بكسر الياء ممدود- الزنا والفجور، قال الله -عز وجل-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} (¬4) يقال: بَغَت المرأة تَبْغِي بِغَاءً بالكسر، وامرأة بغي، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (¬5)، وتجمع على بغايا. قوله: "وحُلْوَان الكاهن" الحُلوان -بالضم- الرشوة، وهو ما يعطى الكاهن ويجعل له على كهانته تقول منه: حلوت الرجل حلوانًا إذا حبوته بشيء. قال الهروي: قال بعضهم: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو، يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو، كما يقال: عسلته إذا أطعمته العسل. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 797 رقم 2162). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1198رقم 1567). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 267 رقم 3428). (¬4) سورة النور، آية: [33]. (¬5) سورة مريم، آية: [20].

قال أبو عبيد: والحلوان أيضًا في غير هذا: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وهو عيب عند النساء، قالت امرأة تمدح زوجها: لا يَأْخُذُ الحُلوانَ من بَنَاتِنا وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: وأصل الحلوان في اللغة العطية، قال الشاعر: فمن رجلٌ أحلوه رَحْلي وناَقَتِي ... يُبَلِّغُ عني الشِّعْرَ إذا مات قائِلُه قال الجوهري: حَلَوْت فلانًا على كذا مالاً، وأنا أَحْلُوه حُلْوًا وحلوانًا: إذا وهبت له شيئًا على شيء يفعله لك غير الأجرة، والحلوان أيضًا: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وكانت العرب تعير به. و"الكاهن": الذي يخبر بالغيب المستقبل، و"العراف": الذي يخبر بما أخفي وقد حصل في الوجود، ويجمع الكاهن على كهنة وكهان، يقال: كَهَنَ يَكْهُنُ كِهَانَة، مثل كَتَبَ يَكْتُبُ كتَابةً إذا تكهن، فإذا أردت أنه صار كاهنًا قلت: كَهُنَ -بالضم- كَهَانَةً -بالفتح-. وقال ابن الأثير: الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة كَشِقٍّ وسَطِيح وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن وَرَئيًّا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم "العراف" كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما. والحديث الذي فيه "من أتى كاهنًا" قد يشتمل على إتيان الكاهن والعراف والمنجم. قوله: "ثلاثة هن" أي ثلاثة أشياء هن. "سحت" أي حرام. وقال ابن الأثير: السحت: الحرام الذي لا يحل كسبه؛ لأنه يَسْحَت البركة أي يذهبها.

ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه أن ثمن الكلب حرام، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. الثاني: فيه أن مهر البغي حرام، وهو ما يعطى على النكاح المحرم، وإذا كان محرمًا ولم يستبح بعقد؛ صارت المعاوضة عليه لا تحل؛ لأن ما حرم الانتفاع به فكأنه لا منفعة فيه أصلاً. وقال القاضي: لم يختلف العلماء في تحريم أجر البغي وحلوان الكاهن؛ لأنه ثمن عن محرم، وقد حرم الله الزنا، وكذلك أجمعوا على إبطال أجر المغنية والنائحة. الثالث: فيه أن حلوان الكاهن حرام؛ لأنه -عليه السلام- نهى عن إتيان الكهان مع أن ما يأتون به باطل وجله كذب، قال تعالى: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (¬1)، وأخذ العوض على مثل هذا -ولو لم يكن منهيًّا عنه- من أكل المال بالباطل، ولأن الكاهن يقول ما لا ينتفع به، ويعان بما يعطاه على ما لا يحل. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، أن السائب ابن يزيد حدثه، أن رافع بن خديج -رضي الله عنه- حدثه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث". ش: إسناده صحيح، فيه صحابي عن صحابي، أحدهما: هو السائب بن يزيد ابن سعيد الكندي الصحابي، والآخر: رافع بن خديج الأنصاري. وبقية الرجال رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [222، 223]. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1193 رقم 1568).

وأحْرجه الترمذي (¬1): قال: ثنا محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث رافع حديث حسن صحيح. وفيه: أن كسب الحجام خبيث، ولكنه محمول على أن المراد منه التنزه عن كسبه؛ لأنها من الصنائع المستقذرة الذميمة، والشرع يحض على مكارم الأخلاق والتنزه عن الدناءة، والدليل على ذلك: ما رواه مسلم (¬2): عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حجم النبي -عليه السلام- عبد لبني بياضة، فأعطاه النبي -عليه السلام- أجره، وكلم سيده فخفف عنه ضريبته، ولو كان سحتًا لم يعطه". وقد ذهب بعض الناس إلى منع ذلك في الأحرار، واستعمل الحديث فيمن وقع على صفة ما وقع عليه، وأظنهم يجيزونه في العبد ليعلف به نواضحه ورقيقه. وفي الترمذي (¬3): "أنه -عليه السلام- استؤذن في إجارة الحجام فنهى الذي استأذنه عنها، فلم يزل يستأذنه ويسأله حتى قال: اعلفه ناضحك ورقيقك". قال القاضي: كذا قال أحمد بن حنبل وفقهاء أصحاب الحديث كما أشار إليه أنه محرم على الأحرار مباح للعبيد أخذًا بظاهر الحديث الذي ذكره من قوله: "اعلفه ناضحك ورقيقك"، وعامة الفقهاء على خلاف قولهم، وأنه جائز أكله، وحملوا الحديث على التنزيه والحض على مكارم الأخلاق؛ إذ لا يجوز للرجل أن يطعم عبيده ما لا يحل أكله، وجعلوا أن إباحته هذه ناسخة لقوله: "كسب الحجام خبيث" والخبيث: الحرام، وأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا تراه في حديث "الموطأ" (¬4) والترمذي (¬5) نهاه أولاً فلم يزل يسأله حتى أباح له إطعامه لناضحه ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 574 رقم 1275). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1204 رقم 1202). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 575 رقم 1277). (¬4) "الموطأ" (2/ 974 رقم 1756). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 575 رقم 1277).

ورقيقه؟ وأنه حجمه أبو طيبة وأعطاه أجره؟! ولا يعطي النبي -عليه السلام- ما لا يحل، والحجام هنا هو الذي يحجم لا ما يطلقه الناس على المزين وغيره. قال القاضي: وقد رأيت الطحاوي ذهب إلى جواز الاستئجار على فصد العرق وتعريب الدواب. قال: فكذلك الحجامة. والذي عنده أنه لا فرق بين فصد العرق والحجامة، وأنه يدخلها من الكراهة ما دَخَلَهَا؛ لا سيما على ما جاء في بعض الأحاديث: "نهى عن ثمن الدم" (¬1)، وقد قيل: إن النهي عن كسب الحجام قد يحتمل أن يكون بيع دم ما يفصده من الحيوانات لن يستجيز أكلها من الكفرة، أو لاستعمالها في بعض الأشياء، واحتج على ذلك بقوله: ونهى عن ثمن الدم". وقيل: إنما كره لأنه لا يشترط أجرة معلومة قبل العمل، وإنما يعمل غالبًا بأجر مجهول. وهذا لا تعلق فيه، وقد أجاز العلماء مثل هذا على ما استمرت به العادة في المكارمة، وإن كان لابن حبيب من أصحابنا ما ظاهره المنع في كل إجارة حتى يسمى الأجر، وقد حكى الداودي في هذا الباب جواز ما جرت به العادة أيضًا في معاملة الجزار وبياع الفاكهة ودفع الثمن إليه ليعطيك مما يبيعه دون أن تساومه أو تعرف كيف يبيعه. ص: حدثنا ربيع المؤذن ونصر بن مرزوق، قالا: ثنا أسد، قال: ثنا عبد المجيد ابن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن حبيب بن وأبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب". ش: أسد هو ابن موسى الذي يقال له: أسد السنة. وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي المكي مولى المهلب بن أبي صفرة قال يحيى: ثقة. وعنه: كان يروي عن قوم ضعفاء، وكان أعلم الناس بحديث ابن جريج، وكان يعلن بالإرجاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: لا يحتج به، يعتبر به. روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة. ¬

_ (¬1) تقدم.

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، روى له الجماعة. وعاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، وثقه العجلي وابن المديني، روى له الأربعة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ثمن الكلب حرام". حدثنا يونس وحسين بن نصر، قالا: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن عبد الكريم ... فذكر بإسناده. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره راء- النهشلي الكوفي، وثقه النسائي وابن حبان. وروى له أبو داود وأخرجه (¬1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، قال: ثنا عبيد الله -يعني ابن عمرو- عن عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن عبد الله بن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى وحسين بن نصر بن المعارك كلاهما، عن علي بن معبد بن شداد الرقي صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن عبيد الله بن عمرو الأسدي الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 279 رقم 3482).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب، وقال: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا". ص: حدثنا مالك بن عبد الله التجيبي، قال: ثنا عثمان بن صالح (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن صفوان بن سليم أخبره، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريًا". ش: هذان طريقان فيهما عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال. وعثمان بن صالح بن صفوان التجيبي المصري شيخ البخاري. وعبيد الله بن أبي جعفر المصري الفقيه، روى له الجماعة. وصفوان بن سليم المدني الفقيه، روى له الجماعة. قوله: "وإن كان ضاريًا" وأصل بما قبله، أي: وإن كان كلب صيد ضاريًا، يقال: ضرى الكلب وأَضْرَاه صاحبه: أي عوده للصيد وأغراه به. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني أبو سفيان، عن جابر -أثبته مرة، ومرة شك في أبي سفيان- عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله، ولم يشك. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 6 رقم 10791).

ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص بن غياث النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق النخعي القاضي بالكوفة واحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان -واسمه طلحة بن نافع- القرشي الواسطي الإسكاف، روى له الجماعة، البخاري مقرونًا بغيره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الأعمش، قال: أنا أبو سفيان، ذكره عن جابر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب". وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن جابر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب والسنور". قال الأعمش: أرى أبا سفيان ذكره. قوله: "أثبته مرة" أي أثبت الأعمش ذكر أبي سفيان مرة، ومرة أخرى شك في ذكره، فعلى الأول يكون الحديث متصلاً، وعلى الثاني يكون منقطعًا. الطريق الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن أبي مذعور، ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب والسنور". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا علي بن حجر وعلي بن خشرم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب والسنور". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 296 رقم 36232). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 577 رقم 1279).

قال أبو عيسى: هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السنور. وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن بعض أصحابه عن جابر، واضطربوا على الأعمش في هذا الحديث. الطريق الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود بن مهران شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر -رضي الله عنه-. والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثني سلمة بن شبيب، قال: ثنا الحسن بن أعين، قال: ثنا معقل، عن أبي الزبير، قال: "سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي -عليه السلام- عن ذلك". ثم وجه النهي عن ثمن السنور ما قاله بعضهم أن ذلك لَعَلَّه على جهة الندب لإعارته؛ لأنه إذا كان له ثمن شح عليه، قال: ولأنه لا يمكن ضبطه وإن ربط لم ينتفع به، فوقع ذلك. وقال بعضهم: لعله في السنور الوحشي، وجمهور العلماء على أنه لا يمنع من بيعه، ويذكر كراهة بيعه عن أبي هريرة ومجاهد وغيرهما؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث. وقال أبو عمر بن عبد البر: حديث منع بيع السنور لا يثبت رفعه، وحديث أبي الزبير عن جابر في ذلك لم يروه غير حماد بن سلمة. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬2): ولا يحل بيع الهر، فمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر. ثم روى في ذلك حديث جابر (¬3) الذي رواه مسلم على ما نذكره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1199 رقم 1569). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 119 رقم 1569). (¬3) "المحلى" (9/ 13).

ثم قال: وروينا (¬1) من طريق قاسم بن أصبغ، نا محمد بن وضاح، نا محمد بن آدم، نا عبد الله بن المبارك، نا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله "أنه كره ثمن الكلب والسنور". فهذه فتيا جابر -رضي الله عنه- بما روى، ولا نعرف له مخالفًا من الصحابة -رضي الله عنهم-. ومن طريق (¬2) سعيد بن منصور: نا أبو الأحوص، عن ليث، عن طاوس، عن مجاهد: "أنهما كرها أن يستمتع بمسوك السنانير وأثمانها". ومن طريق ابن أبي شيبة (¬3): نا حفص بن غياث، عن ليث، عن طاوس ومجاهد "أنهما كرها بيع الهر وثمنه وأكله". وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا. وفي "المغني": فأما الهر فقد ذكر الخرقي جواز بيعها، وبه قال ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد أنه كره ثمنها، وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد، واختاره أبو بكر. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني معروف بن سويد، أن عُلَيّ بن رباح حدثهم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل ثمن الكلب". حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا المقدمي، قال: ثنا حميد بن الأسود، قال: ثنا عبد الله بن أبي هند، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي". ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 13). (¬2) "المحلى" (9/ 13). (¬3) "المحلى" (9/ 13).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ثمن الكلب من السحت". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا محمد بن الفضل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معروف بن سويد الجذامي أبي سلمة المصري وثقه ابن حبان، عن عُلَيّ -بضم العين- بن رباح اللخمي المصري، قال العجلي: تابعي مصري ثقة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن وهب: أخبرني معروف بن سويد الجذامي، أن علي بن رباح حدثهم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي". وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ البخاري ومسلم، عن حميد بن الأسود الكرابيسي البصري، عن عبد الله بن أبي هند -هو عبد الله بن سعيد بن أبي هند- الفزاري المدني، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي المدني، عن عطاء بن يسار المدني، عن أبي هريرة. وهؤلاء كلهم ثقات. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 6 رقم 10792). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 279 رقم 3484).

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": نا أحمد بن ثابت، نا أبو عامر، ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- قال: "السحت: كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن محمد بن الفضل بن غزوان، عن سليمان الأعمش، عن أبي حازم الأشجعي الكوفي سلمان. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": نا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة، نا محمد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الدم". وأخرجه النسائي (¬1): عن واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب وعسب الفحل". الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن وكيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى -فيه مقال- عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن مهر البغي وكسب الحجام وثمن الكلب". ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد (ح). وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، أخبرني عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 311 رقم 4675).

ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن عون بن أي جحيفة، عن أبيه أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي الكوفي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري (¬1): نا أبو الوليد، عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب وثمن الدم وكسب البغي، ولعن الواشمة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور". أخرجه في البيوع (1). وأخرجه أيضًا عن الحجاج بن المنهال (¬2). وأخرجه في اللباس أيضًا (¬3): عن سليمان بن حرب. وفي الطلاق أيضًا (¬4): عن آدم. وفي اللباس أيضًا (¬5): عن أبي موسى، عن غندر، كلهم عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه بهذا. الثاني: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬6) من حديث شعبة ... إلى آخره نحو رواية البخاري. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: "سألت جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر عن ذلك رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 735 رقم 1980). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 780 رقم 2123). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2219 رقم 5601). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2045 رقم 5032). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2223 رقم 5617). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 6 رقم 10789).

ش: عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري. وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة، فيه مقال. وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬1): عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل بن يسار، عن أبي الزبير قال: "سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي -عليه السلام- عن ذلك". فهذا كما رأيت أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ثمانية أنفس من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم: أبو مسعود البدري، ورافع بن خديج، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو جحيفة -رضي الله عنهم-. ولما أخرج الترمذي حديث رافع بن خديج قال: وفي الباب عن عمر، وأبي مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر -رضي الله عنهم-. وفات الطحاوي من ذلك حديث عمر وعبد الله بن جعفر. أما حديث عمر -رضي الله عنه-: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): من حديث السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ثمن القينة سحت، وغناؤها حرام، والنظر إليها حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب سحت، ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به". وأما حديث عبد الله بن جعفر: فأخرجه ابن عدي في "الكامل" (¬3): من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن جعفر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن ثمن الكلب ... " الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1199 رقم 1569). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 73 رقم 87). (¬3) "الكامل في ضعفاء الرجال" (7/ 199).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى تحريم أثمان الكلاب كلها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وربيعة وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي والشافعي وأحمد وداود ومالكًا في رواية. وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل على كل حال، وكره أبو هريرة ثمن الكلب، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر، وبه قال عطاء والنخعي، واختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يكره بيعه ويصح ولا يجوز إجارته، نص عليه أحمد، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يجوز، وقال مالك في "الموطأ": أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري؛ لنهيه -عليه السلام- عن ثمن الكلب. وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: واختلف قول مالك في ثمن الكلب المباح اتخاذه، فأجازه مرة ومنعه أخرى. وبإجازته قال ابن كنانة وأبو حنيفة. قال سحنون: ويحج بثمنه. وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه. قال عبد الوهاب: من أصحابنا من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه لا يجوز، وبه قال الشافعي. وفي المدينة كان مالك يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغانم، ويكره بيعه للرجل ابتداءً. قال يحيى بن إبراهيم: قوله في الميراث يعني لليتيم، وأما لأهل الميراث البالغين فلا يباع إلا في الدين والمغانم، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: لا بأس باشتراء كلاب الصيد، ولا يجوز بيعها. وقال أشهب في "ديوانه" عن مالك: يفسخ بيع الكلب إلا أن يطول. وحكى ابن عبد الحكم أنه يفسخ وإن طال.

وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل بيع كلب أصلاً لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه وهو حلال للمشتري حرام على البائع، ينتزع منه الثمن متى قُدِرَ عليه كالرشوة في دفع الظلم وفداء الأسير ومصانعة الظالم، ولا فرق. ثم قال: وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي سليمان وأبي ثور وغيرهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بأثمان الكلاب كلها التي ينتفع بها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وابن كنانة وسحنون من المالكية؛ فإنهم قالوا: الكلاب التي ينتفع بها يجوز بيعها وتباح أثمانها. وعن أبي حنيفة: أن الكلب العقور لا يجوز بيعه ولا يباح ثمنه. وقال صاحب "البداع": وأما بيع ذي ناب من السباع سوى الخنزير كالكلب فجائز عند أصحابنا، وعند الشافعي لا يجوز، ثم عندنا لا فرق بين المعلَّم وغير المعلَّم في رواية الأصل، فيجوز بيعه كيف ما كان. وروي عن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأول فيما احتجوا به عليهم من الآثار التي ذكرنا أن الكلاب قد كان حكمها أن تقتل كلها، ولا يحل لأحد إمساك شيء منها، فلم يكن بيعها عندنا جائز ولا ثمنها حلال. فمما روي في ذلك: ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب كلها، فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- أمر بقتل الكلاب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثتني ابنة أبي رافع، عن أبي رافع: "أن النبي -عليه السلام- دفع العَنزة إلى أبي رافع فأمره أن يقتل كلاب المدينة كلها، حتى أفضى به القتل إلى كلب لعجوز، فأمره رسول الله -عليه السلام- بقتله". حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر العقدي (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا القعنبي، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن طحلاء، عن أبي الرجال، عن سالم بن عبد الله، عن أبي رافع قال: "أمرني النبي -عليه السلام- بقتل الكلاب، فخرجت أقتلها لا أرى كلبًا إلا قتلته، حتى أتيت موضع كذا -وسماه- فإذا به كلب يدور ببيت فذهبت أقتله فناداني إنسان من جوف البيت: يا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ قلت: أريد أن أقتل هذا الكلب. قالت: إني امرأة بدار مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السباع، ويؤذن بالجائي فائت النبي -عليه السلام- واذكر ذلك له. فأتيت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فأمرني بقتله". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا هوذة بن خليفة بن عوف، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل -رضي الله عنه-، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن جبريل -عليه السلام- واعد النبي - صلى الله عليه وسلم -

ساعةً يأتيه فيها، فذهبت الساعة ولم يأته، فخرج النبي -عليه السلام- فإذا بجبريل -عليه السلام- على الباب، فقال: ما منعك أن تدخل البيت؟! قال: إن في البيت كلبًا وإنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، فأمر رسول الله -عليه السلام- بالكلب فأخرج، ثم أمر بالكلاب أن تقتل". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظي، قال: ثنا معاوية بن سلام، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن السائب بن يزيد أخبره، أن سفيان بن أبي زهير أخبره، أنه سمع النبي -عليه السلام- يقول: "من أمسك الكلب فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان هذا حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمسكها ولا الانتفاع بها، فما كان الانتفاع به حرامًا فثمنه حرام، فإن كان نهي النبي -عليه السلام- عن ثمن الكلب كان وهذا حكمها؛ فإن ذلك قد نسخ فأبيح الانتفاع بالكلاب. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى مما احتجوا به عليهم من الأحاديث المذكورة: أن هذا إنما كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمساك منها ولا الانتفاع بها، ولا شك أن ما حرم الانتفاع به كان ثمنه حرامًا، فلما أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الانتفاع بها للاصطياد ونحوه ونهى عن قتلها؛ نسخ ما كان من النهي عن بيعها وتبادل ثمنها. فإن قيل: ما وجه هذا النسخ؟ قلت: وجهه ظاهر، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلما ورد النهي عن اتخاذ الكلاب وورد الأمر بقتلها، علمنا أن اتخاذها حرام، وأن بيعها حرام أيضًا؛ لأن ما كان الانتفاع به حرامًا فثمنه حرام كالخنزير ونحوه. ثم لما وردت الإباحة بالانتفاع بها للاصطياد ونحوه وورد النهي عن قتلها؛ علمنا أن ما كان قبل ذلك من الحكمين المذكورين قد انتسخ بما ورد بعده، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخٌ لذلك التحريم ورفعٌ لحكمه.

قوله: "فمما روي في ذلك" إشارة إلى بيان ما روي من الأمر بقتل الكلاب، ومن النهي عن اتخاذها، فمن ذلك: ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا. واسم أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي الكوفي. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة ... إلى آخره نحوه. الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبيد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البخاري (¬2): من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر بقتل الكلاب". الثالث: رجاله كلهم أيضًا رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن وهب بن بيان، عن ابن وهب ... إلى آخره. ومنها ما رواه أبو رافع -رضي الله عنه-. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن ابنة أبي رافع، عن أبي رافع، أن النبي -عليه السلام- ... إلى آخره. وأبو رافع اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز، وهو مولى النبي -عليه السلام- كان للعباس فوهبه للنبي -عليه السلام-، فلما بشره بإسلام عباس أعتقه، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1200 رقم 1570). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1207 رقم 3145). (¬3) "المجتبى" (7/ 184 رقم 4278).

شهد أُحُدًا والخندق وما بعدها من المشاهد ولم يشهد بدرًا، وكان إسلامه قبل بدر، مات بالمدينة في خلافة علي -رضي الله عنه-. واسم ابنته سلمى، ذكر في "التكميل" جماعة ممن روى عن أبي رافع، ثم قال في آخرهم: وابنته سلمى. أي: وروى عنه أيضًا ابنته سلمى. والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا محمد بن أبي بكر، نا هارون الخزاز، نا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثتني بنت أبي رافع، عن أبي رافع: "أن رسول الله -عليه السلام- دفع العنزة إلى أبي رافع فأمره أن يقتل كلاب المدينة، فقتلها حتى أفضى به القتل إلى كلب لعجوز، فأمر رسول الله -عليه السلام- أن يقتله" انتهى. "والعنزة": مثل نصف الرمح أو أكبر سنًّا، وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكازة قريب منها. قوله: "حتى أفضى به القتل" أي انتهى به القتل إلى كلب لعجوز. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، عن أبي الرجال -جمع رجل- محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-، عن أبي رافع قال: "أمرني النبي -عليه السلام- ... " إلى آخره. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أبو يعلى أيضًا بهذا الإسناد والمتن، وقال: ثنا المقدمي، نا أبو عامر، ثنا يعقوب بن محمد ... إلى آخره. قوله: "بدار مَضِيعة" بفتح الميم وكسر الضاد المعجمة على وزن مَفْعِلَة (¬1)، من الضياع وهو الإطراح والهوان، فكأنها فيها ضائع. ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 108): المَضِيعَة -بكسر الضاد- مَفْعِلَةٌ من الضَّياع: الاطراح والهوان، كأنه فيه ضائع، فلما كانت "عين" الكلمة "ياء" وهي مكسورة، نقلت حركتها إلى "العين"؛ فسكنت "الياء" فصارت بوزن مَعِيشَة، والتقدير فيهما سواء.

قوله: "ويؤذن" من الإيذان وهو الإعلام. الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن صالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ومنها ما رواه عبد الله بن المغفل: أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن هوذة بن خليفة بن عبد الله البكراوي البصري الأصم، عن عوف ابن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن البصري، عن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي -رضي الله عنه-. وعن أحمد: هوذة عن عوف ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا عمران بن موسى، ثنا يزيد بن زريع، نا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم، وأيما قوم اتخذوا كلبًا ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط". قوله: "أُمَّة" أي جيل وطائفة، يقال لكل جيل من الحيوان والناس: أُمَّة. وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الكلاب من الحن وهي ضعفة الجن، فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا إليها الشيء فإن لها أنفسًا، يعني أعينًا". وقال إسماعيل بن أمية: أمتان من الجن مسختا وهما الكلاب والحيات. وروى إسماعيل المكي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: سمعت ابن عباس يقول: "السود من الكلاب الجن والبقع منها الحن". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 185 رقم 4280).

وأنشد بعضهم في الجن والحن قول الشاعر: أَبِيتُ أهوى في شياطين تُرِنُّ ... مختلف نَجْوَاهم جِنّ وحِنّ وقال الجوهري: الحِنُّ -بالكسر- حيّ من الجن، قال الراجز: أَبيتُ أهوى ... إلى آخره. ورجل محنون: أي مجنون، وبه حنة: أي جنة، ويقال: الحِنُّ خلق بين الجن والإنس. انتهى. وقال صاحب "العين": الحِنُّ حيّ من الجن منهم الكلاب البهم، يقال منه: كلب حِنيّ. وقال أبو عمر في "التمهيد" (¬1): وعن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الِجن ثلاثة أثلاث: فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون". وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجن ثلاثة أثلاث: فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض، وثلث ريح هفافة، وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث: فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين. وثلث في ظل الله يوم القيامة". قوله: "كل أسود بهيم" البهيم في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه وإنما خص البهيم لأنه أكثر الكلاب أذى وأبعدها من تعلم ما ينفع؛ ولذلك روي أن الكلب الأسود البهيم شيطان، أي بعيد من المنافع قريب من المضرة والأذى، وهذه أمور لا تدرك بنظر ولا يوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى فيها إلى ما جاء عنه -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (16/ 267).

وقال أبو عمر (¬1): احتجت طائفة بحديث عبد الله بن المغفل أن الأمر بقتل الكلاب منسوخ، واحتجوا أيضًا بما رواه سعيد بن المسيب: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر بقتل الكلاب ثم قال: إنها أمة ولا أحب أن أفنيها, ولكن اقتلوا كل أسود بهيم". وقد قال ابن جريج في حديث أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب. قال: فكنا نقتلها حتى قال: إنها أمة من الأمم، ثم نهى عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود ذي الذقين -أو قال: ذي النكتتين- فإنه شيطان". ومنها ما روته عائشة -رضي الله عنها-: أخرجه عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة -رضي الله عنها-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، أنا محمد -يعني ابن عمرو- عن أبي سلمة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل -عليه السلام- في ساعة أن يأتيه فيها، فراث عليه أن يأتيه فيها، فخرج رسول الله -عليه السلام- فوجده بالباب قائمًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إني انتظرتك لميعادكَ؟! فقال: إن في البيت كلبًا ولا ندخل بيتًا فيه كلب؛ ولا صورة، وكان تحت سرير عائشة -رضي الله عنها- جرو كلب؛ فأمر به رسول الله -عليه السلام- فأخرج، ثم أمر بالكلاب حين أصبح فقتلت". قوله: "إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب" قيل: هو خصوص لجبريل -عليه السلام- وحده، بدليل الحفظة، وقيل: بل الملائكة على عموم الحديث. قلت: الظاهر أن المراد منه الملائكة كلهم غير الحفظة؛ لأن الحفظة لا يفارقون بني آدم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (14/ 228). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 142 رقم 25143).

ومنها ما رواه سفيان بن أبي زهير -رضي الله عنه-: أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي أبي زكرياء الشامي الدمشقي شيخ البخاري، عن معاوية بن أبي سلام الحبشي الأسود، عن يحيى بن أبي كثير، عن السائب بن يزيد الصحابي، عن سفيان بن أبي زهير واسمه القرد الأزدي الشنائي. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري في "الزراعة" (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، عن سفيان بن أبي زهير، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط". وأخرجه أيضًا في "بدء الخلق" (¬2): عن القعنبي، عن سليمان بن بلال. وأخرجه مسلم (¬3): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن يزيد بن خصيفة ... إلى آخره. قوله: "كل يوم قيراط" أراد بالقيراط ها هنا جرامًا، وهو في الأصل جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين، والياء فيه بدل من الراء؛ فإن أصله قرَّاط، ويجمع على قراريط، وقد جاء في حديث آخر "قيراطان". وفي الرواية الأخرى "نقص من عمله" والكل يرجع إلى معنى واحد: أي من أجر عمله (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 818 رقم 2198). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1207 رقم 3147). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1204 رقم 1576). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 7): واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها -أي مثل جبل أحد من الأجر-؟ فقيل بالتسوية، وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره.

ثم قيل: يحتمل ذلك لما يُدْخِله من الروع على المسلمين والأذى لهم يكتسب من الإثم بما ينقص من أجر عمله هذا المقدار ويوازنه لو لم يكن. وقيل: بل ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عنه وعصيانه في ذلك. وقيل: بل إن امتناع دخول الملائكة بيته بسببه. وقيل: بل لما يكتسبه من مراقبة أحكام اتخاذه من غسل الإناء من ولوغها ومن نجاستها -عند من يراها نجسة- وأنه لا يكاد يتحفظ منه ويراعي ذلك، فيدخل عليه الإثم من أجله، فيدخل عليه في هذه الوجوه من السيئات ما ينقص عمله وأجره في يومه. وقيل: يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إليه من أن في الكل ذي كبد رطبة أجر، فقد يمحق أجره في ذلك وينقصه ما يلحق مقتنيه من السيئات بترك أدائه العبادات فيه ومراعاة أحكامه، أو لترويع غيره. وقيل: يختص هذا النقص من البر ما يطابق الإثم وهو أجره من تغيير المنكر كل يوم فينتقص منه ذلك القدر لموافقته في اتخاذ الكلب مثله، والله أعلم بما أراد رسوله. وذكر القيراط هنا تقدم لمقدار الله أعلم به وما جاء في الحديث الآخر من قوله: "قيراطان"، فقيل: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، أو لمعنى فيهما، أو يكون في اختلاف المواقع فيكون القيراطان في المدينة خاصة والقيراط في غيرها، أو القيراطان في المدائن والحواضر والقيراط في غيرها، أو يكون ذلك في زمنين فذكر القيراط أولاً ثم أراد التغليظ فذكر القيراطين، والله أعلم بمراده. ص: وروي في ذلك ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتنى كلبًا -إلا كلبًا ضاريًا بصيد أو كلب ماشية- فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان".

حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "من اقتنى كلبًا -إلا كلب صيد أو ماشية- نقص من عمله كل يوم قيراطان". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "قيراط". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية". ثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، قال: قال ابن شهاب، حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب، فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية". قال ابن شهاب: وحدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من اقتنى كلبًا -ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض- فإنه ينقص من أجره قيراطان في كل يوم". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الحكم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتنى كلبًا -غير كلب زرع ولا صيد- نقص من عمله كل يوم قيراطان".

حدثنا حسين، قال: أنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. غير أنه قال: "إلا كلبًا ضاريّا أو كلب ماشية". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أمية بن بسطام، قال: ثنا يزيد زريع، عن روح ابن القاسم، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله -عليه السلام- ذكر الكلاب فقال: من اتخذ كلبًا -ليس بكلب قنص أو كلب ماشية- نقص من أجره كل يوم قيراط". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبي سلمة وغيره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلب وقال: لا يتخذ الكلب إلا صيادًا أو خائف أو صاحب غنم". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أمسك كلبًا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطًا إلا كلب حرث أو ماشية". حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، أن أبا الزبير أخبره: "أنه سأل جابرًا: أقال النبي -عليه السلام- في الكلاب شيئًا؟ قال: أمر بقتلهن، ثم أذن لطوائف". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن مطرف، عن عبد الله بن المغفل قال: "أمر رسول الله -عليه السلام- بقتل الكلاب ثم قال: ما لي وللكلاب؟! ثم رخص في كلب الصيد وفي كلب آخر نسيه سعيد". حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، قال: أخبرني السائب بن يزيد، أن سفيان بن أبي زهير الشنوي أخبره، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتنى كلبًا -لا يغني عنه في ضرع ولا في

زرع- نقص من عمله كل يوم قيراط. قال: فقال السائب: أأنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي ورب القبلة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه، عن يزيد بن خصيفة ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني محمد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن خصيفة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر قول السائب لسفيان: "أسمعت هذا من رسول الله -عليه السلام-؟ ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما ثبتت الإباحة بعد النهي، وأباح الله تعالى في كتابه ما أباح بقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، اعتبرنا حكم ما ينتفع به هل يجوز بيعه ويحل ثمنه أم لا؟ فرأينا الحمار الأهلي قد نهي عن أكله وأبيح كسبه والانتفاع به، فكان بيعه إذا كان هذا حكمه حلالًا وثمنه حلال، فكان يجيء في النظر أن يكون كذلك الكلاب لمَّا أبيح الانتفاع بها؛ حل بيعها وأكل ثمنها، ويكون ما روي في حرمة أثمانها كان في وقت حرمة الانتفاع بها، وما روي في إباحة الانتفاع بها دليل على حِلِّ أثمانها. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي روي في إباحة الانتفاع بالكلاب لنحو الصيد: ما حدثنا علي بن معبد ... إلى آخره. فهذا يدل على أن ما كان من النهي عن اتخاذ الكلاب قد انتسخ ورفع حكمه كما قد ذكرناه مستقصى. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- من عشر طرق صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن مكي بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري، عن حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان المكي، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأخرجه البخاري (¬1): عن مكي بن إبراهيم ... إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع، قال: نا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان". قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث. وكان صاحب حرث". قوله: "من اقتنى" أي من اتخذ، يقال: قناه يَقْنُوه واقتناه: إذا اتخذه لنفسه دون البيع. قوله: "إلا كلبًا ضاريًا بصيد" يقال: ضرى الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه به، ويجمع على ضوار. والمواشي الضارية المعتادة لرعي زرع الناس. وقد مرّ الكلام في القيراط والقيراطين. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير وابن نمير، قالوا: نا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان". الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. وأخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) أيضًا من حديث مالك نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2088 رقم 5164). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1202 رقم 1574). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2088 رقم 5165). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1201 رقم 1574).

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم محمد بن الفضل شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا إسماعيل، نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من اتخذ -أو قال: اقتنى- كلبًا ليس بضارٍ ولا كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان. فقيل له: إن أبا هريرة يقول: وكلب حرث. فقال: إن لأبي هريرة حرث". الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2). السادس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان". السابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن بكير -هو يحيى بن عبد الله بن بكير- القرشي المخزومي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 4 رقم 4479). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 265 رقم 19946). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 60 رقم 5254).

وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى بن يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل وهو ابن جعفر، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان". الثامن: عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬2): أنا وهب بن بيان، نا ابن وهب، أخبرني يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب، فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية". وهذا الطريق أخرجه الطحاوي فيما مضى -يعني هذا الإسناد- ولكن عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب -عوض: بحر بن نصر، عن عبد الله ابن وهب- ولكن هناك أخرجه مختصرًا. التاسع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى عن قتادة، عن أبي الحكم عمران بن الحارث السلمي الكوفي، عن عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (1): نا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الحكم، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي -عليه السلام- قال: "من اتخذ كلبًا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط". العاشر: عن حسين بن نصر، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1202 رقم 1574). (¬2) "المجتبى" (7/ 184 رقم 4378).

وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أمسك كلبًا إلا كلب ضار أو كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان". وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أمية بن بسطام البصري شيخ البخاري، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم التميمي العنبري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد القاص المكي، عن بجير بن أبي بجير الحجازي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه الطبراني في "الكبير": نا إبراهيم بن هاشم البغوي، نا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع، نا روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اتخذ كلبًا ليس كلب قنص ولا كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط ... " الحديث. فإن قلت: ما حال إسناد هذا الحديث؟ قلت: رجاله ثقات، غير أن بجير بن أبي بجير قال يحيى بن معين: لم أسمع أحدًا يحدث عنه غير إسماعيل بن أمية. وقال الذهبي: لم يعرفه ابن أبي حاتم بشيء. قوله: "ليس بقنص" أي صيد، والقانص: الصائد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف وغيره، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". وهذا إسناد جيد. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 188 رقم 4286).

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- بمثله. وأما حديث جابر: فأخرجه عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي "أنه سأل جابرًا -رضي الله عنه- ... " إلى آخره. وقد مرَّ غير مرة الكلام في ابن لهيعة. وأما حديث عبد الله بن المغفل: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن المغفل. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: نا شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف بن عبد الله، عن ابن المغفل قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟! ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم". وله في رواية أخرى (¬3): "ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1203 رقم 1575). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 235 رقم 280)، (3/ 1200 رقم 1573). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1201 رقم 1573).

وأما حديث سفيان بن أبي زهير -رضي الله عنه- فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن النعمان، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد الصحابي، عن سفيان بن أبي زهير الشنوي. وأخرجه البخاري في "بدء الخلق" (¬1): عن القعنبي، عن سليمان بن بلال ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، عن سفيان بن أبي زهير. وأخرجه البخاري في المزارعة (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن يزيد بن خصيفة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3). قوله: "نسيه سعيد" بن أبي سعيد بن عامر الضبعي، والكلب الآخر الذي نسيه سعيد هو كلب الغنم، كما صرح به في رواية مسلم. قوله: "الشَّنَوي" بفتح الشين المعجمة والنون، ووقع في رواية مسلم والنسائي: "الشَّنَائي" -بفتح الشين والنون بعدها همزة مكسورة- منسوب إلى أزد شنوءة. قال القاضي: ووقع عند السمرقندي بالواو مكان الهمزة على التسهيل، ورواه بعض رواة البخاري: "شُنوي" بضم النون على الأصل. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1207 رقم 3147) وقد تقدم. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 818 رقم 2198) وقد تقدم. (¬3) "المجتبى" (7/ 187 رقم 4285).

قوله: "لا يغني عنه في ضرع ولا زرع" قال الجوهري: الضرع لكل ذات ظلف أو خف. قوله: "أأنت سمعت" الهمزة فيه للاستفهام على وجه الاستخبار. ص: وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: "جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن عليه فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أَذِنَّا لك، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع أن لا يدع كلبًا بالمدينة إلا قتله، فإذا بامرأة من ناحية المدينة لها كلب يحرس عنها. قال: فرحمتها، فأتيت النبي -عليه السلام-، فأمرني فقتلته، فأتاه ناس من الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرتنا بقتلها؟ قال: فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬1) ". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سليمان الجعفي، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: ثنا موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم بني رافع، عن أبي رافع قال: "لما أمر رسول الله -عليه السلام- بقتل الكلاب، أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) ". ففي هذا الحديث أيضًا مثل ما قبله مما أباحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أمر بقتلها وإن كان لم يذكر في هذا الحديث غير ما يضاد به منها، وفيه زيادة على ما قبله من الأحاديث في الإباحة التي ذكرنا؛ لأن فيه نزول هذه الآية بعد تحريم الكلاب، وأن ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4].

هذه الآية أعادت الجوارح المكلبين إلى أن صيرتها حلالاً، وإذا صارت كذلك كانت في حكم سائر الأشياء التي هي حلال في حل إمساكها، وإباحة أثمانها، وضمان متلفيها ما أتلفوا منها كغيرها. ش: ذكر حديث أبي رافع تأييدًا لما ذكره فيما مضى من انتساخ حكم الأمر بقتل الكلاب وحكم النهي عن اتخاذها، وبيانًا أن حديث أبي رافع مثل الأحاديث المذكور في إباحة اتخاذ الكلاب بعد الأمر بقتلها، مع زيادة فيه على تلك الأحاديث وهي أنه يتضمن نزول قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (¬1) بعد تحريم الكلاب، فتكون هذه الآية أيضًا ناسخة لما تقدم من الأحاديث التي فيها الأمر بقتل الكلاب والنهي عن اتخاذها فبينت هذه الآية أن اتخاذ هذه الجوارح حلال، فإذا كانت حلالاً صار حكمها كحكم سائر الأشياء التي هي حلال، في حل إمساكها، وجواز بيعها، وإباحة أثمانها، وفي وجوب الضمان على متلفيها كما في غيرها من الأشياء. وفي هذا الفصل خلاف. فعند أبي حنيفة وأصحابه: إذا قتل كلب رجل الذي يصيد به أو يقتنيه لزرعه أو لماشيته أو نحو ذلك؛ تجب عليه قيمته. وقال أبو عمر -رحمه الله-: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة، ومن قتل غيرها من الكلاب فليس عليه شيء. وروي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه جعل في كلب الصيد القيمة. وعن عطاء مثله. وعن ابن عمر أنه أوجب فيه أربعين درهمًا وأوجب في كلب ماشية فرقًا من طعام. وعن عثمان -رضي الله عنه- أنه أجاز الكلب الضاري، وجعل على قاتله عشرًا من الإبل. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4].

وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه قيمته، ولا قيمة على من قتل كلب الدار. وقال الشافعي: لا قيمة عليه بحال. وفي "المغني" لابن قدامة: ومن قتله وهو معلَّم فقد أساء ولا غرم عليه، وبهذا قال الشافعي، وأوجب مالك وعطاء عليه الغرم. وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل قتل الكلاب فمن قتلها ضمنها بمثلها أو بما يتراضيا عليه عوضًا منها إلا الأسود البهيم أو الأسود ذا النقطتين أينما كانت النقطتان منه، فإن عظمتا حتى لا تسمى في اللغة العربية نقطتين لكن تسمى لمعتين لم يجز قتله. ثم إنه أخرج حديث أبي رافع من طريقين: الأول: عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم المصري (¬1)، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي -ضعفه يحيى وأحمد، وعن يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وهو يروي عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني -عن سلمى أم رافع- وهي خادم النبي -عليه السلام-، وهي مولاة صفية بنت عبد المطلب وهي امرأة أبي رافع، ويقال أيضًا مولاة النبي -عليه السلام- وكانت قابلة بني فاطمة بنت رسول الله -عليه السلام- وهي التي غسلت فاطمة مع زوجها علي -رضي الله عنهما- ومع أسماء بنت عميس -رضي الله عنها-، وشهدت خيبر مع رسول الله -عليه السلام-، وهي تروي عن أبي رافع مولى النبي -عليه السلام- واسمه إبراهيم، وقد مرت ترجمته غير مرة. ¬

_ (¬1) قال ابن عدي في ترجمته من "الكامل" (4/ 255): مصري يحدث عن الفريابي وغيره بالبواطيل، ثم ذكر له عدة أحاديث منكرة، ثم قال: هذا إما أن يكون مغفلاً لا يدري ما يخرج من رأسه، أو يتعمد؛ فإني رأيت له غير حديث مما لم أذكره أيضًا ها هنا غير محفوظ. وانظر ترجمته في "تاريخ بغداد" (10/ 133)، و"لسان الميزان" (3/ 337).

والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن نمير، عن موسى بن عبيدة، أخبرني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: "جاء جبريل -عليه السلام- فاستأذن على رسول الله -عليه السلام- فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ رسول الله -عليه السلام- رداءه فقام إليه وهو قائم بالباب، فقال رسول الله -عليه السلام-: قد أَذنَّا، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنَّا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فوجدوا جروًا في بعض بيوتهم. قال أبو رافع: فأمرني حين أصبحت فلم أدع بالمدينة كلبًا إلا قتلته، فإذا أنا بامرأة قاصية ولها كلب ينبح عليها، فكأني رحمتها فتركته، فجئته فأخبرته، فأمرني أن أقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، قال: فقال الناس: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمّة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله -عز وجل- {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬1) ". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2) بإسناد الطحاوي مختصرًا، وقال: نا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا سفيان، عن موسى ابن عبيدة، عن أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى، عن أبي رافع، قال: "جاء ناس إلى النبي -عليه السلام- فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ -يعني الكلاب- فأنزل الله -عز وجل- {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ...} الآية". الطريق الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن سليمان [......] (¬3) عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن موسى بن عبيدة الربذي، عن أبان بن صالح بن عمير المدني، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4]. (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 325 رقم 971). (¬3) بيض له المصنف -رحمه الله-، وهو: سليمان الجعفي، كما في المتن.

وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده": ثنا المقدمي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى امرأة أبي رافع، عن أبي رافع: "أن جبريل -عليه السلام- أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ النبي -عليه السلام- رداءه ثم خرج إليه فقال: قد أذنَّا لك، قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة. قال أبو رافع: فأمرني النبي -عليه السلام- أن أقتل كل كلب بالمدينة، فخرجت فإذا امرأة عندها كلب فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأمرني أن أعود إلى الكلب فأقتله، ثم جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي -عليه السلام- فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬1) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله عليها يؤكل ما لم يأكل". ثم الكلام في معنى الآية الكريمة: فقوله: {الطَّيِّبَاتُ}: يتناول المعنيين: أحدهما: الطيب المستلذ، والآخر: الحلال؛ وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث، والخبيث حرام، فإذًا الطيب حلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة فيهما جميعًا. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا} (¬2) يعني الحلال. قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬3) فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث، والخبائث هي المحرمات، وقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬4) وهو يحتمل ما حَلَّ لكم، ويحتمل ما استطبتموه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4]. (¬2) سورة المؤمنون، آية: [51]. (¬3) سورة الأعراف، آية: [157]. (¬4) سورة النساء، آية: [3].

فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬1) جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه ما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين، فرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله، وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل. ثم إنهم لما سألوا عما أُحَّل من الكلاب التي أمروا بقتلها أنزل الله تعالى هذه الآية، وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها وحقيقة اللفظ يقتضي الكلاب أنفسها؛ لأن قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} (1) يوجب إباحة ما عَلَّمْنا، وإضمار الصيد يحتاج إلى دلالة. وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها وهو قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فحمل هذه الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما. وقد دلت الآية أيضًا على أن شرط إباحة الجوارح: أن تكون معلمة؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. وأما الجوارح فإنه قد قيل: إنها الكواسب للصيد على أهلها من الكلاب وسباع الطير التي تصيد غيرها، واحدها: جارح ومنه سميت الجارحة؛ لأنه يكتسب بها، قال الله تعالى: {مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (¬2) يعني ما كسبتم، ومنه {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (¬3)، وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما عُلِّم الاصطياد من سائر ذوي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، وقيل: الجوارح ما يجرح بناب أو مخلب. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [60]. (¬3) سورة الجاثية، آية: [21].

قال محمد في الزيادات: إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل؛ لأنه لم يجرح بناب أو مخلب، ألا ترى إلى، قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬1) فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب فإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ؛ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيقيد الأصناف التي يصاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم. قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} قد قيل فيه وجهان: أحدهما: أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه، وقيل: معناه مضرِّين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكلب هو التضرية، يقال: كَلَبَ كلبٌ إذا ضرى بالناس، وليس في قوله {مُكَلِّبِينَ} تخصيص الكلاب دون غيرها من الجوارح إذا كانت التضرية عامة فيهن، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عمومًا في سائر الجوارح. ص: وقد روي في ذلك عمن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهمًا، وقضى في كلب ماشية بكبش". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أنه نهى عن ثمن الكلب". ولم يفسر أي كلب هو، فلم يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون أراد خلاف كلاب المنافع، أو يكون أراد كل الكلاب، ثم ثبت عنده نسخ كلب الصيد منها فاستثناه في هذا الحديث. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عطاء، قال: "لا بأس بثمن الكلب السلوقي". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [4].

فهذا عطاء يقول هذا، وقد روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-[عن النبي -عليه السلام- "أن ثمن الكلب من السحت". فدلّ ذلك على المعنى الذي ذكرناه في حديث جابر -رضي الله عنه-. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب أنه قال: "إذا قتل الكلب المعلم فإنه يُقَوَّم قيمته فيغرمه الذي قتله". فهذا الزهري يقول هذا وقد روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي -عليه السلام-: "أن ثمن الكلب سحت" فالكلام في هذا مثل الكلام في حديث جابر. حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال: "كان يقال: يجعل في الكلب الضاري إذا قتل أربعون درهمًا". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك ومحمد بن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "لا بأس بثمن كلب الصيد". ش: أي قد روي فيما ذكرنا من حل إمساك الكلاب وإباحة أثمانها وضمان متلفيها، عمن بعد النبي -عليه السلام- من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، فمن ذلك: ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ... إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن إسماعيل بن جستاس، عن عبد الله بن عمرو قال: "في كلب الصيد أربعون درهمًا، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20921)، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 349): وهذا حديث لم يتابع عليه.

وفي كلب الماشية شاة من الغنم، وفي كلب الحرث فرق من طعام، وفي كلب الدار فرق من تراب؛ حق على الذي أصابه أن يعطيه وحق على صاحب الكلب أن يقبله" (¬1). ومنها ما رواه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر -رضي الله عنه-. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر وابن المهزم، عن أبي هريرة: "أنهما كرها ثمن الكلب إلا كلب صيد، وكرها ثمن الهر". ومنها ما رواه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء قال: "إن قتلت كلبًا ليس بعقور فاغرم لأهله ثمنه". قوله: "الكلب السلوقي"، نسبة إلى سَلُوق -بفتح السين المهملة وضم اللام وفي آخره قاف- وهي اسم لمدينة اللَّان تنسب إليها الكلاب السلوقية، ذكره الجوهري، وقال أيضًا: سَلُوق قرية باليمن تنسب إليها الدروع السَّلوقية. ¬

_ (¬1) "مصنف" ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20921)، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 349): وهذا حديث لم يتابع عليه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20910). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20918)، ولكن بلفظ الطحاوي: "لا بأس بثمن الكلب السلوقي". وأما بهذا اللفظ فهو الحديث الذي بعد هذا في "المصنف" (4/ 348 رقم 20919) وبإسناد آخر. فلعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-.

ومنها ما رواه عن إبراهيم أيضًا عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري. ومنها ما رواه عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان قال: "كان الناس يقضون في الكلب بأربعين درهمًا". ومنها ما رواه عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله ومحمد بن فضيل، كلاهما عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): نا وكيع، عن سفيان، عن سعيد، عن إبراهيم قال: "لا بأس بثمن كلب الصيد". ثنا ابن فضيل (¬3)، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: "لا بأس بثمن كلب الصيد". ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20920). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20917). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 349 رقم 20922).

ص: باب: استقراض الحيوان

ص: باب: استقراض الحيوان ش: أي هذا باب في بيان حكم استقراض الحيوان. والاستقراض: طلب القرض، والقرض -بفتح القاف- ما تعطيه من المال لتقضاه، والقِرض -بالكسر- لغة فيه حكاها الكسائي. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع: "أن رسول الله -عليه السلام- استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا جملًا خيارًا رباعيًا، فقال: أعطه إياه] (¬1)؛ إن خيار الناس أحسنهم قضاءً". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك ... إلى آخره نحوه. وعن أبي كريب (2)، عن خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء. قوله: "استسلف" من قولهم: استسلفت منه دراهم، وتسلفت فأسلفني. قوله: "بكرًا"، بفتح الباء وهو الفتي من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى بكرة، وقد يستعار للناس. قوله: "إلا جملًا خيارًا" أي مختارًا جيدًا. قال صاحب "العين": ناقة خيار وجمل خيار، والجمع خيار أيضًا، وكذلك ناقة هجان وهي الكريمة، وإبل هجان بلفظ واحد. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك". (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1224 رقم 1600).

"رَبَاعيًّا" بفتح الراء وتخفيف الباء، يقال للذكر من الإبل إذا طلعت رباعيته: رَبَاع، والأنثى رَبَاعية بالتخفيف، وذلك إذا دخلا في السنة السابعة. ويستفاد منه أحكام: الأول: احتج به قوم على جواز استقراض الحيوان على ما يجيء. الثاني: فيه ما يدل أن المقرض إذا أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسًا أو كيلًا أو وزنًا أن ذلك معروف، وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه -عليه السلام- أثنى فيه على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. قلت: هذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن غير شرط منهما في حين السلف، وقد أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم -عليه السلام- أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا. الثالث: فيه دليل على أن للإمام أن يستسلف للمساكين على الصدقات ولسائر المسلمين على بيت المال؛ لأنه كالوصي لجميعهم والوكيل، ومعلوم أنه -عليه السلام- لم يستسلف ذلك لنفسه؛ لأنه قضاه من إبل الصدقة، ومعلوم أن الصدقة محرمة عليه لا يحل له أكلها ولا الانتفاع بها. فإن قيل: فلم أعطى من أموالهم أكثر مما استقرض لهم. قلت: هذا الحديث دليل على أنه جائز للإمام إذا استقرض للمساكين أن يرد من مالهم أكثر مما أخد على وجه النظر والصلاح إذا كان على غير شرط. فإن قيل: إن المستقرض منه غني والصدقة لا تحل لغني! قلت: قد يحتمل أن يكون المستقرض منه قد ذهبت إبله بنوع من جوائح الدنيا، فكان في وقت صرف ما أخذ منه إليه فقيرًا تحل له الزكاة، فأعطاه النبي -عليه السلام- خيرًا من بعيره بمقدار حاجته، وجمع في ذلك وضع الصدقة في موضعها وحسن القضاء. ويحتمل أن يكون غارمًا أو غازيًا ممن تحل له الصدقة من الأغنياء. الرابع: فيه حجة لمن يوجب على من استهلك شيئًا من الحيوان مثله إن وجد له مثل لا قيمة.

قالوا: وكما يكون له مثل في القضاء فكذلك يكون له مثل في الضمان عن الاستهلاك. وممن قال بالمثل في المستهلكات كلها: الشافعي وأحمد وداود وجماعة. وأما مالك فقد قال: من استهلك شيئًا من الحيوان بغير إذن صاحبه فعليه قيمته ليس عليه أن يؤخذ بمثله من الحيوان. الخامس: فيه أن التداين في البر والطاعات والمباحات جائز، وإنما يكره التداين في الإسراف وما لا يجوز، والله أعلم. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: أنا شعبة، عن سلمة ابن كهيل، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يحدث، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان لرجل على النبي -عليه السلام- دين، فتقاضاه فأغلظ له، فأقبل عليه أصحاب النبي -عليه السلام- وهَمُّوا به، فقال النبي -عليه السلام-: ذروه فإن لصاحب الدين مقالاً، اشتروا له سنًّا فأعطوه إياه، فقالوا: إذًا لا تجد إلا سنًّا هو خير من سنه، قال: فاشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم -أو من خيركم- أحسنكم قضاء". حدثنا حسين، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل: "اشتروا له" وقال: "اطلبوا". ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما ثقات. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-. والحديث أخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "كان لرجل على رسول الله -عليه السلام- حق فأغلظ له، فَهَمَّ به أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فقال النبي -عليه السلام-: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1225 رقم 1601).

إن لصاحب الحق [مقالاً، فقال لهم: اشتروا له سنًّا فأعطوه إياه ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه أيضًا (¬1) عن محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "جاء رجل يتقاضى رسول الله -عليه السلام- بعيرًا، فقال: أعطوه سنًّا فوق سنه، وقال: خيركم أحسنكم قضاءً". وأخرجه البخاري في "الاستقراض" (¬2): عن أبي الوليد، عن شعبة، عن سلمة ابن كهيل ... إلى آخره نحو رواية مسلم الأولى. وفي "الوكالة" (¬3): عن سليمان بن حرب، عن شعبة. وفي "الهبة" (¬4): عن عبدان، عن أبيه، عن شعبة. وعن (¬5) محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة. وفي "الاستقراض" (¬6): عن مسدد، عن يحيى القطان، عن سفيان. وفي "الاستقراض" (¬7): عن أبي نعيم، عن سفيان. وأخرجه الترمذي مختصرًا (¬8): ثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن سلمة بن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "استقرض رسول الله -عليه السلام- سنًّا، فأعطاه سنًّا خير من سنِّه، وقال: خياركم أحاسنكم قضاءً". قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقد رواه شعبة وسفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1225 رقم 1601). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 842 رقم 2260). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 809 رقم 2183). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 920 رقم 2465). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 921 رقم 2467). (¬6) "صحيح البخاري" (2/ 845 رقم 2271). (¬7) "صحيح البخاري" (2/ 809 رقم 2182). (¬8) "جامع الترمذي" (3/ 607 رقم 1316).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن منصور، نا أبو نعيم، نا سفيان، عن سلمة ابن كهيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "كان لرجل على النبي -عليه السلام- سنٌّ من الإبل، فجاء يتقاضاه، فقال: أعطوه، فلم يجدوا إلا سنًّا فوق سنه، فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن خياركم أحسنكم قضاءً". قوله: "فتقاضاه" أي طلب منه قضاء دينه، قال الجوهري: اقتضى دينه وتقاضاه بمعنى. قوله: "فأغلظ له" يحتمل إغلاظه له كان في طلب حقه وتشدده فيه لا في كلام مؤذٍ يسمعه إياه؛ فإن ذلك كفر ممن فعله مع النبي -عليه السلام-، وقد يكون القائل هذا غير مسلم من اليهود أو غيرهم كما جاء مفسرًا منهم في غير هذا الحديث. قوله: "وهموا به" أي عزموا أن يُوقِعُوا به فعلاً. قوله: "ذروه" أي دعوه، أمر من يَذَر بمعنى يدع، وليس له ماضٍ مستعمل. قوله: "اشتروا له سنًّا" أي ذات سنٍّ. قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهم اسم السن إذا أثنتا، وتثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى إسنانها كبرها كالرجل المسن، لكن معناه طلوع سنها في السنة الثالثة. قوله: "أو من خيركم" شكٌّ من الراوي، والخير والشر يستعملان للتفضيل على لفظهما بمعنى الأخير والأشر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى إجازة استقراض الحيوان، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: يجوز استقراض الحيوان، واحتجوا في ذلك بحديثي أبي رافع وأبي هريرة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 291 رقم 4618).

وقال القاضي: أجاز جمهور العلماء استسلاف سائر الأشياء من الحيوان والعروض، واستثنيت من ذلك الجواري، وعلته أنه قد يَرُدَّها بنفسها فتكون من عارية الفروج، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يَرُدَّ غيرها، وأجاز استقراض الجواري الطبري والمزني، وروي عن داود الأصبهاني. وقال أبو عمر: قال ابن حبيب وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي: يجوز استقراض الحيوان كله إلا الإماء. وعند مالك: إن استقرض أمة ولم يطأها ردها بعينها، وإن حملت ردها بعد الولادة وقيمة ولدها إن ولد حيًّا وما نقصتها الولادة، وإن ماتت لزمه مثلها، فإن لم يوجد مثلها فقيمتها. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض مَالَهُ مِثلٌ من المكيل والموزون والأطعمة جائز. ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة سلمًا سوى بني آدم، وبهذا قال الشافعي. وقال ابن قدامة: أما بنوا آدم فقال أحمد: أكره قرضهم، فيحتمل كراهة تنزيه، ويصح قرضهم، وهو قول ابن جريج والمزني، ويحتمل أنه كراهة التحريم فلا يصح قرضهم، اختاره القاضي. وقال مالك والشافعي: يصح قرض العبيد دون الجواري إلا أن يقرضهن من ذي محارمهن. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز استقارض الحيوان، وقالوا: يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد ذلك وحرم كل قرض جرَّ منفعةً، وردت الأشياء المستقرضة إلي أمثالها فلم يجر القرض إلا فيما له مثل، وقد كان أيضًا قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والدليل على ذلك: أن ابن أبي داود] (¬1) حدثنا، قال: ثنا أبو عمر الحوضي (ح). ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك".

وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حريش، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمر بأن يأخذ في قلاص الصدقة، فجعل يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، ثم نسخ ذلك". وروي في ذلك ما حدثنا محمد بن علي بن محرز البغدادي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان الثوري، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". حدثنا فهد، قال: ثنا شهاب بن عباد، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، عن معمر ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي، قال: ثنا عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرى بأسًا ببيع الحيوان بالحيوان اثنين بواحد، ويكرهه نسيئة". حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ وعبد الله بن محمد بن خشيش وإبراهيم بن محمد الصيرفي، قالوا: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن دينار، عن يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- مثله.

قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان هذا ناسخًا لما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- من إجازة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فدخل في ذلك أيضًا استقراض الحيوان. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والحسن بن صالح وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وفقهاء الكوفة؛ فإنهم قالوا: لا يجوز استقراض الحيوان. وقال أصحابنا: لا يجوز القرض إلا مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المزروعات والمعدودات المتقاربة؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة؛ لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقوّمِين، فتعيَّن أن يكون الواجب فيه رد المثل، فيختص جوازه بما له مثل، وعن هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز القرض في الخبز لا وزنًا ولا عددًا. وقال محمد: يجوز عددًا. وقال ابن قدامة: ويجوز قرض الخبز، ورخَّص فيه أبو قلابة ومالك إذا لم يشترط أن يقضيه أفضل منه، ومنع منه أبو حنيفة. وذكر الشريف أبو جعفر: هل يجوز بالعدد أم بالوزن؟ على روايتين. قوله: "وقالوا: يحتمل ... " إلى آخره. جواب من جهة أهل المقالة الثانية عما احتج به أهل المقالة الأولى، حاصله أن يقال: إن حديث أبي رافع وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الربا، فلما حُرِّمَ الربا بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وحرم كل قرض جرَّ منفعةً؛ ردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم يجز القرض بعد ذلك إلا فيما له مثل، والحيوان مما له قيمة فلم يجز الاستقراض فيه. وأيضًا قد كان يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً قبل تحريم الربا، فلما حرم الربا نُسخ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، واستقراض الحيوان في المعنى: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [275].

فإن قيل: كيف وجه هذا النسخ، والنسخ لا يكون إلا بمعرفة التاريخ؟ ولهذا قال الخصم: وهذا الحديث -أعني حديث أبي رافع- حجة عليهم، وليس للسنة مدفع، وليس دعواهم النسخ بغير حجة تدفعها. قلت: قد يوجد النسخ بدلالة التاريخ, وهو أن يكون أحد النصين موجبًا للحظر والآخر موجبًا للإباحة، ولا شك أن حديث أبي رافع يوجب إباحة استقراض الحيوان مطلقًا، وآية الربا تحرِّم كل فضل حالّ عن العوض، ففي استقراض الحيوان يوجد هذا المعنى فيمنع كما يمنع الربا؛ ولأجل هذا المعنى أيضًا منع من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة بعد نزول آية الربا؛ لأن فيه ذلك المعنى الذي حرم به الربا، فإذا كان كذلك ثبت النسخ في استقراض الحيوان؛ لأن النص الموجب للحظر فيه متأخرًا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى، فافهم. قوله: "والدليل على ذلك" أي على كون جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً قبل نسخ الربا: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري، شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض داود بن المهدي بن المنصور، محلة كانت ببغداد. وعن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب -بفتح الخاء وكسر الصاد- بن ناصح الحارثي الثقة، يروي هو وأبو عمر الحوضي كلاهما، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، روى له الجماعة. عن مسلم بن جبير الحرشي، وثقه ابن حبان. عن أبي سفيان، وثقه يحيى بن معين، قاله عثمان بن سعيد. عن عمرو بن حَرِيش -بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وفي آخره شين معجمة- وثقه ابن حبان.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة". وأخرجه البيهقي (¬2) بأتم منه: من حديث حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش، قال: "قلت لعبد الله بن عمر وأنا بأرض ليس فيها ذهبًا ولا فضة: أفنبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين، فقال: أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أجهز جيشًا، فنفدت الإبل. فقلت: يا رسول الله نفدت الإبل، فقال: خذ في قلاص الصدقة، قال: فجعلت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة". فإن قلت: ما حال إسناد هذا الحديث؟ قلت: قال ابن ماكولا (¬3): عمرو بن حريش أبو محمد الزبيدي، سمع عبد الله ابن عمرو بن العاص، روى حديثه ابن إسحاق صاحب المغازي فاختلف عليه فيه، رواه عنه حماد بن سلمة، واختلف عنه: فرواه حفص بن عمر الحوضي عنه، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش. وخالفه عفان بن مسلم الصفار فرواه عن حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 250 رقم 3357). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 287 رقم 10308). (¬3) "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 421 - 422).

وخالف حماد بن سلمة إبراهيم بن سعد وجرير بن حازم فروياه عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبو سفيان الحرشي -وكان ثقةً فيما ذكر لي أهل بلاده- عن مسلم بن جبير مولى ثقيف، وكان مسلم رجلاً يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع من عمرو بن حَرِيش الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وخالفهم عبد الأعلى بن عبد الأعلى، فرواه عن ابن إسحاق، عن أبي سفيان بن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حَرِيش. وقال الذهبي في ترجمة عمرو بن حريش: ما روى عنه سوى أبي سفيان، ولا يدرى من أبي سفيان. وقال عبد الغني في "الكمال" في باب الكنى: أبو سفيان روى عن عمرو بن حَرِيش، روى عنه مسلم بن جبير، روى له أبو داود. ولم يذكر شيئًا غير ذلك، ولكن لما أخرج أبو داود حديثه سكت عنه فيدل أنه مرضي عنده. وقال صاحب "التكميل": عمرو بن حريش أبو محمد الزبيدي، روى عن عبد الله بن عمرو قال: "أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أجهز شيئًا ... " الحديث. وعنه أبو سفيان، وفي إسناد حديثه اختلاف، وقد قال عثمان بن سعيد، عن ابن معين: هو حديث مشهور. وزعم ابن حبان في "الثقات" أن عمرو بن حبشي وعمرو بن حريش واحد، وليس كما قال، والله أعلم. قوله: "فنفدت الإبل" بالدال المهملة، أي فنيت ولم يبق منها شيء، يقال: نَفِدَ الشيء -بالكسر- نَفَادًا: أي فني وأنفدته، وأنفد القوم: أي ذهبت أموالهم. قوله: "في قلاص الصدقة" القلاص -بكسر القاف- جمع قُلُص -بضم القاف واللام- والقُلُوص جمع قَلُوص فتكون القلاص جمع الجمع. قال الجوهري: تجمع القلوص على قُلُص وقَلَائص مثل قَدُوم وقُدُم وقَدَائِم، وجمع القُلُص قِلَاص مثل سَلَبْ وسِلَاب، والقَلُوص من النوق: الشابة، وهي بمنزلة الجارية من النساء.

وقال العدوي: القَلُوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني، فإذا أثنت فهي ناقة، والقعود أول ما يركب من ذكور الإبل إلى أن يثني، فإذا أثنى فهو جمل، وربما سموا الناقة الطويلة القوائم القَلُوص. ومن فوائده: أنه يدل على جواز بيع بعير ببعيرين وشاة بشاتين، وإليه ذهب جماعة، ولكنه منسوخ بحديث ابن عباس الذي يأتي الآن. ومنها: أنه استدلت به طائفة على جواز السَّلَم في الحيوان، وإليه ذهب الشافعي أيضًا. وقال الخطابي: لأنه إذا باع بعيرًا ببعيرين فقد صار ذلك حيوانًا مضمونًا عليه في ذمته، وكذلك السلم في معناه، فيصح. قلنا: إنه منسوخ كما ذكرنا؛ ولأن الحيوان في نفسه متفاوت فيفضى إلى المنازعة؛ فلا يصح. قوله: "وروي في ذلك" أي في نسخ بيع الحيوان بالحيوان: ما حدثنا محمد بن علي ... إلى آخره. وقد أخرج في ذلك عن أربعة من الصحابة، وهم: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وسمرة بن جندب -رضي الله عنهم-. أما حديث ابن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن علي بن محرز البغدادي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن سفيان الثوري، عن معمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن شهاب بن عبَّاد -بتشديد الباء- العبدي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن معمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا العلوي، أنا أبو حامد بن الشرقي، نا أحمد بن يوسف، نا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً". ثم قال: وكذا رواه داود العطار، عن معمر موصولاً. وكذا روي عن الزبيري وعبد الملك الذماري، عن الثوري، عن معمر. وكل ذلك وهم. والصحيح عن عكرمة، عن النبي -عليه السلام- مرسلاً. ثم أخرجه كذلك من حديث الفريابي (¬2)، عن الثوري، عن معمر، ثم قال: وكذا رواه عبد الرزاق وعبد الأعلى، عن معمر. وكذا رواه علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وروينا عن البخاري أنه وهَّن رواية من أوصله. ثم أخرج عن ابن خزيمة (¬3) قال: الصحيح عند أهل المعرفة: هذا الخبر مرسل ليس بمتصل، ثم ذكر عن الشافعي أن حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة غير ثابت. انتهى. قلت: حاصله أنه اختلف على الثوري فيه؛ فرواه عنه الفريابي مرسلاً، ورواه عنه الزبيري والذماري متصلاً، واثنان أولى من واحد، كيف وقد تابعهما أبو داود الحفري، فرواه عن سفيان موصولاً. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 288 رقم 10313). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 289 رقم 10314). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 289 رقم 10315).

كذا أخرجه عنه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" (¬1)، وظهر بهذا أن رواية من رواه عن الثوري موصولاً أولى من رواية من رواه عنه مرسلاً. واختلف أيضًا على معمر فيه: فرواه عنه عبد الرزاق وعبد الأعلى مرسلاً، على أن عبد الرزاق وإن كان رواه عن معمر مرسلًا فقد رواه عن معمر: ابن طهمان والعطار موصولاً، وتأيدت روايتهما بالرواية المذكورة عن عبد الرزاق، وبما ترجح من رواية الثوري، فظهر أن رواية من رواه عن معمر موصولاً أولى، ومعمر أحفظ من علي بن المبارك؛ فروايته عن يحيى موصولاً أولى من رواية ابن المبارك عنه مرسلاً. وبالجملة فمن وصل حفظ وزاد؛ فلا يكون من قصر حجة عليه. وقد أخرج البزار هذا الحديث وقال: ليس في هذا الباب حديث أجلّ إسنادًا منه. وقد ورد في هذا الباب أيضًا حديث ابن عمر وحديث جابر على ما يأتي ذكرهما الآن وهو مما يؤيد ذلك أيضًا. وأخرج الشافعي أيضًا في "مسنده" (¬2): عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عبد الكريم الجزري، أن زياد بن أبي مريم مولى عثمان أخبره: "أن النبي -عليه السلام- بعث مصدقًا له فجاء بظهر مسنَّات، فلما نظره النبي -عليه السلام- قال: هلكت وأهلكت، قال: يا رسول الله إني كنت أبيع البكرين والثلاثة بالبعير المسنّ يدًا بيد وعلمت من حاجة رسول الله -عليه السلام- إلى الظهر، فقال -عليه السلام-: [فذاك إذًا". قال ابن الأثير في "شرحه": يدل على صحة قول من منع النسيئة في الحيوان بالحيوان؛ لأنه لما قال له: يدًا بيد أقره على فعله. فظهر بهذه الأحاديث المختلفة والطرق التي أيد بعضها بعضًا: أن هذا الحديث ثابت خلافًا للشافعي -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (11/ 401 رقم 5028). (¬2) "مسند الشافعي" (1/ 141).

وروى عبد الرزاق (¬1): أنا الثوري وإسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، سمعت محمد بن الحنفية: "يكره الحيوان بالحيوان نسيئة". ورواه عبد الرزاق (¬2): عن عكرمة، وعن أيوب وابن سيرين نحوه. وروى ابن أبي شيبة بسنده (¬3): عن عمار بن ياسر نحوه. وأما حديث جابر بن عبد الله: فأخرجه عن إبراهيم بن محمد الصيرفي البصري، عن عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشل، عن أشعث بن سوار، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. وهذا إسناد لا بأس به. وأشعث بن سوار وثقه يحيى في رواية وضعفه في أخرى. والحديث أخرجه الترمذي (¬4): نا أبو عمار الحسين بن حريث، قال: ثنا عبد الله ابن نمير، عن الحجاج -وهو ابن أرطاة- عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نَسَاء، ولا بأس به يدًا بيد". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه (¬5) وأحمد في "مسنده" (¬6). وأما حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فأخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي نزيل مكة، وعن عبد الله بن محمد بن خشيش، وعن إبراهيم بن محمد الصيرفي البصري، ثلاثتهم عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب البصري ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 20 رقم 14134). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 23 رقم 14146). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 304 رقم 20427). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 539 رقم 1238). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 763 رقم 2271). (¬6) "مسند أحمد" (3/ 380 رقم 15105).

شيخ البخاري وأبي داود، عن محمد بن دينار الأزدي الطاحي البصري، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن زياد بن جبير بن حية الثقفي البصري، عن عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وهذا إسناد جيد حسن، ولا يلتفت إلى تضعيف البيهقي هذا الحديث بمحمد ابن دينار الطاحي بما روي عن ابن معين أنه ضعيف؛ لأن أبا زرعة قال فيه: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة. وقال ابن عدي: حسن الحديث. والحديث أخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة" (¬1): من طريق محمد بن دينار الطاحي ... إلى آخره نحوه. وأما حديث سمرة بن جندب فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن المنهال التميمي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن علي، نا يحيى بن سعيد ويزيد بن زريع وخالد بن الحارث، نا شعبة. وأخبرنا أحمد بن فضالة بن إبراهيم، نا عبيد الله بن موسى، نا الحسن بن صالح، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفَّار، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (4/ 413). (¬2) "المجتبى" (7/ 292 رقم 4620).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". الثالث: عن عبد الله بن محمد بن خشيش، عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) نحوه، ثم قال: وأكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة. قلت: أخرج الترمذي الحديث المذكور ثم قال: حديث سمرة حديث حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. هكذا قال علي بن المديني وغيره. وقال صاحب "الاستذكار": قال الترمذي: قلت للبخاري في قولهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، قال: سمع منه أحاديث كثيرة وجعل روايته عنه سماعًا صحيحًا، وصححها، وقال الترمذي في "جامعه": والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وبه يقول أحمد -رحمه الله-] (¬3). وقد رخص بعض أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، وهو قول الشافعي وإسحاق. وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال الشافعي وأبو ثور وداود: لا ربا في الحيوان بحال، وجائز عندهم بيع بعضه ببعض نقدًا أو نسيئةً، اختلف أو لم يختلف، ولا ربا عندهم إلا في الذهب والورق وما يكال أو يوزن مما يُؤكل أو يُشرب على مذهب ابن المسيب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 250 رقم 3356). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 288 رقم 10312). (¬3) آخر ما استدركناه من "ك" وهو طمس بمقدار لوحة في "الأصل".

وقال الثوري وأبو حنيفة والحسن بن حيّ: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً؛ اختلف أو لم يختلف، وحجتهم: ما خرَّج أبو داود (¬1): "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة"، وقاله محمد بن الحنفية وعكرمة. وقال الحسن: إذا اختلفا فلا بأس به إلى أجلٍ، يقول: الغنم بالبقر، والبقر بالإبل، ولا خلاف في جواز بيع الحيوان بالحيوان متماثلاً يدًا بيدٍ. ص: فقال أهل المقالة الأولى: هذا لا يلزمنا؛ لأنا قد رأينا الحنطة لا يباع بعضها ببعض نسيئةً وقرضها جائز، فكذلك الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعضٍ نسيئةً وقرضه جائز، فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة في تثبيت المقالة الأولى: نَهْيُ النبي -عليه السلام- عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً يحتمل أن يكون ذلك لعدم الوقوف منه على المثل، ويحتمل أن يكون من قِبَل ما قال أهل المقالة الأولى في الحنطة في البيع والقرض، فإن كان إنما نهى عن ذلك عن طريق عدم وجود المثل؛ ثبت ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وإن كان من قِبل أنهما نوع واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئةً لم يكن في ذلك حجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى. فاعتبرنا ذلك، فرأينا الأشياء المكيلات لا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة، ولا بأس بقرضها، ورأينا الموزونات حكمها في ذلك كحكم المكيلات سواء خَلاَ الذهب والورِق، ورأينا ما كان من غير المكيلات والموزونات مثل الثياب وما أشبهها فلا بأس ببيع بعضها ببعض وإن كانت متفاضلة، وبيع بعضها ببعض نسيئةً فيه اختلاف بين الناس، فمنهم من يقول: ما كان منها من نوع واحد فلا يصلح بيع بعضه ببعض نسيئةً، وما كان منها من نوعين مختلفين فلا بأس ببيع بعضه ببعض نسيئة، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) تقدم.

ومنهم من يقول: لا بأس ببيع بعضها ببعض يدًا بيدٍ، ونسيئة، وسواء عنده كانت من نوع واحد أو من نوعين، فهذه أحكام الأشياء المكيلات والموزونات والمعدودات غير الحيوان على ما فسرنا، فكان غير المكيل والموزون لا بأس ببيعه بما هو من خلاف نوعه نسيئة، وان كان المبيع والمبتاع به ثيابًا كلها، وكان الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة، وإن اختلفت أجناسه، لا يجوز بيع عبد ببعير ولا ببقرة ولا بشاة نسيئة، فلو كان النهي من النبي -عليه السلام- عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إنما كان لاتفاق النوعين؛ لجاز بيع العبد بالبقرة نسيئة؛ لأنها من غير نوعه، كلما جاز بيع الثوب الكلتان بالثوب القطن الموصوف نسيئة. فلما بطل ذلك في نوعه وفي غير نوعه؛ ثبت أن النهي في ذلك إنما كان لعدم وجود مثله، ولأنه غير موقوف عليه، وإذا كان إنما بطل بيع بعضه ببعض نسيئة لأنه غير موقوف عليه؛ بطل قرضه أيضًا؛ لأنه غير موقوف عليه. فهذا هو النظر في هذا الباب. ومما يدل على ذلك أيضًا ما قد أجمعوا عليه في الاستقراض من الإماء أنه لا يجوز وهي حيوان، فاستقراض سائر الحيوان في النظر أيضًا كذلك. ش: هذه إشارة إلى بيان منع من جهة أهل المقالة الأولى لما قاله أهل المقالة الثانية من قولهم: لمَّا نسخ جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وحل في ذلك استقراض الحيوان أيضًا، وتقرير المنع أن يقال: لا نسلِّم دخول استقراض الحيوان في انتساخ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؛ لأنا قد رأينا الحنطة لا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة ومع هذا فقرضها جائز، وكذلك الحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعضٍ نسيئةً فقرضه جائز. وأجاب عن ذلك بقوله: فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة ... إلى آخره، وهو ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان. قوله: "فمنهم من يقول" أي فمن الفقهاء الذين لهم خلاف [في هذا الباب وأراد بهم: عطاء وإبراهيم النخعي وابن سيرين وعكرمة بن خالد ومحمد ابن الحنفية والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

قوله: "ومنهم من يقول" أراد بهم: سعيد بن المسيب والأوزاعي والشافعي ومالكًا في رواية وأحمد، وقال مالك في "الموطأ" (¬1): لا بأس أن يشترى الثوب من الكتان أو الشطوي أو القصبي بالأثواب من الإتريبي أو القسي أو الزيقة أو الثوب الهروي أو المروي بالملاحف اليمانية والشقائق وما أشبه ذلك، الواحد بالاثنين أو الثلاثة، من صنف واحد، فإن دخل ذلك نسيئةً فلا خير فيه. وقال ابن زرقون في "شرحه": أصل ذلك أن ما اختلف جنسه من الثياب يجوز بيعه بما خالفه من جنسه إلى أجل، ولا يجوز ذلك فيما كان من جنسه، وإنما يختلف جنسها بالرقة والغلظ؛ لأنها المنفعة المقصودة منها، فلا بأس برقيق ثياب الكتان وهو الشطوي والقصبي والزيقة والمريسية إلى أجل. وكذلك القطن رقيقه وهو المروي والهروي والقوهي والعدني جنس مخالف لغليظه وهي الشقائق والملاحف اليمانية الغلاظ. وفي "الواضحة": ثياب القطن صنف واحد وإن اختلفت جودتها وأثمانها وبلدانها، وكانت هذه عمائم وهذه أردية وشقق إلا ما كان من وشي القطن الصنعاني والصعيدي القصب والحَبَرة والمشطب والمسير وشبهه فلا بأس به ببياض ثياب القطن متفاضلاً إلى أجل، وكذلك ثياب القصب بثياب القطن لاختلاف المنافع والجمال، وما اختلف أيضًا في الرداءة والجودة والرقة والغلظ فتباين في نفسه وجماله جاز فيهما التفاضل إلي أجل. وكذلك ثياب الكتان صنف واحد إلا أن تتباين بالرقة والغلظ والرداءة والجودة فيجوز فيهما التفاضل إلى أجل. وقال الشافعي: لا ربا إلا في المأكول والمشروب والذهب والفضة، وهو قول ابن المسيب والأوزاعي. وقال أحمد: ما لا يكال ولا يوزن يجوز فيه التفاضل ولا يجوز نسيئة. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 657 رقم 1339).

وقال سليمان بن يسار: لا يصلح ثوب بثوبين إلا يدًا بيد. وقال الليث: نسيج مصر كله صنف واحد، لا يجوز فيه النَساء بعضه ببعض، ويجوز نسيج مصر بنسيج العراق نسيئة. قوله: "ما قد أجمعوا عليه في استقراض الإماء أنه لا يجوز" أراد بهذا الإجماع: إجماع الأئمة الأربعة لا إجماع الفقهاء كلهم، فإن المزني وابن جرير الطبري وداود الأصفهاني أجازوا استقراض الإماء، وقد مرَّ الكلام فيه عن قريب. ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في الجنين بغرةً عبدًا أو أمةً، وحكم في الدية بمائةٍ من الإبل، وفي أروش الأعضاء بما قد حكم به مما قد جعله في الإبل، فكان ذلك حيوانًا كله يجب في الذمة، فلم لا كان كل الحيوان أيضًا كذلك؟. قيل: قد حكم النبي -عليه السلام- في الدية وفي الجنين بما ذكرت من الحيوان، ومنه من بيع الحيوان بعضه ببعض نسيئةً على ما قد ذكرنا وشرحنا في هذا الباب، فقد ثبت النهي في وجوب الحيوان في الذمة بأموال، وأبيح وجوب الحيوان في الذمة بغير أموال، فهذان أصلان مختلفان نصححهما ونرد إليهما سائر الفروع، فنجعل ما كان بدلاً من مالٍ حكمه حكم القرض الذي وصفنا، وما كان بدلاً من غير مال فحكمه حكم الديات والغرة التي ذكرنا، من ذلك: التزويج على عبد وسط أو أمة وسط، والخلع على أمة وسط أو على عبد وسط. والدليل على صحة ما وصفنا أن النبي -عليه السلام- قد جعل في جنين الحرة كرة عبدًا أو أمةً، وأجمع المسلمون أن ذلك لا يجب في جنين الأمة، وأن الواجب فيه دراهم أو دنانير على ما اختلفوا، فقال بعضهم: عُشر قيمة الجنين إن كان أنثى، ونصف عشر قيمته إن كان ذكرًا. وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-] (¬1). وقال آخرون: نصف عُشر قيمة أُمّ الجنين. ¬

_ (¬1) آخر ما استدركناه من "ك"، وفي "الأصل" طمس بنحو لوحة.

وأجمعوا في جنين البهائم أن فيه ما نقص أم الجنين، وكانت الديات الواجبات من الإبل على ما أوجبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجب في أنفس الأحرار ولا تجب في أنفس العبيد، فكان ما حكم فيه بالحيوان المجعول في الذمم هو ما ليس ببدل من مال، ومنع من ذلك في الأبدال من الأموال، فثبت بذلك أن القرض الذي هو بدل من مال لا يجب فيه حيوان في الذمم. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. ش: هذا السؤال وارد من جهة أهل المقالة الأولى على ما علل به أهل المقالة الثانية عدم جواز استقراض الحيوان بقولهم: إن الحيوان لا يثبت في الذمة فلا يصح استقراضه؛ ولذلك لم يجوزوا السَّلَم أيضًا في الحيوان. حاصل السؤال أن يقال: كيف تقولون: الحيوان لا يثبت في الذمة وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة عبد أو أمة، وحكم في الدية بمائة من الإبل، وكذلك حكم في أروش الأعضاء بما قد حكم به من كل عضو من الإبل المعينة على ما عرف في موضعه، فهذا كله حيوان يجب في الذمة. فإذا كان الأمر كذلك فَلِمَ لا يجوز أن يكون كل الحيوان كذلك؟ فأجاب عنه بقوله: قيل له ... إلى آخره. وهو ظاهر. وملخصه أن يقال: لا نسلم استواء الحكم المذكور في كل الحيوان؛ وذلك لأن من الصور الحيوان فيه ليس بدلاً عن مال؛ فلذلك أبيح وجوده في الذمة. وأما في الصورة المتنازع فيها الحيوان بدل من مال فلا يثبت في الذمة؛ لورود النهي في وجوبه في الذمة بأموال، فهذا أصلان تنسحب عليهما فروع كثيرة، فلما كان بدلاً عن مال فحكمه حكم القرض فلا يثبت في الذمة، وما كان بدلاً عن غير مال فحكمه حكم الديات والغرة. قوله: "من ذلك التزويج" أي مما كان بدلاً من غير مال على أمة وسط ... إلى آخره، فالحيوان في هذه الصور يثبت في الذمة؛ لأنه بدل عن غير مال.

قوله: "غرةً عبدًا" فانتصاب "غرة" على أنه مفعول لقوله: "قد جعل"، وانتصاب "عبدًا" على أنه بدل من قوله: "غرةٌ" أو عطف بيان، وفي بعض النسخ: "غرةَ عبد" بإضافة الغرة إلى العبد. قوله: "وقال أخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الليث ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم عندهم الواجب في جنين الأمة نصف عُشر قيمة أمه مطلقًا؛ لأنه جزء منها من وجه، وضمان الأجزاء يعلم من الأصل. ص: وقد روي ذلك عن نفر من المتقدمين: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: "أسلم زيد بن خليدة إلى عتريس بن عرقوب في قلائص، كل قَلُوص بخمسين، فلما حلَّ الأجل جاء يتقاضاه، فأتى ابن مسعود -رضي الله عنه- يستنظره فنهاه عن ذلك، وأمره أن يأخذ رأس ماله". حدثنا أبو بشر الرقي، حدثنا شجاع بن الوليد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: "السلف في كل شيء إلى أجل مسمى لا بأس به، ما خلا الحيوان". حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر، ثنا شعبة، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: "كان حذيفة يكره السَّلَم في الحيوان". حدثنا نصر بن مرزوق، ثنا الخَصِيب، ثنا حماد، عن حميد، عن أبي نضرة: "أنه سأل ابن عمر عن السلف في الوصفاء، فقال: لا بأس به. قال: فإن أمراءنا ينهوننا عن ذلك؟ قال: فأطيعوا أمراءكم. قال: وأمراؤنا يومئدٍ عبد الرحمن بن سمرة وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -". ش: أي قد روي ما ذكرنا -من أن الحيوان إذا كان بدلاً عن مال لا يجب في الذمة- عن طائفة من المتقدمين من الصحابة والتابعين، وهم: عبد الله بن مسعود

وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن سمرة وإبراهيم النخعي؛ فإنهم كلهم منعوا السَّلَم في الحيوان. وروي أيضًا عن عمر بن الخطاب، وروي عنه أنه قال: "إن من الربا أبوابًا لا تخفى، وإن منها السلم في السنَّ". وهو مذهب الثوري والشعبي وسعيد بن جبير، ورواية عن أحمد. أما الذي روي عن ابن مسعود: فأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم الجدلي الكوفي، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الكوفي الصحابي قال: "أسلم زيد بن خليدة -بضم الخاء المعجمة وفتح اللام- اليشكري، ذكره ابن حبان [في "الثقات" التابعين. "إلى عِتْريس" -بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة- بن عرقوب -بضم العين- ذكره ابن حبان في "الثقات" التابعين. قوله: "في قلائص" جمع قَلُوص: وهو الشاب من الإبل، وقد مرَّ الكلام فيه مستقصّى عن قريب. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: "أن زيد بن خليدة أسلم إلى عتريس بن عرقوب في قلائص، فسأل ابن مسعود فكره السلم في الحيوان". وأما الذي روي عن النخعي: فأخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، عن أبي معشر زياد بن كليب الكوفي، عن إبراهيم النخعي. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 419 رقم 21692).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله يكره السَّلَم في الحيوان". وأما الذي روي عن حذيفة بن اليمان: فأخرجه عن مبشر بن الحسن بن مبشر، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة بن الحجاج، عن عمار بن معاوية الدهني، عن سعيد بن جبير. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن عمار صاحب السابري، قال: "سمعت سعيد بن جبير يُسْأل عن السلم في الحيوان فنهى عنه، فقلت له: قد كنت بأذربيجان سنين أو سنتين نراهم يفعلونه ولا ننهاهم، فقال سعيد: كان حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- ينهى عنه". وأما الذي روي عن عبد الله بن عمر: فأخرجه عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أبي نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك، عن عبد الله بن عمر. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا سهل بن يوسف، عن حميد، عن أبي نضرة قال: "قلت لابن عمر: إن أمراءنا ينهوننا عنه -يعني السَّلَم في الحيوان في الوصفاء- قال: فأطع أمراءك إن كانوا ينهون عنه، وأمراؤه يومئذٍ مثل الحكم الغفاري وعبد الرحمن ابن سمرة - رضي الله عنهما-". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 419 رقم 21690). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 419 رقم 21698). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21699).

ص: كتاب السير

ص: كتاب السِّير ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام السير، وهو جمع سيرة وهي الطريقة، ومنه: سيرة العمرين أي طريقتهما؛ وسمي هذا الكتاب بهذا؛ لأنه يجمع سير النبي -عليه السلام- وطرقه في مغازيه وسير أصحابه وما نقل عنهم في ذلك وبعضهم ذكروه بكتاب الجهاد، والجهاد: بذل الطاقة وتحمل المشقة. ... ص: باب: الإمام يريد قتال العدو هل عليه قبل ذلك أن يدعو أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان أن الإمام إذا قصد قتال قوم من الأعداء هل يجب عليه أن يدعوهم إلى الإسلام ثم إلى الجزية إن كانوا من أهلها قبل اشتغاله بقتالهم أم لا؟ والمراد من الإمام هو الإِمام الأعظم وهو الخليفة، أو نائبه وهو السلطان، أو نائب نائبه وهو أمير بلدة أو ناحية. ص: حدثنا أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا سفيان بن سعيد، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ رجلاً على سرية قال له: إذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلي إحدى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن أجابوك إليها فأقبل منهم وكُفَّ عنهم: ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ولهم ما لهم، فإن أبوا فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين فلا يكون لهم من الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإِسلام فسلهم عن إعطاء الجزية، فإن فعلوا فأقبل منهم وكُفَّ عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.

قال علقمة: فحدثت به مقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم بن هيصم، عن النعمان بن مقرن] (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر حديث علقمة عن مقاتل عن مسلم بن هيصم. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو صالح (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال كل واحد منهما: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن علقمة بن مرثد الحضرمي ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، عن سليمان بن بريدة الأسلمي المروزي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبيه بريدة بن الحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- الأسلمي الصحابي -رضي الله عنه-. والحديث أخرجه الجماعة غير البخاري: فقال مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان (ح). وثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان قال: أملاه عليَّ إملاءً (ح). وحدثني (2) عبد الله بن هاشم -واللفظ له- قال: حدثني عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية؛ أوصاه في خاصته ¬

_ (¬1) آخر ما استدركناه من "ك"، وهو طمس بمقدار لوحة. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1356 رقم 1731).

بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلّوا ولا تغدروا ولا تُمَثِّلوا, ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خِلال- فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكُفّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ ". قال عبد الرحمن هذا أو نحوه. وزاد إسحاق في آخر حديثه عن يحيى بن آدم، قال: "فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان -قال يحيى: يعني أن علقمة يقوله لابن حيان- فقال: حدثني مسلم بن هيصم، عن النعمان بن مقرن، عن النبي -عليه السلام- بنحوه. وقال أبو داود (¬1): ثنا محمد بن سليمان الأنباري، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 37 رقم 2612).

المسلمين خيرًا، وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك إليها فأقبل منهم وكُفّ عنهم، ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونوا مثل أعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فأقبل منهم وكُفّ عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله -عز وجل- فلا تُنزلهم فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعدُ ما شئتم". قال سفيان: قال علقمة: فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم -وقال أبو داود: هو ابن هيصم- عن النعمان بن مقرن، عن [النبي -عليه السلام- مثل حديث سليمان بن بريدة. وقال الترمذي (¬1): نا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ... " إلى آخره نحوًا من رواية مسلم، وقال في آخره: وفي الباب عن النعمان بن مقرن. قال أبو عيسى: حديثٌ حسن صحيح. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 162 رقم 1617).

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن جرير بن حازم، عن شعبة، عن علقمة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبد الرحمن بن عيسى، ثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن جرير بن حازم، عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- ... إلى آخره. الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد ... إلى آخره. قوله: "إذا أمَّر" بتشديد الميم، من التأمير وهو جعل الغير أميرًا. قوله: "على سرية" قال الجوهري: السرية قطعة من الجيش، يقال: خير السرايا أربعمائة رجل. وقال ابن الأثير: السرية طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبْعث إلى العدو، وجمعها السرايا؛ سُمُّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرًّا وخِفية، وليس بالوجه؛ لأن لام السر راء، وهذه تاء، انتهى. وقال ابن السكيت: السرية ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة. وقال الخليل: هي نحو أربعمائة. قوله: "إلى دار المهاجرين" وهم قوم من قبائل مختلفة تركوا أوطانهم وهجروها في الله، واختاروا المدينة دار، ولم يكن لهم أو لأكثرهم بها زرع ولا ضرع، فكان رسول الله -عليه السلام- ينفق عليهم مما أفاء الله عليه أيام حياته، ولم يكن للأعراب وسكان البدو فيها حظ إلا من قاتل منهم، فإذا شهد الوقعة أَحَدٌ منهم أخذ سهمه. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه توصية الإمام أمرائه وجيوشه وتعريفه ما يجب عليهم في مغازيهم، وما يحل لهم ويحرم عليهم، وتحريم الغلول والغدر والمثلة.

الثاني: فيه دعاء المشركين قبل القتال إلى إحدى الثلاث المذكورة. وقالت العلماء -منهم: الحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق-: إذا بلغتهم الدعوة جاز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا، فأما من لم تبلغهم الدعوة ممن بعدت داره فإنه لا يقاتل حتى يدعى. الثالث: احتج بظاهر قوله: "فَسَلْهم إعطاء الجزية" الأوزاعي على وجوب قبول الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي من عبدة الأوثان والشمس والنيران إذا أذعنوا إليها. قال الخطابي: ومذهب مالك قريب منه، وحكي عنه أنه قال: تقبل من كل مشرك إلا المرتد، وروي عنه: لا تقبل إلا من أهل الكتاب وسواء كانوا عربًا وعجمًا، وتقبل من المجوس ولا تقبل من مشرك غيرهم. وقال الشافعي: تقبل من كل مشرك من العجم ولا تقبل من مشركي العرب. وقال البخاري: لم يثبت عن النبي -عليه السلام- أنه حارب عجمًا قط ولا بعث إليهم جيشا وإنما كانت عامة حروبه مع العرب، وكذلك بعوثه وسراياه، فلا يجوز أن يصرف هذا الخطاب إلى غيرهم. قلت: مذهب أبي حنيفة -رضي الله عنه- لا تختص بأهل الكتاب، بل توضع على أهل الكتاب وعلى المجوسي والوثني من العجم، وهو رواية عن أحمد. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- لما وجَّه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى خيبر وأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسْلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم] (¬1) من حق الله -عز وجل-، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم". ¬

_ (¬1) آخر الطمس في "الأصل" وهو بمقدار لوحة، والمثبت من "ك".

ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأبو حازم -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- سلمة بن دينار. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا عبد العزيز -يعني ابن أبي حازم- عن أبي حازم، عن سهل. وحدثنا قتيبة (1) -واللفظ هذا- قال: ثنا يعقوب -يعني ابن عبد الرحمن- عن أبي حازم، قال: أخبرني سهل بن سعد: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، قال: فلما أصبح الناس غَدَوْا على رسول الله -عليه السلام-كلهم يرجون أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله -عليه السلام- في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي -رضي الله عنه-: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم". أخرجه مسلم في باب: "فضل علي -رضي الله عنه-" (1). وأخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" (¬2): عن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل قال: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر ... " إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود في كتاب "العلم" (¬3) مختصرًا، وقال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، عن النبي -عليه السلام- قال: "والله لأن يهدى بهداك رجل واحد خير لك من حمر النعم". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1872 رقم 2406). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1096 رقم 2847). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 322 رقم 3661).

وأخرجه النسائي في "السير والمناقب" (¬1): عن قتيبة بن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم بتمامه. قوله: "إلى خيبر" كانت غزوة خيبر في سنة سبع من الهجرة النبوية. قوله: "انفد على رِسْلِك" أي امض على هَيْنَتَكَ، وهو من نَفَذَ يَنْفِذُ، من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، ومادته: نون وفاء وذال معجمة. و"الرِسل": بكسر الراء: الهينة والتأني، قال الجوهري: يقال: افعل كذا وكذا على رِسْلك -بالكسر- أي: اتَّئِد فيه، كما يقال: على هَيْنَتك. قوله: "بساحتهم" أي بأرضهم، وساحة الدار باحتها، وهي من الأجوف الواوي. قوله: "حُمْر النعم" الحُمْر -بضم الحاء وسكون الميم-: جمع أحمر، و"النَّعَم" بفتحتين: واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والمراد ها هنا الإبل؛ لأن أعزّ الأموال عند العرب الإبل ولا سيما الحُمْر منها. قوله: "لأن يهدي الله" في محل الرفع على الابتداء، و"أن" مصدرية، و"اللام" فيه للتأكيد، وخبره: قوله: "خير لك"، و"الباء" في قوله: "بك" للسببية، فافهم. ص: حدثنا محمد بن النعمان السقطي، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، عن عمر بن ذر، عن ابن أخي أنس بن مالك، عن عَمِّهِ: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى قوم يقاتلهم، ثم بعث في إثره يدعوه، وقال له: لا تأته من خلفه وائته من بين يديه، قال: وأمر رسول الله -عليه السلام- عليًّا -رضي الله عنه- أن لا يقاتلهم حتى يدعوهم". ش: إسناده صحيح. والحميدي هو: عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الحميدي أبو بكر شيخ البخاري. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 46 رقم 8149).

وسفيان هو ابن عيينة. وعمر بن ذرّ بن عبد الله الهمداني الكوفي، روى له الجماعة سوى مسلم. وابن أخي أنس هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، روى له الجماعة. وعبد الله بن أبي طلحة: أخو أنس بن مالك من الأم، فيكون أنس عم إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة من الأم. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا عمر بن ذرّ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- بعثه في سرية فقال لرجل عنده: الحقه ولا تدعه من خلفه فقل: إن رسول الله -عليه السلام- يأمرك أن تنتظره، قال: فانتظره حتى جاء، فقال: لا تقاتل القوم حتى تدعوهم". قوله: "في إثره" بكسر الهمزة [أراد بعث وراء علي -رضي الله عنه-. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما قاتل رسول الله -عليه السلام- قومًا حتى يدعوهم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا حجاج بن أرطاة، قال: ثنا عبد الله بن أبي نجيح ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، عن ابن أبي نجيح ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا حفص بن غياث، عن حجاج ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن أبي نجيح المكي روى له ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 476 رقم 33056).

الجماعة، عن أبيه أبي نجيح يسار الثقفي المكي، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "ما قاتل رسول الله -عليه السلام- قوما قط حتى يدعوهم". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن حجاج بن أرطاة النخعي -وفيه مقال- عن عبد الله بن أبي نجيح، عن ابن عباس. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن حجاج بن إبراهيم الأزرق، وثقه ابن حبان، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن حجاج بن أرطاة ... إلى آخره. الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي ... إلى آخره. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن الإمام وأهل السرايا إذا أرادوا قتال العدو دعوهم قبل ذلك إلى مثل ما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وقالوا: إن قاتلهم الإمام أو أحد من أهل سراياه من غير هذا الدعاء فقد أساءوا في ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز وقتادة وأبا نجيح ومالكًا وأحمد في رواية وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يقاتل الإِمام حتى يدعو، فإن قاتلوا بغير دعوة فقد أساءوا. واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة؛ لأن ظاهرها يدل على أن لا يقاتلوا إلا بعد الدعاء. وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث سليمان في الدعوة قبل القتال (¬2): وقد ذهب ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 476 رقم 33067). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 119 رقم 1548).

بعض أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم إلى هذا، ورأوا أن يدعو قبل القتال، وهو قول إسحاق بن إبراهيم، قال: إن يقدم إليهم في الدعوة فحسن، يكون ذلك أهيب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس بقتالهم والغارة عليهم وإن لم يُدعوا قبل ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الحسن البصري والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: لا بأس بقتالهم والغارة عليهم وإن لم يُدعوا قبل ذلك. وقال الترمذي (¬1): قال الشافعي: لا يقاتل العدو حتى يدعو إلا أن يعجلوا عن ذلك، فإن لم يفعل فقد بلغتهم الدعوة. وقال صاحب "المغني": ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون؛ لأن الدعوة قد بلغتهم، ويدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا. وقال: قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت ولكن إن جاز أن يكون قومٌ خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَغِز على أُبْنى ذا صباح ثم حَرِّق". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أسامة بن زيد؛ فإن النبي -عليه السلام- أمره أن يغير على أهل أُبْنى ولم يأمره بالدعوة؛ لأنها كانت قد بلغتهم. وقال أحمد: كان النبي -عليه السلام-] (¬2) يدعو إلى الإِسلام قبل أن يحارب ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 119 رقم 1548). (¬2) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت هن "ك".

حتى أظهر الله الدين وعلا الإِسلام، ولا أعرف اليوم أحدًا يدعى؛ قد بلغت الدعوة كل أحد، والروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة قبل الإِسلام، وإن دعى فلا بأس به. ثم رجال حديث أسامة ثقات، غير أن صالح بن أبي الأخضر اليمامي مولى هشام ابن عبد الملك فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليِّن الحديث. وقال البخاري والنسائي: ضعيف. وأخرجه أبو داود (¬1): عن هناد بن السري، عن عبد الله بن المبارك، عن صالح ابن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد: "أن النبي -عليه السلام- كان عَهِد إليه فقال: أغِر على أبْنَى صباحًا وحرِّق". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمد بن إسماعيل بن سمرة، عن وكيع، عن صالح بن أبي الأخضر ... إلى آخره نحوه. قوله: "أَغِر" أمرٌ من أَغَارَ يُغِيرُ إغَارةً ومغارًا. و"أُبْنى" بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة مقصورة: اسم موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة، ويقال لها: "يُبْني" بالياء. قوله: "ذا صباح" أي في الصباح. وفيه فائدتان: إحداهما: أن الدعوة ليست بواجبة. والأخرى: جواز تحريق دور الأعداء وعقارهم. ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج وعبيد الله بن محمد التيمي (ح). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 38 رقم 2616). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 948 رقم 2843).

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يُغير على العدو عند صلاة الصبح فيستمع، فإن استمع أذانًا أمسك وإلا أغار". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن محمد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني شيخ يحيى بن معين، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، قال: أخبرني ثابت، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- كان يُغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع، فإذا سمع أذانًا أمسك وإلا أغار". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، وعبيد الله ابن محمد بن حفص التيمي العائشي شيخ أبي داود، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا عمرو بن علي، ثنا بهز بن أسد، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يُغير عند صلاة الفجر، فكان يستمع، فإذا سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فاستمع ذات يوم فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله -عليه السلام-: على الفطرة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 43 رقم 2634). (¬2) وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 132 رقم 12373)، وعلي بن الجعد في "مسنده" (1/ 485 رقم 3372) كلاهما من طريق حماد بن سلمة به كما سيأتي.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يونس، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس ... إلى آخره كرواية البزار. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده": عن بشر بن عمر، عن حماد، عن ثابت، عن أنس ... إلى آخره كرواية أحمد. قوله: "يُغير على العدو عند صلاة الصبح" إنما كان يُغير -عليه السلام- في هذا الوقت؛ لأنه وقت غفلة ونوم، وأيضًا كان يكون في ذلك الوقت على معاينة من حال أصحابه كيف يغيرون؛ لأن قبل ذلك الوقت وقت ظلام، فلا يؤمن أن يقتل بعض المسلمين بعضًا عند قيام الحرب، أو يؤتوا من كمين من حيث لا يشعرون؛ فلذلك كان يغير وقت الصبح، وليس ذلك لتحريم الإغارة ليلاً أو نهارًا. وأما إمساكه -عليه السلام- عن الإغارة عند استماعه الأذان؛ فلأنه من شعائر الإِسلام؛ فدل على أنهم ليسوا بمحل للإغارة عليهم، والله أعلم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الحجاج -هو ابن أرطاة- عن عمرو بن مرة، عن زاذان، عن جرير بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: رجاله ثقات، غير أن الحجاج بن أرطاة فيه مقال. وزاذان -بالزاي والذال المعجمتين- أبو عبد الله الكندي الكوفي الضرير البزاز، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 229 رقم 13423).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قومًا لم يُغِرْ عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار، فنزلنا خيبر، فلما أصبح ولم يسمع أذانًا ركب وركبنا معه، فركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله -عليه السلام-، فاستقبلنا عمال خيبر قد أخرجوا مساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا النبي -عليه السلام- والجيش قالوا: محمد والخميس، فأدبروا هرابًا، فقال النبي -عليه السلام-: الله أكبر خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين". ش: يوسف بن بهلول التميمي الأنباري، نزيل الكوفة وشيخ البخاري. وعبد الله ابن إدريس الزعافري روى له الجماعة. وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق بن يسار المدني صاحب المغازي، ثقة. وحميد بن أبي حميد الطويل، روى له الجماعة. والحديث أخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- خرج إلى خيبر فجاءها ليلاً، وكان إذا جاء قومًا بليل لا يُغِير عليهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله محمد والخميس، فقال النبي -عليه السلام-: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين". وأخرجه مسلم (¬2): حدثني زهير بن حرب، قال: نا إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- غزا خيبر قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله -عليه السلام- وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله -عليه السلام- في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله -عليه السلام- وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله -عليه السلام- فإني لأرى بياض فخذ نبي الله -عليه السلام-، فلما دخل القرية ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 221 رقم 585). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1043 رقم 1365).

قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين -قالها ثلاث مرار- قال: وقد خرج القوم إلى أعمالهم فقالوا: محمد والله -قال عبد العزيز: وقال بعض أصحابنا: محمد والخميس- قال: وأصبناها عنوة". قوله: "عُمَال خيبر" العمال -بضم العين-: جمع عامل. و"المساحي" جمع مِسْحَاة وهي المجرفة من الحديد والميم زائدة؛ لأنه من السحو وهو الكشف والإزالة. و"المكاتل" جمع مِكتل -بكسر الميم- وهو الزَّبِيل الكبير قيل إنه يسع خمسة عشر صاعًا. قوله: "محمدٌ والخميس" ارتفاع محمد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا محمد، و"الخميس": الجيش؛ سُمِّي به لأنه مقسوم بخمسة أقوام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، وقيل: لأنه تُخَمس فيه الغنائم. قوله: "هُرَّابًا" بضم الهاء وتشديد الراء: جمع هارب، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "أدبروا". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب بن مُكَيث الجهني قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالب بن عبد الله الليثي في سرية كنت فيهم، وأمره أن يشنّ الغارة على بني الملوح بالكديد، قال: فراحت الماشية من إبلهم وغنمهم، فلما احتلبوا وعطنوا واطمأنوا نيامًا؛ شننا الغارة فقتلنا واستقنا الغنم". ش: يعقوب بن عتبة بن المغيرة الثقفي الحجازي، وثقه أبو حاتم والدارقطني. ومسلم بن عبد الله بن خُبيب -بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة- الجهني، روى له أبو داود.

وجُندب بن مُكَيث -بضم الميم وفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ثاء مثلثة- بن عمرو الجهني، عداده في أهل المدينة، أخو رافع بن مكيث، لهما صحبة. وغالب بن عبد الله الليثي -وقيل: غالب بن عبيد الله- عداده في أهل الحجاز، وقد وقع في رواية أبي داود: عبد الله بن غالب كما يجيء الآن، والصواب غالب بن عبد الله كما في رواية الطحاوي. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) مطولاً: ثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، حدثني ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني قال: "بعث رسول الله -عليه السلام- غالب بن عبد الله الكلبي -كلب ليث- إلى بني ملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، فخرج فكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بكديد لقينا به الحارث بن مالك -وهو ابن البرصاء الليثي- فأخذناه فقال: إنما جئت لأُسْلِم، فقال غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت مسلمًا فلن يضرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك، قال: فأوثقه رباطًا ثم خلف عليه رجلاً أسود كان معنا فقال: امكث معه حتى نمر عليك فإن نازعك فاجتز رأسه، قال: ثم مضينا حتى أتينا بطن الكديد فنزلناه عشيشة بعد العصر، فبعثني أصحابي في ربيئة فعمدت إلى تلّ يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه وذلك قبل المغرب، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحًا على التل فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سوادًا ما رأيته أول النهار فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك، قال: فنظرت فقالت: لا والله ما أفقد شيئًا، قال: فناوليني قوسًا وسهمين من نبلي، قال: فناوَلَتْه، فرماني بسهم فوضعه في جنبي، قال: فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بآخر فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: والله لقد خالطه سهمان ولو كان دابة لتحرك فإذا أصبحتِ فابتغي سهميّ فخذيهما لا تمضغهما عليَّ الكلاب، قال: وأمهلناهم حتى راحت ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 467 رقم 15882).

رائحتهم، حتى إذا احتلبوا وعطنوا وسكتوا وذهبت عتمة من الليل؛ شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا منهم واستقنا النعم، فتوجهنا قافلين، وخرج صريخ القوم إلى قومهم مغوثًا، وخرجنا سراعًا حتى نمر بالحارث ابن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا، وأتانا صريح الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي؛ أقبل سيل حال بيننا وبينهم بعثه الله تعالى من حيث شاء، ما رأينا قبل ذلك مطرًا ولا حالاً، فجاء بما لا يقدر أحد على أن يقدم عليه، فلقد رأيناهم وقوفًا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يتقدم ونحن نجوزها سراعًا حتى أسندناها في المشلل، ثم حدرناها عنا، فأعجزنا القوم بما في أيدينا". وأخرجه أبو داود مختصرًا (¬1): نا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبي معمر، [قال: ثنا عبد الوارث] (¬2)، قال: نا محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله، عن جندب بن مُكَيث قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن غالب الليثي في سرية وكنت فيهم، وأمرهم أن يشنوا الغارة على بني الملوح بالكديد، فخرجنا حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحارث بن البرصاء الليثي فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإِسلام، وإنما خرجت إلى رسول الله -عليه السلام-، فقلنا: إن تك مسلمًا لم يضرك رباطنا يومًا وليلة، وإن تك غير ذلك نستوثق منك، فشددناه وثاقًا". قوله: "أن نشن الغارة" الشن -بالشين المعجمة-: الصب المتقطع، والسَّن -بالسين المهملة-: الصب المتصل، والمعنى ها هنا: أن نفرق الغارة عليهم من جميع جهاتهم. وقال الأزهري: يقال: شننا الغارة عليهم أي فرقناها. وقال غيره: شن الماء على الشراب: فَرَّقه عليه، ومنه قيل: شن عليهم الغارة وأشن إذا فرقها عليهم. والغارة: اسم من الإغارة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 56 رقم 2678). (¬2) تكررت في "الأصل".

وذكر النمري: أن هذه السرية كانت سنة خمس من الهجرة وكانوا ستين راكبًا. وذكر الواقدي أنه كان مع غالب بن عبد الله مائة وثلاثون رجلاً من الصحابة -رضي الله عنهم-. وذكر ابن إسحاق أن هذه السرية إنما كانت في سنة سبع من الهجرة، والله أعلم. قوله: "على بني المُلَوِّح" بضم الميم وتشديد الواو المكسورة وفي آخره حاء مهملة، وهم بطن [.......] (¬1). قوله: "بالكديد" أي فيها، وهو موضع عند قديد من أرض عسفان. قوله: "وعَطَّنوا" بتشديد الطاء المهملة: أي أراحوا مواشيهم في أماكنها. قوله: "نيامًا" جمع نائم، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "اطمأنوا". ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: جاء أبو العالية إليَّ وإلى صاحب لي، فانطلقنا معه حتى أتينا نصر بن عاصم الليثي، قال أبو العالية: حَدِّث هذين حديثَكَ، قال: ثنا عقبة بن مالك الليثي، قال: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بسرية فأغارت على القوم، فشذّ رجل واتبعه رجل من السرية ... " ثم ذكر حديثًا طويلاً أوردنا منه ما فيه من ذكر الغارة. ش: سليمان بن المغيرة القيسي البصري، روى له الجماعة. وحميد بن هلال بن هبيرة البصري، روى له الجماعة. وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، روى له الجماعة. ونصر بن عاصم الليثي البصري، روى له الجماعة غير الترمذي، ولكن البخاري في غير "الصحيح". وعقبة بن مالك الليثي له صحبة، عداده في أهل البصرة. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا المقدام بن داود، قال: ثنا أسد ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "المعجم الكبير" (17/ 355 رقم 980).

ابن موسى، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: "أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال: هلما فأنتما أشب مني وأوعى للحديث مِني، فانطلق بنا حتى أتى بنا بشر بن عاصم الليثي، فقال: حدث هذين حديثك، فقال بشر: حدثنا عقبة بن مالك -وكان من رهطه- قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم، فشذ رجل من القوم فأتبعه رجل من أهل السرية ومعه السيف شاهره، فقال الشاذ من القوم: إني مسلم، فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله. فنمى الحديث إلى رسول الله -عليه السلام- فقال فيه قولاً شديدًا بلغ القاتل، قال: فبينا رسول الله -عليه السلام- يخطب؛ إذ قال القاتل: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذًا من القتل، فأعرض عنه رسول الله -عليه السلام- وعمن قِبَله من الناس وأخذ في خطبته، ثم قال الثانية: والله ما قال الذي قال إلا تعوذًا من القتل، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمن قِبَله من الناس وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر أن قال في الثالثة: والله ما قال الذي قال إلا تعوذًا من القتل. فأقبل عليه رسول الله -عليه السلام- تُعرف المساءة في وجهه، ثم قال: إن الله أبى عليَّ فيمن قتل مؤمنًا. قالها ثلاثًا". قوله: "فشذّ" بالشين المعجمة وتشديد الذال المعجمة: أي هرب وندّ. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: "لما قربنا من المشركين؛ أمرنا أبو بكر -رضي الله عنه- فشننا عليهم الغارة". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن مرزوق. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬1): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي قال: "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر -رضي الله عنه- أمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فلما كان بيننا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1375 رقم 1755).

وبين الماء ساعة أَمَرَنا أبو بكر -رضي الله عنه- فعرسنا، ثم شن الغارة فورد الماء وقتل من قتل عليه وسبي، وانظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري، فخشيت أن يسبقونني إلى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم -قال: القشع: النِّطْع- معها ابنة لها من أحسن العرب فسقتهم حتى أتيت بهم إلى أبي بكر -رضي الله عنه-، فنفلني أبو بكر ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبًا، فلقيني رسول الله -عليه السلام- في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة، فقلت: يا رسول الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا، ثم لقيني رسول الله -عليه السلام- من الغد في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة؛ لله أبوك، فقلت: هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفت لها ثوبًا، فبعث بها رسول الله -عليه السلام- إلى أهل مكة ففدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أُسِروا بمكة". وأخرجه أبو داود (¬1): عن هارون بن عبد الله، عن هاشم بن القاسم، عن عكرمة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه ... إلى آخره نحوه. ص: ففي هذه الآثار أمر رسول الله -عليه السلام- بالغارة، والغارة لا تكون وقد تقدمها الدعاء والانذار، فيحتمل أن يكون أحد الأمرين مما روينا ناسخٌ للآخر، فنظرنا في ذلك؛ فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن سفيان الجحدري (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا بكر بن بكار (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا إسحاق الضرير، قالوا: ثنا عبد الله بن عون قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فقال: إنما كان ذلك في أول الإسلام، أغار رسول الله -عليه السلام- على بني المصطلق وهم غَارُّون وأنعامهم على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم، ثم أصاب يومئذٍ جويرية بنت الحارث". وحدثني بهذا الحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وكان معهم في ذلك الجيش. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 64 رقم 2697).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ابن عون مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي قال: "كل ذلك قد كان؛ قد كنا ندعوا، وكنا لا ندعوا". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا حماد بن سلمة، عن سليمان التيمي، أخبرهم عن أبي عثمان النهدي قال: "كنا نغزوا فندعوا ولا ندعوا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مبارك، قال: كان الحسن يقول: "ليس على الروم دعوة؛ لأنهم قد دعوا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن أبي حمزة، قال: قلت لإبراهيم: "إن ناسًا يقولون: إن المشركين ينبغي أن يُدْعَوا، فقال: قد علمت الروم على ما يقاتلون، وقد علمت الديلم على ما يقاتلون". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن منصور قال: "سألت إبراهيم عن دعاء الديلم، فقال: قد علموا ما الدعاء". فأمر بالدعاء ليكون تبليغًا لهم وإعلامًا لهم ما يقاتلون عليه، فبيَّن ما روينا من هذا أن الدعاء إنما كان في أول الإسلام؛ لأن الناس حينئذٍ لم تكن الدعوة بلغتهم، ولم يكونوا يعلمون ما يقاتلون عليه، فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغًا لهم وإعلامًا لهم على ما يقاتلون عليه، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه لو دعوا وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا، فلا معنى للدعاء. وهكذا كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله- يقولون: كل قوم قد بلغتهم الدعوة فلا ينبغي قتالهم حتى يتبين لهم المعنى الذي عليه يقاتلون، والمعنى الذي إليه يُدعون.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى منسوخة، بيان ذلك أن أحاديثهم تدل على وجوب الدعاء قبل القتال، والأحاديث اقي احتجت بها أهل المقالة الثانية أمر فيها رسول الله -عليه السلام- بالغارة، والغارة لا تكون وقد تقدمها الدعاء والإنذار. فثبت بهذا أن بين هذه الأحاديث تعارضًا، ودفعه لا يكون إلا بأن يكون أحد الأمرين من هذه الأحاديث ناسخًا للآخر، فاعتبرنا ذلك، فوجدنا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي روى عنه مولاه نافع يدل على أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى منسوخة؛ وذلك لأنه صرح فيه بقوله: "إنما ذلك في أول الإِسلام". أراد أن الدعاء قبل القتال كان في أول الإِسلام وفي بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإِسلام، فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة فاستغني بذلك عن الدعاء عند القتال. قال أحمد -رحمه الله-: كان النبي -عليه السلام- يدعو إلى الإِسلام قبل أن يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الإِسلام، ولا أعرف اليوم أحدًا يدعى، قد بلغت الدعوة كل أحد. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من أربع طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن سعيد بن سفيان الجَحْدري البصري، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري قال: "كتبت إلى نافع ... " إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: نا سليم بن أخضر، عن ابن عون، قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إليَّ: إنما كان ذلك في أول الإِسلام، قد أغار رسول الله -عليه السلام- على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذٍ -قال يحيى: أحسبه قال-: جويرية بنة الحارث". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1356 رقم 1730).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن بكر بن بكار القيسي، عن عبد الله بن عون ... إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عيسى بن يونس، عن ابن عون، قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين، قال: فكتب إليَّ: أخبرني ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غَارُّون ونعمهم تسقى على الماء، وكانت جويرية بنت الحارث مما أصاب، قال: وكنت في الخيل". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن إسحاق بن يوسف الأزرق البصري شيخ أحمد، عن عبد الله بن عون ... إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): من حديث عبد الله بن المبارك، عن ابن عون قال: "كتبت إلى نافع ... " إلى آخره. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن بشر بن عمر الزهراني، عن حماد بن زيد، عن عبد الله بن عون ... إلى آخره. قوله: "بنو المصطلق" وهم بنو جذيمة بن كعب بن خزاعة، فجذيمة هو المصطلق، وهو مفتعل من الصلق وهو رفع الصوت. قوله: "وهم غارون" أي غافلون، والواو فيه للحال، وكذلك الواو في قوله: "وأنعامهم" وهو جمع نعم وهي المال الراعية وأكثر ما تطلق على الإبل. وأما الذي روي عن أبي عثمان النهدي فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مَلّ النهدي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 477 رقم 33070). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 898 رقم 2403).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا إسماعيل بن علية، عن التيمي، عن أبي عثمان النهدي أنه قال: "دعاء المشركين قبل القتال، كنا ندعوهم وندع". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬2): عن وكيع، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان قال: "كنا ندعوا وندع". وأما الذي روي عن الحسن البصري: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مبارك بن فضالة القرشي، عن الحسن البصري. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا أبو هلال، عن الحسن: "أنه سئل عن العدو هل يدعون قبل القتال؟ قال: قد بلغهم الإِسلام منذ بعث الله محمدًا -عليه السلام-". قوله: "ليس على الروم دعوة" بضم الدال، وبفتحها: الدعوة إلى الطعام، وبكسرها: الدعوة في النسب. وأما الذي روي عن إبراهيم النخعي: فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن محمد بن طلحة بن يزيد الحجازي (¬4)، عن أبي حمزة ميمون الأعور، عن إبراهيم النخعي. قال الترمذي: ميمون الأعور ضعيف. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 476 رقم 33064). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 476 رقم 33065). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 476 رقم 33069). (¬4) كذا قال، وهو وهم، والصواب محمد بن طلحة بن مصرف اليامي فهو الذي يروي عن أبي حمزة ميمون الأعور كما في "تهذيب الكمال"، وأما محمد بن طلحة بن يزيد فهو ابن ركانة وهو أعلى من هذا.

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. وهذا إسناد صحيح. قوله: "عن دعاء الديلم" قال الجوهري: الديلم: جيل من الناس. قلت: الديلم طائفة من الفرس وهم سكان الجبال في أرض طبرستان، وهي جبال منيفة إلى الغاية والنهاية. ص: وقد تكلم الناس في المرتد عن الإسلام أيستتاب أم لا؟ فقال قوم: إن استتاب الإِمام المرتد فهو أحسن فإن تاب وإلا قتله، وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقال آخرون: لا يستتاب، وجعلوا حكمه حكم الحربيين على ما ذكرنا من بلوغ الدعوة إياهم وفي تقصيرها عنهم، وقالوا: إنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإِسلام لا عن بصيرة منه به، فأما من خرج عنه إلى غيره على بصيرة منه فإنه يقتل ولا يستتاب، وهذا قولٌ قد قال به أبو يوسف في كتاب "الإملاء" فقال: أقتله ولا أستتيبه إلا إنه إن بدرني بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله -عز وجل-. وقد حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف بذلك أيضًا. ش: إنما ذكر حكم المرتد واختلاف الناس فيه والآثار الواردة فيه استطرادًا لما ذكره من الخلاف في وجوب الدعوة قبل القتال مع الكفار وعدم وجوبها. والهمزة في قوله: "أَيُسْتَتَاب" للاستفهام، وهو على صيغة المجهول من الاستتابة، وهي طلب التوبة. قوله: "فقال قوم" أراد بهم: عمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول، فإنهم قالوا: حكم المرتد أن يقتل، وعرض الإِسلام عليه ليس بواجب؛ لأنه قد بلغته الدعوة، ولكن الإِمام إن استتابه فحسن، فإن تاب قبلت توبته وإلا يقتل.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون: "لا يستتاب المرتد بل يقتل"، وأراد بهؤلاء: الحسن البصري والليث بن سعد وسفيان بن محمد بن الجراد. ومذهبهم منقول عن أنس -رضي الله عنه-. وقال أبو بكر الرازي: وقال الليث: الناس لا يستتيبون مَن وُلد في الإِسلام إذا شُهد عليه بالردة، ولكنه يقتل تاب في ذلك أو لم يتب إذا كانت البينة العادلة. وقال الشافعي: يستتاب المرتد ظاهرًا، والزنديق إن تاب قُبل وإن لم يتب قُتل، وفي الاستتابة ثلاثًا، قولان. وقال أيضًا: اختلف في استتابة المرتد والزنديق، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل: لا يقتل المرتد حتى يستتاب، ومَن قتل مرتدًّا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه. وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يُظهر الإِسلام: قال أبو حنيفة: أستتيبه كالمرتد، فإن أسلم خَلَّيْت سبيله، وإن أبى قتلته. وقال أبو يوسف بذلك زمانًا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال: أرى إذا أُتيت بزنديق أمرت بضرب عنقه ولا أستتيبه، فإن تاب قبل أن أقتله خَلَّيْته. وذكر سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف قال: إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته. وذكر محمد في "السير" عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أن المرتد يُعْرَض عليه الإِسلام، فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يَطْلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أُجِّل ثلاثة أيام؛ ولم يحك خلافًا. وقال ابن حزم في "المحلى" ما ملخصه: إن الناس اختلفوا في حكم المرتد، فقالت طائفة: لا يستتاب. وهو قول أبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وطاوس وعبيد ابن عمير والحسن البصري.

وقالت طائفة: يستتاب مرة، فإن تاب وإلا قتل؛ وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، قالوا: إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أُجِّلَ ثلاثة أيام فقط. وقالت طائفة: يستتاب ثلاث مرات. وهو قول عثمان بن عفان والزهري. وقالت طائفة: يستتاب مائة مرة. وهو قول الحسن بن حي. وقالت طائفة: يستتاب شهرًا. وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وروي أيضًا عن مالك وعن بعض أهل مذهبه. وقالت طائفة: يستتاب شهرين. وقالت طائفة: يستتاب أبدًا دون قتل. وقالت طائفة: يستتاب أربعين يومًا. وقالت طائفة: يُفرق بين المُسر والمعلن، واستدلوا بما روي عن علي -رضي الله عنه- "أنه أتى بأناس من الزنادقة ارتدُّوا عن الإِسلام، فسألهم فجحدوا، فقامت عليهم البينة العدول، فقتلهم ولم يستتبهم، وأتي برجل كان نصرانيًّا فأسلم ثم رجع عن الإِسلام، فسأله فأقرَّ بما كان منه فاستتابه فتاب فتركه، فقيل له: كيف استتبت هذا ولم تستتب أولئك؟! قال: إن هذا أقر بما كان منه، وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة؛ فلذلك لم أستتبهم". وعن ابن شهاب أنه قال في الزنديق: "إما هو جاحد وقد قامت عليه البينة فإنه يقتل ولا يستتاب، وإما هو جاء تائبًا معترفًا فإنه يترك". وبه يقول مالك والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق واحد قولي أبا حنيفة وأبي يوسف، وقد روي عن أحمد التوقف فيه. وقال الشافعي وعبيد الله بن الحسن وأبو حنيفة وأصحابه في أحد قولهم: يستتاب المُسِر كما يستتاب المُعْلن، وتقبل توبتهما معًا.

وقال ابن حزم: وقال أصحابنا: إن أقرَّ بعد جحوده وصِدْق البينة قبلنا توبته، وإن تمادى على الإنكار قتل ولابد. وقالت طائفة: يُفرَّق بين من ارتد ثم رجع ثلاث مرات، وبين من ارتدَّ إلى أربعة، فرأوا أن يقتل في الرابعة ولا تقبل توبته. وهو قول إسحاق بن راهويه. وقالت طائفة: يُفرَّق بين من أسلم وعرف شرائع الإِسلام وبين من أسلم ولم يعرف شرائع الإِسلام. ويروى نحو هذا عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وقالت طائفة: يُفرَّق بين من صلى ومن لم يصلّ. وهو قول عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك؛ فإنه قال: من أسلم من أهل الكفر إلا أنه لم يصل فإنه يترك والرجوع إلى دينه متى شاء ولا يمنع إلا أن يصلي، فإن صلى فحينئذٍ يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل. وقالت طائفة: يُفرَّق بين الرجل والمرأة، فكما روينا عن ابن عباس قال: "المرتدة تحبس ولا تقتل". وعن الحسن البصري: "المرتدة تباع وتكره". كذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة وباعهن. وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال في المرتدة: "تستأمى"، أي تجعل أمةً، وعن الزهري أنها تستتاب، فإن تابت إلا قتلت. وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وأبو سليمان وجميع أصحابهم، وهو أحد قولي أبي يوسف، ثم رجع عنه، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهم. قلت: مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المرتدة أنها لا تقتل، ولكنها تحبس وتجبر على الإِسلام بالضرب في كل يوم مبالغة في الإلجاء إلى الإِسلام؛ لأنه -عليه السلام- نهى عن قتل النساء. ص: وقد روي في استتابة المرتد وتركها عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فمن ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم،

عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: حدثني أنس بن مالك قال: "لمَّا فتحنا تُسْتَر بعثني أبو موسى إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، فلمَّا قدمت عليه قال: ما فعل حجينة وأصحابه؟ وكانوا ارتدُّوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين فقتلهم المسلمون، فأخذت معه في حديث آخر، فقال: ما فعل النفر البكريّون؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنهم ارتدُّوا ولحقوا بالمشركين فقتلوا، فقال عمر -رضي الله عنه-: لأن يكون أخذتهم سَلمًا أحب إليَّ من كذا وكذا، فقلت: يا أمير المؤمنين ما كان سبيلهم لو أخذتهم سلمًا إلا القتل؟! قومٌ ارتدُّوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، فقال: لو أخذتهم سَلماً لعرضت عليهم الباب الذي خرجوا منه؛ فإن رجعوا وإلا استودعتهم السجن". ش: لما ذكر اختلاف العلماء في استتابة المرتد وتركها ذكر ما روي في الخلاف أيضًا من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-. فمن ذلك: ما أخرجه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بإسناد صحيح: عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير الصحيح، عن هشيم بن بشير، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عامر الشعبي، عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود ابن [أبي] (¬2) هند، قال: ثنا عامر، أن أنس بن مالك حدَّثه: "أن نفرًا من بكر بن وائل ارتدُّوا عن الإِسلام ولحقوا بالمشركين فقتلوا في القتال، فلما أتيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بفتح تستر قال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: فعرضت في حديث آخرٍ لأشغله عن ذكرهم، قال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال: قلت: قتُلوا يا أمير المؤمنين، قال: لو كنت أخذتهم سَلمًا كان أحب ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 438 رقم 32737). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

إليَّ مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء، قال: قلت: يا أمير المؤمنين وما كان سبيلهم لو أخذتهم إلا القتل؟! قومٌ ارتدُّوا عن الإِسلام ولحقوا بالشرك؟ قال: كنت أعرض أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا استودعتهم السجن". قوله: "لما فتحنا تُسْتَر" بضم التاء المثناة من فوق وسكون السين المهملة وفتح التاء الثانية وفي آخرها راء مهملة، وتسميها العامة ششتر -بالشينين المعجمتين- وهي مدينة من كور الأهواز وبها قبر البراء بن مالك -رضي الله عنه-، وفتحت تُستر في سنة سبع عشرة من الهجرة - في قول سيف -وقال غيره: في سنة تسع عشرة. قوله: "ما فعل حجينة" [..........] (¬1). قوله: "ما فعل النفر البكريُّون" أراد بهم النفر الذين كانوا من بكر بن وائل. واحتج به من قال: إن المرتد يستتاب أبدًا ولا يقتل. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة قال: "أخذ بالكوفة رجال يفشون حديث مسيلمة الكذاب لعنه الله، فكتبت فيهم إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فكتب عثمان -رضي الله عنه- أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن قبلها وتبرَّأ من مسيلمة فلا تقتله، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله، فقبلها رجال منهم فَتُركوا, ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا". ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح. ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى، والثاني هو ابن يزيد الأيلي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. وعبيد الله بن عتبة هو عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. ¬

_ (¬1) بيض له المصنف -رحمه الله-.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث يونس، عن الزهري ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، وفي آخره: "فهذا يدل على أن المرتد يعرض عليه الإِسلام قبل القتل، فإن تاب ترك وإلا قتل". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن جده قال: "لما افتتح سعد وأبو موسى -رضي الله عنهما- تُستَر أرسل أبو موسى رسولاً إلى عمر -رضي الله عنه- ... فذكر حديثًا طويلًا. قال: "ثم أقبل عمر على الرسول فقال: هل كانت عندكم من مغربة خبر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أخذنا رجلاً من العرب كَفَرَ بعد إسلامه، قال عمر -رضي الله عنه-: فما صنعتم به؟ قال: قدمناه فضربنا عنقه، قال عمر -رضي الله عنه-: أفلا أدخلتموه بيتًا ثم طينتم عليه ثم رميتم إليه برغيف ثلاثة أيام لعله أن يتوب أو يُراجع أمر الله، اللهم إني لم آمر، ولم أشهد، ولم أرض إذ بلغني". ش: إسناده صحيح. ويعقوب بن [عبد الرحمن بن محمد القاري المدني روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وأبوه: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد، وثقه ابن حبان. وجده: محمد ابن عبد الله القاري، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2): من حديث مجزأة بن ثور: "أنه قدم على عمر -رضي الله عنه- يبشره بفتح تستر، فقال له عمر -رضي الله عنه-: هل كانت مغربة تخبرنا بها؟ قال: لا، إلا أن رجلاً من العرب ارتدّ فضربنا عنقه. قال عمر -رضي الله عنه-: وَيْحَكُمْ، فهلَّا طينتم عليه بابًا وفتحتم له كوة فأطعمتموه منها كل يوم رغيفًا وسقيتموه كوزًا ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 201 رقم 16629). (¬2) "المحلى" (11/ 191).

من ماء ثلاثة أيام ثم عرضتم عليه الإِسلام في الثلاث فلعله أن يراجع؟ اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أعلم". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: "لما قدم علي عمر -رضي الله عنه- فتح تستر -وتستر من أرض البصرة- سألهم: هل من مغربة؟ قالوا: رجل من المسلمين لحق بالمشركين فأخذناه. قال: ما صنعتم به؟ قالوا: قتلناه. قال: أفلا أدخلتموه بيتًا وأغلقتم عليه بابًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا ثم استتبتموه ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتلتموه؟! ثم قال: اللهم لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني -أو قال: حين بلغني-". قوله: "هل كانت عندكم من مُغَرِّبة خبر" أي هل من خبر جديد جاء من بلد بعيد؟ يقال: هل من مُغَرِّبة خَبَر -بكسر الراء وفتحها- مع الإضافة فيهما، وهو من الغَرْب: البعد وشَأْوُ مُغَرِّب ومُغَرَّب أي بعيد. فهذا يدل على أن المرتد يؤجل له ثلاثة أيام يستتاب فيها، فإن تاب وإلا قتل، وبهذا قال أصحابنا كما ذكرناه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه، عن جده أنه قال: "قدم على عمر -رضي الله عنه- رجل من قبل أبي موسى -رضي الله عنه- ... " ثم ذكر نحوه. فهذا سعد وأبو موسى -رضي الله عنهما- لم يستتيباه، وأحب عمر -رضي الله عنه- أن لو استتيب، فقد يحتمل أن يكون ذلك لأنه كان يرجو له التوبة، ولم يوجب عليهم بقتلهم شيئًا؛ لأنهم فعلوا ما لهم أن يروه ففعلوه، وإن خالف رأي إمامهم. ش: إسناده صحيح. و"القاريّ": بتشديد الياء نسبة إلى قارة وهي قبيلة وهم عضل والديش أبناء الهون بن خزيمة؛ سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 562 رقم 289985).

والأثر أخرجه مالك في "موطإه" (¬1) والبيهقي في "سننه" (¬2): من حديث مالك، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد القاري، عن أبيه قال: "قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل كان فيكم من مُغَرِّبة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه، قال: فَهَلَّا حبستموه ثلاثًا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله؟! اللهم إني لم أحضر، ولم آمركم، ولم أرض إذ بلغني". وقال البيهقي: قال الشافعي: من قال: لا يتأنى به زعم أن الذي روي عن عمر -رضي الله عنه- في حبسه ثلاثًا ليس بثابت؛ لانقطاعه، وإن كان ثابتًا لم يجعل على من قتله قبل ثلاث شيئًا. قوله: "فهذا سعد" أراد به سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا علي بن معبد، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا عاصم بن بهدلة، قال: حدثني أبو وائل، قال: حدثني ابن مُعَيز السعدي، قال: "خرجت أسقد فرسًا لي بالسحر، فمررت على مسجد من مساجد بني حنيفة فسمعتهم يشهدون أن مسيلمة رسول الله، قال: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فذكرت له أمرهم، فبعث الشُّرَط، فأخذوهم، فجيء بهم إليه، فتابوا ورجعوا عما قالوا، وقالوا: لا نعود، فخلى سبيلهم، وقدم رجلاً منهم يقال له: عبد الله بن] (¬3) النواحة فضرب عنقه، فقال الناس: أخذت قومًا في أمر واحد فخليت سبيل بعضهم وقتلت بعضهم؟! فقال: كنت عند رسول الله -عليه السلام- جالسًا فجاء ابن النواحة ورجل معه يقال له: حجر بن وثال، وافد من عند ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 737 رقم 1414). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 206 رقم؟؟؟). (¬3) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك".

مسيلمة، فقال لهما رسول الله -عليه السلام-: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال لهما: أمنت بالله وبرسوله، لو كنت قاتلاً وفدًا لقتلتكما. فلذلك قتلت هذا". فهذا عبد الله بن مسعود قد قتل ابن النواحة ولم يقبل توبته؛ إذ علم أنه هكذا خُلُقه يظهر التوبة إذ ظُفر ثم يعود إلى ما كان عليه إذا خُلى. ش: هذان طريقان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن سالم الحنَّاط الكوفي المقرئ روى له الجماعة، مسلم في مقدمة كتابه. عن عاصم بن بهدلة الكوفي أبي بكر المقرئ روى له الشيخان مقرونًا بغيره. عن أبي وائل شقيق بن سلمة روى له الجماعة، عن ابن مُعَيْز -بضم الميم وفتح العين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره زاي معجمة- أدرك النبي -عليه السلام- ولم يره. ذكره ابن الأثير في "الصحابة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): من وجه آخر قال: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: "خرج رجل يطرق فرسًا له، فمر بمسجد بني حنيفة فصلى فيه، فقرأ إمامهم بكلام مسيلمة الكذاب، فأتى بن مسعود -رضي الله عنه- فأخبره، فبعث إليهم، فجاء بهم فاستتابهم فتابوا إلا عبد الله بن النواحة فإنه قال له: يا عبد الله لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لولا أنك رسول لضربت عنقك، فأما اليوم فلست برسول؛ يا خرشة قم فاضرب عنقه، فقام فضرب عنقه". ثنا (¬2) وكيع، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: "جاء رجل إلى ابن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 439 رقم 32742). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 439 رقم 32743).

مسعود فقال: إني مررت بمسجد بني حنيفة فسمعت إمامهم يقرأ بقراءةٍ ما أنزلها الله على محمد -عليه السلام- فسمعته يقول: الطاحنات طحنًا فالعاجنات عجنًا فالخابزات خبزًا فالثاردات ثردًا فاللاقمات لقمًا، قال: فأرسل عبد الله فأتي بهم سبعين ومائة رجل على دين مسيلمة، إمامهم عبد الله بن النواحة، فأمر به فقتل، ثم نظر إلى بقيتهم فقال: ما نحن بمحرري الشيطان، هؤلاء سائر القوم رحلوهم إلى الشام، لعل الله أن يفنيهم بالطاعون". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد الرقي أحد أصحاب محمد بن الحسن، عن أبي بكر بن عياش ... إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي عوانة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: "صليت الغداة مع ابن مسعود -رضي الله عنه-، فقام رجل فأخبر أنه انتهى إلى مسجد بني حنيفة مسجد عبد الله بن النواحة فسمع مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله، وأنه سمع أهل المسجد على ذلك، فقال عبد الله: مَن ها هنا؟ فوثب نفر، فقال: عليَّ بابن النواحة وأصحابه، فجيء بهم وأنا جالس، فقال لابن النواحة: أين ما كنت تقرأ من القرآن؟ قال: كنت أتقيكم به، قال: فتب، فأبى، فأمر قرظة بن كعب الأنصاري فأخرجه إلى السوق فضرب رأسه، فسمعت عبد الله يقول: من سرَّه أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً فليخرج، فكنت فيمن خرج، فإذا هو قد جُرِّد، ثم إن ابن مسعود قد استشار الناس في أولئك النفر فأشار عليه عديّ بن حاتم بقتلهم، فقام جرير والأشعث فقالا: بل استتبهم وكفلهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا، وكَفَلَهُم عشائرهم". قوله: "أُسَقِّد فرسًا لي" أي أُضمِّره، يقال: أسقَد فرسه وسقده، قال ابن الأثير: هكذا أخرجه الزمخشري عن ابن السعدي، وأخرجه الهروي عن أبي وائل، ويروى ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 206 رقم؟؟؟).

بالفاء والراء من التسفير ومعناه: أنه خرج يدمنه على السير ويروضه ليقوى على السفر، وقيل: من سفرت البعير إذا رعيته السفير وهو أسافل الزرع. قوله: "فبعت الشَّرَط" بفتح الشين والراء، قال ابن الأثير: شَرَط السلطان نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده، قال ابن الأعرابي: هم الشَّرَط والنسبة إليهم شَرَطي، والشُّرْطَة والنسبة إليهم شُرْطي. وقال الجوهري: قال الأصمعي: ومنه سمي الشَّرَط؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، الواحد شُرْطة وشُرْطي، وقال أبو عبيدة: سمّوا شَرَطًا لأنهم أُعدوا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا صالح ابن عمر، قال: ثنا مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء: "أن عليًّا -رضي الله عنه- بعثه إلى أهل النهر فدعاهم ثلاثًا". ش: سعيد بن سليمان المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود. وصالح بن عمر الواسطي وثقه أبو زرعة وغيره، وروى له مسلم. ومطرف بن طريف الحارثي روى له الجماعة. وأبو الجهم اسمه سليمان بن الجهم الأنصاري الحارثي الجوزجاني مولى البراء بن عازب، وثقه ابن حبان، وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا روى عنه غير مطرف. قوله: "إلى أهل النهر" أراد بها النهروان وهي عن بغداد على أربعة فراسخ، وكانت مدينة قديمة، ولما ارتدَّ أهلها بعث علي بن أبي طالب البراء بن عازب -رضي الله عنهما- إليهم فدعاهم ثلاثة أيام". فهذا يصلح حجة لأبي حنيفة وأصحابه في استتابة المرتد والصبر عليه إلى ثلاثة أيام. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن عمر بن قيس الماصر، عن زيد بن وهب قال: "أقبل علي -رضي الله عنه- حتى نزل

بذي قار، فأرسل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- إلى أهل الكوفة، فأبطئوا عليه، ثم أتاهم عمار -رضي الله عنه- فخرجوا، قال زيد: فكنت فيمن خرج معه قال: فكف عن طلحة والزبير وأصحابهم ودعاهم، حتى بدءوه فقاتلهم". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. والماصر لقب عمر بن قيس. وزيد بن وهب الجهني الكوفي رحل إلى النبي -عليه السلام- فقبض وهو في الطريق، وعن يحيى وابن خراش: كوفي ثقة، دخل الشام. روى له الجماعة. قوله: "بذي قار" بالقاف والراء المهملة: هو موضع به ماء معروف وكان به يوم من أعظم أيام العرب وأشهرها لبني شيبان على الأعاجم. وكان الملك أبراويز غزاهم جيشًا، فظفرت به بنو شيبان وكان سببه قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدي بن زيد العبادي، والقصة مشهورة، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شريك بن عبد الله، عن جابر، عن الشعبي: "أن رجلاً كان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصر، فأتي به علي -رضي الله عنه- فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: وجدت دينهم خيرًا من دينكم. فقال له: ما تقول في عيسى صلوات الله عليه وسلامه؟ قال: هو ربي -أو هو رب علي- فقال: اقتلوه، فقتله الناس، فقال علي بعد ذلك: إن كنت لمستتيبه ثلاثًا، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} (¬1) ". ش: رجاله ثقات غير جابر الجعفي؛ فإن فيه كلامًا كثيرًا. والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث الثوري، عن جابر، عن الشعبي، عن ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [137]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 254 رقم 16666).

علي -رضي الله عنه-: "يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} (¬1) ". وأخرج ابن حزم (¬2) من طريق عبد الرزاق قال: "أتي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بشيخ كان نصرانيًّا ثم أسلم، ثم ارتد عن الإِسلام، فقال له علي -رضي الله عنه-: لعلك إنما ارتددت لأن تصيب ميراثا ثم ترجع إلى الإِسلام؟ قال: لا، قال: فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها فأردت أن تزَّوجها ثم تعود إلى الإِسلام؟ قال: لا، قال: فأرجع إلى الإِسلام، قال: لا، حتى ألقى المسيح، قال: فأمر به فضربت عنقه ودفع ميراثه إلى ولده المسلمين". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن عمار بن أبي معاوية الدهني، عن أبي الطفيل: "أن قومًا ارتدُّوا وكانوا نصارى، فبعث إليهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- معقل بن قيس التميمي فقال لهم: إذا حككت رأسي فاقتلوا المقاتلة واسبوا الذرية، فأتي علي بطائفة منهم فقال: من أنتم؟ فقالوا: كنا قومًا نصارى فخيرنا بين الإِسلام وبين ديننا فاخترنا الإسلام، ثم رأينا أن لا دين أفضل من ديننا الذي كنا عليه فنحن نصارى، فحكّ رأسه فقتلت المقاتلة وسبيت الذرية، قال عمار: فأخبرني أبو شيبة أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أتي بذراريهم، فقال: مَن يشتريهم مني؟ فقام مسقلة بن هبيرة الشيباني فاشتراهم من علي -رضي الله عنه- بمائة ألف، فأتاه بخمسين ألفًا فقال علي -رضي الله عنه-: إني لا أقبل المال إلا كَمَلاً، فدفن المال في داره وأعتقهم ولحق معاوية، فنفذ علي -رضي الله عنه- عتقه". ش: رجاله ثقات. وأبو داود الطيالسي سليمان بن داود صاحب "المسند". وأبو الطفيل عامر بن واثلة الصحابي -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [137]. (¬2) "المحلى" (11/ 190).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك ابن سعيد بن حيان، عن عمار الدهني، قال: حدثني أبو الطفيل قال: "كنت في الجيش الذين بعثهم علي بن أبي طالب إلى بني ناجية، فانتهينا إليهم فوجدناهم على ثلاث فرق، قال: فقال أميرنا لفرقة منهم: ما أنتم؟ قالوا: نحن قوم كنا نصارى وأسلمنا فثبتنا على إسلامنا، قال: اعتزلوا، ثم قال للثانية: ما أنتم؟ قالوا: نحن قوم كنا نصارى فأسلمنا، فرجعنا فلم نر دينًا أفضل من ديننا فتنصرنا، قال لهم: أسلموا، فأبوا، فقال لأصحابه: إذا مسحت رأسي ثلاث مرات فشدوا عليهم، ففعلوا، فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية، فجئت بالذراري إلى علي -رضي الله عنه- وجاء مسقلة ابن هبيرة فاشتراهم بمائتي ألف، فجاء بمائة ألف إلى علي -رضي الله عنه- فأبى أن يقبل، فانطلق مسقلة بن هبيرة بدراهمه وعمد إليهم مسقلة فأعتقهم ولحق بمعاوية، فقيل لعلي -رضي الله عنه-: ألا تأخذ الذرية، قال: لا، فلم يتعرض لهم". قوله: "مَعْقِل بن قيس" بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف، وكان من أمراء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. و"مَسْقلة" -بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح القاف- بن هبيرة -بضم الهاء وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء. ويستفاد منه: أن أهل ناحية إذا ارتدّوا والعياذ بالله فللإمام أن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه- ببني حنيفة حين ارتدُّوا عن الإِسلام، استرقَّ نساءهم وأصاب علي -رضي الله عنه- من ذلك السبي جارية فولدت له محمد بن الحنفية -رضي الله عنه-. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 438 رقم 32738).

ص: باب: ما يكون الرجل به مسلما

ص: باب: ما يكون الرجل به مسلمًا ش: أي هذا باب في بيان ما يصير به غير المسلم مسلمًا إذا باشره. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن أبيه، قال: سمعت النعمان يحدث، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن المقداد بن عمرو قال: "قلت: يا رسول الله، أرأيت إن اختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين فضربني فأبان يدي ثم قال: لا إله إلا الله، أقتله أم أتركه؟ قال: بل اتركه، قلت: قد أبان يدي! قال: نعم، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقولها وهو بمنزلتك قبل أن تقتله". ش: وهب هو ابن جرير البصري، روى له الجماعة. وأبوه جرير بن حازم بن زيد البصري، روى له الجماعة. والنعمان هو ابن راشد الجزري ضعفه يحيى، وعنه: ليس بشيء. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. والزهري هو محمد بن مسلم. وعطاء بن يزيد الليثي ثم الجندعي أبو محمد المدني، [روى له الجماعة. وعبيد الله بن عدي بن الخيار القرشي النوفلي المدني، وُلد في زمن النبي -عليه السلام- وكان من فقهاء قريش. قال العجلي: مدني تابعي ثقة. روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. والمقداد بن عمرو هو المقداد بن الأسود الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري في "المغازي" (¬1): عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي، عن المقداد بن الأسود أنه قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1474 رقم 3794).

للنبي -عليه السلام-: "أرأيت إن لقيت رجلاً فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله. قلت: إنه قطع يدي؟! قال: لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". وأخرجه أيضًا في "الديات" (¬1): عن عبدان، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري ... إلى آخره. وأخرجه مسلم في "الإيمان" (¬2): عن قتيبة وابن رمح، عن الليث. وعن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس. وعن إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، عن معمر. وعن إسحاق بن موسى، عن الوليد، عن الأوزاعي. وعن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، كلهم عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي، عن المقداد. وأخرجه أبو داود في "الجهاد" (¬3): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عطاء ... إلى آخره. وأخرجه النسائي في "السير" (¬4): عن قتيبة به. قوله: "فأبان يدي" من الإبانة وهي القطع. قوله: "أقتله" أي هل أقتله؟. قوله: "فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقولها" قيل: معناه إنك كنت كذلك قبل أن يقول الكلمة التي قال هو، وذلك حين كنت بمكة بين المشركين فكنت تكتم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2518 رقم 6472). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 95 - 96 رقم 95). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 45 رقم 2644). (¬4) "السنن الكبرى" (5/ 174 رقم 8591).

إيمانك فلعل هذا أيضًا كان ممن يكتم إيمانه بين المشركين وخرج معهم كرهًا كما أخرج أهل مكة من كان معهم من المسلمين إلى بدر كرهًا. فإن قيل: إذا كان المعنى كذلك؛ فكيف ذاك الرجل يقطع اليد والحال أنه ممن يكتم إيمانه؟. قلت: إنما فعل ذلك دفعًا عن نفسه من يريد قتله، فجاز له كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه بالقتل ونحوه. وإنما لم يقد -عليه السلام- قتيل أسامة لما قتله بعد أن قال: لا إله إلا الله وذلك حين بعثه -عليه السلام- مع سرية إلى الحرقات؛ لأنه قتله متأولاً. وقيل: معنى هذا الكلام: إنك مثله قبل أن يقولها في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم. وقيل: إنك مثله يعني كنت كمثله قبل أن يقولها في إباحة الدم؛ لأن الكافر قبل أن يسلم مباح الدم بحق الدين، فإذا أسلم فقتله قاتل؛ كان مباح الدم بحق القصاص. قوله: "وهو بمنزلتك قبل أن تقتله" أي وهو مثلك مسلم قبل أن يقتل فكيف تقتله؟ ويستفاد من الحديث: إن تلفظ بكلمة التوحيد يحكم بإسلامه، ولكن هذا في حق المشرك الذي ينفي صانع العالم، أو يعترف بوجود الصانع ولكنه يشرك، وعن قريب يأتي الكلام فيه مستقصى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن النعمان، أن عمرو بن أوس أخبره أن أباه أوسًا قال: "إنا لقعود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصفة وهو يقص علينا ويذكرنا إذا أتاه رجل فسارَّه، قال: اذهبوا فاقتلوه، فلما ولى الرجل دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال الرجل: نعم، قال رسول الله -عليه السلام-: اذهبوا فخلوا سبيله فإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ثم تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحقها".

ش: إسناده صحيح. وأبو بكرة بكار القاضي. والنعمان هو ابن سالم الطائفي، قال يحيى وأبو حاتم: ثقة، روى له الجماعة سوى البخاري. وعمرو بن أوس بن عمرو الطائفي، روى له الجماعة. وأبوه أوس بن أبي أوس، ويقال: أوس بن أوس الثقفي، عداده في الشاميين. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الله بن بكر السهمي، نا حاتم بن أبي صغيرة، عن النعمان بن سالم، أن عمرو بن أوس ... إلى آخره نحوه سواء. غير أن في لفظه بعد قوله: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك حرمت عليَّ دماؤهم وأموالهم إلا بحقها". وأخرجه النسائي (¬2): من حديث النعمان بن بشير وعن رجل، عن النبي -عليه السلام-، وعن أوس، فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، نا الأسود ابن عامر، ثنا إسرائيل، عن سماك، عن النعمان بن بشير قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل فسارَّه، فقال: اقتلوه، ثم قال: أيشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، ولكنما يقولها تعوذًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تقتلوه؛ فإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". قال عبيد الله (¬3): ثنا إسرائيل، عن سماك، عن النعمان بن سالم، عن رجل حدثه قال: "دخل علينا رسول الله -عليه السلام- ونحن في قبة في مسجد المدينة -وقال فيه-: إنه أوحي إلي أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 8 رقم؟؟؟). (¬2) "المجتبى" (7/ 79 رقم 3979). (¬3) "المجتبى" (7/ 80 رقم 3980).

قال (¬1): أخبرنا أحمد بن سليمان، ثنا الحسين بن محمد بن أعين، ثنا زهير، ثنا سماك، عن النعمان بن سالم، قال: سمعت أوسًا يقول: "دخل علينا رسول الله -عليه السلام- ونحن في قبة ... " وساق الحديث. وقال ابن عساكر في "الأطراف": رواه أسود بن عامر، عن إسرائيل، عن سماك، عن النعمان بن بشير وأخطأ فيه. قوله: "إنا لَقُعُود" بضم القاف: جمع قاعد، كالركوع جمع راكع، وسُجود جمع ساجد. و"اللام" فيه للتأكيد. قوله: "ويُذَكِّرنا" من التذكير. قوله: "إلا بحقها" أي إلا بحق الدماء. وقد بيَّن رسول الله -عليه السلام- أن الحق المبيح لدماء المسلمين بعد تحريمها: الزنا بعد الإحصان، وقتل النفس المحرمة، والإشراك بالله تعالى (¬2). ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبره أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي. وأخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" (¬3): عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 80 رقم 3981). (¬2) تقدم مرارًا. (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1077 رقم 2786).

ومسلم في "الإيمان" (¬1): عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو وحرملة وأحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري نحوه. والنسائي في "الجهاد" (¬2): عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي عن يونس. قوله: "أُمِرْت" على صيغة المجهول، أي أمرني الله تعالى، وبناه هكذا إما للتعظيم وإما للعلم بالفاعل. قوله: "عصم مني" أي منع مني ماله ونفسه، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬3)، و {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬4)، و {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} (4)، وقد فسَّره في حديث آخر بقوله: "حرم ماله ودمه"، قال عياض: واختصاصه ذلك بمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان, وأن المراد بها مشركي العرب وأهل الأوثان ومن لا يقر بالصانع ولا يوحده، وهم كانوا أول من دعي إلى الإِسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يُقرّ بالتوحيد والصانع فلا يُكتفي في عصمة دمه بقوله ذلك؛ إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده؛ فلذلك جاء في الحديث الآخر: "وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة". قوله: "وحسابه على الله" يعني حساب سِرِّه إن أظهر ما يحقن دمه ويعصمه وأبطن خلافه كما فعله المنافقين، فذلك إلى المُطَّلِع على السرائر، وأن حكم النبي -عليه السلام- والأئمة من بعده إنما كان على الظاهر. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 52 رقم 21). (¬2) "المجتبى" (6/ 4 رقم 3090). (¬3) سورة المائدة، آية: [67]. (¬4) سورة هود، آية: [43].

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. وعن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا ابن عجلان، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق أخرى وهي صحيحة: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه مالك في "موطإه". الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عبيد الحنفي الطنافسي الكوفي، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع المكي الإسكاف، عن جابر بن عبد الله. وعن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه الأربعة: فأبو داود (¬1): عن مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها؛ منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". والترمذي أخرجه في "الإيمان" (¬2): عن هناد، عن أبي معاوية به. وقال: حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 44 رقم 2640). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 3 رقم 2606).

والنسائي في "المحاربة" (¬1): عن المخرمي وأحمد بن حرب، عن أبي معاوية به. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن يعلى بن عبيد، عن الأعمش نحوه. وابن ماجه في "الفتن" (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية وحفص بن غياث عنه به. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان المدني، عن أبيه عجلان مولى فاطمة بنت شيبة، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو، نا يحيى، عن ابن عجلان، قال: سمعت أبي يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح. وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا وكيع، عن سفيان (ح). وعبد الرحمن، ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 79 رقم 3976)، (7/ 79 رقم 3977). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1295 رقم 3927). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 300 رقم 14247).

وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬1) ". وأخرجه أيضًا (¬2): عن أسود، عن شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن من قال: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا له ما للمسلمين وعليه وما عليهم، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب، وطائفة من أهل الحديث، وجماعة من الظاهرية، فإنهم قالوا: من قال: لا إله إلا الله فقد صار مسلمًا، فلا يتعرض إليه، واستدلوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا حجة لكم في هذا الحديث؛ لأن رسول الله -عليه السلام- إنما كان يقاتل قومًا لا يوحدون الله -عز وجل-، فكان أحدهم إذا وحَّد الله -عز وجل- عُلم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه، ولم يُعلم بذلك دخولهم في الإِسلام أو بعض الملل التي توحد الله وتكفر به بجحدها رسله، وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله -عز وجل-، فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقالتهم بوجوب قتالهم؛ فلهذا كَفَّ رسول الله -عليه السلام- عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله، فأما من سواهم من اليهود فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون النبي -عليه السلام-، فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله -عز وجل- مسلمين؛ إذ كانوا جاحدين برسول الله -عليه السلام-، فإذا أقروا برسول الله -عليه السلام- عُلِمَ بذلك خروجهم من اليهودية ولم يعلم به دخولهم في الإِسلام؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا قد انتحلوا قول من يقول: إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصةً، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بَعَثَ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى خيبر وأهلها ¬

_ (¬1) سورة الغاشية، آية: [21, 22]. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 339 رقم 14691).

يهود؛ بما حدثنا يونس، ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -عليه السلام-: "لما دفع الراية إلى علي -رضي الله عنه- حين وَجَّهه إلى خيبر قال: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي -رضي الله عنه- شيئًا ثم وقف فصرخ فقال: يا رسول الله على ماذا أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- قد كان أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حتى يشهدوا مع ذلك أن محمدًا رسول الله؛ لأنهم قد كانوا يوحدون الله -عز وجل- ولا يقرون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا -رضي الله عنه- بقتالهم حتى يعلم خروجهم مما أمر بقتالهم عليه من اليهودية، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وليس في إقرار اليهود أيضًا بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ما يجب أن يكونوا مسلمين، ولكن النبي -عليه السلام- أمر بترك قتالهم إذا قالوا ذلك؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا أرادوا به الإِسلام أو غير الإِسلام، فأمر بالكف عن قتالهم حتى يعلم ما أرادوا بذلك، كما ذكرنا فيما تقدم من مشركي العرب، وقد أتى اليهود إلى رسول الله -عليه السلام- فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإِسلام، فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإِسلام إذ لم يكونوا عنده بذلك الإقرار مسلمين. حدثنا إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود وأبو أمية وأحمد بن داود وعبد العزيز بن معاوية، قالوا: ثنا أبو الوليد (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا أبو بشر الرقي، ثنا حجاج بن محمد (ح). وحدثنا ابن أبي داود، ثنا عمرو بن مرزوق؛ قالوا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال: "أن يهوديًّا قال لصاحبه:

تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل له: نبي فإنه إن سمعها صارت له أربعة عين، فأتاه فسأله عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (¬1). فقال: لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تسحروا ,ولا تأكلوا الربا, ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. قال: فقبلوا يده وقالوا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني، قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود". ففي هذا الحديث أن اليهود كانوا أقروا بنبوة رسول الله -عليه السلام- مع توحيدهم لله تعالى فلم يأمر بترك قتالهم رسول الله -عليه السلام- حتى يقروا بجميع مع يقر به المسلمون، فدلّ ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين، وثبت أن الإِسلام لا يكون إلا بالمعاني التي يدل على الدخول في الإسلام، وترك سائر الملل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم جماهير العلماء من الفقهاء والمحدثين، منهم: أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد في رواية صحيحة. قوله: "وقالوا: لا حجة لكم" أي قال هؤلاء الآخرون، وهذه إشارة إلى الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من الأحاديث المذكورة. وملخصه: أن المشرك وعابد الوثن أو النار أو نحوهما إذا قال: لا إله إلا الله؛ يحكم بإسلامه. والكافر الذي يوحد الله وينكر نبوة محمد -عليه السلام-، أو يعترف بنبوته ولكن يدعي أنها مخصوصة بالعرب إذا قال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله، ويتبرأ عن كل دين سوى دين الإِسلام. ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء، آية: [101].

وقال صاحب "البدائع": الطرق التي يحكم بها كون الشخص مؤمنًا ثلاثة: نص ودلالة وتبعية: أما النص: فهو أن يأتي بالشهادة أو بالشهادتين أو يأتي بهما مع التبرؤ مما هو عليه صريحًا، وبيان هذه الجملة أن الكفرة أصناف أربعة: صنف منهم ينكرون الصانع أصلاً وهم الدهرية المعطلة، وصنف منهم يقرون بالصانع وينكرون توحيده وهم الوثنية والمجوس، وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده وينكرون الرسالة رأسًا وهم قوم من الفلاسفة، وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة لكنهم ينكرون رسالة رسولنا محمد -عليه السلام- وهم اليهود والنصارى. فإن كان من الصنف الأول أو الثاني فقال: لا إله إلا الله يحكم بإسلامه؛ لأن هؤلاء يمتنعون عن الشهادتين أصلاً، فإذا أقروا بها كان ذلك دليل إيمانهم، وكذلك إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأنهم يمتنعون عن كل واحد من كلمتي الشهادتين، فكان الإتيان بواحدة منهما أيتهما؛ كانت دلالة الإيمان. وإن كان من الصنف الثالث فقال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه؛ لأن منكر الرسالة لا يمتنع عن هذه المقالة، ولو قال: أشهد أن محمدًا رسول الله يحكم بإسلامه؛ لأنه يمتنع عن هذه الشهادة، فكان الإقرار بها دليل الإيمان. وإن كان من الصنف الرابع فأتى بالشهادتين فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي هو عليه من اليهودية أو النصرانية؛ لأن من هؤلاء من يقر برسالة محمد -عليه السلام- لكنه يقول: إنه بعث إلى العرب دون غيرهم؛ فلا يكون آتيًا بالشهادتين بدون التبرؤ دليلًا على إتيانه، وكذا لو قال يهودي أو نصراني: أنا مؤمن، أو مسلم، أو قال: آمنت أو أسلمت، لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم يدعون أنهم مؤمنون وأن الإيمان والإِسلام هو الذي هم عليه. وروى الحسن، عن أبي حنيفة: أنه إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم أو قال: أسلمت، يُسأل عن ذلك: أي شيء أردت به؟ إن قال: أردت به ترك اليهودية أو النصرانية والدخول في دين الإِسلام يحكم بإسلامه حتى لو رجع عن

ذلك كان مرتدًّا، وإن قال: أردت بقولي أسلمت أني على الحق ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني، لم يحكم بإسلامه. ولو قال يهودي أو نصراني: أشهد أن لا إله إلا الله وأتبرأ عن اليهودية أو النصرانية، لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم لا يمتنعون عن التوحيد، والتبرؤ عن اليهودية أو النصرانية لا يكون دليل الدخول في دين الإِسلام لاحتمال أنه تبرأ عن ذلك ودخل في دين آخر سوى الإِسلام فلا يصلح التبرؤ دليل الإيمان مع الاحتمال، ولو أقر مع ذلك فقال: دخلت في دين الإِسلام أو في دين محمد -عليه السلام- حكم بإسلامه لزوال الاحتمال بهذه القرينة. وأما الدلالة: فنحو أن يصلي كتابي أو واحد من أهل الشرك في جماعة فيحكم بإسلامه عندنا خلافًا للشافعي، ولو صلى وحده لا يحكم بإسلامه، وكذا إذا أذن في مسجد جماعة يحكم بإسلامه، ولو قرأ القرآن لا يحكم بإسلامه، ولو حج فلو تهيّأ للإحرام ولبى وشهد المناسك مع المسلمين يحكم بإسلامه، وإن لبى ولم يشهد المناسك أو شهد المناسك ولم يلب؛ لا يحكم بإسلامه. وأما التبعية: فإن الصبي يحكم بإسلامه تبعًا لأبويه عقل أو لم يعقل، ويحكم بإسلامه تبعًا للدار أيضًا, ولو كان أحدهما كتابيًّا والآخر مجوسيًّا فالولد كتابي؛ لأن المجوسي شر من الكتابي، انتهى. ثم الكلام في أحاديث الباب: أما في حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إسحاق بن شاهين، نا خالد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال عمر -رضي الله عنه-: فما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ، فدعا

عليًّا -رضي الله عنه- فبعثه فقال: اذهب فقاتل حتى يفتح الله على يديك ولا تلتفت، فمشى ساعةً ثم وقف فلم يلتفت، فقال: يا رسول الله علام أقاتل؟ قال: قاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". انتهى. فهذا يدل على أن الكافر الذي يوحد الله تعالى إذا قال: لا إله إلا الله؛ لا يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: وأشهد أن محمدًا رسول الله. وقال البغوي: إن كان الكافر وثنيًّا أو ثنويًّا لا يقر بالوحدانية فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الأحكام، وإن كان مقرًّا بالوحدانية منكرًا لنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: محمد رسول الله، وإن كان يقر بالرسالة إلى العرب خاصةً لم يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله إلى جميع الخلق، أو يتبرأ من كل دين خالف الإِسلام، وإن كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده. وأما حديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي وأبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي وأحمد بن داود المكي وعبد العزيز ابن معاوية القرشي العتابي خمستهم جميعًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الجملي الكوفي الأعمى، عن عبد الله بن سَلِمَة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، عن صفوان بن عسال المرادي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه الترمذي في "التفسير" (¬1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا أبو داود ويزيد بن هارون وأبو الوليد -اللفظ لفظ يزيد، والمعنى واحد- عن شعبة، ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 305 رقم 3144).

عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن صفوان بن عسال: "أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله, قال: لا تقل نبي؛ فإنه إن سمعها تقول: نبي كانت له أربعة أعين، فأتيا النبي -عليه السلام- فسألاه عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (¬1). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا, ولا تسحروا, ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف -شك شعبة- وعليكم يا معشر اليهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت. فقبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تُسْلما؟ قالا: إن داود -عليه السلام- دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي وإنّا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2). الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه النسائي في "المحاربة" (¬3): عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن شعبة ... إلى آخره. وفي "السير" (¬4): عن أبي كريب وأبي قدامة، عن ابن إدريس بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [101]. (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 160 رقم 1164). (¬3) "المجتبى" (7/ 111 رقم 4078)، و"الكبرى" في المحاربة (2/ 306 رقم 3541). (¬4) "السنن الكبرى" (5/ 198 رقم 8656).

وأخرجه ابن ماجه في "الأدب" (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن إدريس وغندر وأبي أسامة، عن شعبة؛ ببعضه بقصة التقبيل. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن مرزوق البصري شيخ البخاري في التعليق، وأبي داود، عن شعبة ... إلى آخره. وأخرجه الترمذي في كتاب"الاستئذان" (¬2): عن أبي كريب، عن عبد الله بن إدريس وأبي أسامة، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح. قوله: "تعال" أمر من تعالى يتعالى. قوله: "فإنه إن سمعها"، أي إن سمع هذه اللفظ وهي قوله: "نبي". قوله: "صارت له أربعة أعين" كناية عن فرحه ونشاطه إذا سمع هذه اللفظة وهي قوله: "نبي" ممن لا يؤمن به. قوله: "يبرئ" فقيل: من برئ براءة يقال: فلان برئ من هذا الأمر إذا كان خاليًا عنه، ويجمع على بُرَآء نحو فَقِيه وفُقهاء، وبراء أيضًا نحو كريم وكِرَام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. قوله: "ولا تقذفوا المحصنة" القذف ها هنا هو رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه، وأصله الرمي، ثم استعمل في هذا المعنى حتى غلب عليه، يقال: قَذَفَ يَقْذِفُ قَذْفًا، فهو قاذف. قوله: "لا تفروا من الزحف" الزحف: الجيش يزحفون إلى العدو أي يمشون، يقال: زحف إليه زحفًا: إذا مشى نحوه. قوله: "وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت" معناه الزموا عدم الاعتداء في السبت، والاعتداء: هو الخروج عن الوضع الشرعي والسنة المأثورة. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1221 رقم 3705). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 77 رقم 2733).

وانتصاب "خاصةً" على الحال، ومعناه: عليكم مختصين أيها اليهود أن لا تعتدوا في أمر السبت؛ لأن تعظيم السبت هو مخصوص باليهود. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الشرك هو أعظم هذه الذنوب التسعة، وهي الكبائر وأكبرها وأعظمها الشرك بالله تعالى، ثم إن الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان، فكل ذنب بالنسبة إلى ما فوقه صغيرة وبالنسبة إلى ما تحته كبيرة، غير أن الشرك ليس فوقه ذنب أعظم منه، وما سواه كله بالنسبة إليه صغائر، فيكون الشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب. الثاني: فيه النهي عن قتل النفس المحرمة: التي حرمها الله إلا بالحق وليس بعد الشرك ذنب أعظم عند الله من قتل النفس المحرمة. الثالث: فيه النهي عن السرقة، وقد قال -عليه السلام-: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" (¬1). الرابع: فيه النهي عن الزنا، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬2)، وقال -عليه السلام-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (1). الخامس: فيه النهي عن السحر، وقد روى عبد الرازق (¬3)، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تعلم شيئًا من السحر - قليلاً أو كثيرًا- كان آخر عهده من الله". واختلف الناس في الساحر، فقالت طائفة: يقتل الساحر ولا يستتاب، والسحر كفر، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: يقتل الساحر. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري (2/ 875 رقم 3343)، ومسلم (1/ 76 رقم 57). (¬2) سورة الإسراء، آية: [32]. (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 184 رقم 18753).

وقال الشافعي: إن كان الكلام الذي سحر به كفرا فالساحر مرتد، وإن كان ليس بكفر فلا يقتل؛ لأنه ليس بكافر، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. السادس: فيه النهي عن أكل الربا، وروى ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام-: "أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه". الحديث صحيح. السابع: فيه النهي عن النمّ على الغافل المتخلي عند الظلمة ليقتلوه أو يؤذوه أو يأخذوا ماله. الثامن: فيه النهي عن قذف المحصنات، وروى أبو هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقذف المؤمنات ... " الحديث (¬1). التاسع: فيه النهي عن الفرار عن الزحف؛ فإنه أيضًا من الكبائر. ص: وقد روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، حرمت علينا في دماؤهم وأموالهم إلا بحقها, لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم". فدلَّ ما ذكر في هذا المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين؛ لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها، والمعنى الأول من توحيد الله -عز وجل- خاصةً هو المعنى الذي يُكَف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله؟ الإِسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد، فلا يكون الكافر مسلمًا محكومًا له وعليه بحكم الإِسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويجحد كل دين سوى ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري (3/ 1017 رقم 2613)، ومسلم (1/ 92 رقم 89).

الإسلام ويتخلى عنه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: ثنا أبو مالك سعد بن طارق بن أشيم، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويتركوا ما يعبدون من دون الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت عليّ دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: "قلت: يا رسول الله، ما آية الإِسلام؟ قال: أن تقول: أسلمتُ وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين إلى المسلمين". فلما كان جواب رسول الله -عليه السلام- لمعاوية بن حيدة لما سأله عن آية الإِسلام أن يقول: "أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين"، وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله -عز وجل-، ثبت بذلك أن من لم يتخل مما سوى الإِسلام لم يُعلم بذلك دخوله في الإِسلام. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قد روي عن أنس بن مالك ما يدل على ما ذكرنا من أن الإِسلام لا يكون إلا بالمعاني التي يدل على الدخول في الإِسلام وترك سائر الملل؛ لأنه صرَّح في حديثه أن القتال لا يُكَف إلا عمن يأتي بالشهادتين، ويصلي صلاة المسلمين، ويسقبل قبلتهم، ويأكل ذبيحتهم، فهذا لا يكون إلا إذا تبرأ من سائر الملل سوى ملة الإِسلام. ودلّ هذا أيضًا على أن المراد من الحديث الأول الذي فيه الكف عن قتال من قال: لا إله إلا الله لا غير من المشركين: هو أن يتُرك قتاله إلى أن يعلم ما أراد به هذا القائل من قوله هذا، أراد به الإِسلام أو غيره؟ فبهذا يحصل التوفيق بين أحاديث هذا الباب ولا تتضاد معانيها، فإذا كان الأمر كذلك فلا يحكم بإسلام الكافر حتى يتلفظ بالشهادتين ويجحد كل دين سوى دين الإِسلام على ما صرَّح به في حديث طارق بن أشيم ومعاوية بن حيدة -رضي الله عنهما-.

ثم إنه أخرج حديث أنس بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا؛ حُرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها, لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين". وأخرجه الترمذي في كتاب "الإيمان" (¬2): عن سعيد بن يعقوب بإسناده. وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه النسائي في "المحاربة" (¬3): عن هارون بن محمد بن بكار بن بلال، عن محمد بن عيسى بن سميع، عن حميد نحوه. وأخرجه البخاري تعليقًا (¬4). فهذا يدل على أن الكافر لا يصح إسلامه إلا أن يتلفظ بالشهادتين ويتبرأ عن كل دين سوى دين الإِسلام؛ لأن صلاته مع المسلمين واستقباله القبلة وأكله ذبيحة المسلمين يدل على أنه قد ترك كل الملل وجحدها سوى ملة الإِسلام، فعن هذا قال أصحابنا: إن الكافر إذا صلى مع الجماعة يحكم بإسلامه، وقد ذكرناه فيما مضى. وأخرج حديث طارق بن أشيم: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن نعيم ابن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، فيه مقال، فعن النسائي: ليس بثقة. ولكن الجمهور وثقوه، وروى له الجماعة غير النسائي، وروى له مسلم في مقدمة كتابه. عن مروان بن معاوية بن الحارث الفزاري الكوفي روى له الجماعة، عن أبي مالك ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 44 رقم 2641). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 4 رقم 2608). (¬3) "المجتبى" (7/ 75 رقم 3966). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 153 رقم 385) موصولاً وليس تعليقًا.

سعد بن طارق الأشجعي الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن أبيه طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي الكوفي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا محمد بن أبي بكر المقدمي، نا فضيل بن سليمان، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، أنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم الله ماله ودمه، وحسابه على الله". وفيه دلالة صريحة على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، لا يحكم بإسلامه ولا يصح إسلامه حتى يكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو المراد من التبرؤ عن سائر الأديان سوى دين الإِسلام. وأخرج حديث معاوية بن حيدة بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري أبي عبد الملك البصري، عن أبيه حكيم بن معاوية القشيري البصري، عن جده معاوية بن حيدة بن معاوية القشيري الصحابي. وأخرجه الطبراني مطولاً (¬2): نا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: والله ما جئتك حتى حلفت بعدد أصابعي هذه أن لا أتبعك ولا أتبع دينك، وإني أتيت امرءًا لا أعقل شيئًا إلا ما علمني الله -عز وجل- ورسوله، وإني أسألك بالله بما بعثك إلينا ربك؟ قال: اجلس، ثم قال: بالإِسلام، فقلت: وما آية الإِسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتفارق الشرك، وأن كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشرك أشرك من بعد إسلامه عملاً وإن ربي داعي وسائلي: هل بلغت عباده؟ فليبلغ ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 318 رقم 8190). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 407 رقم 969).

شاهدكم غائبكم وإنكم تدعون مفدم على أفواهكم بالفدام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه. قلت: يا رسول الله وهذا ديننا؟ قال: نعم، فإنما تحشرون على وجوهكم وعلى أقدامكم وركبانًا". وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلي المسلمين". [قوله: "ما آية الإِسلام؟ " أي ما علامته. قوله: "وتخليت" من التخلي وهو التفرغ، من الخلو، والمراد: التبرؤ من الشرك وترك كل الأديان سوى دين الإِسلام، وعقد القلب على الإيمان. ... ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 848 رقم 2536).

ص: باب: بلوغ الصبي بما سوى الاحتلام فيكون بذلك في معنى البالغين في سهمان الرجال، وفي حل قتله في دار الحرب إن كان حربيا

ص: باب: بلوغ الصبي بما سوى الاحتلام فيكون بذلك في معنى البالغين في سهمان الرجال، وفي حلِّ قتله في دار الحرب إن كان حربيًّا ش: أي هذا باب في بيان حكم الصبي الذي يحكم ببلوغه بما سوى الاحتلام، فيدخل بذلك في حكم البالغين في شيئين: الأول: يكون له سهم كسهم الرجال. الثاني: يحل قتله في دار الحرب إن كان من أهل الحرب. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه: "أن سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حكم على بني قريظة أن يقتل منهم من جرت عليه المواسي، وأن يقسم أموالهم وذراريهم، فذكر ذلك للنبي -عليه السلام-، فقال: لقد حكم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات". ش: إسناده صحيح. وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي. وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم-. وأخرجه النسائي في "المناقب" (¬1): عن محمد بن عبد الله المخرمي وهارون بن عبد الله، عن أبي عامر، عن محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد: "أن سعد بن معاذ حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه المواسي ... " إلى آخره نحوه. وقريظة والنضير: قبيلتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون أخي موسى -عليهما السلام-. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 62 رقم 8223).

قوله: "من جرت عليه المواسي" أي من نبتت عانته؛ لأن المواسي إنما تجري على من أنبت، والمواسي جمع موسى وهو ما يحلق به، والميم فيه زائدة يقال: أوسى رأسه أي حلق. ويستفاد منه أحكام: الأول: الاستدلال بإنبات العانة على البلوغ كما ذهبت إليه طائفة من أهل العلم، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه جواز قسمة أموال الحرب وذراريهم. الثالث: فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهماتهم في الحرب وغيره، وهو ردٌّ على الخوارج إذ أنكروا التحكيم على علي -رضي الله عنه-. الرابع: فيه النزول على حكم الإمام، وغيره جائز، ولهم الرجوع عنه ما لم يحكم فإذا حكم لم يكن للعدو الرجوع، ولهم أن ينتقلوا من حكم رجل إلى غيره. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عطية -رجل من بني قريظة- أخبره "أن أصحاب رسول الله -عليه السلام- جردوه يوم قريظة فلم يروا المواسي جرت على شعره -يريد عانته- فتركوه من القتل". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: "كنت غلامًا يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أن يقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم، فشكُّوا فيَّ فلم يجدوني أنبت الشعر، فها أنا بين أظهركم". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، قال: حدثني عطية القرظي ... فدكر نحوه. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عطية ... نحوه. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا عبد الملك بن عمير، قال: حدثني عطية ... فذكر نحوه.

ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن مجاهد، عن عطية القرظي، له صحبة ولا يعرف له غير هذا الحديث. وأخرجه الأربعة على ما نذكره. وأخرجه الطبراني بهذا الإِسناد (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "سمعت رجلاً في مسجد الكوفة يقول: كنت يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة غلامًا فَشَكُّوا فيّ فلم يجدوا الموسى جرت عليّ؛ فاستبقيت". الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي، عن عطية. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، قال: ثنا عبد الملك ابن عمير، قال: حدثني عطية القرظي] (¬3) قال: "كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت". وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي قال: "عُرِضْنَا على النبي -عليه السلام- يوم قريظة، فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلى سبيلي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 165 رقم 439). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 141 رقم 4404). (¬3) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك". (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 145 رقم 1584).

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬1): الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عطية. وأخرجه النسائي (¬2): عن يونس بن عبد الأعلى ... إلى آخره نحوه. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا زكرياء بن يحيى الساجي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عطية القرظي قال: "عُرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن قريظة فمن كان منا محتلمًا أنبت عانته قتل، فنظروا إليّ فلم أكن تنبت عانتي فتركت". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج (ح). وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن كثير بن السائب، قال: حدثني أبناء قريظة: "أنهم عُرِضُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة، فمن كان محتلمًا أو نبتت عانته قتل، ومن لم يكن محتلمًا أو لم تنبت عانته لم يقتل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 310 رقم 18798). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 185 رقم 8619). (¬3) "المعجم الكبير" (17/ 164 رقم 435).

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي عمير بن يزيد المدني، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت الأنصاري الأوسي، عن كثير بن السائب. وأخرجه ابن الأثير في ترجمة كثير بن السائب وذكره في الصحابة، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين. وفي "التكميل": كثير بن السائب حجازي، عن أبناء قريظة "أنهم عرضوا على رسول الله -عليه السلام- يوم قريظة" وعنه عمارة بن خزيمة بن ثابت. وقال ابن أبي حاتم: كثير بن السائب، عن محمود بن لبيد، وعنه محمد بن إسحاق وهشام بن عروة. كثير بن السائب، عن ابني قريظة، وعنه عمارة بن خزيمة. وقال ابن حبان في الثقات: كثير بن السائب، عن أنس، وعنه محمد بن عمرو بن علقمة. قال شيخنا: والله أعلم، أهم واحد أم اثنان أم ثلاثة؟. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو مسلم الكجي في "سننه": عن حجاج، عن حماد ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1) وأحمد (¬2). ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 155 رقم 3429). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 341 رقم 19024).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: لا يحكم لأحد بحكم البلوغ إلا بالاحتلام أو بإنبات العانة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد بن حنبل وإسحاق ومالكًا في رواية وطائفة من الظاهرية، فإنهم قالوا: البلوغ يكون بالاحتلام وبإنبات العانة. وفي "المغني" لابن قدامة: والبلوغ يحصل بأحد أسباب ثلاثة: أحدها: الاحتلام، وهو خروج المني من ذكر الذكر أو قبل الأنثى في يقظة أو منام، وهذا لا خلاف فيه. الثاني: إنبات الشعر الخشن حول القبل، وهو علامة على البلوغ بدليل ما روى عطية القُرَظي الحديث الذي ذكرناه. الثالث: بلوغ خمس عشرة سنة. وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بعلامتين: الحيض والحمل. فمن لم توجد فيه علامة منهن فهو صبي يحرم قتله. ص: وذكروا في ذلك أيضًا عمن بعد رسول الله -عليه السلام- من أصحابه ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: ثنا عمر بن محمد، عن نافع، عن أسلم مولى عمر، قال: "كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أمراء الأجناد أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن أسلم، عن عمر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي حصين، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه: "أن عثمان -رضي الله عنه- أتي بغلام قد سرق فقال: انظروا أخضر مئزره؟ فإن اخضر فاقطعوه، وإن لم يكن اخضر فلا تقطعوه".

[حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني حرملة بن عمران التجيبي، أن تميم بن فرع المهري حدثه: "أنه كان في الجيش الذين فتحوا الإسكندرية في المرة الآخرة، فلم يقسم لي عمرو بن العاص من الفيء شيئًا، وقال: غلام لم يحتلم، حتى كاد يكون بين قومي وبين ناس من قريش في ذلك ثائرة، فقال القوم: فيكم ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلوهم، فسألوا أبا بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنهما- صاحبي النبي -عليه السلام-، فقال: انظروا فإن كان أنبت الشعر فاقسموا له، فنظر إلى بعض القوم فإذا أنا قد أنبتت فقسم لي". ش: أي ذكر هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه آثارًا من الصحابة -رضي الله عنهم-. فمن ذلك: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن أسلم أبي زيد المدني مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن أسلم مولى عمر: "أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى عماله: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى، ويختم في أعناقهم ... " إلى آخره. وأخرج بهذا الإسناد أيضًا (¬2): "أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى عماله ينهاهم عن قتل النساء والصبيان، وأمرهم بقتل من جرت عليه الموسي". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر، كلاهما عن نافع، عن أسلم ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 429 رقم 32640). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 484 رقم 33129).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم: "أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى عماله أن لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على كل من جرت عليه المواسي". ومنها ما روي عن عثمان -رضي الله عنه-، وأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي. عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد، ويقال: إن عبيد بن عمير رأى النبي -عليه السلام-. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع عن سفيان ومسروق، عن أبي حَصِين، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: "أتي عثمان -رضي الله عنه- بغلام قد سرق فقال: انظروا إلى مؤتزره هل أنبت". قوله: "انظروا اخضر مئزره" أي موضع إزاره أي عانته، والمئزر بكسر الميم هو الإزار. ومنها ما روي عن أبي بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنهما-. أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي المصري ونسبته إلى تُجِيب -بضم التاء المثناة من فوق وكسر الميم- بطن من كِندة بن ثور. وهو يروي عن تميم بن الفرع المهري المصري، وثقه ابن حبان، وذكره ابن يونس في العلماء المصريين وروى له الأثر المذكور، وقال: تميم بن الفرع المهري: حضر فتح الإسكندرية الثاني سنة خمس وعشرين، روى عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وأبي بصرة، حدث عنه حرملة بن عمران التجيبي: حدثنا علي بن الحسن بن قديد، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 195 رقم 18463). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 480 رقم 28153).

ثنا أحمد بن عمرو، أبنا ابن وهب، حدثني حرملة بن عمران التجيبي، أن تميم بن فرع المهري حدثه: "أنه كان في الجيش الذين فتحوا الإسكندرية في المرة الآخرة، قال: فلم يقسم لي عمرو بن العاص من الفيء شيئًا وقال: غلام لم يحتلم. حتى كاد يكون بين قومي وبين ناس من قريش ثائرة في ذلك، فقال بعض القوم: فيكم ناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام- فسلوهم، فسألوا أبا بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني صاحبي النبي -عليه السلام-] (¬1) فقالا: انظروا فإن كان أنبت الشعر فاقسموا له، فنظر إلى بعض القوم، فإذا أنا قد أنبتّ، فقسم لي". قال أبو سعيد: لم نجد لتميم بن فرع غير هذا الحديث، وما علمت حدث عنه غير حرملة بن عمران. قوله: "ثائرة" أي فتنة حادثة وعداوة، وثأر الحرب وثائرتها: شرها وهيجها. قوله: "فسألوا أبا بَصْرة" بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، اسمه حُميل -بضم الحاء المهملة وفتح الميم وهو الصواب- وقيل: جميل بالجيم -الغفاري الصحابي، نزل مصر وبها مات. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: قد يكون البلوغ بهذين المعنيين، ويكون بمعنى ثالث، وهو أن يمر على الصبي خمسة عشر سنة لا يحتلم ولا ينبت، فهو بذلك أيضًا في حكم البالغين، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بشر الرقي: ثنا أبو معاوية الضرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني في المقاتلة. قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا أثر نتخذه بين الذراري والمقاتل، فأمر أمراء الأجناد أن يفرض لمن كان في أقل من خمسة عشر في الذرية، ومن كان في خمسة عشر في المقاتلة". ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أبي، عن يعقوب بن إبراهيم أبي يوسف، عن عبيد الله ... فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن عبيد الله ... فذكر بإسناده مثله، ولم يذكر ما فيه من قول نافع: "فحدثت بذلك عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- ... " إلى آخر الحديث. قالوا: فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر -رضي الله عنهما- لخمس عشرة، ورده لما دونها، ثبت بذلك أن حكم ابن خمس عشرة حكم البالغين في أحكامه كلها إلا من ظهر بلوغه قبل ذلك لمعنى من المعنيين. قالوا: وقد شدّ هذا المعنى أخذ عمر بن عبد العزيز وتأوله ذلك الحديث عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وجميع أصحابنا، غير أن محمد بن الحسن كان يرى الإنبات دليلاً على البلوغ، وغير أبي حنيفة فإنه كان لا يجعل من مرت عليه خمس عشرة سنة ولم يحتلم ولم ينبت في معنى المحتلمين حتى يأتي عليه سبع عشرة سنة، فيما حدثني سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمد بن الحسن. وقد روي عنه أيضًا خلاف ذلك. حدثني أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا محمد بن سماعة، قال: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: إذا أتت عليه ثمان عشرة سنة فقد صار بذلك في أحكام الرجال ولم يختلفوا عنه جميعًا، وهاتين الروايتين في الجارية أنها إذا مرت عليها سبع عشرة سنة أنها تكون بذلك كالتي حاضت، وكان أبو يوسف يجعل الغلام والجارية سواء في مرور الخمس عشرة سنة عليهما، ويجعلهما في ذلك في حكم البالغين، وكان محمد بن الحسن يذهب في الغلام إلى قول أبي يوسف، وفي الجارية إلى قول أبي حنيفة -رضي الله عنه-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة وأراد بهم: الثوري ومالكًا في رواية والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يكون البلوغ بثلاثة أشياء: بالاحتلام،

وبإنبات العانة، وبأن يمر على الصبي خمس عشرة سنة لا يحتلم ولا ينبت، فهو بذلك أيضًا يكون في أحكام البالغين في سهمان الرجال في الغنيمة وفي حِلّ قتله إذا كان من أهل الحرب. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. الثاني: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن أبيه شعيب، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. والحديث أخرجه الجماعة: فالبخاري في غزوة الخندق (¬1): عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه". ومسلم في كتاب "الإمارة والجماعة" (¬2): عن محمد بن عبد الله بن نمير [، قال: نا أبي، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1504 رقم 3871). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1490 رقم 1868).

"عرضني رسول الله -عليه السلام- يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وهو يومئذٍ خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، فما كان دون ذلك فاجعلوه في العيال". وأبو داود في "الخراج" (¬1) و"الحدود" (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى، عن عبيد الله به. وعن (¬3) عثمان بن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن عبيد الله، قال: قال نافع: حدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث. والترمذي في "الأحكام" (¬4): عن محمد بن وزير الواسطي، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن عبيد الله، بمعناه ولم يسم أُحُدًا ولا الخندق. وعن (4) محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن عبيد الله نحوه. وقال: حسن صحيح. والنسائي في "الطلاق" (¬5): عن أبي قدامة، عن يحيى، عن عبيد الله مثل الأول. وابن ماجه في "الحدود" (¬6): عن علي بن محمد، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية وأبي أسامة، عن عبيد الله به. فهذا يدل على أن حكم ابن خمس عشرة كحكم البالغين في الأحكام كلها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 152 رقم 2957). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 141 رقم 4406). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 141 رقم 4407). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 641 رقم 1361). (¬5) "المجتبى" (6/ 155 رقم 3431). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 850 رقم 2543).

قال الخطابي: قال الشافعي: إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس عشرة؛ كان حكمه حكم البالغين في إقامة الحدود عليه، وكذلك الجارية. وأما الإنبات فلا يكون حد للبلوغ، وإنما يفصل به بين أهل الشرك فتقتل مقاتلتهم بالإنبات، وجعله أحمد وإسحاق بلوغًا، وحكي مثله عن مالك. فأما في السنن فإنه قال: إذا احتلم الغلام أو بلغ من السنن ما لا يبلغه غيره فحكمه حكم الرجال، ولم يجعل الخمس عشرة سنة حدًّا في ذلك. وقال أبو حنيفة في حد البلوغ: استكمال ثماني عشرة إلا أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية سبع عشرة إلا أن تحيض قبل ذلك. وقال الخطابي أيضًا: يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإِسلام وبين أهل الكفر حيث جعل الإنبات في الكفار ولم يعتبره في المسلمين؛ هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن ولا يمكن الرجوع إلى قولهم؛ لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عن أنفسهم. فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم؛ لأنها محفوظة وأوقات المواليد فيهم مؤرخة معلومة. قوله: "وقالوا" أي الآخرون: "وقد شدً هذا المعنى" وهو كون حكم ابن خمس عشرة سنة كحكم البالغين في أحكامهم كلها. ص: وكان من الحجة لأبي حنيفة على أبي يوسف ومحمد في حديث ابن عمر أنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- رده وهو ابن أربع عشرة سنة لا أنه غير بالغ، ولكن لما رأى من ضعفه، وأجازه وهو ابن خمس عشرة سنة لبس؛ لأنه بالغ، ولكن لما رأى من جَلَدِه وقوته، وقد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- ما علم كم سنه في الحالين جميعًا، وقد فعل رسول الله -عليه السلام- في سمرة بن جندب ما يدل على هذا أيضًا. حدثنا أحمد بن مسعود الخياط، قال: حدثنا محمد بن عيسى الطباع، قال: ثنا هشيم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن سمرة بن جندب، أن أمه -وكانت

امرأة من فزارة فذهبت به إلى المدينة وهو صبي، وكثر خطابها وكانت امرأة جميلة، فجعلت تقول: لا أتزوج إلا من تكفل لي بابني هذا فتزوجها رجل على ذلك، فلما فرض النبي -عليه السلام- لغلمان الأنصار لم يفرض له كأنه استصغره، فقال: يا رسول الله لقد فرضت لصبي أنا أصرعه ولم تفرض لي، قال: صارعه، فصرعه، ففرض له النبي -عليه السلام- فلما أجاز رسول الله -عليه السلام- سمرة بن جندب لما صارع الأنصاري، لا لأنه قد بلغ، احتمل أن يكون كذلك أيضًا ما فعل في ابن عمر أجازه حين أجازه لقوته لا لبلوغه، ورده حين رده لضعفه لا لعدم بلوغه، فانتفى بما ذكرنا أن يكون في ذلك حجة لأبي يوسف لاحتماله ما ذهب إليه أبو حنيفة؛ لأن أبا حنيفة لا ينكر أن يفرض للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويشهدون الحرب وإن كانوا غير بالغين. ش: هذه إشارة إلى الجواب عما احتج به أبو يوسف ومحمد في بلوغ الصبي بالسن خمسة عشر سنة من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-] (¬1) نصرة لأبي حنيفة. بيانه: أن حديث ابن عمر لا يتم به الاستدلال على ذلك من وجهين: الأول: أنه يحتمل أن يكون رد النبي -عليه السلام- إياه وهو ابن أربع عشرة سنة لا لأجل أنه غير بالغ، بل لكونه ضعيفًا لا يقدر على القتال، وإجازته له وهو ابن خمس عشرة سنة لا لأجل أنه بالغ؛ بل لكونه جَلدًا قويًا على القتال. الثاني: يحتمل أن النبي -عليه السلام- ما علم سن عبد الله في الحالين جميعًا، لا في وقت كون عمره ابن أربع عشرة سنة، ولا في وقت كونه ابن خمس عشرة سنة، والدليل على هذا: قصة سمرة بن جندب، وهي ظاهرة، فإذا كان الأمر كذلك لا يكون لأبي يوسف ومحمد حجة على أبي حنيفة في الاستدلال بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرج حديث سمرة بإسناد صحيح: عن أحمد بن مسعود الخياط ببيت المقدس شيخ الطبراني أيضًا، عن محمد بن عيسى بن نجيح البغدادي أبي جعفر الطباع شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، وثقه النسائي وابن حبان. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل" بمقدار لوحة، والمثبت من "ك".

عن هشيم بن بشير، عن عبد الحميد بن جعفر أبي حفص المدني، وثقه يحيى والنسائي وروى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن أبيه جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي المدني، روى له الجماعة غير البخاري. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا محمد بن عبدوس بن كامل السراج، ثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، ثنا هشيم، أنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه: "أن أم سمرة بن جندب مات عنها زوجها وترك ابنه سمرة، وكانت امرأة جميلة فقدمت المدينة فخطبت، فجعلت تقول: لا أتزوج رجلاً إلا رجلاً يتكفل لها بنفقة ابنها سمرة حتى يبلغ، فتزوجها رجل من الأنصار على ذلك وكانت معه في الأنصار، وكان النبي -عليه السلام- يعرض غلمان الأنصار في كل عام فمن بلغ منهم بعثه، فعرضهم ذات عام فمرَّ به غلام فبعثه في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فردَّه، فقال سمرة: يا رسول الله أجزت غلامًا ورددتني ولو صارعني لصرعته؟! قال: فدونك فصارعه، قال: فصرعته، فأجازني في البعث". قوله: "إن أمه" ذكرها ابن الأثير في الصحابيات ولم يسمها. قوله: "فتزوجها رجل" قال ابن الأثير: كان من الأنصار، واسمه مُري بن شيبان بن ثعلبة، وكان سمرة في حجره إلى أن صار غلامًا. قوله: "فلما فرض النبى -عليه السلام-" أي فلما قدر لغلمان الأنصار أنصباء من الغنيمة ليخرجوا ويقاتلوا معه الكفار. ودلَّ ذلك على أن الإِمام له أن يفرض للصبيان إذا قدروا على القتال ولا يشترط البلوغ في ذلك، فكم من صبي جلد قوي يقدر على ما لا يقدر عليه البالغ، والله أعلم. ص: وقد روي عن البراء بن عازب فيما كان من رسول الله -عليه السلام- في أمر ابن عمر خلاف ما روي عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 177 رقم 6749).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: "عرضني رسول الله -عليه السلام- أنا وابن عمر يوم بدر، فاستصغرنا رسول الله -عليه السلام-، ثم أجازنا يوم أحد". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أجاز ابن عمر يوم أحد وهو يومئذ ابن أربع عشرة، فخالف ذلك ما في حديث ابن عمر، ولما انتفى أن يكون في ذلك الحديث حجة لأحد الفريقين على الآخر، التمسنا حكم ذلك من طريق النظر؛ لنستخرج من القولين اللذين ذهب أبو حنيفة إلى أحدهما وأبو يوسف إلى الآخر قولاً صحيحًا، فاعتبرنا ذلك فرأينا الله -عز وجل- قد جعل عدة المرأة إذا كانت ممن تحيض ثلاثة قروء، وجعل عدتها إذا كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر ثلاثة أشهر فجعل بدلاً من كل حيضة شهرًا، وقد تكون المرأة تحيض في أول الشهر وفي آخره، فيجتمع لها من شهر واحد حيضتان، وقد يكون بين حيضتيها الشهران والأكثر، فجعلت الخلف من الحيضة على أغلب أمور النساء؛ لأن أكثرهن تحيض في كل شهر حيضة واحدة، فلما كان ذلك كذلك ورأينا الاحتلام يجب به للصبي حكم البالغين، فإذا عدم الاحتلام وأجمع أن هناك خلف منه، فقال قوم: هو بلوغ خمس عشرة، وقال آخرون: بل هو أكثر من ذلك من السنين، جعل ذلك الخلف على أكثر ما يكون فيه الاحتلام وهو خمس عشرة سنة؛ لأن أكثر احتلام الصبيان وحيض النساء في هذا المقدار يكون ولا يجعل على أقل من ذلك ولا على أكثر؛ لأن ذلك إنما يكون في الخاص، فلا يعتبر حكم الخاص في ذلك، ولكن يعتبر أمر العام كما يعتبر أمر الخاص فيما جعل خلفا من الحيض واعتبر أمر العام. فثبت بالنظر الصحيح في هذا الباب كله ما ذهب إليه أبو يوسف -رحمه الله-: بالنظر لا بالأثر، وانتفى ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-. وقد روي عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- في هذا نحو من قول أبي حنيفة الذي رواه عنه أبو يوسف.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا ابن لهيعة عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه-: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (¬1)، قال: ثماني عشرة سنة، ومثلها في سورة بني إسرائيل" (¬2). ش: أشار بهذا الكلام إلى معنيين: الأول: أن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي احتج به أبو يوسف ومحمد على أن الصبي إذا لم يحتلم وبلغ سِنه خمس عشرة سنة يكون حكمه حكم البالغين، واحتجَّا به على أبي حنيفة؛ معارض بحديث البراء بن عازب، الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس، عن مطرف بن طريف الحارثي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأخرجه الطبرانى في "الكبير" (¬3): ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني عمي أبو بكر بن أبي شيبة، حدثني عبد الله بن إدريس، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: "عُرضت أنا وابن عمر يوم بدر على النبي -عليه السلام- فاستصغرنا، وشهدنا أحدًا". وأخرج البخاري في "الغازي" (¬4): عن مسلم، عن شعبة. وعن محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، أنه قال: "استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون نيفًا على الستين، والأنصار نيفًا على المائتين وأربعين". وجه المعارضة: أن في هذا الحديث: "ثم أجازنا يوم أحد"، وكان ابن عمر يوم ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [152]. (¬2) سورة الإسراء، آية: [34]. (¬3) "المعجم الكبير" (2/ 23 رقم 1166). (¬4) "صحيح البخاري" (4/ 1456 رقم 3739).

أحد ابن أربع عشر سنة، وفي ذاك الحديث: "عرضت على رسول الله -عليه السلام- في يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني في المقاتلة". فهذا تعارض ظاهر جليّ، فإذا كان كذلك لم يكن فيه حجة لأحد الفريقين على الآخر، فحينئذٍ يُحتاج في ذلك أن يُلتمس حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس الصحيح ليُستخرج به من القولين قول صحيح يُعتمد عليه، وبيَّن الطحاوي ذلك بقوله: فرأينا الله -عز وجل- قد جعل عدة المرأة ... إلى آخره. وهو ظاهر. قوله: "وأجمع أن هناك خلف" أي أجمع العلماء أن في عدم الاحتلام خلفًا وهو البلوغ بالسن، فقال قوم، وهم: أبو يوسف ومحمد والشافعي: هو بلوغ خمس عشرة، وقال قوم آخرون وهم: أبو حنيفة ومن تبعه فيما ذهب إليه من بلوغه في ثمان عشرة سنة. المعنى الثاني: أنه أشار إلى أن الصحيح الذي يقتضيه وجه النظر والقياس: هو قول أبي يوسف ومن تبعه في ذلك، وأنه هو اختياره أيضًا، وهو معنى قوله: "فثبت بالنظر الصحيح ... " إلى آخره، وإنما قال: بالنظر -يعني بالقياس- لا بالأثر؛ لأن الأثر الذي احتج به أبو يوسف فيما ذهب إليه ليس احتجاجه به تامًّا كما ذكرنا. قوله: "وابنَ عمر يوم بدر" بنصب الابن؛ لأنه عطف على الضمير المنصوب في قوله: "عرضني رسول الله -عليه السلام-"، وإنما ذكر قوله: "أنا" ليحسن العطف على الضمير؛ لئلا يتوهم عطف الاسم على الفعل. قوله: "وقد روي عن سعيد بن جبير في هذا" أي من أن البلوغ عند عدم الاحتلام بثماني عشرة سنة مثل قول أبي حنيفة. أخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن عطاء بن دينار الهذلي أبي طلحة المصري -ثقة- عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه-.

ص: باب: ما نهي عنه قتله من النساء والولدان في دار الحرب

ص: باب: ما نهي عنه قتله من النساء والولدان في دار الحرب ش: أي هذا باب في بيان النهي الوارد عن قتل النساء والولدان في دار الحرب. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، قال: "كتب نجدة إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأله عن قتل الولدان فكتب إليه: إن رسول الله -عليه السلام- كان لا يقتلهم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت قيسًا يحدث عن يزيد بن هرمز، قال: "كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله: هل كان النبي -عليه السلام- يقتل من صبيان المشركين، فكتب إليه ابن عباس- وأنا حاضر-: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقتل منهم أحدًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا الولدان". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن عكرمة مولى ابن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". قوله: "كتب نجدة" بالنون والجيم وهو نجدة بن عامر الحروري صاحب يمامة. والحروري نسبة إلى حروراء قرية بأرض العراق قريبة من الكوفة. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن قيس بن سعد المكي، عن يزيد بن هرمز المدني، وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي، عن يزيد بن هرمز قال: "كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن قتل الولدان ويقول في كتابه: إن العالم صاحب موسى قد قتل الوليد، قال: فقال يزيد: أنا كتبت كتاب ابن عباس بيدي إلى نجدة: إنك كتبت تسأل عن قتل الولدان وتقول في كتابك: إن العالم صاحب موسى قد قتل الوليد، ولو كنت تعلم من الولدان ما علم ذلك العالم من ذلك الوليد قتلته، ولكنك لا تعلم، قد نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتلهم، فاعتزلهم". وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، عن يزيد بن هرمز: "أن نجدة كتب إلى ابن عباس ... " الحديث بطوله. وأخرجه أيضًا (2): عن محمد بن حاتم، عن بهز، عن جرير بن حازم، عن قيس ابن سعد، عن يزيد بن هرمز، قال: "كتب نجدة إلى ابن عباس ... " الحديث. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي المدني، وثقه أحمد، وضعفه النسائي. عن داود بن حصين القرشي الأموي أبي سليمان المدني، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا نافع، عن ابن عمر قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض المغازي، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 484 رقم 33128). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1444 رقم 1812).

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن قتل النساء والصبيان". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، ولم يذكر ابن عمر -رضي الله عنهما-. ش: هذه أربع طرق رجالهم ثقات. الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي -وثقه يحيى وغيره- عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. والحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه. فقال البخاري (¬1): ثنا أحمد بن يونس، نا الليث، عن نافع، أن عبد الله أخبره: "أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله -عليه السلام- مقتولة؛ فأنكر رسول الله -عليه السلام- قتل النساء والصبيان". وقال مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بشر ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وقال أبو داود (¬3): نا يزيد بن خالد بن موهب وقتيبة، قالا: ثنا الليث، عن نافع ... إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬4): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر ... إلى آخره بنحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1098 رقم 2851). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1364 رقم 1744). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 53 رقم 2668). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 136 رقم 1569).

وقال النسائي (¬1): أنا قتيبة ... إلي آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن جويرية بن أسماء البصري، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد نحوه (¬2). الثالث: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه محمد بن الحسن في "موطئه" (¬3): عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. وكذا رواه محمد بن المبارك الصوري وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن صالح الوحاظي وعثمان بن عمر، كلهم عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن مالك، عن نامع، عن النبي -عليه السلام-. وهذا مقطوع. وأخرجه يحيى بن يحيى عن مالك هكذا مرسلًا. وكذا أخرجه أكثر رواة "الموطأ" (¬4) عن مالك. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: أخبرني ابن كعب بن مالك، عن عمه: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن قتل النساء والولدان حين بعث إلى ابن أبي الحقيق". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 185 رقم 8618). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 22 رقم 4739)، (2/ 23 رقم 4746) وغيره. (¬3) "موطأ محمد بن الحسن" (3/ 322 رقم 867). (¬4) "الموطأ" (2/ 447 رقم 964) ولكن موصولاً من طريق نافع عن ابن عمر.

حدثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى الذين قتلوا ابن أبي الحقيق حين خرجوا إليه عن قتل النساء والولدان". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن ابن كعب، هو عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي أبي الخطاب المدني، عن عمه [........] (¬1) عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن عمه: "أن رسول الله -عليه السلام- لما بعثه إلى ابن أبي الحقيق نهاه عن قتل النساء والولدان". وابن أبي الحقيق اسمه سلام بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع، وكان ابن أخيه كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية بنت حيي بن أخطب. وقال ابن إسحاق: وكان أبو رافع فيمن حزَّب الأحزاب على رسول الله -عليه السلام-، واستأذنت الصحابةُ في قتله رسولَ الله -عليه السلام- وكان في قصر له في أرض خيبر، فأذن لهم، فخرجوا إليه فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم، فخرجوا وأمَّر عليهم رسول الله -عليه السلام- عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدًا أو امرأة فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً فدخلوا داره وهو نائم فقتلوه وذلك بعد قضية الخندق سنة خمس من الهجرة. قال أبو عمر: احتج مالك بقضية ابن أبي الحقيق على جواز قتل الذمي إذا سبَّ رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 482 رقم 33115).

قلنا: الاستدلال بهذا لا يتم؛ لأن ابن أبي الحقيق كان حربيًّا ولم تكن له ذمة. الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك المدني الشاعر الصحابي، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم وأنزل فيه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (¬1)، وأحد السبعين الذين شهدوا العقبة. قال أبو عمر: اتفق جماعة الرواة للموطأ على رواية هذا الحديث مرسلاً، وهم: يحيى بن يحيى وابن القاسم وبشر بن عمر وابن بكير وأبو المصعب وغيرهم. رووا عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن لكعب بن مالك الأنصاري -قال: حسبت أنه قال: عبد الرحمن بن كعب- أنه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- الذين قتلوا ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان، قال: وكان رجل منهم يقول: برحت بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح فأرفع عليها السيف ثم أذكر نهي رسول الله -عليه السلام- فأكفّ، ولولا ذلك لاسترحنا منها". وقال القعنبي: حسبت أنه قال: عبد الله بن كعب أو عبد الرحمن بن كعب. ورواه ابن وهب: عن مالك، عن الزهري، عن ابن لكعب بن مالك. لم يقل: عبد الله ولا عبد الرحمن. ورواه الوليد بن مسلم، عن مالك، وقال فيه: عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى الذين قتلوا ... " إلى آخره. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا علي بن عابس، عن أبان بن ثعلب، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية قال لهم: لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً". ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [118].

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة (ح). وحدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، قالا: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا بعث جيشًا كان مما يوصيهم أن لا يقتلوا وليدًا -قال أبو بشر في حديثه: قال علقمة: فجئت مقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم بن هيصم، عن النعمان بن مقرن، عن النبي -عليه السلام- مثله". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح (ح). وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: ثنا الليث، قال: حدثني جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن علقمة بن مرثد الحضرمي، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا بعث أميرًا على جيش كان مما يوصيه به: أن لا يقتلوا وليدًا". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي المصري شيخ البخاري، عن علي بن عابس الأسدي الكوفي الملائي -بياع الملاء- الأزرق روى له الترمذي. عن أبان بن تغلب الكوفي القاري، روى له الجماعة إلا البخاري، عن علقمة بن مرثد الحضرمي أبي الحارث الكوفي، روى له الجماعة، عن ابن بريدة -وهو سليمان ابن بريدة الأسلمي- روى له الجماعة إلا البخاري، عن أبيه بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): نا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى، قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 37 رقم 2613).

أبيه: أن النبي -عليه السلام- قال: "اغزوا بسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تغلُّوا ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدًا". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا بعث سرية أو جيشًا قال: لا تقتلوا وليدًا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الرحمن، نا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله -عز وجل- ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ... " الحديث مطولاً. الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن [محمد] (¬3) بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان ... إلى آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬4): عن سفيان، عن علقمة ... إلى آخره نحوه. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن جرير بن حازم، عن شعبة، عن علقمة ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 482 رقم 33116). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 358 رقم 23080). (¬3) في "الأصل، ك": "عبد الله"، وهو وهم أو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، فإن الفريابي هو محمد ابن يوسف، وأما عبد الله بن يوسف شيخ البخاري فهو التنيسي. (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 218 رقم 9428).

وأخرجه أبو حنيفة -رضي الله عنه- في "مسنده" (¬1): عن علقمة نحوه. وروى عنه أبو يوسف في "إملائه". وروى أبو يعلى في "مسنده" (¬2): من طريق أبي يوسف. الخامس: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، عن الليث ... إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده". قوله: "وليدًا" قال الجوهري: الوليد: الصبي والعبد، والجمع وُلدان وَوُلدة. والوليدة: الصبية، والجمع ولائد. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا قيس بن الربيع، قال: حدثني عمير بن عبد الله، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتل النساء والولدان، وقال: هما لمن غلب". ش: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. وقيس بن الربيع الأسدي الكوفي، وثقه عفان، وضعفه يحيى والنسائي، وعن النسائي: متروك الحديث. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وعمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي الكوفي، وثقه ابن حبان. وعطية العوفي هو عطية بن سعد بن جنادة فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن النسائي: ضعيف الحديث. وعن يحيى: صالح. وعن أبي زرعة: ليِّن. روى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك -رضي الله عنه-. وأخرجه صاحب "الخلعيات": أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الحاج الإشبيلي، قال: ثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث سنة ثلاث وخمسين ¬

_ (¬1) "مسند أبي حنيفة" (1/ 147). (¬2) "مسند أبي يعلى" (3/ 6 رقم 1413).

وثلاثمائة، قال: ثنا أبو الفضل عباس بن الفضل بن يونس الأسفاطي بمكة، قال: ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، قال: ثنا قيس بن الربيع ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا المغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، قال: حدثني المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن أبي حنظلة الكاتب: "أنه خرج مع رسول الله -عليه السلام- في غزاة غزاها وخالد بن الوليد -رضي الله عنه- على مقدمته، حتى لحقهم رسول الله -عليه السلام- على ناقته، فأفرجوا عن امرأة ينظرون إليها مقتولة، فبعث إلى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ينهاه عن قتل النساء والولدان". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا المغيرة، عن أبي الزناد، قال: أخبرني المرقع بن صيفي، عن جده بلال بن ربيع: "أنه خرج مع رسول الله -عليه السلام- ... " فذكر مثله، غير أنه قال: "لا تقتلن ذرية ولا عسيفًا". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا المغيرة ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث القرشي المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة، وثقه يعقوب بن شيبة، وروى له أبو داود وابن ماجه. عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، روى له الجماعة. عن المرقع بن عبد الله بن صيفي بن رباح التميمي الحنظلي الأسيدي الكوفي، وثقه ابن حبان، ورى له هؤلاء الثلاثة. عن جده رباح -بالباء الموحدة، وقيل: بالياء آخر الحروف- بن أبي حنظلة التميمي الأسيدي أخي حنظلة الكاتب، قال عبد الغني: له حديث واحد.

وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي بن رباح، عن جده رباح نحوه. قوله: "فأفرجوا عن امرأة" أي انكشفوا عنها، يقال: أفرج الناس عن طريقه أي انكشفوا. قوله: "مقتولة" نُصِبَ على الحال. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن الربيع -وهو رباح بن أبي حنظلة. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا عمر بن المرقع بن صيفي بن رباح، قال: حدثني أبي، عن جده رباح بن الربيع قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: انظر عَلَامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: ما كانت هذه لتقاتل، قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فبعث رجلاً فقال: قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفًا". الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن المغيرة بن عبد الرحمن ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، نا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن مرقع بن صيفي، عن جده رباح بن الربيع، قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في غزوة وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فإذا بامرأة مقتولة على الطريق [يتعجبون من خلقها قد ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 186 رقم 8626). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 53 رقم 2669). (¬3) "المعجم الكبير" (5/ 72 رقم 4620).

أصابتها المقدمة] (¬1) فأتى رسول الله فوقف عليها ثم قال لرجل: أدرك خالد بن الوليد فقل: لا تقتلن ذرية ولا عسيفًا". والعسف -بفتح العين وكسر السين المهملتين-: الأجير، ويجمع على عُسفاء. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عبد الله بن ذكوان -وهو أبو الزناد- عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب، قال: "كنت مع رسول الله -عليه السلام- فمر بامرأة لها خلق وقد اجتمعوا عليها، فلما جاء أفرجوا، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما كانت هذه تقاتل. ثم أتبع رسول الله -عليه السلام- خالدًا: أن لا تقتل امرأة ولا عسيفًا". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان ... فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري ... إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمرو بن علي ومحمد بن مثنى، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب قال: "كنا مع النبي -عليه السلام- في غزوة فمررنا بامرأة مقتولة ... " إلى آخره نحوه. قوله: "أفرجوا" أي انكشفوا. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن [محمد] (¬3) بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن ذكوان، عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير". (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 187 رقم 8627). (¬3) في "الأصل، ك": "عبد الله"، وهو وهم تكرر من المؤلف أكثر من مرة، والفريابي هو محمد، وأما عبد الله بن يوسف فهو التنيسي وكلاهما شيخ للبخاري.

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان ... إلى آخره نحوه. واعلم أن الطحاوي -رحمه الله-: قد أخرج أحاديث النهي عن قتل الولدان والنسوان عن تسعة أنفس من الصحابة -رضي الله عنهم- وهم: عبد الله بن العباس، وعبد الله بن عمر، وابن كعب بن مالك عن عمه، وكعب بن مالك، وبريدة بن الحصيب، والنعمان بن مقرن، وأبو سعيد الخدري، ورباح بن أبي حنظلة، وحنظلة الكاتب. ولما أخرج الترمذي حديث بريدة قال: وفي الباب عن رباح ويقال: رباح بن الربيع والأسود بن سريع وابن عباس والصعب بن جثامة. قلت: وفي الباب أيضًا عن سمرة بن جندب وصفوان بن عسال وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-. أما حديث الأسود بن سريع: فأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬2): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يزيد بن زريع، ثنا يونس، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال: "غزوت مع رسول الله -عليه السلام-، ففتح لهم فتناول بعض الناس قتل الولدان، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فقال: ما بال أقوام جاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أبناء المشركين! فقال: خياركم أبناء المشركين، ألا لا تقتل الذرية؛ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها ويُنَصِّرانها". وأما حديث الصعب بن جثامة: فأخرجه الطحاوي على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وأما حديث سمرة بن جندب: فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -عليه السلام: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 948 رقم 2842). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 284 رقم 829). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 54 رقم 2670).

وأما حديث صفوان بن عسال: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) قال: [ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد] (¬2) قال: ثنا أبو روق عطية بن الحارث، قال: ثنا أبو الغريف عبيد الله بن خليفة، عن صفوان بن عسال: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية قال: لا تقتلوا وليدًا". وأما حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" أيضًا (¬3): ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا حسن بن صالح، عن خالد بن الفرز، قال: حدثني أنس بن مالك قال: " [كنت] (¬4) سفرة أصحابي وكنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله -عليه السلام- فيقول: انطلقوا باسم الله وفي سبيل الله، تقاتلون أعداء الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا صغيرًا ولا امرأةً، ولا تغلُّوا". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان في دار الحرب على حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذ كان لا يؤمن في ذلك تلفهم؛ من ذلك أن أهل الحرب إذا تترسوا بصبيانهم وكان المسلمون لا يستطيعون رميهم إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم في قول هؤلاء، وكذلك إن تحصن أهل العرب بحصن وجعلوا فيه الولدان فحرام عليهم رمي ذلك الحصين عليهم إذا كنا نخاف في ذلك تلف نسائهم وولدانهم، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار التي رويناها في صدر هذا الباب. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكًا والشافعي في قول وأحمد في رواية, فإنهم قالوا: لا يجوز قتل النساء والولدان في دار الحرب بكل حال وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذ كان لا يؤمن في ذلك -أي في قصد غيرهم- تلفهم -أي تلف الولدان والنساء- إلى آخر ما ذكره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 484 رقم 33136). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 483 رقم 33118). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

وقال أبو عمر: اختلفوا في رمي الحصون بالمنجنيق إذا كان فيها أطفال المشركين أو أسارى المسلمين، فقال مالك: لا يرمى الحصن ولا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيهم أسارى المسلمين. وقال الأوزاعي: إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يُرْمَوا, ولا تحرق المركب فيه أُسارى المسلمين. ص: ووافقهم آخرون على صحة هذه الآثار وعلى تواترها وقالوا: إنما وقع النهي في ذلك على القصد إلى قتل النساء والولدان، فأما على طلب قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منه إلا بتلف صبيانهم ونسائهم فلا بأس بذلك. ش: أي وافق القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي -في الصحيح- وأحمد وإسحاق، وقالوا: نحن نوافقكم على صحة الأحاديث المذكورة، وأنها وردت بطرق صحيحة، ولكن المراد من النهي الوارد فيها هو أن تكون على القصد إلى قتل النساء والولدان، فأما إذا كان على طلب قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى قتله إلا بتلف الصبيان أو النساء فلا بأس به. وقال أبو عمر: قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيها أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين أو المشركين ولا بأس أن تحرق السفن ويقصد به المشركون فإن أصابوا واحدًا من المسلمين بذلك؛ فلا دية ولا كفارة. وقال الثوري: إن أصابوه ففيه الكفارة ولا دية. وقال الأوزاعي: إذا تترسوا بأطفال المسلمين لم يرموا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة -رضي الله عنهم- قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الديار من المشركين يبيتون ليلاً فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة، قال: "قيل: يا رسول الله، أوطأت خيلنا أولادًا من أولاد المشركين، فقال رسول الله -عليه السلام-: هم من آبائهم". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سريج بن النعمان، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة قال: "قلنا: يا رسول الله، الدار من دور المشركين نصبحها في الغارة فنصيب الولدان تحت بطون الخيل ولا نشعر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنهم منهم". فلما لم ينههم رسول الله -عليه السلام- عن الغارة وقد كانوا يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم؛ دلّ ذلك أن ما أباح في هذه الآثار لمعنى غير المعنى الذي من أجله حظر ما حظر في الآثار الأُوَل، وأن ما حظر في الآثار الأُوَل هو القصد إلى قتل النساء والولدان، والذي أباح هو القصد إلى المشركين وان كان في ذلك تلف غيرهم ممن لا يحصل القصد إلى تلفه؛ حتى تصح هذه الآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتضاد، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاغارة على العدو، وأغار على آخرين في آثار عدد قد ذكرناها في باب "الدعاء قبل القتال" ولم يمنعه من ذلك ما يحيط علمنا أنه قد كان يعلم أنه لا يؤمن تلف الولدان والنساء في ذلك، ولكنه أباح ذلك لهم؛ لأن قصدهم كان إلى غير تلفهم فهذا يوافق معنى الذي ذكرت مما في حديث الصعب. والنظر يدل على ذلك أيضًا. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الصعب بن جثامة فإنه يخبر أنه -عليه السلام- لم ينههم عن الإغارة، والحال أنهم قد كانوا يصيبون في غاراتهم الولدان والنساء الذين حرم -عليه السلام- القصد إلى قتلهم، فدلّ هذا أن الذي منع في الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى هو القصد إلى قتلهم، والذي في حديث الصعب هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان في ضمن ذلك تلف الولدان والنساء، فبهذا المعنى حصل التوافق بين أحاديث هذا الباب وارتفع التضاد الظاهر.

وأخرج حديث الصعب من ثلاث طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- ابن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي الحجازي -رضي الله عنه-. وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة قال: "مرَّ بي النبي -عليه السلام- بالأبواء -أو بودان- وسُئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: هم منهم". وقال مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وعمرو الناقد جميعًا، عن ابن عيينة -قال يحيى: أنا سفيان بن عيينة- عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم". وقال أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة: "أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، قال النبي -عليه السلام-: هم منهم، وكان عمرو: يعني ابن دينار يقول: هم من آبائهم. قال الزهري: ثم نهى رسول الله -عليه السلام- بعد ذلك عن قتل النساء والولدان". وقال الترمذي (¬4): ثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1097 رقم 2850). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1364 رقم 1745). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 54 رقم 2672). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 137 رقم 1570).

الزهري، عن عبيد الله، عن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جثامة قال: "قلت: يا رسول الله إن خيلنا أوطأت من نساء المشركين وأولادهم. قال: هم من آبائهم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال النسائي (¬1): أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن والحارث بن مسكين -قراءةً عليه وأنا أسمع- أنا سفيان ... إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري ... إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار ... إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال وعارم أبو النعمان، قالا: ثنا حماد بن زيد، أنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: "قالوا: يا رسول الله إن خيلنا أوطأت أوادًا من أولاد المشركين، فقال رسول الله -عليه السلام-: هم من آبائهم" ولم يذكر الزهري ولا عبيد الله ولا الصعب. وأخرجه عبد الرزاق (¬4): عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن ابن شهاب أخبره، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة: "أن النبي -عليه السلام- قيل له: لو أن خيلاً أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: هم من آبائهم". وأحْرجه مسلم (¬5): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق نحوه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 185 رقم 8622). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 947 رقم 2839). (¬3) "المعجم الكبير" (8/ 87 رقم 7449). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (5/ 202 رقم 9385) بنحوه من طريق معمر عن الزهري. (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1365 رقم 1745).

الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن سريج -بضم السين المهملة وفي آخره جيم- ابن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة -واسمه عمرو بن المغيرة- بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المدني. عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ... إلى آخره. وكل هؤلاء ثقات، غير أن عبد الرحمن بن أبي الزناد فيه مقال. وأبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬1): حدثني داود بن عمرو الضبي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، [عن الزهري] (¬2)، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن: "الصعب بن جثامة قال: يا رسول الله الدار من دور المشركين نصيبها بالغارة فنصيب الولدان تحت بطون الخيل ولا نشعر، فقال: إنهم منهم". وأخرجه الطبراني (¬3): عن عبد الله بن أحمد نحوه. قوله: "عن أهل الديار" الديار جمع دار، وأراد بها ها هنا: القبائل، وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارًا. قوله: "يُبيَّتُون" أي يصابون ليلاً، يقال: بَيَّتُّ العدو إذا قصدته في الليل بغتة، وهو البَيَاتُ أيضًا. وفي "شرح البخاري": البَيَات: أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف رجل من امرأة. ¬

_ (¬1) "زوائد عبد الله بن أحمد على المسند" (4/ 73 رقم 16732). (¬2) ليست في "زوائد المسند" ولا في "المعجم الكبير"، ولعلها زيادة. (¬3) "المعجم الكبير" (8/ 89 رقم 7456).

قوله: "وذراريَّهم" بتشديد الياء وهو الفصيح، وقد تخفف وهو جمع ذُريَّة. قوله: "هم منهم" أي أحكام النساء والولدان من أحكام رجالهم وآبائهم؛ لأن أحكامهم جارية عليهم في أحوالهم. وقال الخطابي: "هم منهم" يريد في حكم الدين، فإن ولد الكافر محكوم له بالكفر، ولم يُرِد بهذا القول إباحة دمائهم تعمدًا لها وقصدًا إليها، وإنما هو إذا لم يمكن الوصولَ إلى الآباء إلا بهم فإذا أصيبوا لاختلاطهم بالآباء؛ لم يكن عليهم في قتلهم شيء، وقد نهى النبي -عليه السلام- عن قتل النساء والصبيان، فكان ذلك على القصد لا قتال منهن، فإذا قاتلن فقد ارتفع الحظر، وأحل دماء الكفار إلا بشرائط الحقن. قلت: هذا الذي ذكره الخطابي خلاصة ما ذكره الطحاوي، وقد أخذه من كلامه. وقال الحازمي: رأى بعضهم حديث الصعب منسوخًا -منهم: ابن عيينة والزهري- بحديث الأسود بن سريع: "ألا لا تُقتلن ذرية"، وبحديث كعب بن مالك: "نهى عن قتل النساء والولدان إذ بعث إلى ابن أبي الحقيق". قال الشافعي: وحديث الصعب كان في عمرة النبي -عليه السلام- فإن كان في الأولى فقتل ابن أبي الحقيق قبلها أو في سنتها، وإن كان في عمرته الآخرة فهو بعد ابن أبي الحقيق بلا شك. قال: ولم نعلمه رخص في قتل النساء والصبيان ثم نهى عنه. قلت: حديث الصعب كان في عمرة القضية؛ جاء ذلك في غير ما حديث صحيح، والوجه في أحاديث هذا الباب ما ذكره الطحاوي الذي قد قررناه عن قريب، والله أعلم. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي عضَّ ذراع رجل فانتزع ذراعه فسقط ثنيتا العاضّ أنه أبطل ذلك، وتواترت عنه الآثار في ذلك فمنها: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبيّ، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن عميه سلمة بن أمية ويعلى بن

أمية، قالا: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ومعنا صاحب لنا فقاتل رجلاً من المسلمين، فعضَّ الرجل ذراعه فجبذها من فيه، فنزع ثنيته، فأتى الرجل النبي -عليه السلام- يلتمس العقل، فقال: ينطلق أحدكم إلى أخيه فيعضه عضيض الفحل ثم يأتي يطلب العقل؟! لا عقل لها فأبطلها رسول الله -عليه السلام-". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، أن صفوان بن يعلى بن أمية حدثه، عن يعلى بن أمية قال: "كان لي أجير، فقاتل إنسانًا فعض أحدهما صاحبه فانتزع إصبعه فسقطت ثنيتاه، فجاء إلى رسول الله -عليه السلام- فأهدر ثنيته -قال عطاء: حسبت أن صفوان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم --: أيدع يده في فمك فتقضمها كقضم الجمل؟! ". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن يعلى بن أمية ... فذكر نحوه، إلا أنه قال: "كقضم البَكْر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان، قال: ثنا أبان، قال: ثنا قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "أن رجلاً عضَّ ذراع رجل، فانتزع ذراعه فسقطت ثنيتا الذي عضه، فقال رسول الله -عليه السلام-: أردت أن تقضم يد أخيك كما يقضم الفحل؟! فأبطلها". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا شعبة، عن قتادة ... فذكر بإسناده مثله. فلما كان للمعضوض نزع يده وإن كان في ذلك تلف ثنايا غيره، وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه، ولم يكن القصد في ذلك إلى غير التلف كالقصد إلى التلف في الإثم ولا في وجوب العقل؛ كان كذلك كل من له أخذ شيء وفي أخذه إياه تلف غيره مما يحرم عليه القصد إلى تلفه، كان له القصد إلى أخذ مَا لَهُ أخذه من ذلك وإن كان فيه تلف ما يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدو قد حلَّ لنا قتالهم، وحُرِّم علينا قتال نسائهم وولدانهم، فحرام علينا القصد إلى

ما نُهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا وإن كان فيه تلف ما قد حُرِّم علينا من غيرهم، ولا ضمان علينا في ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ذكر حكم العاضّ ها هنا شاهدًا لما ذكره من قوله في معرض الاحتجاج لأهل المقالة الثانية إنما وقع النهي في ذلك على القصد إلى قتل النساء والولدان، فإما على طلب قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منه إلا بتلف صبيانهم ونسائهم فلا بأس بذلك. تقرير الكلام: أن المعضوض لما كان له نزع يده من فم العاض وإن كان في ذلك تلف ثنايا العاض؛ لأن ذلك التلف يحصل ضمنًا لا قصدًا، والضمنيات لا تعلل، فكذلك حكم قتل نساء الكفار وأولادهم إذا كان في ضمن قتل الكفار من غير قصد إليهم، وهذه قاعدة مطردة في كل من فعل شيئًا لا يقدر على فعل ذلك الشيء إلا يتلف غيره الذي يحرم عليه القصد إلى تلفه ابتداء؛ فله فعل ذلك الشيء وإن كان فيه تلف ما يحرم عليه القصد إلى تلفه؛ لأنا قد ذكرنا أن تلف ذلك يحصل ضمنًا لا قصدًا فلا شيء لذلك، والله أعلم. قوله: "وكان حرامًا عليه القصد" "الواو" للحال وانتصاب "حرامًا" على أنه خبر "كان" مقدمًا على اسمه، وهو قوله "القصد". قوله: "ولا في وجوب العقل" بالعين والقاف: وهو الدية. قوله: "وفي أخذه إياه تلف غيره" الواو للحال، و"تلف غيره" مرفوع بالابتداء، وفي أخذه مقدمًا خبره، والضمير في "أخذه" يرجع إلى "من" وفي "إياه" إلى قوله: "شيء". قوله: "فحرام" مرفوع على أنه خبر عن قوله: "القصد" مقدمًا، وكذلك قوله: "وحلال لنا القصد".

ثم إنه أخرج أحاديث هذا الباب عن ثلاثة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم: سلمة ابن أمية ويعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث التميميين المكيين، وعمران ابن الحصين -رضي الله عنهم-. أما حديث سلمة ويعلى فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي الحمصي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمد بن إسحاق المدني، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن صفوان بن عبد الله، عن عميه سلمة ويعلى ابني أمية. وفي "التكميل": صفوان بن عبد الله التميمي، عن عميه سلمة ويعلى حديث الثنية، هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن عطاء، عنه. وقد روى غير واحد، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه. وهو المحفوظ. قلت: وهكذا أخرجه النسائي (¬1): أنا عمران بن بكار، أنا أحمد بن خالد، نا محمد، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن عبد الله، عن عميه سلمة ويعلى ابني أمية قالا: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في غزوة تبوك ومعنا صاحب لنا ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه: "فطرح ثنيته". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه يعلى بن أمية ... إلى آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 30 رقم 4765).

وأخرجه أبو داود في "الديات" (¬1): عن مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه يعلى بن أمية ... إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن يعلى بن أمية ... إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬2): أنا مالك بن الخليل، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن يعلى بن مُنْيه: "أنه قاتل رجلاً، فعضّ أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فيه، فقلع ثنيته، فرفع ذلك إلى النبي -عليه السلام-: [فقال] (¬3) يعض أحدكم أخاه كما يعض البكر؟! فأبطلها" وله في رواية أخرى (¬4): "فأطلها" أي أبطلها. قوله: "في غزوة تبوك" كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة. قوله: "فنزع ثنيته" وهي واحدة الثنايا من السن. قوله: "يلتمس العقل" أي يطلب العقل، أي الدية. قوله: "عضيض الفحل" قال ابن الأثير: أصل العضيض: اللزوم، يقال: عض عليه يعض عضيضًا إذا لزمه، والمراد به ها هنا: العضّ نفسه؛ لأنه بِعضِّه له؛ يلزمه. قوله: "فأهدر" من الإهدار وهو الإبطال. قوله: "أيدع يده" الهمزة فيه للاستفهام، أي أيترك. قوله: "فيقضمها" من القضم -بالضاد المعجمة- وهو الأكل بأطراف الأسنان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 194 رقم 4584). (¬2) "المجتبى" (8/ 29 رقم 4763). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى". (¬4) "المجتبى" (8/ 30 رقم 4764).

قوله: "كقضم البَكر" بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف، وهو الفتي من الإبل. وأما حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي البصري، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة بن دعامة، عن زرارة بن أوفى العامري، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن عبد الله بن المبارك، نا أبو هشام، نا أبان، نا قتادة، نا زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين: "أن رجلاً عضّ ذراع رجل فانتزع ثنيته، فانطلق إلى النبي -عليه السلام- فذكر ذلك له، فقال: أردت أن تقضم ذراع أخيك كما يقضم الفحل؟! فأبطلها". وأخرجه الترمذي (¬2): عن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت زرارة بن أوفى، به. وقال: حسن صحيح. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين. وأخرجه النسائي (¬3): عن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة ... إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن علي بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة، به. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 29 رقم 4762). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 27 رقم 1416). (¬3) "المجتبى" (8/ 29 رقم 4760). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 887 رقم 2657).

ومما يستفاد منه: أن من عضَّ يد رجل فجذب المعضوض يده من فم العاضّ فسقطت ثنية العاضّ؛ لا يجب على المعضوض شيء. وفي "فتاوى الخشني": ولو عضّ ذراع رجل فجذبه من فيه فقضّ أسنان العاضّ وذهب بعض لحم ذراع هذا، فدية الأسنان هدر، وضمن العاضّ أرش ذراع هذا، وكذا ذكره في "خلاصة الفتاوى". ***

ص: باب: الشيخ الكبير هل يقتل في دار الحرب أم لا؟

ص: باب: الشيخ الكبير هل يقتل في دار الحرب أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الشيخ الفاني الذي هو من أهل الحرب هل يجوز قتله أم لا؟ ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن بُرَيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين؛ بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصُمَّة فقتل دريد، وهزم الله -عز وجل- أصحابه". ش: إسناده صحيح. وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني شيخ الجماعة. وأبو أسامة حماد بن أسامة القرش الكوفي روى له الجماعة. وبُريد -بضم الباء الموحدة وفتح الراء- بن أبي بردة الكوفي، روى له الجماعة. وأبو بردة -بضم الباء الموحدة وسكون الراء- اسمه عامر، وقيل الحارث الكوفي روى له الجماعة. وأبوه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- واسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه مسلم (¬1) مطولاً: ثنا عبد الله بن [براد] (¬2) وأبو كريب -واللفظ لابن [براد] (2) - قال: ثنا أبو أسامة، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه قال: "لما فرغ رسول الله -عليه السلام- من حنين؛ بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، فرمي أبو عامر في ركبته رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أن ذاك ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1943 رقم 2498). (¬2) في "الأصل، ك،": "بشار"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم" وفيه: عبد الله بن براد أبو عامر الأشعري. وعبد الله بن براد هو ابن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.

قاتلي. قال أبو موسى: فقصدت له فلحقته فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فنزعت السهم، فقال: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله -عليه السلام-، فأقرأه مني السلام وقيل له: يقول لك استغفر لي، ومكث يسيرا فمات، فلما رجعت إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبرته بخبر أبي عامر، وقلت له: قال: استغفر لي، فرفع يديه وقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك". قوله: "من حنين" أي من غزوة حنين، وكانت في سنة ثمان من الهجرة. قوله: "بعث أبا عامر" وهو أبو عامر الأشعري عم أبي موسى الأشعري واسمه عبيد بن سليم، قتل يوم حنين، وقال ابن إسحاق: لما انهزمت هوازن ذهبت منهم فرقة فيهم الرئيس مالك بن عوف النضري، فلجئوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له: أوطاس، فبعث إليهم رسول الله -عليه السلام- سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري، فقاتلوهم فغلوبهم، فرمي أبو عامر بسهم فقُتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري، وهو ابن عمه فقاتلهم، ففتح الله عليه وهزمهم الله، ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله، وقال: إن تسألوا عني فإني سلمه ... ابن سمادير لمن توسمه أضرب بالسيف رءوس المسلمه وقيل: إن دريدًا هو الذي قتل أبا عامر وقتله أبو موسى، وذلك غلط؛ فإن دريدًا إنما حضر الحرب شيخًا كبيرًا ولم يباشر الحرب لكبره، قاله ابن الأثير في ترجمة أبي عامر. قوله: "إلى أوطاس" وهو موضع بين ذات عرق وبين غمرة. قوله: "فقتل دريد" أي دريد بن الصمة، قتله ربيع بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة السلمي الصحابي على ما يأتي، والصِّمَّة -بكسر الصاد وتشديد الميم-

قال الجوهري: الصِّمَّة: الرجل الشجاع، والذكر من الحيات، وجمعه صمم، ومنه سمي دريد بن الصمة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا بأس بقتل الشيخ الكبير في دار الحرب. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وبأن دريدًا قد كان حينئذٍ في حال من لا يقاتل. ورووا في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: "وجّه رسول الله -عليه السلام- قِبل أوطاس فأدرك دريدَ بن الصمة ربيعٌ بن رفيع فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة فإذا هو شيخ كبير، قال: ماذا تريد مني؟ قال: أقتلك، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئًا، قال: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي ثم اضرب وارفع عن العظام وارفع عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال". قالوا: فلما قتل دريد وهو شيخ كبير فان لا يدفع عن نفسه، فلم يعب ذلك رسول الله - صلى الله عميه وسلم -؛ دلَّ ذلك أن الشيخ الفاني يُقتل في دار الحرب، وأن حكمه في ذلك حكم الشبان لا حكم النساء. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري والشافعي -في أصح قوله- ومحمد بن جرير الطبري؛ فإنهم قالوا: لا بأس بقتل الشيخ الكبير في دار الحرب، وبه قال ابن المنذر. قال أبو عمر: قال الطبري: يقتل الأعمى وذو الزمانة والمقعد والشيخ الفاني والراعي والحراث والسائح والراهب وكل مشرك؛ حاشا ما استثناه الله تعالى على لسان نبيه -عليه السلام- من النساء والولدان وأصحاب الصوامع. قال: والمغلوب على عقله في حكم الطفل. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بهذا الحديث، أي بحديث أبي موسى الأشعري المذكور.

قوله: "وبأن دريدًا" أي احتجوا أيضًا بأن دريد بن الصِّمة قد كان حينئذ -أي حين قتلوه- في حال من لا يقاتل مثل النساء والصبيان، ورووا في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق: "أن رسول الله -عليه السلام- ... " إلى آخره. أخرجه بإسناد رجاله ثقات، ولكنه منقطع معضل. قوله "ربيع بن رفيع" هو في رواية الكلبي وابن حبيب هكذا هو ربيع، ولكنهما قالا: ربيع بن ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ضبيعة الذي قتل دريد بن الصِّمة. وقال غيرهما: ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي كان يقال له: ابن الدغنة، وهي أمه فغلبت عليه. قوله: "بئس ما سلحتك أمك" من سَلَح يَسْلَحَ -بفتح عين الفعل فيهما- سلخًا إذا خزي، والسلاح -بالضم-: النجو. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي قتل الشيوخ في دار الحرب، وهم في ذلك كالنساء والذرية. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: راشد بن سعد ومجاهد بن جبر والضحاك والزهري والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكاً وأحمد والشافعي في قول، فإنهم قالوا: لا ينبغي قتل الشيخ الفاني في دار الحرب إلا أن يقاتل أو يكون ذا رأي. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا علي بن عباس، عن أبان بن تغلب، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا بعث سرية قال: "لا تقتلوا شيخًا كبيرًا". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث المنع من قتل الشيوخ، وقد قال رسول الله -عليه السلام- في حديث مرقع بن صيفي في المرأة المقتولة: "ما كانت هذه تقاتل",

فدلَّ ذلك أن من أبيح قتله هو الذي يقاتل، ولكن لما روي حديث دريد هذا وهذه الأحاديث الآخر وجب أن تصحح ولا يدفع بعضها بعضًا، والنهي من رسول الله -عليه السلام- في قتل الشيوخ في دار الحرب ثابت في الشيوخ الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب من قتال ولا رأي. وحديث دريد على الشيوخ الذين لهم معونة في الحرب كما كان لدريد فلا بأس بقتلهم وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة التي تكون منهم أشد من كثير القتال، ولعل القتال لا يلتئم لمن يقاتل إلا بها، فإذا كان ذلك كذلك قتلوا، والدليل على ذلك قول رسول الله -عليه السلام- في حديث رباح أخي حنظلة في المرأة المقتولة: "ما كانت هذه تقاتل" أي فلا تقتل؛ لأنها لا تقاتل، فإذا قاتلت قُتلت وارتفعت العلة التي لها منع من قتلها، وفي قتلهم دريد بن الصمة للعلة التي ذكرنا دليل أنه لا بأس بقتل المرأة إذا كانت أيضًا في تدبيرها لأمور الحرب كالشيخ الكبير في تدبيره لأمور الحرب، فهذا الذي ذكرنا هو الذي يوجبه تصحيح معاني هذه الآثار. وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتل أصحاب الصوامع: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع". فلما جرت سنة رسول الله -عليه السلام- على ترك قتل أصحاب الصوامع الذين قد حسبوا أنفسهم عن الناس وانقطعوا عنهم، وأمن المسلمون من ناحيتهم؛ دلّ ذلك على أن كل من أمن المسلمون من ناحيته من شيخ فانٍ أو امرأة أو صبي؛ كذلك أيضًا لا يقتلون، فهذا وجه هذا الباب. وهو قول محمد بن الحسن، وهو قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث بريدة بن الحصيب؛ فإن فيه النهي صريحًا عن قتل الشيخ الكبير.

وأخرجه بعين هذا الإسناد في الباب الذي قبله، ولكن متن الحديث هناك "كان رسول الله -عليه السلام- إذا بعث سرية قال لهم: لا تقتلوا وليدًا ولا امرأة"، ومتنه ها هنا: "إذا بعث سرية قال: لا تقتلوا شيخًا كبيرًا"، والظاهر أن هذا من تتمة ذاك. ثم وجه التوفيق بينه وبين حديث دريد بن الصمة: أن ما وقع في حديث دريد محمول على قتل الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا تدبير في أمور الحرب، فبهذا المعنى يرتفع التضاد بين هذه الأحاديث. فإذا كان الأمر كذلك يقتل الشيخ الذي له رأي في أمور الحرب، وتقتل المرأة التي لها رأي أو كانت ممن يقاتل، والذي لا رأي له ولا يقاتل لا يقتل كالصبي والمجنون وأصحاب الصوامع، فإنهم أيضًا لا يقاتلون، والناس من جهتهم آمنون، وعن هذا قال الثوري: لا يقتل الشيخ ولا المرأة ولا المقعد ولا الطفل. وقال الأوزاعي: لا يقتل الحراث ولا الزراع ولا الشيخ الكبير ولا المجنون ولا الراهب ولا المرأة. ثم إن من قاتل من هؤلاء قتُل لا محالة، وعليه جمهور الفقهاء. وممن رأى ذلك: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. واختلفوا في قتل النساء والصبيان إذا قاتلوا، فالجمهور على أنهم إذا قاتلوا قتُلوا. فإن قيل: أخرج أبو داود (¬1) والترمذي (¬2): من حديث سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم"، فإنه عام يتناول الشيخ الكبير الذي له رأي والذي لا رأي له. قلت: هو أيضًا محمول على الشيوخ الذين لهم رأي وتدبير في أمور الحرب؛ فإن الرأي الذي يحصل من الشيخ الكبير أشدُّ في الحرب من القتال، ويقال: أراد بالشيوخ البالغين؛ بدليل ذكر الشرح في مقابلتهم، فإن المراد من الشرح الصغار الذين لم يدركوا، فصار تأويل الخبر: اقتلوا البالغين واستبقوا الصبيان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 54 رقم 2670). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 145 رقم 1583).

قلت: الشَّرْخ -بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفي آخره خاء معجمه- جمع شارخ كَرَكْب جمع رَاكِب وصَحْب جمع صَاحِب، ويقال: هو مصدر يقع على الواحد والمثنى والجمع. وشرخ الشباب: أوله، وقيل: نضارته وقوته. قوله: "وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتل أصحاب الصوامع ... " إلى آخره، ذكر هذا شاهدًا لقوله، فدلَّ ذلك أن من أبيح قتله هو الذي يقاتل، وأصحاب الصوامع لا يقاتلون؛ لأن الناس آمنون من جهتهم؛ لأنهم قد حبسوا أنفسهم عن الناس وانقطعوا للعبادة في زعمهم حتى إذا كانوا ذوي رأي وتدبير في الحرب يُقتلون، وهذا لا خلاف فيه. وقوله: "حدثنا ابن مرزوق ... " إلى آخره، بيان لقوله: "وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن قتل أصحاب الصوامع". وإسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن شيخ من أهل المدينة مولى لبني عبد الأشهل، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- كان إذا بعث جيوشه، قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع" انتهى. وأراد بهم: الرهابين والمنقطعين فيها. والصوامع: جمع صومعة، وهي متعبد النصارى. وذكرها الجوهري في باب "صمع"، فقال: أتانا بثريدة مصمعة: إذا دققت وحدد رأسها، وصومعة النصارى فوعلة من هذا؛ لأنها دقيقة الرأس. ... ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 484 رقم 33132).

ص: باب: الرجل يقتل قتيلا في دار الحرب هل يكون له سلبه أم لا؟

ص: باب: الرجل يقتل قتيلاً في دار الحرب هل يكون له سلبه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقتل محاربًا من أهل الحرب هل يكون له سلبه أم لا؟ والسَّلَب: بفتحتين على وزن فَعَل بمعنى مفعول أي مسلوب، وهو ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه، مما يكون عليه ومعه من سلاح وثياب ودابة وغيرها. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا ابن الماجشون, قال: ثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل السلب للقاتل". ش: إسناده صحيح. وسعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود. وابن الماجشون هو يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، روى له الجماعة. وصالح بن إبراهيم روى له الشيخان. وأبوه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، يقال: إنه ولد في حياة النبي -عليه السلام-، وشهد الدار مع عثمان -رضي الله عنه-، قال العجلي: تابعي ثقة مدني. روى له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وجده عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يوسف بن يعقوب الماجشون، عن صالح بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف قال: "بينا أنا واقف يوم بدر في الصف؛ نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين حديثة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1144 رقم 2972).

أسنانهما من الأنصار، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمّ، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله -عليه السلام-، والذي نفسي بيده لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت من ذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل نزل في الناس، فقلت لهما: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألان، فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاهما قتله. فقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، واسم الآخر معاذ بن عفراء". وأخرجه مسلم أيضًا (¬1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: أنا يوسف بن الماجشون ... إلى آخره نحوه. ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن الجميل، عن شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "أنفذت رجل من المشركين، فأمر النبي -عليه السلام- الزبير فخرج إليه فقتله، فجعل له النبي -عليه السلام- سلبه". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وشريك هو ابن عبد الله النخعي. وعبد الكريم بن مالك الجزري، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) مرسلاً: ثنا وكيع، قال: نا سفيان، عن عبد الكريم، عن عكرمة: "أن الزبير بارز رجلاً فقتله. قال: فنفله النبي -عليه السلام- سَلَبَهُ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1372 رقم 1752). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 479 رقم 33092).

وأخرج البيهقي (¬1): من حديث سفيان الثوري، عن عبد الكريم، عن عكرمة، قال: "قال يهودي يوم قريظة: من يبارز؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: قم يا زبير، فقالت صفية: يا رسول الله، واحدي، فقال رسول الله -عليه السلام-: أيهما علا صاحبه قتله، فعلاه الزبير فقتله، فنفله رسول الله -عليه السلام- سلبه". قال البيهقي: ويروى بذكر ابن عباس فيه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو السكسكي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن خالد بن الوليد وعوف بن مالك: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى بالسلب للقاتل". ش: أبو بكرة بكار القاضي. وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي. وإسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي العنسي -قال دحيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين، روى له الأربعة. وصفوان بن عمرو بن هرم السكسكي الحمصي، روى له الجماعة، البخاري في غير الصحيح. وعبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح. وأبوه جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي. وعوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا سعيد بن منصور، قال: نا إسماعيل بن عياش ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن لفظه: "قضي في السلب للقاتل ولم يخمس السلب". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 308 رقم 12554). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 72 رقم 2721).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا صفوان بن عمرو، قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف ابن مالك الأشجعي. قال: وثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك قال: "قلت لخالد بن الوليد يوم مؤتة: ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخمس السَّلَب؟ قال: نعم". ش: إسناد صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه أبو داود مطولاً (¬1): ثنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورًا فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه إياها فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر وعليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر، وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فأخذ السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل، قال: بلى، ولكني استكثرته، قلت: لتردنه أو لأعرفنكها عند رسول الله -عليه السلام-، فأبى أن يرد، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله -عليه السلام- فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد -رضي الله عنه-، فقال رسول الله -عليه السلام-: ياخالد، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله، استكثرته، فقال رسول الله -عليه السلام-: يا خالد رد عليه ما أخذت منه، قال عوف: فقلت: دونك يا خالد، ألم أفِ لك؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: وما ذلك؟ قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 71 رقم 2719).

فأخبرته، قال: فغضب رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا خالد، لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره". قال أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا الوليد، قال: سألت ثورًا عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن زهير بن حرب، عن الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي ... إلى آخره نحوه. قوله: "يوم مؤتة" بضم الميم وسكون الواو وفتح التاء المثناة من فوق، قال الجوهري: مؤتة بالهمز اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وقال ابن الأثير: هو موضع ببلاد الشام. قلت: هي قرية في قبلي الكرك على بعض مرحلة منها، وبها قبر جعفر الطيار وأصحابه -رضي الله عنهم-. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد، عن أبي قتادة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل أبا قتادة سَلَب قتيل قتله". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. وسفيان هو ابن عيينة. ويحيى بن سعيد الأنصاري. وأبو محمد اسمه نافع مولى أبي قتادة. وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 72 رقم 2720). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1374 رقم 1753).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ... إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري ومسلم مطولاً على ما يأتي. قوله: "نَفَّل" من التنفيل، وهو أن يعطي الإِمام لقاتل القتيل سلبه زيادة على ما يخصه من الغنيمة. والنَّفَلُ -بالتحريك-: الغنيمة، ويجمع على أنفال، والنَّفْلُ -بالسكون وقد يحرك-: الزيادة، فافهم. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة ابن ربعي -رضي الله عنه- أنه قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة حتى قطعت الدرع؛ فأقبل عليَّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلقيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، فقال رسول الله -عليه السلام-: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبه، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثانية، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما لك يا أبا قتادة؟! فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي فارضه مني يا رسول الله، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: لا هاء الله إذًا، لا يعمد إلى أَسَد من أُسْد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله -عليه السلام-: صدق، فأعطه إياه، فقال أبو قتادة: فأعطانيه، فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإِسلام". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 131 رقم 1562).

ش: الحديث أخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك نحوه. ومسلم (¬3): عن أبي الطاهر، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. والترمذي (¬4): عن الأنصاري، عن معن، عن مالك مختصرًا. قوله: "عام حنين" كان عام حنين سنة ثمان من الهجرة. قوله: "جولة" من جَالَ يَجُولُ جَوْلةً: إذا دار. قوله: "على حبل عاتقه" هو موضع الرداء من العنق، وقيل: ما بين العنق والمنكب، وقيل: هو عرق أو عصب هناك، ومنه قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬5). الوريد: عرق في العنق، وهو الحبل أيضًا فأضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. قوله: "لا هاء الله إذًا لا يعمد" هكذا جاء الحديث "لا هاء الله إذا" والصواب "لا هاء الله ذا" بحذف الهمزة، ومعناه: لا والله لا يكون ذا، أو: لا والله الأمر ذا، فحذف تخفيفًا, ولكن في ألف "ها" مذهبان: أحدهما: تثبت ألفها؛ لأن الذي بعدها مدغم مثل دابة. والثاني: أن يحذفها لالتقاء الساكنين. قوله: "إلى أَسَد من أُسْد الله" الأول: بفتح الهمزة والسين مفرد، والثاني: بضم الهمزة وسكون السين، جمع أسد. قوله: "فابتعت به مِخرفًا" أي اشتريت به مِخرفًا، والمخرف -بكسر الميم-: ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 454 رقم 973). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1144 رقم 2973). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1370 رقم 1751). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 131 رقم 1562). (¬5) سورة ق، آية: [16].

الجنينة الصغيرة، قاله ابن وهب. وقال غيره: هو ما يخرف أي يحفظ ويجتنى، وهو الحائط الذي فيه تمر قد طاب وبدا صلاحه، قالوا: والحائط يقال له بالحجاز: الخارف، والخارف بلغة اليمن: الذي يجنى لهم الرطب، وقال الأخفش: المِخْرف -بكسر الميم-: القطعة من النخل التي يخترف منها التمر، والمخرف بفتح الميم المحل أيضًا. والمَخْرف -بفتح الميم-: النخل أيضًا. قوله: "تأثلته" أراد به أول مال اقتناه وجمعه، ومن اكتسب ما يبقى فقد تأثل، قال امرؤ القيس: وَلَكِنَّمَا أسعى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَد يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالي يقال: مال مؤثل ومجد مؤثل، أي مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء: أصله. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي قتادة: "أنه قتل رجلاً من المشركين، فنفله رسول الله -عليه السلام- سَلَبَهُ ودرعه، فباعه بخمسه أواق". ش: هذا طريق آخر: عن ابن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن المبارك بن فضالة البصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال- عن عبيد الله بن أبي جعفر المصري الفقيه، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي قتادة الحارث بن ربعي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة ... إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- يوم حنين: من قتل قتيلاً فله سلبه، فَقَتَلَ أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً فأخذ أسلابهم". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 307 رقم 22667).

ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل: قال: ثنا حماد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله -عليه السلام- يومئذ -يعني يوم حنين-: من قتل كافرًا فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني سلمة بن الأكوع قال: "غزونا مع رسول الله -عليه السلام- هوازن فقتلت رجلاً، ثم جئت بجمله أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله -عليه السلام- والناس معه، فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه مسلم مطولاً (¬2): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا عمر بن يونس الحنفي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة، قال: ثنا -أبي سلمة بن الأكوع- قال: "غزونا مع رسول الله -عليه السلام- هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله -عليه السلام-، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقًا من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل فأتبعه رجل على ناقة ورقاء، قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 71 رقم 2718). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1374 رقم 1754).

بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله -عليه السلام- والناس معه، فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع. قال: له سلبه أجمع". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: حدثنا أبو عميس، عن ابن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عين من المشركين وهو في سفر، فجلس فتحدث عند أصحابه ثم انسل، فقال النبي -عليه السلام-: اطلبوه فاقتلوه، فسبقتهم فقتلته وأخذت سلبه، فنفلني إياه". ش: إسناده صحيح. وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري. وأبو عميس عتبة بن عبد الله المسعودي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري في "الجهاد" (¬1): عن أبي نعيم، عن أبي عميس ... إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم في "المغازي" (¬2): عن زهير بن حرب ... إلى آخره نحو معناه. قوله: "عين" أي جاسوس، يقال: اعتان له: إذا أتاه بالخبر. قوله: "ثم انسل" من الانسلال وهو أن يغافل الناس ويذهب. وفي الحديث: جواز قتل جاسوس أهل الحرب، وجواز تنفيل الإِمام سَلَبَ المقتول لقاتله. واعلم أن الطحاوي قد أخرج أحاديث تنفيل السَّلَب عن سبعة أنفس من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم: عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وخالد بن الوليد وعوف بن مالك الأشجعي وأبو قتادة الأنصاري وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1110 رقم 2886). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1374 رقم 1754).

ولما أخرج الترمذي حديث أبي قتادة قال: وفي الباب عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد وأنس وسمرة بن جندب. قلت: وفي الباب عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن سهل بن أبي حثمة وخزيمة بن ثابت -رضي الله عنهم-. أما حديث سمرة بن جندب: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن أبي مالك الأشجعي، عن نعيم بن أبي هند، عن ابن سمرة بن جندب، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من قتل فله السلب". وأما حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فأخرجه البيهقي (¬2): من حديث أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سالم، عن أبيه قال: "لقينا العدو مع رسول الله -عليه السلام- فطعنت رجلاً فقتلته، فنفلني رسول الله -عليه السلام- سلبه". قال البيهقي: هذا حديث غريب. وأما حديث جابر بن عبد الله: فأخرجه البيهقي أيضًا (¬3): من حديث الواقدي، حدثني سليمان بن بلال، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: "أصيبت بغزوة مؤتة ناس من المسلمين، وغَنِمَ المسلمون بعض أمتعة المشركين، فكان مما غنموا خاتمًا جاء به رجل إلى رسول الله -عليه السلام-، قال: قتلت صاحبه يومئذٍ، فنفله رسول الله -عليه السلام- إياه". وأما حديث محمد بن سهل بن أبي حثمة: فأخرجه الواقدي: من حديث موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة، قال: "لما حول رسول الله -عليه السلام- إلى الشق -يعني من خيبر- خرج رجل من اليهود فصاح: من يبارز؟ فبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فضربه ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 478 رقم 33082). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 307 رقم 12547). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 308 رقم 12555).

فقطع رجليه ثم دفف عليه وأخذ سلبه درعه وسيفه، فجاء به إلى رسول الله -عليه السلام-، فنفله". وأخرجه البيهقي (¬1) من طريق الواقدي. وقال الذهبي: هذا منقطع، والواقدي واهٍ. قلت: محمد بن سهل بن أبي حثمة ذكره بعض الحفاظ في الصحابة. قاله ابن الأثير. وأما حديث خزيمة بن ثابت: فأخرجه الواقدي أيضًا: حدثني بكير بن مسمار، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، قال: "حضرت مؤتة، فبارزني رجل منهم يومئذٍ فأصبته وعليه بيضة فيها ياقوتة، فلم تكن همتي إلا الياقوتة فأخذتها، فلما رجعت إلى المدينة أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفلنيها فبعتها زمن عثمان -رضي الله عنه- بمائة دينار، فاشتريت بها حديقة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن كل من قتل قتيلاً في دار الحرب فله سلبه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وأبا عبيد فإنهم قالوا: السلب للقاتل على كل حال، قال ذلك الإِمام أو لم يقله، إلا أن الشافعي قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيله مقبلاً عليه، وأما إذا قتله مدبرًا عنه فلا سلب له. وقال ابن قدامة: السلب للقاتل إذا قتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وابن المنذر. وقال مسروق: إذا التقى الرجعان فلا سلب له إنما النفل قبله وبعده، ونحوه قول نافع، وكذلك قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم: السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها إلى بعض، فإذا كان كذلك فلا سلب لأحد. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 309 رقم 12560).

وقال ابن قدامة أيضًا: القاتل يستحق السلب، قال ذلك الإِمام أو لم يقل. وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيدة وأبو ثور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يكون السلب للقاتل إلا أن يكون الإِمام قال: من قتل قتيلاً فله سلبه؛ فإن كان قال ذلك ليحرض الناس على القتال في وقت يحتاج فيه إلى تحريضهم على ذلك فهو كما قال، وإن لم يقل من ذلك شيئًا فمن قتل قتيلاً فسلبه غنيمة وحكمه حكم الغنائم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الثوري وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا، فإنهم قالوا: السلب من غنيمة الجيش حكمه حكم سائر الغنيمة إلا أن يقول الإِمام: من قتل قتيلاً فله سلبه. فحينئذٍ يكون له. وقال ابن قدامة: قال أبو حنيفة والثوري: لا يستحق القاتل السلب إلا أن يشترطه الإِمام له. وقال مالك: لا يستحقه إلا أن يقول الإِمام ذلك، ولم ير أن يقول الإِمام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب، وجعلوا السلب من جملة الأنفال. وقد روي عن أحمد مثل قولهم، وهو اختيار أبي بكر. وقال أيضًا: قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذ السلب إلا بإذن الإِمام، وهو قول الأوزاعي، وقال ابن المنذر والشافعي: له أخذه بغير إذنه. ص: وكان من الحجة لهم فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأول من الآثار التي رويناها: أن قول خالد بن الوليد وعوف بن مالك -رضي الله عنهما-: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلب للقاتل" فقد يجوز أن يكون ذلك لقول كان قد تقدم منه قبل ذلك جعل به سلب كل مقتول لمن قتله، وكذلك ما ذكر فيه من هذه الآثار التي جعل النبي -عليه السلام- السلب للقاتل، فقد يجوز أن يكون لهذا المعنى أيضًا. ومما يدل أن السلب لا يجب للقاتل: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، قال: ثنا يوسف بن

الماجشون، قال: حدثني صالح بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: "إني لقائم يوم بدر بين غلامين حديثة أسنانهما، تمنين لو أني بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمّ أتعرف أبا جهل؟ فقلت: وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله -عليه السلام-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فعجبت لذلك، وغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه فضرباه بسيفهما حتى قتلاه، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: أمسحتما بسيفيكما؟ قالا: لا، قال: في النظر في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح. والآخر: معاذ بن عفراء. أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قال في هذا الحديث: "إنكما قتلتماه" ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر؟! ففي هذا دليل على أن السلب لو كان واجبًا للقاتل بقتله إياه لكان قد وجب سلبه لهما، ولم يكن النبي -عليه السلام- ينتزعه من أحدهما فيدفعه إلى الآخر، ألا ترى أن الإِمام لو قال: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل رجلان قتيلاً أن سلبه لهما نصفان؟ وأنه ليس للإِمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه إلى الآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثل ما لصاحبه وهما أولى به من الإِمام، فلما كان للنبي -عليه السلام- في سلب أبي جهل أن يجعله لأحد قاتليه دون الآخر؛ دلَّ ذلك أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ: من قتل قتيلاً فله سلبه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتج به عليهم أهل المقالة الأولى من الأحاديث المذكورة، وأراد بذلك: الجواب عنها.

تقريره: أن الاستدلال بالأحاديث المذكورة في كون السلب للقاتل على كل حال لا يتم؛ لأنه قد يجوز أن يكون كون السلب للقاتل في الأحاديث المذكورة؛ لأجل قول قد كان تقدم من النبي -عليه السلام- بأن كان قد جعل سلب كل قتيل لمن قتله فحينئذٍ لا يكون السلب للقاتل إلا بقول الإِمام: "من قتل قتيلاً فله سلبه" ولم يكن السلب واجبًا للقاتل بقتله إياه، والدليل على ذلك: حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-، فإن رسول الله -عليه السلام- قد قال فيه للذين قتلا أبا جهل لعنه الله: "إنكما قتلتماه" ثم حكم بالسلب لأحدهما دون الآخر فدلَّ ذلك أن السلب لم يجب للقاتل بسبب قتله؛ إذ لو كان كذلك لكان رسول الله -عليه السلام- حكم بسلب أبي جهل بينهما، فلما جعله لأحدهما دون الآخر دلّ ذلك أنه -عليه السلام- لم يكن قال يومئذٍ: من قتل قتيلاً فله سلبه. وإسناد هذا الحديث صحيح. وقد ذكره الطحاوي بعينه في أول الباب، غير أن هناك: عن إبراهيم بن أبي داود، عن سعيد بن سليمان الواسطي. وها هنا عن إبراهيم بن أبي داود، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري. وإبراهيم بن حمزة هذا روى عنه البخاري في "صحيحه" وأبو داود في "سننه". والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في أول الباب (¬1). قوله: "إني لقائم" "اللام" فيه للتأكيد؛ فلهذا جاءت مفتوحة. قوله: "تمنيت لو أني بين أضلع منهما" أي بين أشد وأقوى من الرجلين اللذين كنت بينهما، وأضلع: أفعل التفصيل من الضلاعة وهي القوة، يقال: اضطلع بحمله: أي قوي عليه ونهض به. قوله: "لا يفارق سوادي سواده" أي شخصي شخصي، وإنما سمي الشخص سوادًا؛ لأنه يرى من بعيد أسود. ¬

_ (¬1) تقدم.

قوله: "فلم أنشب" أي فلم ألبث، يقال: نشب بعضهم في بعض أي دخل وتعلق، ونشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا: أي لم يلبث، وحقيقته: لم يتعلق بشيء غيره ولا بسواه. ص: وقد حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، قال: حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- قال: "خرج رسول الله -عليه السلام- إلى بدر، فلقي العدو، فلما هزمهم الله؛ اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستولت طائفة بالعسكر والنهب، فلما نفى الله -عز وجل- العدو ورجع الذين طلبوهم؛ قالوا: لنا النفل؛ نحن طلبنا العدو وبنا نفاهم الله -عز وجل- وهزمهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله -عليه السلام-: ما أنتم بأحق به منا، بل هو لنا؛ نحن أحدقنا برسول الله -عليه السلام-؛ لا ينال منه العدو غرة، وقال الدين استولوا على العسكر والنهب: والله ما أنتم بأحق به منا؛ نحن حويناه واستوليناه. فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) فقسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم عن بواءٍ، أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لم يفضل في ذلك الدين تولوا القتل على الآخرين؟ فثبت بذلك أن سلب المقتول لا يجب للقاتل بقتله صاحبه ما بجعل الإِمام إياه له على ما فيه صلاح المسلمين من التحريض على قتال عدوهم. وقد حدثنا فهد، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن بديل بن ميسرة العقيلي، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل من بلقين، قال: "أتيت النبي -عليه السلام- وهو بوادي القرى، فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ قال: لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم. قلت: فهل أحد أحق بشيء من المغنم من أحد؟ قال: لا، حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أخيه". ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [1].

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل من بلقين، عن رسول -عليه السلام- مثله. أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- جعل الغنيمة خمسًا منها لله تعالى وأربعة أخماسه لأصحابه، وبين في ذلك فقال: حتى لو أن أحدكم رمي بسهم في جنبه فنزعه لم يكن أحق به؟ فدلّ ذلك أن كل ما تولاه الرجل في القتال وكل ما تولاه غيره ممن هو حاضر القتال أنهما فيه سواء. ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن القاتل لا يستحق سلب المقتول إلا بقول الإِمام: من قتل قتيلاً فله سلبه. وهذا كله كلام ظاهر. ثم إنه أخرج حديث عبادة بن الصامت بإسنادٍ لا بأس به: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان -فيه مقال- عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي المدني، وثقه ابن حبان وابن سعد، وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له الأربعة. عن سليمان بن موسى أبي أيوب الدمشقي الأشدق، قال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه. وروى له مسلم في مقدمة كتابه، والأربعة. وهو يروي عن مكحول الشامي، روى له الأربعة البخاري في غير "الصحيح". عن أبي سلام الأسود، واسمه ممطور الحبشي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن أبي أمامة الباهلي الصحابي، واسمه صدي بن عجلان. عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.

وأخرجه الطبراني: ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام الباهلي، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت أنه قال: "خرج رسول الله -عليه السلام- إلى بدر فلقي العدو، فلما هزمهم الله تعالى اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله -عليه السلام-، واستولت طائفة بالعسكر والنهب، فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا: لنا النفل؛ نحن طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم، وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: والله ما أنتم بأحق منا؛ نحن حويناه واستولينا عليه، فأنزل الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) فقسمه رسول الله -عليه السلام- بينهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث، وقال: أخذ [يوم] (¬2) حنين وبرة من جنب بعير، فقال: يا أيها الناس، لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة، وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يُذْهِب الله به الهم والغم، قال: فكان رسول الله -عليه السلام- يكره الأنفال، وقال: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم". قوله: "خرج رسول الله -عليه السلام- إلى بدر" وكان خروجه -عليه السلام- إلى بدر في ليالي مضت من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة، وكانت الوقعة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، وكانت مدة غيبته -عليه السلام- تسعة عشر يومًا. قوله: "غرة" أي غفلة من اغتررت الرجل: إذا طلبت غرته: أي غفلته. قوله: "نحن حويناه" أي جمعناه. قوله: "عن بواء" بالباء الموحدة المفتوحة، أي عن سواء. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [1]. (¬2) تكررت في "الأصل".

وأخرج حديث رجل من بلقين من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن بديل بن ميسرة العقيلي البصري روى له الجماعة غير البخاري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن رجل من بَلْقِين -بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون- يقال لبني القين من بني أسد: بلقين، كما يقال: بلحارث وبلهجيم، وهو من شواز التخفيف، والنسبة إليه قيني، ولا يقال: بلقيني، والقين في اللغة: الحداد. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل من بلقين قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- وهو بوادي القرى، فقلت: يا رسول الله بم أمرت؟ قال: أمرت أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة. قلت: يا رسول الله من هؤلاء؟ قال: المغضوب عليهم يعني اليهود. قلت: من هؤلاء؟ قال: الضالين. قال: النصارى. قلت: فلمن المغنم يا رسول الله؟ قال: لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم. قلت: فهل أحد أحق من أحد؟ قال: لا، حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أحد". والثاني: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري ... إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬2): من حديث عبد الله بن شقيق، عن رجل من بلقين ... إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (13/ 131 رقم 7179). (¬2) "المحلى" (7/ 250) رقم المسألة (954).

قوله: "بوادي القرى [. . . . . . .] (¬1). قوله: "لمن المَغْنَم" المغنم بفتح الميم، والغُنْم بضم الغين، والغنيمة كلها سواء، وهو المال الذي يؤخذ من أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب، يقال: غَنِمْتُ أَغْنَمُ غَنْمًا وغَنِيمة، وتجمع على مغانم، والغنيمة على غنائم، والغُنْم -بالضم-: الاسم، وبالفتح: المصدر، والغانم آخذ الغنيمة، والجمع الغانمون. ومما يستفاد من الحديث المذكور: أنه يدل على أن أحدًا من الغزاة لا يختص بشيء من الغنيمة إلا بتعيين الإِمام له من سلب المقتول، وأن الذي يتولى القتال والذي يحضره ولا يتولاه سواء. وقد شنع ابن حزم ها هنا وقال: هذا الحديث عن رجل مجهول لا يدرى أصدق في ادعائه الصحبة أم لا؟ ولئن سلمنا صحبته ليس لكم فيه حجة؛ لأن الخمس من جملة الغنيمة يستحقه دون أهل الغنيمة من لم يشهد الغنيمة بلا خلاف، وأيضًا فهذا الحديث حجة عليكم؛ لأنكم تقولون: إن القاتل أحق بالسلب من غيره إذا قال الإِمام: من قتل قتيلاً فله سلبه. قلت: جهالة الصحابي لا تضر صحة الحديث، وطعنه بهذا ساقط. وقد أخرج الله الخمس من جملة الغنيمة وجعل له مصرفًا معينًا. وأما كون القاتل أحق بالسلب من غيره فبتخصيص الشارع له إياه، فيكون هذا أيضًا خارجًا عن جملة الغنيمة؛ إذ لو كانت من الغنيمة لتساوى فيها أهل الغنيمة كلهم، فافهم. ص: فإن قال قائل: إن الذي ذكرتموه من سَلَب أبي جهل، وما ذكرتموه في عبادة إنما كان ذلك في يوم بدر قبل أن تجعل الأسلاب للقاتلين، ثم جعل رسول الله -عليه السلام- يوم حنين الأسلاب للقاتلين، فقال: من قتل قتيلاً فله سلبه، فنسخ ذلك ما تقدمه. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف، وقال في "عمدة القاري" (6/ 190): قوله: "بوادي القرى": هو من أعمال المدينة، وقال ابن السمعاني: وادي القرى مدينة بالحجاز مما يلي الشام، فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة لما انصرف من خيبر بعد أن امتنع أهلها وقاتلوا.

قيل له: ما دل ما ذكرت على نسخ شيء مما تقدمه؛ لأن ذلك القول الذي كان من رسول الله -عليه السلام- يوم حنين قد يجوز أن يكون أراد به من قتل قتيلاً في [تلك] (¬1) الحرب لا غير ذلك؛ كما قال يوم فتح مكة شرفها الله تعالى: "منن ألقى سلاحه فهو آمن" فلم يكن ذلك على كل من ألقى سلاحه في غير تلك الحرب، ولما ثبت أن الحكم كان قبل يوم حنين أن الأسلاب لا تجب للقاتلين، ثم حدث في يوم حنين هذا القول من رسول الله -عليه السلام-؛ فاحتمل أن يكون ناسخًا لما تقدم، واحتمل أن لا يكون ناسخًا له؛ لم نجعله ناسخًا له حتى نعلم ذلك يقينًا، ومما قد دل أيضًا على أن ذلك القول ليس بناسخ لما كان قبله من الحكم: أن يونس حدثنا، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، أن البراء بن مالك أخا أنس بن مالك بارز مرزبان الزارة فطعنه طعنة فكسر القربوس وخلص إليه فقتله فقوم سلبه ثلاثين ألفًا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر -رضي الله عنه- فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلَبَ البراء قد بلغ مالاً، ولا أرانا إلا خامسيه. فقومنا ثلاثين ألفًا فدفعنا إلى عمر -رضي الله عنه- ستة آلاف". فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول: "إنا كنا لا نخمس الأسلاب" ثم خمس سلب البراء، فدل ذلك أنهم كانوا لا يخمسون ولهم أن يخمسوا، وأن الأسلاب لا تجب للقاتلين دون أهل العسكر، وقد حضر عمر -رضي الله عنه- ما كان من قول رسول الله -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فلم يكن ذلك عنده على كل من قتل قتيلاً في [تلك] (1) الحرب خاصةً. وقد كان أبو طلحة -رضي الله عنه- حضر ذلك أيضًا بحنين وقضى له رسول الله -عليه السلام- بأسلاب القتلى الذين قتلهم فلم يكن ذلك عنده موجبًا لخلاف ما أراد عمر -رضي الله عنه- في سلب المرزبان، وقد كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- حاضرًا ذلك أيضًا من رسول الله -عليه السلام- بحنين، ومن عمر -رضي الله عنه- في يوم البراء، فكان ذلك عنده على ما رأى عمر -رضي الله عنه- لا على خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ذلك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- لم يجعلوا قول رسول -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه" على النسخ للحكم المتقدم لذلك في يوم بدر. ش: تقرير السؤال أن يقال لأهل المقالة الثانية: إن استدلالكم -بحديث عبد الرحمن بن عوف الذي جعل فيه رسول الله -عليه السلام- سَلَب أبي جهل لأحد قاتليه دون الآخر، وبحديث عبادة بن الصامت الذي لم يفضل فيه رسول الله -عليه السلام- الطائفة الذين تولوا القتل على الآخرين- لا يتم ولا يصح ولا تقوم به دعواكم في أن السلب لا يجب للقاتل بقتله ولا يكون له إلا بقول الإِمام: من قتل قتيلاً فله سلبه تحريضًا للناس على القتال لما يرى فيه من مصلحة المسلمين؛ وذلك لأن هذا كان يوم بدر قبل أن تجعل الأسلاب للقاتلين، ثم جعل رسول الله -عليه السلام- يوم حنين الأسلاب للقاتلين، فقال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فنسخ هذا الحكم ما تقدمه من الحكم الذي كان يوم بدر، وكان بين بدر وحنين أعوام؛ لأن غزوة بدر كانت في سنة ثنتين من الهجرة، وغزوة حنين كانت في سنة ثمان من الهجرة، فثبت بذلك أن السَلَبَ للقاتل على كل حال سواء قال الإِمام: "من قتل قتيلاً فله سلبه" أو لم يقل. وقال ابن حزم (¬1): وكل من قتل قتيلاً من المشركين فله سلبه، قال ذلك الإِمام أو لم يقله، كيف ما قتله صبرًا أو في القتال، ثم استدل على ذلك بحديث أبي قتادة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال بعد انقضاء القتال يوم حنين: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه". والجواب عن ذلك ظاهر، قد أمعن فيه الطحاوي -رحمه الله-، وأيده بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أنس. ¬

_ (¬1) "المحلى" لابن حزم (7/ 247) رقم المسألة (955).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان السلب لا يخمس، وكان أول سلب خمس في الإِسلام سلب البراء بن مالك وكان قتل مرزبان الزارة وقطع منقطته وسواريه، فلما قدمنا المدينة صلى عمر -رضي الله عنه- الصبح، ثم أتانا وقال: السلام عليكم، أثمَّ أبو طلحة؟ فقالوا: نعم، فخرج إليه، فقال عمر -رضي الله عنه-: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء مالٌ، وإني خامسه، فدعا المقومين فقوموا ثلاثين ألفًا، فأخذ منها ستة آلاف". قوله: "بارز مرزبان الزارة" من المبارزة في الحرب، وهو أن يظهر بين الصفوف ويطلب المحاربة مع شجاع مثله من الطائفة المخالفين. و"المَرْزُبان" بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي وبالباء الموحدة وفي آخره نون، هو الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك وهو معرب ويجمع على مرازبة، و"الزَّارَة" بالزاي وفتح الراء المخففة لقب للمرزبان المبارز كما يلقب بالأسد. قوله: "فكسر القربوس" بفتح القاف والراء مثل طرسوس، وقال الجوهري: لا يخفف إلا في الشعر؛ لأن فعلولاً ليس من أبنيتهم. قوله: "إنا كنا لا نخمس الأسلاب" من خَمَسَ يَخْمُس -بتخفيف الميم- من باب نَصَرَ يَنْصُر، يقال: خَمَسْت القوم أَخْمُسُهم -بالضم- إذا أخذت منهم خمس أموالهم. قوله: "ولا أرانا" بضم الهمزة "إلا خامسيه" أصله إلا خامسين إباه فسقطت النون للإضافة. ومما دل هذا الحديث: على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين ولا تختص بهم دون أهل العسكر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 479 رقم 33089).

وقال أبو عمر: هذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير ولو كان للقاتل قضاء من النبي -عليه السلام- ما احتاج هؤلاء -يعني عمر بن الخطاب وأبا طلحة وأنس بن مالك -رضي الله عنهم- أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم بإجتهادهم، ولأخذه القاتل بدون أمرهم. فإن قيل: قال البيهقي (¬1): قال الشافعي: هذه الرواية عن عمر -رضي الله عنه- ليست من روايتنا وله رواية عن سعد بن أبي وقاص في زمان عمر تخالفها، ثم قال الشافعي: أنا ابن عيينة، عن الأسود بن يزيد، عن رجل من قومه يقال له شبر بن علقمة قال: "بارزت رجلاً يوم القادسية فقتلته، فبلغ سلبه اثنى عشر ألفا فنفلنيه سعد -رضي الله عنه-". قلت: الرواية بالتخميس عن عمر -رضي الله عنه- صحيحة وإن لم تكن من رواية الشافعي؛ فإن الطحاوي: أخرجها عنه بإسناد صحيح. وكذلك أخرجها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) بإسناد وصحيح. والرواية عن سعد ليست بمخالفة لذلك في المعنى، بل موافقة، فدلتا الروايتان على أن الأمر في ذلك مفوض إلى رأي الإِمام، فرأى عمر -رضي الله عنه- المصلحة في التخميس، ورأى سعد المصلحة في تنفيل ذلك لشبر، وقد ذكر أبو عمر قضية شبر ثم قال: وهذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير دون القاتل. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا يحيى بن حمزة، قال: حدثني عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، أن أباه أخبره: "أنه سأل مكحولاً: أيخمس السَّلب؟ فقال: حدثني أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن البراء بن مالك بارز رجلاً من عظماء فارس فقتله، فأخذ البراء سلبه، فكُتِبَ فيه إلي عمر -رضي الله عنه-، فكتب عمر -رضي الله عنه- إلى الأمير: أن اقبض إليك خمسه وادفع إليه ما بقي، فقبض الأمير خمسه. فهذا مكحول قد ذهب أيضًا في الأسلاب إلى ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 311 رقم 12569). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 478 رقم 33087)، (6/ 553 رقم 33753)، (6/ 553 رقم 33754).

وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد، قال: "سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال؟ فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الفرس من النفل، ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك أيضًا، ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله -عز وجل- في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مالك، عن الزهرى، عن القاسم بن محمد: "أن رجلاً سأل ابن عباس عن الأنفال، فقال: الفرس والسلب من الأنفال". حدثنا يونس وربيع المؤذن، قالا: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: أخبرني الزهري، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: "كنت جالسًا عنده فأقبل رجل من أهل العراق فسأله عن السلب، فقال: السلب من النفل، وفي النفل الخمس". فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- جعل في السَلَب الخُمس، وجعله من الأنفال، وقد كان عَلِمَ من رسول الله -عليه السلام- ما قد ذكرناه في أول الباب من تسليمه إلى الزبير سلب القتيل الذي كان قتله. فدل ذلك أن ما تقدم من رسول الله -عليه السلام- يوم بدر لم يكن عند ابن عباس منسوخًا، وأن ما قضى به من سلب القتيل الذي قتله الزبير -رضي الله عنه- إنما لقول كان تقدم منه أو لمعنى غير ذلك. فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن السلب لا يجب للقاتل إلا بقول الإِمام: من قتل قتيلاً فله سلبه؛ وذلك لأن مكحولاً روى عن أنس ما يدل على ذلك، وأنه ذهب في الأسلاب إلى ما ذكر هؤلاء، وكذلك ذكر القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يدل على ما ذكروه؛ لأنه جعل في السَّلَب الخُمْس وجعله من جملة الأنفال، والحال أنه قد كان

علم من النبي -عليه السلام- من تسليمه إلى الزبير بن العوام سلب القتيل الذي كان قتله على ما مرّ ذكره في أول الباب، فدلّ ذلك أن ما تقدم من النبي -عليه السلام- يوم بدر لم يكن عند ابن عباس منسوخًا، وأن ما حكم به النبي -عليه السلام- من سلب القتيل الذي قتله الزبير إنما كان لأجل قوله -عليه السلام-: "من قتل قتيلا فله سلبه"، أو لتخصيصه الزبير في ابتداء الأمر بسلب من يقتله، أو معنى غير ذلك. ثم اختلف العلماء في تخميس السلب. فقال ابن قدامة: لا يخمس السلب. روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وبه قال الشافعي وابن المنذر وابن جرير الطبري. وقال ابن عباس: يخمس. وبه قال الأوزاعي ومكحول؛ لعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). وقال إسحاق: إن استكثر الإِمام السلب خمسه وذلك إليه، ثم قال: إذا ثبت هذا فإن السَّلَب من أصل الغنيمة. وقال مالك: يحتسب من خُمْس الخمس. ثم إسناد حديث أنس صحيح ورجاله ثقات. ويحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي أبو عبد الرحمن الدمشقي روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي الزاهد، وثقه دحيم وأبو حاتم وابن حبان، وضعفه العجلي، وروى له الأربعة. وأبوه ثابت بن ثوبان الشامي العنسي الدمشقي، وثقة يحيى. وقال العجلي: لا بأس به. وأما حديث ابن عباس فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد، أنه قال: "سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال فقال: الفرس من النفل، والسَّلَب من النفل، قال: ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضًا، ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد أن يحرجه. ثم قال ابن عباس: أتدرون ما مثَلُ هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن مالك، عن محمد بن مسلم الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أبي بكر الصديق. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى وربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي كلاهما، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن القاسم بن محمد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا الضحاك بن مخلد، عن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن القاسم قال: "سئل ابن عباس عن السَّلَب؟ فقال: لا سلب إلا من النفل، وفي النفل الخمس". وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث قبيصة، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: "السلب من النفل، والنفل من الخمس". قوله: "الفرس من النفل" أي من الغنيمة. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال ابن قدامة: الدابة وما عليها من السلب إذا قتل وهو عليها، وكذلك ما عليه من الثياب والسلاح وإن كثر، فإن كان معه مال لم يكن من السلب. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 455 رقم 974). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 479 رقم 33096). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 132 رقم 12571).

وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى: أن الدابة ليست من السلب. وقال أيضًا: الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وجميع آلتها من السلب إذا كان راكبًا عليها، فإن كانت في منزله أو مع غيره لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه، فإن كان راكبًا عليها فصرعه عنها أو أسعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب. وهكذا قول الأوزاعي. وإن كان ممسكاً بعنانها غير راكب عليها، فعن أحمد فيها روايتان: إحداهما: هي من السلب، وهو قول الشافعي. والثانية: ليست من السلب، وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال. قوله: "حتى كاد يحرجه" أي يضيق عليه ويوقعه في الحرج. قوله: "مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-" وهو صبيغ بن عِسْل التميمي، وكان قدم المدينة وسأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن متشابه القرآن، وكانت عنده كتب؛ فضربه عمر -رضي الله عنه- حتى أدماه. وذكر حماد بن زيد بإسناده: "لقد رأيت صبيغًا بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحلق فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه". وروى سعيد بن المسيب قال: "جاء صبيغ إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن {وَالذَّارِيَاتِ} (¬1)، قال: الرياح، قال: فأخبرني عن {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (¬2) فقال: هي السحاب، قال: فأخبرني عن {فَالْجَارِيَاتِ} (¬3)، قال: هي السفن، ثم أمر به فضرب مائة، وجعله في بيت، فلما برئ، ضَرَبه مائة أخرى، وحمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى: امنع الناس من مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان، فكتب ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: [1]. (¬2) سورة الذاريات، آية: [2]. (¬3) سورة الذاريات، آية: [3].

بذلك أبو موسى إلى عمر، فكتب إليه عمر -رضي الله عنه-: ما إخاله صدق، حُل بينه وبين مجالسة الناس". ص: وأما وجه النظر في ذلك: فإنا قد رأينا الإِمام لو بعث سرية وهو في دار الحرب وتخلف هو وسائر أهل عسكره عن المضي معها فغنمت تلك السرية غنيمة، كانت تلك الغنيمة بينهم وبين سائر العسكر وإن لم يكونوا تولوا معهم قتالاً, ولا تكون هذه السرية أولى بما غنمت من سائر العسكر، وإن كانت قاتلت حتى كان عن قتالها ما غنمت، ولو كان الإِمام نفل تلك السرية لما بعثها الخمس مما غنمت كان ذلك لها على ما نفلها إياه الإِمام وكان ما بقي مما غنمت بينها وبين سائر أهل العسكر، فكانت السرية المبعوثة لا تستحق مما غنمت دون سائر أهل العسكر إلا ما خصها به الإِمام دونهم. فالنظر على ذلك أن يكون كذلك كل من كان من أهل العسكر في دار الحرب لا يستحق أخد شيء منه دون سائر أهل العسكر إلا أن يكون الإِمام نفله من ذلك شيئًا؛ فيكون ذلك له بتنفيل الإِمام لا لغير ذلك. فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وأما وجه القياس في هذا الباب. . . إلى آخره، وهو وجه صحيح ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان. قوله: "وهو في دار الحرب" أي والحال أن الإِمام كان في دار الحرب. قوله: "وتخلف هو" أي الإِمام "وبقية العسكر عن المضي معها" أي مع تلك السرية المبعوثة. قوله: "فكانت السرية المبعوثة. . . " إلى آخره وهو المقيس عليه. ص: وقد حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، قال: ثنا دحيم، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف. قال الوليد: وحدثني ثور، عن خالد بن معدان، عن جبير، عن عوف -وهو ابن مالك-: أن مدديًّا وافقهم في غزوة مؤتة، وأن روميًّا كان يشد على المسلمين

ويفري بهم، فتلطف له ذلك المددي فقعد له تحت صخرة، فلما مرّ به عرقب فرسه وخر الرومي لقفاه فعلاه بالسيف فقلته، فأقبل بفرسه بسرجه ولجامه وسيفه ومنطقته وسلاحه مذهب بالذهب والجوهر إلى خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، فأخد منه خالد طائفة ونفله بقيته، فقلت: يا خالد ما هذا؟ أما تعلم أن رسول الله -عليه السلام- نفل القاتل السلب كله؟ قال بلى، ولكني استكثرته، فقلت: أيم الله لأعرفنكها عند رسول الله -عليه السلام-، قال عوف: فلما قدمنا على رسول الله -عليه السلام- أخبرته خبره، فدعاه وأمره أن يدفع إلى المددي بقية سلبه، فولى خالد -رضي الله عنه- ليفعل، فقلت: كيف رأيت يا خالد أو لم أفِ لك بما وعدتك؟ فغضب رسول الله -عليه السلام- وقال: يا خالد لا تعطه، وأقبل علي فقال: هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد كان أمر خالدًا بدفع بقية السلب عليه إلى المددي فلما تكلم عوف بما تكلم به أمر رسول الله -عليه السلام- خالدًا أن لا يدفعه إليه؟ فدل ذلك أن السلب لم يكن واجبًا للمددي بقتله الذي كان ذلك السلب عليه؛ لأنه لو كان واجبًا له بذلك إذًا لما منعه رسول الله -عليه السلام- منه لكلام كان من غيره، ولكن رسول -عليه السلام- أمر خالدًا بدفعه إليه، وله دفعه إليه وأمره بعد ذلك بمنعه منه، وله منعه منه كقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأبي طلحة في حديث البراء: "قد بلغ مالاً عظيمًا ولا أُرَانا إلا خامسيه. قال: فخمسه" فأخبر عمر -رضي الله عنه- أنهم كانوا لا يخمسون الأسلاب ولهم أن يخمسوها، وأن تركهم خمسها إنما كان بتركهم ذلك لا لأن الأسلاب قد وجبت للقاتلين كما تجب لهم سهمانهم من الغنيمة، فكذلك ما فعله رسول الله -عليه السلام- في حديث عوف بن مالك من أمره خالدًا بما أمره به، ومن نهيه إياه بعد ذلك عما نهاه عنه إنما أمره بما له أن يأمر به، ثم نهاه عما له أن ينهاه عنه. وفيما ذكرنا دليل صحيح أن السلب لا يجب للقاتل من هذه الجهة. ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن السلب لا يجب للقاتل بقتله، ولا يجب إلا بقول الإِمام: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، وهو ظاهر من حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه-.

أخرجه بإسناد صحيح عن محمد بن عبد الرحيم الهروي -قال ابن أبي حاتم: هو صدوق. عن دحيم: وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي شيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه. عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة. عن صفوان بن عمرو السكسكي أبي عمرو الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي الحمصي، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن أبيه جبير بن نفير بن مالك الحضرمي الشامي الحمصي، روى له الجماعة؛ البخاري في "الأدب". عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن حنبل، نا الوليد بن مسلم، قال: حدثني صفوان بن عمرو. . . إلى آخره. قد ذكرنا تمامه في أوائل الباب؛ لأن الطحاوي أخرج هناك طرفاً من هذا الحديث عن ربيع المؤذن، عن أسد، عن الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك. وأخرجه مسلم أيضًا (¬2): عن زهير بن حرب، عن الوليد بن مسلم. وقد ذكرناه هناك. قوله: "إن مدديًّا وافقهم" أي إن رجلاً مدديًّا، وهو نسبة إلى المدد، و"مُؤتة" بضم الميم: موضع بالشام، وقد ذكرناها عن قريب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 71 رقم 2719). (¬2) تقدم ذكره.

قوله: "ويفري بهم" أي بالمسلمين، ومعناه يبالغ في النكاية والقتل، ومادته: فاء وراء. وقال الخطابي في "شرح سنن أبي داود": معناه شدة النكاية فيهم، يقال: فلان يفري الفري إذا كان يبالغ في الأمر، وأصل الفري: القطع. قوله: "فتلطف له" أي ترفق له. قوله: "عرقب فرسه" أي قطع عرقوبه، وهو العصب الغليظ الموتر فوق عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. قوله: "طائفة" أي شيئًا منه، والطائفة من الشيء: قطعة منه، وذكره الجوهري في باب الطوف ليعلم أنه أجوف واوي. قوله: "لأعرفنكها عند رسول الله -عليه السلام-" يريد: لأجازينك بها حتى تعرف صنيعك، قال الفراء: تقول العرب للرجل إذا أفاء إليه رجل: لأعرفن لك، أي لأجازينك عليه، يقول هذا لمن يتوعده: قد علمت ما علمت وعرفت ما صنعت، ومعناه: لأجازينك عليه لا أنك تقصد إلى أن تعرفه أنك قد علمت فقط، ومنه قوله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} (¬1) قرأ الكسائي بالتخفيف، وعاصم في إحدى الروايتين، ومعنى عَرَفَ: جازى، ومنه قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (¬2) فيجازي عليه. قوله: "لكم صفوة أمره" صفو الشيء خَالِصه -بفتح الصاد لا غير- فإذا ألحقوه الهاء قالوا: صَفوة وصِفوة -بالفتح والكسر- يريد أن مقاساة جمع المال وحفظ البلاد ومداراة الناس على الأمراء، وللناس أعطياتهم صافية، ثم ما كان من خطأ في ذلك أو غفلة أو عيب أو سوء فعلى الأمراء والناس منه أبرياء. ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [3]. (¬2) سورة البقرة، آية: [197].

ويستفاد منه أحكام: الأول: أن ما ذكره الطحاوي وهو أنه يدل على أن السلب لم يكن واجبًا للقاتل بقتله؛ إذ لو كان واجبًا به لما منعه رسول الله -عليه السلام- عن ذلك المددي. الثاني: فيه أن نسخ الشيء قبل الفعل جائز؛ ألا ترى أنه -عليه السلام- أمر برد السلب ثم أمر بإمساكه قبل أن يرده؟ فصار في ذلك نسخ لحكمه الأول. الثالث: فيه دليل أن الفرس من السلب، وأن السلب لا يخمس، ألا ترى أنه أمر خالدًا برده إليه مع استكثاره إياه! قال الخطابي: وإنما كان رده إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه القاتل؛ نوعًا من النكير على عوف، وردها له لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ولا يسرعون إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد -رضي الله عنه- مجتهدًا في صنعه ذلك؛ إذ كان قد استكثر السلب، فأمضى رسول الله -عليه السلام- اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن كان خَطَّأه في رأيه الأول، والأمر الخاص بالعام واليسير من الضرر يحتمل الكثير من النفع والصلاح، فيشبه أن يكون النبي -عليه السلام- قد عوض المددي من الخمس الذي هو له، وترضى خالد بالرضح منه وتسليم الحكم له في السلب. ص: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما كان يوم بدر قال رسول الله -عليه السلام-: من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، فذهب شبان الرجال وجلست الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت القسمة جاءت الشبان يطلبون نفلهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا؛ فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم كنا ردءًا لكم، فأنزل الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ. . .} فقرأ حتى بلغ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (¬1)، يقول: أطيعوني في هذا الأمر كما رأيتم عاقبة أمري حيث خرجتم وأنتم كارهون، فقسم بينهم بالسواء". ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [1 - 5].

ففي هذا الحديث منع رسول الله -عليه السلام- الشبان ما كان جعله لهم. ففي هذا دليل على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين، ولولا ذلك لما منعهم منها، ولأعطاهم أسلاب من استأثروا نفله دون من سواهم ممن تخلف منهم. ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لما قاله أهل المقالة الثانية من أن السلب لا يجب للقاتل لقتله؛ وذلك لأن حديث ابن عباس يدل على ذلك صريحًا، وقد أوضحه الطحاوي فلا يحتاج إلى زيادة كشف. وأخرجه بإسناد صحيح: عن عبد الله بن محمد بن سعيد. . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا وهب بن بقية، قال: أنا خالد، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأتى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله -عليه السلام- لنا، فأنزل الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ. . .} إلى قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (1) يقول: فكان ذلك خيرًا لهم فكذلك أيضًا، "فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم". قال (¬2): ثنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، قال: أنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا. . ." ثم ساق نحوه. وحديث خالد أتمّ. قال: ثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال، قال: ثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، قال: أخبرني داود بهذا الحديث بإسناده. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 77 رقم 2737). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 85 رقم 3738).

قال: "فقسمها رسول الله -عليه السلام- بالسواء" وحديث خالد أتم. وأخرجه النسائي في "التفسير" (¬1): عن الهيثم من أيوب الطالقاني، عن المعتمر بن سليمان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة نحوه. قوله: "من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا" قد فسره في رواية أبي داود بقوله: "من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا". قوله: "لا تستأثروا علينا" أي لا تختصوا أنفسكم بالنفل. قوله: "كنا رِدْءًا" أي عونًا لكم، والرِّدْء -بكسر الراء وسكون الدال وفي آخره همزة-: العون والناصر. و"المشيخة" في رواية أبي داود -بفتح الميم-: جمع شيخ. قال الجوهري: جمع الشيخ شُيوخ وأَشْياخ وشِيَخَة وشِيخَان ومَشْيَخة ومَشَايخ ومَشْيُوخاء والمرأة: شيخة. قوله: "فِئْتم إلينا" أي رجعتم إلينا، من الفيء وهو: الرجوع. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه دليل واضح على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين؛ إذ لو كان كذلك لأعطى رسول الله -عليه السلام- الشبان إياها يوم بدر؛ فحيث قسم بين الشبان الذين قاتلوا وبين الشيوخ الذين لزموا الرايات بالسواء؛ دلَّ على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين. الثاني: أن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ. . .} (¬2) الآيات نزل يوم بدر لما اختصموا في الأنفال، وقد اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن سعد قال: "أصبت يوم بدر سيفًا، فأتيت به النبي -عليه السلام-، فقلت: نفلنيه، فقال: ضعه من أين ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (6/ 349 رقم 11197). (¬2) سورة الأنفال، آية: [1].

أخذت، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (2) فدعاني رسول الله -عليه السلام- وقال: اذهب فخذ سيفك". وروى معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ} (¬1) قال: الأنفال الغنائم التي كانت لرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة ليس لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . .} (1) الآية". وقال ابن جريح: أخبرني بذلك سليمان، عن مجاهد. وروى عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما: "أن النبي -عليه السلام- نفل يوم بدر أنفالًا مختلفة، وقال: من أخذ شيئًا فهو له، فاختلفت أصحابه، فقال بعضهم: نحن قاتلنا، وقال بعضهم: نحن حمينا رسول الله -عليه السلام- وكنا ردءًا لكم، قال: فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من بين أيدينا وجعله إلى رسول الله -عليه السلام- فقسمه عن الخمس، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله -عليه السلام- وصلاح ذات البين، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (1). قال عبادة: قال رسول الله -عليه السلام-: ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم". ويقال: إن الذي ذكر في حديث ابن عباس وعبادة أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر قبل القتال: من أخذ شيئًا فهو له، ومن قتل قتيلاً فله كذا؛ غلط، وإنما قال النبي -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه"؛ وذلك لأنه قد روي: "لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس غيركم"، وأن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (2)، يقال: نزلت بعد حيازة غنائم بدر، فعلمنا أن رواية من روى أن النبي -عليه السلام- نفلهم ما أصابوا قبل القتال غلط إذ كانت إباحتها إنما كانت بعد القتال. قال أبو بكر الجصاص -رحمه الله-: ومما يدل على غلطه: أنه قال: من أخذ شيئًا فهو ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

له، ومن قتل قتيلاً فله كذا، ثم قسمها بينهم بالسواء؛ وذلك لأنه غير جائز على النبي -عليه السلام- خلف الوعد ولا استرجاع ما جعله لإنسان وأخذه منه وإعطاؤه غيره، والصحيح أنه لم يتقدم من النبي -عليه السلام- قول في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال وتنازعوا في الغنائم؛ أنزل الله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (¬1) فجعل أمرها إلى النبي -عليه السلام- في أن يجعلها لمن يشاء، فقسمها بينهم بالسواء، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (¬2) على ما روي عن ابن عباس ومجاهد؛ فجعل الخمس لأهله وللمسليمن في الكتاب والأربعة الأخماس للغانمين، وبين النبي -عليه السلام- سهم الفارس والراجل وبقي حكم النفل قبل إحراز الغنيمة بقوله: "من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أصاب سبياً فهو له". قلت: القول المذكور بأن ما في حديث عبادة وابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قال يوم بدر. . ." إلى آخره غلط غير صحيح؛ لأن الحديث المذكور أخرجه أبو داود بطرق صحيحة، وأخرجه الطحاوي كذلك، وتعليلهم بقولهم لأنه غير جائز على النبي -عليه السلام- خلف الوعد. . . إلى آخره، غير صحيح؛ لأن الطحاوي قد تعرض إلى ذلك بقوله: فإن قال قائل: فما وجه منعه -عليه السلام- إياهم. . . إلى آخره. ثم أجاب عن ذلك بجواب يقطع شغب هؤلاء، ويرد ما ذكروه على ما يأتي الآن إن شاء الله تعالى. الثالث: فيه جواز التحريض للإِمام بعض الغزاة المقاتلين الشجعان وحثهم على القتال بقوله: "من فعل كذا فله كذا". ص: فإن قال قائل: فما وجه منعه -عليه السلام- إياهم مما كان جعله لهم؟ قيل له: لأن ما كان جعله لهم فإنما كان لأن يفعلوا ما هو صلاح لسائر المسلمين ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [1]. (¬2) سورة الأنفال، آية: [41].

وليس من صلاح المسلمين تركهم الرايات والخروج عنها وإضاعة الحافظين لها، فلما خرجوا عن ذلك كانوا قد خرجوا عن المعنى الذي به يستحقون ما جعل لهم، فمنعهم رسول الله -عليه السلام- منه لذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنه -عليه السلام- قد وعد لهم كلهم بقوله: "من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا" ثم منع الشبان ما كان جعله لهم، وهذا يشبه خلف الوعد، وذلك غير جائز في حقه -عليه السلام-؟ والجواب ظاهر يعرف بأدنى تأمل. ***

ص: باب: سهم ذوي القربى

ص: باب: سهم ذوي القربى ش: أي هذا باب في بيان سهم ذوي القربى، والسهم: النصيب. وذوو القربى: أقرباء النبي -عليه السلام-. واختلف العلماء في ذلك، فقال أصحابنا: قرابة النبي -عليه السلام- الذين تحرم عليهم الصدقة ذوو أقربائه وآله، وهم آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب. وروي نحو ذلك عن زيد بن أرقم. وقال آخرون: بنو المطلب داخلون فيهم؛ لأن النبي -عليه السلام- أعطاهم من الخمس، وقال بعضهم: قريش كلها من أقرباء النبي -عليه السلام- الذين لهم سهم من الخمس، إلا أن للنبي -عليه السلام- أن يعطيه من رأى منهم. وبه قال الأصبغ به فرج، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى، يحدث عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أن فاطمة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه أثر الرحا في يدها، وبلغها أن النبي -عليه السلام- أتاه شيء، فأتته تسأله خادمًا، فلم تلقه، ولقيتها عائشة -رضي الله عنها-، فاخبرتها الحديث، فلما جاء النبي -عليه السلام- أخبرته بذلك، قال: فأتانا رسول الله -عليه السلام- وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ تكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدًا ثلاثًا وثلاثين إذا أخذتما مضاجعكما؛ فإنه خير لكما من خادم". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وعبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي.

والحكم هو ابن عتيبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، نا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن علي -رضي الله عنه-: "أن فاطمة -رضي الله عنها- شكت ما تلقى في يدها من الرحى، فأتت النبي -عليه السلام- تسأله خادمًا فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته، قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت أقوم، فقال: مكانك، فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم". وعن شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين قال: التسبيح أربع وثلاثون. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا ابن مثنى وابن بشار واللفظ لابن مثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ابن أبي ليلى، قال: أنا علي -رضي الله عنه-: "أن فاطمة -رضي الله عنها- اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتي النبي -عليه السلام- بسبي فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي -عليه السلام- أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي -عليه السلام- إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال النبي -عليه السلام-: على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، وقال: ألا أخبركما خيرًا مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم". وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، وثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة -المعنى- عن الحكم، عن ابن أبي ليلى -قال مسدد-: ثنا علي -رضي الله عنه- قال: "شكت فاطمة -رضي الله عنها- إلى النبي -عليه السلام- ما تلقى في يدها من الرحى فأتي بسبي، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2329 رقم 5959). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 2091 رقم 2727). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 315 رقم 5062).

فأتته تسأله فلم تره، فأخبرت بذاك عائشة، فلما جاء النبي -عليه السلام- أخبرته، فأتانا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكم، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين؛ فهو خير لكما من خادم". وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬1): عن قتيبة، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي -رضي الله عنه-. وعن (¬2) أحمد بن سليمان، عن يزيد، ثنا العوام، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى في معناه. قوله: "تسأله خادمًا" الخادم: واحد الخدم غلامًا كان أو جارية؛ لأنه خرج عن عدا الاشتقاق، ودخل في حكم الأسماء كالحائض والعاتق. قوله: "وقد أخذنا مضاجعنا" أي دخلنا في فراشنا للنوم. قوله: "تكبرا الله أربعًا وثلاثين" أي تقولان: الله أكبر -أربعًا وثلاثين مرة- وتقولان: سبحان الله -ثلاثًا وثلاثين مرة- وتقولان: الحمد لله -ثلاثاً وثلاثين مرة- فتصير الجملة مائة مرة. وفي رواية البخاري: كل واحدة من هذه تقال ثلاثًا وثلاثين مرة، فتصير الجملة تسعة وتسعين. وفي رواية ابن سيرين: التسبيح يقال أربعًا وثلاثين والتكبير ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين. قوله: "فإنه خير لكما من خادم" أي قال: هذا القول خير لكما من خادم، معناه أنكما تتقويان بالذكر وتستغنيان عن الخادم. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (6/ 203 رقم 10650). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 204 رقم 10651).

ويستفاد من أحكام: الأول: احتجت به طائفة على أن ذوي قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سهم لهم في الخمس معلوم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه بيان فضيلة هذا الذكر. الثالث: استدلت به طائفة على وجوب الخدمة على الزوجة مثل الطبخ والخبز وغسل الثياب ونحو ذلك، وإن كانت الزوجة من بنات الأشراف، وعندنا ليس عليها ذلك، وإنما كانت خدمة فاطمة -رضي الله عنها- على وجه البر والإحسان لا على وجه الإلزام، فإذا قامت الزوجة بذلك على وجه المروءة والفضل فلها ذلك، ولا إجبار عليها بذلك. وأفتى بعض مشايخنا بالعرف. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه-: "أنه قال لفاطمة -رضي الله عنها- ذات يوم: قد جاء الله أباك بسعة ورقيق فأتيه فاستخدميه، فأتته فدكرت ذلك له، فقال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصُفَّة تطوى بطونهم ولا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعها وأنفق عليهم، ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ علمنيه جبريل -عليه السلام-: كبرا في دبر كل صلاة عشرًا وسبحا عشرًا واحمدا عشرًا، وإذا أويتما إلى فراشكما. . ." ثم ذكر مثل ما في حديث سليمان. ش: هذا وجه آخر، وطريقه صحيح، ورجاله ثقات قد تكرر ذكرهم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا حماد، أنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوجه فاطمة بعث معه بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فقال علي -رضي الله عنه- لفاطمة -رضي الله عنها- ذات يوم: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي -عليه السلام- فقال: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 106 رقم 838).

ما جاء بك أي بنية؟ فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله, فأتيناه جميعًا، فقال علي -رضي الله عنه-: يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة -رضي الله عنها-: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا، فقال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعا، فأتاهما النبي -عليه السلام- وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رءوسها تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامها تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل -عليه السلام-، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعًا وثلاثين، قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله -عليه السلام-، قال: فقال له ابن الكواك: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم ولا ليلة صفين". قوله: "بسَعَة" السعة بفتحتين الجدة والطاقة، وأراد بها المال. قوله: "تطوى بطونهم" يقال: طَوِيَ من الجوع يَطْوَى طوى، فهو طاوٍ: أي خالي البطن جائع لم يأكل، وطَوَى يَطْوِي إذا تعمد ذلك. قال الجوهري: الطَّوَى الجوع، يقال: طَويَ -بالكسر- يَطْوِي طوًى فهو طاوٍ ووطيًّان، وطَوَى -بالفتح- يَطْوِي طيًّا إذا تعمد لذلك. قوله: "لقد سنوت" أي استقيت، ومنه السانية، وهي الناقة التي يستقى عليها. قوله: "حتى مجلت يداي" يقال: مَجَلت يده تَمْجُل مَجْلاً ومَجِلَت تَمْجَلُ مَجَلاً إذا ثَخنُ جلدها وتَعَجَّر وظهر منها ما يشبه البثر من العمل في الأشياء الصلبة الخشنة. و"القطيفة" كساء له خمل.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا زيد ابن الحباب، قال: حدثني عياش بن عقبة، قال: حدثنى الفضل بن حسن بن عمرو، عن ابن أم الحكم، أن أمه حدثته: "أنها ذهبت هي وأختها حتى دخلتا على فاطمة -رضي الله عنها-، فخرجن جميعًا فأتين رسول الله -عليه السلام- وقد أقبل من بعض مغازيه ومعه رقيق، فسألته أن يخدمهن، فقال رسول الله -عليه السلام-: سبقكن يتامى أهل بدر". ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي. ومحمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه. وزيد بن الحباب بن زياد العكلي الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري. وعياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن عقبة بن كليب الحضرمي المصري أمير مصر لأبي جعفر، قال الدارقطني: ليس به بأس، روى له أبو داود والنسائي. والفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري المدني نزيل مصر، وثقه ابن حبان. وابن أم الحكم، أم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب، على ما نذكره. وهذا كما رأيت الفضل بن حسن يروي عن ابن أم الحكم، ووقع في بعض النسخ: عن أم الحكم، بدون الابن. وكذا وقع بالوجهين في "سنن أبي داود"، ولكن الصواب: عن ابن أم الحكم، وكذا ذكر ابن عساكر في "الأطراف"، وقال: أخرج أبو داود، عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن عياش بن عقبة الحضرمي، عن الفضل بن الحسن الضمري، أنا ابن أم الحكم أو ضباعة ابنتي الزبير حدثه عن إحداهما.

وكذا أخرج الطبراني في "معجمه" (¬1): من طريق ابن أبي شيبة، وقال: الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية، عن ابن أم الحكم على ما نذكره. وكذا وقع في رواية أبي يعلى الموصلي، ووقع في رواية أبي سعيد بن يونس في ترجمة الفضل بن حسن: عن أم الحكم -بدون ذكر الابن- على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأم الحكم هي بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشية بنت عم النبي -عليه السلام-، ويقال لها أم الحكيم أيضًا، قيل: اسمها عاتكة، وقيل: صفية، وقيل ضباعة. قال خليفة بن خياط: حدثني غير واحد من بني هاشم أنهم لا يعرفون للزبير ابنة غير ضباعة، وقال: ضباعة هي أم حكيم، قال الحافظ أبو قاسم: هذا وهم؛ فقد ذكر الزبير بن بكار للزبير ابنتين: ضباعة وأم حكيم، وذكر أن أم حكيم كانت تحت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وولده منها، وضباعة كانت تحت المقداد. قوله: "ذهبت هي وأختها" أختها هي ضباعة بنت الزبير -رضي الله عنهم-. والحديث أخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: ثنا عياش بن عقبة الحضرمي، عن الفضل بن حسن الضمري، أن ابن أم الحكم أو ضباعة ابنتي الزبير، حدثه عن إحداهما أنها قالت: "أصاب رسول الله -عليه السلام- سبيًا، فذهبت أنا وأختي وفاطمة بنت رسول الله -عليه السلام- إلى النبي -عليه السلام- فشكونا إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من النبي، فقال رسول الله -عليه السلام-: سبقكن يتامى بدر. . ." ثم ذكر قصة التسبيح. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (25/ 138 رقم 333) من طريق علي بن المديني، ثنا زيد بن الحباب، عن عياش ابن عقبة، حدثني الفضل بن الحسن بن أمية، به. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 166 رقم 2987).

حدثني عياش بن عقبة، حدثني الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري، حدثني ابن أم الحكم، قال: حدثتني أمي أم الحكم: "أن رسول الله -عليه السلام- قدم من بعض غزواته وقد أصاب رقيقًا، فذهبت هي وأختها حتى دخلتا على فاطمة -رضي الله عنها-، فذهبن إلى النبي -عليه السلام- يسألنه أن يخدمهن وشكين إليه الحاجة، فقال: لا، لقد سبقكن يتامى أهل بدر". وأخرجه ابن يونس في "تاريخه": ثنا أحمد بن أبي عمر المعافري، ثنا محمد بن سلمة المرادي، ثنا ابن وهب، عن عياش بن عقبة، أن الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري، ثنا أن أم الحكم أو ضباعة ابنتي الزبير بن عبد المطلب حدثته إحداهما أنها قالت: "أصاب رسول الله -عليه السلام- سبايا، فذهبت أنا وفاطمة ابنة النبي -عليه السلام- نشكو إليه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من ذلك السبي، فقال رسول الله -عليه السلام-: سبقكن بها يتامى أهل بدر، ولكن أدلكن على ما هو خير لَكُنَّ من ذلك: تكبرن الله -عز وجل- على أثر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين تكبيرة وثلاثًا وثلاثون تسبيحة وثلاثًا وثلاثون تحميدة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- لا سهم لهم في الخمس معلوم، ولا حظّ لهم منه خلاف حظ غيرهم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن بن محمد بن الحنفية والحسن البصري ومحمد بن إسحاق وآخرين، فإنهم قالوا: لا حظ لقرابة رسول الله -عليه السلام- من الخمس معلومًا، ولا نصيب لهم خلاف نصيب غيرهم. ص: قالوا: إنما جعل الله -عز وجل- لهم ما جعل من ذلك بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1)، وبقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (¬1) لحال فقرهم وحاجتهم، فأدخلهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير واليتيم والمسكين من ذلك لخروجهم من المعنى الذي به استحقوا ما استحقوا من ذلك، فكذلك ذووا قرابة رسول الله -عليه السلام- المضمومون معهم إنما كانوا ضُمُّوا معهم لفقرهم، فإذا استغنوا خرجوا من ذلك. وقالوا: لو كان لقرابة رسول الله -عليه السلام- في ذلك حظ لكانت فاطمة بنت رسول الله -عليه السلام- منهم، إذ كانت أقربهم إليه نسبًا وأمسهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظًّا في السَّبْي الذي ذكرنا فيخدمها خادمًا ولكنه وكلها إلى ذكر الله -عز وجل-؛ لأن ما تأخذه من ذلك إنما حكمها فيه حكم المسكين فيما يأخد من الصدقة، فرأى أن تركها ذلك والإقبال على ذكر الله وتسبيحه وتهليله خيرًا لها من ذلك وأفضل. وقد قسم أبو بكر وعمر -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله -عليه السلام- جميع الخمس فلم يريا لقرابة رسول الله -عليه السلام- في ذلك حقًّا خلاف حق سائر المسلمين، فثبت بذلك أن هذا هو الحكم عندهما، وثبت [إذ] (¬2) لم ينكره عليهما أحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، ولم يخالفهما فيه؛ أن ذلك كان رأيهم فيه أيضًا. وإذا ثبت الإجماع في ذلك من أبي بكر وعمرو من جميع أصحاب رسول الله -عليه السلام-؛ ثبت القول به، ووجب العمل به وترك خلافه. ش: أي قال هؤلاء القوم، وأشار به إلى بيان حجة هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر. قوله: "لحال فقرهم" متعلق بقوله: "إنما جعل الله لهم ما جعل". قوله: "إنما كانوا ضُمُّوا" على بناء المجهول. قوله: "إذ كانت" تعليل لما قبله. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية: [7]. (¬2) في "الأصل، ك": "أنه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله: "ولكنه وَكَلَها" بتخفيف الكاف، يقال: وَكَلْتُ أمري إلى فلان: أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، وأما وكّلته -بالتشديد- فمعناه استكفيته أمره ثقة بكفايته أو عجزًا عن القيام بأمر نفسي. قوله: "وقد قسم أبو بكر. . ." إلى آخره، إشارة إلى بيان أن ما ذهبوا إليه هو ما وقع عليه الإجماع من الصحابة؛ وذلك لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- لما قسما الخمس بعد وفاة النبي -عليه السلام- ولم يريا لذوي قرابة النبي -عليه السلام- في ذلك حقًّا خلاف حق سائر المسلمين، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة -رضي الله عنهم-، فصار ذلك إجماعًا لا يخالف فيه ولا يعدل إلى غيره. ص: ثم هذا عليّ -رضي الله عنه- لما صار الأمر إليه؛ حمل الناس على ذلك أيضًا، وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن إسحاق، قال: "سألت أبا جعفر فقلت: أرأيت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حيث ولي العراق وما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوى القربى؟ قال: سلك به والله سبيل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فقلت: وكيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أَمَ والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه، قلت: فما منعه؟ قال: كره والله أن يدعى عليه خلاف أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-". فهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد أجراه على ما كان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- أجرياه عليه؛ لأنه رأى ذلك عدلاً, ولو كان رأيه بخلاف ذلك مع علمه وفضله ودينه إذًا لرده إلى ما رأى. ش: أوضح ما ذكره من بيان ما ذهب إليه هؤلاء القوم: هو ما وقع عليه إجماع الصحابة بما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي ابن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن إسحاق المدني، عن

أبي جعفر هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- المعروف بالباقر؛ لُقِّبَ به لأنه تبقر في العلوم أي توسع، والتبقر: التوسع، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حماد بن زيد وغيره، عن ابن إسحاق، قال: "سألت أبا جعفر -يعني الباقر- كيف صنع علي -رضي الله عنه- في سهم ذوي القربى؟ قال: سلك به طريق أبي بكر وعمر. قلت: وكيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أما والله ما كانوا يصدرون إلا عن رأيه، ولكنه كره أن يتعلق عليه خلاف أبي بكر وعمر" وفي لفظ قال: "أما والله ما كان أهل بيته يصدرون إلا عن رأيه، ولكن كان يكره أن يُدَّعى عليه خلاف أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-". وكذلك رواه السفيانان عن أبي إسحاق. وقال البيهقي: ضعف الشافعي هذه الرواية بأن عليًّا -رضي الله عنه- قد رأى غير رأيهما في أن يجعل للعبد في القسمة شيئًا، ورأى غير رأي عمر في التسوية بين الناس وفي بيع أمهات الأولاد، وخالف أبا بكر في الجَدِّ. قوله: "أَمَ والله" أصله: أما والله، وهي حرف استفتاح بمنزلة "ألا". قوله: "يصدرون" أي يرجعون. قوله: "أن يُدَّعى عليه" أي يتعلق عليه خلاف الشيخين. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، قال: "سألت الحسن بن محمد بن علي -رضي الله عنهم- عن قول الله -عز وجل-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬2)؟ قال: أما قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فهو مفتاح كلام: لله الدنيا والآخرة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين، فاختلف الناس بعد وفاة رسول الله -عليه السلام-، فقال قائل منهم: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة، وقال قائل: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 343 رقم 12739). (¬2) سورة الأنفال، آية: [41].

سهم النبي -عليه السلام- للخليفة من بعده، ثم اجتمع رأيهم أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان ذلك في إمارة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-". قال: أفلا ترى أن ذلك مما قد اجتمع أصحاب رسول الله -عليه السلام- أنه راجع إلى الكيل والسلاح الذي يكون عدة للمسلمين لقتال عدوهم؟ ولو كان ذلك لذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- لما مُنِعُوا منه ولا صرف إلى غيرهم، ولا خفي ذلك على الحسن بن محمد مع علمه في أهله وتقدمه فيهم، وقد قال ذلك عبد الله بن العباس -رضي الله عنهما- في جوابه لنجدة لما كتب إليه يسأله عن سهم ذوي القربى. وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: حدثني عمي جويرية بن أسماء، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، أن يزيد بن هرمز حدثه: "أن نجدة صاحب اليمامة كتب إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى، فكتب إليه ابن عباس: إنه لنا، وقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دعانا نُنْكِحَ منه أَيِّمنا ونقضي منه عن غارِمنا، فأبينا إلا أن يسلمه لنا كله ورأينا أنه لنا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت قيسًا يحدث، عن يزيد بن هرمز، قال: "كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأله عن سهم ذوي القربى الذي ذكر الله وفرض لهم. فكتب إليه -وأنا شاهد-: كنا نُرَى أنهم قرابة رسول الله -عليه السلام-؛ فأبى ذلك علينا قومنا". فهذا ابن عباس يخبر أن قومهم أبوا عليهم أن يكون لهم، ولم يظلم من أبي ذلك عليه، فدلَّ أن ما أريد من ذلك بقرابة رسول الله -عليه السلام- هو ما ذكرنا من الفقر والحاجة. فهذه حجج من ذهب إلى أن ذوي القربى لا سهم لهم، في الخمس، وأن ذلك لم يكن لهم في عهد رسول الله -عليه السلام- ولا من بعده. ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث قيس بن مسلم. أخرجه بإسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، قال: "اختلف الناس بعد وفاة رسول الله -عليه السلام- في هذين السهمين: سهم لرسول الله -عليه السلام-، وسهم ذي القربى، فقالت طائفة: سهم الرسول -عليه السلام- للخليفة من بعده. وقالت طائفة: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة. فأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع وفي العدة في سبيل الله". وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث الثوري، عن قيس بن مسلم، قال: "سألت الحسن بن محمد عن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (¬3)، فقال: هذا مفتاح كلام: لله ما في الدنيا والآخرة". قوله: "وقد قال ذلك" أشار به إلى ما قاله الحسن بن محمد بن الحنفية. قوله: "وذكروا في ذلك" أي ذكر هؤلاء القوم فيه ما قال عبد الله بن عباس. وأخرجه بإسناد صحيح من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث يزيد بن هارون، أنا ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي -أحسبه قال: والزهري- عن يزيد بن هرمز قال: "كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى، [لمن هو؟ قال: كتبت إليّ ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 517 رقم 33451). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 338 رقم 12718). (¬3) سورة الأنفال، آية: [41]. (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 345 رقم 12744).

تسألني عن سهم ذوي القربى لمن هو؟] (¬1) قال: فهو لنا وكان عمر -رضي الله عنه- دعانا إلى أن ننكح منه أيمنا ونخدم منه عائلنا ونقضي منه غارمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا، وأبى أن يفعل، فتركناه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن يزيد بن هرمز. . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثني أبي، قال: سمعت قيسًا يحدث، عن يزيد بن هرمز. وحدثني محمد بن حاتم -واللفظ له- قال: ثنا بهز، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: حدثني قيس بن سعد، عن يزيد بن هرمز قال: "كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه، وقال ابن عباس: والله لولا أن أرده عن نَتْن يقع فيه ما كتبت إليه ولا نعمة عين، قال: فكتب إليه: إنك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكر الله، من هم؟ وإنا كنا نُرَى أن قرابة رسول الله -عليه السلام- هم [نحن] (¬3)، فأبى ذلك علينا قومنا. . . " الحديث. قوله: "أَيِّمنا" الأَيِّم واحد الأيامى الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيّم سواء تزوج من قبل أو لم يتزوج، وامرأة أيّم أيضًا بكرًا كانت أو ثيِّبًا. قوله: "غارمنا" الغارم: الذي يلتزم ما ضمنه وتكفل به ويؤديه، والغريم الذي عليه الدَّين. ص: وقد خالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: قد كان لهم سهم على عهد رسول الله -عليه السلام- وهو خُمس الخُمس، وكان لرسول الله -عليه السلام- أن يضعه فيمن شاء منهم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى" للبيهقي. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1444 رقم 1812). (¬3) لسيت في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن بحر بن مطر وعلي بن شيبة البغداديان، قالا: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لما قسم رسول الله -عليه السلام- سهم ذوي القربى أعطى بني هاشم وبني المطلب ولم يعط بني أمية شيئًا، فأتيت أنا وعثمان -رضي الله عنه- رسول الله -عليه السلام- فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء بنو هاشم فضَّلهم الله بك فما بالنا وينو المطلب وإنما نحن وهم في النسب شيء واحد؟! فقال: إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". قالوا: فلما أعطى رسول الله -عليه السلام- ذلك السهم بعض القرابة وحَرَم مَنْ قرابته منهم كقرابتهم؛ ثبت بذلك أن الله -عز وجل- لم يُرِد بما جعل لذوي القربى كل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أراد خاصًّا منهم، وجعل الرأي في ذلك إلى رسول الله -عليه السلام- يضعه فيمن شاء منهم، فإذا مات فانقطع رأيه انقطع ما جعل لهم من ذلك، كما جعل لرسول الله -عليه السلام- أن يصطفي من المغنم لنفسه سهم الصفي فكان ذلك له ما كان حيًّا يختار لنفسه من المغنم ما شاء، فلما مات انقطع ذلك. وممن ذهب إلى القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وأحمد في رواية وبعض المالكية، فإنهم قالوا: كان لذوي القربى سهم في زمن النبي -عليه السلام- وهو خُمس الخُمس، وكان أمره مفوضًا إلى رسول الله -عليه السلام- يضعه فيمن شاء منهم. قال أبو بكر الجصاص: اختلف في سهم ذوي القربى، فقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير": يقسم الخُمس على ثلاثة أسهم: للفقراء والمساكين وأبناء السبيل. وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: خمس الله والرسول واحد، وخمس ذي القربى لكل صنف سماه الله في الآية: خُمس الخُمس. وقال الثوري: سهم النبي -عليه السلام- هو خُمس الخُمس، وما بقي فللطائفة التي سمى الله تعالى.

وقال مالك: يعطى من الخُمس أقرباء رسول الله -عليه السلام- على ما يرى ويجتهد. وقال الأوزاعي: خُمس الغنيمة لمن سمي في الآية. وقال الشافعي: يقسم سهم ذي القربى بين غنيهم وفقيرهم. قوله: "وذكروا في ذلك" أي ذكر هؤلاء القوم الآخرون فيما ذهبوا إليه حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه-. وأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" (¬1): ثنا عبد الله بن يوسف، نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله -عليه السلام- فقلنا: يا رسول الله أعطيتَ بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". قال الليث: حدثني يونس وزاد: "قال جبير: ولم يقسم النبي -عليه السلام- لبني عبد شمس ولا لبني نوفل". وقال ابن إسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وأخرجه البخاري أيضًا في "مناقب قريش" (¬2) وفي "المغازي" (¬3): عن يحيى بن بكير نحوه. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: أخبرني جبير بن مطعم. . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1143 رقم 2971). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1290 رقم 3311). (¬3) "صحيح البخاري" (4/ 1545 رقم 3989). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 161 رقم 2978).

وأخرجه النسائي في "قسم الفيء" (¬1): عن ابن مثنى، عن يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسبب. . . نحوه. وعن (¬2) عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن يحيى، عن نافع بن يزيد، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن ابن المسبب نحوه. قوله: "أعطى بني هاشم" وهم آل عبد المطلب؛ وذلك لأن هاشمًا لم يُعْلم له ولدٌ غير عبد الطلب، وولد لعبد المطلب عبد الله أب النبي -عليه السلام- على عمود النسب، وولد له خارجًا عنه جميع أعمام رسول الله -عليه السلام-. وبنو المطلب هم المطلبيون ومنهم الشافعي -رضي الله عنه-؛ وذلك لأن عبد مناف وُلِد له هاشم على عمود النسب، وولد له خارجًا عنه عبد شمس والمطلب ونوفل، فَمِنْ عبد شمس: أمية، ومنه بنو أمية، ومنهم عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميه، وسعيد بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن أبي ربيعة بن عبد شمس. ومن المطلب المطلبيون، ومن نوفل النوفليون. قوله: "وإنما نحن وهم في النسب شيء واحد" وكان يحيى بن معين يرويه: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب سيْء واحد" بالسين المهملة أي مثل سواء، يقال هذا سيْء هذا: أي مثله. وأراد بهذا الكلام الحِلْف الذي كان بين بني هاشم وبني المطلب في الجاهلية. وجاء في رواية أخرى: "إنا لم نفترق في جاهلية ولا إسلام". وقال الجصاص: هذا الحديث يدل من وجهين على أن ذا القربى غير مستحق للقرابة فحسب: أحدهما: أن بني عبد المطلب وبني عبد شمس في القرب من النبي -عليه السلام- سواء، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 130 رقم 4137). (¬2) "المجتبى" (7/ 130 رقم 4136).

فأعطى بني المطلب ولم يعط بني عبد شمس، ولو كان مستحقًّا بالقرابة لساوى بينهم. والثاني: أن فعل النبي -عليه السلام- خرج مخرج البيان لِمَا أُجمل في الكتاب من ذكر ذي القربى، وفعل النبي -عليه السلام- إذا ورد على وجه البيان هو على الوجوب، فلما ذكر النبي -عليه السلام- النصرة مع القرابة دلَّ على أنه مراد الله تعالى، فمن لم يكن له منهم نصرة فإنما يستحقه بالفقر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل ذوو القربى الذي جعل لهم من ذلك ما جعل: هم بنو هاشم وبنو المطلب، فأعطاهم رسول الله -عليه السلام- ما أعطاهم من ذلك، فجعل الله -عز وجل- ذلك لهم، ولم يكن له حينئذٍ أن يعطي غيرهم من بني أمية وبني نوفل؛ لأنهم لم يدخلوا في الآية، وإنما دخل فيها من قرابة رسول الله -عليه السلام- بنو هاشم وبنو المطلب خاصة. ش: أي خالف الفرقَيْن الأوليْن جماعة آخرون، وأراد بهم: طائفة من أهل الحديث، منهم: أحمد بن حنبل -في رواية- وإسحاق وأبو عبيد، فإنهم قالوا: ذووا القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب خاصّةً، وهم الداخلون في الآية. ص: فلما اختلفوا في هذا الاختلاف، فذهب كل فريق إلى ما ذكرنا، واحتج لقوله بما وصفنا، وجب أن يكشف كل فريق منها، وما ذكرنا من حجة قائلة لنستخرج من هذه الأقاويل قولاً صحيحًا، فنظرنا في ذلك، فابتدأنا بقول الذي نفى أن يكون لهم في الآية شيء بحق القرابة، وإنما جعل لهم منها ما جعل لحاجتهم وفقرهم كما جعل للمساكين واليتيم فيها ما جعل لحاجتهما وفقرهما، فإذا ارتفع الفقر عنهم جميعًا ارتفعت حقوقهم من ذلك. فوجدنا رسول الله -عليه السلام- قد قسم سهم ذوي القربى حين قسمه فأعطى بني هاشم وبني المطلب وعمهم جميعًا، وقد كان فيهم الغني والفقير.

فثبت بذلك أنه لو كان ما جعل لهم في ذلك هو لعلة الفقر لا لعلة القرابة إذًا لما أدخل أغنياءهم مع فقرائهم فيما جعل لهم من ذلك، وَلَقَصَدَ إلى الفقراء منهم دون الأغنياء، فأعطاهم كما فعل في اليتامى، فلما أدخل أغنياءهم وفقراءهم ثبت بذلك أنه قصد بذلك إلى أعيان القرابة بعلة قرابتهم لا لعلة فقرهم. ش: أي فلما اختلف هؤلاء الفرق الثلاث في حكم سهام ذوي القربى هذا الاختلاف المذكور فذهب كل فريق إلى مذهب واحتج لما ذهب إليه بما ذكر من الحجج؛ وجب الكشف عن ذلك كله ليعلم القول الصحيح من هذه الأقوال الثلاثة ويعتمد عليه. قوله: "فابتدأنا بقول الذي نفى. . . " إلى آخره، هو قول أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى أن ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- لا سهم لهم في الخُمس معلومٌ، وإنما أعطى لهم من ذلك ما أعطى؛ لأجل حاجتهم وفقرهم كما أعطى منه للمساكين واليتامى، فإذا كان كذلك تكون العلة في ذلك هي الفقر والاحتياج، فإذا ارتفعت هذه العلة ارتفع الحكم المذكور، وأشار إلى هذا المعنى بقوله: "فوجدنا رسول الله -عليه السلام- قد قسم. . ." إلى آخره. قوله: "وعمهم جميعًا" من التعميم وهو الشمول. ص: وأما ما ذكروا من حديث فاطمة -رضي الله عنها- حيث سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخدمها خادمًا من السبي الذي كان قدم عليه، فلم يفعل ووكلها إلى ذكر الله -عز وجل- والتسبيح، فهذا ليس فيه عندنا دليل لهم على ما ذكروا؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لها عندما سألته: لا حق لك فيه، ولو كان ذلك كذلك لبيَّن ذلك لها كما بينه للفضل بن العباس وربيعة بن الحارث حين سألا أن يستعملهما على الصدقة ليصيبا منها، فقال لهما: إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لأحد من أهل بيته وقد يجوز أن يكون لم يعطها الخادم حينئذٍ لأنه لم يكن قسم، فلما قسم أعطاها حقها من ذلك وأعطى غيرها أيضًا حقه، فيكون تركه إعطائها إنما كان لأنه لم يقسم، ودلَّها على

تسبيح الله وتحميده وتهليله الذي يرجو لها به الفوز من الله -عز وجل- والزلفى عنده، وقد يجوز أن يكون أخدمها من ذلك بعد ما قسم، ولا نعلم في الآثار ما يدفع شيئًا من ذلك، وقد يجوز أن يكون منعها منه لأنها ليست قرابة، ولكنها أقرب من القرابة؛ لأن الولد لا يقال: هو من قرابة أبيه، إنما يقال ذلك لمن غيره أقرب إليه منه، ألا ترى إلى قول الله -عز وجل-: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬1)، فجعل الوالدين غير الأقربين؛ لأنهم أقرب من الأقربين؟ فكما كان الوالد يخرج من قرابة ولده، فكذلك الولد يخرج من قرابة والده، وقد قال محمد بن الحسن: نحوًا مما ذكرنا، في رجل قال: قد أوصيت بثلث مالي لقرابة فلان: أن والديه وولده لا يدخلون في ذلك؛ لأنهم أقرب من القرابة وليسوا بقرابة، واعتلَّ في ذلك بهذه الآية التي ذكرنا. فهذا وجهٌ آخر، فارتفع بما ذكرنا أن يكون لهم أيضًا بحديث فاطمة -رضي الله عنها- هذا حجة في نفي سهم ذوي القربى. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وكانوا قد احتجوا على ذلك بحجج، منها حديث فاطمة -رضي الله عنها- على ما مرَّ؛ فأجاب عن ذلك بقوله: "وأما ما ذكروا من حديث فاطمة -رضي الله عنها-. . ." إلى آخره، وبنى الجواب عن ذلك على ثلاثة أوجه: الأول: هو قوله: "فهذا ليس فيه عندنا دليل. . ." إلى آخره. تقريره أن يقال: لا نُسلِّم أنَّ حديث فاطمة يدل على ما ذكرتم؛ لأنه لم يقل لها عند سؤالها: ليس لك فيه حق؛ إذ لو كان منعه إياها عنه لعدم استحقاقها بذلك لكان -عليه السلام- قد بيَّنه لها؛ لأنه موضع الحاجة إلى البيان، كما بين للفضل بين العباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف حين سألاه أن يستعملهما على الصدقة ليصيبا منها، فقال لهما: "إنما هي" -أي الصدقة- "أوساخ الناس" أي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [215].

أوساخ أموالهم، "وإنها لا تحل لمحمد ولا لأحد من أهل بيته"، وقد مرَّ حكم هذا الحديث في باب: "الصدقة على بني هاشم" مستوفى. الوجه الثاني: هو قوله: "وقد يجوز أن يكون منعها منه. . ." إلى آخره. تقريره أن يقال: يجوز أن يكون منعه -عليه السلام- إياها عن ذلك، لا لكونها غير مستحقة لذلك، بل إنما كان ذلك لكونه -عليه السلام- لم يقسم ذلك السبْي حينئذٍ ولم يكن له أن يعطي منه أحدًا شيئًا قبل القسمة، فلما قسمه جاز أن يكون أعطاها من ذلك شيئًا، وأعطى غيرها أيضًا حقَّه، فيكون الترك لعلة عدم القسمة؛ فصبَّرها حينئذٍ ودلَّها على ما هو خير من ذلك مما يقربها إلى الله تعالى والزلفى عنده، وهو تسبيح الله تعالى وتحميده وتهليله. الوجه الثالث: هو قوله: "وقد يجوز أن يكون منعها منه لأنها ليست قرابة. . ." إلى آخره. تقريره أن يقال: يجوز أن يكون منعه إياها عنه لكونها ليست بقرابة؛ لأنها أقرب من القرابة، ألا ترى أن الولد لا يقال: هو من قرابة أبيه؛ لأنه أقرب من ذلك؟ والدليل على ذلك عطف الأقربين علي الوالدين في الآية المذكورة والمعطوف غير المعطوف عليه، فيكون الوالدان غير الأقربين؛ لأنهما أقرب من الأقربين، فإذا خرج الوالد من قرابة ولده فكذلك الولد يخرج من قرابة والده، وعلى هذا بنى محمد بن الحسن في "المبسوط" في كتاب الوصايا المسألة المذكورة وهي ظاهرة. ص: وأما ما احتجوا به من فعل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروا ذلك عليهما، فإن هذا مما يَسَع فيه اجتهاد الرأي، فرأيا هما ذلك واجتهدا، فكان ما أداهما إليه اجتهادهما ما رأيا من ذلك، فحكما به، وهو الذي كان عليهما وهما في ذلك مثابان مأجوران. وأما قولهم: "ولم ينكر ذلك عليهما أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فكيف يجوز أن ينكر ذلك عليهما أحد وهما إماما عدلٍ رَأَيَا رأيًا فحكما به، وفعلا في ذلك الذي

كُلِّفا؟! ولكن قد رأى في ذلك غيرها من أصحاب رسول الله -عليه السلام- خلاف ما رأيا فلم يعنفوهما فيما حكما به من ذلك؛ إذْ كان الرأي في ذلك واسعًا والاجتهاد للناس جميعًا، فادعى أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- رأيهما في ذلك إلى ما رأيا وحكما، وأدى غيرهما ممن خالفهما اجتهاده في ذلك إلى ما رآه، وكلٌ مأجور في اجتهاده في ذلك مُثاب مؤدٍّ للفرض الذي عليه، ولم ينكر بعضهم على بعض قوله؛ لأن ما خالفه إليه هو الرأي، والذي قاله مخالفه هو رأي أيضًا, ولا توقيف مع أحد منهما لقوله من كتاب ولا سنة ولا إجماع. والدليل على أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قد كانا خولفا فيما رأيا من ذلك قول ابن عباس: "قد كنا نُرَى أنا نحن هم قرابة رسول الله -عليه السلام- فأبى ذلك علينا قومنا" فأخبر أنهم رأوا في ذلك رأيًا أباه عليهم قومهم، وأن عمر -رضي الله عنه- دعاهم إلى أن يزوج منهم أيمهم ويكسو منه عاريهم، قال: "فأبينا عليه إلا أن يُسَلِّمه لنا كله"؛ فدلَّ ذلك أنهم قد كانوا على هذا القول في خلافة عمر بعد أبي بكر -رضي الله عنهما-، وأنهم لم يكونوا نزعوا عما كانوا رأوا من ذلك لرأي أبي بكر ولا لرأي عمر، فدلَّ ما ذكرنا أن حكم ذلك كان عند أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وعند سائر أصحاب رسول الله -عليه السلام- كحكم الأشياء التي يختلف فيها التي يسع فيها اجتهاد الرأي. ش: قد ذكرنا أن أهل المقالة الأولى قد احتجوا لما ذهبوا إليه بحجج، منها: ما احتجُّوا به من فعل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وأجاب عن ذلك بقوله: "وأما ما احتجُّوا به من فِعل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-" خلاصة ذلك: أن ما صدر من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- من قسمة جميع الخُمس بعد وفاة رسول الله -عليه السلام-، وعدم رؤيتهما لقرابة رسول الله -عليه السلام- في ذلك حقًّا؛ إنما كان ذلك بطريق الاجتهاد والرأي، وهو بابٌ واسعٌ، ولكل مجتهد أن يجتهد بما يرى، وإن كان يخالف رأي غيره، وهو مثاب في اجتهاد، وإن كان في نفس الأمر مخطئًا؛ ولهذا لم ينكر عليهما أحد من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومع هذا فكيف كان يجوز

لهم الإنكار عليهما وهما إمامان عادلان وخليفتان راشدان مهديان، على أن أحدًا منهم لم يستند في اجتهاده في هذا الحكم على توقيف من كتاب أو سنة أو إجماع، والباقي ظاهر. قوله: "فرأيا هما ذلك" أي فرأى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وقوله: "هما" ضمير مرفوع؛ ذكره تأكيدًا لما في "رأيا" من الضمير المرفوع أيضًا. ص: وأما قولهم: "ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فلم يُغيِّر من ذلك شيئًا عما كان وضعه عليه أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-، قالوا: فذلك دليلٌ على أنه رأى في ذلك أيضًا مِثل الذي رأيا" فليس ذلك كما ذكروا؛ لأنه لم يكن بقي في يد على -رضي الله عنه- ما كان وقع في يد أبي بكر وعمر من ذلك؛ لأنهما لما وقع في أيديهما أنفذاه في وجوهه التي رأياها في ذلك الذي كان عليهما، ثم أفضى الأمر إلى علي -رضي الله عنه-، فلم نعلم أنه سبى أحدًا, ولا ظهر على أحد من العدو، ولا غنم غنيمة يجب فيها خُمس لله -عز وجل-؛ لأنه إنما كان شغله في خلافته كلها بقتال من خالفه ممن لا يُسبى ولا يُغنم، وإنما يحتج بقول علي -رضي الله عنه- في ذلك لو سبى وغنم ففعل في خُمس ذلك مثل ما كان أبو بكر وعمر فعلا في الأخماس، فأما إذا لم يكن سبى ولا غنم؛ فلا حجة. لأحد في تركه تغيير ما كان فُعِلَ قبله من ذلك، ولو كان بقي في يده من ذلك شيء مما كان غنمه مَن كان قبله فحرمه ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- لما كان في ذلك أيضًا حجة تدل على مذهبه في ذلك كيف كان؟ لأن ذلك إنما صار إليه بعد ما نفذ فيه الحكم من الإِمام الذي كان قبله، فلم يكن له إبطال ذلك الحكم وإن كان يرى هو خلافه؛ لأن ذلك الحكم مما يختلف فيه العلماء، ولو كان علي -رضي الله عنه- رأى في ذلك ما كان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- رأياه؛ لكان في قرابة رسول الله -عليه السلام- من قد خالفه، لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كنا نُرَى أنا نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا". وهذه جوابات الحجج التي احتج بها الذين نفوا سهم ذوي القرابة أن يكون واجبًا لهم بعد رسول الله -عليه السلام- ولا في حياته، وأنهم كانوا في ذلك كسائر الفقراء،

فبطل هذا المذهب وثبت أحد المذاهب الأخر. ش: هذا أيضًا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه بحجج متعددة، منها كان قولهم: "ثم هذا علي -رضي الله عنه- لمَّا صار الأمر إليه حمل الناس على ذلك أيضاً. . ." إلى آخره، فأجاب عن هذا بقوله: "وأما قولهم" أي قول أهل المقالة الأولى. بيان وجه احتجاجهم بذلك: أن عليًّا -رضي الله عنه- لما أفضى إليه الأمر -يعني لما انتهت إليه الخلافة من بعد عثمان -رضي الله عنه-- لم يُغيِّر ما كان فعله أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- من قسمته جميع الخُمس وعدم إعطائه لقرابة رسول الله -عليه السلام- من ذلك شيئًا، وهذا دليل على أن عليًّا -رضي الله عنه- رأى في ذلك مثل ما رأى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وأجاب عن ذلك بقوله: "فليس ذلك كما ذكروا. . ." إلى آخره. وتقريره من وجهين: أحدهما: بطريق المنع؛ وهو أن يقال: لا نُسلِّم أن يكون الأمر كما ذكرتم؛ لأن عليًّا -رضي الله عنه- لم يبق في يده مما كان وقع في يد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأنهما قد كانا أنفذا ذلك في وجوهه التي رأياها ولم يبق من ذلك شيء. ولا نعلم أيضًا أن عليًّا -رضي الله عنه- سبى أحدًا, ولا ظهر على أحدٍ من العدو، ولا غنم غنيمة يجب فيها خُمس لله -عز وجل-؛ لأن اشتغاله في خلافته كلها إنما كان بالمخالفين له من الشاميين وغيرهم، وإنما يتوجه احتجاجهم بذلك أن لو سبى علي أو غنم شيئًا ثم فعل مثل ما فعل الشيخان. والآخر: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلَّمنا أنه قد بقي في يد علي -رضي الله عنه- من ذلك شيء، ومنع ذوي قرابة رسول الله -عليه السلام- وليس فيه حجة لهم أيضًا؛ لأن ذلك إنما كان بعدما نفذ فيه الحكم من الإمامين اللذين قبله، فإذا نفذ إمامٌ أمرًا ووقع الحكم به فليس للإمام الذي يأتي بعده أن يبطله، وإن كان ذاك خلاف ما يراه في

اجتهاده؛ لأنا قلنا: إن باب الإجتهاد واسع واختلاف العلماء فيه واقع. قوله: "فَحَرَمَه" من قولهم: حرمه الشيء يَحْرِمُه حَرمًا -مثال سَرَقَه يَسْرِقُه سَرِقًا بكسر الراء- وحرمه وحريمه وحرمانًا، وأحرمه أيضًا إذا منعه إياه. ص: فأردنا أن ننظر في قول من جعله لقرابة الخليفة من بعد رسول الله -عليه السلام-، وجعل سهم رسول الله -عليه السلام- للخليفة من بعده، هل لذلك وجه؟ فرأينا رسول الله -عليه السلام- قد كان فُضِّل بسهم الصَّفِيّ، وبخُمس الخُمس، وجعل له مع ذلك في الغنيمة سهم كسهم رجل من المسلمين، ثم رأيناهم قد أجمعوا أن سهم الصَّفِي ليس لأحد بعد رسول الله -عليه السلام-، وأن حكم رسول الله -عليه السلام- في ذلك خلاف حكم الإِمام من بعده؛ فثبت بذلك أيضًا أن حكمه في خُمس الخُمس خلاف حكم الإِمام من بعده، وإذا ثبت أن حكمه فيما وصفنا خلاف حكم الإِمام من بعده، ثبت أن حكم قرابته خلاف حكم قرابة الإِمام من بعده. فثبتت أحد القولين من الآخرين، فنظرنا في ذلك فإذا الله -عز وجل- قد قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1)، فكان سهم الرسول -عليه السلام- جاريًا له ما كان حيًّا إلى أن مات، فانقطع بموته، وكان سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل بعد وفاة النبي -عليه السلام- كما كان قبل ذلك. ثم اختلفوا في سهم ذوي القربى، فقال قوم: هو لهم بعد وفاة النبي -عليه السلام- كما كان لهم في حياته. وقال قوم: قد انقطع عنهم بموته، وكان الله -عز وجل- قد جمع كل قرابة رسول الله -عليه السلام- في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (1) فلم يخص أحدًا منهم دون أحد، ثم قسم ذلك النبي -عليه السلام- فأعطى منهم بني هاشم وبني المطلب خاصّةً، وحرم بني أمية ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

وبني نوفل وقد كانوا محصين معدودين، وفيمن أعطى الغني والفقير، وفيمن حرم كذلك، فثبت أن ذلك السهم كان للنبي -عليه السلام- يجعله في أي قرابته شاء، فصار بذلك حكمه حكم سهمه الذي كان يصطفيه لنفسه، فلما كان ذلك لنفسه مرتفعًا بوفاته غير واجب لأحد بعده كان هذا أيضًا مرتفعًا بوفاته، فإنه غير واجب لأحدٍ من بعده. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: لما أجاب عما احتج به أهل المقالة الأولى وبيَّن سقوط ما ذهبوا إليه، أشار ها هنا أيضًا إلى سقوط ما ذهب إليه أهل المقالة الثالثة، وإثبات ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر البيان. قوله: "بسهم الصفي" الصفي على وزن فعيل، وهو ما كان يأخذه -عليه السلام- ويختاره لنفسه من الغنيمة، قبل القسمة ويقال له: الصفية أيضًا، ويجمع على صفايا. قوله: "وكان الله -عز وجل- جمع كل قرابة رسول الله -عليه السلام- في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى. . .} (¬1) " إلى آخره، تقرير ذلك: أن لفظ ذوي القربى لفظ شامل لجميع قرابة رسول الله -عليه السلام-، وليس فيه تخصيص لبعضهم دون الآخرين، ومع ذلك خصص النبي -عليه السلام- بني هاشم وبني المطلب في الإعطاء، ومنع بني أمية وبني نوفل، فدلَّ ذلك أن السهم المذكور كان مفوضًا إليه -عليه السلام- يجعله في أي قرابته شاء، وصار حكمه حكم الصفي الذي كان يختاره لنفسه، فلما ارتفع الصفي بوفاته ولم يجب لأحد من بعده كان هذا أيضًا مرتفعًا بوفاته فلا يجب لأحد من بعده. وقال الجصاص: قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (1) لفظ مجمل مفتقر إلى البيان، وليس بعموم؛ وذلك لأن ذا القربى لا يختص بقرابة النبي -عليه السلام- دون غيره من الناس، ومعلوم أنه لم يُرِد بها أقرباء الناس، فصار اللفظ مجملاً مفتقرًا إلى البيان، وقد اتفق السلف على أنه قد أُريدَ به أقرباء النبي -عليه السلام-، منهم من قال: المستحقون ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

لسهم الخُمس من الأقرباء هم الذين كان لهم نصرة، وأن السهم كان مستحقًّا بالأمرين من القرابة والنصرة، وأن من ليس له نصرة ممن حدث بعد فإنما يستحقه بالفقر كما يستحقه سائر الفقراء، ويستدلون على ذلك بحديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، وقد مر ذكره مستوفىً. فدلَّ ذلك أنهم كسائر الفقراء يستحقون منه مقدار الحاجة وسد الخلة، ويدل عليه قوله -عليه السلام-: "يذهب كسرى ولا كسرى بعده أبدًا، ويذهب قيصر ولا قيصر بعده أبدًا، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" (¬1)، فأخبر أنه ينفق في سبيل الله ولم يختص به قومًا من قوم. ويدل على أنه كان موكولاً إلى النبي -عليه السلام-: أنه أعطى المؤلفة قلوبهم وليس لهم ذكر في آية الخُمس، ويدل على ما ذكرنا: أن كل من سمي في آية الخمس لا يستحق إلا بالفقر، وهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وكذلك ذوي القربى؛ لأنه سهم من الخُمس، ويدل عليه: أنه لمَّا حرم عليهم الصدقة أقام ذلك مقام ما حرم عليهم منها، فوجب أن لا يستحقه منهم إلا الفقراء، كما أن الأصل الذي أقيم هذا مقامه لا يستحقه إلا فقير. فإن قيل: إن موالي نبي هاشم لا تحل لهم الصدقة ولا يدخلون في استحقاق السهم من الخمس. قيل له: هذا غلط؛ لأن موالي بني هاشم لهم سهم من الخُمس إذا كانوا فقراء على حسب ما هو لبني هاشم. فإن قيل: إذا كانت قرابة رسول الله -عليه السلام- يستحقون سهمهم بالفقر والحاجة فما وجه تخصيصهم بالذكر وقد دخلوا في جملة المساكين؟ ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة وغيره؛ البخاري (3/ 1135 رقم 2952)، ومسلم (4/ 2236 رقم 2918).

قيل له: كما خصّ اليتامى وابن السبيل بالذكر فلا يستحقونه إلا بالفقر، وأيضًا لَمَّا سمى الله الخُمس لليتامى والمساكين وابن السبيل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬1) الآية، ثم قال النبي رسول الله -عليه السلام-: "الصدقة لا تحل لآل محمد" (¬2)، فلو لم يسهمهم من الخُمس لجاز أن يظن ظانّ أنه لا يجوز إعطاؤهم منه، ولا يجوز أن يعطوا من الصدقات فسماهم؛ إعلامًا منه لنا أنه غير سبيلهم في الصدقات. فإن قيل: قد أعطى النبي -عليه السلام- العباس من الخُمس وكان ذا يسار. قيل: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنه أخبر أنه أعطاهم بالنصرة والقرابة؛ لقوله -عليه السلام-: "إنهم لم يفارقون في جاهلية ولا إسلام" فاستوى فيه الغني والفقير لتساويهم بالنصرة والقرابة. والثاني: أنه جائز أن يكون النبي -عليه السلام- إنما أعطى العباس -رضي الله عنه- ليفرقه في فقراء بني هاشم ولم يعطه لنفسه، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [60]. (¬2) تقدم.

ص: باب: النفل بعد الفراغ من قتال العدو وإحراز الغنيمة

ص: باب: النفل بعد الفراغ من قتال العدو وإحراز الغنيمة ش: أي هذا باب في بيان النفل بعد فراغ الإِمام من قتال العدو، وبعد إحراز الغنيمة. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن سليمان ابن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل في بدأته الربع، وفي رجعته الثلث". ش: أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري. وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي الشامي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم. وسليمان بن موسى القرشي الأموي أبو الربيع الدمشقي الأشدق، قال أبو حاتم: محله الصدق، وفي بعض حديثه بعض الاضطراب. وقال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث. روى له مسلم في مقدمة كتابه والأربعة. وزياد بن جارية -بالجيم والياء آخر الحروف بعد الراء- التميمي الدمشقي ويقال: يزيد وزيد أيضًا، وكذا وقع عند ابن ماجه، والصواب زياد، وثقه النسائي. وقال أبو حاتم: شيخ مجهول. روى له أبو داود وابن ماجه. وحبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو المغيرة، ثنا سعيد بن عبد العزيز، ثنا سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة قال: "شهدت رسول الله -عليه السلام- نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة". وأخرجه أبو داود (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 160 رقم 17504). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 88 رقم 2748). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 951 رقم 2851).

وأراد بالبدأة ابتداء الغزو، وبالرجعة القفول منه، والمعنى: كان إذا نهضت سرية من جملة العسكر المقبل على العدو فأوقعت بهم نفلها الربع مما غنمت، وإذا فعلت ذلك عند عود العسكر نفلها الثلث؛ لأن الكرة الثانية أشق عليهم والخطة فيها أعظم وذلك لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم، وهم في الأول أنشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو، وهم عند القفول أضعف وأفتر وأشهى للرجوع إلى أوطانهم؛ فزادهم لذلك. ولمَّا أخرج الترمذي (¬1) حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث"، قال: وفي الباب عن سعد وابن عباس وحبيب بن مسلمة ومعن بن يزيد وابن عمر وسلمة بن الأكوع. وقد أخرج الطحاوي -رحمه الله-: حديث معن بن يزيد وابن عمر وسلمة بن الأكوع على ما يجيء. وأما حديث سعد: فأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): ثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي، عن سعد -رضي الله عنه- قال: "لمَّا كان يوم أحد قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه؛ وكان سيفًا له ثمن، قال: فجئت به إلى النبي -عليه السلام- وقد قتل أخي عمير قبل ذلك، فقال لي -عليه السلام-: اذهب فاطرحه -يعني في المغانم- قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال: فما جاوزت يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال، فدعاني النبي -عليه السلام-، فقال: اذهب فخذ سيفك". وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الطحاوي في الباب السابق من حديث داود، عن عكرمة، عنه. ¬

_ (¬1) سيأتي. (¬2) "مسند البزار" (4/ 72 رقم 1239).

ص: فذهب قومٌ إلى أن للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها كما كان له قبل ذلك، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب والحسن البصري والأوزاعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: يجوز للإمام أن ينفل من الغنيمة ما شاء بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها كما كان له قبل ذلك، واستدلوا في ذلك بالحديث المذكور. وقال ابن قدامة: ينفل الإِمام ومن استخلفه الإِمام كما فعل النبي -عليه السلام- في بدأته الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس النفل بزيادة تزاد على سهم الغازي، ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض، والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: هذا الذي ذكره الخرقي، وهو أن الإِمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيًا بعث بين يديه سرية تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس، فما قدمت به السرية من شيء، أخرج خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي وذلك خمسٌ آخر، ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه، فإذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم أعطى السرية ثلث ما بقي، ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه، وبهذا قال حبيب بن مسلمة والأوزاعي والحسن وجماعة، ويروى عن عمرو بن شعيب أنه قال: "لا نفل بعد رسول الله -عليه السلام-، ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث". نصَّ عليه أحمد، وهذا قول مكحول والأوزاعي والجمهور من العلماء. وقال الشافعي: لا حدّ للنفل، بل هو موكول إلى اجتهاد الإِمام. القسم الثاني: أن ينفل بعض الجيش لعنائه وبأسه وبلائه، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش. القسم الثالث: أن يقول الأمير: من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب أو فعل كذا فله كذا، فهذا جائز في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما من غير الخمس فلا؛ لأن ذلك قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه، وقالوا: قد يحتمل أن يكون ما كان للنبي -عليه السلام- ينفله في الرجعة هو ثلث الخمس بعد الربع الذي كان نفله في البدأة فلا يخرج مما قلنا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله-، فإنهم قالوا: لا يجوز التنفيل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس. وقال الجصاص: قال أصحابنا والثوري: لا نفل بعد إحراز الغنيمة، إنما النفل أن يقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أصاب شيئًا فهو له. وقال الأوزاعي: في رسول الله -عليه السلام- أسوةٌ حسنة؛ كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث. وقال مالك والشافعي في جواز النفل بعد إحراز الغنيمة نحو أن يقول: من أخذ شيئًا فهو له، ومن قتل قتيلاً فله سلبه. قوله: "وقالوا: قد يحتمل. . ." إلى آخره، جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من حديث حبيب بن سلمة. بيانه أن يقال: استدلالكم بالحديث المذكور غير تام. لأنه يحتمل أن يكون تنفيل النبي -عليه السلام- في الرجعة هو ثلث الخمس بعد الربع الذي كان نفله في ابتداء الغزو، فحينذٍ يكون الحديث حجة لنا حيث يكون التنفيل بالثلث من الخمس لا من غير الخمس. وقال الجصاص في تأويل الحديث المذكور: ومعلوم أن ذلك ليس بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي في شيء بعينه، ولم يبين كيفيته، وجائز أن يكون معناه ما ذكره من قوله للسرية في الرجعة: "وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله لها في البدأة". لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنيمة وإحرازها، ويكون من

يواليهم من الكفار متأهبين مستعدين للقتال؛ لانتشار الخبر بوصول الجيش إلى أرضهم. والوجه الآخر: أنه جائز أن يكون بعد إحراز الغنيمة، وكان ذلك في الوقت الذي كانت الغنيمة كلها للنبي -عليه السلام- فجعلها لمن شاء منهم، وذلك منسوخ بما ذكرنا. فإن قيل: ذكر في حديث حبيب بن مسلمة: "الثلث بعد الخمس"، فهذا يدل على أن ذلك كان بعد قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬1). قيل له: لا دلالة فيه على ما ذكرت؛ لأنه لم يذكر أن الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (1)، وجائز أن يكون ذلك على خمس من الغنيمة لا فرق بينه وبين الثلث والنصف، ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا؛ لم يجز الاعتراض به على ظاهر قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}؛ (1) إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب الأربعة الأخماس للغانمين، فاقتضى به إيجاب الخمس لأهله كاقتضائه إيجاب الخمس لأهله المذكورين، فمتى أحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية، فغير جائز أن يجعل شيء منها لغيره على غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية، والله أعلم. ص: فقال لهم الآخرون: إن الحديث إنما جاء في أن رسول الله -عليه السلام- كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث، فكما كان الربع الذي كان ينفله في البدأة إنما هو الربع قبل الخمس، فكذلك الثلث الذي كان ينفله في الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى. قيل لهم: بل له معنى صحيح؛ وذلك أن المذكور من نفله في البدأة هو الربع مما يجوز له النفل منه، فكذلك نفله في الرجعة هو الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [41].

ش: أي قال لأهل المقالة الثانية الآخرون، وهم أهل المقالة الأولى. تقريره: أن هذا منع لما ذكروه من قولهم: قد يحتمل. . . إلى آخره. وهو ظاهر، وكذلك جوابه وهو قوله: "قيل لهم: بل له معنى صحيح. . ." إلى آخره. ص: قال أهل المقالة الأولى: فقد روي حديث حبيب هذا بلفظ يدل على ما قلنا. فذكروا ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- كان ينفل في الغزو الربيع بعد الخمس، وينفل إذا قفل الثلث بعد الخمس". حدثنا فهد وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية ابن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة: "أن رسول الله -عليه السلام- كان ينفل في الغزو الربع بعد الخمس". قالوا: فقد دلَّ ما ذكرنا أن ذلك الثلث الذي كان رسول الله -عليه السلام- ينفله في الرجعة هو الثلث بعد الخمس. قيل لهم: قد يحتمل هذا أيضًا ما ذكرنا. ش: لما أول أهل المقالة الثانية حديث حبيب بن مسلمة الذي روي من طريق سليمان بن موسى، عن زياد بن جاري، عنه، بالتأويل المذكور، وهو أنه يحتمل أن يكون تنفيله -عليه السلام- هو ثلث الخمس على ما مرَّ ذكره مستقصىً، عارضهم أهل المقالة الأولى في ذلك، وقالوا: قد روي حديث حبيب بن مسلمة هذا بلفظ آخر يدل على ما قلنا ويرد تأويلكم، وهو ما رواه مكحول الشامي، عن زياد بن جارية، عن حبيب: "أن رسول الله -عليه السلام- كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس". وقد صرَّح ها هنا أن تنفيله -عليه السلام- الثلث إنما كان بعد الخمس، فأجاب

الطحاوي عن ذلك بقوله: "قيل لهم: قد يحتمل هذا أيضًا ما ذكرنا" يعني يحتمل أن يكون معناه كان ينفل في الرجعة ثلث الخمس بعد إخراج الخمس، والاحتمال المذكور هناك موجود ها هنا، فلا يتم به الاستدلال، بل يكون الحديث على كل حال حجة لنا عليهم، فافهم. ثم إنه أخرج هذا الحديث ها هنا من ثلاث طرق: الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -تكلم فيه بعضهم، ووثقه ابن حبان- عن أبيه ثابت بن ثوبان، عن مكحول، عن زياد بن جارية -بالجيم- عن حبيب. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا عبد الله بن محمد بن عزيز الموصلي، ثنا غسان بن الربيع، ثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة قال: "نفل رسول الله -عليه السلام- الثلث". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن يزيد بن يزيد بن جابر. . . إلى آخره. والكل ثقات. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي، عن مكحول، عن زياد بن جارية التميمي، عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال: "كان رسول الله -عليه السلام- ينفل الثلث بعد الخمس". وله في رواية أخرى (¬3): "كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 19 رقم 3526). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 88 رقم 2748). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 88 رقم 2749).

الثالث: عن فهد بن سليمان وعلي بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن صالح ورَّاق الليث، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس، عن العلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي الدمشقي، عن مكحول. . . إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود أيضًا (1): عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول. . . إلى آخره نحوه. قوله: "إذا قفل" أي رجع، والقفول: الرجوع. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث". قيل لهم: وهذا الحديث أيضًا فقد يحتمل ما احتمله حديث حبيب بن مسلمة الذي أرسله أكثر الناس عن مكحول: "أنه كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث". وقد يجوز أيضًا أن يكون عبادة عنى بقوله: "وينفلهم إذا قفلوا الثلث" فيكون ذلك على قفول من قتال إلى قتال. فإذا كان ذلك كذلك وكان الثلث المُنْفل هو الثلث قبل الخمس، فذلك جائز عندنا أيضًا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم، فأما إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النفل؛ لأنه لا منفعة للمسلمين في ذلك. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى، أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبادة بن الصامت، وقد أخرجه الطحاوي في باب: "الرجل يقتل قتيلاً في دار الحرب" بعين هذا الإسناد، ولكن متن الحديث هناك غير المتن الذي ها هنا.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت: "أن النبي -عليه السلام- كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث". قال أبو عيسى: حديث عبادة حديث حسن [صحيح] (¬2). وقد روي هذا الحديث عن أبي سلام، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. قال البخاري: لا يصح حديث سليمان بن موسى، إنما رواه داود بن عمرو عن أبي سلام عن النبي -عليه السلام-، وسليمان بن موسى منكر الحديث، أنا لا أروي عنه شيئًا. قوله: "بادين" نصب على الحال من الضمير المرفوع في قوله: "إذا خرجوا". قوله: "إذا قفلوا" أي إذا رجعوا. قوله: "قيل لهم. . ." إلى آخره، جواب عن الحديث المذكور. قوله: "الذي أرسله أكثر الناس" أي أكثر الحُفَّاظ أرسلوا حديث حبيب بن مسلمة، منهم أبو أحمد الزبيري. أخرجه البيهقي من طريقه (¬3): عن سعيد، عن سليمان، عن مكحول: "أن رسول الله -عليه السلام- نفل في مبدئه الربع، فلما قفل نفل الثلث". قوله: "وقد يجوز أيضًا. . ." إلى آخره، جواب آخر عن حديث عبادة -رضي الله عنه-، وهو ظاهر. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عُمر وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قالا: ثنا عكرمة بن عمار، عن إياس ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 130 رقم 1561). (¬2) كذا في "الأصل، ك ", وليس في النسخة المطبوعة من "جامع الترمذي". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 313 رقم 12583).

ابن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: "لما قربنا من المشركين أمرنا أبو بكر -رضي الله عنه- فشننا الغارة عليهم، فنفلني أبو بكر -رضي الله عنه- امرأةً من فزارة أتيت بها من الغارة، فقدمت بها المدينة، فاستوهبها مني رسول الله -عليه السلام- فوهبتها له، فبعث بها رسول الله -عليه السلام- ففادى بها أناسًا من المسلمين". فكان من الحجة للآخرين عليهم: أنه لم يذكر في ذلك الحديث أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان نفل سلمة قبل انقطاع الحرب أو بعد انقطاعها، فلا حجة في ذلك. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث سلمة بن الأكوع؛ فإنه ذكر فيه أن أبا بكر -رضي الله عنه- نفله امرأةً من السبي، فهذا يدل على جواز التنفيل بعد الفراغ من قتال العدو وبعد إحراز الغنيمة. وأخرجه الطحاوي في الباب الأول من كتاب السير بعين هذا الإسناد مقتصرًا على حكم شنِّ الغارة، وأخرج ها هنا طرفًا منه. وأخرجه مسلم بتمامه (¬1)، وقد ذكرناه هناك. قوله: "فشننا الغارة"، أي فرقنا عليهم من جميع جهاتهم، والغارة اسم من الإغارة. قوله: "ففادى بها أناسًا" من المفاداة، قال الجوهري: يقال: فداه وفاداه: إذا أعطى فداءه وأنقذه. وقال ابن الأثير: الفِدَاء -بالكسر والمد والفتح مع القصر-: فكاك الأسير، يقال: فداه يفديه، فداء وفدى، وفاداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه وأنقذه وفداه بنفسه. قلت: يقال: فداه: إذا أعطى المال وخلص الأسير، وأفداه: إذا دفع الأسير وأخذ المال، وفاداه: إذا أعطى الأسير وأخذ عوضه الأسير. ¬

_ (¬1) تقدم.

قوله: "فكان من الحجة للآخرين عليهم" أي فكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى، وأراد بها جواب عما قالوا. تقريره: أن الاستدلال بحديث سلمة بن الأكوع لما ذهبوا إليه غير صحيح؛ لأنه لم يبيِّن فيه أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان نفل سلمة بعد انقطاع الحرب وبعد إحراز الغنيمة، ولا بيَّن فيه أيضًا أن كان قبل ذلك، فبطل الاستدلال به. ص: واحتجوا لقولهم أيضًا بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا المبارك، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث سرية فيها ابن عمر -رضي الله عنهما- فغنموا غنائم كثيرة، فكانت غنائمهم لكل إنسان اثني عشر بعيرًا، ونفل كل إنسان منهم بعيرًا بعيرًا سوى ذلك". قالوا: فهذا ابن عمر يخبر أنهم قد نفلوا بعد سهامهم بعيرًا بعيرًا، فلم ينكر ذلك النبي -عليه السلام-. قيل لهم: ما لكم في هذا الحديث من حجة، وهو إلى الحجة عليكم أقرب منه إلى الحجة لكم؛ لأن فيه: "فبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا"، ففي ذلك دليل أن ما نفلوا منه ما نفلوا من ذلك كان من غير ما كانت فيه سهمانهم وهو الخُمس، فلا حجة لكم بهذا الحديث في النفل من غير الخمس. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. أخرجه بإسناد صحيح. والمبارك هو ابن فضالة.

وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث سريةً فيها عبد الله قبل نجد، فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا -أو أحد عشر بعيرًا- ونفلوا بعيرًا بعيرًا". وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "بعث النبي -عليه السلام- سرية وأنا فيهم قِبَل نجد، فغنموا إبلاً كثيرةً، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا -أو أحد عشر بعيرًا- ونفلوا بعيرًا بعيرًا". وأخرجه أبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. وعن القعنبي وابن موهب كلاهما، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث سريةً فيها عبد الله بن عمر قِبَل نجد. . ." الحديث. قوله: "قالوا" أي قال أهل المقالة الأولى، وأشار إلى بيان وجه استدلالهم بالحديث المذكور، وأجاب عنه بقوله: "قيل لهم. . ." إلى آخره، وهو ظاهر. وقال أبو عمر: في الحديث من الفقه: إرسال السرايا إلى أرض العدو، وذلك عند العلماء مردود إلى إذن الإِمام واجتهاده على قدر ما يعلم من قوة العدو وضعفه. وفيه: أن ما يحصل عليه المسلمون ويعيدونه من أموال العدو يسمى غنيمة. وفيه: أن للإمام والأمير على الجيش أن ينفل من الغنائم ما شاء على قدر اجتهاده. وفيه: أن ما غنمه المسلمون من أموال المشركين يقسم بينهم بعد إخراج خمسه. ص: فلما لم يكن في شيء مما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم من الآثار ما يجب به ما قالوا، أردنا أن ننظر فيما احتج به أهل المقالة الأخرى لقولهم من الآثار أيضًا، فنظرنا في ذلك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1141 رقم 2965). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1368 رقم 1749). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 87 رقم 2744).

فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- أخذ يوم حنين وبرةً من جنب بعير، ثم قال: يا أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس، والخُمس مردودٌ فيكم، فأدوا الخيط والمخيط، وكان رسول الله -عليه السلام- يكره الأنفال، وقال: ليَرُدَّ قوي المؤمنين على ضعفيهم". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس"؟ فدلَّ ذلك أن ما سوى الخُمس من الغنائم للمقاتلة لا حكم للإمام في ذلك، ثم كره رسول الله -عليه السلام- الأنفال، وقال: "ليَرُدَّ قوي المؤمنين على ضعيفهم"، أي لا يفضل أحد من أقوياء المؤمنين مما أفاء الله عليهم لقوته على ضعيفهم لضعفه، ويستوون في ذلك، واستحال أيضًا أن يكون رسول الله -عليه السلام- نفل من الأنفال ما كان يكره، فكان النفل الذي ليس بمكروه هو النفل من الخُمس. فثبت بذلك أن ما كان رسول الله -عليه السلام- نفله ما رواه عبادة عنه في هذا الحديث هو من الخُمس. ش: لما انتفت صحة استدلال أهل المقالة الأولى بالأحاديث المذكورة لما ذهبوا إليه، ولم يكن لهم دليل فيها على الوجه المذكور. أشار إلى بيان ما احتجت به أهل المقالة الثانية من الأحاديث على وجه الصحة، فمنها حديث عبادة بن الصامت، أخرجه في هذا الباب عن قريب بعين هؤلاء الرواة عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان -فيه مقال- عن سليمان بن موسى، عن مكحول الشامي، عن أبي سلام ممطور الحبشي، عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي الصحابي -رضي الله عنه-.

وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني عمرو بن يحيى بن الحارث، نا محبوب -يعني ابن موسى-[قال: أنبأنا أبو إسحاق -وهو الفزاري، عن عبد الرحمن بن عياش، عن سليمان بن موسى] (¬2) عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله -عليه السلام- يوم حنين وبرةً من جنب بعير، فقال: يا أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم". وأخرجه أحمد بوجوه كثيرة، منها (¬3): ما رواه عن معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق -يعني الفزاري- عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت، عن النبي -عليه السلام- قال: "أدوا الخيط والمخيط، وإياكم والغلول، وإنه عار على أهله يوم القيامة". قوله: "وَبَرَة" بالفتحات، قال الجوهري: الَوبَر للبعير -بالتحريك- الواحدة وبرة. قوله: "مما أفاء الله عليكم من الفيء" وهو الغنيمة. قال الجوهري: الفيء: الخراج والغنيمة، تقول منه: أَفَاءَ الله على المسلمين مال الكفار يُفيء إفاءة. قوله: "والمخيط" بكسر الميم: الإبرة، وفي رواية "أدوا الخياط والمخيط" الخياط هو الخيط. وهذا الحديث يدل على أن ما سوى الخمس من الغنائم للمقاتلة، ولا حكم للإمام فيه، فإذا كان كذلك فلا يجوز التنفيل منه، فافهم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 131 رقم 4138). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى". (¬3) "مسند أحمد" (5/ 318 رقم 22766).

ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا ما يدل على صحة هذا المذهب: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية، عن معن بن يزيد السلمي، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا نَفْل إلا بعد الخمس"، ومعنى قوله: "إلا بعد الخمس" عندنا -والله أعلم- أي حتى يقسم الخمس، فإذا قسم الخمس انفرد حق المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذي ينفله الإِمام من بعد أن أثر أن يفعل ذلك من الخُمس لا من أربعة الأخماس التي هي حق المقاتلة. ش: أي قد روي أيضًا عن النبي -عليه السلام- ما يدل على صحة مذهب أهل المقالة الثانية، وهو حديث معن بن يزيد بن الأخنس السلمي، له ولأبيه ولجده صحبة. أخرجه بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سهل بن بكار بن بشر الدارمي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة عن عاصم بن كليب بن شهاب الجرمي الكوفي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن أبي الجويرية الجرمي -واسمه حطان بن خفاف- وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة، وروى له البخاري وأبو داود والنسائي. عن معن بن يزيد -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي (¬1) بأتم منه: من حديث أبي عوانة، عن عاصم بن كليب، حدثني أبو الجويرية قال: "وجدت جرة خضراء في إمارة معاوية -رضي الله عنه- في أرض العدو وعلينا رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- من بني سليم يقال له: معن بن يزيد، فأتيته بها، فقسمها بين الناس وأعطاني مثل ما أعطى رجلاً منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول ورأيته يفعل، سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا نفل إلا بعد الخُمس لأعطينك، وأخذ يعرض عليَّ من نصيبه، فأبيت وقلت: ما أنا بأحق به منك". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 314 رقم 12589).

ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: "أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في غزاة غزاها فأصابوا سبيًا، فأراد عبيد الله أن يعطي أنسًا من السبي قبل أن يقسم، فقال أنس: لا, ولكن اقسم ثم أعطني من الخُمس، قال: فقال عبيد الله: لا، إلا من جميع الغنائم، فأبى أنس أن يقبل منه، وأبى عبيد الله أن يعطيه من الخُمس شيئًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن كهمس بن الحسن، عن محمد بن سيرين، عن أنس نحوه. فهذا أنس لم يقبل النفل إلا من الخمس. ش: أي: وقد دلَّ على ما ذكرنا من أن النفل لا يكون إلاَّ من الخُمس حديث أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين. . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مختصرًا: ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن محمد قال: "بعث إلي أنس -رضي الله عنه- بشيء قبل أن تقسم الغنائم، فقال: لا، وأبى حتى تقسم". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن كهمس بن الحسن التميمي البصري، عن محمد بن سيرين، عن أنس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 500 رقم 33292).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، ولكن في روايته عبيد الله بن زياد موضع عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي، كان عبيد الله بن أبي بكرة والي زياد بن أبي سفيان، ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وقال: يروي عن أبيه، عداده في أهل البصرة، روى عن أهلها. قلت: أبو بكرة اسمه نفيع الصحابي -رضي الله عنه-. وقال ابن أبي شيبة (1): أنا ابن إدريس، عن كهمس، عن ابن سيرين قال: "غزا أنس بن مالك مع عبيد الله بن زياد، قال: فأعطاه ثلاثين رأسًا من سبي الجاهلية، قال: فسأله أنس أن يجعلها من الخُمس فأبى أن يقبلها". ص: وقد روى مثل ذلك أيضًا عن جبلة بن عمرو: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار: "أنهم كانوا مع معاوية بعد حديج في غزوة المغرب، فنفل الناس، ومعنا أصحاب النبي -عليه السلام- فلم يردوا ذلك غير جبلة بن عمرو". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، قال: "سألت سليمان بن يسار عن النفل في الغزو، فقال: لم أر أحدًا صنعه غير ابن حديج؛ نفلنا بأفريقية النصف بعد الخُمس ومعنا من أصحاب النبي -عليه السلام- من المهاجرين الأولين أناس كثير، فأبى جبلة بن عمرو أن ياخد منها شيئًا". ش: أي وقد روي مثل ما ذكرنا أن النفل لا يكون إلا من الخُمس عن جبلة بن عمرو الأنصاري الصحابي أخو أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري -رضي الله عنهما-، أخرجه من طريقين فيهما عبد الله بن لهيعة المصري، فيه مقال. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 500 رقم 33296).

وسليمان بن يسار الهلالي أبو أيوب المدني مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، أخو عطاء بن يسار، روى له الجماعة. ومعاوية بن حُديج -بضم الحاء المهملة وفي آخره جيم- التجيبي أبو نعيم الكندي الخولاني المصري له صحبة، وقيل: لا صحبة له. والأول أصح، ولي الإمرة على غزو المغرب سنة أربع وثلاثين وسنة أربعين وسنة خمسين. وخالد بن أبي عمران التجيبي أبو عمر التونسي قاضي إفريقية، واسم أبي عمران زيد، قال ابن يونس: كان فقيه أهل المغرب ومفتي أهل مصر والمغرب، وكان يقال: إنه مستجاب الدعوة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وقال أبو حاتم: لا بأس به. روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. والأثر أخرجه ابن يونس في ترجمة جبلة بن عمرو معلقًا، وقال: وحديثه رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن الأشج، قال: "سألت سليمان بن يسار عن النفل في الغزو، فقال: نفلنا معاوية بن حُديج بإفريقية، فأبى جبلة بن عمرو الساعدي صاحب النبي -عليه السلام- أن يأخذ من ذلك شيئًا". قلت: غزوة معاوية بن حُديج إفريقية سنة أربع وثلاثين، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: ففي هذا الحديث أن أصحاب رسول الله -عليه السلام- سوى جبلة بن عمرو قد قبلوا. قيل له: صدقت، ونحن فلم ننكر أن الناس قد اختلفوا في ذلك، فمنهم من أجاز للإمام النفل قبل الخُمس، ومنهم من لم يجزه، وأن أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد كانوا في ذلك مختلفين، وإنما أردنا بما روينا عن أنس وجبلة أن نخبر أن قولنا هذا قد تَقَدَمَنَا فيه من ذكرنا من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: إن التنفيل بعد الفراغ من القتال وبعد إحراز الغنيمة لا يجوز، وقد جاء في حديث جبلة بن عمرو: أن أصحاب

رسول الله -عليه السلام- غير جبلة قد قبلوا نفل معاوية بن حُديج، فدلَّ أن التنفيل بعد فراغ القتال وإحراز الغنيمة جائز، وهذا يرد ما قلتم. والجواب عنه ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في هذا. فذكر ما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن رجل من قومه يقال له: شبر بن علقمة، قال: "بارزت رجلاً يوم القادسية فقتلته، فبلغ سلبه اثني عشر ألفًا، فنفلنيه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-". قيل له: قد يجوز أن يكون سعد نفله ذلك والقتال لم يرتفع، فإذا كان كذلك فهذا قولنا أيضًا، وان كان إنما نفله بعد ارتفاع القتال فقد يجوز أن يكون جعل ذلك من الخُمس، فإن كان جعله من غير الخُمس فهذا فيه الذي ذكرنا من الاختلاف، فلم يكن في هذا الحديث لأحد الفريقين حجة؛ إذ كان قد يحتمل ما قد صرفه إليه مخالفه. ش: تقرير السؤال أن يقال: قد ورد عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في هذا الباب ما ينافي ما ذكرتم مما ذهبتم إليه. أخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن الأسود بن قيس العبدي روى له الجماعة، عن شِبر -بكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة، وفي آخره راء- بن علقمة العبدي الكوفي -وثقه ابن حبان. قوله: "يوم القادسية" -بالقاف- وكان في سنة أربع عشرة من الهجرة، وكان أمير القوم يومئذٍ سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-. و"القادسية": بلدة ذات نخيل ومياه في أرض العراق، بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخًا. قوله: "إذ كان" كلمة "إذْ" للتعليل.

ص: ووجب بعد ذلك أن نكشف وجه هذا الباب لنعلم كيف حكمه من طريق النظر، فكان الأصل في ذلك أن الإِمام إذا قال في حال القتال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" أن ذلك جائز، ولو قال: "من قتل قتيلاً فله كذا وكذا درهمًا" كان ذلك جائز أيضًا, ولو قال: "من قتل قتيلاً فله عُشْر ما أصبنا" لم يجز ذلك؛ لأن هذا لو جاز جاز أن تكون الغنيمة كلها للمقاتلين فيبطل حق الله -عز وجل- فيها من الخُمس، فكان النفل لا يكون قبل القتال إلا فيما أصابه المُنَفَّل بسيفه، ولا يجوز فيما أصاب غيره إلا أن يكون حكمه حكم الإجارة فيجوز ذلك كما تجوز الإجارة، كقوله: من قتل قتيلاً فله عشرة دراهم، فذلك جائز. فلما كان ما ذكرنا كذلك ولم يجز النفل إلا فيما أصاب المُنَفَّل بسيفه أو فيما جُعل له بعمله، ولم يجز أن يُنَفَّل مما أصاب غيره؛ كان النظر على ذلك أيضًا أن يكون بعد إحراز الغنيمة أحرى أن لا يجوز أن ينفل مما أصاب غيره. ففسد بذلك قول من أجاز النفل بعد إحراز الغنيمة، ورجعنا إلى حكم ما أصابه هو، فكان ذلك قبل أن يُنَفِّله الإِمام إياه قد وجب حق الله -عز وجل- في خُمسه، وحق المقاتلة في أربعة أخماسه، فلو أجزنا النفل إذًا لكان حقهم قد بطل بعد وجوبه، وإنما يجوز النفل فيما يدخل في ملك المُنَفَّل من ملك العدو، فأما ما قد زال عن ملك العدو وصار في ملك المسلمين، فلا نفل في ذلك؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك أن لا نفل بعد إحراز الغنيمة على ما قد فصَّلنا في هذا الباب وبيَّنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وجب بعد بيان المذاهب بالأحاديث والآثار؛ أن نكشف وجه هذا الباب، أي باب النفل لنعلم حكمه من طريق النظر والقياس، وشرَع يُبيِّن ذلك بقوله: "فكان الأصل في ذلك. . . " إلى آخره، وهذا ظاهرٌ لا يحتاج إلى زيادة بيان. قوله: "إلا فيما أصابه المنفَّل" بفتح الفاء المشددة، وهو الرجل الذي عين له النفل. قوله: "فثبت بذلك" نتيجة القياس.

ص: باب: المدد يقدمون بعد الفراغ من القتال في دار الحرب بعدما ارتفع القتال قبل قفول العسكر، هل يسهم لهم أم لا؟

ص: باب: المدد يَقْدُمون بعد الفراغ من القتال في دار الحرب بعدما ارتفع القتال قبل قفول العسكر، هل يُسْهم لهم أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم المدد؟، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد، إذا قدموا بعد فراغ الإِمام من قتال الكفار في دار الحرب قبل قفول العسكر، أي رجوعهم إلى دار الإِسلام، هل لهم سهم من الغنيمة أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أنا إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن ابن شهاب الزهري، أن عنبسة أخبره، أنه سمع أبا هريرة يحدث سعيد بن العاص، قال أبو هريرة: "بعث النبي -عليه السلام- أبان بن سعيد على سرية من المدينة قِبَل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي -عليه السلام- بخيبر بعدما فتحها وإن حُزُمَ خيلهم الليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة: فقلت: لا تقسم لهم شيئًا يا نبي الله، قال أبان: أنت بها يا وَبرْ تحدّر علينا من رأس ضال، فقال النبي -عليه السلام-: اجلس يا أبان، فلم يقسم لهم شيئًا". ش: إسناده صحيح. وإسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، احتج به الأربعة. ومحمد بن الوليد الزبيدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- الحمصي القاضي، روى له الجماعة سوى الترمذي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. وعنبسة بن سعيد بن العاص الأموي القرشي أبو خالد المدني، وثقه يحيى وأبو داود والدارقطني، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا إسماعيل بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 80 رقم 2723).

عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، أن عنبسة بن سعيد أخبره، أنه سمع أبا هريرة يحدث. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري تعليقًا (¬1). قوله: "يحدث سعيد بن العاص" هو سعيد بن العاص بن أبي أحيحة القرشي الأموي المدني الصحابي. وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الأموي الصحابي. قوله: "وإن حُزُمَ خيلهم" الحُرُم -بضمتين-: جمع حزام الدابة، وهو معروف. قوله: "أنت بها" فيه إضمار وحذف، تقديره: "أنت المتكلم بهذه الكلمة"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يرمي فإذا اصاب قال: أنا بها أنا بها، أي أنا الفائز بالإِصابة. قوله: "يا وَبْر" الوَبْر -بفتح الواو وسكون الباء الموحدة وبعدها راء مهملة- وهي دويبة غبراء، ويقال: بيضاء على قدر السنور حسنة العينين لا ذنب لها، وهي من دواب الجبال، يريد بهذه الكلمة تصغير شأنه وتوهين أمره، وقيده بعضهم بفتح الباء، وتأوله أنه جمع وبرة وهي شعر الإِبل. والأول هو المشهور في الرواية والأوجه في المعنى. قوله: "تحدّر علينا" جملة وقعت صفة للوبر، أي نزل علينا من رأس ضال أي جبل الضال -باللام المخففة- اسم جبل أو اسم موضع بعينه، وأراد بهذا الكلام تشبيهه بدويبة صغيرة نزلت من رأس جبل؛ تحقيرًا له، ويروى: ضان وضال بالنون واللام، حاصل الكلام: مادة هذه الكلمة: (ضاد معجمة وألف ساكنة ولام مخففة أو نون) وقال ابن الأثير: وقيل: أراد به الضأن من الغنم فتكون "ألفه" همزة. ص: قال أبو جعفر-رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أنه لا يسهم من الغنيمة إلا لمن حضر الوقعة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1548).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: لا يُسهم من الغنيمة إلا لمن حضر الوقعة، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. وقال الخطابي: قال الشافعي: الغنيمة لمن شهد الوقعة وكان ردءًا لهم، وأما من لم يحضرها فلا شيء له منها، وهو قول مالك، وكان الشافعي يقول: إن مات قبل الغنيمة فلا شيء له، وإن مات بعد القتال وقبل القسمة فسهمه لورثته. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يقسم لكل من حضر الوقعة ولمن كان غائبًا عنها من شيء من أشيائها، فمِن ذلك من خرج يريدها فلم يلحق بالإِمام حتى ذهب القتال غير أنه لحق به في دار الحرب قبل خروجه منها، قسم له. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والنخعي والثوري والحكم بن عتيبة والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يقسم لكل من حضر الوقعة. . . إلى آخره. قال الخطابي: قال الأوزاعي: إذا أدرب -يعني دخل الدرب- قاصدًا في سبيل الله أُسهم له شهد القتال أو لم يشهد، وقال أبو حنيفة: من لحق قبل القسمة فهو شريك الغانمين. وقال ابن قدامة: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- في المدد: إن لحقهم قبل القسمة وإحرازها بدار الإِسلام شاركهم؛ لأن تمام ملكها بتمام الاستيلاء وهو الإحراز إلى دار الإِسلام أو قسمتها، فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملكها؛ فاستحق منها كما لو جاء في أثناء الحرب. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا كليب بن وائل، قال: حدثني هانئ بن قيس، عن حبيب بن أبي مليكة قال: "كنت قاعداً إلى جنب ابن عمر -رضي الله عنهما-، فأتاه رجل فقال: هل شهد عثمان بدرًا؟ فقال: لا, ولكن رسول الله -عليه السلام- قال: إن عثمان

انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غاب يوم بدر غيره". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد ضرب لعثمان -رضي الله عنه- في غنائم بدر بسهم ولم يحضرها؛ لأنه كان غائبًا في حاجة الله وحاجة رسوله؟ فجعله رسول الله -عليه السلام- كمن حضرها، فكذلك كل من غاب عن وقعة المسلمين بأهل الحرب لشغل شغله به الإِمام من أمور المسلمين، مثل أن يبعثه إلى شق آخر من دار الحرب لقتال قوم آخرين، فيصيب الإِمام غنيمةً بعد مفارقة ذلك الرجل إياه، أو يبعث برجل ممن معه من دار الحرب إلى دار الإِسلام ليمده بالسلاح والرجال، فلا يعود ذلك الرجل إلى الإِمام حتى يغنم غنيمة، فهو شريك فيها، وهو كمن حضرها، وكذلك من أرادها فرده الإِمام عنها وشغله بشيء من أمور المسلمين فهو كمن حضرها. وعلى هذا الوجه عندنا -والله أعلم- أسهم النبي -عليه السلام- لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- في غنائم بدر، ولولا ذلك لما أسهم له كما لم يسهم لغيره ممن غاب عنها؛ لإن غنائم بدر لو كانت وجبت لمن حضرها دون من غاب عنها إذًا لما ضرب النبي -عليه السلام- لغيرهم فيها بسهم، ولكنها وجبت لمن حضر الوقعة، ولكن من بذل نفسه لها فصرفه الإِمام عنها وشغله بغيرها من أمور المسلمين كمن حضرها. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيار الشعيري البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح"، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة، عن كليب بن وائل التيمي البكري الكوفي روى له البخاري والترمذي، ووثقه يحيى وابن حبان، عن هانئ بن قيس الكوفي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود، عن حبيب بن أبي مليكة النهدي أبي ثور الكوفي وثقه أبو زرعة.

وروى له أبو داود (¬1) الحديث المذكور: ثنا محبوب بن موسى أبو صالح، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن كليب بن وائل، عن هانئ بن قيس، عن حبيب بن أبي مليكة، عن ابن عمر قال: "إن رسول الله -عليه السلام- قام -يعني يوم بدر- فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، وإني أبايع له، فضرب [له] (¬2) رسول الله -عليه السلام- بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره". وجه الاستدلال به ظاهر؛ قد بينه الطحاوي مبسوطًا. فإن قيل: استدلالكم بهذا الحديث لا يصح؛ لأنه خاص بعثمان -رضي الله عنه-؛ لأنه كان يُمرض ابنة رسول الله -عليه السلام-، وهو معنى قوله: "حاجة الله وحاجة رسوله"، يريد بذلك حاجة عثمان في حق الله وحق رسوله. قال الخطابي: ومن احتج بهذا لمن لحق الجيش قبل القسم فهو غير مصيب؛ وذلك أن عثمان -رضي الله عنه- كان بالمدينة وهو القائل: "لا يقسم لمن كان في المصر" فلا موضع لاستدلاله. قلت: لا نُسلِّم دعوى الخصوصية؛ لأنه -عليه السلام- ضرب بسهم لغير عثمان أيضًا ممن كان في معنى غيبة عثمان وهم: طلحة بن عبيد الله وكان بالشام فضرب له النبي -عليه السلام- بسهمه، والحارث بن حاطب رجعه النبي -عليه السلام- إلى المدينة وضرب له بسهمه، وعاصم بن عدي كذلك، وخوات بن جبير ضرب له رسول الله -عليه السلام-، بسهمه والحارث بن الصُّمة كُسِر بالروجاء فضرب له النبي -عليه السلام- وسعيد بن زيد قدم من الشام بعدما رجع النبي -عليه السلام- إلى المدينة فضرب له النبي -عليه السلام- بسهمه. فإذا تأملت كلام الطحاوي في قوله: "أفلا ترى. . ." إلى آخره، يظهر لك منه تمام الجواب عن هذا السؤال. ص: وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فإنما ذلك عندنا -والله أعلم- على أن النبي -عليه السلام- وجَّه أبان إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر فتوجه أبان في ذلك، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 81 رقم 2726). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

ثم حدث من خروج النبي -عليه السلام- إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك عن حضور خيبر، ليس هو شغل شغله النبي -عليه السلام- عن حضورها بعد إرادته إياه، فيكون كمن حضرها. فهذان الحديثان أصلان في فكل من أراد الخروج مع الإِمام إلى قتال العدو، فرده الإمام بأمر آخر من أمور المسلمين فتشاغل به حتى غنم الإِمام غنيمةً، فهو كمن حضر مع الإِمام، يُسهم له في الغنيمة كما يُسهم لمن حضرها، وكل شيء تشاغل به رجل من شغل نفسه أو شغل المسلمين مما كان دخوله فيه متقدمًا ثم حدث للإِمام قتال عدو، فتوجه له فغنم، فلا حق لذلك الرجل في الغنيمة، وهي بين من حضرها وبين من حكمه حكم الحاضر لها. ش: هذا جواب عن حديث أبي هريرة الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر. وبهذا يحصل الجواب عما قاله الخطابي الذي ذكرناه آنفًا. وقد أجاب الجصاص عن حديث أبي هريرة، وقال: وهذا لا حجة فيه؛ لأن خيبر صارت دار الإِسلام بظهور النبي -عليه السلام- عليها، وهذا لا خلاف فيه. وقد قيل فيه وجه آخر، وهو ما روى حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة قال: "ما شهدت لرسول الله -عليه السلام- مغنمًا إلا قسم لي إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة". فأخبر في هذا الحديث أن خيبر كانت لأهل الحديبية خاصة شَهِدُوها أو لم يشهدوها دون مَنْ سواهم؛ لأن الله تعالى كان وعدهم إياها بقوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} (¬1) بعد قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الفتح، آية: [21]. (¬2) سورة الفتح، آية: [22].

ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: "إن أهل البصرة غزوا نهاوند، وأمدهم أهل الكوفة فظفروا، فأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة، وكان عمار -رضي الله عنه- على أهل الكوفة، فقال رجل من بني عطارد: أيها الأجدع، تريد أن تشاركنا في غنائمنا؟! قال: فكتب في ذلك إلى عمر -رضي الله عنه-، فكتب عمر -رضي الله عنه-: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة". قالوا: فهذا عمر -رضي الله عنه- قد ذهب إلى أن الغنيمة لمن شهد الوقعة، فقد وافق هذا قولنا. قيل لهم: قد يجوز أن تكون نهاوند فتحت وصارت دار إسلام، وأحرزت الغنائم وقسمت قبل ورود أهل الكوفة، فإن كان ذلك كذلك فإنا نحن نقول أيضًا: إنما الغنيمة في ذلك لمن شهد الوقعة، فإن كان جواب عمر -رضي الله عنه- الذي في هذا الحديث -لما كتب به إليه- إنما هو لهذا السؤال، فإن ذلك مما لا اختلاف فيه. وإن كان على أن أهل الكوفة لحقوا بهم قبل خروجهم من دار الشرك بعد ارتفاع القتال فكتب عمر -رضي الله عنه- أن الغنيمة لمن شهد الوقعة، فإن في ذلك الحديث ما يدل على أن أهل الكوفة قد كانوا طلبوا أن يقسم لهم وفيهم عمار بن ياسر ومن كان فيهم غيره من أصحاب النبي -عليه السلام-، فهم ممن تكافأ قولهم بقول عمر -رضي الله عنه-، فلا يكون واحد من القولين أولى من الآخر إلا بدليل عليه إما من كتاب وإما من سنة وإما من نظر صحيح. فنظرنا في ذلك، فرأينا السرايا المبعوثة من دار الحرب إلى بعض أهل الحرب أنهم إذا غنموا فهو بينهم وبين سائر أصحابهم، وسواء في ذلك مَنْ كان خرج في تلك السرية ومن لم يخرج؛ لأنهم قد كانوا بذلوا من أنفسهم ما بذل الذين سَرَوْا، فلم

يفضل في ذلك بعضهم على بعض، وإن كان ما لقوا من القتال مختلفًا، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك من بذل نفسه بمثل ما بذل به نفسه من حضر الوقعة، فهو في ذلك كمن حضر الوقعة إذا كان على الشرائط التي ذكرنا في هذا الباب. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بظاهر قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن الغنيمة لمن شهد الوقعة". أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي وثقه أبو حاتم، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم الجدلي الكوفي روى له الجماعة، عن طارق بن شهاب البجلي الكوفي، أدرك الجاهلية ورأى النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث شعبة، ثنا قيس بن مسلم، سمعت طارقاً يقول: "إن أهل البصرة غزوا أهل نهاوند فأمدوهم بأهل الكوفة وعليهم عمار، فقدموا عليهم بعدما ظهروا على العدو، فطلب أهل الكوفة الغنيمة، وأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة من الغنيمة، فقال رجل من بني تميم لعمار: أيها الأجدع، تريد أن تشاركنا في غنائمنا؟! وكانت أذن عمار قد جدعت مع رسول الله -عليه السلام-، فكتبوا إلى عمر -رضي الله عنه-، فكتب إليهم: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة". قوله: "قيل لهم. . ." إلى آخره، جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر. فإذا قيل: قد قال الشافعي: قد روي في معنى كتاب عمر وأبي بكر -رضي الله عنهما- لا يحضرني حفظه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 50 رقم 17732).

وروى البيهقي أيضًا (¬1): من حديث حصين بن مخارق، عن سفيان، عن بختري العبدي، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن علي -رضي الله عنه-: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". قلت: الذي قاله الشافعي لا يجدي شيئًا؛ لأنه عن مجهول، والذي رواه البيهقي لا شيء؛ لأن في إسناده ابن مخارق، وهو يضع الحديث؛ قاله الدارقطني. قوله: "غزوا نُهَاوند" وهي بضم النون وفتح الهاء، وفي آخره دال مهملة، مدينة جنوبي همدان على جبل، وكانت بها وقعة عظيمة للمسلمين في زمن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان فتحها في سنة إحدى وعشرين من الهجرة على يد سعد بن أبي وقاص. قوله: "أيها الأجدع" الأجدع: مقطوع الآذان، وقد فسره البيهقي في روايته. قوله: "فهم" أي أصحاب النبي -عليه السلام- "ممن تكافئ" أي تساوى قولهم بقول عمر بن الخطاب، فإذا تساوى القولان فلا ترجيح لأحدهما على الآخر إلا بدليل من كتاب أو سنة أو قياس صحيح. والنظر الصحيح إذا تؤمل فيه يشهد ترجيح قول هؤلاء الصحابة على قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو ما ذكره الطحاوي بقوله: "فنظرنا في ذلك. . ." إلى آخره. قوله: "من حضر الوقعة" في محل الرفع؛ لأنه فاعل لقوله: "ما بذل به نفسه"، فافهم. ... ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 51 رقم 17735).

ص: باب: الأرض تفتتح، كيف ينبغي للإمام أن يفعل فيها؟

ص: باب: الأرض تفتتح، كيف ينبغي للإِمام أن يفعل فيها؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الأرض التي يفتتحها الإِمام كيف ينبغي أن يفعل فيها؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر -رضي الله عنه- قال: "لولا أن يكون الناس ببانًا ليس لهم شيء؛ ما فتح الله -عز وجل- عليّ قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -عليه السلام- خيبر". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول:. . . فذكر نحوه. ش: هذان إسنادان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة -وهو أيضًا ثقة كبير. وأسلم أبو زيد -وقيل: أبو خالد- المدني مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "لولا أني أترك الناس ببانًا لا شيء لهم؛ ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -عليه السلام- خيبر". وأخرجه البخاري (¬2): من حديث مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر قال: "لولا آخر المسلمين ما افتتحت قرية إلا قسمتها [بين أهلها] (¬3) كما قسم رسول الله -عليه السلام- خيبر". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 138 رقم 18172). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 822 رقم 2209). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

قوله: "ببانًا" بباءين موحدتين، قال أبو عبيد: لا أحسبه عربيًا. وقال أبو سعيد الضرير: ليس في كلام العرب ببان، والصحيح عندنا: بيانًا واحدًا، والعرب إذا ذكرت من لا يعرف قالوا: هذا هيان بن بيان. المعنى: لأسوين بينهم في العطاء حتى يكونوا شيئًا واحدًا لا فضل لأحد على غيره. وقال الأزهري: ليس كما ظن، وهذا حديث مشهور رواه أهل الإتقان، وكأنها لغة يمانية، ولم تقس في كلام معدّ. وقال ابن الأثير: معنى كلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لولا أن أترك آجر الناس ببانًا واحدًا أي أتركهم شيئًا واحدًا؛ لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقي من لم يحضر الغنيمة ومن لم يجىء بعد من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن للإمام إذا فتح أرضًا عنوةً وجب عليه أن يقسمها كما تقسم الغنائم، وليس له احتباسها كما ليس له احتباس سائر الغنائم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: إذا فتح الإِمام أرضًا عنوة يجب عليه أن يقسمها كما تقسم الغنائم. وقال ابن حزم في "المحلى": وتقسم الأرض وتخمس كسائر الغنائم؛ فإن طابت نفوس جميع أهل العسكر على تركها أوقفها الإِمام حينئذ للمسلمين وإلا فلا، وهو قول الشافعي وأبي سليمان. وقال مالك: تُوقف الأرض ولا تقسم ولا تكون ملكًا لأحد. ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: الإمام بالخيار إن شاء خمسها وقسم أربعة أخماسها، وإن شاء تركها أرض خراج ولم يقسمها.

حدثنا بذلك محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن أبي حنيفة وسفيان بذلك. وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وأحمد في رواية, فإنهم قالوا: الإِمام إذا فتح أرضًا فله الخيار، إن شاء خمسها وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وإن شاء تركها أرض خراج. وفي "المحلى": قال أبو حنيفة: الإِمام مخير، إن شاء قسمها وإن شاء أوقفها، فإن أوقفها فهي ملك للكفار الذين كانت لهم. قوله: "حدثنا بذلك" أي بما قال هؤلاء الجماعة الآخرون: محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي حنيفة وسفيان الثوري. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك: ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، عن الحجاج، عن الحكم، عن مِقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بالشطر، ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم". حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله - صلى الله عميه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما خرج من الزرع". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عون الزيادي، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أفاء الله -عز وجل- خيبر فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم".

فثبت بذلك أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن قسم خيبر بكمالها, ولكنه قسم طائفة منها على ما احتج به عمر -رضي الله عنه- في الحديث الأول، وترك طائفة منها فلم يقسمها على ما روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- في هذه الآثار الأُخَر، والذي كان قسم منها هو الشق والنطاة، وترك سائرها، فعلمنا بذلك أنه قسم وله أن يقسم، وترك وله أن يترك. فثبت بذلك أن هكذا حكم الأرضين المفتتحة؛ للإِمام قسمها إن رأى ذلك صلاحًا للمسلمين كما قسم رسول الله -عليه السلام- ما قسم من خيبر، وله تركها إن رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين أيضًا كما ترك رسول الله -عليه السلام- ما ترك من خيبر، يفعل ذلك ما رأى على التحري منه لصلاح المسلمين، وقد فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أرض السواد مثل ذلك أيضًا فتركها للمسلمين أرض خراج لينتفع بها من يجيء من بعده منهم كما ينتفع بها من كان في عصره من المسلمين. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الجماعة الآخرين فيما ذهبوا إليه: ما قد روي عنه -عليه السلام- من الأحاديث، وأخرج في ذلك عن ثلاثة من الصحابة وهم: ابن عباس وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم-. أما حديث ابن عباس: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي -فيه مقال- عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة مولى ابن عباس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سريج بن النعمان، ثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف". قوله: "بالشطر" أي بالنصف، ورواية أحمد فسرت رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 250 رقم 2255).

وأما حديث ابن عمر فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- عامل. . ." إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1)، ومسلم مطولاً (¬2): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- عامل أهل خيبر بشطر ما خرج من زرع أو تمر. . ." الحديث. وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عون محمد بن عون الزيادي، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمد بن أبي خلف، قال: ثنا محمد بن سابق، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: "أفاء الله على رسوله خيبر، فأقرهم رسول الله -عليه السلام- كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحه فخرصها عليهم". قوله: "أفاء الله خيبر" أي جعلها غنيمة لرسوله وللمؤمنين. قوله: "فخرصها عليهم" أي حزر ما عليها من الزرع والتمر، وهو من الخرص وهو الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن، والاسم الخِرْص -بالكسر- يقال: كم خِرْص أرضك؟. قوله: "هو الشَّق" بفتح الشين المعجمة وهو الأعرف عند أهل اللغة، وكذلك قيَّده البكري. و"النطاة" بالنون، وهما موضعان من أرض خيبر. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 820 رقم 2203). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1186 رقم 1551). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 285 رقم 3414).

ص: فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون عمر -رضي الله عنه- لم يفعل في السواد ما فعل من ذلك من جهة ما قلتم، ولكن لأن المسلمين جميعًا رضوا بذلك، والدليل على أنهم قد رضوا بذلك أنه جعل الجزية على رقابهم، فلم يخلُ ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون جعلها ضريبة للمسلمين لأنهم عبيد لهم. أو أن يكون جعل ذلك عليهم كما يجعل الجزية على الأحرار؛ لتحقن بذلك دماؤهم. فرأيناه قد أهمل نساءهم ومشايخهم وأهل الزمانة منهم وصبيانهم، وإن كانوا قادرين على الأكتساب أكثر مما يقدر عليه بعض البالغين، فلم يجعل على أحد مما ذكرنا شيئًا من ذلك، فدلّ ما بقي من ذلك أن ما أوجب ليس لعلة الملك، ولكنه لعلة الذمة، وقبل ذلك جميعُ من افتتح تلك الأرض، فكان أخذهم ذلك منه دليلاً على إجازتهم لما كان عمر -رضي الله عنه- فعل من ذلك. ثم رأيناه وضع على الأرض شيئًا مختلفًا، فوضع على جريب الكرم شيئًا معلومًا، ووضع على جريب الحنطة شيئًا معلومًا، وأهمل النخل فلم ياخد منها شيئًا. فلم يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون يملك به القوم الذين قد ثبتت جزيتهم ثمار أراضيهم والأرض ملك المسلمين، أو يكون جعل ذلك عليهم كما جعل الخراج على رقابهم، ولا يجوز أن يكون الخراج يجب إلا فيما ملكه بغير أخد الخراج. فإن حملنا ذلك على التمليك من عمر -رضي الله عنه- إياهم ثمر النخل والكرم بما جعل عليهم مما ذكرنا، جُعِلَ فعله ذلك قد دخل فيما قد نهى عنه رسول الله -عليه السلام- من بيع السنين ومن بيع ما ليس عندك، فاستحال أن يكون الأمر على ذلك. ولكن الأمر عندنا على أن تمليكه لهم الأرض التي أوجب هذا عليهم فيما تقدم على أن يكون ملكهم لذلك ملكًا خراجيًا هذا حكمه فيما يجب عليهم فيه، وقَبِلَ

الناسُ منه جميعًا ذلك، وأخذوا منه ما أعطاهم مما أخذ منهم، فكان قبولهم لذلك إجازة منهم لفعله. قالوا: فلهذا جعلنا أهل السواد مالكين لأرضيهم وجعلناهم أحرارًا للعلة المتقدمة، وكل هذا فإنما كان بإجازة القوم الذين غنموا تلك الأرضين، ولولا ذلك لما جاز وكانوا على ملكهم. قالوا: فكذلك نقول: كل أرض مفتتحة عنوة فحكمها أن تقسم كما تقسم الأموال: خُمسها لله -عز وجل-، وأربعة أخماسها للذين افتتحوها, ليس للإِمام منعهم من ذلك إلا أن تطيب أنفس القوم بتركها كما طابت أنفس الذين افتتحوا السواد لعمر -رضي الله عنه- بما ذكرنا. ش: تقرير السؤال أن يقال: استدلالكم بفعل عمر -رضي الله عنه- غير تام؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ما فعله في السواد إنما كان برضى المسلمين كلهم، والدليل على ذلك أنه قد وضع الجزية على رقابهم. . . إلى آخره، وهو ظاهر. وأراد بأرض السواد أرض الكوفة والبصرة؛ سميت بذلك لشدة خضرتها بالزروع والأشجار. قوله: "ضريبة" على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، وهو ما يؤديه الذمي إلى الإِمام من الخراج المقرر عليه، أو العبد إلى سيده من المال المضروب عليه، ويجمع على ضرائب. قوله: "على جريب الكرم" قال الجوهري: الجريب من الأرض: مقدار معلوم. وفي "المعرب": الجريب أرض طولها ستون ذراعًا وعرضها ستون ذراعًا بذراع الملك كسرى، يزيد على ذراع العامة بقبضة، وهي ست قبضات، وذراع الملك سبع قبضات. قوله: "عنوة" أي قهرًا وغلبة.

ص: وكان من الحجة للآخرين عليهم: أنَّا نعلم أن أرض السواد لو كانت كما ذكر أهل المقالة الأولى لكان قد وجب فيها خُمس الله بين أهله الذين جعله الله -عز وجل- لهم، وقد علمنا أنه لا يجوز لإِمام المسلمين أن يجعل ذلك الخُمس ولا شيئًا منه لأهل الذمة، وقد كان أهل السواد الذين أقرهم عمر -رضي الله عنه- قد صاروا أهل ذمة وكان السواد بأسره في أيديهم، فثبت بذلك أن ما فعله عمر -رضي الله عنه- من ذلك كان من جهة غير الجهة التي ذكروا، وهو على أنه لم يكن وجب لله -عز وجل- في ذلك خُمس، فكذلك ما فعل في رقابهم فمَنَّ عليهم بأن أقرهم في أرضهم ونفى الرقَّ عنهم، وأوجب الخراج عليهم في رقابهم وأرضيهم فملكوا بذلك أرضهم وانتفى الرق عن رقابهم. فثبت بذلك أن للإِمام أن يفعل هذا بما افتتح عنوة فينفي عن أهلها رقّ المسلمين، وعن أرضيهم ملك المسلمين منه، ويوجب ذلك لأهلها، ويضع عليها ما يجب عليهم وضعه من الخراج كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام-. واحتج عمر -رضي الله عنه- لذلك بقول الله -عز وجل-: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1) , ثم قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (¬2) فأدخلهم معهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬3)، يريد بذلك الأنصار، فأدخلهم معهم. ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬4) فأدخل فيها جميع من يجيء من بعدهم، فللإمام أن يفعل ذلك ويضعه حيث رأى وضعه مما سمَّى الله -عز وجل- في هذه السورة. فثبت بما ذكرنا ما ذهب إليه أبو حنيفة وسفيان، وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية: [7]. (¬2) سورة الحشر، آية: [8]. (¬3) سورة الحشر، آية: [9]. (¬4) سورة الحشر، آية: [10].

ش: هذا جواب عن السؤال المذكور، وهو ظاهر. قوله: "واحتج عمر -رضي الله عنه- لذلك. . ." إلى آخره، لما فتح عمر -رضي الله عنه- العراق سأله قومٌ من الصحابة قسمته بين الغانمين، منهم: الزبير وبلال وغيرهما، فقال: إن قسمتها بينهم -يعني الناس- بلا شيء لهم، واحتج عليهم بهذه الآية -أعني قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬1) إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬2)، وشاور عليًّا وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج؛ ففعل ذلك. ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية، وهذا يدل على أن هذه الآية مُحكمة غير منسوخة، وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة، وهذا يرد على من يدعي انتساخ هذه الآية، فافهم. فإذا كان كذلك فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما: واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خُمسه في الأموال سوى الأرضين، وفي الأرضين إذا اختار الإِمام ذلك، وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها، ويكون ذكر الرسول ها هنا لتفويض الأمر إلى الله في صرفه إلى من رأى، فاستدل عمر -رضي الله عنه- من الآية بقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2)، وقال: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء من بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل فيها لهم الحق بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2)، فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة جلّ الصحابة على إقرار أهلها ووضع الخراج؛ بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة، ووضعا الجزية على الرقاب، وجعلاهم ثلاث طبقات: اثنى عشر، ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية: [7]. (¬2) سورة الحشر، آية: [10].

وأربعة وعشرين، وثمانية وأربعين، ثم لم يتَعقب فعله هذا أحدٌ ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ، فصار ذلك اتفاقًا. ص: فإن احتج في ذلك مُحتج بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: "لما وفد جرير بن عبد الله وعمار بن ياسر وأناس من المسلمين إلى عمر -رضي الله عنه- قال عمر لجرير: يا جرير، والله لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما قسمت لكم، ولكني أرى أن أرده على المسلمين، فرده، وكان ربع السواد لبجيلة، فأخذه منهم وأعطاهم ثمانين دينارًا". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا أبو أسامة، قال: وحدثني إسماعيل، عن قيس، عن جرير، قال: "كان عمر -رضي الله عنه- قد أعطى بجيلة ربع السواد، فأخذناه ثلاث سنين، فوفد بعد ذلك جرير إلى عمر -رضي الله عنه- ومعه عمار بن ياسر، فقال عمر -رضي الله عنه-: والله لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما كنت أعطيتكم، فأرى أن تردوه على المسلمين، ففعل، قال: فأجازني عمر -رضي الله عنه- بثمانين دينارًا". قالوا: فهذا يدل أن عمر -رضي الله عنه- قد كان قسم السواد بين الناس ثم أرضاهم بعد بما أعطاهم على أن يعود للمسلمين. قيل له: ما يدل هذا الحديث على ما ذكرت، ولكن يجوز أن يكون عمر -رضي الله عنه- فعل من ذلك في طائفة من السواد فجعلها لبجيلة، ثم أخد ذلك منهم للمسلمين بما عوض عمر أهلها ما عوضهم منها من ذلك، وما بقي بعد ذلك من السواد فعلى الحكم الذي بيَّناه، ولما قد تقدم في هذا الباب، ولولا ذلك لكانت أرض السواد أرض عُشر، ولم تكن أرض خراج. ش: أي فإن احتج أحد من أهل المقالة الأولى وجوب قسمة الأرض إذا افتتحت عنوة على الإِمام بين الغانمين بما روي عن عمر -رضي الله عنه-؛ وذلك لأنه يدل

على أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد كان قسم السواد بين الناس، ثم بعد ذلك أرضاهم بالذي أعطاهم على أن يعود للمسلمين. وأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له" أي للمحتج المذكور. حاصله أن يقال: لا نسلم أنه يدل على ما ذكرتم؛ لأنه يجوز أن يكون عمر -رضي الله عنه- فعل ما فعل من ذلك في طائفة من السواد فجعلها لبجيلة. . . إلى آخر ما ذكره الطحاوي. وأخرج الأثر المذكور من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن أي خالد البجلي الكوفي، عن قيس بن أبي حازم الأحمسي الكوفي، وكان هاجر إلى النبي -عليه السلام- ليبايعه فقبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه يخطب ولم يثبت ذلك، وأبوه له صحبة، واسمه حصين بن عوف يكنى بأبي حازم. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬1): من حديث عبد السلام بن حرب، عن إسماعيل، عن قيس قال: "أعطى عمر -رضي الله عنه- جريرًا وقومه ربع السواد فأخذه سنتين أو ثلاثًا، ثم إن جريرًا وفد إلى عمر مع عمار، فقال له عمر -رضي الله عنه-: لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما كنتم عليه، ولكن أرى أن تردوه على المسلمين، فرده عليهم وأعطاه عمر ثمانين دينارًا". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي أسامة حماد بن أسامة أحد مشايخ الشافعي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي أيضًا نحوه (¬2) وقال: الشافعي: أنا الثقة، عن إسماعيل، عن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 135 رقم 18160). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 135 رقم 18157).

قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: "كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم ربع السواد فاستغلوه ثلاث سنين، ثم قدمت على عمر ومعي فلانة بنت فلان -امرأة منهم- فقال عمر -رضي الله عنه-: لولا أني قاسم مسئول لتُركتكم على ما قُسم لكم، ولكن أرى أن تردوا على الناس". ثم إن أصحاب الشافعي -رحمه الله-: استدلوا بهذا على أن عمر -رضي الله عنه- قسم أرض السواد وملكهم زقاب الأرضين. قلت: لا نسلِّم ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون أعطاهم ربع الخراج ثم رأى بعد ذلك أن يقتصر على إعطائه دون الخراج؛ ليكونوا أسوة كسائر الناس. فإذا قلت: إنما دفع عمر -رضي الله عنه- السواد إلى أهله بطيبة من نفوس الغانمين على وجه الإِجارة، والأجرة قد تسمى خراجًا، قال النبي -عليه السلام-: "الخراج بالضمان"، ومراده أجرة العبد للمشتري إذا رد بالعيب. قلت: هذا غلط من وجوه: الأول: أن عمر -رضي الله عنه- لم يستطب نفوس القوم الغانمين في وضع الخراج وترك القسمة، وإنما تشاور، وحاجَّ من طلب القسمة بما أوضح به قوله ولو كان قد استطاب نفوسهم لنقل كما نقل ما كان بينه وبينهم من المراجعة والمحاجة. الثاني: أنه كيف يكون ذلك باستطابة منه لنفوسهم وقد أخبر عمر -رضي الله عنه- أنه رأى ردَّه على المسلمين، وأظهر أنه لا يسعه غيره؛ لما كان عنده أنه الأصلح للمسلمين. الثالث: أنه يجوز أن يكون أعطاهم ربع الخراج ثم رأى بعد ذلك الاقتصار على إعطائه دون الخراج كما ذكرناه آنفًا. وأما قولهم: "الأجرة قد تسمى خراجًا" ففاسد أيضًا؛ لأنه لا خلاف أن الإِجارات لا تجوز إلا على مدد معلومة إذا وقعت على المدة، وأيضًا فإن أهلها لا يخلو إما أن يكونوا عبيدًا أو أحرارًا، فإن كانوا عبيدًا فإن إجارة المولى من عبده لا

تجوز، وإن كانوا أحرارًا فكيف جاز أن يترك رقابهم على أصل الجزية ولا يترك أرضهم على أملاكهم، وأيضًا لو كانوا عبيدًا لم يجز أخذ الجزية من رقابهم؛ لأنه لا خلاف أن العبيد لا جزية عليهم، وأيضًا لا خلاف أن إجارة الشجر غير جائزة، وقد أخذ عمر -رضي الله عنه- الخراج من النخل والشجر، فدلَّ على أنه ليس بأجرة. ص: فإن احتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي جازم قال: "جاءت امرأة من بجيلة إلى عمر -رضي الله عنه-، فقالت: إن قومي رضوا منك من السواد بما لم أرض، ولست أرضى حتى تملأ كفي ذهبًا وجملي طعامًا -أو كلامًا هذا معناه- ففعل ذلك بها عمر -رضي الله عنه-". قيل لهم أيضًا: هذا عندنا -والله أعلم- على الجزء الدي كان سلَّمه عمر -رضي الله عنه- لبجيلة فملكوه، ثم أراد انتزاعه منهم بطيب أنفسهم ولم يخرج حق تلك المرأة منه إلا بما طابت نفسها، فأعطاها عمر -رضي الله عنه- ما طلبت حتى رضيت، فسلَّمت ما كان لها من ذلك كما سلَّم سائر قومها حقوقهم. فهذا عندنا وجه هذا الباب كله من طريق النظر على ما بيَّنا، وهو قول أبي حنيفة وسفيان وأبي يوسف ومحمدًا -رحمهم الله-. ش: أي: فإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بقضية المرأة البجلية وهي أم كرز البجلية. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن هشيم بن بشير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم. وأخرجه البيهقي (¬1) وقال: رواه هشيم، عن إسماعيل. . . إلى آخره، ولفظه أنها قالت: "لست أسلِّم حتى تحملني على ناقة ذلول وعليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ¬

_ (¬1) تقدم.

ذهبًا، ففعل ذلك، وكانت الدنانير نحوا من ثمانين دينارًا". انتهى. وقال الجصاص: وإنما أعطى عمر -رضي الله عنه- المرأة المذكورة من بيت المال لأنه قد كان جائزًا له أن يفعله من غير أخذ ما كان في أيديهم من السواد. ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أرض مصر أيضًا: ما حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا محمد بن حمير، عن عمرو بن قيس السكوني، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-[قال: "لما فتح عمرو بن العاص] (¬1) أرض مصر جمع من كان معه من أصحاب رسول الله -عليه السلام- واستشارهم في قسمة أرضها بين من شهدها كما قسم بينهم غنائمهم وكما قسم رسول الله -عليه السلام- خيبر بين من شهدها، أو يوقفها حتى يراجع في ذلك رأي أمير المؤمنين. فقال نفر منهم، فيهم الزبير بن العوام -رضي الله عنه- وابنه: ما ذاك إليك ولا إلى عمر، إنما هي أرض فتحها الله علينا وأَجَفْنَا عليها خيلنا ورجالنا، وحوينا ما فيها، فما قسمتها بأحق من قسمة أموالها. وقال نفر منهم: لا تقسمها حتى تراجع أمير المؤمنين فيها، فاتفق رأيهم على أن يكتبوا إلى عمر -رضي الله عنه- في ذلك ويخبروه في كتابهم إليه مقالتهم، فكتب إليهم عمر -رضي الله عنه-: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد وصل إليَّ ما كان من إجماعكم على أن تغتصبوا عطايا المسلمين ومؤن من يغزو أهل العدو من أهل الكفر، وإني إن قسمتها بينكم لم يكن لمن بعدكم من المسلمين مادة يقوون بها على عدوهم، ولولا ما أحمل عليه في سبيل الله وأرفع عن المسلمين من مؤنهم وأجري على ضعفائهم وأهل الديوان منهم لقسمتها بينكم، فأوقفوها فيئًا على من بقي من المسلمين حتى تنقرض آخر عصابة تغزو من المؤمنين، والسلام عليكم". ففي هذا الحديث ما قد دلَّ في حكم الأرضين المفتتحة على ما ذكرنا، وأن حكمها خلاف ما سواه من سائر الأموال المغنومة من العدو. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: ذكر هذا الأثر شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من أن حكم الأرضين المفتتحة خلاف حكم الأموال المغنومة. أخرجه بإسناد صحيح: عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، عن نعيم بن حماد المروزي الفارض الأعور شيخ البخاري في المقرنات، وثقه أحمد ويحيى، عن محمد بن حمير بن أنيس القضاعي وثقه ابن حبان، وروى له البخاري وأبو داود (¬1). عن عمرو بن قيس السكوني أبي ثور الشامي الحمصي، وثقه يحيى والعجلي والنسائي، عن أبيه قيس بن ثور، وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ص: فإن قال قائل: ففي هذا الحديث ذكر أصحاب رسول الله -عليه السلام- أنه قسم خيبر بين من كان شهدها، فذلك ينفي أن يكون فيما فعل رسول الله -عليه السلام- في خيبر حجة لمن ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وسفيان ومن تابعهما في إيقاف الأرضين المفتتحة لنوائب المسلمين. قيل له: هذا حديث لم يفسر لنا فيه كل الذي كان من رسول الله -عليه السلام- في خيبر، وقد جاء غيره فإن لنا ما كان من رسول الله -عليه السلام-. فيما حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، قال: حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بُشَير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: "قسم رسول الله -عليه السلام- خيبر نصفين: نصفًا لنوائبه وحاجته، ونصفًا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهمًا". ¬

_ (¬1) أبو داود إنما روى له في "المراسيل"، ووثقه ابن معين ودحيم، وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به، ومحمد بن حرب وبقية أحب إلي منه. وقال أحمد بن حنبل: ما علمت إلا خيرًا. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال ابن قانع: صالح. وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال".

ففي هذا الحديث بيان ما كان من رسول الله -عليه السلام- في خيبر، وأنه كان أوقف نصفها لنوائبه وحاجته، وقسم بقيتها بين من شهدها من المسلمين، فالذي كان أوقفه منها هو الذي دفعه إلى اليهود مزارعة على ما في حديث ابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- اللذين ذكرناهما، وهو الذي تولى عمر -رضي الله عنه- قسمته في خلافته بين المسلمين لما أجلى اليهود عن خيبر، وفيما بينا من ذلك تقوية لما ذهب إليه أبو حنيفة وسفيان في إيقاف الأرضين وترك قسمتها إذا رأى الإِمام ذلك. ش: السؤال مع جوابه ظاهر. وإسناد الحديث المذكور صحيح. وسفيان هو الثوري، ويحيى بن سعيد الأنصاري. وبشُير -بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة- بن يسار -بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة- الحارثي الأنصاري المدني روى له الجماعة. وسهل بن أبي حثمة عبد الله الأنصاري المدني الصحابي -رضي الله عنه-، قال الواقدي: مات النبي -عليه السلام- وهو ابن ثمان سنين. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن الربيع بن سليمان، واشترك فيه مع الطحاوي عن شيخ واحد بإسناد واحد. قوله: "نصفًا لنوائبه" النوائب جمع نائبة، وهي ما تنوب الإنسان أي تنزل به من المهمات والحوادث، وقد نابه ينوبه نوبًا، وانتابه إذا قصده مرة بعد مرة والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 174 رقم 3010).

ص: باب: الرجل يحتاج إلى القتال على في دابة من المغنم

ص: باب: الرجل يحتاج إلى القتال على في دابة من المغنم ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يحتاج إلى القتال على دابة من دواب الغنيمة، هل له أن يأخذها من الغنيمة ويقاتل عليها أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي مرزوق التجيبي، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبي -عليه السلام-: "أنه قال عام خيبر: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغانم فيركبها حتى إذا أنقضها ردَّها في المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبسن ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه ردَّه في المغانم". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم التجيبي، عن حنش، عن رويفع بن ثابت، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان مصريان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، روى له الجماعة. عن أبي مرزوق التجيبي المصري واسمه حبيب بن الشهيد، وقيل: ربيعة بن سليم، وقيل: إنهما اثنان، والظاهر أنهما اثنان، ألا ترى أنه وقع في الطريق الأول: أبو مرزوق التجيبي وفي الطريق الثاني: ربيعة بن سليم التجيبي؟! قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات التابعين، وروى له أبو داود وابن ماجه. وهو يروي عن حنش بن عبد الله السبائي، روى له الجماعة غير البخاري. عن رويفع بن ثابت بن سكن الأنصاري الصحابي، سكن مصر واختط بها دارًا وأمَّره معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين، مات ببرقة وهو أمير عليها.

وأخرجه ابن يونس في "تاريخه": حدثني أبي، عن جدي، أبنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم التجيبي، عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه قال عام خيبر: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَسق ماءه ولد غيره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المعانم فيركبها حتى إذا أنقضها ردَّها في المغانم". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن ربيعة بن سليم مولى عبد الرحمن بن حسان بن عتاهية أبي عبد الرحمن التجيبي المصري، وثقه ابن حبان، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا النفيلي، قال: ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: "قام فينا خطيبًا فقال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله -عليه السلام- يقول لكم يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر يسقي ماءه زرع غيره -يعني إتيان الحبالى- ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنمًا حتى يقسم". وأخرجه الترمذي (¬2) مقتصرًا على الفصل الأول: عن عمر بن حفص الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن حنش، عن رويفع. وقال: حسنٌ. قوله: "عام خيبر" وقع في رواية أبي داود: "عام حنين" وقال بعضهم: ووقع في رواية ابن الأعرابي "خيبر"، والصحيح: حنين. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 654 رقم 2158). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 437 رقم 1131) من حديث بسر بن عبيد الله عن رويفع. وانظر التحفة (3/ 174، 175 رقم 3615).

قوله: "حتى إذا أنقضها" قال الجوهري: أنقض الحِمل ظهره أي أثقله، وأصله الصوت، ومنه قوله تعالى: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} والإنْقَاض صُويت مثل النقر، وإنقاض العِلك تصويته، وهو مكروه. قوله: "حتى إذا أخلقه" بالقاف أي: أبلاه، قال الجوهري: خَلُقَ الثوب -بالضم- خَلُوقة: أي بلي، وأَخْلَقَ الثوب مثله، وأخْلَقْتُه أنا، يتعدى ولا يتعدى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ -منهم الأوزاعي- إلى أنه لا يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به إلا في معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا, ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب فيعرضه للهلاك وانكساد الثمن في طول مكثه في دار الحرب، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم: القاسم وسالمًا والأوزاعي، فإنهم قالوا: لا يجوز للرجل أن يأخذ السلاح من الغنيمة فيقاتل به إلا في معمعة القتال. أي في شدته واشتباكه. وقال ابن الأثير: المعمعة: شدة الحرب والجد في القتال، والمعمعة في الأصل صوت الحريق، والمعمعان: شدة الحرب. ص: وخالفه في ذلك آخرون منهم: أبو حنيفة. فيما حدثني سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، فقالوا: لا بأس أن يأخد ذلك الرجل السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإِمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب ثم يرده في المغنم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن والثوري والشعبي والزهري وآخرين، فإنهم قالوا: يجوز للرجل أخذ السلاح من الغنيمة عند الاحتياج للقتال إلى فراغه من الحرب ثم يرده في المغنم، وممن قال بذلك: أبو حنيفة، بيَّن ذلك بقوله: فيما حدثني سليمان بن شعيب، وهو سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني أحد أصحاب أبي يوسف ومحمد بن الحسن.

ص: قال أبو يوسف: قد بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما احتج به الأوزاعي، ولحديث رسول الله -عليه السلام- معان ووجوه وتفسير لا يفهمه ولا يبصره إلا من أعانه الله عليه، فهذا الحديث عندنا على من يفعل ذلك وهو عنه غني يبقي بذلك على دابته وعلى ثوبه، أو يأخذ ذلك يريد الخيانة، فأما رجل مسلم في دار الحرب ليس معه دابة وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة ولا يستطيع أن يمشي فإن هذا لا يحل للمسلمين تركه، ولا بأس أن يركب هذا شاءوا أو كرهوا، وكللك هذه الحال في الثياب، وكذلك هذه الحال في السلاح، وبحال السلاح أبين وأوضح. ش: أشار بهذا الكلام إلى رد ما قاله الأوزاعي ومن معه، وإلى بيان مجمل الحديث الذي احتجوا به وهو حديث رويفع بن ثابت على وجه يقع التوفيق بينه وبين حديث عبد الله بن أبي أوفى الآتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. بيانه: أن حديث رويفع بن ثابت ليس على إطلاقه؛ حتى لا يعارضه حديث ابن أبي أوفى، وإنما هو محمول على من يستعمل السلاح وهو غني، أو يستعمله على وجه الخيانة، والباقي ظاهر. قوله: "وكذلك هذه الحال" أراد به حال من يستعمل الدابة، يعني يجري حكم هذا في الثياب والسلاح أيضًا، "وبحال السلاح أبين" أي أظهر لشدة الاحتياج إليه. وفي "البدائع": لا بأس بالانتفاع بالمأكول والمشروب والعلف والحطب من الغنيمة قبل الإحراز بدار الإِسلام فقيرًا كان المنتفع أو غنيًّا؛ لعموم الحاجة إلى الانتفاع بذلك في حق الكل. وأما ما سوى المأكول والمشروب والعلف والحطب فلا ينبغي أن ينتفعوا به؛ لأن حق الغانمين متعلق به، وفي الانتفاع إبطال حقهم، إلا أنه إذا احتاج إلى استعمال شيء من السلاح أو الدواب أو الثياب فلا بأس باستعماله، فإن انقطع سيفه فلا بأس أن يأخذ سيفًا من الغنيمة فيقاتل به، لكنه إذا ستغنى عنه ردَّه إلى الغنيمة، وكذا إذا احتاج إلى ركوب فرس أو لبس ثوب إذا دفع حاجته رده إلى المغنم. ص: ألا ترى أن قومًا من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت، ولهم غنى

عن غنائم المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفًا من الغنيمة فيقاتلوا بها ما داموا في دار الحرب؟ أرأيت إن لم يحتاجوا إليها في معمعة القتال واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين أغار عليهم العدو أيقوموا هكذا في وجوه العدو بغير سلاح؟ كيف يصنعون؟ أيستأسرون هذا الذي فيه توهين لمكيدة المسلمين، وكيف يحل هذا في المعمعة ويحرم بعد ذلك؟! ش: هذا توجيه لما ذكره من قبل، والواو في قوله: "ولهم غني" للحال. قوله: "أرأيت" أي أخبرني، والباقي ظاهر. "والمَكِيدة" بفتح الميم وكسر الكاف بمعنى الكيد وهو المكر. ص: وحدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، قال: حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي المجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى صاحب رسول الله - صلى الله عميه وسلم - قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر يأتي أحدنا إلى الطعام من الغنيمة فيأخذ منه حاجته". فإذا كان الطعام لا بأس بأخذه وأكله واستهلاكه لحاجة المسلمين إلى ذلك، كان كذلك أيضًا لا بأس بأخذ الثياب والدواب واستعمالها للحاجة إلى ذلك حتى لا يكون الذي أريد من حديث ابن أبي أوفي هذا غير ما أريد من حديث رويفع؛ حتى لا يتضادان، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما ذكره قبله من الأحكام. وأخرجه بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان بن سليم الكوفي، عن الإِمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، عن أبي إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز الشيباني روى له الجماعة. عن محمد بن أبي المجالد الكوفي مولى عبد الله بن أبي أوفى، روى له البخاري وأبو داود والنسائي، وسماه عبد الله بن أبي المجالد.

عن عبد الله بن أبي أوفى -واسم أبي أوفي علقمة- بن خالد الأسلمي، له ولأبيه صحبة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث هشيم، ثنا الشيباني وأشعث بن سوار، عن محمد بن أبي المجالد قال: "بعثني أهل المسجد إلى ابن أبي أوفي أسأله ما صنع النبي -عليه السلام- في طعام خيبر؟ فأتيته فسألته: هل خمسه؟ قال: لا، كان أقل من ذلك، وكان أحدنا إذا أراد منه شيئًا أخذ منه حاجته" انتهى. وهذا يدل أن الانتفاع بالأكل والشرب والعلف والحطب يجوز عند الحاجة إليه. وقال ابن قدامة (¬2): أجمع أهل العلم -إلا من شذّ منهم- على أن للغزاة إذا دخلوا دار الحرب أن يأكلوا مما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم من أعلافهم منهم: سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والقاسم وسالم والثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري: لا يؤخذ إلا بإذن الإِمام. وقال سليمان بن موسى: لا يترك إلا أن ينهى عنه الإِمام. وقال أيضًا: إن وجد دهنًا فهو كسائر الطعام، وإن كان غير مأكول فاحتاج أن يدهن به أو يدهن به دابته، فظاهر كلام أحمد جوازه إذا كان من حاجة، وقال في زيت الروم: إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس، فأما التزين فلا يعجبني. وقال الشافعي (¬3): ليس له دهنَ دابته من جرب ولا يوقحها إلا بالقيمة، وله أكل ما يتداوى به، وشرب الشراب من السكنجبين والجلاب وغيرهما عند الحاجة إليه؛ لأنه من الطعام. وقال أصحاب الشافعي: ليس له تناوله؛ لأنه من القوت ولا يصلح به القوت. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 60 رقم 17776). (¬2) "المغنى" (10/ 480). (¬3) "المغنى" (10/ 482).

قال أحمد: ولا يغسل ثوبه بالصابون، ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب منها ولا الخيوط ولا الحبال، وبهذا قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير وإسماعيل بن عياش والشافعي. ورخص في اتخاذ الجرب من جلود المغنم سليمان بن موسى، ورخص مالك في الإبرة والحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف يتخذ من جلود البقر، فأما كتبهم فإن كانت مما ينتفع بيع ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة، وإن كانت مما لا ينتفع به ككتاب التوراة والإنجيل فأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله فهو غنيمة وإلا فلا, ولا يجوز بيعها، انتهى. وقال الكاساني في "البدائع": لا بأس بالانتفاع بكل ما كان مأكولاً مثل السمن والزيت والخل، وله أن يدهن به نفسه ودابته، وما كان من الأدهان لا يؤكل من البنفسج والخيرى فلا ينبغي أن ينتفع به، والله أعلم. ***

ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة ش: أي هذا باب في بيان حكم الكافر الذي يسلم في دار الحرب والحالة أن تحته أكثر من أربع نسوة كيف يكون حكمه؟ ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا بكر بن خلف، قال: ثنا عبد الأعلى الشامي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي -عليه السلام-: خذ منهن أربعًا". ش: إسناده فيه مقال على ما يأتي، ولكن رجاله ثقات. وبكر بن خلف البصري شيخ أبي داود وابن ماجه والبخاري في التعليقات، قال أبو حاتم: ثقة. وقال يحيى: صدوق. وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي -بالسين المهملة- نسبة إلى بني سامة بن لؤي البصري روى له الجماعة. ومعمر هو ابن راشد روى له الجماعة. والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب. والحديث أخرجه الترمذي (¬1): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر: "أن غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -عليه السلام- أن يتخير أربعًا منهن". وأخرجه ابن ماجه أيضًا (¬2)، وفيه كلام كثير يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 435 رقم 1128). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 628 رقم 1953).

ص: فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة وقد كان تزوجهن في دار الحرب وهو مشرك أنه يختار منهن أربعًا ويمسكهن ويفارق سائرهن، وسواء عندهم كان تزويجه إياهن في عقدة واحدة أو في عقد متفرقة. وممن قال بهذا القول محمد بن الحسن -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي ومالكًا وأحمد، فإنهم قالوا: إذا أسلم الكافر كتابيًّا كان أو غير كتابي وعنده عشر نسوة أو خمس نسوة أو ما زاد على أربع، اختار منهن أربعًا, ولا يبالي كن الأوائل أو الأواخر. وكذلك إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء، إلا أن الأوزاعي روي عنه في الأختين أن الأولى امرأته. واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. وممن ذهب إلى قولهم: محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن كلهن باطل، ويفرق بينه وبين سائرهن. وممن ذهب إلى هذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والشعبي وعطاء وأبا حنيفة وأبا يوسف، فإنهم قالوا: إذا أسلم وتحته عشر نسوة مثلاً يختار الأربع الأوائل، فإن تزوجهن في عقدة واحدة؛ فُرِق بينه وبينهن. وقال الحسن بن حي: يختار الأربع الأوائل، وإن لم يدر أيتهن أول طلق كل واحدة منهن تطليقة حتى تنقضي عدتهن ثم يتزوج منهن أربعًا إن شاء. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذا الحديث حديث منقطع ليس كما رواه عبد الأعلى وأصحابه البصريون عن معمر، إنما أصله: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب أنه قال: "بلغنا أن رسول الله -عليه السلام- قال لرجل من ثقيف -أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة-: أَمْسِك منهن أربعًا وفارق سائرهن".

وحدثنا أحمد بن داود المكي، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب (ح). وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن عيينة، عن معمر، عن ابن شهاب، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن النبي -عليه السلام- مثله. فهذا هو أصل هذا الحديث كما رواه مالك عن الزهري، وكما رواه عبد الرزاق وابن عيينة عن معمر عن الزهري، وقد رواه أيضًا عُقَيل عن الزهري بما يدل على الموضع الذي أخذه الزهري منه. حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: خد منهن أربعًا وفارق سائرهن". فبيَّن عُقَيل في هذا عن الزهري مخرج هذا الحديث، وأنه إنما أخذه عما بلغه عن عثمان بن محمد عن النبي -عليه السلام-، فاستحال أن يكون الزهري عنده في هذا شيء عن سالم عن أبيه فيدع الحجة به ويحتج بما بلغه عن عثمان بن محمد بن أبي سويد عن النبى -عليه السلام-, ولكن إنما أُتِي معمر في هذا أنه كان عنده عن الزهري في قصة غيلان حديثان هذا أحدهما. والآخر: عن سالم عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة طلَّق نساءه وقسم ماله، فبلغ ذلك عمر -رضي الله عنه- فأمره أن يَرتجع نساءه وماله، وقال: لو متَّ على ذلك لرجمتُ قبرك كما رجم قبر أبي رغال في الجاهلية". فأخطأ معمر فجعل إسناد هذا الحديث الذي فيه كلام عمر -رضي الله عنه- للحديث الذي فيه كلام رسول الله -عليه السلام-، ففسد هذا الحديث من جهة الإسناد.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه أن هذا الحديث -يعني حديث غيلان- حديثٌ منقطع، ليس كما رواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري، وإنما أصله مثل ما رواه مالك عن الزهري أنه قال: "بلغنا أن رسول الله -عليه السلام- قال لرجل. . ." الحديث. وكذلك رواه منقطعًا عبد الرزاق وسفيان بن عيينة كلاهما، عن معمر، عن الزهري. وقد بيَّن أصل هذا الحديث في الانقطاع ومخرجه عُقَيل بن خالد الأيلي في روايته عن الزهري أنه قال: "بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة. . ." الحديث. فبيَّن عُقَيل مخرج هذا الحديث، وأن الزهري إنما أخذه عن عثمان بن محمد. فإذا كان كذلك؛ يكون من المحال أن يكون عند الزهري في هذا شيء عن سالم ابن عبد الله عن أبيه فيترك الاحتجاج به ويحتج بما بلغه عن عثمان بن محمد، عن النبي -عليه السلام-، فبان من هذا انقطاع الحديث المذكور وفساد سنده، والآفة فيه عن معمر؛ لأنه كان عنده عن الزهري في قصة غيلان حديثان، أحدهما الحديث المذكور، والثاني عن سالم عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة طلق نساءه وقسم ماله. . ." الحديث، فأخطأ معمر، فأخلط إسناد الحديثين بعضهما ببعض، فجعل إسناد الحديث الذي فيه كلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للحديث الذي فيه كلام رسول الله -عليه السلام-؛ ففسد الحديث المذكور حينئذٍ من جهة الإسناد؛ فلم يبق حجة لما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وعن هذا قال أبو عمر بن عبد البر: الأحاديث في هذا الباب كلها معلولة وليست أسانيدها بالقوية، وقال الترمذي عقيب روايته الحديث المذكور: هكذا رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما رواه شعيب بن أبي حمزة وغيره عن الزهري قال: حُدِّثت عن محمد بن أبي سويد الثقفي: "أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة".

قال محمد: وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه: "أن رجلاً من ثقيف طلَّق نساءه، فقال له عمر -رضي الله عنه-: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال" انتهى. وقال مسلم بن الحجاج: أهل اليمن أعرف بحديث معمر، فإن حدث به ثقة من غير أهل البصرة صار الحديث حديثًا وإلا فالإرسال أولى. يعني أن أهل البصرة تفردوا بإسناده. وقد أخرجه الدارقطني (¬1) من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. وذكر صاحب التمهيد الحديث المذكور من طريق عمر متصلاً، ثم قال: يقولون: إنه من خطأ معمر، ومما حدث به بالعراق من حفظه وصحيح حديثه ما حدث باليمن من كتبه. ثم إنه أخرج حديث الزهري من خمس طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2). الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن مالك. الثالث: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، عن سفيان بن عيينة، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب. الرابع: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. الخامس: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما، عن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 269 رقم 93). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 586 رقم 1218).

أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن محمد بن أبي سويد. . . إلى آخره. وعثمان هذا ذكره ابن حبان في التابعين الثقات، وقال: يروي المراسيل، روى عنه الزهري. وقال أبو عمر بن عبد البر: رواه جماعة من رواة "الموطأ": عن مالك، عن ابن شهاب، أنه قال: "بلغني أن رسول الله -عليه السلام- قال لرجل من ثقيف. . ." الحديث. وكذا رواه أكثر رواة ابن شهاب. ورواه ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن أبي سويد: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: خذ منهن أربعًا وفارق سائرهن". قوله: "قبر أبي رِغَال" بكسر الراء وبالغين المعجمة، وكان أبو رغال هذا دليلاً للحبشة حين توجهوا إلى مكة -حرسها الله- فمات في الطريق بالمغمس ويرجم قبره، قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال وقال ابن الأعرابي: رغال مثل قطام الأمة. وقال أبو دريد: أبو رغال مشتق من راغل يراغل مراغلة ورغالا, ولم يفسره. وقال الصغاني: التركيب يدل على اعتقاد شيء وأخذه. ص: ثم لو ثبت على ما رواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، لما كانت فيه أيضًا حجة على من ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف في ذلك؛ لأن تزويج غيلان ذلك إنما كان في الجاهلية، قد بيّن ذلك سعيد بن أبي عروبة عن معمر في هذا الحديث. حدثناه خلاد بن محمد، قال: ثنا محمد بن شجاع، عن يزيد بن هارون، قال:

أنا سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثل حديث أحمد بن داود، وزاد: "أنه كان تزوجهن في الجاهلية". فكان تزويج غيلان للنسوة اللائي كن عنده حين أسلم في وقت كان تزويج ذلك العدد جائزًا والنكاح عليه ثابت، ولم يكن للواحدة حينئذٍ من ثبوت النكاح إلا ما للعاشرة مثله، ثم أحدث الله -عز وجل- حكمًا آخر وهو تحريم ما فوق الأربع، فكان ذلك حكمًا طارئًا طرأت به حرمة حادثة على نكاح غيلان، فأمره النبي -عليه السلام- لذلك أن يمسك من النساء العدد الذي أباحه الله -عز وجل- ويفارق ما سوى ذلك، وجُعل كرجل له أربعة نسوة فطلَّق منهن واحدة، فحكمه أن يختار واحدة منهن فيجعل ذلك الطلاق عليها ويمسك الآخر، وكذلك كان أبو حنيفة وأبو يوسف يقولان في هذا. فأما من تزوج عشر نسوة بعد تحريم الله -عز وجل- ما جاوز الأربع في عقدة واحدة فإنما عقد النكاح عليهن عقدًا فاسدًا، فلا يثبت له بذلك نكاح، ألا ترى أنه لو تزوج ذات رحم محرم منه في دار الحرب وهو مشرك ثم أسلم؛ أنهما لا تقر عنده، وإن كان عقده لذلك كان في دار الحرب وهو مشرك؟ فلما كان هذا يرد حكمه فيه إلى حكم نكاحات المسلمين فيما يعتقدون في دار الإِسلام، كان كذلك أيضًا حكمه في العشر نسوة اللاتي تزوجهن وهو مشرك في دار الحرب، رد حكمه فيه إلى حكم المسلمين في نكاحاتهم؛ فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن باطل، وان كان تزوجهن في عُقد متفرقة جاز نكاح الأربع الأُول منهن؛ وبطل النكاح لسائرهن. ش: هذا جواب عن الحديث المذكور الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بطريق التسليم، بيانه أن يقال: ولئن سلمنا أن هذا الحديث متصل الإسناد وصحيحه؛ على ما رواه عبد الأعلى السامي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، ولكن لا نسلِّم أن يكون فيه حجة على أهل المقالة الثانية؛ لأن تزويج غيلان ذلك إنما كان في الجاهلية. . . إلى آخر ما ذكره الطحاوي، وهو ظاهر.

وأخرج الحديث المذكور عن خلاد بن محمد الواسطي، عن محمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة- أحد أصحاب أبي حنيفة، قد تكلموا فيه بما لا ينبغي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن سعيد بن أبي عروبة روى له الجماعة، عن معمر بن راشد الأزدي البصري روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد، أنا سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: "أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، وأسلمن معه، فأمره النبي -عليه السلام- أن يختار منهن أربعًا". وباقي الكلام ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد ترك أبو حنيفة وأبو يوسف قولهما في شيء قالاه في هذا المعنى؛ وذلك أنهما قالا في الرجل من أهل الحرب سبي وله أربع نسوة وسبين معه: إن نكاحهن كلهن فاسد، ويفرق بينه وبينهن. قال: فقد كان ينبغي على ما حملا عليه حديث غيلان أن يجعلا له أن يختار منهن اثنتين فيمسكهما ويفارق الاثنتين الباقيتين؛ لأن نكاح الأربع قد كان كله ثابتًا صحيحًا، وإنما طرأ الرق عليه؛ فحرم عليه ما فوق الاثنتين، كما أنه لما طرأ حكم الله في تحريم ما فوق الأربع أمر رسول الله -عليه السلام- غيلان باختيار أربع من نسائه وفراق سائرهن. قيل له: ما خرج أبو حنيفة وأبو يوسف بما ذكرت عن أصلهما, ولكنهما ذهبا إلى ما قد خفي عليك؛ وذلك أن هذا كان تزوج الأربع في وقت ما تزوجهن بعدما حرم على العبد تزوج ما فوق الاثنتين، فإذا تزوجهن وهو حربي في دار الحرب ما فوق الاثنتين ثم سبي وسبين معه، رُدّ حكمه في ذلك إلى حكم تحريمٍ قد كان قبل نكاحه، فصار كأنه تزوجهن في عقدة بعدما صار رقيقًا، وهو في ذلك كرجل تزوج صبيتين ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 83 رقم 5558).

صغيرتين فجاءت امرأة فارضعتهما معًا؛ فإنهما تبينان منه جميعًا, ولا يؤمر أن يختار إحداهما فيمسكها ويفارق الأخرى؛ لأن حرمة الرضاع طرأت عليه بعد نكاحه إياهما، فكذلك الرق الطارئ على النكاح الذي وصفنا، حكمه حكم الرضاع الذي ذكرنا، وهما جميعًا مفارقان؛ لما كان من رسول الله -عليه السلام- في غيلان بن سلمة؛ لأن غيلان لم تكن حرمة الله -عز وجل- لما فوق الأربع تقدمت نكاحه، فيرد حكم نكاحه إليها، وإنما طرأت الحرمة على نكاحه بعد ثبوته كله، فردت حرمة ما حرم عليه من ذلك إلى حكم حادث بعد النكاح، فوجب له بذلك الخيار كما يجب في الطلاق الذي ذكرنا. ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران. ص: فإن احتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس قال: "أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأمرني رسول الله -عليه السلام- أن أختار منهن أربعًا". حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن بعض ولد الحارث بن قيس، عن الحارث بن قيس، عن النبي -عليه السلام- نحوه. قيل لهم: قد يحتمل ما ذكرناه في حديث غيلان، وقد يجوز أيضًا أن يكون رسول الله -عليه السلام- أراد بقوله: "أختر منهن أربعًا" أي أختر منهن أربعًا فتزوجهن، ولا دلالة في هذا الحديث على واحد من هذين المعنيين. ش: أي فإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي الصحابي -رضي الله عنه-، أخرجه من طريقين: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا هشيم. ونا وهب بن بقية، قال: أنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس -قال: مسدد بن عميرة وقال وهب: الأسدي- قال: "أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي -عليه السلام-، فقال: اختر منهن أربعًا". قال أبو داود: وحدثنا به أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم بهذا الحديث فقال: قيس بن الحارث مكان الحارث بن قيس. وأخرجه ابن ماجه أيضًا (¬2). الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن بعض ولد الحارث بن قيس، عن الحارث بن قيس. . . إلى آخره. وأخرجه ابن عساكر في "الأطراف" معلقًا، وقال: ورواه هشيم، عن مغيرة، عن بعض ولد الحارث بن قيس بن عميرة: "أن الحارث بن قيس أسلم. . ." فذكره. قوله: "قيل لهم. . ." إلى آخره، جواب عن ذلك بوجهين: الأول: أنه يحتمل ما ذكره من المعنى في حديث غيلان المذكور فيما مضى. والثاني: أنه يحتمل أن يكون المراد بقوله: "اختر منهن أربعًا" أي اختر منهن أربعًا فتزوجهن، فإذا كان كذلك فلا تبقى فيه حجة لمن يحتج به. وجواب آخر: أن هذا الحديث لا يصح؛ فإن فيه اضطرابًا وضعفًا في سنده. أما الاضطراب: فإن بعضهم روى هذا الحديث، وقال فيه: عن قيس بن الحارث. منهم البيهقي وغيره، وكذا قال صاحب "التمهيد" وصاحب "الكمال" وذكره في حرف القاف في ترجمة قيس، وكذا فعل ابن أبي خيثمة في "تاريخه" والمزي في "أطرافه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 680 رقم 2241). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 628 رقم 1952).

وذكره بعضهم عن الحارث بن قيس. منهم الطحاوي كما تراه، ورجح البيهقي أنه الحارث بن قيس، وقال بعضهم: الصواب أنه قيس بن الحارث كما حكاه أبو داود عن أحمد بن إبراهيم. ثم مع الاضطراب فيه اضطراب أيضًا في حميضة، فقيل: ابن الشمردل، وقيل: بنت الشمردل، وكذا في "سنن ابن ماجه": حميضة بنت الشمردل. وأما الضعف في سنده، فإن الذهبي قال في "الضعفاء": حميضة لا يصح حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود": وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. والطريق الثاني فيه مجهول. ص: وإن احتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا الربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود وحسان بن غالب، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال: "أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي -عليه السلام-، فقال: طلق إحداهما". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال: "أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي -عليه السلام- فسألته، فقال: طلق أيتهما شئت". قيل لهم: هذا يوجب الاختيار كما ذكرتم، وهو أوضح من حديث الحارث بن قيس، ولكنه قد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- إنما خيره لأن نكاحه كان في الجاهلية قبل تحريم الله -عز وجل- ما فوق الأربع، فيكون معنى هذا الحديث مثل معنى حديث غيلان بن سلمة. فقد ثبت بما بيَّنا في هذا الباب ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، وفسد ما ذهب إليه محمد بن الحسن.

ش: أي: وإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث فيروز الديلمي، يقال لهم: هذا يوجب الاختيار. . . إلى آخره، وهو ظاهر. وأخرجه من طريقين: الأول: عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، وعن حسان بن غالب بن نجيح الرعيني المصري، كلاهما عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن أبي وهب الجيشاني الديلم بن الهوشع -أو الهوشع بن الديلم- عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه فيروز الديلمي الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني، أنه سمع ابن فيروز الديلمي يحدث عن أبيه قال: "أتيت النبي -عليه السلام- فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله -عليه السلام-: أختر أيتهما شئت". وقال (¬2): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، قال أختر أيتهما شئت". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وقال البخاري: في إسناده نظر. الثاني: عن علي بن عبد الرحمن، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يحيى بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 436 رقم 1129). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 436 رقم 1130).

وهذا إسناد حسن. وأخرجه أبو داود (¬1): عن يحيى بن معين. . . إلى آخره نحوه. وابن ماجه أيضًا (¬2). وقال البخاري: أحاديث هذا الباب كلها معلولة، وليست أسانيدها قوية. وقال أبو عمر: وعلى تقدير ثبوتها تحمل على أن ذلك كان قبل تحريم الجمع بين الخمس وبين الأختين، فعلى هذا يكون العقد حين وقع صحيحًا ثم طرأ التحريم بَعْد، فيكون له الخيار، كما تقول في رجل طلَّق إحدى امرأتيه بغير عينها: لا يفسد عقدهما وله الخيار في تعيين الطلاق في إحداهما؛ إذ لا عموم في لفظه -عليه السلام-؛ فيحمل على ما ذكرنا. فإن قيل: تَرْكُه -عليه السلام- الاستفسار يدل على شمول الحكم للحاليين. قلنا: يجوز أن يترك -عليه السلام- السؤال لعلمه بحال وقوع العقد، وقوله -عليه السلام-: "طلِّق أيتهما شئت" يدل على أن العقد كان وقع في حال الإِباحة، فافهم. والله أعلم. ص: وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بعض المتقدمين: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا بكر بن خلف، قال: ثنا غندر وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة قال: "يأخذ الأولى والثانية والثالثة والرابعة". ش: ذكر هذا حسمًا لشغب من يشنع على أبي حنيفة وأبي يوسف بأنه ليس لهما سلف فيما ذهبا إليه من الحكم المذكور في هذا الباب، حيث أخرج في ذلك عن قتادة بن دعامة السدوسي، فإن مذهبه في هذا الباب كمذهبهما حيث يقول: يأخذ بالأولى -أي المرأة الأولى- والثانية والثالثة والرابعة. أراد أنه يأخذ النساء الأربع الأولى منهن ويترك باقيتهن. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 681 رقم 2243). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 627 رقم 1950).

وقد ذكرنا هذا إذا كان تزوجهن في عقد متفرقة، وأما إذا تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن كلهن باطل ويفرق بينه وبينهن كما ذكرناه فيما مضى، وكذا هو مذهب سفيان الثوري. وإسناد ما رواه عن قتادة صحيح، ورجاله ثقات. وبكر بن خلف البصري شيخ أبي داود وابن ماجه، وغندر هو محمد بن جعفر البصري روى له الجماعة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري روى له الجماعة، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والله أعلم. ***

ص: باب: الحربية تسلم في دار الحرب فتخرج إلى دار الإسلام ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلما

ص: باب: الحربية تُسلم في دار الحرب فتخرج إلى دار الإِسلام ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلمًا ش: أي هذا باب في بيان المرأة الحربية إذا أسلمت في دار الحرب وخرجت إلى دار الإِسلام، كيف يكون حكمها بعد خروج زوجها أيضًا مسلمًا؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "رد النبي -عليه السلام- زينب ابنته على أبي العاص ابن الربيع على النكاح الأول بعد ثلاث سنين". ش: الوهبي هو أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، وثقه ابن معين، وروى له الأربعة. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: ثنا محمد بن سلمة. وثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: نا سلمة يعني ابن الفضل. ونا الحسن بن علي، ثنا يزيد المعنى كلهم، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ردَّ رسول الله -عليه السلام- ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شيئًا". قال محمد بن عمرو في حديثه: "بعد ستّ سنين"، وقال الحسن بن علي: "بعد سنتين". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ردَّ النبي -عليه السلام- ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحًا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 680 رقم 2240). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 448 رقم 1143).

وأخرجه ابن ماجه (¬1) نحوه، وفي روايته: "بعد سنتين". وقال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قِبل داود بن الحصين من قِبل حفظه. وقال البخاري: حديث ابن عباس هذا أصح من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وسيجيء حديثه إن شاء الله تعالى. وقال عبد الحق في "الأحكام": في إسناده محمد بن إسحاق، ولم يروه معه -فيما أعلم- إلا من هو دونه، وداود بن الحصين لَيِّن، كذا قال أبو زرعة. وقال ابن عيينة: كنا نتقي حديثه. وقال ابن المديني: ما رواه عن عكرمة فمنكر. وقال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. ذكر ذلك الذهبي في "الميزان". وقال الخطابي: حديث ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخة قد ضعف أمرها علي بن المديني وغيره من علماء الحديث. قوله: "رد النبي -عليه السلام- ابنته -رضي الله عنها-" اعلم أن النبي -عليه السلام- له من الأولاد تسعة: خمسة ذكور، وهم: القاسم -وبه يكنى- والطاهر، والطيب، وعبد الله، وإبراهيم، وقيل: عبد الله هو الطيب، وقيل: عبد الله هو الطاهر، وقيل: عبد الله هو الطاهر هو الطيب. وأربعة إناث، وهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة -رضي الله عنهن-، وجميع أولاده من خديجة -رضي الله عنها-، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية. وأما زينب فهي أكبر بنات رسول الله -عليه السلام- ولدت وله -عليه السلام- ثلاثون سنة، وماتت سنة ثمان في حياة رسول الله -عليه السلام-، وهاجرت بعد بدر، وكان رسول الله -عليه السلام- زوَّجها من أبي العاص ابن الربيع، وولدت منه غلامًا اسمه علي فتوفي وقد ناهز الاحتلام، وكان رديف ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 647 رقم 2009).

رسول الله -عليه السلام- يوم الفتح، وولدت له أيضًا بنتًا اسمها أُمامة، وكان -عليه السلام- يحبها ويحملها في الصلاة، وكان إذا ركع وسجد تركها وإذا قام حملها. وأما أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي، فاسمه لقيط، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم، والأكثر لقيط. وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها وأمها، وهو ابن خالة أولاد رسول الله -عليه السلام- من خديجة -رضي الله عنها-، وكان أبو العاص مصاحبًا لرسول الله -عليه السلام- مصافيًا، وكان قد أبى أن يُطلِّق زينب بنت رسول الله -عليه السلام- لما أمره المشركون أن يطلقها، فشكر له رسول الله -عليه السلام- ذلك، وكان أبو العاص أُسر في غزوة بدر، ولما أطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرط عليه أن يرسل زينب إلى المدينة، فعاد إلى مكة وأرسلها إلى النبي -عليه السلام- بالمدينة؟ فلهذا قال -عليه السلام-: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفَّى لي". وأقام أبو العاص بمكة على شِرْكِه حتى كان قبل الفتح فخرج بتجارة إلى الشام ومعه أموال قريش ومعه جماعة منهم، فلما عاد لقيته سرية رسول الله -عليه السلام- أميرهم زيد بن حارثة، فأخذ المسلمون ما في تلك العير من الأموال وأسروا أناسًا، وهرب أبو العاص بن الربيع، ثم أتى المدينة ليلاً فدخل على زينب فاستجار بها فأجارته، فلما صلى النبي -عليه السلام- صلاة الصبح صاحت زينب: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص ابن الربيع، فلما سلَّم رسول الله -عليه السلام- أقبل على الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفسي بيده ما علمت بذلك حتى سمعته كما سمعتم، وقال: يجير على المسلمين أدناهم، ثم دخل رسول الله -عليه السلام- على ابنته فقال: أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له، قالت: إنه قد جاء في طلب ماله، فجمع رسول الله -عليه السلام- تلك السرية وقال: إن هذا الرجل منا حيث علمتم، وقد أصبتم له مالاً وهو فيء أفاء الله عليكم. وأنا أحب أن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإن أبيتم فأنتم أحق به.

فقالوا: بل نرده عليه، فردوا عليه ماله أجمع، فعاد إلى مكة وأدى إلى الناس أموالهم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، والله ما منعني عن الإِسلام إلا خوفًا أن تظنوا أني آخذ أموالكم. ثم قدم على رسول الله -عليه السلام- مسلمًا، وحسن إسلامه، وردَّ عليه رسول الله -عليه السلام- ابنته زينب -رضي الله عنها- بنكاح جديد. وقيل: بل بالنكاح الأول، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. وتوفي أبو العاص سنة اثنتي عشرة. قوله: "بعد ثلاث سنين" وفي رواية ابن ماجه: "بعد سنتين" وكذا قال ابن منده، والكل فيه نظر، بل غير صحيح , وذلك لأن أبا العاص أرسلها بعد بدر في السنة الثانية، وأسلم هو قبل الفتح أول السنة الثامنة، فتكون نحو ست سنين كما وقع كذلك في رواية الترمذي وفي إحدى طرق أبي داود على ما ذكرنا، وهو الصحيح. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: "ردَّ النبي -عليه السلام- على عكرمة بن أبي جهل أم الحكيم بنت الحارث بن هشام بعد أشهر؛ أو قريب من سنة". ش: الوهبي هو أحمد بن خالد، وقد مرَّ في الحديث السابق مع محمد بن إسحاق. والزهري هو محمد بن مسلم. وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة. وهذا سند مرسل.

وأخرجه الشافعي في "مسنده" (¬1) نحوه، والبيهقي في "سننه" (¬2) من طريقه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن المرأة إذا أسلمت في دار الحرب وجاءتنا مسلمة، ثم جاء زوجها بعد ذلك فأدركها وهي في العدة فهي امرأته على حالها، وإن لم يدركها حتى تخرج من العدة فلا سبيل له عليها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري والأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن حي ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: الحربية إذا أسلمت في دار الحرب ثم خرجت إلى دار الإِسلام ثم جاء زوجها بعد ذلك فأدركها وهي في العدة فهي امرأته على عقدها الأول، وإن أدركها وهي قد خرجت من العدة فلا سبيل له عليها. وقال ابن حزم: وأيما امرأة أسلمت ولها زوج كافر أو ذمي أو حربي فحين إسلامها انفسخ نكاحها، سواء أسلم بعدها بطرفة عين فأكثر أو لم يسلم، لا سبيل له عليها إلا بابتداء نكاح برضاها وإلا فلا، فلو أسلما معًا بقيا على نكاحهما، فإن أسلم هو قبلها فإن كانت كتابية بقيا على نكاحهما أسلمت هي أو لم تسلم، وإن كانت غير كتابية فساعة إسلامه قد انفسخ نكاحها منه أسلمت بعده بطرفة عين فأكثر، لا سبيل له عليها إلا بابتداء نكاح برضاها إن أسلمت، وإلا فلا، سواء حربيين أو ذميين كانا. وهو قول عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس -رضي الله عنهما-. وبه يقول حماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي بن عدي الكندي والحسن البصري وقتادة والشعبي وغيرهم. وقال أبو حنيفة: أيهما أسلم قبل الآخر في دار الإِسلام فإنه يعرض الإِسلام على الذي لم يسلم منهما، فإن أسلم بقيا على نكاحهما، وإن أبى فحينئذ تقع الفرقة، ولا معنى لمراعاة العدة في ذلك. ¬

_ (¬1) وانظر "الأم" (5/ 44). (¬2) "السنن الكبرى" (7/ 186 رقم 13840، 13842).

قال: فإن أسلمت في دار الحرب فخرجت مسلمة أو ذمية فساعة حصولها في دار الإِسلام يقع الفسخ بينهما لا قبل ذلك. فإن لم تخرج من دار الحرب فإن حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذٍ، وعليها أن تبتدئ ثلاث حيض، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه، قال: فلو أسلم هو -وهي غير كتابية- يعرض الإِسلام عليها، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما، وإن أسلم هو قبل ذلك فهو على نكاحه معها. قال: فلو ارتد أحدهما انفسخ النكاح من وقته. وقال مالك: إن أسلمت المرأة ولم يسلم زوجها، فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة فقد بانت منه. وقال ابن شبرمة عكس قول مالك: إن أسلم هو وهي وثنية فإن أسلم قبل تمام العدة فهي امرأته، وإلا فبتمامها تقع الفرقة، وإن أسلمت هي وقعت الفرقة في الحين. وقال الأوزاعي والشافعي والليث: كل ذلك سواء، وتراعى العدة، فإن أسلم الكافر منهما قبل انقضاء العدة فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى تمت العدة وقعت الفرقة. وهو قول الزهري وأحمد وإسحاق. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا سبيل له عليها في الوجهين جميعًا، وخروجها عندهم من دار الحرب يقطع العصمة التي كانت بينها وبين زوجها، ويبينها منه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، فإنهم قالوا: الحربية إذا أسلمت في في دار الحرب ثم خرجت إلي دار الإِسلام، ثم خرج زوجها بعد ذلك، لا سبيل له عليها، سواء أدركها وهي في العدة أو أدركها وقد خرجت من العدة، فبمجرد خروجها تنقطع العصمة التي كانت بينهما.

وقال أبو عمر: قال أبو حنيفة في الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب: فقد وقعت الفرقة بينهما, ولا سبيل له إليها إلا بنكاح جديد، ولكن العدة عليها. وهو قول الثوري. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا حفص -يعني ابن غياث- عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- ردَّ زينب على أبي العاص". حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا حفص، عن داود، عن الشعبي مثله. قالوا: ففي حديث عبد الله بن عمرو هذا خلاف ما في حديث ابن عباس، وقد وافق عبد الله بن عمرو على ذلك عامر الشعبي مع علمه بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: فهذا أولى مما قد خالفه لمعاني سنبينها في هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه يصرح أن المهاجرة المسلمة لا تحل لزوجها إذا خرج إلى دار الإِسلام مسلمًا إلا بعقد جديد، فظهر من هذا أن اختلاف الدارين يوجب الفرقة. فإن قيل: لا نسلِّم أن اختلاف الدارين يوجب الفرقة، ألا ترى أن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم يبطل نكاح امرأته، وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته، وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج أحدهما إلى دار الإِسلام لم تقع الفرقة؟! فعلمنا أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيجاب الفرقة. قلت: ليس معنى اختلاف الدارين ما ذهبت إليه، وإنما معناه أن يكون أحدهما من أهل الإِسلام إما بالإِسلام أو بالذمة، والآخر من أهل الحرب، فيكون حربيًّا كافرًا، فأما إذا كانا مسلمَيْن فهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الحرب والآخر في دار الإِسلام.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حفص بن غياث، عن الحجاج بن أرطاة، عن عامر بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن منيع، وهناد، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد". وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال. وقال البخاري: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب. وقال الدارقطني: حديث عمرو بن شعيب لا يثبت والصواب حديث ابن عباس. قلت: ومع هذا فالعمل على حديث عمرو بن شعيب، وقال الترمذي عقيب إخراجه هذا الحديث: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، والآن يجيء وجه ترجيح حديث عمرو بن شعيب على حديث ابن عباس. قوله: "قالوا: ففي حديث عبد الله بن عمرو هذا خلاف ما في حديث ابن عباس" أي قال الآخرون: في حديث عبد الله بن عمرو من الحكم ما يخالف حديث عبد الله بن عباس الذي احتج به أهل المقالة الأولى , وذلك لأن حديث عبد الله بن عمرو يخبر أنه ردها عليه بمهر جديد ونكاح جديد، فهذا يناقض -ظاهرًا- ما في حديث ابن عباس، ولكن أجمعوا أن العمل على حديث عبد الله بن عمرو وتركوا حديث ابن عباس لمعاني في ذلك، منها: أن في حديث عبد الله بن عمرو زيادة ليست في حديث ابن عباس، والعمل بها أولى. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 447 رقم 1142).

وقال البيهقي: عارضت رواية عبد الله بن عمرو رواية ابن عباس، وفيها زيادة ليست في رواية ابن عباس، والمثُبت أولى من النافي. وقال أيضًا: ومعلوم أن زينب لم تزل مسلمة وكان أبو العاص كافرًا، ووجه ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما زوجها منه قبل نزول قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (¬1)، ثم أسلم أبو العاص فردها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعا في الإِسلام والنكاح معًا. ومنها: أن حديث عبد الله بن عباس منسوخ؛ قال صاحب "التمهيد": حديث ابن عباس -وإن صح- فهو متروك منسوخ عند الجميع؛ لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد العدة، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض، وعن قتادة: كان قبل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين. وقال الزهري: كان قبل أن تنزل الفرائض. وقال آخرون: قصة ابن العباس منسوخة بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬2)، ويدل على أنها منسوخة: إجماع العلماء على أن أبا العاص كان كافرًا، وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر؛ قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬3)، فلا يخلو إذا ردها عليه أن يكون كافرًا أو مسلمًا، فإن كان كافرًا فهذا ما لا شك فيه أنه كان قبل نزول الفرائض والأحكام؛ إذ القرآن والسنة والإجماع على تحريم فروج المسلمات على الكفار، وإن كان مسلمًا فلا يخلو أن تكون حاملًا فتمادى حملها ولم تضعه حتى أسلم؛ فردها -عليه السلام- في عدتها، وهذا لم ينقل في خبر، أو تكون خرجت من العدة، فيكون أيضًا منسوخًا بالإجماع أنه لا سبيل له عليها بعد العدة، إلا ما ذكر النخعي وبعض أهل الظاهر، وكيف ما كان فخبر ابن عباس متروك لا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [221]. (¬2) سورة الممتحنة، آية: [10]. (¬3) سورة النساء، آية: [141].

يُعمل به عند الجميع، وحديث عبد الله بن عمرو في ردها بنكاح جديد تعضده الأصول. ومنها: أن حديث ابن عباس إن صح فإنما هو إخبار عن كونها زوجة له بعدما أسلم، ولم يعلم حدوث عقد ثان، وفي حديث عبد الله بن عمرو الإخبار عن حدوث عقد ثان بعد إسلامه، فهو أولى, لأن الأول: إخبار عن ظاهر الحال، والثاني: إخبار عن معنى حادث قد علمه، وهذا مثل ما يقال في رواية ابن عباس: "أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم" (¬1)، وحديث يزيد بن الأصم "أنه تزوجها وهو حلال" (¬2)، فقلنا: حديث ابن عباس أولى؛ لأنه أخبر عن حال حادثة وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول، فافهم. قوله: "وقد وافق عبد الله بن عمرو عامر الشعبي. . ." إلى آخره، أي: وافق عبد الله الشعبي في أنه -عليه السلام- ردَّها بنكاح جديد. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي. وهلما مرسل رجاله ثقات (¬3). وقال في "الاستذكار": ردَّها بنكاح جديد، ثم قال: وكذا قال الشعبي مع علمه بالمغازي أنه لم يردها إليه إلا بنكاح جديد. قال: ولا خلاف بين العلماء في الكافرة تسلم فيأبى زوجها الإِسلام حتى تنقضي عدتها أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد، وتبين بهذا أن قول ابن عباس: "ردها -عليه السلام- إليه على النكاح الأول" إن صح أراد على مثل الصداق الأول. ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري (2/ 652 رقم 1740)، ومسلم (2/ 1031 رقم 1410). (¬2) أخرجه: مسلم (2/ 1032 رقم 1411). (¬3) قد ذكرنا غير مرة أن الجمهور على تضعيف يحيى بن عبد الحميد الحماني.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على من ذهب إلى القول الأول: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- إنما في حديثه أن رسول الله -عليه السلام- ردها على أبي العاص على النكاح الأول، فليس في ذلك دليل على أنه ردها إليه لأنها في العدة، ولا نعلم كيف كان الحكم يومئذٍ في المشركة تسلم وزوجها مشرك، أيبينها ذلك منه، أو تكون زوجته على حالها؟ وإنما يكون حديث ابن عباس حجة لأهل المقالة الأولى لو كان فيه أن رسول الله -عليه السلام- ردَّها على أبي العاص؛ لأنه أدركها وهي في العدة، فأما إذا لم تتبين لنا العلة التي لها ردها عليه؛ فقد يجوز أن تكون هي العدة، وقد يجوز أن تكون غيرها؛ لأن الإِسلام لم يكن حينئذ يبينها منه ولا يزيلها عن حكمها المتقدم. ولقد حدثني أبو بكر بن عبدة، قال: حدثني أبو توبة الربيع بن نافع، قال: قلت لمحمد بن الحسن: من أين جاء اختلافهم في زينب؟ فقال بعضهم: ردَّها رسول الله -عليه السلام- على أبي العاص على النكاح الأول، وقال بعضهم: ردَّها بنكاح جديد؟ أترى كل واحد منهم سمع من النبي -عليه السلام- ما قال؟ فقال محمد بن الحسن: لم يجئ اختلافهم من هذا الوجه، وإنما جاء اختلافهم أن الله -عز وجل- إنما حرم أن ترجع المؤمنات إلى الكفار في سورة الممتحنة بعدما كان ذلك حلالاً جائزًا، فعلم ذلك عبد الله بن عمرو، ثم رأى رسول الله -عليه السلام- قد ردَّ زينب على أبي العاص بعدما كان علم حرمتها عليه بتحريم الله -عز وجل- المؤمنات على الكفار؛ فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد، فقال: ردَّها عليه رسول الله -عليه السلام- بنكاح جديد، ولم يعلم عبد الله بن عباس بتحريم الله المؤمنات على الكفار حتى علم برد النبي -عليه السلام- زينب على أبي العاص، فقال: ردَّها عليه بالنكاح الأول؛ لأنه لم يكن عنده بين إسلامه وإسلامها فسخ للنكاح الذي كان بينهما. قال محمد -رحمه الله-: فمن هنا جاء اختلافهم لا من اختلاف سمعوه من النبي -عليه السلام- في ذكره ما ردَّ زينب به على أبي العاص: أنه النكاح الأول، أو نكاح جديد.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، وأشار بذلك إلى الجواب عن حديث ابن عباس الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر. قوله: "على أنه ردها إليه , لأنها في العدة"، أي لكونها في العدة. وقال ابن حزم: أسلمت زينب أول ما بعث - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف، ثم هاجرت, وبين إسلامها وإسلام زوجها أزيد من ثماني عشرة سنة، وَوَلَدت في خلال ذلك ابنها عليًّا، فأين العدة؟ قوله: "أيبينها؟ " الهمزة فيه للاستفهام، وتبينها من الإبانة. قوله: "ولقد حدثني أبو بكر بن عبدة [. . . . . . .] (¬1). عن أبي توبة الربيع بن نافع الحلبي نزيل طرسوس وشيخ أبي داود وأحمد بن حنبل، كان يقال: إنه من الأبدال. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد أحسن محمد: في هذا، وتصحيح الآثار في هذا الباب على هذا المعنى الصحيح يوجب صحة ما قال عبد الله بن عمرو، والدليل على ذلك: أن ابن عباس قد كان يقول في النصرانية إذا أسلمت في دار الإِسلام وزوجها كافر: ما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "في اليهودية والنصرانية تكون تحت النصراني أو اليهودي فتسلم هي، قال: يفرق بينهما، الإِسلام يعلو ولا يعلى". ¬

_ (¬1) بيض المؤلف -رحمه الله- في "الأصل، ك"، ووقع في "شرح معاني الآثار": أبو بكر محمد بن عبدة ابن عبد الله بن زيد، وقال العيني في "المغاني": لا أعرف له ترجمة. قلت: ترجمة ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (54/ 165 - 167) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. غير أنه لم يقل: "الإِسلام يعلو ولا يعلى". أفيجوز أن تكون النصرانية عنده إذا أسلمت في دار الإِسلام وزوجها نصراني أنها تبين منه ولا ينتظر بها إسلامه إلى أن تخرج من العدة، وتكون الحربية التي ليست بكتابية إذا أسلمت في دار الحرب ثم جاءتنا مسلمة يُنتظر بها لحاق زوجها بها مسلمًا فيما بينه وبين خروجها من العدة؟! وهذا محال؛ لأن إسلامها في دار الإِسلام إذا كان يُبينها من زوجها النصراني الذمي فلإِسلامها في دار الحرب وخروجها إلى دار الإِسلام وتركها زوجها المشرك أحرى أن يُبينها، فثبت بهذا من قول ابن عباس أنه كان العصمة منقطعة بإسلام المرأة لا بخروجها من العدة. فإذا ثبت ذلك من قوله استحال أن يكون ترك ما قد كان ثبت عنده من حكم رسول الله -عليه السلام- في ردِّه زينب على أبي العاص على النكاح الأول، وصار إلى خلافه إلا بعد ثبوت نسخ ذلك. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: وجه تحسين الطحاوي ما قال محمد بن الحسن: ظاهر. قوله: "والدليل على ذلك" أي: الدليل على اقتضاء تصحيح الآثار صحة ما قاله عبد الله بن عمرو: أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-. وحاصل ذلك: أن ابن عباس قد ذهب في النصرانية تسلم قبل زوجها أنها أملك لنفسها، فكان من مذهبه أن الفرقة قد وقعت بإسلامها، وغير جائز أن يخالف النبي -عليه السلام- فيما رواه عنه، فإذا ثبت ذلك من قول ابن عباس استحال أن يكون ترك ما قد ثبت عنده من ردِّ رسول الله -عليه السلام- زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، وصار إلى خلاف ذلك إلا بعد ثبوت نسخ هذا الحكم عنده، فافهم.

وأخرج ما روي عن ابن عباس من طريقين. الأول: إسناده صحيح، عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس. والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي -ضعفه يحيى وأحمد، قال يحيى: ضعيف الحديث لا يساوي شيئًا. عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس. قوله: "في اليهودية" يعني أجاب ابن عباس في المرأة اليهودية أو النصرانية التي تحت اليهودي أو النصراني تسلم هي بقوله: "يفرق بينهما". وقوله: "يفرق" على صيغة المجهول. وقوله: "الإِسلام يعلو" ابتداء كلام من المبتدأ والخبر، فكأنه تعليل لقوله: "يفرق بينهما"، فهذا يدل على أن الفرقة تقع بينهما بإسلام المرأة. وفي "صحيح البخاري" (¬1) عن ابن عباس قال: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه". وقال الجصاص: قال بعضهم: هي امرأته ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة وقعت الفرقة. وقال ابن عباس: "تقع الفرقة بإسلامها". واتفق علماء الأمصار على أنها تَبِين منه بإسلامها إذا كانا في دار واحدة. واختلفوا في وقوع الفرقة إذا أسلمت ولم يسلم الزوج، فقال أصحابنا: إن كانا ذميين لم تقع الفرقة حتى تعرض عليه الإِسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2024)، ذكره معلقًا.

وهو ما روي عن علي وعمر -رضي الله عنهما-، وقالوا: إن كانا حربيين في دار الحرب فأسلمت فهي امرأته ما لم تحض ثلاث حيضات، فإن حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم فرق بينهما. قوله: "أفيجوز" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: "فَلَإِسلامها" مبتدأ، و"اللام" فيه للتأكيد؛ ولهذا جاءت مفتوحة وخبره قوله: "أحرى أن يبينها". ص: وأما لنظر في ذلك، فإنا رأينا المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر فقد صارت إلى حال لا يجوز أن يستأنف نكاحها عليها؛ لأنها مسلمة وهو كافر، فأردنا أن ننظر إلى ما يطرأ على النكاح مما لا يجوز معه استقبال النكاح كيف حكمه؟ فرأينا الله -عز وجل- حرَّم الأخوات من الرضاعة، وكان من تزوج امرأة صغيرة لا رضاع بينه وبينها فأرضعتها أمه حرمت عليه بذلك وانفسخ النكاح، فكان الرضاع الطارئ على النكاح في حكم الرضاع المتقدم للنكاح في أشباه لذلك يطول الكتاب بذكرها، وكانت ثمة أشياء يختلف فيها الحكم إذا كانت متقدمة للنكاح وطرأت على النكاح، من ذلك: أن الله -عز وجل- حرَّم نكاح المرأة في عدتها من زوجها، وأجمع المسلمون أن العدة من الجماع في النكاح الفاسد تمنع من النكاح كما تمنع إذا كانت بسبب نكاح صحيح، وكانت المرأة لو وطئت بشبهة ولها زوج فوجبت عليها بذلك عدة لم تبن بذلك من زوجها, ولم تجعل هذه العدة كالعدة المتقدمة للنكاح. ففرق في هذا بين حكم المستقبل والمستدبر. فأردنا أن ننظر في المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر، هل تبين منه بذلك؟ ويكون حكم مستقبل ذلك ومستدبره سواء كما كان ذلك في الرضاع الذي ذكرنا أولاً وإلا تبين منه بإسلامها، فلا يكون حكم إسلامها الحادث كهو إذا كان قبل النكاح، فالعدة قبل النكاح كالعدة التي ذكرنا التي فرق بين حكم المستقبل فيها وحكم المستدبر.

فنظرنا في ذلك فوجدنا العدة الطارئة على النكاح لا تجب بها فرقة في حال وجوبها ولا بعد ذلك، وكان الرضاع الذي ذكرنا تجب به الفرقة في حال كونه، ولا ينتظر بها شيء بعده، وكان الإِسلام الطارئ على النكاح كلٌ قد أجمع أن الفرقة تجب به، فقال قومٌ: تجب في وقت إسلام المرأة. وهو قول ابن عباس. وقال آخرون: لا تجب الفرقة حتى تعرض على الزوج الإِسلام فيأباه فيفرق بينه وبين المرأة، أو يختاره فتكون امرأته على حالها. وقال آخرون: هي امرأته ما لم يخرجها من أرض الهجرة. وهو قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وسنأتي بأسانيد هذه الروايات في آخرها إن شاء الله تعالى. فلما ثبت أن إسلام الزوجة الطارئ للفُرقة بين المرأة وزوجها في حال ما ثبت أن حكم ذلك كحكم الرضاع أشبه منه بحكم العدة، فلما كان الرضاع تجب به الفُرقة ساعة يكون، ولا ينتظر به خروج المرأة عن عِدَّتِها؛ كان كذلك الإِسلام. فهذا وجه النظر في هذا الباب: أن المرأة تَبين من زوجها بإسلامها في دار الإِسلام كانت أو في دار الحرب، وقد كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يخالفون هذا ويقولون في الحربية إذا أسلمت في دار الحرب وزوجها كافر: إنها امرأته ما لم تحض ثلاث حيض أو تخرج إلى دار الإِسلام، فأي ذلك ما كانت بانت به من زوجها. وقالوا: كان النظر في هذا أن تَبين من زوجها بإسلامها ساعة أسلمت. وقالوا: إذا أسلمت وزوجها في دار الإِسلام فهي امرأته على حالها حتى يعرض القاضي على زوجها الإِسلام فيُسلم فتبقى تحته، أو يأبى فيفرق بينهما. قالوا: فكان النظر في ذلك أن تَبين منه بإسلامها ساعة أسلمت، ولكنا قلدنا ما روي عن عمر -رضي الله عنه-، فذكروا ما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن أبي إسحاق الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس، قال: "كان رجل منَّا من بني تغلب نصراني تحته امرأة نصرانية فأسلمت، فرفعت إلى عمر -رضي الله عنه-، فقال له عمر: أسلم وإلا فرقت بينكما. فقال: لو لم أدع هذا إلا

استحياء من العرب أن يقولوا: إنه أسلم على بضع امرأة لفعلت، قال: ففرَّق عمر -رضي الله عنه- بينهما". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هلال بن يحيى، قال: ثنا أبو يوسف، قال: ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن السفاح الشيباني، عن كردوس بن داود التغلبي، عن عمر نحوه. فقلدوا ما روي عن عمر -رضي الله عنه- في هذا الذي أسلمت امرأته في دار الإِسلام، وجعلوا للذي أسلمت أمرأته في دار الحرب أجلاً إن أسلم فيه؛ وإلا وقعت الفرقة بينه وبين امرأته بدلاً من العرض الدي كانوا يعرضونه عليه لو كان في دار الإِسلام وهو العدة إلا أن تخرج المرأة قبل ذلك إلى دار الإِسلام فينقطع بذلك الأجل وتجب به البينونة، ونحن في هذا على ما روينا عن ابن عباس من وجوب البينونة بالإِسلام ساعة يكون من المرأة. ش: أي: وأما وجه النظر والقياس، تقريره: أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر تصير إلى حالة لا يجوز أن يستأنف عليها نكاحها؛ وذلك لأنها مسلمة وهو كافر، فإذا تمهد هذا ننظر إلى ما يطرأ على النكاح من الذي لا يجوز فيه استئناف النكاح كيف حكمه؟ فوجدنا ذلك على نوعين: الأول: يستوي فيه حكم المستقبل والمستدبر، وذلك كمن تزوج صغيرة فأرضعتها أمه فإنها تحرم عليه بذلك، فيكون الرضاع الطارئ على هذا النكاح في حكم الرضاع المتقدم. النوع الثاني: يفرق فيه بين المستقبل والمستدبر، وذلك كالمرأة التي لها زوج إذا وُطئت بشبهة فوجبت عليها عدة لم تبن بذلك من زوجها, ولم تجعل هذه العدة كالعدة المتقدمة للنكاح، فإذا كان كذلك ننظر في المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر هل تبين منه بذلك، ويكون حكمها حكم النوع الأول أم النوع الثاني؟

فنظرنا في ذلك فوجدنا العدة الطارئة على النكاح لا تجب بها فرقة في حال وجوبها ولا بعد ذلك، ووجدنا الرضاع تجب به الفرقة في حال وقوعه وكونه، ولا ينتظر به شيء بعده. ثم الإِسلام الطارئ على النكاح كلٌّ قد أجمع أن الفرقة تجب به، غير أنهم اختلفوا في وقتها: فقالت طائفة: تجب في وقت إسلام المرأة. وقال آخرون: لا تجب حتى يعرض على الزوج الإِسلام فيأبى، فيفرق بينهما. وقال آخرون: هي امرأته ما لم يخرجها من أرض الهجرة. فثبت أن حكم إسلامها الطارئ للفرقة كحكم الرضاع أشبه منه بحكم العدة، فإذا كان كذلك تجب به الفرقة ساعة يكون، ولا ينتظر به خروج المرأة من عدتها. فهذا وجه النظر والقياس: أن المرأة تَبين من زوجها بإسلامها سواء كانت في دار الإِسلام أو في دار الحرب، ولكن أصحابنا خالفوا هذا، حيث قالوا في الحربية إذا أسلمت في دار الحرب وزوجها كافر: إنها امرأته ما لم تحض ثلاث حيض أو تخرج إلى دار الإِسلام، والذمية إذا أسلمت في دار الإِسلام فهي امرأته حتى يعرض القاضي على زوجها الإِسلام، فإن أسلم بقيا على نكاحهما ولا يفرق بينهما. وكان النظر في الفصلين جميعًا أن تَبين من زوجها ساعة أسلمت لما ذكرنا، غير أنهم تركوا هذا، وقلدوا في ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي أخرجه الطحاوي من طريقين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن أبي إسحاق الشيباني سليمان بن فيروز، عن السفاح بن مطر الشيباني، عن داود بن كردوس التغلبي الكوفي، عن عمر بن الخطاب.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن السفاح بن مطر التغلبي، عن داود بن كردوس: "أن عبادة بن النعمان بن زرعة أسلمت امرأته التميمية وأبى أن يُسلم، ففرق عمر -رضي الله عنه- بينهما". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن هلال بن يحيى بن مسلم الرأي البصري، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، عن أبي إسحاق الشيباني. . . إلى آخره نحوه. فإن قيل: قال ابن حزم: السفاح وداود بن كردوس مجهولان. وقال الأزدي: داود بن كردوس مجهول. وقاله الذهبي أيضًا. قلت: رجال الإِسنادين كلهم ثقات. أما أبو بشر فإنه وثقه ابن يونس. وأما أبو معاوية فإنه من رجال السنة. وأما أبو إسحاق الشيباني فكذلك من رجال السنة. وأما السفاح بن مطر فإن ابن حبان ذكره في "الثقات"، وروى له أبو داود في "المراسيل". وأما داود بن كردوس فإن ابن حبان ذكره في التابعين "الثقات"، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" ولم يتعرض إليه بشيء. وأما أبو بكرة فإنه لا يشك في ثقته ودينه وأمانته وزهده المشهور بين الأنام. وأما هلال بن يحيى الرأي فقد أثنى عليه جماعة بخير. وأما أبو يوسف فأبو يوسف، وهو أجلّ من أن يذكر بشيء. ص: وأما ما روي عن علي -رضي الله عنه- في ذلك: فما حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 83 رقم 10081) بنحوه من طريق الثوري عن سليمان الشيباني قال: "أنبأني ابن المرأة التي فرق بينهما عمر حين عرض عليه الإِسلام فأبى، ففرق بينهما".

الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: هو أحق بنكاحها ما كانت في دار الهجرة". ش: لما نقل قول علي -رضي الله عنه- فيما مضى بقوله: "وقال آخرون: هي امرأته ما لم يخرجها من أرض الهجرة، وهو قول علي -رضي الله عنه-، أراد بيان ذلك مسندًا. وأخرجه بإسناد رجاله كلهم ثقات: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن عليًّا -رضي الله عنه-. . ." إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬1): من حديث حماد بن سلمة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن علي بن أبي طالب قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما: هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها". وروى أيضًا (¬2): من طريق سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن علي -رضي الله عنه-: "هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها". ص: وقد روى عن الزهري وقتادة في رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب على أبي العاص أن ذلك منسوخ، واختلفا فيما نسخه. حدثنا عبيد الله بن محمد المؤدب، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري: "أن أبا العاص بن ربيع وأُخذ أسيرًا يوم بدر، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه ابنته". قال الزهري: وكان هذا قبل أن تنزل الفرائض -يعني-: ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وردها على زوجها. حدثنا عبيد الله، قال: ثنا علي، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة: ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 314). (¬2) "المحلى" (7/ 314).

"أن رسول الله -عليه السلام- ردّ على أبي العاص ابنته. قال قتادة: وكان هذا قبل أن تنزل سورة براءة". ش: هذا من جملة المعاني التي رجحت خبر عبد الله بن عمرو بن العاص على خبر ابن عباس، وكان قد وعد فيما مضى ببيانها، وقد بيَّن بعضها فيما مضى، وبيَّن ها هنا أيضًا بعضها، وهو أن حديث عبد الله بن عباس منسوخ على ما روي عن محمد بن مسلم الزهري وقتادة بن دعامة السدوسي، ولكنهما اختلفا في الناسخ، فقال الزهري: الناسخ هو نزول الفرائض، وقال قتادة: سورة براءة. وأخرج ذلك عنهما بإسناده جيد واحد. فإذا كان كذلك فثبت من قولهما انتساخ حديث ابن عباس. وقال أبو عمر (¬1): حديث ابن عباس منسوخ عند الجميع بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .} (¬2) إلى قوله: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ. . .} (2) الآية، فلا يجوز رجوعه إليها بعد خروجها من عدتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض، قاله ابن شهاب. وروي عن قتادة أن ذلك كان قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين، وفي قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) ما يكفي ويغني، والحمد لله. وقال أبو عمر أيضًا: لم يختلف أهل السير أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} (2) أنها نزلت في الحديبية حين صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا على أن يرد عليهم من جاءهم بغير إذن وَلِيِّه، فلما هاجرن أبى الله أن يُردَدْن إلى المشركين إذا امتحن بمحنة الإِسلام وعرف أنهن جئن رغبةً في الإِسلام، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "التمهيد" (12/ 20). (¬2) سورة الممتحنة، آية: [10].

ص: باب: الفداء

ص: باب: الفداء ش: أي: هذا باب في بيان حكم الفداء -بكسر الفاء وبالمد والقصر- وفتح الفاء لا يجيء إلا مقصورًا، يقال، فداه وفاداه إذا أعطى فداءه وأنقده بنفسه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: "نفلني أبو بكر -رضي الله عنه- امرأة من فزارة أتينا بها من الغارة، فقدمت بها المدينة، فاستوهبها مني رسول الله -عليه السلام- ففادى بها أناسًا من المسلمين". ش: أخرجه بعينه سندًا ومتنًا في باب النفل بعد الفرغ من قتاد العدو وإحراز الغنيمة، وقد مرَّ الكلام فيه هناك مستوفى. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة. . . فذكر بإسناده مثله، وزاد: "كانوا أسارى بمكة". ش: هذا طريق آخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عمر بن يونس بن قاسم الحنفي اليمامي الثقة، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه سلمة بن الأكوع. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) مطولًا ومختصرًا، وقال: ثنا قران بن تمام، عن عكرمة اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: "خرجت مع أبي بكر -رضي الله عنه- في غزاة هوازن، فنفلني جارية، فاستوهبها رسول الله -عليه السلام-، فبعث بها إلى مكة ففادى بها أناسًا من المسلمين". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمه، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله -عليه السلام- فادى برجل من العدو رجلين من المسلمين". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 47 رقم 16552).

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين: "أن رسول الله -عليه السلام- فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن عمه أبي المهلب الجرمي، قال النسائي: أبو المهلب عمرو بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو. روى له البخاري في "الأدب"، والباقون. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا ابن أبي عمر، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمه، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله -عليه السلام- فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين". وقال: حديث حسن صحيح. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن إسماعيل بن إبراهيم البصري -هو ابن علية- عن أيوب السختياني. . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران ابن حصين: "أن النبي -عليه السلام- فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل". ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مجالد، قال: أنا أبو الوداك جَبْر بن نوف، عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 135 رقم 1568). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 426 رقم 19840).

الخدري -رضي الله عنه- قال: "أصبنا سبيًا فأردنا أن نفادي بهن، فسألنا النبي -عليه السلام- فقلنا: يا رسول الله، الرجل تكون له الأمة فيصيب منها ويعزل عنها مخافة أن تعلق منه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فما يقضى من أمرٍ يكن وإن كرهتم". ش: قد مرَّ في باب: "العزل" في كتاب النكاح عن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث بما يشابه هذا الإِسناد. وهشيم هو ابن بشير، ومجالد -بالجيم- هو ابن سعيد الهمداني، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف واهي الحديث. وقال النسائي: ثقة. وعنه: ليس بالقوي. روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة. وأبو الوداك جبر بن نوف الهمداني البكالي، روي له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، ثنا يونس بن عمرو، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبايا يوم حنين فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزل، فقال: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، فليس من كل الماء يكون الولد". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أنه لا بأس أن يفدى ما في أيدي المشركين من الأسرى المسلمين بمن قد ملكه المسلمون من أهل الحرب من الرجال والنساء، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار, وممن ذهب إلى هذا القول أبو يوسف. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري ومالكًا وأبا يوسف وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا بأس أن يفدى ما في أيدي المشركين من الأسرى المسلمين بمن قد ملكه المسلمون من أهل الحرب من الرجال والنساء. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 47 رقم 11456).

وقال الجصاص -رحمه الله-: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير وعلى استبقائه، واختلفوا في فدائه؛ فقال أصحابنا جميعًا: لا يفادى الأسير بالمال ولا يباع السبي من أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يفادى بأسرى المسلمين ولا يردون حربًا أبدًا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين -وهو قول الثوري والأوزاعي- ولا بأس ببيع السبي من أهل الحرب، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون. وقال المزني عن الشافعي: للإِمام أن يَمُنّ على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادى بهم المسلمون. ص: وكره آخرون أن يفادى بمن وقع ملك المسلمين عليه؛ لأنه قد صارت له ذمة بملك المسلمين إياه، فمكروه أن يرد حربيًّا بعد أن كان ذمةً، وقالوا: إنما كان هذا الفداء المذكور في هذه الآثار في وقت كان لا بأس أن يفادى فيه بمن أسلم من أهل الحرب فَيُرَدُّوا إلى المشركين على أن يَرُدُّوا إلى المسلمين من أسروا منهم كما صالح رسول الله -عليه السلام- أهل مكة شرَّفها الله على أن يرد إليهم مَنْ جاء إليه منهم وإن كان مسلمًا. ش: أي: كره قوم آخرون، وهم: الليث بن سعد والحكم بن عتيبة ومجاهد وأبو حنيفة -رحمهم الله- أن يفادى بمن وقع عليه ملك المسلمين؛ لأنهم صاروا ذوي ذمة بملك المسلمين إياهم، فيكره بعد ذلك أن يعادوا حربيين بعد أن كانوا ذوي ذمة. قوله: "وقالوا" أي هؤلاء الآخرون. . . إلى آخره، وهو جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى عن الأحاديث المذكورة. وحاصله: أن الفداء المذكور في حديث سلمة بن الأكوع وعمران بن الحصين وأبي سعيد -رضي الله عنهما- إنما كان في وقت كان يجوز رد من جاء مسلمًا من المشركين إليهم، كما جاء ذلك مفسرًا في حديث عمران بن الحصين.

وقد أجمعوا أن ذلك قد انتسخ بقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬1) فإنه نسخ أن يرد أحد من أهل الإِسلام إلى الكفار، فإذا كان كذلك سقط الاحتجاج بالأحاديث المذكورة على جواز الفداء المذكور. ثم إذا ثبت النسخ وثبت أن لا يرد إلى الكفار من جاءنا منهم، وثبت أن الذمة تحرم ما يحرم الإِسلام من دماء أهلها وأموالهم، وثبت أنه يجب علينا منع أهل الذمة من النقض والرجوع إلى دار الحرب، وثبت أن من أصابه المسلمون منهم يملكونه فيصير بملكهم إياه ذمة لهم، يجب بالنظر على ذلك أن تحرم المفاداة بالحربي الذي أسروه وصار ذمةً لهم ووقع ملكهم علية؛ لأن فيه نقضًا للذمة وردًّا إلى أيدي المشركين، والله أعلم. ص: فمما بيَّن أن ذلك كذلك: أن محمد بن خزيمة حدثنا، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: "أَسَرَت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسر أصحاب رسول الله -عليه السلام- رجلاً من بني عامر بن صعصعة، فَمُرَّ به على النبي -عليه السلام- وهو موثق، فأقبل إليه رسول الله -عليه السلام- فقال: عَلَام أحبس؟ قال: بجريرة حلفائك، ثم مضى رسول الله -عليه السلام- فناداه، فأقبل إليه، فقال له الأسير: إني مسلم، فقال رسول الله -عليه السلام-: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم مضى رسول الله -عليه السلام- فناداه أيضًا، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني، فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك، ثم إن النبي -عليه السلام- فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أي المهلب، عن عمران بن الحصين قال: "كانت العضباء لرجل من عقيل أُسر فأُخذت العضباء منه، فأتى عليه رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا محمد، عَلامَ تأخذوني ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، آية: [10].

وتأخذون سابقة الحاج وقد أسلمت؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، فقال رسول الله -عليه السلام-: أُخذت بجريرة حلفائك -وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي -عليه السلام-- ورسول الله -عليه السلام- على حمارٍ، عليه قطيفة، فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني، فقال رسول الله -عليه السلام-: هذه حاجتك، ثم إن الرجل فدي برجلين، وحبس رسول الله -عليه السلام- العضباء لرحله". فهذا حديث مفسر قد أخبر فيه عمران بن حصين أن النبي -عليه السلام- فادى بذلك المأسور بعد أن أقر بالإِسلام، وقد أجمعوا أن ذلك منسوخ، وأنه ليس للإِمام أن يفدي من أسر من المسلمين بمن في يده من أسراء أهل الحرب الذين قد أسلموا، وأن قول الله -عز وجل-: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬1) قد نسخ أن يرد أحد أي العبيد من أهل الإِسلام، فلما ثبت ذلك وثبت أن لا يرد إلى الكفار من جاءنا منهم، وثبت أن الذمة تحرم ما يحرم الإِسلام من دماء أهلها وأموالهم، وأنه يجيب علينا منع أهلها من نقضها والرجوع إلى دار الحرب كما نمنع المسلمين من نقض إسلامهم والخروج إلى دار الحرب على ذلك، وكان مَنْ أصبنا من أهل الحرب فملكناه صار بملكنا إياه ذمةً لنا, ولو أعتقناه لم يعد حربيًّا بعد ذلك، وكان لنا أخذه بأداء الجزية إلينا كما نأخذ سائر ذمتنا، وعلينا حفظه مما نحفظهم منه، وكان حرامًا علينا أن نفادي بعبيدنا الكفار الذين قد ولدوا في دارنا لما قد صار لهم من الذمة. فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك الحربي إذا أسرناه فصار ذمةً لنا ووقع ملكنا عليه أن تحرم علينا المفاداة به ورده إلى أيدي المشركين، وهذا قول أبي حنيفة -رضي الله عنه-. ش: أي: فمن الذي بيَّن أن ذلك أي الفداء المذكور في الآثار المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى كذلك، أي كما قلنا: إنه كان في وقت كان لا بأس أن يفادى فيه بمن أسلم من أهل الحرب. . . إلى آخر ما ذكره. ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، آية: [10].

قوله: "أن محمد بن خزيمة" في محل الرفع على الابتداء. وقوله: "فمما بَيَّن" مقدمًا خبره. وأخرج حديث عمران هذا من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خريمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي -أحد الأئمة الأعلام- عن عمه أبي المهلب الجرمي، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "كانت بنو عامر أسروا رجلين من أصحاب النبي -عليه السلام-، فأسر أصحاب النبي -عليه السلام- رجلاً من ثقيف وأخذوا ناقةً كان يسبق عليها الحاج، فمرَّ به النبي -عليه السلام- وهو موثق، فقال: يا محمد، يا محمد. فعطف عليه، فقال: عَلامَ ما أُحَبس وتؤخذ سابقة الحاج؟ قال: بجريرة حلفائك -وكانت بنو عامر حلفاء لثقيف- ثم أجاز النبي -عليه السلام- فدعاه أيضًا: يا محمد، فأجابه، فقال: إني مسلم، قال: لو قلت ذاك وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم أجاز النبي -عليه السلام-، فناداه أيضًا، فرجع إليه فقال: أطعمني فإني جائع، فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك. فأمر له بطعام، ثم إن النبي -عليه السلام- فادى الرجل بالرجلين اللذين أسرا من أصحابه. . ." الحديث بطوله. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 190 رقم 453).

وأخرجه أبو داود (¬1) في "الإِيمان" في باب: "ما جاء في النذر فيما لا يملكه": ثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى، قالا: ثنا حماد، قال ابن عيسى: ثنا حماد بن زيد وابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين قال: "كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج، قال: فأُسر فأتى النبي -عليه السلام- وهو في وثاق والنبي -عليه السلام- على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد، عَلَامَ تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ -زاد ابن عيسى: فقال رسول الله -عليه السلام-: إعظامًا لذلك، ثم اتفقا- فقال: نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف -وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب رسول الله -عليه السلام- وقد قال فيما قال: وأنا مسلم، أو قال: قد أسلمت، فلما مضى النبي -عليه السلام- قال ابن عيسى: ثم ناداه: يا محمد يا محمد، قال: وكان النبي -عليه السلام- رحيمًا رقيقًا، قال: فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح -ثم رجعت إلى حديث سليمان- قال: يا محمد إني جائع فأطعني، إني ظمآن فاسقني، قال: فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك -أو قال: هذه حاجته- ففودي الرجل بعد بالرجلين، قال: وحبس رسول الله -عليه السلام- العضباء [لرحله، قال: فأغار المشركون على سرح المدينة، فذهبوا بالعضباء] (¬2)، قال: فلما ذهبوا بها وأسروا امرأة من المسلمين -قال أبو داود: هي امرأة أبي ذر- قال: فكانوا إذا كان من الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم، قال: فنوموا ليلة فقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغى حتى أتت على العضباء، قال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة -قال ابن عيس: فلم ترغ، قال-: فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجَّاها الله لتنحرنها، قال: فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ناقة النبي -عليه السلام-، فأخبر النبي -عليه السلام- بذلك فأرسل إليها، فجيء بها، وأُخبر بنذرها، فقال: بئس ما جزتها -أو جزيتيها- إن اللهُ أنجاها عليها لتنحرنها , لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 258 رقم 3316). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

قوله: "علام أُحْبس؟ " أصله على ما أحبس أي: لأي شيء أحبس؟ قوله: "بجريرة حلفائك". الجريرة: الخيانة والذنب؛ وذلك أنه كان بين رسول الله -عليه السلام- وبين ثقيف موادعة، فلما نقضوها ولم ينكر عليهم بنو عقيل -وكانوا معهم في العهد- صاروا مثلهم في نقض العهد فأخذه بجريرتهم، وقيل: معناه: أخذت لتدفع بك جريرة حلفائك من ثقيف، ويدل عليه: أنه فدى بعد بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف من المسلمين. و"الحُلفاء" بضم الحاء المهملة جمع حليف من الحلف وهي المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات؛ فذلك الذي ورد النهي عنه في الإِسلام بقوله -عليه السلام-: "لا حلف في الإِسلام" (¬1)، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه -عليه السلام-: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإِسلام إلا شدة" (¬2) يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإِسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإِسلام. وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: "لا حلف في الإِسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخًا، وكان رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر -رضي الله عنه- من المطيِّبين، وكان عمر -رضي الله عنه- من الأحلاف. والأحلاف ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم؛ سموا بذلك لأنهم أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جنبة مملوءة طيبًا فوضعتها لأحلافهم وهم: أسد وزهرة وتيم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفًا آخر مؤكدًا؛ فسموا الأحلاف لذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (4/ 1961 رقم 2530) من حديث جبير بن مطعم. (¬2) أخرجه مسلم (4/ 1961 رقم 2530) من حديث جبير بن مطعم.

قوله: "وأنت تملك أمرك" جملة حالية في موضع النصب. قوله: "كانت العضياء لرجل من عُقَيل" بضم العين وفتح القاف، والعضباء علم لناقة النبي -عليه السلام- منقول من قولهم: ناقة عضباء أي مشقوقة الأذن، ولم تكن مشقوقة الأذن، وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. وقال الزمخشري: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء، هي القصيرة اليد. قوله: "تأخذون سابقة الحاج" أراد بها الناقة العضباء؛ لأنها كانت تسبق الحاج في المشي. قوله: "عليه قطيفة" وهي كساء له خمل، والله أعلم. وباقي الكلام قد مرّ تفسيره عن قريب. ***

ص: باب: ما أحرز المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه؟

ص: باب: ما أحرز المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه؟ ش: أي: هذا باب في بيان حكم ما أحرزه أهل الشرك من أموال المسلمين، هل يملكونه بإحرازهم أم لا؟ ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: "كانت العضباء من سوابق الحاج، فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا به وفيه العضباء، وأسروا امرأة من المسلمين، وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم في أفنيتهم، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد نوموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغى، حتى أتت على العضباء فأتت على ناقة ذلول فركبتها، ثم توجهت قِبَل المدينة ونذرت لئن الله نجَّاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت عرفت الناقة، فأتوا بها النبي -عليه السلام- فأخبرته بنذرها، فقال: بئس ما جزيتها -أو وفيتها- لا وفاء لنذر في معصية الله وفيما لا يملك ابن آدم". ش: قد مر هذا الحديث بعين هذا الإِسناد في الباب السابق، ولكن في المتن بعض الاختلاف، وقد ذكرنا هناك أن أبا داود أخرجه أيضًا، وذكرنا أيضًا أكثر معاني ألفاظه. قوله:"من سوابق الحاج" جمع سابقة، وكانت العضباء تسبق إبل الحاج في المشي والجري. قوله: "وأسروا امرأة" قال أبو داود في روايته: "إنها كانت امرأة أبي ذر". قوله: "يريحون إبلهم" أي يردونها إلى مراحها، يقال: راحت الإبل وأرحتها: إذا رددتها إلى المراح. وقوله: "في أفنيتهم" الأفنية جمع فناء الدار. قوله: "وقد نُوِّموا" مبالغة في ناموا. قوله: "إلا رغى" من رَغَى البعير يَرْغُو رُغاءً: إذا ضجّ.

ويستفاد من الحديث: أن من نذر في معصية الله لا يجوز له الوفاء به، كمن نذر أن يقتل فلانًا. وأن النذر فيما لا يملكه باطل كمن نذر أن يذبح شاة فلان. ص: فذهب قوم إلى أن ما غنمه أهل الحرب من أموال المسلمين مردود على المسلمين قبل القسمة وبعدها؛ لأن أهل الحرب -في قولهم- لا يملكون أموال المسلمين بأخذهم إياها من المسلمين، وقالوا: قول النبي -عليه السلام- للمرأة التي أخذت العضباء: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" دليل على أنها لم تكن ملكتها بأخذها إياها من أهل الحرب، وأن أهل الحرب لم يكونوا ملكوها من النبي -عليه السلام-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي والظاهرية؛ فإنهم قالوا: ما غنمه أهل الحرب من أموال المسلمين مردود على المسلمين قبل القسمة وبعدها. . . إلى آخره، وبه قال ابن المنذر. واعلم أن ها هنا خمس مذاهب: الأول: هذا. والثاني: أنه لا يرد شيء من ذلك إلى صاحبه لا قبل القسمة ولا بعدها, لا بثمن ولا بغير ثمن، وهو لمن صار في سهمه. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وإليه ذهب الحسن البصري وقتادة. والثالث: أنه إن أُدرك قبل القسمة رُدّ إلى صاحبه، فإن لم يدرك حتى قسم فهو للذي وقع في سهمه لا يُرد إلى صاحبه لا بثمن ولا بغيره، روي ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو قول القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وأحمد بن حنبل. والرابع: أنه إن أدرك قبل القسمة رُدّ إلى صاحبه بغير ثمن وإن لم يدرك إلا بعد

القسمة فصاحبه أحق به بقيمته. وروي ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب، وهو قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وشريح ومجاهد والأوزاعي ومالك. والخامس: قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري، وهو: أن ما أبق إلى المشركين من عبدٍ لمسلم فإنه مردود إلى صاحبه قبل القسمة وبعدها بلا ثمن، وكذلك ما غنموه من مدبر ومكاتب وأم ولد، وأما ما غنموا من الإِماء والعبيد والمتاع والحيوان فإن أُدرك قبل أن يدخلوا به دار الحرب ثم غنمه المسلمون رُدّ إلى صاحبه قبل القسمة وبعدها بلا ثمن، وإن دخلوا به دار الحرب ثم غنمه المسلمون رُدّ إلى صاحبه قبل القسمة، وأما بعد القسمة فصاحبه أحق به بالقيمة إن شاء، وإلا فلا يرد إليه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين فأحرزوه في دارهم فقد ملكوه وزال عنه ملك المسلمين، فإذا أُوجف عليه المسلمون فأخذوه منهم، فإن جاء صاحبه قبل أن يقسم أخذه بغير شيء، وان جاء بعدما قسم أخذه بالقيمة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي وابن سيرين وشريحًا ومجاهدًا والأوزاعي وأبا حنيفة وسفيان الثوري وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد في رواية. وقد بسطنا مذاهب العلماء في ذلك أنفًا. وقال ابن قدامة: إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم قهرهم المسلمون فأخذوها منهم، فإن علم صاحبها قبل قسمتها رُدّت إليه بغير شيء في قول عامة أهل العلم، منهم: عمر -رضي الله عنه- وعطاء والنخعي وسليمان بن ربيعة والليث ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري: لا يرد إليه وهو للجيش. ونحوه عن عمرو بن دينار. فأما ما أدركه بعد أن قسم ففيه روايتان:

إحداهما: أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب عليه على من أخذه، وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك، إلا أن المحكي عن مالك وأبي حنيفة أن يأخذه بالقيمة، ويروى عن مجاهد مثله. والرواية الثانية: عن أحمد أنه إذا قسم فلا حق له بحال، نصّ عليه في رواية أبي داود وغيره، وهو قول عمر وعلي وسليمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث. قال أحمد: أما قول من قال: أحق به بالقيمة، فهو قول ضعيف عن مجاهد. وقال الشافعي: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويُعْطَى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، وهذا قول ابن المنذر. ص: وكان من الحجة لهم في الحديث الأول: أن قول النبي -عليه السلام-: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة؛ لأنها قالت ذلك وهي في دار الحرب، وكل الناس يقول: إن من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجو به إلى دار الإِسلام أنه غير محرز له وغير مالك، وأن ملكه لا يقطع عليه حتى يخرج به إلى دار الإِسلام، فإذا فعل ذلك فقد غنمه وملكه؛ فلهذا قال النبي -عليه السلام- في شأن المرأة ما قال؛ لأنها نذرت قبل أن تملكها لئن الله -عز وجل- نجَّاها عليها لتنحرنها، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك؛ لأن نذرها ذلك كان منها قبل أن تملكها. فهذا وجه هذا الحديث، وليس فيه دليل على أن المشركين قد كانوا ملكوها على النبي -عليه السلام- بأخذهم إياها منه أم لا؟ ولا على أن أهل الحرب يملكون بما أوجفوا من أموال المسلمين أيضًا أم لا؟ والذي فيه الدليل على ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة الطائي: "أن رجلاً أصاب له العدو بعيرًا، فاشتراه رجل منهم فجاء به فعرفه صاحبه فخاصمه إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال: إن شئت أعطيت عنه الذي اشترى به فهو لك، وإلا فهو له".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن حفص الأصفهاني، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سماك, عن تميم بن طرفة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. فهذا هو الذي فيه وجه هذا الحكم في هذا الباب كيف هو. ش: أي، وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، أشار بهذا إلى الجواب عن حديث عمران بن حصين الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وحاصله أنه لا يدل لهم فيما ذهبوا إليه ولا يتم استدلالهم به؛ لأنه ليس فيه دلالة على ما ذكروه، والذي فيه الدليل هو حديث تميم بن طرفة الطائي؛ فإنه صرح فيه بما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وأخرج حديثه من طريقين صحيحين مرسلين: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن عبيد الله بن محمد التيمي المعروف بابن عائشة، شيخ أبي داود، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة الطائي المسلي الكوفي التابعي. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة: "أن عثمان -رضي الله عنه- اشترى بعيرًا من العدو، فعرفه صاحبه فخاصمه إلى النبي -عليه السلام-، فقال له النبي -عليه السلام-: إن شئت أعطيته الثمن الذي اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن حفص بن الفضل الأصهباني، عن سفيان الثوري، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة الطائي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن تميم بن طرفة قال: "أصاب المسلمون ناقة لرجل من المسلمين فاشتراها رجل ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 302، 303). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 507 رقم 33364).

من العدو، فخاصمه صاحبها إلى النبي -عليه السلام- فأقام البينة، فقضى النبي -عليه السلام- أن يدفع إليه الثمن الذي اشتراها به من العدو وإلا خلى بينه وبينها". فإن قيل: قد قال ابن حزم: هذا لا يصلح للحجة؛ لأنه منقطع، وسماك ضعيف يقبل التلقين، شهد به عليه شعبة وغيره. وقال البيهقي أيضًا: هذا مرسل. وقال الشافعي: لا تثبت به حجة. قلت: ترك هؤلاء العمل بالمراسيل ليس بحجة على غيرهم ولا نسلم أن سماكًا ضعيف؛ لأن مسلمًا احتج به في "صحيحه" ووثقه يحيى وأبو حاتم، وإنما قالوا: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، على أن ياسين الزيات قد روى هذا الحديث عن سماك، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة مسندًا مرفوعًا. ورواه أيضًا إبراهيم بن محمد الهمداني أو الأنباري، عن زياد بن علاقة، عن جابر بن سمرة مسندًا. ص: وقد روي هذا عن جماعة من المتقدمين، فمما روي عنهم في ذلك: ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال فيما أحرز المشركون وأصابه المسلمون فعرفه صاحبه، قال: إن أدركه قبل أن يقسم فهو له، وإن جرت فيه السهام فلا شيء له". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن رجاء بن حيوة: "أن عمر بن الخطاب وأبا عبيدة -رضي الله عنهما- قالا ذلك". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: أنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- مثله.

حدثنا محمد، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا ابن المبارك، عن زائدة بن قدامة، عن ليث، عن مجاهد قال: "إذا أصاب المشركون السبي للمسلمين، فأصابه المسلمون، فقدر عليه صاحبه قبل أن يقسم فهو له، وإن قدر عليه بعد القسمة فهو أحق به بالثمن الذي أخذ به". حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس، حدثنا محمد بن سليمان الأسدي، حدثنا ابن أبي زائدة، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن غلامًا لابن عمر أَبِقَ إلى العدو، فظهر المسلمون عليه، فرده النبي -عليه السلام- ولم يكن قسم". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمد، قال: أنا حماد، عن أيوب وحبيب وهشام، عن محمد: "أن رجلاً ابتاع جارية من العدو فوطئها فولدت منه، فجاء [صاحبها] (¬1) فخاصمه إلى شريح، قال: فقال: المسلم أحق من رد على أخيه بالثمن، قال: فإنها قد ولدت منه، فقال: أعتقها؛ قضاء الأمير عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمد، قال: ثنا حماد، عن الحجاج، عن إبراهيم وعامر. قال: وقال قتادة: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أنهم قالوا فيما أصاب المشركون من المسلمين ثم أصاب المسلمون بعد، قالوا: إن جاء صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به". حدثنا أحمد، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع: "أن المشركين أصابوا فرسًا لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، فأصابه المسلمون بعد، فأخذه عبد الله بن عمر قبل أن تقسم المغانم". ولم يذكر نافع ها هنا قبل أن تقسم المغانم، إلا أن الحكم بعدما تقع المقاسم بخلاف ذلك عنده، وكذلك حديث إسحاق بن إبراهيم الذي ذكرناه قبل هذا ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "صاحبه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الذي ذكروا فيه: "ولم يكن قسم"، فدل ذلك على أنه لو كان قسم كان الحكم فيه خلاف ذلك عنده. حدثنا أحمد، قال: ثنا عبيد الله، قال: أنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس، أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري والحسن قالا: "ما أحرز المشركون فهو فيء المسلمين لا يرد منه شيء". ش: أي قد روي ما ذكرنا -أن أهل الحرب يملكون ما أحرزوه في دارهم من أموال المسلمين، وأن صاحبه إن جاء قبل أن يقسمه المسلمون بعدما ظهروا عليهم لا يأخذه إلا بالقيمة -عن جماعة من الصحابة والتابعين: أما من الصحابة: فعن عمر بن الخطاب وأبي عبيدة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-. وأما من التابعين: فعن مجاهد وشريح والشعبي والنخعي والزهري والحسن البصري -رحمهم الله-. أما ما روي عن عمر -رضي الله عنه- فأخرجه من طريقين منقطعين، ولكن رجالهما ثقات: الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بن دعامة، عن رجاء بن حيوة بن جرول الفلسطيني الأردني، عن قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وقبيصة لم يدرك عمر بن الخطاب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: قال عمر: "ما أحرز ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 506 رقم 33352).

المشركون من أموال المسلمين فغزوهم بعد وظهروا عليهم، فوجد رجل ماله بعينه قبل أن تقسم السهام فهو أحق به، وإن كان قُسم فلا شيء له". الثاني: فيه عن أبي عبيدة عامر بن الجراح أيضًا: أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أزهر بن سعد السمان الباهلي البصري، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن رجاء بن حيوة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عيسى بن يونس، عن ثور، عن ابن عون، عن زهرة بن يزيد المرادي: "أن أمة لرجل من المسلمين أَبِقَت ولحقت بالعدو، فغنمها المسلمون، فعرفها أهلها، فكتب فيها أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، فكتب عمر: إن كانت الأمة لم تخمس ولم تقسم فهي ردٌّ على أهلها، وإن كانت قد خمست وقسمت فأمضها لسبيلها". وأما ما روي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: فأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال- عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار وعن زيد بن ثابت: "ما أحرز العدو من مال المسلمين فاستنقذ فعرفه أهله قبل أن يقسم رُدّ إليهم، فإن لم يعرفوه حتى يقسم لم يرد إليهم. ثم قال: ابن لهيعة غير حجة، وقد قيل: عن سليمان، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. وأما ما روي عن عبد الله بن عمر فأخرجه من وجهين: الأول: عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس بن موسى الوراق المنجنيقي ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 506 رقم 33355). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 113 رقم 18037).

البغدادي، عن محمد بن سليمان بن حبيب الأسدي المصيصي العلاف -المعروف بلوين- شيخ أبي داود والنسائي، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا صالح بن سهيل، قال: ثنا يحيى -يعني ابن أبي زائدة- عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن غلامًا لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله -عليه السلام- إلى ابن عمر ولم يقسم". الوجه الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمد التيمي، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع. . . إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرج أبو داود (¬2): ثنا محمد بن سليمان الأنباري والحسن بن علي -المعنى- قالا: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "ذهب فرس له فأخذها العدو، فظهر عليه المسلمون، فرَدَّ عليه في زمن النبي -عليه السلام-، وأبق عبد له فلحق بأرض الروم، فظهر عليهم المسلمون فرَدَّه عليه خالد بن الوليد -رضي الله عنه-يعني بعد النبي -عليه السلام-". وأما ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمد التيمي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلَاس -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري، عن علي -رضي الله عنه-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 71 رقم 2698). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 71 رقم 2699). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 507 رقم 33362).

عن قتادة، عن خلاس، عن علي -رضي الله عنه- قال: "ما أحرز العدو فهو جائز". وأما ما روي عن مجاهد فأخرجه بإسناد جيد حسن: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي، عن عبد الله بن المبارك، عن زائدة بن قدامة، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: "ما أصاب المسلمون مما أصابه العدو قبل ذلك، فإن أصابه صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن قسم فهو أحق به بالثمن". وأما ما روي عن شريح فأخرجه بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمد التيمي العيشي شيخ أبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني وحبيب المعلم وهشام بن حسان الأزدي، ثلاثتهم عن محمد بن سيرين. . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين: "أن أمة أحرزها العدو فاشتراها رجل، فخاصمه سيدها إلى شريح فقال: المسلم أحق من رَدَّ على أخيه بالثمن، فقال: إنها ولدت من سيدها؟ قال: أعتقها؛ قضاء الأمير". وأما ما روي عن عامر الشعبي وإبراهيم النخعي: فأخرجه عن أحد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمد التيمي، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إبراهيم النخعي وعامر بن شراحيل الشعبي. . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): ثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن الحكم، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 507 رقم 33361). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 507 رقم 33395). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 507 رقم 33363).

إبراهيم قال: "ما ظهر عليه المشركون من متاع المسلمين ثم ظهر عليه المسلمون، إن قسم فهو أحق به بالثمن، وإن كان لم يقسم رُدَّ عليه". قوله: "قال: وقال قتادة: عن عمر -رضي الله عنه-" أي قال الحجاج: وقال أيضًا قتادة: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأما ما روي عن محمد بن مسلم الزهري والحسن البصري فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري والحسن البصري. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق معمر، عن الزهري: "ما أحرزه المشركون ثم أصابه المسلمون فهو لهم ما لم يكن حرًّا أو معاهدًا". وعن معمر، عن رجل، عن الحسن، مثل هذا، والله أعلم. ص: فكل هؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار قد أثبتوا ملك المشركين لما أحرزوا من أموال المسلمين، وإنما اختلافهم فيما بعد ذلك، فقال الحسن والزهري: إن أحرز المشركون من أموال المسلمين، ثم قدر المسلمون عليه بعد ذلك، فلا سبيل لصاحبه عليه. وقد خالفهما في ذلك شريح ومجاهد وإبراهيم وعامر ومن تقدمهم من أصحاب النبي -عليه السلام-: عمر وعلي وأبو عبيدة وابن عمر وزيد بن ثابت، وشدَّ ما قالوا من ذلك: ما قد روينا عن النبي -عليه السلام- في حديث تميم بن طرفة فذلك أولى ما ذهبنا إليه، وإن كان النظر مخالفًا لما ذهب إليه الفريقان جميعًا؛ وذلك أنا رأينا المسلمين يسبون أهل الحرب وأموالهم فيملكون أموالهم كما يملكون رقابهم، وكان المشركون إذا أسروا المسلمين لم يملكوا رقابهم، فالنظر على ذلك أن لا يملكوا أموالهم، فيكون حكم ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 300).

أموال المسلمين كحكم رقابهم، كما كان حكم أموال المشركين حكم رقابهم، ولكنا منعنا من ذلك لما حكم به رسول الله -عليه السلام-، ولما حكم به المسلمون من بعده، فلما ثبت ما حكموا به من ذلك، فنظرنا إلى ما اختلفوا فيه من حكم ما قدر عليه المسلمون من ذلك وأخذوا من أيدي المشركين فجاء صاحبه بعدما قسم هل له أن يأخذه بالقيمة كما قال بعض من روينا عنه في هذا الباب أيضًا؟ فنظرنا في ذلك فرأينا النبي -عليه السلام- قد حكم في مشتري البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخد منه بالثمن، وكان ذلك البعير قد ملكه المشتري من الحربيين كما يملك الذي يقع في سهمه من الغنيمة ما يقع في سهمه منها. فالنظر على ذلك أن يكون الإِمام إذا قسم الغنيمة فوقع شيء منها في يد رجل وكان أسر ذلك من يد آخر، أن يكون المأسور من يده كذلك، وأن يكون له أخذ ما كان أسر من يد الذي وقع في سهمه بقيمته كما يأخذه من يد مشتريه الذي ذكرنا بثمنه. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ملخص هذا: أن في كل ما روي عن الصحابة والتابعين من الآثار المذكور إشارة إلى أن المشركين إذا استولوا على أموال المسلمين وأحرزوها بدارهم أنهم يملكونها، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم، ولكن اختلافهم فيما بعد ذلك، فذهب الحسن البصري ومحمد بن مسلم الزهري: أن المسلمين إذا قدروا على أموالهم بعد ذلك فلا سبيل لهم فيها، وخالفهما في ذلك بقية من ذكر من التابعين كشريح القاضي ومجاهد والنخعي والشعبي؛ فإنهم قالوا: أصحابها أحق بها قبل القسمة مجانًا وبعدها بأثمانها، وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كما قد ذكرناه مستقصى. فيكون الذهاب إلى ما قال هؤلاء أول مما ذهب إليه الحسن والزهري، ولا سيما وقد تأكد وتشيَّد ما قال هؤلاء بما رواه تميم بن طرفة الطائي عن النبي -عليه السلام-, ومع

ذلك هذا كله وجه النظر والقياس يخالف ما ذهب إليه هاذان الفريقان -يعني أهل المقالة الأولى وأهل المقالة الثانية- وهو معنى قوله: وإن كان وجه النظر مخالفًا لما ذهب إليه الفريقان. وقد بيَّن ذلك الطحاوي بقوله: "وذلك أنا رأينا. . ." إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ولكنا منعنا من ذلك. . ." إلى آخره. إشارة إلى بيان وجه ترك العمل بوجه النظر في هذا الباب، وبيان اتباع الأثر المروي عن النبي -عليه السلام- ومن بعده من الصحابة والتابعين في ذلك، والله أعلم بالصواب. ***

ص: باب: ميراث المرتد لمن هو؟

ص: باب: ميراث المرتد لمن هو؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم ميراث المرتد كيف يورث عنه؟ ومن يرثه؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يرث الكافر المسلم ولا يرث المسلم الكافر". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يرث المسلم الكافر". ش: هذه ثلاث طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عمرو بن عثمان بن عفان، عن أسامة بن زيد. وأخرجه مسلم في "الفرائض" (¬1): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم -واللفظ ليحيى، قال يحيى: أنا، وقال الآخران: ثنا- ابن عيينة، عن الزهري. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه بقية الجماعة (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1233 رقم 1614). (¬2) البخاري (6/ 2484 رقم 6383)، وأبو داود (2/ 140 رقم 2909)، والترمذي (4/ 423 رقم 2107)، والنسائي في "السنن الكبرى" (4/ 81 رقم 6376)، وابن ماجه (2/ 911 رقم 2729).

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه البخاري في "الحج" (¬1): عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. . . إلى آخره بأتم منه. الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2)، والنسائي (¬3): عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، عن ابن المبارك، عن مالك، عن الزهري. وعن (¬4) أحمد بن سليمان، عن معاوية بن هشام، عن مالك، عن الزهري. وعن (¬5) محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. وعن (¬6) أحمد بن سليمان، عن زيد بن الحباب، عن مالك. ثم اعلم أن لفظ مالك في "الموطأ" (¬7): عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يرث المسلم الكافر". قال أبو عمر: هكذا قال مالك: عمر بن عثمان. وسائر أصحاب ابن شهاب يقولون: عمرو بن عثمان. وروى ابن بكير هذا الحديث عن مالك على الشك في عمرو بن عثمان أو عمر بن عثمان، والثابت عن مالك: عمر بن عثمان، وأما أهل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 575 رقم 1511). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 519 رقم 1082). (¬3) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 81 رقم 6373). (¬4) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 81 رقم 6375). (¬5) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 80 رقم 6372). (¬6) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 84 رقم 6374). (¬7) "موطأ مالك" (2/ 519 رقم 1082).

النسب فلا يختلفون أن لعثمان ابنًا يسمى عُمر وابنًا يسمى عَمرًا , وله أيضًا أبان والوليد وسعيد، كلهم بنو عثمان بن عفان، وقد روي الحديث عن عمر وعمرو وأبان، وقال النسائي: والصواب في حديث مالك: عمر، ولا نعلم أحدًا تابع مالكًا على قوله: عمر. وقال أبو عمر: أما زيادة من زاد في هذا الحديث: "ولا الكافر المسلم" فلا مدخل للقول في ذلك؛ لأنه إجماع المسلمين كافة عن كافة أن الكافر لا يرث المسلم، وهي الحجة القاطعة الدافعة للشبهة، وأما اقتصار مالك على قوله: "لا يرث المسلم الكافر" فهذا موضع اختلف فيه السلف، فكأن مالكًا قصد النكتة التي للقول فيها مدخل. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن المرتد إذا قتل على رِدَّته أو مات عليها كان ماله لبيت مال المسلمين، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى وربيعة والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: المرتد إذا قتُل على رِدَّته أو مات عليها؛ فماله لبيت مال المسلمين. واعلم أن ها هنا مذاهب: الأول: أنا ماله لورثته من المسلمين، وسيجيء بيان هذا مستقصى. الثاني: إن كان له وارث على دينه فهو أحق به، وإلا فلورثته من المسلمين، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-. الثالث: ماله ساعة يرتد لجميع المسلمين؛ قتل أو مات أو لحق بأرض الحرب أو راجع الإِسلام كل ذلك سواء، وإليه ذهب بعض أصحاب مالك، ذكر ذلك عنه ابن شعبان وأشهب. الرابع: إن راجع الإِسلام فماله له، وإن قتل فماله لورثته من الكفار، وإليه ذهب أبو سليمان والظاهرية. الخامس: مذهب الشافعي ومن تبعه، وقد ذكرناه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ميراثه لورثته من المسلمين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري والليث بن سعد وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق، فإنهم قالوا: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. وقال الأوزاعي: إن قتل في أرض الإِسلام فماله لورثته من المسلمين. وقال أبو عمر: إجماع المسلمين كافة: أن الكافر لا يرث المسلم. واختلفوا في المسلم هل يرث الكافر؟ فذهب جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وكل من تكلم في الفقه من أهل الحديث: أن المسلم لا يرث الكافر، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور، إلا أنهم اختلفوا في معنى هذا الحديث في ميراث المرتد على ما ذكرنا، واختلفوا أيضًا في توريث اليهودي من النصراني ومن المجوسي على قولين: فقالت طائفة: الكفر كله ملة واحدة وجائز أن يرث الكافر الكافر كان على شريعته أو لم يكن، وممن قال بهذا القول: الثوري وأبو حنيفة والشافعي وابن شبرمة وأكثر الكوفيين، وهو قول إبراهيم. وقال مالك وأصحابه: الإِسلام ملة واحدة واليهودية والنصرانية ملة، لا يجوز أن يرث اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي، ولا المجوسي منهما؛ لقوله -عليه السلام-: "لا يتوارث أهل ملتين" (¬1)، وبه قال فقهاء البصرة وطائفة من أهل الحديث، وهو قول ابن شهاب وربيعة والحسن وشريك ورواية عن الثوري، قالوا: الكفر ملل مفترقة، لا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى وتأول أهل القول الأول قوله -عليه السلام-: "لا يتوارث أهل ملتين" فقالوا: الكفر كله ملة، والإِسلام ملة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 140 رقم 2911)، وابن ماجه (2/ 912 رقم 2731) من حديث عبد الله ابن عمرو، والترمذي (4/ 424 رقم 2108) من حديث جابر، والنسائي في "الكبرى" (4/ 82 رقم 6381) من حديث أسامة بن زيد.

وقال شريح وابن أبي ليلى: الكفر ثلاث ملل: فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، وسائر ملل الكفر من المجوس وغيرهم ملة واحدة؛ لأنهم لا كتاب لهم. وقال أبو عمر: إن توفي النصراني الذمي وترك اثنين أحدهما حربي والآخر ذمي، فإن الشافعي قال: المال بينهما نصفان، وكذلك لو كان الميت حربيًّا. وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض أصحاب مالك: إن كان ذميًّا ورثه الذمي دون الحربي، وإن كان حربيًّا ورثه الحربي دون الذمي. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن ذلك الكافر الذي عناه النبي -عليه السلام- في هذا الحديث لم يبيَّن لنا فيه أي كافر هو؟ فقد يجوز أن يكون هو الكافر الذي له ملة، ويجوز أن يكون هو الكافر كل كفر ما كان ملة أو غير ملة، فلما احتمل ذلك لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليل يدل على ذلك. فنظرنا في ذلك فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، ثنا هشيم، عن الزهري، قال: ثنا علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: قال النبي -عليه السلام-: "لا يتوارث أهل الملتين، لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم". فلمَّا جاء هذا عن رسول الله -عليه السلام- بما ذكرنا علمنا أنه أراد الكافر ذا الملة، فلما رأينا الرِّدَّة ليست بملة، ورأيناهم مجمعين أن المرتدين لا يرث بعضهم بعضًا؛ لأن الرِّدَّة ليست بملة؛ ثبت أن حكم ميراثهم حكم ميراث المسلمين. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى: أن ذلك الكافر الذي عناه -أي قصده- النبي -عليه السلام- في الحديث المذكور. . . إلى آخره. أراد أن لفظ "الكافر" في قوله: "لا يرث المسلم الكافر" لفظ مُجمل لم يبيّن منه المراد أي كافر هو؟ فقد يجوز أن يكون المراد منه أي كافر كان ممن كانت لهم ملة أو لم تكن، ويجوز أن يكون الكافر الذي له ملة.

فإذا كان محتملًا للمعنيين لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين إلا بدليل يدل عليه، فنظرنا في ذلك فوجدنا رواية أخرى عن أسامة بن زيد تدل على أن المراد من الكافر هو الذي له ملة، فإذا كان كذلك، والردة ليست بملة؛ كان حكم ميراث المرتدين كحكم ميراث المسلمين. ثم إسناد الحديث المذكور صحيح، وهشيم هو ابن بشير. وأخرجه النسائي (¬1): عن علي بن حجر، عن هشيم، عن الزهري، عن علي، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد نحوه. ص: فإن قال قائل: فأنت لا تورثهم من المسلمين، فكذلك لا تورث المسلمين منهم. قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنَّا قد رأينا من يمنع الميراث بفعل كان منه ولا يمنع ذلك الفعل أن يورث، من ذلك: أنا رأينا القاتل لا يرث من قتله، ورأيناه لو جرح جراحةً ثم مات الجارح ثم مات المجروح من الجراحة والجارح أبو المجروح أنه يرثه، فقد صار المقتول يرث من قتله ولا يرث القاتل ممن قتل؛ لأن القاتل عوقب بقتله بمنع الميراث ممن قتل، ولم يمنع المقتول من الميراث ممن جرحه الجراحة التي قتلته إذا كان لم يفعل شيئًا، فكذلك المرتد منع من ميراث غيره عقوبة لما أتى، ولم يمنع غيره من الميراث منه إذا لم يكن منه ما يعاقب عليه، فثبت بذلك قول من يورث من المرتد ورثته من المسلمين. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن المرتدون لا يرثون من المسلمين بلا نزاع؛ لأجل الارتداد المانع من الإرث، فكان ينبغي أن لا يرث المسلمون المرتدين أيضًا لوجود العلة المانعة من الإرث. وتقرير الجواب: منع صحة القياس -أعني قياس عدم توريث المسلمين من ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 82 رقم 6382).

المرتدين على عدم توريث المرتدين من المسلمين- والدليل على ذلك قوله: من ذلك أنا رأينا القاتل. . . إلى آخره. وهو ظاهر يُعلم بالتأمل. ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين أيضًا: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي عمرو السيباني، عن علي -رضي الله عنه-: "أنه جعل ميراث المستورد لورثته من المسلمين". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن سماك، عن ابن عبيد بن الأبرص: "أن عليًّا -رضي الله عنه- قال للمستورد: على دين من أنت؟ قال: على دين عيسى. قال علي -رضي الله عنه-: وأنا على دين عيسى، فمن ربك؟ فزعم القوم أنه قال: إنه ربه، فقال: اقتلوه، ولم يعرض لماله". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد -يعني ابن سعيد- قال: ثنا محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إذا مات المرتد ورثه ولده". حدثنا علي بن زيد الفرائضي، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: ثنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، أن ابن مسعود قال: "ميراثه لورثته من المسلمين". حدثنا فهد، ثنا محمد بن سعيد، أنا شريك، عن موسى بن أبي كثير قال: "سألت سعيد بن المسيب عن ميراث المرتد فقال: هو لأهله". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي كثير قال: "سألت سعيد بن المسيب قال: نرثهم ولا يرثونا". حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة وسفيان، عن موسى بن أبي كثير، عن سعيد بن المسيب، مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن موسى بن الصباح -وقال مرة: عن أبي الصباح- عن سعيد بن المسيب، مثله. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن "في المرتد يلحق بدار الحرب، قال: ماله بين ولده من المسلمين على كتاب الله". حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن الحسن قال: "ميراثه لوارثه من المسلمين إذا ارتدَّ عن الإِسلام". فهؤلاء الذين ذكرنا قد جعلوا ميراث المرتد لورثته من المسلمين وشدَّ ذلك من قولهم ما قد وصفته في هذا الباب مما يوجبه النظر. ش: أي: قد روي توريث المسلمين من المرتدين عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. ومن التابعين: عن سعيد بن المسيب والحسن البصري. أما ما روي عن علي -رضي الله عنه- فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي عمرو زرعة السيباني -بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف، بعدها باء موحدة- نسبة إلى سيبان بن الغوث بن سعد بن عوف، وثقه ابن حبان وقال: هو من أهل الرملة. وقال غيره: هو شامي حمصي. وهو عمّ عبد الرحمن الأوزاعي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عيينة، ثنا سليمان، عن أبي عمرو السيباني: "أن عليًّا -رضي الله عنه- أتي بالمستورد العجلي فقتله، وجعل ميراثه لأهله من المسلمين، فأعطاه النصارى بجيفته ثلاثين ألفًا، فأبى أن يبيعهم إياه وأحرقه". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 254 رقم 12241).

وأخرجه أيضًا (¬1): من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن السيباني، عن علي: "أنه أتي بمستورد وقد ارتدَّ، فعرض عليه الإِسلام فأبى، فقتله وجعل ميراثه بين ورثته من المسلمين". وقال البيهقي: قال الشافعي: ويزعم بعض أهل الحديث أنه غلط، يعني آخر الخبر. وروي عن أحمد بن حنبل أنه ضعف الحديث الذي روي عن علي -رضي الله عنه- "أن ميراث المرتدّ لورثته من المسلمين". وقال البيهقي: وقد رويت القصة عن علي وليس فيها هذه اللفظة. قلت: قد صحح ابن حزم ذلك عن علي -رضي الله عنه-، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (¬2) وعبد الرزاق (¬3) في "مصنفيهما". وأبو عمر السيباني أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروايته عن علي -رضي الله عنه- محمولة على الاتصال. الثاني: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن سماك بن حرب، عن ابن عبيد بن الأبرص وهو دثار -بالثاء المثلثة- ابن عبيد بن الأبرص الأسدي، وثقه ابن حبان. عن علي -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث شريك، عن سماك، عن ابن عبيد بن الأبرص قال: "كنت عند علي -رضي الله عنه- جالسًا حين أتي برجل من بني عجل يقال له: المستورد، كان مسلمًا فتنصر، فقال له علي: ما ذاك؟ قال: وجدت دينهم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 254 رقم 12242). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 279 رقم 31384). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 105 رقم 10139). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 254 رقم 12243).

خيرًا من دينكم، قال: وما دينك؟ قال: دين عيسى، قال: علي -رضي الله عنه-: وأنا على دين عيسى، ولكن ما تقول في عيسى؟ فقال كلمة خفيت علي لم أفهمها، فزعم القوم أنه قال: إنه ربه، فقال علي -رضي الله عنه-: أقتلوه, فتوطأه القوم حتى مات، قال: فجاء أهل الحيرة فأعطوا -يعني بجيفته- اثني عشر ألفًا فأبى عليهم علي -رضي الله عنه-، وأمر بها فأحرقت بالنار، ولم يعرض لماله". ورواه أيضًا الشعبي وعبد الملك بن عمير، عن علي -رضي الله عنه- دون ذكر المال. وأما ما روى عن عبد الله بن مسعود: فأخرجه أيضًا من طريقين: الأول: عن فهد، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي، عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي الدمشقي، عن عبد الله بن مسعود. وهؤلاء كلهم ثقات. وقال أبو حاتم: رواية القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود وعلي وعائشة مرسلة، ويقال: لم يسمع من أحد من الصحابة سوى أبي إمامة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله أنه قال: "إذا ارتدَّ المرتد ورثه ولده". الثاني: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان الكلابي، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن مسعود. وهذا منقطع. وأما ما روي عن سعيد بن المسيب: فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن موسى بن أبي كثير الأنصاري أبي الصباح الكوفي، عن سعيد بن المسيب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبه" (6/ 279 رقم 31383).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): نا وكيع، نا مسعر، عن أبي الصباح موسى بن أبي كثير قال: "سمعت سعيد بن المسيب يقول: المرتدون نرثهم ولا يرثوننا". الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي كثير. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن موسى بن أبي كثير قال: "سألت سعيد بن المسيب عن ميراث المرتد هل يوصل؟ قال: وما يوصل؟ قلت: يرثه بنوه، قال: نرثهم ولا يرثونا". الثالث: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة وسفيان كلاهما، عن موسى بن أبي كثير. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن موسى بن الصباح -وقال مرةً: عن أبي الصباح. وأما ما روي عن الحسن البصري: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ بن نصر العنبري قاضي البصرة، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن. الثاني: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان الكلابي، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: "يُقتل، وميراثه لورثته من المسلمين". ص: وفي ذلك حجة أخرى من طريق النظر أيضًا، وهي أنَّا قد رأيناهم قد أجمعوا أن المرتد قبل رِدَّته محظورٌ دمه وماله، ثم إذا ارتدَّ فكلٌّ قد أجمع أن الحظر المتقدم قد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبه" (6/ 279 رقم 31390). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 279 رقم 31389). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 279 رقم 31387).

ارتفع عن دمه وصار دمه مباحًا، وماله محظور في حال الردة بالحظر المتقدم، وقد رأينا الحربيين حكم دمائهم وأموالهم سواء قتلوا أو لم يقتلوا، فلم يكن الذي يحل به أموالهم هو القتل، بل كان الكفر، وكان المرتد لا يحل ماله بكفره، فلما ثبت أن ماله لا يحل بكفره؛ ثبت أنه لا يحل بقتله. وقد رأينا أموال الحربيين تحل بالغنائم فتملك بها، ورأينا ما هو من أموالهم في دارنا ملكناه عليهم وغنمناه بالدار وإن لم نقتلهم، فلمَّا كان مال المرتد غير مغنوم بِرِدته؛ كان في النظر أيضًا غير مغنوم بسفك دمه. فلما ثبت أن ماله لا يدخل في حكم الغنائم لم يخل من أحد وجهين: إما أن يرثه ورثته الذين يرثونه لو مات على الإِسلام، أو يصير للمسلمين، فإن صار لورثته من المسلمين فهو ما قلنا، وإن صار لجميع المسلمين فقد ورث المسلمون مرتدًّا. فلما كان المرتد في حال ما يرثه المسلمون ولم يخرج بِرِدَّته من ذلك، كان الذين يرثونه هم ورثته الذين كانوا يرثونه لو مات على الإِسلام لا غيرهم. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وفي توريث المسلمين عن المرتد برهان آخر من طريق النظر والقياس، بيانه: أن المرتد قبل الرِّدة محظور الدم والمال بالإجماع، فإذا ارتد ارتفع الحظر عن دمه بالإجماع، ولكن ماله على ذلك الحظر المتقدم، فإذا لم يحل ماله بكفره لا يحل بقتله، بخلاف الحربي فإن حكم دمه وماله سواء؛ قتل أو لم يقتل، فإذا لم يحل ماله بقتله لا يدخل في حكم الغنائم، فإذا لم يدخل في ذلك لا يخلو إما أن يرثه ورثته المسلمون، أو يصير فيئًا للمسلمين: فإن كان الأول فقد ثبت ما قلنا من أن مال المرتد لورثته المسلمين. وإن كان الثاني فقد ورث المسلمون مرتدًّا، فلما كان المرتد في حال ما يرثه المسلمون ولم يخرج بِرِدَّته من ذلك؛ كان الذين يرثونه هم ورثته الذين كانوا يرثونه لو مات هو على الإِسلام لا غيرهم.

وهذا هو وجه النظر والقياس، وهو قول أصحابنا -رحمهم الله-. ص: وإنما زال ملك المرتد باللحوق بدار الحرب لخروجه من دارنا إلى دار الحرب على طريق الاستخفاف مع كونه مقاتلًا لنا مباح الدم في دارنا، بدليل الحربي يدخل إلينا بغير أمان ثم يعود إلى دار الحرب؛ أن أملاكه ها هنا تزول لهذا المعنى. ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن بالارتداد لا يزول الحظر المتقدم عن مال المرتد بخلاف دمه، حتى لا يزول ملكه عن ماله بناءً على ذلك، فكيف تقولون: إنه إذا لحق بدار الحرب يزول ملكه؟ وأجاب عن ذلك بقوله: وإنما زال ملك المرتد. . . إلى آخره، وهو ظاهر. ص: فإن قيل: المستأمن إلينا إذا عاد إلى داره وخلف مالاً ها هنا لم يزل عنه ملكه مع وجود هذا المعنى. قيل له: لم يخرج مستخفًّا؛ لأنه في أماننا إلا أن يدخل في دار الحرب، والله أعلم. ش: هذا السؤال وارد على الجواب المذكور، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن ملك المرتد يزول بلحاقه بدار الحرب؛ لخروجه من دارنا إلى دارهم على طريق الاستخفاف، ولم تقولوا كذلك في المستأمن إذا عاد إلى دار الحرب وخلف مالاً في دار الإِسلام، بل تقولون: إن ملكه لا يزول. قوله: "مع وجود هذا المعنى" وهو اللحاق بدار الحرب. وتقرير الجواب أن يقال: إن الحربي لم يخرج إلى دار الحرب على طريق الاستخفاف؛ لأنها داره، وهو في أمان المسلمين إلى أن يدخل داره، بخلاف المرتد؛ فإن دار الحرب ليست داره وإنما خرج إليها على طريق الاستخفاف بدين الإِسلام والمسلمين، فحكمنا عند ذلك بزوال ملكه؛ لارتفاع عصمته وعقوبة عليه، فافهم، والله أعلم. ***

ص: باب: إحياء الأرض الميتة

ص: باب: إحياء الأرض الميتة ش: أي هذا باب في بيان حكم إحياء الأرض الميتة، وهي الأرض الموات، وهي الأرض التي لم تزرع ولم تعمر ولا جرى عليها ملك أحد، وإحياؤها: مباشرة عمارتها وتأثير شيء فيها. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن سليمان اليشكري، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له". ش: إسناده صحيح. وأبو بكر اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه. ومحمد بن بشر بن بشير الأسلمي، وثقه ابن حبان. وسعيد هو ابن أبي عروبة، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة. وسليمان هو ابن قيس اليشكري البصري، وثقه أبو زرعة والنسائي، وروى له الترمذي وابن ماجه. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن بشر، ثنا سعيد بن أبي عروبة، ثنا قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له". وقال البخاري: يقال: إن سليمان بن قيس مات في حياة جابر -رضي الله عنه- ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر، ولا يعرف لأحد منهم سماعًا إلا أن يكون عمرو بن دينار سمع منه في حياة جابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 381 رقم 15129).

وقال أبو حاتم: جالس سليمان بن قيس جابرًا وسمع منه وكتب عنه صحيفة، وتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته. وروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة. قوله: "من أحاط" أي من جعل حائطًا أي جدارًا على أرض، وأصل حائط من قولهم: حاطَهُ يَحُوطهُ حَوْطًا وحيطة وحياطة: أي كلأه ورعاه، والحائط: الجدار، ويسمى البستان أيضًا من النخيل إذا كان عليه حائط. ويستفاد منه: أن من بني حائطًا على أرض موات، أو حَجَّر عليها فإنه يملكه بالاتفاق، ولكن هل يشترط فيه إذن الإِمام أم لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيى أرضًا مواتًا فهي له، وليس لعرق ظالم حق". ش: عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود. وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني المدني، قال أحمد: منكر الحديث ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في "المسند" ولم يحدث عنه شيئًا. وقال يحيى بن معين: لجده صحبة، وكثير ضعيف الحديث. وعنه: ليس بشيء. وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وقال النسائي والدارقطني: متروك، روى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأبوه عبد الله بن عمرو: وثقه ابن حبان، وروى له هؤلاء. وجده عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني الصحابي -رضي الله عنه-.

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمد بن علي الصائغ، ثنا القعنبي، ثنا كثير بن عبد الله. وثنا علي بن المبارك الصنعاني، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أحيى مواتًا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، وليس لعرق ظالم حق". قوله: "أرضًا مواتًا" بفتح الميم، قد مرَّ تفسيره. قوله: "وليس لعرق ظالم حق" هو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرسًا غصبًا؛ ليستوجب به الأرض. والرواية: "لعرقٍ" بالتنوين، وهو على حذف المضاف، أي لذي عرق ظالم فجعل العرق نفسه ظالمًا والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق، وإن روي "عرقِ" بالإِضافة فيكون الظالم صاحب العرق، والحق العرق، وهو أحد عروق الشجرة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أحاط على شيء فهو له". ش: إسناده صحيح، ولكن قيل: إن سماع الحسن عن سمرة لم يصح إلا في حديث العقيقة، وقد ذكرنا في الكتاب غير مرة أنه سمع من سمرة أحاديث كثيرة. قاله البخاري وغيره. وأخرجه أبو داود (¬2): حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، ثنا محمد بن بشر العبدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 13 رقم 4). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 195 رقم 3077).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب ذاهبون إلى أن من أحيى أرضًا ميتةً فهي له؛ أذن له الإِمام في ذلك أو لم يأذن، أو جعلها له الإِمام أو لم يجعلها له، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وممن ذهب إلى ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-، وقالوا: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيى أرضًا ميتةً فهي له" فقد جعل حكم إحياء ذلك إلى من أحب بلا أمر، وقالوا: قد دلَّت على هذه أيضًا شواهد النظر، ألا ترى أن الماء الذي في البحار والأنهار من أخذ منه مَلَكَهُ بأخذه إياه وإن لم يأمر، الإِمام بأخذه ويجعله له، وكذلك الصيد من صاده فهو له، ولا يحتاج في ذلك إلى إباحة من الإِمام ولا إلى تمليك، والإِمام في ذلك وسائر الناس سواء. قالوا: فكذلك الأرض الميتة التي لا ملك لأحد عليها فهي كالطير الذي ليس بمملوك وكالماء الذي ليس بمملوك، فمن أخذ من ذلك شيئًا فهو له بأخذه إياه، ولا يحتاج في ذلك إلى أمر الإِمام ولا إلى تمليكه كما لا يحتاج إلى ذلك منه في الماء والصيد اللذين ذكرنا. ش: أراد بهؤلاء الذاهبين: عبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد وأبا ثور والظاهرية؛ فإنهم قالوا: من أحيى أرض ميتة فهي له، ولا يشترط فيه إذن الإِمام. وبه قال: أبو يوسف ومحمد. وقال ابن حزم (¬1): كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عُمرت في الإِسلام فهي لمن سبق إليها، سواء بإذن الإِمام فعل ذلك أو بغير إذنه، لا إذن في ذلك للإِمام ولا للأمير، ولو أنه بين الدورفي الأمصار، ولا لأحد أن يحمي شيئًا من الأرض عمن سبق إليها بعد رسول الله -عليه السلام-، فلو أن الإِمام أقطع إنسانًا شيئًا لم يصر له ذلك ولم يكن له أن يحميه ممن سبق إليه، فإن كان إحياؤه لذلك مضرًّا لأهل القرية ضررًا ظاهرًا لم يكن لأحد أن ينفرد لا بإقطاع الإِمام ولا بغيره، كالملح الظاهر والماء الظاهر والمراح ورحبة السوق والطريق والمصلى ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 233).

قوله: "وقالوا. . ." إلى آخره. أي قال هؤلاء الذاهبون، وأراد به بيان وجه جواز إحياء الأرض الميتة بلا إذن الإِمام، وهو ظاهر. وقال الخطابي: إحياء الموات إنما يكون بحفره وتحجيره وبإجراء الماء إليها ونحوها من وجوه العمارة، فمن فعل ذلك فقد ملك به الأرض، سواء كان بإذن الإِمام أو يغير إذنه؛ وذلك لأن قوله: "من أحيى أرضًا" كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون آخر، وإلى هذا ذهب الأكثر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ منهم أبو حنيفة، فقالوا: لا تكون الأرض للذي يحييها إلا بأمر الإِمام له في ذلك وجعلها له، وقالوا: ليس ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ذكرنا في هذا الباب يدافع ما قلنا؛ لأن ذلك الإحياء الذي جعل به رسول الله -عليه السلام- الأرض التى أحياها في هذا الحديث لم يفسر لنا ما هو، فقد يجوز أن يكون هو ما فعل من ذلك بأمر الإِمام، فيكون قوله: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له" أي من أحياها على شرائط الإحياء فهي له، ومن شرائطه تحظيرها وإذن الإمام له فيها وتمليكه إياها، فقد يجوز أن يكون هذا هو معنى هذا الحديث، ويجوز أن يكون على ما تأوَّله أبو يوسف ومحمد إلا أنه لا يجوز أن يقطع على رسول الله -عليه السلام- بالقول أنه أراد معنى إلا بالتوقيف منه أو بإجماعٍ ممن بعده أنه أراد ذلك المعنى. فنظرنا إذْ لم نجد في هذا الحديث حجة لأحد الفريقين في غيره من الأحاديث، هل فيها ما يدل على شيء من ذلك؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب ابن جثامة، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله". حدثنا يزيد وابن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم النقيع، وقال: لا حمى إلا لله ورسوله".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا حمى إلا لله ولرسوله". فلما قال رسول الله -عليه السلام-: "لا حمى إلا لله ولرسوله" -والحمى: ما حمي من الأرض- دلَّ ذلك أن حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأن حكم ذلك غير حكم الصيد، وقد بيَّنا ما يحتمل الخبر الأول، فكان أولى الأشياء بنا أن نحمل وجهه على ما لا يخالف هذا الأثر الثاني. ش: أي خالف أولئك الذاهبين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مكحولًا الشامي ومحمد بن سيرين وابن المسيب والنخعي؛ فإنهم قالوا: من أحيى مواتًا لا يكون له إلا بإذن الإِمام له فيه. وبه قال أبو حنيفة. ومذهب مالك على التفصيل، فقال: أما ما يتشاحّ الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه لا يكون لأحد إلا بقطيعة الإِمام، وأما ما كان في الصحاري وغير العمران فهو لمن أحياه، فإن تركه، عاد كما كان فقد صار أيضًا لمن أحياه وسقط ملكه عنه. وهكذا قال في الصيد يتملك ثم يتوحش فإنه لمن أخذه، فإن كان في أذنه شنف (¬1) أو نحو ذلك فالشنف للذي كان له والصيد لمن أخذه. وقال الحسن بن حي: ليس الموات إلا في أرض العرب فقط. قوله: "وقالوا: ليس فيما روي. . ." إلى آخره، جواب عن الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، فيما ذهبوا إليه، بيانه: أن الاستدلال لا يتم بها؛ لأن معناها يحتمل ما قال هؤلاء، ويحتمل أن يكون معناها بأمر الإِمام، فإذا كان كذلك لا يكون فيها حجة لأحد الفريقين؛ لأن القطع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول: ¬

_ (¬1) والشَّنْف: الذي يلبس في أعلى الأُذُن -بفتح الشين- ولا تقل: شُنْف، والذي يلبس في أسفلها: القُرْط، وقيل: الشَّنْف، والقُرْطُ سواء. انظر "لسان العرب": (شنف).

إنه أراد معنى مخصوصًا من ذلك لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فلما كان كذلك نظرنا في ذلك فوجدنا حديثي الصعب بن جثامة وأبي هريرة -رضي الله عنه- يدلان على أن الحكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم؛ فبيَّنا حينئذ ما تحتمل الأحاديث الأُوَل وترجح بهذا أحد الاحتمالين المذكورين وهو: أن معناها بأمر الإِمام، فبهذا حصل التوافق بين هذه الآثار كلها, ولم يبق فيها ما يخالف بعضها بعضًا. ثم إنه أخرج حديث الصعب بن جثامة من طريقين: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وعمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2): عن ابن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد بن عبد الله. . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، وعن إبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- فيه مقال، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن ¬

_ (¬1) لم أجده في "صحيح مسلم"، ولم يعزه المزي إليه في "التحفة". انظر "التحفة" (4/ 186 رقم 4941)، وذكره الحافظ ابن حجر في الأحاديث التي إنفرد بها البخاري عن مسلم في آخر باب المساقاة. انظر "الفتح" (5/ 64). وبهذا السند أخرج مسلم حديثًا آخر (3/ 1364 رقم 1745) فلعله انتقال نظر منه حيث ينقل من أطراف ابن عساكر. وهو أصل كتاب "تحفة الأشراف" والله أعلم. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 196 رقم 3083). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 197 رقم 3084).

عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة: "أن رسول الله -عليه السلام- حمى النقيع، وقال: لا حمى إلا لله -عز وجل-". قوله: "لا حمى" حمى على وزن فِعَل -بكسر الفاء وفتح العين- بمعنى محمي أي محظور لا يقرب، وأحميت المكان: جعلته حمىً، وقال الكسائي: سمعت في تثنيته: حموان، والوجه: حميان، وأصل الكلمة من حميته حماية أي دفعت عنه، وهذا شيء حمىً. قال ابن الأثير: كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضًا في حيه استعوى كلبًا فحمى مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، وهو يشارك القوم في سائر ما يرعون فيه، فنهى النبي -عليه السلام- عن ذلك وأضاف الحمى إلى الله ورسوله؛ أي إلا ما يحمى للخيل التي تنصب للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها، كما حمى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله تعالى. وقال الخطابي: "لا حمى إلا لله ولرسوله" يريد لا حمى على معنى ما أباحه رسول الله -عليه السلام- على الوجه الذي حماه. قوله: "حرم النَّقِيع" -بفتح النون وكسر القاف- وهو موضع قريب من المدينة كان يستنقع فيه الماء -أي يجتمع- ويقال: بينه وبين المدينة عشرون ميلًا، وقيل عشرون فرسخًا، ومساحته بريد في بريد، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد حماه لنعم الفيء وخيل المجاهدين فلا يرعاه غيرها، وقال الخطابي: النقيع مكان معروف مستنقع للمياه ينبت فيه الكلأ، حماه رسول الله -عليه السلام- لمهازيل إبل الصدقة ولضعف الخيل. وأخرج حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن مسلم الألهاني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي روى

له الجماعة، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان روي له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له الجماعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الله بن أحمد بن شبوية المروزي، نا علي بن عياش، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا حمى إلا لله ولرسوله". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإِسناد. ص: وأما ما يدخل لأبي حنيفة في ذلك من جهة النظر مما يفرق بين الأرض الموات وبين الأنهار والصيد: أنَّا رأينا الصيد وماء الأنهار لا يجوز للإِمام تمليك ذلك أحدًا، ورأيناه لو ملك رجلًا أرضًا ميتة تم ملكه إياها بذلك، وكذلك لو احتاج الإِمام إلى بيعها في نائبة للمسلمين جاز بيعه لها, ولا يجوز ذلك في ماء نهر ولا في صيد بَر ولا بحر، فلما كان ذلك إلى الإِمام في الأرضين؛ دلَّ أن حكمها إليه وأنها في يده كسائر الأموال التي في يده للمسلمين لا رب لها بعينه، فلا يملكها أحد بأخذه إياها حتى يكون الإِمام يُمَلِّكها إياه على حسن النظر منه للمسلمين. ولما كان الصيد والماء ليس إلى الإِمام بيعها ولا تمليكها أحدًا؛ كان الإِمام فيها كسائر الناس، وكان ملكهما يجب بأخذهما دون الإِمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة لما وصفنا من الآثار والدلائل التي ذكرنا. ش: هذا جواب عن قوله: "وقالوا: قد دلت على هذه أيضًا شواهد النظر. . ." إلى آخره. وكانوا قد قاسوا حكم إحياء الأرض الموات على حكم أخذ الصيد والماء من الأنهار، حيث قالوا: من أخذ من صيد أو من ماء نهر ملكه بأخذه إياه وإن لم يأمر الإِمام؛ لأنه لا ملك لأحد عليه، فالإِمام وسائر الناس فيه سواء، فكذلك الأرض الموات ليس لأحد ملك عليها، فمن أحياها فقد ملكها وإن لم يأمره الإِمام. لم يفقروا ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "المجمع": رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار وقال: لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإِسناد.

بين الحكمين المذكورين. فأجاب عن ذلك بإثبات الفرق بينهما الذي ينفي هذا الخلاف؛ نصرة لأبي حنيفة ومن تبعه في ذلك، وهو ظاهر. ص: فإن احتج محتجٌّ في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا ويونس بن يزيد قد حدثاه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له. وذلك أن رجالًا كانوا يتحجرون من الأرض". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر -رضي الله عنه- مثله. قيل له: لا حجة لك في هذا، ومعنى هذا عندنا على ما ذكرنا من معنى قول رسول الله -عليه السلام-: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له". ش: أي إن احتج أحد من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه أيضًا عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن سفيان الثوري، عن محمد بن مسلم الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1)، والبيهقي في "سننه" (¬2) من طريق مالك. قوله: "قيل له" أي لهذا المحتج، وهو ظاهر. ص: وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- في غير هذا الحديث ما يدل أن مراده في هذا الحديث هو ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 744 رقم 1425). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 143 رقم 11562).

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله قال: "خرج رجل من أهل البصرة يقال له: أبو عبد الله إلى عمر -رضي الله عنه- فقال: إن بأرض البصرة أرضًا لا تضر بأحد من المسلمين وليست أرض خراج، فإن شئت أن تقطعنيها أتخذها قضبًا وزيتونًا ونخلًا فافعل. فكان أولا من افتلى الفلايا بأرض البصرة، قال: فكتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى -رضي الله عنه-: إن كانت حمى فأقطعها إياه". أفلا ترى أن عمر -رضي الله عنه- لم يجعل له أخذها ولا جعل له ملكها إلا بإقطاع خليفته ذلك الرجل إياها؟! ولولا ذلك لكان يقول له: وما حاجتك إلى إقطاعي إياك؛ لأن لك أن تحييها دوني وتعمرها فتملكها؛ فدل ذلك أن الإِحياء عند عمر -رضي الله عنه- هو ما أذن الإِمام فيه للذي يتولاه وملكه إياه. وقد دلَّ على ذلك أيضًا: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "لنا رقاب الأرض". فدلَّ ذلك على أن رقاب الأرضين كلها إلى أئمة المسلمين، وأنها لا تخرج من أيديهم إلا بإخراجهم إياها إلى من رأوا؛ على حسن النظر منهم للمسلمين في عمارة بلادهم وصلاحها. وهذا قول أبي حنيفة -رضي الله عنه- وبه نأخذ. ش: ذكر هذا عمر -رضي الله عنه- شاهدًا لما ذكره من المعنى في الأثر السابق المروي عن عمر أيضًا، وتأيبدًا لصحة التأويل الذي أوَّله أبي حنيفة ومن تبعه فيه وفيما يشابهه من الأحاديث المرفوعة. وأخرج ذلك بإسناد صحيح: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني -بالشين المعجمة- الكوفي، عن محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الأعور الكوفي. . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال: "كان بالبصرة رجل يقال له: نافع أبو عبد الله، فأتى عمر -رضي الله عنه- فقال: إن بالبصرة أرضًا ليست من أرض الخراج ولا تضر بأحد من المسلمين، وكتب إليه أبو موسى يعلمه بذلك، فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كانت ليست تضرّ بأحد من المسلمين وليست من أرض الخراج فأقطعها إياه". قوله: "يقال له أبو عبد الله" قد صرَّح في رواية البيهقي أن اسمه نافع. قوله: "أن تقطعنيها" من الإقطاع بكسر الهمزة من قولهم: أقطع السلطان فلانًا أرضًا الفلانية: إذا جعلها له ليتصرف فيها إجارةً وزراعةً، والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك، ومنه الحديث: "أقطع النبي -عليه السلام- الناس الدور" (¬2) يعني أنزلهم في دور الأنصار. قوله: "قضبًا" بفتح القاف وسكون الضاد المعجمة وفي آخره باء موحدة وهو الرطبة، وأهل مكة -حرسها الله- يسمون القت قضبًا، قاله الصغاني، والقضب أيضًا شجر يتخذ منه القسي. قوله: "فافعل" جواب الشرط أعني قوله: "فإن شئت أن تقطعنيها". قوله: "فكان أول من افتلى الفلايا [. . . . . . . . . . . . . . . . . .] (¬3). قوله: "فكتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى" وهو عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- وكان نائبه بالبصرة، ولاه عمر -رضي الله عنه- في سنة سبع عشرة من الهجرة بعد أن عزل المغيرة بن شعبة -رضي الله عنهما- لأمرٍ اقتضى ذلك. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 144 رقم 11573). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن" (6/ 145 رقم 11581)، والشافعي في "المسند" (1/ 381 رقم 1754)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/ 222 رقم 10534). (¬3) بيض له المصنف في "الأصل".

قوله: "وقد دلَّ على ذلك أيضًا" أي على ما ذكرنا من أن مراد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من قوله: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له" هو ما ذكرنا من التأويل. قوله: "ما حدثنا" في محل الرفع؛ لأنه فاعل لقوله: "وقد دل". وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله ثقات. وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري. ومحمد هو ابن سيرين. قوله: "لنا رقاب الأرض" أي نفس الأرض، أراد أن نفس الأرض لأئمة المسلمين، وأنها لا تخرج من أيديهم إلا إذا أخرجوها إلى من رأوا من المسلمين، والله أعلم. ***

ص: باب: إنزاء الحمير على الخيل

ص: باب: إنزاء الحمير على الخيل ش: أي هذا باب في بيان حكم إنزاء الحمير على الخيل. والإنزاء: من أنزى الحمار على الفرس إذا حملها عليها للنسل وثلاثيه: نَزَا يَنْزُو، يقال: نزوت على الشيء أنزو نزوًا إذا وثبت عليه، وقد يكون في الأجسام والمعاني. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن ابن زرير، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "أهديت لرسول الله -عليه السلام- بغلة فركبها، فقال علي -رضي الله عنه-: لو حملنا الحمير على الخيل لكان لنا مثل هذه، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون". حدثنا فهد قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك، عن عثمان، عن سالم، عن علي بن علقمة، عن علي -رضي الله عنه-، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث أبي عبد الملك المصري من رجال مسلم، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، من رجال الجماعة، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، من رجال الجماعة، عن عبد الله بن زرير الغافقي المصري، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث. . . إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 31 رقم 2565).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من طريق الليث، ثم قال: رواه جماعة عنه. وقال ابن المديني عن أبي الوليد عنه كذلك. وكذا رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب. وشذَّ شعيب الصريفيني فقال: ثنا أبو الوليد، ثنا الليث، عن يزيد، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن أبي أفلح الهمداني، عن عبد الله بن زرير، عن علي -رضي الله عنه- قال: "أهديت لرسول الله -عليه السلام- بغلة فأعجبتنا، فقلت: يا رسول الله، ألا ننزي الحمر على خيلنا حتى تأتي بمثل هذه؟ فقال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون". وكذا رواه ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب بهذا، وقال فيه: "أهدى صاحب أيلة -أو فروة- إلى رسول الله -عليه السلام- بغلته البيضاء". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن عثمان بن المغيرة، وهو عثمان بن أبي زرعة، وهو عثمان الأعشى الكوفي الثقة. عن سالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي الكوفي الثقة، عن علي بن علقمة الأنماطي الكوفي الثقة، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شريك، عن عثمان بن المغيرة -وهو عثمان بن أبي زرعة- عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة، عن علي -رضي الله عنه- قال: "قيل للنبي -عليه السلام-: أننزي الحمار على الفرس؟ قال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون". قوله: "أهديت لرسول الله -عليه السلام- بغلة" قد بيَّن ابن إسحاق في روايته أن الذي أهداها له -عليه السلام- هو صاحب أيلة أو فروة، وكان للنبي -عليه السلام- ستّ بغال: بغلة شهباء ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 23 رقم 19569، 19570، 19571) بتصرف شديد. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 23 رقم 19572).

يقال لها الدلدل أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية، وكان -عليه السلام- يركبها في المدينة وفي الأسفار، وهي أول بغلة رُكبت في الإِسلام. وبغلة يقال لها فضة أهداها له فروة بن عمرو الجذامي مع حمار يقال له يعفور، فوهب البغلة لأبي بكر. وبغلة بعثها صاحب دومة الجندل ومعها جبة من سُنْدُس. وبغلة أهداها له كسرى؛ ولا يثبت هذا. وبغلة أهداها له النجاشي وكان رسول الله -عليه السلام- يركبها قاله ابن عباس. وبغلة يقال لها: أيلية، أهداها له ملك أيلة وهو ابن العلماء. قوله: "لو حملنا الحمير على الخيل" أراد به إنزاء الحمير على الخيل؛ لأجل النسل. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه كراهة إنزاء الحمير على الخيل كما ذهبت إليه طائفة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه جواز المهاداة سواء كانت من الملوك إلى الملوك أو من غيرهم. الثالث: فيه جواز ركوب هدية الكفار. الرابع: فيه جواز ركوب البغال. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أبي الجهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن ابن عباس قال: "ما اختصَّنا رسول الله -عليه السلام- بشيء دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء, وأن لا نأكل الصدقة، ولا ننزي الحمر على الخيل". ش: هذان طريقان حسنان جيدان:

وأبو الجهضم اسمه موسى بن سالم مولى آل العباس بن المطلب. وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث في كتاب الزكاة في باب الصدقة على بني هاشم من ثلاث طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن سعيد وحماد ابني زيد، كلاهما عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: "دخلنا على عبد الله بن عباس فقال: ما اختصَّنا رسول الله -عليه السلام-. . ." الحديث. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أبي جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، عن مرجَّا بن رجاء اليشكري، عن أبي جهضم. . . إلى آخره. وذكرنا هناك أنه أخرجه النسائي وأبو داود وأحمد بن حنبل -رحمهم الله-، وتكلمنا فيه هناك بما فيه الكفاية (¬1). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى هذا؛ فكرهوا إنزاء الحمير على الخيل، وحرموا ذلك ومنعوا منه، واحتجوا بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي ويزيد بن أبي حبيب المصري؛ فإنهم قالوا: إنزء الحمير على الخيل مكروه كراهة تحريم، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب قال: "كتب إلينا عمر بن عبد العزيز فقريء علينا كتابه: أيما رجل حمل حمارًا على عَرِبَة من الخيل فامحوا من عطائه عشرة دنانير". ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 543 رقم 33703).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأسًا، وكان من الحجة لهم في ذلك: أن ذلك لو كان مكروهًا لكان ركوب البغال مكروهًا؛ لأنه لولا رغبة الناس في البغال وركوبهم إياها إذًا لما أنزيت الحمير على الخيل، ألا ترى أنه لما نهى عن إخصاء بني آدم كره بذلك اتخاذ الخصيان؛ لأن في اتخاذهم ما يحضهم على إخصائهم؛ ولأن الناس إذا تحاموا كسبهم لم يرغب أهل الفسق في اخصائهم. وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا عفيف بن سالم، قال: ثنا العلاء بن عيسى الذهلي قال: "أتي عمر بن عبد العزيز بخصي، فكره أن يبتاعه، وقال: ما كنت لأعين على الأخصاء". فكل شيء في ترك كسبه ترك لأهل بعض المعاصي لمعصيتهم فلا ينبغي كسبه، فلما أجمع على إباحة اتخاذ البغال وركوبها؛ دلَّ ذلك على أن النهي الذي في الآثار الأُول لم يُرَد به التحريم، ولكنه أريد به معنى آخر. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء وفقهاء الأمصار منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، فإنهم قالوا: لا بأس بإنزاء الحمير على الخيل. قوله: "وكان من الحجة لهم" أي من البرهان والدليل لهؤلاء الآخرين. وباقي الكلام ظاهر. وقال الخطابي في هذا الموضع: يشبه أن يكون المعنى في ذلك -والله أعلم- أن الحمر إذا حملت على الخيل تعطلت منافع الخيل وقلَّ عددها وانقطع نماؤها، والخيل يحتاج إليها للركوب والجهاد، ولحمها مأكول ويسهم للفرس، وليس للبغل شيء من هذه الفضائل، فأحب -عليه السلام- أن ينمو عدد الخيل فيكثر نسلها لما فيه من النفع والصلاح، ولكن قد يحتمل أن يكون حمل الخيل على الحمير جائز؛ لأن الكراهية في هذا الحديث إنما جاءت في حمل الحمير على الخيل لئلا تشتغل أرحامها بنسل الحمر فيقطعها ذلك عن نسل الخيل، فإذا كانت الفحولة خيلًا والأمهات حمرًا فقد يحتمل

أن لا يكون داخلًا في النهي، إلا أن يتأول متأول أن المراد بالحديث صيانة الخيل من مزاوجة الحمر وكراهية اختلاط مائها بمائها لئلا يضيع طرفها, ولئلا يكون منه الحيوان المركب من النوعين المختلفين؛ فإن أكثر المركبات المتولدة من جنسين من الحيوان أخبث طبعًا من أصولها التي تتولد منها وأشد شرًّا، كالسباع والعقبان، وكذلك البغل لما يعتريه من الشماس والحران ونحوهما من الآفات والعيوب، ثم هو حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يزكى. قلت: هذا ليس بسديد؛ فإن الله تعالى قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} (¬1) فذكر البغال وامتنَّ علينا بها كامتنانه بالخيل، وأفرد ذكرها بالاسم الخاص الموضوع لها، ونبَّه على ما فيها من الأرب والمنفعة، والمكروه من الأشياء مذموم لا يستحق المدح ولا يقع بها امتنان، وقد استعمل -عليه السلام- البغل وركبه حضرًا وسفرًا، وكان يوم حنين على بغلته كما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، ولو كان مكروهًا لم يقتنه. قوله: "وقد حدثنا. . ." إلي آخره. بيان لما ذكره من قوله: "ولأن الناس إذا تحاموا كسبهم". أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن القواريري، هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي أبو سعيد البصري، شيخ الشيخين وأبي داود. وهو يروي عن عفيف بن سالم الموصلي وثقه يحيى وأبو داود والنسائي وابن حبان، عن العلاء بن عيسى الذهلي [. . . . .] (¬2). ص: فمما روي عن رسول -عليه السلام- في ركوب البغال: ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن أبي إسحاق قال: "قال رجل للبراء: يا أبا عمارة ولَّيْتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولَّى رسول الله -عليه السلام-، وكان ولَّى سرعان الناس تلقيهم هوازن بالنبل، ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [8]. (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقال في "المغاني": لم أقف له على حال.

ولقد رأيت رسول الله -عليه السلام- وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: أنا أبو إسحاق. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء، مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن كثير بن عباس، أن أباه عباس بن عبد المطلب قال: "شهدت مع رسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله -عليه السلام- فلم نفارقه، ورسول الله -عليه السلام- على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يحدث، عن كثير بن العباس، عن أبيه نحوه. حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الحارث بن حصيرة، قال: ثنا القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال عبد الله بن مسعود: "كنت مع رسول الله -عليه السلام- يوم حنين ورسول الله -عليه السلام- على بغلته". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن يزيد ابن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه قالت: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يوم النحر عند جمرة العقبة وهو على بغلته". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن ابن عبد الله بن بسر، عن أبيه أنه قال: "إن رسول الله -عليه السلام- أتاهم وهو راكب بغلة".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت البُناني وحميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله -عليه السلام- على بغلة شهباء، فمرَّ على حائط لبني النجار فإذا قبر يعذب صاحبه فحاصت البغلة، فقال رسول الله -عليه السلام-: لولا (أن تَدَافنوا) (¬1) لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: ثنا معن بن عيسى، قال: حدثني فائد، عن عبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه: "أنه رأى بغلة النبي -عليه السلام- شهباء فكانت عند علي بن الحسين -رضي الله عنهما-". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي قال: "غزونا مع رسول الله -عليه السلام- حنين. . ." فذكر حديثًا طويلًا فيه: "فمررت على رسول الله -عليه السلام- منهزمًا وهو على بغلته الشهباء". حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسلم أبي عمران، عن عقبة بن عامر قال: "ركب رسول الله -عليه السلام- بغلة فاتبعته. . ." ثم ذكر الحديث. فقد تواترت الآثار عن رسول الله -عليه السلام- بإباحة ركوب البغال. ش: أي: فمن الذي روي عن النبي -عليه السلام- في ركوب البغال: ما قد حدثنا. . . إلى آخره. وأخرج في ذلك عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهما-: الأول: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-. أخرجه من ثلاثة طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وعليه شرح المؤلف -رحمه الله-، وفي "شرح معاني الآثار": أن لا تدافنوا.

وأخرجه البخاري (¬1): نا محمد بن كثير، نا سفيان، عن أبي إسحاق قال: "سمعت البراء -رضي الله عنه- وجاءه رجل فقال: يا أبا عمارة أتولَّيْت يوم حنين؟ فقال: أما أنا فأشهد على النبي -عليه السلام- أنه لم يولِّ، ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن، وأبو سفيان بن حرب آخذ برأس بغلته البيضاء يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو خيثمة، عن أبي إسحاق قال: "قال رجل للبراء: يا أبا عمارة، فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولَّى رسول الله -عليه السلام- ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حُسَّرًا ليس عليهم سلاح -أو كثير سلاح- فلقوا قومًا رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبني النضير فرشقوهم رشقًا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هنالك إلى رسول الله -عليه السلام-، ورسول الله -عليه السلام- على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل فاستنصر قال: أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب. ثم صفهم". وأخرجه الترمذي (¬3): عن ابن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن أبي إسحاق. . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬4): عن ابن بشار، عن غُندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن أبي إسحاق. وأخرجه البخاري (¬5): نا أبو الوليد، نا شعبة، عن أبي إسحاق: "قيل للبراء - ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1568 رقم 4061). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1400 رقم 1776). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 199 رقم 1688). (¬4) "سنن النسائي الكبرى" (5/ 191 رقم 8638). (¬5) "صحيح البخاري" (4/ 1568 رقم 4062).

وأنا أسمع-: أولَّيتم مع النبي -عليه السلام- يوم حنين؟ فقال: أما النبي -عليه السلام- فلا، كانوا رماةً، فقال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن البراء. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن زهير بن معاوية. . . إلى آخره نحوه. قوله: "سَرَعان الناس" بفتح السين والراء، وهم أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الراء. قوله: "وأبو سفيان" ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ابن عم النبي -عليه السلام-، وكان أخا النبي -عليه السلام- من الرضاعة أرضعتهما حليمة بنت أبي ذئب السعدية، وحضر مع رسول الله -عليه السلام- الفتح وشهد معه حنينًا فأبلى فيها بلاءً حسنًا، وكان رسول الله -عليه السلام- أحبه وشهد له بالجنة، وتوفي أبو سفيان سنة عشرين بالمدينة، وصلى عليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. قوله: "أنا النبي لا كذب" فيه إثبات لنبوته -عليه السلام-؛ كأنه قال: أنا ليس بكاذب فيما أقول فيجوز على الانهزام. و"الكَذِبْ" -بفتح الكاف وكسر الذال- مصدر، يقال: كَذَبَ يَكْذِبُ كِذبًا وكَذِبًا, ولكنه بمعنى الفاعل، وفيه حذف كما ذكرنا، وتقديره: لا أنا كاذب، وزعم بعضهم أنه بفتح الباء ليخرجه عن أن يكون موزونًا، وإنما انتسب إلى جده بقوله: "أنا ابن عبد المطلب لرؤيا كان عبد المطلب رآها دالة على نبوته مشهورة عند العرب وعبّرها له سيف بن ذي يزن. وقيل؛ لأن شهرة جدِّه كانت أكثر من شهرة أبيه؛ لأنه توفي شابًّا في حياة أبيه، أو لأنه -عليه السلام- كان ينتسب كثيرًا إلى عبد المطلب؛ لأن العادة إذا كان في نسب الإنسان جدٌّ ¬

_ (¬1) تقدم عن قريب.

أو جد أب له شهرة أو أسمه فيه غرابة ينسب إليه ويطرح من بينهما من الآباء، ولهذا إن ضمَّام بن ثعلبة لما وقد عليه قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ وفيه جواز الانتماء في دار الحرب، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب. والثاني: عن عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح -كاتب الليث، وشيخ البخاري- عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي -أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، ومولى الليث بن سعد من فوق- عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي -عليه السلام-، التابعي الكبير، عن أبيه عباس بن عبد المطلب. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب، قال: قال عباس: "شهدت مع رسول الله -عليه السلام- يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله -عليه السلام- فلم نفارقه، ورسول الله -عليه السلام- على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي. . ." الحديث بطوله. الطريق الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن كثير بن عباس. . . إلى آخره. قوله: "فروة بن نفاثة الجذامي" كان عاملًا لقيصر على معان من أرض الكرك. و"فروة": بالفاء، و"نفاثه": بضم النون وبالفاء والثاء المثلثة. والثالث: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1398 رقم 1775).

أخرجه من طريق حسن جيد: عن علي بن عبد الرحمن، عن عفان بن مسلم الصفَّار، عن عبد الواحد بن زياد العبدي، عن الحارث بن حصيرة الكوفي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن عبد الرحيم، ثنا عفان بن مسلم، ثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنت مع رسول الله -عليه السلام-يعني يوم حنين- فتفرق الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار -وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة- ورسول الله -عليه السلام- على بغلته، فقال النبي -عليه السلام-: ناولني كفًّا من تراب، فرمى به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابًا، وأقبل المهاجرون والأنصار وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، فولى المشركون مدبرين". والرابع: عن أم جندب الصحابية -رضي الله عنها-. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة شيخ مسلم، عن علي بن مسهر الكوفي قاضي الموصل، عن يزيد بن أبي زياد القرشي فيه مقال، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الجشمي الكوفي، عن أمه أم جندب الأزدية الصحابية -رضي الله عنها-. وأخرج ابن الأثير (¬2) هذا الحديث في ترجمة أم جندب: من حديث ابنها سليمان بن عمرو بن الأحوص: "أنها رأت النبي -عليه السلام- غداة الجمرة وهو يرمي الجمرة وهو يقول: يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضًا، ارموا بمثل حصى الخذف". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 368 رقم 1998). (¬2) "أسد الغابه" (1/ 1430).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحو رواية الطحاوي. وأخرجه أيضًا (¬2): عن أبي بكر، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان، عن أمه أم جندب. وأخرجه أبو داود (¬3): عن إبراهيم بن مهدي، عن علي بن مسهر، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه قالت: "رأيت النبي -عليه السلام- يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب. . ." الحديث، وليس فيه ذكر البغلة. والخامس: عن عبد الله بن بُسر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- المازني الصحابي. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن معاوية ابن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس، عن يحيى بن عبد الله بن بُسر، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- أتاهم وهو راكب بغلة". وأخرج أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا يحيى بن حماد، أنا شعبة، عن يزيد بن خمير، عن عبد الله بن بُسر، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام-، نزل فذكروا رطبةً طعامًا وشرابًا، فكان يأكل التمر ويضع النوى على ظهر أصبعيه ثم يرمي به، ثم قام فركب بغلة له بيضاء، فأخذت بلجامها، فقلت: يا نبي الله، ادع الله لنا، فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم". وقد اعترض بعضهم على هذا، فقال: هكذا في الأصل: عن عبد الله بن بُسر، عن أبيه. ولكن الصواب: عن ابن عبد الله بن بُسر، عن أبيه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1008 رقم 3028). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1008 رقم 3031). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 604 رقم 1966). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 188 ر قم 17711).

قلت: بُسر والد عبد الله له صحبة أيضًا، وعبد الله روى عنه أيضًا، فعلى هذا الصواب ما ذُكر في الأصل بدون ذكر الابن. وأخرج النسائي في "الوليمة" (¬1): عن كثير بن عبيد، عن بقية، عن محمد بن زياد، عن عبد الله بن بُسر قال: "كنت أنا وأبي قاعدين إذْ أقبل رسول الله -عليه السلام- على بغلة له، فقال له أبي: ألا تنزل. . ." الحديث. والسادس: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح: عن نصر بن مرزوق، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وحميد الطويل، كلاهما عن أنس بن مالك. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حسن، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس: "أن رسول الله -عليه السلام- كان علي بغلة شهباء، فمرَّ على حائط لبني النجار فإذا هو بقبر يُعذَّب صاحبه، فحاصت البغلة، فقال: لولا (أن تدافنوا) (¬3) لدعوت الله -عز وجل- أن يسمعكم عذاب القبر". قوله: "على حائط" وهو البستان من النخيل إذا كان عليها جدار. قوله: "فحاصت البغله" أي نفرت وفرت، يقال: حَاصَ يَحِيصُ حَيْصةً إذا جال يطلب الفرار، والمَحِيص: المهرب، ويروى: "جاضت" بالجيم والضاد المعجمة، يقال: جاض عن القتال أي فرَّ، وجاض عن الحق: عدل، وأصل الجيض: الميل عن الشيء. ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 202 رقم 6900). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 153 رقم 12575). (¬3) كذا في "الأصل، ك" وعليه شرح المؤلف -رحمه الله-، وفي "مسند أحمد"، ومصادر تخريج الحديث: أن لا تدافنوا.

قوله: "لولا أن تدافنوا" من التدافن وهو التكاتم، وفي الحديث: "لو تكاشفتم لما تدافنتم" أي لو تكشَّف عيب بعضكم لبعض (¬1). وفيه: جواز ركوب البغلة، وجواز اقتنائها، وإثبات عذاب القبر. والسابع: عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-. أخرجه بأسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عمر بن يونس بن القاسم الحنفي اليمامي، عن عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبي سلمة بن الأكوع. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬2): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا عمر بن يونس الحنفي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي قال: "غزونا مع رسول الله -عليه السلام- حنينًا، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلوا ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة ¬

_ (¬1) وقال المناوي في "فيض القدير" (5/ 342): ومعنى لولا أن لا تدافنوا: أنهم لو سمعوه لتركوا التدافن حذرًا من عذاب القبر أو لاشتغل كلُّ بخويصته، حتي يفضي بهم إلى ترك التدافن. وقيل: "لا" زائدة، ومعناه لولا أن تموتوا من سماعه؛ فإن القلوب لا تطيق سماعه، فيصعق الإنسان لوقته، فكنى عن الموت بالتدافن، ويرشد إليه قوله في الحديث الآخر: "لو سمعه الإنسان لصعق" أي: مات. وفي رواية لأحمد: لولا أن تدافنوا بإسقاط "لا" وهو يدل على زيادتها في تلك الرواية, وقيل: أراد لأسمعتكم عذاب القبر أي صوته. . . ثم قال: وليس معناه: أنهم لو سمعوا ذلك تركوا التدافن لئلا يصيب موتاهم العذاب كما قيل، لأن المخاطبين -وهم الصحب- عالمون بأن العذاب -أي عذاب الله- لا يرد بحيلة، فمن شاء تعذيبه عذبه ولو في بطن حوت، بل معناه: لو سمعوا عذابه تركوا دفن الميت استهانة به أو لعجزهم عنه لدهشتهم وحيرتهم أو لفزعهم وعدم قدرتهم على إقباره، أو لئلا يحكموا على كل من اطلعوا على تعذيبه في قبره بأنه من أهل النار؛ فيتركوا الترحم عليه وترجي العفو له. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1402 رقم 1777).

النبي -عليه السلام-، فولى صحابة النبي -عليه السلام- وأرجع منهزمًا وعليَّ بردتان متِّزرًا بإحداهما مرتديًا بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعًا ومررت على رسول الله -عليه السلام-منهزمًا- وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله -عليه السلام-: لقد رأى ابن الأكوع فزعًا، فلما غَشَوْا رسول الله -عليه السلام- نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم وقال: شاهت الوجوه. فما خلف الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينه ترابًا من تلك القبضة، فولَّوْا مدبرين، فهزمهم الله تعالى، وقسم رسول الله -عليه السلام- غنائمهم بين المسلمين". والثامن: عن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث البصري، عن سعيد بن أبي هلال أبي العلاء المصري، عن أسلم بن عمران أبي عمران التجيبي المصري، عن عقبة بن عامر. وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر قال: "اتبعت النبي -عليه السلام- وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني سورة هود. . ." الحديث. وأما حديث عبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه. . . إلى آخره: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع الشافعي شيخ مسلم في غير "الصحيح"، وابن ماجه. عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي المدني الثقة، عن فائد بالفاء، المدني الثقة، عن مولاه عبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي -عليه السلام-، الثقة. عن أبيه علي بن أبي رافع. وفي "التكميل": علي بن أبي رافع، عن أبيه. وعنه: ابنه الحسن؛ فيه جهالة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 158 رقم 953).

وأبو رافع اسمه إبراهيم -وقيل: أسلم- مولى النبي -عليه السلام-. قوله: "فكانت عند علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-" وهذه البغلة هي التي كانت تسمى الدلدل، أهداها له -عليه السلام- المقوقس، وقد كانت عُمِّرت حتى كانت عند علي -رضي الله عنه-، وتأخرت أيامها حتى كانت بعد علي عند علي بن الحسين بن علي، وقيل: كانت عند عبد الله بن جعفر، وكان يحش لها الشعير لتأكله من ضعفها. ص: وقد روي في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عائذ -يعني ابن حبيب- عن الحجاج، عن سعيد بن أشوع، عن حنش بن المعتمر قال: "رأيت عليًّا -رضي الله عنه- أتي ببغلته يوم الأضحى فركبها، فلم يزل تكبى حتى أتى الجبَّانة". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزار، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الصلاة، فجاء رجل فأخذ بخطام بغلته، فسأله عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: هو يومك هذا، خلِّ سبيلها". ش: أي قد روي في ركوب البغال أيضًا عن علي -رضي الله عنه- الذي يدلّ على إباحة إنزاء الحمير على الخيل. وأخرجه من وجهين الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن عائذ بن حبيب بن ملاج العبسي أبي هشام الكوفي، وثقه يحيى، وعنه: صويلح. قال الجوزجاني: غالٍ زائغ. روى له النسائي وابن ماجه. عن الحجاج بن أرطاة فيه مقال، عن سعيد بن أشوع بن عمرو القاضي وثقة ابن حبان، عن حنش بن المعتمر الكناني -قال أبو داود: ثقة. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: لا يحتج به.

الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور روى له الجماعة، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار العرني الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري. وأخرجهما ابن أبي شيبة نحوه (¬1). قوله: "حتى أتى الجبَّانه" بتشديد الباء وبعد الألف نون: الصحراء، وكذلك الجبَّان. ويستفاد منهما أحكام: جواز اقتناء البغال، والإِشارة إلى إباحة إنزاء الحمير على الخيل، وجواز الذهاب إلى المصلى يوم العيد راكبًا، وجواز الجهر بالتكبير يوم الأضحى، وأن المراد من قوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} (¬2) هو يوم عيد الأضحى. ص: فإن قال قائل: فما معنى قوله -عليه السلام-: "إنما يفعل ذلك الدين لا يعلمون"؟ قيل له: قال أهل العلم في ذلك: معناه أن الخيل قد جاء في ارتباطها وعلفها الأجر، وليس ذلك في البغال، فقال النبي -عليه السلام-: "إنما يترك حمل فرس على فرس حتى يكون عنهما ما فيه الأجر، ويحمل حمارًا على فرس فيكون عنهما بغل لا أجر فيه الذين لا يعلمون؛ لأنهم يتركون بذلك إنتاج فيما ارتباطه الأجر، وينتحبون ما لا أجر في ارتباطه. ش: تقرير السؤال أن يقال: استدللتم بالأحاديث المذكورة التي فيها ركوب النبي -عليه السلام- البغل على إباحة اقتناء البغال وإنزاء الحمير على الخيل، فالحديث الذي فيه: "إنما يفعل ذلك" يعني الإنزاء المذكور "الذين لا يعلمون" ما يكون معناه على ما قلتم وذهبتم إليه. فأجاب بقوله: "قيل له. . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبه" (1/ 488 رقم 5625)، (3/ 379 رقم 15110). (¬2) سورة التوبة، آية: [3].

قوله: "إنما يترك حمل فرس. . ." إلى آخره. تفسير لقوله -عليه السلام-: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"، وفاعل قوله: "إنما يترك" هو قوله: "الذين لا يعلمون"، وقوله: "حمل فرس" مفعوله. قوله: "ويحمل حمارًا" عطف على قوله: "إنما يترك". ص: فمما روي عن النبي -عليه السلام- في الثواب في ارتباط الخيل: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن الخيل، فقال: هي لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما من ربطها عدةً في سبيل الله فإنه لو طول لها في مرج خصيب أو روضة؛ كتاب الله له -عز وجل- عدد ما أكلت حسنات وعدد أرواثها حسنات، ولو انقطع طَولها ذلك فاستنت شرفًا أو شرفين كتب الله له عدد آثارها حسنات، ولو مرت بنهر عجاج لم يرد السقي فيه فشربت منه كتب الله له عدد ما شربت حسنات. ومن ارتبطها تغنيَّا أو تعففًا ثم لم ينس حق الله في رقابها وظهورها كانت له سترًا من النار. ومن ارتبطها فخرًا ورياءً ونواءٍ على المسلمين كانت له وزرًا يوم القيامة. قالوا: فالحمر؟ يا رسول الله قال: لم ينزل الله عليّ في الحمر شيئًا إلا هذه الآية الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬1). حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن بكير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- بنحو ذلك أيضًا. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ¬

_ (¬1) سورة الزلزله، آية: [7، 8].

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني طلحة بن أبي سعيد، أن سعيد المقبري حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعد الله؛ كان شبعه وريّه وبوله وروثه حسنات في ميزانه يوم القيامه". حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن يونس. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعمت معاوية بن صالح يحدث، قال: حدثني زياد بن نعيم، أنه سمع أبا كبشة صاحب النبي -عليه السلام- يقول: عن النبي -عليه السلام-: "الخيل في نواصيها الخير، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن إدريس وابن فضيل، عن الحصين، عن الشعبي، عن عروة البارقي، قال رسول الله -عليه السلام-: "الخير معقودٌ في نواصي الخيل، فقيل: يا رسول الله مم ذاك؟ قال: الأجر والغنيمة إلى يوم القيامة". زاد فيه بن إدريس: "والإبل عزٌّ لأهلها، والغنم بركة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن أبي إسحاق قال: "وقف علينا عروة البارقي ونحن في مجلسنا فحدثنا فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الخير معقودٌ في نواصي الخيل أبدًا إلى يوم القيامة".

حدثنا ابن مرزق، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن عروة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظي، قال: ثنا زهير، عن جابر، عن عامر، عن عروة البارقي، عن النبي -عليه السلام- مثله. وزاد: "الأجر والغنيمة". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا عبد الله بن سالم، قال: ثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس، قال: حدثني الوليد بن عبد الرحمن الحرشي، عن جبير بن نفير، قال: حدثني سلمة بن نفيل السكوني، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الخيل معصوبٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها". ش: أخرج في ثواب مرتبط الخيل عن سبعة من الصحابة، وهم: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وجرير بن عبد الله، وأبو كبشة، وعروة البارقي، وسلمة بن نفيل. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): عن يونس بن عبد الأعلى. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري في كتاب "الشرب" (¬2): عن عبد الله بن يوسف. وفي "الجهاد" (¬3)، وفي "علامات النبوة" (¬4): عن القعبني. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2/ 680 رقم 987). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 835 رقم 2242). (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1050 رقم 2705). (¬4) "صحيح البخاري" (3/ 1332 رقم 3446).

وفي كتاب "الاعتصام" (¬1)، وفي "التفسير" (¬2): عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب كلهم، عن مالك، عن زيد بن أسلم. وأخرجه الطحاوي أيضًا في كتاب الزكاة في باب: "الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا"؟ الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة. قوله: "هي لثلاثه" أي الخيل لثلاثة أنفس، والمعنى أنها على ثلاثة أنواع: النوع منها: أجر لصاحبها، والنوع منها: ستر لصاحبها، والنوع منها: فيها وزر لصاحبها. قوله: "فأما من ربطها عدة في سبيل الله" أي أعدها للجهاد، وأصله من الربط، ومنه الرباط وهو حبس الرجل نفسه في الثغور وإعداده الأهبة لذلك، وقيل: من ربط صاحبه عن المعاصي وعقله عنها فهو كمن ربط وعقل. قوله: "لو طَوَّل لها" أراد: لو ربط قائمتها وأمسك بطرقه وأرسلها ترعى. والطّيَل والطِّوَال والطَّويلة والتِّطْوَل كله حبل طويل تشد به قائمة الدابة، وقيل: هو الحبل تشدّ به ويمسك به صاحبها بطرقه ويرسلها ترعى. وفي "الجامع": ومنهم من شدد فيقول: الطُّوَّل. وقال الجوهري: لم يسمع في الطول الذي هو الحبل إلا بكسر الأول وفتح الثاني، وشدده الراجز في قوله: تَعرَّضَت لي في مَكَانٍ جَلي ... تَعَرُّضَ المهرَةِ في الطَّوَّلِ ضرورة، وقد يفصلون مثل ذا للتكثير، أو يزيدون في الحرف من بعض حروفه. وقال عياض: قال ابن وهب: هو الرسن. قوله: "في مرج" وهي الأرض الواسعة، وتجمع على مروج. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2677 رقم 6923) من طريق إسماعيل عن مالك به. (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1898 رقم 4679) بقصة الحمر فقط.

قوله: "خصيب" من قولهم: مكان خصيب ومخصب من الخصب وهو ضد الجدب، يقال: أخصبت الأرض، وأخصب القوم. قوله: "أو روضة" وهي الموضع الذي يستنقع فيه الماء، ويكون به نبات مجتمع، قال أبو عبيد: ولا يكون إلا في ارتفاع. قوله: "فاستنت" أي أفلتت فمرحت، والاستنان افتعال من السنن وهو القصد، وقيل: معنى استنت لجت في عدوِّها إقبالًا وإدبارًا، وقيل: الاستنان مختص بالجري إلى فوق، وقيل: هو النشاط والمرح، وفي "البارع": هو كالرقص، وقيل: استنت: رعت، وقيل: الجري بغير فارس. قوله: "شرفًا" بفتح الشين المعجمة والراء هو ما أشرف من الأرض وارتفع. قوله: "بنَهْرٍ عجاج" النَّهْر بفتح النون وسكون الهاء وفتحها أيضًا لغتان فصحتان ذكرهما ثعلب، وقال الهروي: الفتح أفصح، وقال ابن خالويه: الأصل فيه التسكين، وإنما جاز فتحه لأن فيه حرفًا من حروف الحلق. قال: وحروف الحلق إذا وقعت آخر الكلام فتُح وسطها، وإذا وقعت وسطًا فتحت نفسها. وقال بعضهم: لأنه حرف استعلاء، يفتح لاستعلائه. وفي "الموعب": نَهْر ونُهُور مثل جَمْع وجموع. وقال أبو حاتم: نَهَر وأنهار مثل حَبَل وأَجْبَال. و"العِجَاج": على وزن فعال -بالتشديد- أي كثير الماء، كأنه يعجّ من كثرته وصوت تدفقه. قوله: "لم يرد السقي فيه" من باب التنبيه؛ لأنه إذا كان تحصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها فإذا قصد فأولى بأضعاف الحسنات. قوله: "تغنيًّا" يعني لأجل التغني، أراد: يستغني به عما في أيدي الناس ويتعفف عن سؤالهم بما يعمله عليها ويكتسب على ظهورها.

قوله: "ونوِاء" بكسر النون والمد، وهو المعاداة، وهو أن ينوي إليك وتنوي إليه أي تنهض. قال الداودي: بفتح النون والقصر، قال: وكذا روي، والمشهور الأول. وقال ابن قرقول: والقصر وفتح النون وهم. وقال الإِسماعيلي: قال ابن أبي الحجاج عن أبي المصعب: "بواء" بالباء. قوله: "كانت له وزرًا" الوزر -بكسر الواو-: الإثم يريد باعتقاده وأن يقاتلهم عليها. قوله: "بالحُمُر" بضم الميم: جمع حمار. قوله: "إلا هذه الآية الفاذة" بالذال المعجمة أي المنفردة القليلة النظير في معناها، وجَمَعَت -على انفرادها- حكم الحسنات والسيئات المتناولة لكل خير ومعروف، ومعناه: أن من أحسن إليها أو أساء رآه في الآخرة. ويستنبط منه أحكام: فيه دلالة على فضيلة الخيل على سائر الحيوان. وفيه: أن اقتناء الخيل لنية الاعتداد في سبيل الله فيه ثواب جزيل وأجر جميل. وفيه: حجة لأبي حنيفة بقوله: "لم ينس حق الله في رقابها" على وجوب الزكاة في الخيل السائمة، وقد مرّ الكلام فيه مستقصى في كتاب الزكاة. وفيه: احتج بعضهم بقوله: "لم ينزل الله علي في الحمر شيئًا" أن النبي -عليه السلام- لم يكن مجتهدًا، وإنما كان يحكم بالوحي. وأجيب بأنه -عليه السلام- لم يظهر له أو لم يفسر الله -عز وجل- من أحكام الحمير وأحوالها ما قاله في الخيل وغيرها، وإنما لم يسألوه عن البغال لقلقها عندهم، أو لأنها بمنزلة الحمير. وفيه: الإشارة إلى التمسك بالعموم. وفيه: الإشارة على صحة القياس والاستنباط وكيف يفهم معنى التنزيل؛ لأنه نبَّه -عليه السلام- ما لم يذكر الله -عز وجل- في كتاب وهي الحمر بما ذكر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

خَيْرًا يَرَهُ} معناهما واحدًا، وهو نفس القياس الذي ينكره من لا تحصيل له. وأما حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة (¬1). الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر. . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعبني، عن مالك. . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا علي بن حفص، أنا ابن المبارك، حدثنا طلحة بن أبي سعيد، قال: سمعت سعيد المقبري يحدث، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال النبي -عليه السلام-: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة". قوله: "الخيل" مبتدأ وخبره الجملة -أعني قوله: "معقود في نواصيها الخير". ¬

_ (¬1) البخاري (3/ 1332 رقم 3444)، ومسلم (3/ 1492 رقم 1871)، والنسائي (6/ 221 رقم 3573)، وابن ماجه (2/ 932 رقم 2787)، وبنحوه عند أبي داود (2/ 26 رقم 2542) من حديث عتبة بن عبد السلمي، وعند الترمذي (4/ 173 رقم 1636) عن أبي هريرة، (4/ 202 رقم 1694) من حديث عروة البارقي. (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1047 رقم 2694). (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1048 رقم 2698).

و"الخير" مرفوع بقوله: "معقود"؛ لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله. و"النواصي": جمع ناصية، وإنما خص النواصي بالذكر؛ لأن العرب تقول غالبًا: فلان مبارك الناصية، فيكنى به عن الإنسان. وقوله: "الخيل في نواصيها الخير" لفظة عامة، والمراد بها الخصوص؛ لأنه لم يُرد به إلا بعض الخيل، بدليل قوله: "الخيل لثلاثة" فبيَّن أنه أراد الخيل الغازية في سبيل الله لا أنها على كل وجوهها. ذكره ابن المنذر. ويقال: الخير هنا المال؛ قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (¬1) أي مالاً، وقال المفسرون في قوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} (¬2) أنه أراد به الخيل. وقال أبو عمر بن عبد البر: وفي قوله -عليه السلام-: "الخيل معقود في نواصيها الخير" وقوله: "البركة في نواصي الخيل" ما يعارض رواية من روى "الشؤم في المرأة والدار الفرس" (¬3) ويعضد رواية من روى: "لا شؤم وقد يكون اليُمن في الفرس والدار والمرأة" (¬4). وقال أيضًا: وفي هذا الحديث النص على اكتساب الخيل وتفضيلها على سائر الدواب؛ لأنه -عليه السلام- لم يأت عنه في غيرها من الدواب مثل هذا القول، وذلك تعظيم منه لشأنها، وحضٌّ على اكتسابها، وندب إلى ارتباطها في سبيل الله للقاء العدو، وهي أقوى الآلات في جهاده، فهذه الخيل المعدة للجهاد وهي التي في نواصيها الخير. وأما إذا كانت معدة للفتن وقتال المسلمين وسلبهم وتفريق جمعهم وتشريدهم عن أوطانهم فتلك خيل الشيطان وأربابها حزبه، وفي مثلها -والله أعلم- ورد أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [180]. (¬2) سورة ص، آية: [32]. (¬3) متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري (5/ 1959 رقم 4805)، ومسلم (4/ 1746 رقم 2225). (¬4) أخرجه الترمذي (5/ 127 رقم 2824)، وابن ماجه (1/ 642 رقم 1993) عن مخمر بن معاوية.

اكتسابها وزر على صاحبها، وقد استدل جماعة من العلماء أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة تحت راية كل بَرٍّ وفاجر من الأئمة بهذا الحديث؛ لأنه قال فيه: "إلى يوم القيامة" ولا وجه لذلك إلا الجهاد في سبيل الله؛ لأنه قد ورد الذم فيمن ارتبطها واحتبسها رياء وفخرًا ونواء لأهل الإِسلام، والله أعلم. ومن نكات هذا الحديث: أنه يشتمل على الجناس المضارع، والجناس بين اللفظين هو تشابههما في اللفظ، وينقسم إلى: جناس تام: وهو أن يتَّفِقَا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها. وناقص: وهو أن يختلفا في أعداد الحروف فقط. ثم الحديث فيه جناس مضارع ناقص، وكونه ناقصًا ظاهر، وأما كونه مضارعًا فلكون الحرفين المختلفين فيه متقاربين؛ وذلك لأن اللام والراء من مخرج واحد، ثم الحرفان المتقاربان لا يخلو إما في الأول كقول الحريري: بيني وبين كِنِّي ليل دامس، وطريق طامس. وإما في الوسط، كقوله تعالى،: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (¬1). وإما في الآخِر كما في الحديث المذكور. قوله: "احتبس فرسًا" أي أرصده وأعدَّه في سبيل الله. قوله: "إيماناً بالله" أي مؤمنًا ومصدقًا بوعده. قوله: "شِبَعه" بكسر الشين المعجمة وفتح الباء، أراد ما يشبعه من العلف. قوله: "ورِيَّه" بكسر الراء من رَوِيت من الماء -بالكسر- أروي رَيًّا ورِيًّا، ورِوًى أيضًا مثل رضًى، والمراد به ها هنا ما يرويه من الماء. ثم اعلم أن ما وصفه النبي -عليه السلام- من الشبع والري والبول والروث إنما يريد به ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [26].

ثوابه، لا أن هذه الأشياء موزونة؛ ولا نقول أن زنة الأجر زنة الروث أو البول بل أضعاف ذلك إلى ما شاء الله تعالى. ومن لطائف هذا الحديث أن الأمثال تُضرب لصحة المعاني، وأن النية يترتب عليها الأجر، وأن الأحباس جائزة في الخيل والكراع، وفيه بحث موضعه الفروع. وأما حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال- عن عتبة بن أبي حكيم الهمداني الأردني الطبراني؛ فعن يحيى: ثقة. وعنه: ضعيف. وعن النسائي: ضعيف. وعنه: ليس بالقوى. روى له الأربعة. عن الحصين بن حرملة المهري وثقه ابن حبان، عن أبي المصبح المقرائي الأوزاعي الحمصي -وقيل: الدمشقي، والصحيح أنه حمصي- قال أبو زرعة: ثقة لا أعرف اسمه. ووثقه ابن حبان أيضًا، وروى له أبو داود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إبراهيم بن إسحاق وعلي بن إسحاق، قالا: ثنا ابن المبارك، عن عتبة -وقال علي: أنا عتبة- بن أبي حكيم، حدثني حصين بن حرملة، عن أبي مصبح، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير والنَّيْل إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها بالأوتار". قوله: "والنيل" مِن نال ينال نيلًا إذا أصاب فهو نائل. قوله: "وقلدوها" أي قلدوها طلب أعداء الدين والدفاع عن المسلمين، ولا تقلدوها طلب أوتار الجاهلية ودخولها التي كانت بينكم. و"الأوتار" جمع وتر -بالكسر- وهو الدم وطلب الثأر، يريد: اجعلوا ذلك لازمًا لها في أعناقها لزوم القلائد في الأعناق. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 352 رقم 14833).

وقيل: أراد بالأوتار جمع وتر: القوس، أي: لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق؛ لأن الخيل ربما رعت الأشجار فنشبت الأوتار ببعض شعبها فخنقتها. وقيل: إنما نهاهم عنها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى؛ فيكون كالعوذة لها، فنهاهم وأعلمهم أنها لا تدفع ضرًّا ولا تصرف حذرًا. وأما حديث جرير بن عبد الله: فأخرجه بإسناد صحيح من طريقين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقى، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن عمرو بن سعيد القرشي الثقفي البصري، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو، وقيل: جرير. وهو يروي عن جده جرير بن عبد الله البجلي، روى له الجماعة. والحديث أخرجه مسلم (¬1): عن جرير، ولفظه عن جرير: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يلوي ناصية فرسه بأصبعه وهو يقول: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن عبيد الله بن محمد التيمي العيشي شيخ أبي داود، عن يزيد بن زريع، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا هشيم، أنا يونس، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يفتل عرف فرسه بأصبعيه وهو يقول: الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1493 رقم 1872). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 361 رقم 19219).

وأما حديث أبي كبشة: فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن زياد بن ربيعة بن نعيم بن ربيعة بن عمرو الحضرمي البصري وقد ينسب إلى جده، وثقه العجلي. عن أبي كبشة الأنماري الصحابي -اسمه عمر بن سعيد، وقيل: سعد بن عمرو، وقيل: عمرو بن سعيد وهو الأشهر. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، نا أصبغ بن الفرج، نا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، حدثني نعيم بن زياد، أنه سمع أبا كبشة صاحب رسول الله -عليه السلام- يحدث، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة". وأما حديث عروة البارقي: فأخرجه من أربع طرق؛ الثلاثة الأُول صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن ادريس ابن يزيد الزعافري الكوفي، وعن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن عامر الشعبي، عن عروة ابن أبي الجعد الأزدي، ويقال: الأسدي، ويقال: ابن الجعد، ونسبته إلى "بارق" جبل نزل به سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن مزيقاء بن ماء السماء بن حارثة الغطريف. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن حصين وابن أبي السفر، عن الشعبي، عن عروة بن الجعد، عن النبي -عليه السلام- قال: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامه" قال سليمان: عن شعبة، عن عروة بن أبي الجعد، تابعه مسدد. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 339 رقم 849). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1047 رقم 2695).

وأخرجه البرقاني نحو رواية الطحاوي: من طريق ابن إدريس، عن حصين يرفعه: "الإبل عزٌّ لأهلها والغنم بركة". وأخرجه الطيالسي (¬1) بسند البخاري، وفيه: "قيل: يا رسول الله ما الخير؟ قال: الأجر والمغنم". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة القرشي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عروة بن أبي الجعد البارقي، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والمغنم". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن العيزار بن حريث العبدي الكوفي، عن عروة البارقي. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن العيزار، عن عروة بن جعد، عن النبي -عليه السلام- قال: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي الشامي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن عروة البارقي. وهذا السند فيه مقال من جهة جابر. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 142 رقم 1056). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 376 رقم 19380). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 376 رقم 19379).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن هناد، عن عبثر بن القاسم، عن حصين، عن الشعبي، عن عروة البارقي، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخير معقودٌ في نواصي الخيل إلى يوم القيامة؛ الأجر والمغنم". وأخرجه النسائي (¬2): عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن ابن إدريس، عن حصين به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة (¬4): عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة نحوه. وأما حديث سلمة بن نفيل -رضي الله عنه-: فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن عبد الله بن سالم الأشعري الحمصي روى له البخاري وأبو داود والنسائي، عن إبراهيم بن سليمان الأفطس الدمشقي، قال دحيم: ثقة ثبت. روى له الترمذي وابن ماجه. عن الوليد بن عبد الرحمن الحرشي -بفتح الحاء والراء المهملتين وبالشين المعجمة- نسبة إلى بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الحمصي، روى له الجماعة إلا البخاري. عن جبير بن نفير -كلاهما بالتصغير- بن مالك الحضرمي الشامي الحمصي -روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 202 رقم 1694). (¬2) "المجتبى" (6/ 222 رقم 3574). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 773 رقم 2305). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 932 رقم 2786).

عن سلمة بن نفيل السكوني -ويقال: التراغمي- الصحابي، نزل حمص. والحديث أخرجه الطبراني بأتم منه (¬1): ثنا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف. . . إلى آخره. ولفظه: "قال: دنوت من رسول الله -عليه السلام- حتى كادت ركبتاي تمسان فخذه، فقلت: يا رسول الله، تركت الخيل وألقي السلاح وزعم أقوامٌ أن لا قتال، فقال: كذبوا، الآن جاء القتال، لا تزال من أمتي أمهٌ قائمةٌ على الحق ظاهرةٌ على الناس يزيغ الله قلوب قوم قاتلوهم لينالوا منهم، وقال: وهو مُوَلِّي ظهره إلى اليمن: إني أجد نفس الرحمن من ها هنا, ولقد أوحي إليَّ أني مكتوب غير ملبث وتتبعوني أفنادًا، والخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها". وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي عن سبعة من الصحابة. وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وأسماء ابنة يزيد والمغيرة بن شعبة. قلت: وفي الباب أيضًا: عن عتبة بن عبد السلمي، وسوادة بن الربيع، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وسهل بن الحنظلية، وأبي أمامة الباهلي، وأبي ذر الغفاري، وتميم الداري، وعريب المليكي، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي وهب الجشمي. أما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه البزار في "مسنده" (¬2): نا بشر بن خالد العسكري، نا معاوية بن هشام، ثنا شيبان، ثنا فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 52 رقم 6358). (¬2) قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 470 رقم 9322): رواه أحمد والبزار، وفيه عطية وهو ضعيف.

وأما حديث أسماء بنت يزيد: فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): من حديث شهر عنها مرفوعًا: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنفق عليها احتسابًا؛ كان شبعه وجوعه وريَّه وظمأه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة، ومن ارتبط فرسًا رياء وسمعة كان ذلك خسرانًا في ميزانه يوم القيامة". وأما حديث المغيرة بن شعبة: فأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا محمد بن مرزوق البصري، ثنا إسماعيل بن سعيد الجبيري، قال: سمعت سعيد بن عبيد الجبيري يحدث، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها". وأما حديث عتبة بن عبد السلمي: فأخرجه أبو داود (¬2): من حديث شيخ من بني سليم، عن عتبة بن عبد السلمي، سمع النبي -عليه السلام- يقول: "لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها؛ فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير". وأخرجه أبو يعلى، وسمى الشيخ: نصر بن علقمة. وأما حديث سوادة بن الربيع: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا معلى بن أسد العمي، ثنا محمد بن حمران، نا سليمان الجرمي، عن سوادة بن الربيع الجرمي قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- فأمر لي بذود، قال لي: عليك بالخيل؛ فإن الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلي يوم القيامة". وأما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه أبو القاسم البغوي: من حديث بقية، عن علي بن علي، حدثني يونس، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 458 رقم 27634). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 26 رقم 2542). (¬3) "المعجم الكبير" (7/ 97 رقم 6480).

وأما حديث البراء بن عازب: فأخرجه البغوي أيضًا نحوه: من حديث صالح بن دينار، عن يزيد بن يسار، عن فطر، عن أبي إسحاق، عن البراء به. وأما حديث حذيفة بن اليمان: فأخرجه ابن عساكر: من حديث النعمان بن عبد السلام، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي عمار، عن حذيفة نحوه. وأما حديث سهل بن الحنظلية: فأخرجه الطبراني (¬1): ثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا المطعم بن مقدام الصنعاني، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله -عليه السلام- قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه كالمادّ يده بالصدقة لا يقبضها". وأما حديث أبي أمامة: فأخرجه أبو طاهر الذهلي: من حديث يحيى بن راشد، عن الجريري، عن لقيط، عن أبي أمامة، عن النبي -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة". وأما حديث أبي ذر الغفاري: فأخرجه عن عبد الله بن وهب في "مسنده": ثنا عمرو بن الحارث، عن الحارث بن يعقوب، عن أبي الأسود الغفاري، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وأما حديث تميم الداري: فأخرجه محمد بن عقبة القاضي، عن أبيه، عن جده، عن تميم الداري: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله فعالج علفه؛ كان له بكل حبة حسنة". وأما حديث عريب المليكي: فأخرجه ابن أبي عاصم (¬2): من حديث يزيد بن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 98 رقم 5623). (¬2) "الآحاد والمثاني" (5/ 157 رقم 2695).

عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وأما حديث علي بن أبي طالب: فأخرجه ابن منده: من حديث سعيد بن عنبسة، ثنا منصور بن زاذان العطار، ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي -رضي الله عنه- قال: قال النبي -عليه السلام-: "الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وأما حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: فأخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (¬1) بسند فيه ضعف: عن زيد مرفوعًا: "من حبس فرسًا في سبيل الله كان ستره من النار". وأما حديث أبي وهب: الجشمي فأخرجه أبو داود (¬2): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا هشام بن سعد الطالقاني، قال: أنا محمد بن مهاجر، قال: نا عقيل بن شبيب، عن أبي وهب الجشمي -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأفخاذها -أو قال: على أكفالها- وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار". وأخرجه النسائي (¬3). ص: فإن قال قائل: فما معنى اختصاص النبي -عليه السلام- بني هاشم بالنهي عن إنزاء الحمر على الخيل؟ قيل له: لما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجى بن رجاء، قال: ثنا أبو جهضم، قال: حدثني عبد الله بن عبيد الله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما اختصنا رسول الله -عليه السلام- إلا بثلاث: أن لا نأكل الصدقة، وأن نسبغ الوضوء، وأن لا ننزي حمارًا على فرس. قال: فلقيت عبد الله بن الحسن وهو ¬

_ (¬1) "المنتخب من مسند عبد بن حميد" (1/ 111 رقم 252). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 29 رقم 2553). (¬3) "المجتبى" (6/ 218 رقم 3565).

يطوف بالبيت فحدثته فقال: صدق، كانت الخيل قليلة في بني هاشم فأحب أن تكثر فيهم". فبيَّن عبد الله بن الحسن بتفسيره هذا المعنى الذي اختص له رسول الله -عليه السلام- بني هاشم أن لا ينزوا حمارًا على فرس، وأنه لم يكن للتحريم وإنما كان لعلة قلة الخيل فيهم، فإذا ارتفعت تلك العلة وكثرت الخيل في أيديهم صاروا في ذلك كغيرهم، وفي اختصاص النبي -عليه السلام- إياهم بالنهي عن ذلك دليل على إباحته إياه لغيرهم، ولما كان النبي -عليه السلام- قد جعل في ارتباط الخيل ما ذكرنا من الثواب والأجر، وسئل عن ارتباط الحمير فلم يجعل في ارتباطها شيئًا، فالبغال التي هي خلاف الخيل مثلها؛ كان من ترك أن ينتج ما في ارتباطه وكسبه الثواب وكنتج ما لا ثواب في ارتباطه وكسبه من الذين لا يعلمون. فقد ثبت بما ذكرنا إباحة نتج البغال لبني هاشم ولغيرهم، وإن كان نتج الخيل أفضل من ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: السؤال والجواب ظاهران. والحديث أخرجه بهذا الإِسناد في كتاب الزكاة في باب: "الصدقة على بني هاشم". وأبو عمر الحوضي حفص بن عمر شيخ البخاري. ومرجى بن رجاء اليشكري خال أبي عمر الحوضي. وأبو جهضم اسمه موسى بن سالم. وعبد الله بن عبيد الله -بالتكبير في الابن والتصغير في الأب- ابن عباس بن عبد المطلب -وثقه النسائي وابن حبان، وروى له الأربعة.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا إسماعيل، نا موسى بن سالم أبو جهضم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، سمع ابن عباس قال: "كان رسول الله -عليه السلام- عبدًا مأمورًا، بلغ والله ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء ليس ثلاثًا: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارًا على فرس. قال موسى: فلقيت عبد الله بن الحسن وقلت: إن عبد الله بن عبيد الله حدثني بكذا وكذا، فقال: إن الخيل كانت في بني هاشم قليلة فأحب أن تكثر منهم". قوله: "كان من ترك أن ينتج" من الإنتاج، وقوله: "من الذين لا يعلمون" خبر "كان " في قوله: "كان من ترك". قوله: "وهذا" أي الذي ذكرنا هو قول الإِمام أبي حنيفة وصاحبيه -رحمهم الله- (¬2). ... ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 225 رقم 1977). (¬2) كتب المؤلف -رحمه الله- بعد هذا الموضع: قد فرغت يمين مؤلفه عن تنقيح هذا الجزء يوم الجمعة المعظم قدره، الحادي والعشرين من جمادى الأولى عام تسعة عشر وثمانمائة بحارة كتامة بالقاهرة بمدرسته التي أنشأها فيها عمرها الله تعالى بذكره، والمسئول من فضله ولطفه الخفي البلوغ إلى آخره إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير. وصك الله على سيدنا محمد وآله. يتلوه الجزء السابع إن شاء الله تعالى، وأوله: كتاب الصيد والذبائح.

ص: كتاب الصيد والذبائح

ص: كتاب الصيد والذبائح ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام الصيد والذبائح. "والصيد" مصدر من صاد يصيد صيدًا فهو صائد وذاك مصيد، وقد يقع الصيد على المصيد نفسه تسمية بالمصدر كقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1) قيل: لا يقال للشيء صيد حتى يكون متمتعًا حلالًا لا مالك له. و"الذبائح" جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة. ... ص: باب: العيوب التي لا تجزئ الهدايا والضحايا إذا كانت بها ش: أي هذا باب في بيان العيوب التي تمنع جواز الهدايا والضحايا. و"الهدايا" جمع هدية، و"الهدية" واحد الهدي بتخفيف الياء وتشديدها، فأهل الحجاز وبنو أسد يخففون وتميم وسُفْلَى قيس يثقلون، وقرئ بهما في قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) و"الضحايا" جمع ضحية، وفي الأضحية أربع لغات: أُضحية وإِضحية -بضم الهمزة وكسرها- والجمع أضاحي، وضحية والجمع ضحايا، وأضحاة والجمع أضحى. ص: حدثنا أبو موسى يونس بن عبد الأعلى قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث وبن لهيعة والليث بن سعد: أن سليمان بن عبد الرحمن حدثهم عن عبيد بن فيروز مولى بني شيبان عن البراء بن عازب: "أنه سأله عمَّا كرهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأضاحي أو ما نهى عنه؟ فقال: قام فينا رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [95]. (¬2) سورة البقرة، آية: [196].

ويدي أقصر من يده- فقال: أربع لا تجزئ في الضحايا: العوارء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي. قال البراء: فلقد رأيتني وإني لأرى الشاة وقد تركت فأشير إليها فإذا أطرقت أخذتها فضحيت بها، فقلت له: فإني أكره أن يكون في السِّنِّ نقص أو في الأذن نقص أو في القرن نقص، فقال: ما كرهته فدعه ولا تحرمه على أحد". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن فيروز، عن البراء بن عازب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: أربع -وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله -عليه السلام-: العرجاء البيِّن عرجها والعوراء البيِّن عورها والمريضة البَيِّنّ مرضها والعجفاء التي لا تنقي". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو الوليد وحبان بن هلال (ح). وحدثنا علي بن شيبة قال: ثنا يزيد بن هارون قالوا: أنا شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن قال: سمعت عبيد بن فيروز قال: سألت البراء. . فذكر مثله. حدثنا يونس قال: ثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الرحمن، عن البراء بن عازب، عن رسول الله -عليه السلام-. . . مثله، غير أنه قال: "والعجفاء التي لا تنقي" ولم يقل: "الكسيرة". ش: هذه خمس طرق: الأول: إسناده صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري وعبد الله بن لهيعة فيه مقال والليث بن سعد، ثلاثتهم عن سليمان بن عبد الرحمن -ويقال: سليمان بن سفيان بن عبد الرحمن- الأسدي عداده في المصريين، وثقه أحمد وأبو حاتم وروى له الأربعة.

عن عبيد بن فيروز الشيباني الكوفي، وثقة أبو حاتم والنسائي وروى له الأربعة. عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-. وأخرجه الأربعة: فأبو داود (¬1): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد بن فيروز قال: "سألت البراء بن عازب: ما لا يجوز في الأضاحي؟ فقال: قام فينا رسول الله -عليه السلام-وأصابعي أقصر من أصابعه وأناملي أقصر من أنامله- فقال: أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء بيِّن عورها والمريضة بين مرضها والعرجاء بيِّن ظلعها، والكسير الذي لا تنقي، قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السِّنِّ نقص، قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد". والترمذي (¬2): عن علي بن حجر، عن جرير، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان، عن عبيد بنحوه، وقال: "رفعه". وعن هناد عن ابن أبي زائدة عن شعبة عن سليمان، عن عبيد. . . نحوه، وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬3): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد عن شعبة، عن سليمان بن عبد الرحمن مولى بني أسد، عن أبي الضحاك عبيد بن فيروز مولى بني شيبان. . . نحوه. وابن ماجه (¬4): عن ابن بشار، عن يحيى وغندر وابن مهدي وابن أبي عدي وأبي الوليد به. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 97 رقم 2802). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 85 رقم 1497). (¬3) "المجتبى" (7/ 214 رقم 4369). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1050 رقم 3144).

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وقال أبو عمر: لم تختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث، ورواه عمرو بن الحارث عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد بن فيروز عن البراء بن عازب فسقط لمالك ذكر سليمان بن عبد الرحمن، ولا يعرف الحديث إلا لسليمان بن عبد الرحمن هذا، ولم يروه غيره عن عبيد بن فيروز، ولا يعرف عبيد بن فيروز إلا بهذا الحديث، وبرواية سليمان هذا عنه، ورواه عن سليمان جماعة من الأئمة منهم شعبة والليث وعمرو بن الحارث ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وعن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي البصري كلاهما عن شعبة بن الحجاج، عن سليمان بن عبد الرحمن. . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا وكيع وابن جعفر قالا: ثنا شعبة، عن سليمان ابن عبد الرحمن، عن عبيد بن فيروز مولى بني شيبان قال: "سألت البراء بن عازب، ما كره رسول الله -عليه السلام- من الأضاحي، أو ما نهى عنه من الأضاحي؟ قال: فقام فينا رسول -عليه السلام-قال: ويده أطول من يدي، أو قال: يدي أقصر من يده- قال: أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي. فقلت للبراء: فإنه يكره أن يكون في الأذن نقص أو في العين نقص أو في السن نقص. قال: ما كرهته فدعه ولا تحرمه على أحد". الرابع: عن علي بن شيبة بن الصلت عن يزيد بن هارون الواسطي عن شعبة عن سفيان. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 482 رقم 1024). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 300 رقم 18689).

قوله: "قالوا: أخبرنا" أي قال أبو الوليد وحبان بن هلال ويزيد بن هارون. الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أيوب بن سويد الحميري أحد مشايخ الشافعي قال يحيى: ضعيف يسرق الأحاديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو والأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف عن البراء. . . إلى آخره. وإنما أخرج الطحاوي هذا الطريق أيضًا تنبيهًا على فائدة وهي أن في الطرق المذكورة غير طريق مالك يروي سليمان عن عبيد، قال ابن المديني: لم يذكر سماع سليمان عن عبيد فيما حدثناه يحيى بن سعيد ثنا شعبة حدثني سليمان عن عبيد. . . إلى آخره. ولم يذكر سماع سليمان عن عبيد، قال ابن المديني: ثم نظرنا فإذا سليمان بن عبد الرحمن لم يسمعه من عبيد، ثنا عثمان بن عمر قال: ثنا الليث ثنا سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم مولى خالد بن يزيد بن معاوية عن عبيد بن فيروز: "سألت البراء عما كره رسول الله -عليه السلام- من الضحايا؟ قال: أربع. . ." الحديث، قال عثمان: فقلت لليث: إن شعبة يرويه عن سليمان بن عبد الرحمن سمع عبيد بن فيروز فقال: لا، إنما حدثناه سليمان عن القاسم عن عبيد. وأما رواية مالك فإنها عن عمرو بن الحارث عن عبيد، قال ابن المديني: عبيد لم يدر أفيه عمرو أم لا؟ فنظرنا فإذا هو لم يسمعه من عبيد، ثنا روح بن عبادة ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبيد بن فيروز قال: ثم نظرنا فإذا يزيد لم يسمعه من عبيد، حدثنا عبد الأعلى عن ابن إسحاق أنه حدثهم عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد. قلت: قد صرح في رواية ابن مرزوق وعلي بن شيبة بسماع سليمان بن عبد الرحمن من عبيد بن فيروز ولكن لما وقع هذا الاختلاف، وسلمت رواية الأوزاعي عن العلة التي ذكرها ابن المديني أخرج رواية الأوزاعي تنبيهًا على هذا. فافهم.

قوله: "البين عورها" أي: الظاهر. قوله: "لا تنقي" من الإنقاء والمعنى لا تسمن، يقال: أنقت الإبل تنقي: إذا سمنت وأصله من النقي بكسر القاف وهو المخ، وقال الجوهري: والنِّقْوُ -بالكسر- في قول الفراء: كل عظم ذي مخ. والجمع: أنقاء، والنقي مخ العظم وشحم العين من السمن. وفي "النهاية" يقال: نقيت العظم ونقوته وانتقيت. والحاصل أنه أراد بقوله: "والعجفاء التي لا تنقي": المهزولة التي لا مخ لها لضعفها وهزالها. قوله: "فلقد رَأَيْتُني" بضم التاء أي: فلقد رأيت نفسي. قوله: "البين ظلعها" الظلع بالظاء المعجمة وسكون اللام: العرج، وقد ظلع يظلع ظلعًا، فهو ظالع. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الأضحية لا تجوز بالعوراء والعرجاء القويمة والمريضة والعجفاء التي لا تنقي. الثاني: استدلت به طائفة على وجوب الأضحية؛ لقوله: "أربع لا تجزئ" لأن قوله: "لا تجزئ" دليل على وجوبها؛ لأن التطوع لا يقال فيه: "لا يجزي" قالوا: والسلامة عن العيوب إنما تراعى في الرقاب الواجبة وأما التطوع فجائز أن يتقرب به إلى الله تعالى بالأعور وغيره. قلت: لا حجة فيه؛ لأن الضحايا قربان سَنَّه رسول الله -عليه السلام- يتقرب به إلى الله على حسب ما ورد به الشرع وهو حكم ورد به التوقيف فلا يتعدى به لأنه محال أن يتقرب إليه بما قد نهي عنه على لسان رسول الله -عليه السلام-. الثالث: فيه إشارة إلى أن المرض الخفيف لا يمنع التضحية وكذلك العرج الخفيف الذي تلحق به الشاة الغنم، وكذلك النقطة اليسيرة في العين لا تمنع، وكذلك المهزولة التي ليست بغاية في الهزال.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا تجزئ شاة ولا بدنة ولا بقرة إذا كان بها واحد من هذه العيوب الأربع في هدي ولا أضحية، فقالوا: وما كان سوى هذه الأربع مثل قطع الإلية والأذن وغير ذلك، فإن ذلك لا يمنع الشاة ولا البقرة ولا البدنة أن تهدى ولا أن يضحى بها. واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي قال: ثنا أبو الوليد قال: ثنا أبو عوانة وشريك عن جابر عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري قال: "اشتريت كبشًا لأضحي به فعدا الذئب عليه؛ فقطع إليته، فسألت عن ذلك النبي -عليه السلام- فقال: ضح به". ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسييب وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة فإنهم قالوا: لا تجزئ شاة ولا بدنة. . . إلى آخره وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ولا تجزئ في الأضحية العرجاء البين عرجها بلغت المنسك أو لم تبلغ مشت أو لم تمشي ولا المريضة البن مرضها، والجرب مرض وإن كان كل ما ذكرنا لا يَبين أجزأ ولا تجزئ العجفاء التي لا تنقي، ولا تجزئ التي في أذنها شيء من النقص أو القطع أو الثقب النافذ ولا التي في عينها شيء من العيب ولا البتراء في ذنبها، ثم كل عيب سوى ما ذكرنا فإنها تجزي به الأضحية كالخصي وكسر القرن دمي أو لم يدم، والهتماء والمقطوعة الإلية، وغير ذلك لا يحاش شيئًا غير ما ذكرنا. قوله: "واحتجوا في ذلك أيضًا" أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي سعيد الخدري. أخرجه عن إبراهيم بن محمد الصيرفي عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي عن أبي عوانة الوضاح اليشكري وشريك بن عبد الله كلاهما عن جابر ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 358).

الجعفي عن محمد بن قرظة بن كعب الأنصاري عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) ثنا حجاج بن محمد، عن شعبة، عن جابر قال: سمعت محمد بن قرظة يحدث عن أبي سعيد الخدري: "أنه اشترى كبشًا ليضحي به فأكل الذئب من ذنبه -أو ذَنَبِه- فأتيت النبي -عليه السلام- فقال: ضح به". وأخرجه أحمد (¬2) أيضًا من طريق آخر: ثنا سريج وعفان قالا: ثنا حماد -قال عفان: أنا الحجاج- عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "فسألت النبي -عليه السلام-أو سأله رجل- فقال: يا رسول الله إن الذئب قطع ذنب شاه لي فأضحي بها؟ قال: نعم. قال عفان: عن ذنب شاة له، فقطعها الذئب فقال: أضحي بها؟ قال: نعم". قال ابن حزم: هذان أثران رديئان؛ لأن في الأول جابرًا وهو كذاب وفي الآخر حجاج بن أرطاة وهو ساقط. ص: وخالفهم في ذلك أخرون فقالوا: لا يجوز أن يضحي بالشاة ولا بالبقرة ولا بالبدنة وبها عيب من هذه العيوب الأربع ولا يجوز مع ذلك أن يضحي بمقطوعة الأذن ولا أن يهدي. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يضحي بما فيه عيب من العيوب الأربع المذكورة ولا بما قطعت أذنه. وقال أبو عمر (¬3): العيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء واختلفوا في السكاء وهي التي خلقت بلا أذن فذهب مالك والشافعي أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة لم تجز ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 86 رقم 11838). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 43 رقم 11406). (¬3) "التمهيد" (20/ 168).

وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك وروي عنه وعن أصحابه أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة أجزأت في الأضحية. وقال مالك والليث: المقطوعة الأذن -أو جل الأذن- لا تجزئ والشق للميسم تجزئ. وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. وفي "المحلى": وعن الحسن: أنه حد القطع في الأذن بالنصف فأكثر. ولأبي حنيفة قولان: أحدهما: إن ذهب من العين أو الأذن أو الذنب أو الإلية أقل من الثلث أجزأت في الأضحية، فإن ذهب الثلث فصاعدًا لم تجزأ. والآخر: أنه حد ذلك بالنصف مكان الثلث، قال: فإن خلقت بلا أذن أجزأت، وروي عنه: لا تجزئ، وقال مالك: إن كان القرن ذاهبا لا يدمي أجزأت، فإن كان يدمي لم يجزأ. وقال أبو حنيفة ومالك في العرجاء: إذا بلغت المنسك أجزأت وروي عن عمر -رضي الله عنه- المنع في العرجاء جملة. ص: واحتجوا في ذلك بما روي عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الحديث: حدثنا محمد بن بحر بن مطر البغدادي قال: ثنا شجاع بن الوليد قال: حدثني زياد بن خيثمة قال: ثنا أبو إسحاق، عن شريح بن النعمان، عن علي -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يضحى بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ولا عوراء". حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا زهير بن معاوية قال: ثنا أبو إسحاق، عن شريح بن النعمان -قال: أبو إسحاق وكان رجل صدق- عن علي عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد قال: ثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت جري بن كليب قال: سمعت عليًّا -رضي الله عنه- يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن عضباء القرن والأذن. قال قتادة: فقلت لسعيد بن المسيب: ما عضباء؟ قال: إذا كان النصف فأكثر من ذلك مقطوعًا".

حدثنا سليمان قال: ثنا علي بن معبد قال: ثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق، عن شريح بن النعمان الهمداني، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يضحى بمقابلة أو مدابرة أو شرقاء أو خرقاء أو جدعاء". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي، عن علي بن أبي طالب قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن". حدثنا فهد قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا حسن بن صالح (ح). حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن سعيد قال: أنا شريك قالا جميعًا: عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي قال: "أتى رجل عليًّا فسأله عن مكسورة القرن؟ فقال: لا يضرك. قال: عرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن". قال: أبو جعفر: ففي هذه الآثار النهي عن الأضحية بمقابلة أو مدابرة وذلك في الأذن، ما كان مشقوق من قبالة الأذن فهي مقابلة وما كان من أسفلها فهي مدابرة، وبيَّن سعيد بن المسيب". عضباء الأذن المنهي عن ذبحها في الأضحية فقال: "هي المقطوعة نصف أذنها". فثبت بذلك ما نهى سعيد [عنه] (¬1) من ذلك في الأذن ولم يجز لنا تركه؛ لأن حديث البراء الذي ذكرنا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون متقدما لحديث علي -رضي الله عنه- هذا فيكون حديث علي -رضي الله عنه- هذا زائدًا عليه. أو يكون متأخرًا عنه فيكون ناسخًا فلما لم يعلم نسخ حديث علي -رضي الله عنه- بعدما قد عُلِمَ ثبوته جعلناه ثابتًا مع حديث البراء وأوجبنا العمل بهما جميعًا. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لا يضحى بمقابلة. . ." الحديث؛ فإنه يدل على منع الأضحية بمقابلة ومدابرة، فقد زاد هذا على حديث البراء وليس هو أدنى ثبوتًا من حديث البراء، فيضم إليه ويُعمل بهما جميعًا , ولم يعلم في ذلك تاريخ المتقدم والتأخر حتى يُجعل أحدهما ناسخًا وليس بينهما تعارض فوجب العمل بهما. ثم إنه أخرج حديث علي بن أبي طالب من ستة طرق: الأول: عن محمد بن بحر بن مطر البغدادي البزاز، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني الكوفي الثقة، عن زياد بن خيثمة الجعفي الكوفي الثقة عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن شريح بن النعمان الصائدي الكوفي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن آدم، عن عبد [الرحيم] (¬2) هو ابن سليمان عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن شريح بن النعمان، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا بتراء ولا خرقاء". فإن قيل: ما حال إسناده؟ قلت: صحيح، وقال الترمذي (¬3): حديث حسن صحيح. فإن قيل: إن أبا إسحاق لم يسمع من شريح بن النعمان وإنما سمع من ابن أشوع عنه وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن شريح بن النعمان وهبيرة بن يريم قال: ما أقربهما قلت: يحتج بحديثهما؟ قال: لا هما شبيهان بالمجهولين. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 216 رقم 4372). (¬2) في "الأصل، ك": "الكريم" وهو تحريف والمثبت من "سنن النسائي" ومصادر ترجمته. (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 86 رقم 1498).

قلت: قد قال أبو إسحاق في شريح هذا: وكان رجل صدق. ووثقه ابن حبان أيضًا فإذا كان كذلك فلم تبق فيه الجهالة، وتصحيح الترمذي هذا الحديث يدل على صحة سماع أبي إسحاق عن شريح، فافهم. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو، عن شريح، عن علي -رضي الله عنه-. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمد النفيلي: ثنا زهير -هو ابن معاوية- ثنا أبو إسحاق -هو السبيعي- عن شريح بن النعمان -وكان رجل صدق- عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء. قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: يقطع طرف الأذن، قال: فما المدابرة؟ قال: يقطع مؤخر الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تحزق أذنها". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن جري بن كليب السدوسي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث شعبة، عن قتادة، عن جري بن كليب، سمع عليًّا -رضي الله عنه- يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يضحى بعضباء الأذن والقرن، قال قتادة: سألت ابن المسيب عن العضب قال: النصف فما زاد". الرابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ المختلف في اسمه، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 97 رقم 2804). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 275 رقم 18882).

فقيل: محمد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل غير ذلك، والصحيح أن اسمه كنيته وهو يروي عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن شريح بن النعمان، عن علي -رضي الله عنه-. وهذا إسناد جيد لا بأس به. أخرجه الترمذي (¬1): ثنا الحسن بن علي الخلال قال: ثنا يزيد بن هارون قال: نا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن شريح بن النعمان، عن علي بن أبي طالب قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء". الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل بن حصين الكوفي عن حجية بن عدي الكندي الكوفي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (¬2) بأتم منه: من حديث الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي قال: "كنا عند علي -رضي الله عنه-، فأتاه رجل فقال: البقرة؟ قال: عن سبعة، قال: القرن؟ قال: لا يضرك، قال: العرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نستشرف العين والأذن". قال البيهقي: ورواه حسن بن صالح، عن سلمة، وفيه قال: "مكسورة القرن؟ قال: لا يضرك". السادس: عن فهد بن سليمان عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن حسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي العابد عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي بن أبي طالب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 86 رقم 1498). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 275 رقم 18886).

السابع: عن فهد بن سليمان عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن حجية. . . إلى آخره. قوله: "بمقابلة" قال ابن الأثير (¬1): وهي التي يقطع من طرف أذنها شيء ثم يترك معلقًا كأنه زَنَمَة واسم تلك السمة القبلة والإقبالة. قوله: "ولا مدابرة" المدابرة أن يقطع من مؤخر أذنها شيء ثم يترك معلقًا كأنه زَنَمَة، وقال الجوهري: شاة مقابلة قطعت من أذنها قطعة لم تبن وتركت معلقة من قدم فإن كانت من أُخُر فهي مدابرة، وقد فسره الطحاوي بقوله: "وذلك في الأذن ما كان مشقوق من قبالة الأذن فهي مقابلة، وما كان من أسفلها فهي مدابرة" والباء في مقابلَة ومدابَرة مفتوحة على وزن صيغة المفعول. قوله: "ولا خرقاء" بالخاء المعجمة وهي الشاة التي في أذنها ثقب مستدير وأصله من الخرق وهو الشق. قوله: "ولا شرقاء" بالشين المعجمة والقاف وهي المشقوقة الأذن باثنين مِنْ شَرَقَ أذنها يَشْرِقُها شرقًا إذا شقها، واسم السمة: الشرقة. قوله: "ولا عوراء" وهي الذاهبة إحدى عينيها. قوله في رواية النسائي: "ولا بتراء" وهي مقطوعة الذنب وكذا المبتورة. قوله: "غير عضباء القرن" بالعين المهملة والضاد المعجمة، قال ابن الأثير: "الأعضب القرن" وهو المكسور القرن وقد يكون العضب في الأذن إلا أنه في القرن أكثر، وقال الجوهري: العضباء: المكسورة القرن الداخل، وهو المشاش، ويقال: هي التي انكسر إحدى قرنيها، وقد عضبت بالكسر وأعضبتها أنا وكبش أعضب بَيِّن العضب، وناقة عضباء أي مشقوقة الأذن وكذلك الشاة، وأما ناقة رسول الله -عليه السلام- التي كانت تسمى عضباء فإنما كان ذلك لقبًا لها ولم تكن مشقوق الأذن. ¬

_ (¬1) "النهاية في غريب الحديث" (4/ 8).

قوله: "ولا جدعاء" الجدع قطع الأنف والأذن أو الشفة وهو بالأنف أخص فإذا أطلق غلب عليه. قوله: "أن نستشرف" أي بأن نستشرف أي بالاستشراف وقال الترمذي: أي ننظر أصحيحة أم لا، والاستشراف: أن تضع يدك على حاجبك وتنظر كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء وأصله من الشرف: العلو، كأنه ينظر إليه من موضع مرتفع فيكون كثر لإدراكه، والمعنى ها هنا: أن يتأمل سلامة العين والأذن من آفة تكون بهما، وقيل: هو من الشرفة، وهي خيار الآل، أي أمرنا أن نتخيرها. قوله: "إذا بلغت المنسك" أي الذبح من نسك ينَسْك إذا ذبح والنسيكة الذبيحة وتجمع على نسك ثم المنسك بفتح السين وبكسرها وقد روي بهما في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (¬1). ص: فإن قال قائل: فأنت لا تكره عضباء القرن وفي حديث جُري بن كليب عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- النهي عنها. قيل له: إنما تركنا ذلك لأن عليًّا -رضي الله عنه- لم ير بأسًا فيما قد رويناه عنه في حديث حجية بن عدي فعلمنا بذلك أن عليًّا -رضي الله عنه- لم يقل بعد رسول الله -عليه السلام- خلاف ما قد سمعه من رسول الله -عليه السلام- إلا بعد ثبوت نسخ ذلك عنده. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن أبا حنيفة وأصحابه الذين هم من أهل المقالة الثانية قد احتجوا فيما ذهبوا إليه من أن العيوب الأربعة غير مختصة بمنع الأضحية بل غير ذلك أيضًا يمنع كما قد بيناه ومن جملة ما احتجوا به في ذلك حديث علي -رضي الله عنه- الذي رواه عنه جري بن كليب وفيه النهي عن عضباء القرن، ومع ذلك فهم يجيزون عضباء الأذن ولا يكرهونها فيكونون حينئذ تاركين لما قد احتجوا به فأجاب عنه بقوله: "إنما تركنا ذلك لأن عليًّا -رضي الله عنه- روي عنه في حديث حجية بن ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [67].

عدي أنه لم ير بذلك بأسًا حيث قال: "لا يضرك" لما سأله الرجل عن مكسورة القرن، فعلم من ذلك أن عليًّا -رضي الله عنه- لم يقل ما قاله بعد رسول الله -عليه السلام- بخلاف ما قد سمع عن النبي -عليه السلام- إلا بعد ثبوت نسخ ذلك عنده إذ لا يجوز على علي بن أبي طالب أن يفتي بخلاف ما سمع من النبي -عليه السلام- إلا بهذا الطريق، على أنا نقول: إن ابن حزم قد ضعَّف خبر جري بن كليب، حيث قال (¬1): وروي في الأعضب أثر أنه لا يجزئ ولا يصح لأنه من طريق جري بن كليب، وليس مشهورًا. ص: وأما حديث أبي سعيد الخدري الدي رويناه من حديث إبراهيم بن محمد الصيرفي فحديث فاسد في إسناده ومتنه وقد بين ذلك شعبة. حدثنا عبد الغني بن رفاعة أبو عقيل قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد قال: ثنا شعبة، عن جابر، عن محمد بن قرظة، عن أبي سعيد قال -ولم يسمعه منه-: "إنه اشترى كبشًا ليضحي به، فأكل الذئب ذنبه -أو بعض ذنبه- فسأل النبي -عليه السلام- عن ذلك، فقال: ضحِّ به". فقد فسد إسناد هذا الحديث بما ذكرنا وفسد متنه؛ لأنه قال: قطع ذنبه أو بعض ذنبه فإن كان البعض هو المقطوع فيجوز أن يكون ذلك أقل من ربعه، وذلك لا يمنع أن يضحى به في قول أحد من الناس، ولو كان الحديث كما رواه إبراهيم بن محمد أنه قطع أليته لاحتمل أن يكون ذلك على بعضها؛ لأنه قد يقال: قطع أليته إذا قطع بعضها، كما يقال: قطع أصبعه إذا قطع بعضها. فتصحيح هذه الآثار يمنع أن يضحى بالأربع التي في حديث البراء: أو بالمقابلة أو بالمدابرة وهي المشقوقة أكثر أذنها من قبلها أو دبرها فإذا كان ذلك لا يجزئ في الأضاحي فالمقطوعة الأذن أحرى أن لا تجزئ، وكذلك في النظر عندنا كل عضو قطع من شاة مثل ضرعها أو أليتها فذلك يمنع أن يضحى بها وكل ما كان من هذا ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 360).

يمنع أن يضحى به إذا قطع بكماله فقطع بعضه، فإن أصحابنا مختلفون في ذلك فأما أبو حنيفة فروي عنه: أن المقطوع من ذلك إذا كان ربع ذلك العضو فصاعدًا لم يضح بما قطع ذلك منه، وإن كان أقل من الربع ضحى به. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان المقطوع من ذلك هو النصف فصاعدًا فلا يضحى بما قطع ذلك منه وإن كان أقل من النصف فلا بأس أن يضحى به. إلا أن أبا يوسف ذكر هذا القول لأبي حنيفة، فقال له: قولي مثل قولك، فثبت بذلك رجوع أبي حنيفة عن قوله الذي قد كان قاله إلى ما حدثه [به] (¬1) أبو يوسف وقد وافق ذلك من قولهم ما روينا عن سعيد بن المسيب في هذا الباب في تفسير العضباء التي قد نهي عن الأضحية بها وأنها المقطوع نصف أذنها، وكل ما كان من هذا لا يكون أضحية لما قد نقص منه فإنه لا يكون هديا. ش: هذا جواب عن حديث أبي سعيد الخدري الذي هو من جملة ما احتج به أهل المقالة الأولى، تقريره: أن هذا لا يصلح للاحتجاج لأنه فاسد من جهة الإسناد ومن جهة المتن. أما من جهة الإسناد فلأن راويه عن أبي سعيد هو محمد بن قرظة وقد بين شعبة بن الحجاج في روايته هذا الحديث أنه لم يسمع هذا الحديث عن أبي سعيد ففسد بهذا إسناد الحديث. قلت: وقد أفسد ابن حزم إسناد هذا الحديث من جهة أخرى وهو من جهة جابر بن يزيد الجعفي فقال فيه: إنه كذاب. وأما من جهة المتن: فلأنه قال في رواية شعبة: "فأكل الذئب ذنبه أو بعض ذنبه" بالشك فإن كان الصحيح أن المقطوع هو البعض فيجوز أن يكون ذلك أقل من ربعه، وذلك لا يمنع أن يضحى به في قول أحدٍ من الفريقين وغيرهم، وإن كان الصحيح كما رواه محمد بن قرظة في رواية إبراهيم بن محمد الصيرفي الذي مضى ذكره عند ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

احتجاج أهل المقالة الأولى بهذا الحديث "فعدا الذئب فقطع أليته" فهو أيضًا يحتمل؛ لأنه يجوز أن يكون المراد: بعضه بأن ذكر الألية كلها وأراد بعضها؛ لأنه قد يجوز أن يقال: قطع أليته، والحال أن المقطوع بعضها، كما يقال: قطع أصبعه إذا أقطع بعضها ففسد بذلك متن الحديث أيضًا، وباقي الكلام ظاهر. قوله: "وكل ما كان من هذا" كلام إضافي مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، وهي قوله: "فقطع بعضه"، فإن أصحابنا مختلفون في ذلك. فإن قيل: ما هذه "الفاء" في خبر المبتدأ الثاني؟ وأين العائد إلى المبتدأ الأول؟ قلت: أما "الفاء" فلأن يدخل الخبر "من" لا بد من سبب وهو على ضربين: موجب ومجوز فالموجب يقدم "أما" كقوله تعالى،: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} (¬1). وأما المجوز فيما إذا كان المبتدأ واقعًا موقع "مَنْ" الشرطية، أو "ما" أختها ومواضعها كثيرة منها أن يكون المبتدأ مضافًا، فلأجل هذا ها هنا دخلت "الفاء"، وأما العائد فقد استغني عنه ها هنا باسم الإشارة وهو قوله: "في ذلك" ولا شك أنه إشارة إلى المبتدأ هو كالضمير الذي يعود إليه. ... ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [26].

ص: باب: من نحر يوم النحر قبل أن ينحر الإمام

ص: باب: من نحر يوم النحر قبل أن ينحر الإمام ش: أي هذا باب في بيان حكم من ذبح أضحيته قبل ذبح الإِمام هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا محمد بن علي بن داود قال: ثنا [سنيد] (¬1) بن داود قال: ثنا حجاج ابن محمد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير أخبره عن جابر -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي -عليه السلام- قد نحر، فأمر من كان نحر قبله أن يذبح آخر ولا ينحروا حتى ينحر النبي -عليه السلام-". ش: محمد بن علي بن داود البغدادي يعرف بابن أخت غزال، وثقة [ابن] (¬2) يونس. وسنيد بن داود بن سعيد المدني قال يحيى: ليس بثقة. وقال ابن عدي: روى عنه البخاري، ولم يذكر ذلك غيره، وقال الدارقطني: فيما رواه عنه البرقاني أن البخاري ذكره في الاحتجاج. وحجاج بن محمد المصيصي الأعور روى له الجماعة. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي روى له الجماعة. وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. والحديث أخرجه مسلم (¬3): حدثني محمد بن حاتم قال: ثنا محمد بن بكر قال: أنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يقول: "صلى بنا النبي -عليه السلام- يوم النحر بالمدينة. . ." إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "من كان نحر قبله أن يعيد فينحر آخر". ¬

_ (¬1) في الأصل: "سعيد" وهو تحريف والمثبت من "شرح معاني الآثار" وسنيد بن داود هذا هو راوية حجاج بن محمد المصيصي وهو مصيصي مثله. (¬2) سقط من "الأصل". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1555 رقم 1964).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا يجوز لأحد أن ينحر حتى ينحر الإِمام وإن نحر قبل ذلك بعد الصلاة أو قبلها لم يجزه ذلك واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وتأولوا قول الله -عز وجل-: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1) على ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكًا والشافعي وأصحابهم فإنهم قالوا: لا يجوز لأحد أن ينحر حتى ينحر الإِمام. قال أبو عمر بن عبد البر (¬2): "أجمع العلماء على أن وقت الأضحى مؤقت بوقت لا يتقدم؛ إلا أنهم اختلفوا في تعيين ذلك وأجمعوا على أن الذبح لأهل الحضر لا يجوز قبل الصلاة، وأما الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإِمام فموضع اختلف فيه العلماء لاختلاف الآثار، فذهب مالك والشافعي وأصحابهما، والأوزاعي إلى أنه لا يجوز لأحد أن يذبح [أضحيته] (¬3) قبل ذبح الإِمام. وقال ابن حزم في "المحلى": الوقت الذي حددنا هو وقت صلاة النبي -عليه السلام- وهو قول الشافعي وأبي سليمان، إلا أن [الشافعي] (¬4) لم يجز الأضحية قبل تمام الخطبة، وقال سفيان: إن ضحى قبل الخطبة أجزأه. وقال مالك: من ضحى قبل أن يضحي الإِمام فلم يُضج، ثم اختلف أصحابه فطائفة قالت: الإِمام هو أمير المؤمنين، وطائفة قالت: بل هو أمير البلد وطائفة قالت: بل هو الذي يصلي بالناس صلاة العيد. قوله: "فتأولوا قول الله -عز وجل-: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} على ذلك" أي على النحر يوم العيد. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، آية: [1]. (¬2) "التمهيد" (23/ 181) بتصرف من المؤلف -رحمه الله-. (¬3) في "الأصل، ك": "ضحية" والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) في "الأصل، ك": "الشافعية" والمثبت من "المحلى" (7/ 274).

وقال أبو عمر (¬1): قال معمر عن الحسن في قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2): نزلت في قوم ذبحوا قبل أن ينحر النبي -عليه السلام- أو قبل أن يصلي، فأمرهم النبي -عليه السلام- أن يعيدوا. قلت: أخرج عبد الرزاق عن معمر ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من نحر بعد صلاة الإِمام أجزأه ذلك ومن نحر قبل الصلاة فلم يجزئه ذلك. ش: أي خالف القومَ المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا وأحمد، فأنهم قالوا: من نحر بعد صلاة الإِمام أجزأه ذلك، وإذا نحر قبل الصلاة لم يجزئه. وقال أبو عمر: قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والليث بن سعد: لا يجوز ذبح الأضحية قبل الصلاة ويجوز بعد الصلاة قبل أن يذبح الإِمام، وقال أحمد بن حنبل: إذا انصرف الإِمام فاذبح، وهو قول إبراهيم، وقال إسحاق: إذا فرغ الإِمام من الخطبة فاذبح، واعتبر الطبري قدر مضي وقت صلاة النبي -عليه السلام- وخطبته بعد ارتفاع الشمس، وحكى المزني نحوه عن الشافعي، وذكر الربيع بن سليمان في كتاب "البويطي عن الشافعي"، قال: قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الإِمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. ص: وقالوا: قد روي عن ابن الزبير: أن هذه الآية نزلت في غير هذا، فذكروا ما حدثنا محمد بن عبد الله الأصبهاني قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل قال: ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج أن ابن أبي مليكة أخبره، أن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- أخبره: "أن ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) "التمهيد" (23/ 182). (¬2) سورة الحجرات، آية: [1].

فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول أَمِّرْ القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر -رضي الله عنه- أَمِّرْ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت بذلك إلا خلافي، فقال عمر -رضي الله عنه-: ما أردت بذلك خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ش: أي قال الآخرون: قد روي عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1) نزلت في غير هذا المعنى أي المعنى الذي ذكره أهل المقالة الأولى، وهو النحر قبل أن ينحر النبي -عليه السلام-، أو قبل أن يصلي، علي ما مَرَّ. بيان ذلك: أن ابن الزبير قد بين في حديثه الذي أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عن محمد بن عبد الله الأصبهاني عن إسحاق بن إبراهيم وهو إسحاق بن أبي إسرائيل وأبو إسرائيل [كنية] (¬2) إبراهيم شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه يحيى بن معين. عن هشام بن يوسف الصنعاني روى له الجماعة إلا مسلمًا. عن عبد الملك بن جريج، وعن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير ومؤذنًا له، روى له الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬3): عن ابن المثنى، عن مؤمل بن إسماعيل، عن نافع بن عمر بن عبد الحميد، عن ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير، وقال: حسن غريب وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسل، ولم يذكر ابن الزبير. وأخرجه النسائي (¬4): عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج، عن ابن ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، آية: [1]. (¬2) في "الأصل، ك": "كنيته"، وهو تحريف. (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 387 رقم 3266). (¬4) "المجتبى" (8/ 226 رقم 5386).

جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره: "أنه قدم ركب من بني تميم. . ." الحديث. سبب نزول هذه الآية وهو ينافي ما تأوله أهل المقالة الأولى في الآية المذكورة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: معنى الآية: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقال الجصاص: يحتج بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي -عليه السلام- في تقديم [الفروض] (¬1) عن أوقاتها وتأخيرها عنها، وقد يحتج [بها] (¬2) من يوجب أفعال النبي -عليه السلام- لأن من ترك [ما] (¬3) فعله تقدمًا بين يديه [كما أن في ترك أمره تقدمًا بين يديه] (5) وليس كما ظنوا؛ لأن المتقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعلنا غيره فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقدم بين يديه ويحتج به نفاة القياس أيضًا، ويدل ذلك على جهل المحتج به؛ لأن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة والإجماع على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس فيه إذًا تقدم بين يديه. قوله: "أمّر القعقاع" أمرٌ من التأمير، والقعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس ابن يزيد بن عبد الله بن دارم التميمي كان من سادات تميم، وفد علي النبي -عليه السلام- في وفد تميم. قوله: "فتماريا" أي تجادلا وتجاذبا. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن حديث جابر -رضي الله عنه- قد روي على غير هذا اللفظ: حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش قال: ثنا الحجاج بن منهال قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الفرض" والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 277). (¬2) في "الأصل، ك": "به" والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص. (¬3) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص.

النبي -عليه السلام- عَتُودًا جذعًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تجزئ عن أحدٍ بعدك ونهى أن يذبحوا قبل أن يصلي". ففي هذا الحديث أن النهي من النبي -عليه السلام- إنما قصد به إلى النهي عن الذبح قبل الصلاة لا قبل ذبحه هو، فلا يجوز أن ينهاهم عن الدبح قبل أن يصلي إلا وهو يريد بذلك إعلامهم إباحة الذبح لهم بعدما يصلي، وإلا لم يكن لذكره الصلاة معنى. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه من جواز النحر قبل الإِمام إذا كان بعد صلاته حديث جابر بن عبد الله الذي روي على غير اللفظ الذي احتج به أهل المقالة الأولى. بيان ذلك: أنه -عليه السلام- نهى في هذا الحديث الذي أخرجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن محمد. . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1) أيضًا: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي النبي -عليه السلام- عتودًا جذعًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تجزئ عن أحد بعدك ونهى أن يذبحوا حتى يصلوا". فنهى عن الذبح قبل الصلاة لا قبل الذبح، إذْ لو كان قصده النهي عن الذبح قبل أن يذبح هو لم يكن لذكره الصلاة معنى. قوله: "عتودًا" بفتح العين المهملة وضم التاء المثناة من فوق المخففة وهو الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول ويجمع على أعتدة وعدان، وأصله: عتدان، فأدْغم. قوله: "جذعًا" صفة للعتود أراد به عتودًا شابًّا قويًّا، والجذع: ما كان من الدواب شابًّا فتيًّا، وهو في الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن ما تمت له سنة، وقيل: أقل ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 346 رقم 14969).

منها، ومنهم من يخالف بعض هذا التقدير، وقال أبو عمر (¬1): "العناق والعتود والجفرة لا تكون إلا من ولد المعز خاصة، ولا تكون من ولد الضأن، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل اللغة، وفيها قال -عليه السلام- لأبي بردة: "لا تجزئ عن أحد بعدك" وهو أمر مجتمع عليه عند العلماء؛ أن الجذع من المعز لا يجزئ اليوم عن أحد؛ لأن أبا بردة خص بذلك. وقال أهل اللغة: الجفر والجفرة والعريض والعتود أسماء كلها تقع على الجدي خاصة والجدي الذكر، والأنثى: عناق من أولاد المعز خاصة، والجفرة منها ما كان يرضع وينال من الكلأ، فيجتمع فيه الرضع والكلأ. واختلف في سن الجذع من الضأن فقيل: سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، وقيل: ابن عشرة أشهر، وقيل: ما بين الستة أشهر إلى عشرة أشهر، وقيل: ما بين ثمانية أشهر إلى السنة، وأول سن يقع من البهائم فهو جذع، والسن الثانية إذا وقعت فهو ثني، والسن الثالثة إذا وقعت فهو رباع، فإذا استوت أسنانه فهو قارح من ذوات الحافر، ومن الإبل بازل، ومن الغنم ضالع. قالوا: وأما أولاد الضأن فهو الخروف والبذج والحمل، ويقال له: رخل، فإذا أتى عليه الحول فالذكر كبش والأنثى نعجة وضانية، وإذا أتى على ولد المعز الحول فالذكر تيس والأنثى عنز، والسخلة والبهمة يقال في أولادهما جميعًا. قلت: العريض -بفتح العين وكسر الراء المهملتين وفي آخره ضاد معجمة- وهو الذي أتى عليه من المعز سنة، وتناول الشجرة والنبت بعرض شدقه، ويجمع على عرضان. و"البَذَج" -بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة وفي آخره جيم- قال الجوهري: هو من أولاد الضأن بمنزلة العتود من أولاد المعز وجمعه بذجان. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (23/ 185).

"والرخل" -بكسر الراء والخاء المعجمة وفي آخره لام- قال الجوهري: الرخل الأنثى من أولاد الضأن والذكر حمل والجمع: رُخُل ورخال أيضًا بالضم، وقال غيره: رخلان أيضًا بالكسر والضم. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام- ما يوافق هذا. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير قالا: ثنا شعبة، عن زبيد اليامي قال: سمعت الشعبي يحدث عن البراء بن عازب قال: "خرج إلينا رسول الله -عليه السلام- يوم أضحى إلى البقيع فبدأ فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء فقال خالي: يا رسول الله إني ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة، فقال: اذبحها ولا تجزئ -أو لا توفي- عن أحد بعدك". حدثنا محمد بن علي بن داود قال: ثنا عفان بن مسلم قال: ثنا شعبة قال: أخبرني زبيد ومنصور وداود وابن عون ومجالد عن الشعبي -وهذا حديث زبيد- قال: سمعت الشعبي ها هنا يحدث عن البراء عند سارية في المسجد ولو كنت قريبًا منها لأخبرتكم بموضعها ثم ذكر مثله. حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد عن الشعبي، عن البراء عن النبي -عليه السلام-. . . مثله إلا أنه قال: "اذبحها" ولا تزكي جذعة بعد". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث قول النبي -عليه السلام-: "إن أول نسكنا هو أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا فأخبر أن النسك في يوم النحر هو الصلاة ثم الدبح بعدها، فدل ذلك على أن ما يحل به الذبح هو الصلاة، لا نحر الإِمام الذي يكون بعدها وعلى أن حكم النحر بعد الصلاة خلاف حكم النحر قبلها.

ش: أي قد روي فيما ذكرنا من المعنى أيضًا عن غير جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام- ما يوافق هذا المعنى وهو أن النهي إنما قصد به عن الذبح قبل الصلاة، لا قبل الذبح، وهو حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن زُبَيْد -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- اليامي، ويقال: الإيامي روى له الجماعة، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-. وأخرجه الجماعة إلا ابن ماجه: فالبخاري أخرجه في مواضع: في العيدين (¬1): عن آدم بن أبي إيالس، عن غندر، عن شعبة، عن زبير، عن الشعبي، عن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم ننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن تعجل فإنما هو لحم قدمه لأهله"، وكان أبو بردة بن نيار ذبح قبل الصلاة قال: يا رسول الله إن عندي جذعة خير من مسنة، قال: اجعلها مكانها ولن تجزئ عن أحد بعدك". وفي العيدين والأضاحي (¬2): عن حجاج بن المنهال. وفي الأضاحي (¬3): عن بشار، عن غندر، كلهم عن شعبة، عن زبيد. وفي الأضاحي: عن موسى (¬4)، عن أبي عوانة، عن فراس. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 328 رقم 922). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 324 رقم 908). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2109 رقم 5225). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2114 رقم 5234).

وفي العيدين (¬1): عن أبي نعيم، عن محمد بن طلحة، عن زُبَيْد. وعن عثمان (¬2) بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور. وعن (¬3) مسدد عن أبي الأحوص عن منصور. وفي الأضاحي (¬4): عن مسدد، عن خالد الواسطي، عن مطرف قال: وتابعه عبيدة، عن الشعبي، قال: وتابعه وكيع، عن حريث، عن الشعبي قال: وقال: عاصم وداود: عن الشعبي. وفي الأيمان والنذور (¬5): كتب إليَّ محمد بن بشار قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون كلهم عن الشعبي. وأخرجه مسلم (¬6) في الذبائح: عن يحيى بن يحيى، عن خالد، عن مطرف. وعن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن داود بن أبي هند. وعن أبي موسى، عن ابن أبي عدي، عن داود. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن زكرياء، عن فراس. وعن أبي موسى، عن ابن أبي عدي، عن داود. وبندار، عن غندر، عن شعبة. وعن عبد الله بن معاذ بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن زبيد. وعن هناد وقتيبة، عن أبي الأحوص. وعن منصور، عن عثمان وإسحاق بن راهويه، عن جرير، عن منصور. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 331 رقم 933). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 325 رقم 912). (¬3) "صحيح البخاري" (1/ 334 رقم 940). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2112 رقم 5236). (¬5) "صحيح البخاري" (6/ 2456 رقم 6269). (¬6) "صحيح مسلم" (3/ 1552, 1553، 1554 رقم 1961).

وعن أحمد بن سعيد الدارمي عن أبي النعمان محمد بن الفضل عن عبد الواحد ابن زياد عن عاصم كلهم عن الشعبي عن البراء بن عازب. وأخرجه أبو داود (¬1) في الأضاحي: عن مسدد عن أبي الأحوص عن منصور عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي (¬2) في الأضاحي أيضًا: عن علي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي نحوه، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3) في الصلاة: عن عثمان بن عبد الله عن عفان عن شعبة عن منصور وداود وابن عون ومجالد وزبيد عن الشعبي نحوه. وعن (¬4) محمد بن عثمان بن أبي صفوان عن بهز عن شعبة عن زبيد نحوه. وفي الأضاحي (¬5): عن قتيبة عن أبي الأحوص عن منصور. وعن هناد (¬6) عن ابن أبي زائدة عن أبيه عن فراس عن الشعبي فذكر أحدهما ما لم يذكر الآخر. الطريق الثاني: عن محمد بن علي بن داود البغدادي عن عفان بن مسلم الصفار عن شعبة بن الحجاج عن زبيد بن الحارث ومنصور بن المعتمر وداود بن أبي هند وعبد الله بن عون المزني ومجالد بن سعيد الهمداني الكوفي خمستهم عن عامر الشعبي، وهؤلاء كلهم ثقات، غير أن مجالدا تكلم فيه يحيى بن معين، وقال أحمد: ليس بشيء. وهذا لا يضر صحة الإِسناد؛ لأنه ذكر فيه متابعة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 96 رقم 2800). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 93 رقم 1508). (¬3) انظر "تحفة الأشراف" (2/ 22 رقم 1769). (¬4) "المجتبى" (3/ 182 رقم 1563). (¬5) "المجتبى" (7/ 223 رقم 4395). (¬6) "المجتبى" (7/ 222 رقم 4349).

وبهذا الطريق أخرجه النسائي وقد ذكرناه. الطريق الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي عن أبي المطرف بن أبي الوزير، وهو محمد بن عمر بن مطرف البصري عن محمد بن طلحة بن مطرف اليامي عن زبيد اليامي عن عامر الشعبي. وأخرجه البخاري في بعض طرقه بهذا الإِسناد وقد ذكرناه. قوله: "إلى البقيع" بالباء الموحدة، وهو بقيع الغرقد وهو موضع بظاهر المدينة فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد فذهب وبقي اسمه، والبقيع في الأصل اسم للمكان المتبقع ولا يسمى بقيعا إلا وفيه شجر أو أصولها. قوله: "إن أول نسكنا" بضم النون والسين وسكون السين أيضًا، وهو ما أمرت به الشريعة، والنسك أيضًا الطاعة والعبادة و [كل ما] (¬1) تقرب به إلى الله تعالى، والناسك: العابد. قوله: "فقال خالي" وهو أبو بردة بن نيار وهو خال البراء بن عازب، وإسحق هانئ بن نيار البلوي المدني. قوله: "عندي جذعة" بالفتحات وقد مر تفسيرها عن قريب مستقصى. ويستفاد منه أحكام: استحباب قيام صلاة العيد في الجبانة وأن صلاة العيد ركعتان، وأن وقت النحر بعد الفراغ من الصلاة وأن الجذعة من المعز لا يجوز الأضحية بها وأن هذا كان مختصًا بأبي بردة. ص: وقد روى مثل هذا أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير البراء: حدثنا أبو بكرة قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل قال: ثنا سفيان عن الأسود بن قيس عن جندب قال: "شهدت النبي -عليه السلام- يوم النحر فمر بقوم قد ذبحوا قبل أن يصلي فقال: من كان ذبح قبل الصلاة فليعد، فإذا صلينا فمن شاء ذبح ومن شاء فلا يذبح". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كلما".

حدثنا ابن مرزوق قال: نا وهب ثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن جندب بن عبد لله قال: قال النبي -عليه السلام- يعني يوم النحر: "من كان ذبح قبل أن يصلي فليعد أخرى مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان عن الأسود بن قيس سمع جندب يقول: "شهدت الأضحى مع رسول الله -عليه السلام- فعلم أن ناسًا ذبحوا قبل الصلاة فقال: من كان ذبح فليعد ومن لا فليذبح على اسم الله". حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا أبو الأحوص عن الأسود بن قيس عن جندب -رضي الله عنه- قال: "شهدت رسول الله -عليه السلام- وقد صلى بالناس العيد، فإذا هو بغنم قد ذبحت، فقال: من كان ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله". ش: أي قد روى مثل ما روى البراء عن النبي -عليه السلام- غيره من الصحابة منهم جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي. وأخرجه من أربع طرق صحاح. الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي عن مؤمل بن إسماعيل القرشي البصري عن سفيان الثوري عن الأسود بن قيس العبدي البجلي الكوفي عن جندب بن عبد الله البجلي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا وكيع، ثنا سفيان وعبد الرحمن عن الأسود بن قيس العبدي سمعت جندب بن سفيان العلقي حيٌّ من بجيلة يقول: قال رسول الله -عليه السلام-. وقال عبد الرحمن: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- يوم الأضحى على قوم قد ذبحوا ونحروا، وقوم لم يذبحوا ولم ينحروا، فقال: من ذبح أو نحر قبل صلاتنا فليعد، ومن لم يذبح أو ينحر فليذبح أو ينحر باسم الله". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 313 رقم 18827).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق عن وهب بن جرير عن شعبة عن الأسود بن قيس عن جندب بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ قال: ثنا أبي قال: ثنا شعبة عن الأسود سمع جندب البجلي قال: "شهدت رسول الله -عليه السلام- صلى يوم أضحى ثم خطب فقال: من كان ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها ومن لم يكن ذبح فليذبح باسم الله". وأخرجه البخاري (¬2) في العيدين: عن مسلم بن إبراهيم. وفي الأضاحي (¬3): عن آدم. وفي النذور (¬4): عن سليمان بن حرب. وفي التوحيد (¬5): عن حفص بن عمر كلهم عن شعبة. وفي الذبائح (¬6): عن قتيبة عن أبي عوانة. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس عن جندب. . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬7): ثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس عن جندب البجلي أنه سمعه يقول: "شهدت الأضحى مع النبي -عليه السلام- فذبح أناس قبل الصلاة، فقال النبي -عليه السلام-: من كان منكم ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته، ومن لا فليذبح على اسم الله". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1552 رقم 1960). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 334 رقم 942). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2114 رقم 5242). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2456 رقم 6297). (¬5) "صحيح البخاري" (6/ 2693 رقم 6965). (¬6) "صحيح البخاري" (5/ 2095 رقم 5181). (¬7) "سنن ابن ماجه" (2/ 1053 رقم 3152).

الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي عن الأسود بن قيس عن جندب. وأخرجه النسائي (¬1): عن هناد عن أبي الأحوص عن الأسود بن قيس. . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا أبو أمية قال: ثنا عبيد الله بن عمر قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد قال حماد: ولا أعلمه إلا عن أنس وهشام، عن محمد، عن أنس -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحًا". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فدل ما ذكرنا أن أول وقت الذبح يوم النحر هو من بعد الصلاة لا من بعد ذبح الإِمام؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: إسناده صحيح وأبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي أيضًا وعبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين. وأخرجه مسلم (¬2): أنا محمد بن عبيد الغبري قال: ثنا حماد بن زيد قال: نا أيوب وهشام، عن محمد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحًا". قوله: "أن يعيد ذبحًا" الذبح -بكسر الذال- ما يذبح من الأضاحي وغيرها من الحيوان -وبالفتح- الفعل نفسه. ص: وأما ما يدل عليه النظر، فإنا قد رأينا الأصل المجتمع عليه: أن الإِمام لو لم ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 214 رقم 4368). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1555 رقم 1962).

ينحر أصلاً؛ لم يكن ذلك بمسقط عن [الناس] (¬1) النحر ولا بمانع لهم من النحر في ذلك العام. وقد روي عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة -رضي الله عنه- ما قد حدثنا ابن مرزوق، ثنا أشهل بن حاتم، ثنا شعبة، عن سعيد بن مسروق عن الشعبي، عن أبي سريحة: "أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان". حدثنا صالح بن عبد الرحمن وروح بن الفرج قالا: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن الشعبي، عن أبي سريحة قال: "لقد رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- وما يضحيان" أَفَتَرى ما ضحى في تلك السنين أحدٌ؟ إذ كان إمامهم لم يضح أولا ترى أن إماما لو تشاغل يوم النحر بقتال عدو أو غيره فشغله ذلك عن النحر، أما لغيره ممن أراد أن يضحي أن يضحي؟! فإن قال قائل: إنه ليس لأحد أن يضحي في عامه ذلك. خرج بهذا عن قول الأئمة، وإن قال: للناس أن يضحوا إذا زالت الشمس لذهاب وقت الصلاة، فقد دل على أن ما يحل به النحر ما كان [في] (1) وقت صلاة العيد، فإنما هي الصلاة لا نحر الإِمام، وإذا صلى الإِمام حل النحر لمن أراد أن ينحر، أولا يرى أن الإِمام لو نحو قبل أن يصلي لم يجزه ذلك، وكذلك سائر الناس؟ وكان الإِمام وغيره في الذبح قبل الصلاة سواء في أن لا يجزئهم. فالنظر على ذلك أن يكون الإِمام وسائر الناس أيضًا سواء في الذبح بعد الصلاة يجزئه، وكذلك ذبح سائر الناس بعد الصلاة يجزئهم هذا هو النظر في هذا وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما ما يدل عليه وجه النظر والقياس. . . إلى آخره وهو ظاهر. وأخرج أثر أبي سريحة من طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن أشهل بن حاتم الجمحي البصري عن شعبة عن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي والد سفيان الثوري عن عامر الشعبي عن حليفة بن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين- بن خالد الغفاري يكنى أبا سريحة بايع تحت الشجرة ونزل الكوفة ومات بها. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الثوري، عن أبيه ومطرف وإسماعيل، عن الشعبي، عن أبي سريحة الغفاري قال: "أدركت -أو رأيت- أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-[كانا لا] (¬2) يضحيان". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن وروح بن الفرج القطان كلاهما عن يوسف ابن عدي بن زريق عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن سعيد بن مسروق عن عامر الشعبي عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد. وأخرجه الشافعي (¬3) -رضي الله عنه- وقال: "بلغنا أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهة أن يقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة". وقد يحتج بهذا الأثر من يذهب إلى أن الأضحية غير واجبة، وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور. وقال مالك: الأضحية أفضل من الصدقة إلا بمنى، لأنه ليس بموضع أضحية. وقال ربيعة وأبو الزناد وأحمد بن حنبل: الأضحية أفضل من الصدقة. وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ولا تجب على بدوي. وقال أبو يوسف ومحمد: الأضحية ليست بواجبة ولكنها سنة. وقال إبراهيم النخعي: الأضحية واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 265 رقم 18813). (¬2) في "الأصل, ك": "وما"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى". (¬3) "الأم" (2/ 224).

وقد أجيب عما روي عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، أنهما تركا الأضحية مخافة أن يظنوا أنها فريضة. وقال أبو عمر: هذا محمله عند أهل العلم لئلا يعتقد فيها -للمواظبة عليها- أنها واجبة فرض، وكانوا أئمة يقتدى بهم من بعدهم لأنهم الواسطة بين النبي -عليه السلام- وبين أمته فساغ لهم الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. قوله: "أفترى" الهمزة فيه للاستفهام وكذلك في قوله: "أو لا ترى". قوله: "أما لغيره" بفتح الهمزة وتخفيف الميم. قوله: "أن يضحي أن يضحي" مرتين: الأول: مفعول لقوله: "أراد" في محل النصب. والثاني: في محل الرفع على الابتداء و"أن" مصدرية وخبره قوله: "أما لغيره" وتقدير الكلام: أما لغير الإِمام ممن أراد أن يضحي التضحية؟ فافهم. ***

ص: باب: البدنة عن كم تجزئ في الضحايا والهدايا؟

ص: باب: البدنة عن كم تجزئ في الضحايا والهدايا؟ ش: أي هذا باب في بيان البدنة عن كم نفس تجزئ إذا ضحي بها، والبدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه، وسميت بدنة لعظمها وسمنها. ص: حدثنا فهد قال: ثنا يوسف بن بهلول قال: ثنا عبد الله بن إدريس قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "خرج رسول الله -عليه السلام- عام الحديبية يريد زيارة البيت وساق معه الهدي، وكان الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبع مائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة". ش: رجالة ثقات ويوسف بن بهلول التميمي الأنباري نزيل الكوفة وشيخ البخاري، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري والمسور بن مخرمة بن نوفل القرشي له ولأبيه صحبة توفي رسول الله -عليه السلام- وهو ابن ثمان سنين، وقد روى عن رسول الله -عليه السلام- وصح سماعه عنه. ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الأموي ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل: بأربع، ولم يصح له سماع من النبي -عليه السلام-، وقد روى عن النبي -عليه السلام- حديث الحديبية بطوله ولم ير النبي -عليه السلام-؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلا، لا يعقل لما نفى النبي -عليه السلام- أباه الحكم وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان -رضي الله عنه- فردهما. والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو شعيب الحراني نا أبو جعفر النفيلي ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما قالا: "خرج رسول الله -عليه السلام- عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبع مائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 15 رقم 14).

وأخرج البخاري (¬1) حديث المسور ومروان في أمر الحديبية في مواضع متعددة مطولا ومختصرًا. فأخرج في الوكالة وفي الخمس وفي المغازي: عن سعيد بن عفير. وفي العتق والهبة: عن سعيد بن أبي مريم. وفي الهبة وفي الصلح: عن ابن بكير ثلاثتهم عن الليث عن عقيل. وفي الحج: عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك عن معمر مختصرًا. وعن محمود عن عبد الرزاق عن معمر. وفى الشروط: بطوله عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر. وفي المغازي: عن إسحاق عن يعقوب عن ابن أخي الزهري مختصرًا. وفي الأحكام: عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم عن موسى بن عقبة مختصرًا. وفي المغازي: عن علي عن ابن عيينة مختصرًا كلهم عن الزهري عن عروة بهذا. وفي المغازي أيضًا: عن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة قال: سمعت الزهري حين حدث هذا وتبعني معمر فذكره. وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) مختصرًا. ص: قال: أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن البدنة تجزئ في الهدايا والضحايا عن عشرة واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق ومالكًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: تجزئ البدنة في الضحايا والهدايا عن عشرة أنفس وهو مذهب الظاهرية، ¬

_ (¬1) انظر "تحفة الأشراف" للمزي (8/ 371 - 372 رقم 11250). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 146 رقم 1754). (¬3) "المجتبى" (5/ 169 رقم 2771).

إلا أن مذهب مالك على التفصيل على ما نذكره الآن، وروي ذلك عن بن عباس، وعلي، وحذيفة، وجابر -رضي الله عنهم-، قاله ابن حزم (¬1). وقال أبو عمر (¬2): اختلفوا في البدنة والبقرة هل تجزئ عن سبعة محصرين أو متمتعين أم لا؟ فقال مالك: لا يجوز الاشتراك في الهدي ولا البقرة عن من وجب عليه دم إلا عن واحد، قال: ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب ولا في الضحايا. قال أبو عمر: لم يختلف عن مالك وأصحابه أنه يجوز الاشتراك في الهدي في الواجب إلا رواية شذت عند أصحابه عنه، واختلف قوله في الاشتراك في التطوع، فذكر ابن عبد الحكم عنه: لا بأس بذلك، وكذلك ذكر ابن المواز وروى ابن القاسم عنه: أنه لا يجوز الاشتراك في هدي تطوع أو واجب أو نذر أو جزاء أو فدية، وهو قول ابن القاسم قال: وأما الضحايا فجائز أن يذبح الرجل البدنة أو البقرة عن نفسه وعن أهل بيته، وإن كانو أكثر من سبعة يشركهم فيها, ولا يجوز عنده أن يشتروها بينهم بالشركة فيذبحونها بينهم، إنما تجزئ إذا تطوع عن أهل بيته ولا يجزئ عن الأجنبيين أو نحو هذا قال في "الموطأ": وقال الليث بن سعد مثله في الإبل والبقر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا تجزئ البدنة إلا عن سبعة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وطاووس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، والثوري، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور, فإنهم قالوا: "لا تجزئ البدنة إلا عن سبعة أنفس، وروي ذلك عن علي، وأنس بن مالك، وابن مسعود، وعائشة -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 119). (¬2) "التمهيد" (12/ 154).

ص: وقالوا: قد روي عن النبي -عليه السلام- في نحر البدن يوم الحديبية ما يخالف هذا وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عامر العقدي قال: ثنا مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه-: "أنهم نحروا يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار وأبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: "نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة نفر، فقيل لجابر: والبقرة؟ فقال: هي مثلها، وحضر جابر عام الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة". حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن عمران قال: حدثني أبي قال: حدثني ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "نحر رسول الله -عليه السلام- يوم الحديبية سبعين بدنة، وأمرنا أن يشترك منا سبعة في البدنة". حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: "نحرنا مع رسول الله -عليه السلام- سبعين بدنة البدنة عن سبعة". حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا هدبة بن خالد قال: سمعت أبان بن يزيد يحدث عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجزور عن سبعة". فهذا جابر بن عبد الله يخبر عن رسول الله -عليه السلام- بما ذكرنا وهو كان معه حينئذ. ش: أي قال هؤلاء الآخرون: قد روي عن النبي -عليه السلام- في نحر البدن -وهو جمع بدنة- يوم الحديبية ما يخالف ما رواه المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وما رواه جابر أولى بالعمل؛ لأنه يخبر عن رسول الله -عليه السلام- بشيء وهو كان حاضرًا هناك، وقد شاهد ذلك عن النبي -عليه السلام- بخلاف ما روى المسور ومروان، أما مروان فإنه لم ير رسول الله -عليه السلام- كما ذكرنا، وأما مسور فإنه وإن كان قد

صح سماعه عن النبي -عليه السلام- لكن لم يكن معه يوم الحديبية فخبر الذي أخبر عن مشاهدة وعيان أقوى من غيره وأولى بالعمل ولا سيما أنس -رضي الله عنه- قد روى عنه -عليه السلام- أنه قال: "الجزور عن سبعة". أما حديث جابر فأخرجه من خمس طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي عن مالك بن أنس عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة وعن يحيى بن يحيى عن مالك. الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن مالك عن أبي الزبير عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي (¬3) والترمذي (¬4): من طريق قتيبة عن مالك، وقال الترمذي: حسن صحيح. وابن ماجه (¬5) عن محمد بن يحيى الذهلي عن عبد الرزاق عن مالك. الثالث: على شرط مسلم عن محمد بن خزيمة عن عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري عن عبد الملك بن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير محمد بن مسلم كلاهما عن جابر. وأخرجه مسلم (¬6): عن محمد بن حاتم عن يحيى القطان وعن محمد بن حاتم عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 955 رقم 1318). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 98 رقم 2809). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 451 رقم 4122). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 89 رقم 1502). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1047 رقم 3132). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 955 رقم 1318).

محمد بن بكر، كلاهما عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: "اشتركنا بالحديبية ونحن مع النبي -عليه السلام- السبعة في البقرة والسبعة في البدنة". الرابع: عن فهد بن سليمان عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب" عن أبيه عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه فقال: عن أبي الزبير عن جابر -رضي الله عنه-. الخامس: بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي عن أبي عوانة الوضاح اليشكري عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سليمان بن قيس اليشكري البصري عن جابر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، ثنا أبو بشر، أنا سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله قال: "نحرنا مع رسول الله -عليه السلام- يوم الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة". وأما حديث أنس -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح عن أحمد بن داود المكي عن هدبة بن خالد البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود عن أبان بن يزيد العطار عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه-. قوله: "يوم الحديبية" وهو موضع من الأرض في أول الحرم منه حل ومنه حرم بينه وبين مكة نحو عشرة أميال أو خمسة عشر ميلًا، وهو وادٍ قريب من بلدح على طريق جدة، ومنزل النبي -عليه السلام- بها معروف مشهور بين الحل والحرم نزله النبي -عليه السلام-، واضطرب به بناؤه حين [صده] (¬2) المشركون عن البيت، وذلك سنة ست ونزل معه أصحابه، فعسكرت قريش لصد النبي -عليه السلام- بذي طوى وأتاه الحليس بن علقمة وابن زيان أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 353 رقم 14850). (¬2) في "الأصل، ك": صدّ والمثبت من "عمدة القاري" (12/ 147).

فأخبراه أنهم قد عسكروا بذي طوى، وحلفوا أن لا يدخلها عليهم عنوة أبدًا، وكان رسول الله -عليه السلام- قصد مكة زائرًا للبيت ومعظمًا له ولم يقصد لقتال قريش، فلما اجتمعوا لصده عن البيت بعث إليهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يخبرهم أن رسول الله -عليه السلام- لم يأت لحرب وإنما جاء زائرًا للبيت ومعظمًا له، فخرج عثمان -رضي الله عنه- حتى أتى مكة فأخبرهم بذلك فقالوا له: إن شئت أنت [أن] (¬1) تطوف بالبيت فطف وأما محمد فلا في عامه هذا فقال عثمان: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله -عليه السلام-، واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله -عليه السلام- أن عثمان قتل، فقال رسول الله -عليه السلام- حين بلغه ذلك: لا نبرح حتى نناجذ القوم. ودعا رسول الله -عليه السلام- إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون: بايعهم على الموت، وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: لم يبايعنا على الموت، وإنما بايعنا على أن لا نَفِرُّ، ثم أتى رسول الله -عليه السلام- أن الذي قيل من أمر عثمان -رضي الله عنه- وذكر من قتله باطل، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو العامري إلى الرسول -عليه السلام-، فصالحه عنهم، على أن يرجع عامه ذلك ولا يدخل مكة عليهم وأنه إذا كان عام قابل خرجت قريش عن مكة فيدخلها رسول الله -عليه السلام- وأصحابه وأقاموا بها ثلاثًا. . . إلى سائر ما قاضوه وصالحوه عليه مما ذكره أهل السير فسمي عام القضية وهو عام الحديبية، فلما فرغ رسول الله -عليه السلام- من الصلح قام إلى هديه فنحره وحل من إحرامه وأمر أصحابه أن يحلوا وينحروا ونحر وحلقوا رؤوسهم وقصر بعضهم فدعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدة وحلوا من كل شيء، وكان رسول الله -عليه السلام- قد أحرم يومئذ بعمرة ليأمن الناس حربه، وليعلموا أنه خرج زائرًا للبيت ومعظمًا له، واختلف في موضع نحره -عليه السلام- لهديه، فقال قوم: نحر في الحل، وقال آخرون: بل نحر في الحرم، وقد مر الكلام فيه مستقصى في كتاب الحج. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "عمدة القاري" (12/ 148).

ص: وقد روي عن علي وعبد الله -رضي الله عنهما- من [قوله] (¬1) ما يوافق هذا في البدنة أنها عن سبعة. حدثنا فهدٌ قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا إسرائيل عن عيسى بن أبي عَزَّةَ عن عامر عن علي وعبد الله -رضي الله عنهما- قالا: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة". ش: أي قد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ما يوافق من قولهما حديثي جابر وأنس -رضي الله عنهما- في حكم البدنة أنها تجزئ عن سبعة لا غير. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن عيسى بن أبي عزة واسمه مساك الكوفي ابن عم عامر الشعبي، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) عن عبد الله بن مسعود: ثنا ابن فضيل، عن مسلم عن إبراهيم، عن علقمة عن ابن مسعود: "البقرة والجزور عن سبعة". وأخرج ابن حزم (¬3) نحوه: عن حذيفة وجابر وعلي -رضي الله عنهم-. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن أنس -رضي الله عنه- يحكيه عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال قال: ثنا قتادة، عن أنس قال: "كان أصحاب رسول الله -عليه السلام- يشتركون السبعة في البدنة من الإبل والسبعة في البدنة من البقر". فهذا مذهب أصحاب رسول الله -عليه السلام- في البدنة يوافق ما روي عن جابر، لا ما روي عن المسور ومروان؛ فهو أولى منه. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "قوله" والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) ليس في "المصنف" النسخة المطبوعة. (¬3) "المحلى" (7/ 152).

ش: أي وقد روي في أن البدنة عن سبعة أيضًا عن أنس بن مالك يحكي ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم-. أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري عن أبي هلال محمد بن مسلم الراسبي عن قتادة عن أنس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أنس نفسه وعن غيره: ثنا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب والحسن، قالوا كلهم: "البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة يشتركون فيها وإن كانوا من غير أهل دار واحدة". ص: ولما اختلفوا عن رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا؛ رجعنا إلى ما روي عنه في هذا الباب مما سوى ما نحر يوم الحديبية فإذا حسين بن نصر قد حدثنا قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عَليَّ ناقة وقد عزبت عني فقال: اشتر سبعًا من الغنم". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث إنما عَدَلَها بسبع من الغنم مما يجزئ كل واحدة منهن عن رجل ولم يعدلها بعشر من الغنم؟ فدل ذلك على تصحيح ما روى جابر في ذلك لا ما روى المسور؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي ولما اختلفت الصحابة -رضي الله عنهم- عن النبي -عليه السلام- فيما روي في قصة الحديبية رجعنا في ذلك إلى ما روي من حكم النحر في غير يوم الحديبية، فوجدنا عبد الله بن عباس قد روى عن النبي -عليه السلام- أنه عدل البدنة بسبع من الغنم، ولم يعدلها بعشر فدل ذلك على أن ما روي عن جابر في هذا الباب هو الصحيح لا ما رواه المسور ومروان. وأخرج ما روي عن ابن عباس بإسناد صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري عن حفص بن غياث عن عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رباح. . . إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن معمر، ثنا محمد بن بكر البُرساني أنا ابن جريج قال: قال عطاء الخراساني: عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- أتاه رجل فقال: إن عليَّ بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فأشتريها فأمره النبي -عليه السلام- أن يبتاع بسبع شياه فيذبحهن". وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، ثنا عمرو بن الربيع ثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن رجلاً قال: يا رسول الله عليّ بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها، قال: اذبح شاة" وهذا الحديث لا يعلم أحد أسنده إلا يحيى بن أيوب عن ابن جريج وقد رواه غيره موقوفًا. قوله: "وقد عزبت عني" أي بعدت أراد أنه لم يظفر بها. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر؛ فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن البقرة لا تجزئ في الأضحية عن أكثر من سبعة وهي من البدن باتفاقهم، والنظر على ذلك أن تكون الناقة مثلها لا تجزئ عن أكثر من سبعة، فإن قال قائل: إن الناقة وإن كانت بدنة كما البقرة؛ فإن الناقة أعلى من البقرة في السمانة والرفعة. قيل له: إنها وان كانت كما ذكرت فإن ذلك غير واجب لك به علينا حجة، ألا ترى أنا قد رأينا البقرة الوسطى تجزئ عن سبعة؛ وكذلك ما هو دونها وما هو أرفع منها؟ وكذلك الناقة تجزئ عن سبعة أو عن عشرة رفيعة كانت أو دون ذلك؟ فلم يكن السمن والرفعة مما يبين به بعض البقر عن بعض ولا بعض الإبل عن بعض فيما تجزئ في الهدي والأضاحي، بل كان حكم ذلك كله حكمًا واحدًا يجزئ عن عدد واحد. فلما كان ما ذكرنا كذلك، وكانت البقرة والإبل بدنًا كلها؛ ثبت أن حكمها حكم واحد وأن بعضها لا يجزئ عن أكثر مما يجزئ عن البعض الباقي وإن زاد بعضها على بعض في السمن والرفعة، فلما كانت البقرة لا تجزئ عن أكثر من سبعة ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1048 رقم 3136).

كانت الناقة كذلك -أيضًا في النظر- لا تجزئ عن أكثر من سبعة قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما وجه الحكم المذكور من طريق النظر والقياس: فإنا قد رأيناهم -أي العلماء- المذكورين من الفريقين. . . إلى آخره، والمعنى ظاهر. فإن قيل: كيف قال: وأجمعوا أن البقرة لا تجزئ في الأضحية عن أكثر من سبعة. وقد جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- نحر عن آل محمد في الوداع بقرة واحدة"؟. قلت: قد روى أبو داود (¬1) هذا الحديث ولا يدل هذا أن آله كانت أكثر من سبعة , لأن المراد من آله: هو أزواجه أمهات المؤمنين، ولا يفهم من هذا أن نساءه كلهن قد كانت معه -عليه السلام- وقتئذ والدليل عليه ما رواه أبو هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن" رواه أبو داود وغيره (¬2). فهذا صريح على أن أزواجه كلهنَّ لم يكنَّ معه -عليه السلام- بل ذبح بقرة عن من اعتمرت منهن ولم يكن من اعتمرت منهن إلا أقل من سبعة ظاهرًا والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 145 رقم 1750). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 145 رقم 1751)، وأخرجه النسائي أيضًا في "الكبرى" (2/ 452 رقم 4128)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1047 رقم 3133)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 639 رقم 1717).

ص: باب: الشاة عن كم تجزئ أن يضحى بها؟

ص: باب: الشاة عن كم تجزئ أن يضحى بها؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الشاة في الأضحية هل يُقتصر في جواز ذبحها على واحد أم يجوز عن أكثر من واحد؟ ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: حدثني عمي (ح). وحدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو زرعة قالا: ثنا حيوة، عن أبي صخر المدني، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأتى به ليضحي به، ثم قال: يا عائشة هلمي المدية. ثم قال: اشحذيها بحجر. ففعلتُ ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه وقال: بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري الملقب بحشل شيخ مسلم وأبي بكر بن خريمة عن عمه عن عبد الله بن وهب المصري عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد عن أبي صخر حميد بن زياد الخراط المدني صاحب العباء نزيل مصر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط المدني عن عروة بن الزبير بن العوام عن عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه مسلم (¬1): نا هارون بن معروف قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: قال حيوة: أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير. . . إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود عن أبي زرعة وهب الله بن راشد المصري المؤذن عن حيوة. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1557 رقم 1967).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني حيوة قال: حدثني أبو صخر عن ابن قسيط. . . إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "واشحثيها" -بالثاء المثقلة موضع الذال المعجمة- وكلاهما واحد؛ لأن الثاء والذال المعجمة قريبتا المخرج، والمعنى: خذيها وسِنِّيها. قوله: "أقرن" أي صاحب قرن. قوله: "يطأ في سواد. . إلى آخره" يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض، وقال ابن الأثير: إنه أسود القوائم والمرابض والمحاجر. قوله: "هلمي المدينة" أي هاتيها، وفيه لغتان، فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والجمع والاثنين والمؤنث بلفظ واحد، وبنوا تميم تثني وتجمع وتؤنث فتقول: هَلُمَّ وهَلُمّي وهَلُمَّا وهَلُمِّي وهَلُمِّيه. و"المدية" -بضم الميم- السكين الكبير وهي الشفرة. ويستفاد من أحكام: سنية الأضحية وتأكيدها. واستحباب التَّضَحَّي بالكبش الموصوف بهذه الصفات. واستحباب ذبح الرجل أضحيته بنفسه إن كان يحسن ذلك. واستحباب تحديد الشفرة. واستحباب ذبح الغنم وهي مضجعة. والتسمية عند الذبح. واحتجت به طائفة على أن الشاة الواحدة تجوز عن جماعة على ما يجيء إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 94 رقم 2792).

ص: حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب قال: حدثني سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -أو عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا ضحى اشترى كبشين عظيمين سمينين أملحين أقرنين موجوءين يذبح أحدهما عن أمته من شهد منهم بالتوحيد وشهد له بالبلاع، والآخر عن محمد وآل محمد". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، أنا الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أبي سلمة، عن عائشة -أو عن أبي هريرة-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الثوري. . . إلى آخره نحوه. وقال الشافعي: وقد روي عن النبي -عليه السلام- من وجه لا يثبت أنه ضحى بكبشين، فقال في أحدهما بعد ذكر الله: "اللهم عن محمد وآل محمد، وفي الآخر: اللهم عن محمد وأمة محمد". وقال البيهقي: إنما أراد حديث الثوري عن ابن عقيل المذكور، ثم قال: ورواه جماعة عن سفيان، وقد رواه زهير بن محمد عن ابن عقيل عن بن الحسين عن أبي رافع عن النبي -عليه السلام-، ورواه حماد بن سلمة عن ابن عقيل عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن النبي -عليه السلام-، قال البخاري: لعله سمع من هؤلاء. قوله: "أملحين" الأملح من الكباش هو الذي في خلال صوفه الأبيض طرفات سود، وفي "النهاية": الأملح الذي بياضه كثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض. قوله: "موجوءين" أي منزوعي الأنثيين والوجاء: الخصاء، يقال: وجأت ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1043 رقم 3122). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 267 رقم 18826).

الدابة فهي موجوءة إذا خصيتها، وفيه دليل على أن الخصاء في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، وهذا نقص ليس بعيب؛ لأن الخصاء يعيد اللحم طيبًا وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة. ص: حدثنا يونس قال ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبي رافع: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا ضحى اشترى كبشين عظيمين أملحين حتى إذا خطب الناس وصلى؛ أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بيده [ثم قال: اللهم هذا عن أمتي جميعًا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاع ثم يؤتى بالآخر فيدبحه] (¬1) ثم يقول: اللهم هذا عن محمد وآل محمد [ثم] (1) يجمعهما جميعًا، ويأكل هو وأهله منهما قال: فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة والغُرْم برسول الله -عليه السلام-". ش: إسناده صحيح وعلي بن معبد الرقي أحد أصحاب محمد بن الحسن ثقة وعبيد الله بن عمرو الرقي روى له الجماعة، وعلي بن الحسين بن علي أبي طالب الملقب بزين العابدين، وأبو رافع مولى النبي -عليه السلام-، اختلف في اسمه فقيل: إبراهيم وقيل: أسلم وقيل غير ذلك. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أبو بلال الأشعري، وحدثنا عمر بن حفص السدوسي ثنا عاصم بن علي قالا: ثنا قيس بن رافع، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين أن أبا رافع حدثه: "أن رسول الله -عليه السلام- كان إذا ضحى أتى بكبشين سمينين أقرنين أملحين موجوءين حتى إذا خطب الناس وسلم وفرغ أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه ثم يقول: اللهم هذا عن أمتي جميعًا من شهد لك بالتوحيد ولي بالبلاغ، ثم ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 312 رقم 921).

يؤتى بالآخر فيذبحه هو بنفسه ثم يقول: هذا عن محمد وآل محمد ويأكل هو وأهله منهما ويطعمهما جميعًا المساكين، فمكثنا سنين ليس من بني هاشم رجل يضحي، قد كفاه الله -عز وجل- المؤنة برسول الله -عليه السلام-". ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عفان (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قالا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: أخبرني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله قال: حدثني أبي: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي بكبشين أملحين عظيمين أقرنين موجوءين فأضجع أحدهما وقال: بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن محمد وأمته [من] (¬1) شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي عياش، عن جابر بن عبد الله قال: "ضحي رسول الله -عليه السلام- بكبشين في يوم عيد، فقال حين وجههما: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .} (¬2) إلى آخر الآية والآية الأخرى، اللهم منك ولك عن محمد وأمته ثم سمى وكبر وذبح". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو مولى المطلب عن المطلب بن عبد الله وعن رجل من بني سلمة أنهما حدثاه [أن] (¬3) جابر بن عبد الله أخبرهما: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى للناس يوم النحر فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا هو بكبشين فذبحهما هو بنفسه فقال: بسم الله والله أكبر وقال: اللهم عني وعن من لم يضح من أمتي". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ومن" بزيادة حرف "الواو"، وليس في "شرح معاني الآثار" ومصادر التخريج. (¬2) سورة الأنعام، آية: [79]. (¬3) في "الأصل، ك": "عن"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: هذه أربع طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن عفان بن مسلم الصفار عن حماد بن سلمة عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب المدني عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله. الثاني: عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري عن حماد بن سلمة. . . إلى آخره. ورجالهما ثقات غير أن عبد الله بن محمد بن عقيل فيه مقال، فقال أبو حاتم: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: مقارب الحديث. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش المصري -بالياء آخر الحروف والشين- عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر قال: "ذبح النبي -عليه السلام- يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلما وجههما قال: إني وجهت. . ." إلى آخره نحوه. قال البيهقي: ورواه إبراهيم بن طهمان عن ابن إسحاق قال فيه: "وجههما إلى القبلة حين ذبح". وبعضهم رواه عن ابن إسحاق فقال: عن يزيد بن أبي عمران عن أبي عياش عن جابر. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم عن عبد الله بن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، روى له الجماعة، وعن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وثقه ابن حبان وغيره، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (9/ 273 رقم 18867).

كلاهما يرويان عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، فعن أحمد: ليس به بأس. وعن يحيى: في حديثه ضعف ليس بالقوي وليس بالحجة. وقال أبو زرعة: ثقة. وروى له الجماعة. عن المطلب بن عبد الله بن حنطب المدني وثقه أبو زرعة وابن حبان والدراقطني. فإن قيل: ما حال هذا الحديث وكيف احتجت به الشافعية؟ قلت: فيه أشياء: الأول: أن المطلب لم يسمع من جابر، كذا قال أبو حاتم، وأخرج الترمذي هذا الحديث وقال: غريب، ويقال: إن المطلب لم يسمع من جابر إلا في موضع آخر من كتاب الترمذي (¬1)، قال محمد: لا أعرف للمطلب سماعًا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي -عليه السلام-. وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: لا نعرف له سماعًا من أحد من الصحابة. انتهى. وقال ابن سعد: لا يحتج بحديث المطلب. الثاني: قال ابن معين: ليس بالقوي وليس بالحجة. الثالث: أن هذا الحديث متروك عند الشافعية إذ الكبش الواحد لا يجوز عن أكثر من واحد وقد نص الشافعي على ذلك وقد طعن فيه بعضهم من جهة قوله: وعن رجل من بني سلمة. قلت: هذا ذكر متابعًا فإذا احتج بالمطلب فلا تضر جهالته، وإن لم يحتج به فكلاهما مانع من صحة الحديث؛ فافهم. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "شهدت أضحى مع رسول الله -عليه السلام- بالمصلى فلما ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 178 رقم 2916). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 286 رقم 18965).

قضى خطبته ونزل عن منبره أتي بكبشه فذبحه وقال: بسم الله والله أكبر هذا عني وعن من لم يضح من أمتي". وأخرجه أبو داود (¬1): عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن. . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: ثنا الدراوردي، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن أبي سعيد: "أن رسول الله -عليه السلام- ضحى بكبش أقرن ثم قال: اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي". ش: أبو إبراهيم الترجماني إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، قال يحيى وأبو داود: لا بأس به. والدراوردي هو أبو محمد عبد العزيز بن محمد روى له الجماعة، البخاري مقرونًا بغيره، ونسبته إلى دراورد قرية بخراسان. وربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال أبو زرعة: شيخ. وقال أحمد: ليس بمعروف. وروى له ابن ماجه وأبو داود. وأبوه عبد الرحمن بن سعد بن مالك أبي سعيد الخدري. وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن سليمان، نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ثنا ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- أتى في يوم النحر بكبشين أملحين فذبح أحدهما فقال: هذا عن محمد وأهل بيته، وذبح الآخر فقال: هذا عن من لم يضح من أمتي". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الشاة لا بأس أن يضحى بها عن الجماعة وإن كثروا وافترق أهل هذه المقالة على فرقتين، فقالت فرقة: لا تجزئ إلا أن يكون الذي يضحي بها عنهم من أهل بيت واحد، وقالت فرقة: إن ذلك يجزئ كان ¬

_ (¬1) "وسنن أبي داود" (3/ 99 رقم 2810).

المضحي بها عنهم من أهل بيت واحد أو من أهل أبيات شتى، لأن النبي -عليه السلام- ضحى بالكبش الذي ضحى به عن جميع أمته وهم أهل أبيات شتى، فإن كان ذلك ثابتًا لمن بعد النبي -عليه السلام-؛ فهو يجزئ عمن أجزأه بذبح النبي -عليه السلام-، فثبت بهذا قول الذين قالوا: يضحى بها عن أهل البيت وعن غيرهم. ش: وأراد بالقوم هؤلاء: جماعة الظاهرية منهم: داود. وطائفة من أهل الحديث ومالكًا والشافعي. ثم إن هؤلاء افترقوا على فرقتين، فقالت فرقة -منهم مالك وأصحابه-: لا تجزئ إلا أن تكون الجماعة الذين يضحى بها عنهم من أهل بيت واحد، وقالت فرقة -منهم الشافعي وأصحابه وداود وأصحابه-: إن ذلك يجزئ كان المضحي بها عنهم من أهل بيت واحد أو من أهل أبيات كثيرين. وقال ابن حزم (¬1): وجائز أن يشترك في الأضحية الواحدة -أي شيء كانت- الجماعة من أهل البيت وغيرهم، وجائز أن يضحي الواحد بعدد من الأضاحي، ضحى رسول الله -عليه السلام- بكبشين ولم ينه عن أكثر من ذلك، والأضحية فعل خير؛ فالاستكثار من الخير حسن. وقال مالك: تجزئ الرأس الواحدة من الإبل أو البقر أو الغنم عن واحدٍ وعن أهل البيت وإن كثر عددهم والله أعلم. وقال الخطابي: الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا وأجازه مالك والشافعي وجماعة وكرهه أبو حنيفة. ص: ثم كان الكلام بين أهل هذا القول وبين الفرقة التي تخالف هؤلاء جميعًا وتقول: إن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد وتذهب إلى أن ما كان من النبي -عليه السلام- مما احتجت به الفرقتان الأوليان لقولهما منسوخ أو مخصوص فمما دل على ذلك: أن الكبش لما كان يجزئ عن غير واحد لا وقت في ذلك ولا عدد كانت ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 380 - 381).

البدنة والبقرة أحرى أن تكونا كذلك وأن تكونا تجزيان عن غير واحد لا وقت في ذلك ولا عدد. ثم قد روينا عن النبي -عليه السلام- ما قد دل على خلاف ذلك قد ذكرناه في هذا الباب الذي قبل هذا من نحر أصحابه معه الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة وكان ذلك عند أصحابه على التوقيف منه لهم على أن البقرة والبدنة لا تجزئ واحدة منهما عن أكثر مما ذبحت عنه يومئذ. ش: أراد بأهل هذا القول: أهل المقالة الثانية وأهل المقالة الأولى الذين ذكرهما بقوله: "وافترق أهل هذه المقالة على فرقتين" وأراد بالفرقة التي تخالف هؤلاء جميعًا: سفيان الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر، وأشار بقوله: "وهؤلاء جميعًا" إلى الفرقتين المذكورتين. قوله: "تقول" أي الفرقة التي تخالف هؤلاء، إن الشاة لا تجزئ أن يضحى بها إلا عن شخص واحد. قوله: "وتذهب" عطف على قوله: "تقول" وأشار بذلك إلى الجواب عما احتجت به الفرقتان المذكورتان فيما ذهبتا إليه، بيان ذلك: أن ما ذهب [إليه] (¬1) هؤلاء إما منسوخ وإما مخصوص. أما النسخ فبحديث جابر -رضي الله عنه-: "نحرنا مع رسول الله -عليه السلام- البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" وقد أخرجه في الباب الذي قبله وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- عرفوا بذلك أن البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة وأن البقرة لا تجزئ أيضًا عن أكثر من سبعة لأن هذا أمر توقيفي ولا مجال للقياس فيه، فصار هذا ناسخًا لما روي من تضحيتهم سبعين بدنة عام الحديبية، وكان الناس يومئذ سبع مائة رجل. وأما التخصيص فظاهر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

قوله: "فمما دل على ذلك" أي على النسخ بيانه: أن الكبش لما كان يجزئ عن غير واحد وذلك كما ذكر في حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأبي رافع وأبي هريرة وعائشة -رضي الله عنهم- من غير تعيين لوقت و [لا] (¬1) لعدد، -وهو معنى قوله: "لا وقت في ذلك ولا عدد"- كانت البدنة أو البقرة بالطريق الأولى أن تجزئا عن غير واحد من غير تعيين لوقت و [لا] (1) لعدد فتقييد أهل المقالة الأولى الجواز بكونها من أهل بيت واحد مردود بهذا, ولكن حديث جابر الذي ذكرناه الآن ناسخ لهذا كما بينا. فافهم. فإن قيل: ما الدليل على النسخ؟ قلت: لو لم يكن ثمة نسخ لما احتاج أحد من هذه الأمة إلى أن يضحي ولما كان لقوله -عليه السلام-: "من وجد سعة لئن يضحي ولم يضح فلا يحضر مصلانا" فائدة. ص: وتواترت عنهم الروايات بذلك: حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا الحجاج قال: ثنا حماد قال: أنا سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي وعبد الله بن تمام ومالك بن الحويرث -فيما يحسب سلمة-: "أن رجلاً اشترى بقرة أضحية فنتجها فسأل عليًّا -رضي الله عنه-: هل أبدل مكانها أخرى؟ فقال: لا ولكن اذبحها وولدها يوم النحر عن سبعة". حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا الحجاج قال: ثنا حماد، عن زهير بن حبيب، عن مغيرة بن حذف، عن علي -رضي الله عنه- مثله. حدثنا أبو بكرة قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان، عن منصور عن ربعي قال: "كان أصحاب محمد -عليه السلام- يقولون: البقرة عن سبعة". حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا قبيصة بن عقبة قال: ثنا سفيان عن أبي حصين (ح). ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

وحدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب قال: ثنا شعبة، عن أبي حصين، عن خالد بن سعد، عن ابن مسعود قال: "البقرة عن سبعة". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: ثنا ابن أبي ذئب عن زيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبان، عن أناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام- مثله. قال أبو جعفر: فلما جعلت البقرة عن سبعة و [كان] (¬1) ذلك مما وقف عليه ولم يجعل لنا أن نعدو ذلك إلى ما هو أكثر منه كانت الشاة أحرى أن لا تجزئ عن أكثر مما يجزى عنه [البقرة] (¬2) من ذلك، فلما ثبت أن الشاة لا تجزئ عن أكثر من سبعة، انتفى بذلك قول من قال: إنها تجزئ عن جميع من ذبحت عنه ممن لا وقت لهم ولا عدد ولا يجاوز إلى غيره وثبت ضده، وهو قول من قال: إن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد. ش: أي تكاثرت عن الصحابة -رضي الله عنهم- الروايات بأن البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وأخرج في ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من طريقين: الأول: عن محمد بن خزيمة عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري عن حماد ابن سلمة عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي الكندي الكوفي وعن عبد الله ابن تمام مولى أم حبيبة وعن مالك بن الحويرث بن أشيم الليثي الصحابي ثلاثتهم عن علي -رضي الله عنه-. وهذا إسناد صحيح. الثاني: عن محمد بن خزيمة أيضًا عن الحجاج عن حماد بن سلمة عن زهير بن حبيب وهو زهير بن أبي ثابت الأسدي الأعمى، وثقه ابن حبان وهو يروي عن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كانت"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "بالبقرة"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

مغيرة بن حذف العبسي، قال ابن أبي حاتم: مشهور (¬1). عن علي -رضي الله عنه-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الثوري عن زهير بن أبي ثابت، عن مغيرة بن حذف العبسي قال: "كنا مع علي -رضي الله عنه- بالرحبة فجاء رجل من هَمْدان يسوق بقرة معها ولدها، فقال: إني اشتريتها أضحي بها وإنها ولدت. قال: فلا تشرب من لبنها إلا فضلا عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها هي وولدها عن سبعة". وقال الذهبي في "مختصر السنن": إسناده غريب. ومن ذلك ما أخرجه عن ربعي بن حراش العبسي الكوفي عن الصحابة -رضي الله عنهم- يرويه عن أبي بكرة بكار القاضي عن مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش -بكسر الحاء المهملة وفي آخره شين معجمة- وهذا إسناد صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن محمد بن فضيل عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: "أدركت أصحاب محمد -عليه السلام- وهم متوافرون كانوا يذبحون البقرة والبعير عن سبعة". ومن ذلك ما أخرجه عن أبي مسعود الأنصاري البدري عقبة بن عمرو بن ثعلبة من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عن عثمان بن عاصم ¬

_ (¬1) ليس هذا قول ابن أبي حاتم وإنما نقله عن ابن معين من رواية الدوري عنه. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 288 رقم 18974). (¬3) ليس في النسخة المطبوعة وقد رواه عنه ابن حزم في "المحلى" (7/ 382).

الأسدي الكوفي عن خالد بن سعد الكوفي الأنصاري مولى أبي مسعود البدري عن مولاه أبي مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع بن سفيان، عن حصين بن عبد الرحمن، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود قال: "البقرة عن سبعة". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي حصين. . . إلى آخره. ومن ذلك ما أخرجه عن أناس من الصحابة؛ رواه عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط بن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال: "كان أصحاب محمد -عليه السلام- يقولون: البقرة والجزور عن سبعة". ص: فقال قائل: إنما جعلنا الشاة تجزئ عن أكثر ما تجزئ عنه البقرة والجزور؛ لأن الشاة أفضل منهما، فقيل له: ولم قلت ذلك؟ وما دليلك عليه؟ وقد روي عن النبي -عليه السلام- ما قد حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا أبو بكر الحنفي قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: " [أن رسول الله -عليه السلام- كان يضحي بالجزور إذا وجد وكان لا يذبح البقرة والغنم وهو قادر عليه، ثم إذا لم يجد الجزور ذبح البقرة والغنم والكبش إذا لم يجد جزورًا] (¬3) ". ¬

_ (¬1) ليس في النسخة المطبوعة وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (7/ 151) من طريق سفيان الثوري به ولفظه: "تنحر البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة". (¬2) ليس في النسخة المطبوعة أيضًا وأخرجه ابن حزم من طريقه في "المحلى" (7/ 382). (¬3) كذا جاء هذا الحديث في "الأصل، ك" والذي في "شرح معاني الآثار" بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالجزور وبالكبش إذا لم يجد جزورًا".

فأخبر عبد الله بن عمر في هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- كان يضحي بالجزور إذا وجده، وذلك دليل أنه كان يذبح ما سواه مما يضحى به من البقر والغنم وهو قادر عليه، ويضحي بالشاة إذا لم يقدر على الجزور، فذلك دليل على أن الجزور كان عنده أفضل من الشاة، وقد رأينا الهدايا في الحج جعل للبقرة فيها من الفضل ما لم يجعل للشاة، فجعلت البقرة مما يشترك فيها الجماعة، فيهدونها عن قرانهم ومتعتهم، ولم تجعل الشاة كذلك. ش: هذا رد من جهة أهل المقالة الأولى؛ لما قاله أهل المقالة الثالثة من قولهم الذي بيَّنهُ الطحاوي. قوله: "فلما جعلت البقرة عن سبعة" إلى قوله: "وثبت ضده" وهو قول من قال: إن الشاة لا تجزئ عن واحد" بيانه أنه يقال: لا نسلم أن يكون جواز الشاة عن أكثر مما تجزئ عنه البقرة أو البدنة مبنيًا على ما ذكرتم حتى يُردَّ به، وإنما أجزناه لأن الشاة أفضل من البقرة والبدنة، وأجاب عن ذلك بقوله: "فقيل له:. . ." إلى آخره وهو ظاهر. قوله: "وقد روي عن النبي -عليه السلام-. . . إلى آخره" ذكره شاهدًا لما قاله من أن الجزور أفضل من الشاة. وأخرجه عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي أيضًا عن أبي بكر الحنفي واسمه عبد الكبير عن عبد المجيد البصري، روى له الجماعة، يروي عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر فيه مقال، فقال يحيى: ضعيف، وقال النسائي: متروك الحديث. يروي عن أبيه نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الكبير الحنفي، نا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام-، كان يضحي بالمدنية بالجزور أحيانًا وبالكبش إذا لم يجد جزورًا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 272 رقم 18859).

فإن قيل: قد وجدنا أحاديث تدل على أن الضأن أفضل: منها: ما رواه ابن حزم (¬1) من طريق هشام بن سعد عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة: "أن جبريل -عليه السلام- قال للنبي -عليه السلام- يوم الأضحى: يا محمد إن الجذع من الضأن خير من السيد من المعزي وأن الجزع من الضأن خير من السيد من البقر وأن الجذع من الضأن خير من السيد من الإبل، ولو علم الله ذبحًا هو أفضل منه لفدى به إبراهيم -عليه السلام-". ومنها: ما رواه عبد الرزاق (¬2) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال -رحمهُ الله-: "مر النعمان بن أبي فطيمة على رسول الله -عليه السلام- بكبش أقرن أعين فقال-عليه السلام-: ما أشبه هذا الكبش بالكبش الذي ذبح إبراهيم -عليه السلام-". قال ابن حزم (¬3): وروي نحوه من طريق زياد بن ميمون عن أنس -رضي الله عنه-. ومنها: ما رواه ابن حزم أيضًا (¬4) من طريق وكيع عن هشام بن سعد عن حاتم ابن أبي نصر عن عبادة بن نُسَيّ عن النبي -عليه السلام- قال: "خير الأضحية الكبش". وفي رواية عن عبادة بن نسي عن أبيه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خير الكفن الحلة وخير الأضحية الكبش"، أخرجه البزار (¬5). قلت: قد قال ابن حزم: هذه الأخبار مكذوبة أما خبر أبي هريرة وعبادة بن نسي فعن هشام بن سعد وهو ضعيف جدًّا، وطرحه أحمد وأساء القول فيه جدًّا ولم يجز الرواية عنه يحيى بن سعيد، وزياد بن ميمون مذكور بالكذب، وخبر عبد الرزاق عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وهو ضعيف ومرسل مع ذلك وأيضًا ففي الخبر ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 371). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 379 رقم 8131). (¬3) "المحلى" (7/ 372). (¬4) "المحلى" (7/ 372). (¬5) "مسند البزار" (7/ 153).

المنسوب إلى أبي هريرة كذب ظاهر، وهو قوله [إنه] (¬1) فدى الله به إبراهيم ولم يُفْدَ إبراهيم بلا شك وإنما فُدِيَ ابنه. قوله: "من السيد من المعزي" أي من المسن منه وقيل: من الجليل منه، والسيد يجيئ لمعان فيأتي على الرَّبِّ والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم والمتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم، وأصله من ساد يسود، وأصل السيد: سيود قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء. فإن قيل: كيف مذاهب الفقهاء في هذا الباب؟ قلت: قال مالك: لا تجزئ الأضحية إلا في الإبل والبقر والغنم والنعجة والعنز والتيس أفضل من الإبل والبقر. وقال أبو حنيفة والشافعي: الإبل أفضل ثم البقر ثم الضأن ثم الماعز، وأصنافه ثمانية: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ولا يجوز من غير هذه الأصناف، وقال الحسن بن حي: تجوز الأضحية ببقرة وحشية عن سبعة وبالظبي أو الغزال عن واحد، وأجاز أبو حنيفة بما حملت به البقرة الإنسية من الثور الوحشي وبما حملت به العنز من الوعل. وقال ابن حزم (¬2): الأضحية جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو حافر كالفرس والإبل وبقر الوحش والديك وسائر الطير والحيوان الحلال أكله، والأفضل في ذلك ما كثر لحمه وطاب وغلا ثمنه والله أعلم. ص: فيما روي عن رسول الله -عليه السلام- من إباحة الشركة في الهدي إذا كان جزورًا: ما حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسد قال: ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى بدنة مائة وأشرك عليًّا -رضي الله عنه- في ثلثها". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أفدى"، وهو تحريف أو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "المحلى" (7/ 370).

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "ساق النبي -عليه السلام- سبعين بدنة وأشرك بينهم فيها، فلما كانت الشركة في الجزور مباحة في الهدي وغير مباحة في الشاة، ثبت بذلك أن الشاة إنما عدلت بجزء من الجزور وقد ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب الذي قبل هذا؛ أن رجلاً قال له: إن عليّ ناقة وقد عزبت عني فأمره أن يجعل مكانها سبعًا من الغنم فدل ذلك على ما ذكرنا أيضًا. ش: ذكر هذا تأييدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثالثة من أن الشاة الواحدة لا تجزئ إلا عن واحد؛ لأنه -عليه السلام- أباح الشركة في الجزور، كما في حديث جابر، ولم يبح في الشاة، فدل ذلك على أنها تعدل بجزء من الجزور، ألا ترى أنه -عليه السلام- أمر ذلك الرجل الذي قال له: إن عليّ ناقة وقد عزبت عني؛ أن يجعل مكانها سبعًا من الغنم فصارت الواحدة لسبع الجزور فلم تجز إلا عن واحد، فثبت بذلك صحة ما قالوا. ثم إنه أخرج حديث جابر من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- الملقب بالصادق، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين الملقب بالباقر، عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4) مطولًا ومختصرًا، وقد ذكرناه في كتاب الحج مستقصى. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 182 رقم 1905). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 454 رقم 4139). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1027 رقم 3076).

وأخرجه أحمد (¬1) وغيره. ص: وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يوافق هذا المعنى: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب قال: ثنا شعبة عن أبي جمرة قال: "سئل ابن عباس -رضي الله عنهم- عما استيسر من الهدي، قال: جزور أو بدنة أو شرك في دم". حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا أسد قال: ثنا حماد بن زيد عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول. . . فذكر مثله فأخبر عن ابن عباس بأن الجزء من الجزور يعدل الشاة فيما استيسر من الهدي. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس ما يوافق ما ذكرنا من أن الشاة إنما عدلت بجزء من الجزور، في معنى حديث جابر المذكور آنفًا؛ وذلك لأنه قال: "أو شرك في دم" بكسر الشين أي نصيب. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي جمرة -بالجيم والراء- نصر بن عمران الضبعي، عن عبد الله بن عباس. والثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أسد بن موسى. . . إلى آخره. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا ما يدل على فضل الجزور على البقرة وعلى فضل البقرة على الشاة. حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول؛ فإذا جلس الإِمام طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر فمثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة ثم كالذي يهدي البيضة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 378 رقم 15085).

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد حدثني قالا: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني ابن الهاد عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي بدنة، ثم الذي على إثره كمثل الذي يهدي بقرة، ثم الذي على إثره كالذي يهدي الكبش، ثم الذي على إثره كالذي يهدي دجاجة، ثم الذي على إثره كالذي يهدي البيضة". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني قال: ثنا الشافعي قال: ثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- فدكر نحوه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا محمد بن المنهال قال: ثنا يزيد بن زريع قال: ثنا روح بن القاسم عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . فذكر مثله. فلما جعل النبي -عليه السلام- المهجر في أفضل الأوقات كالمهدي بدنة والمهجر في الوقت الذي بعده كالمهدي بقرة والمهجر في الوقت الثالث كالمهدي كبشًا؛ ثبت بذلك أن أفضل ما يهدى: الجزور ثم البقرة ثم الكبش. فلما كانت البدنة أعظم ما يهدى؛ ثبت أنها أعظم ما يضحى به ولما كانت باتفاقهم لا تجزئ في الأضحية عما فوق السبعة كانت الشاة أحرى أن لا تجزئ عن ذلك، وكما انتفى أن تجزئ الشاة عن ما فوق السبعة ثبت أنها لا تجزئ إلا عن خاص من الناس، وقد أجمعوا على أنها تجزئ عن الواحد فاختلفوا فيما هو أكثر منه فلا يدخل فيما قد ثبت له حكم الخصوص إلا ما قد أجمعوا على دخوله فيه، [فثبت] (¬1) بما ذكرنا أنه لا يجوز أن يضحى بالشاة الواحدة عن اثنين ولا عن أكثر من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: دلالة حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري على أفضلية الجزور على البقرة وعلى أفضلية البقرة على الشاة ظاهرة لا مرية فيها كما قد بين الطحاوي ذلك بقوله: "فلما جعل رسول الله -عليه السلام-. . . إلى آخره، وهو ظاهر. ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي عبد الله الأغر سليمان المدني، عن أبي هريرة. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة وعمرو بن سواء العامري قال أبو الطاهر: ثنا وقال الآخران: أنا ابن وهب. . . إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر". الثاني: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان كلاهما، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬2): من طريق الليث أيضًا ولكنه عن ابن عجلان، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون الناس على منازلهم فالناس فيه كرجل قدم بدنة، ورجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة، وكرجل قدم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 587 رقم 850). (¬2) "المجتبى" (3/ 98 رقم 1387) وليس في لفظه تكرار لكل نوع من الأنعام ففيه: "كرجل قدم بدنة" مرة واحدة وكذا "البقرة" وكذا "الشاة". . إلخ.

شاة، وكرجل قدم دجاجة، وكرجل قدم دجاجة، وكرجل قدم عصفورًا، وكرجل قدم عصفورًا، وكرجل قدم بيضة، وكرجل قدم بيضة". الثالث: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا أنا محمد بن منصور قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة يبلغ به النبي -عليه السلام-: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم؛ الأول فالأول فإذا خرج الإِمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة فالمهجر إلي الصلاة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي كبشًا، حتى ذكر البيضة والدجاجة". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن المنهال الحافظ شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم العنبري البصري، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "على كل باب من أبواب المسجد يوم الجمعة ملكان يكتبان الأول فالأول، كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم طائرًا، وكرجل قدم بيضة، فإذا قعد الإِمام -يعني على المنبر- طويت الصحف". وأخرج حديث أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق المدني إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 98 رقم 1389).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يعقوب نا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد فيكتبون الناس، من جاء من الناس على منازلهم فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضة قال: فإذا أذن المؤذن وجلس الإِمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر". قوله: "فإذا جلس الإِمام" أي على المنبر طوت الملائكة الصحف، قيل: هذا يدل على أن الملائكة ها هنا غير الحفظة. قوله: "يستمعون الذكر" أي الخطبة؛ لأن فيها ذكر الله -تعالى- وتلاوة القرآن. قوله: "المهجر" بضم الميم وفتح الهاء وكسر الجيم المشددة من التهجير، وهو السير في الهاجرة، حكى ذلك الحربي عن أبي زيد عن الفراء وغيره. وحكى الخليل أنه التبكير وبه فسروا قوله -عليه السلام-: "ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه" أي التبكير إلى كل صلاة. وذهب أصحاب الشافعي في تأويله [وقالوا] (¬2): معناه هجر منزله وتركه. وقال ابن الأثير: التهجير التبكير إلى كل شيء والمبادرة إليه يقال: هجّر يهجّر تهجيرًا، فهو مهجّر وهي لغة حجازية، أراد: المبادرة إلى أول وقت الصلاة. قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" يحتج به في أن البدن لا تكون إلا من الإبل وحدها. قولى: "ثم كالذي يهدي الدجاجة ثم كالذي يهدي البيضة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 81 رقم 11786). (¬2) في "الأصل، ك": "وقال"، وما أثبتناه أليق بالسياق.

احتجت به الظاهرية على أن من لم يقدر على الشاة يتقرب بذبح الدجاجة، فإن لم يقدر فالبيضة فإن ذلك يجزئ عن الأضحية. وقال عياض: ليس هذان مما يطلق عليه اسم هدي لكنه لما عطفه على ما قبله من الهدايا وجاء به بعده لزمه حكمه في اللفظ وحمل عليه كقوله: "متقلدًا سيفًا ورمحا" أي وحاملً رمحًا، وكذلك هنا لأنه قال: كالمتقرب بالصدقة بدجاجة أو بيضة وأطلق على ذلك اسم الهدي لتعلقه وتحسين الكلام به، وقد جاء أيضًا في الرواية الأخرى كأنما قرب كذا كأنما قرب كذا، وهذا ضرب من التمثيل للأجور ومقاديرها, لا على تمثيل الأجور وشبيهها حتى يكون أجرها كأجر هذا، وتكون الدجاجة في التمثيل بقدر أجرها من أجر البدنة لو كانت هذه مما يهدى وكذا البيضة. والله أعلم. ***

ص: باب من أوجب أضحية في أيام العشر أو عزم على أن يضحي هل له أن يقص شعره أو أظفاره؟

ص: باب من أوجب أضحية في أيام العشر أو عزم على أن يضحي هل له أن يقص شعره أو أظفاره؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم من أوجب على نفسه أن يضحي في أيام العشر من ذي الحجة أو عزم على أن يضحي هل ينبغي له أن يقص شعره أو يقلم أظفاره؟ ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا بشر بن ثابت البزار قال: ثنا شعبة عن مالك ابن قيس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى منكم هلال ذي الحجة، وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي". حدثنا ربيع الجيزي قال: ثنا أبو صالح قال: ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمرو بن مسلم قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- أخبرته عن النبي -عليه السلام-. . . فذكر مثله. قال الليث قد جاء هذا وأكثر الناس على غيره. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن ثابت البصري البزار -بالزاي المعجمة أولًا وبالراء المهملة في آخره- وثقه ابن حبان وروى له البخاري عن شعبة عن عمرو بن مسلم بن عمارة الليثي الجندعي، روى له الجماعة سوى البخاري. وأخرجه مسلم (¬1): نا حجاج الشاعر قال: حدثني يحيى بن بكبير العنبري أبو غسان قال: ثنا شعبة، عن مالك بن أنس، عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة أن النبي -عليه السلام- قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1565 رقم 1977).

وأخرجه الأربعة (¬1) أيضًا. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد المصري أبي عبد الرحمن الإسكندراني روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي هلال أبي العلاء المصري مولى عروة بن شييم روى له الجماعة. وأخرجه أحمد فى "مسنده" (¬2): ثنا حسن، نا ابن لهيعة، حدثني سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن مسلم الجندعي أنه قال: أخبرني ابن المسيب أن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- أخبرته عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "من أراد أن يضحي فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شيئًا من شعره في العشر الأولى من ذي الحجة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحدث فقلدوه وجعلوه أصلاً. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن سيرين والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث وقالوا: من أراد أن يضحي فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شعره إلى أن يخرج عشر ذي الحجة، وقال ابن حزم: ومن أراد أن يضحي فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شعره ولا يقص، هذا فرض عليه إذا رأى هلال ذي الحجة إلى أن يضحي، ولا يتنور أيضًا ومن لم يرد أن يضحي لم يلزمه ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس بقص الأظفار والشعر في أيام العشر إن عزم على أن يضحي ولمن لم يعزم على ذلك، واحتجوا [في ذلك] (¬3) بما ذكرنا في كتاب الحج عن عائشة -رضي الله عنها- أنهما قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- فيبعث بها ثم يقيم فينا هلالًا لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم حتى يرجع الناس". ¬

_ (¬1) أبو داود في "سننه" (3/ 94 رقم 2791)، والترمذي في "جامعه" (4/ 102 رقم 1523)، والنسائي في "سننه" (7/ 211 رقم 4361)، ابن ماجه في "سننه" (2/ 1052 رقم 3150). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 301 رقم 26613). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول ومجيء حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا أحسن من مجيء حديث أم سلمة؛ لأنه جاء مجيئًا متواترًا وحديث أم سلمة فلم يجئ كذلك فقد طعن في إسناد حديث مالك [فقيل: إنه موقوف على أم سلمة. حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس قال: أخبرنا مالك] (¬1) عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة ولم ترفعه، قالت: "من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أنا مالك، عن عمرو بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة مثله، ولم ترفعه فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عطاء بن يسار وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا بأس بقص الأظفار والشعر في أيام العشر مطلقًا وأجمعوا على ذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنت أفتل قلائد. ." الحديث، وقد مر ذكره بإسناده مستقصى في كتاب الحج، فإنه يخرج على إباحة ما منعه حديث أم سلمة والأخذ به أولى من حديث أم سلمة، لأن أصل حديث أم سلمة موقوف وحديث عائشة مرفوع، فالموقوف لا يعارض المرفوع على ما عرف. وقال البيهقي: قال الشافعي: فإن قيل: ما دل على عدم الوجوب؟ قيل له: روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله -عليه السلام- بيدي، ثم قلدها بيده، وبعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله شيء أحله الله له حتى نحر الهدي". قال الشافعي: البعث بالهدي أكبر من إرادة الأضحية. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وقال الخطابي: رأى مالك والشافعي حديث أم سلمة على الندب لا الوجوب. وقال أبو عمر بن عبد البر: ومما يدل على ضعف حديث أم سلمة ووهنه: أن مالكًا روى عن عمارة بن عبد الله عن سعيد بن المسيب قال: "لا بأس بالإطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة". فترك سعيد لاستعمال هذا الحديث وهو راويه، دليل على أنه غير ثابت عنده ومنسوخ وقد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي فما دونه أحرى أن يكون مباحًا. ص: وأما النظر في ذلك: فإنا رأينا الإِحرام يحظر أشياء مما قد كانت كلها قبله حلالاً، منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر وقتل الصيد فكل هذه الأشياء تحرم بالإِحرام وأحكام ذلك أحكام مختلفة، فأما الجماع فمن أصابه في إحرامه فسد إحرامه وما سوى ذلك لا يفسد إصابته الإِحرام، فكان الجماع أغلظ الأشياء التي يحرمها الإِحرام ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر وهو يريد أن يضحي أن ذلك لا يمنعه من الجماع، فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع وهو أغلظ ما يحرم بالإِحرام؛ كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك فهذا هو النظر أيضًا وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما وجه النظر والقياس في حكم هذا الباب. . . إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "يحظر" أي يحرم، يقال: حظرت الشيء أي حرمته وهو من باب نَصَرَ يَنْصُرُ والحظر: المنع والحجر، وقد روي عن عكرمة وجه هذا النظر والقياس حيث قال لما ذكر له حديث أم سلمة: "هلا اجتنب النساء والطيب" ثم إن ابن حزم قد اعترض على هذا القياس بكلام فاسد فقال (¬1): ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك، أن يجب اجتناب النساء والطيب كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر وهذا الصائم فرض عليه اجتناب النساء ولا يلزمه اجتناب الطيب ولا مس الشعر والظفر ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 370).

وكذلك المعتكف وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار انتهى. وهذا كلام ساقط ظاهر سقوطه لا يحتاج إلى بيانه؛ لوضوحه. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن جماعة من المتقدمين. حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني ابن أبي ذئب (ح). وحدثنا ابن مرزوق قال: ثنا بشر بن عمر قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط: "أن عطاء بن يسار وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبا بكر بن سليمان كانوا لا يرون بأسًا أن يأخذ الرجل من شعره ويقلم أظفاره في عشر ذي الحجة". ش: أي وقد روي ما ذكرنا من قولنا: "لا بأس بقص الأظفار والشعر في أيام العشر سواء أراد الأضحية أو لم يردها" عن جماعة من المتقدمين من التابعين وهم: عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني القاص مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام- وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المدني أحد الفقهاء السبعة، قيل: إن اسمه محمد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن والصحيح أن اسمه وكنيته واحد. وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة القرشي المدني. وأخرج ذلك من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن يزيد بن عبد الله. . . إلى آخره. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمرو الزهراني البصري روى له الجماعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. . . إلى آخره. ص: وقد احتج أيضًا بعض أصحابنا بما حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن أبي رافع، عن عبد الرحمن بن هرمز،

عن محمد بن ربيعة قال: "رآني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- طويل الشارب وذلك بذي الحليفة وأنا على ناقتي، وأنا أريد الحج، فأمرني أن أقص من شعري ففعلت". ولا حجة في هذا عندنا، لأنه لا يريد أن يضحي إذا كان يريد الحج فلا حجة في هذا على أهل المقالة الأولى لأنهم إنما يمنعون من ذلك من أراد أن يضحي. وحجة أخرى تدفع هذا الحديث أن يكون فيه حجة عليهم وذلك أنه لم يذكر أن ذلك كان في عشر ذي الحجة أو قبل ذلك؟. ش: احتج بعض الحنفية في إباحة قص الأظفار والشعر في عشر ذي الحجة لن يريد الأضحية بما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. أخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن أبي رافع مولى سعد ابن أبي وقاص ويقال: مولى سعيد بن العاص المدني كذا ذكره ابن أبي حاتم ووثقه ابن حبان. عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني عن محمد بن ربيعة بن الحارث القرشي أخي المطلب بن ربيعة ذكره ابن حبان في الثقات التابعين. قوله: "ولا حجة في هذا عندنا" أشار بهذا إلى أن الاستدلال بهذا الأثر فيما ذهب إليه هؤلاء غير مستقيم من وجهين: الأول: أنه لا يلزم من إرادة الحج إرادة الأضحية وإنما يكون هذا حجة على أهل المقالة الأولى أن لو كان هذا ممن أراد أن يضحي. الثاني: أنه لم يتبين فيه أن ذلك الأمر كان في عشر ذي الحجة أو قبل ذلك؟ فإذن لا يصح به الاستدلال على الوجه المذكور. فافهم. ***

ص: باب الذبح بالسن أو الظفر

ص: باب الذبح بالسن أو الظفر ش: أي هذا باب في بيان حكم الذبح بالسن والظفر هل تؤكل ضحيته أم لا؟ ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب وروح قالا: ثنا شعبة (ح). وحدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان قالا جميعًا: عن سماك ابن حرب عن مري بن قطري رجل من بني يعلى، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله أرسل كلبي فيأخذ الصيد فلا يكون معي ما أذكيه إلا المروة والعصا فقال: أهرق الدم بما شئت واذكر اسم الله". ش: هذان طريقان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وروح بن عبادة البصري كلاهما، عن شعبة بن الحجاج، عن سماك بن حرب، عن مُرَي -بضم الميم وفتح الراء- بن قطري -بالقاف- الكوفي قال في "الميزان": مري بن قطري عن عدي بن حاتم لا يعرف، تفرد عن سماك بن حرب. وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه النسائي (¬1): عن محمد بن عبد الأعلى وإسماعيل بن مسعود عن خالد عن شعبة، عن سماك، عن مري. . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري شيخ البخاري، عن سفيان الثوري عن سماك بن حرب. . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن سماك بن حرب عن مري. . . نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 194 رقم 4304). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1060 رقم 3177).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل قال: ثنا حماد عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله، أرأيت إن أحدنا أصاب صيدًا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: امرر الدم بما شئت واذكر اسم الله -عز وجل-". قوله: "إلا المروة" قال الخطابي: المروة حجارة بيض وقال الأصمعي: وهي التي يقدح منها النار، وإنما تجزئ الذكاة من الحجر بما كان له حد يقطع. قوله: "أمر الدم بما شئت" أي استخرجه وأجره بما شئت يريد الذبح وهو من مرى الضرع يمريه ويروى: "أمر الدم"، من مار يمور، إذا جرى، وأماره غيره، قال الخطابي: وأصحاب الحديث يروونه مشدد الراء، وهو غلط، وقد جاء في سنن أبي داود والنسائي "امرر" برائين مظهرتين، ومعناه اجعل الدم يمر أي يذهب، فعلى هذا من رواه مشدد الراء يكون قد أدغم وليس بغلط. ويستفاد منه: جواز الصيد بالكلب وجواز الذبح بكل ما يُمْري الدم، واشتراط التسمية عند الذبح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي أن أباحوا [ما ذبح] (¬2) بالسن والظفر المنزوعين وغير [المنزوعين] (¬3) واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث والأوزاعي في رواية عنه فإنهم قالوا: يباح الذبح بالسن والظفر سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا الذبح بهما إذا كانا غير منزوعين وأباحوا ما ذبح بهما إذا كانا منزوعين واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا روح ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 102 رقم 2824). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) في "الأصل، ك": "منزوعين"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وسعيد بن عامر قالا: ثنا شعبة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة عن جده، رافع بن خديج -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى، قال: ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر، وسأخبرك أما الظفر مدى الحبشة وأما السن فعظم". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: حدثني سفيان الثوري، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله إنا نرجوا -أو نخشى- أن نلقى العدو وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، إلا السن والظفر". قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث أخرج النبي -عليه السلام- السن والظفر مما أباح الذكاة به، فاحتمل أن يكون ذلك على المنزوعين واحتمل أن يكون على المنزوعين وغير المنزوعين، فإن كان ذلك على المنزوعين فهما إذا كانا غير منزوعين أحرى أن يكونا كذلك وان كان ذلك على غير المنزوعين فليس في ذلك دليل على [حكم] (¬1) المنزوعين في ذلك كيف هو؟ فلما أحاط العلم بوقوع النهي في هذا على غير المنزوعين ولم يحط العلم بوقوعه على المنزوعين، وقد جاء حديث عدي بن حاتم الدي ذكرناه مطلقًا؛ أخرجنا معه ما أحاط العلم بإخراج حديث رافع إياه منه وتركنا ما لم يحط العلم [بإخراج] (¬2) حديث رافع إياه من علي ما أطلقه حديث عدي بن حاتم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة ومالكًا وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يكره الذبح بالسن والظفر إذا كانا غير منزوعين، ولا يكره إذا كانا منزوعين، ومذهب الشافعي وأحمد والليث بن سعد: لا يجوز الذبح بالسن والظفر مطلقًا وهو مذهب الظاهرية أيضًا ونقل ذلك ابن جزء عن الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) في "الأصل، ك": "بإخراجه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحدث رافع بن خديج وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم من مرزوق، عن روح بن عبادة وسعيد بن عامر الضبعي كلاهما عن شعبة عن سعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاري المدني عن جده رافع بن خديج -رضي الله عنه-. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج -رضي الله عنه-. وأخرجه الجماعة: فقال البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، نا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج فذكر حديثًا، وفيه أنه قال: "يا رسول الله ليس معنا مدي أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر". قال مسلم (¬2) نا محمد بن المثنى العنزي قال: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني أبي عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن رافع بن خديج قال: "قلت: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى، قال: أعجل أو أرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر. وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة". وقال أبو داود (¬3): ثنا مسدد قال: نا أبو الأحوص قال: نا سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده رافع بن خديج قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- وقلت: يا رسول الله إنا نلقى العدو غدًا وليس معنا مدى، فقال رسول الله -عليه السلام- أرن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 119 رقم 2910). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1558 رقم 1869). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 102 رقم 2821).

أو أعجل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سن أو ظفر، قال رافع: وسأحدثكم عند ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة". وقال الترمذي (¬1): ثنا هناد قال: نا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن أبيه عن جده رافع بن خديج قال: "قلت: "يا رسول الله إنا نلقى العدو غدًا وليست معنا مدى فقال النبي -عليه السلام-: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سن أو ظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة". وقال النسائي (¬2): أنا محمد بن منصور، ثنا سفيان، عن عمر بن سعيد عن أبيه، عن عباية عن رفاعة عن رافع بن خديج أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر". وقال ابن ماجه (¬3): نا محمد بن عبد الله بن نمير نا عمر بن عبيد الله الطنافسي، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في سفر فقلت: يا رسول الله إنا نكون في المغازي فلا يكون معنا مدى قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر، فإن السن عظم والظفر مدى الحبشة". وهذا الحديث صحيح مثل ما ذكرنا ولهذا أخرجه الشيخان ولكن في سنده اختلاف، ففي رواية الطحاوي والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه: عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج، وفي رواية الترمذي وأبي داود: عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده رافع بن خديج. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 81 رقم 1491). (¬2) "المجتبى" (7/ 226 رقم 403). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1061 رقم 3178).

وقال الترمذي (¬1): نا محمد بن بشار قال: أنا يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري قال: نا أبي، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج عن النبي -عليه السلام- نحوه ولم يذكر فيه: "عباية عن أبيه" وهذا أصح، وعباية قد سمع من رافع، والله أعلم. قوله: "إنا لاقوا العدو" أصله لاقون العدو، فسقطت النون للإِضافة. قوله: "مدى": على وزن فُعَل -بضم الفاء وفتح العين- جمع مدية وهي السكين الكبير. قوله: "ما أنهر الدم" من الإِنهار وهو الإِسالة والصب بكثرة، شبه جروح الدم من موضع الذبح بجري الماء في النهر. قوله: "ليس السن والظفر" استثناء والمعنى إلا السن والظفر فلا تأكل ما يذبح بهما. قوله: "وسأخبرك" من كلام النبي -عليه السلام-، وفي رواية مسلم: "قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك" فهذا من كلام رافع بن خديج يحكي كما سمعه عن النبي -عليه السلام- من قوله: "وسأخبرك" فافهم. قوله: "أعجل أو أرن" في رواية مسلم هذه اللفظة قد اختلف في صيغتها ومعناها، فقال الخطابي (¬2): هذا حرف طال ما اسْتَثْبَتُّ فيه الرواة وسألتُ عنه أهل العلم باللغة فلم أجد عنه واحد منهم شيئًا يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجًا فرأيته يتجه لوجوه: أحدها: أن يكون من قولهم أران القوم مرينون إذا هلكت مواشيهم، فيكون معناها أَهْلِكْها ذبحا وأزهق نفسها بكل ما أنهر الدم غير السن والظفر على ما رواه أبو داود في "السنن" بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 81 رقم 1419). (¬2) "غريب الحديث" للخطابي (1/ 386).

الثاني: أن يكون أئرن بوزن أعرن من أرن يأرن إذا نشط وخَفَّ، يقول: خف واعجل لئلا تقتلها خنقًا، وذلك أن غير الحديد لا يمور في المذكاة موره. الثالث: أن يكون بمعنى أدم الحز ولا تفتر من قولك رنوت النظر إلى الشيء إذا أدمته، أو يكون أراد: أدم النظر إليه أو راعه ببصرك لئلا يزل عن المذبح وتكون الكلمة بكسر الهمزة والنون وسكون الراء بوزن إِرْمِ. وقال الزمخشري: كل من علاك وغلبك فقد ران بك، ورين بفلان: ذهب به الموت، وأران القوم إذا رين بمواشيهم أي هلكت، وصاروا ذوي رين في مواشيهم بمعنى أرن أي صر ذا رين في ذبيحتك، ويجوز أن يكون أران تعدته ران أي أزهق نفسها (¬1). ويستفاد منه أحكام: الأول: كل شيء فيه إنهار الدم يجوز الذبح به غير السن والظفر. الثاني: فيه أن التسمية عند الذبح شرط. الثالث: قال الخطابي: فيه دلالة على أن العظم كالسن في الحكم؛ لأنه لما علل السن بأنه عظم؛ فكل عظم يجب أن تكون الذكاة به محرمة، وإلى ذلك ذهب الأكثرون. وقال ابن حزم (¬2): واحتج الشافعي وأصحابنا بقول النبي -عليه السلام-: "فإنه عظم" فجعلوا العظمية علة للمنع من التذكية حيث كان العظم أي عظم كان وهذا خطأ؛ لأنه تعدٍّ لحدود الله تعالى وحد رسوله -عليه السلام-؛ لأن النبي -عليه السلام- لو أراد ذلك لما عجز أن يقول: ليس العظم والظفر، وهو -عليه السلام- قد أوتي جوامع الكلم وأُمِرَ بالبيان، فلو أنه -عليه السلام- أراد تحريم الذكاة بالعظم لما ترك أن يقوله. قلت: هذا كلام واهٍ يظهر بالتأمل. ¬

_ (¬1) انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 181). (¬2) "المحلى" (7/ 451).

ص: وقد روي عن ابن عباس في هذا ما حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا الخصيب بن ناصح قال: ثنا أبو الأشهب، عن أبي رجاء العطاردي قال: "خرجنا حُجَّاجًا فصاد رجل من القوم أرنبا فذبحها بظفره فَمَلُّوها وأكلوها, ولم آكل معهم فلما قدمنا البلد سألت ابن عباس فقال: لعلك أكلت معهم؟ قلت: لا. قال: أصبت، إنما قتلها خنقًا". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا يعقوب بن إسحاق قال: ثنا سلم بن زرير، عن أبي رجاء. . مثله. أفلا ترى أن ابن عباس قد بين في حديثه هذا المعنى الذي به حرم أكل ما ذبح بالظفر أنه الخنق، لأن ما ذبح به فإنما ذبح بكف لا بغيرها، فهو مخنوق، فدل ذلك أن ما نهي عنه من الذبح بالظفر [هو الظفر] (¬1) المركب في الكف، لا الظفر المنزوع منها وكذلك ما نهي عنه من الذبح بالسن فإنما هو على السن المركبة في الفم؛ لأن ذلك يكون عظمًا، فأما السن المنزوعة فلا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس في حكم الذبح بالظفر ما حدثنا. . . إلى آخره. أخرجه بإسناد صحيح من طريقين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي عن أبي الأشهب جعفر بن حيان البصري الخزاز العطاردي الأعمي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي وهو الذي أتى عليه مائة وعشرون سنة أدرك النبي -عليه السلام- ولم يره، وأسلم بعد الفتح. وأخرجه ابن حزم (¬2): من طريق معمر، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "المحلى" (7/ 452).

قال: "سألت ابن عباس عن أرنب ذبحتها بظفري، فقال: لا تأكلها, فإنها الخنقة، وفي رواية: "إنما قتلتها خنقًا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق عن يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري المقرئ، قال أحمد وأبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن حبان. عن سلم بن زرير -بفتح الزاي- بن يونس العطار وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، وروى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. قوله: "فملُّوها" بفتح الميم وتشديد اللام أي جعلوها في الملة -بفتح الميم وتشديد اللام- وهي الرماد الحار، الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج ومنه خبز الملة. قوله: "أفلا ترى. . ." إلى آخره ظاهر فافهم. ***

ص: باب أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام

ص: باب أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام ش: أي هذا باب في بيان الأكل من لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام هل يباح أم لا؟ ص: حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا يعقوب بن حميد قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن: "أنه سمع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول يوم الأضحى: أيها النَّاس إن النبي -عليه السلام- قد نهى أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث، فلا تأكلوها بعدها". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أبو صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: "صليت مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- العيد وعثمان بن عفان -رضي الله عنه- محصور فصلى ثم خطب فقال: لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام، فإن رسول الله -عليه السلام- أمر بذلك". ش: هذان طريقان: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه فيه مقال. عن عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي عبيد سعد بن عبيد الزهري المدني مولى عبد الرحمن بن أزهر روى له الجماعة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق. . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح شيخ ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 281 رقم 5636). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1561 رقم 1970).

البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي عبيد سعد بن عبيد. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حرملة بن يحيى قال: أنا ابن وهب قال: حدثني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أبو عبيد مولى ابن أزهر: "أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم قال: ثم صليت مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: فصلى لنا [قبل] (¬2) الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله -عليه السلام- قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا". قوله: "أن تأكلوا نسككم" بضم النون والسين وهو جمع نسيكة وهي الأضحية. قوله: "بعد ثلاث" أي بعد ثلاثة أيام. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي قال: ثنا إسحاق ابن يحيى الكلبي، عن الزهري عن سالم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كلوا منها ثلاثًا، يعني لحوم الأضاحي". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر عن رسول الله -عليه السلام- أنه كان يقول: "لا يأكل أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عي يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، عن إسحاق بن يحيى الكلبي الحمصي قال: محمد بن يحيى الذهلي: مجهول لم يرو عنه إلا يحيى الوحاظي. عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1560 رقم 1969). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

الثاني: إسناده صحيح عن ربيع بن سليمان المؤذن عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد. . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد قال: ثنا ليث. وحدثني محمد بن رمح قال: أنا الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فحرموا لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعة من الظاهرية؛ فإنهم حرموا لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال الحازمي: وممن ذهب إلى هذا القول: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام -رضي الله عنهما-. وقال ابن حزم: فإن نزل بأهل بلد المضحي جَهْدٌ أو نزل به طائفة من المسلمين في جهد؛ جاز للمضحي أن يأكل من أضحيته من حين يضحي بها إلى انقضاء ثلاث ليال كاملة مستأنفة يبتدئها بالعدد من بعد تمام التضحية ثم لا يحل له أن يصبح في منزله منها بعد تمام الثلاث ليال شيء أصلا، لا ما قل ولا ما كثر، فإن ضحى ليلاً فلا يعد تلك الليلة في الثلاث؛ لأنه قدم منها شيء، فإن لم يكن شيء من هذا فليدخر منها ما شاء. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بأكلها وادخارها بأسًا واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس قال: ثنا معن بن عيسى، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير عن ثوبان قال: "ذبح رسول الله -عليه السلام- أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية، فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1560 رقم 1970).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم جماعة العلماء وفقهاء الأمصار منهم: الأئمة الأربعة وأصحابهم، فإنهم لم يروا بأكل لحوم الأضاحي وادخارها بأسًا، واحتجوا في ذلك بحديث ثوبان. أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن معن بن عيسى بن يحيى الأشجعي المدني، عن معاوية بن صالح بن حُدير الحمصي قاضي الأندلس، عن أبي الزاهرية حُدير بن كريب الحضرمي الحمصي عن جبير بن نفير الحضرمي الحمصي عن ثوبان -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب قال: ثنا معن بن عيسى قال: نا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2) عن النفيلي، عن حماد بن خالد الخياط عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية. . . إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3): عن عمرو بن علي عن ابن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية. . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عامر العقدي قال: ثنا زهير بن محمد، عن شريك بن أبي نمر، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه وعمه قتادة أن النبي -عليه السلام- قال: "كلوا لحوم الأضاحي وادخروا". ش: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق شيخ الطحاوي وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي. وأبو سعيد اسمه سعد بن مالك. وعمه قتادة بن النعمان وكان قتادة هذا أخا أبي سعيد الخدري لأمه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (63/ 1563 رقم 1975). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 100 رقم 2814). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 458 رقم 4156).

وأخرجه مسلم (¬1) من طريق آخر: نا أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا عبد الأعلى، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله -عليه السلام-: "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحم الأضاحي فوق ثلاث، فشكوا إلى رسول الله -عليه السلام- أن لهم عيالا وحشمًا وخدمًا، فقال: كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا". وأخرجه البزار في "مسنده" بإسناد الطحاوي: نا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا: نا أبو عامر، نا زهير بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، وعن عمه قتادة بن النعمان أن النبي -عليه السلام- قال: "كلوا من لحوم الأضاحي وادخروا". ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عامر قال: ثنا شعبة، عن جابر بن يزيد عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن كنا لنأكله بعد عشرين، تعني لحم الأضاحي". ش: جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال كثير، والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرج البخاري (¬2): من حديث الثوري، عن عبد الرحمن بن عابس أخبرني أبي، عن عائشة: "قال: سألتها أكان رسول الله -عليه السلام- نهى أن تؤكل الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما نهى عنه إلا مرة في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير، ولقد كنا نخرج الكراع بعد خمس عشرة فنأكله، فقلت: ولم يفعلون؟ فضحكت وقالت: ما شبع آل محمد -عليه السلام- من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله -عز وجل-". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فاحتمل أن يكون أحد هذين المعنيين اللذين ذكرناهما حجة لأحد هذين القولين ناسخًا للمعنى الآخر فنظرنا في ذلك، فإذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1562 رقم 1973). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2068 رقم 5107).

ابن أبي داود قد حدثنا قال: ثنا أبو معمر قال: ثنا عبد الوارث قال: حدثني علي بن زيد قال: حدثني النابغة بن مخارق بن سليم قال: حدثني أبي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي، أن [تؤخروها] (¬1) فوق ثلاثة أيام، فادخورها ما بدا لكم". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا حجاج قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني ابن جريج، عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا زهير بن معاوية، عن زُبيد، عن محارب بن دثار عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد قال: ثنا أبو نعيم (ح). وحدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أحمد بن يونس قالا: ثنا مُعَرِّف بن واصل قال: ثنا محارب بن دثار ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي أن محمد ابن يحيى بن حبان أخبره أن واسع بن حبان أخبره أن أبا سعيد الخدري حدثه عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أيوب بن سليمان بن بلال قال: ثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عطاء بن أبي رباح ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "تدخروها".

سمعه يحدث عن جابر عبد الله: "أنهم كانوا يأكلون الضحايا في عهد رسول الله -عليه السلام- ثلاثًا لا يزيدون عليها، ثم إن رسول الله -عليه السلام- أذن لهم بَعْدُ أن يأكلوا ويتزودوا". حدثنا فهد قال: ثنا علي بن معبد قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عطاء عن جابر نحوه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن زُبيد أن أبا سعيد الخدري أخبره: "أنه أتى أهله فوجد عندهم قصعة ثريد ولحم من لحم الأضحي فأبي أن يأكله فأتى قتادة بن النعمان أخاه فحدثه أن رسول الله -عليه السلام- عام الحج قال: إني كنت نهيتكم أن لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا الحماني قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن نبيشه أن النبي -عليه السلام- قال: "إنا نهيناكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؛ كي تسعكم فقد جاد الله بالسعة، فكلوا وادخروا، فإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله -عز وجل-". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث ومالك، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم أذن فيه فقال: كلوا وتزودوا وادخروا، فقال عمرو: قال أبو الزبير: قال جابر: فتزودنا منها إلى المدينة". حدثنا إبراهيم بن منقذ قال: ثنا إدريس بن يحيى عن بكر بن مضر قال: أخبرني خالد بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر قال: "ضحينا مع رسول الله -عليه السلام- بمنى وتزودنا منها إلى المدينة". حدثنا يونس قال: أخبرني أنس بن عياض، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- نهى أن ندخر لحم

الأضاحي فوق ثلاث، [أمرنا] (¬1) أن نأكل منها ونتصدق منها, ولا نأكلها بعد ثلاث، فأقمنا على ذلك ما شاء الله، ثم بدا لرسول الله -عليه السلام- أن يأمرنا بأكلها والصدقة منها وأن يدخر من أحب ذلك". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثنا الليث، عن الحارث بن يعقوب عن يزيد الأنصاري، عن امرأته "أنها: سألت عائشة عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علي بن أبي طالب من سفره فقدمنا إليه منه، فقال: لا آكل حتى أسال رسول الله -عليه السلام-، فسأله فقال: كلوا من ذي الحجة إلى ذي الحجة". حدثنا بحر عن شعيب، عن أبيه، عن الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد مولى الأنصار ثم ذكر بإسناده مثله. قال: أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار ما يدل على نسخ ما رويناه في أول هذا الباب عن رسول الله -عليه السلام- من النهي عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام. ش: أراد بالمعنيين: المعنى الذي هو حجة لأهل المقالة الأولى وهو جواز أكل لحوم الأضاحي في ثلاثة أيام لا غير. والمعنى الذي هو حجة لأهل المقالة الثانية، وهو جواز الأكل والادخار مطلقًا. وتقرير ذلك: أن الأحاديث لما رويت بالمعنين المذكورين، احتمل أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، فوجدنا أحاديث أخرى وردت ودلت على أن المعنى الذي هو حجة لأهل المقالة الأول منسوخ، وأن حكمه مرفوع، وذلك لأنه هو الآخر من أمر رسول الله -عليه السلام-، وقد علم أن آخر الأمرين ناسخ لما قد تقدمه إذا لم يمكن استعماله، وصح تعارضه. وقال أبو عمر (¬2): لا خلاف فيما علمته بين العلماء في إجازة أكل لحوم الأضاحي ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "وأمرنا". (¬2) "التمهيد" (3/ 216) بتصرف.

بعد ثلاث، وقيل: قبل ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في ذلك. وأخرج أحاديث النسخ عن جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وبريدة بن الخصيب وأبو سعيد الخدري وقتادة بن النعمان وجابر بن عبد الله ونبيشة الهذلي وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنهم-. أما حديث علي -رضي الله عنه-: فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود عن عبد الوارث بن سعيد عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف عن النابغة بن مخارق بن سليم عن أبيه مخارق بن سليم عن علي -رضي الله عنه-. والنابغة ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يتعرض إليه بشيء، ومخارق بن سليم وثقه ابن حبان، وعبد الوراث وعلي بن زيد من رجال الصحيح. الثاني: عند ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي عن أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد أنبا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن زيارة القبور وعن الأوعية وأن نحبس لحوم الأضاحي بعد ثلاث ثم قال: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة، ونهيتكم عن الأوعية فاشربوا فيها، واجتنبوا كل ما أسكر ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تحبسوها بعد ثلاث فاحبسوا ما بدا لكم". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 145 رقم 1235).

فإن قيل: ما حال هذا الإِسناد؟ قلت: قال الذهبي: ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي في الأضحية لم يصح قاله البخاري، وقال ابن حبان: ربيعة روى عن أبيه عن علي عداده في أهل الكوفة وهو ثقة. الثالث: عن محمد بن خزيمة عن الحجاج بن منهال عن حماد بن سلمة. . . إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): عن أبي خيثمة عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة. . . إلى آخره نحوه. وأما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أيوب بن هانئ الكوفي عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن يونس بن عبد الأعلى. . . إلى آخره نحوه سواء، إلا أنه لم يذكر فيه حكم الأضحية. وقال الذهبي: أيوب بن هانئ عن مسروق وعنه ابن جريج: ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم: صالح. وأما حديث بريدة: فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية بن حديج، عن زبيد بن الحارث اليامي، عن محارب بن دثار بن كردوس السدوسي أحد مشايخ أبي حنيفة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة -بضم الباء الموحدة- ابن حصيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- الأسلمي. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (1/ 240 رقم 278). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 501 رقم 1571).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمد بن معدات بن عيسى بن معدان الحراني نا الحسن بن أعين، نا زهير، نا زبيد، عن محارب، عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا". الثاني: عن فهد بن سليمان عن أبي نعيم النضل بن دكين شيخ البخاري عن مُعَرِّف بن واصل السعدي الكوفي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى قالا: ثنا محمد بن فضيل قال أبو بكر: عن أبي سنان وقال ابن مثنى: عن ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن ابن بريدة، عن أبيه. وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: ثنا محمد بن فضيل قال: نا ضرار بن مرة أبو سنان عن محارب بن دثار عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود عن مُعَرِّف بن واصل عن محارب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن يونس ثنا معرف بن واصل قال: ثنا محارب ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 311 رقم 5653). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 672 رقم 977). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 332 رقم 3689).

ابن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم عن ثلاث، وأنا آمركم بهن: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن في زيارتها تذكرة، ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلاَّ في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني الحجاج بن الشاعر قال: ثنا الضحاك بن مخلد عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم. . ." الحديث، فذكر بمعنى حديث ضرار بن مرة عن محارب عن ابن بريدة عن أبيه المذكور آنفًا. وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فأخرجه من ثلاث طرق ولكنه لم يرتبها ونحن نذكرها مرتبة: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى المصري عن عبد الله بن وهب المصري عن أسامة بن زيد الليثي المدني عن محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الأنصاري المدني عن عمه واسع بن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- المدني عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى بن آدم نا ابن المبارك عن أسامة، عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة، ونهيتكم عن النبيذ فاشربوا ولا أحل مسكرًا ونهيتكم عن الأضاحي فكلوا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1564 رقم 1977). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 38 رقم 11347).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، ثنا ابن لهيعة، نا أبو الزبير، عن زبيد أن أبا سعيد الخدري أخبره: "أنه أتى أهله من سفر فوجد عندهم قصعة ثريد من لحم الأضاحي فأبى أن يأكله فأتى قتادة بن النعمان فأخبره أن رسول الله -عليه السلام- قال للناس زمن الحج: إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث: ليتسع للناس وإني أحله لكم فكلوا ما شئتم". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حجاج، عن ابن جريج قال: ثنا سليمان بن موسى أخبرني زبيد: "أن أبا سعيد الخدري أتى أهله فوجد قصعة من قديد الأضحى فأبى أن يأكله، فأتى قتادة بن النعمان فأخبره أن النبي -عليه السلام- قام فقال: إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاث أيام؛ ليسعكم وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها وإن أطعمتم من لحمها فكلوا إن شئتم". وقال في هذا الحديث: عن أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه السلام-: "والآن كلوا واتجروا وادخروا". حدثنا (¬3) حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر. . . نحو حديث زبيد هذا عن أبي سعيد ولم يبلغه كله ذلك عن النبي -عليه السلام-. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة القضاعي المدني عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة زوجة أبي سعيد الخدري، عن زوجها أبي سعيد الخدري. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 5 رقم 7). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 15 رقم 16256). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 15 رقم 16257).

وهذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. وأما حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فأخرجه من أربع طرق صحاح ولكنها غير مرتبة ونحن نذكرها مرتبة: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أيوب بن سليمان بن بلال القرشي المدني شيخ البخاري، عن أبي بكر بن أويس واسمه عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني الأعشى، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق التيمي المدني، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر -رضي الله عنه-. وأخرج البزار في "مسنده": عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم عن ابن جريج، عن عطاء سمع جابر بن عبد الله قال: "كنا لا نأكل من البُدن إلا ثلاث بمنى فاستأذنا النبي -عليه السلام-، فرخص لنا أن نأكل ونتزود، فأكلنا وتزودنا". وأخرجه العدني في "مسنده": عن عبد المجيد، عن ابن جريج. . . إلى آخره. الثاني: عن فهد بن سليمان عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم قال: أنا زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نتزود منها ونأكل منها يعني فوق ثلاث". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1562 رقم 1972).

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري ومالك بن أنس، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي عن جابر. وأخرجه مسلم: نا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا". الرابع: عن إبراهيم بن منقذ العصفري، عن إدريس بن يحيى بن إدريس بن يحيى الخولاني المصري وثقه ابن حبان، عن بكر بن مضر بن محمد المصري، روى له الجماعة سوى ابن ماجه عن خالد بن يزيد الإسكندراني روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأما حديث نبيشة الهذلي الصحابي -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن خالد بن عبد الله الطحان الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي المليح بن أسامة الهذلي، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة، وقيل غير ذلك عن نبيشة الخير الهذلي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد قال: ثنا يزيد بن زريع قال: نا خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن نبيشة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي يسعكم، جاء الله بالسَّعة فكلوا وادخروا واتجروا، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله -عز وجل-". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح عن نبيشة، أن النبي -عليه السلام- قال: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؛ فكلوا وادخروا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 100 رقم 2813). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1055 رقم 3160).

قوله: "بالسعة" بفتحتين أي: بالجده والطاقة. قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (¬1). قوله: "اتجروا" لم تقع في رواية الطحاوي، وإنما هو من رواية أبي داود. قال البيهقي: معناه: ابتغوا أجرها وليس هو من باب التجارة. وقال الخطابي: أصله إئتجروا على وزن افتعلوا، يريد الصدقة التي يبتغى أجرها وثوابها، ثم يقال: اتجروا كما قيل: اتخذت الشيء وأصله ائتخذت وهذا من الأجر كهو من الأخذ وليس هو من باب التجارة؛ لأن البيع من الضحايا فاسد، إنما يؤكل ويتصدق منها. قوله: "فإن هذه الأيام أيام أكل وشرب" فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر، فكما لا يجوز صيامه فكذلك صيام أيام التشريق سواء كان تطوعًا أو نذرًا أو صامها الحاج عن التمتع والله أعلم. وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- فأخرجه من طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري، عن يزيد بن أبي يزيد الأنصاري، عن امرأته عن عائشة وهؤلاء ثقات غير أن امرأة يزيد الأنصاري مجهولة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حجاج، نا ليث حدثني الحارث بن يعقوب الأنصاري، عن يزيد بن أبي يزيد الأنصاري عن امرأته: "أنها سألت عائشة عن لحوم الأضاحي فقالت عائشة -رضي الله عنها- قدِم علينا عليٌّ -رضي الله عنه- من سفر فقَدَّمنا إليه منه فقال: لا آكله حتى أسأل عنه رسول الله -عليه السلام- قالت: فسأله علي، فقال رسول الله -عليه السلام-: كلوه من ذي الحجة إلى ذي الحجة". ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [7]. (¬2) "مسند أحمد" (6/ 155 رقم 25259).

الثاني: عن بحر بن نصر الخولاني، عن شعيب بن الليث عن أبيه الليث بن سعد، عن الحارث بن يعقوب. . . إلى آخره. ص: فإن قال قائل: فقد رويتم عن علي -رضي الله عنه- في هذا الفصل عن النبي -عليه السلام- أنه أباح لحوم الأضاحي بعدما قد كان نهى عنه ثم رويتم عنه -في الفصل الذي قبل ذلك الفصل- أنه خطب الناس، وعثمان -رضي الله عنه- محصور فقال: لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام، وإن رسول الله -عليه السلام- كان يأمر بذلك، فقد دل ذلك على أن رسول الله -عليه السلام- قد كان نهى عن ذلك بعدما قد أباحه حتى تتفق معاني ما رويتموه عن علي -رضي الله عنه- مِنْ هذا. قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان نهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؛ لشدة كان الناس فيها ثم ارتفعت تلك الشدة فاباح لهم لذلك، ثم عاد ذلك في وقت ما خطب علي -رضي الله عنه- بالناس فأمرهم بما كان رسول الله -عليه السلام- أمر به في مثل ذلك والدليل على ما ذكرنا من هذا: أن ابن مرزوق حدثنا قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان، ثنا عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه قال: "دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: يا أم المؤمنين أَحَرَّم رسول الله -عليه السلام- أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام؟ فقالت: إنما فعل ذلك في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير قالت: ولقد كنا نرفع الكراع خمس عشرة ليلة". فدل هذا الحديث أن ذلك النهي إنما كان من رسول الله -عليه السلام- للعارض المذكور في هذا الحديث، فلما ارتفع ذلك العارض أباح لهم رسول الله -عليه السلام- ما قد كان حظره عليهم على ما ذكرناه في الآثار الأُول التي في الفصل الذي قبل هذا فكذلك ما فعله علي -رضي الله عنه- في زمن عثمان -رضي الله عنه- وأمر به الناس بعد علمه بإباحة رسول الله -عليه السلام- ما قد نهاهم هو عنه إنما كان ذلك منه -عندنا والله أعلم- لضيق كانوا فيه مثل ما كانوا في زمن رسول الله -عليه السلام- في الوقت الذي نهاهم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام فأمرهم في أيامهم بمثل ما كان رسول الله -عليه السلام- أمر به الناس في مثلها.

ش: تقرير السؤال: أن يقال: قد رويتم في هذا الباب حديثين عن علي -رضي الله عنه-: الأول: رويتم ها هنا عنه عن النبي -عليه السلام- أنه أباح لحوم الأضاحي فوق الثلاث بعدما كان نهى عنه، ورويتم قبل هذا في أول الباب أنه خطب الناس حين كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- محصورًا، وقال: "لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام"، وقال: "إن رسول الله -عليه السلام- كان يأمر بذلك". وبين الحديثين تعارض ودفعه واجب مهما أمكن، وقد أمكن ها هنا، بأن يكون ما كان نهى عنه رسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بعدما قد أباحه فبهذا يرتفع التضاد ويتفق معنى الحديثين ويثبت المدعى وهو أن الأكل من لحوم الأضاحي فوق الثلاث ممنوع. وتقرير الجواب: أن يقال: لا نسلم ما ذكرتم؛ لأنه قد يجوز أن يكون نهيه -عليه السلام- عن ذلك فيما فوق الثلاث إنما كان لأجل شدة كان الناس فيها ثم لما ارتفعت الشدة أباح لهم ذلك لحصول السعة للناس ثم لما عادت الشدة في الوقت الذي خطب فيه عليٌّ -رضي الله عنه- وهو الوقت الذي كان عثمان -رضي الله عنه- محصورًا فيه أمر علي -رضي الله عنه- الناس بما كان أمر به النبي -عليه السلام- في الوقت الذي كانت فيه الشدة لأجل أن يطعم الغني الفقير ويواسي به إياه فلما ارتفعت الشدة عادت الإباحة أيضًا والدليل على ذلك ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-. أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عابس النخعي الكوفي عن أبيه عابس بن ربيعة النخعي الكوفي عن أم المؤمنين عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): من حديث الثوري. . . إلى آخره بأتم منه، وقد ذكرناه فيما مضى. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2068 رقم 5107).

فإنها صرحت في حديثها بعلة النهي حيث قالت: "إنما فعل ذلك في عام جاع الناس فيه؛ فأراد أن يطعم الغني الفقير" فدل الحديث أن النهي منه -عليه السلام- إنما كان لأجل هذا العارض فلما ارتفع هذا العارض -الذي هو علة النهي- ارتفع حكم النهي وهو المنع عن تناول لحوم الأضاحي فيما فوق الثلاث، وعادت الإباحة. قوله: "أحرم" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "كنا نرفع الكراع" قال الجوهري: الكراع في الغنم والبقر بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير وهو مستدق الساق يُذكَّر ويؤنث، والجمع أكرع ثم أكارع. ص: وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -عليه السلام- إنما كان نهى عن ذلك؛ لأجل دافة دفت عليهم. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عثمان بن عمر قال: أنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة قالت: "دفت ناس من أهل البادية حضرة الأضحى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادخروا الثلاث وتصدقوا بما بقي، قالت: فلما كانت بعد قلت: يا رسول الله قد كان الناس ينتفعون بضحاياهم يجملون منها الودك، ويتخذون منها الأسقية، قال: وما ذاك؟ قلت: نهيت عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، قال: إنا كنت نهيتكم للدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وتزودوا". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب أن مالكَّاَ حدثه. . . بإسناد مثله. فأخبرت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن حَرَمَها ولكنه أراد التوسعة على الدافة التي دفت عليهم، فقد عاد معنى هذا الحديث إلى معنى حديث عابس عن عائشة -رضي الله عنها-. ش: ذكر هذا شاهدًا لما ذكره من أن نهيه -عليه السلام- عن أكل لحوم الأضاحي فيما فوق الثلاث إنما كان لأجل عارض فلما ارتفع العارض ارتفع النهي، وذلك لأن عائشة -رضي الله عنها- قد أخبرت في هذا الحديث أنه -عليه السلام- لم يكن حرم لحوم الأضاحي بعد ثلاث وإنما نهى عنه لأجل التوسعة على الدافة التي دفت عليهم، فقد صار معنى حديثي عائشة سواء.

وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن عثمان بن عمر بن فارس عن مالك. . . إلى آخره. والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أنا روح قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق؛ سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: دفَّ أهل أبيات من البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله -عليه السلام-، وقال رسول الله -عليه السلام-: ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي. فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله -عليه السلام-: وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا". قوله: "دف ناس" معناه: جاءوا إلينا وأتونا وأصله من دفيف الطائر إذا حرك جناحيه ورجلاه في الأرض يقال فيه: دَفَّ يَدِفُّ دفيفًا. قال الخليل: والدافة قوم يدفون أي يسيرون سيرًا لينًّا، وتداف القوم إذا ركب بعضهم بعضًا في قتالٍ أو نحوه. وفي "النهاية": الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد يقال: هم يدفون دفيفًا، والدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، يريد أنهم قوم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، ليفرقوها ويتصدقوا بها، فينتفع بها أولئك القادمون. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1561 رقم 1971).

قوله: "حضرة الأضحى" معناه: وقت الأضحى، وفي حين الأضحى. قوله: "يجملون منها الودك" أي يذيبون منها الشحم يقال: جملت الشحم -بالجيم- وأجملته إذا أذبته واستخرجت دهنه، وجملت أفصح من أجملت والودك -بفتح الواو والدال- الشحم. قال الجوهري: "الودك" دسم اللحم. و"الأسقية" جمع -سقاء بكسر السين - وهو الدلو. ص: وقد روي هذا الحديث عن عابس عن عائشة -رضي الله عنها- على غير ذلك اللفظ. حدثنا فهد قال: ثنا أبو غسان قال: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عابس ابن رييعة قال: "أتيت عائشة -رضي الله عنها- فقلت: يا أم المؤمنين أكان رسول الله -عليه السلام- حَرَّم لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ فقالت: لا، لكنه لم يكن ضحى منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليُطعم من ضحى منهم من لم يضح، ولقد رأيتنا نخبئ الكراع ثم نأكلها بعد ثلاث". فقد يجوز أن تكون تلك الدافة كانت كثيرة، فكان الناس الذين يضحون معها قليلاً فأمرهم رسول الله -عليه السلام- بما أمرهم به من الصدقة؛ من أجل ذلك فقد عاد معنى هذا أيضًا إلى معنى ما قبله. ش: أراد بـ"هذا الحديث": الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عابس عن أبيه عن عائشة، وحاصله: أن حديث عابس عن عائشة روي على وجهين: أحدهما: ما رواه سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه عن عائشة. والآخر: ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن عابس عن عائشة. وعند التحقيق يرجع معناهما إلى معنى واحد، وقد بينه الطحاوي. وأخرج الحديث الثاني أيضًا بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عابس بن ربيعة قال: "قلت لأم المؤمنين: كان رسول الله -عليه السلام- ينهى عن لحوم الأضاحي؟ قالت: لا, ولكن قلَّ من كان يضحي في الناس، فأحب أن يطعم من لم يكن يضحي ولقد كنا نرفع الكراع فنأكله بعد عشرة أيام". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأم المؤمنين هي عائشة زوج النبي -عليه السلام-. قوله: "ليطعم مَنْ ضحى منهم مَنْ لم يضح" فقوله ليطعم: من الإطعام، و"مَنْ" الأولى في محل الرفع على الفاعلية و"مَنْ" الثانية في محل النصب على المفعولين. قوله: "ولقد رأيتنا" بضم التاء أي: لقد رأيت أنفسنا. ص: وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أيضًا: أن ذلك القول من رسول الله -عليه السلام- لم يكن على العزيمة، ولكنه كان على الترغيب منه لهم في الصدقة. حدثنا فهد قال: ثنا أبو صالح قال: حدثني الليث قال: ثنا عبيد الله، عن أبي الأسود، عن هشام بن عروة، عن يحيى بن سعيد عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت في لحوم الأضاحي: "كنا نصلح منه، فيقدم به الناس إلى المدينة فقال: لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام" ليست بالعزيمة ولكن أراد أن يطعموا منه فلم يخل نهي رسول الله -عليه السلام- عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام من أحد وجهين: إما أن يكون ذلك على التحريم أو يكون ذلك على الحض منه لهم على الصدقة والخير، فإن كان ذلك على الحض منه لهم على الصدقة لا على التحريم، فذلك دليل على أن لا بأس بادخار لحوم الأضاحي وأكلها بعد الثلاث، وإن كان ذلك كان من رسول الله -عليه السلام- على التحريم فقد كان منه بعد ذلك ما قد نسخ وأوجب التحليل، فثبت بما ذكرنا إباحة ادخار لحوم الأضاحي وأكلها في الثلاث وبعدها، وهذا قول أبي حنفية وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 95 رقم 1511).

ش: هذا جواب آخر عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقال الأولى فيما ذهبوا إليه من عدم جواز أكل لحوم الأضاحي فيما فوق الثلاث، بيانه: أن ما روي عن النبي -عليه السلام- من نهيه عن ذلك فيما فوق الثلاث لم يكن ذلك عنه -عليه السلام- على العزيمة يعني التأكيد في المنع والحظر، ولكن كان ذلك نهي شفقة وإرشاد؛ ترغيبًا لهم في الصدقة، وحثًّا عليهم بها في مثل هذه الأيام الشريفة ليطعم الذي ضحى من لم يضح ويواسي به الغني الفقير وقد صرحت بذلك عائشة في هذا الحديث حيث قالت: فقال: "لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام ليست بالعزيمة ولكن أراد أن يطعموا منه" فإذا كان كذلك بطل استدلال أهل المقالة الأولى بتلك الأحاديث فيما ذهبوا إليه. قوله: "فلم يخل نهي رسول الله -عليه السلام-. . ." إلى آخره ظاهر غني عن البيان. وإسناد هذا الحديث صحيح، وأبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري. وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- القرشي العدوي العمري المدني روى له الجماعة. وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي المدني يتيم عروة روى له الجماعة. وعمرة هي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية روى لها الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي أبو بكر عن سليمان -هو ابن بلال- عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الضحية كنا نملح منها فنقدم به إلى النبي -عليه السلام- بالمدينة فقال: لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام وليست بعزيمة ولكن أراد أن يُطعم منه". ... ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2116 رقم 5250).

ص: باب أكل الضبع

ص: باب أكل الضبع ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل الضبع هل يجوز أم لا؟ والضبع -بفتح الضاد وضم الباء وتسكينها- هو حيوان معروف، ولا يقال في الأنثى: ضبعة؛ لأن الذكر ضبعان، والجمع ضباعين، مثل سرحان وسراحين، والأنثى: ضِبْعانة، والجمع [ضبعانات] (¬1) وضباع وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سبع وسباع. ص: قال أبو جعفر: ذهب قوم إلى إباحة أكل لحم الضبع، واحتجوا في ذلك بحديث ابن أبي عمار أن رسول الله -عليه السلام- قال: "هي من الصيد"، وبحديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك، "ويؤكل"، وقد ذكرنا ذلك بإسناده في "كتاب مناسك الحج". ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم أباحوا أكل لحم الضبع وهو مذهب الظاهرية أيضًا. واحتجوا في ذلك بحديث عبد الرحمن بن أبي عمار: "أنه سأل جابرًا عن الضبع، فقال: أأكلها؟ قال: نعم، قال: أصيد هي؟ قال: نعم. قال: أسمعت ذلك عن النبي -عليه السلام-؟ فقال: نعم". أخرجه الطحاوي في "كتاب الحج" من ثمان طرق، وقد ذكرنا هناك أن أبا دواد والترمذي وابن ماجه أخرجوه (¬2). واحتجوا أيضًا بحديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء عن جابر عن النبي -عليه السلام- مثله. وأخرجه الطحاوي هناك، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر الحوضي، عن حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ به. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ضبعانة"، والمثبت من "مختار الصحاح": (ضبع). (¬2) تقدم.

وأخرجه البيهقي في "سننه" نحوه، وقد ذكرناه هناك (¬1). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يؤكل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب والأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا فإنهم قالوا: لا يؤكل الضبع. وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن يزيد قال: "سألت سعيد بن المسيب عن الضبع؟ فكرهه، فقلت له: إن قومك يأكلونه، فقال: إن قومي لا يعلمون" وقال الأوزاعي: "كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن حديث جابر هذا قد اختلف في لفظه؛ فرواه كل واحد من حديث إبراهيم الصائغ كما ذكرنا عنه، ورواه ابن جريج على خلاف ذلك، فذكر عن ابن أبي عمار: "أنه سأل جابرًا عن الضبع، فقال: أصيد هي؟ قال: نعم، قال: وسمعت ذلك من النبي -عليه السلام-؟ فقال: نعم". فأخبر عن النبي -عليه السلام- أنها صيد، وليس كل الصيد يؤكل، فاحتمل أن تكون الزيادة على ذلك المذكور في حديث ابن جريج من قول جابر؛ لأنه سمع النبي -عليه السلام- سماها صيدًا. واحتمل أن يكون عن النبي -عليه السلام- فلما احتمل ذلك، ووجدنا السنة قد جاءت عن رسول الله -عليه السلام- أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع، والضبع ذو ناب، لم يُخْرج من ذلك شيئًا، قد علمنا أنه دخل فيه شيء لم نعلم يقينا أنه أخرجه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من تحريم أكل الضبع. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 514 رقم 8687) بنحوه.

بيان ذلك: أن حديث جابر -رضي الله عنه- مضطرب في متنه؛ لأن جماعة رووه من حديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، على خلاف ما رواه عبد الملك بن جريج، عن عبد الله بن عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر، وذلك لأن ابن جريج روى عن ابن عبيد، عن ابن أبي عمار، عن جابر: "أنه سأله عن الضبع، أأكلها؟ قال: نعم، فقال: أصيد هي؟ قال: نعم. قال: وسمعت ذلك من النبي -عليه السلام-؟ فقال: نعم". وأخرجه الترمذي (¬1)، وقال: حديث حسن صحيح. وروى إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- قال: "الضبع صيد، وجزاؤها كبش مُسِنٌ ويؤكل". وأخرجه البيهقي (¬2). فأخبر في هذا الحديث عن النبي -عليه السلام-: "أن الضبع صيد، وما كلّ صيدٍ يؤكل، ثم قوله: "ويؤكل" زيادة على رواية غيره، ويحتمل أن تكون تلك الزيادة من قول جابر نفسه، ويحتمل أن تكون من النبي -عليه السلام-، فلما احتمل ذلك، ووجدنا السنة قد جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرق صحيحة أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولا شك أن الضبع ذو ناب فشملته السنة الصحيحة، فخرج بذلك عن أن يكون من المأكولات. فإن قيل: ليس هذا باضطراب ولا خلاف في الحديث، بل إنما هو زيادة في بعض الطرق على الباقية فتقبل الزيادة ويعمل بها. قلت: روى تلك الزيادة إبراهيم الصائغ، فقد قال أبو حاتم: لا يحتج به، وذكره النسائي في "الضعفاء". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 207 رقم 851). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 183 رقم 9655).

وأجاب بعض أصحابنا في هذا الموضع فقال: حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع صحيح مشهور، ثابت مروي من عدة طرق، فلا يعارض به حديث "الضبع صيد" لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس هو بمشهور بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه، كذا قال: صاحب "التمهيد". فإن قيل: وقد روي أيضًا عن طريق عطاء، عن جابر كما ذكرنا. قلت: فيه شخصان فيهما كلام، وهما حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم بن ميمون الصائغ. أما حسان فقد ذكره النسائي في "الضعفاء"، وقال: ليس بالقوي. وأما الصائغ فقد ذكرنا الآن عن أبي حاتم ما قال فيه. وقال الكاساني: حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع مشهور مُحَرِّم، وحديث جابر في الضبع ليس بمشهور وهو مُحَلِّل، فالمحرِّم يقضي على المبيح؛ احتياطًا. انتهى. وقد أثبت بعض أصحابنا فيه النسخ؛ فقال: حديث جابر منسوخ. فإن قيل: كيف هذا النسخ؟ وما وجهه؟ قلت: قال شمس الأئمة بعد أن ذكر طرق التخلص عن التعارض بين الأحاديث: وأما طلب التخلص بدلالة التاريخ, وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر، والآخر موجبًا للإباحة نحو ما روي أنه -عليه السلام- نهى عن أكل الضب، وروي أنه رخص فيه، وما روي أنه نهي عن أكل الضبع، وروي أنه رخص فيه، فإن التعارض بين النصين ثابت من حيث الظاهر، ثم ينتفي ذلك بالمصير إلى دلالة التاريخ، وهو أن النص الموجب للحظر لأنه يكون متأخرًا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى فإن قيل: أجعل الموجب للإباحة في حكمه؟

قلت: لا يمكن ذلك؛ لأنه يلزم منه إثبات النسخ مرتين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة، فإذا جعلنا نص الحظر متأخرًا احتجنا إلى إثبات النسخ في أحدهما خاصة، فكان هذا الجانب أولى، ولأنه قد ثبت بالاتفاق نسخ حكم الإباحة بالحظر، فأما نسخ حكم الحظر بالإباحة محتمل، وبالاحتمال لا يثبت النسخ، ولأن النص الموجب للحظر فيه زيادة حكم، وهو نيل الثواب بالانتهاء، واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وذلك ينعدم في النص الموجب للإباحة، فكان تمام الاحتياط في إثبات التاريخ بينهما على أن يكون الموجب للحظر متأخرًا والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع. ص: فمما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم كل ذي ناب من السباع ما حدثنا ربيع المؤذن ونصر بن مرزوق، قالا: ثنا أسد قال: ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول -عليه السلام- عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر. . . فذكر بإسناده مثله، وقال: "نهى رسول الله -عليه السلام-. . .". حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا أبو عوانة. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع". حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. فقد قامت الحجة عن رسول الله -عليه السلام- بنهيه عن كل ذي ناب من السباع، وتواترت بذلك الآثار عنه، فلا يجوز أن يخرج من ذلك الضبع إذا كانت ذا ناب من السباع، إلا بما تقوم علينا به الحجة بإخراجها من ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فمن الذي روي عن النبي -عليه السلام- في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. ولما كان الضبع من ذوات الناب، وكل ذي ناب حرام أكله، فالضبع حرام أكله؛ لأن أحاديث تحريم ذوات الناب متواترة -يعني كثيرة مشهورة- فقامت بها الحجة، فلا يخرج عنها الضبع إلا بما هي حجة مثلها. ثم إنه أخرج في ذلك عن أربعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو ثعلبة الخشني، وأبو هريرة -رضي الله عنهم-. أما حديث علي -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- ونصر بن مرزوق، كلاهما عن أسد بن موسى، عن عبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد المكي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا أبو خيثمة نا عبد الصمد بن عبد الوارث أخبرني أبي، ثنا الحسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي -رضي الله عنه-: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير، وعن ثمن الميتة، وعن ثمن الخمر، و [الحمر] (¬2) الأهلية، وكسب البغيّ، وعن عسب كل ذي فحل". وأما حديث ابن عباس: فأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن ميمون بن مهران الجزري الأسدي، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه مسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن أبي بشر، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس نحوه. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حبان التنيسي شيخ الشافعي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن ميمون بن مهران عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا: حدثني أبو كامل الجحدري، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير". الثالث: عن أحمد بن عبد المؤمن المروزي، عن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، عن أبي عوانة الوضاح، عن أبي بشر، عن ميمون. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (1/ 295 رقم 357). (¬2) في "الأصل، ك": "حمر" بدون تعريف، والمثبت من "مسند أبي يعلى". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1534 رقم 1934). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 12534 رقم 1934).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1). الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله الطفاوي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن الحارث بن عبيد البصري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن علي بن الحكم البناني البصري، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن ابن أبي عروبة، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير". الخامس: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، عن مجاهد، عن ابن عباس -رضي الله عنهم-. وأما حديث أبي ثعلبة الخشني: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني: وقد اختلف في اسمه؛ فقيل: جرثومة، وقيل: جرثوم، وقيل: ناشج، وقيل: عمرو، وقيل: لاشق. واختلف في اسم أبيه أيضًا؛ فقيل: ناشر، وقيل: ناشب، وقيل: جرثوم، وقيل: ناشج، وقيل: غير ذلك. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع أبا ثعلبة الخشني يقول: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 25 رقم 92). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 355 رقم 3805). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1533 ر قم 1932).

"نهى رسول الله -عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع" قال ابن شهاب: ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء أهل الشام. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا. وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيَّار [الشعيري] (¬2) البصري شيخ أبي داود، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي المروزي، عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬3): عن قتيبة بن سعيد، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- حرم كل ذي ناب من السباع". وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4): عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". وقال الترمذي (¬5): وفي الباب عن عرباض بن سارية، وابن عباس. قلت: وفي الباب أيضًا: عن جابر، والمقدام بن معدي كرب، وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 355 رقم 3806). (¬2) في "الأصل": "العشيري"، بتقديم العين علي الشين المعجمة، وهو تحريف، والمثبت من "تهذيب الكمال" (22/ 580)، ومصادر ترجمته. (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 73 رقم 1478). (¬4) "موطأ مالك" (2/ 496 رقم 1060). (¬5) "جامع الترمذي" (4/ 73 رقم 1478).

أما حديث عرباض: فأخرجه الطبراني (¬1): ثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، ثنا المسيب بن واضح، ثنا أشعث به شعبة، عن أرطاة بن المنذر، عن حكيم بن عمير، عن العرباض بن سارية، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يحل لكم من السباع كل ذي ناب ولا الحمر الأهلية". وأما حديث جابر: فأخرجه الترمذي (¬2): ثنا محمود بن غيلان قال: ثنا أبو النضر هو هاشم بن القاسم، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: "حرَّم رسول الله -عليه السلام- في يوم خيبر الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير". وأما حديث المقدام بن معدي كرب فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمد بن المصفى الحمصي قال: ثنا محمد بن حرب، عن عوف، عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة التغلبي، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله -عليه السلام- قال: "ألا لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي. . ." الحديث. وأما حديث خالد بن الوليد فأخرجه أبو داود (¬4) أيضًا: ثنا عمرو بن عثمان، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: حدثني أبو سلمة -يعني سليمان- بن سليم، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن جده المقدام بن معدي كرب، عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قال: "غزوت مع النبي -عليه السلام- يوم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله -عليه السلام-: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم حمر الأهلية، وخيلها، وبغالها وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 258 رقم 645). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 73 رقم 1478). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 355 رقم 3804). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 356 رقم 3806).

قوله: "عن كل ذي ناب" الناب: واحد الأنياب، وهو ما يلي الرباعيات من الأسنان، و"ذو الناب من السباع" مثل: الأسد والنمر والدب والذئب والضبع والثعلب، وما أشبه ذلك. و"ذو المخلب من الطير" مثل: الصقر والبازي والعقاب والحداءة، ونحوها. فكل واحد من النوعين يحرم أكله بهذا النص، والنهي الذي فيه: نهي التحريم. قال أبو عمر (¬1): كل خبر جاء عن النبي -عليه السلام- فيه نهي فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين المراد منه أنه ندب وأدب، وما أعلم أحدًا من العلماء جعل النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من باب الأدب والإِرشاد، إلا أن بعض أصحابنا زعم أن النهي عن ذلك نهي تنزيه وتقذر، ولا أدري ما معنى قوله: تنزيه وتقذر؟ فإن أراد نهي أدب فهذا ما لا يُوافَق عليه، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يجب التنزه عن النجاسات والأقذار فهو غاية التحريم، لأن المسلمين لا يختلفون في أن النجاسات محرمة العين أشد التحريم، ولم يُرِد القائلون من أصحابنا هذا, ولكنهم أرادوا الوجه الذي هو عند أهل العلم ندب وأدب؛ لأن بعضهم احتج بظاهر قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .} الآية (¬2) وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية ولم يحرم ما عداها، وكأنه لا حرام عنده على طاعم إلا ما ذكر في هذه الآية، ويلزمه على أصله هذا أن يحلل كل الحمر الأهلية، وهو لا يقول بهذا ولا أحد من أصحابه، وهذه مناقضة، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدًا، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب المسكر دليل واضح على أن رسول الله -عليه السلام- قد وجد فيما أوحي إليه محرمًا على طاعم يطعمه، وقد اختلف الفقهاء في تأويلها على أربعة أقول: ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 141 - 143) بتصرف. (¬2) سورة الأنعام، آية: [145].

فقال قوم من العراقيين ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة: إنها منسوخة بنهي النبي -عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية. وقال قوم: إن الآية نزلت جوابًا لما سأل عنه قوم من أصحابه فأجيبوا عن مسألتهم، والمعنى: قل لا أجد فيما أوحي إلى مما ذكرتم أو مما كنتم تأكلون. قاله: طاوس، ومجاهد، وقتادة، واستدلوا على ذلك بأن الله -عز وجل- قد حرم في كتابه وعلى لسان نبيه -عليه السلام- أشياء لم تذكر في الآية، لا يختلف المسلمون في ذلك. وقيل: الآية محكمة، ولا تحرم إلا ما فيها، وهو قول يروى عن ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم-، وقد روي عنهما خلافه، وروي عن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير في الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع. وأما فقهاء الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك، وأن كل ما حرمه رسول الله -عليه السلام- مضموم إليها، وهو زيادة حكم من الله تعالى على لسان نبيه، ولا فرق بين ما حرَّم الله أو حرمه على لسان نبيه -عليه السلام- بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬1) وقوله: و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2) فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال، ولكنه يكره أكل السباع. وعند فقهاء الأمصار -منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبد الملك-: أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} (¬3) بما يرد من الدليل فيها، كما قال -عليه السلام-: "لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث" (¬4) فذكر الكفر، والزنا والقتل، ثم قال علماؤنا: أسباب ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [54]. (¬2) سورة النساء، آية: [80]. (¬3) سورة الأنعام، آية: [145]. (¬4) متفق عليه من حديث ابن مسعود، البخاري (6/ 2521 رقم 6484)، ومسلم (3/ 1302 رقم 1676).

القتل عشرة بما ورد من الأدلة إذ النبي -عليه السلام- إنما يخبر عما وصل إليه من العلم عن الباري سبحانه وتعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت، وينسخ ويقرر، وقد ثبت عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وهو صريح المذهب. وقال أبو عمر: أجمعوا على أن سورة الأنعام مكية إلا قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. . .} (¬1) الثلاث آيات، وأجمعوا أن نهي رسول الله -عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة، ولم يرو ذلك غير أبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني وإسلامها متأخر بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام، وقد روي عن ابن عباس عن النبي -عليه السلام- مثل رواية أبي هريرة وأبي ثعلبة من وجه صالح، قال إسماعيل ابن إسحاق القاضي: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .} (¬2) لأن ذلك مكي. قال أبو عمر: اختلف العلماء في معنى قوله -عليه السلام- "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" فقال الشافعي ومن تبعه والليث بن سعد: إنما أراد -عليه السلام- بقوله هذا: ما كان يعدو على الناس، مثل الأسد والذئب والنمر والكلب العادي، وما أشبه ذلك مما الأغلب من طبعه أن يعدو، وما كان الأغلب من طبعه ألا يعدو فليس مما عناه -عليه السلام- بقوله هذا، وإذا لم يكن من طبعه أن يعدو فلا بأس بأكله كالثعلب والضبع. وقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل شيء من سباع الوحشي كلها ولا الهر الوحشي ولا الأهلي؛ لأنه سبع، قالوا: ولا يؤكل الضبع، ولا الثعلب. وزاد ابن عبد الحكم في حكايته عن مالك قال: وكل ما يفترس ويأكل اللحم ولا يرعى الكلأ فهو سبع لا يؤكل، هذا هو المشهور عن مالك، وقد روي عنه: أنه لا بأس بأكل الثعلب والوبر، وقال أبو يوسف: أما الوبر فلا أحفظ فيه شيئًا عن ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [151]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [145].

أبي حنفية، وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله؛ لأنه يعتلف البقول والنبات، وقال أبو يوسف في السنجاب والفنك (¬1) والسنور: كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس. قال أبو عمر (¬2): ولا بأس عند مالك بأكل الضب واليربوع والورل (¬3)، قال عبد الرزاق: بالورل يشبه الضب، وروي عن أشهب أن لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي. وهو قول الشعبي وابن الحسن وغيره؛ لأنه ذو ناب، وقال ابن حزم: وأما الفيل فليس سبعًا ولا جاء في تحريمه نص فهو حلال. وأما الخلاف في الطيور التي لها مخلب فقد ذكرناه في "كتاب الحج" مستقصى، فقد قيل: المحرم الصيد. ... ¬

_ (¬1) "الفنك": دابة يفترى جلدها -أي: يلبس جلدها- فروا. انظر "لسان العرب": (فنك). (¬2) "التمهيد" (1/ 156). (¬3) الورل: "دابة مثل الضب". انظر "مختار الصحاح": (ورل).

ص: باب صيد المدينة

ص: باب صيد المدينة ش: أي هذا باب في بيان حكم صيد المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وأفضل سلامه. ص: حدثا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التيمي، قال: حدثني أبي، قال: "خطبنا علي -رضي الله عنه- على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلقة به، فقال: والله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، فإذا فيها: المدينة حرام من عير إلى ثور". ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والأعمش هو: سليمان، وإبراهيم بن يزيد التيمي، -تيم الرباب- الكوفي، وأبوه: يزيد بن شريك التيمي. وأخرجه البخاري (¬1): نا عمر بن حفص بن غياث، نا أبي، ثنا الأعمش، حدثني إبراهيم التيمي، حدثني أبي قال: "خطبنا علي -رضي الله عنه-. . ." إلى آخره نحوه سواء، غير أن لفظه في آخره: "فإذا فيها: أسنان الإبل" وإذا فيها: المدينة حرم من عَيْر إلي كذا، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وأبو كريب، جميعًا، عن أبي معاوية -قال أبو كريب: ثنا أبو معاوية- قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "خطبنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة -قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه- فقد كذب، فيها: أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات، وفيها: قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2662 رقم 6870). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 994 رقم 1370).

النبي -عليه السلام-: والمدينة حرم ما بين عائر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا. . ." الحديث. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه- قال: "ما كتبنا عن رسول الله -عليه السلام- إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور. . ." الحديث. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا هناد قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش. . . إلى آخره، نحو رواية أبي داود. قوله: "من عَيْر إلى ثور" وفي أكثر الروايات: "من عائر إلى ثور" قال بعضهم (¬3): ليس بالمدينة ولا على مقربة منها جبل يسمى بهذين الإسمين، ولهذا ترك بعض الرواة موضع ثور بياضًا، وقال بعضهم: أما "عَيْر" فجبل معروف بالمدينة، وأما "ثور" فالمعروف أنه بمكة وفيها الغار التي بات فيها رسول الله -عليه السلام- لما هاجر، وفي رواية قليلة "ما بين عير إلى أحد" وأحد بالمدينة، فيكون ثور غلطًا من الراوي وإن كان هو الأشهر في الرواية، ويقال: إن عَيْرا جبل بمكة، ويكون المراد أنه حرَّم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة، أو حرم المدينة تحريمًا مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف. وقيل: "إلى" ها هنا بمعنى "مع" كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم، وقال الخطابي: عاير وثور جبلان، وزعم بعضهم أن أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلًا يقال له: ثور وإنما ثور بمكة، فيروى -أى الحديث- إنما أصله ما بين عائر إلى أحد. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 216 رقم 2034). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 438 رقم 2127). (¬3) انظر "معجم البلدان" (4/ 73).

قال القاضي: قوله: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" كذا للرواة، وللعذري: عاير بألف هذان الإسمان هما اللذان جاءا في الحديث الآخر: "من كذا إلى كذا" فإما أن يكون في ذلك الحديث لم يضبط الراوي الاسمين أو كنى عنهما؛ لإنكار مصعب الزبيري وغيره هاتين الكلمتين، وقال: ليس بالمدنية عَيْر ولا ثور، قالوا: وإنما ثور بمكة، وقال الزبير: عير جبل بناحية المدينة، وأكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عَيرًا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا إذْ اعتقدوا الخطأ في ذكره. قال الإِمام: قال بعض العلماء: ثور ها هنا وهم من الراوي؛ لأن ثور بمكة، والصحيح: "إلى أحد" قال القاضي: كذا قال أبو عبيد: كأن الحديث أصله: "من عير إلى أحد". قلت: "العير" بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، و"الثور" بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو على اسم الثور الحيوان المعروف. ويستفاد من هذا الحديث أحكام: الأول: أن الدينة لها حرم كحرم مكة على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه رد على الرافضة والشيعة فيما يدعونه من إيداع أسرار العلم والشريعة لآل البيت وتخصيصهم بما لم يطلع عليه سواهم، وتكذيب لهم وهو مراد علي -رضي الله عنه-. الثالث: فيه أن عليًّا -رضي الله عنه- ممن كتب العلم قديمًا. الرابع: فيه جواز كتابة العلم والحديث. الخامس: فيه أن الخطيب إذا خطب وهو متقلد سيفه لا بأس به. السادس: فيه استحباب الخطبة على موضعٍ عالٍ، وذلك لأنه أبلغ إلى التبليغ إلى سائر الناس.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد: "أن سعدًا ركب إلى قصره بالعتيق، فوجد غلامًا يقطع شجرًا -أو يخبطه أظن فيه- فأخذ سلبه، فلما رجع أتاه أهل الغلام فكلموه أن يرد عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى أن يرده إليهم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله قال: "شهدت سعد بن أبي وقاص وأتاه قوم في عبد لهم أخذ سعد سلبه رآه يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله -عليه السلام- فأخذ سلبه فكلموه، فأبى أن يرد عليه سلبه، فأبى وقال: إن رسول الله -عليه السلام- لما حَدَّ حدود حرم المدينة قال: من وجدتموه يصيد في شيء من هذه الحدود فمن وجده فله سلبه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله -عليه السلام-، ولكن إن شئتم غرمت لكم ثمن سلبه؛ فعلت". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن حكيم، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عِضَاهُهَا، أو يقتل صيدها". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن القرشي المدني روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص المدني روى له الجماعة إلا أبا داود، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص المدني روى له الجماعة، عن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعًا عن العقدي - ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 993 رقم 1364).

قال عبد: أنا عبد الملك بن عمرو- قال: نا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدًا يقطع شجرًا -أو يخبطه- فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم -أو عليهم- ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يرد عليهم". الثاني: رجاله ثقات أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم الثقفي المكي نزيل البصرة، عن سليمان بن أبي عبد الله. . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو سلمة موسى قال: ثنا جرير -يعني ابن حازم- قال: حدثني يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلًا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله -عليه السلام-، فسلبه ثيابه، فجاءوا -يعني مواليه- فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- حرم هذا الحرم، وقال: من [وجد] (¬2) أحدًا يصيد فيه فليسلبه. فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله -عليه السلام-، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه". الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن مروان بن معاوية بن الحارث الكوفي الثقة، عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري الثقة، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن نمير (ح). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 217 رقم 2037). (¬2) في "الأصل": "أخذ"، وهو سبق قلم أو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 992 رقم 1362).

وحدثنا ابن نمير، قال: نا أبي، قال: نا عثمان بن حكيم، قال: حدثني عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها. . ." الحديث. قوله: "بالعقيق" هو واد من أودية المدينة مسيل للماء، وهو الذي ورد ذكره في الحديث "أنه واد مبارك" وقد استقصينا بيانه في كتاب الحج. قوله: "أو يخبطه" من الخبط، وهو ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، والاسم منه للورق الساقط: خَبط -بالتحريك- فعل بمعنى مفعول، وهو من علف الإبل. قوله: , "سلبه" بتحريك اللام، وهو ما عليه من قماشه. قوله: "نفلنيه" من التنفيل، وأصله من النفل، وهو الغنيمة. قوله: "ما بين لابتي المدينة" اللابة: الأرض ذات الحجارة السود، وجمعها: لابات في القليل، ولاب ولؤب في الكثير، مثل: قارة وقور، وساحة وسوح، وباحة وبوح. وقال الهروي: أي ما بين طرفي المدينة، وقال ابن حبيب: اللابتان الحرتان الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان؛ حرة في القبلة، وحرة في الجنوب، وترجع كلها إلى الحرتين: الغربية والشرقية؛ لاتصالهما بهما, ولذلك حرم رسول الله -عليه السلام- ما بين لابتيها، جميع دورها كلها في اللابتين، وقد ردها كلها حسان لابة واحدة؛ لاتصالها، فقال: لنا حرة مأطورة بجبالها ... بني العز فيها بيته فتماثلا ومعنى مأطورة: معطوفة بجبالها لاستدارتها. قوله: "عضاهها" العضاة -مقصور- كل شجر له شوك، واحده: عضاهة وعضهة وعضة، كالطلح والعوسج، وقال ابن الأثير: العضاة شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عضة -بالتاء- وأصلها عضهة، وقيل: واحدتها عضاهة وعضهت العضاة إذا قطعتها.

وقال ابن حبيب: وتحريم النبي -عليه السلام- لابتي المدينة إنما ذلك في الصيد خاصة، وأما في قطع الشجر فيه فبريد في بريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف، عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب، وقد ذكر مسلم في بعض طرقه: "إني أحرم ما بين جبليها"، وفي حديث أبي هريرة: "وجعل اثني عشر ميلًا حول المدينة حمى". قال عياض: وهذا تفسير لما ذكره ابن وهب، ورواه مطرف، عن مالك وعمر بن عبد العزيز. وقال المهلب: قَطْعُ النبي -عليه السلام- النخل فيها حين بنى المسجد، يدل أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة ووجه الإِصلاح، وأن يتخذ شجرها وشوكها ليتخذ موضعه قبابًا وعمارة وأن توجيه النهي إنما هو القطع للفساد لبهجة المدينة وخضرتها من غير الوارد عليها والمهاجر لها. وقال القاضي: وقد ذكر ابن نافع عن مالك نحو هذا؛ قال: إنما نهى عنه لئلا تتوحش ويبقى فيها شجرها ليستأنس به، ويستظل به من هاجر إليها. وحكى الخطابي وغيره: أن قطع الشوك غير ممنوع، لما فيه من الضرر، وقد ذكر مسلم في حديث زهير: "ولا يختلى شوكها" وقيل: بل قطعه -عليه السلام- للنخل إنما هو قطع لما غرسه الآدمي، فالنهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله تعالى ما لا صنع فيه لآدمي. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثني أبو ثابت عمران بن عبد العزيز الزهري، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن صالح بن إبراهيم، عن أبيه قال: "اصطدت طيرًا بالقُنْبُلة فخرجت به في يدي فلقيني أبي -عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-- فقال: ما هذا؟ فقلت: طير اصطدته بالقنبلة. فعرك أذني عركًا شديدًا، ثم أرسله من يدي، ثم قال: حرم رسول الله -عليه السلام- صيد ما بين لابتيها".

ش: أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث الزهري المدني شيخ الجماعة غير النسائي، وأبو ثابت عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فيه مقال؛ قال يحيى: منكر الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث. وعبد الله بن يزيد وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة غير الترمذي. وصالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو عمران المدني روى له البخاري ومسلم حديثًا واحدًا في قتل أبي جهل يوم بدر. وأبوه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني روى له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي ثابت عمران بن عبد العزيز. . . إلى آخره نحوه سواء. غي أن لفظه: "فعرك أذني عركًا شديدًا واستنزعه من يدي فأرسله". قوله: "بالقُنْبُلة" بضم القاف وسكون النون وضم الباء الموحدة وفتح اللام وفي آخره هاء، وهي مصيدة يصاد بها النُّهَس، وهو أبو براقش. قوله: "فلقيني أبي: عبد الرحمن" جملة من الفعل والفاعل والمفعول، فقوله: "أبي" فاعل لقوله: "لقيني"، وقوله: "عبد الرحمن" بالرفع عطف بيان من قوله: "أبي" فافهم. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يونس بن يوسف، عن عطاء بن يسار، عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-: "أنه وجد غلمانًا ألجئوا ثعلبًا إلى زاوية، فطردهم، قال مالك: لا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله -عليه السلام- يصنع هذا؟! ". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 198 رقم 9749).

ش: إسناده على شرط مسلم، ورجاله كلهم رجاله، ويونس بن يوسف بن حماس الليثي المدني العابد، وأبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد. والحديث أخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ورواه البيهقي في "سننه" (¬2) من طريق مالك. ص: حدثا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن يسير بن عمرو، عن سهل بن حُنَيف قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- وأهوى بيده إلى المدينة يقول: إنه حرام آمن". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وسليمان الشيباني هو: سليمان بن أبي سليمان فيروز الشيباني الكوفي، روى له الجماعة، ويسير -بضم الياء آخر الحروف وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن عمرو، ويقال: ابن جابر، ويقال: أسير العبدي، أدرك زمن النبي -عليه السلام-، وقيل: إن له رؤية. وسهل بن حنيف الأنصاري الصحابي -رضي الله عنه-. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن يسير بن عمرو، عن سهل بن حنيف قال: "أهوى رسول الله -عليه السلام- بيده إلى المدينة فقال: إنها حرم آمن". قوله: "أهوى" يقال: أهوى بيده إليه، أي: مدها نحوه. ص: حدثنا محمد بن خريمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا زياد بن سعد، عن شرحبيل بن سعد قال: "أتانا زيد بن ثابت ونحن ننصب فخاخا لنا بالمدينة، فرمى بها، وقال: ألم تعلموا أن رسول الله -عليه السلام- حرم صيدها؟! ". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 890 رقم 1578). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 198 رقم 975). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1003 رقم 1375).

ش: إبراهيم بن بشار الرمادي أبو إسحاق البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح". وسفيان هو ابن عيينة وزياد بن سعد بن عبد الرحمن الخراساني روى له الجماعة. وشرحبيل بن سعد أبو سعد الخطمي وثقه ابن حبان، وضعفه النسائي والدارقطني. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن محمد بن مسلم الرازي، ثنا محمد بن عمر العدني، ثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن شرحبيل بن سعد، عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم صيدها، يعني المدينة". قوله: "فخاخًا" جمع فخٍّ -بتشديد الخاء المعجمة- وهو الذي يصاد به الطير. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إبراهيم -عليه السلام- حرم مكة ودعا لهم، واني حرمت المدينة ودعوت لهم بمثل ما دعا به إبراهيم -عليه السلام- لأهل مكة: أن يبارك لهم في صاعهم ومدهم". حدثنا عليّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني عمرو بن يحيى. . ." فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد بن شداد المصري، عن أحمد بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري شيخ مسلم، عن وهيب بن خالد البصري، روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى بن عمارة الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن عباد بن تميم بن خزيمة الأنصاري المدني ابن أخي عبد الله بن زيد، وكان تميم أخا عبد الله بن زيد لأمه -وقيل: لأبيه- عن عبد الله بن يزيد بن عاصم الأنصاري المازني المدني الصحابي -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 151 رقم 4913).

وأخرجه البخاري (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن عمرو بن يحيى. . . إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن قتيبة، عن الدراوردي، وعن أبي كامل الفضيل، عن عبد العزيز ابن المختار، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، وعن إسحاق بن راهويه، عن مغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب؛ كلهم عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عمه بهذا. الثاني: عن علي بن معبد أيضًا، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن عمرو بن يحيى. . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث عمرو بن يحيى. . . إلى آخره نحوه. قوله: "ودعا لهم" أي: للمؤمنين الذين يحمونها. فإن قيل: قد قلت في حديث آخر (¬4): "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} (¬5) وجاء في حديث آخر (¬6): "ولم يحرمها الناس". قلت: معنى تحريم إبراهيم -عليه السلام- يحتمل أن يكون بإعلام الله له إنه حرمها، فتحريمه لها بتحريم الله، لا من قبل اجتهاده ورأيه، أو وَكَّل الله تعالى إليه تحريمها، فكان عن أمر الله، فأضيف إلى الله مرة لذلك، ومرة إلى إبراهيم -عليه السلام- بحكمه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 749 رقم 2022). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 991 رقم 1360). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 197 رقم 9736). (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (4/ 1567 رقم 4059) من حديث مجاهد. (¬5) سورة النمل، الآية: [91]. (¬6) متفق عليه من حديث أبي شريح العدوي؛ البخاري (1/ 51 رقم 104)، ومسلم (2/ 987 رقم 1354).

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم -عليه السلام- حرم بيت الله وأَمَّنَه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها, لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها". ش: إسناده صحيح، وقبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما عن أبي أحمد -قال أبو بكر: نا محمد بن عبد الله الأسديّ- قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال النبي -عليه السلام-: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة. . . " إلى آخره نحوه. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان (ح). وحدثنا يونس قال: أنا أنس بن عياض، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم ما بين لابتي المدينة، أن يعضد شجرها، أو يخبط". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى العفاني، عن سعد بن إسحاق ابن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة زوجة أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): نا يحيى، عن سعد. . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض. . . إلى آخره. قوله: "أن يعضد" أي لأن يعضد أي يقطع شجرها. "أو يخبط" من خبطت الشجرة إذا ضربتها بالعصا ليتناثر ورقها. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 922 رقم 1362). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 23 رقم 11193).

ص: حدثنا حسين بن نصر وعلي بن معبد، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني عتبة بن مسلم مولى بني تميم، عن نافع بن جبير، عن رافع بن خديج: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم ما بين لابتي المدينة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن [جبير] (¬1): "أن مروان بن الحكم خطب فذكر مكة وحرمتها وأهلها, ولم يذكر المدينة وحرمتها وأهلها، فقام رافع بن خديج فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة وحرمتها وأهلها, ولم تدكر المدينة وحرمتها وأهلها؟! وقد حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة وذلك عندنا في الأديم الخولاني إن شئت أقرأتكه، فقال مروان: قد سمعت بعض ذلك". حدثنا محمد بن خزيمة وفهد قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج: "أنه سمع رسول الله -عليه السلام- ذكر مكة ثم قال: إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حرم مكة، وإني حرمت ما بين لابتيها -يعني المدينة-". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن حسين بن نصر وعلي بن معبد بن نوح، كلاهما عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن عتبة بن مسلم التيمي المدني روى له الجماعة، عن نافع بن جبير بن مطعم بن عدي روى له الجماعة، عن رافع بن خديج -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال، وفي آخره جيم- الأنصاري المدني. وأخرجه الطبراني (¬2): نا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر. . . إلى آخره نحوه سواء. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "حكم"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "المعجم "الكبير" (4/ 257 رقم 4323).

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، روى له الجماعة. . . إلى آخره. وقد وقع في رواية البيهقي في هذا الحديث: عبد الله بن مسلم عوض عتبة بن مسلم والصواب عتبة بن مسلم كما هو كذلك في رواية مسلم على ما نذكره، ووقع في بعض الرواية عقبة بن مسلم -بالقاف- وهو خطأ. وأخرجه مسلم (¬1): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير: "أن مروان بن الحكم خطب الناس. . ." إلى آخره نحوه. الثالث: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الأعرج. . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا بكر -يعني- بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم -عليه السلام- حرم مكة، وأنا أُحَرِّم ما بين لابتيها -يريد المدينة-". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 991 رقم 1361).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو أمية قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، قال: سألت أنسًا -رضي الله عنه-: "أكان رسول الله -عليه السلام- حرم المدينة؟ فقال: نعم، هي حرام من لدن كذا إلى كذا". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن أنس "أن النبي -عليه السلام- حرم المدينة ما بين كذا إلى كذا، لا يعضد شجرها". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله، قال: أنا شريك عن عاصم الأحول قال: سمعت أنسًا يقول: عن النبي -عليه السلام- مثله، وزاد: "فمن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". ش: هذه سبع طرق. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وأخرجه البخاري (¬2) من حديث مالك. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 889 رقم 1576). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1232 رقم 3187).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس أن النبي -عليه السلام- قال: "أحد جبل يحبنا ونحبه". وقد روي هذا الحديث عن أنس من غير وجه. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح الكوفي العابد، عن عاصم الأحول، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عاصم الأحول قال: "سألت أنسًا أحرم رسول الله -عليه السلام- المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن أنس. وأخرجه البيهقي (¬2) من حديث عاصم، عن أنس. . . إلى آخره نحوه. السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عاصم، عن أنس، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬3) من حديث ثابت بن يزيد، عن عاصم الأحول، عن أنس أن النبي -عليه السلام- قال: "إن المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها, ولا يحدث فيها حدث، فمن أحدث فيها حدثًا. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمين، لا يقبل منه صرف ولا عدل". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 994 رقم 1366). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 197 رقم 9740). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 661 رقم 1768).

السابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عاصم الأحول، عن أنس. قوله: "طلع له أحد" أي ظهر له، كما تقول: طلعت الشمس، وأُحُدٌ منصرف لكونه علما وقيل: غير منصرف، وهو الجبل المعروف بالمدينة، سمي بهذا الاسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هنالك. قال السهيلي: وفي أحد قبر هارون أخي موسى -عليهما السلام-، وفيه قبض ثم واراه موسى -عليه السلام-، وكانا قد مَرَّا بأحد حاجين أو معتمرين. فإن قيل: ما معنى محبة أحد للنبي -عليه السلام-، ومحبة النبي -عليه السلام- إياه؟ قلت: هذا مجاز أما من جهة أُحد؛ فلأن معناه لو كان ممن يصح ويمكن فيه محبة كان يحبنا، وأما من جهة النبي -عليه السلام- فلأنه كان يفرح بأحد إذا طلع له؛ استبشارًا بالمدينة ومن فيها من أهلها، ويحب النظر إليه لقربه من النزول إليه بأهله، والأوبة من سفره، فلهذا المعنى كان -عليه السلام- يحبه. وقال الإِمام: قيل المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (¬1) أي حب العجل، وقال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2) أي أهلها. قال القاضي: وقيل: يحتمل أن يكون حقيقة، وأن الله تعالى جعل فيه أو في بعضه إدراكًا ومحبة، كما قيل في تسبيح الحصى، وحنين الجذع، وشبه ذلك، وتكون هذه من خوارق العادات وجملة الآيات. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: أن محبتنا له محبة من يعتقد أنه يحبنا. وقيل: يحتمل أن تكون المحبة هنا عبارة عن الانتفاع بمن يحبنا في الحماية والنصرة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [93]. (¬2) سورة يوسف، آية: [82].

وعندي جواب آخر مما فتح الله من الأنوار الإِلهية والفيض الرحماني، وهو أن النبي -عليه السلام- كان يحب أحدًا لكونه مقبرة لهارون -عليه السلام- كما ذكره السهيلي، أن هارون مدفون فيه، ومن العادة أن الناس يحبون البقع التي فيها قبور الأنبياء والصالحين، ولكونه أيضًا مقبرة لعمه سيد الشهداء حمزة -رضي الله عنه-، وعم الرجل صنو أبيه، ولبقية الشهداء المدفونين هناك من أصحابه -عليه السلام-، ومن العادة أيضًا أن الناس يحبون البقع والأراضي التي فيها قبور آبائهم وأقاربهم، ويؤثرون الترداد إليها لأجل اشتمالها عليهم. وأما محبة أحد إياه فيحتمل وجهين: الأول: أنه -عليه السلام- لما ذكر محبته إياه التي هي حقيقة، ذكر في مقابلها محبة أُحد التي هي مجاز، ازدواجًا للكلام ومجانسة للألفاظ، وهذا من فن بديع الكلام. الثاني: أن تكون محبته للنبي -عليه السلام- حقيقة بأن جعل الله فيه معنى من الإِدراك يصير به موصوفًا بالمحبة ليجازي من يحبه محبة منه، لأن من جزاء المحب أن يحب؛ لتصير المحبة على وجه الكمال. فافهم. قوله: "من لدن كذا إلى كذا" قد فسر ذلك في بعض الروايات باثني عشر ميلا، وفي بعضها بريدًا في بريد، وفي أكثر الروايات: "من لابة إلى لابة" لأن المدينة مشتملة على اللابتين، وقد فسرناها. قوله "لا يعضد" أي لا يقطع، من العَضَد، وهو القطع. قوله: "من أحدث فيها حدثا" أي أتى إثما، والحدث: الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة. قوله: "فعليه لعنة الله. . ." إلى آخره وعيد شديد لمن فعل ذلك، ممن استحل حرمتها وأحدث فيها، وقد استدلوا لما جاءت به اللعنة أنه من الكبائر. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "لو أني

رأيت الظِّباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قال: ما بين لابتيها حرام". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة بمثل ما حرم، قال: ونهى النبي -عليه السلام- أن يعضد شجرها أو يخبط أو يؤخذ طيرها". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: رجاله كلهم رجال "الصحيح". وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1) والبخاري (¬2) ومسلم (¬3) من حديث مالك. قوله: "وما ذعرتها" بالذال المعجمة أي: ما خوفتها. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن كثير بن زيد الأسلمي المدني، ثقة عند الأكثرين، عن الوليد بن رباح الدوسي المدني، عن أبي هريرة. وروي هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق مختلفة، ووجوه متعددة. فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن أحد عشر نفرًا من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل ابن حنيف وزيد بن ثابت، وعبد الله بن زيد الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك، وأبو هريرة -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 889 رقم 1577). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 662 رقم 1774). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 999 رقم 1372).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى تحريم صيد المدينة وتحريم شجرها، وجعلوها في ذلك كمكة في حرمة صيدها وشجرها، وقالوا: من فعل من ذلك شيئًا في حرم رسول الله -عليه السلام- حَلَّ سلبه لمن وجده يفعل ذلك، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ومحمد بن مسلم الزهري، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: المدينة لها حرم كحرم مكة، فلا يجوز أخذ صيدها, ولا قطع شجرها, ولكنه لا يجب الجزاء في قتل الصيد، وقطع الشجر عندهم، خلافًا لابن أبي ذئب؛ فإنه قال: يجب الجزاء، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا عند الشافعي، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: روي ذلك عن عمر وابنه عبد الله وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-. وقال الخطابي: وتحريم المدينة إنما هو لأجل تعظيمها دون تحريم صيدها وشجرها واختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك والشافعي وطائفة: لا جزاء في صيد المدينة، ورأى ابن أبي ذئب في الصيد والشجر الجزاء. وروي أن سعدًا وزيد بن ثابت وأبا هريرة كانوا يرون صيد المدينة حرامًا, ولم يصح إيجاب الجزاء عن واحدٍ منهم. وقال الشافعي في القديم: من اصطاد في المدينة صيدًا أُخِذَ سلبه، وروى فيه أثرًا عن سعد، وقال في الجديد بخلافه. وقال ابن نافع: سئل مالك عن قطع سدر المدينة وما جاء فيه من النهي؟ فقال: إنما نُهِيَ عن قطع سدر المدينة لئلا توحش؛ وليبقى فيها شجرها ويستأنس بذلك ويستظل به من هاجر إليها. وقال ابن حزم: أما من احتطب في حرم المدينة فحلال سلبه كل ما معه في حاله تلك، وتجريده إلا ما يستر عورته فقط؛ لما روينا من طريق مسلم، فروى حديث سعد المذكور.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما ذكرتموه من تحريم النبي -عليه السلام- صيد المدينة وشجرها، فقد كان فعل ذلك ليس أنه جعله كحرمة صيد مكة، ولا حرمة شجرها، ولكنه أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها، وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- منع من هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة. حدثنا علي بن عبد الرحمن قال: ثنا يحيى بن معين قال: ثنا وهب بن جرير، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن آطام المدينة أن تهدم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: ثنا العمري. . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تهدموا الآطام فإنها زينة المدينة". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا الدراوردي. . . فذكر بإسناده مثله. أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- نهاهم عن هدم آطام المدينة؛ لأنها زينة لها، قالوا: فكل ما نهاهم عنه من قطع شجرها وقتل صيدها، إنما هو لأن ذلك زينة للمدينة فأراد أن يترك لهم فيها زينتها ليألفوها ويطيب لهم بذلك سكناها؛ لا لأنها تكون في ذلك كمكة في حرمة صيدها ونباتها ووجوب الجزاء على من انتهك شيء من ذلك. ش: أي خالف المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وابن والمبارك وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، فلا يمنع من أخذ صيدها وقطع شجرها. قوله: "فقالوا ما ذكرتموه. . . إلى آخره" جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، بيانه أن يقال: إن تحريم النبي -عليه السلام- المدينة ليس على المعنى الذي

ذكرتموه، وإنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ودوام بهجتها؛ ليستطيب بها المهاجر إليها، ويألف بها، وتطيب بذلك سكناه، وهذا المعنى هو الذي نقله ابن نافع عن مالك، وقد ذكرناه، وحكي [عن] (¬1) الخطابي أيضًا. ثم مَثَّل الطحاوي على ذلك المعنى بمعنى حديث ابن عمر: "أنه -عليه السلام- نهى عن آطام المدينة أن تهدم" فإنه -عليه السلام- لم ينه عن ذلك لكونه حرامًا، وإنما نهى لكون الآطام زينة لها إذا هدمت توحش وتنفر عن السكنى، والدليل على صحة ذلك: أنه -عليه السلام- علل ذلك بقوله: "فإنها زينة المدينة". ثم إنه أخرج حديث ابن عمر هذا من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن يحيى بن معين الإِمام الحجة، عن وهب بن جرير بن حازم، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن يحيى، ثنا محمد بن سنان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، [عن] (¬2) إسحاق بن محمد الفروي المدني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبد الله بن نافع فيه مقال، ضعفه يحيى، وقال الدارقطني: متروك. عن أبيه نافع، عن ابن عمر. الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن أبي مصعب ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عنه"، وقد تقدم كلام الخطابي من قوله نفسه عند الكلام على أهل المقالة الأولى. (¬2) تكررت في "الأصل، ك".

أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة قاضي مدينة الرسول وشيخ الجماعة سوى النسائي، عن الدراوردي، عن عبد الله بن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. قوله: "عن آطام المدينة" جمع أطم -بضم الهمزة والطاء- وهو بناء مرتفع، وأراد بآطام المدينة أبنيتها المرتفعة كالحصون. ص: ثم نظرنا هل نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك دليلًا يدلنا على ما ذكرنا فإذا إسماعيل بن يحيى المزني قد حدثنا، قال: قرأنا على محمد بن إدريس الشافعي، عن الثقفي، عن حميد الطويل، عن أنس قال: "كان لأبي طلحة ابن من أم سليم يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله -عليه السلام- يضاحكه إذا دخل، وكان له نغير، فدخل رسول الله -عليه السلام- فرأى أبا عمير حزينًا فقال: ما شأن أبي عمير، فقيل: يا رسول الله مات نغير، فقال رسول الله -عليه السلام-: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس قال: كان لأبي طلحة ابن يدعى أبا عمير، فكان له نغير، فكان رسول الله -عليه السلام- إذا دخل قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ ". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله -عليه السلام- يخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس قال: "كان لي أخ فكان النبي -عليه السلام- يستقبله ويقول: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا قد كان بالمدينة، ولو كان حكم صيدها كحكم صيد مكة إذًا لما أطلق له رسول الله -عليه السلام- حبس النغير، ولا اللعب به كما لا يطلق ذلك بمكة. ش: أشار بهذا إلى بيان دليل يدل على صحة ما قاله من قوله: قالوا: فكذلك ما نهاهم عنه من قطع شجرها وقتل صيدها، وهو قضية النغير الذي كان لأبي عمير

أخي أنس بن مالك من أمه، وكان يلعب به وهو في المدينة، فلو كان حكم صيد المدينة مثل حكم صيد مكة؛ لما كان رسول الله -عليه السلام- يجيز له حبس النغير، ولا لعب أبي عمير به، فلما سكت عن ذلك دل على إباحة صيد المدينة، وأن حكمه خلاف حكم صيد مكة. فإن قيل: يجوز أن يكون كان ذلك قبل تحريم المدينة، أو يكون كان أدخله في الحل ولم يصده في حرم المدينة. قلت: أما الأول فاحتمال فلا تقوم به الحجة علينا، وأما الثاني فلا يتمشى علينا؛ لأن الحلال إذا أدخل الصيد في الحرم يجب عليه إرساله. ثم إنه أخرج حديث أنس من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس -رضي الله عنه-. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬1): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن حميد، عن أنس، وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا ابن مثنى، نا خالد، عن حميد، عن أنس قال: "كان لأم سليم ابن يقال له: أبو عمير، فكان النبي -عليه السلام- ربما مازحه، فدخل يومًا فوجده حزينًا، فقال: ما بال أبي عمير؟ قالوا: يا رسول الله، مات نغيره الذي كان يلعب به، فجعل يقول: أبا عمير ما فعل النغير؟ ". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري عن أنس. ¬

_ (¬1) "عمل اليوم والليلة" (1/ 286 رقم 332).

وهذا أيضًا صحيح. أخرجه مسلم (¬1): ثنا شيبان بن فروخ قال: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: "كان رسول الله -عليه السلام- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير -قال: وأحسبه قال: فطيما- قال: فكان إذا جاء رسول الله -عليه السلام- فرآه، قال: أبا عمير ما فعل النغير؟ قال: فكان يلعب به". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عمارة بن زاذان الصيدلاني، عن ثابت، عن أنس. وهذا إسناد لا بأس به، وعمارة بن زاذان وثقه جماعة، وضعفه بعضهم. قوله: "كان لأبي طلحة ابن من أم سليم" أبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري، وأم سليم بنت ملحان، أم أنس بن مالك، واسمها سهلة، ويقال: رميلة، ويقال: مليكة، ويقال: غير ذلك، كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنسًا، فلما جاء الله بالإِسلام أسلمت مع قومها، وعرضت الإِسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري، فولدت له أبا عمير، فمات صغيرًا. و"نغير" بضم النون وفتح الغين المعجمة وفي آخره راء، وهو تصغير نغر، هو هو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ويجمع على نغران. ص: فقال قائل: فقد يجوز أن يكون هذا الحديث بِقَنَاة وذلك الموضع غير موضع الحرم، فلا حجة لكم في هذا الحديث. فنظرنا، هل نجد فيما سوى هذا الحديث ما يدل على شيء من حكم صيد المدينة؟. فإذا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي وفهد قد حدثانا، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان لآل ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1692 رقم 2150).

رسول الله -عليه السلام- وحش، فإذا خرج لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله -عليه السلام- قد دخل ربض، فلم يترمرم؛ كراهة أن يؤذيه". فهذا بالمدينة في موضع قد دخل فيما حرم منها، وقد كانوا يأوون فيه الوحش، ويتخذونها، ويغلقون دونها الأبواب، وقد دل هذا أيضًا على أن حكم المدينة في ذلك بخلاف حكم مكة. ش: تقرير ما قاله هذا القائل: إن يقال: إن حديث أنس الذي فيه حكايه نغير يحتمل أن يكون في غير موضع الحرم من المدينة، وهو أن يكون بقناة -بفتح القاف والنون- وهو واد من أودية المدينة عليه حرث ومال وزرع، وقد يقال فيه: وادي قناة، وهو غير مصروف، فإذا كان كذلك فلا تقوم به الحجة، فأجاب عنه بقوله: "فنظرنا. . ." إلى آخره هذا جواب بطريق التسليم، بيانه أن يقال: ولئن ثبت أن حديث أنس كان في قناة الذي هو خارج عن حرم المدينة -على زعمكم- وكنا قد وجدنا حديثًا يدل صريحًا على ما ذهبنا إليه، وهو حديث عائشة؛ فإنه صرح بأنهم كانوا يأوون الوحش في نفس المدينة، ويتخذونها ويغلقون عليها الأبواب، فدل ذلك أن حكم المدينة في الصيد ونحوه على خلاف حكم مكة. وإسناد حديث عائشة صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس، عن مجاهد قال: قالت عائشة. . . إلى آخره. قوله: "وحش": قال الجوهري: الوحش واحد الوحوش، وهي حيوان البر، الواحد وحشي، يقال: حمار وحش بالإِضافة، وحمار وحشي. قوله: "ربض" من الربوض، وربوض الغنم والبقر والفرس والكلب، كبروك الجمل، وجثوم الطير، يقال منه: ربضت الغنم، تربِضُ -بالكسر- ربوضًا، وأربضتها أنا. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 112 رقم 24862).

قوله: "لم يترمرم" من ترمرم إذا حرك فاه للكلام، وهو بالرائين المهملتين ويستفاد منه: هيبة النبي -عليه السلام-، وجواز اقتناء الوحوش في البيت، وفيه دلالة على أن حرمة المدينة ليست كحرمة مكة في الصيد ونحوه. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي قتيلة المدني، قال: ثنا محمد بن طلحة التيمي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة، بن عبد الرحمن بن سلمة بن الأكوع: "أنه كان يصيد، ويأتي النبي -عليه السلام- من صيده فأبطأ عليه ثم جاءه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الذي حبسك؟ فقال: يا رسول الله، انتفى عنا الصيد فصرنا نصيد ما بين تيت إلى قناة. فقال رسول الله -عليه السلام-: أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت؛ فإني أحب العقيق". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا محمد بن طلحة التيمي، عن موسى بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: ثنا محمد بن طلحة، قال: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي. . . ثم ذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد دل سلمة وهو بها على موضع الصيد، وذلك لا يحل بمكة، ألا ترى أن رجلًا لو دل وهو بمكة رجلًا على صيد يصيدها، كان آثما، فلما كانت المدينة في ذلك ليست كمكة؛ ثبت أن حكم صيدها خلاف حكم صيد مكة؛ شرفها الله تعالى. ش: ذكر حديث سلمة بن الأكوع شاهدًا لقوله: وقد دل هذا أيضًا على أن حكم المدينة في ذلك بخلاف حكم مكة؛ لأن في حديث سلمة ما يدل على هذا صريحًا، كما بينه الطحاوي بقوله: ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة. . . إلى آخره.

وأخرج حديث سلمة من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن ابن أبي قُتَيلة -بضم القاف، وفتح التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف بعدها لام- هو يحيى بن إبراهيم بن عثمان السلمي، أبو إبراهيم المدني، وثقه ابن حبان وأبو حاتم الرازي، وروى له النسائي. وهو يروي عن محمد بن طلحة التيمي الذي يقال له: ابن الطويل، قال أبو حاتم: محله الصدق، يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له ابن ماجه. وهو يروي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف الحديث، وعنه: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: منكر الحديث، روى له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن أبيه محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي روى له الجماعة. وهو يروي عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له المجماعة. وهو يروي عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد. وحدثنا أحمد بن إبراهيم بن عنبر البصري، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قالا: ثنا محمد بن طلحة التيمي، ثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: "كنت أرمي الوحش أصيدها، وأهدي لحومها إلى رسول الله -عليه السلام-، ففقدني رسول الله -عليه السلام- فقال: سلمة أين تكون؟ فقلت: بعُد عليّ الصيد يا رسول الله فإنما أصيد بصدور قناة من نحو تيت، فقال: أما لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 6 رقم 6222).

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن نعيم بن حماد المروزي الفارضي الأعور شيخ البخاري في المقرنات، عن محمد بن طلحة التيمي. . . إلى آخره. الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني، عن محمد بن طلحة. . . إلى آخره. قوله: "ما بين تِيت إلى قناة" تِيت -بكسر التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره تاء مثناة أخرى- ويقال: تيت على وزن سيد. قال الصنعاني: هو جبل قرب المدينة، على بريد منها. ص: وفي هذا الحديث أيضًا: إباحة صيد العقيق، وقد روينا عن سعد في الفصل الأول، عن النبي -عليه السلام- في ذلك، ما قد روينا، ففي هذا ما يخالفه. فأما [ما] (¬1) في حديث سعد من إباحة سلب الذي يصيد صيد المدينة، فإن ذلك عندنا -والله أعلم- في وقت كانت العقوبات التي تجب بالمعاصي في الأموال. فمن ذلك ما قد روي عن النبي -عليه السلام- في الزكاة أنه قال: "من أداها طائعًا فله أجرها، ومن لا؛ أخذناها منه وشطر ماله" وما روي عنه فيمن سرق ثمرًا من أكمامه أنه عليه غرامة مثليه، وفي نظائر لذلك كثيرة، قد ذكرناها في موضعها من كتابنا هذا، ثم نُسِخَ ذلك في وقت نسخ الربا، فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال، وإلى قيمتها إن كان لا مِثْل لها، وجعلت العقوبات في انتهاك الحُرَم في الأبدان لا في الأموال، فهذا وجه ما روي في صيد المدينة. ش: أي وفي حديث سلمة بن الأكوع: إباحة صيد العقيق أيضًا، كما فيه إباحة صيد المدينة، وهذا يخالف ما روي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- الذي مر ذكره في أول الباب؛ لأن فيه أن سعدا أخذ سلب ذلك العبد الذي رآه يقطع شجرًا بالعقيق، وفي رواية: "رآه يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله -عليه السلام-. وحديث سلمة بن الأكوع المذكور يعارض هذا ويضاده، وقد بين الطحاوي ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وجه المخلِّص في ذلك، وهو أن فعل سعد الذي ذكر إنما كان في وقت كانت العقوبات التي تجب بالمعاصي في الأموال، كما كان في حق مانع الزكاة: أن تؤخذ منه الزكاة ويؤخذ عليها شطر ماله، وكما كان في حق من سرق الثمر من أكمامه: أن يغرم مثلي ما سرقه، ثم نسخت هذه الأشياء حين نسخ الربا، ورُدَّت الأشياء المأخوذة ظلمًا وغضبًا إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن لم يكن لها أمثال. يعني إذا اغتصب رجل شيء آخر يحكم عليه بمثله، إن كان من ذوات الأمثال وإلا يحكم عليه بقيمة ذلك الشيء إما يوم الغصب، أو يوم الهلاك، أو يوم اليقين، على اختلاف فيه على ما عرف في الفروع. قوله: "من أكمامه" جمع كِم -بكسر الكاف- هو: وعاء الطلع، وغطاء النُّور، وكذلك الكمامة. قال الجوهري: جمع الكِم: كمام وأكمة، وأكام وأكاميم، وأما الكُمُّ -بالضم- فللقميص، والكَمِّ -بالفتح- مصدر كممت الشيء: إذا غطيته. قوله: " قد ذكرناها في موضعها من كتابنا هذا" ذكره في (¬1). قوله: "فهذا وجه ما روي في صيد المدينة" أي الذي ذكرناه إلى الآن هو وجه التوفيق بين الأحاديث التي رويت فيحكم صيد المدينة. ص: وأما حكم ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا مكة حرام، وصيدها وشجرها كذلك، هذا ما لا اختلاف فيه بين المسلمين، ثم رأينا من أراد دخول مكة لم يكن له أن يدخلها إلا حرامًا، فكان دخول الحرم لا يحل للحلال، وكانت حرمة صيده وشجره كحرمته في نفسه. ثم رأينا المدينة كلٌّ قد أجمع أنه لا بأس بدخولها للرجل حلالاً، فلما لم تكن محرمة في نفسها كان حكم صيدها وشجرها كحكمها في نفسها، وكما كان صيد مكة إنما حرم لحرمتها، ولم تكن المدينة في نفسها حرام؛ لم يكن صيدها ولا شجرها حرامًا. ¬

_ (¬1) بيض له المصنف.

فثبت بذلك قول من ذهب إلى أن صيد المدينة وشجرها كصيد سائر البلدان وشجرها غير مكة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما حكم المدينة في تحريمها وعدم تحريمها وحكم صيدها وشجرها من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر، ولكن لقائل أن يقول: منع دخول الحلال الحرم لم يكن لمجرد كون مكة حرامًا؛ بل إنما كان لكونها حرامًا, ولأجل الطواف عقيب الدخول، بخلاف المدينة فإنه ليس فيها طواف، فكانت مكة والمدينة متساويتين في الحرمة، فكما حرم قطع شجر مكة وأخذ صيدها لكوخها حرامًا، فكذلك يحرم قطع شجر المدينة وأخذ صيدها لكونها حرامًا. قوله: "مكة حرام" هكذا وقع في كثير من النسخ بارتفاع "حرام" على أنه خبر عن قوله: "مكة" وفي بعضها: "مكة حرامًا" بالنصب على أنهما مفعولان لقوله: "رأينا" وهو الظاهر، والأول على التأويل. فافهم. قوله: "كل قد أجمع" أي كل العلماء قد أجمعوا أنه أي أن الشأن. قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من وجه النظر والقياس. والله أعلم. ***

ص: باب أكل الضباب

ص: باب أكل الضباب ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل الضباب، وهو: جمع ضب. قال في "المنتهى": هي دويبة شبيهة بالوَرَل، وتجمع على: ضباب وأَضُب، مثال: كَفٌّ وأَكُف. وفي "المحكم": والجمع ضبان، وقال اللحياني: وذلك إذا كثرت جدًّا، وهو من الحشرات، وفي المثل: أعق من ضبٍّ لأنه ربما أكل حُسُوله، وقولهم: لا أفعله حتى يحن الضب في أثر الإبل الصادرة، وحتى يَرِد الضب؛ لأن الضب لا يشرب الماء، ومن كلامهم الذي يضعونه على ألسنة البهائم، قالت السمكة للضب: وردًا يا ضب، فقال: أصبح قلبي صردًا لا يشتهي أن يردا، إلا عَرَادًا عَرِدًا، وصليانا بردا، أو عَنْكَثا مُلْتَبِدًا، يقال: ضبب البلد، وأضب إذا أكثر ضبابه، وأرض ضببة: كثيرة الضباب، وهذا أحد ما جاء على أصله، وأرض مضبة ذات ضباب، والجمع مضاب، يقال: وقعنا في مضابَّ مُنْكَرَة، وهي قطع من الأرض كثيرة الضباب، والمضببُ: الحارش الذي يصب الماء في جحره حتى يخرج ليأخذه. ويقال: للضب أيْرَان، وللضبة رَحِمَان، ويكنى الضب أبا الحِسْل، والحِسْل ولده حين يخرج من بيضته. وفي "كتاب الحيوان" لأرسطو السقنقور أيضًا له أيرْان، وللأنثى فَرْجَان، ويذبح الضب، ويمكث ليلة ثم يقرب من النار فيتحرك، وكذلك الأفعى تذبح فتبقى أيامًا تتحرك، وإن وطئها واطئ نهسته. وتقول العرب: الضب قاضي الطير والبهائم، ويقولون: إنها اجتمعت إليه أول ما خلق الإنسان فصفوه له، فقال: تصفون خلقًا ينزل الطير من السماء والحوت من الماء؟! فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا [حافر فليحفر] (¬1). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ناب"، وهو بعيد، والمثبت من "العين" للخليل (7/ 14).

والضبة إذا باضت حرست أولادها من كل مَنْ قدرت عليه من ورل وحية وغير ذلك، فإذا بقيت أولادها وخرجت من البيض؛ ظنتها شيئًا يريد بيضها فوثبت عليها لتقتلها؛ فلا ينجو منها إلا الشريد. وقال أبو عبيد البكري في كتاب "الاحتفال": وقيل بل تأكل أولادها فلا يسلم منها إلا من شُغِلَت عنه بأكل إخوته. ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن عطاء، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: "نزلنا أرضًا كثيرة الضباب فاصابتنا مجاعة فطبخنا منها؛ فإن القدور لتغلي بها إذْ جاء رسول الله -عليه السلام-، فقال: ما هذا؟ فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابًّا في الأرض، وإني أخشى أن تكون هذه، فاكفئوها". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش قال: ثنا يزيد بن وهب الجهني، قال: ثنا عبد الرحمن بن حسنة. . . ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي الجوهري، أثنى عليه ابن يونس بخير، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: لا بأس به. عن زيد بن عطاء بن يزيد اليشكري، ويقال: الكندي الواسطي البزاز مولى أبي عوانة من فوق، فيه مقال، فعن أحمد: ليس بحديثه بأس. وعن يحيى: ليس بشيء، وعنه ضعيف. وقال ابن حبان: لا يحتج به. عن سليمان بن مهران الأعمش. عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي -عليه السلام-، فَقُبِضَ وهو في الطريق، روى له الجماعة. عن عبد الرحمن بن حسنة أخي شرحبيل بن حسنة له صحبة.

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، ثنا زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال: "غزونا مع رسول الله -عليه السلام- فأصابتنا مجاعة، ونزلنا بأرض كثيرة الضباب، فأخذنا منها فطبخنا في القدور، فقلنا: يا رسول الله، إنها الضباب، فقال: إن أمة فقدت، لعلها هذه. وأمرنا فأكفأنا القدور". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن الأعمش. . . إلى آخره. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن الأعمش. . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي عاصم في كتابه نحوه، وفي آخره: "فأكفأناها ونحن جياع". فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: إسناده لا بأس به، وقال ابن حزم: حديث عبد الرحمن بن حسنة حديث صحيح، وحجة إلا أنه منسوخ بلا شك؛ لأن فيه أن النبي -عليه السلام- إنما أمر بإكفاء القدور بالضباب خوف أن تكون من بقايا مسخ الأمم السالفة، هذا نص الحديث، فإن وجدنا عنه -عليه السلام- ما يُؤمَن من هذا الظن بيقين فقد ارتفعت الكراهة أو المنع في الضب؛ فنظرنا في ذلك فوجدنا في "صحيح مسلم" عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "قيل: يا رسول الله، القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا -أو يعذب قومًا- فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك". فصح يقينا أن تلك المخافة منه -عليه السلام- في الضباب أن تكون مما مسخ قد ارتفعت، وأنها ليست مما مسخ ولا مما مسخ شيء في صورتها؛ فحلت. ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي في "المجمع" (4/ 50) لأحمد، والطبراني في "الكبير"، وأبو يعلى والبزار، وقال: "ورجال الجميع رجال الصحيح". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 123 رقم 24314).

وحديث ابن عباس في أكله بحضرة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على تحليله، وهو الآخر الناسخ؛ لأن ابن عباس لم يجتمع بلا شك مع سيدنا رسول الله -عليه السلام- بالحديبية إلا بعد انقضاء الفتح وحنين والطائف، ولم يغز بعدها إلا تبوك، ولم تصبهم في تبوك مجاعة أصلاً. فصح يقينًا أن خبر ابن حسنة كان قبل هذا بلا مرية؛ فارتفع الإشكال جملة، وصحت إباحة عمر وغيره. قلت: وفيه نظر من وجهين: الأول: إن حديث ابن عباس ليس فيه أنه كان بالمدينة، وإنما قال: "كنت في بيت ميمونة، فدخل -عليه السلام- ومعه خالد -رضي الله عنه- فجاءوا بضبين. . ." الحديث، وإذا كان كذلك فيحتمل أنه كان لما تزوج -عليه السلام- ميمونة، وكان موضع مبيتها بيتها أيَّ موضع كان. الثاني: أن قوله "ولم تصبهم في تبوك مجاعة" كلام فاسد، وذهول شديد عما في كتاب الله من تسميتها عُسرة، وأي مجاعة أشد من ذلك؟!. قوله: "فأصابتنا مجاعة" أي جوع، وهو نقيض الشبع، يقال: جَاعَ يَجُوع جَوْعًا، ومجاعة، والجوعة: المرة الواحدة. قوله: "إن أمة" أي طائفة. قوله: "فاكفئوها" أمرٌ من كفأت الإناء كببته وقلبته، فهو مكفوء. وزعم ابن الأعرابي أن أكفأته لغة، وهو مهموز اللام. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى تحريم لحوم الضباب؛ لأنهم لم يأمنوا أن يكون ممسوخًا، واحتجوا بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأعمش وزيد بن وهب، وجماعة آخرين؛ فإنهم قالوا: كل الضباب حرام، واحتجوا بحديث عبد الرحمن بن حسنة؛ لأن أمر النبي -عليه السلام- بإكفاء القدور التي كانوا قد طبخوا فيها ضباب يدل على تحريمها، فلو

كان أكلها جائزًا لما أمر بذلك، وذلك كما أمر بإكفاء القدور التي كانوا قد طبخوا فيها لحم الحمر الأهلية يوم حنين. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بها بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم لم يروا بأكل الضب بأسًا، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: "وصحت إباحته عن عمر بن الخطاب وغيره". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن حصينًا قد روى هذا الحديث عن زيد بن وهب على خلاف هذا المعنى الذي رواه الأعمش. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- فأصاب الناس ضبابًا فاشتووها فأكلوها فأحبت منها ضبا فشويته، ثم أتيت به النبي -عليه السلام- فأخذ جريدة، فجعل يعد بها أصابعه، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابًّا في الأرض، وإني لا أدري لعلها هي، فقلت: إن الناس قد اشتووها فأكلوها، فلم يأكل، ولم ينه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن حصين فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: ثابت بن وديعة. ففي هذا الحديث خلاف ما في الحديث الأول؛ لأن في هذا: أن رسول الله -عليه السلام- لم ينههم عن أكلها، وقد خشي في هذا الحديث أن يكون ممسوخًا كما خشي في الحديث الأول، غير أنه يجوز أن يكون قد ترك النهي لأنهم كانوا في مجاعة -على ما في حديث الأعمش- فأباح لهم ذلك للضرورة. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه، أن حُصَيْنًا -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- بيان ذلك: أن الحديث الذي رواه الأعمش،

عن زيد بن وهب الذي احتجت به أهل المقال الأولى قد رواه حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن زيد على خلاف ذلك، فإنه قال في حديثه: إنهم أكلوها، وأن النبي -عليه السلام- لم يأكل ولم ينه، وترْكه -عليه السلام- أكله لكونه قد خشي أن يكون ممسوخًا، وهذا المعنى موجود في الحديثين جميعًا، غير أنه يحتمل أن يكون تَرْكه النهي في حديث حصين؛ لكونهم في جوع وشدة، فأباح لهم ذلك لأجل الضرورة. فإذا كان كذلك لا تقوم بالحديثين حجة لأهل المقالتين. أما الحديث الأول: فلأنه يعارض الحديث الثاني. وأما الحديث الثاني: فقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون ترك النبي -عليه السلام- النهي عن أكله لكونهم في مجاعة، فحينئذ يحتاج في ذلك إلى إقامة الحجة من غير هذا الحديث الذي وقع فيه الاختلاف. وقد أشار الطحاوي إلى ذلك بقوله: ثم رجعنا إلى ما في ذلك أيضًا على ما يجيء الآن إن شاء الله. ثم إنه أخرج حديث حصين عن زيد بن وهب من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن زيد بن وديعة، ويقال: ثابت بن يزيد، وقال أبو عمر: ثابت بن وديعة بن خذام بن زيد بن مالك، نسب إلى جده، وفي "التهذيب": له ولأبيه صحبة، وحديثه في الضب يختلفون فيه اختلافًا كثيرًا. والحديث أخرجه الطبراني (¬1): نا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة. . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 81 رقم 1367).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن، عن زيد بن وهب عن ثابت بن وديعة -رضي الله عنه-. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في جيش، فأصبنا ضبابًا قال: فشويت منها ضبًّا، فأتيت رسول الله -عليه السلام- فوضعته بين يديه، فأخذ عودًا فعد به أصابعه، ثم قال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابَّ في الأرض، ولا أدري أمن الدواب هي؟ قال: فلم يأكل، ولم ينه". وأخرجه النسائي (¬2): عن سليمان بن منصور البلخي، عن أبي الأحوص سلام ابن سليم، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن يزيد الأنصاري، نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، نحوه. ص: ثم رجعنا إلى ما في ذلك أيضًا سوى هذين الحديثين؛ فإذا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا قال: ثنا أبو الوليد وعفان قالا: ثنا عبد الملك بن عمير، عن حصين -رجل من بني فزارة- قال: أخبرني سمرة بن جندب -رضي الله عنه-: "أن نبي الله -عليه السلام- أتاه أعرابي وهو يخطب، فقطع عليه خطبته، فقال: يا رسول الله، ما تقول في الضب؟ فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت، فلا أدري أي الدواب مسخت؟ ". حدثنا فهد قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة الأنصاري، عن النبي -عليه السلام-: "أنه أُتي بضب، فقال: أمة مسخت". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 353 رقم 3795). (¬2) "المجتبى" (7/ 199 رقم 4320). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1078 رقم 3238).

حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود قال: ثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت زيد ابن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- بضب، فقال له رسول الله -عليه السلام- إن أمة قد فقدت فالله أعلم". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا حميد الصائغ قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة الأنصاري: "أن رجلًا من بني فزارة أتى النبي -عليه السلام- بضباب احترشها، فجعل رسول الله -عليه السلام- يقلبها وينظر إلى ضب منها، فقال رسول الله -عليه السلام-: أمة مسخت، فلا ندري ما فعلت، ولا أدري لعل هذا منه". حدثنا فهد قال: ثنا الحسن بن بشر قال: ثنا المعافى بن عمران، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- أبى أن يأكله -يعني الضب- وقال: لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت". قال: أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذه الآثار أن رسول الله -عليه السلام- ترك أكله خوفًا من أن يكون مما مسخ؛ فاحتمل أن يكون قد حرمه مع ذلك، واحتمل أن يكون تركه تنزها منه عن أكله، ولم يحرمه. فنظرنا في ذلك؛ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عَقِيل بشير بن عقبة قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن أعرابيًّا سأل النبي -عليه السلام- فقال: إني في حائط مضبة، وإنه طعام أهلنا، فسكت، فقلنا له: عاوده. فعاوده، فسكت، ثم قالوا: عاوده، فعاوده، فقال: إن الله -عز وجل- لعن -أو غضب على- سبط من بني إسرائيل فمسخهم دوابًّا يدبون على الأرض، فما أظنهم إلا هؤلاء، ولست آكلها ولا أحرمها". ففي هذا الحديث: أن رسول الله -عليه السلام- لم يحرم الضباب مع خوفه أن تكون من الممسوخ. ش: لما لم يكن في الحديث المذكور الذي اختلف فيه حجة لأحد الفريقين، وكان -عليه السلام- خشي فيه أن يكون ممسوخًا؛ شرع يبين ما جاء في هذا الباب مما جاء فيه

هذا المعنى، أي خشيته كونه ممسوخًا مع أنه -عليه السلام- لم يحرمه؛ إنما كان تركه -عليه السلام- الأكل لأجل عِيَافَتِه وتنزيهه. بيان ذلك أنه جاء في حديث سمرة وثابت بن وديعة وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، أن النبي -عليه السلام- إنما تركه لأجل خوفه أن يكون مما مسخ، ومع هذا يحتمل أن يكون قد حرمه مع ذلك، ويحتمل أن يكون امتنع عنه لأجل تنزيهه وعيافته. فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري قد دل على أنه لم يحرمه مع خوفه أن يكون من الممسوخات، فرجح هذا الحديث أحد الاحتمالين المذكورين، فثبت أنه غير محرم، فافهم. أما حديث سمرة -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن عفان بن مسلم الصفار، عن عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي، عن حصين -بضم الحاء- بن قبيضة الفزاري الكوفي، وثقه ابن حبان، عن سمرة بن جندب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا هشام بن عبد الملك بن أبي عوانة، وثنا عفان، نا عبد الملك بن حصين -رجل من بني فزارة- عن سمرة بن جندب، قال: أتى نبي الله -عليه السلام- أعرابي وهو يخطب، فقطع عليه خطبته، فقال: يا رسول الله، كيف تقول في الضب؟ فقال: أمة مسخت من بني إسرائيل، فلا أدري أي الدواب مسخت؟. وأما حديث ثابت بن وديعة فأخرجه من ثلاث طرق جياد حسان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحمصي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب الصحابي، عن ثابت بن وديعة الصحابي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 19 رقم 20222).

وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- بضبٍّ فقال: إن أمة مسخت والله أعلم". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة. . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حميد بن أبي زياد الصائغ الكوفي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة -رضي الله عنه- وحميد الصائغ وثقه ابن حبان. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا علي بن عبد العزيز، نا عفان، نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة: "أن رجلًا من بني فزارة أتى النبي -عليه السلام- بضباب قد احترشها، فجعل يقلب ضبًّا منها بين يديه، وقال: أمة مسخت -وأكثر علمي أنه قال: ما أدري ما فعلت، وما أدري لعل هذا منها؟ ". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: عن عمرو بن يزيد، عن بهز بن أسد، عن شعبة. . . إلى آخره نحوه. وأما حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن بشر البجلي الكوفي شيخ البخاري، عن المعافى بن عمران الأزدي الموصلي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، قالا: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 200 رقم 4322). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 81 رقم 1365). (¬3) "المجتبى" (7/ 200 رقم 4321). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1545 رقم 1949).

يقول: "أتى النبي -عليه السلام- بضب، فأبى أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت". وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عَقيل -بفتح العين- بشير بن عقبة الناجي السامي -بالسين المهملة- عن أبي نضرة -بالنون والصاد المعجمة- المنذر بن مالك، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز، قال: ثنا أبو عقيل الدورقي، قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري: "أن أعرابيًّا أتى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني في حائط مضبة وإنه طعام أهلي، قال: فلم يجبه، فقلنا عاوده، فعاوده فلم يجبه ثلاثًا، ثم ناداه رسول الله -عليه السلام- في الثالثة فقال: يا أعرابي، إن الله لعن -أو غضب على- سبط من بني إسرائيل فمسخهم دوابَّ يدبون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منه، فلست آكلها ولا أنهى عنها". قوله: "في حائط مضبة" الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليها جدار، و"المضبة" بفتح الميم والضاد على وزن مفعلة، يقال: أرض مضبة أي ذات ضباب. قال ابن الأثير: جاءت الرواية بضم الميم وكسر الضاد والمعروف بفتحهما، يقال: أضبت أرض فلان: إذا أكثر ضبابها، وهي أرض مضبة أي ذات ضباب، مثل مَأْسَدَة، ومَذْأَبة، ومَرْبعة، أي ذات أسود، وذئاب، ويرابيع، وجمع المضبة: مضاب، وأما مضبة فهي اسم فاعل من أضبت، كأعدت فهي معدة، فإن صحت الرواية فهي بمعناها. ص: ثم نظرنا، هل روي عن النبي -عليه السلام- ما ينفي أن تكون الضباب ممسوخة؟ فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1546 رقم 1951).

عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ قال: "إن الله -عز وجل- لم يهلك قومًا -أو يمسخ قومًا- فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة". حدثنا ابن أبي داود وأحمد بن داود، قالا: ثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مسعر، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن عبد الله، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله تبارك وتعالى لم يهلك قومًا فيجعل لهم نسلًا ولا عقبًا". حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن علقمة بن مرثد، عن المعرور بن سويد، عن أم سلمة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. فبين رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث أن الممسوخ لا يكون له نسل ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مما مسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب مكروهًا من قِبَلِ أنه مسخ أو من قِبَلِ ما يخاف أن يكون مسخًا. ش: لما دل حديث أبي سعيد الخدري على أنه -عليه السلام- لم يحرم الضباب مع خوفه أن تكون من الممسوخ. فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديثا آخر دل على أن الممسوخات لم يبق لها نسل ولا عقب، فدل على أن الضب لو كان مما مسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب مكروهًا من قِبَلِ أنه من الممسوخات، أو من قِبَلِ ما يخاف أن يكون مسخًا، فإذا انتفت كراهة الضب من هذين الوجهين؛ يحتاج فيه بعد ذلك إلى دليل آخر يدل إما على جواز أكله، وإما على منعه، ويجيء ذلك عن قريب، إن شاء الله تعالى. وأخرج حديث ابن مسعود من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل

اليشكري الكوفي، عن المعرور -بالعين المهملة- بن سويد الأسدي الكوفي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر -واللفظ للحجاج قال إسحاق: أنا، وقال الحجاج-: نا عبد الرزاق، قال: أنا الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن معرور بن سويد، عن عبد الله بن مسعود قال: "قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي: رسول الله وبأبي: [أبي] (¬2) سفيان وبأخي: معاوية، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يُعَجِّل شيئًا منها قبل حله، ولا يُؤَخِّر منها شيئًا بعد حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيرًا لك، قال: فقال رجل: يا رسول الله، القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي -عليه السلام-: إن الله لم يهلك قومًا -أو يعذب قومًا- فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وأحمد بن داود المكي، كلاهما عن محمد بن كثير شيخ أبي داود، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مَرثد، عن المغيرة بن عبد الله، عن معرور بن سويد، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬3): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن مسعر، عن علقة بن مرثد، عن المغيرة، عن معرور، عن عبد الله. . . نحو رواية مسلم. الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن يوسف بن عدي بن زريق، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشقر الرازي نزيل الكوفة عن مسعر بن كدام، عن علقمة بن مرثد. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2051 رقم 2663). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "عمل اليوم والليلة" (1/ 255 رقم 264).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -واللفظ لأبي بكر- قال: ثنا وكيع، عن مسعر، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد، عن عبد الله، قال: قالت أم حبيبة زوج النبي -عليه السلام-: "اللهم أمتعني بزوجي: رسول الله -عليه السلام-، وبأبي: أبي سفيان، وبأخي: معاوية، قال: فقال النبي -عليه السلام-: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، أو يؤخر شيئًا قبل حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر؛ كان خيرًا -أو أفضل- قال: وذكرت عنده القردة -قال مسعر: أراه قال: والخنازير- من مسيخ فقال: إن الله لم يجعل لمسيخ نسلًا ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك". وأخرج حديث أم سلمة أيضًا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان، العبسي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن عبد الله بن إدريس، عن ليث بن سعد، عن علقمة بن مرثد. . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): نا علي بن عبد العزيز، نا الحسن بن ربيع، نا عبد الله ابن إدريس، عن ليث، عن علقمة بن مرثد، عن المعرور بن سويد، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "ما مسخ الله من شيء فكان له عقب ولا نسل". ص: ثم نظرنا فيما روي خلاف ما ذكرنا، هل نجد في شيء من ذلك ما يدلنا على إباحة أكله أو على المنع من ذلك؟ فإذا حسين بن نصر وزكريا بن يحيى بن أبان قد حدثانا، قالا: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا: "ليت عندنا قرصة من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن، فقام رجل من أصحابه فعملها ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2050 رقم 2663). (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 325 رقم 746).

ثم جاء [بها] (¬1)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيم كان سمنها؟ قال: في عكة ضب، قال له: ارفعها". فإن قال قائل: ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- هذا ما يدل على كراهة رسول الله -عليه السلام- لأكل لحم الضب. قيل له: قد يجوز أن يكون هذا على الكراهة التي ذكرها أبو سعيد الخدري عن رسول الله -عليه السلام- في حديثه الذي قد رويناه، لا على تحريمه إياه على الناس. ش: قد ذكر أن كراهة أكل الضب انتفت من قِبَل أنه من الممسوخات، ومن قِبلِ ما يخاف أن يكون مَسِيخًا، ذكر هنا ما يدل على إباحته، وذكر أحاديث، منها حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، وزكريا بن يحيى بن إياس الحنظلي المعروف بخياط السنة شيخ النسائي، كلاهما عن نعيم بن حماد المروزي الفارضي شيخ البخاري في المقرنات، عن الفضل بن موسى السيناني -بكسر السين المهملة، بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون- المروزي، عن الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو، عن أيوب، عن نافع، عن مولاه عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، قال: أنا الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن، فقام رجل من القوم فاتخذه فجاء به، فقال: في أي شيء كان هذا؟ قال: في عكة ضب، قال: ارفعه". قال أبو داود: هذا حديث منكر، وأيوب هذا ليس بالسختياني. انتهى. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "به"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 359 رقم 3818).

قلت: أيوب هذا هو أيوب بن خوط أبو أمية البصري، ويقال له: أيوب الحبطي، قال البخاري: تركه ابن المبارك وغيره. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، ليس بشيء، وقال الفلاس ومسلم والسعدي وأبو حاتم والنسائي وعلي بن الجنيد والدارقطني: متروك. وقال الأزدي: كذاب لا تحل الرواية عنه. وقال ابن عدي: هو كثير الغلط وليس بكذاب. وقال أبو حاتم بن حبان: كان الحسين بن واقد على قضاء مرو، وكان من خيار الناس، وكتب عن أيوب السختياني وأيوب بن خوط؛ فكل منكر عنده عن أيوب عن نافع عن ابن عمر إنما هو أيوب بن خوط ليس هو بأيوب السختياني. وسئل مرة أحمد بن حنبل عن حديث رواه الحسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ليت عندنا خبزة ملبقة بسمن ولبن. . ." الحديث، فاستنكره أحمد وحرك رأسه، كأنه لم يرضه. قوله: "ملبقة" أي مخلوطة، يقال: لبقت الثريدة إذا خلطتها خلطًا شديدًا، وقال الجوهري: الثريد الملبق: الشديد التثريد الملين بالدسم، يقال: ثريدة ملبقة. قوله: "فقال قائل:. . . إلى آخره" تقرير السؤال أن يقال: في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله -عليه السلام- قد كره أكل لحم الضب حيث قال: "ارفعه" وهذا ظاهر. والجواب هو ما قاله بقوله: "قيل له. ." إلى آخره، وهو أيضًا ظاهر. ص: وقد روي عن ابن عمر أيضًا ما يدل على ذلك. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي بضب فلم يأكله، ولم يحرمه". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: "نادى رسولَ الله -عليه السلام- رجلُ فقال: ما تقول في الضب؟ فقال لست بآكله ولا محرمه".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: أنا ابن جريج، عن نافع قال: "كان ابن عمر يقول: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن الضب. . ." فذكر مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سهيل بن عامر البجلي، قال: ثنا مالك بن مغول، قال: سمعت نافعًا، عن ابن عمر قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضب، فقال: لا أكل، ولا أنهى". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه لم يحرم أكل الضب. ش: أي وقد روي عن عبد الله بن عمر أيضًا ما يدل على إباحة أكل الضب، وأخرجه من سبع طرق صحاح، غير الطريق الرابع على ما نُبيِّن: الأول: عن إبراهيم بن بن مرزوق، عن عارم، وهو محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وعبد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: "سئل النبي -عليه السلام- عن الضب، فقال: لست بآكله ولا محرمه". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: "نادى رسول الله -عليه السلام-. . ." إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 33 رقم 4882).

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حُجْر، عن إسماعيل -قال يحيى بن يحيى: أنا إسماعيل بن جعفر- عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول: "سئل النبي -عليه السلام- عن الضب، فقال: لست بآكله ولا محرمه". الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن نافع قال: كان ابن عمر. . . إلي آخره. الرابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سهل بن عامر البجلي، فيه مقال، فقال أبو حاتم: كذاب، وقال البخاري: منكر الحديث. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا أبو معاوية، عن مالك بن مغول، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن الضب؟ فقال: لا لا آكله، ولا أنهى عنه". الخامس: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن ورقاء بن عمر اليشكري، عن عبد الله بن دينار. . . إلى آخره. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري. . . إلى آخره. وأخرجه العدني في "مسنده": عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر نحوه. السابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون. . . إلى آخره. ص: وقد روي عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه حلال. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 968 رقم 1739). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1541 رقم 1943). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 41 رقم 5004).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وعبد الصمد، قالا: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: سمعت الشعبي يقول: أرأيت فلانا حين يروي عن النبي -عليه السلام-، لقد جالست ابن عمر فما سمعته يحدث عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كان أناس من أصحاب النبي -عليه السلام- يأكلون ضبًّا فنادتهم امرأة من أزواج النبي -عليه السلام- بأنها ضبٌّ، فقال النبي -عليه السلام-: كلوه، ليس من طعامي -وفي حديث وهب: فإنه حلال". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أخبر أنه حلال، وإنما تركه لأنه لم يكن من طعامه. ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا على ما قاله من قوله: فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله -عليه السلام- أنه لم يحرم أكل الضب لأن فيه -صريحًا- أنه حلال. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، وعبد الصمد بن عبد الوارث، كلاهما عن شعبة، عن توبة العنبري البصري، عن عامر الشعبي. وأخرجه مسلم (¬1): نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، سمع الشعبي، سمع ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- كان معه ناس في أصحابه فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب، فنادت امرأة من نساء النبي -عليه السلام-: إنه لحم ضب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي". وثنا محمد بن المثنى (¬2) قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: قال لي الشعبي أرأيت حديث الحسن عن النبي -عليه السلام- وقاعدت ابن عمر سنتين أو سنة ونصف، فلم أسمعه روى عن النبي -عليه السلام- غير هذا، قال: "كان ناس من أصحاب النبي -عليه السلام- فيهم سعد. . . بمثل حديث ابن معاذ. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1542 رقم 1944). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1542 رقم 1944).

ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضًا: أن رسول الله -عليه السلام- لم يحرمه. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: "سألت جابرًا عن الضب، فقال: أتُي به رسول الله -عليه السلام- فقال: لا أطعمه، فقال عمر -رضي الله عنه-: إن رسول الله -عليه السلام- لم يحرمه، وإن الله لينفع به غير واحد، وهو طعام عامة الرعاء، ولو كان عندي لأكلته". ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا على ما ادعاه من أنه -عليه السلام- لم يحرمه. وأخرجه بإسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال على ما ذكرنا غير مرة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، نا أبو الزبير، قال: "سألت جابرًا عن الضب، فقال: أُتي رسول الله -عليه السلام- به فقال: لا أطعمه وقذره، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إن رسول الله -عليه السلام- لم يحرمه، وإن الله -عز وجل- لينفع به غير واحدٍ، وهو طعام عامة الرعاء، ولو كان عندي لطعمته". قوله: "لا أطعمه" أي لا آكله من: طَعِمَ يَطْعَمُ، من باب: عَلِمَ يَعْلَمُ. قوله: "عامة الرِّعاء" بكسر الراء: جمع رَاعٍ، قال الله تعالى: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} (¬2). ص: وقد كره قوم أكل الضب، منهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحارث بن مالك، ويزيد بن أبي زياد، ووكيعًا؛ فإنهم قالوا: أكل الضب مكروه، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 342 رقم 14725). (¬2) سورة القصص، آية: [23].

وقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، عن عبد الجبار بن عباس، عن عريب الهمداني، عن الحارث، عن علي -رضي الله عنه-: "أنه كره الضب". وقال ابن حزم (¬2): وعن أبي الزبير قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضب، فقال: لا تطعموه". وممن ذهب إلى هذا: أبو حنيفة وصاحباه. ثم الأصح عند أصحابنا: أن الكراهة كراهة تنزيه لا كراهة تحريم؛ لتظاهر الأحاديث الصحاح بأنه ليس بحرام. ص: واحتج لهم محمد بن الحسن بما حدثنا محمد بن بحر بن مطر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قالوا: حدثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي -عليه السلام-: "أهدي له ضب، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: تعطينه ما لا تأكلين؟! ". قال محمد: فقد دل ذلك على أن رسول الله -عليه السلام- كره لنفسه ولغيره أكل الضب، قال: فبذلك نأخد. ش: أي احتج لهؤلاء القوم -فيما ذهبوا إليه- محمد بن الحسن بحديث عائشة -رضي الله عنهما-، فإن فيه: "لما أرادت عائشة أن تعطيه السائل، قال لها -عليه السلام-: تعطيه ما لا تأكلين" فدل ذلك أن -عليه السلام- كره أكل الضب لغيره كما قد كره لنفسه. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمد بن بحر بن مطر السعداوي، عن يزيد بن هارون الواسطي، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 125 رقم 24361). (¬2) "المحلى" (7/ 431).

عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره. الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب، شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبيد بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "أُهدي لرسول الله -عليه السلام- ضب فلم يأكل منه، قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا أطعمه السُّؤَّال؟ قال: لا تطعمي السُّؤَّال: إلا مما تأكلين". قوله: "قال: فبذلك نأخذ" أي قال محمد بن الحسن فيما ذكر من الكراهة نأخذ. ص: قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت، قد يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه السائل؛ لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إياه، وكان ما تطعمه السائل فإنما هو لله -عز وجل-، فأراد النبي -عليه السلام- أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله -عز وجل- إلا من خير الطعام، كما قد نهى أن يتصدق بالبسر الرديء والتمر الرديء. ش: أي قيل لمحمد بن الحسن: ما في ما ذكرت دليل على ما ذهبت إليه في الاحتجاج للقوم المذكورين فيما ذهبوا إليه من كراهة أكل لحم الضب، ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 431). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 123 رقم 24345).

والحاصل أن هذا ردٌّ ومنع لاستدلال محمد: بحديث عائشة المذكور، وبيَّن ذلك بقوله: "وقد يجوز أن يكون كره لها. . . إلى آخره، وهو ظاهر. ص: فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: "أمرني النبي -عليه السلام- بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذه النخل -قال سفيان: يعني الشيص- وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به، فنزلت: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1) ونهى رسول الله -عليه السلام- عن الجعرور، ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة". قال الزهري: لونان من تمر المدينة. حدثنا ابن أبي داود، ثنا أبو الوليد، ثنا سليمان بن كثير، قال: حدثني الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الجعرور، ولون الحبيق". حدثنا أبو بكرة، ثنا مؤمل، ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء قال: "كانوا يجيئون الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. قال: لو كان لكم فأعطاكم، لم تأخذوا إلا وأنتم ترون أنه قد نقصكم من حقكم". حدثنا ابن مرزوق، ثنا عبد الله بن حمران، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، عن ابن مرة، عن عوف بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد، إذ خرج علينا رسول الله -عليه السلام- وفي يده عصا وإقناء معلقة في المسجد فيها قنو حشف فقال: لو شاء رب هذا القنو لتصدق بأطيب منه، إن رب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [267].

القيامة، ثم أقبل على الناس فقال: أَمَ والله ليدعنها مذللة أربعين عامًا للعوافي -يعني نخل المدينة-". حدثنا يزيد بن سنان، ثنا أبو بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد، قال: حدثني صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي -عليه السلام- مثله. فلهذا المعنى كره رسول الله -عليه السلام- لعائشة الصدقة بالضب؛ لا لأن أكله حرام. ش: أي فمن الذي روي عن النبي -عليه السلام- في كراهة الصدقة بالشيء الرديء الحقير: ما حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي. . . إلى آخره. وأخرج في ذلك عن سهل بن حنيف، والبراء بن عازب، وعوف بن مالك -رضي الله عنهم-. أما حديث سهل فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بسعدون شيخ البخاري وأبي داود، عن عباد بن العوام بن عمر الواسطي روى له الجماعة، عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة أسعد, وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته وهو المشهور، روى له الجماعة، وهو من كبار التابعين، عن أبيه سهل بن حنيف الأنصاري -رضي الله عنه-. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمد بن الفضل السقطي، ثنا سعيد بن سليمان (ح). وحدثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني، ثنا جعفر بن محمد بن جعفر المدائني، قالا: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- أمر بصدقة فجاء رجل بكبائس من هذا النخل فوضعه، فخرج رسول الله -عليه السلام- فقال: من جاء بهذا؟ فكان لا يجيء أحد ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 76 رقم 5567).

إلا صب الذي جاء به، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). ونهى يومئذ عن الجعرور، ولون ابن حبيق أن يؤخذا في الصدقة، قال الزهري: صنفان من تمر المدينة، قال عباد: قال سفيان: السخل الشيص". الثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن سليمان بن كثير العباسي البصري، أخي محمد بن كثير، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة. . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن يحيى بن فارس، نا سعيد بن سليمان، ثنا عباد، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجعرور، ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة، قال الزهري: لونان من تمر المدينة، قال أبو داود: أسنده أيضًا أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهري. وأما حديث البراء فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكوفي الأعور، عن أبي مالك الغفاري غزوان الكوفي، عن البراء بن عازب. وأما حديث عوف بن مالك فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله القرشي البصري، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري أبي حفص المدني، عن صالح بن أبي عريب الحضرمي الشامي ويقال المصري، عن كثير بن مرة الحضرمي الرهاوي، عن عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني الصحابي -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [267]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 110 رقم 1607).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، ثنا يحيى -يعني- القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك قال: "دخل علينا رسول الله -عليه السلام- المسجد وبيده عصا وقد علق رجل منا حشفا، فطعن بالعصا في ذلك القنو، وقال لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة". الثاني: عن يزيد بن سنان، عن أبي بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب -بفتح العين- واسمه كليب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك. وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) نحوه. قوله: "بكبائس" الكبائس: جمع كباسة، وهو العذق التام بشماريخه ورُطبِه، والشيص -بكسر الشين المعجمة- هو التمر الذي لا يشتد نواه ولا يقوى، وقد لا يكون له نوى أصلاً. قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي: ولا تقصدوا. قوله: "عن الجعرور" بضم الجيم، وهو نوع من الدقل يحمل رطبًا صغارا لا خير فيه، والدقل -بفتح الدال والقاف- أراد التمر. قوله: "ولون الحبُيَقْ" بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قاف، وهو تمر أغبر صغير مع طول فيه يقال: حبيق ونبيق وذوات العنيق لأنواع من التمر، ونبيق أغبر مدور، وذوات العنيق لها أعناق مع طول وغبرة، وربما اجتمع ذلك كله في عذق واحد، "والأقناء" جمع قِنْو -بكسر القاف وسكون النون- وهو العذق بما فيه من الرطب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 111 رقم 1608). (¬2) "المجتبى" (5/ 43 رقم 2493). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 583 رقم 1821).

قوله: "فيها قنو حشف" بالإِضافة، والحشف -بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة-: اليابس الفاسد من التمر، وقيل: الضعيف الذي لا نوى له، كالشيص. قوله: "وأَمَ والله" أصله: أما والله، وهي كلمة استفتاح تذكر غالبا قبل القسم. قوله: "العوافي" قد فسر ذلك في رواية الطبراني بأنها الطير والسباع. قال الطبراني (¬1): نا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- دخل المسجد وبيده عصا، فرأي أقناء معلقة، فطعن في قنو منها فإذا فيه حشف، فقال: من صاحب هذا؟ لو تصدق بأطيب منه، إن صاحب هذا ليأكل الحشف يوم القيامة، ثم قال: يا أهل المدينة لتدعونها للعوافي أربعين عاما، قيل: وما العوافي؟ قال: الطير والسباع". قلت: العوافي جمع عافية، يقال: طير عاف على الماء أي عائم عليه، ليجد فرصة ليشرب وقد عاف يعيف عيفا. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في إباحة أكله أيضًا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك، عن ابن شهاب أخبرها، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن ابن عباس: "أن خالد بن الوليد دخل مع رسول الله -عليه السلام- بيت ميمونة -رضي الله عنها- فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله -عليه السلام- بيده فقال بعض النسوة اللاتى في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله -عليه السلام- ما يريد أن يأكل منه، فقالوا: هو ضب، فرفع يده، فقلت: أحرام هو؟ قال: لا, ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، فاجتررته فأكلته، ورسول الله -عليه السلام- ينظر إليّ فلم ينهني". حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد عن الشيباني، عن يزيد بن الأصم قال: "دعينا لعرس بالمدينة، فقرب إلينا طعام فأكلناه، ثم قرب ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 55 رقم 99).

إلينا ثلاثة عشر ضبًّا، فمن آكل وتارك فلما أصبحت أتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال بعض من عنده، قال رسول الله -عليه السلام-: لا آكله ولا أحرمه ولا آمر به ولا أنهى عنه، فقال ابن عباس: ما بعث رسول الله -عليه السلام- إلا محللًا أو محرمًا، قرب إلى رسول الله -عليه السلام- لحم فَمَدًّ يده ليأكل، فقالت ميمونة: يا رسول الله، إنه لحم ضب، ثم قال: هذا لحم لم آكله قط، فأكل الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة كانت معهم، وقالت ميمونة: لا آكل طعاما لم يأكل منه رسول الله -عليه السلام-". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا المقدمي قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- أتي بصحفة فيها ضباب، فقال: كلوا؛ فإني عائف". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله -عليه السلام- أَقِطًا وسمنًا وأضبًّا، فأكل النبي -عليه السلام- من الأقط والسمن، ولم يأكل من الأضب، وأكُل على مائدة النبي -عليه السلام- ولو كان حرامًا لم يؤكل على مائدة النبي -عليه السلام-". فثبت بتصحيح هذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وأنا به أقول. ش: أخرج أحاديث ابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- تأييدا لقول من يذهب إلى إباحة أكل لحم الضب، وأشار إلى أنه مختاره، ولهذا قال: فثبت بتصحيح هذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب وأنا به أقول. أما حديث ابن عباس فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم والنسائي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي ومالك بن أنس كلاهما، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، عن ابن عباس.

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ومسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر، وحرملة جميعًا، عن ابن وهب -قال: حرملة: أنا ابن وهب- قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله -رضي الله عنه- أخبره: "أنه دخل مع رسول الله -عليه السلام- على ميمونة زوج النبي -عليه السلام- وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبًّا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله -عليه السلام- وكان قَلَّ ما يقدم إليه طعام حتى يُحَدَّث به ويُسَمَّى له، فأهوى رسول الله -عليه السلام- يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله -عليه السلام- بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله. فرفع رسول الله -عليه السلام- يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله ينظر، فلم ينهني". وأخرجه أبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن ابن عباس، نحوه. الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن القرشي الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، عن يزيد بن الأصم الصحابي في بعض الأقوال. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن يزيد بن الأصم قال: "دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبًّا، فآكل وتارك، فلقيت ابن عباس من الغد، فأخبرته، فأكثر القوم حوله حتى ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 968 رقم 1738). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1543 رقم 1946). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 353 رقم 3794). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1545 رقم 1948).

قال بعضهم: قال رسول الله -عليه السلام-: لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحرمه، فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بعث الله تعالى نبي الله -عليه السلام- إلا محللًا ومحرمًا، إن رسول الله -عليه السلام- بينما هو عند ميمونة وعنده الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى؛ إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي -عليه السلام- أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضبٍّ فكف يده، وقال: هذا لحم لم آكله قط، وقال لهم: كلوا، فأكل منه الفضل وخالد بن الوليد والمرأة، قالت ميمونة: لا أكل من شيء إلا من شيء يأكل منه رسول الله -عليه السلام-". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن بشار وأبو بكر بن نافع قال ابن نافع: أنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: سمعت ابن عباس يقول: أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله -عليه السلام- سمنا وأقطًا وأضبًا فأكل من السمن والأقط وترك الضب تقذرًا، وأُكل على مائدة رسول الله -عليه السلام-, ولو كان حرامًا ما أُكل على مائدة رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه أبو داود (¬2): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير. . . إلى آخره نحوه. قوله: "بضب محنوذ" أي مشوي، قال الله تعالى: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (¬3) يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا، أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها، فهي حنيذ. قوله: "فأهوى إليه" أي: مد إليه رسول الله -عليه السلام- يده. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1544 رقم 1947). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 353 رقم 3793) (¬3) سورة هود، آية: [69].

قوله: "فقلت أحرام؟ " الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "عافه" أي أكرهه، من عاف الرجل الطعام أو الشراب يعافه عيافًا، أي كرهه فلم يشربه، فهو عائف. قوله: "أَقِطًا" بفتح الهمزة وكسر القاف وربما تسكن، وهو لبن يابس مجفف مستحجر يطبخ به. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع، عن حبيب بن أبي قريبة المعلم البصري، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث يزيد بن زريع. . . إلى آخره نحوه. وقال الذهبي في "مختصر السنن": إسناده جيد. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 324 رقم 19202).

ص: باب أكل لحوم الحمر الأهلية

ص: باب أكل لحوم الحمر الأهلية ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل لحوم الحُمُر الأهلية، والحُمُر -بضمتين- جمع حمار. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر بن كدام، عن عبيد بن حسن، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر، عبد الله بن عمرو بن لويم والآخر غالب بن الأبجر، قال مسعر: أرى غالبًا الذي سأل النبي -عليه السلام-: "قال: يا رسول الله، إن لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم من أهلي غير حُمر لي -أو حمرات لي- قال: فأطعم أهلك من سمين مالك، فإنما قذرت لكم جوال القرية". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شعبة، عن عبيد بن حسن، عن عبد الرحمن بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر، عن رجال من مزينة من أصحاب النبي -عليه السلام- من الظاهرة، عن أبجر أو ابن أبجر، أنه قال: "يا رسول الله، إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعمه أهلي إلا حمر لي، قال: فأطعم أهلك من سمين مالك فإنما كرهت لكم جوال القرية". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر: "أن ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزينة حدثوا أن سيد مزينة الأبجر أو ابن الأبجر سأل النبي -عليه السلام-. . ." ثم ذكر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة. . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: عبد الرحمن بن معقل، وقال: عن رجال من مزينة الظاهرة، ولم يقل من أصحاب النبي -عليه السلام-، وقال: عن أبجر أو ابن أبجر. ش: هذه أربع طرق:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن مسعر بن كدام روى له الجماعة، عن عبيد بن حسن المزني، وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي، وروى له مسلم وأبو داود وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن معقل بن مقرن المزني الكوفي وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود، عن رجلين من مزينة أحدهما عبد الله بن عمرو بن لويم -بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ميم- وقيل: عبد الله بن عامر، يعد في الصحابة، وقال: أبو عمر: عبد الله بن عمرو بن مليل المزني له صحبة، والآخر: غالب بن الأبجر المزني الصحابي. الطريق الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم أيضًا، عن شعبة بن الحجاج، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الرحمن بن معقل بن مقرن، عن عبد الرحمن بن بشر، فيه مقال، عن رجال من مزينة من الصحابة، عن أبجر أو ابن أبجر. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر. . . إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا زهير، ثنا وكيع، نا مسعر وشعبة، عن عبيد بن حسن، عن عبد الرحمن بن معقل المزني، عن ناس من مزينة الظاهرة، عن غالب بن أبجر أنه قال: "يا رسول الله، لم يبق من مالي إلا أحمرة، قال: أطعم أهلك من سمين مالك؛ فإني إنما كرهت لكم جوال القرية". الرابع: عن إبراهيم ابن مرزق أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة. . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمود بن علي البزاز الأصبهاني، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، عن شعبة، عن عبيد بن حسن، قال: سمعت عبد الله بن معقل يحدث عن عبد الله بن بشر، عن ناس من مزينة: "أن أبجر -أو ابن أبجر- سأل النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 266 رقم 667).

فقال: يا رسول الله، إنه لم يبق من مالي إلا حُمُر، فقال رسول الله -عليه السلام-: أطعم أهلك من سمين مالك، وإنما كرهت لكم جوال القرية". انتهى. وهذا الحديث مختلف في إسناده: ففي الطريق الأول: عن ابن معقل عن رجلين من مزينة. وفي الثاني: عن عبد الرحمن بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر، وفيه أبجر أو ابن أبجر. وفي الثالث: عن عبد الله بن معقل عوض عبد الرحمن بن معقل. وفي الرابع: في رواية الطبراني: عبد الله بن بشر عوض عبد الرحمن بن بشر، وهذا اختلاف شديد، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة التي وردت بتحريم لحوم الحمر الأهلية. وقال البيهقي (¬1): هذا الحديث معلول، رواه شعبة في إحدى الروايتين عنه، عن عبيد، عن عبد الرحمن بن معقل، عن عبد الرحمن بن بشر، عن ناس من مزينة، أن ابن أبجر سأل النبي -عليه السلام-. وفي رواية أخرى عنه، عن عبيد، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن بشر، وروى مسعر عن عبيد، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر: عبد الله بن عامر بن لويم، وغالب بن أبجر قال مسعر: وأرى غالبًا الذي سأل. وروي عن أبي العميس، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن غالب، ومثل هذا لا يعارض الصحاح المصرحة بالتحريم. وقال ابن حزم (¬2): هذا الذي ذكرتم باطل؛ لأنها كلها من طريق عبد الرحمن بن بشر وهو مجهول، والآخر من طريق عبد الله بن عمرو بن لويم وهو مجهول، أو من طريق شريك، وهو ضعيف، ثم عن ابن الحسن ولا يدرى من هو، ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (9/ 332 رقم 55). (¬2) "المحلى" (7/ 407).

عن غالب بن ذيخ، ولا يدرى من هو، أو من طريق سلمى بنت النضر الحضرية، ولا ندري من هي، انتهى. وقال الخطابي: قال البخاري: حديث ابن أبجر قد اختلف في إسناده. وقال أبو داود: رواه شعبة عن أبجر، أو ابن أبجر، ورواه مسعر قال: عن ابن عبيد، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر. قوله: "أرى غالبًا" بضم الهمزة أي أظن غالب بن الأبجر هو الذي سأل النبي -عليه السلام-. قوله: "أو حمرات" شك من الرواي وهو جمع حمار، ويجمع الحمار على حَمِير وحُمْر وحُمُر وحُمرات وأَحْمِرة. قوله: "قذرت لكم" من قذرت الشيء أقذره إذا كرهته واجتنبته، وهو من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. قوله: "جوال القريه" الجوال هي التي تأكل العذرة وهي الجلة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فأباحوا أكل لحوم الحمر الأهلية، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عاصم بن عمر بن قتادة وعبيد بن الحسن وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، فإنهم أباحوا أكل لحوم الحمر الأهلية، واستدلوا على ذلك بحديث غالب بن أبجر، ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم-. وقال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (¬1): واختلف في تحريم الحمر الأهلية على أربعة أقوال: الأول: أنها حرمت شرعًا. الثاني: أنها حرمت لأنها كانت جوال القرى، أي تأكل الجلة وهي النجاسة. ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" (3/ 1145).

الثالث: أنها كانت حمولة القوم. الرابع: أنها حرمت لأنها أفنيت قبل القسمة، فمنع النبي -عليه السلام- من أكلها حتى تقسم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فإن هو أكل لحوم الحمر الأهلية، وقالوا: قد يجوز أن تكون الحمر التى أباح النبي -عليه السلام- أكلها في هذا الحديث كانت وحشية ويكون قول النبي -عليه السلام-: "فإنما كرهت لكم جوال القرية" على الأهلية. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: يكره أكل لحم الحمر الأهلية، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: ولا يحل كل شيء من الحمر الإنسية، توحشت أو لم تتوحش، وحلال أكل حمر الوحش تأنست أو لم تتأنس. قوله: "وقالوا. . ." إلى آخره جواب عن حديث غالب بن أبجر الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر، ولكن فيه مساهلة، فإن قول غالب بن أبجر: غير حُمُر لي أو حمرات لي ظاهره يقتضي أن تكون حُمُرًا أهلية على ما لا يخفى. ص: وقد روى شريك حديث غالب هذا على خلاف ما روى مسعر وشعبة. حدثنا ابن أبي داود ويحيى بن عثمان وروح بن الفرج، قالوا: ثنا يوسف بن عدي (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن حكيم الأودي (ح). وحدثنا فهد قال: ثنا محمد بن سعيد -يزيد بعضهم على بعض- قالوا: ثنا شريك، عن منصور بن المعتمر، عن عبيد بن الحسن، عن غالب بن الذيخ، قال: قيل للنبي -عليه السلام-: "إنه قد أصابتنا سنة وإن سمين مالنا في الحمير، فقال: كلوا من سمين مالكم".

فأخبر [أن] (¬1) ما كان أباح لهم من ذلك [كان في] (¬2) عام سنة فإن كان ذلك على ما حملنا عليه حديث مسعر وشعبة فهو على ما حملناه عليه من ذلك، وإن كان ذلك على الحمر الأهلية، فإنه إنما كان في حال الضرورة، وقد تحل في حال الضرورة الميتة، فليس في هذا الحديث دليل على حكم لحوم الحمر الأهلية في غير حال الضرورة. ش: أشار بهذا إلى الاختلاف الواقع في حديث غالب بن أبجر، وقد ذكرنا ما قالوا فيه من الاختلاف. بيانه أن شريك بن عبد الله روى هذا الحديث على خلاف ما رواه مسعر بن كدام وشعبة بن الحجاج، وبين ذلك بقوله: "حدثنا ابن أبي داود. . ." إلى آخره. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، ويحيى بن عثمان بن صالح السهمي البصري، وروح بن الفرج القطان المصري، ثلاثتهم عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن عبيد بن الحسن المزني. عن غالب بن الذيخ، وهو غالب بن الأبجر، يقال له: ابن الذيخ بكسر الذال المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره خاء معجمة، ويقال له: ابن ذريح أيضًا، وقد وقع في رواية مسعر وشعبة: غالب بن الأبجر، وفي رواية شريك هذه: غالب بن ذيخ وجاء في رواية أخرى: غالب بن ذريح. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن علي بن حكيم بن ذبيان الأزدي الكوفي شيخ مسلم والبخاري في غير الصحيح، عن شريك. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل، ك": "في كل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك. . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمود بن محمد الواسطي، ثنا زكريا بن يحيى زحمويه، ثنا شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب بن ذيخ: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله أصابتنا مجاعة، وإن سمين مالي الحمر، فقال: كل من سمين مالك، وقال: إنما قذرت لكم -أو كرهت لكم- جلالة القرية". وأخرجه ابن أبي شيبه (¬2): ثنا شريك، عن منصور، عن عبيد بن حسن، عن غالب بن ذيخ قال: "قلت: يا رسول الله، أصابتنا سنة، وسمين مالنا من الحمر، فقال: كل من سمين مالك، إنما قذرت جوال القرية". قوله: "فأخبر ما كان. . ." إلى آخره أشار به إلى الاختلاف القوي بيانه أن النبي -عليه السلام- قد أخبر في هذا الحديث ما كان أباح لهم في السنة الجدبة فلا يخلو ذلك إما أن يكون هذا على الحمر الوحشية أو على الحمر الأهلية. فإن كان الأول فلا يتم به استدلال أهل المقالة الأولى لأنَّا كلنا قائلون بإباحة لحوم الحمر الوحشية. وإن كان الثاني فيكون محمولا على حالة الضرورة، أن الضرورات تبيح المحظورات، ألا ترى كيف يباح كل الميتة فيها وهي دون الحمر الأهلية؟ فإذن على كل حال لا يكون لهم دليل في ذلك. ص: وقد جاءت الآثار عن رسول الله -عليه السلام- متواترة في نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وأسامة ومالك، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-، عن أبيهما ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (18/ 267 رقم 669). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 123 رقم 24338).

أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس -رضي الله عنهم-: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الإنسية، وعن متع النساء يوم خيبر". ش: أي وقد جاءت الأحاديث عن النبي -عليه السلام- متكاثرة، وأراد بالتواتر معناه اللغوي لا الاصطلاحي على أنه يمكن أن يقال: أحاديث تحريم الحمر الأهلية مشهورة تلقتها العلماء بالقبول، والمشهور أحد قسمي المتواتر على ما عرف في موضعه، فمن ذلك حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخرجه بإسناد صحيح، رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي وأسامة ابن زيد ومالك بن أنس، ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب. . . إلى آخره نحوه. وعن (2) أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب، ثلاثتهم عن سفيان. وعن (¬3) ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله. وعن (3) أبي الطاهر وحرملة، كلاهما عن إبراهيم، عن يونس. وعن (3) إسحاق وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهري بهذا الإسناد. فإن قيل: ما وجه الجمع بين تحريم أكل الحمر الأهلية وبن تحريم متعة النساء في وقت واحد وهو زمن خيبر وليس الأمر كذلك؛ فإن تحريم متعة النساء كان زمن الفتح، وزمن خيبر متقدم على زمن الفتح بسنة؟. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 542 رقم 129). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1027 رقم 1407). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1028 رقم 1407).

قلت: قال بعضهم يحتمل الحديث التقديم والتأخير كأنه أراد: نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ويكون الشيء المنهي عنه يوم خيبر أكل لحوم الحمر خاصة، ويكون النهي عن المتعة خارجًا عن ذلك موقوفًا على وقته بدليله، وهذا تأويل فيه بعد، والصحيح في الحديث ما رواه ابن بكير عن مالك بإسناده، فقال فيه: "نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر" لم يزد على ذلك. ورواه الشافعي عن مالك بإسناده، عن علي -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية" لم يزد على ذلك، وسكت عن قصة المتعة لما عُلِم فيها من الاختلاف. وذكر سفيان وقال: ثنا الزهري، قال: أخبرني حسن وعبد الله ابنا محمد بن علي -وكان الحسن أرضاهما- عن أبيهما: "أن عليًّا قال لابن عباس: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية" قال سفيان: يعني عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا يعني نكاح المتعة. وقال أبو عمر: على هذا أكثر الناس، وعند الزهري أيضًا حديث آخر في هذا الباب، رواه عن الربيع بن سبرة، عن أبيه قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نكاح المتعة يوم الفتح". وقال آخرون: إنما نهى رسول الله -عليه السلام- عن نكاح المتعة عام حجة الوداع، واحتجوا بما رواه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، ثنا عبد الرزاق، عن إسماعيل بن أمية، عن الزهري قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز، فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل -يقال له: ربيع بن سبرة-: أشهد علي أبي أنه حدث عن رسول الله -عليه السلام- أنه نهى عنها في حجة الوداع". قال أبو داود: وهذا أصح ما روي في ذلك. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 226 رقم 2072).

قال أبو عمر: وكان الحسن البصري يقول: إن هذه القصة كانت في عمرة القضاء. وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فقد استوفينا ذكره في "كتاب النكاح". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الإنسية". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح. وأخرجه الطحاوي بغير هذا الإِسناد في باب: أكل الضبع. والبزار بأتم منه: ثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه وعمر بن الخطاب، قالا: نا ابن أبي مريم نا ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر أن يوقع على الحبالى، وقال: لا تسق زرع غيرك، ونهى عن بيع المغانم حتى تقسم، وعن أكل الحمر الإنسية، وعن كل ذي ناب من السباع". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن نمبر، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى القطان، عن عبيد الله فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا دحيم، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حنيفة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة شيخ مسلم وابن ماجه، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه مسلم (¬1): نا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: نا عبيد الله قال: حدثني نافع وسالم، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر. . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. الثالث: عن إبراهيم أيضًا، عن دحيم وهو عبد الرحمن بن إبراهيم شيخ البخاري، عن عبيد الله بن موسى العيشي عن الإِمام أبي حنيفة النعمان، عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه أبو بكر بن أبي العاصم في "مسنده". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن نمير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن ضخرة الفزاري، عن عبد الله بن أبي سليط، عن أبيه أبي سليط -وكان بدريًّا- قال: "لقد أتانا نهي رسول الله -عليه السلام- عن أكل لحوم الحمر ونحن بخيبر وإن القدور لتفور بها، فأكفأناها على وجهها". ش: ابن نمير هو عبد الله بن نمير. وأبو سليط اسمه أُسَيْر -بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- ويقال: أسيره -بالهاء في آخره- ابن عمرو بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري شهد بدرًا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن عبد الله بن نمير. . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1538 رقم 561). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1544 رقم 3980). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 121 رقم 24325).

قوله: "وإن القدور تفور بها" أي تجيش، من فارت القدر، تفور فورًا وفورانا. قوله: "فأكفأناها" أي قلبناها على وجهها. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: "أطعمنا النبي -عليه السلام- لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر". حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، قال: أنا ابن جريج، أن أبا الزبير المكي أخبره، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "أكلنا زمن خيبر الخيل والحمار الوحشي، ونهانا رسول الله -عليه السلام- عن الحمار الأهلي". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى. . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل". قلت: محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- الملقب بالباقر؛ لتبقره في العلم أي لتوسعه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار. . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2101 رقم 5201). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1541 رقم 1941).

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "أطعمنا رسول الله -عليه السلام- لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. الرابع: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لحوم الحمر الأهلية". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء -سمعه منه- قال: "أصبنا حمرا يوم خيبر فطبخناها، فنادى منادي رسول الله -عليه السلام-: "أن اكفىوا القدور". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء وابن أبي أوفى، عن النبي -عليه السلام- نحوه. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء وعبد الله بن أبي أوفى. . . مثله، ولم يذكر "خيبر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم الهجري عن ابن أبي أوفى مثله. حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب قال: ثنا شعبة، عن الشيباني، عن ابن أبي أوفى نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 120 رقم 24310)، ولفظه عنده: "أكلنا لحوم الخيل يوم خيبر ولحوم الحمر الوحشية".

ش: هذه خمسة أسنايد: الأول: عن البراء بن عازب وحده، أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن البراء بن عازب. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن مثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: قال البراء: "أصبنا يوم خيبر حمرًا فنادى منادي رسول الله -عليه السلام- أن اكفئوا القدور". الثاني: عن البراء مع عبد الله بن أبي أوفى. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن البراء بن عازب، وعبد الله بن أبي أوفى كلاهما عن النبي -عليه السلام-، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا هاشم، ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت سمعت البراء وابن أبي أوفي قالا: "أصبنا يوم خيبر حمرًا، فنادى منادي رسول الله -عليه السلام-: أن اكفئوا القدور". الثالث: كذلك عن الاثنين. أخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت البراء وعبد الله ابن أبي أوفى. وأخرجه مسلم (1): نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عدي وهو -ابن ثابت- قال: سمعت البراء وعبد الله بن [أبي] (¬3) أوفى يقولان: "أصبنا حمرًا طبخناها فنادى منادي رسول الله -عليه السلام-: اكفئوا القدور. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1539 رقم 1938). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 354 رقم 19139) بنحوه. (¬3) ليست في "الأصل".

الرابع: عن عبد الله بن أبي أوفى وحده. أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه أحمد (¬1): بأتم منه: ثنا علي بن عاصم، قال: ثنا الهجري قال: "خرجت في جنازة ابنة عبد الله بن أبي أوفى، وهو على بغلة له حواء يعني سوداء، قال: فجعلن النساء يقلن لقائده: قدمه أمام الجنازة، ففعل، قال: فسمعته يقول: أين الجنازة؟ قال: فقالوا: خلفك، قال: ففعل ذلك مرة أو مرتين، قال: ثم قال: ألم أنهك أن تقدمني أمام الجنازة؟ قال: فسمع امرأة تلتدم -وقال مرة: ترثي- فقال: مه ألم أنهكن عن هذا؟ إن رسول الله -عليه السلام- كان ينهانا عن المراثي، لتقض إحداكن من عَبرتها ما شاءت، فلما وضعت الجنازة تقدم، فكبر عليها أربع تكبيرات ثم قام هنية فسبح به بعض القوم، فانفتل فقال: أكنتم ترون أني أكبر الخامسة؟ قالوا: نعم، قال: إن رسول الله -عليه السلام- كان إذا كبر الرابعة قام هنية، فلما وضعت الجنازة جلس، وجلسنا إليه، فسئل عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: تلقانا يوم خيبر حمرًا أهلية خارجًا عن القرية فوقع الناس فيها فذبحوها، فإن القدور لتغلي ببعضه إذ نادى منادي رسول الله -عليه السلام-: أهريقوها فأهرقناها، ورأيت على عبد الله مطرفا من خز أخضر". الخامس: عن عبد الله وحده أيضًا. أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سليمان الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا علي بن مسهر، عن الشيباني قال: "سألت عبد الله بن أبي أوفى عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: أصابتنا مجاعة يوم خيبر ونحن مع رسول الله -عليه السلام- وقد أصبنا للقوم حمرًا خارجة من المدينة، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 383 رقم 19436). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1538 رقم 1937).

فنحرناها فإن قدورنا لتغلي إذ نادى منادي رسول الله -عليه السلام- أن اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا". ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا سفيان، قال: ثنا عمرو، قال: قلت لجابر بن زيد: "إنهم يزعمون أن النبي -عليه السلام- قد نهى عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- ولكن أبي ذلك البحر -يعني ابن عباس- وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (¬1) الآية". ش: إسناده صحيح، والمزني إسماعيل بن يحيى، وسفيان هو ابن عيينة. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: "إنهم يزعمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول عندنا الحكم بن عمرو الغفاري: عن رسول الله -عليه السلام-، ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس، وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (1) الآية". ص: حدثا ابن أبي داود قال: ثنا عيسى بن إبراهيم قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا الدراوردي قال: ثنا محمد بن عمرو. . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن محمد بن ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [145]. (¬2) "المعجم الكبير" (3/ 212 رقم 3164).

عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- حرم يوم خيبر الحمار الإنسي". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب، نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "حرم رسول الله -عليه السلام- كل ذي ناب من السباع والمجثمة والحمار الإنسي يوم خيبر". وأخرجه الترمذي وصححه (¬2). ص: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي، قال: ثنا سفيان، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما افتتح النبي -عليه السلام- خيبر أصابوا حمرًا، فطبخوا منها مطبخة، فنادى منادي رسول الله -عليه السلام-: ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها؛ فإنها نجس فاكفئوا القدور". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، قال: ثنا حماد، عن هشام، عن محمد، عن أنس. وأيوب، عن محمد -قال حماد: أظنه عن أنس- قال: قال: "أتي رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر، فقيل له: قلت الحمر. فسكت، ثم أتي فقيل له: أفنيت الحمر، فأمر أبا طلحة ينادي. . ." فذكر مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 122 رقم 24334). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 254 رقم 1795).

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا هشام، قال: ثنا الزبيدي، عن محمد، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد، عن أنس قال: "لما افتتح رسول الله -عليه السلام- خيبر أصبنا حمرًا خارجة من القرية [فطبخنا] (¬2) منها، فنادى منادي النبي -عليه السلام-: ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها؛ فإنها رجس من عمل الشيطان، فأكفئت القدور بما فيها، وإنها لتفور بما فيها". الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن حسان الأزدي، عن محمد بن سيرين، عن أنس، وعن أيوب السختياني، عن محمد، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا محمد بن المنهال الضرير، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: نا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: "لما كان [يوم] (¬4) خيبر جاء جاء فقال: يا رسول الله، أكلت الحمر، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، أفنيت الحمر، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس -أو نجس- قال: فأكفئت القدور بما فيها". الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس. ¬

_ (¬1) "صحح مسلم" (3/ 1540 رقم 1940). (¬2) في "الأصل، ك": "فطبخناها" وهو خطأ، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1540 رقم 1940). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1). ص: حدثنا علي بن أبي عبد الرحمن قال: ثنا عبد الوهاب بن نجدة قال: ثنا بقية قال: ثنا الزبيدي، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الحمر الأهلية". ش: عبد الوهاب بن نجدة الحوطي شيخ أبي داود، وثقه يعقوب بن شيبة والنسائي. وبقية بن الوليد الحمصي احتجت به الأربعة. والزُّبَيدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- هو محمد بن الوليد روى له الجماعة سوى الترمذي. والزهري هو محمد بن مسلم. وأبو إدريس الخولاني: عائذ الله. وأبو ثعلبة الخشني الصحابي -رضي الله عنه- وفي اسمه اختلاف ذكرناه في باب أكل الضبع، لأن الطحاوي أخرج هذا الحديث هناك عن يونس، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمر بن عثمان، عن بقية بن الوليد. . . إلى آخره. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا إبراهيم بن سويد، قال: حدثني يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، قال: أخبرني سلمة: "أنهم كانوا مع رسول الله -عليه السلام- مساء يوم افتتحوا خيبر، فرأى رسول الله -عليه السلام- نيرانا توقد، فقال: ما هذه النيران؟ قالوا: على لحوم الحمر الإنسية، فقال رسول الله -عليه السلام-: اهريقوا ما فيها واكسروها -يعني القدور- فقال رجل من القوم أو نغسلها؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: أو ذاك". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 115 رقم 12161). (¬2) "المجتبى" (7/ 204 رقم 4342).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة. . . فذكر نحوه. ش: هذان طريقان صحيحان. الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف -بابن أبي مريم- المصري شيخ البخاري، عن إبراهيم بن سويد بن الحيان المدني، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: "لما قدمنا خيبر رأى رسول الله -عليه السلام- نيرانًا توقد، قال: على ما توقد هذه النيران؟ قالوا: على لحوم الحمر الأهلية، قال: كسروا القدور وأهريقوا ما فيها، فقيل: يا رسول الله، أنهرق ما فيها ونغسلها؟ قال: أو ذاك". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن يزيد بن أبي عبيد. . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن مولاه سلمة. قوله: "أهريقوا ما فيها" أي: أريقوا ما في القدور، والهاء زائدة، يقال: أراق واهراق أيضًا. قوله: "أو ذاك" أي أو افعلوا ذاك، وأشار به إلى الغسل الذي يدل عليه قوله: "أو نغسلها" والمعنى: أو اغسلوها. وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي الأحاديث المذكورة عن اثني عشر نفرًا من الصحابة، وهم: علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سليط ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1537 رقم 3960). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1540 رقم 1802). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 102 رقم 11333).

وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى والحكم بن عمرو الغفاري وأبو هريرة وأنس بن مالك وأبو ثعلبة وسلمة بن الأكوع -رضي الله عنهم-. ولما أخرج الترمذي حديث علي وأنس وأبي هريرة قال: وفي الباب عن العرباض وأبي سعيد الخدري. قلت: وفي الباب أيضًا عن سلمة بن المحبق والمقدام بن معدي كرب، وأبي أمامة الباهلي وخالد بن الوليد وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-. أما حديث العرباض: فقد ذكرناه في "باب أكل الضبع" عن الطبراني. وأما حديث أبي سعيد الخدري: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا الفضل بن دكين، عن يونس بن أبي إسحاق قال: ثنا أبو الوداك قال: ثنا أبو سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام-: "أنه مر بالقدور وهي تغلي، فقال لنا: ما هذه أحمر أهلية أم وحشية؟ فقلنا: لا بل أهلية، قال: فاكفئوها، قال: فكفأناها، وإنا لجياع نشتهيه". وأما حديث سلمة بن المحبق وحديث المقدام: فأخرجهما الطحاوي على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي أمامة: فأخرجه ابن أبي شيبة (¬2) أيضًا: ثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر قال: ثنا القاسم ومكحول، عن أبي أمامة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن أكل الحمار الأهلي". وأما حديث خالد بن الوليد فقد ذكرناه في "باب أكل الضبع" عن أبي داود. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: فأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا: ثنا سهل بن بكار، قال: نا وهيب عن ابن طاوس ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 122 رقم 24335). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 122 رقم 24332). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 357 رقم 3811).

، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة وعن ركوبها، وعن أكل لحمها". ص: فكانت هذه الآثار تواترت عن رسول الله -عليه السلام- بالنهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فكان أولى الأشياء بنا أن نحمل حديث غالب بن الأبجر على ما وافقها لا على ما خالفها. ش: أي فكانت هذه الأحاديث المذكورة قد تكاثرت وتواردت عن النبي -عليه السلام- بالنهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وعارضت حديث غالب بن الأبجر الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية. فالأولى أن يحمل حديث غالب على ما يوافق الأحاديث المذكورة؛ لئلا تختلف الآثار وتتضاد المعاني، وقد ذكر فيما مضى وجه هذا الحمل عند قوله: "وقد يجوز أن تكون الحمر التي أباح النبي -عليه السلام- أكلها في حديث غالب وحشية". والأحسن في هذا أن يقال: لا يعارض حديث غالب بن أبجر الأحاديث المذكورة؛ لاضطراب حديث غالب سندًا ومعنى وصحة الأحاديث المذكورة، وشرط التعارض: المساواة. ص: فقال قوم: إنما نهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك؛ إبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم. ورووا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عباد بن موسى الختلي، قال: ثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال ابن عباس: "ما نهى رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية إلا من أجل أنها ظهر". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج أن نافعا أخبره عن عبد الله بن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا مكي وأبو عاصم، قالا: أنا ابن جريج، قال: أخبرني نافع، قال: قال ابن عمر. . . ثم ذكر مثله. ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف العلماء في معنى النهي الوارد عن النبي -عليه السلام- عن أكل لحوم الحمر الأهلية؛ لأي علة كان هذا النهي؟ فلذلك قال: (فقال) بالفاء التفصيلية أي الذين ذهبوا إلى إباحة لحم الحمر الأهلية. وذكر فيه ثلاثة أقوال: الأول: ما أشار إليه بقوله: "فقال قوم: إنما نهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك" أي عن أكل لحوم الحمر الأهلية. وأراد بالقوم هؤلاء: نافعًا وعبد الملك بن جريج وعبد الرحمن بن أبي ليلى بعض أصحاب مالك. قوله: "اتقاءَ" بالنصب، أي لأجل الانتقاء، واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. أما حديث ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عباد بن موسى الختلي -بضم الخاء المعجمة والتاء المثناة من فوق- نسبة إلى ختلان وهي بلاد مجتمعة وراء بلخ وهو شيخ مسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الكوفي، نزيل بغداد، عن سليمان الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بدون ذكر ابن عباس: ثنا شريك، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "إنما كرهت؛ إبقاءً على الظهر، يعني لحوم الحمر". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 123 رقم 24339).

وأخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2): من حديث عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن عاصم، عن عامر، عن ابن عباس قال: "لا أدري أنهى عنه رسول الله -عليه السلام- من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمه في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية". قلت: فهذا يبين أن ابن عباس علم بالنهي، لكنه حمله على التنزيه توفيقا بين الآية وعمومها، وبين أحاديث النهي. وأما حديث ابن عمر، فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عبد الملك بن جريج، عن نافع عن ابن عمر. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي عن مكي بن إبراهيم وأبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، كلاهما شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن نافع، عن ابن عمر. ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أن جابرًا -رضي الله عنه- قد أخبر أن النبي -عليه السلام- أطعمهم يومئذ لحوم الخيل ونهاهم عن لحوم الحمر، وهم كانوا إلى الخيل أحوج منهم إلى الحمر، فدل تركه منعهم أكل لحوم الخيل أنهم كانوا في بقية من الظهر، ولو كانوا في قلة من الظهر حتى احتيج لذلك أن يمنعوا من أكل لحوم الحمر فكانوا إلى المنع من أكل الخيل أحوج؛ لأنهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر، وركوب الخيل بعد ذلك لمعاني لا يركبون لها الحمر. فدل ما ذكرنا: أن العلة التي لها منعوا من أكل لحوم الحمر ليست هي هذه العلة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1545 رقم 3987). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1539 رقم 1939).

ش: أي فكان من الدليل والبرهان على هؤلاء القوم فيما ذكروا، والحاصل: أن هذا جواب عما قالوا، وهو ظاهر. وقال أبو عمر في هذا الموضع: وفي إذن رسول الله -عليه السلام- في أكل الخيل وإباحته لذلك يوم خيبر دليل على أن نهيه عن أكل لحوم الحمر يومئذ عبادة لغير علة؛ لأنه معلوم أن الخيل أرفع من الحمير، وأن الخوف على الخيل وعلى قيامها، فوق الخوف على الحمير، وأن الحاجة في الغزو وغيره إلى الخيل أعظم، وبهذا يتبين [لك أن] (¬1) أكل لحوم الحمر لم يكن لحاجة وضرورة إلى الظهر والحمل، وإنما كان عبادة وشريعة. ألا ترى إلى حديث أنس بن مالك: "أن منادي رسول الله -عليه السلام- نادى يوم خيبر: أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، وما نهى الله عنه ورسوله فلا خيار لأحد فيه، وكل قول خالف السنة مردود. ص: وقال آخرون: إنما منعوا يومئذ من أكل الحوم الحمر؛ لأنها حمر كانت تأكل العذرة، ورووا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن الشيباني، قال: ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبي أوفى في أمر النبي -عليه السلام- إياهم بإكفاء القدور يوم خيبر، فقال: "إنما نهى عنها؛ لأنها كانت تأكل العُذرة" قالوا: فإنما نهى النبي -عليه السلام- عن أكلها لهذه العلة. ش: أي قال جماعة آخرون -وهم سعيد بن جبير، وجماعة من المالكية- إنما منعت الصحابة يوم خيبر من أكل لحوم الحمر الأهلية؛ لأنها كانت جوالة تأكل العذرات فكان نهي النبي -عليه السلام- لهذه العلة، لا لأجل التحريم. وروى هؤلاء في ذلك ما أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، وهب بن جرير، عن شعبة، عن الشيباني، واسمه سليمان بن فيروز. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "إلى أن"، والمثبت من "التمهيد" (10/ 127).

وأخرج ابن ماجه (¬1): عن سويد بن سعيد، نا علي بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني، قال: "سألت عبد الله بن أبي أوفى عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: أصابتنا مجاعة يوم خيبر ونحن مع النبي -عليه السلام- وقد أصاب القوم حمرًا خارجًا من المدينة، فنحرناها وإن قدورنا لتغلي، إذ نادى منادي النبي -عليه السلام-: أن اكفئوا القدور، ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا، فأكفأناها. فقلت لعبد الله بن أبي [أوفى] (¬2): حرمها تحريمًا؟ قال: تحدثنا إنما حرمها رسول الله -عليه السلام- البتة من أجل أنها كانت تأكل العذرة". ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أنه لو لم يكن جاء في هذا إلا الأمر بالإكفاء للقدور؛ لكان ذلك محتملا لما قالوا، ولكنه قد جاء هذا، وجاء النهي في ذلك مطلقًا. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا أبو زَبْر عبد الله بن العلاء، قال: ثنا مسلم بن مشكم كاتب أبي الدرداء، قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني: "يقول أتيت النبي -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، حدثني ما يحل لي مما يحرم عليّ، فقال: لا تأكل الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع". فكان كلام النبي -عليه السلام- في هذا الحديث جوابًا لسؤال أبي ثعلبة إياه عما يحل له مما يحرم عليه، فدل ذلك على نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، لا لعلة تكون في بعضها دون بعض من أكل العذرة وما أشبهها ولكن لها في أنفسها، وقد جعلها -عليه السلام- في نهيه عنها كذي الناب من السبع، فكما كان ذو الناب منهيَّا عنه لا لعلة، كان ذلك الحمر الأهلية منهيًا عنها لا لعلة. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على هؤلاء الآخرين فيما ذكروا من العلة. . . إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "وجاء النهي في ذلك مطلقًا" أي وجاء النهي عن النبي -عليه السلام- في أكل لحم الحمر الأهلية مطلقًا يعني من غير قيد بشيء من إكفاء القدور ونحوه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1064رقم 3192). (¬2) تكررت في "الأصل".

وهو ما أخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن معبد بن نوح، عن شبابة بن سوار، عن أبيَ زْبر -بفتح الزاي وسكون الباء الموحدة وفي آخره راء- وهو عبد الله بن العلاء بن زَبْر الشامي الدمشقي روى له الجماعة، عن مسلم بن مشكم الخزاعي أبي عبد الله الدمشقي، كاتب أبي الدرداء، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. ص: وقد قال قوم: إن رسول الله -عليه السلام- إنما نهى عنها؛ لأنها كانت نهبة. ورووا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن النحاز الحنفي، عن سنان بن سلمة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- مر يوم خيبر بقدور فيها لحم حمر الناس، فأمر بها فأكفئت". فكان من الحجة عليهم في ذلك أن قوله: "حمر الناس" يحتمل أن يكون [لأنهم] (¬1) انتهبوها من الناس، ويحتمل أن تكون نسبت إلى الناس لأنهم يركبونها فيكون النهي وقع عليها؛ لأنها أهلية لا لغير ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من المالكية؛ فإنهم قالوا: علة النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية هي كونها نهبة، واستدلوا على ذلك بما أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن مرزوق البصري شيخ البخاري في التعليقات، عن حرب بن شداد اليشكري القطان الثبت الثقة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن النحاز -بفتح النون وتشديد الحاء المهملة وفي آخره زاي، وقيل: بكسر النون وتخفيف الحاء- ابن جدي، ويقال: ابن حدي، ويقال: ابن حوي الحنفي (¬2)، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو يروي عن سنان بن سلمة الهذلي الصحابي ابن الصحابي سلمة بن المحبق الهذلي -رضي الله عنهما-. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "لهم"، ولعل الصواب: "لأنهم"، وليست في "شرح معاني الآثار". (¬2) انظر "الإكمال لابن ماكولا" (7/ 334).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أحمد بن إسماعيل بن الحارث العدوي البصري، نا عمرو بن مرزوق، أنا حرب بن شداد، أنا يحيى بن أبي كثير، عن النحاز -قال: أبو القاسم: هو ابن جدي الحنفي- عن سنان بن سلمة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-: "أنه مر يوم خيبر بقدور فيها لحوم من حمر الناس، فأمر بها فأكفئت". قوله: "فكان من الحجة عليهم" أي: على هؤلاء القوم فيما ذكروه من علة النهي وهو ظاهر. ص: قالوا: فإنه قد روي في ذلك ما يدل على أنها كانت نهبة، فذكروا ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء: "أنهم أصابوا من الفيء حمرًا فذبحوها، فقال النبي -عليه السلام-: أكفئوا القدور". قالوا: فبيّن هذا الحديث أن تلك الحمُر كانت نهبة، قيل لهم: فهذا ثبت أنهما كانت نهبة كما ذكرتم فما دليلكم على أن النهي عنها كان للنهبة، وما جعلكم -بتأويل ذلك النهي أنه كان للنهبة- أولى من غيركم في تأويله أن النهي عنها كان لها في أنفسها لا للنهبة؟!. وقد ذكرنا في حديث أنس بن مالك أن النبي -عليه السلام- قال لهم: "أكفئوها فإنها رجس" فدل ذلك على أن النهي وقع عليها لأنها رجس لا لأنها نهبة. وفي حديث سلمة بن الأكوع، أن رسول الله -عليه السلام- قال لهم: "أكفئوا القدور واكسروها، فقالوا: يا رسول الله، أو نغسلها؟ فقال: أو ذاك". فدل أيضًا على أن النهي كان لنجاسة لحمها لا لأنها نهبة، ولا لأنها مغصوبة". ش: لما ادعى القوم المذكورون أن علة النهي فيما نحن بصدده: هي النهبة، وأجاب المخالفون لهم عن ذلك بما ذكره الطحاوي من قوله: "فكان من الحجة عليهم، إلى آخره، ذكروا شاهدًا لما ادعوه من كون العلة هي النهبة، وقالوا: قد روي عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن العلة كانت نهبة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 48 رقم 6346).

وهو ما أخرجه بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب. وأخرجه البخاري (¬1): عن حجاج بن منهال، وإسحاق عن عبد الصمد. وعن مسدد (¬2) عن يحيى القطان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- فأصابوا حمرًا فذبحوها، فقال رسول الله -عليه السلام-: أكفئوا القدور". وأخرجه مسلم (¬3) أيضًا: عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة نحوه. قوله: "قالوا" أي هؤلاء القوم، فبين هذا الحديث -أي حديث البراء-: أن تلك الحمر التي ذبحوها كانت نهبة؛ لأنهم أخذوها من الفيء قبل القسمة. قوله: "قيل لهم. . . إلى آخره" جواب عما قالوا، وهو ظاهر غني عن مزيد البيان. وفي قوله: "كان لنجاسة لحمها" ما يخدش ما قال أصحابنا: إن لحم الحمار مشكوك وكذا سؤره مشكوك فافهم. ص: ألا ترى أن رجلاً لو غصب رجلاً شاة فذبحها وطبخ لحمها، أن قدره التي طبخ ذلك فيها لا ينجس، وحكمها في طهارتها حكم ما طبخ فيه لحم غير مغصوب. فدل ما ذكرنا من أمره إياه بغسلها؛ على نجاسة ما طبخ فيها، على أن الأمر الذي كان منه بطرح ما كان فيها لنجاستها لا لغصبهم إياها. ش: هذا توضيح لما ذكره من قوله: "فدل أيضًا على أن النهي كان لنجاسة لحمها لا لأنها نهبة ولا لأنها مغصوبة" وهو ظاهر. ص: وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- أمر في شاة غصبت وذبحت فطبخت بخلاف هذا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1545 رقم 3984، 3985). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2102 رقم 5205). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1539 رقم 1938).

حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عاصم ابن كليب، عن أبيه، عن رجل -قال: حسبته من الأنصار-: "أنه كان مع رسول الله -عليه السلام- في جنازة، فلقيه رسول امرأة من قريش يدعوه إلى طعام، فجلسنا مجالس الغلمان من آبائهم، فنظر آباؤنا إلى النبي -عليه السلام- وفي يده أكلة، فقال: إن هذا لحم شاة [تخبرني] (¬1) أنها أخذت بغير حلها، فقامت المرأة فقالت: يا رسول الله، لم يزل يعجبني أن تأكل في بيتي، وإني أرسلت إلى البقيع فلم يوجد فيه شاة، وكان أخي اشترى شاة بالأمس، فأرسل إليَّ أهله بالثمن، فقال: أطعموه الأسارى، فتنزه رسول الله -عليه السلام- عن أكلها، ولم يأمر بطرحها؛ بل أمرهم بالصدقة بها، إذْ أمرهم أن يطعموها الأسارى". فهذا حكم رسول الله -عليه السلام- في اللحم الحلال إذا غصب فاستهلك، فلو كانت لحوم الحمر الأهلية حلالاً عنده لأمر فيها لما أنتهبت بمثل ما أمر به في هذه الشاة لما غصبت، ولكنه إنما أمر في لحم تلك الحمر بما أمر به لمعنى خلاف المعنى الذي من أجله أمر في لحم هذه الشاة بما أمر به. ش: أي بخلاف ما ذكر في مسألة الغصب المذكورة بيانه أن المذكور في المسألة المذكورة عدم تنجس القِدْر التي طبخ فيها اللحم المغصوب، وأنها طاهرة على ما كانت عليه، وأن أمر النبي -عليه السلام- من غسل القدر التي طبخ فيها لحم الحمار الأهلي إنما كان لنجاسة اللحم لا لأجل ورود الغصب عليه، والمذكور في هذه المسألة أنه -عليه السلام- أمر بصدقة لحم تلك الشاة، ولم يأمرهم بطرحه، فهذا حكم اللحم الحلال المغصوب، فلو كان لحم الحمار الأهلي حلالاً عند النبي -عليه السلام- لكان أمر فيه وقت النهب والغصب بمثل ما أمر به في لحم الشاة المذكورة، فحيث لم يأمر في ذلك بطرحه بل أمر بصدقته؛ دل على أن الذي أمر به في لحم الحمار الأهلي لمعنى غير المعنى الذي من أجله أمر في لحم الشاة المذكورة، وذلك المعنى هو كون لحم الحمار الأهلي نجسًا؛ فافهم. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "تخبر لي"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ثم إن حديث عاصم بن كليب عن أبيه، أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري وأبي داود عن زهير بن معاوية بن حديج أحد أصحاب أبي حنيفة الثقة الثبت، عن عاصم بن كليب الجرمي الكوفي، عن أبيه كليب بن شهاب الجرمي الكوفي، وثقه ابن حبان، عن رجلٍ من الأنصار. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن العلاء قال: ثنا ابن إدريس قال: نا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في جنازة، فرأيت رسول الله -عليه السلام- وهو على القبر يُوصي الحافر: أوسع من قِبَلِ رجليه، أوسع من قِبَلِ رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء، وجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا ورسول الله -عليه السلام- يلوك لقمةً في فمه، ثم قال: أجد لحم شاةٍ أخذت بغير إذن أهلها، فأرسلت المرأة: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع، يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جارٍ لي قد اشترى شاة: أن أرسل بها إليّ بثمنها. فلم يوجد، فأرسلتُ إلى امرأته، فأرسلتْ بها إليّ. فقال رسول الله -عليه السلام-: "أطعميه الأساري". وأخرجه أبو نعيم: من حديث زائدة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه أن رجلاً من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله -عليه السلام- في جنازة وأنا غلام، فلما رجعنا لقينا داعيَ امرأةٍ من قريش، فقال: يا رسول الله، إن فلانة تدعوك ومن معك على طعام. فانصرف وجلسنا معه، وجيء بالطعام، فوضع النبي -عليه السلام- يده، ووضع القوم أيديهم، فنظر القوم إلى النبي -عليه السلام- فإذا أكلته في فيه لا يُسِيغُها، فكفّوا أيديهم لينظروا ما يصنع، فأخذ اللقم فلفظها، وقال: أجد لحم شاةٍ أُخذت بغير إذن أهلها، أطعموها الأسارى". قوله: "وفي يده أكلة" بضم الهمزة أي لقمة وفتح الهمزة ها هنا خطأ. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3332).

قوله: "إلى البقيع" بالباء الموحدة، وهو موضع مشهور بالمدينة، وفيه مقبرة أهلها، وفي بعض الروايات: "إلى النقيع" بالنون، وهو موضع حماه رسول الله -عليه السلام- لنعم الفيء وخيل المجاهدين، فلا يرعاه غيرها، وهو موضع قريب من المدينة، كان يستنقع فيه الماء أي يجتمع. ويستفاد منه أحكام: الأول: أنه أصل في الورع، وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- كيف تنزه عن أكل تلك الشاة. الثاني: فيه أن إجابة الدعوة سنة، وإن كان الداعي امرأة. الثالث: فيه تواضع النبي -عليه السلام- وحسن عشرته مع أصحابه، حيث كان يجيب الداعي سواء كان رجلاً أو امرأة. الرابع: فيه بيان معجزته؛ فإن لحم الشاة أخبره أن شاته قد أخذت بغير إذن صاحبها. الخامس: فيه دلالة أن الشيء المأخوذ بغير إذن صاحبه إذا استهلكه الآخذ بأن كان شاة فذبحها أو قمحا فطحنه فإنه لا يطيب له، وإن كان يملكه بالضمان فالورع والتقوى أن يتصدق به، كما أمر النبي بإطعام الشاة المذكورة للأسارى. السادس: فيه دلالة على أن الشيء المغصوب لا يطرح، ولا يؤمر بطرحه بعد تملكه بالضمان، إذْ لو كان طرحه واجبًا لكان -عليه السلام- أمر بطرح تلك الشاة، فحيث أمر بتصدقها دل على أنها على طهارتها الأصلية. ص: ألا ترى أن رجلاً لو غصب رجلاً شاة فذبحها وطبخ لحمها أنه لا يؤمر بطرح ذلك -في قول أحد من الناس- فكذلك لحم الحمر الأهلي المذبوحة بخيبر لو كان النبي -عليه السلام- إنما نهى عنها من أجل النهبة التي حكمها حكم الغصب، إذا لما أمرهم بطرح ذلك اللحم ولأمرهم فيه بمثل ما يؤمر به من غصب شاة فذبحها وطبخ لحمها، فلما انتفى أن يكون نهي النبي -عليه السلام- عن أكل لحم الحمر لمعنى من هذه المعاني

التي ادعاها الذين أباحوا لحمها؛ ثبت أن نهيه ذلك عنها كان لها في أنفسها كما نهى عن كل ذي ناب من السباع، فكان ذلك النهي له في نفسه فلا يباح لأحد خلاف شيء من ذلك. ش: هذا توضيح لما ذكره من قوله: "فهذا حكم رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. قوله: "من هذه المعاني" وهي المعاني الثلاثة التي ذكرها الجماعة الذين ذهبوا إلى إباحة لحم الحمر الأهلية. قوله: "كان لها في أنفسها" يعني كان النهي لمعنى في ذات لحم الحمر الأهلية، وهو نجاستها، كنهيه -عليه السلام- عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور فإن النهي عنها لكونها نجسة لا لمعنى غير ذلك، فكذلك لحم الحمر الأهلية إنما النهي عن أكلها لكونها نجسة في نفسها، لا لمعنى من المعاني التي ذكرها هؤلاء الجماعة. ص: فإن رسول الله -عليه السلام- قد قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حرام حرمناه، وما وجدنا من حلال أحللناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله". حدثنا بذلك محمَّد بن الحجاج، قال: ثنا أسد، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر، عن المقدام بن معدي كرب الكندي، عن النبي -عليه السلام-. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أبو مسهر، ثنا يحيى بن حمزة، قال: حدثني الزبيدي، عن مروان بن رؤبة أنه حدثه عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشى عن المقدام بن معدي كرب الكندي أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال حللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك، لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي النضر، عن موسى بن عبد الله بن قيس، عن أبي رافع، عن النبي -عليه السلام- (ح).

وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن أبي النضر، عن موسى بن عبد الله بن قيس، عن أبي رافع مولى رسول الله -عليه السلام-، قال: قال رسول الله -عليه السلام- والناس حوله: "لا أعرفن أحدكم يأتيه الأمر من أمر قد أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئ على أريكته، فيقول: ما وجدناه في كتاب الله عملناه، وإلا فلا". حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر وأبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه وغيره، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه". فحذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلاف أمره كما حذر من خلاف كتاب الله -عز وجل-، فليحذر أن يخالف شيئًا من أمر رسول الله -عليه السلام-؛ فيحق عليه ما يحق على مخالفة كتاب الله -عز وجل-، وقد تواترت الآثار عن رسول الله -عليه السلام- في النهي عن لحوم الحمر الأهلية ما قد ذكرنا، ورجعت معانيها إلى ما وصفنا، فليس ينبغي لأحد خلاف شيء من ذلك. ش: لما بين معاني الأحاديث التي وردت في تحريم لحم الحمر الأهلية، عند كشفها يرجع إلى معنى واحد، وهو أن النهي فيها لمعنى في نفسه لا لعلة أخرى، وأنه إذْ ثبت هذا لا ينبغي لأحد خلاف شيء من ذلك، بيَّن هاهنا أن من خالف نبي الله -عليه السلام- فيما أمر به ونهى عنه، كمن خالف كتاب الله وأشار إلى ذلك بقوله: "فإن رسول الله -عليه السلام-" بالفاء تنبيهًا على ذلك، بالفاء التعليلية. وأخرج في ذلك عن المقدام بن معدي كرب وابن رافع. أما حديث المقدام فأخرجه من طريقين جيدين: الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح بن حدير قاضي الأندلس، عن الحسن بن جابر اللخمي، عن المقدام بن معدي كرب، عن النبي -عليه السلام-.

وأخرجه الترمذي (¬1): نا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر اللخمي، عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله -عليه السلام- كما حرم الله". فقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، حدثني الحسن بن جابر، عن المقدام بن معدي كرب الكندي أن رسول الله -عليه السلام- قال: "يوشك الرجل متكئًا على أريكته يُحَدَّثُ بحديث من حديثي يقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن يحيى بن حمزة بن واقد الدمشقي القاضي، عن محمَّد بن الوليد الزبيدي الحمصي عن مروان بن رؤبة التغلبي الحمصي عن عبد الرحمن بن عوف القرشي الحمصي قاضيها عن المقدام بن معدي كرب. وأخرجه أبو داود (¬3): عن عبد الوهاب بن نجدة، عن أبي عمرو بن كثير، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "لا ألفين أحدكم" أي لا أجد وأُلفي، يقال: أَلفَيْت الشيء أُلفِيه إِلْفَاءً إذا وجدته، وصادفته، ولقيته، قال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (¬4) والنون فيه للتوكيد، و"أحدكم" منصوب لأنه مفعول لقوله: "لا ألفين". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 38 رقم 2664). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 6 رقم 12). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 200 رقم 4604). (¬4) سورة يوسف، آية: [25].

قوله: "على أريكته" الأريكة السرير في الحجلة من دون ستر، ولا يسمى أريكة، وقيل: هو كل ما أتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة. قوله: "يوشك" مضارع أوشك وهو من أفعال المقاربة، من أخوات كاد وعسى، ويستعمل منه مضارع واسم فاعل، والمضارع أكثر، وخبره فعل مضارع مقرون بأن غالبًا كعسى وقد يجيء مجردًا عنها على قلة، كما في الحديث المذكور. وفيه من الأحكام: تعظيم حديث رسول الله -عليه السلام-، وتعظيم أوامره ونواهيه. وفيه: أن ما حرم الله وحرم رسوله سواء وأن تحريم الرسول من تحريم الله. وفيه: أن مخالفة الرسول كمخالفة الله تعالى. وأما حديث أبي رافع مولى النبي -عليه السلام- فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني، عن موسى بن عبد الله بن قيس، عن أبي رافع إبراهيم -أو أسلم- مولى النبي -عليه السلام-. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أسامة بن يزيد، ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن سالم المكي، عن موسى بن عبد الله بن قيس، عن أبي رافع قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "ألا لا أعرفن ما بلغ أحدكم عني الحديث من حديثي أمرت أو نهيت، فيقول وهو متكئ على أريكته: هذا القرآن فما وجدناه اتبعناه وما لم نجده فلا حاجة لنا به". الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبي النضر سالم. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا عبد الله بن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 327 رقم 975).

صالح، حدثني الليث، عن أبي النضر، عن موسى بن عبد الله بن قيس، عن أبي رافع مولى رسول الله -عليه السلام- قال: قال رسول الله -عليه السلام- والناس حوله: "لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري وهو متكئ على أريكته، يقول: ما وجدنا في كتاب الله -عز وجل- عملنا به". الثالث: عن عيسى بن إبراهيم الغافقي المصري، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن المنكدر وأبي النضر سالم، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه وغيره، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن المنكدر وسالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع وغيره، رفعه قال: "لا ألفين أحد متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وروى بعضهم عن سفيان، عن محمَّد بن المنكدر، عن النبي -عليه السلام- مرسل. وسالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بَيَّن حديث محمَّد بن المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل والنفيلي، عن سفيان، عن أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي نافع، عن أبيه، به. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن نصر بن علي الجهضمي، عن ابن عيينة، عن سالم أبي النضر -أو زيد بن أسلم- عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، نحوه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 37 رقم 2663). (¬2) "سنن أبي داود" (40/ 200 رقم 4605). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 6 رقم 13).

ص: فإن قال قائل: فقد رويتم عن ابن عباس إباحتها وما احتج به في ذلك من قول الله -عز وجل-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (¬1) الآية. قيل له: ما قاله رسول الله -عليه السلام- من ذلك فهو أولى مما قاله ابن عباس، وما قاله رسول الله -عليه السلام- فهو مستثنى من الآية، على هذا ينبغي أن يحمل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا المجيء المتواتر في الشيء المقصود إليه بعينه مما قد أنزل الله في كتابه آية مطلقة على ذلك الجنس، فيجعل ما جاء عن رسول الله -عليه السلام- من ذلك مستثنى من تلك الآية غير مخالف لها حتى لا [يُضَادَ] (¬2) القرآن والسنة، ولا السنة القرآن. فهذا حكم لحوم الحمر الأهلية من طريق تصحيح الآثار، ولو كان [إلى] (¬3) النظر لكان [لحوم] (¬4) الحمر الأهلية حلالا، وكان ذلك كحكم الحمر الوحشية؛ لأن كل صنف قد حرم إذا كان أهليًّا، مما قد أجمع على تحريمه، فقد حرم إذا كان وحشيا، ألا ترى أن لحم الخنزير الوحشي كلحم الخنزير الأهلي، فكان النظر على ذلك أيضًا إذا كان الحمار الوحشي لحمه حلالًا أن يكون كذلك الحمار الأهلي، ولكن ما جاء عن رسول الله -عليه السلام - أولى ما اتبع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال من جهة أهل المقالة الأولى القائلين بإباحة لحم الحمر الأهلية، تقريره أن يقال: إنكم قد رويتم عن ابن عباس إباحة لحم الحمر الأهلية وما احتج به فيما ذهب إليه من ذلك من قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬5) الآية، وقد مضى هذا في حديث الحكم بن عمرو الغفاري، ولا شك أن الآية أقوى في الاستدلال وأقطع في الاحتجاج. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [145]. (¬2) في "الأصل": "يتضاد"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬5) سورة الأنعام، آية: [145].

وتقرير الجواب أن يقال: ما قاله الرسول -عليه السلام- من الأحاديث المحرمة للحمر الأهلية أولى من قول ابن عباس، بإباحتها مستدلا بالآية المذكورة، لأن الاستدلال بالآية على إباحة لحوم الحمر الأهلية لا يصح؛ بيان ذلك: أن طاوس بن كيسان، ذكر أن الجاهلية كانوا يستحلون أشياء ويحرمون أشياء، فقال الله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬1) مما تستحلون {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (1) الآية وسياقه المحاج به يدل على ما قاله طاوس؛ لأن الله تعالى قد ذكر ما كانوا يحرمون من الأنعام، وذمهم على تحريم ما أحله وعنفهم، وأبان به عن جهلهم؛ لأنهم حرموه بغير حجة ثم عطف عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (1) يعني مما تحرمونه إلا ما ذكر وإذا كان تقدير الآية كذلك لم يجر الاستدلال بها على إباحة ما خرج عن الآية. فإن قيل: قد ذكر في أول المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة وما ذكر معها وهي خارجة عن هذه الآية. قلت: المنخنقة وما ذكر معها داخلة في الميتة، أو نقول: إن سورة الأنعام مكية فيجوز أن لا يكون حرم في ذلك الوقت إلا ما قد ذكر في هذه الآية وسورة المائدة مدنية وهي آخر ما نزل من القرآن. فإن قيل: الأحاديث التي وردت في تحريم لحوم الحمر الأهلية أخبار آحاد، والعمل بها يوجب نسخ الآية المحكمة وهو لا يجوز. قلت: قد خصت من هذه الآية أشياء كثيرة بالتحريم غير مذكورة فيها كالنجاسات والحمر ولحم القردة فحينئذ يجوز تخصيصها بأخبار الآحاد ويجوز استعمال القياس أيضًا في مثل هذا. قوله: "ولو كان النظر. . . ." إلى آخره. إشارة إلى أن النظر والقياس لو كان له دخل في هذ الباب لكان أكل لحم الحمر الأهلية حلالًا كالحمر الوحشية، ولكن اتباع ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية [145].

الأخبار أولى وأحق وليس للنظر حكم عند قيام الخبر، ثم الحمار الوحشي لا خلاف فيه لأحد أنه مباح واختلف في الحمار الوحشي إذا دجن فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي: إذا دجن الحمار الوحشي وأَلِفَ أنه جائز أكله. وقال ابن القاسم عن مالك: إذا دجن الحمار الوحشى وصار يحمل عليه كما يحمل عليه على الأهلي فإنه لا يؤكل.

ص: باب أكل لحم الفرس

ص: باب أكل لحم الفرس ش: أي هذا باب في بيان أكل لحم الفرس هل يجوز أم لا؟ واشتقاق الفرس من الفَرْس وهو الكسر والدقّ ومنه فرس الأسد فريسته يَفْرِسُها فرسًا، وافترسها أي دق عنقها. قال الجوهري: وأصل الفرس هذا، ثم استعمل حتى صير كل خيل فرسًا، وقد نهي عن الفرس في الذبح وهو كسر عظم الرقبة قبل أن يبرد. ثم الفرس يقع على الذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة، ويجمع على أفراس، وراكبه فارس مثل لابن وتامر، أي صاحب فرس، ويجمع على فوارس، وهو شاذ لا يقاس عليه؛ لأن فواعل جمع فاعلة. وذكر أبو عبيدة في كتاب "الديباجة" في صفات الخيل أنها جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه. وقيل: واحدها خايل لأنه يختال في مشيته. وقال ابن سيدة في "المخصص": هو على هذا الاسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن، وقال في "المحكم": وليس هذا بمعروف وقول أبي ذؤيب فتنازلا وتواقف خيلاهما وكلاهما يبطل اللقاء مخدع ثناها على قولهم: هما لقاحان أسودان وحمالان والجمع أخيال وخيول. الأول: عن ابن الأعرابي، والأخرى أشهر وأعرف. ص: حدثنا ربيع الجيزى، قال: ثنا نعيم (ح). وحدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا يزيد بن عبد ربه وخالد بن خلي، قالوا: ثنا بقية بن الوليد، عن ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير. ش: هذان طريقان:

الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزى الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن نعيم بن حماد المروزي الفارض الأعور شيخ البخاري في المقرنات، وثقة يحيى وأحمد، عن بقية بن الوليد بن صائد الكلاعي الحمصي، قال العجلي: ثقة فيما روى عن المعروفين. قال الذهبي: قال غير واحد: كان مدلسًا فإذا قال: "عن" فليس بحجة. روى له البخاري مستشهدا ومسلم في المتابعات. عن ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي روى له الجماعة سوى مسلم، عن صالح بن يحيى بن المقدام الكندي الشامي، وثقة ابن حبان وروى له هؤلاء. عن أبيه يحيى بن المقدام الكندي الحمصي، وثقة ابن حبان وروى له هؤلاء. عن جده المقدام بن معدي كرب الكندي الصحابي، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سعيد بن شبيب وحيوة بن شريح -قال حيوة-: ثنا بقية، عن ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير -زاد حيوة- وكل ذي ناب من السباع. الثاني: عن عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ الكبير، شيخ أبي داود والطبراني، عن يزيد بن عبد ربه الزبيدى الحمصي المؤذن، قال يحيى: ثقة صاحب حديث روى له مسلم والنسائي وابن ماجه. عن خالد بن حلي الكلاعي الحمصى القاضي قال البخاري: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له، وكلاهما يرويان عن بقية بن الوليد. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 352 رقم 3790). (¬2) "المجتبى" (7/ 202 رقم 4331). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1066 رقم 3198).

فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: صحيح ولهذا لم يتعرض إليه أبو داود غير قوله: وهذا منسوخ. وقال النسائي: ويشبه إن كان هذا صحيحًا أن يكون منسوخًا؛ لأن قوله: "أذن في لحوم الخيل"، دليل على ذلك. وقال البيهقي: هذا الحديث لا يثبت، وأخرجه من الطريق المذكور. ثم أخرجه من طريق آخر من حديث الدارقطني وفيه: "نهي يوم خيبر" ثم قال: ورواه محمَّد بن حمير، عن ثور، عن صالح، سمع حده المقدام. ورواه عمر بن هارون البلخي، عن ثور، عن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن خالد. فهذا إسناده مضطرب. ثم ذكر عن البخاري أنه قال: صالح بن يحيى فيه نظر. وعن موسى بن هارون قال: لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده، وهذا ضعيف. قال: وزعم الواقدي أن خالدًا أسلم بعد فتح خيبر. قلت: قد ذكرنا أن أبا داود سكت عنه، فهو حسن عنده، وقد صرح النسائي في روايته بتحديث بقية عن ثور فقال: أنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرني بقية، أخبرني ثور بن يزيد، عن صالح. . . . إلى آخره. وعن العجلي: أن بقية ثقة يروي عن المعروفين. وثور بن يزيد أخرج له البخاري وغيره. وأيضًا فبقية إذا خرج بالحديث عن ثقة كان السند حجة، وبقية الرواية ثقات. وأما خالد - رضي الله عنه - فقد اختلف في وقت إسلامه، فقيل: بعد الحديبية، وقيل: بل كان إسلامه بين الحديبية وخيبر، وقيل: بل كان إسلامه سنة خمس بعد فراغ رسول الله -عليه السلام- من بني قريظة، وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وخيبر بعدها سنة سبع.

ولو سُلّم أنه أسلم بعد خيبر فغاية ما فيه أنه أرسل الحديث، ومراسيل الصحابة - رضي الله عنه - في حكم الموصول المسند لأن روياتهم عن الصحابة كما ذكره ابن الصلاح وغيره. وأما إثبات الاضطراب في الحديث بعمر بن هارون ومحمد بن حمير فغير مقبول؛ لأن عمر بن هارون متروك ومحمد بن حمير ضعيف، قال يعقوب بن سفيان: ليس بالقوى فكيف توجب رواية مثل هذين اضطرابًا لما رواه إسحاق بن راهوية وغيره عن بقية؟! فافهم. ص: قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا فكرهوا لحوم الخيل، وممن ذهب إلى ذلك: أبو حنيفة - رضي الله عنه -، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراء بالقوم هؤلاء: مجاهدًا والحسن البصري والحكم بن عتيبة والأوزاعي ومالكًا، فإنهم كرهوا لحوم الخيل، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث -يعني حديث خالد بن الوليد -رضي الله عنه- وروي ذلك عن ابن عباس أيضًا. فقال الإسماعيلي: نا حامد بن محمد بن شعيب، ثنا سريج بن يونس، نا إسماعيل عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن مولى نافع بن علقمة: "أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل". وهذا إسناد صحيح. فإن قيل: قال ابن حزم: ما نعلم أحدًا من السلف كره أكل لحم الخيل إلا رواية عن ابن عباس لا تصح؛ لأنها عن مولى نافع بن علقمة وهو مجهول. قلت: قد جاءت هذه الرواية عن ابن عباس من غير هذا الطريق. قال أبو بكر بن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع وعلى بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير: "أن ابن عباس كان يكره لحم الخيل". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 120 رقم 24318).

وروى ابن حزم من طريق عكرمة بن عمارة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لحوم الحمر الأهلية والخيل والبغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير، وحرم المجثمة". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا لا بأس بأكل لحوم الخيل (¬1) واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله -عليه السلام-". حدثنا فهد، قال: ثنا الأصبهاني: قال: أنا شريك، عن عبد الكريم ووكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن امرأته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "نحرنا فرسًا على عهد رسول الله -عليه السلام- فأكلناه". وفي هذا الباب آثار قد دخلت في باب النهي عن لحوم الحمر الأهلية فأغنانا ذلك إعادتها. فذهب قوم إلى هذه الآثار، فأجازوا أكل لحوم الخيل، وممن ذهب إلى ذلك: أبو يوسف ومحمد، واحتجوا في ذلك بتواتر الآثار في ذلك وتظاهرها، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار عن النبي -عليه السلام- إذا صحت وتواترت أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر ولاسيما وقد أخبر جابر بن عبد الله في حديثه أن رسول الله -عليه السلام- أباح لحم لحوم الخيل في وقت منعه إياهم من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكم لحمها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وإبرهيم النخعي والثوري والشافعي وطاوس ومحمدًا وأحمد ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 408).

وإسحاق، فإنهم قالوا: لا بأس بأكل لحوم الخيل، واحتجوا في ذلك بحديث جابر وأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهم -. وأخرج حديث جابر من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن معبد بن شداد الرقي نزيل مصر، عن عبد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البيهقي (¬1): نحوه من حديث الثوري عن عبد الكريم، عن عطاء بن جابر. وأخرج البخاري (¬2): عن مسدد، عن حماد، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد ابن علي، عن جابر: "نهى النبي -عليه السلام- يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل". وأخرجه مسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬4): عن حسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن حسين ابن واقد، عن ابن أبي نجيج، عن عطاء، عن جابر قال: "أطعمنا رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن عبد الكريم، عن عطاء. وقال ابن الأصبهاني أيضًا: عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن عبد الكريم، عن عطاء. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 327 رقم؟؟؟). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2101 رقم 5201). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1541 رقم 1941). (¬4) "المجتبى" (7/ 201 رقم 4329).

وأخرجه النسائي (¬1): عن ابن مثنى، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر قال: "كنا نأكل لحم الخيل، قلت البغال؟ قال: لا". وأما حديث أسماء: فأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن عمرو، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، عن امرأته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -. وأخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3): من حديث هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أكلنا لحم فرس على عهد النبي -عليه السلام- بالمدينة". وروى الشافعي (¬4): عن سفيان، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء قالت: "نحرنا فرسًا على عهد النبي -عليه السلام- فأكلناه". وقال الدارقطني: روي عن أيوب، عن هشام، عن أسماء مرسل، لم يذكر فاطمة بنت المنذر. ورواه منجاب، عن شريك، عن هشام، عن أبيه، عن فاطمة بنت المنذر قالت: "أكلنا فرسًا على عهد رسول الله -عليه السلام-". ووهم في موضعين: اسقط أسماء بنت أبي بكر، وقال: عن أبيه، عن أسماء، والصواب هشام، عن فاطمة، عن أسماء. قوله: "وفي هذا الباب آثار" أشار بهذا إلى أحاديث أخرجها في جواز أكل لحوم الخيل عن جابر وغيره في باب "أكل لحوم الحمر الأهلية" فاستغنى بذكرها هناك عن إعادتها هاهنا خوفًا من التكرار بلا فائدة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 202 رقم 4333). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2101 رقم 5200). (¬3) "صحيح مسلم" (36/ 1541 رقم 1942). (¬4) "مسند الشافعي" (1/ 380 رقم؟؟؟).

قوله: "بتواتر الآثار" أي تكاثرها وتظاهرها، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه. قوله: "ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر" أي ولو كان حكم أكل لحوم الخيل مأخوذًا من طريق القياس، لكان الخيل كالحمير في حكم الأكل، وفيه مناقشة؛ لأنه قال في الباب السابق: ولو كان النظر لكان الحمر الأهلية حلالًا كالحمر الوحشية، ولكن اتباع ما جاء عن الرسول -عليه السلام- أولى من ذلك، فوجه النظر هناك اقتضى إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية، فقوله هاهنا: لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرق يقتضي أن لا تؤكل الخيل كالحمر الأهلية، وهذا يناقض الكلام الأول. فافهم.

ص: كتاب الكراهة

ص: كتاب الكراهة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الكراهة، والكراهة: مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ كَرَاهة وكراهية، فهو شيء كريه ومكروه، وإنما عَبَّر بهذا؛ لأن فيه بيان ما يكره من الأفعال، وما لا يكره. * * * ص: باب حلق الشارب ش: أي هذا باب في بيان حلق الشارب، وأراد بالحلق: الإحفاء، يقال: أحفى شعره إذا استأصله حتى يصير كالحلق، ولما كان إحفاء الشارب أفضل من قصه عَبَّر [في] (¬1) الباب بالحلق دون القص. ص: حدثنا محمَّد بن الحجاج الحضرمي، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفطرة عشرة. . . ." فذكر قص الشارب. ش: هذان طريقان: الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي، عن خالد بن عبد الرحمن الخرساني شيخ يحيى بن معين، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان المكفوف البصري، عن سلمة بن محمَّد بن عمار بن ياسر المدني، عن جده عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب، قالا: ثنا حماد عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمَّد بن عمار بن ياسر -قال موسى: عن أبيه، وقال داود: عن عمار بن ياسر- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من الفطرة: المضمضة والاستنشاق. . . ." الحديث. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا سهل بن أبي سهل ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو الوليد، ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمَّد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من الفطرة: المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط والاستحداد وغسل البراجم والانتضاح والاختتان". فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: منقطع، قاله البخاري؛ لأن سلمة بن محمَّد لا يعرف له سماع من عمار، وقال غيره: لم يَرَ جَدَّه عمار بن ياسر. ووقع في رواية أبي داود: عن موسى بن إسماعيل المنقري، عن حماد، عن علي بن زيد، عن سلمة بن محمَّد، عن أبيه. وقال أبو داود: حديث سلمة بن محمَّد عن أبيه مرسل؛ لأن أباه ليست له صحبة، وكذا قال ابن معين. وقال الذهبي: سلمة بن محمَّد صدوق في نفسه، روايته عن جده مرسلة، روى عنه علي بن زيد بن جدعان وحده. وقال ابن حبان: لا يحتج به. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (61/ رقم 54). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 107 رقم 294).

قوله: "الفطرة" أراد بها السنة، يعني أن هذه الخصال العشرة من خصال الأنبياء -عليه السلام- التي أُمرنا أن نقتدي بهم فيها، ثم قوله: "الفطرة عشرة" لا يدل على الحصر، وكذا قوله في رواية أبي هريرة: "الفطرة خمس" لأن السنن كثيرة، من جملتها هذه العشرة، غاية ما في الباب أن هذه الخصال العشر التي هي الفطرة هي فطرة الأنبياء -عليه السلام- الذين أمرنا أن نقتدي بهم، لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1) وأول من أُمر بها إبراهيم -عليه السلام- وذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} (¬2) قال ابن عباس: أمره بعشر خصال ثم عدهن فلما فعلهن قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (2) ليقتدى بك، وقد أُمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصًا؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} (¬3). ويقال أيضًا: كانت عليه فرضًا وهي لنا سنة. قوله: "فذكر قص الشارب" القص من قصصت الشعر قطعته، ومنه طير مقصوص الجناح، ويستحب في القص أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخير بين القص بنفسه، وبين أن يولي ذلك غيره؛ لحصول المقصود، بخلاف الإبط والعانة. وأما حد ما يقصه: فالمختار أن يقص حتى تبدو أطراف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما روايات: "أحفوا الشوارب" فمعناه أحفوا ما طال على الشفتين. وذكر أصحابنا أنه يقطع إلى أن يبقى قدر حاجبه، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا وكيع، عن زكريا، عن مصعب ابن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) سورة البقرة، آية: [124]. (¬3) سورة النحل، آية: [123].

ش: إسناده صحيح، والحماني هو يحيى بن عبد الحميد الكوفي. وزكريا هو ابن أبي زائدة، روى له الجماعة. ومصعب بن شيبة بن جبير القرشي العبدري المكي روى له الجماعة سوى البخاري. وطلق بن حبيب العنزي البصري أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة -البخاري في غير الصحيح- وفيه رواية صحابي عن صحابية. وأخرجه الجماعة غير البخاري. فقال مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: ثنا وكيع، عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال زكريا: قال مصعب: "ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة" وزاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء". وقال أبو داود (¬2): ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا وكيع، عن زكرياء بن أبي زائدة. . . . إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬3): ثنا قتيبة وهناد، عن وكيع، عن زكرياء بمعناه، وقال: حسن. وقال النسائي (¬4): أنا إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، بإسناده نحوه. وقال ابن ماجه (¬5): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 223 رقم 261). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 14 رقم 53). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 91 رقم 2757). (¬4) "المجتبى" (8/ 126 رقم 5040). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 107 رقم 293).

ص: حدثنا عبد الغني بن رفاعة بن أبي عقيل، ويونس، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الفطرة خمس. . . ." ثم ذكر مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عبد الغني. ويونس الأول هو: ابن عبد الأعلى شيخ مسلم، والثاني هو: ابن يزيد الأيلي. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب جميعًا عن سفيان -قال أبو بكر: ثنا ابن عيينة- عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "الفطرة خمس -أو خمس من الفطرة-: الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب". حدثني (¬2) أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الفطرة خمس: الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط". وأخرجه البخاري (¬3) في اللباس: عن أحمد بن يونس. وفي الاستئذان (¬4): عن يحيى، عن قزعة، كلاهما عن إبراهيم بن سعيد. وفي "اللباس" (¬5): عن علي بن المديني عن ابن عيينة كلاهما عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 221 رقم 257). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 222 رقم 257). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2209 رقم 5552). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2320 رقم 5939). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2209 رقم 5550).

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا المسعودي، عن أبي عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة: "أن رسول الله -عليه السلام- رأى رجلًا طويل الشارب فدعاه النبي -عليه السلام- ثم دعا بسواك وبشفرة فقص شارب الرجل على عود السواك". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا المسعودي، قال: ثنا محمَّد بن عبيد الله، عن المغيرة بن شعبة: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- طويل الشارب فدعا النبي -عليه السلام- بسواك ثم دعا بشفرة فقص شارب الرجل على سواك". حدثنا بكار، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قالا: ثنا سفيان، عن مسعر، عن أبي صخرة جامع بن شداد المحاربي، عن المغيرة بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة قال: "أخذ رسول الله -عليه السلام- من شاربي على سواك". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي وثقه أبو حاتم، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن أبي عون الثقفي محمَّد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الأعور الكوفي، روى له الجماعة إلا ابن ماجه. الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري عن المسعودي. . . . إلى آخره. الثالث: عن بكار بن قتيبة القاضي، عن إبراهيم بن أبي الوزير، وهو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، عن أبي صخرة جامع بن شداد المحاربي، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري الكوفي، عن المغيرة بن شعبة. . . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري -المعني- قالا: نا وكيع، عن مسعر، عن أبي صخرة جامع بن شداد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة قال: "ضفت النبي -عليه السلام- ذات ليلة، فأمر بجنب فشوى، وأخذ الشفرة فجعل يجز لي بها منه، قال: فجاء بلال فآذنه بالصلاة، قال: فألقى الشفرة وقال: ما له تربت يداه؟! وقام يصلي -زاد الأنباري: وكان شاربي وفيًّا فقصه على سواك، أو قال: أقصه لك على سواك؟ ". وأخرجه الترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3). الرابع: عن محمَّد بن خزيمة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): عن وكيع، عن مسعر، عن أبي صخرة. . . . إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم من أهل المدينة إلى هذه الآثار، واختاروا لها قص الشارب على إحفائه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سالمًا وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وجعفر ابن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الآثار، وقالوا: المستحب هو أن يختار قص الشارب على إحفائه. وإليه ذهب أيضًا حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 97 رقم 188). (¬2) "الشمائل" (1/ 139 رقم 167). (¬3) ليس عند ابن ماجه، إنما هو عند النسائي في "الكبرى" (4/ 153 رقم 6655) كما في "الأطراف" للمزي (8/ 492 رقم 11530) فقد عزاه لأبي داود، والترمذي في "الشمائل"، والنسائي في "الكبرى - الوليمة". (¬4) "مسند أحمد" (4/ 255 رقم 18262).

ابن أبي رباح وبكر بن عبد الله ونافع بن جبير وعراك بن مالك، وهو مذهب مالك أيضًا. وقال عياض: ذهب كثير من السلف إلى منع الحلق والاستئصال في الشارب، وقاله مالك أيضًا، وكان يرى حلقه مثلة، ويأمر بأدب فاعله، وكان يكره أن يأخذ من أعلاه، والمستحب أن يأخذ منه حتى يبدو الإطار وهو طرف الشفة. وذهب بعضهم إلى أنه مخير بين القص والاستئصال. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يستحب إحفاء الشوارب، ونراه أفضل من قصها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جمهور السلف، منهم أهل الكوفة ومكحولٌ ومحمد بن عجلان ونافع مولى ابن عمر وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد؛ فإنهم قالوا: يستحب إحفاء الشوارب وهو أفضل من قصها، وروي ذلك عن فعل عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله وأبي أسيد وعبد الله بن عمرو، ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة (¬1) بإسناده إليهم. وقال عياض: وأما الشارب فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله: "أحفوا" و"أنهكوا" وهو قول الكوفيين. ثم "الإحفاء" مصدر من قولهم: أحفى شاربه؛ إذا استقصى في أخذه، وألزق جزه. قاله الجوهري. وقال الخطابي: الإحفاء بمعنى الاستقصاء، يقال: أحفى شاربه ورأسه. وقال ابن دريد: حفى شاربه يحفوه حفوًا، إذا استأصل آخر شعره، قال: ومنه قوله: "أحفوا الشوارب". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 226 رقم 25498).

قلت: حاصل الكلام أن الإحفاء هو أن يأخذ من شاربه حتى يصير مثل الحلق، وأما الحلق بعينه فلم يرد، وقد كرهه بعض العلماء، فعلم من ذلك أن القص هو أن يأخذ منه شيئًا، والإحفاء أن يستأصله، وإن كان ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يحفي حتى يُرَى جلده على ما يجيء إن شاء الله تعالى. فعل هذا كل إحفاء قص، وليس كل قص إحفاء، دليل ذلك ما قاله عياض: إن هؤلاء الذين ذهبوا إلى أن القص هو المستحب ذهبوا إلى أن الإحفاء والجز والقص بمعنى واحد، وأنه الأخذ منه حتى يبدو الإطار وهو طرف الشفة. فإن قيل: ما حكم السبلتان وهما طرفا الشارب؟ قلت: ذكر بعضهم: لا بأس بترك ذلك، فعل ذلك عمر - رضي الله عنه - وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: "كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشوارب". قلت: السبال -بكسر السين المهملة وفتح الباء الموحدة- جمع سبلة، وهو طرف الشارب. وقال الجوهري: السبلة الشارب. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن علي بن محرز، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجز شاربه، وكان إبراهيم -عليه السلام- يجز شاربه". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن الإحفاء أفضل من القص بحديث عبد الله بن عباس. وأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن علي بن محرز البغدادي، وثقه ابن يونس عن يحيى بن أبي بكير واسمه بشر ويقال: نسر -بالنون والسين المهملة- ويقال: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25504).

بشير القيسي أبي زكريا الكرماني كوفي الأصل سكن بغداد، وولي قضاء كرمان، روى له الجماعة، وهو يروي عن الحسن بن صالح بن حي الكوفي العابد، روى له مسلم والأربعة، عن سماك بن حرب بن أوس الكوفي، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونا بغيره. وأخرجه الترمذي (¬1): نا محمَّد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان النبي -عليه السلام- يقص أو يأخذ من شاربه، قال: وكان إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام- يفعله". قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قوله: "يجز" بالجيم والزاي أي: يقص، يقال: جَزَّ الشعر والصوف إذا قَصَّه، وأصله القطع، ومنه جزار التمر من النخل. فإن قيل: كيف يدل هذا على دعوى هؤلاء، وهو لا يدل إلا على القص دون الإحفاء الذي هو الاستئصال؟ قلت: لفظ الجز يحتمل أن يكون معه الإحفاء -وهو المراد- لأن أمر النبي -عليه السلام- بالإحفاء في حديث ابن عمر وغيره قرينة على أن الجَزَّ في حديث ابن عباس هو جَزٌّ معه إحفاء، وإن لم يحمل على هذا تتضاد الآثار، والحمل على الاتفاق أولى؛ كما عرف. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه (ح). وحدثنا محمَّد بن عمر وابن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، كليهما عن النبي -عليه السلام- قال: "احفوا الشوارب و [اعفوا] (¬2) اللحى" (ح). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 93 رقم 2760). (¬2) في "الأصل": "احفوا"، بالحاء المهملة بدلًا من العين، وهو سبق قلم من المؤلف، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وحدثنا ابن أبي عقيل قال: أنا ابن وهب قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح. الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ومسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-: "أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحي". الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن عبد الله بن نمير الهمداني، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (2) أيضًا: ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا يحيى -يعني ابن سعيد-. ونا ابن نمير، قال: ثنا أبي جميعًا عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى". وأخرجه الترمذي (¬3): عن الحسن الخلال، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، نحوه. والنسائي (¬4): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن عبيد الله بن عمر -نحوه. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 947 رقم 1696). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 222 رقم 259). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 95 رقم 2763). (¬4) "المجتبى" (1/ 16 رقم 15).

الثالث: عن عبد الغني بن رفاعة [اللخمي] (¬1) المعروف بابن أبي عقيل المصري شيخ أبي داود، وابنه أبي بكر بن أبي داود، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس. قوله: "احفوا" أمر من أحفى شاربه؛ إذا استأصل قطعه. قوله: "واعفوا اللحى" أي اتركوها حتى تكثر وتطول، قال القاضي: وفي رواية "أوفوا اللحى"، وهو بمعنى اعفوا أيضًا. وذكر مسلم (¬2) في حديث أبي هريرة أيضًا: "أرجوا اللحى" كذا عند أكثر شيوخنا. ولابن ماهان: أرجوا -بالجيم- قيل: معناه أخروا، وأصله: أرجئوا فَسُهِّلت الهمزة بالحذف، وكأن معناه: اتركوا فيها فعلكم بالشوارب. وفي البخاري (¬3): "وفروا اللحى" قال أبو عبيد في إعفاء اللحى: هو أن توفر وتكثر، ويقال: عفى الشيء إذا كثر وزاد، وأعفيته أنا وعفى إذا درس، وهو من الأضداد ومنه الحديث: "فعلى الدنيا العفاء" (¬4) أي الدروس، ويقال: التراب. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الجمحي"، وهو تحريف، والمثبت من مصادر ترجمته كما في "تهذيب الكمال" (18/ 229)، وغيره. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 222 رقم 260). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2209 رقم 5553). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/ 361 رقم 8875)، و"مسند الشاميين" (1/ 260 رقم 450)، والبيهقي في "الشعب" (7/ 294 رقم 10360)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 98)، وقال: غريب من حديث ثور، لم نكتبه إلا من هذا الوجه. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/ 140)، وقال: وهذا الحديث عن ثور بن زيد لا أعلم يرويه غير أبي بكر الداهري. قلت: وأبو بكر الداهري واه بمرة، ولفظ الحديث: "ابن آدم، عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، ابن آدم، لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع، ابن آدم، إذا أصبحت معافى في جسدك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فعلى الدنيا العفاء".

قال القاضي: عفوت الشعر وأعفيته لغتان، وكره قصها وحلقها وتجريفها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك، وسنة بعض الأعاجم حلقها وجزها، وتوفير الشوارب، وهي كانت سيرة الفرس. وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعظيمها وتخليتها، كما يكره في قصها وجزها. وقد اختلف السلف: هل لذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدد بما زاد على القبضة، فيزال ما فضل عنها، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة. انتهى. وقال أبو حامد: اختلف فيما طال من اللحية؛ فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما تحت القبضة فلا بأس؛ قد فعله ابن عمر وجماعة من السلف التابعين، واستحبه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة وقالا: تركها أحب؛ لقوله -عليه السلام-: "أعفوا اللحى" والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب، فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنسبة إليه، فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية. وقال النخعي: عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته، فيجعلها بين لحيتين؟! فإن التوسط في كل شيء حسن. فإن قيل: هل ورد في هذا أثر؟ قلت: روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن سماك بن يزيد قال: "كان علي - رضي الله عنه - يأخذ من لحيته مما يلي وجهه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 225 رقم 25480).

حدثنا (¬1): أبو أسامة، عن شعبة، عن عمرو بن أيوب -من ولد جرير- عن أبي زرعة قال: "كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل عن القبضة". ثنا (¬2): علي بن هاشم ووكيع، عن ابن أبي ليلى، عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان يأخذ ما فوق القبضة". وقال وكيع: ما [جاوز] (¬3) القبضة". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا أبو جعفر المدائني، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وزاد: "ولا تشبهوا باليهود". ش: حَبَّان بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة، روى له الجماعة. وأبو جعفر اسمه عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي والد علي بن المديني فيه مقال، فقال أبو حاتم: منكر الحديث يحدث عن الثقات بالمناكير، يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان علي لا يحدثنا عن أبيه. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وعنه: ليس بثقة. روى له الترمذي وابن ماجه. وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري المدني، وثقه أبو زرعة والنسائي وابن حبان، وأنس بن مالك خادم النبي -عليه السلام- عَمَّه. والحديث أخرجه البزار في "مسنده": ثنا السكن بن سعيد، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن عبد الله، عن أنس، أن النبي -عليه السلام- قال: "خالفوا المجوس؛ جزوا الشوارب وأوفوا اللحى". ص: حدثنا يزيد، قال: أنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 225 رقم 25481). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 225 رقم 25486). (¬3) في "الأصل، ك": "جاز"، والمثبت من "المصنف".

العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "جزوا الشوارب، وأرجوا -أو أوفوا- اللحى". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمَّد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني، وثقه ابن حبان، وغيره روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبيه عبد الرحمن بن يعقوب كذلك. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو بكر بن إسحاق، قال: نا ابن أبي مريم قال: أنا محمَّد بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "جزوا الشوارب وأرجوا اللحى؛ خالفوا المجوس". قوله: "وأرجوا أو أوفوا" شك من الراوي وقد مَرَّ معناهما. الثاني: عن صالح، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى بن إسحاق، نا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اعفوا اللحي وخذوا الشوارب، وغيروا شيبكم، ولا تشبهوا [باليهود] (¬3) والنصاري". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 222 رقم 260). (¬2) "مسند أحمد" (2/ 356 رقم 8657). (¬3) في "الأصل، ك": "اليهود"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: فهذا رسول الله -عليه السلام- قد أمر بإحفاء الشوارب، فثبت بذلك الإحفاء على ما ذكرنا في حديث ابن عمر، وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة "جزوا الشوارب". فذاك يحتمل أن يكون جزًّا معه الإحفاء، ويحتمل أن يكون على ما دون ذلك، فقد ثبت معارضة حديث ابن عمر - رضي الله عنه - بحديث أبي هريرة وعمار وعائشة الذي ذكرنا في أول هذا الباب. وأما حديث المغيرة فليس فيه دليل على شيء، ولا يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- فعل ذلك ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء [الشارب] (¬1) به، ويحتمل أيضًا حديث عمار وعائشة وأبي هريرة في ذلك معنى آخر: يحتمل أن يكون الفطرة هي التي لابد منها وهي قص الشارب، وما سوى ذلك فضل حسن، فتثبت الآثار كلها التي رويناها في هذا الباب ولا تتضاد، ويثبت بثبوتها أن الإحفاء أفضل من القص، وهذا معنى هذا الباب من طريق الآثار. ش: أراد أن النبي -عليه السلام- أمر بإحفاء الشوارب في حديث عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. فدل بمقتضى الأمر أن الإحفاء أفضل من القص، وأراد بحديث ابن عمر هو الذي أخرجه من ثلاث طرق صحاح: قوله: "وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة. . . ." إلى آخره. جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى بحديثهما فإنهم احتجوا فيما ذهبوا إليه بقوله -عليه السلام-: "جزوا الشوارب" والجزُّ هو القص، وتقرير الجواب: أن يقال: الجز المذكور يحتمل أن يكون جزًّا معه الإحفاء، ويحتمل أن يكون معناه جزًّا, وليس معه الإحفاء فحينئذ تثبت المعارضة بين حديث ابن عمر وأحاديث أبي هريرة وعمار وعائشة المذكورة في أول الباب، ودفعها بأن يكون المراد هو المعنى الأول، والمرجح هو لقرينة حديث ابن عمر؛ فبهذا يحصل التوفيق ويرتفع الآثار. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "الشوارب"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قوله: "وأما حديث المغيرة. . . ." إلى آخره. جواب أيضًا عن حديث المغيرة الذي هو من جملة الحج لأهل المقالة الأولى، وهو ما ذكره بقوله: "فليس فيه دليل على شيء. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ويحتمل أيضًا حديث عمار. . . ." إلى آخره. جواب آخر، وهو أيضًا ظاهر. والله أعلم. ص: وأما من طريق النظر: فقد رأينا الحلق قد أمر به في الإحرام، ورخص في التقصير، فكان الحلق أفضل من التقصير، وكان التقصير من شاء فعله ومن شاء زاد عليه، إلا أنه يكون بزيادته عليه أجرًا أعظم من القص، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الشارب، قصه حسن، وإحفاؤه أحسن وأفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: وأما معنى هذا الباب من طريق النظر والقياس. بيانه: أن الحاج أمر بالحلق ورخص له في التقصير وخير فيه إن شاء اقتصر عليه وإن شاء زاد عليه، غير أنه يكون بزيادته على ذلك أكثر أجرًا، فالقياس على ذلك أن يكون حكم الشارب كذلك؛ يكون مخيرًا في قصه فإذا زاد على ذلك حتى صار إحفاءً يكون أفضل من ذلك، فيكون القص حسنًا والإحفاء أحسن، فافهم. ص: وقد روي عن جماعة من المتقدمين ما قد حدثنا ابن أبي عقيل، قال: أنا ابن وهب قال: أخبرني إسماعيل بن عياش قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: "رأيت أنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع يحفيان شواربهما، ويعفيان لحاهما ويصفرانها". قال إسماعيل: حدثني عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع المدني، قال: "رأيت عبد الله بن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وأبا أسيد الساعدي ورافع بن خديج وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع، يفعلون ذلك". حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا أبو ثابت، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وأبا أسيد ورافع بن

خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبا هريرة يحفون شواربهم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا عاصم بن محمَّد، عن أبيه، عن ابن عمر: "أنه كان يحفي شاربه حتى يرى بياض الجلد". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن محمَّد بن حاطب قال: "رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - يحفي شاربه". حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي، قال: "رأيت ابن عمر يحفي شاربه كأنه ينتفه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أنه كان يحفي شاربه". حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، عن ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم قال: "ما رأيت أحدًا أشد إحفاء لشاربه من ابن عمر كان يحفيه حتى إن الجلد ليرى". فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد كانوا يحفون شواربهم، وفيهم أبو هريرة، وهو من روينا عنه، عن رسول الله -عليه السلام- أنَّه قال: "من الفطرة قص الشارب" فدل ذلك أن قص الشارب من الفطرة، وهو مما لابد منه وأن ما بعد ذلك من الإحفاء هو أفضل وفيه من إصابة الخير ما ليس في القص. ش: أراد من المتقدمين: الصحابة - رضي الله عنهم -، وأخرج عن عشرة أنفس منهم: "أنهم كانا يحفون شواربهم"، فدل أن الإحفاء أفضل من القص. وأبو أسيد -بضم الهمزة وفتح السين المهملة- مالك بن ربيعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك، وابن أبي عقيل هو عبد الغني بن رفاعة المصري. وإسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، قال دحيم هو في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين.

وإسماعيل بن أبي خالد البجلي الكوفي، واسم أبي خالد: هرمز، وقيل: سعد، روى له الجماعة، رأى أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع. وعثمان بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي -عليه السلام- وثقه ابن حبان. وأبو ثابت محمَّد بن عبيد الله بن محمَّد القرشي المدني شيخ البخاري. وعبد العزيز بن محمَّد الدراوردي. وابن أبي داود هو إبراهيم البرلسي. وعاصم بن محمَّد بن زيد روى له الجماعة. وأبوه محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى له الجماعة. وحامد بن يحيى بن هانئ البلخي، نزيل طرسوس وشيخ أبي داود، وثقه ابن حبان. وسفيان هو ابن عيينة. وإبراهيم بن محمَّد بن حاطب القرشي وثقه ابن حبان. وعثمان بن إبراهيم الحاطبي وثقه ابن حبان. وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري. وعقبة بن مسلم التجيبي المصري، القاص إمام مسجد الجامع العتيق بمصر، قال العجلي: مصري تابعي ثقة.

ص: باب استقبال القبلة بالفروج للغائط والبول

ص: باب استقبال القبلة بالفروج للغائط والبول ش: أي هذا باب في بيان حكم استقبال القبلة بالفرج لأجل التغوط أو التبول، وهذا الكتاب له مدخل في كتاب الكراهة، وإن كان الأنسب ذكره في باب الاستنجاء في كتاب الطهارة وقد علم أن الغائط في الأصل اسم للمكان المطمئن من الأرض ثم جعل كناية عن قضاء الحاجة. ص: حدثنا يونس قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تستقبلوا القبلة لغائط ولا لبول، ولكن شرقوا أو غربوا. فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله". حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب، قال: ثنا يونس، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنَّه لم يذكر قول أبي أيوب: "فقدمنا الشام. . . ." إلى آخر الحديث. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة: "أن أبا أيوب الأنصاري. . . ." ثم ذكر مثله، وذكر كلام أبي أيوب أيضًا. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء -امرأة- فكان يقال: مولى أبي طلحة، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول وهو بمصر: "والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكراييس؟ فقد قال رسول الله -عليه السلام-: إذا ذهب أحدكم لغائط أو لبول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب خالد بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه -.

وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن آدم، قال: نا ابن أبي ذئب، قال: نا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا". ومسلم (¬2): عن زهير بن حرب وابن نمير، قالا: نا سفيان بن عيينة، وعن يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: قلت لسفيان بن عيينة: سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب أن النبي -عليه السلام- قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا بغائط، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله". وأبو داود (¬3): عن مسدد، عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب -رواية- قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فكنا ننحرف عنها ونستغفر". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب. . . إلى آخره. الثالث: عن روح بن الفرج القطان، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة الزهري الفقيه، قاضي مدينة الرسول وشيخ الجماعة سوى النسائي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 66 رقم 144). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 224 رقم 264). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 33 رقم 9).

محمَّد بن مسلم الزهري عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة المدني، وهو ممن ولد في عهد النبي -عليه السلام- قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وأخرجه الطبراني (¬1) -رحمَه اللهُ-: ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، ثنا أبو مروان العثماني (ح). وثنا يوسف بن يعقوب المقرئ، نا محمَّد بن خالد الواسطي (ح). وثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا عبد الله بن عون الخراز، قالوا: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة، عن أبي أيوب الأنصاري قال: "نهانا رسول الله -عليه السلام- أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، فلما قدمنا الشام، وجدنا مرافقهم مراحيض قد استقبل بها القبلة، فنحن ننحرف ونستغفر الله -عز وجل-". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق الأنصاري المدني مولى الشفاء -وهي امرأة- ويقال: مولى أبي طلحة، ويقال: مولى أبي أيوب، قال النسائي وابن حبان: ثقة. روى له الترمذي والنسائي. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2) نحوه. وقال أبو عمر (¬3): هكذا قال مالك في هذا الحديث: مولى لآل الشفاء، وقال في حديث آخر: مولى الشفاء. فيما رواه يحيى بن يحيى عنه، وقد قال عن مالك في الموضعين جميعًا طائفة من الرواة: مولى لآل الشفاء. وقال آخرون عنه في الموضعين جميعًا: مولى الشفاء والشفاء امرأة من الصحابة - رضي الله عنهم - من قريش وهي الشفا بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد من بني عدي بن كعب، وهي أم سليمان بن أبي حثمة، وكان حماد بن سلمة يقول: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 138 رقم 3921). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 193 رقم 454). (¬3) "التمهيد" (1/ 303).

رافع بن إسحاق مولى أبي أيوب، وكان مالك يقول: وكان يقال له: مولى أبي طلحة. وهو من تابعي أهل المدينة، ثقة فيما نقل وحمل وحديثه هذا حديث متصل صحيح. قوله: "الغائط" اللام فيه يجوز أن تكون للتعليل أي لأجل التغوط ولأجل التبول، ويجوز أن تكون للوقت أي وقت التغوط ووقت التبول، ويجوز أن يكون بمعنى عند، كما في قولهم: كتبته لخمس خلون، أي عند خمس خلون وجعل منه ابن جنيّ قراءة الجحدري {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} (¬1) بكسر اللام وتخفيف الميم. قوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنه لا يشرق ولا يغرب. قوله: "فقدمنا الشام" وهي إقليم مشهور يذكَّر ويؤنَّث، ويقال مهموزًا ومسهلًا، سميت بسام بن نوح وذلك لأنه أول من نزلها فجعلت السين شيئًا تغييرًا للفظ الأعجمي. وقيل: سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها ببعض، فشبهت بالشامات. قوله: "مَرَاحيض" بفتح الميم وبالحاء المهملة والضاد المعجمة، جمع مِرحاض بكسر الميم، وهو البيت المتخذ لقضاء حاجة الإنسان. قوله: "فننحرف" أي: نميل. قوله: "ونستغفر الله" قيل: يستغفر الله من بنائها فإن الاستغفار للمذنبين سنة، وقيل: يستغفر الله من الاستقبال وقيل: يستغفر الله من ذنوبه فالذنب يذكر بالذنب. فإن قيل: فالغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة به إلى الاستغفار له. قلت: أهل الورع والمناصب العَلِيَّة في التقوى قد يفعلون مثل هذا بناءً عَلى نسبتهم القصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءً. ¬

_ (¬1) سورة ق، آية: [5].

قوله: "كيف أصنع بهذه الكراييس" إنما قال ذلك لأنها كانت بحذاء القبلة، والكراييس: جمع كرياس -بكسر الكاف وسكون الراء وبالياء آخر الحروف وبعد الألف سين مهملة- وهي الميضاءة. قال أبو عمر (¬1): الكراييس هي: المراحيض واحدها كرياس، مثل سربال وسرابيل، وقد قيل: إن الكراييس مراحيض الغرف، وأما مراحيض البيوت يقال لها: الكنف. وقال ابن الأثير: الكراييس جمع كرياس، وهو الذي يكون مشرفًا على سطح بقناة إلى الأرض، فإذا كان أسفل فليس بكرياس، سمى به لما يعلق به من الأقذار، ويتكرس ككرس الدِّمْن، ثم قال: وقال الزمخشري: الكرناس بالنون. قلت: فهذا كما قد رأيته قد ذكره في باب: كرس. فعلى هذا تكون الياء فيه زائدة، وكذا ذكره الجوهري في باب الكرس فقال: الكِرس -بالكسر- الأبوال والأقذار يتلبد بعضها على بعض، يقال: أكرست الدار. ثم قال: والكرياس الكنيف في أعلى السطح. وقال أبو عمر: في هذا الحديث من الفقه: أن على من سمع الخطاب أن يستعمله على عمومه، إذا لم يبلغه شيء يخصه؛ لأن أبا أيوب سمع من النبي -عليه السلام- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والتبول مطلقا غير مقيد بشرط ففهم منه العموم، فكان ينحرف في مقاعد البيوت ويستغفر الله، ولم تبلغه الرخصة التي رواها عن النبي -عليه السلام- ابن عمر وغيره في البيوت. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن نافع، أن رجلًا من الأنصار أخبره، عن أبيه: "أنه سمع رسول الله -عليه السلام- ينهى أن تستقبل القبلة لغائط أو بول. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 312).

ش: سائر رواة الموطأ رووا هذا الحديث عن مالك، عن نافع، عن رجل من الأنصار، عن أبيه سمع رسول الله -عليه السلام-، وروى يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن رجل من الأنصار: "أنه سمع رسول الله -عليه السلام-، واختلف فيه عن ابن بكير فتارة روي عنه عن مالك كما رواه يحيى، وتارة روي عنه عن مالك كما روت الجماعة. قال أبو عمر: وهو الصواب إن شاء الله تعالى. ثم هذا الرجل من الأنصار هو عبد الرحمن بن عمرو العجلاني وهو يروي عن أبيه عمرو العجلاني الصحابي. قال ابن الأثير: هو عمرو بن أبي عمرو العجلاني أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله، حديثه عند ابنه عبد الرحمن، ثم روى هذا الحديث. ص: حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي، قال: ثنا عبيدة النحوي، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قال له رجل: "إني أظن أن صاحبكم يعلمكم حتى إنه ليعلمكم كيف تأتون الغائط! فقال له: أجل، وإن سخرت إنه ليفعل، إنه لينهانا إذا أتى أحدنا الغائط أن يستقبل القبلة". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وعَبِيدَة -بفتح العين وكسر الباء- ابن حميد بن صهيب التيمي وقيل: الليثي، وقيل: الضبي، أبو عبد الرحمن الكوفي المعروف بالحذاء وكان مؤدبا لمحمد بن هارون أمير المؤمنين، روى له الجماعة سوى مسلم. ومنصور هو ابن المعتمر. وإبراهيم هو النخعي. وعبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي.

والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): بإسناده عن رجل من الأنصار قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط". وأخرج مالك في "الموطأ" (¬2): عن رجل من الأنصار: "أنه سمع النبي -عليه السلام- ينهى أن تستقبل القبلة لغائط أو بول". قوله: "أجل" معناه: نعم. قوله: "وإن سخرت" أي: وإن قلت مستهزئًا. ص: حدثنا يونس، [قال: أخبرني ابن وهب] (¬3) قال: أخبرني عمرو بن الحارث، والليث وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: "أنا أول من سمع النبي -عليه السلام- يقول: لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من خَبَّر الناس بذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: "أنا أول من سمع النبي -عليه السلام- ينهى الناس أن يبولوا مستقبلي القبلة، فخرجت إلى الناس فأخبرتهم". حدثنا أبو بشر عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن جبلة بن نافع قال: سمعت عبد اللهَ بن الحارث الزبيدي. . . . فذكر نحوه. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني سهل بن ثعلبة، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يبول الرجل مستقبل القبلة، وأنا أول من سمع ذلك من رسول الله -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 430 رقم 23696). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 193 رقم 455). (¬3) في "الأصل، ك": "قال أنا ابن وهب، قال أخبرني ابن وهب" وهو تكرار، والصواب حذف: قال أنا ابن وهب الأولى كما في "شرح معاني الآثار".

ش: هذه أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، وعبد الله بن لهيعة ذُكِرَ متابعة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمَّد بن الرمح المصري، أنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: "أنا أول من سمع النبي -عليه السلام- يقول: لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدث الناس بذلك". الثاني: أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله المدني، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عبد الله بن الحارث. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) وقال: نا الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد -يعني ابن جعفر- عن يزيد بن أبي حبيب. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن أبي بشر عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله البغدادي الثقة، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن جبلة بن نافع الفهمي المصري، وثقه ابن حبان، وهو يروي عن عبد الله بن الحارث. وأخرجه ابن يونس في ترجمة جبلة بن نافع في "تاريخ مصر"، وقال: ثنا عبد الله بن عمرو القرشي، ثنا محمَّد بن حميد أبو قرة، نا عثمان بن صالح، ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جبلة بن نافع قال: سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: "أنا أول من سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة. وأنا أول من حدث الناس بذلك". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 115 رقم 317). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 190 رقم 17737).

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث ابن سعد، عن سهل بن ثعلبة الطائي المصري، قال الذهبي: مجهول، وقال ابن الجوزي: ضعيف، وقال ابن حبان ثقة. وأخرجه الطبراني: نا مطلب من شعيب الأزدي، نا أبو صالح حدثني الليث، عن سهل بن ثعلبة، عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يبول الرجل مستقبل القبلة". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا جندل بن والق، قال: ثنا جعفر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: "نهينا أن نستقبل القبلة لقضاء حاجة. ش: إسناده صحيح، وجندل بن والق بن هجرس الثعلبي الكوفي شيخ البخاري في غير الصحيح. وجعفر هو ابن عون المخزومي الكوفي، روى له الجماعة. والأعمش هو: سليمان بن مهران. وإبراهيم هو النخعي. والحديث أخرجه الطبراني (¬1) بأتم منه: ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج المصري نا يحيى بن سليمان الجعفي، نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بقضاء الحاجة، وأن نستنجي بدون ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بعظم أو رجيع". وحديث سلمان هذا أخرجه الجماعة سوى البخاري. فقال مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 234 رقم 3081). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 223 رقم 262).

ونا يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن سلمان قال: "قيل له: قد علمكم نبيكم -عليه السلام- كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم". وقال أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: "قيل له: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن لا نستنجي باليمين، وأن لا يستنجي [أحدنا] (¬2) بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع أو عظم". وقال الترمذي (¬3): ثنا هناد قال: نا أبو معاوية -وهو محمَّد بن خازم- عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "قيل لسلمان: قد علمكم نبيكم -عليه السلام- كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان - رضي الله عنه -: أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو يستنجي برجيع أو بعظم". وقال النسائي (¬4): أنا إسحاق بن إبراهيم، عن أبي معاوية، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬5): حدثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 3 رقم 7). (¬2) في "الأصل، ك": "أحدنا باليمين"، وهو إما سبق قلم أو انتقال نظر. (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 24 رقم 16). (¬4) "المجتبى" (1/ 38 رقم 41). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1/ 115 رقم 316).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا أبو غسان، قال: حدثني ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". حدثنا بكار قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا محمَّد بن عجلان. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: حدثني ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا خرج أحدكم لغائط أو بول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستقبل الريح". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان بن مطرف الليثي المدني روى له الجماعة. عن محمَّد بن عجلان المدني روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني روى له الجماعة؛ البخاري في غير "الصحيح". عن أبي صالح ذكوان الزيات روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): نا أحمد بن الحسن بن خراش، قال: ثنا عمر بن عبد الوهاب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح، عن [سهيل] (¬2)، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 224 رقم 265). (¬2) في "الأصل، ك": "سهل"، وهو خطأ، والصواب: "سهيل" كما في "صحيح مسلم"، وسهيل هو: ابن أبي صالح كما في "تحفة الأشراف" للمزي (9/ 441 رقم 12858) ومصادر ترجمته.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، قال: ثنا ابن المبارك، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة". الثاني: أيضًا بإسناد صحيح، عن بكار بن قتيبة القاضي، عن صفوان بن عيسى القرشي البصري شيخ أحمد روى له الجماعة، عن محمَّد بن عجلان. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن سعيد بن كثير بن عفير، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل ابن الأسود المدني يتيم عروة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن أبي زيد، عن معقل بن أبي معقل الأسدي -وكان قد صحب النبي -عليه السلام-قال: "نهانا رسول الله -عليه السلام- أن نستقبل القبلة لغائط أو بول". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا داود العطار، قال: حدثني عمرو بن يحيى، قال: أنا أبو زيد مولى بني ثعلبة، عن معقل بن أبي معقل، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن أبي يزيد، عن معقل، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 3 رقم 8). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 114 رقم 313).

ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الكوفي ثقة، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني روى له الجماعة. عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني، روى له الجماعة. عن أبي زيد مولى بني ثعلبة، قيل: اسمه الوليد. عن معقل بن أبي معقل الأسدي حليف لهم، ويقال: معقل بن أبي الهيثم المدني الصحابي. وأخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل قال: ثنا وهيب قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن أبي زيد، عن مقعل بن أبي معقل الأسدي قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط" قال أبو داود: هو أبو زيد مولى بني ثعلبة. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن يحيى. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، حدثني عمرو بن يحيى المازني، عن أبي زيد مولى الثعلبيين، عن معقل بن أبي معقل الأسدي -وقد صحب النبي -عليه السلام-- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن نستقبل القبلتين بغائط أو بول". الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أبي كامل فضيل بن الحسين الجحدري شيخ مسلم، عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري الدباغ البصري، عن عمرو بن يحيى. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 3 رقم 10). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 115 رقم 319).

وأخرجه الطبراني (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن يحيى. . . . إلى آخره نحوه. ص: فذهب قوم إلى كراهة استقبال القبلة لغائط أو بول في جميع الأماكن، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار, وممن ذهب إلى ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، وسفيان الثوري، وأحمد، وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: يكره استقبال القبلة لغائط أو بول في جميع الأماكن، في الصحراوات والبيوت، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقال القاضي عياض: اختلف على أبي حنيفة، فمشهور مذهبه المنع فيهما، يعني في البيوت والصحاري، وهو قول أحمد وأبي ثور؛ أخذًا بظاهر مجرد النهي، والأمر بالتشريق والتغريب. وروي عنه أيضًا جواز الاستدبار فيهما، وإنما يمنع فيهما الاستقبال، وعنه المنع فيها في الصحراء، والاستقبال في المدن دون الاستدبار. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس باستقبال القبلة للغائط والبول في جميع الأماكن. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: قتادة وربيعة شيخ مالك وعروة بن الزبير ودواد؛ فإنهم قالوا: لا بأس باستقبال القبلة للغائط والبول في الصحاري والبيوت. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن ابن عمر أنه كان يقول: "إن ناسا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 234 رقم 549).

تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. فقال عبد الله: لقد ارتقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله -عليه السلام- على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته. حدثنا يونس، قال: أنا أنس، عن يحيى بن سعيد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: أنا هشيم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، قال: سمعت ابن عمر يقول: "ظهرت على إجَّارٍ لي في بيت حفصة في ساعة لم أكن أظن أن أحدًا يخرج فيها. . . . فذكر مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: ثنا وهيب، عن إسماعيل بن أمية ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن ابن عمر قال: "رقيت فوق بيت حفصة، فإذا بالنبي -عليه السلام- جالس على مقعدته مستقبل القبلة مستدبر الشام". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني محمَّد بن عجلان، عن محمَّد بن يحيى، عن واسع بن حبان، عن ابن عمر أنه قال: "يتحدث الناس عن رسول الله -عليه السلام- في الغائط بحديث! وقد اطلعت يومًا ورسول الله -عليه السلام- على ظهر بيت يقضي حاجته محجوبا عليه بلبن، فرأيته مستقبل القبلة". ش: هذه خمس طرق صحاح. الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وحبان في الموضعين -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة. وأخرجه الجماعة. فقال البخاري (¬1): نا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر أنه كان ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 67 رقم 145).

يقول: "إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله -عليه السلام- على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته، وقال: لعلك من الذين يصلون على أوراكهم؟ فقلت: لا أدري والله، قال مالك: يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض، يسجد وهو لاصق بالأرض". وقال مسلم (¬1): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن عمه واسع بن حبان قال: "كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقتي، فقال عبد الله: يقول ناس: إذا قعدت للحاجة تكون لك فلا تقعد مستقبل القبلة ولا بيت المقدس، قال عبد الله: ولقد رقيت على ظهر بيتي فرأيت رسول الله -عليه السلام- قاعدًا على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته". وقال أبو داود (¬2): نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . . إلى آخره، غير أنه اقتصر على قوله: "لقد ارتقيت على ظهر البيت فرأيت. . . ." إلى آخره. وقال الترمذي (¬3): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن ابن عمر قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي -عليه السلام- على حاجته مستقبل الشام مستدبرًا الكعبة". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال النسائي (¬4): أنا قتيبة، عن مالك. . . . إلى آخره نحو رواية أبي داود، غير أن في لفظه: "على ظهر بيتنا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 244 رقم 266). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 4 رقم 12). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 16 رقم 11). (¬4) "المجتبى" (1/ 24 رقم 23).

وقال ابن ماجه (¬1): نا أبو بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا يزيد بن هارون، أنا يحيى بن سعيد، أن محمَّد بن يحيى بن حبان أخبره، أن عمه واسع بن حبان أخبره، أن عبد الله بن عمر قال: "يقول أناس: إذا قعدت للغائط فلا تستقبل القبلة، ولقد ظهرت ذات يوم من الأيام على ظهر بيتنا فرأيت رسول الله -عليه السلام- قاعدًا على لبنتين مستقبل بيت المقدس". الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح، وأنس هو ابن عياض بن ضمرة المدني شيخ الشافعي وأحمد. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا إبراهيم بن المنذر قال: ثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر قال: "ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله -عليه السلام- يقضي حاجته مستدبرًا القبلة، مستقبل الشام". الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود عن هشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬3): ثنا يعقوب بن إبراهيم البزاز وأحمد بن عبد الله الوكيل، قالا: نا الحسن بن عرفة، ثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمَّد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان سمعت ابن عمر يقول: "ظهرت على إجَّار على بيت حفصة في ساعة لم أظن أحدًا يخرج في تلك الساعة، فاطلعت فإذا أنا برسول الله -عليه السلام- على لبنتين مستقبل بيت المقدس". الرابع: عن أحمد بن داود، عن إبراهيم بن الحجاج الشامي الناجي البصري وثقه النسائي وروى له. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 116 رقم 322). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 68 رقم 147). (¬3) "سنن الدارقطني" (1/ 61 رقم 12).

عن وهيب بن خالد روى له الجماعة، عن إسماعيل، عن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص المكي روى له الجماعة، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، وعن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب روى له الجماعة؛ ثلاثتهم عن محمَّد بن يحيى. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): نا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا يزيد، قال: أنا يحيى عن محمَّد بن يحيى بن حبان، أن عمه واسع بن حبان أخبره، أن عبد الله بن عمر أخبره، قال: "لقد ظهرت ذات يوم على ظهر بيتنا، فرأيت رسول الله -عليه السلام- قاعدًا على لبنتين مستقبل بيت المقدس". الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن محمَّد بن يحيى بن حبان. . . . إلى آخره. قوله: "لقد ارتقيت" وفي رواية مسلم "ولقد رقيت" بكسر القاف، ومعناه صعدت، وهذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، وذكر صاحب "المطالع" لغتين أخرتين: إحداهما: فتح القاف بغير همز، والأخرى: فتحها مع الهمز، وقال الجوهري: رِقيت في السلم -بالكسر- رَقْيًا ورُقِيًّا إذا صعدت، وارتقيت مثله. قوله: "على لبنتين" تثنية لَبِنة بفتح اللام وكسر الباء ويجوز إسكان الباء مع [فتحٍ] (¬2) اللام وكسرها وكذلك كل ما كان على هذا الوزن -أعني مفتوح الأول مكسور الثاني- يجوز فيه الأوجه الثلاثة ككتف، فإذا كان ثانيه أو ثالثه حرف حلق جاز فيه وجه رابع، وهو كسر الأول والثاني كفخذ. قوله: "لحاجته" أي لقضاء حاجته. فإن قلت: كيف نظر ابن عمر - رضي الله عنهما - إلى رسول الله -عليه السلام- وهو في تلك الحالة ولا يجوز ذلك؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 68 رقم 148). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها، وانظر "لسان العرب" (مادة: لبن).

قلت: وقعت منه تلك اتفاقًا من غير قصد لذلك أو يحتمل أنه قصد ذلك للتعلم، والأمن من الاطلاع على ما لا يحبّ الاطلاع عليه إذ مقصده الاطلاع على توجه وجهه حين جلوسه ورؤية ظاهره لا غير ذلك؛ ليستدل منه على مراده. قوله: "على إجَّار" بكسر الهمزة وتشديد الجيم، وهو السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه، والإنجار لغة فيه، والجمع الأجاجير والأناجير. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز فذكروا استقبال القبلة بالفرج، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: ذكر عند رسول الله -عليه السلام- أن ناسًا يكرهون استقبال القبلة بالفروج، فقال رسول الله -عليه السلام-: قد فعلوها؟! حولوا مقعدتي نحو القبلة". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا الرجل يجلس على الخلاء فيستقبل القبلة فكرهوا ذلك، فحدث عراك بن مالك، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: أن ذلك ذكر عند رسول الله -عليه السلام-، فقال: أو قد فعلوها؟! حولوا مقعدتي إلى القبلة". ش: هذان طريقان رجالهما ثقات: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت البصري عامل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وثقه ابن حبان، قال البخاري: خالد بن أبي الصلت عن عراك: مرسل. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمَّد، قالا: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 117 رقم 324).

مالك، عن عائشة قالت: "ذكر عند النبي -عليه السلام- قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، فقال: أراهم قد فعلوا؟! استقبلوا بمقعدتي القبلة". الثاني: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬1) بطرق مختلفة. قوله: "حولوا مقعدتي" بفتح الميم، وهو الموقع الذي يقعد عليه قاضي الحاجة. . ص: حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن أبي قتادة: "أنه رأى رسول الله -عليه السلام- يبول مستقبل القبلة". ش: عبد الله بن لهيعة، فيه مقال. وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي. وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة: "أنه رأى النبي -عليه السلام- يبول مستقبل القبلة". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستقبل القبلة ونستدبرها بفروجنا للبول، ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه أبو داود (¬3) قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير قال: ثنا ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 60 رقم 7). (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 15 رقم 10). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 4 رقم 13).

أبي، قال: سمعت محمَّد بن إسحاق يحدث، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى النبي -عليه السلام- أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها". وأخرجه الترمذي (¬1): عن محمَّد بن بشار نحوه، وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضا. ص: فكانت هذه الآثار حجة لأهل هذه المقالة على أهل المقالة الأولى وموجبة الحجة عليهم؛ لأن في هذه الآثار تأخرت الإباحة عن النهي على ما ذكرنا في حديث جابر فهي ناسخة للآثار التي ذكرناها في أول هذا الباب. ش: أراد بهذه الآثار: أحاديث عبد الله بن عمر وعائشة وأبي قتادة وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -، وهذه حجة لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من عدم كراهة استقبال القبلة للغائط والبول في جميع الأماكن على أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من كراهة ذلك في جميع الأماكن وذلك لأن أحاديث هؤلاء تخبر بأن الإباحة قد تأخرت عن النهي عن ذلك، فإذا كان كذلك تصير أحاديث هؤلاء ناسخة للأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهي أحاديث أبي أيوب الأنصاري ورجل من الأنصار وعبد الله بن الحارث بن جزء وسلمان وأبي هريرة ومعقل بن أبي معقل - رضي الله عنهم -. ص: وقد خالف قوم القولين جميعًا؛ فقالوا: بل نقول: إن هذه الآثار كلها لا ينسخ شيء منها شيئًا؛ وذلك أن عبد الله بن الحارث أخبر في حديثه أنه أول من سمع النبي -عليه السلام- ينهى عن ذلك قال: "وأنا أول من حدث الناس بذلك" فقد يجوز أن يكون ذلك النهي لم يقع على البول والغائط في جميع الأماكن ووقع على خاصٍّ منها وهي الصحاري، ثم جاء أبو أيوب فكانت حكايته عن النبي -عليه السلام- هي النهي ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 15 رقم 9). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 117 رقم 325).

خاصة، فذلك يحتمل ما احتمله حديث ابن جزء على ما فسرناه، وكراهة الاستقبال في الكراييس المذكور فيه، فهو عن رأيه، ولم يحكه عن النبي -عليه السلام-. فقد يجوز أن يكون سمع من النبي -عليه السلام- ما سمع، فعلم أن النبي -عليه السلام- أراد به الصحاري، ثم حكم هو للبيوت برأيه بمثل ذلك. ويجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد البيوت والصحاري إلا أنه ليس في ذلك دليل عن النبي -عليه السلام- يبين لنا أنه أراد أحد المعنيين دون الآخر، وحديث عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان وحديث معقل بن أبي معقل وحديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - فما منها عن النبي -عليه السلام- فمثل ذلك أيضًا. ثم عدنا إلى ما رويناه في الإباحة، فهذا ابن عمر يقول: "رأيت النبي -عليه السلام- على ظهر بيت مستقبل القبلة" فاحتمل أن يكون ذلك على الإباحة لذلك في البيوت خاصة، فكان أراد به فيما روي عنه في النهي على الصحاري خاصة، فأولى بنا أن نجعل هذا الحديث زائد على الأحاديث الأُول غير مخالف لها، فيكون هذا على البيوت، وتلك الأحاديث الأُول على الصحاري، وهذا قول مالك بن أنس. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أنه سمع مالكًا يقول ذلك. ثم رجعنا إلى حديث أبي قتادة ففيه أنه رأى النبي -عليه السلام- يبول مستقبل القبلة، فقد يكون رآه حيث رآه ابن عمر فيكون -يعني حديثه، وحديث ابن عمر- سواء، أو يكون رآه في صحراء، فيخالف حديث ابن عمر، وينسخ الأحاديث الأُول فهو عندنا غير ناسخ لها، حتى نعلم يقينا أنه قد نسخها. وأما حديث جابر ففيه النهي عن رسول الله -عليه السلام- عن استقبال القبلة واستدبارها لغائط أو بول، ولم يبين مكانا، فيحتمل أن يكون ذلك أيضًا على ما فسرنا وبَيَّنَّا من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - فلا حجة فيها أيضًا توجب مضادة حديث ابن عمر وأبي قتادة.

قال جابر في حديثه: "ثم رأيت رسول الله -عليه السلام- يبول مستقبل القبلة" فقد يحتمل أن يكون ذلك البول كان في المكان الذي لم يكن نهي رسول الله -عليه السلام- الأوَّل وقع عليه. فلم نعلم شيئًا من هذه الآثار نسخ شيئًا منها شيء، ثم عدنا إلى حديث عراك ففيه أنه ذُكر لرسول الله -عليه السلام- أن أناسًا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله -عليه السلام-: "حولوا مقعدتي مستقبل القبلة". فقد يجوز أن يكون أنكر قولهم لأنهم كرهوا ذلك في جميع الأماكن فأمر بتحويل مقعدته نحو القبلة ليرد عليهم، وليعلم أنه لم يقع نهيه عن ذلك، وإنما وقع النهي عن استقبالها في مكان دون مكان. ويحتمل أن يكون أراد بذلك نسخ النهي الأول في الأماكن كلها؛ لأن النهي كان وقع في الآثار الأُول على ذلك، فليس فيه دليل أيضًا على نسخ ولا على غيره. فلما كان حكم هذه الآثار كذلك كان أولى بنا أن نصصحها كلها، فنجعل ما فيه النهي منها على الصحاري وما [فيه] (¬1) الإباحة على البيوت حتى لا يتضاد منها شيء. وقد حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل (ح). وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن حاتم، عن عيسى بن أبي عيسى الخياط (ح). وحدثنا إسماعيل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا عيسى، عن الشعبي: أنه سأله عن اختلاف هذين الحديثين، فقال الشعبي: صدق والله، أما حديث أبي هريرة فعلى الصحاري "إن لِلَّهِ ملائكة يصلون، فلا تستقبلوهم، وإن حشوشكم هذه لا قبلة فيها". فعلى هذا المعنى تحمل هذه الآثار حتى لا يتضاد منها شيء. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "فيها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرا الشعبي وعبد الله بن المبارك والشافعي ومالكًا وإسحاق بن راهويه وأحمد -في رواية- فإنهم خالفوا القولين المذكورين، أعني قول أهل المقالة الأولى وقول أهل المقالة الثانية، وقالوا بكراهة استقبال القبلة في الصحراء [بالبول] (¬1) والغائط وبعدم كراهيته في البيوت والبنيان، وروي ذلك أيضًا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - وإليه مال الطحاوي على ما يفهم من كلامه وترتيب أقوال أصحاب هذه المقالات. قوله: "فقالوا: بل نقول. . . ." إلى آخره الباب كله ظاهر، وملخصه أن هذه الأحاديث التي رويت في هذا الباب في الفصلين المذكورين كلها محكمة، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وأما حكمها أن نجعل ما فيه النهي منها محمولا على الصحاري، وما فيه الإباحة منها على البيوت والبنيان، وبهذا تتوافق الآثار ويرتفع الخلاف، والدليل على صحة ما ذكرنا قول عامر الشعبي: "أما حديث أبي هريرة فعلى الصحاري. . . ." إلى آخره وإلى هذا ذهب مالك بن أنس في التوفيق بين الأحاديث المذكورة. وقال أبو عمر (¬2): الصحيح عندنا الذي ذهب إليه مالك وأصحابه والشافعي؛ لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها. وقال أبو عمر أيضًا (¬3): أما ما روي عن ابن عمر فنحمله عندنا على أن ذلك في البيوت، وقد بان ذلك برواية مروان بن الأصفر وغيره عن ابن عمر. وأما حديث جابر فليس بصحيح فيعرج عليه؛ لأن أبان بن صالح الذي يرويه ضعيف، وقد رواه ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة، عن النبي -عليه السلام- على خلاف رواية أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر، وهو ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كالبول". (¬2) "التمهيد" (1/ 312). (¬3) "التمهيد" (1/ 311).

حديث لا يحتج بمثله، وأما حديث عائشة فقد رفعه قوم، ولو صح لم يكن فيه خلاف لما ذهبنا إليه، لأن المقعدة لا تكون إلا في البيوت، وليس بذلك بأس عندنا في كنف البيوت، إنما وقع نهيه -والله أعلم- على الصحاري والفيافي والفضاء، وعليه خُرِّجَ حديثه -عليه السلام- لأنه كان متبرز القوم. ألا ترى إلى ما في حديث الإفك في قول عائشة - رضي الله عنها -: وكانت بيوتنا لا مراحيض لها، وإنما أمرنا أمر العرب الأُول" تعني البعد في البراز. وقال أيضًا: ورد أحمد بن حنبل حديث جابر وحديث عائشة الواردين عن النبي -عليه السلام- بالرخصة في هذا الباب، وضعف حديث جابر، وتكلم في حديث عائشة بأنه انفرد به خالد بن أبي الصلت، عن عراك بن مالك، عن عائشة - رضي الله عنها -. قوله: "يبين لنا" جملة في محل الرفع على أنها صفة لقوله "دليل" في قوله: "إلا أنه ليس في ذلك دليل". قوله: "وحديث عبد الرحمن بن يزيد" كلام إضافي مبتدأ، وقوله: "وحديث معقل" عطف عليه وكذلك قوله: "وحديث أبي هريرة"، وقوله: "فما منها" في محل الرفع مبتدأ فإن، وخبره قوله: "فمثل ذلك" والجملة خبر المبتدأ الأول، واسم الإشارة هاهنا أغنى عن العائد. قوله: "فإذا ابن عمر" كلمة "إذا" "هاهنا" للمفاجأة، كما في قولك: خرجت فإذا السبع. قوله: "وقد حدثنا ابن أبي عمران. . . ." إلى آخره ذكره شاهدًا لصحة قوله: "فنجعل ما فيه النهي منها على الصحاري. . . ." إلى آخره. ثم إنه أخرج هذا عن عامر الشعبي من ثلاث طرق: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، نزيل بغداد وشيخ أبي داود، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن عيسى بن أبي عيسى الحناط -بالحاء المهملة والنون- ويقال له: الخباط -بالخاء

المعجمة والباء الموحدة- ويقال له: الخياط -بالخاء المعجمة والياء آخر الحروف- قال ابن سعد: كان يقول: أنا حناط وخباط، وخياط كُلًّا قد عالجت. فيه مقال فعن أحمد: ليس بشيء ضعيف. قال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وهو يروي عن عامر الشعبي. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حاتم بن إسماعيل، عن عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي. الثالث: عن إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي نزيل مصر الملقب بِتَرُنجة، عن عبد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي شيخ البخاري، عن عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي. وأخرج أبو عمر (¬1) نحوه. قوله: "سأله عن اختلاف هذين الحديثين" يعني حديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهم - فقال الشعبي لما سئل عنهما: صدق أبو هريرة وصدق ابن عمر، أما قول أبي هريرة فذلك في الصحاري، وأما قول ابن عمر فذلك في الكنف التي في البيوت ليس فيها قبلة استقبل حيث شئت. قوله: "وإن حشوشكم" جمع حَشَّ -بالحاء المهملة والشين المعجمة المشددة- وهو في الأصل البستان، ولكن أريد بالحشوش الكنف ومواضع قضاء الحاجة، وذلك لأنهم كانوا كثيرًا ما يتغوطون في البساتين. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 308).

ص: باب أكل الثوم والبصل والكراث

ص: باب أكل الثوم والبصل والكراث ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل الثوم والبصل والكراث. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني طلحة بن عمر، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من خضراواتكم هذه ذوات الريح فلا يقربنَّا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". ش: إسناده معلول بطلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي، فإن أحمد قال فيه: لا شيء متروك الحديث. وعن يحيى بن معين: لا شيء ضعيف، وقال البخاري: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له ابن ماجه. وعطاء هو ابن أبي رباح المكي. قوله: "من خضراواتكم" جمع خضراء، والمراد منها نحو الثوم والبصل والكراث، وقيل بين ذلك بقوله: "ذوات الريح". فإن قيل: الخضراء صفة لا اسم، فيكف جمع هذا الجمع، وقياس ما كان على هذا الوزن أن لا يجمع هذا الجمع، وإنما يجمع به ما كان اسمًا لا صفة نحوه صحراء وخنفساء؟ قلت: إنما جمع هذا الجمع باعتبار أنه صار اسمًا لهذه البقول لا صفة، تقول العرب لهذه البقول: الخضراء، لا يريدون لونها، ومن هذا القبيل ما جاء في حديث آخر (¬1): "أتي بقدر فيه خَضِرات" بكسر الضاد، أي يقول، واحدها خضرة. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن جمهور العلماء على أن هذا النهي عام في كل مسجد، وذهب بعضهم أن هذا خاص في مسجد المدينة لأجل ملائكة الوحي وتأذيهم بذلك، ويحتج بظاهر ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث جابر - رضي الله عنه -، البخاري (1/ 292 رقم 817)، ومسلم (1/ 394 رقم 564).

قوله: "فلا يقربنَّا في مساجدنا" وفي رواية أخرى (¬1): "فلا يقرب مسجدنا" وحجة الجماعة ما جاء في رواية أخرى: "فلا يقرب المساجد" ذكرها مسلم (¬2) وغيره، وقاسوا على هذا مجامع الصلاة في غير المساجد، كمصلى العيدين والجنائز ونحوها من مجامع العبادات. وقال عياض: قد ذكر بعض فقهائنا أن حكم مجامع المسلمين فيهم هذا الحكم كمجالس العلم والولائم، وحلق الذكر. الثاني: أن الملائكة تتأذى من الأشياء الكريهة كما يتأذى بنو آدم، فعل هذا يمنع الدخول بهذه الروائح إلى المسجد وإن كان خاليًا؛ لأنه محل الملائكة. الثالث: قالوا: وفي اختصاصه النهي عن دخول المسجد إباحة دخول الأسواق وغيرها بها؛ وذلك لأنه ليس فيها حرمة المساجد ولا هي محل الملائكة لأنه إن تأذى به أحد في سوقه تنحى عنه إلى غيره وجالس سواه، ولا يمكنه ذلك في المسجد لانتظار الصلاة وإن خرج فاتته. الرابع: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه دليل على تفضيل الملائكة على بني آدم، ولا دليل في ذلك، لاسيما مع قوله: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" فقد سواهم؛ ومع قوله: "فلا يؤذينا". الخامس: استدلت به طائفة فيما ذهبوا إليه من عدم جواز أكل الثوم والبصل ونحوهما، على ما يجيء بيانه مفصلًا إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه الشجرة فلا يأتي المساجد". ¬

_ (¬1) أخرجها ابن حبان في "صحيحه" (5/ 440 رقم 2086) من حديث جابر، والطبراني في "الأوسط" (3/ 303 رقم 3230) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 393 رقم 68) بلفظ: "فلا يأتين المساجد".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: أنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه البقلة فلا يقرب المسجد حتى يذهب ريحها -يعني الثوم-". حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن أكل الثوم بخيبر". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني فيه مقال، فعن يحيى: ليس بثقة، وقال النسائي: ليس بشيء. عن عبد الله بن رجاء الغداني عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا محمد بن الصباح، نا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هذه الشجرة شيئًا فلا يأتين المسجد". قوله: "من هذه الشجرة" إشارة إلى شجرة الثوم. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): حدثني عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع وسالم، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية -نهى عن أكل الثوم، عن نافع وحده، ولحوم الحمر الأهلية عن سالم-". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 325 رقم 1016). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1543 رقم 3978).

الثالث: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله ابن صالح المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) من حديث يحيى: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. . . . إلى آخره نحوه، وليس في رواية أبي داود ذكر خيبر. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن شريك بن حنبل، عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه البقلة فلا يقربنا -أو يؤذينا- في مسجدنا". ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري. وقيس هو ابن الربيع الأسدي الكوفي، ضعفه يحيى وقال: لا يكتب حديثه. قال الجوزجاني: ساقط، وقال النسائي: متروك الحديث. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، وشريك بن حنبل العبسي الكوفي، وثقه ابن حبان. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬3): نا محمَّد بن عبد الله المخرمي قال: نا يحيى بن آدم، قال: نا قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن شريك بن حنبل، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا -أو المسجد- يعني الثوم" ولا نعلم روى شريك بن حنبل عن علي إلا هذا الحديث، وقد روى يونس بن أبي إسحاق، عن عمير بن تميم، عن شريك بن حنبل، ولم يقل: عن علي. انتهى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 393 رقم 561). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 361 رقم 3825). (¬3) "مسند البزار" (3/ 50 رقم 805).

قلت: اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه أبو وكيع بن مليح، عن أبي إسحاق، عن شريك بن حنبل، عن علي - رضي الله عنه - قال: "نهي عن أكل الثوم إلا مطبوخًا". قال مسدد، عن أبي وكيع، وخالفه قيس بن الربيع فأوصله، قال: "من أكل من هذه الشجرة. . . ." الحديث، وهو أشبه بالصواب. وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن أبي وكيع الجراح، عن أبي إسحاق، عن شريك، عن علي قال: "نهي عن أكل الثوم إلا مطبوخًا". وأخرجه الترمذي (¬2): من طريق مسدد نحوه، ثم قال: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وقد روي هذا عن علي قوله، وروي عن شريك بن حنبل، عن النبي -عليه السلام- مرسلًا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح الحنفي محمَّد بن عبد الوهاب، قال: ثنا معن بن عيسى، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن محمَّد أن النبي -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن من مساجدنا -يعني الثوم-". ش: رجاله كلهم ثقات، ومعن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي القزاز الكوفي، روى له الجماعة. وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني نزيل بغداد، روى له الجماعة. والزهري هو محمَّد بن مسلم. وعباد بن تميم بن غزية الأنصاري المدني ابن أخي عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري. وعبد الله بن زيد، له ولأبويه صحبة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 361 رقم 3828). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 262 رقم 1808).

والحديث أخرجه الطبراني: نا محمَّد بن هشام المستملي، ثنا علي بن المديني (ح). نا محمَّد بن عبد الله الحضرمي، ثنا ضرار بن صرد أبو نعيم الطحان، قالا: نا معن بن عيسى القزاز، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: "سأل رجل أنسًا: ما سمعت الرسول الله -عليه السلام- يقول في الثوم؟ فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا". ش: أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود. وعبد الوارث هو ابن سعيد العنبري روى له الجماعة، وعبد العزيز بن صهيب البناني الأعمى البصري روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): نا مسدد، نا عبد الوارث، عن عبد العزيز، قال: قيل لأنس: "ما سمعت من النبي -عليه السلام- في الثوم؟ فقال: من أكل فلا يقربن مسجدنا". وأخرجه مسلم (¬2): نا زهير بن حرب قال: ثنا إسماعيل -يعني- ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب، قال: "سئل أنس عن الثوم؟ فقال: قال رسول الله -عليه السلام- من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا, ولا يصلي معنا". ص: حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هذه البقلة فلا يقربنا في مسجدنا -أو لا يقربن مسجدنا-". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2076 رقم 5136). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 394 رقم 562).

ش: محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي. وعبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري. وابن أبي ليلى هو محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه مقال. وعطاء هو ابن أبي رباح. والحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه. فقال البخاري (¬1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا أبو صفوان عبد الله بن سعد، أنا يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء، أن جابر عبد الله زعم عن النبي -عليه السلام- قال: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا-". وقال مسلم (¬2): نا أبو الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، أن جابر بن عبد الله قال -في رواية حرملة: زعم- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل ثومًا أو بصلا فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا. . . .-" الحديث. وقال أبو داود (¬3): نا أحمد بن صالح، [قال: نا ابن وهب] (¬4)، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، أن جابر بن عبد الله قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل. . . ." إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬5): ثنا إسحاق بن منصور، قال ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، قال: أنا عطاء، عن جابر، قال: قال: رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هذه -أو قال مرة: الثوم والبصل والكراث- فلا يقربنا في مسجدنا". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2077 رقم 5137). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 394 رقم 564). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 360 رقم 3822). (¬4) تكررت في "الأصل". (¬5) "جامع الترمذي" (4/ 261 رقم 1806).

وقال النسائي (¬1): أنا إسحاق بن منصور. . . ." إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن بشر بن بشير، عن أبيه -وكان من أصحاب الشجرة- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هذه الشجرة فلا يناجينا". ش: أبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي. وقيس بن الربيع فيه مقال وقد مَرَّ ذكره عن قريب. وبِشْر -بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة- بن بَشِير -على وزن فعيل بفتح الباء- الأسلمي وثقه ابن حبان. وأبوه بشير بن معبد الأسلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا أبو داود الطيالسي (ح). وحدثئا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، نا إبراهيم بن إسحاق الضبي (ح). وحدثنا الحسين بن إسحاق التستري، نا يحيى الحماني، قالوا: نا قيس ابن الربيع، عن بشر بن بشير الأسلمى، عن أبيه -وكانت له صحبة مع النبي -عليه السلام- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أكل من هذه البقل فلا يقربن مسجدنا، يعني الثوم". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا حكم بن عطية، عن أبي الرباب، عن معقل بن يسار قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في مسير له، وإنا نزلنا في مكان فيه شجر ثوم فبثّ أصحابه فيه فأكلوا منه، ثم عدوا إلى المصلى، فوجد النبي -عليه السلام- ريح الثوم، فقال: لا تقربوا هذه الشجرة، قال: ثم جاءوا الثانية إلى المصلى فوجد ريحها، فقال: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن المصلى". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 43 رقم 707). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 41 رقم 1225).

ش: يونس بن محمد بن مسلم البغدادي روى له الجماعة، وحكم بن عطية العيشي -بالشين المعجمة- وثقه يحيى بن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي. وروى له الترمذي، وقال: قد تكلم بعضهم فيه. وأبو الرَّبَاب -بفتح الراء بعدها الباء الموحدة، وفي آخره باء موحدة أخرى- قال ابن ماكولا: أبو الرباب القشيري اسمه مطرف بن مالك روى عن أبي الدرداء، روى عنه محمَّد بن سيرين وغيره. أبو الرباب عن معقل بن يسار قال عبد الغني: لعله الذي قبله. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": مطرف بن مالك أبو الرباب القشيري شهد فتح تستر مع أبي موسى الأشعري، روى عنه زرارة بن أوفى ومحمد بن سيرين، سمعت أبي يقول ذلك. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: مطرف بن مالك أبو الرباب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله بن الزبير، ثنا الحكم بن عطية، عن أبي الرباب قال: سمعت معقل بن يسار يقول: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في مسير له فنزلنا منزلا في مكان كثير الثوم، وإن أناسًا من المسلمين أصابوا منه، ثم جاءوا إلى المصلى يصلون مع النبي -عليه السلام-، فنهاهم عنها [ثم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها، ثم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها] (¬2)، ثم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى فوجد ريحها منهم، فقال: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا". ثم اعلم أن الطحاوي: أخرج أحاديث هذا الباب إلى هاهنا عن ثمانية أنفس من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن زيد بن عاصم وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله وبشير بن معبد الأسلمي ومعقل بن يسار. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 26 رقم 20317). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد"، تكررت ثلاث مرات هكذا.

ولما أخرج الترمذي (¬1) حديث جابر قال: وفي الباب عن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن سمرة وقرة بن إياس المزني وابن عمر - رضي الله عنهم -. قلت: وفي الباب أيضًا عن حذيفة وعقبة بن عامر الجهني والمغيرة بن شعبة وأبي أمامة وسفيان بن وهب الخولاني، وأم أيوب الأنصارية وعائشة - رضي الله عنهم -. أما حديث عمر وأبي أيوب وجابر بن سمرة وقرة بن إياس فقد أخرجه الطحاوي في الفصل الثاني على ما سيجيء، إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم (¬2): حدثني محمَّد بن رافع وعبد بن حميد -قال عبد: أنا، وقال ابن رافع: [ثنا] (¬3) - عبد الرزاق قال: أنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا, ولا يؤذنا بريح الثوم". وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه مسلم (¬4) أيضًا: حدثني عمرو الناقد قال: أنا إسماعيل بن علية، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "لم نعد أن فتحت خيبر، فوقعنا أصحابَ رسول الله -عليه السلام- في تلك البقلة: الثوم والناس جياع، فأكلنا منه أكلا شديدًا ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله -عليه السلام- الريح، فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يغشينا في المسجد، قال الناس: حرمت حرمت، فبلغ ذلك النبي، -عليه السلام- فقال: أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرة أكره ريحها". وأخرجه أبو داود (¬5) أيضًا. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 261 رقم 1806). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 394 رقم 563). (¬3) في "الأصل، ك": "نا"، وفي "صحيح مسلم" "حدثنا". وعلى ذلك فاختصارها "ثنا"، وإلا فلا فرق بين "نا"، و"أنا" فكلاهما بمعنى "أخبرنا". (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 395 رقم 565). (¬5) "سنن أبي داود" (3/ 360 رقم 3823).

وأما حديث حذيفة: فأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن حذيفة -أظنه- عن رسول الله -عليه السلام- قال: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفلة بين عينيه، ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثًا". وأما حديث عقبة بن عامر: فأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا حرملة بن يحيى، نا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن عثمان بن نعيم، عن المغيرة بن نهيك، عن دخين الحجري أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يقول: إن رسول الله -عليه السلام- قال لأصحابه: "لا تأكلوا البصل، ثم قال كلمة خفية: النيء". وأما حديث المغيرة بن شعبة وأبي أمامة وسفيان بن وهب، وأم أيوب الأنصارية: فأخرجه الطحاوي على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا إبراهيم بن موسى، قال: أنا. وثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن [بحير] (¬4) عن خالد، عن أبي زياد خيار بن سلمة: "أنه سأل عائشة عن البصل، فقالت: إن آخر طعام أكله رسول الله -عليه السلام- طعام فيه بصل". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 360 رقم 3824). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 117 رقم 3366). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 361 رقم 3829). (¬4) في "الأصل، ك": "محمَّد"، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود"، و"مسند أحمد" (6/ 89 رقم 24629)، و"السنن الكبرى" للنسائي (4/ 158 رقم 6680)، و"سنن البيهقي الكبرى" (3/ 77 رقم 4841)، وهو بحير بن سعد كما جاء مصرحًا به في "مسند أحمد".

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكره قوم أكل البقول ذوات الريح أصلًا، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: شريك بن حنبل الكوفي، وعطاء، وطائفة من الظاهرية؛ فإنهم ذهبوا إلى كراهة أكل البقول ذوات الريح نحو الثوم والبصل والكراث والفجل إذا تُجُشِّيء منه، ونحو ذلك، سواء كان نيئا أو مطبوخًا، وروي ذلك أيضًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وروينا عن علي بن أبي طالب، وشريك بن حنبل من التابعين: تحريم الثوم النيء. قال عليّ (¬2): ليس حرامًا؛ لأن النبي -عليه السلام- أباحه في الأخبار. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: إنما نهى النبي -عليه السلام- عن أكلها لا لأنها حرام، ولكن لئلا يؤذي بريحها من يحضر معه المسجد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء من السلف وأئمة الفتوى منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا يكره أكل البقول ذوات الريح، وذلك لأن نهي النبي -عليه السلام- عن أهلها لم يكن لأجل أنها حرام، ولكن لئلا يؤذي آكلها بريحها من يحضر معه المساجد. قال عياض: النهي عن حضور المساجد لمن أكلها ليس بتحريم لها؛ بدليل إباحة النبي -عليه السلام- إياها لمن حضره من أصحابه وتخصيصه نفسه بالعلة التي ذكرها من قوله: "وإني أناجي من لا تناجي" وبقوله: "وليس لي تحريم ما أحل الله، ولكني أكرهها" وكذلك حكم أكل الفجل لمن يتجشئ منه أو غير ذلك مما تستفيح رائحته ويتأذى به. ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 49). (¬2) هو علي بن أحمد وهو ابن حزم، كما في "المحلى".

وقد ذكر أبو عبد الله بن المرابط في "شرحه": أن حكم من به داء البخر في فيه، أو به جرح له رائحة، هذا الحكم. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ومن أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثا ففرض عليه أن لا يصلي في المسجد حتي تذهب الرائحة، وفرضٌ إخراجه من المسجد إن دخله قبل انقطاع الرائحة، فإن صلى في المسجد كذلك فلا صلاة له، ولا يمنع أحد من المسجد غير من ذكرنا، لا أبخر ولا مجذوم ولا ذو عاهة. ص: وقد جاء في ذلك آثار أُخر ما قد دل على ذلك: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "يا أيها الناس، إنكم لتأكلون من شجرتين خبيثتين، هذا الثوم وهذا البصل، ولقد كنت أرى الرجل على عهد رسول الله -عليه السلام- يوجد منه ريحه، فيؤخذ بيده فيخرج إلى البقيع، فمن كان آكلهما فليطبخهما طبخًا". فهذا عمر - رضي الله عنه - قد أخبر بما كانوا يصنعون بمن أكلهما على عهد رسول الله -عليه السلام- وقد أباح هو أكلهما بعد أن يُماتا طبخًا، فدل ذلك على أن النهي عنه لم يكن للتحريم. ش: أي قد جاء فيما ذكرنا من أن النهي عن أكل البقول ذوات الريح لا لأنها حرام آثار أُخَر، ما قد دل على ما ذكرنا، منها حديث عمر - رضي الله عنه - أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2) مطولا: ثنا محمَّد بن مثنى، قال: نا يحيى بن سعيد، قال: نا هشام، قال: ثنا قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أبا بكر - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 48). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 396 رقم 567).

قال: إني رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي وإن أقوامًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله تعالى لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيه -عليه السلام-، فإن عُجِّل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله -عليه السلام- وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإِسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال، ثم إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله -عليه السلام- في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بأصبعه في صدري فقال: يا عمر ألا [تكفيك] (¬1) آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وإني إن أعش أقضي فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن، ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إلى ما أشكل عليهم من أمرهم، ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت رسول الله -عليه السلام- إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا". قوله: "خبيثتين" أراد بالخبيثة النتنة، والعرب تطلق الخبيث على كل مذموم ومكروه من قول أو فعل أو مال أو طعام أو شخص. قوله: "فليطبخهما طبخًا" وفي رواية مسلم: "فليمتهما طبخًا" ومعناهما واحد لأن المراد إذهاب رائحتهما وكسر قوة كل شيء إماتته، ومثله: قتلت الخمر إذا مزجتها بالماء فكسرتها. قال القاضي: هذا يدل على أن النهي في النيء لأن الطبيخ يذهب ريحهما. قال: وفيه دليل على إخراج من وجدت رائحتهما منه من المسجد، وإخراجه إلى البقيع: إبعاد له عن المسجد ورحابه، إذ حكمهما في أداء المصلين فيها حكم المسجد. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وقال الخطابي: وقد عد قوم أن أكل الثوم من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجماعة لهذا الحديث، ولا حجة في هذا لأن الحديث إنما ورد مورد التوبيخ والعقوبة لآكلها؛ لما حرمه من فضيلة الجماعة. ص: وقد حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا خالد بن ميسرة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخًا". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد أباح أكلهما بعد ذهاب ريحهما، فدل ذلك أن نهيه عن أكلهما إنما كان كراهية ريحهما لا لأنهما حرام في أنفسهما. ش: من الآثار التي دلت على ما ذهب إليه الجمهور: حديث قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزني الصحابي. أخرجه بإسناد صحيح، عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يونس بن محمَّد بن مسلم البغدادي المؤدب، عن خالد بن ميسرة العطار البصري، عن معاوية بن قرة، عن أبيه. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا عبد الملك بن عمرو أبو عامر، قال: نا خالد بن ميسرة -يعني العطار- عن معاوية بن قرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن هاتين الشجرتين، وقال: من أكلهما فلا يقربن مسجدنا، وقال: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخًا". ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا أبو هلال الراسبي وغيره، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن المغيرة بن شعبة، قال: "أكلت الثوم على عهد رسول الله -عليه السلام- فأتيت المسجد وقد سبقت بركعة، فدخلت معهم في الصلاة فوجد رسول الله -عليه السلام- ريحه، فلما سلم قال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا حتى يذهب ريحها، فأتممت صلاتي، فلما ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 361 رقم 3827).

سلمت قلت: يا رسول الله أقسمت عليك إلا أعطيتني يدك، فناولني يده فأدخلتها في كمي حتى انتهيت إلي صدري فوجده معصوبًا فقال: إن لك عذرًا". ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا في مسجدنا حتى يذهب ريحها" دليل على أنه إنما نهى عن أكلها لئلا يؤذي ريحها من يحضر المسجد؛ لا لأن أكلها حرام". ش: من الآثار التي دلت على ما ذهب إليه الجمهور حديث المغيرة بن شعبة. أخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن أبي هلال محمَّد بن سليم الراسبي وغيره، عن حميد بن هلال بن هبيرة البصري، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، عن المغيرة بن شعبة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن شيبان بن فروخ، عن أبي هلال الراسبي. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "معصوبًا" أي مشدودًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل من طعام بعث بفضله إلى أبي أيوب، قال: فبعث إليه ذات يوم بقصعة لم يأكل منها، فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: لا ولكن كرهته لريحه، قال: فأنا أكره ما كرهت". ش: من الآثار التي دلت على ما ذهب إليه الجمهور حديث جابر بن سمرة، أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة بن الحجاج، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 361 رقم 3826).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ص: حدثنا يونس قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه قال: "نزلت على أم أيوب الأنصارية التي كان النبي -عليه السلام- نزل عليهم، فحدثتني أنهم تكلفوا له طعامًا فيه بعض هذه البقول، فأتوا به فكرهه، فقال لأصحابه: كلوه فإني لست كأحدكم، إني أخاف أن أؤذي صاحبي". وحدثنا يونس مرة أخرى، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله، قال: سمعت أم أيوب الأنصارية، قالت: "نزل عليّ رسول الله -عليه السلام- فقربت إليه طعامًا فيه من بعض هذه البقول، فلم يأكله، وقال: إني أكره أن أؤذي صاحبي". ش: هذان إسنادان رجالهما ثقات: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى آل قارظ، عن أبيه أبي يزيد، عن أم أيوب الأنصارية زوج أبي أيوب الأنصاري. وأخرجه الترمذي (¬2): نا الحسن بن صباح، نا سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره نحوه. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره. الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أم أيوب. من دون ذكر أبيه بينه وبين أم أيوب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 261 رقم 1807). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 262 رقم 1810). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1116 رقم 3364).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي رهم السماعي، أن أبا أيوب حدثه قال: "قلت: يا رسول الله، كنت ترسل بالطعام فأنظر فيه، فإذا رأيت أثر أصابعك وضعت يدي فيه، حتى كان هذا الطعام الذي أرسلت به، فنظرت فيه فلم أر فيه أثر أصابعك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أجل إن فيه بصلًا فكرهت أن آكله من أجل الملك الذي يأتيني، وأما أنتم فكلوه". حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عباس بن الوليد الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي أمامة، عن أبي أيوب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، غير أنه لم يسم الشجرة. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن الحارث، عن بكر بن سوادة أن سفيان بن وهب حدثه عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله -عليه السلام- بنحوه، إلا أنه قال: "بصل أو كراث" وزاد في آخره: "ليس بمحرم". فقد أباح رسول الله -عليه السلام- في هذه الآثار للناس أكل البصل والكراث، وأن ذلك غير محرم. ش: من الآثار التي دلت على ما ذهب إليه الجمهور حديث أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. أخرجه من أربع طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم السماعي واسمه أحزاب ذكره ابن يونس في

"تاريخ مصر"، وقال: أبو رهم السماعي وهو الجرهمي قديم الموت، روى عن أبي أيوب الأنصاري روى عنه عبد الرحمن بن شماسة وأبو الخير وغيرهما. والحديث أخرجه أحمد (¬1) بأتم منه: نا يونس، نا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي رهم السماعي، أن أبا أيوب حدثه: "أن رسول الله -عليه السلام- نزل بيتا الأسفل وكنت في الغرفة فأهريق ماء في الغرفة، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا نتبع الماء؛ شفقة أن يخلص الماء إلى رسول الله -عليه السلام- فنزلت إلى رسول الله -عليه السلام-، وأنا مشفق، فقلت: يا رسول الله، إنه ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر النبي -عليه السلام- بمتاعه فنقل، فقلت: يا رسول الله، كنت ترسل إليّ بالطعام، فأنظر، فإذا رأيت أثر أصابعك وضعت يدي فيه، حتى إذا كان هذا الطعام الذي أرسلت به إليّ، فنظرت فيه، فلم أر فيه أثر أصابعك، فقال رسول الله -عليه السلام-: أجل إن فيه بصلًا، فكرهت أن آكله من أجل الملك الذي يأتيني، وأما أنتم فكلوه". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن المقرئ -واسمه عبد الله بن يزيد- شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب. . . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- الرقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى ابن عبد الأعلى السامي البصري، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني أبي الخير المصري، عن أبي أمامة صدي بن عجلان الصحابي، عن أبي أيوب. أخرجه الطبراني (¬2): نا معاذ بن المثنى، ثنا يحيي بن معين (ح). وحدثنا محمَّد بن علي الناقد البصري ثنا نصر بن علي، قالا: ثنا وهب بن جرير، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 420 رقم 23616). (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 119 رقم 3855).

ثنا أبي، قال: سمعت محمَّد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي أمامة، عن أبي أيوب - رضي الله عنهما - قال: "لما نزل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: بأبي وأمي، إني أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل مني، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن الأرفق بنا أن نكون في السفل؛ لمن يغشانا من الناس. فلقد رأيت جرة لنا انكسرت فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها، فننشف بها الماء فرقًا من أن يصل إلى رسول الله -عليه السلام- منه شيء يؤذيه، وكنا نصنع طعامًا فإذا رد ما بقي منه تيممنا مواضع أصابعه، فأكلنا منها [نريد] (¬1) بذلك البركة، فرد علينا عشاءه ليلة، وكنا جعلنا فيه ثومًا -أو بصلًا- فلم نر فيه أثر أصابعه، فذكرت له الذي كنا نصنع والذي رأينا من رده الطعام ولم يأكل، فقال: إني وجدت منه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجى، فلم أحب أن يوجد مني ريحه، فأما أنتم فكلوه". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، عن بكر بن سوادة بن ثمامة المصري، عن سفيان بن وهب الصحابي المصري، عن أبي أيوب الأنصاري. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا يحيي بن عثمان بن صالح، ثنا أصبغ (ح). وحدثنا أحمد بن رشدين، ثنا أحمد بن صالح، قالا: ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، أن سفيان بن وهب حدثه، عن أبي أيوب: "أن رسول الله -عليه السلام- أرسل إليه بطعام مع خضرة فيه بصل -أو كراث- لم ير فيه أثر أصابع رسول الله -عليه السلام- فأبى أن يأكله، فقال له رسول الله -عليه السلام-: ما منعك أن تأكل؟! قال: لم أر فيه أثرك يا رسول الله، قال رسول الله -عليه السلام-: استحي من ملائكة الله، وليس بمحرم". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ما نريد"، و"ما" هاهنا زائد، وليست في "المعجم الكبير". (¬2) "المعجم الكبير" (4/ 157 رقم 3996).

ص: فإن قال قائل: هذا الذي ذكرت إنما هو على ما كان منهما قد طبخ، فأما ما كان غير مطبوخ فهو داخل في النهي الذي في الآثار الأول. قيل له: قد قال رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا عنه من هذه الآثار: "إنما كرهته لريحه" وقد أباح أصحابه أكله، فلما كانت ريحه فيه قائمةً بعد الطبخ كان على حكمه، إذ كان إنما كره أكله فيهما جميعًا من أجل ريحه، فدل أن إباحة أكله لهم بعد الطبخ وريحه موجودة على أن أكلهم إياه قبل الطبخ مباح لهم أيضًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الذي يُفهم من الأحاديث من الإباحة هو ما كان منهما -أي: من الثوم والبصل- مطبوخًا، فأما النيئ منهما فهو داخل في النهي المذكور في الأحاديث الأُول. والجواب ظاهر. قوله: "إذ كان" كلمة "إذْ" للتعليل. ص: وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، أن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- فيقعد في بيته، وإنه أتي بقدر -أو ببدر- طبق فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحًا، فسأل عنها، فأُخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكله، قال: كل، فإني أناجي من لا تناجي". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أكل الكراث فلا يغشانا في مساجدنا حتى يذهب ريحها؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان". حدثنا عبد العزيز بن معاوية العتابي، قال: ثنا عبد الله بن رجاء (ح). وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوار، قالا: أنا إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن حبَّة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- أن نأكل الثوم، وقال: لولا أن الملك ينزل عليَّ لأكلته".

فقد دل ما ذكرنا على إباحة أكلها مطبوخًا كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وكراهة حضور المسجد وريحه موجود؛ لئلا يؤذي بذلك من يحضره من الملائكة وبني آدم. فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أخرج حديث جابر وعلي - رضي الله عنهما - شاهدًا لما قاله من أن أكل الثوم قبل الطبخ أيضًا مباح كما هو مباح بعده. وأخرج حديث جابر من طريقين صحيحين رجالهما رجال الصحيح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر - رضي الله عنه -. أخرجه مسلم (¬1): عن أبي الطاهر وحرملة، كلاهما عن ابن وهب. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب عن عبد الملك بن جريج عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر. وأخرجه مسلم (¬2): من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أكل من هذه البقلة -الثوم- وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". وفي لفظ له (1): "من أكل من هذه الشجرة -يريد الثوم- فلا يغشينا في مسجدنا" ولم يذكر البصل والكراث. قوله: "أو ببدر" شك من الرواي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 394 رقم 564). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 395 رقم 564).

قال القاضي عياض: قالوا: ولعل قولهم "قدر" تصحيف من الرواة، وذلك أن في كتاب أبي داود: "أنه -عليه السلام- أُتي ببدر"، والبدر هاهنا الطبق، شُبِّهَ بذلك لاستدارته كاستدارة البدر. ثم قال: والصواب: "ببدر" أي طبق، وكذا ذكره البخاري عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب في هذا الحديث، وقال: "أتي ببدر" وقال ابن وهب: يعني طبقًا، وذكر ابن عفير. رواه عنه "بقدر". قلت: الصواب ما قاله القاضي أنه "ببدر" لأن في نسخة القدر قالوا: ظاهر هذا أن الكراهة باقية مع الطبخ، وهذا خلاف للحديث الذي فيه: "فمن أكلهما فليمتهما طبخًا" فإذا كانت النسخة "بدرًا" لم يكن هذا مناقضًا لحديث الطبخ؛ لأنه يحتمل حينئذ أن يكون كانت نيئة؛ فافهم. قوله: "طبق" بالجر، عطف بيان، من قوله: "ببدر"، وهو ليس بموجود في غالب النسخ، والصواب تركه. قوله: "خَضِرات" بفتح الخاء وكسر الضاد، جمع خَضِرة. وأخرج حديث علي - رضي الله عنه - أيضًا من طريقين: الأول: عن عبد العزيز بن معاوية بن عبد العزيز العتابي البصري، عن عبد الله ابن رجاء بن عمر الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مسلم بن كيسان الضبي الملائي البراد الكوفي الأعور، فيه مقال، فعن يحيي: لا شيء. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث. وعن النسائي: متروك. وهو يروي عن حَبَّة -بالحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن جوين البجلي الكوفي، قال الطبراني: يقال: إنه رأى رسول الله -عليه السلام-، وفي "الميزان": حبَّة العرني الكوفي، عن عليّ، من غلاة الشيعة، وهو الذي حدث أن عليًّا - رضي الله عنه - كان معه بصفين ثمانون بدريًّا، وهذا غال، وقال العجلي: تابعي ثقة.

الثاني: عن علي بن حسين بن نصر بن المعارك، عن شبابة بن سوار الفزاري، عن إسرائيل. . . . إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): نا عبد الله بن سعيد، قال: نا عقبة بن خالد، عن إسرائيل، عن مسلم، عن حبَّة -يعني ابن جوين العرني- عن علي (ح). ثنا محمد بن عمر، نا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن مسلم، عن حبَّة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل الثوم، وقال: لولا أن الملك ينزل عليّ لأكلته". وهو حديث لا نعلم رواه عن النبي -عليه السلام- إلا عليّ بهذا الإسناد. قوله: "لا يغشينا" أي لا يقربنا. وقوله: "أمرنا أن نأكل الثوم" الأمر به أمر إباحة. فافهم. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 317 رقم 747، 748).

ص: باب الرجل يمر بالحائط أله أن يأكل منه أم لا؟

ص: باب الرجل يمر بالحائط أله أن يأكل منه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يمر بالبستان، هل يجوز له أن يأكل من ثماره بغير إذن أصحابه أم لا؟. والحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط أي جدار، ويجمع على حوائط، والحديقة أعم منه؛ لأنه يقال للقطعة من النخيل: حديقة، وإن لم يكن محاطًا بها، ويقال: الحديقة كل ما أحاط به البناء من البساتين وغيرها. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا علي بن عاصم، قال: أنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري -قال: أحسبه- عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا أتى أحدكم على حائط فليناد صاحبه ثلاث مرات، فإن أجابه وإلا فليأكل من غير أن يفسد، وإذا أتى على غنم فليناد صاحبه ثلاث مرات، فإن أجابه وإلا فليشرب من غير أن يفسد". ش: علي بن عاصم بن صهيب بن سنان الواسطي، شيخ أحمد روى عنه ووثقه. والجريري هو سعيد، نسبته إلى جُرير -بضم الجيم- وهو [ابن] (¬1) عباد أخو الحارث بن عباد بن ضُبيعة بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وأبو نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك العبدي البصري، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا مؤمل بن إسماعيل ثنا حماد -يعني ابن سلمة- ثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا أتى أحدكم حائطًا فأراد أن يأكل فليناد صاحب الحائط ثلاثًا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أخو"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 7 رقم 11060).

أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل -أو يا راعي الإبل- فإن أجابه وإلا فليشرب، والضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة". فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: صحيح، ولهذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1) من طريق يزيد بن هارون، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. فإن قيل: قد أخرج البيهقي (¬2) هذا الحديث من حديث يزيد بن هارون، ثم علله بأن يزيد روى عن الجريري بعد اختلاطه، ثم قال: رواه حماد بن سلمة، عن الجريري، وليس بالقوي. قلت: قال الذهبي في "مختصره سنن البيهقي": هذا قلة إنصاف، حماد ثقة ومع هذا فما تفرد بالحديث فصح أن الجريري رواه في صحته وبانضمام هذا إلى ما قبله يصير سنة ثابتة. قلت: حماد بن سلمة أخرج له مسلم، وذكره أبو الوليد الباجي في "رجال البخاري" وقال العجلي: روى عن الجريري في الاختلاط: يزيد بن هارون وابن المبارك وابن عدي، كل ما روى عنه مثل هؤلاء الصغار فهو مختلط، وإنما الصحيح: حماد بن سلمة وابن علية وعبد الأعلى، من أصحهم سماعًا منه. قوله: "من غير أن يفسد" أراد أنه لا يأكل أكثر من سَدِّ جوعته، ولا يحمل منه شيئًا غير أكله، ولا يعطي الإنسان. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فجعلوا لمن مر بحائط أن ينادي صاحبه ثلاثًا، فإن أجابه، وإلا فأكل وكذلك في الغنم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وزيد بن وهب الجهني، وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: من مَرَّ ببستان، ينادي صاحبه ثلاثًا، فإن أجابه وإلا فأكل وكذا ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (12/ 87 رقم 5281). (¬2) "السنن الكبرى" (9/ 359 رقم 19439).

إذا مَرَّ على غنم قوم ينادي: يا صاحب الغنم -أو يا راعي الغنم- ثلاثًا، فإن أجاب، وإلا شرب من لبنها. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يأكل من غير ضرورة، فإن كانت ضرورة فالأكل والشرب له مباح. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور العلماء وفقهاء الأمصار منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا يجوز لأحد أن يأكل من بستان أحد ولا يشرب من لبن غنمه إلا بإذن صاحبه، اللهم إلا إذا كان مضطرًا، فحينئذ يجوز له بغير إذن قدر دفع الحاجة. ص: وقد روي عن أبي سعيد في غير هذا الحديث ما يدل على أن الإباحة المذكورة في هذا الحديث هي على الضرورة، فذكروا ما حدثنا فهد، قال: ثنا مخول بن إبراهيم، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الله بن عصمة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "إذا أرمل القوم فصبحوا الإبل فلينادوا الراعي ثلاثًا، فإن لم يجدوا الراعي، ووجدوا الإبل فليتصبحوا لبن الراوية إن كان في الإبل راوية، ولا حق لهم في بقيتها، فإن جاء الراعي فليمسكه رجلان ولا يقاتلوه، وليشربوا فإن كان معهم دراهم فهو عليهم حرام إلا بإذن أهله". ففي هذا الحديث دليل على أن ما أبيح من ذلك في هذا الحديث الأول إنما هو على الضرورة. ش: هذا جواب عن حديث أبي سعيد المذكور الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. تقريره أن يقال: إن استدلالهم بالحديث المذكور لا يتم ولا يستقيم؛ لأنه قد دَلَّ حديث أبي سعيد الآخر أن معناه محمول على حالة الضرورة، ونحن أيضًا نقول: إن الضرورة تبيح الأكل من ثمار غيره والشرب من لبن غيره ونحو ذلك؛ قدر ما يدفع جوعته.

وقد قال البيهقي (¬1): هذا الحديث محمول عندنا على الضرورة وقال: قال الشافعي: من مر لرجل بزرع أو تمر أو ماشية، أو غير ذلك من ماله؛ لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذنه؛ لأن هذا مما لم يأت فيه كتاب ولا سنة ثابتة بإباحته. قال: وقد قيل: من مر بحائط فليأكل ولا يتخذ خُبنة ولم يثبت الحديث. قوله: "فذكروا" أي الآخرون ذكروا، ما حدثنا فهد بن سليمان، عن مخول بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الكوفي. قال الذهبي: رافضي بغيض، صدوق في نفسه، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق روى له الجماعة. عن عبد الله بن عصمة الجشمي وثقه ابن حبان (¬2). وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الله بن عصمة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "لا يحل لرجل أن يحلب ناقة رجل مصرورة إلا بإذن صاحبها، ألا إن خاتمها صرارها، فإن أرمل القوم فليناد الراعي ثلاثًا، فإن أجاب شربوا، وإلا فليمسكه رجلان وليشربوا". وأخرجه البيهقي (¬4): من حديث أبي عبيد، ثنا شريك، عن عبد الله بن عصم سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "لا يحل لأحد أن يحل صرار ناقة إلا أن يأذن أهلها، فإن خاتم أهلها عليها، قيل لشريك: أرفعه؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (9/ 358 رقم 19432). (¬2) هذا وهم، والصواب أنه عبد الله بن عصم -ويقال عصمة- أبو علوان الحنفي العجلي، فهو الذي يروي عن أبي سعيد الخدري، ويروي عنه إسرائيل بن يونس، وشريك بن عبد الله. ووقع في بعض نسخ البيهقي و"مسند أحمد": "بن عاصم"، وهو خطأ. أما عبد الله بن عصمة الجشمي فهو غير هذا. انظر ترجمتهما في "تهذيب الكمال"، وقد عينه المؤلف على الصواب بعد ذلك. (¬3) "مصنف أبي شيبة" (4/ 479 رقم 22301). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 360 رقم 19440).

قوله: "إذا أرمل القوم" أي إذا نفد زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل كما قيل للفقير: أترب. قوله: "لبن الراوية" الراوية من الإبل: الحاملة للماء، ويجمع على روايا، وبه سميت المزادة راوية والمراد بها هاهنا الحاملة للبن المحلوب. ص: وقد جاء عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الحديث ما يدل على هذا المعنى أيضًا. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا إسحاق بن بكر بن مضر، قال: ثنا أبي، عن يزيد ابن الهاد، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فيحمل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحتلبن أحدكم ماشية امرئ إلا بإذنه". حدثنا بكار، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: ذكر حديث ابن عمر شاهدًا لما قاله من أن حديث أبي سعيد الخدري محمول على حالة الضرورة. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن إسحاق بن بكر بن مضر المصري شيخ مسلم والنسائي، عن أبي بكر بن محمَّد المصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، روى له الجماعة. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 971 رقم 1745).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). الثاني: عن بكار بن قتيبة، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي المكي، عن نافع. . . . إلى آخره. قوله: "مشربته" المشربة -بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء وفتحها- الغرفة. وقال أبو عمر: ودليل هذا الحديث يقتضي بأن كل ما يختزن فيه الطعام فهو مشربة. و"الخزانة" بكسر الخاء واحدة الخزائن وأصلها من الخزن، وهو الحفظ. قوله: "فيحمل طعامه" وفي رواية "الموطأ": "فينتقل طعامه". قال أبو عمر: ويروى فينتثل، معناه: يُخْرج، وأصل الانتئال: الاستخراج، ومن رواه: "ينتقل" فالانتقال معروف، وهو أبين. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه النهي عن أن يأكل أحد أو يشرب أو يأخذ من مال أخيه شيئًا إلا بإذنه، وذلك -والله أعلم- عند أهل العلم محمول على ما لا تطيب به نفس صاحبه. الثاني: فيه أن اللبن يُسمَّي طعامًا، وقد قال الله في ماء النهر: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬3) وعلى هذا قد اختلف الفقهاء في بيع الشاة اللبون باللبن وبسائر الطعام نقدًا، أو إلى أجل، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا بأس بالشاة اللبون باللبن يدًا بيدٍ ما لم يكن في ضرعها لبن، وإن كان في ضرعها لبن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 858 رقم 2303). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1352 رقم 1726). (¬3) سورة البقرة، آية: [249].

لم يجز يدًا بيد باللبن؛ من أجل المزابنة، ولا يجوز عندهم بيع الشاة اللبون باللبن إلى أجل، فإن كانت الشاة غير لبون جاز في ذلك الأجل وغيره. وقال مالك: ولا بأس بالشاة اللبون بطعام إلى أجل؛ لأن اللبن من الشاة، وليس الطعام منها، قال: والشاة بطعام إلى أجل إذا لم تكن شاة لحم جائز، وإن أريد بها الذبح. فإن كانت شاة لحم فلا، وكذلك المسمى إلى أجل بشاة لبون لا يجوز، وإن لم يكن فيها لبن جاز. وقال الأوزاعي: يجوز شراء زيتونة فيها زيت بزيتون، وشاة في ضرعها لبن بلبن؛ لأن الزيتون في شجرة واللبن في الضرع لغو. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع الشاة اللبون بالطعام إلى أجل، ولا يجوز عند الشافعي بيع شاة في ضرعها لبن بشيء من اللبن، لا يدًا بيدٍ، ولا إلى أجل. الثالث: قال أبو عمر (¬1): استدل به أصحابنا وغيرهم ما يرد قول من ذهب إلى أن للمرتهن الشاة أو البقرة أو الدابة أن يحلب أو يركب ذلك الرهن ويكون عليه نفقة الدابة أو البقرة أو رعيها، ورعي الشاة ونفقتها، وممن ذهب إلى هذا: أحمد وإسحاق. الرابع: قال أبو عمر (¬2): فيه ما يدل على أن من حلب من ضرع الشاة أو البقرة بعد أن تكون في حرز ما يبلغ قيمته ما يجب فيه القطع؛ أن عليه القطع، لأن الحديث قد أفصح بأن الضروع خزائن الطعام، ومعلوم أن من فتح خزائن غيره، أو كسرها، فاستخرج منها من المال -الطعام وغيره- ما يبلغ ثلاثة دارهم أنه يُقطع، فإذا كان القطع يجب على من يسرق الشاة نفسها من مراحها وحرزها ولم تكن حريسة حبل؛ فاللبن بذلك أولى، وإذا كانت الشاة في غير حرز فلبنها تابع لها. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (14/ 215). (¬2) "التمهيد" (14/ 212).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن الصباح، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن عبد الله بن عصم، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - رفعه قال: "لا يحل لأحد يحل صرار ناقة إلا بإذن أهلها، فإنه خاتمهم عليها". ش: محمَّد بن الصباح الدولابي البغدادي البزاز شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، وعبد الله بن عصم الحنفي من أهل البادية وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ كثيرًا. ثم أخرج حديثه هذا في ترجمة عبد الله بن عصم (¬1): ثنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شريك بن عبد الله، عن عبد الله بن عصم الحنفي، سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل صرار ناقة بغير إذن أهلها، فإنه خاتم أهلها عليها، وإن كنتم مرملين فرأيتم الراوية والرطب والسقاء من الإبل فنادوا صاحب الإبل ثلاثًا، فإن سقاكم فاشربوا، وإن كنتم مرملين ولم يكن معكم طعام فليمسكه رجلان منكم ثم اشربوا، ثم صروها". قوله: "صرار ناقة" بكسر الصاد وتخفيف الراء، ومن عادة العرب أن تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلوها إلى المراعي سارحة، ويسمون ذلك الرباط: صرارًا، فإذا راحت عشيًّا حلت تلك الأصرة وحلبت، فهي مصرورة ومصرّرة. قوله: "مرملين" من أرمل القوم إذا نفد زادهم. قوله: "الوطب" بفتح الواو هو الزِّق الذي يكون فيه السمن واللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه، ويجمع على أوطاب ووطاب. و"السقاء" بكسر السين، وهو الدلو. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن سهل، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي حميد الساعدي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "الثقات" لابن حبان (5/ 57).

قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه، قال: وذلك لشدة ما حرم الله على المسلمين من مال المسلم". ش: أبو عامر عبد الله بن عمرو العقدي. وسليمان بن بلال القرشي، روى له الجماعة. سهيل بن أبي صالح ذكوان، روى له الجماعة؛ البخاري مقرونا بغيره. وعبد الرحمن بن سعد بن مالك الأنصاري أبو محمَّد بن أبي سعيد الخدري، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. وأبو حميد الساعدي قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل غير ذلك. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبيد الله بن أبي قرة، ثنا سليمان، حدثني سهيل، حدثني عبد الرحمن بن سعد، عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه، وذلك لشدة ما حرم رسول الله -عليه السلام- من مال المسلم على المسلم". ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل قال: ثنا عبد الملك بن الحسن، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة ابن حارثة، عن عمرو بن يثربي، قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام- فقال: لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه، قال: قلت: يا رسول الله إن لقيتُ غنم ابن عمي، آخذ منها شيئًا؟ فقال: إن لقيتها نعجة تخمل شفرة وزنادًا بخبت الجميش فلا تهجها". ش: إسناده حسن جيد، وأصبغ شيخ البخاري، وحاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 425 رقم 23654).

وعبد الملك بن حسن بن أبي حكيم البخاري أبو مروان المدني الأحول، مولى بني أمية، عن يحيي: ثقة. وعن أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ. روى له النسائي. وعمارة بن حارثة الضمري وثقه ابن حبان. وعمرو بن يثربي الضمري، الحجازي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا أبو عامر، نا عبد الملك -يعني ابن الحسن الحارثي- ثنا عبد الرحمن بن أبي سعيد، قال: سمعت عمارة بن حارثة الضمري يحدث عن عمرو بن يثربي الضمري، قال: "شهدت خطبة رسول الله -عليه السلام- بمنى وكان فيما خطب به: ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه، قال: فلما سمعت ذلك قلت: يا رسول الله، أرأيت لو أتيت غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فاحترزتها، هل عليّ في ذلك شيء؟ قال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وزنادًا فلا تمسها". قوله: "إن لقيتها نعجة" معناه لا تتعرض لنعم أخيك موصولًا بسب وإن كان سهلًا متيسرًا وهو معنى قوله: "تحمل شفرة وزناذًا" أي معها آلة الذبح والنار، والشفرة: السكين العريض. قوله: "بخبت الجميش" الخبت بفتح الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وفي آخره تاء مثناة من فوق: الأرض الواسعة. و"الجميش" بفتح الجيم، وكسر الميم بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وفي آخره شين معجمة، الذي لا نبات فيه كان جمش أي حلق. قال الجوهري: الجميش: مكان لا نبات فيه، والخبت: المفازة، انتهى. والمعنى لا تتعرض لنعم أخيك وإن كنت بخبت الجميش، وإنما خصه بالذكر لأن الإنسان إذا سلكه طال عليه وفني زاده، واحتاج إلى مال أخيه المسلم. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 423 رقم 15527).

قوله: "فلا تهجها" من هاج الشيء، وهجته إذا أثرته، وهذا الحديث يدل على حرمة التعرض لمال المسلم بغير إذن وإن كان لابن عمه، وكذا لو كان لأخيه أو لأبيه، وأما الأب فله أن يتعرض لمال ابنه بلا إذنه، والمولى يتعرض لمال عبده بلا إذنه. ويستثنى من ذلك نحو شرب الماء من كوز حديقة، بغير إذنه، وكذا نزح الماء من بئره، وأخذ النار من كانونه، وكذا يستثنى الأكلَ من ثماره وطعامه إذا علم أنه لا ينقبض لذلك، وذلك لما بينهما من المودة قال الله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} (¬1) ". وذكر محمَّد بن ثور، عن معمر قال: "دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبًا، فجعلت آكله، فقال: ما هذا، قلت: أبصرت رطبًا في بيتك فأكلته، قال: أحسنت قال الله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (1) ". وذكر عبد الرزاق (¬2)، عن معمر، عن قتادة: "في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت في بيت صديقك من غير مؤامرته، لم يكن بذلك [بأس] (¬3) ". وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول في الرجل يدخل الحائط فيجد الثمر ساقطًا، قال: لا يأكل منه إلا أن يكون يعلم بأن صاحبه طيب النفس بذلك، أو يكون محتاجًا إلى ذلك فأرجوا أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله. فإن قيل: ما حكم الذمي في هذا؟ قلت: قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول في المسافر ينزل بالذمي أنه لا يأخذ من ماله شيئًا إلا بإذنه، وعن طيب نفس منه، فقيل لمالك: أرأيت الضيافة التي جعلت عليهم ثلاثة أيام؟ قال: كان يومئذ مخفف عنهم. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [61]. (¬2) "تفسير عبد الرزاق" (3/ 64). (¬3) في "الأصل، ك": "بأسًا" وهو خطأ، والمثبت من "تفسير عبد الرزاق".

ص: فهذه الآثار التي ذكرنا تمنع ما توهم من ذهب في تأويل الحديث الأول [إلى] (¬1) ما ذكرناه. ولو ثبت ما ذهب إليه من ذلك لاحتمل أن يكون ذلك الحديث كان في حال وجوب الضيافة حين أمر رسول الله -عليه السلام- بها، وأوجبها للمسافرين على من حَلَّوا به. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رواها عن عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي حميد الساعدي، وعمر بن يثربي، فإن هذه الأحاديث تدل على خلاف ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ لأنها تشعر أن ذلك الحديث محمول على حالة الضرورة كما قد ذكرناه. قوله: "ولو ثبت ما ذهب إليه" جواب آخر بطريق التسليم، وهو أن يقال: ولئن سلمنا ثبوت ما ذهب إليه من ذهب في تأويل الحديث الأول، ما ذكر هناك ولكنه قد يجوز أن يكون ذلك الحديث في وقت كانت الضيافة فيه واجبة كما جاءت بذلك أخبار، فلما نسخ وجوب ذلك وارتفع حكمه ارتفع أيضًا حكم ذلك الحديث، فاستقر الأمر على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. ص: فإنه حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن منصور، عن الشعبي، عن المقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ممن أصبح بفنائه، فإنه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه". حدثنا بكار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصِيب، قال: ثنا وهيب، عن منصور. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، أن أبا طلحة حدثه عن أبي هريرة، عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

النبي -عليه السلام- قال: "أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا؛ فله أن [يأخذ] (¬1) بقدر قراه ولا حرج عليه". حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن نعيم بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مسهر قال: حدثني يحيي بن حمزة، عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة، أنه حدثه عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي، عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أيما رجل ضاف قوم، فلم يُقْروه كان له يعقبهم بمثل قِراه". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: "قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فنمر بقوم، قال: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا؛ فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي". فأوجب -عليه السلام- الضيافة في هذه الآثار، وجعلها دينًا، وجعل للذي وجبت له أخذها كما يأخذ الدين، ثم نسخ [ذلك] (¬2). ش: الضمير في "فإنه" ضمير الشأن، والفاء للتفصيل والبيان، أعني بيان وجوب الضيافة على من ينزل به الضيف، وأورد فيه أحاديث عن المقدام وأبي هريرة وعقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنهم -. أما حديث المقدام: فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، ووهب بن جرير كلاهما، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن عامر الشعبي، عن المقدام بن معدي كرب الكندي الصحابي، وكنيته أبو كريمة، وقيل: أبو يحيي. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، وخلف بن هشام المقرئ، قالا: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن عامر، عن أبي كريمة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين؛ فإن شاء اقتضى وإن شاء ترك". الثاني: عن بكار بن قتيبة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن الشعبي. . . . نحوه. الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن منصور، عن الشعبي. وأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬3): ثنا أحمد بن داود المكي، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن منصور، عن الشعبي، عن أبي كريمة أنه سمع النبي -عليه السلام- يقول: "ليلة الضيف حق على كل مسلم، ومن أصبح الضيف بفنائه فهو له حق أو دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، عن يحيي بن حمزة بن واقد، عن محمَّد بن الوليد الزبيدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- عن مروان بن رؤبة التغلبي أبي الحصن الشامي الحمصي، وثقه ابن حبان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي الحمصي قاضيها، وثقه ابن حبان. وأخرجه الطبراني (¬4): ثنا أحمد بن محمَّد بن يحيي بن حمزة الدمشقي، ثنا حيوة بن شريح، ثنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي (ح). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 342 رقم 3750). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1212 رقم 3677). (¬3) "المعجم الكبير" (20/ 263 رقم 622). (¬4) "المعجم الكبير" (20/ 282 رقم 667).

وحدثنا طالب بن قرة الأذني ثنا محمَّد بن عيسى الطباع، ثنا القاسم بن موسى، عن محمَّد بن الوليد الزبيدي، حدثني مروان بن رؤبة، عن عبد الرحمن ابن أبي عوف الجرشي، عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال النبي -عليه السلام-: "أيما رجل أضاف قومًا فلم يقروه فإن له أن يطلبهم بمثل قراه"، وفي لفظ: "فإن له أن يعاقبهم بمثل قراه". وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن معاوية بن صالح، عن أبي طلحة نعيم بن زياد الأنماري الشامي، وثقه النسائي وابن حبان. الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري المعروف ببحشل شيخ مسلم، عن عمه عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن نعيم بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". قوله: "قِراه" القرى -بكسر القاف- من قريت الضيف قرى -مثل قليته قلى- وقراءً: إذا أحسنت إليه، إذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحت مددت. وأما حديث عقبة بن عامر الجهني فأخرجه بإسناد صحيح: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أنه قال: "قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله -عليه السلام-: إن نزلتم بقوم فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم". ¬

_ (¬1) "سنن أبو داود" (3/ 343 رقم 3752).

ص: فمما روي في نَسْخِهِ: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، قال: ثنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ثنا المقداد بن الأسود، قال: "جئت أنا وصاحب لي، حتى كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجوع، فجعلنا نتعرض للناس فلم يضفنا أحد، [فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، أصابنا جوع شديد، فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد] (¬1) فأتيناك، فذهب بنا إلى منزله وعنده أربعة أعنز، فقال: يا مقداد، احلبهن وجَزِّئ اللبن لكل اثنين جزءًا. . . ." وذكر حديثًا طويلًا. حدثنا محمَّد بن خزيمة، [قال: ثنا حجاج] (¬2) قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد بن عمرو - رضي الله عنه - قال: "قدمت المدينة أنا وصاحب لي. . . ." ثم ذكر مثله. أفلا ترى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضيفوهم، وقد بلغت لهم الحاجة إلى ما ذكر في هذا الحديث، ثم لم يعنفهم رسول الله -عليه السلام- على ذلك. فدل ما ذكرنا على نسخ ما كان أوجب على الناس من الضيافة، وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا عن رسول الله -عليه السلام-: "مال المسلم على المسلم كحرمة دمه". وقد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عبد اللهَ بن السائب، عن أبيه، عن جده أنه سمع النبي -عليه السلام- يقول: "لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبًا ولا جادًّا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها إليه". ش: هذا بيان لقوله: "ثم نسخ" أي فمن الأحاديث التي رويت في نسخ وجوب الضيافة، ووجوبها للضيف كسائر الديون، حديث المقداد بن الأسود. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) تكررت في "الأصل".

سليمان بن المغيرة القيسي البصري، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد بن الأسود. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد، قال: "أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي -عليه السلام-، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي -عليه السلام-: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي -عليه السلام- نصيبه، قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمَّد يأتي الأنصار فيحفونه ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل قال: ندمني الشيطان فقال: ويحك ما صنعت، أشربت شراب محمَّد -عليه السلام- فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتذهب دنياك وآخرتك؟ وعليّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي -عليه السلام- فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت الآن يدعو علي فأهلك، فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليَّ، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز، أيها أسمن فأذبحها لرسول الله -عليه السلام- فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن فعمدت إلى إناء لآل محمَّد -عليه السلام- ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله -عليه السلام-. فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1625 رقم 2055).

يا رسول الله، اشرب فشرب، ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي -عليه السلام- قد روي، وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال رسول الله -عليه السلام-: إحدى سوآتك يا مقداد، فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، فقال النبي -عليه السلام-: ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني فتوقظ صاحبيك فيصيبان منها؟ قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أَصَبْتَها وأَصَبْتُها معك من أصابها من الناس". الطريق الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد بن عمرو. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن يزيد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد بن الأسود، قال: "قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره نحوه، مع يسير اختلاف في اللفظ دون المعنى. وأخرجه أحمد أيضًا (1): من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت. . . . كما أخرجه الطحاوي، ولكن فيه: "ثلاثة أعنز". وأخرجه أيضًا (¬2) عن عثمان، عن حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن، عن المقداد، وفيه: "وعنده أربع أعنز، فقال: احلبهن يا مقداد وجزئهن أربعة أجزاء، وأعط كل إنسان جزأ". قوله: "وقد حدثنا ربيع المؤذن. . . ." إلى آخره ذكره تأكيدًا لبيان النسخ في وجوب الضيافة. وأخرجه بإسناد حسن: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن عبد الله السائب الكندي وثقه ابن سعد وابن حبان، عن أبيه السائب بن يزيد الكندي، حَسَّنَ الترمذي حديثه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 3 رقم 23863). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 4 رقم 23873).

عن جده يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي الصحابي. أخرجه أبو داود (¬1): عن ابن بشار، عن يحيي، وعن سليمان بن عبد الرحمن، عن شعيب بن إسحاق، عن ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن جده. . . . نحوه. وأخرجه الترمذي (¬2): عن بندار بن بشار، عن يحيي به. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 301 رقم 5003). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 462 رقم 2160).

ص: باب: لبس الحرير

ص: باب: لبس الحرير ش: أي هذا باب في بيان حكم لبس الحرير، والحرير اسم جنس، واحدته حريرة. قال الجوهري: الحريرة: واحدة الحرير من الثياب. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة: "أن رسول الله -عليه السلام- قدمت عليه أقبية، فبلغ ذلك أباه مخرمة فقال: يا بني، إنه قد بلغني أن رسول الله -عليه السلام- قدمت عليه أقبية فهو يقسمها، فاذهب بنا إليه، قال: فذهبنا فوجدنا رسول الله -عليه السلام- في منزله، فقال لي أبي: يا بني، ادع لي رسول الله -عليه السلام- فقال المسور: فأعظمت ذلك، وقلت: أدعو لك رسول الله؟! قال: يا بني إنه ليس بجبار، فدعوت رسول الله -عليه السلام-، فخرج وعليه قباء من ديباج مزرر بذهب، فقال: يا مخرمة، هذا خَبَّأْئه لك، فأعطاه إياه". ش: إسناد صحيح، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، واسمه زهير بن عبد الله أبو بكر القاضي المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - ومؤذنًا له، روى له الجماعة. والمسور بن مخرمة بن نوفل له ولأبيه صحبة. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة أنه قال: "قسم رسول الله -عليه السلام- أقبية، ولم يعط مخرمة شيئًا، فقال مخرمة: يا بني انطلق بنا إلى رسول الله -عليه السلام- فانطلقت معه فقال: ادخل فادعه لي، قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال: خبأت هذا لك، قال: فنظر إليه فقال: رضي مخرمة". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2186 رقم 5464).

وأخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) كلهم عن قتيبة. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬5) أيضًا: عن الليث بن سعد معلقًا نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "أقبية" جمع قباء. قال الجوهري: القباء الذي يلبس، والجمع أقبية، وتقبيت إذا لبسته، والقبو: الضم. والديباج فارسي معرب، ويجمع على ديابيج، وإن شئت دياييج -بالياء- على أن يجعل أصله مشددًا كما في الدنانير وكذلك في التصغير. وقال ابن الأثير: الديباج هو الثياب المتحدة من الإبريسم فارسي معرب، وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج ودياييج -بالباء والياء- لأن أصله دبَّاج. قوله: "مزررة" من زررت القميص، أزُرُّه -بالضم- زرًّا إذا شددت أَزراره، يقال: أزُرُّه عليك قميصك وزُرَّه، وزُرُّهُ، وِزُرِّه، وأزررت القميص إذا جعلت له أَزارًا. ويستفاد منه: جواز لبس الحرير للرجال كما ذهب إليه طائفة. ومداراة الناس، وذلك لأن قوله -عليه السلام-: "هذا خبأته لك" من جنس مداراته مع الناس، ولاسيما مع من هو مشهور بالشدة والفظاظة، وكان مخرمة من مشايخ العرب، وكانت فيه فظاظة، وكان -عليه السلام- يتقي فحشه. والدلالة على حسن التواضع وشرف صاحبه، ألا ترى كيف قال مخرمة: يا بني إنه ليس بجبار؟. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 731 رقم 1058). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 43 رقم 4028). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 123 رقم 2818). (¬4) "المجتبى" (8/ 205 رقم 5324). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2201 رقم 5524).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم [إلى هذا] (¬1) فقالوا: لا بأس بلبس الحرير للرجال والنساء، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن أبي مليكة، وطائفة من الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يلبس الحرير، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا لبس الحرير للرجال، واحتجوا في ذلك بالآثار المتواترة المروية في النهي عنه، عن النبي -عليه السلام-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن البصري وعامرًا الشعبي وقتادة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وعبد الرحمن الأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: يكره لبس الحرير للرجال، واحتجوا في ذلك بأحاديث وردت في هذا الباب تدل على تحريم الحرير على الرجال. ص: فمنها ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن عامر الشعبي، عن سويد بن غفلة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بالجابية، فقال: نهى رسول اللهَ -عليه السلام- عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع". حدثنا يزيد، ثنا معاذ، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول اللهَ -عليه السلام- عن لبس الحرير إلا موضوعين". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إياكم والحرير، فإن رسول الله -عليه السلام- قد نهى عنه، وقال: لا تلبسوا منه إلا ما كان هكذا، وأشار رسول الله -عليه السلام- بإصبعيه". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عثمان النهدي، قال: "أتانا كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأنا بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير إلا هكذا، قال: فأعلمنا أنها الأعلام". ش: أي: فمن الأحاديث التي رويت في النهي عن لبس الحرير للرجال: حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن معاذ بن هشام، عن أبيه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن عمر القواريري وأبو غسان المسمعي، وزهير ابن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن مثنى، وابن بشار -قال إسحاق: أنا، وقال الآخرون-: نا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن عامر الشعبي، عن سويد بن غفلة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بالجابية، وقال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع". وأخرجه الترمذي (¬2): عن محمَّد بن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الشعبي. . . . إلى آخره. وقال: حديث حسن صحيح. الثاني: عن يزيد أيضًا، عن معاذ بن هشام، عن أبيه هشام الدستوائي، عن قتادة عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مَلّ النهدي، عن عمر بن الخطاب. وأخرجه النسائي (¬3): عن عمرو بن علي، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي عثمان، عن عمر نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1641 رقم 2069). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 217 رقم 1721). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 475 رقم 9629).

الثالث: عن يزيد أيضًا. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا حفص، قال: ثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب: "أنه كان ينهى عن الحرير والديباج، إلا ما كان هكذا، ثم أشار بأصبعه ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، وقال: كان رسول الله -عليه السلام- ينهانا عنه". الرابع: عن حسين بن نصر عن يزيد بن هارون الواسطي عن عاصم الأحول. . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) بأتم منه: ثنا يزيد، نا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب أنه قال: "ائتزروا وارتدوا، وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وألقوا الركب وانزوا نَزْوَا، وعليكم بالمعدية، وارموا الأغراض، وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم والحرير، فإن رسول الله -عليه السلام- قد نهى عنه، ولا تلبسوا منه إلا ما كان هكذا، وأشار رسول الله -عليه السلام- بأصبعيه". الخامس: عن يزيد بن سنان عن وهب بن جرير عن شعبة. . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): نا محمَّد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لابن مثنى- قالا: نا محمَّد بن جعفر قال: نا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي، قال: جاءنا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد -أو بالشام- أما بعد. . إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحرير إلا هكذا أصبعين، قال أبو عثمان: فما عتمنا أنه يعني الأعلام". وأخرجه أبو داود (¬4): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، قال: نا عاصم ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 942 رقم 2820). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 43 رقم 301). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1643 رقم 2069). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 47 رقم 4042).

الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قال: "كتب عمر - رضي الله عنه - إلى عتبة بن فرقد: أن النبي -عليه السلام- نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وكذا، إصبعين وثلاثة وأربعة". وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا نحوه. وهذا الحديث يدل على شيئين: الأول: على حرمة الحرير على الرجال. الثاني: فيه جواز استعماله قدر أصبعين إذا كان في أطراف الثياب، أو قدر ثلاث أصابع أو قدر أربع أصابع، وكذا حكم الأطرزة من الحرير يجوز فيما دون قدر أربعة أصابع وقد بالغت الظاهرية في حكم الحرير، حتى لم يجوزوا الصلاة فيها. فقال ابن حزم في "المحلى" (¬2): ولا تحل الصلاة للرجل خاصة في ثوب فيه حرير أكثر من أربعة أصابع عرضًا في طول الثوب، إلا اللبنة والتكفيت فيهما مباحان، ولا في ثوب فيه ذهب، ولا لابسا ذهبًا في خاتم ولا في غيره، فإن أجبر على لباس شيء من ذلك أو اضطر إليه خوف البرد حل له الصلاة فيه، أو كان به داء يتداوى من مثله بلباس الحرير فالصلاة له فيه جائزة، وكذلك لو حمل ذهبًا في كمه لتحريزه أو حرير أو ثوب حرير كذلك فصلاته تامة. انتهى. ثم اعلم أن قوله: "أو ثلاث أو أربع" ليس بشك من الراوي، وإنما هو تفصيل للإباحة كما يقال: خذوا مدًّا أو اثنين أو ثلاثة، يعني ما شئت من ذلك. وقد أباح مالك العَلَم في ثلاثة أصابع -في أشهر قوليه- لأنه لم يرد الأربع. قوله: "بأذربيجان" بقصر الألف وإسكان الذال المعجمة وكسر الراء المهملة والباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الجيم ثم ألف ونون، وهي اسم لبلاد التبريز. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 202 رقم 5312). (¬2) "المحلى" (4/ 36).

وعتبة بن فرقد بن يربوع السلمي، أبو عبد الله، له صحبة، نزل الكوفة، وكان أميرًا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على بعض فتوحات العراق. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: "رأيت عليًا - رضي الله عنه - ورأى على رجل بردًا يتلألأ، فقال: فيه حرير؟ قال: نعم. فأخذه فجمع ضَفَّتيه بين أصبعيه فشقه فقال: أما إني لم أحسدك عليه، ولكني سمعت رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحرير". ش: حديث عليّ - رضي الله عنه - هذا من الأحاديث التي تدل على تحريم الحرير على الرجال. أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن جميل بن مرة الشيباني البصري، عن أبي الوضيء عباد بن شبيب القيسي صاحب شرطة علي - رضي الله عنه -. قوله: "فجمع ضفَّتيه" أي جانبيه، والضَّفَّة -بفتح الضاد المعجمة وكسرها، وتشديد الفاء- جانب النهر في الأصل فاستعير لجانب كل شيء. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال: "يا رسول الله، إني مررت بعطارد -أو بلبيد- وهو يعرض عليه حلة حرير، فلو اشتريتَهَا للجمعة وللوفود، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . نحوه. غير أنه لم يذكر عطاردًا، ولا لبيدًا. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. وذكر أن الرجل عطارد أو لبيد. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا يحيي بن أبي إسحاق، قال: "قال لي سالم بن عبد الله: ما الإستبرق؟ قلت: ما

غلظ من الديباج، وخشن منه، فقال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: رأى عمر بن الخطاب على رجل حلة من استبرق فأتى بها، فقال: يا رسول الله اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدم عليك، فقال: إنما يلبس هذا الحرير من لا خلاق له، قال: فمضى لذلك ما مضى، ثم إن رسول الله -عليه السلام- بعث إليه بحلة، فأتاه بها فقال: يا رسول الله، بعثت إلى بهذه وقد قلت في مثل هذا ما قلت؟! قال: إنما بعثت إليك بهذه لتصيب بها مالًا". فكان ابن عمر يكره العلم في الثوب من أجل هذا الحديث. حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أخبرني حميد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن عارم وهو محمَّد الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثني جويرة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها فلبستها للوفد إذا أتوك، والجمعة، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له. . . ." الحديث. ومسلم (¬2): ثنا شيبان بن فروخ، قال: نا جرير بن حازم، قال: نا نافع، عن ابن عمر قال: "رأى عمر عطاردًا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلًا يغشى الملوك ويصيب منهم، فقال عمر: يا رسول الله إني رأيت عطاردًا يقيم في ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2196 رقم 5503). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1639 رقم 2068).

السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك -وأظنه قال: ولبستها يوم الجمعة- فقال له رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة. . . ." الحديث. وأبو داود (¬1): نا عبد الله بن مسلمة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى حلة سيراء عند باب المسجد تباع، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. . . ." الحديث. والنسائي (¬2): [عن إسحاق بن منصور قال] (¬3): أنا عبد الله بن نمير، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب: "أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقلت: يا رسول الله، لو اشتريت هذا ليوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن نافع. . . . إلى آخره. أخرجه مسلم (¬4): نا يحيي بن يحيي، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. . . ." الحديث. الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، وعمرو بن الحارث المصري، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 46 رقم 4040). (¬2) "المجتبى" (8/ 196 رقم 5295). (¬3) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن النسائي". (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1638 رقم 2068).

وأخرج مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيي -واللفظ لحرملة- قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر قال: "وجد عمر بن الخطاب حلة من إستبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما هذه لباس من لا خلاق له. . . ." الحديث. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري، عن عبد الوارث بن سعيد، عن يحيي بن سعيد الحضرمي البصري روى له الجماعة، عن سالم. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني محمَّد بن مثنى، قال: نا عبد الصمد، قال: سمعت أبي يحدث، قال: حدثني يحيي بن أبي إسحاق، قال: "قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق، قال: قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه. . . ." إلى آخره نحوه، إلى قوله: "لتصيب بها مالًا". الخامس: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): من طريق قتادة حدثني بكر بن عبد الله وبشر بن المحتفز، كلاهما عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحرير: "إنما يلبسه من لا خلاق له". قوله: "بعطارد، هو عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدي التيمي، وَفِدَ على النبي -عليه السلام- في طائفة من وجوه تميم منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم وغيرهم، فأسلموا وذلك سنة تسع، وقيل: عشر، والأول ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1638 رقم 2068). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1640 رقم 2068). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 51 رقم 5125).

أصح، وكان سيد قومه وهو الذي أهدى للنبي -عليه السلام- ثوب ديباج كان كساه إياه كسرى، فعجبت منه الصحابة، فقال النبي -عليه السلام-: "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا"، ولما ادعت سجاح التميمية النبوة كان عطارد ممن تبعها، ثم أسلم وحسن إسلامه". قوله: "أو بليد" هو لبيد بن عطارد التميمي أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله -عليه السلام- من بني تميم، وهو أحد وجوههم، أسلم سنة تسع. و"الوفود" جمع وفد، وهو جمع وافد، من وفد يفد، وهم القوم يجتمعون ويردون البلاد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك. قوله: "من لا خلاق له" أي من لا نصيب له. قوله: "ما الإستبرق" كلمة "ما" هاهنا استفهامية، وقد فسر بقوله: "ما غلظ من الديباج وخشن منه" وهي لفظة أعجمية معربة أصلها استبره، وقد ذكرها الجوهري: في الباء من القاف، على أن الهمزة والسين والتاء زوائد، وأعاد ذكرها في السين من الراء. وذكرها الأزهري في خماسي القاف على أن همزتها وحدها زائدة، وقال: أصلها بالفارسية استقرة، وقال أيضًا: إنها وأمثالها من الألفاظ حروف عربية وقع فيها وفاق بين العجمية والعربية، وقال: هذا عندي هو الصواب. و"الديباج": هو الثياب المتخذة من الإبريسم، فارسي معرب وقد فتح داله، وقد مرَّ بيانه عن قريب. قوله: "وحسن منه" بالحاء والسين المهملتين من الحسن وهو ضد القبح (¬1). و"الحلة" واحدة الحلل، وهي برود اليمن، ولا تسمي حلة، إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" في هذا الموضع، وفي جميع طرق الحديث: "وخشن منه" بالخاء والشين المعجمتين.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال [ثنا] (¬1) أبي، قال: سمعت الصقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- أعرابي عليه جبة مكفوفة بحرير -أو قال: مزررة بديباج- فقام إليه رسول الله -عليه السلام- مغضبًا وأخذ مجامع جبته، فجذبها به، ثم قال: ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل" وهو حديث طويل فاختصرنا منه هذا المعنى. ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص. فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن الصقعب بن زهير وثقه أبو زرعة وابن حبان. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2) بتمامه: ثنا أبو زرعة الدمشقي، قال: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن الصقعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: "كنا عند رسول الله -عليه السلام-، فجاء رجل من أهل البادية، عليه جبة سيجان مزررة بالديباج، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- يريد أن يرفع كل فارس بن فارس، ويضع كل زارع بن زارع، فأخذ رسول الله -عليه السلام- بمجامع ثوبه، ثم قال: إن عليه لباس من لا يعقل، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: إن نبي الله نوح -عليه السلام- لما حضرته الوفاة قال لابنه: يا بني إني موصيك فقاصد عليك الوصية: آمرك باثنين وأنهاك عن اثنين، آمرك بلا إله إلا الله، فلو أن السماوات السبع والأراضين السبع كانت حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله، وأوصيك بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة الخلق، وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الكفر والكبر، فقال رجل: يا رسول الله، الكفر قد عرفناه، فما الكبر، أهو أن يكون للرجل نعلان حسنتان يلبسهما، وله شراكان حسنان يعجبه ذلك؟ قال: لا، قال: فهو أن يكون له حلة ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) وأخرجه أحمد في "مسنده" عن سليمان بن حرب به (2/ 169 رقم 6583)، وكذا هو عند البخاري في "الأدب المفرد" (1/ 192 رقم 548).

حسنة يلبسها؟ قال: لا، قال: فهو أن يكون له فرس جميل يعجبه جماله؟ قال: لا، قال: فهو أن يكون له أصحاب يجالسونه؟ قال: لا، قال: فما الكبر؟، قال: أن يسفه الحق ويغمص الناس". قوله: "مكفوفة بحرير" المكفوف بالحرير هو الذي عمل على ذيله وأكمامه وجيبه كفاف من حرير، وكفة كل شيء -بالضم- طرفه وحاشيته، وكل مستطيل كفة ككفة الثوب، وكل مستدير، كِفَّة -بالكسر- ككفة الميزان. قوله: "مغضبًا" نصب على الحال، وهو بفتح الضاد المعجمة على صيغة المفعول. قوله: "وأخذ مجامع جبته" أراد أطرافها التي يلتقي بعضها ببعض، هو جمع مجمع، ومجمع كل شيئين ملتقاهما. قوله: "سيجان" السيجان جمع ساج وهو الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان المقوِّر ينسج كذلك، وكانوا يعملون منه الجبب والقلانس، وفي الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي -عليه السلام- كان يلبس في الحرب من القلانس ما يكون من السيجان الخضر". ثم "ألف" "سيجان" منقلبة عن الواو، وقيل عن الياء. قوله: "ويغمص الناس" أي لم يرهم شيئًا؛ لأجل احتقاره إياهم، وتقول منه: غَمَص الناس يغمصهم غمصًا من باب ضرب يضرب ومادته: غين معجمة وميم وصاد مهملة. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخطيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي، قال: "كنت في ملأ من أصحاب النبي -عليه السلام- عند معاوية، قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لبس الحرير؟ قال: قولوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا همام. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمَّد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا يحيي بن حمزة قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيي بن كثير قال: حدثني حمران، قال: "حج معاوية فدعا نفرًا من الأنصار في الكعبة، فقال: "أنشدكم الله ألم تسمعوا رسول الله -عليه السلام- نهى عن ثياب الحرير، فقالوا: نعم، قال: وأنا أشهد". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا عمر بن سعيد عن علي بن عبد الله، عن أبيه، عن معاوية، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لبس الحرير والذهب". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجل حديث معاوية بن أبي سفيان، أخرجه من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيي، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي البصري، اسمه حيوان -بفتح الحاء المهملة وقيل: بالخاء المعجمة- ابن خلدة -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام وفتح الدال، وفي آخره هاء-. أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا عفان، نا همام، نا قتادة، عن أبي شيخ الهنائي قال: "كنت في ملأ من أصحاب رسول الله -عليه السلام- عند معاوية، فقال معاوية: أنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لبس الحرير؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد، قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لبس الذهب إلا مقطعًا؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد، قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن ركوب ضفف النمور؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد، قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الشرب في آنية الفضة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد، قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن جمع بين حج وعمرة؟ قالوا: أما هذه فلا، قال: أَمَا إنها معهن". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 92 رقم 16879).

الثاني: أيضًا إسناده صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن همام بن يحيي، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي. وأخرجه أبو داود مختصرًا (¬1): ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي: "أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي -عليه السلام-: هل تعلمون النبي -عليه السلام- نهى عن كذا، وعن ركوب جلود النمور، قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة، فقالوا: أما هذه فلا، فقال: أَمَا إنها معهن ولكنكم نسيتم". وقال الحافظ المنذري: وقد اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، فروي كما ذكرناه، وروي عن أبي الشيخ عن أخيه حمان، ويقال: أبو حمان، عن معاوية، وروي عن بَيْهس بن فهدان، عن أبي شيخ، عن عبد الله بن بيهس، عن أبي الشيخ، عن معاوية. واختلف على يحيي بن أبي كثير فيه، فروي عنه عن أبي شيخ، عن أخيه، وروي عنه عن أبي إسحاق، عن حمان، وروي عنه حدثني حمران من غير واسطة، وسماه حمران. الثالث: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، عن يحيي بن حمزة بن واقد الحضرمي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيي بن أبي كثير الطائي، عن حمران بن أبان، عن معاوية. وأخرجه الطبراني في "معجمه" (¬2): نا جعفر بن محمَّد الفريابي، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا الأوزاعي، حدثني يحيي بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ، قال: ثنا حمان قال: "حج معاوية فدعا نفرًا من الأنصار ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 157 رقم 1794). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 355 رقم 832).

في الكعبة، فقال: أنشدكم الله، ألم تسمعوا رسول الله -عليه السلام- نهى عن الذهب؟ قالوا: نعم، قال: وأنا أشهد، ألم تسمعوا رسول الله نهى عن صفف النمور؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد، ألم تسمعوا رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحرير؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد". وأخرجه أحمد (¬1) نحوه، وفي روايته: عن يحيي بن أبي كثير حدثني أبو شيخ الهنائي، عن أخيه حمان: "أن معاوية عام حج. . . ." الحديث. وهذا كما ذكرنا اختلف فيه على يحيي بن أبي كثير. والله أعلم. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين القرشي النوفلي المكي، عن علي بن عبد الله بن علي من بني عبد شمس، عن أبيه عبد الله بن علي، عن معاوية. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا روح، نا عمر بن سعيد بن أبي حسين، حدثني علي بن عبد الله بن علي رجل من بني عبد شمس. وقال: ثنا عبد الله بن الحارث، قال: حدثني عمر بن سعيد، أن علي بن عبد الله بن علي أخبره، أن أباه أخبره، قال: "سمعت معاوية على المنبر بمكة يقول: نهى رسول الله -عليه السلام- عن لبس الذهب والحرير". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى قال: "استسقي حذيفة بالمدائن، فأتاه دهقان بإناء من فضة، فرمى به، ثم قال: إني كنت نهيته عنه فأبى أن ينتهي؛ إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن شراب في آنية الذهب والفضة، وعن لبس الحرير والديباج، وقال: دعوه لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 96 رقم 16923). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 96 رقم 16918).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم عن ابن أبي ليلى مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله. حدثنا ابن مزروق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير، قال: ثنا ابن عون، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى مثله. ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث حذيفة بن اليمان، أخرجه من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عَمرو العقدي، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: ثنا أبي، قال: نا شعبة، عن الحكم، سمع عبد الرحمن -يعني ابن أبي ليلى- قال: "شهدت حذيفة يستسقي بالمدائن فأتاه إنسان بإناء من فضة. . . . الحديث نحوه. الثاني: أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لبس الحرير والذهب، وقال: هو لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة". الثالث: إسناده جيد، عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن أبي غسان ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1637 رقم 2067). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 152 رقم 24650).

مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن مسعود بن سعد الجعفي، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عبد الرحيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن يلبس الحرير والديباج، وقال: هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق الضرير واسمه إبراهيم بن زكريا البصري، ضعيف جدًّا، عن عبد الله بن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا علي، ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت [ابن] (¬3) أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "نهانا النبي -عليه السلام- أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه". أخرجه مسلم (¬4) أيضًا نحوه بطرق متعددة. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن رجل من بني الليث، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا أبو التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن حصين، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 151 رقم 24648). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2195 رقم 5499). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1637 رقم 2067).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى قال: ثنا سعيد ابن مطر عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ألبس القميص المكفف بالحرير وأومأ الحسن إلى جيب قميصه". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث عمران بن الحصين، وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري، عن رجل من بني ليث، وهو حفص بن عبد الله الليثي (¬1)، وقد فسره في الطريق الثاني على ما يأتي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح: سمعت رجلًا من بني ليث يقول: أشهد على عمران بن حصين أنه حدَّث: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحناتم، وعن خاتم الذهب، وعن لبس الحرير". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن حفص بن عبد الله الليثي، عن عمران بن حصين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن حصين: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الحنتم، والتختم بالذهب، والحرير". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش بن الوليد القطان الرقام شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر بن طهمان الوراق، عن الحسن البصري. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) قال الذهبي في "الميزان" (2/ 321): "ما علمت روى عنه سوى أبي التياح؛ ففيه جهالة، لكن صحح الترمذي حديثه". (¬2) "مسند أحمد" (4/ 443 رقم 19995). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 153 رقم 24661).

وأخرجه أبو داود (¬1): قال: نا مخلد بن خالد، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين أن نبي الله -عليه السلام- قال: "لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير، قال: وأومأ الحسن إلا جيب قميصه، قال: وقال: ألا وطيب الرجال ريح لا لون له، ألا وطيب النساء لون ولا ريح له". "الأُرجُوان" بضم الهمزة وضم الجيم: الصوف الأحمر، وقيل الأرجوان: الحمرة، وقيل: الشديد الحمرة، وأراد به المياثر، وقد يتخذ من ديباج وحرير، وإنما نهي عن ذلك لما فيه من السرف وليس من لباس الرجال. قوله: "ولا ألبس القميص المكفف بالحرير" وهو ما اتخذ جيبه من حرير، وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. ص: حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود ووهب، قالا: ثنا شعبة، عن الأشعت ابن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سويد بن مقرن، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والديباج، والشراب في آنية الذهب والفضة". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث البراء بن عازب، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك بن أبي عقيل المصري، شيخ أبي داود، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن الأشعث بن أبي الشعثاء سليم بن الأسود الكوفي، عن معاوية بن سويد بن مقرن المزني الكوفي، عن البراء بن عازب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 48 رقم 4048).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو الوليد، نا شعبة، عن الأشعث، قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن، عن البراء - رضي الله عنه - قال: "أمرنا النبي -عليه السلام- بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ورد السلام وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق". وأخرجه مسلم (¬2): نا يحيي بن يحيى التميمي، قال: أنا أبو خيثمة، عن أشعث ابن أبي الشعثاء) (ح). وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: نا زهير، قال: نا أشعث، قال حدثني معاوية بن سويد بن مقرن، قال: دخلت على البراء بن عازب فسمعته يقول: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس وإبرار -القسم أو المقسم- ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتم -أو عن تختم- بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة، عن الأشعث. . . . إلى آخره. وأخرجه [الترمذي] (¬3): نا ابن بشار، عن غندر وابن مهدي، عن شعبة، عن الأشعث. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 417 رقم 1182). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1635 رقم 2066). (¬3) في "الأصل، ك": "أبو داود"، وهو وهم أو سبق قلم، وليست في "سنن أبي داود"، ولم يعزه الحافظ المزي له في "تحفة الأشراف" (2/ 63 رقم 1962)، وإنما عزاه للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد رواه الترمذي من هذا الطريق (5/ 117 رقم 2809).

والنسائي (¬1): أخبرنا سليمان بن منصور البلخي، وهناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن [الأشعث] (¬2). . . . إلى آخره. وابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمَّد، عن وكيع، عن علي بن صالح، عن أشعث. . . . إلى آخره. ص: حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، قال: سمعت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - يقول: قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث عبد الله بن الزبير. أخرجه بإسناد صحيح. عن محمد بن النعمان السقطي، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن ثابت البناني. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬4): نا يونس وعفان، قالا: ثنا حماد بن زيد قال -عفان في حديثه: ثنا ثابت البناني، وقال يونس-: عن ثابت قال: سمعت ابن الزبير -قال عفان: يخطبنا، وقال يونس-: وهو يخطب يقول: قال محمَّد -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وأخرجه البخاري (¬5): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ثابت. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 54 رقم 1939). (¬2) في "الأصل، ك": "أبي شعث"، وهو تحريف، والمثبت من "سنن النسائي". (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 683 رقم 2115). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 5 رقم 16163). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2194 رقم 5495).

والنسائي (¬1): عن قتيبة، عن حماد، عن ثابت. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا بكار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن داود السراج، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولو دخل الجنة يلبسه أهل الجنة ولا يلبسه هو". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن بكار بن قتيبة القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن داود السراج الثقفي البصري، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن أبي معاوية، عن سعيد، عن قتادة، عن داود السراج. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، عن النبي -عليه السلام-. . . . نحوه. حدثنا يونس، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب وسألته عن الحرير فقال: سمعت أنسًا، فقلت: أعن النبي -عليه السلام-؟ فقال شديدًا، ثم ذكر مثله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 200 رقم 5304). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 153 رقم 24669). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 471 رقم 9611).

حدثنا يونس، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شعبة، عن حميد الطويل، عن أنس قال: "كنا نتحدث بذلك". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث أنس. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عَمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد العنبري، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". الثاني: عن مبشر بن الحسن بن المبشر القيسي البصري، عن أبي عامر عبد الملك ابن عمرو العقدي، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالا: نا إسماعيل ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أسد بن موسى، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، نا عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك -قال: شعبة فقلت: أعن النبي -عليه السلام-، فقال شديدًا- عن النبي -عليه السلام- فقال: "من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 151 رقم 24643). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1645 رقم 2073). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2194 رقم 5494).

الرابع: عن يونس أيضًا، عن أسد بن موسى، عن شعبة، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه أسد السنة في "مسنده". ص: حدثنا يونس وبحر -قال يونس: أنا ابن وهب، وقال بحر: ثنا ابن وهب- قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن هشام بن أبي رقية اللخمي حدثه، قال: سمعت مسلمة بن مخلد يخطب وهو يقول: "أما لكم في العَصَب والكتان ما يغنيكم عن لبس الحرير؟ وهذا فيكم، رجل يخبر عن رسول الله -عليه السلام-، قم يا عقبة، فقام عقبة بن عامر فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من لبس الحرير في الدنيا حرمه أن يلبسه في الآخرة". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث عقبة بن نافع الجهني. أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، وعن بحر بن سابق الخولاني، كلاهما عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، عن هشام بن أبي رقية اللخمي المصري، عن مسلمة بن مخلد الأنصاري الزرقي الصحابي المصري. وأخرجه ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة هشام المذكور: ثنا علي بن أحمد بن سليمان، ثنا سلمة بن شيبة، ثنا الفريابي، نا ابن ثوبان، عن ابن أبي مريم، أنه سمع هشام بن أبي رقية يذكر عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من لبس الحرير في الدنيا فهو محرم عليه في الآخرة". قوله: "في العَصَبِ" بفتح العين المهملة، وسكون الصاد المهملة، وفي آخره باء موحدة، وهي برود يمنية، يعصب غزلها، أي يجمع ويشد، ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ يقال: برد عصب، وبرود عصب، بالتنوين والإضافة.

وقيل: هي برود مخططة. ص: حدثنا محمد بن حميد بن هشام، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي أن شدادًا أبا عمار، قال: ثنا أبو أمامة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من لا خلاق له". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي. أخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن حميد الرعيني، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن شداد بن عبد الله أبي عمار، عن أبي أمامة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني إبراهيم بن موسى الرازي، قال: ثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي، عن الأوزاعي، قال: حدثني شداد أبو عمار، قال: حدثني أبو أمامة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وأخرجه الطبراني (¬2): عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن يوسف. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي. ص: حدثنا حسين بن نصر ومحمد بن حميد، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني يحيى بن حمزة، قال: حدثني زيد بن واقد، أن خالد بن عبد الله بن حسين حدثه، قال: حدثني أبو هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن شرب في آنية الفضة والذهب لم يشرب بها في الآخرة، ثم قال: لباس أهل الجنة، وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم الحرير على الرجال حديث أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1646 رقم 2074). (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 139 رقم 6727).

أخرجه بإسناد صحيح، عن حسين بن نصر، ومحمد بن حميد بن هشام الرعيني، كلاهما عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن يحيى بن حمزة بن واقد الدمشقي، عن زيد بن واقد القرشي أبي عمرو الشامي الدمشقي، عن خالد بن عبد الله بن حسين القرشي الأموي الدمشقي، مولى عثمان بن عفان، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد حدثني خالد بن عبد الله بن حسين، قال: حدثني أبو هريرة. . . . إلى آخره نحوه. وقد رأيتَ أن الطحاوي: قد أخرج أحاديث هذا الباب عن خمسة عشر نفرًا من الصحابة، وهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية بن أبي سفيان، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وعبد الله بن الزبير، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وعقبة بن عامر الجهني، وأبو أمامة، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي (¬2) حديث أبي موسى الأشعري قال: وفي الباب عن عمر، وعلي وعقبة بن عامر والبراء وأنس وحذيفة وأم هانئ وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين، وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحانة وابن عمر - رضي الله عنهم -. قلت: لم يَفُت الطحاوي من هؤلاء إلا أم هانئ، وجابر، وأبو ريحانة، وأبو موسى الأشعري. أما حديث أم هانئ - رضي الله عنها - فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬3): ثنا زهير، نا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي فاختة حدثتني أم هانئ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهديت ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 195 رقم 6869). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 217 رقم 1720). (¬3) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 142)، وعزاه للطبراني في "الكبير" فقط، ولم يعزه لأبي يعلى. ولم أجده في "مسند أبي يعلى"، والحديث عند الطبراني في "الكبير" (24/ 437 رقم 1069).

له حلة حرير سيراء، فبعث بها إلى علي - رضي الله عنه - فراح وهي عليه، فقال رسول الله -عليه السلام- لعليّ: لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي، إني لم أكسكها لتلبسها، إني كسوتكها لتجعلها خمرًا بين الفواطم". وأما حديث جابر - رضي الله عنه - فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا موسى، نا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- أهدى إليه راهب من الشام جبة من سندس، فلبسها النبي -عليه السلام- ثم أتى البيت فوضعها، وأُخْبِرَ بوفد يأتيه، فأمره عمر بن الخطاب أن يلبس الجبة لقدوم الوفد، فقال النبي -عليه السلام-: لا يصلح لنا لباسها في الدنيا، ويصلح لنا لباسها في الآخرة، ولكن خذها يا عمر، فقال: أتكرهها وآخذها؟! فقال النبي -عليه السلام-: إني لا آمرك أن تلبسها، ولكن ترسل بها إلى أرض فارس فتصيب بها مالًا، فأبى عمر - رضي الله عنه - فأرسل بها النبي -عليه السلام- إلى النجاشي وكان قد أحسن إلى من فَرَّ إليه من أصحاب محمَّد -عليه السلام-". وأما حديث أبي ريحانة، فأخرجه أبو داود (¬2): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، قال: حدثني المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن أبي الحصين الهيثم بن شفي، قال: "خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر رجل من المعافر لنصلي بإيلياء، وكان قاصهم رجلًا من الأزد يقال له: أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين فسبقني صاحبي إلى المسجد، ثم أدركته فجلست إلى جنبه، فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا، قال: سمعته يقول: نهى رسول الله -عليه السلام- عن عشر: عن الوشر، والوشم، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبي، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 347 رقم 14780). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 48 رقم 4049).

وأخرجه النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2). وأبو ريحانة اسمه شمغون بالشين والغين المعجمتين وهو أنصاري، وقيل: قرشي، ويقال له: مولى رسول الله -عليه السلام- قدم مصر، وروى عنه أهلها. و"الوشر" تحديد الأسنان، تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بالشبات. و"الوشم" أن يغزر الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أو يخضر. و"المكامعة" أن يضاجع الرجل الرجل في ثوب واحد لا حاجز بينهما، والمكامعة أن يلثم الرجل الرجل ويضع فمه على فمه كالتقبيل، أخذ من الكعم وهو شد فم البعير لئلا يعض، والكلب لئلا ينبح. و"الياء" بالكسر والمد: بيت المقدس، قيل معناه بيت الله، ويقال فيه بالقصر، وبحذف الياء الأولى أيضًا وسكون اللام، فهذه ثلاث لغات. وأما حديث أبي موسى الأشعري: فأخرجه الترمذي (¬3): نا إسحاق بن منصور، قال: أنا عبيد الله بن نمير قال: نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -عليه السلام- قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم". وقال: حديث حسن صحيح. ص: ففي هذه الآثار المتواترة النهي عن لبس الحرير، فاحتمل أن تكون نسخت ما فيه الإباحة للبسه، واحتمل أن يكون ما فيه الإباحة هو الناسخ، فنظرنا في ذلك لنعلم الناسخ في ذلك من المنسوخ؛ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن العلاف، قال: ثنا ابن سواء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس: "أن أُكَيْدَر دومة أهدى إلى النبي -عليه السلام- جبة من سندس، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 143 رقم 5091). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1205 رقم 3655) مختصرًا. (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 217 رقم 1720).

فلبسها فعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: "خرج علينا رسول الله -عليه السلام- ذات يوم وعليه فرُّوج حرير، فصلى فيه ثم انصرف فنزعه، وقال: لا ينبغي لباس هذه للمتقين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة أنه قال: "أهدي إلى رسول الله -عليه السلام- فروج حرير، فلبسه. . . ." ثم ذكر مثله. فدلت هذه الآثار أن لبس الحرير كان مباحًا، وأن النهي عن لبسه كان بعد إباحته، فعلمنا أن ما جاء في النهي عن لبسه هو الناسخ لما جاء في إباحة لبسه، وهذا أيضًا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأكثر العلماء - رضي الله عنهم -. ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن الصحابة المذكورين، وهم خمسة عشر نفرًا كما ذكرنا، ولا شك أن في هذه الأحاديث النهي عن لبس الحرير، ولكن يحتمل أن تكون هذه ناسخة لما فيه الإباحة للبس الحرير، ويحتمل أن يكون ما فيه الإباحة ناسخًا لهذه الأحاديث، فلما نظرنا في هذا الباب لنعلم الناسخ من المنسوخ؛ وجدنا أحاديث أخرى دلت على أن الأحاديث التي فيها النهي عن لبسه هي الناسخة للأحاديث التي فيها الإباحة وهي حديث أنس وعقبة بن عامر - رضي الله عنهما -. أما حديث أنس؛ فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عبد الرحمن العلاف العنبري البصري، عن محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري أبي الخطاب البصري المكفوف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -.

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا عمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله -عليه السلام- جبة من سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: والذي نفس محمد بيده، إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". وأخرج مسلم (¬2) والبخاري (¬3) هذا الحديث أيضًا عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ولفظ مسلم: "أهديت لرسول -عليه السلام- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين". ولفظ البخاري: "أهدي للنبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. قوله: "أُكَيْدر" بضم الهمزة، هو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، كتب إليه النبي -عليه السلام- وأرسل سرية إليه مع خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. وذكر ابن منده وأبو نعيم أنه أسلم، وأهدى إلى النبي -عليه السلام- حلة سيراء. وقال ابن الأثير (¬4): وأما سرية خالد فصحيح، وإنما أهدى لرسول الله -عليه السلام- وصالحه ولم يسلم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السير، ومن قال: إنه أسلم، فقد أخطأ خطأ ظاهرًا، وكان أكيدر نصرانيًّا، ولما صالحه النبي -عليه السلام- عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم إن خالدا أسره لما حصر دومة أيام أبي بكر - رضي الله عنه - فقتله مشركًا نصرانيًّا، وقد ذكر البلاذري: أن أكيدرا لما قدم على النبي -عليه السلام- مع خالد أسلم، وعاد إلى دومة، فلما مات النبي -عليه السلام- ارتد ومنع ما قَبِلَهُ، فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1917 رقم 2469)، ولفظه: "أن أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة"، ثم قال مسلم: فذكر نحوه ولم يذكر فيه: "وكان ينهى عن الحرير". اهـ. قلت: أما الذي في الأصل فهو لفظ الحديث الذي قبله في مسلم فلعله انتقال نظر. والله أعلم. (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1916 رقم 2468). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2448 رقم 6264). (¬4) "أسد الغابة" (1/ 135).

وأما "دومة" فقد قال الجوهري: دومة الجندل اسم حصن، وأصحاب اللغة يقولونه بضم الدال، وأصحاب الحديث يفتحونها. قلت: دومة الجندل -بضم الدال- موضع فاصل بين الشام والعراق، على سبع مراحل من دمشق، وعلى ثلاثة عشر مرحلة عن المدينة. قوله: "من سندس" وهو ما رقّ من الديباج ورفع. قوله: "لمناديل سعد" كلام إضافي مبتدأ، وخبره "أحسن من هذه" واللام فيه للتأكيد وهي مفتوحة. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، والليث بن سعد، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن عقبة بن عامر الجهني. وابن لهيعة ذُكر متابعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أنه قال: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أنه قال: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- فروج حرير، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1646 رقم 2075). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2186 رقم 5456).

فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزغا شديدًا كالكاره له، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، عن الليث بن سعد. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمد بن عبيد ويزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر الجهني قال: "صلى بنا رسول الله -عليه السلام- المغرب وعليه فروج -يعني قباء- من حرير، فلما قضى صلاته، نزعه نزعا عنيفا، فقلت: يا رسول الله، صليت وهو عليك؟ قال: إن هذا لا ينبغي للمتقين". قوله: "فروج حرير" الفروج -بفتح الفاء وضم الراء المشددة بعدها واو ساكنة وفي آخره جيم- وهو القباء الذي شُقَّ من خلفه. ص: وقد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- أيضًا في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: "أن عمه إسماعيل بن عبد الرحمن دخل مع عبد الرحمن على عمر - رضي الله عنه - وعليه قميص من حرير، وقلبان من ذهب، فشق القميص، وفك القلبين، فقال: اذهب إلى أمك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن عامر بن سويد بن غفلة، قال: "لقينا عمر - رضي الله عنه - وعلينا من ثياب أهل فارس -أو قال: كسرى- فقال: بَرَّح الله هذه الوجوه، فرجعنا فألقيناها ولبسنا ثياب العرب، فرجعنا إليه، فقال: أنتم خير من قوم أتوني وعليهم ثياب قوم لو رضيها الله لهم لم يلبسهم إياها، لا يصلح -أو لا يحل- إلا إصبعين أو ثلاثًا أو أربعًا، يعني الحرير". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 152 رقم 24652).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن مسلم البطين، عن أبي عمرو السيباني، قال: "رأى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على رجل جبة في صدره لبنة من ديباج، فقال له علي - رضي الله عنه -: ما هذا الشيء الذي تحت لحيتك؟! فجعل الرجل ينظر، فقال له رجل: إنما يعني الديباج". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، قال: "استأذن سعد بن أبي وقاص على ابن عامر وتحته مرافق من حرير، فأمر بها فرفعت، فدخل عليه سعد وعليه مطرف شطره حرير، فقال له ابن عامر: يا أبا إسحاق، استأذنت عليّ وتحتي مرافق من حرير فأمرت بها فرفعت، فقال: نِعْم الرجل أنت يا أبا عامر، إن لم تكن من الذين قال الله -عزوجل-: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬1) لأن أضطجع على جمر الغضى أحب إليّ من أن أضطجع على مرافق من حرير، قال: فهذا عليك مطرف شطره خز، وشطره حرير قال: إنما يلي جلدي منه الخز". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب، قال: قلت لابن عمر: "أرأيت هذا الذي تقول في الحرير أشيء سمعته من رسول الله -عليه السلام- أو وجدته في كتاب الله -عزوجل-؟ قال: ما وجدته في كتاب الله ولا سمعته من رسول الله -عليه السلام- ولكني رأيت أهل الإِسلام يكرهونه". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عبد الله بن عون -لا أعلمه إلا قال: عن الحسن- قال: "دخلنا على ابن عمر - رضي الله عنهما - بالبطحاء فقال له رجل: إن ثيابنا هذه يخالطها الحرير، قال: دعوه قليله وكثيره". ش: أي وقد روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - أيضًا في تحريم الحرير على الرجال، وأخرج في ذلك عن أربعة منهم، وهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، آية: [20].

أما ما روي عن عمر فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي أن عمه إسماعيل بن عبد الرحمن دخل مع أبيه عبد الرحمن بن عوف على عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه قال: "دخل عبد الرحمن بن عوف ومعه ابن له على عمر - رضي الله عنه - وعليه قميص حرير، فشق القميص". قوله: " وقُلْبان" تثنية قُلْب -بضم القاف وسكون اللام-: وهو السوار. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن وبرة بن عبد الرحمن المُسْلي، عن عامر الشعبي، عن سويد بن غفلة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي، عن سويد بن غفلة، قال: "شهدنا اليرموك، قال: فاستقبلنا عمر - رضي الله عنه - وعلينا الديباج والحرير، فأمر فرمينا بالحجارة، قال: فقلنا: ما بلغه عنا؟ قال: فنزعناه وقلنا: كره زينا، فلما استقبلنا رحب بنا، فقال: إنكم جئتموني في زي أهل الشرك، إن الله لم يرضَ لمن قبلكم الديباج والحرير". قوله: "بَرَّح الله" بالتشديد وثلاثيه: بَرَحَ بمعنى زال، ويقال أيضًا: برَّح به تبريحًا إذا شق عليه، وأصل التبريح المشقة والشدة، وحاصله أن هذا دعاء من عمر عليهم لكونهم أتوه في ثياب الأكاسرة والجبارين المترفين. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 152 رقم 24657). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 154 رقم 24678).

وأما ما روي عن علي - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل ابن سميع الحنفي الكوفي، عن مسلم بن عمران البطين، عن أبي عمرو السيباني -بالسين المهملة- واسمه زرعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن سميع، عن مسلم البطين، عن أبي عمرو السيباني، قال: "جاء شيخ فسلم على عليّ - رضي الله عنه - وعليه جبة من طيالسة في مقدمها ديباج، فقال عليّ: ما هذا النتن تحت لحيتك؟! فنظر الشيخ يمينًا وشمالًا، فقال: ما أرى شيئًا، قال: يقول رجل: إنما يعني الديباج، قال: يقول الرجل: إذًا نلقيه ولا نعود". قوله: "لِبْنة" بكسر اللام وسكون الباء، وهي رقعة تعمل موضع جيب القميص والجبة. وأما ما روي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية. وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي العبشمي، وه وابن خال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ولد على عهد النبي -عليه السلام-، وأُتي به وهو صغير، فقال: هذا يشبهنا، وجعل يتفل عليه ويعوذه، فجعل عبد الله يبتلع ريق رسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: "إنه لمسقى"، فكان لا يعالج أرضًا إلا ظهر له الماء، وكان كريمًا ميمون النقيبة واستعمله عثمان - رضي الله عنه - على البصرة سنة تسع وعشرين، بعد أبي موسى - رضي الله عنه -، وولاه أيضًا بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وكان عمره لما ولي البصرة أربعًا -أو خمسًا- وعشرين سنة، فافتتح خراسان كلها وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24697).

وهي أعمال غزنة، أرسل الجيوش ففتح هذه الفتوح كلها، وفي ولايته قتل كسرى يزدجرد، فأحرم ابن عامر من نيسابور بعمرة شكرًا لله -عزوجل- على ما فتح عليه، وهو الذي اتخذ السوق بالبصرة، اشترى دورًا فهدمها وجعلها سوقًا، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، لبس جبة دكناء، فقال الناس: لبس الأمير جلد دب، فلبس جبة حمراء، وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها العين، ولم يزل واليًا على البصرة إلى أن قتل عثمان بن عفان، ثم شهد مع عائشة - رضي الله عنها - وقعة الجمل، ثم سار إلى دمشق فأقام بها، وتوفي سنة سبع -وقيل: سنة ثمان- وخمسين، وأوصى إلى عبد الله ابن الزبير - رضي الله عنه -. والأثر المذكور أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن صفوان بن عبد الله، قال: "استأذن سعد على ابن عامر وتحته مرافق من حرير، فأمر بها فرفعت، فلما دخل سعد وعليه مطرف من خز، فقال له: استأذنت عليّ وتحتي مرافق من حرير، فأمرت بها فرفعت، فقال سعد: نعم الرجل أنت إن لم تكن ممن قال الله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬2) والله لئن أضطجع على جمر الغضي أحب إليّ من أن أضطجع عليها، قال: فهذا عليك شطره حرير وشطره خز؟ قال: إنما يلي جلدي منه الخز". قوله: "مرافق" جمع مرفقة -بكسر الميم- وهي المخدة، قاله الجوهري، يقال: فلان تمرفق إذا اتخذ المرفقة. و"المطرف" بكسر الميم وضمها وفتحها: الثوب الذي في طرفيه علمان، والميم زائدة. قوله: "شطره" أي نصفه. قوله: "لئن اضطجع" اللام فيه "لام" الابتداء، وهي للتأكيد، و"أن" مصدرية في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "أحب إليّ". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 150 رقم 24639). (¬2) سورة الأحقاف، آية: [20].

و"الغضى" شجر، وإنما قال جمر الغضى لكون نارها قوية، وجمرها لا يخمد في ساعة. و"الخز" بفتح الخاء وتشديد الزاي المعجمتين: وهو الثوب المنسوج من الصوف والحرير. قوله: "إنما يلي جلدي منه الخز" احتج به قوم على جواز لبس الحرير إذا كان من فوق القماش ولم يمس منه جلده شيئًا. وأما ما روي عن عبد الله بن عمر فأخرجه من طريقين حسنين جيدين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طلق بن حبيب العنزي البصري. الثاني: عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، وثقه ابن حبان، عن يزيد بن زريع، عن عبد الله بن عون، عن الحسن - رضي الله عنه -. قوله: "أرأيت" معناه أخبرني. قوله: "أشيء" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "دعوه" أي اتركوه. قوله: "قليله وكثيره" منصوبان على البدلية من الضمير المنصوب في دعوه، والباء في "بالبطحاء" للظرف، أي في البطحاء، وهو مسيل وادي مكة، وهو الذي يقال له: المحصب أيضًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب ذاهبون إلى [أن] (¬1) ما حرم من ذلك، فقد دخل فيه النساء والرجال واحتجوا في ذلك بقول النبي -عليه السلام-: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ولم يخص في ذلك الرجال دون النساء. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أراد بهؤلاء الذاهبين زيد بن وهب الجهني وسالمًا والحسن البصري في رواية، فإنهم قالوا: ما حرم من الحرير يدخل فيه الرجال والنساء جميعًا، لعموم قوله -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (¬1) ولم يخص في ذلك الرجال دون النساء. وقال ابن العربي: اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال: الأول: يحرم بكل حال. الثاني: يحرم إلا في الحرب. الثالث: يحرم إلا في السفر. الرابع: يحرم إلا في المرض. الخامس: يحرم إلا في الفرد. السادس: يحرم إلا في العَلَم. السابع: يحرم على الرجال والنساء. الثامن: يحرم لبسه من فوق دون لبسه من أسفل، وهو الفرش، قاله أبو حنيفة وابن الماجشون. التاسع: مباح بكل حال. العاشر: يحرم وإن خلط مع غيره كالخز. ومما احتج به من يقول بحرمته على الرجال والنساء جميعًا ما رواه مسلم (¬2): أن ابن الزبير - رضي الله عنهما - قال: "لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت [عمر بن الخطاب يقول: قال] (¬3) رسول الله -عليه السلام- يقول: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" وكأن ابن الزبير فهم منه العموم، ولم ير الخصوص. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "صحيح مسلم" (10/ 412 رقم 3856). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: وقالوا: قد رأينا آنية الذهب والفضة حرمت على المسلمين؛ لأنها آنية الكفار في الدنيا؛ فاستوى في ذلك النساء والرجال، فكذلك الحرير لما حَرُمَ على المسلمين لأنه لباس الكفار؛ استوى فيه الرجال والنساء جميعًا. ش: أي: قال هؤلاء الذاهبون، وأشار به إلى وجه النظر والقياس في تحريم الحرير على الرجال والنساء جميعًا، وهو ظاهر. ص: فكان من الحجة [على] (¬1) من ذهب إلى هذا القول: أنه قد نُهي عن لبس الثياب المصبغات، وقيل: إنها لباس الكفار. وروي عن النبي -عليه السلام- في ذلك: ما حدثنا محمد بن خزيمة قال: ثنا مسدد قال: ثنا يحيى، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي -عليه السلام- رأي عليه ثوبين معصفرين، فقال: هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: حدثنا يحيى. . . . فذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث أن الثياب المصبغة ثياب الكفار. ش: أشار بهذه إلى بيان مستند هؤلاء الطائفة فيما قالوا من وجه النظر والقياس، أي فكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الذاهبين إلى هذا القول، وهو عموم التحريم للرجال والنساء جميعًا، أن النبي -عليه السلام- قد نهى عن لبس الثياب المصبغات، حيث قال: "هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" وعلله بذلك، وذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن محمد بن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "إلى"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني، عن خالد بن معدان الكلاعي الشامي الحمصي، عن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي الشامي الحمصي المخضرم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: نا خالد، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، أن خالد بن معدان أخبره: أن جبيرًا أخبره: أن عبد الله بن عمرو أخبره: "أنه رآه النبي -عليه السلام- وعليه ثوبان معصفران، فقال: هذه ثياب الكفار فلا تلبسها". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز -بالمعجمات- عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن علي بن مبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير الحضرمي، عن عبد الله بن عمرو قال: "رآني النبي -عليه السلام-، وعليّ ثوب معصفر، فقال: ألقها؛ فإنها ثياب الكفار". انتهى. و"الثوب المعصفر": المصبوغ بالعصفر. قال الجوهري: العصفر صبغ، وقد عصفرت الثوب فتعصفر. قلت: العصفر هو زهر القرطم تصبغ به الثياب وغيرها. ص: فنظرنا في ذلك هل حرم لبسها لهذه العلة على النساء أم لا؟ فإذا سليمان بن شعيب قد حدثنا، قال: ثنا الحصيب، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن زياد النميري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- وعليه ثوب معصفر، فقال له: لو أن ثوبك هذا في تنور لكان خيرًا لك، فذهب الرجل ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 203 رقم 5316). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 158 رقم 2430).

فجعله تحت القدر -أو في التنور- فأتى النبي -عليه السلام- قال: ما فعل ثوبك؟ قال: صنعت به ما أمرتني، فقال له رسول الله -عليه السلام-: ما بهذا أمرتك أَوَلَا ألقيته على بعض نسائك؟ " فكان ذلك التحريم على الرجال دون النساء. ش: هذا إشارة إلى بيان فساد وجه قياس هؤلاء الطائفة الذي ذكروه في تعميم التحريم في حق الرجال والنساء جميعًا. بيانه: أن قوله -عليه السلام- في حديث أنس: "أولا ألقيته على بعض نسائك" يدل على أن التحريم مخصوص في حق الرجال دون النساء، وأن احتجاجهم في تعميم الحرمة بالعلة المذكورة -وهي كون تلك الثياب ثياب الكفار- فاسد، وأن ذلك التحريم على الرجال خاصة. وإسناد حديث أنس جيد. والخَصِيب هو ابن ناصح الحارثي، ثقة. وعمارة بن زاذان الصيدلاني البصري، عن أحمد: شيخ ثقة مأمون، وعنه: يروي عن أنس أحاديث مناكير. وعن يحيى: صالح. وقال أبو زرعة: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وزياد النميري هو: زياد بن عبد الله البصري، وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ. وعن يحيى: ليس به بأس، وعنه: ضعيف. وروى له أبو داود والترمذي. ص: وقد روي في ذلك عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما حدثنا أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا بندار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، قال: "دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فرأيت عليها ثيابًا مصبغة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرني ابن جريج، عن موسى بن عقبة، قال: "كانت أم سلمة وعائشة وأم حبيبة -رضي الله عنهن- يلبسن المعصفرات".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، سمع جابرًا - رضي الله عنه - يقول: "المُهِلَّة لا تلبس ثياب الطيب، وتلبس الثياب المعصفرات من غير طيب". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أنَّ مالكا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها -: "أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات وهي محرمة ليس فيهن زعفران". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: "ما رأيت أسماء لبست إلا المعصفر حتى لقيت الله -عز وجل-، وإن كانت لتلبس الثوب فيقوم قيامًا من العصفر". فما تنكرون أن يكون الحرير كذلك؛ فيكون مكروهًا لبسه للرجال، غير مكروه للنساء؟. ش: أي قد روي عن الصحابة في جواز لبس الثياب المصبغات للنساء، ذكر هذا شاهدًا لقوله: فكان ذلك التحريم على الرجال دون النساء. وأخرج في ذلك عن فعل عائشة وأم سلمة وأم حبيبة وأسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهن- وعن قول جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. أما ما روي عن هؤلاء الصحابيات فأخرجه من وجوه: الأول: بإسناد صحيح: عن أبي خازم -بالمعجمتين- عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي، أحد الأئمة الحنفية الكبار الصيّن الديَّن الأمين، عن بندار محمد بن بشار البصري شيخ الجماعة، عن محمد بن أبي عدي وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي البصري شيخ أحمد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر زياد بن كليب الحنظلي الكوفي، عن إبراهيم النخعي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم: "أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي -عليه السلام- فيراهن في اللحف الحمر قال: وكان إبراهيم لا يرى بالمعصفر بأسًا". وقد دل هذا الأثر على شيئين: أحدهما: كون إبراهيم من التابعين؛ لأنه رأى عائشة - رضي الله عنها - ولكن قالوا: إنه لم يسمع منها شيئًا. والآخر: أن الثياب المعصفرة جائزة للنساء. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، عن موسى بن عقبة. . . . إلى آخره. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬2). الرابع: عن يونس، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام القرشية الأسدية، زوجة هشام بن عروة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا غندر، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر: "أن أسماء كانت تلبس المعصفرات وهي محرمة". وأما ما روي من قول جابر - رضي الله عنه -، فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 159 رقم 24739). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 326 رقم 711). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 160 رقم 24745).

وأراد "بالمهلة" المحرمة، من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية للإحرام. ص: فإن قالوا لنا: فَلِمَ لا تشبهون حكم لباس الحرير في هذا الباب بحكم استعمال آنية الذهب والفضة؟ قيل لهم: لأن الثياب المصبغة هي من اللباس، فكذلك الثياب الحرير والديباج؛ والذهب والفضة هما من الأواني، واللباس بعضه ببعض أشبه منه بالآنية، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد شبهتم حكم لبس الحرير بحكم لبس الثياب المصبوغة حيث حرمتموه على الرجال خاصة دون النساء، فَلِمَ لا تشبهونه بحكم استعمال آنية الذهب والفضة حتى تكون حرمته عامة كحرمة استعمال أواني الذهب والفضة؟ وما الترجيح في ذلك؟ وتقرير الجواب: أن الثياب المصبوغة مما يلبس، وكذلك الثياب الحرير والديباج، وليس لها شبه بالأواني من الذهب والفضة، وشبه ما يلبس بعضه ببعض أقرب من شبهه بالآنية؛ فهذا هو الترجيح. فافهم. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثثا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي الصعبة، عن رجل من همدان يقال له: أفلح، عن ابن زُرَيْر أنه سمع عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرًا في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في يساره، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن أبي أفلح، عن عبد الله بن زُرَيْر الغافقي، عن عليّ بن أبي طالب، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، أن عبد العزيز بن أبي الصعبة القرشي حدثه. . . . ثم ذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا إبراهيم بن منقذ وصالح بن عبد الرحمن، قالا: أنا المقرئ، عن عبد الرحمن ابن زياد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي عمران وابن أبي داود، وعلي بن عبد الرحمن، وأبو زرعة الدمشقي، قالوا: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن عباد بن العوام، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة قال: حدثني ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها زيد بن أرقم، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. وزاد عليّ بن عبد الرحمن: "قالت: فقال له رجل: إنك لتقول هذا، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ينهى عنه، وكان في يدي قلبان من ذهب، فقال: ضعيهما، وركب حُمَيرًا له، فانطلق ثم رجع فقال: أعيديهما فقد سألته، فقال: لا بأس". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني الحسن بن ثوبان وعمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية، قال: سمعت مسلمة بن مخلد يقول لعقبة بن عامر: "قم فحدث الناس بما سمعت من رسول الله -عليه السلام-. فقام عقبة فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من كذب عليّ فليتبوأ بيته من جهنم، وسمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال الأنماطي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "الحرير والذهب حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها".

حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه، عن موسى الأشعري، عن النبي -عليه السلام- مثله. فبيّن في هذه الآثار من قصد إليه النهي في الآثار الأُوَل، وأنهم الرجال دون النساء. ش: أي وقد روي في تحريم الحرير على الرجال خاصة دون النساء عن النبي -عليه السلام-. وأخرج في ذلك عن خمسة أنفس من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن أرقم، وعقبة بن عامر، وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. أما حديثي علي - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن شيخ أبي داود، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة التيمي المصري، وثقه ابن حبان. عن أفلح الهمداني، والمحفوظ فيه: أبو أفلح، وقد وقع كلاهما في رواية الطحاوي ففي هذه الرواية وقع: أفلح وفي الرواية التي تأتي وقع: أبو أفلح، وهو الصحيح. قال الذهبي: أبو أفلح لا يُدرى من هو، وهو يروي عن عبد الله بن زرير الغافقي المصري، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي أفلح الهمداني، عن ابن زرير، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: "إن نبي الله -عليه السلام- أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 50 رقم 4057).

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن إسحاق المدني. . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن أبي الأفلح الهمداني، عن عبد الله بن زرير الغافقي، سمعته يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "أخذ رسول الله -عليه السلام- حريرًا بشماله، وذهبًا بيمينه، ثم رفع بهما يديه فقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم". الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب. . . . إلى آخره. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي قاضيها، فيه مقال، فعن أحمد: ليس بشيء وعنه: منكر الحديث. وعن يحيى: ضعيف. وقال ابن خراش: متروك. عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية، قال البخاري: في حديثه مناكير. عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج علينا رسول الله -عليه السلام- وفي إحدى يديه ثوب من حرير وفي الأخرى ذهب، فقال: إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم". الثاني: عن إبراهيم بن منقذ العصفري، وصالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1189 رقم 3595). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 153 رقم 24662).

الحارث، كلاهما عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني: نا هارون بن ملول قال: ثنا المقرئ، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو، قال: "خرج علينا رسول الله -عليه السلام- وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها". وأما حديث زيد بن أرقم: فأخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي نزيل مصر وثقه ابن يونس وغيره، وعن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وعن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن مغيرة الكوفي نزيل مصر المعروف بِعِلَّان، وعن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام وشيخ الطبراني، أربعتهم عن سعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن عباد بن العوام بن عمر بن عبد الله الواسطي روي له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة روى له الجماعة عن ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم الأنصاري قال أبو حاتم: له أحاديث مناكير. عن عمته أنيسة بنت زيد بن أرقم ذكرها ابن حبان في "الثقات" عن زيد بن أرقم الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمد بن الفضل السقطي، ثنا سعيد بن سليمان (ح). وثنا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، قالا: ثنا عباد بن العوام، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: أخبرني ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسة بنت زيد بن أرقم عن أبيها زيد بن أرقم قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الذهب والحرير حل لإناث أمتي، وحرام على ذكورها". قوله: "وزاد علي بن عبد الرحمن" أي في روايته زاد. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 211 رقم 5125).

قوله: "قالت: فقال له رجل. . . ." إلى آخره أي قالت أنيسة: فقال لزيد بن أرقم رجل: إنك لتقول هذا. قوله: "قُلبان" تثنية قُلب -بضم القاف وسكون اللام- وهو السوار. وأما حديث عقبة بن عامر: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روي له الجماعة، عن الحسن بن ثوبان بن عامر الهوزني المصري وثقه ابن حبان، وعن عمرو بن الحارث المصري، كلاهما عن هشام بن أبي رقية اللخمي المصري وثقه ابن حبان، عن مسلمة بن مخلد الصحابي، عن عقبة بن عامر الجهني الصحابي. وقد أخرجه الطحاوي فيما مضى (¬1) بلفظ آخر، عن يونس بن عبد الأعلى وبحر ابن نصر كلاهما عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية. وأخرجه ابن يونس في ترجمة مسلمة: ثنا كهمس بن معمر، ثنا الحسن بن سليمان، ثنا مسكين بن عبد الرحمن، ثنا يحيى بن أيوب، عن خالد بن أبي عمران، عن هشام بن أبي رقية، عن مسلمة بن مخلد: "أنه قال وهو على المنبر: لأحدثنكم بما سمعت من رسول الله -عليه السلام- سمعته يقول: الذهب والحرير محرم على ذكور أمتي، حل لإناثهم". قال أبو سعيد: وهذا حديث خطأ، والصواب فيه هشام عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. وأما حديث أبي موسى الأشعري: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر، عن سعيد بن أبي هند الفزاري مولى سمرة بن جندب روى له الجماعة، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري. ¬

_ (¬1) تقدم.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا إسحاق بن منصور، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن سعيد، عن أبي موسى الأشعري. . . . إلى آخره نحوه، وقال: حديث حسن صحيح. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان ويزيد بن هارون ومعمر بن سليمان وبشر بن المفضل قالوا: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، نحوه. وأخرجه (¬3): عن علي بن الحسين الدرهمي، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي، عن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، نحوه. قوله: "فبين في هذه الآثار" أراد بها الأحاديث المذكورة، وأراد بالآثار الأول: الأحاديث المذكورة في الفصل الأول. ص: فقال الآخرون: فقد روي عن ابن عمر وابن الزبير - رضي الله عنهم - أنهما جعلا قول النبي -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" على الرجال والنساء، وذكروا في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك قال: "سألت امرأةٌ ابن عمر - رضي الله عنهما - قالت: أتحلى بالذهب؟ قال: نعم، قالت: ما تقول في الحرير؟ قال: يكره ذلك، قالت: ما يكره؟ أخبرني أحلال هو أم حرام؟ قال: كنا نتحدث أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". ¬

_ (¬1) "الجامع الترمذي" (4/ 217 رقم 1720). (¬2) "المجتبى" (8/ 160 رقم 5147). (¬3) "المجتبى" (8/ 161 رقم 5148).

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن نزار قال: ثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن امرأة سألته عن لبس الحرير فكرهه، فقالت: ولمَ؟ فقال لها: أما إذْ أبيت فسأخبرك، كنا نقول: من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني أبو ذُبْيان قال: سمعت ابن الزبير - رضي الله عنهما - يخطب يقول: "يأيها الناس، لا تُلبسوا نساءكم الحرير؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، قال ابن الزبير: وأنا أقول: من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة؛ لأن الله تعالى قال: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬1). حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: حدثني الأزرق بن قيس الحارثي، قال: "سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يوم التروية وهو يقول: يأيها الناس لا تلبسوا الحرير ولا [تُلبسوه] (¬2) نساءكم ولا أبناءكم فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. حدثنا بحر بن نصر قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا عُشانة المعافري حدثه، أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يخبر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول: إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنها في الدنيا". ش: أراد بالآخرين: الطائفة الذين قالوا بتحريم الحرير على الرجال والنساء جميعًا، وهذا إيراد منهم على من يقول بتخصيص الحرمة في حق الرجال، وذكروا في ذلك أحاديث عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعقبة بن عامر؛ فإنها تدل على أنهم عملوا بعموم النهي في الأحاديث المذكورة، ولم يحملوا ذلك على الخصوص في حق الرجال، ولهذا سووا في الحرمة بين الرجال والنساء. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [23]، وسورة فاطر، آية: [33]. (¬2) في "الأصل، ك": "تلبسوها"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أما حديث عبد الله بن عمر: فأخرجه من طريقين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن يوسف بن ماهك المكي. . . . إلى آخره. قوله: "قالت: ما يكره؟ أخبرني. . . .؟ " أرادت ما معنى قولك: يكره ذلك؟ أخبرني هل حلال أم حرام؟ الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي وثقه ابن حبان، عن عبد العزيز بن أبي رواد ميمون بن بدر المكي، مولى المهلب بن أبي صفرة، وثقه يحيى وغيره، وعن أحمد: رجل صالح، وكان مرجئًا. استشهد به البخاري، وروى له الأربعة. عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأما حديث عبد الله بن الزبير فأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح، عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي ذبيان -بضم الذال المعجمة وكسرها وسكون الباء الموحدة- واسمه خليفة بن كعب التميمي البصري، روى له البخاري ومسلم والنسائي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا علي بن الجعد، أنا شعبة، عن أبي ذبيان خليفة بن كعب، قال: سمعت ابن الزبير يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال النبي -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن سعيد، عن شعبة، عن خليفة بن كعب بن ذبيان، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2194 رقم 5496). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1641 رقم 2069).

يقول: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". قوله: "قال ابن الزبير: وأنا أقول. . . ." إلى آخره استنباط ابن الزبير هذا الحكم بطريق القياس من قوله -عليه السلام-: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ووقع في رواية أبي يعلى (¬1) هذا الكلام منسوبًا إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حماد بن زيد، عن هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي ذبيان قال: "سمعت ابن الزبير وهو يخطب قال: قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، قال: وإلى جنبه ابن عمر فقال: إذن والله لا يدخل الجنة؛ يقول الله -عزوجل-: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬2) ". الثاني: على شرط البخاري موقوف على ابن الزبير، عن محمد بن خزيمة عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس الحارثي، عن عبد الله ابن الزبير. ويستفاد منه أحكام: تحريم الحرير على الرجال وعلى النساء، وعدم جواز إلباسه الصبيان كعدم جواز لبسه للبالغين، وهذا حجة لأصحابنا في منعهم إلباس الوالدين الحرير للصبي، وأباح ذلك الشافعي، والحديث حجة عليه. وأما حديث عقبة: فأخرجه بإسناد صحيح: عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي عشانة واسمه حي بن يؤمن بن جميل المصري المعافري -بفتح الميم وكسر الفاء- نسبة إلى المعافر بن يعفر قبيل ينسب إليه كثير عامتهم بمصر ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (12/ 195 رقم 6817). (¬2) سورة الحج، آية: [23]، وسورة فاطر، آية: [33].

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا أصبغ بن الفرج (ح). وحدثنا أحمد بن رشدين، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول: إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها، فلا تمسوها في الدنيا". ص: قيل لهم: أما قول النبي -عليه السلام-: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". فقد روي ذلك، وقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد به الرجال خاصة، ويجوز أن يكون أراد به الرجال والنساء، وما ذكرنا من حديث عليّ وعبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم، وأبي موسى - رضي الله عنهم - يخبرون أن النبي -عليه السلام- إنما أراد به الرجال دون النساء فهو أولى، وهذا المعنى أولى أن يُحمل عليه وجه هذا الحديث حتى لا يضاد ما ذكرنا قبله، ولئن كان ما ذكروه عن ابن عمر وابن الزبير في ذلك حجة فإن ما ذكرناه عن علي - رضي الله عنه - مما يخالف ذلك أحرى أن يكون حجة. ش: أي قيل لهؤلاء الآخرين، وهذا جواب عما قال هؤلاء، وهو ظاهر. وجواب آخر: أن ابن عمر وابن الزبير - رضي الله عنهم - لم يبلغهما الحديث المخصص لعموم الحرمة في قوله: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ولهذا سَوَّيَا في الرجال والنساء في الحرمة، وأما حديث عقبة فيحتمل أن يكون قبل حديث عليّ - رضي الله عنه -. ص: وقد روي في هذا أيضًا عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام- خلاف ذلك. حدثنا يزيد بن سنان وابن مرزوق، قالا: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت نافعًا يحدث، عن ابن عمر قال: "رأى عمر - رضي الله عنه - عطاردًا التميمي يقيم في السوق حلة سيراء، فقال عمر: يا رسول الله، لو اشتريتها لوفد العرب إذا وفدوا عليك؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 302 رقم 835).

الآخرة، فلما كان بعد ذلك أُتي رسول الله -عليه السلام- بحلل سيراء فبعث إلي عمر بحلة، وإلي أسامة بحلة، وأعطى عليَّا حلة فأمره أن يشقها خمرًا بين نسائه، قال: وراح أسامة بحلته، فنظر إليه رسول الله -عليه السلام- نظرًا عرف أنه كره ما صنع، فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خُمرًا بين نسائك". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أبصر رسول الله -عليه السلام- حلة سيراء على عطارد، فكرهها له ونهاه عنها، ثم إنه كَسَى عمر - رضي الله عنه - مثلها، فقال: يا رسول الله، قلت في حلة عطارد ما قلت، وتكسوني هذه؟ فقال: إني لم أكسكها لِتَلْبَسَهَا إنما أعطيتكها لِتُلْبِسَهَا النساء". فأخبر ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -عليه السلام- في هذا الحديث أن قوله: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له" إنما قصد به الرجال دون النساء. ش: أي قد روي في حكم لبس الحرير عن عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام- خلاف ما روي عنه من تعميم كراهة الحرير في حق الرجال والنساء جميعًا، بيان ذلك: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد روي عنه أيضًا ما يدل على أنه -عليه السلام- قصد من قوله: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" الرجال دون النساء، وهذا خلاف ما روي عنه من تعميم ذلك، الذي احتج به من يذهب إلى عموم التحريم في حق الرجال والنساء جميعًا، والأخذ بهذه الرواية التي فيها تخصيص التحريم بالرجال أولى؛ لموافقتها الأحاديث القاصرة للتحريم على الرجال دون النساء. وأخرج هذه الرواية من طريقين صحيحين: الأول: عن يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) مطولًا ومختصرًا. قوله: "عطاردًا" وهو عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: "سِيَراء" بكسر السين وفتح الياء آخر الحروف وبالمد، وهو نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، وهو فعلاء من السير، وهو القِدُّ، وهو هكذا يروى على أنه صفة للحلة، وقال بعضهم: حلة سيراء على الإضافة، واحتج بأن سيبويه قال: لم تأت فعلاء صفة، لكن اسمًا، وشرح السيراء بالحرير الصافي، ومعناه حلة حرير. وفي "سنن أبي داود" (¬4): السيراء: المضلع بالقَزِّ. قوله: "من لا خلاق له" أي: من لا نصيب له. قوله: "خُمُرًا" بضم الخاء المعجمة: جمع خمار المرأة، وهو الذي يتغطى به وجهها ورأسها. الثاني: عن روح بن الفرج، عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع. . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬5): من حديث سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - نحوه. ص: وقد وري هذا أيضًا عن علي - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام-. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا وكيع، عن مسعر، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 350 رقم 1076). (¬2) "المجتبى" (8/ 196 رقم 5295). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1187 رقم 3591). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 448 رقم 4058). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 114 رقم 5951).

عن أبي عون عن أبي صالح الحنفي، عن علي - رضي الله عنه - أن: "أكيدر دومة أهدى للنبي -عليه السلام- ثوب حرير، فأعطاه إياه، وقال: اشققه خُمرًا بين النساء". ش: أي قد روي هذا الذي روي عن ابن عمر من الحديث المذكور؛ عن علي بن أبي طالب أيضًا. أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، فيه مقال. عن وكيع، عن مسعر بن كدام، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي الأعور الكوفي، عن أبي صالح الحنفي، واسمه عبد الرحمن بن قيس، ويقال: ابن ماهان، وقال النسائي: قال إسحاق بن إبراهيم: أبو صالح الحنفي اسمه ماهان. والصواب عبد الرحمن بن قيس أخو طلق بن قيس، روى له مسلم. وقد مر ضبط أكيدر وتفسيره، وتفسير دومة. قوله: "اشققه": أمر من شَقَّ يَشُقُّ، وقد علم أنه يجوز في نحوه الإدغام مع الحركات الثلاث والحلّ. ص: وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن أبي عون الثقفي، قال: سمعت أبا صالح الحنفي يقول: سمعت عليَّا - رضي الله عنه - يقول: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- حلة سيراء من حرير، فبعث بها إليّ، فلبستها، فرأيت الكراهة في وجهه فأطرتها خُمرًا بين نسائي". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عون. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن يزيد بن وهب، عن عليّ - رضي الله عنه -. . . . فذكر مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين حدثه، أن أباه حدثه، أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول: "كساني رسول الله - عليه السلام- حلة سيراء، فرحت فيها، فقال: يا علي، إني لم أكسكها لتلبسها، فرجعت إلى فاطمة -عليها السلام- فأعطيتها طرفها كأنها تطوي معي، فشققتها، فقالت: تربت يداك يا ابن أبي طالب، ماذا جئت به؟ قلت: نهاني رسول الله -عليه السلام- أن ألبسها، فَالْبسِيها واكسي نساءَكِ". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي فاختة، عن جعدة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "أهدى أمير أذربيجان إلى النبي -عليه السلام- حلة مُسَيَّرة بحرير، إمَّا سَدَاها وإمَّا لُحْمَتُهَا، فبعث بها إليّ، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ألبسها؟ قال: لا، أكره لك ما كره لنفسي، اجعلها خُمُرًا بين الفواطم، قال: فقطعت منها أربع خمر: خمارًا لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم عليّ بن أبي طالب، وخمارًا لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارًا لفاطمة أخرى قد نسيتها". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي فاختة، عن جعدة بن هبيرة، عن علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- أهديت له حلة، لُحْمَتُها أو سَدَاهَا إبريسم، فقلت يا رسول الله، ألبسها؟ قال: أكره لك ما أكره لنفسي؛ ولكن اقطعها خُمرًا لفلانة وفلانة، وذكر فيهن فاطمة، قال: فشققتها أربع خمر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت مجاهد يحدث عن ابن أبي ليلى، قال: سمعت عليَّا - رضي الله عنه - يقول: "أتي رسول الله -عليه السلام- بحلة حرير، فبعث بها إليّ فلبستها، فرأيت الكراهة في وجهه، فأطرتها خُمرًا بين النساء".

ش: هذه سبع طرق صحاح ما خلا الطريق الذي فيه يعقوب بن حميد؛ فإنه ضعيف، ويزيد بن أبي زياد كذلك: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي عون محمد بن عبيد الله، عن أبي صالح عبد الرحمن بن قيس، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن أبي عون، قال: سمعت أبا صالح، عن علي - رضي الله عنه -، قال: "أهديت إلى رسول الله -عليه السلام- حلة سيراء، فأرسل بها إليّ، فلبستها فأتيته، فرأيت الغضب في وجهه، وقال: لم أرسل بها إليك لتلبسها، وأمرني فأطرتها بين نسائي". قوله: "أطرتها" أي قطعتها وشققتها، وقال الخطابي: معناه قسمتها، يقال: طار لفلان في القسمة سهم كذا، أي صار له، ووقع في حصته، ويقال: معناه: قسمتها بينهن بالقرعة. قلت: مادته: "همزة وطاء وراء"، وعلى تفسير الخطابي تكون مادته: "طاء وياء وراء". فافهم. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن أبي عون محمد بن عبيد الله، عن أبي صالح عبد الرحمن ابن قيس الحنفي، عن علي بن أبي طالب. وأخرجه مسلم (¬2): عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي عون. . إلى آخره نحوه. الثالث: عن سليمان أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي الكوفي، عن زيد بن وهب الجهني المخضرم، عن عليّ - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 47 رقم 4043). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1644 رقم 2071).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب، عن علي بن أبي طالب، قال: "كساني رسول الله -عليه السلام- حلة سيراء [فرجعت] (¬2) فيها، فرأيت الغضب في وجهه، قال: فشققتها بين نسائي". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى. . إلى آخره. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا يعقوب، عن أبي إسحاق، حدثني إبراهيم ابن عبد الله بن حنين، عن أبيه، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "نهاني رسول الله -عليه السلام-، -لا أقول: نهاكم- عن تختم الذهب، ولبس القسي والمعصفر، وقراءة القرآن وأنا راكع، وكساني حلة من سيراء فخرجت فيها، فقال: يا علي: إني لم أكسكها لتلبسها، قال: فرجعت بها إلى فاطمة - رضي الله عنها - فأعطيتها ناحيتها، فأخذت بها لتطويها معي، فشققتها شقين، قال: فقالت: تَرِبَت يداك يا ابن أبي طالب، ماذا صنعت؟ قال: فقلت لها: نهاني رسول الله -عليه السلام- عن لبسها، فالبسي واكسي نساءك". قوله: "تربت يداك" من ترب الرجل إذا افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها، كما يقولون: قاتله الله. وقيل معناها: لله درك. وقيل: أراد به المثل ليرى المأمور بذلك الحد، وأنه إن خالفه فقد أساء. وقيل: إنها تستعمل في الدعاء عليه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1644 رقم 2071). (¬2) كذا في "الأصل"، وفي "صحيح مسلم": فخرجت. (¬3) "مسند أحمد" (1/ 92 رقم 710).

قلت: المعنى هاهنا على ما ذكرناه أولًا، وليست هي هاهنا بمعنى الدعاء عليه. فافهم. الخامس: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني فيه مقال. عن عمران بن عيينة، أخي سفيان بن عيينة، قال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه، لأنه يأتي بالمناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات". وهو يروي عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال، فعن أحمد: ليس بذاك، وعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وقال أبو زرعة: لين، يكتب حديثه ولا يحتج به. وروى له الأربعة ومسلم مقرونا بغيره. وهو يروي عن أبي فَاختة سعيد بن علاقة الهاشمي الكوفي، قال العجلي والدارقطني: ثقة. عن جعدة بن هبيرة المخزومي، وأمه أم هانئ بنت أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب، ذكره ابن حبان في التابعين، وذكره صاحب "التهذيب" في الصحابة. والحديث أخرجه النسائي في "مسند علي" - رضي الله عنه -. قوله: "حلة مسيرة بحرير" أي فيها خطوط من إبريسم كالسيور. و"خمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها"، قال عياض: لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب، وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة. السادس: عن يزيد بن سنان شيخ النسائي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي المروزي، عن يزيد بن أبي زياد. . إلى آخره. قوله: "إبريسم" بكسر الهمزة، لفظ معرب.

قوله: "لا" أي لا تلبسها. وقوله: "أكره لك" ابتداء كلام. السابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر بيان بن بشر الأحمسي الكوفي، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى يسار. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهديت له حلة حرير فأرسل بها إلى، فرآها عليّ فقال: إني لا أرضى لك ما أكره لنفسي، فأمرني فشققتها بين النساء". وهذا الحديث لا نعلم رواه عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب؛ إلا شعبة. ص: وقد روي في ذلك عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أنس: "أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي -عليه السلام- برد حرير سيراء". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا يحيى بن حمزة عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس مثله. حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبد الرحمن بن جعفر الرقي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي ومعمر، عن الزهري، عن أنس مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان وحيوة بن شريح، قالا: ثنا بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس مثله. قال: والسيراء: المضلع بالقزِّ. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا ابن المبارك، ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 222 رقم 618).

عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: "رأيت على زينب بنت النبي -عليه السلام- بردًا سيراء من حرير". ش: أي قد روي في إباحة الحرير للنساء عن أنس بن مالك. وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬1): نا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله -عليه السلام- برد حرير سيراء". الثاني: عن محمد بن حميد بن هشام، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الدمشقي، عن محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أنس. وأخرجه النسائي (¬2): أنا عمرو بن عثمان، عن بقية، حدثني الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك أنه حدثني: "أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله -عليه السلام- برد سيراء، والسيراء: المضلع بالقز". الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الله بن جعفر الرقي، مولى آل عقبة بن أبي معيط، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ومعمر بن راشد، كلاهما عن محمد بن مسلم الزهري، عن أنس. وأخرجه النسائي (¬3): عن الحسين بن حريث، عن عيسى بن يونس. . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2196 رقم 5504). (¬2) "المجتبى" (8/ 197 رقم 5297). (¬3) "المجتبى" (8/ 197 رقم 5296).

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الخطاب بن عثمان الطائي الفوزي شيخ البخاري، وعن حيوة بن شريح الحمصي، كلاهما عن بقية بن الوليد الحمصي، عن محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه أبو داود (¬1): نا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد الحمصيان، قالا: ثنا بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أنه حدثه أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله -عليه السلام- بردًا سيراء، قال: والسيراء: المضلع بالحرير". قلت: المضلع: الذي فيه سيور وخطوط من الإبريسم وغيره، شبه الأضلاع. وقيل: هو الثوب الذي نسج بعضه وترك البعض. الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخرساني، شيخ مسلم وأبي داود، عن عبد الله بن المبارك. . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا عيسى بن يونس، عن معمر، أخبره عن الزهري، عن أنس، قال: "رأيت على زينب بنت رسول الله -عليه السلام- قميص حرير سيراء". قوله: "بردًا سيراء" على طريق الوصفية، وفي بعض الرواية على طريق الإضافة وقد ذكرناه. ص: فقد ثبت بهذه الآثار مع ما قدمنا في ذلك من النظر؛ إباحة لبس الحرير للنساء، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن عمر بن دينار: "أن جابر بن عبد الله نزع الحرير عن الغلام وتركه على الجواري، قال مسعر: وسألت عنه عَمرو بن دينار، فلم يعرفه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 448 رقم 4058). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 154 رقم 24679).

ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي رواها عن علي وأنس بن مالك، وأراد بالنظر: وجه القياس الذي ذكره فيما مضى، الذي يقتضي إباحة الحرير للنساء. قوله: "وقد حدثنا. . . ." إلى آخره، ذكره شاهدًا لما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومن تبعهم في إباحة الحرير للإناث دون الذكور. وأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن مسعر بن كدام. . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا نصر بن علي، قال: ثنا أبو أحمد -يعني الزبيري- قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري، قال مسعر: فسألت عمرو بن دينار عنه، فلم يعرفه". قوله: "قال مسعر. . . ." إلى آخره أراد أن مسعرًا سمع الحديث عن عبد الملك بن ميسرة الزراد الكوفي، عن عمرو بن دينار، ثم لقي مسعر عمرو بن دينار فسأله عن الحديث، فلم يعرفه، فلعله نسيه، والله أعلم. قوله: "على الجواري" بفتح الجيم: جمع جارية، وهي البنت. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 50 رقم 4059).

ص: باب: الثوب يكون فيه علم الحرير أو يكون فيه من الحرير

ص: باب: الثوب يكون فيه علم الحرير أو يكون فيه من الحرير ش: أي هذا باب في بيان حكم لبس الثوب الذي يكون فيه علم حرير، أو يكون فيه شيء من الحرير، هل يجوز لبسه أم لا؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: قد روينا في غير هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهى عن الحرير، فذهب قوم إلى أن ذلك النهي قد وقع على قليله وكثيره فكرهوا بذلك لبس الثوب المعلَّم بعلم الحرير، والثوب الذي لحمته غير حرير. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وسليمان الأعمش وهشام بن عروة، فإنهم قالوا: يكره لبس الثوب المعلم بالحرير، وكذا الثوب الذي سداه حرير ولحمته غير حرير، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب (¬1) وحذيفة بن اليمان (¬2) وعبد الله بن عمر (¬3) وجابر بن عبد الله (¬4) وقيس بن عباد (¬5) - رضي الله عنهم -. ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في مصنفه بأسانيده إليهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: وقع النهى من ذلك على ما جاوز الأعلام، وعلى ما كان سداه غير حرير لا على غير ذلك، واحتجوا في ذلك بما قد روينا في باب: لبس الحرير، عن عمر - رضي الله عنه - في استثنائه مما حرم عليهم من الحرير؛ الأعلام. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24697). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24698). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24700). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24702). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 156 رقم 24701).

قالوا: العلم الحرير قدر ثلاثة أصابع أو أربعة أصابع مباح، وعن مالك روايتان في أربع أصابع، ومشهور مذهبه ثلاثة أصابع؛ لأنه لم يرد قدر أربعة أصابع. وأما ما كان سَدَاهُ قطن أو كتان أو نحوهما ولحمته حرير فإنه يحرم لبسه بالإجماع، وأما ما كان سَدَاهُ حرير ولُحْمَتُه غير حرير؛ فإنه يباح لبسه في الحرب عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد: لا يحل في الحرب أيضًا. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي ذكر في باب: لبس الحرير. وهو الذي رواه الشعبي، عن سويد بن غفلة: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بالجابية فقال: نهى نبي الله عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربع". ص: وبما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا القاسم ابن مالك المزني، عن داود بن أبي هند، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، قال: حدثتني عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت لنا قطيفة علمها حرير، فكنا نلبسها". ش: أي واحتجوا أيضًا بما حدثنا روح بن الفرج. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح، ما خلا روحًا. وسعد بن هشام بن عامر الأنصاري ابن عم أنس بن مالك - رضي الله عنه -، روى له الجماعة إلا البخاري. قوله: "قطيفة" بفتح القاف، وهي كساء له خمل. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن المغيرة بن زياد، عن أبي عمر مولى أسماء، قال: "رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - اشترى جبة فيها خيط أحمر فردها، فأتيت أسماء، فذكرت ذلك [لها] (¬1) فقالت: بؤسًا لابن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

عمر، يا جارية ناوليني جبة رسول الله -عليه السلام-، فأخرجت إلينا جبة مكفوفة الجيب والكمين والفروج بالديباج". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. ويحيى بن حسان بن حيان التنيسي في المصري شيخ الشافعي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وعيسى بن يونس بن إسحاق السبيعي، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. والمغيرة بن زياد البجلي أبو هشام الموصلي، وثقه يحيى والعجلي، وروى له الأربعة. وأبو عمر مولى أسماء، واسمه عبد الله بن كيسان القرشي التميمي، روى له الجماعة. وأسماء هي بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -. وأخرجه أبو داود (¬1): [حدثنا مسدد] (¬2)، نا عيسى بن يونس، قال: نا المغيرة بن زياد، قال: نا عبد الله أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر، قال: "رأيت ابن عمر في السوق، فاشترى ثوبًا شاميًّا فيه خيط أحمر، فرَدَّه، فأتيت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - فذكرت ذلك لها، فقالت: يا جارية ناوليني جبة رسول الله -عليه السلام-، فأخرجت له جبة طيالسة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج". وأخرجه مسلم (¬3) والنسائي (¬4) وابن ماجه (¬5) مختصرًا. قوله: "بؤسًا لابن عمر - رضي الله عنه -" بضم الباء الموحدة وسكون الواو بالسين المهملة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 49 رقم 4054). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1641 رقم 2069). (¬4) "السنن الكبرى" (5/ 473 رقم 9619). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 942 رقم 2819).

قال الجوهري: البؤس: الداهية، يقال يومُ بؤسٍ ويومُ نُعمٍ، والمعنى هنا: ألزمه الله بؤسًا، والمعنى في الحقيقة الإنكار الشديد وليس بدعاء عليه حقيقة. ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قالا: أنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: "إنما نهى رسول الله -عليه السلام- عن الثوب المصمت، وأما السدا والعلم فلا". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن خصيف. . . .، فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق حسان جياد: الأول: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي الأنطاكي، عن الهيثم بن جميل البغدادي الحافظ نزيل أنطاكية، عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي، عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري الأموي مولى عثمان بن عفان، عن عكرمة، عن ابن عباس. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا ابن نفيل، قال: ثنا زهير، قال: ثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "إنما نهى رسول الله -عليه السلام- عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسَدَا الثوب فلا بأس". الثالث: عن فهد أيضًا، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير. . إلى آخره. قوله: "المصمت" بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الميم الثانية وفي آخره تاء مثناة من فوق، وهو الذي جميعه حرير، لا يخالطه قطن فيه ولا غيره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 49 رقم 4055).

قوله: "وأما السَّدَا" بفتح السين مقصور، ويقال: ستى بالتاء المثناة من فوق، لغتان بمعنى واحد، وهو خلاف اللُّحَمَة. ص: ففي هذه الآثار إباحة لبس الثوب من غير الحرير، إذا كان فيه الحرير مثل العلم، أو كانت لحمته غير حرير، إذا كان سداه حريرًا. ش: أراد بهذه الآثار: أحاديث عائشة وأسماء وابن عباس - رضي الله عنهم - التي تدل على إباحة لبس الثوب القطن أو الكتان إذا كان فيه العلم من الحرير، وعلى إباحة لبس الثوب الذي سداه حرير ولحمته غزل أو قطن أو نحوهما. ص: ومما دل على صحة ما قالوا من ذلك ما قد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- في لبسهم الخز. حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، قال: ثنا إسماعيل بن المهاجر، قال: سمعت أبي يذكر عن الشعبي، قال: "رأيت على الحسين بن علي - رضي الله عنهما - جبة خز". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، قال: "رأيت على الحسين بن علي - رضي الله عنهما - مطرف خَزٍّ". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا بكر بن مضر، عن عمر بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، أن بسر بن سعيد حدثه: "أنه رأى على سعد بن أبي وقاص جبة شامية قيامها قزٌّ، قال بسر: ورأيت على زيد بن ثابت خمائص معلمة". حدثنا علي، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا عبد الله ابن عمر، عن وهب بن كيسان، قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - يلبسون الخزَّ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنها كست عبد الله بن الزبير مطرف خزٍّ، كانت عائشة تلسبه".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم، قال: "قدمت على مروان بن الحكم مطارف خز، فكساها ناسًا من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فكأني أنظر إلى أبي هريرة وعليه منها مِطْرَفٌ أَغْبَرُ، كأني أنظر إليه وإلى طرائف إبريسم فيه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا صالح بن حاتم بن وردان، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني عبد الله بن عون، قال: "رأيت على أنس بن مالك جبة خز ومطرف خز وعمامة خز". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا مهدي بن ميمون، عن شعيب بن الحبحاب، قال: "رأيت على أنس بن مالك جبة خز ومطرف خز، قال: وبرنس خز". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن محمد بن زياد: "أنه رأى على أبي هريرة مطرف خز". ش: أي ومن الذي دلَّ على صحة ما قاله أهل المقالة الثانية: ما قد روي عن الصحابة من لبسهم الخزَّ، والخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم. فإن قيل: قد نهى رسول الله -عليه السلام- عن ركوب الخز والجلوس عليه. قلت: الخزُّ المعروف أولًا ما ذكرناه، وهي مباحة قد لبسها الصحابة والتابعون، فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم، وزي المترفين، وإن أريد بالخز النوع الآخر، وهو المعروف الآن، فهو حرام؛ لأنه جميعه معمول من الإبريسم، وعليه يحمل الحديث الآخر: "قوم يستحلون الخز والحرير" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه (4/ 46 رقم 4039) من حديث أبي مالك أو أبي عامر الأشعري، وقال أبو داود بعده: وعشرون نفسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أكثر لبسوا الخز، منهم أنس والبراء بن عازب. والحديث عند البخاري بلفظ آخر، وهو حديث المعازف المشهور.

وأخرج في ذلك عن ثمانية أنفس من الصحابة وهم: الحسين بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وعائشة. أما عن الحسين بن علي: فأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسماعيل بن إبراهيم البجلي الكوفي فيه مقال، عن أبيه إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي، عن عامر الشعبي. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن يونس ابن أبي إسحاق، عن العيزار بن حُريث العبدي الكوفي. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: "رأيت الحسين بن علي وعليه كساء خز، وكان يخضب بالحناء والكتم". قوله: "مُطْرف" بضم الميم وفتحها (¬2) وسكون الطاء وفتح الراء: الثوب الذي في طرفيه علمان، والميم زائدة. وأما عن سعد بن أبي وقاص وفي أثره أبو هريرة وجابر وزيد بن ثابت وأنس أيضًا؛ فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري. . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 149 رقم 24624). (¬2) وكذا فيها الكسر، كما في "النهاية" (3/ 121): بكسر الميم وفتحها وضمها، واقتصر الجوهري في الصحاح (1/ 164) على الضم والكسر.

وبُسْر -بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد، روى له الجماعة. الثاني: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن معين الحجة، عن وهب بن جرير، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أخي عبيد الله بن عمر، روى له مسلم -مقرونًا بغيره- والأربعة، وعن أحمد: ليس به بأس. قوله: "قز" بالقاف وتشديد الزاي، قال الجوهري: "القز" من الإبريسم معرب. قلت: القزُّ: الحرير النيّ. و"الخمائص" جمع خميصه، وهي كساء أسود مربع له علمان، وإن لم يكن معلمًا فليس بخميصة. وأما عن عائشة وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -؛ فأخرجه من طريق صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أنه كان لها كساء خزٍّ، فكسته ابن الزبير". وأما عن أبي هريرة أيضًا؛ فأخرجه من طريقين: الأول: بإسناد صحيح: عن سليمان بن شعيب، عن يحيى بن حسان. . إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو داود الطيالسي، عن عمران القطان، قال: أخبرني عمار قال: "رأيت على أبي قتادة مطرف خزٍّ، ورأيت على أبي هريرة مطرف خز، ورأيت على ابن عباس مالا أحصي". والثاني: أيضًا بإسناد صحيح: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 912 رقم 1624). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 149 رقم 24628). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 150 رقم 24631).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرني شعبة، عن محمَّد بن زياد قال: "رأيت على أبي هريرة مطرف خزٍّ قد ثناه". وأما عن أنس؛ فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن صالح بن حاتم بن وردان البصري شيخ مسلم، عن يزيد بن زريع، عن عبد الله بن عون المزني. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن إسماعيل بن علية، عن يحيى بن أبي إسحاق، قال: "رأيت على أنس بن مالك مطرف خز، ورأيت على القاسم مطرف خز، ورأيت على عبيد الله بن عبد الله خزًّا". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن مهدي بن ميمون الأزدي المعولي البصري، عن شعيب بن الحبحاب المعولي البصري. قوله: "وبرنس خز" البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به من ذراعه، أو جبة، أو ممطر أو غيره. قال الجوهري: هو القلنسوة طويلة، كان النُّسَّاك يلبسونها في صدر الإِسلام، وهو من البرس، وهو القطن، والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد كانوا يلبسون الخز وقيامُهُ حرير. ش: أراد بهؤلاء: الصحابة المذكورين، فإنهم كانوا يلبسون مطارف خز وبرانس خز، وكان قيامها حرير. ص: فكان من الحجة الأخرى على أهل هذه المقالة، أن الخز يومئذ لم يكن فيه حرير. فيقال لهم: وما دليلكم على ما ذكرتم، وقد ذكرنا في بعض هذه الآثار أن جبة سعد كان قيامها قز، وروينا عنه في كتابنا هذا في غير هذا الباب: أنه دخل على ابن عامر ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 151 رقم 24640). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 149 رقم 24623).

وعليه جبة شطرها خز وشطرها حرير، فكلمه ابن عامر في ذلك، فقال: إنما يلي جلدي منه الخز، فدل ذلك أن خزهم كان كخزِّ الناس من بعدهم فيه حرير وفيه خز. ففي ثبوت ذلك ثبوت ما ذهب إليه من أباح لبس الثوب من غير الحرير المعلم ولبس الثوب الذي قيامه حرير وظاهره غيره. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا اعتراض من أهل المقالة الأولى وهم الذين ذهبوا إلى أن النهي عن لبس الحرير وقع على قليله وكثيره، على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية الذين ذهبوا إلى إباحة لبس ما كانت لحمته غير حرير، مستدلين بلبس الصحابة أكسية ومطارف من خز. وجه الاعتراض أن يقال: استدلالهم بهذا غير صحيح؛ وذلك لأن الخز يومئذ لم يكن فيه حرير، فلا يدل على صحة ما قالوه. فأجاب عنه بقوله: "فيقال لهم" أي لهؤلاء الآخرين المعترضين، وما دليلكم على ما ذكرتم؟. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "في غير هذا الباب" أراد به باب: لبس الحرير المتقدم على هذا الباب، وقد حققنا الكلام فيه هناك.

ص: باب الرجل يتحرك سنه هل يشدها بالذهب أم لا؟

ص: باب الرجل يتحرك سِنُّه هل يَشُدُّها بالذهب أم لا؟ ش: أي هذا الباب باب في بيان حكم الرجل الذي يتحرك سِنُّه، هل يجوز له أن يشدها بالذهب أم لا؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: قد اختلف الناس في الرجل يتحرك سنه، فيريد أن يشدها بالذهب، فقال أبو حنيفة: ليس له ذلك، وله أن يشدها بالفضة. وقال محمَّد بن الحسن: لا بأس إن شدها بالذهب كذلك. حدثنا محمد بن العباس، قال: ثنا على بن معبد، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وقال أصحاب الإملاء -منهم: بشر بن الوليد-: عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أنه لا بأس أن يشدها بالذهب. وقال محمَّد بن الحسن: لا بأس أن يشدها بالذهب، فكان من الحجة لأبي حنيفة في قوله الذي رواه محمَّد، عن أبي يوسف عنه: أنه قد نهي عن الذهب والحرير، فنهي عن استعمالهما، فكان ما نهي عنه من الحرير يدخل فيه لباسه وعصب الجراح به، فكذلك ما نهي عنه من استعمال الذهب يدخل فيه شد السن به. وكان من الحجة لمحمد فيما ذهب إليه من ذلك على أبي حنيفة في روايته عن أبي يوسف عنه: أن ما ذكر من تعصيب الجراح بالحرير إن كان مما فعل لأنه علاج للجراح فلا بأس به؛ لأن ذلك دواء، كما أباح رسول الله -عليه السلام- للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - لبس الحرير من الحكة التي كانت بهما، فكذلك عصائب الحرير إن كانت علاجا للجرح لتقِلَّ مدته، كما الثوب الحرير علاج للحكة؛ فلا بأس بها، وإن لم تكن علاجا للجرح [وكانت] (¬1) هي وسائر العصائب في ذلك سواء؛ فهي مكروهة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "كانت"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فكذلك ما ذكرنا من الذهب، إن كان يراد منه لأنه لا ينتن كما تنتن الفضة فلا بأس به. ش: اختلف الناس في شد السن المتحركة بالذهب؛ فقالت جمهور العلماء -منهم: إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، ونافع بن جبير، والحسن البصري، وثابت البناني، وموسى بن طلحة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: يجوز ذلك. قال الترمذي (¬1): وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وفي حديث عرفجة بن أسعد حجة لهم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وهو رواية عن أبي يوسف. وقال صاحب "البدائع": وأما شد السن المتحركة بالذهب فقد ذكر الكرخي أنه يجوز، ولم يذكر فيه خلافًا، وذكر في "الجامع الصغير" أنه يكره عند أبي حنيفة، وعند محمَّد لا يكره، ولو شدها بالفضة لا يكره بالإجماع. وكذا لو جُدِعَ أنفه فاتخذ أنفا من ذهب لا يكره بالاتفاق؛ لأن الأنف تنتن بالفضة، فلابد من اتخاذه بالذهب، فكان فيه ضرورة، فسقط اعتبار حرمته. وقال المنذري: في حديث عرفجة: استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه، مما لا يجري فيه غير مجراه. وقيل: يبتني عليه أن الطبيب إذا قال للعليل: من منافعك طبخ غذائك في آنية الذهب؛ جاز له ذلك. قوله: "عصائب الحرير" جمع عصابة وهي التي تشد بها الجراحة. قوله: "لتقل مَدَّتُه" بفتح الميم، وهو الذي يسيل من الجراحة. قوله: "ينتن" من الإنتان. فافهم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 240 رقم 1770).

ص: وقد أباح رسول الله -عليه السلام- لعرفجة بن أسعد أن يتخذ أنفًا من ذهب. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو الأشهب، (ح). وحدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حسان بن عبيد الموصلي، قال: ثنا أبو الأشهب، (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة بن أسعد: "أنه أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية، فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه، فشكى ذلك إلى النبي -عليه السلام-، فأمره أن يتخذ أنفًا من ذهب ففعل". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد والخصيب بن ناصح وأسد بن موسى، قالوا: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة. . . . مثله. فقد أباح رسول الله -عليه السلام- لعرفجة بن أسعد أن يتخذ أنفًا من ذهب إذا كان لا ينتن كما تنتن الفضة، فلما كان ذلك كذلك في الأنف، كان كذلك السن لا بأس بشدها بالذهب إذا كان لا ينتن، فيكون النتن الذي يكون من الفضة مبيحًا لاستعمال الذهب، كما كان النتن الذي يكون منها في الأنف مبيحًا لاستعمال الذهب مكانها؛ فهذه حجة. ش: ذكر حديث عجرفة - رضي الله عنه - شاهدًا لصحة قول محمَّد بن الحسن الذي عليه الجمهور. وأخرجه من أربع طرق حسنة: الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة بن أسعد.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي -المعني- قالا: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة: "أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفًا من وَرِقٍ فأنتن عليه، فأمره النبي -عليه السلام- فاتخذ أنفًا من ذهب". الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حسان بن عبيد الموصلي عن أبي الأشهب. . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا علي بن هاشم بن البريد، وأبو سعيد هو الصنعاني، عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة بن أسعد، قال: "أصيبت أنفي يوم الكلاب في الجاهلية، فاتخذت أنفًا من وَرِق فأنتن عليّ، فأمرني رسول الله -عليه السلام- أن أتخذ أنفًا من ذهب". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن أبي الأشهب. . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمَّد بن معمر، عن حبان، عن مسلم بن زرير، قال: ثنا عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة، نحوه. وأخرجه (¬4) عن قتيبة، عن يزيد بن زريع، عن أبي الأشهب. . إلى آخره نحوه. الرابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، والخصيب بن ناصح الحارثي، وأسد بن موسى، ثلاثتهم عن أبي الأشهب العطاردي. . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 92 رقم 4232). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 240 رقم 1770). (¬3) "المجتبى" (8/ 163 رقم 5161). (¬4) "المجتبى" (8/ 164 رقم 5162).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1)، والطبراني في "معجمه" (¬2)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3). قوله: "يوم الكُلاب" بضم الكاف وتخفيف اللام، وبالباء الموحدة، موضع كان فيه يومان من أيام العرب المشهورة: الكُلاب الأول، والكُلاب الثاني واليومان في موضع واحدٍ. وقيل: هو ماء بين الكوفة والبصرة، على سبع أميال من اليمامة، وكانت به وقعة في الجاهلية. والكلاب أيضًا اسم وادٍ بثهلان لبني العرجاء، من بني نمير، به نخل ومياه. قوله: "من وَرِق" بفتح الواو وكسر الراء. ص: وفي ذلك حجة أخرى: أنا رأينا استعمال الفضة مكروهًا كما استعمال الذهب مكروه، فلما كانا مستويين في الكراهة، وقد عمهما النهي جميعًا، وكان شد السن بالفضة خارجًا من الاستعمال المكروه، كان كذلك شدها بالذهب أيضًا خارجا من الاستعمال المكروه. ش: أي: وفي جواز شد السن المتحركة بالذهب حجة أخرى من حيث النظر والقياس، وهو ظاهر. ص: فإن قال قائل: فقد رأينا خاتم الفضة أبيح للرجال ومنعوا من خاتم الذهب، فقد أبيح لهم من الفضة ما لم يبح لهم من الذهب! قيل له: قد كان النظر لو خُلِّينا نحن هو إباحة خاتم الذهب للرجال كخاتم الفضة، ولكنا منعنا من ذلك، وجاء النهي عن خاتم الذهب نصًّا، فقلنا به وتركنا له النظر، ولولا ذلك لجعلناه في الإباحة كخاتم الفضة، فكذلك شد السن لما أبيح ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 342 رقم 19028) (¬2) "المعجم الكبير" (17/ 146 رقم 370). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 205 رقم 2526).

بالفضة ثبت أن شدها بالذهب كذلك، حتى يأتي في التفريق بين ذلك سنة يجب لها ترك النظر كما جاء في خاتم الذهب سنة نهت عنه، وقامت بها الحجة، ووجب لها ترك النظر، فثبت بما ذكرنا ما قاله محمَّد. ش: هذا السؤال وارد على وجه النظر، تقريره أن يقال: قياس شد السن بالذهب على شدها بالفضة لكون كل منهما خارجًا من الاستعمال المكروه غير صحيح، لأنا رأينا قد أبيح استعمال خاتم الفضة للرجال ولم يبح لهم استعمال خاتم الذهب، فقد أبيح لهم من الفضة ما لم يبح لهم من الذهب، فكذلك يباح شد السن بالفضة ولا يباح شدها بالذهب. وتقرير الجواب: أن يقال: إن القياس كان يقتضي إباحة خاتم الذهب للرجال كخاتم الفضة لو سلم القياس من النهي الوارد فيه، فلما جاء النهي عن استعمال خاتم الذهب للرجال ترك النظر؛ لأنه قد عُلِمَ أن القياس في مقابلة النص فاسد، ولولا ورود النهي كان حكمه حكم الفضة، فكذلك شد السن لما أبيح بالفضة أبيح بالذهب أيضًا لكونهما خارجين عن حد الاستعمال المكروه، ولا يترك هذا الحكم حتى يوجد نص يفرق بينهما ويترك به القياس، فلما لم يُوجد نَصٌّ فيه؛ بقي على أصل القياس، فإذا ثبت هذا ثبت ما ذهب إليه محمَّد؛ فافهم. قوله: "لو خلينا" على صيغة المجهول. قوله: "هو إباحة خاتم الذهب" خبر لقوله: "قد كان النظر". قوله: "وتركنا له النظر" أي وتركنا لأجل النهي النظر، وهو القياس. ص: فإن قال قائل: ما الذي روي في النهي عن خاتم الذهب؟ قيل: قد رويت عنه -عليه السلام- آثار متواترة جاءت مجيئًا صحيحًا، وسنذكرها في باب النهي عن خاتم الذهب إن شاء الله تعالى. ش: السؤال والجواب ظاهران، وأراد بقوله "متواترة": متكاثرة، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه.

ص: وقد روي عنه جماعة من المتقدمين إباحة شد الأسنان بالذهب فمن ذلك: ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان وموسى بن داود، قالا: ثنا طعمة بن عمرو، قال: "رأيت صفرة الذهب بين ثنايا -أو قال: بين ثنيتي- موسى بن طلحة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال: "رأيت الحسن يشد أسنانه بالذهب، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: لا بأس به". حدثنا (¬1) سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، قال: "رأيت أبا التياح وأبا حمزة وأبا نوفل بن أبي عقرب قد ضببوا أسنانهم بالذهب". حدثنا سليمان، قال: ثنا الخصيب، قال: "رأيت عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة قد شد أسنانه بالذهب". فقد وافق ما روينا عنهم من هذا ما ذهب إليه محمَّد بن الحسن؛ فبه نأخذ. ش: ذكر هذه الآثار الأربعة شاهدة لما ذهب إليه محمَّد بن الحسن: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وموسى بن داود الضبي الخلقاني شيخ أحمد، كلاهما عن طعمة بن عمرو الجعفري العامري الكوفي، وثقه يحيى بن معين وابن حبان. . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن طعمة الجعفري قال: "رأيت موسى بن طلحة قد شد أسنانه بذهب". ¬

_ (¬1) وقع في "شرح معاني الآثار" أثر زائد على ما في "الأصل، ك" في هذا الموضع ولم يتعرض له المؤلف بالشرح فالآثار المذكورة في "شرح معاني الآثار" خمسة، والمذكورة في "الأصل، ك" هنا أربعة كما أشار المصنف في الشرح، ونص الأثر كما يأتي: "حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأشهب، عن حماد قال: "رأيت المغيرة بن عبد الله أمير الكوفة قد ضبب أسنانه بالذهب، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: لا بأس به". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 205 رقم 25259).

وموسى بن طلحة بن عبيد الله أبو محمَّد التيمي المدني من التابعين الكبار، وروى له الجماعة. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال: "رأيت الحسن أي البصري. . . .". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد: "أن الحسن شد أسنانه بذهب". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، قال: رأيت أبا التياح الضبعي، واسمه يزيد بن حميد، من التابعين الثقات. وأبا حمزة عمران بن أبي عطاء القصاب، من التابعين الثقات. وأبا نوفل بن أبي عقرب البكري الكناني العريجي، قيل: اسمه مسلم بن أبي عقرب، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عقرب، وقيل: معاوية بن مسلم بن عمرو بن أبي عقرب، من التابعين الثقات. الرابع: عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن عبيد الله ابن الحسن بن الحصين العنبري البصري القاضي، من رجال مسلم. قوله: "فبه نأخذ" أي فبقول محمَّد بن الحسن نأخذ، وأشار بهذا إلى أن قول محمَّد هو اختياره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 205 رقم 25262).

ص: باب: التختم بالذهب

ص: باب: التختم بالذهب ش: أي هذه باب في بيان التختم بخاتم الذهب هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا أبو رجاء، عن محمَّد بن مالك، قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، فقيل له، قال: قسم رسول الله -عليه السلام- غنيمة فألبسنيه، وقال: البس ما كساك الله ورسوله". ش: إسناده حسن جيد، ورجاله ثقات. وأبو رجاء عبد الله بن واقد الهروي الخرساني، وثقه أحمد ويحيى. ومحمد بن مالك الأنصاري مولى البراء بن عازب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا أبو عبد الرحمن، ثنا أبو رجاء، نا محمَّد بن مالك، قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، فكان الناس يقولون له: لم تختم بالذهب، فقد نهى عنه النبي -عليه السلام-؟! فقال البراء: بينا نحن عند رسول الله -عليه السلام- وبين يديه غنيمة يقسمها، سبي و (خُرْثي) (¬2)، قال: فقسمها حتى بقي هذا الخاتم، فرفع طرفه فنظر إلى أصحابه ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم قال: أي براء، فجئته حتى قعدت بين يديه، فأخذ الخاتم فقبض على كرسوعي ثم قال: خذ البس ما كساك الله ورسوله، قال: وكان البراء يقول: فكيف تأمروني أن أضع ما قال رسول الله -عليه السلام-: البس ما كساك الله ورسوله". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى إباحة لبس خواتيم الذهب للرجال، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 294 رقم 18625). (¬2) الخرثي: أثاث البيت ومتاعه، انظر "النهاية" (2/ 19).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة وأبا القاسم الأزدي والأعمش، فإنهم قالوا: يباح اتخاذ الخاتم من الذهب للرجال، واحتجوا على ذلك بحديث البراء المذكور، وروي ذلك عن البراء، وحذيفة، وسعد، وجابر بن سمرة، وأنس ابن مالك، - رضي الله عنهم -. ص: وقالوا: قد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- أنهم كانوا يلبسون خواتيم الذهب، فذكروا في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن محمَّد، عن مصعب بن سعد، قال: "رأيت في يد طلحة بن عبيد الله خاتمًا من ذهب، ورأيت في يد صهيب خاتمًا من ذهب، ورأيت في يد سعد خاتمًا من ذهب". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا النضر بن عبد الجبار، قال: أنا ابن لهيعة، عن محمَّد بن زيد، عن عيسى بن طلحة، أنه أخبره: "أن طلحة بن عبيد الله قتل وفي يده خاتم من ذهب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص: "أن سعيد بن العاص قتل وفي يده خاتم من ذهب". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن عمر، قال: ثنا مالك بن مغول، قال: ثنا أبو السفر. (ح). وحدثنا عليّ، قال: ثنا خلاد بن يحيى، قال: [ثنا] (¬1) يونس بن أبي إسحاق، قال: نا أبو السفر، قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب". فذهبوا إلى تقليد هذه الآثار، مع ما تعلقوا به في ذلك من حديث البراء الذي ذكرناه في أول هذا الباب. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: أي قال هؤلاء القوم: قد روي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يلبسون خواتم الذهب، فدل ذلك على إباحة اتخاذ الخاتم من الذهب، وأخرج في ذلك أربعة من الآثار: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني، عن عمه مصعب بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المدني، وهذا على شرط الشيخين. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن محمَّد بن إسماعيل قال: "حدثني من رأى طلحة بن عبيد الله وسعدًا -وذكر ستة أو سبعة- عليهم خواتيم الذهب". ثنا (¬2) محمَّد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن مصعب بن سعد، عن سعد: "أنه كان يلبس خاتما من ذهب". الثاني: عن علي بن معبد، عن النضر بن عبد الجبار، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي المدني، أنه أخبره أن طلحة بن عبيد الله التيمي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وهو ابن أربع وستين، وقبره بالبصرة، وكان قتله يوم الجمل. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحراني شيخ البخاري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن يحيى بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، أن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة القرشي الأموي، قبض النبي -عليه السلام- وهو ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 195 رقم 25154). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 195 رقم 25153).

ابن تسع سنين، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، استعمله عثمان على الكوفة، وغزا طبرستان فافتتحها. الرابع: عن طريقين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن إسماعيل بن عمر أبي المنذر الواسطي شيخ أحمد ويحيى، عن مالك بن مغول البجلي الكوفي أحد الأئمة الحنفية، عن أبي السفر سعد بن محمَّد الهمداني الثوري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا ابن نمير، عن مالك بن مغول، عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتم ذهب". الثاني: عن علي بن معبد، عن خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي الكوفي، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي السفر. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2): ثنا أبو بكر، عن أبي إسحاق قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب". ص: ولهم في ذلك من النظر: أنه قد نهى عن استعمال الذهب والفضة نهيًا واحدًا، ومنع من الأكل في آنية الفضة كما منع من الأكل في آنية الذهب، فلما كان قد سوى في ذلك بين الذهب والفضة وجعل حكمهما حكمًا واحدًا، ثم ثبت أن خاتم الفضة ليس مما نهى عنه كان كذلك خاتم الذهب. ش: أي ولهؤلاء القوم -فيما ذهبوا إليه من إباحة اتخاذ الخاتم من الذهب- من النظر والقياس، وباقي الكلام ظاهر. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا خواتيم الذهب للرجال، واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 195 رقم 25157). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 195 رقم 25151).

إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: "نهاني رسول الله -عليه السلام- عن تختم الذهب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن محمَّد بن عجلان، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي - رضي الله عنهم -، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن عليّ عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن عليّ - رضي الله عنهم -، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف. (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين حدثه أن أباه حدثه، أنه سمع عليًّا - رضي الله عنه - يقول: "نهاني رسول الله -عليه السلام- عن خاتم الذهب". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن هبيرة بن يريم، عن علي - رضي الله عنه -، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن خاتم الذهب". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تتختم بالذهب". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير والنخعي والثوري والأوزاعي وعلقمة ومكحولا وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم كرهوا خواتم الذهب للرجل، وروي ذلك عن

عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بأحاديث، منها: حديث علي بن أبي طالب، وأخرجه من ثمان طرق: الأول: إسناده صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ شيخ الشافعي، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه عبد الله بن حنين القرشي الهاشمي، عن علي بن أبي طالب. وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري على ما يجيء إن شاء الله تعالى. الثاني: بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى القطان، عن محمَّد بن عجلان، عن إبراهيم بن عبد الله. . إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا ابن المثنى، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، عن محمَّد بن عجلان، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس، عن علي، قال: "نهاني حِبِّي عن ثلاث -لا أقول نهى الناس-: عن التختم بالذهب، وعن لبس القسي والمفدمة، وأن أقرأ راكعًا أو ساجدًا". الثالث: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك. . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لبس القسي والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 107 رقم 457). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1648 رقم 2078).

وأخرجه أيضًا (¬1): عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين. وعن عبد بن حميد (1)، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن إبراهيم ابن عبد الله بن حنين. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. والترمذي (¬3): عن قتيبة، عن مالك. والنسائي (¬4) أيضًا: عن قتيبة، عن مالك. وابن ماجه (¬5): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن حنين، بقصة النهي عن المعصفر. الرابع: أيضًا إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك ابن عمرو العقدي، عن داود بن قيس الفراء، عن إبراهيم بن عبد الله. . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬6): عن أبي داود الحراني، عن أبي علي الحنفي وعثمان بن عمر، عن داود بن قيس، عن إبراهيم بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عليّ قال: "نهانا النبي -عليه السلام- ولا أقول: نهاكم عن أبيه -عن تختم الذهب. . . ." الحديث. الخامس: أيضًا صحيح، عن يونس، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب المصري، عن إبراهيم بن عبد الله. . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1648 رقم 2078). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 47 رقم 4044). (¬3) "جامع الترمذي" (2/ 49 رقم 264). (¬4) "المجتبى" (2/ 189 رقم 1044). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1191 رقم 3602). (¬6) "المجتبى" (2/ 217 رقم 1118).

السادس: أيضًا صحيح، عن ربيع بن سليمان، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): عن عيسى بن حماد، عن ليث، عن يزيد بن إبراهيم حدثه، أن أباه حدثه، أنه سمع عليًّا - رضي الله عنه -. السابع: حسن جيد، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن هبيرة بن يَرِيم -بفتح الياء آخر الحروف، وكسر الراء، بعدها ياء أخرى ساكنة- الشيباني الكوفي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عفان، ثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت هبيرة يقول: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أو نهاني رسول الله -عليه السلام- عن خاتم الذهب والقسي والميثرة". الثامن: عن علي بن معبد بن نوح، عن إسحاق بن منصور السلولي الكوفي، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن عبد الله الأعور -فيه مقال- عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد (¬3) مطولًا: ثنا يزيد، ثنا إسرائيل بن يونس، ثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ وأنت راكع، ولا وأنت ساجد، ولا تصل وأنت عاقص شعرك فإنه كفل الشيطان، ولا تقع بين السجدتين، ولا تعبث بالحصى، ولا تفترش ذراعيك، ولا تفتح على الإِمام، ولا تتختم بالذهب، ولا تلبس القسي، ولا تركب على المياثر". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 189 رقم 1043). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 93 رقم 722). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 146 رقم 1243).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي قال: ثنا زهير، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكنود، قال: أتيت عبد الله بن مسعود، فقال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن حلقة الذهب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن يزيد. . . .، فذكر بإسناده مثله. ش: من الأحاديث الدالة على كراهة خاتم الذهب: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمَّد بن علي بن نفيل النفيلي شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال، عن أبي سعد الأزدي قارئ الأزد (¬1)، عن أبي الكنود الأزدي الكوفي، قيل: اسمه عبد الله بن عامر، وقيل: عبد الله بن عمران، وعن أبي داود: اسمه عبد الله بن سعد، وثقه ابن حبان. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) ثنا يزيد، أنا شعبة بن الحجاج، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي سعد، عن أبي الكنود، عن عبد الله، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن خاتم الذهب، أو حلقة الذهب". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي سعد، عن أبي الكنود، عن علي - رضي الله عنه -. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا أبو غسان، قال: حدثني ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا جلس ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، ولم يزد في "مغاني الأخيار" في ترجمته شيئًا، وهو من رجال "التهذيب"، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحافظ ابن حجر فيه: مقبول، روى له الترمذي وابن ماجه. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 401 رقم 3804) وفي أوله قصة.

إلى رسول الله -عليه السلام- وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله -عليه السلام-، فلبس خاتم حديد، فقال رسول الله -عليه السلام-: هذه لبسة أهل النار، فرجع، فلبس خاتم ورق، فسكت عنه رسول الله -عليه السلام-". ش: من الأحاديث الدالة على كراهة خاتم الذهب: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن أبي غسان محمد بن مطرف الليثي المدني، نزيل عسقلان، روى له الجماعة، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن عمرو بن شعيب. . . . إلى آخره. وقد مرَّ الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ويستفاد منه: كراهة خاتم الذهب والحديد، وإباحة الفضة. ص: حدثنا عبد الغني بن رفاعة، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة. (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن معاوية بن سويد بن مقرن، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن خاتم الذهب". فهذا البراء قد روينا عنه عن رسول الله -عليه السلام- في هذا خلاف ما رويناه عنه في أول هذا الباب. ش: من الأحاديث الدالة على تحريم خاتم الذهب: حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك المعروف بابن عقيل المصري، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة بن الحجاج، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم الكوفي، عن معاوية بن سويد بن مقرن المزني، عن البراء.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أشعث. . إلى آخره. وقد مرَّ ذكر هذين الطريقين بعين هؤلاء الرجال في باب: لبس الحرير، والكل حديث واحد، غير أنه ذكر في كل باب ما يناسبه، وذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه الجماعة غير الترمذي. قوله: "فهذا البراء. . إلى آخره" إشارة إلى أن ما روي عنه المذكور في أول الباب الذي احتج به من يذهب إلى إباحة خاتم الذهب منسوخ؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، والحظر بعدها، فدلت هذه الرواية على انتساخ تلك الرواية. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو التياح، قال: سمعت رجلًا من بني ليث يقول: "أشهد على عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه حدث عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن خاتم الذهب". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن حصين عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: من الأحاديث الدالة على تحريم خاتم الذهب: حديث عمران بن حصين، وأخرجه من طريقين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضُّبعي، عن رجل من بني الليث، هو حفص بن عبد الله الليثي، وقد فسره في الطريق الثاني، وقد مرَّ ذكر الطريقين في باب: لبس الحرير، ولكن الطريق الأول عن أبي بكرة، عن وهب، عن شعبة، عن أبي التياح. . إلى آخره. واقتصر هناك على لبس الحرير، والجميع حديث واحد. وأخرج أحمد في "مسنده" (¬1) نحو الطريق الأول: عن روح، قال: نا شعبة، عن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 443 رقم 19995).

أبي التياح، سمعت رجلًا من بني ليث يقول: أشهد على عمران بن حصين بأنه حدث: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحناتم، وعن خاتم الذهب، وعن لبس الحرير". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) نحو الطريق الثاني: عن يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن حصين: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الحنتم والتختم بالذهب والحرير". وأخرجه الترمذي نحوه (¬2). ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الحجاج بن محمَّد، قال: أخبرني شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نهيك، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن خاتم الذهب". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم خاتم الذهب: حديث أبي هريرة. أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: نا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس .. إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬4) أيضًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان ابن راشد يحدث عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: "جلس رجل إلى رسول الله -عليه السلام-، وعليه خاتم من ذهب، فقرع رسول الله -عليه السلام- يده بقضيب كان في يده، ثم غفل عنه فرمى الرجل بخاتمه، ثم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 153 رقم 24661). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 226 رقم 1738). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1654 رقم 2089). (¬4) "المجتبى" (8/ 192 رقم 5273).

نظر إليه النبي -عليه السلام- فقال: أين خاتمك؟ فقال: ألقيته، قال رسول الله -عليه السلام-: ما أظننا إلا قد أوجعناك وأغرمناك". ش: من الأحاديث الدالة على تحريم خاتم الذهب: حديث أبي ثعلبة الخُشَني، قيل: اسمه جرثومة، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، كان ممن بايع تحت الشجرة، وبيعة الرضوان، والخشني -بضم الخاء والشين المعجمتين وبالنون- نسبة إلى خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. ووهب هو ابن جرير بن حازم. والنعمان بن راشد الجزري الرقي، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا. والزهري هو محمَّد بن مسلم. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا عمرو بن منصور، ثنا عفان، نا وهيب، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي ثعلبة الخشني: "أن النبي -عليه السلام- أبصر في يده خاتمًا من ذهب، فجعل يقرعه بقضيب معه، فلما غفل النبي -عليه السلام- ألقاه، قال: ما أرانا إلا أوجعناك وأغرمناك". خالفه يونس رواه عن الزهري، عن أبي إدريس مرسلًا، أنا أحمد بن عمر بن السرح، نا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو إدريس الخولاني: "أن رجلًا ممن أدرك النبي -عليه السلام- لبس خاتما من ذهب. . . ." نحوه. وحديث يونس أولى بالصواب من حديث النعمان. قوله: "ما أظننا" أي ما أظن أنفسنا، وكذلك معنى قوله: "ما أرانا" أي ما أرى أنفسنا. قوله: "وأغرمناك" من الإغرام، يقال: أغرمته وغرّمته بمعنى. ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عمارة بن عرنة الأنصاري، عن سُمَي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 171 رقم 5190).

أبي هريرة: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله -عليه السلام-، فانطلق فلبس خاتما من حديد، ثم جاء، فأعرض عنه، فانطلق فنزعه ولبس خاتما من وَرِق فأقره النبي -عليه السلام- وأقبل إليه". ش: هذا وجه آخر من حديث أبي هريرة، أخرجه بإسناد رجاله ثقات غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، وأبو صالح واسمه ذكوان الزيات. وقد رأيت الطحاوي أخرج في تحريم الخاتم الذهب للرجال أحاديث عن ثمانية أنفس، وهم: علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب، وعمران بن حصين، وأبو هريرة، وأبو ثعلبة الخشني. ولما أخرج الترمذي حديث علي في هذا الباب قال: وفي الباب عن عمر وأبي هريرة، ومعاوية. قلت: وفي الباب عن ابن عمر أيضًا وسيأتي إن شاء الله تعالى. أما حديث عمر - رضي الله عنه -: فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا حماد، نا عمار بن أبي عمار، أن عمر بن الخطاب، قال: "إن رسول الله -عليه السلام- رأى في يد رجل خاتمًا من ذهب، فقال: ألق ذا، فألقاه، فتختم بخاتم من حديد، فقال: ذا شرٌّ منه، فتختم بخاتم من فضة، فسكت عنه". وأما حديث معاوية: فأخرجه أحمد (¬2) أيضًا: نا عبد الله بن الحارث، حدثني عمر بن سعيد بن أبي حسين، أن علي بن عبد الله بن علي العدوي أخبره، أن أباه أخبره، قال: سمعت معاوية على المنبر بمكة يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لبس الذهب والحرير". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 21 رقم 132). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 101 رقم 16972).

ص: فقد رويت هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- في النهي عن التختم بالذهب، منها حديث البراء الذي قد ذكرناه فيها، وهو أصح وأثبت مما رويناه عنه في الإباحة، فاحتمل أن يكون ما ذهب إليه أحد الفريقين عن رسول الله -عليه السلام- ناسخًا لما قد رواه الفريق الآخر. فنظرنا في ذلك فإذا ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثني نافع عن عبد الله: "أن رسول -عليه السلام- اتخذ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلي كفه، فاتخذه الناس، فرمى به واتخذ خاتما من ورق أو فضة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا القعنبي، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يلبس خاتمًا من ذهب، ثم قام فنبذه، وقال: لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن المغيرة بن زياد أنه حدثه، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- اتخذ خاتما من ذهب، فاتخذ أصحابه خواتيم من ذهب، ثم رمى به واتخذ خاتما من ورق، وكتب فيه: محمَّد رسول الله". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الواحد بن غياث، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فثبت بهذه الآثار أن خواتم الذهب قد كان لبسها مباحا ثم نهى عنه بعد ذلك. فثبت أن ما فيه تحريم لبسها، هو الناسخ لما فيه إباحة لبسها. فهذا هو وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن ثمان أنفس من الصحابة الدالة على تحريم خاتم الذهب للرجال.

قوله: "منها" أي من هذه الآثار: حديث البراء بن عازب الذي يدل على التحريم، وقد روي عنه أيضًا ما يدل على الإباحة، وهو المذكور في أول الباب، ولكن أشار أن الذي يدل على التحريم أصح وأثبت من الذي يدل على الإباحة من جهة الإسناد ومن جهة تلقي العلماء بالقبول، والعمل به. ولما كان لقائل أن يقول: إن في هذا الباب حديثين أحدهما يدل على الإباحة، والآخر على الحظر، فما المرجح في نسخ ما يدل على الحظر ما يدل على الإباحة؟ فَلِمَ لا يجوز أن يكون ما يدل على الإباحة ناسخا لما يدل على الحظر؟! أشار إلى ذلك فقال: "وجدنا آثارًا عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الله بن عمر تدل على أن لبس خواتيم الذهب كان مباحًا ثم ورد النهي بعد ذلك، فثبت أن ما فيه الحظر هو الناسخ لما فيه الإباحة. ووجه آخر: أنه يلزم في العكس النسخ مرتين؛ فلم يثبت ذلك هاهنا. وأخرج حديث عبد الله بن عباس بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع عن عبد الله. وأخرجه البخاري (¬1): عن مسدد، عن يحيى .. إلى آخره نحوه. وأخرج أحاديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن نافع .. إلى آخره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2202 رقم 5527).

فقال البخاري (¬1): ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- اتخذ خاتمًا من ذهب -أو فضة- وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه ومحمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبدًا، ثم اتخذ خاتمًا من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي -عليه السلام- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس". وقال مسلم (¬2): ثنا قتيبة، قال: ثنا ليث، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- اصطنع خاتمًا من ذهب، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل، فرمى به، ثم قال: والله لا ألبسه أبدًا فنبذ الناس خواتيمهم". وقال أبو داود (¬3): ثنا نصير بن الفرج، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "اتخذ النبي -عليه السلام- خاتمًا من ذهب، وجعل فصه مما يلي بطن كفه ونقش فيه: محمَّد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها؛ رمى به، وقال: لا ألبسه أبدًا، ثم اتخذ خاتما من فضة نقش فيه: محمَّد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر - رضي الله عنه - ثم لبسه عمر - رضي الله عنه - بعد أبي بكر، ثم لبسه عثمان - رضي الله عنه - حتى وقع في بئر أريس، ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده". وقال الترمذي (¬4): ثنا محمَّد بن عبيد المحاربي الكوفي، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- صنع خاتمًا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2202 رقم 5528). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1655 رقم 2091). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 88 رقم 4218). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 227 رقم 1741).

من ذهب، فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر، فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني، ثم نبذه، ونبذ الناس خواتيمهم". وقال النسائي (¬1): أنا علي بن حجر، عن إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: "اتخذ النبي -عليه السلام- خاتم الذهب فلبسه، فاتخذ الناس خواتيم الذهب، فقال رسول الله: إني كنت ألبس هذا الخاتم، وإني لن ألبسه أبدًا، فنبذه، فنبذ الناس خواتيمهم". الثاني: عن يزيد بن سنان، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن مالك .. إلى آخره. وأخرجه في "موطأه" (¬2). الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن المغيرة بن زياد البجلي، عن نافع، عن ابن عمر. الرابع: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الواحد بن غياث المربدي، شيخ أبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. ص: وأما النظر في ذلك: فقد ذكرناه فيما تقدم ذكرنا له في غير هذا الموضع، وأنه يوافق ما ذهب إليه من ذهب في ذلك إلى الإباحة، ولكن السنة في ذلك عن رسول الله -عليه السلام- قد حظرت ذلك ومنعت منه. ش: أي وأما وجه النظر والقياس في هذا الباب: فإنه يقتضي إباحة اتخاذ الخاتم من الذهب للرجال على ما ذكر في أول الباب عند مقالة أهل المقالة الأولى؛ ولكن الأحاديث الثانية قد حظرت، أي حرمت ذلك ومنعته فاندفع بها القياس لأنه في مقابلة النص فاسد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 165 رقم 5164). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 936 رقم 1675).

ص: ومما روي عن رسول الله -عليه السلام- في النهي عن ذلك أيضًا: ما حدثنا محمَّد بن خزيمة قال: ثنا حجاج، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن حُنَيْن مولى ابن عباس، عن علي - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن التختم الذهب". حدثنا محمَّد، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: أي ومن الذي روي عن النبي -عليه السلام- في النهي عن اتخاذ الخاتم من الذهب: ما روي عن علي بن أبي طالب، وأخرجه من طريقين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن حنين القرشي الهاشمي مولى ابن عباس، عن علي بن أبي طالب .. إلى آخره. وأخرجه النسائى (¬1) نحوه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة أيضًا، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه عبد الله بن حنين، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائى (¬2) أيضًا نحوه. وفي "التكميل": حنين القرشي، والد عبد الله بن حنين مولى ابن عباس، تابعي روى عن علي في النهي عن لباس القسي والمعصفر، وتختم الذهب. وعنه نافع مولى ابن عمر. وقيل: عن نافع، عن عبد الله بن حنين، عن علي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 168 رقم 5177). (¬2) "المجتبى" (8/ 168 رقم 5175).

وقيل: عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي، وهو المحفوظ. ص: فإن قال قائل: فهل تجد عن أحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك نهيًا؟ قيل له: نعم. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن مولى أم بُرثُن عن زياد عامل البصرة قال: "وفدنا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع الأشعري، فرأى عليّ خاتما من ذهب، فقال عمر - رضي الله عنه -: لقد تشبهتم بالعجم -ثلاثًا يقولها- تختموا بهذا الورق، قال: فقال الأشعري أما أنا فخاتمي حديد، فقال عمر - رضي الله عنه -: ذاك أخبث وأنتن". ش: ذكر هذا؛ شاهدًا لبيان النسخ وثباته. أخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم البصري المعروف بصاحب السقاية مولى أم برثن، ويقال: برثم، ويقال له: ابن أم برثن لأنها تبنته، وهي امرأة من بني ضبيعة، وربما قيل له: ابن برثن، روى له مسلم وأبو داود وهو يروي عن زياد بن أبي سفيان، ويقال: زياد بن أبيه، وزياد بن سمية، وهي أمه، وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، وقال ابن [حبان] (¬1) في "الضعفاء": ظاهر أحواله المعصية، وقد أجمع أهل العلم على ترك الاحتجاج بمن كان كذلك. وكان من دهاة العرب الخطباء الفصحاء، واستلحقه عمر بن الخطاب على بعض أعمال البصرة، وقيل: استلحقه أبو موسى الأشعري، وكان كاتبًا له. قوله: "مع الأشعري" أي مع أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أبان"، وهو تحريف، وقد ذكره ابن حبان في كتاب "المجروحين" (1/ 301) وذكر فيه هذا الكلام.

وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن طارق، عن حكيم بن جابر: "أن عمر رأى على رجل خاتم حديد فكرهه". ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سرين، قال: "رأى عمر - رضي الله عنه - في يد رجل خاتما من ذهب فنهاه عنه". والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 193 رقم 25136).

ص: باب نقش الخواتيم

ص: باب نقش الخواتيم ش: أي هذا باب في بيان حكم نقش الخواتيم. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا محمَّد بن الصباح، قال: ثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستضيئوا بنيران أهل الشرك، ولا تنقشوا عربيًّا، قال: فسألت الحسن عن ذلك، فقال: قوله: تنقشوا عربيا: لا تنقشوا في خواتيمكم محمَّد رسول الله، وقوله: لا تستضيئوا بنيران أهل الشرك: يقول: لا تشاوروهم في أموركم". ش: ابن أبي عمران أحمد بن موسى الفقيه البغدادي. ومحمد بن الصباح الدولابي البغدادي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وهشيم هو ابن بشير، روى له الجماعة. والعوام بن حوشب بن يزيد الواسطي، روى له الجماعة سوى أبي داود. والأزهر بن راشد البصري ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ. روى له النسائي. وأخرج هذا الحديث (¬1): أنا مجاهد بن موسى الخوارزمي ببغداد، ثنا هشيم، أنا العوام بن حوشب، عن أزهر بن راشد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًّا". قوله: "لا تستضيئوا" قد فسره الحسن بأن معناه لا تشاوروهم في أموركم، ولا تأخذوا آراءهم، جعل الضوء مثلًا للرأي عند الحيرة، يقال: ضاءت وأضاءت بمعنى، أي استنارت وصارت مضيئة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 176 رقم 5209).

قوله: "ولا تنقشوا عربيًّا" أي لا تنقشوا في خواتيمكم محمَّد رسول الله، لأنه كان نقش خاتم النبي -عليه السلام-. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى كراهة نقش الخواتيم بشيء من العربية، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، ولم يَرَوْا بنقش غير العربية بأسًا، واحتجوا في ذلك بما كان على خواتيم نفر من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. حدثنا على بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: أخبرني عبد الواحد بن زياد، قال: حدثتنا أم نافع بنت أبي الجعد مولى النعمان بن مقرن، عن أبيها، قال: "كان نقش خاتم النعمان بن مقرن: إيَّلًا قابضا إحدى يديه باسطًا الأخرى". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا على بن الجعد، قال: ثنا شعبة عن جابر، عن القاسم، قال: "كان في خاتم عبد الله ذبابان". حدثنا عليّ، قال: ثنا علي، قال: أنا شريك عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، قال: "كان نقش خاتم حذيفة: كركيان". ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، وعامرًا الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، فإنهم كرهوا نقش الخواتيم بشيء من العربية. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واستدلوا على ذلك بالحديث المذكور، وقالوا: لا بأس بنقش غير العربية، واحتجوا فيه بما كان على خواتيم طائفة من الصحابة، وهم: النعمان بن المقرن، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان. وأما ما كان من نقش خاتم النعمان: فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معلى بن منصور الرازي أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري في غير الصحيح، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن أم نافع (¬1). ¬

_ (¬1) بيض لها المؤلف -رحمه الله-، وفي "مغاني الأخبار" قال: أم نافع بنت أبي الجعد مولى النعمان بن مقرن، أم مسلم، تروي عن ابن عمر، روى عنها ابنها مسلم بن السائب.

قوله: "إيَّلًا" بكسر الهمزة وضمها، وتشديد الياء آخر الحروف، وهو الذكر من الأوعال، وأصله أيول قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، والأوعال: جمع وَعِل، وهو الأروى، والأنثى الأروية، والهمزة فيها زائدة. وأما ما كان من نقش خاتم عبد الله بن مسعود: فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة، عن جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال، عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وأما ما كان من نقش خاتم حذيفة: فأخرجه عن علي بن معبد، عن علي بن الجعد، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن موسى بن [عبد] (¬1) الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، عن أبيه، عن حذيفة - رضي الله عنه -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن حذيفة، قال: "كان في خاتمه كركيان متقابلان بينهما مكتوب: الحمد لله". حدثنا معاذ (¬3)، عن أشعث، عن محمَّد، قال: "كان نقش خاتم أنس بن مالك - رضي الله عنه - أسدًا رابضا حوله فرائس". حدثنا معاذ (¬4)، عن أشعث، عن محمَّد: "أنه كان نقش خاتم الأشعري أسدًا بين رجلين". حدثنا (¬5) يزيد بن هارون، قال: أنا إبراهيم بن عطاء، عن أبيه، قال: "كان ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عبيد"، وهو تحريف، وقد جاء على الصواب في المتن، وهو من رجال "التهذيب". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 190 رقم 25100). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 190 رقم 25102). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 190 رقم 25103). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 191 رقم 25104).

خاتم عمران بن حصين نقشه: تمثال رجل متقلد سيفًا، قال إبراهيم: فرأيته أنا في خاتم عندنا في طين" (¬1). ثنا (¬2) معاذ، عن أشعث، عن محمَّد، قال: "كان نقش خاتم عبيد الله بن زياد تدرجة". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بنقش العربية على الخواتيم غير ما منع رسول الله -عليه السلام- من الانتقاش على خاتمه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب ومسروق بن الأجدع ومحمد بن سيرين والقاسم وسالمًا وآخرين من الأئمة؛ فإنهم قالوا: لا بأس بنقش العربية على الخواتيم، غير ما منع رسول الله -عليه السلام- من الانتقاش على خاتمه، فإنه -عليه السلام- قال: "لا ينقش أحد على خاتمي". هذا رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) وقال: ثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "اتخذ النبي -عليه السلام- خاتمًا من وَرِق، ثم نقش عليه: محمَّد رسول الله، ثم قال: لا ينقش أحد على خاتمي هذا". وأخرجه مسلم (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة. وروى الترمذي (¬5): ثنا الحسن بن علي الجيلاني، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن ثابت، عن أنس بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- صنع خاتمًا من وَرِق، فنقش فيه: محمَّد رسول الله، ثم قال: لا تنقشوا عليه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ومعنى "لا تنقشوا عليه" نَهْي أن ينقش أحد على خاتمه محمَّد رسول الله. ¬

_ (¬1) زاد في "المصنف" بعد هذا: "فقال أبي: هذا خاتم عمران بن حصين". (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 191 رقم 25112). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 190 رقم 25098). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1656 رقم 2091). (¬5) "جامع الترمذي" (4/ 229 رقم 1745).

ص: وقالوا: لا حجة لأهل المقالة الأولى فيما احتجوا به في ذلك؛ لأن حديثهم الذي رووه عن أنس، عن النبي -عليه السلام- لا يثبت من طريق الإسناد، وإنما أصله عن عمر - رضي الله عنه -، لا عن النبي -عليه السلام-، وذكروا في ذلك ما حدثنا على بن معبد، قال: ثنا سريج بن النعمان، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا تنقشوا في خواتيمكم العربية"، فهذا هو أصل حديث أنس، فهذا عن عمر - رضي الله عنه - لا عن النبي -عليه السلام-، ثم لو ثبت عن النبي -عليه السلام-، لكان تفسيره عندنا ما قال الحسن، لأن نقش خاتم رسول الله -عليه السلام- كان كذلك، فنهى أن ينقش عليه. حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشَيْش قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس، قال: "كان نقش خاتم رسول الله -عليه السلام- ثلاثة أسطر: سطر: محمَّد، وسطر: رسول، وسطر: الله، فهكذا كان نقش خاتم رسول الله -عليه السلام-". ش: هذا جواب عن حديث أنس الذي احتج به أهل المقالة الأولى، أي قال أهل المقالة الثانية: لا حجة لأهل المقالة الأولى في حديث أنس، وحاصل الجواب من وجهين: الأول: بطريق المنع وهو أن يقال: لا نسلم أن هذا الحديث يصح به الاستدلال؛ لأنه غير ثابت الإسناد لأنه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، لا عن النبي -عليه السلام -، والدليل على ذلك ما أخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سريج -بالسين المهملة وفي آخره جيم- بن النعمان بن مروان الجوهري الأموي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن آدم، قال: نا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -، أن عمر - رضي الله عنه - قال: "لا تنقشوا ولا تكتبوا في خواتيمكم بالعربية". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 192 رقم 25117).

الوجه الثاني: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلمنا أن هذا الحديث ثابت، ولكن لا نسلم أنه يدل على صحة ما ذهبتم إليه، فإن معناه على ما قاله الحسن البصري، وهو لا يساعدكم على ما ذهبتم إليه. وجواب آخر: أن الحديث المذكور معلول بأزهر بن راشد، لا تقوم به الحجة. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمَّد. . . . إلى آخره" بيان لما كان من نقش خاتم رسول الله، أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): حدثني محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمَّد: سطر، ورسول: سطر، والله: سطر". وزاد أحمد: ثنا الأنصاري، قال: حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس، قال: "كان خاتم النبي -عليه السلام- في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، قال: فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده". وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4). ص: حدثنا على بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابك إلا بخاتم، فاتخذ خاتمًا من فضة نقشه: محمَّد رسول الله". حدثنا على بن معبد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: "أراد النبي -عليه السلام- أن يكتب إلى الروم. . . ." ثم ذكر مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1131 رقم 2939). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 88 رقم 4215). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 230 رقم 1748). (¬4) "المجتبى" (8/ 195 رقم 5293).

فهذا رسول الله -عليه السلام- قد انتقش في خاتمه العربية. ش: هذان طريقان آخران صحيحان: الأول: عن علي بن معبد، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): نا محمد بن مثنى وابن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: "لما أراد رسول الله -عليه السلام- أن يكتب إلى الروم، قال: قالوا: إنهم لا يقرون كتابًا إلا مختومًا، قال: فاتخذ رسول الله -عليه السلام- خاتمًا من فضة، كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله -عليه السلام-، نقشه: محمَّد رسول الله". وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا نحوه، ولفظه: "وأراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم". الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن شبابة بن سوار، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬3): أنا حميد بن مسعدة، عن بشر وهو ابن المفضل، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: "أراد رسول الله -عليه السلام- أن يكتب إلى الروم، فقالوا: إنهم لا يقرون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتما من فضة، كأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه: محمَّد رسول الله". ص: ثم قد فعل ذلك أصحابه من بعده: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إبراهيم بن محمَّد القرشي، عن عمرو بن يحيى، عن جده، قال: "قدم عمرو بن سعيد مع أخيه على النبي -عليه السلام- فنظر إلى حلقة في يده، فقال: ما هذه الحلقة في يدك؟ قال: هذه حلقة يا رسول الله، قال: فما نقشها؟ ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1657 رقم 2092). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 88 رقم 4214). (¬3) "المجتبى" (8/ 174 رقم 5201).

قال: محمَّد رسول الله، قال: أرنيه، فتختمه رسول الله -عليه السلام-، فمات وهو في يده، ثم أخذه أبو بكر بعد ذلك فكان في يده، ثم أخذه عمر، فكان في يده، ثم أخذه عثمان فكان في يده عامة خلافته حتى سقط منه في بئر أريس". فهذا رسول الله -عليه السلام- لم ينكر على خالد بن سعيد لُبْسَ ما هو منقوش بالعربية. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا الربيع بن صَبيح، عن حيان الصائغ، قال: "كان نقش خاتم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: نعم القادر الله". حدثنا علي، قال: ثنا خالد بن عمرو، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: "كان نقش خاتم علي - رضي الله عنه -: الله الملك". حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: أنا شعبة، عن قتادة قال: "كان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح: الحمد لله". فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- وخلفاؤه الراشدون المهديون، قد نقشوا على خواتيمهم العربية، فدل ما فعلوا من ذلك على أنه غير محظور عليهم، وأنه إنما أريد بالنهي أن لا ينقش على خاتم الإمام؛ لئلا يفتعل فيما بيده من الأموال التي للمسلمين. ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه -، قد روينا عنه النهي عن ذلك؟ ثم قد لبس هو من بعد رسول الله -عليه السلام- ما هو منقوش بالعربية، فدل ذلك على [أن] (¬1) ما كره من العربية هو العربية الموضوعة على خاتم إمام المسلمين خاصة، لا غير ذلك. ش: أي ثم قد فعل أصحاب النبي -عليه السلام- من بعده نقش الخواتيم بالعربية فصار ذلك إجماعًا منهم عليه، وأيضًا فالنبي -عليه السلام- لم ينكر على خالد بن سعيد بن العاص الأموي - رضي الله عنه - لبس ما هو منقوش بالعربية، فدل ذلك على جوازه. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرج ذلك بإسناد رجاله ثقات وهو مرسل، عن علي بن معبد بن نوح، عن إبراهيم بن محمَّد بن العباس بن عثمان المطلبي الشافعي، ابن عم الشافعي، وشيخ مسلم في غير الصحيح. عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، عن جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، قال: قدم عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس الأموي، قدم هو وأخوه خالد بن سعيد على رسول الله -عليه السلام-، وكان إسلام عمرو بعد إسلام أخيه خالد بيسير. قوله: "إلى حَلْقة" بفتح الحاء وسكون اللام، وهي الخاتم بلا فص، ويجمع على حَلَق -بفتح الحاء واللام- وأما الحِلَق -بكسر الحاء وفتح اللام- فهو جمع الحَلْقة أيضًا مثل القَصْعة والقِصَع، ولكن معناها: الجماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب وغيره. قوله: "في بئر أريس" بفتح الهمزة، وكسر الراء المخففة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وفي آخره سين مهملة، وهي بئر معروفة قريبة من مسجد قباء عند المدينة. ويستفاد منه أحكام: جواز النقش بالعربية على الخاتم، وجوازه بذكر الله أو بشيء من القرآن، واتخاذ الخاتم من الفضة، واستعمال آثار الصالحين، وأنه -عليه السلام- لم يورث هذا الخاتم، فلم ترثه ورثته، وأن خواتيم الخلفاء يتعين حفظها، وأن للقاضي والحاكم استعمال الخاتم واتخاذه من الفضة، وأن خاتم النبي -عليه السلام- كان من فضة، وفصه منه. وأما ما نقل عن الصحابة من اتخاذهم الخواتيم المنقوشة بالعربية، فأخرجه عن جماعة من الصحابة، وهم أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم -. أما عن أبي بكر: فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح، عن علي بن الجعد الجوهري شيخ البخاري، عن الربيع بن صبيح السعدي فيه مقال، عن حَيَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف، وفي آخره نون.

وأما عن عليّ - رضي الله عنه -: فأخرجه عن علي بن معبد أيضًا، عن خالد بن عمرو القرشي الكوفي، عن إسرائيل بن يونس، عن جابر بن يزيد الجعفي، فيه مقال، عن أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر. وأما عن أبي عبيدة: فأخرجه عن علي بن معبد أيضًا، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن شعبة، عن قتادة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كان في خاتم أبي عبيدة بن الجراح. ." الحديث. وحدثنا (¬1) حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: "كان في خاتم حسن وحسين ذكر الله، قال جعفر: وكان في خاتم أبي: العزة لله جميعًا". حدثنا (¬2) جرير، عن إبراهيم بن المبشر، عن أبيه، قال: "كان نقش خاتم مسروق: بسم الله الرحمن الرحيم". ص: وأما ما روي مما كان من نقش خاتم النعمان بن مقرن وابن مسعود وحذيفة - رضي الله عنهم -، فإنه قد يجوز أن [يكونوا] (¬3) فعلوا ذلك ولهم أن ينقشوا مكانه عربيًّا، ولقد حدثني ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا عبد الوارث، عن عمرو، عن الحسن: "أنه كان يكره أن ينقش الرجل على خاتمه صورة، وقال: إذا ختمت بها فقد صورت بها". ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من نقش هؤلاء الصحابة الثلاثة على خواتيمهم بغير العربية؛ وهو ظاهر. قوله: "ولقد حدثني .. إلى آخره" إشارة إلى أن نقش الصور على الخواتيم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 192 رقم 25122). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 191 رقم 25109). (¬3) في "الأصل، ك ": "يكون" بدون واو الجماعة، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

مكروه؛ لأنه إذا ختم بخاتم منقوش بصورة يصير بذلك مصورًا، فيدخل تحت الوعيد الذي ورد في حق المصورين، وممن كره ذلك الحسن البصري. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن عمرو بن دينار، عن الحسن البصري - رضي الله عنه -.

ص: باب لبس الخاتم لغير ذي سلطان

ص: باب لبس الخاتم لغير ذي سلطان ش: أي هذا باب في بيان حكم لبس الخاتم لغير ذي حكم -أراد به لغير الحكام والولاة- هل يجوز له ذلك أم لا؟ ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا مفضل بن فضالة، قال: أنا عياش بن عباس، عن الهيثم بن شَفِي الحَجْرِي، عن أبي عامر، عن أبي ريحانه، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن لُبُوس الخاتم إلا لذي سلطان". ش: كل هؤلاء ثقات، وعياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القِتْباني المصري. والهيثم بن شُفَي -بفتح الشين المعجمة والتخفيف، قاله الدارقطني، قال: ومن قال: بالضم فقط غلط. والحجري -بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم- نسبة إلى حَجْر حمير، والأصح أنه منسوب إلى حَجْر رعين. وأبو عامر اسمه عبد الله بن جابر، ويقال له: عامر، وكذا وقع في رواية ابن ماجه، والصحيح: أبو عامر الحَجْري الأزدي المعافري المصري. وأبو ريحانه اسمه شمعون بن زيد الأزدي حليف الأنصار، ويقال له: مولى رسول الله -عليه السلام-، ويقال: شمغون -بالغين المعجمة- له صحبه، وكان يكون بمصر والشام، وكان يرابط بعسقلان، شهد فتح دمشق، واتخذ بها دارًا، وسكن بعد ذلك ببيت المقدس، والله أعلم. وأخرجه أبو داود بأتم منه (¬1): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، قال: حدثني المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن أبي الحُصَين الهيثم بن شَفي، قال: "خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر -رجل من المعافر- ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 48 رقم 4049).

لنصلى بإيلياء، وكان قاصهم رجلًا من الأزد، يقال له: أبو ريحانة من الصحابة، قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد، ثم أدركته فجلست إلى جنبه، فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانه؟ قلت: لا، قال: سمعته يقول: نهى رسول الله -عليه السلام- عن عشرٍ: عن الوَشْرِ، والوشم، والنتْفِ، وعن مُكامَعة الرجلِ الرجلَ بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأةَ بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبى، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان". وأخرجه النسائي (¬1) وابن ماجه (¬2). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلا لذي سلطان، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا الحصين وأبا عامر وأحمد في رواية، فإنهم ذهبوا إلى كراهة لبس الخاتم لغير ذي سلطان، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يَروا بلبسه لسائر الناس من سلطان وغيره باسًا، وكان من حجتهم في ذلك الحديث الذي قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في الباب الذي قبل هذا الباب، أنه ألقى خاتمه، فألقى الناس خواتيمهم، فقد دَلَّ هذا على أن العامَّة قد كانت تلبس الخواتيم في عهد رسول الله -عليه السلام-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: لا بأس بلبس الخاتم الفضة سواء كان سلطانا أو غيره، واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يلبس خاتمًا من ذهب ثم قام فنبذه، وقال: لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم"، وقد مر هذا في باب التختم بالذهب. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 143 رقم 5091). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1205 رقم 3655).

فهذا يدل على أن العامة قد كانوا يلبسون الخواتيم في زمن النبي -عليه السلام-، ولو كان مما لا ينبغي لهم لكان -عليه السلام- منعهم عن ذلك. ص: فإن قال قائل: فكيف تحتج بهذا وهو منسوخ؟ قيل له: إن الذي احتججنا به منه ليس بمنسوخ، وإنما المنسوخ ترك لبس الخاتم من الذهب للنبي -عليه السلام- ولغيره من أمته، وقبل ذلك فقد كان هو وَهُمْ في ذلك سواء، فلما نسخ حكم لبس الخاتم من الذهب كان الحكم متقدمًا في لبسه ولبسهم الخاتم سواء، و [لما] (¬1) كان النسخ لم يمنعه هو -عليه السلام- من لبس خاتم الفضة، فكذلك أيضًا لا يمنعهم من لبس الخواتيم، فهذا الذي أردناه من هذا الحديث. ش: السؤال ظاهر. وتقرير الجواب: أن الذي احتج به من الحديث المذكور ليس بمنسوخ؛ لأن الذي نُسخ منه هو لبس الخاتم من الذهب للنبي -عليه السلام- ولأمته، وقبل نسخ هذا الحكم كان النبي -عليه السلام- وأمته في ذلك سواء، ثم لما ورد النسخ ولم يمنع النبي -عليه السلام- من لبس خاتم الفضة فكذلك لم يمنع أمته من لبس الخواتيم. فافهم. ص: وقد روي عن جماعة ممن لم يكن لهم سلطان أنهم كانوا يلبسون الخواتيم فمما روي في ذلك: ما حدثنا على بن معبد، قال: ثنا محمَّد بن جعفر المدائني، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه: "أن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - كانا يتختمان في يسارهما، وكان في خواتيمهما ذكر الله سبحانه". حدثنا علي، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا رِشْدِين بن كُريب، أنه قال: "رأيتُ ابن الحنفية يتختم في يساره". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا جعفر بن محمَّد، عن أبيه قال: "كان الحسن والحسين - رضي الله عنهما - يتختمان في يسارهما". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن إبراهيم بن عطاء، عن أبيه، قال: "كان نقش خاتم عمران بن حصين - رضي الله عنه - رجلًا متقلدًا بسيف". حدثنا عليّ، قال: ثنا خالد بن عمرو، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق قال: "رأيت قيس بن أبي حازم، وعبد الله بن الأسود، وقيس بن ثمامة، والشعبي، يتختمون بيسارهم". حدثنا عليّ، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن المغيرة، قال: "كان نقش خاتم إبراهيم: نحن بالله وله". فهؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار، من أصحاب رسول الله -عليه السلام- وتابعيهم قد كانوا يتختمون، وليس لهم سلطان، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ممن ليس لهم حكم ولا سلطنة أنهم كانوا يلبسون الخواتيم، فدَلَّ ذلك على أنه لا بأس به لغير ذي سلطان، وأخرج في ذلك ستة من الآثار: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن محمَّد بن جعفر المدائني شيخ أحمد، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: "كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما". وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل .. إلى آخره. ويستفاد منه: جواز اتخاذ الخاتم للسلطان وغيره، وأن يكون التختم في اليسار، وجواز نقش الخاتم بذكر الله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 196 رقم 25164). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 228 رقم 1743).

واعلم أن العلماء اختلفوا في التختم، هل ينبغي أن يكون في اليمين، أو في اليسار؟ فذهبت طائفة إلى أنه ينبغي أن يتختم في اليمين وروي ذلك عن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر - رضي الله عنهم -. وذهبت طائفة إلى أنه ينبغي أن يتختم في يساره وروي ذلك عن الحسن والحسين وأبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، وحكي أيضًا عن القاسم وسالم وابن سيرين والنخعي. وقال المنذري: لا خلاف بين العلماء، ولا في الآثار أن اتخاذ الخاتم للرجال في الخنصر، قالوا: لأنه احفظ فيه من المهنة وما تستعمل فيه اليد، لكونه طرفا منها، ولا تشتغل اليد عما تتناوله من أشغالها، بخلاف غيره. وإنما اختلفت الآثار ما بين اليمين والشمال، وبحسبهما اختلف فعل السلف، فتختم كثير منهم في اليمين، وكثير في الشمال. الثاني: عن عليّ بن معبد أيضًا، عن يعلى بن عبيد الإيادي الطنافسي الكوفي، عن رشدين بن كريب بن أبي مسلم القرشي المدني مولى ابن عباس، فيه مقال، قال: رأيت ابن الحنفية، وهو محمَّد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، واسمها خولة بنت جعفر، من سبي اليمامة الذين سباهم أبو بكر - رضي الله عنهم -. الثالث: عن إبراهيم عن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي الدمشقي، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن جعفر بن محمَّد الصادق، عن أبيه محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين، عن أبيه عطاء بن أبي ميمونة، وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن عطاء، عن أبيه، نحوه. الخامس: عن علي بن معبد، عن خالد بن عمرو القرشي الأموي، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي قال: رأيت قيس بن أبي حازم حصين بن عوف البجلي الكوفي، وهو ممن أدرك الجاهلية، وهاجر إلى النبي -عليه السلام- ليبايعه، فقبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه وهو يخطب، ولم يثبت ذلك، وأبو حازم له صحبة. وعبد الله بن الأسود القرشي ذكره ابن حبان في "الثقات"، وعبد الله بن الأسود السدوسي صحابي. وفي رواية: عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري عُدَّ من الصحابة، وقال الذهبي: لا تصح له رؤية وشهد الحكمين وله رواية وقدر وشرف. وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي التابعي، وقيس بن ثمامة (¬2). والشعبي هو عامر بن شرحبيل. السادس: عن علي بن معبد، عن علي بن الجعد الجوهري شيخ البخاري، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي، قال: "كان نقش خاتم إبراهيم" يعني النخعي. ص: وأما من طريق النظر: فإن السلطان إذا كان له لبس الخاتم لأنه ليس بحلية فكذلك أيضًا غير السلطان له أيضًا لبسه لأنه ليس بحلية، وقد رأينا ما نهي عنه من استعمال الذهب والفضة يستوي فيه السلطان والعامة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك ما أبيح للسلطان من لبس الخاتم يستوي فيه هو والعامة، وإن كان إنما أبيح ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 191 رقم 25104). (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-، ولم يذكر له ترجمة في "مغاني الأخبار" وفي "تاج العروس" (1/ 2334): وقيس بن ثمامة الأرحبي من همدان، ذكره في جماعة ممن كان لهم فرس اسمه "الورد". قلت: لا أدري أهو أم غيره؟.

لاحتياجه إليه ليتختم مال المسلمين، فإنه أيضًا مباح للعامة لاحتياجهم إليه للختم على أموالهم وكتبهم، فلا فرق في ذلك بين السلطان وغيره. ش: أي وأما حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس، وتقريره أن يقال: إذا جاز للسلطان لبس الخاتم لكونه ليس بحلية، جاز لغيره أيضًا؛ لأنه ليس بحلية في حقه أيضًا, ولما كان استعمال الذهب والفضة غير جائز في حق السلطان وغيره، وتساويا فيه، فكذلك يتساويان في الذي أبيح للسلطان من لبس الخاتم. فإن قال قائل: إنما أبيح استعمال الخاتم للسلطان؛ لاحتياجه إليه في ختم الأشياء والكتب. فنقول: كذلك يباح لغيره؛ لاحتياجه إليه لأجل الختم على ماله وكتبه فلا فرق بين السلطان وغيره.

ص: باب البول قائما

ص: باب البول قائمًا ش: أي هذا باب في بيان حكم البول قائمًا، هل يكره أم لا؟ ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر. (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما بال رسول الله قائمًا منذ أنزل عليه القرآن". ش: إسناده صحيح، أخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق البصري، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن المقدام بن شريح روى له الجماعة، عن أبيه شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي الكوفي روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا علي بن حُجْر، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قالت: "من حدثكم أن النبي -عليه السلام- كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، وما كان يبول إلا قاعدًا". قال أبو عيسى: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2)، وأحمد (¬3). وقال الترمذي: وفي الباب عن عمر وبريدة وعبد الرحمن بن حسنة. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1/ 17 رقم 12). (¬2) "المجتبى" (1/ 26 رقم 29). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 213 رقم 25828).

وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع عن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنه - قال: "رآني النبي -عليه السلام-، وأنا أبول قائمًا، فقال: يا عمر لا تَبُل قائمًا، فما بُلت قائمًا بعد". وإنما يرفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارف، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني وتكلم فيه. وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "ما بُلْت قائمًا منذ أسلمت". وهذا أصح من حديث عبد الكريم، وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، ومعنى النهي عن البول قائمًا على التأديب لا على التحريم. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم". قلت: وقد روي في النهي عن البول قائمًا أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة المذكور ثابت، فلهذا قالت العلماء: يكره البول قائمًا إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم. ص: فكره قوم البول قائمًا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي والنخعي والحسن البصري وإبراهيم بن سعد ومجاهدًا؛ فإنهم كرهوا البول قائمًا، وروي ذلك عن ابن مسعود. فقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم عن المسيب بن رافع، قال: قال عبد الله: "من الجفاء أن تبول قائمًا". ثنا وكيع (¬2) عن حريث، عن الشعبي قال: "من الجفاء أن تبول قائمًا". وقال عياض: اختلف السلف في ذلك، فأجاز ذلك جماعة منهم، وكرهه آخرون، وَرَدَّ سعد بن إبراهيم شهادة من فعل ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 116 رقم 1326). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 116 رقم 1328).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا به بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمَّد بن سيرين، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، والحكم بن عتيبة، والأعمش، فإنهم قالوا: لا بأس بالبول قائمًا، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن عمر، وسهل بن سعد، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن عبادة - رضي الله عنهم -. وقال ابن المنذر: وهاهنا قول ثالث: وهو أنه إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه وإن كان لا يتطاير فلا بأس، وهو قول مالك. وقال ابن المنذر: البول جالسًا أحب إليّ، وقائمًا مباح، وكل ذلك ثابت عن النبي -عليه السلام-. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن حذيفة قال: "رأيت النبي -عليه السلام- بال وهو قائم على سباطة، ثم أتى بوضوء، فتوضأ ومسح على خفيه". حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن سيلمان الأعمش. . . .، فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان. . . .، فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث حذيفة. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن حذيفة - رضي الله عنه -.

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: "أتى النبي -عليه السلام- سباطة قوم فبال قائمًا، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم، قالا: ثنا شعبة، قال: وثنا مسدد، قال: ثنا أبو عوانة -وهذا لفظ حفص- عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- سباطة قوم فبال قائمًا، ثم دعا بماء فمسح على خفيه -قال مسدد-: فذهبت أتباعد، فدعاني حتى كنت عند عقبه". الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: ثنا أبو خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: "كنت مع النبي -عليه السلام- فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عقيبه، فتوضأ ومسح على خفيه". الرابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق، عن حذيفة. وأخرجه النسائي (¬4): أنا سليمان بن عبيد الله، قال: ثنا بهز، قال: ثنا شعبة، عن سليمان ومنصور، عن أبي وائل، عن حذيفة: "أن النبي -عليه السلام- مشى إلى سباطة قوم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 90 رقم 222). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 6 رقم 23). (¬3) "صحيح مسلم" (1/ 228 رقم 273). (¬4) "المجتبى" (1/ 25 رقم 28).

فبال قائمًا"، وقال سليمان في حديثه: "ومسح على خفيه"، ولم يذكر [منصور] (¬1) المسح. وأخرجه الترمذي أيضًا (¬2): حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة: "أن النبي -عليه السلام- أتى سباطة قوم فبال عليها قائمًا، فأتيته بوضوء، فذهبت لأتأخر عنه، فدعاني حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ ومسح على خفيه". وأخرجه ابن ماجه أيضًا (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريك وهشيم ووكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة: "أن رسول الله -عليه السلام- أتى سباطة قوم فبال عليها قائمًا". قوله: "سُبَاطة قوم" بضم السين وتخفيف الباء الموحدة، وهي ملقى الزبالة والتراب ونحوها، وتكون بفناء الدار مرفقًا لأهلها. وقال الخطابي: ويكون في الأغلب سلهًا دمثا لا يحد فيه البول، ولا يرتد على البائل، ويقال: السباطة الكناسة نفسها، وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص لا ملك، لأنها كانت مواتًا مباحة. قوله: "ثم أتي بوَضوء" بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به. ثم ذكروا في بوله -عليه السلام- قائمًا وجوها: الأول: ما روي عن الشافعي: أن العرب كانوا يستشفون لوجع الصلب بالبول قائمًا، قال: فنرى أنه -عليه السلام- كان به وجع الصلب إذ ذاك. والثاني: ما رواه البيهقي برواية ضعيفة: أنه -عليه السلام- بال قائمًا لعلة بِمَأْبص، والمأبص: بهمزة ساكنة بعد الميم ثم جاء موحدة، وهو باطن الركبة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "المنصور"، والمثبت من "المجتبى". (¬2) "جامع الترمذي" (1/ 19 رقم 13). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 111 رقم 305).

الثالث: أنه -عليه السلام- لم يجد مكانًا للقعود، فاضطر إلى القيام، لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عاليًا مرتفعًا. الرابع: ما ذكره القاضي عياض، لكون البول قائمًا حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب، بخلاف حالة القعود، ولذلك قال عمر - رضي الله عنه -: "البول قائمًا حصن للدبر" (¬1). والخامس: أنه -عليه السلام- فعله بيانًا للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة البول قاعدًا، فدل عليه حديث عائشة المذكور في أول الباب. وأما بوله -عليه السلام- في سباطة، قوم فيحتمل وجوهًا: الأول: وهو الأظهر، أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكروهونه بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه، والأكل من طعامه، والاستمداد من محبرته، ولهذا ذكر علماؤنا: أن من دخل بستان غيره يباح له الأكل من فاكهته، إذا كان بينه وبين صاحب البستان انبساط وصحبة. والثاني: أنها لم تكن مختصة بهم، بل كانت بفناء دورهم للناس كلهم، فأضيفت إليهم لقربها منهم. والثالث: أن يكونوا أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة صريحًا أو دلالة. فإن قيل: قد روي أنه -عليه السلام- إذا أراد حاجة أبعد، فكيف بال في السباطة التي بقرب الدار؟ قلت: لعله كان مشغولًا بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم، وطال عليه مجلس حتى حرقه البول، فلم يمكنه التباعد، ولو أبعد لتضرر، وارتاد السباطة لدمثها، وقام حذيفة بقربه ليستره من الناس. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 102 رقم 498). ولفظه: "البول قائما أحصن للدبر". وعزاه الحافظ في "الفتح" (1/ 330) لعبد الرزاق.

ص: ففي هذا الحديث إباحة البول قائمًا وهذا أولى مما ذكرنا قبله عن عائشة، لأن حديث عائشة إنما فيه: "من حدثك أن رسول الله -عليه السلام- بال قائمًا بعدما أنزل عليه القرآن فلا تصدقه" أي لأن القرآن لما نزل عليه أمر فيه بالطهارة واجتناب النجاسة والتحرز منها، فلما رأت عائشة ذلك، وعلمت تعظيم رسول الله -عليه السلام- لأمر الله، وكان الأغلب عندها أن من بال قائمًا لا يكاد يسلم من إصابةِ البولُ ثيابَه أو بدنه؛ قالت ذلك، وليس فيه حكاية منها عن رسول -عليه السلام- توافق ذلك. ثم جاء حذيفة - رضي الله عنه - فأخبر أنه رأى رسول الله -عليه السلام- بالمدينة -بعد نزول القرآن عليه- يبول قائمًا فثبت بذلك إباحة البول قائما إذا كان البائل في ذلك يأمن النجاسة على بدنه وثيابه، وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - في هذا ما يدل على ما ذهبنا إليه من معنى حديثها الذي ذكرناه. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قالت: "من حدثك أنَّه رأى رسول الله -عليه السلام- يبول قائمًا فكذِّبه، فإني رأيته يبول جالسًا". ففي هذا الحديث ما يدل على ما دفعت به عائشة رواية من روى أنه رأى رسول الله -عليه السلام- يبول قائمًا، وإنما رؤيتها إياه يبول جالسًا فليس عندنا دليل على ذلك، لأنه قد يجوز أن يبول جالسًا في وقت ويبول قائمًا في وقت آخر، فلم نحك عن النبي -عليه السلام- في هذا شيئًا يدل على كراهة البول قائمًا. ش: أراد بهذا الحديث: حديث حذيفة المذكور، ودلالته على إباحة البول قائمًا ظاهرة لا تنكر. قوله: "وهذا أولى" أي الأخذ بحديث حذيفة أولى من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وبين وجه الأولوية بقوله: "لأن حديث عائشة .. إلى آخره" وإنما أول بهذا التأويل؛ لأن ظاهره يدفع خبر حذيفة، وخبر حذيفة صحيح ثابت، والدليل على صحة هذا المعنى أن خبر حذيفة مدني ابتداء، ونزول القرآن كان بمكة؛ على ما لا يخفى.

ولهذا أكد صحة هذا بما أخرجه بإسناد صحيح عن أحمد بن داود المكي، عن أحمد بن صالح الأزدي الكوفي ثقة، والنسائي إنما تكلم فيه من أجل التشيع، عن شريك بن عبد الله النخعي إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حُجر، قال: أنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "من حدثكم أن رسول الله -عليه السلام- بال قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا جالسًا". قوله: "فهذا الحديث" أي حديث عائشة الذي رواه شريح عنها يدل على دفع عائشة رواية من روى أنه رأى النبي -عليه السلام- بال قائمًا, وليس ذلك بدفع حقيقة؛ لأنه لا يلزم رؤيتها أنه يبول جالسًا، عدم رؤية غيرها أنه يبول قائمًا؛ لأنه يجوز أن يكون كان يبول تارة قائمًا وتارة جالسًا, وليس في حديثها شيء يدل صريحًا على كراهة البول قائمًا. ص: وقد روي عن غير واحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام- أنه بال قائمًا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، أنه حدث عن سليمان، عن زيد بن وهب قال: "رأيت عمر - رضي الله عنه - بال قائمًا فأَفْحَجَ حتى كادَ يصرع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب وأبو داود، قالا: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي حسان: "أنه رأى عليًّا - رضي الله عنه - بال قائمًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن سليمان. . . .، فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش. . . .، فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا يحيى بن اليمان، عن معمر، عن الزهير، عن قبيصة بن ذؤيب قال: "رأيت زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يبول قائمًا". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (1/ 26 رقم 29).

حدثنا يونس، قال: ثنا معن بن عيسى، قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن دينار أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يبول قائمًا". ش: أخرج في ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. أما عن عمر - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن زيد بن وهب الجهني المخضرم، قيل: أن له رؤية، ولم يصح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن زيد قال: "رأيت عمر بال قائمًا". قوله: "فأفحج" من الإفحاج والفحج: تباعد ما بين الفخذين، والمعنى فَرَّق ما بين رجليه وباعد ما بينهما حتى كاد يقع، ومادته: (فاء وحاء مهملة، وجيم). وأما عن علي - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، كلاهما عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي ظبيان -بالظاء المعجمة- واسمه حصين بن جنْب الجنبي والد قابوس، روى له الجماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: "رأيت عليًا بال قائمًا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان .. إلى آخره. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 115 رقم 1310). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 115 رقم 1311).

وأما عن زيد بن ثابت فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن يحيى بن اليمان الكوفي، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن قبيصة: "أنه رأى زيد بن ثابت يبول قائمًا". وأما عن عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن معن بن عيسى القزاز المدني، عن مالك .. إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عبد [الله] (¬4) الرومي قال: "رأيت ابن عمر يبول قائمًا". وأخرج ابن أبي شيبة: عن أبي هريرة وسعد بن عبادة أيضًا: حدثنا (¬5) معاذ بن معاذ، عن عمران بن حدير، قال: حدثني رجل من بني سعد من أخوال المحرر بن أبي هريرة، قال: "رأيت أبا هريرة بال قائمًا". حدثنا (¬6) أبو أسامة وابن إدريس، عن ابن عون، عن ابن سيرين: "أن سعد بن عبادة بال قائمًا". ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد كانوا يبولون قياما، وذلك عندنا على أنهم كانوا يأمنون أن يصيب شيء من ذلك ثيابهم وأبدانهم. ش: أشار بهؤلاء إلى عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 115 رقم 1312). (¬2) "موطأ مالك" (1/ 65 رقم 143). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 115 رقم 1313). (¬4) لفظ الجلالة سقط من "الأصل"، والمثبت من "المصنف". (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 115 رقم 1314). (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 116 رقم 1322).

وعبد الله ابن عمر - رضي الله عنهم - ونَبَّه أيضًا على أن البول قائمًا مباح، ولكن إذا أمن من إصابة شيء ثوبه أو بدنه، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما يخالف ما رويت عنه في هذا الباب، فذكر ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر - رضي الله عنه - "ما بلت قائمًا منذ أسلمت". قيل له: قد يجوز أن يكون عمر - رضي الله عنه - لم يبل قائمًا منذ أسلم حتى قال هذا القول، ثم بال بعد ذلك قائمًا على ما رواه عنه زيد بن وهب، ففي ذلك ما يدل على أنه لم يكن يرى بالبول قائمًا بأسًا. وقد دل على ذلك أيضًا ما قد رويناه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في هذا الباب من بوله قائما، وقد حدث عن عمر بن الخطاب بما قد ذكرناه. فدل ذلك على رجوع عمر عن كراهية البول قائمًا، إذ كان ذلك؛ لما رواه عنه عبد الله بن عمر، ولم يكن عبد الله بن عمر يترك ما سمعه من عمر إلا إلى ما هو أولى عنده من ذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: قد رويت عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يبول قائمًا وهو يفحج، وقد روي عنه أيضًا أنه قال: "ما بلت قائمًا منذ أسلمت" وبينهما تعارض وتضاد. والجواب عنه ظاهر، وحاصله أن قول عمر - رضي الله عنه -: "ما بلت قائمًا منذ أسلمت" لا يعارض ذلك الخبر؛ لأنه قد يجوز أن يكون قد بال قائمًا بعد أن قال القول المذكور، ثم بوله قائمًا بعد هذا يدل على إباحته عنده، ومن الدليل على ذلك: أن عبد الله بن عمر روى عن أبيه عمر من بوله قائمًا، وهو أيضًا قد بال قائمًا، والحال أنه قد سمع من أبيه أنه قال: "ما بلت قائمًا منذ أسلمت" فلم يكن ذلك منه إلا لما ثبت عنده رجوع أبيه عن كراهيته البول قائمًا، إذ لا يجوز أن يترك ما سمعه من أبيه إلا إلى ما هو أولى عنده من ذلك، فافهم. والله أعلم.

ص: باب القسم

ص: باب القَسَم ش: أي هذا باب في بيان حكم القَسَم وهو بفتحتين، بمعنى اليمين قال الجوهري: القَسَمُ -بالتحريك-: اليمين، وكذلك المُقْسَمْ، وهو المصدر مثل المُخْرَج، والمقسم أيضًا موضع القسم. قلت: قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (¬1). أي يمين عظيم. ص: حدثنا إسحاق بن الحسن الطحان قال: ثنا سعيد ابن أبي مريم، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس في حديث طويل فيه ذكر رؤيا عبرها أبو بكر - رضي الله عنه - عند رسول الله -عليه السلام-، فقال: "أصبتُ يا رسول الله؟ قال: أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضا، قال: أقسمتُ عليك يا رسول الله، قال: لا تقسم". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا إسحاق الطحان مولى بني هاشم. وأخرجه البخاري (¬2) بتمامه: ثنا يحيى [بن] (¬3) بكير، نا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن ابن عباس كان يحدث أن رجلًا أتى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتلقفون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله بأبي أنت، والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي -عليه السلام-: اعبر، قال: أما الظلة فالإِسلام، وأما الذي ينطف العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن، والمستقل، ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [76]. (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2582 رقم 6639). (¬3) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح البخاري".

وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به، ثم يأخذ رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبتُ أم أخطأتُ، فقال النبي -عليه السلام-: أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا، قال: فوالله لتحدثني بالذي أخطأتُ، قال النبي -عليه السلام-: لا تقسم". أخرجه بقية الجماعة (¬1) غير الترمذي. لكن أبا داود أخرجه مختصرًا (¬2) وقال: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا سفيان [عن الزهري] (¬3) عن عبيد الله عن ابن عباس: "أن أبا بكر - رضي الله عنه - أقسم على النبي -عليه السلام-، فقال له النبي -عليه السلام-: لا تقسم". قوله: "ظُلُّة" بضم الظاء: السحابة، ومعنى تنطف: تقطر، يقال: نَطَفَ الماء يَنْطُفُ إذا قطر قليلًا قليلًا. قوله: "يتكففون" أي يمدون أكفهم إليه لكيلا يقع. قوله: "فالمستكثر والمستقل": أي فمنهم مستكثر أي الآخذ بالكثير، ومنهم مستقل، أي الآخذ بالقليل. قوله: "وإذا سبب" أي حَبلٌ. قوله: "اعبر" أمر من عَبَرْتُ الرؤيا أعبرها عبرًا، من باب نَصَرَ يَنْصُر، أي أَوَّلتها وفسرتها، وكذلك عبّرت، بالتشديد. وقال الخطابي: به يستدل من ذهب إلى أن القَسَم لا يكون يمينًا مجردة حتى ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1777 رقم 2269) وأبو داود بطوله في "سننه" (2/ 618 رقم 4632) والنسائي في "الكبرى" (4/ 387 رقم 7640) وابن ماجه في "سننه" (2/ 1289 رقم 3918). (¬2) قلت: بل رواه بطوله كما في التعليق السابق، وأما هذا الطريق فهو في "السنن" (2/ 246 رقم 3267). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

يقول: أقسمت بالله، وذلك أن النبي -عليه السلام- قد أمر بإبرار القَسَم، فلو كان قوله: "أقسمت" يمينا لأشبه أن يبَرَّه، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي. وقد يستدل به من يرى القسم يمينًا على وجه آخر، ويقول: لولا أنه يمين ما كان -عليه السلام- يقول له: "لا تقسم"، وإليه ذهب أبو حنيفة. ص: فذهب قوم إلى كراهة القسم، وقالوا: لا ينبغي لأحد أن يقسم على شيء، وأعظموا ذلك، وكان ممن أعظم ذلك الليث بن سعد: فذكر لي غير واحد من أصحابنا، عن عيسى بن حماد زغبة، قال: "أتيت بكر بن مضر لأعوده فجاء الليث، فهم بالصعود إليه، فقال له بكر: أقسمت عليك أن تفعل، فقال له الليث: أو تدري ما القسم؟ أو تدري ما القسم؟ أو تدري ما القسم؟ ". ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري وعبيد الله بن عبد الله والليث بن سعد؛ فإنهم قالوا: لا ينبغي لأحد أن يقسم على شيء، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور. قوله: "وكان ممن أعظم ذلك" أي كان من الذي أعظم القسم على الشيء الليث بن سعد -رحمه الله-. قال الطحاوي: ذكر لي غير واحد من أصحابنا عن عيسى بن حماد بن مسلم بن عبد الله التجيبي أبي موسى المصري، الملقب زغبة، شيخ مسلم وأبي داود النسائي وابن ماجه. وزغبة -بضم الزاي وسكون الغين المعجمتين، وفتح الباء الموحدة- قال: أتيت بكر بن مضر بن محمَّد أبا عبد الملك المصري مولى ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بالقسم بأسًا، وجعلوه يمينًا، وحكموا له بحكم اليمين، وقالوا: قد ذكر الله -عز وجل- في غير موضع في كتابه، فقال -عز وجل-: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (¬1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (1)، وقال: ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآية: [1، 2].

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (¬1)، وقال: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (¬2) فكان تأويل ذلك عند العلماء جميعًا أقسم بيوم القيامة، و"لا": صلة، وقال الله -عز وجل-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (¬3) فلم يعبهم بقسمهم، ورد عليهم كفرهم، فقال: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (3) وكان في ذكره {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (3) دليل على أن ذلك القسم الذي كان منهم: يمينًا، وقال الله -عز وجل-: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (¬4) فلم يعب ذلك عليهم ثم قال -عز وجل-: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (¬5). فحدثني سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسن قال: في هذه الآية دليل على أن القسم يمين، لأن الاستثناء لا يكون إلا في اليمين. وإذا كانت يمينًا كانت مباحة فيما سائر الأيمان فيه مباحة، ومكروهة فيما سائر الأيمان فيه مكروهة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم النخعي والثوري وأبا حنيفة وأصحابه، فإنهم قالوا: لا بأس بالقسم، فإذا قال: أقسم أو أقسمت يكون يمينًا، ويكون حكمه حكم اليمين، حتى تجب عليه الكفارة عند الحنث كما في اليمين. قوله: "وقالوا. . . ." إلى آخره بيان احتجاجهم فيما ذهبوا إليه من صحة القسم بالآيات المذكورة، وهو ظاهر. ثم اختلف العلماء في كلمة "لا" المتقدمة على القسم في الآيات المذكورة. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية: [75]. (¬2) سورة البلد، الآية: [1]. (¬3) سورة النحل، الآية: [38]. (¬4) سورة القلم، الآية: [17]. (¬5) سورة القلم، الآية: [18].

فقال بعضهم: إنها صلة، أي زائدة، ثم اختلف هؤلاء في فائدتها على قولين: أحدهما: أنها توطئة وتمهيدًا لنفي الجواب، والتقدير: "لا أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى" ومثله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (¬1) وقول الشاعر: لَا وأَبيكِ ابنةَ العامِريِّ ... لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِر ورُدَّ بقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (¬2) الآيات فإن جوابه مثبت وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬3) ومثله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (¬4). والثاني: أنها زيدت لمجرد التأكيد كما في {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (¬5). وقال بعضهم: إنها نافية، ثم اختلفوا في منفيها على قولين: أحدهما: أنه شيء تقدم، وهو ما حكي عنهم كثيرًا من إنكار البعث، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم، قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن كله كالسورة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في آخرى. نحوه: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (¬6) وجوابه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (¬7). والثاني: أن منفيَّها: "أقسم" وذلك على أن يكون إخبارًا لا إنشاء، واختاره الزمخشري. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [65]. (¬2) سورة البلد، آية: [1]. (¬3) سورة البلد، آية: [4]. (¬4) سورة الواقعة، آية: [4]. (¬5) سورة الحديد، آية: [29]. (¬6) سورة الحجر، آية: [6]. (¬7) سورة القلم، آية: [2].

ص: ولا حجة عندنا على أهل هذه المقالة في حديث ابن عباس الذي ذكرناه، فإنه يجوز أن يكون الذي كره رسول الله -عليه السلام- في القسم لأبي بكر - رضي الله عنه - من أجله، هو أن التعبير الذي صَوَّبَه في بعضه وخَطَّأه في بعضه لم يكن ذلك منه من جهة الوحي، ولكن من جهة ما يعبّر له الرؤيا، كما نهى أن توطأ الحوامل على الاشفاق منه أن يضر ذلك أولادهم، فلما بلغه أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم أطلق ما كان حَظَر من ذلك، وكما في تلقيح النخل: ما أظن أن ذلك يغني شيئًا، فتركوه ونزعوا عنه، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- فقال: "إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئًا فليصنعوه، فإنما أنا بشر مثلكم وإنما هو ظن ظننته، والظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت: قال الله -عز وجل-، فلن أكذب على الله". حدثنا بذلك يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه. فأخبر رسول الله -عليه السلام- أن ما قاله من جهة الظن فهو فيه كسائر البشر في ظنونهم، وأن الذي يقوله عن الله -عز وجل-، فهو الذي لا يجوز خلافه، وكانت الرؤيا إنما تعبر بالظن والتحري. وقد روي ذلك عن محمَّد بن سيرين: واحتج بقول الله -عز وجل-: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} (¬1) فكما كان التعبير من هذه الجهة التي لا حقيقة فيها؛ كره رسول الله -عليه السلام- لأبي بكر - رضي الله عنه - أن يقسم عليه؛ ليخبره بما يظنه صوابه على أنه عنده كذلك، وقد يكون في الحقيقة بخلافة. ألا ترى أن رجلًا لو نظر في مسألة من الفقه واجتهد، فأدى اجتهاده إلى شيء، وسعه القول به ورَدُّ ما خالفه وتخطئة قائله، إذ كانت الدلائل التي بها يستخرج الجواب في ذلك دامغة له، ولو حلف على أن ذلك الجواب صواب كان مخطئًا، لأنه لم يكلف إصابة الصواب، فيكون ما قاله هو الصواب ولكنه كُلِّفَ الاجتهاد، فقد يؤديه ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية: [42].

الاجتهاد إلى الصواب، وإلى غير الصواب، فمن هذه الجهة كره رسول الله -عليه السلام- لأبي بكر - رضي الله عنه - الحلف عليه ليخبره بصوابه ما هو؟ لا من جهة كراهية القسم. ش: أراد أن حديث ابن عباس الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه ليس مما يُلزَم به أهل المقالة الثانية، وبيَّن ذلك بقوله: "فإنه يجوز أن يكون .. إلى آخره" ومبنى هذا الكلام على رأي أهل السنة والجماعة: أن المجتهد يخطئ ويصيب خلافا للمعتزلة في أن كل مجتهد مصيب، وأن الرأي قد يقع فيه الغلط في حقه -عليه السلام-، وفي حق غيره. ألا ترى أن الصحابة قد خالفوه في بعض الرأي غير مرة، واستصوبهم -عليه السلام- في ذلك، فمن ذلك أنه لمّا أراد النزول يوم بدر دون الماء، قال له الحباب بن المنذر: "إن كان عن وحي فسمعًا وطاعة، وإن كان عن رأي فإني أرى الصواب أن ننزل على الماء ونتخذ الحياض، فأخذ رسول الله -عليه السلام- برأيه ونزل على الماء". ومن ذلك أنه لما أراد يوم الأحزاب أن يعطي المشركين شطر ثمار المدينة لينصرفوا، قام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا: "إن كان هذا عن وحي فسمعًا وطاعة، وإن كان عن رأي فلا نعطيهم إلا السيف، قد كنا نحن وهم في الجاهلية، لم يكن لنا ولا لهم دين، وكانوا لا يطمعون في ثمار المدينة إلا بشراء أو قرى، فإذا أعزنا الله تعالى بالدين نعطيهم أموالنا؟! لا نعطيهم إلا السيف، وقال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، فأردت أن أصرفهم عنكم، فإذا أبيتم [فأنتم] (¬1) وذاك، ثم قال للذين جاءوا للصلح: اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف". ومن ذلك أنه -عليه السلام- نهى أن توطأ الحوامل، خوفًا منه أن يضر ذلك أولادهم، ثم لما بلغه أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يحصل الضرر لأولادهم، أطلق ما كان منع من ذلك. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "تاريخ الطبري" (2/ 73).

ومن ذلك: "أنه -عليه السلام- لما قدم المدينة استقبح ما كانوا يصنعونه من تلقيح النخل، فنهاهم عن ذلك فاحشفت، وقال: عَهْدي بثماركم بخلاف هذا؟! فقالوا: نهيتنا عن التلقيح، وإنما كانت جودة الثمر من ذلك، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأنا أعلم بأمر دينكم". وفي رواية الطحاوي: "إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئًا. . . ." إلى آخره. أخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة التيمي المدني، عن أبيه طلحة بن عبيد الله التيمي المدني أحد العشرة المبشرة بالجنة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن [سماك أنه سمع] (¬2) موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: "مررت مع رسول الله -عليه السلام- في نخل، فرأى قومًا يلقحون النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال: يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى، قال: ما أظن ذلك يغني شيئًا، فبلغهم فتركوه، فنزلوا عنها، فبلغ النبي -عليه السلام- فقال: إنما هو الظن، إن كان يغني شيئًا فاصنعوه، فإنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله". قالوا: فتبين من ذلك أن الرأي منه كالرأي من غيره في احتمال الغلط، ولكنه -عليه السلام- لا يقر إلا على الصواب، فإذا أقر على ذلك كان وحيًا في المعنى وهو شبه الوحي في الابتداء، ولكن الشرط أن ينقطع طمعه عن الوحي، وهو نظير ما يشترط في حق الأمة للعمل بالرأي العرفي على الكتاب والسنة، فإذا لم يوجد في ذلك فحينئذ يصار إلى اجتهاد الرأي. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 825 رقم 2470). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".

فإن قيل: قد قال الله تعالى في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (¬1) فكيف يجوز ما ذكرت؟ قلت: قد قيل: هذا فيما يتلو عليه من القرآن بدليل أول السورة قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (¬2) أي والقرآن إذا نزل، وقيل: المراد بالهوى هو هوى النفس الأمارة بالسوء ولا أحدٌ يُجَوِّز على رسول الله -عليه السلام- اتباع هوى النفس أو القول به. ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس، وهذا تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (¬3) ثم في قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (3) توضيح جميع ما قلنا، لأن اتباع الوحي إنما يتم في العمل بما فيه الوحي بعينه، واستنباط المعنى منه لإثبات الحكم في نظيره، وذلك بالرأي يكون. قوله: "يلقحون النخل" قد فسره بقوله: "يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى". قوله: "إنما هو الظن" أي إن الذي قلتُ هو قول عن ظن لا عن يقينٍ إذْ لو كان قوله ذلك عن يقين لما قال لهم بعد ذلك: "فاصنعوه". ص: وقد روي في ذلك ما يدل على ما ذكرناه. حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس -مثل حديث إسحاق بن الحسن الطحان غير أنه قال-: "والله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تقسم". فدل ذلك على أن ما كره رسول الله -عليه السلام- هو الحلف فيه على إخباره إياه بصوابه أو خطئه في شيء لم يعلمه رسول الله -عليه السلام- بالوحي الذي يعلم به حقيقة الأشياء، لا لذكره القسم. ¬

_ (¬1) سورة النجم، آية: [3]. (¬2) سورة النجم، آية: [1]. (¬3) سورة يونس، آية: [15].

ش: أي قد روي في نهي رسول الله -عليه السلام- أبا بكر - رضي الله عنه - عن القسم ما يدل على ما ذكرناه في أن المعنى في كراهة رسول الله -عليه السلام-، هو الحلف في ذلك على إخباره أبا بكر بما أصاب وما أخطأ، بشيء لم يقف عليه رسول الله -عليه السلام- بالوحي الذي يقف به على حقيقة الأشياء، لا لأن ذلك لذكره القسم. وقد ذكرنا أن هذا الحديث أخرجه الجماعة غير الترمذي (¬1). وابن وهب هو عبد الله. ويونس وابن يزيد الآيلي. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. ص: وحدثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن عباس قال: "القسم يمين". فهذا ابن عباس هو الذي روي عنه الحديث الأول قد جعل القسم يمينًا، يعني ذلك دليل على إباحة الحلف به، وأنه عنده كسائر الأيمان، فثبت بذلك ما تأولنا الحديث الأول، وانتفى قول من تأوله على غير ما تأولناه عليه. ش: ذكر هذا شاهدًا لصحة التأويل الذي أَوَّلَهُ في معنى حديث ابن عباس المذكور, لأن قوله: "القسم يمين" يدلس على إباحة الحلف به، وأنه عنده كسائر الأيمان، فدل ذلك على صحة التأويل المذكور, لأن كلًّا من الحديثين روايته. وأخرجه عن أحمد بن سعيد بن الحكم بن محمَّد بن أبي مريم المصري، ابن أخي سعيد بن أبي مريم، وهو يروي عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن شريك النخعي، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني، روى له الجماعة سوى مسلم. ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد روي في إباحة القسم ما قد حدثنا عبد الغني ابن أبي عقيل، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن سليم، عن معاوية بن سويد بن مقرن، عن البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله -عليه السلام- بإبرار القسم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود ووهب، قالا: ثنا شعبة. . . .، فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "بإبرار المقسم". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد أمرنا بإبرار المقسم؟ فلو كان المقسم عاصيًا لما كان ينبغي أن يُبرَّ قسمه. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن عبد الغني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي .. إلى آخره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) غير أبي داود، وقد ذكرناه في باب لبس الحرير، لأن الطحاوي قد أخرجه هناك بأتم منه بهذا الإسناد. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة .. إلى آخره. قوله: "بإبرار القسم" من أبرّ قسمه أي صدقه، ولذا بَرَّ قسمه. قوله: "غير أنه قال: بإبرار المُقسم" بضم الميم على صيغة اسم الفاعل من أقسم، وفي الرواية الأولى: "بإبرار القسم" بدون الميم في أوله. فافهم. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". فلو كان القسم مكروهًا لكان قائله عاصيًا، وَلمَا أبرَّ الله قسم من عصاه. ¬

_ (¬1) تقدم.

ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وابن مرزوق هو إبراهيم. ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن المغيرة بن شعبة أنه قال: "صليت مع رسول الله -عليه السلام-، فوجد ريح ثوم، فلما فرغ من الصلاة قال: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا حتى يذهب ريحها، فأتيته، فقلت: أقسمت عليك يا رسول الله لما أعطيتني يدك، فأعطانيها، فأريته جبائر على صدري، فقال: إن لك عذرًا". ولم ينكر عليه إقسامه عليه. ش: تقدم ذكر الحديث في باب أكل الثوب والبصل والكراث، وقد استوفينا الكلام فيه هناك. ص: حدثنا جعفر بن سليمان النوفلي، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- لحم، فقال: أَهدِي لزينب بنت جحش، قالت: فأهديت لها، فردته، فقالت: أقسمت عليك ألَّا رددتها، فرددتها". فدل ما ذكرنا على إباحة القسم، وأن حكمه حكم اليمين، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن مغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي المدني، وثقه يحيى بن معين، وروي عنه ابن ماجه والبخاري في غير الصحيح، وروي له ابن ماجه. وعمر بن أبي بكر الموصلي قاضي الأردن، قال ابن أبي حاتم: ذاهب الحديث متروك الحديث. وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، قال النسائي: لا يحتج بحديثه. وعن يحيى: ليس بشيء. روى له الأربعة. وأبوه: أبو الزناد عبد الله، روى له الجماعة.

وأخرج ابن ماجه (¬1): عن سويد بن سعيد، نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حارثة بن محمَّد، عن عمرة، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- إنما آلى لأن زينب ردت عليه هديته، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: لقد أقمأتك، فغضب -عليه السلام-، فآلى منهن". وقوله: "أقمأتك" من أقمأته إذا صغرته وذللته، وثلاثية: قَمُؤَ الرجل قَمَاء، والقميءُ -على وزن فعيل-: الصغير الذليل. ذكره الجوهري في فصل القاف والميم المهموز. ص: وقد روي ذلك عن إبراهيم النخعي؛ حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أبي، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم قال: "أُقسم وأقسم بالله يمين، وكفارة ذلك كفارة يمين، وقد أقسم رسول الله -عليه السلام- على نسائه". ش: أي: قد روي أن حكم القسم حكم اليمين عن إبراهيم النخعي. أخرجه بإسناد صحيح، ورجاله أشهر من أن يذكروا. وأخرجه محمَّد في "آثاره". وهاهنا فرعان: الأول: أن قوله: "أقسم" فقط، يمين عندنا، وكذلك أَشْهَدُ، وأَحْلِفُ، وقال زفر: لا يكون يمينا ما لم يقل: بالله. وقال الشافعي:. . . . وإلا فلا. الثاني: أن قوله: "أقسم بالله" يمين بالإجماع. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو حفص الفلاس، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، قال: حدثني أبي، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام-: أُقْسِمُ بالله لَا أَقْرَبُكُنَّ شهرًا". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 664 رقم 2060).

ش: هذا شاهد لقوله: "وقد أقسم رسول الله -عليه السلام- على نسائه". أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. عن أبي حفص عمرو بن علي الصيرفي الحافظ شيخ الجماعة، عن أبي قتيبة سَلْم بن قتيبة الشَّعِيري الخرساني نزيل البصرة، روى له الجماعة سوى مسلم. عن عبد الرحمن بن أبي الرجال المدني وثقه يحيى القطان. عن أبيه أبي الرجال -بالجيم- محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري المدني ثقة، روى له البخاري ومسلم. عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي أم أبي الرجال، روى لها الجماعة. وأخرجه ابن ماجه بأتم منه (¬1): ثنا هشام بن عمار، نا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة قالت: "أقسم رسول الله أن لا يدخل على نسائه شهرًا، فمكث تسعة وعشرين يومًا، حتى إذا كان مساء ثلاثين دخل عليّ، فقلت: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، فقال: الشهر كذا، يرسل أصابعه فيه ثلاث مرات، والشهر كذا، وأرسل أصابعه كلها وأمسك أصبعًا واحدًا في الثالثة". واستفيد منه: أن القسم يمين، ولهذا لما آلى رسول الله -عليه السلام- عن نسائه، فقال: "أقسم بالله لا أقربكن شهرًا"، ترك قربانهن شهرًا، وهذا إيلاء مقيدة، فتسقط بمضي المدة، بخلاف الإيلاء المعتبرة في الشرع، وهي أن يحلف على ترك قربانها أربعة أشهر أو أكثر، فحكمها أنه إن قربها في المدة المذكورة، حنث في يمينه وكفَّر، وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر، بانت منه بتطليقة واحدة عند مضي المدة من غير احتياج إلى تفريق الحاكم، وهو مذهب عليّ وعثمان والعبادلة الأربعة وزيد بن ثابت وعامة الصحابة - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 664 رقم 2059).

ص: باب الشرب قائما

ص: باب الشرب قائمًا ش: أي هذا باب في بيان حكم الشرب حال كونه قائمًا، أراد إن شرب الماء قائمًا هل يباح أم لا؟ ص: حدثنا ابن أبي عمران ومحمد بن علي بن داود، قالا: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مسلم، عن الجارود: "أن النبي -عليه السلام- زجر عن الشرب قائمًا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مسلم، عن الجارود بن المعلَّى، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان حسنان: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي أحد أصحاب أبي حنيفة، ومحمد بن علي بن داود، البغدادي، كلاهما عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني شيخ أبي داود، ثقة، عن خالد بن الحارث بن عبيد أبي عثمان البصري، عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مسلم الجذمي، حسن الترمذي حديثه، عن الجارود بن المعلى وقيل: ابن العلاء، ويقال اسمه بشر والجارود لقبه؛ لأنه أغار في الجاهلية على بكر بن وائل فأصابهم وجردهم، فسمي جارودًا، قدم على النبي -عليه السلام- سنة عشر في وفد عبد القيس فأسلم، وكان نصرانيًا. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا حميد بن سعدة، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي مسلم، عن الجارود بن المعلى: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الشرب قائمًا". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 300 رقم 1881).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ البخاري ومسلم، عن خالد بن الحارث .. إلى آخره. قال الترمذي: وهذا الحديث روي من غير وجه. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي مسلم، عن الجارود. وعن سعيد، عن قتادة عن أنس عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا همام وهشام، قالا: ثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشيش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام الدستوائي، فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا همام، عن قتادة، عن أنس. وعن قتادة، عن أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: فيه عن جارود، وعن أنس: أما عن جارود: فأخرجه عن أحمد بن داود، عن عبد الرحمن بن المبارك الطفاوي شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني (ح). ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 267 رقم 2124).

وحدثنا أبو خليفة والعباس بن الفضل، قالا: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: نا خالد بن الحارث، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود بن المعلى، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا". وأما عن أنس: فأخرجه عن أحمد بن داود، عن عبد الرحمن بن المبارك، عن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- نهى أن يشرب الرجل قائمًا، فقيل: الأكل؟ قال ذاك أشدّ" (¬2). الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام بن يحيى وهشام الدستوائي، كلاهما عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- زجر عن الشرب قائمًا". الثالث: عن عبد الله بن محمد بن خُشيش -بضم الخاء المعجمة، وشينين معجمتين- عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه أبو داود (¬4): عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن هشام .. إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 300 رقم 1879). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، و"مسند أحمد" (3/ 277 رقم 13973)، وعند الترمذي: "أشر" -بالراء- وعند أحمد (3/ 250 رقم 13643)، وأبي يعلى (5/ 451 رقم 3165): "أشر وأخبث". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1600 رقم 2024). (¬4) "سنن ابن أبي داود" (3/ 336 رقم 3717).

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي .. إلى آخره. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1). الخامس: فيه عن أنس وأبي سعيد الخدري: أما عن أنس: فأخرجه عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. وأما عن أبي سعيد الخدري: فأخرجه عن حسين، عن يزيد، عن همام، عن قتادة، عن أبي عيسى الأسواري البصري، قال الطبراني: ثقة لا يحضرني اسمه. روى له مسلم، وهو يروي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- زجر عن الشرب قائمًا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل (ح). وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ البخاري وأبي دواد، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬3) من وجه آخر: حدثني عبد الجبار بن العلاء، قال: نا مروان - ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 270 رقم 2017). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1601 رقم 2025). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1601 رقم 2026).

يعني الفزاري- قال: أنا عمر بن حمزة، قال: أخبرني أبو غطفان المري، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشربن أحد منكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن أبي هريرة. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬1) من وجه آخر: ثنا سعيد بن الربيع، ثنا شعبة، عن أبي زياد الطحان، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه قال لرجل رآه يشرب قائمًا: قِئْ، قال: لم؟ قال: أتحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: لقد شرب معك شر منه؛ الشيطان". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى كراهة الشرب قائمًا، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة؛ فإنهم قالوا: يكره الشرب قائمًا. وروي ذلك عن أنس. قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن معمر، عن قتادة، عن أنس: "أنه سأله عن الشرب قائمًا، فكرهه". ثنا (¬3) هشيم، عن منصور، عن الحسن: "أنه كان يكره الشرب قائمًا". ثنا وكيع (¬4)، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: "إنما كره الشرب قائمًا لداء يأخذ البطن". ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (2/ 162 رقم 2128). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 102 رقم 24123). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 102 رقم 24124). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 102 رقم 24125).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بالشرب قائمًا بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وسعيد بن المسيب وزاذان وطاوس بن كيسان، وسعيد بن جبير، ومجاهدًا، فإنهم قالوا: لا بأس بالشرب قائمًا، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وسعد وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وعبد الله بن الزبير وعائشة - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "ائتني بوضوء، فأتيت به فتوضأ، ثم قام بفضل وضوئه فشرب قائمًا، فعجبت لذلك، فقال: أَتعجبُ يا بني؟ إني رأيت أباك رسول الله -عليه السلام- يصنع ذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: "رأيت عليًّا يشرب فضل وضوئه قائمًا، ثم قال: إن ناسًا يكرهون أن يشربوا قيامًا، وقد رأيت رسول الله -عليه السلام- فعل كما فعلت". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن عبد الملك. . . .، فذكر بإسناد مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ورقاء بن عمر، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه شرب قائمًا، فقيل له في ذلك، فقال: إن أشرب قائمًا فقد رأيتُ رسولَ الله -عليه السلام- يَشْربُ قائمًا، وإن أشرب جالسًا فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يفعل ذلك". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي. . . . مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد. . . .، فذكر بإسناده مثله.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من عدم كراهة شرب الماء قائمًا بحديث علي - رضي الله عنه -. وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمَّد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر، عن أبيه علي بن حسين المعروف بزين العابدين، عن جده الحسين المرتضى - رضي الله عنهم -. وأخرجه البزار في "مسنده" من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج .. إلى آخره. قوله: "ائتني بوضوء" بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ منه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني .. إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، ثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن عليّ - رضي الله عنه -: "أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتى بماء فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: إن ناسًا يكرهون الشرب قيامًا، وإن النبي -عليه السلام- صنع مثل ما صنعت". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة. وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن يحيى، عن مسعر بن كدام، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن النزال بن سبرة: "أن عليًا - رضي الله عنه - دعا بماء، فشرب وهو قائم، ثم قال: إن رجالًا يكره أحدهم أن يفعل هذا، وقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يفعل مثل ما رأيتموني فعلت". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2130 رقم 5293). (¬2) "سنن أبو داود" (3/ 336 رقم 3718).

الرابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن ورقاء بن عمر اليشكري روى له الجماعة، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة قال العجلي: شيخ ثقة قديم. روى له الأربعة، والبخاري متابعة. عن زاذان -بالمعجمتين- الكندي الكوفي البزاز روى له الجماعة، البخاري في غير صحيح، وعن ميسرة أبي صالح الكندي الكوفي، وثقه ابن حبان، كلاهما عن علي ابن أبي طالب. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة قال: "رأيت عليًّا يشرب قائمًا، قال: فقلت له: تشرب قائمًا؟! فقال: إن أشرب قائمًا، فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يشرب قائمًا، وإن أشرب قاعدًا، فقد رأيت رسول الله -عليه السلام- يشرب قاعدًا". الخامس: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان الكندي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن عليّ: "أنه شرب قائمًا، فنظر إليه الناس فأنكروا ذلك، فقال علىّ: "ما تنكرون؟ إن أشرب قائمًا، فقد رأيت النبي -عليه السلام- يشرب قائمًا". السادس: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن عليّ - رضي الله عنه -. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب وهو قائم". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن الشيباني، عن عامر، عن ابن عباس قال: "ناولت النبي -عليه السلام- دلوًا من ماء زمزم، فشرب وهو قائم". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 114 رقم 916).

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس. . . .، مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم الأحول، عن عامر الشعبي. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: "شرب النبي -عليه السلام- قائمًا من زمزم". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن سليمان الشيباني أبي إسحاق الكوفي روى له الجماعة، عن عامر الشعبي. وأخرجه مسلم (¬2) من طرق متعددة. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال .. إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3). ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا إسحاق بن أبي فروة المدني، قال: حدثتنا عبيدة بنت نايل، عن عائشة بنت سعد، عن سعد بن أبي وقاص: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يشرب قائمًا". ش: ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي. وإسحاق بن أبي فروة هو إسحاق بن محمَّد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة، أبو يعقوب الفروي المدني، شيخ البخاري، تُكُلِّمَ فيه جدًّا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2130 رقم 5294). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1602 رقم 2027). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 220 رقم 1903).

وعبيدة بنت نايل -بالنون، وبالياء آخر الحروف بعد الألف- الحجازية، وثقها ابن حبان. وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص الزهرية المدنية، روى لها البخاري. والحديث أخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الرحيم أبو يحيى صاحب السابري، قال: ثنا إسحاق بن محمَّد الفروي، قال: حدثتني عبيدة بنت نايل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها، قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يشرب قائمًا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا حفص، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "كنا نشرب ونحن قيام على عهد رسول الله -عليه السلام-". حدثنا بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم وعثمان بن عمر، قالا: أبنا عمران بن حدير، عن أبي البزري -وهو يزيد بن عطارد- عن ابن عمر، قال: "كنا نشرب ونحن قيام، ونأكل ونحن نسعى على عهد رسول الله -عليه السلام-". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن يزيد بن عطارد، عن ابن عمر مثله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة أحد أصحاب أبي حنيفة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أبو السائب سلم بن جنادة الكوفي، ثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "كنا نأكل على عهد رسول الله -عليه السلام- ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (4/ 43 رقم 1205). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 300 رقم 1880).

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. الثاني: حسن، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عثمان بن عمر بن فارس شيخ أحمد، كلاهما عن عمران بن حدير السدوسي الثقة الثبت، عن أبي البزري -بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة- يزيد بن عطارد السدوسي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ليس ممن يحتج بحديثه. وأخرجه الترمذي نحوه معلقًا (¬1). الثالث: نحوه، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا معاذ بن معاذ، عن عمران بن حدير، عن يزيد بن عطارد أبي البزري، قال: قال ابن عمر: "كنا نشرب ونحن قيام، ونأكل ونحن نسعى على عهد رسول الله -عليه السلام-". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم بن مالك، قال: أخبرني البراء بن زيد، أن أم سليم حدثته: "أن رسول الله -عليه السلام- شرب وهو قائم من في قربة". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الكريم الجزريّ، قال: حدثني البراء ابن بنت أنس -وهو ابن زيد- عن أنس بن مالك، قال: حدثتني أمي "أن رسول الله -عليه السلام- دخل عليها وفي بيتها قربه معلقة، فشرب من القربة قائمًا". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي (4/ 300 رقم 1880). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 101 رقم 24115).

عبد الملك بن جريج، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن البراء بن زيد ابن ابنة أنس بن مالك وثقه ابن حبان، عن أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، لها صحبة يقال لها: الغميصاء، ويقال: الرميصاء، ويقال: رميلة، ويقال: رميثة، ويقال: أنيفة، ويقال: مليكة. وأخرجه الطبراني (¬1): من طريق ابن جريج، عن عبد الكريم، عن البراء بن زيد ابن بنت أنس أخبره، عن أم سليم نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية .. إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا حُميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، ثنا زهير، عن عبد الكريم، عن البراء ابن بنت أنس -وهو ابن زيد- عن أنس بن مالك، قال: حدثتني أمي: "أن رسول الله -عليه السلام- دخل عليها وفي بيتها قربة معلقة، قالت: فشرب من القربة قائمًا، فعمدت إلى فَمِ القربة فقطعتها". قوله: "من في قربة" أي من فَمِ قربة. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك، عن حميد، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- شرب من قربة معلقة، وهو قائم". ش: إسناده صحيح، وأبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. وأبو غسان مالك بن إسماعيل. وهذا كما قد رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ستة أنفس من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأم سليم، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (25/ 126 رقم 307). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 376 رقم 27159).

ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن عباس قال: وفي الباب عن علي، وسعد، وعبد الله بن عمر، وعائشة. قلت: أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: فأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: نا محمَّد بن جعفر، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يشرب قائمًا". وأما حديث عائشة: فأخرجه النسائي (¬2) عنها، قالت: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب قاعدًا وقائمًا، ويصلي حافيًا ومتنعلًا (¬3) ". ص: ففي هذه الآثار إباحة الشرب قائمًا، وأولى الأشياء إذا روي حديثان عن رسول الله -عليه السلام- فاحتملا الاتفاق واحتملا التضاد أن نحملهما على الاتفاق لا على التضاد، وكان فيما روينا في هذا الفصل عن رسول الله -عليه السلام- إباحة الشرب قائمًا، وفيما روينا في الفصل الذي قبله النهي عن ذلك؛ فاحتمل أن يكون ذلك النهي لم يرد به هذه الإباحة، ولكن أريد به معنى آخر. فنظرنا في ذلك، فإذا فهد قد حدثنا، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا خالد، عن بيان، عن الشعبي، قال: "إنما كره الشرب قائمًا لأنه داء"، فأخبر الشعبي في هذا بالمعنى الذي من أجله كان النهي، وأنه لما يُخَافُ منه من الضرر وحدوث الداء لا غير ذلك، فأراد رسول الله -عليه السلام- بذلك النهي الإشفاق على أمته، وأمره إياهم بما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، كما قد قال لهم: "أما أنا فلا آكل متكئًا". ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن ستة من الصحابة؛ فإنها تدل على إباحة الشرب قائمًا، وما رواه في أول الباب عن الجارود وأنس يقتضي كراهة ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 301 رقم 1883). (¬2) "المجتبى" (1/ 405 رقم 1284). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى": "منتعلًا"، بتقديم النون على التاء المثناة من فوقها.

ذلك، وبينهما تعارض ظاهر، والتوفيق بينهما: أن ما روي مما فيه الكراهة محمول على نهي الإشفاق لا التحريم، وقد أخبر بذلك عامر الشعبي. أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن خالد بن عبد الله الطحان، عن بيان بن بشر الأحمسي البجلي الكوفي، عن الشعبي قال: "إنما كره الشرب قائمًا لأنه داء"، فأخبر الشعبي عن علة النهي ما هي؟ وهي خوف الضرر وحدوث الداء لا غير ذلك. فكان قصده -عليه السلام- بذلك النهي الإشفاق على أمته؛ لأنه أرحم من الأب الشفوق، ولا يأمر بشيء ولا ينهى عنه إلا لما فيه صلاح أمته في دينهم ودنياهم، ونظير ذلك ما قال لهم: "أما أنا فلا آكل متكئًا" فإن هذا الكلام ليس منه طريق التحريم عليهم أن يأكلوا كذلك، وإنما كره ذلك مخافة أن تعظم بطونهم إشفاقًا منه عليهم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سهيل بن بكار (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا أبو عوانة عن رقية، عن علي بن الأقمر، عن أبي جُحيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا فلا آكل متكئًا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول. . . .، فذكر مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر بن كدام، عن علي بن الأقمر، قال: سمعت أبا جحيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . . فذكر مثله. فليس ذلك على طريق التحريم منه عليهم أن يأكلوا كذلك، ولكن لمعنى في الأكل متكئًا خافَهُ عليهم.

حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: ثنا جرير عن عبد الحميد، قال: قال الشعبي: "إنما كره أكل متكئًا؛ مخافة أن تعظم بطونهم". فأخبر الشعبي بالمعنى الذي كره رسول الله -عليه السلام- من أجله الأكل متكئًا، وأنه إنما هو لما يحدث عنه من عظم البطن، فكذلك ما روي عنه من النهي عن الشرب قائمًا؛ إنما هو لمعنى يكون من ذلك كرهه من أجله، لا غير ذلك. ش: هذا بيان لقوله: "كما قد قال لهم: أمَّا أنا فلا آكل متكئًا" وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سهل بن بكار الدارمي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن رقية بن مصقلة الكوفي، روى له الجماعة ابن ماجه في التفسير. عن علي بن الأقمر بن عمرو الوادعي الكوفي روى له المجماعة، عن أبي جُحيفة وهب بن عبد الله السوائي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن شريك، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) نحوه. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "السنن الكبري" (4/ 171 رقم 6742). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 308 رقم 18776).

وأخرجه البخاري (¬1): عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة قال: "كنت عند النبي -عليه السلام-، فقال لرجل عنده: لا آكل متكئًا". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة .. إلى آخره نحوه. الخامس: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم أيضًا، عن مسعر بن كدام .. إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن علي بن الأقمر .. إلى آخره. نحوه. وأخرجه الترمذي (¬4) أيضًا: عن قتيبة، عن شريك، عن علي بن الأقمر، به. وقال: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث علي بن الأقمر. قوله: "متكئًا" حال من الضمير الذي في "لا آكل". قال الخطابي: يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه، لا يعرفون غيره، وكان بعضهم يتناول هذا الطعام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن، إذْ كان معلومًا أن الأكل مائلًا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه، ولا يسيغه ولا يسهل نزوله إلى معدته، قال: وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه، وإنما المتكئ هاهنا المعتمد على الوطاء الذي تحته، وكل من استوى قاعدًا على وطاء فهو متكئ. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2062 رقم 5084). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 348 رقم 3769). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1086 رقم 3262). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 273 رقم 1830).

والاتكاء مأخوذ من الوكاء وزنه الافتعال منه، والمتكئ هو الذي أوكأ مقعدته و [شدها (¬1)] بالقعود على الوطاء الذي تحته، والمعنى أني إذا أكلت لم أقعد متكئًا على الأوطئة والوسائد فعل من يريد أن يستكثر الأطعمة ويتوسع من الألوان، ولكن آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة، فيكون قعودي مستوفزًا له، وروي: "أنه -عليه السلام- كان يأكل مُقعِيا ويقول: أنا عبد آكل كما يأكل العبد". قلت: فيما اختاره الخطابي من المعنى نظر؛ لأن معنى الاتكاء في اللغة ينافيه؛ لأن معناه: الاعتماد على الشيء. قال الجوهري: اتكأ على الشيء فهو متكئ، والموضع متكأ وأوكأت فلانا إيكاءً إذا نصبت له متكأ، ومادته: واو، وكاف، وهمزة. قوله: "فليس ذلك من طريق التحريم منه عليهم" أي فليس قوله -عليه السلام-: "أما أنا فلا آكل متكئا" على التحريم من النبي -عليه السلام- على أمته. قوله: "أن يأكلوا كذلك" أي بأن يأكلوا متكئين، ولكن لأجل معنى حاصل في الأكل متكئًا خافه عليهم أي خاف النبي -عليه السلام- ذلك المعنى على أمته، وبين ذلك بقوله: حدثنا ابن أبي عمران -وهو بن موسى الفقيه- يروي عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني شيخ أبي داود، عن جرير بن عبد الحميد، عن عامر بن شراحيل الشعبي، والباقي ظاهر. ص: وقد روي في هذا أيضًا عن عبد الله بن عمرو. حدثنا محمَّد بن الحجاج، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه قال: "ما رأيت النبي -عليه السلام- يأكل متكئًا [قط] (¬2) ". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "شدة"، والمثبت من "لسان العرب" (1/ 201) [مادة: تكأ] و"النهاية" (1/ 193). (¬2) في "الأصل، ك": "فقط"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فقد يجوز أن يكون اجتنب ذلك لما قال الشعبيّ، وقد يجوز في ذلك معنى آخر. فإنه حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله ابن أبي جعفر، عن إسماعيل الأعور قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يأكل متكئًا، فنزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: انظروا إلى هذا العبد كيف يأكل متكئًا؟! قال: فجلس رسول الله -عليه السلام-". فقد يجوز أن يكون هذا المعنى الذي من أجله قال: "لا آكل متكئًا" لأنه فعل الملوك والجبابرة، وفعل الأعاجم؛ فكره ذلك ورغب في فعل العرب، كما روي عن عمر - رضي الله عنه -. فإنه حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قال: "أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه -: اخشوشنوا واخشوشبوا، واخلولقوا، وتمعددوا كأبيكم معد، وإياكم والتنعم وزي العجم". أفلا ترى أنه نهاهم عن زي العجم، وأمرهم بالتمعدد وهو العيش الخشن الذي يعرفه العرب، فكذلك الأكل متكئًا نهوا عنه لأنه فعل العجم، وأما الشرب قاعدًا فأمروا به خوفًا مما يحدث عليهم في صدورهم، فليس في ذلك شيء من زي العجم. ش: أي وقد روي في الترك الأكل متكئًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن حجاج الحضرمي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه عبد الله بن عمرو. اعلم أن شعيبًا هذا هو ابن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ينسب إلى جده، وممن ينسبه إلى جده: ثابت البناني الراوي عنه، وذكر البخاري وأبو داود وغير واحد أنه سمع من جده عبد الله بن عمرو، ولم يذكر أحد أنه يروي عن أبيه محمَّد، فإذا كان سماعه عن جده صحيحًا يكون حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحًا متصلًا، فافهم.

الطريق الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، قال: "ما رؤي رسول الله -عليه السلام- يأكل متكئًا قط ولا يطاء عقبه رجلان". قوله: "فقد يجوز أن يكون اجتنب ذلك .. إلى آخره" أشار بهذا إلى بيان علة ترك الأكل متكئًا، وهي شيئان: أحدهما: ما ذكره عامر الشعبي، وقد مرَّ بيانه. الثاني: هو أن الأكل متكئًا من فعل الملوك والجبابرة، وفعل العجم والأكاسرة، فكره رسول الله -عليه السلام- ذلك لما فيه من التشبه بهم، وبين ذلك بقوله: "فإنه -أي فإن الشأن- حدثنا يحيى بن عثمان القرشي السهمي أبي زكريا المصري مولى آل قيس بن أبي العاص السهمي شيخ ابن ماجه والطبراني، عن أبيه عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، فيه مقال، عن عبيد الله بن أبي جعفر المصري التابعي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أبي محمَّد الكوفي الأعور، من التابعين الكبار، روى له الجماعة إلا البخاري، وهذا الحديث معضل. قوله: "ورغب في فعل العرب" أي رغب رسول الله -عليه السلام- أمته في التشبه بفعل العرب كما روي عن عمر بن الخطاب في ذلك. أخرجه بإسناد صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 348 رقم 3770).

وكلام عمر هذا قد رفعه الطبراني في "معجمه" (¬1): عن أبي حداد الأسلمي، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "اخشوشنوا" من اخشوشن، وهو مبالغة من خشن، يقال: اخشوشن إذا لبس الخشن. قوله: "اخشوشبوا" من اخشوشب الرجل إذا كان صلبًا خشبا في دينه وملبسه ومطعمه وجميع أحواله، ويروى بالجيم يريد عيشوا عيش العرب الأول، ولا تعودوا أنفسكم الترفه، فيقعد بكم عن الغزو. قوله: "واخلولقوا" قريب من معنى اخشوشنوا، وكأن المعنى البسوا الثياب الخليقة. قوله: "وتمعددوا" من قولهم: تمعدد الرجل إذا شبَّ وغلظ، وقيل: أراد تشبهوا بعيش معد بن عدنان، وكانوا أهل غلظ وقشف، أي كونوا مثلهم، ودعوا التنعم وزي العجم، وهذا هو الصواب؛ بدليل قوله: "كأبيكم معد"، أرد به معد بن عدنان فإنه أصل العرب وجدهم الأعلى. ص: وقد روي في إباحة الشرب قائمًا عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد الأعلى، عن بشر بن غالب، قال: "دخلت على الحسين بن علي - رضي الله عنهما - داره، فقام إلى نجيبة له، فمسح ضرعها حتى إذا دعا دَرَّت بإناء، فحلب ثم شرب وهو قائم، ثم قال: يا بشر، إني إنما فعلت ذلك لتعلم أنا [نحن] (¬2) نشرب ونحن قيام. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: "رأيت أبي يشرب وهو قائم". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 40 رقم 84). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "شرح معاني الآثار".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن علي بن عبد الله البارقي، قال: "ناولت ابن عمر إداوة، فشرب منها قائمًا من فيها". ش: أخرج في ذلك عن حسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله ابن عمر. أما عن حسين بن علي فأخرجه بإسناد حسن جيد، عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن عبد الأعلى (¬1). عن بشر بن غالب الأسدي، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو الأحوص، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال: "رأيت الحسين شرب وهو قائم". وأما عن عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنهما - فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن مالك بن أنس، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبد الله بن الزبير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": نا خالد بن مخلد، عن مالك بن أنس، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: "رأيت أبي يشرب وهو قائم". وأما عن عبد اللهَ بن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن علي بن عبد الله البارقي .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، ولعله عبد الأعلى بن عامر الثعلبي, فهو الذي يروي عنه أبو الأحوص سلام بن سليم، وروايته عنه عند النسائي كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (16/ 353). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 102 رقم 24120).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) من وجه آخر: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر: "أنه شرب من قربة وهو قائم". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه نهى أن يشرب مِنْ في السقاء. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الشرب من فِي السقاء". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. فلم يكن هذا النهي من رسول الله -عليه السلام- على تحريم ذلك على أمته حتى يكون مَنْ فعله منهم عاصيًا له، ولكن المعنى قد اختلف فيه، ما هو؟ فحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الشرب من في السقاء؛ لأنه ينتن"، فهذا معناه. وقد روي في ذلك معنى آخر، وهو ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن ليث، عن مجاهد قال: "كان يكره الشرب من ثلمة القدح، وعروة الكوز، وقال: هما مقعدا الشيطان". فلم يكن هذا النهي من رسول الله -عليه السلام- على طريق التحريم بل على طريق الاشفاق منه على أمته والرأفة بهم والنظر لهم، وقد قال قوم: إنما نهى عن ذلك لأنه الموضع الذي يقصده الهوام، فنهى عن ذلك خوف أذاها، فكذلك ما ذكرنا عنه في صدر هذا الباب من نهيه عن الشرب قائما ليس على التحريم الذي يكون فاعله عاصيًا, ولكن للمعنى الذي ذكرناه في ذلك، وقد روينا عن رسول الله -عليه السلام- فيما تقدم من هذا الباب: "أنه أتى بيت أم سليم فشرب من قربة وهو قائم من فيها". فدل ذلك على أن نهيه الذي روي عنه في ذلك ليس على النهي الذي يجب على منتهكه ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 101 رقم 14108).

أن يكون عاصيًا, ولكنه على النهي من أجل الخوف، فهذا ذهب الخوف ارتفع النهي، فهذا عندنا معنى هذا الآثار. ش: ذكر هذا كله تمهيدًا لبيان إباحة الشرب قائمًا وأن النهي عن ذلك لم يكن على وجه التحريم كالنهي أن يشرب من فم السقاء، ولهذا لا يكون من فعل ذلك عاصيًا، فإذا ثبت [هذا ثبت] (¬1) أن النهي عن الشرب من فم السقاء لم يكن على التحريم. وأخرج في ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة. أما عن ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج ابن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه البخاري (¬2): نا مسدد، نا يزيد بن زريع، نا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن الشرب من فِي السقاء". وأخرجه أبو داود (¬3) أيضًا. وأما عن أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج ابن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬4): عن مسدد، عن إسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة: "نهى النبي -عليه السلام- أن يشرب من في السقاء". وبقي الكلام في وجه ذلك وحكمته، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: ما قاله عروة بن الزبير أن ذلك النهي لأن الشرب من فم السقاء ينتن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2132 رقم 5306). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 336 رقم 3719). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2132 رقم 5305).

الماء، أو فم السقاء، فيستقذره غيره، وكان يكون ماء العرب غالبًا في الأسقية والأدلية. أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -. الثاني: ما قاله مجاهد، وهو أن ذلك الموضع مقعد الشيطان. أخرجه بإسناد صحيح عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن ليث (¬1)، عن مجاهد. قوله: "من ثلمة القدح" بضم الثاء المثملة وسكون اللام. الثالث: ما قاله قوم من العلماء، وإنه إنما نهي عنه لأنه الموضع الذي يقصده الهوام، فربما يكون فيه شيء من ذلك، يؤذيه حين الشرب. والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد، قال: "فشرب رجل من فم سقاء، فانساب في بطنه [حار] (¬3) فنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية". ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا أنه نهى عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر، فيشرب من أفواهها. حدثنا بذلك إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن اختناث الأسقية". ¬

_ (¬1) ليث هذا هو ابن أبي سليم، وهو ضعيف عند الجمهور، فالإسناد ليس صحيحًا، والله أعلم. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 102 رقم 24127). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المصنف"، و"سنن البيهقي" (7/ 285 رقم 14439): "جَانُّ"، وعند الحاكم في "مستدركه" (4/ 156): "فخرجت عليه منه حية" وصححه علي شرط البخاري.

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري. . . . فذكر بإسناد مثله. قال ابن أبي ذئب: اختناثها أن تكسر فيشرب منها. فالوجه الذي من أجله نهى عن ذلك، هو الوجه الذي من أجله نهى عن الشرب من في السقاء. ش: ذكر هذا أيضًا لكون النهي فيه كالنهي عن الشرب من فم السقاء. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي .. إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن مقاتل، أنا عبد الله، أنا يونس، عن الزهري، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: "سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهي عن اختناث الأسقية"، قال عبد الله: قال معمر: هو الشرب من أفواهها". وأخرجه مسلم (¬2): نا عمرو الناقد، قال: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي سعيد: "نهى النبي -عليه السلام- عن اختناث الأسقية". وأخرجه أبو داود (¬3): عن مسدد، عن سفيان .. إلى آخره. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أسد بن موسي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري .. إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا آدم، نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2132 رقم 5303). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1600 رقم 2023). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 336 رقم 3720). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2132 رقم 5302).

عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري قال: "نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية، يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها". انتهى. و"الاختناث" من خنثت السقاء إذا ثنيت فمه إلى خارج، وشربت منه، وقبعته إذا ثنيته إلى داخل. وقال ابن الأثير: وإنما نهي عنه لأنه ينتنها، فإن إدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها، وقيل: لا يؤمن أن يكون فيها هامة، وقيل: لئلا يترشش الماء على الشارب لِسَعَةِ فم السقاء، وقد جاء في حديث آخر إباحته، ويحتمل أن يكون النهي خاصًّا بالسقاء الكبير دون الإداوة.

ص: باب: وضع إحدي الرجلين على الأخري

ص: باب: وضع إحدي الرجلين على الأخري ش: أي هذا باب في بيان حكم وضع إحدى الرجلين على الأخرى في حالة الاضطجاع. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- كره أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى". حدثنا يونس، قال: أخبرني شعيب بن الليث، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، وزاد: "وهو مضطجع". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن خداش، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسي بن مسعود النهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا قتيبة، قال: ثنا ليث. وثنا ابن رمح، قال: أنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق علي ظهره". الثاني: أيضًا صحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن شعيب بن الليث، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1661 رقم 2099).

أبيه الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬1): عن قتيبة، عن الليث. وعن موسي [عن] (¬2) حماد، جميعًا عن أبي الزبير نحوه. الثالث: أيضًا صحيح، عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر. الرابع: أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3). الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر المقدمي شيخ البخاري ومسلم، عن المعتمر بن سليمان بن طرخان البصري الثقة، عن أبيه سليمان بن طرخان البصري الثقة، عن خِداش -بكسر الخاء المعجمة وبالدال المهملة وفي آخره شين معجمة- ابن عياش العبدي البصري، وثقة ابن حبان، وقال الترمذي (¬4): خداش هذا لا يعرف من هو، وأخرجه من حديثه عن عبيد بن أسباط ابن محمَّد القرشي، عن أبيه، عن سليمان التيمي، عن خداش، عن أبي الزبير، وقال: حديث صحيح، ولا نعرف خداشًا من هو. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أمية بن بسطام، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى أن يثني الرجل إحدى رجليه على الأخرى". ش: إسناده صحيح، وأمية بن بسطام بن المنتشر العيشي البصري شيخ البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 267 رقم 4865). (¬2) في "الأصل، ك": "بن"، وهو تحريف، وفي "سنن أبي داود": وثنا موسي بن إسماعيل، ثنا حماد، عن أبي الزبير. (¬3) "مسند أحمد" (3/ 349 رقم 14812). (¬4) "جامع الترمذي" (5/ 96 رقم 2766).

وأبو بكر بن حفص اسمه عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكره قوم وضع إحدى الرجلين على الأخرى لهذه الآثار، واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل قال: "كان الأشعث وجرير بن عبد الله وكعب قعودًا، فوضع الأشعث إحدى رجليه على الأخرى وهو قاعد، فقال له كعب بن عجرة: ضُمَّها؛ فإنه لا يصلح لبشر". ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن سيرين، ومجاهدًا، وطاوسًا، وإبراهيم النخعي؛ فإنهم قالوا: يكره وضع إحدى الرجلين على الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس وكعب بن عجرة. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما أخرجه بإسناد صحيح عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن واصل بن حيان الأحدب، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: "كان الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية الكندي، وكان قد وفد إلى النبي -عليه السلام- سنة عشر من الهجرة في وفد كندة وكانوا ستين راكبًا فأسلموا، وشهد اليرموك بالشام ففقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية، والمدائن، وجلولاء، ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها دارًا، وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه - وكان ممن ألزم عليًّا - رضي الله عنه - بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان - رضي الله عنه - قد استعمله علي أذربيجان، وكان الحسن بن علي - رضي الله عنهما - تزوج ابنته، فقيل هي التي سقت الحسن السم فمات منه، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. روى عنه: قيس بن أبي حازم وأبو وائل وغيرهما، توفي سنة ثنتين وأربعين، وصلي عليه الحسن بن علي - رضي الله عنهما -. وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن واصل: "أن جريرًا جلس ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فقال له كعب: ضُمَّها؛ فإن هذا لا يصلح لبشر". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأسًا، واحتجوا في ذلك بما روي

عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قال: "رأيت النبي -عليه السلام- مستلقيًا في المسجد، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: ثنا عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، قال: ثنا الزهري، قال حدثني عباد بن تميم، عن عمه، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: أنا وهب، قال: حدثني مالك بن أنس ويونس، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عن عمه، عن رسول الله -عليه السلام- بمثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون (ح). وحدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله، عن ابن شهاب، قال: حدثني محمود بن لبيد، عن عباد بن تميم، عن عمه، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي خالف القومَ المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وأبا مجلز، ومحمد بن الحنفية؛ فإنهم قالوا: لا بأس بوضع إحدي الرجلين على الأخرى، وروي ذلك عن أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب, وعثمان , وعبد الله بن مسعود, وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري.

وأخرجه من سبع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد الأنصاري. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري .. إلى آخره نحوه. الثاني: عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني، عن عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد العبدي البصري، عن سفيان الثوري، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهري .. إلي آخره نحوه. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم الزهري .. إلي آخره. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمَّد بن مسلم الزهري .. إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): عن النفيلي والقعنبي، جميعًا عن مالك .. إلى آخره نحوه. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك .. إلي آخره. وأخرجه النسائي: عن قتيبة، عن مالك نحوه. السادس: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني، عن الزهري، عن محمود بن لبيد بن عقبة بن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1662 رقم 2100). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 95 رقم 2765). (¬3) "سنن أبي دواد" (4/ 267 رقم 4866).

رافع الأشهلي المدني -المختلف في صحبته- عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن منهال وأحمد بن يونس، قالا: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، عن محمود ابن لبيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد: "أنه رأى رسول الله -عليه السلام- مستلقيًا ثم ينصب إحدى رجليه ثم يُعرض عليها الأخري". السابع: عن علي بن عبد الرحمن، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن الزهري .. إلى آخره. ص: قالوا: فهذه الآثار قد جاءت عن رسول الله -عليه السلام- بإباحة ما منعت منه الآثار الأُول. ش: أي قال هؤلاء الآخرون: هذه الأحاديث وهي تدل على إباحة وضع إحدى الرجلين على الأخرى وهي تضاد الآثار الأُول ونسختها؛ علي ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: وأما ما ذكروه مما احتجوا به من قول كعب بن عجرة فإنه قد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- خلاف ذلك: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - كانا يفعلان ذلك". ¬

_ (¬1) لعله في الجزء المفقود من "المعجم الكبير"، وقد أخرجه ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 267) وقال: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عبد العزيز بن الماجشون. . . . إلي أن قال: فقالا: خالف عبد العزيز الماجشون أصحاب الزهري في ذلك، أدخل فيما بين الزهري وعباد محمود ابن لبيد، ولم يدخله أحد من الحفاظ. والحديث أخرجه أيضًا علي بن الجعد في "مسنده" (1/ 419 رقم 2862)، وابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 204) ثم قال: ولا وجه لذكر محمود بن لبيد في هذا الإسناد وهو من الوهم البين عند أهل العلم.

حدثني ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن عمر، قال: حدثني سالم أبو النضر، قال: "كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يجلس أحدهم متربعًا وإحدى رجليه على الأخرى". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمَّد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع: "أنه رأى عثمان بن عفان فعل ذلك". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن عبد العزيز، أن محمَّد بن نوفل حدثه: "أنه رأى أسامة بن زيد بن حارثة في مسجد النبي -عليه السلام- فعل ذلك". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع: "أنه رأى ابن عمر يفعل ذلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "رأيت عبد الله مضطجعًا بالأراك واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عمران بن مسلم، قال: "رأيت أنس بن مالك قاعدًا قد وضع إحدى رجليه على الأخرى". فقد روينا عن هؤلاء الجلّة، من أصحاب رسول الله -عليه السلام- وهذا مما لا نصل إلى تثبيته من طريق النظر فنستعمل فيه ما استعملناه في غيره من أبواب هذا الكتاب. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من قول كعب بن عجرة المذكور فيما مضي. وتقرير الجواب: أن يقال: إن كعب بن عجرة إن روي عنه أنه نهى عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى، فقد روى عن غيره من الصحابة خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) سورة يونس، آية: [85].

وأخرج عن جماعة وهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. أما ما روي عن عمر وعثمان كليهما فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ويونس ابن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب. الثاني: فيه عن أبي بكر الصديق أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، عن أحمد: ليس به بأس. وعن ابن معين: صويلح. روى له الأربعة، ومسلم مقرونًا بغيره. وأما ما روي عن عثمان وحده: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الله بن جعفر عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، روى له الجماعة إلا أبا داود، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع المخزومي: "أنه رأى عثمان - رضي الله عنه -". وأما ما روي عن أسامة بن زيد، فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عمر بن عبد العزيز -أحد الخلفاء الراشدين- عن محمَّد بن نوفل بن الحارث الهاشمي، وثقه ابن حبان. . . . إلى آخره. وأما ما روي عن ابن عمر، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن يونس، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، روول له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأما ما روي عن عبد الله بن مسعود: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن سفيان الثوري، [عن] (¬1) جابر بن يزيد ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

الجعفي، فيه مقال كثير، عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي، روى له الجماعة، قال: "رأيت عبد الله -يعني ابن مسعود". وأما ما روي عن أنس بن مالك فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن سفيان الثوري، عن عمران بن مسلم المنقري أبي بكر البصري القصير، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وقد روى ابن أبي شيبة هذه الآثار في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع عن عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر وعثمان كانا يفعلانه". ثنا يحيي (¬2) بن سعيد، عن محمد بن عجلان، عن يحيي بن عبد الله بن مالك، عن أبيه قال: "دخل عليَّ عمر - رضي الله عنه -أو رآه- مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الآخرى". ثنا (¬3) مروان بن معاوية، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عمر بن العزيز، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث: "أنه رأى أسامة بن زيد جالسًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى". ثنا وكيع (¬4)، عن أسامة، عن نافع قال: "كان ابن عمر يضطجع فيضع إحدي رجليه على الأخرى". ثنا (¬5) أبو أسامة، عن أسامة، عن نافع قال: "كان ابن عمر يستلقي علي قفاه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، لا يرى بذلك بأسًا، ويفعله وهو جالس لا يرى بذلك بأسًا". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25513). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25507). (¬3) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25508). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25509). (¬5) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25510).

ثنا وكيع (¬1)، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عمه قال: "رأيت ابن مسعود مستلقيًا، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2). ثنا (¬3) ابن مهدي، عن سفيان، عن عمران -يعني ابن مسلم- قال: "رأيت أنسًا - رضي الله عنه - واضعًا إحدى رجليه على الأخرى". قوله: "بالأراك" بفتح الهمزة والراء وبعد الألف كاف، قال البكري: "الأراك" بفتح أوله علي لفظ جمع أراكة موضع بعرفة، وروى مالك (¬4)، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه: "أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تنزل من عرفة بنمرة، ثم تحول إلى الأراك"، والأراك من مواقف عرفة من ناحية الشام، ونمرة من مواقف عرفة من ناحية اليمن. ص: ولكن لما روينا عن رسول الله -عليه السلام- ما وصفنا في الفصل المتقدم، وروي عن كعب بن عجرة أنها لا تصلح لبشر، فكان معنى ذلك عندنا -والله أعلم- أنها لا تصلح لبشر لنهي رسول الله -عليه السلام- عنها, لأنه لا يصلح لبشر أن يخالف رسول الله -عليه السلام- ثم قد جاء ما قد ذكرناه في الفصل الثاني من إباحتها باستعمال رسول الله -عليه السلام- إياها، فاحتمل أن يكون أحد الأمرين قد نسخ الآخر، فلما وجدنا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وهم الخلفاء الراشدون المهديون -علي قربهم من رسول الله -عليه السلام- وعلمهم بأمره قد فعلوا ذلك من بعده بحضرة أصحابه جميعًا، وفيهم الذي حدَّث بالحديث الأول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكراهة، فلم ينكر ذلك أحد منهم، ثم فعله عبد الله بن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - فلم ينكره عليهم منكر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25514). (¬2) سورة يونس، آية: [85]. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25515). (¬4) "موطأ مالك" (1/ 338 رقم 750) بأتم منه.

ثبت بذلك أن هذا هو ما عليه أهل العلم من هذين الخبرين المرفوعين، وبطل بذلك ما خالفه؛ لما ذكرنا وبَيَّنَّا. ش: هذا استدراك ليُبَيِّن أيَّ الأحاديث من أحاديث الفصلين العمل عليه؟ وهو ظاهر. قوله: "قد فعلوا ذلك" أي وضع إحدى الرجلين على الأخرى "من بعده" أي من بعد النبي -عليه السلام-. قوله: "وفيهم" أي والحال أن في الصحابة "الذي حدث بالحديث الأول عن النبي -عليه السلام-" وهو جابر بن عبد الله، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. ص: وقد روي عن الحسن في ذلك ما يدل علي غير هذا المعنى: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي، قال: حدثني السَّري بن يحيي، قال: ثنا عُقَيل، قال: "قيل للحسن: قد كان يكره أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى؟ فقال الحسن: ما أخذوا ذلك إلا عن اليهود". فيحتمل أن يكون كان من شريعة موسى - علية السلام- كراهة هذا الفعل، فكانت اليهود علي ذلك، فأمر رسول الله -عليه السلام- باتباع ما كانوا عليه؛ لأن حكمه أن يكون علي شريعة النبي الذي كان قبله، حتى يحدث الله له شريعة تنسخ شريعته، ثم أمر رسول الله -عليه السلام- بخلاف ذلك، وبإباحة ذلك الفعل لما أباح الله -عز وجل- له ما قد كان حظره علي من كان قبله. ش: أي: قد روي عن الحسن البصري في حكم وضع إحدى الرجلين على الأخرى خلاف ما ذكره من المعنى المذكور فيما مضى. أخرج ذلك عن سليمان بن شعيب، خالد بن نزار الأيلي، وثقه ابن حبان، ونسبته إلى مدينة أيلة علي ساحل بحر الطور. عن السَّري بن يحيي بن إياس الشيباني البصري، وثقه يحيي بن معين، وأبو زرعة. عن عقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، روي له الجماعة، قال: "قيل للحسن البصري: قد كان يكره. ." إلى آخره.

قوله: "ما أخذوا ذلك" أي وضع إحدي الرجلين على الأخري. قوله: "فيحتمل أن يكون كان من شريعة موسى -عليه السلام-. ." إلي آخره. بيان هذا الكلام: أنه يحتمل أن يكون كان وضع إحدى الرجلين على الأخرى مكروهًا في شريعة موسى -عليه السلام- وكانت اليهود علي ذلك يعني علي كراهته فأمر رسول الله -عليه السلام- باتباع ما كانوا عليه أي بأن يتبع شريعة من كان قبله؛ لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، وكان الحكم أن يكون -عليه السلام- علي شريعة من قبله حتى يقص الله عليه بالإنكار، فينسخ ذلك بتجديد شريعة له، وهذا هو الذي قاله أصحابنا الأصوليون: شرائع من قبلنا تلزمنا حتى يقص الله علينا بالإنكار، وقد كان -عليه السلام- نهى عن ذلك؛ اتباعًا لشريعة موسى -عليه السلام-، ثم أمره الله تعالى بخلاف ذلك وبإباحة ذلك الفعل حين أباح الله له ما قد كان حظره -أي حرمه- علي من كان قبله. فإذا كان كذلك؛ ثبت انتساخ الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وقد روي عن أبي مجلز لا حق بن حميد، وعكرمة ما روي في ذلك عن الحسن البصري. قال: ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، عن العوام، عن الحكم قال: "سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدي رجليه على الأخري، فقال: لا بأس به، إنما هو شيء كرهته اليهود قالوا: إن الله -عز وجل- خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى يوم السبت فجلس تلك الجلسة". ثنا (¬3) وكيع، ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: "إنما ينهي عن ذلك أهل الكتاب". ص: وقد روي عن الحسن خلاف ذلك أيضًا: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: "أنه ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 228 رقم 25516). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 227 رقم 25511).

كان يفعله -يعني وضع إحدى الرجلين على الأخرى- وقال: إنما كره ذلك أن يفعله بين يدي القوم؛ مخافة أن ينكشف" ش: وقد روي عن الحسن البصري خلاف ما ذكر عنه أولًا. أخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل، عن الحسن. . . . إلي آخره. والحاصل أن علة كراهة هذا الفعل: هي مخافة انكشاف عورة فاعله، ولكن هذه العلة إنما تكون إذا كان فاعل هذا الفعل بلا سراويل، أو يكون بين القوم، فإذا كان بسراويل أو في خلوة، تنتفي هذه العلة، فافهم. ص: والوجه الأول عندي أشبه من هذا، ألا تري إلى قول كعب: "إنها لا تصلح لبشر"، فلو كان ذلك للمعنى الذي روي عن الحسن في هذا الحديث لم يقل ذلك كعب، ولكنه إنما قال ذلك لعلمه بنهي رسول الله -عليه السلام- لما كان عليه من اتباع مَن قبله، ثم نسخ الله -عز وجل-؛ فلم يعلمه كعب فكان على الأمر الأول، وعلمه غيره فرجع إليه وترك ما تقدمه. ش: أراد بالوجه الأول ما رواه عن سليمان بن شعيب الكيساني. وقوله: "أشبه من هذا" أي أقرب إلى المعنى من الوجه الثاني الذي أخرجه عن محمَّد بن خزيمة، ثم أوضح وجه ذلك بقوله: "ألا ترى إلي قوله كعب"، وهو كعب بن عجرة - رضي الله عنه - وهو ظاهر. الله أعلم.

ص: باب: الرجل يتطرق في المسجد بالسهام

ص: باب: الرجل يتطرق في المسجد بالسهام ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل يتخذ طريقًا في المسجد ويعبر منه ومعه السهام. ص: حدثنا أبو بكرة وعلي بن معبد، قالا: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا مَرَّ أحدكم في مسجدنا -أو في مساجدنا- وفي يده سهام فليمسك بنصالها؛ لا يعقر بها أحدًا". ش: إسناده صحيح. وبُريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء. وأبو بُردة اسمه عامر بن أبي موسى، واسم أبي موسى الأشعري: عبد الله بن قيس. وأخرجه البخاري (¬1) في كتاب الصلاة: عن موسي بن إسماعيل، عن عبد الواحد ابن زياد، عن بُريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي -عليه السلام- قال: "مَن مرَّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض علي نصالها بكفه؛ أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء". وأخرجه (¬2) أيضًا في كتاب الفتن: عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بُريد .. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3) في الأدب: عن أبي كريب وأبي عامر عبد الله بن براد، عن [أبي] (¬4) أسامة، عن بريد. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 173 رقم 441). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2592 رقم 6664). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 2019 رقم 2615). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وأخرجه أبو داود (¬1) في الجهاد: عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد ... إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2) في الأدب: عن محمَّد بن غيلان، عن أبي أسامة، عن بُريد به. قوله: "أو في مساجدنا": شك من الراوي، و"السهام" جمع سهم، وفي معناها ما يشابهها من السلاح، و"النصال" جمع نصل السهم. قوله: "لا يعقر بها أحدًا": أي لا يجرح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي أنه لا بأس أن يتخطى الرجل المسجد، وهو حامل ما أراد حمله، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث وجماعة من الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يمر في المسجد وهو حامل ما أراد حمله من السلاح وغيره. واستدلوا علي ذلك بظاهر الحديث المذكور، ومن جملة ما يدل الحديث علي أن مَن يمر في المسجد ومعه نوع من السلاح؛ ينبغي له أن يمسك الموضع الذي فيه الحديدة حتي لا يصدم أحدًا ويجرحه، وعن هذا قالوا: يكره سلُّ السيف، في المسجد، ولا يتعاطي أحد السيف مسلولًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي لأحد أن يدخل المسجد وهو حامل شيئًا من ذلك إلا أن يكون دخل به يريد بدخوله الصلاة، أو يكون أدخله المسجد يريد به الصدقة، فأما أن يدخل به يريد به تخطي المسجد فإن ذلك مكروه. ش: أي خالف القومَ المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: جماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم؛ فإنهم قالوا: لا ينبغي لأحد. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 31 رقم 2578). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1241 رقم 3778).

وقد قال أصحابنا: رجل يمر في المسجد ويتخذ طريقًا إن كان لغير عذر لا يجوز، وبعذر يجوز، ثم إذا جاز يصلي في كل يوم مرة. قلت: إذا كان اتخاذ الطريق لغير عذر غير جائز؛ فالتخطي فيه وهو حامل شيئًا إذا لم يرد به الصدقة أولى أن لا يجوز. وقال ابن حزم (¬1): وروينا عن ابن عمر، والحسن، والشعبي إباحة التطرق في المسجد. قلت: هذا محمول علي حالة العذر. وقال أيضًا (¬2): التحدث في المسجد بما لا إثم فيه من أمور الدنيا مباح، وذِكْرُ الله تعالى أفضل، وإنشاد الشعر فيه مباح، والتعليم فيه للصبيان وغيرهم مباح، والسكني فيه والمبيت مباح ما لم يضيق على المصلين، وإدخال الدابة فيه مباح إذا كان لحاجة، والحكم فيه والخصام كل ذلك جائز، والتطرق فيه جائز إلا أن من خطر فيه بنبل فإنه يلزمه أن يمسك بحديده، فإن لم يفعل فعليه القود في كل ما أصاب بها. ص: وقالوا: قد يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بما ذكرتم في حديث أبي موسى الإدخال للصدقة؛ فنظرنا في ذلك، هل نجد شيئًا من الآثار يدل عليه؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، والليث بن سعد -يزيد أحدهما على الآخر- عن أبي الزبير، عن جابر قال: "كان الرجل يتصدق بنبل في المسجد، فأمر رسول الله -عليه السلام- أن يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- نحوه. فبيَّن جابر في هذا الحديث أن الذين كانوا يدخلون بها المسجد إنما كانوا يريدون بها الصدقة فيه، لا التخطي. ¬

_ (¬1) "المحلى" (4/ 243). (¬2) "المحلى" (4/ 241).

فهذا وجه ما أباحه رسول الله -عليه السلام- مما في حديث أبي موسى - رضي الله عنه -. ش: أي قال الآخرون في جواب حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. بيانه أن يقال: لا نسلم أن استدلالكم بحديث أبي موسي فيما ذهبتم إليه تام؛ لأنه يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- قد أراد به الإدخال لأجل الصدقة، فَبَيَّن ذلك حديث جابر أن الذين كانوا يدخلون بها المسجد إنما كان مرادهم الصدقة فيه، لا التخطي. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد، كلاهما عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة وابن رمح، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه أمر رجلًا يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬2): عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، به. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2019 رقم 2614). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 31 رقم 2586).

ص: باب: المعانقة

ص: باب: المعانقة ش: أي هذا باب في بيان حكم المعانقة، وهي مفاعلة من الاعتناق. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة وحماد ابن زيد ويزيد بن زريع، عن حنظلة السدوسي، قال: حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنهم قالوا: "يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض إذا التقينا؟ قال: لا، قالوا: أفيعانق بعضنا بعضًا؟ قال: لا، قالوا: أفيصافح بعضنا لبعض؟ قال: تصافحوا". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال، عن حنظلة، عن أنس قال: "قلنا: يا رسول الله. . . ." ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان: الأول: رجاله كلهم ثقات، غير أن حنظلة بن عبد الله -ويقال: عبيد الله- السدوسي البصري، فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف الحديث، وعنه: منكر الحديث. ووثقه ابن حبان، وروى له الترمذي (¬1) وحسَّن حديثه: ثنا سويد، قال: أنا عبد الله، قال: أنا حنظلة بن عبيد الله، عن أنس بن مالك قال: "قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أفينحني له؟ قال: لا، قال: أَفَيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: نعم" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. الثاني: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن سليمان بن حرب الواشحي البصري، شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي هلال الراسبي محمَّد بن سليم، عن يحيى بن معين: ليس به بأس، وعنه: صدوق، روى له الأربعة والبخاري مستشهدًا. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 75 رقم 2728).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن جرير بن حازم، عن حنظلة نحوه. قوله: "أينحني" الهمزة فيه للاستفهام، وكذلك في قوله: "أفيعانق" و"أفيصافح" وليس في أكثر النسخ همزة في "فيعانق" و"فيصافح". قوله: "تصافحوا" أمر من تصافح يتصافح تصافحًا، وهو إلصاق صفح الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه، وكذلك المصافحة. ويفهم منه ثلاثة أحكام: * عدم جواز انحناء الناس بعضهم لبعض عند التلاقي؛ وذلك لأنه من صنيع الأعاجم. * وعدم جواز المعانقة كما ذهبت إليه طائفة. * وجواز المصافحة؛ لأن فيها تطييب القلوب. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي هذا، فكرهوا المعانقة. منهم أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن سيرين وعبد الله بن عون وأبا حنيفة ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: تكره المعانقة، واحتجوا علي ذلك بالحديث المذكور، وقد قال بعض أصحابنا: الخلاف فيما إذا اعتنق الرجلان عاريين عما عدا الإزار، أما إذا كان على كل منهما قميص فلا كراهة بالإجماع. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بها بأسًا، وممن ذهب إلي ذلك: أبو يوسف -رحمه الله-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي وأبا مجلز لاحق بن حميد وعمرو بن ميمون والأسود بن هلال وأبا يوسف؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالمعانقة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1220 رقم 3702).

ص: وكان مما احتجوا به في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو كريب محمَّد بن العلاء، قال: ثنا أسد بن عمرو، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه قال: "لما قدمنا على النبي -عليه السلام- من عند النجاشي تلقاني فاعتنقني". ش: أي وكان من الذي احتج به هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه؛ بحديث جعفر بن أبي طالب أخي علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي كريب محمَّد بن العلاء شيخ الجماعة، عن أسد بن عمرو أبي المنذر البجلي أحد أصحاب أبي حنيفة، قال عباس: سمعت يحيي يقول: أسد بن عمرو القاضي ثقة. وقال أحمد بن منيع: نا أسد بن عمرو وكان صدوقًا. وقال ابن عدي: لم أر في حديثه منكرًا، وأرجو أن أحاديثه مستقيمة، وليس في أصحاب الرأي بعد أبي يوسف أكثر حديثًا منه. وهو يروي عن مجالد -بالجيم- بن سعيد بن عمير الهمداني اختلف فيه؛ فعن أحمد: ليس بشيء. وعن ابن معين: لا يحتج بحديثه. وعن النسائي: ثقة، روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره. وهو يروي عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، وعبد الله هذا أيضًا صحابي ولد بأرض الحبشة، وهو أول مولد ولد بها في الإِسلام، وكان يسمى بحر الجواد وحتى قيل: لم يكن في الإِسلام أسخى منه. وهو يروي عن أبيه جعفر بن أبي طالب، وجعفر قتل في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) منقطعًا: ثنا علي بن المسهر، عن الأجلح، عن الشعبي: "أن النبي -عليه السلام- تلقي جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل ما بين عينيه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 247 رقم 25729).

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأجلح، عن الشعبي قال: "وافق قدوم جعفر فتح خيبر، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا أدري بأي الشيئين أنا أشد فرحًا؛ بفتح خيبر أو بقدوم جعفر؟ ثم تلقاه فاعتنقه وقبل يمينه". ش: رجاله ثقات ولكنه منقطع. وعبيد الله بن محمَّد التيمي المعروف بأبي عائشة، ثقة، روي عنه أبو داود وأبو عوانة الوضاح اليشكري، والأحلج بن عبد الله بن حجية الكوفي. والشعبي هو عامر بن شراحيل. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من رواية الأجلح، عن الشعبي قال: "لما قدم جعفر من الحبشة ضمه النبي -عليه السلام- وقبل ما بين عينيه" ثم قال: مرسل. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن يحيي بن محمَّد الشجري، قال: حدثني أبي يحيي، قال: أخبرني ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "لما قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله -عليه السلام- في بيتي فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله -عليه السلام- عريانًا والله ما رأيته عريانًا قبله، فاعتنقه وقبله". ش: إبراهيم بن يحيي بن محمَّد بن عباد بن هانئ الشجري -بالشين المعجمة والجيم- كان ينزل الشجرة بذي الحليفة، وهو شيخ البخاري، تكلموا فيه، ولكن الترمذي حسَّن حديثه، هو يروي عن أبيه يحيى بن محمَّد، وقوله: "يحيى" عطف بيان عن قوله: أبي. وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 101 رقم 13358).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن إسماعيل، قال: نا إبراهيم بن يحيي بن محمَّد بن عباد المديني، قال: حدثني أبي يحيي، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله -عليه السلام- في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله -عليه السلام- عريانًا فجر ثوبه -والله ما رأيته عريانًا قبله ولا بعده- فاعتنقه وقبله". قال أبو عيسي: هذا حديث حسن غريب، لا يعرف من حديث الزهري إلا من هذا الوجه. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن غالب التمار، عن الشعبي: "أن أصحاب النبي -عليه السلام- كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا". ش: رجاله ثقات. ومسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود. وغالب هو ابن مهران التمار العبدي. والشعبي هو عامر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن غالب قال: "قلت للشعبي: إن ابن سيرين كان يكره المصافحة، قال: فقال الشعبي: كان أصحاب رسول الله -عليه السلام- يتصافحون، وإذا قدم أحدهم من سفر عانق صاحبه". ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: يحيي بن حماد، قالا: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 76 رقم 2732). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 246 رقم 25720).

ش: هذان طريقان آخران: الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن غالب التمار، عن الشعبي. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن يحيي بن حماد بن أبي زياد الشيباني شيخ البخاري عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬1) من طريق شعبة، عن غالب التمار، عن الشعبي نحوه. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا أبو غالب، عن أم الدرداء قالت: "قدم علينا سلمان - رضي الله عنه - فقال: أين أخي؟ قلت: في المسجد، فأتاه، فلما رآه اعتنقه". ش: أبو غالب البصري صاحب أبي أمامة فقيل: اسمه حزور، وقيل: سعيد بن الحزور، وقيل: نافع. وأم الدرداء اسمها خيرة بنت أبي حدرد، زوج أبي الدرداء، وهي صحابية. وأم الدرداء الصغرى اسمها هجيمة، لا صحبة لها. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد كانوا يتعانقون، فدل ذلك أن ما روى عن رسول الله -عليه السلام- من إباحة المعانقة كان متأخرًا عما روي عنه من النهي عن ذلك؛ فبذلك نأخذ، وهو قول أبي يوسف -رحمه الله-. ش: إذا كان ما روي عن النبي -عليه السلام- من إباحة المعانقة متأخرًا عما روي من النهي عنها يكون ناسخًا للنهي؛ لأن فعل الصحابة - رضي الله عنهم - يدل علي ذلك؛ لأنهم لو لم يعلموا بالنسخ لما فعلوا ذلك. قوله: "فبذلك نأخذ" إشارة إلى أنه اختار في هذا الباب ما ذهب إليه أبو يوسف. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 100 رقم 13353).

ص: باب: الصور تكون في الثياب

ص: باب: الصور تكون في الثياب ش: أي هذا باب في بيان حكم الصور التي تكون في الثياب، وهو جمع صورة، وصورة الشيء حقيقته وهيئته. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن علي بن مدرك، قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن نُجي، عن أبيه قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق وحَبان بن هلال، قالا: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا مغيرة بن مقسم، قال: حدثني الحارث العكلي، عن عبد الله بن نُجي، عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "قال لي جبريل -عليه السلام-: إنّا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة ولا تمثال". ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن ابن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن علي بن مدرك النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، قيل اسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة، عن عبد الله بن نُجَيّ -بضم النون وفتح الجيم وتشديد الياء آخر الحروف- بن سلمة بن جشم الحضرمي الكوفي، قال الدارقطني: لا بأس به. وقال البخاري: فيه نظر. روي له من الأربعة غير الترمذي، وهو يروي عن أبيه نُجَي الحضرمي ثقة.

وأخرجه أبوداود (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن علي بن مدرك. . . . إلى آخره نحوه، وفي آخره: "ولا كلب ولا جنب". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري الثقة، وعن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي، كلاهما عن شعبة. . . . إلي آخره. وأخرجه النسائي (¬2) نحوه. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن الحارث بن يزيد العكلي الكوفي، عن عبد الله بن نُجَيّ، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه ولفظه: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب". قال المنذري: الصورة كل ما يصور من الحيوان سواء في ذلك المنصوبة القائمة التي لها أشخاص، وما لا شخص له من المنقوشة في الجدر وفيه خلاف وتفصيل للعلماء. قوله: "ولا تمثال" بكسر التاء، وهو اسم من المثال، يقال: مثَّلت -بالتثقيل والتخفيف- إذا صورت مثالًا، ومنه الحديث: "أشد الناس عذابًا الممثل". فإن قيل: هل [الفرق] (¬3) بين الصورة والتمثال؟ قلت: قد قيل: لا فرق بينهما، والصحيح أن بينهما فرقًا بدليل عطف التمثال على الصورة في الحديث، والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يقال أنه عطف تفسير؛ لعدم الإجمال في الصورة، والفرق بينهما ما ذكره بعضهم: أن الصورة تكون في الحيوان، والتمثال يكون فيه وفي غيره، ومن هذا استدل بعضهم علي تحريم ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 72 رقم 4152). (¬2) "المجتبى" (1/ 141 رقم 261). (¬3) كذا في "الأصل، ك".

التصوير سواء كان من الحيوان أو غيره كالشجر ونحوه، ويقال: التمثال ما له جرم وشخص، والصورة ما كان رقمًا أو تزويقًا في ثوب أو حائط. وقال المنذري: قيل: التمثال الصورة، وقيل في قوله تعالى: {وَتَمَاثِيلَ} (¬1): إنها صورة العقبان والطواويس علي كرسيه، وكان مباحًا، وقيل: صور الأنبياء والملائكة -عليهم السلام- من رخام وشبه؛ لينشطوا في العبادة بالنظر إليهم، وقيل: صور الآدميين من نحاس. والله أعلم. ثم المراد من الجنب في رواية أبي داود: هو الذي يترك الاغتسال ويتخذه عادةً، ومن الكلب: الذي يتخذ للهو واللعب لا لحاجة الصيد والزرع والماشية. ومن الملائكة: ملائكة الوحي، فأما الحفظة فيدخلون في البيوت ولا يفارقون بني آدم علي حال. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- حين دخل البيت وجد فيه صورة إبراهيم -عليه السلام- وفي يده الأزلام، وصورة مريم، فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا [تدخل] (¬2) بيتًا فيه صورة وهذا صورة إبراهيم، فما باله يستقسم وقد علموا أنه كان لا يستقسم". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وبكير هو ابن عبد الله بن الأشج المدني نزيل مصر. وأخرجه النسائي (¬3): عن وهب بن بيان، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "وفي يد الأزلام" جمع "زلم" بفتح الزاي وضمها، والأزلام هي القداح ¬

_ (¬1) سورة سبأ، آية: (13). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "السنن الكبري" (5/ 500 رقم9772).

التي كانت في الجاهلية عليها مكتوب الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له فإذا أراد سفرًا أو زواجًا أو أمرًا مهمًّا أدخل يده فأخرج منها زلمًا، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كفَّ عنه ولم يفعله. قوله: "يستقسم" من الاستسقام وهو طلب القسم الذي قسم له وقدر مما لم يقسم ولم يقدر، وهو استفعال منه، وكانوا إذا رأى أحدهم سفرًا أو تزويجًا أو نحو ذلك من المهام ضرب بالأزلام وهي الأقداح، وكان علي بعضها مكتوب: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وعلى الآخر: غفل، فإن خرج أمرني ربي مضي لشأنه، وإن خرج نهاني ربي أمسك، وإن خرج الغفل عاد إدخالها وضرب بها أخري إلى أن يخرج الأمر أو النهي. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبي طلحة - رضي الله عنهم - أن النبي -عليه السلام- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن يسار، عن أبى طلحة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، عن أبي طلحة -واسمه زيد- بن سهل الأنصاري. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيي بن يحيي وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم -قال يحيي وإسحاق: أنا. وقال الآخران: نا- سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن أبي طلحة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1665 رقم 2106).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق .. إلى آخره. وأخرجه أبو يعلي في "مسنده" (¬1): ثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد، عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن يسار، عن أبي طلحة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاوير ولا كلب. . . ." الحديث. وجاء أيضًا بهذا الإسناد عن سعيد بن يسار، عن زيد بن خالد الجهني، عن أبي طلحة الأنصاري، قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تمثال. . . ." الحديث. أخرجه أبو داود (¬2)، عن وهب بن بقية، عن خالد، عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن يسار الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني، عن أبي طلحة، به. وأخرجه مسلم (¬3) مطولًا، وبقية الجماعة (¬4) ببعضه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أمية بن بسطام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن يسار، عن زيد بن خالد، عن أبي أيوب، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح. وأمية بن بسطام شيخ البخاري. وزيد بن خالد الجهني الصحابي، يروي عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وأخرجه الطبراني (¬5): ثنا أحمد بن علي الأبار وإبراهيم بن هاشم البغوي، قالا: ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن سهيل بن ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلي" (3/ 22 رقم 1432). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 73 رقم 4153). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1665 رقم 2106). (¬4) "صحيح البخاري" (3/ 1179 رقم 3054)، و"جامع الترمذي" (5/ 115 رقم 2806)، و"المجتبى" (8/ 212 رقم 5350)، و"سنن ابن ماجه" (2/ 1203 رقم 3649). (¬5) "المعجم الكبير" (4/ 121 رقم 3860).

أبي صالح، عن سعيد بن يسار، عن زيد بن خالد الجهني، عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة" ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيي بن عبد الله بن بكير، عن عبد العزيز ابن أبي حازم، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن جبريل -عليه السلام- قال لرسول الله -عليه السلام-: إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة". ش: إسناد صحيح. وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاضي الزاهد الحكيم. وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: ثنا سويد بن سعيد، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "واعد رسول الله جبريل -عليهما السلام- في ساعة يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة ولم يأته وفي يده عصًا فألقاها من يده، وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله، ثم التفت فإذا جرو كلب تحت [سريره] (¬2) فقال: يا عائشة متى دخل هذا الكلب هاهنا؟ فقلت: والله ما دريت، فأمر به فأخرج، وجاء جبريل -عليه السلام- فقال رسول الله -عليه السلام-: واعدتني فجلست لك فلم تأت! فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك؛ إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو زيد بن أبي الغَمْر، قال: ثنا يعقوب ابن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة قالت: "اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فلما دخل رسول الله -عليه السلام- فرآها تغير، ثم قال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1664 رقم 2104). (¬2) في "الأصل، ك": "سرير"، والمثبت من "صحيح مسلم".

يا عائشة، ما هذه؟ فقلت: نمرقة اشتريتها لك تقعد عليها، قال: إنا لا ندخل بيتًا فيه تصاوير". ش: أبو زيد اسمه عبد الرحمن بن أبي الغَمْر -بفتح الغين المعجمة وسكون الميم- واسم أبي الغمر عمر بن عبد العزيز. وأخرجه البخاري (¬1): نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن نافع، عن القاسم ابن محمَّد، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام-: "أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله -عليه السلام- قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة". وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: عن يحيي بن يحيي، عن مالك. قوله: "نمرقة" بضم النون والراء وبكسرهما وبغير هاء، وتجمع علي نمارق وهي الوسادة. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني القاسم، عن عائشة قالت: "دخل عليّ رسول الله -عليه السلام- وأنا مستترة بقرام سترٍ فيه صورة، فهتكه ثم قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذي يشبهون بخلق الله -عز وجل-". ش: إسناده صحيح. والأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو، والزهري: محمَّد بن مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2222 رقم 5616). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1669 رقم 2107).

وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، جميعًا عن ابن عيينة -واللفظ لزهير قال: نا سفيان بن عيينة- عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أنه سمع عائشة - رضي الله عنها - تقول: "دخل [عليّ] (¬2) رسول الله -عليه السلام- وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: يا عائشة، أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله، قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين". قوله: "بقرام" بكسر القاف وهو الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذي ألوان، والإضافة فيه كقولك: ثوب قميص. قوله: "فهتكه" أي خرقه، يقال: هتكه فانهتك، والاسم الهُتكة، والهتيكة: الفضيحة. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن النبي -عليه السلام-: "أنه دخل الكعبة فرأى فيها صورًا، فأمرني فأتيته بدلوٍ من ماء، فجعل يضرب به الصور يقول: قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون". ش: هذان وجهان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن الحارث بن عبد الرحمن المدني خال ابن أبي ذئب، وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1668 رقم 2107). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وأخرجه الطبراني (¬1) مطولًا: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، نا خالد بن يزيد العمري، ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن كريب، عن أسامة قال: "دخلت على النبي -عليه السلام- وعليه الكآبة، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إن جبريل -عليه السلام- وعدني أن يأتيني ولم يأتني منذ ثلاث، قال: وإذا كلب، قال أسامة: فوضعت يدي علي رأسي فصحت، فقال: ما لك يا أسامة؟! فقلت: كلب، فأمر به النبي -عليه السلام- فقتل، ثم أتاه جبريل -عليه السلام-، فقال: ما لك لم تأتني وكنت إذا وعدتني لم تخلفني؟ فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا تصاوير". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن الجعد الجوهري، شيخ البخاري عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران مولي بني هاشم، وثقة ابن حبان، عن عمير مولى ابن عباس، من رجال مسلم. وأخرجه الطبراني (¬2) أيضًا: ثنا الأسفاطي، ثنا خالد بن يزيد العمري، نا ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد: "أن النبي -عليه السلام- دخل البيت، فرأى صورة، فدعا بماء فجعل يمحوها ويقول: قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون" ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمَّد، أن سالم ابن عبد الله حدثه، عن أبيه: "أن جبريل -عليه السلام- قال لرسول الله -عليه السلام-: إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة". ش: إسناده صحيح. وعمر بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. والحديث أخرجه البخاري (¬3): نا يحيي بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني عمرو -هو ابن محمَّد- عن سالم، عن أبيه قال: "وعد النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 162 رقم 387). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 166 رقم 407). (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1179 رقم 3055).

جبريل -عليه السلام - فَرَاث عليه حتي أشتد على النبي -عليه السلام-، فخرج النبي -عليه السلام- فلقيه، فشكى إليه ما وجد، فقال له: إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن السباق، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، عن رسول -عليه السلام- مثله. ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي. والزهري هو محمَّد بن مسلم. وابن السباق هو عبيد بن السباق المدني. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن السباق، أن عبد الله بن عباس، قال: أخبرتني ميمونة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله -عليه السلام- أصبح يومًا واجمًا، فقالت ميمونة: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله -عليه السلام-: إن جبريل -عليه السلام- كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أما والله ما أخلفني، قال: فظل رسول الله -عليه السلام- يومه ذلك علي ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل -عليه السلام-، فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة؟! قال أجل، ولكنَّا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله -عليه السلام- يومئذ فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير قال: "سألت جابرًا - رضي الله عنه - عن الصور في البيت، وعن الرجل يفعل ذلك، فقال: زجر رسول الله -عليه السلام- عن ذلك". ش: ابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري، فيه مقال. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1664 رقم 2105).

وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي. والحديث أخرجه أسد السنة في "مسنده". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا محمَّد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة قال: "دخلت مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم فإذا بتماثيل، فقال: قال رسول الله -عليه السلام-: قال الله -عز وجل-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي؟! فليخلقوا ذرةً، أو ليخلقوا حبةً، أو ليخلقوا شعيرة". ش: إسناده صحيح. وابن الأصبهاني شيخ البخاري. ومحمد بن الفضيل بن غزوان الضبي، روي له الجماعة. وعمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي، روى له الجماعة. وأبو زرعة [بن] (¬1) عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، قيل: اسمه هرم، وقيل عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل غير ذلك. روي له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬2): نا موسى، نا عبد الواحد، نا عمارة، نا أبو زرعة، قال: "دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة، فرأى أعلاها مصورًا بصور، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: قال الله: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فيخلقوا حبةً، وليخلقوا ذرةً، ثم دعي بتور من ماء فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة، أشيء سمعته من رسول الله -عليه السلام-؟ قال: منتهى الحلية". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب -وألفاظهم متقاربة- قالوا: أنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك". (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2220 رقم 5609). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1671 رقم 2111).

قال: "دخلت مع أبي هريرة دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: قال الله -عز وجل-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي؟! فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". قوله: "ومن أظلم" أي لا أحد أظلم ممن يذهب يخلق -أي يقدر- لأن معنى الخلق في الأصل: التقدير، ومنه حديث أخت أمية بن أبي الصلت قالت: "فدخل علي وأنا أخلق أديمًا" (¬1) أي أقدره لأقطعه، وحاصل المعني: لا يوجد أحد أكثر ظلمًا من رجل صور صورة شبيهة بالصورة التي صورها البارئ -عز وجل-؛ لأن هذا أمر مختص به، فمن أراد التشبه بذلك فقد ارتكب أمرًا عظيمًا ومحظورًا جسيمًا. قوله: "فليخلقوا ذرة" أمر تعجيز كما في قوله -عليه السلام-: "أحيوا ما خلقتم" وفيه أيضًا قرع وتبكيت، وتنبيه علي أن هذا الصنيع لا يقدر عليه أحد غير الله، وأنه هو الخالق البارئ المصور، القادر علي جميع الأشياء من غير مادة وآلة واستعانة بأحد، وإنما عَيَّنَ الذرة لأنها أضعف المخلوقات وأصغرها جدًّا، فمن عجز عن تخليق هذا، فما فوقه أعجز، وكذلك تعيين الحبة أو الشعيرة، لكونها أقل الأشياء في الجمادات، كما أن الذرة أضعفها في الحيوانات، والمخلوقات مشتملة علي هذين القسمين. ص: فذهب ذاهبون إلي كراهة اتخاذ ما فيه الصور من الثياب، وما كان يتوطأ [من] (¬2) ذلك ويمتهن، وما كان ملبوسًا، وكرهوا كونه في البيوت، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بهؤلاء الذاهبين: الليث بن سعد والحسن بن يحيى وبعض الشافعية؛ فإنهم كرهوا الصور مطلقًا، سواء كانت على الثياب، أو على الفرش والبسط ونحوهما، واحتجوا في ذلك بعموم الأحاديث المذكورة. ¬

_ (¬1) عزاه المناوي في "فيض القدير" (1/ 85) لابن عساكر، وأبي حذيفة في "المبتدأ"، والحديث مشهور في كتب الغريب والمعاجم، انظر "لسان العرب" (10/ 58)، و"تاج العروس" (1/ 6289)، و"النهاية" (2/ 144). (¬2) في "الأصل، ك": "عن"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وقال أبو عمر (¬1): كره الليث التماثيل في البيوت والأسِرَّة والقباب والطساس والمنارات إلا ما كان رقمًا في ثوب. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما كان من ذلك يتوطأ ويمتهن فلا بأس به، وكرهوا ما سوى ذلك. ش: أي خالف الذاهبين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: إذا كانت الصور على البسط والفرش التي توطأ بالأقدام فلا بأس بها، وأما إذا كانت على الثياب والأستار ونحوهما؛ فإنها تحرم. وقال أبو عمر (¬2): ذكر ابن القاسم قال: كان مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب، وأما السمط والوسائد والثياب فلا بأس به، وكره أن يصلي إلي قبة فيها تماثيل. وقال الثوري: لا بأس بالصور في الوسائد؛ لأنها توطأ ويجلس عليها، وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة، وكذلك عندهم ما كان خرطًا أو نقشًا في البناء، وقال المزني عن الشافعي: وإن دعي رجل إلى عرس فرأي صورة ذات روح أو صور ذات أرواح لم يدخل إن كانت منصوبة، وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور شجر فلا بأس. وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: إذا دعيت لأدخل فرأيت [سترا] (2) معلقًا فيه التصاوير أأرجع؟ قال: نعم؛ رجع أبو أيوب، قلت: قد رجع أبو أيوب عن ستر الجدر؟ قال: هذا أشد، وقد رجع عنه غير واحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، قلت له: فالستر يجوز أن تكون فيه صورة؟ قال: لا، قيل: فصورة الطائر وما أشبهه؟ فقال: ما لم يكن له رأس فهو أهون. وقال قوم: إنما كره من ذلك ما له ظل، وما لا ظل له فليس به بأس. وقال آخرون: هي مكروهة في الثياب وعلي حال لم يستثنوا شيئًا. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 302). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "التمهيد".

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أسماء بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة - رضي الله عنها -، عن عائشة قالت: "قدم رسول الله -عليه السلام- وعندي نمط لي فيه صورة، فوضعته علي سهوتي فاجتذبه وقال: لا تستروا الجدر، قلت: فصنعته وسادتين فأخذه رسول الله -عليه السلام- يرتفق عليهما". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن بكير بن الأشج، عن ربيعة بن عطاء مولى بني أزهر، أنه سمع القاسم بن محمَّد يذكر، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام-: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يرتفق عليهما". حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، أن أباه حدثه، عن عائشة: "أنها كانت نصبت سترًا فيه تصاوير، فدخل رسول الله -عليه السلام- فنزعه، فقطعته وسادتين، فقال رجل في المجلس حينئذ يقال له: ربيعة بن عطاء مولي بني أزهر: أسمعت أبا محمَّد يذكر أن عائشة قالت: فكان رسول الله -عليه السلام- يرتفق بهما؟ فقال: لا, ولكني سمعت القاسم بن محمَّد يذكر ذلك عنها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن أبي الوزير، قال: سمعت مسلم، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أنها جعلت سترًا فيه تصاوير إلى القبلة فأمرها رسول الله -عليه السلام- فنزعته، وجعلت منه وسادتين، فكان النبي -عليه السلام- يجلس عليهما". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة أم المؤمنين: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله -عليه السلام- قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلي رسوله، فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن

أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه تصاوير لا تدخله الملائكة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه قال: قالت عائشة: "كان ثوب فيه تصاوير فجعلته بين يدي رسول الله -عليه السلام- وهو يصلي فكرهه أو قالت: فنهاني، فجعلته وسائد". ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه، حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ذكرها ابن حبان في الثقات. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده". قوله: "نمط". بفتح النون والميم، وهو ضرب من البسط له خمل رقيق، ويجمع علي أنماط. و"السهوة" بالسين المهملة بيت صغير منحدر في الأرض قليلًا، شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل: هو كالصُّفة بين يدي البيت وقيل: شبيه بالرفّ أو الطاق، يوضع به الشيء. و"الوسادة": المخدة. الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح، وعمرو هو أبي الحارث. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا هارون بن معروف، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا عمرو بن الحارث، أن بكيرًا حدثه، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، أن أباه حدثه، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام-: "أنها نَصبتْ سترًا فيه تصاوير، فدخل رسول الله -عليه السلام- , فنزعه، قالت: فقطعته وسادتين". فقال رجل في المجلس -يقال له: ربيعة بن عطاء مولى بني زهرة: أما سمعت ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1666 رقم 2107).

أبا محمَّد يذكر أن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يرتفق عليهما؟ قال ابن القاسم: لا. قال: لكني سمعته؛ يريد القاسم بن محمَّد. قوله: "كان يرتفق عليهما" أي: يتكئ عليهما، ومن ذلك المرفقة؛ لأن المتكئ يضع مرفقه عليها. الثالث: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا عليّ بن عبد الرحمن. وأخرجه النسائي (¬1): عن وهب بن بيان، عن ابن وهب، عن [بكير] (¬2)، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن ابن مرزوق، عن محمَّد بن أبي الوزير، هو محمَّد بن عمر بن المطرف القرشي الهاشمي أبو المطرف ابن أبي الوزير البصري، قال أبو حاتم: ليس به بأس. ووثقه ابن حبان [. . .] (¬3). الخامس: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬4). والبخاري (¬5): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. ومسلم (¬6): عن يحيي بن يحيي، عن مالك. السادس: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق. وأخرجه مسلم (6): عن إسحاق بن إبراهيم، عن سعيد بن عامر، عن شعبة. . . . إلي آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 214 رقم 5355). (¬2) في "الأصل": "بكر بن مضر"، في "ك": "بكير بن مضر"، وكلاهما خطأ، والذي في "المجتبى": "بكير" فقط، وهو: "بكير بن الأشج". وانظر "تحفة الأشراف" (14/ 53 رقم 17476). (¬3) بياض في "الأصل، ك". (¬4) "الموطأ" (2/ 966 رقم 1736). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2222 رقم 5616). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 1666 رقم 2107).

ص: فقال أهل هذه المقالة: ما كان مما يُتَوطأ فلا بأس به لهذه الآثار، وما كان من غير ما يُتَوطأ فهو الذي جاءت فيه الآثار الأُوَلُ. ش: أي: قال أهل المقالة الثانية، والحاصل أنهم قالوا: نحن عملنا بالأحاديث كلها فقلنا بأحاديث الفصل الأول، وهي التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من كراهة الصور في سائر الأشياء على العموم، فيما إذا كانت الصور من غير ما يُتَوطأ؛ كالثياب والستائر، والصور التي تكون في السقوف والجدران، ونحو ذلك، وقلنا بأحاديث الفصل الثاني فيما إذا كانت الصور مما كان يُتَوطأ، فإذن قد عملنا بالأحاديث كلها بخلاف أهل المقالة الأولى؛ حيث عملوا ببعضها وأهملوا بعضها، فافهم. ص: وقد روي عن رسول الله أنه استثنى مما نهى عنه من الصور إلا ما كان رقمًا في ثوب. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن الأشج حدثه، أن بُسْر بن سعيد حدثه، أن زيد بن خالد الجهني حدثهم، ومع بُسْر بن سعيد عبيد الله الخولاني، أن أبا طلحة حدثه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة" قال بُسْر: فمرض زيد بن خالد، فعدناه، فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير، فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم تسمع حديثًا في التصاوير؟ قال: إنه قد قال: "إلا رقمًا في ثوب" ألم تسمعه؟ قال: لا. فقلت: بلي، قد ذكر ذلك. ش: ذكر هذا الحديث وما بعده إيذانًا بأن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى ليست علي عمومها؛ إنما هي مخصوصة، يدل عليه حديث زيد بن خالد الجهني الصحابي - رضي الله عنه -، فإنه قال: "إلا رقمًا في ثوب" والرقم: هو النقش والوشي وأصله الكتابة. ورجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح.

وبُسْر -بضم الباء الموحدة وسكونا لسين المهملة- ابن سعيد المدني العابد مولى الحضرمي، وعبيد الله الخولاني هو عبيد الله بن الأسود، ويقال: ابن الأسد الخولاني، ربيب ميمونة زوج النبي -عليه السلام-. والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2) أيضًا. فإن قيل: إذا كان هذا الحديث مُخَصِّصًا لأحاديث النهي العام في الصور حيث قيل فيه: "إلا رقمًا في ثوب" وكان أبو طلحة قد علق في بيته سترًا فيه تصاوير. لذلك المعنى فما بالكم تمنعون عن الستائر المعلقة التي فيها التصاوير؟ قلت: سيأتيك الجواب عن هذا في آخر الباب مستقصّي إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "اشتكي أبو طلحة بن سهل، فقال لي عثمان بن حنيف: هل لك في أبي طلحة نعوده؟ فقلت: نعم، قال: فجئناه، فدخلنا عليه وتحته نمط فيه صورة، فقال: انزعوا هذا النمط فألقوه عَنِّي، فقال له عثمان بن حنيف: أَوَ مَا سمعت يا أبا طلحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نهى عن الصورة قال: إلا رقمًا في ثوب، أو: ثوبًا فيه رقم؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي، فأميطوه عنِّي". حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه عن أبي النضر. . . . فذكر بإسناده غير أنه قال مكان عثمان بن حنيف: سهل بن حنيف. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى الكندي ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (5/ 1665 رقم 2106). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 471 رقم 4155).

الوهبي الحمصي شيخ البخاري في غير "الصحيح" [عن محمَّد بن إسحاق. . . . إلى آخره وأبو طلحة اسمه زيد بن] (¬1) سهل الأنصاري، وعثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري له صحبة. والحديث أخرجه الطبراني (¬2): [عن الحسين بن إسحاق] (1)، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن محمَّد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر. . . . إلى آخره نحوه سواء. قوله: "انزعوا هذا النمط" أي: ارفعوه. قوله: "فأميطوه" أي: أزيلوه، [من أَمَاطَ، يُمِيط إماطة. الثاني: عن] (¬3) يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطئه" (¬4). وأخرج النسائي (¬5) أيضًا: أنا علي بن شعيب، نا معين، نا مالك بن أنس، عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله: "أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانًا ينزع نمطًا تحته، فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد علمت، قال: ألم يقل: "إلا ما كان رقمًا في ثوب؟ " قال: بلي، ولكنه أطيب لنفسي". وسهل بن حنيف هو [أخو عثمان بن حنيف] (3) وكلاهما صحابيان أنصاريان - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل"، والمثبت من "ك". (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 104 رقم 4732). (¬3) طمس في "الأصل"، والمثبت من "ك". (¬4) "موطأ مالك" (2/ 966 رقم 1735). (¬5) "المجتبى" (8/ 212 رقم 5349).

ص: فثبت بما روينا خروج الصور التي في الثياب من الصور المنهي عنها، وثبت أن المنهي عنه: الصور التي هي نظير ما يفعله النصارى في كنائسهم من الصور في جدرانها، ومن تعليق الثياب المصورة فيها، فأما ما كان يُوَطأ ويمتهن ويفرش، فهو خارج من ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-. ش: أي: ثبت بحديث أبي طلحة أن ما كان رقمًا في الثياب من الصور فهو مستثني من الأحاديث التي وردت بالنهي عن الصور مطلقًا وأنها مخصوصة علي ما بيناه آنفًا. وكذلك ثبت أن الذي نهي عنه من الصور هي الصور التي تكون شبيهة لما يفعله الكفار في كنائسهم من الصور في جدرانها وفي سقوفها، وأما الصور فيما يبسط ويفترش ويمتهن، خارجة عن النهي المذكور، والله أعلم. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الليث قال: "دخلت علي سالم بن عبد اللهَ وهو متكئ علي وسادة حمراء فيها تصاوير، قال: فقلت: أليس هذا يكره؟ فقال: لا، إنما يكره ما يعلق منه وما نصب من التماثيل، وأما ما وطئ فلا بأس به". قال: ثم حدثني عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة حتى ينفخوا فيها الروح، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". فدل هذا من قول سالم علي ما ذكرنا. ش: أورد هذا أيضًا لدلالته علي ما ذكره من قوله: "فثبت بما روينا خروج الصور. . . ." إلى آخره. وإسناده صحيح، وأبو كامل اسمه فضيل بن الحسين الجحدري شيخ مسلم وأبي داود والبخاري في التعاليق، وعبد الواحد بن زياد العبدي البصري روي له الجماعة.

وليث هذا هو ليث بن أبي سليم القرشي الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، واحتجت به الأربعة، واستشهد به البخاري، وروى له مسلم مقرونًا بغيره (¬1). وهذا الحديث قد روي عن عبد الله بن عمر من غير وجه. وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من وجوه مختلفة. ص: ثم اختلف الناس بعد ذلك في هذه الصور ما هي؟ فقال قوم: قد دخل في ذلك صورة كل شيء مما له روح ومما ليس له روح، قالوا: لأن الأثر جاء في ذلك مبهمًا، واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع ويحيي بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، أخبرني عن أبيه قال: "لعن رسول الله -عليه السلام- المصور". ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الظاهر، قد دخل في عموم ما روي من الأحاديث صورة كل شيء، سواء كانت مما له روح أو من الجمادات كالأشجار والأتمار ونحوهما. واحتجوا في ذلك أيضًا بحديث عبد الله بن مسعود وأبي حجيفة. أما حديث عبد اللهَ فأخرجه بإسناد صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن وكيع ويحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي الكوفي الجزار، كلاهما عن سليمان الأعمش، عن أبي الضحي مسلم بن صَبيح، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬2): عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) والجمهور علي تضعيفه لأجل اختلاطه حتى قال الحافظ في "التقريب": صدوق اختلط جدًّا ولم يتميز حديثه، فترك. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1670 رقم 2109).

وابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي معاوية ووكيع، كلاهما عن الأعمش. . . . إلي آخره نحوه. وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه أبي جحيفة، واسمه وهب بن عبد الله السوائي الصحابي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2) بأتم منه: ثنا عثمان، ثنا شعبة، أخبرني عون بن أبي جحيفة قال: "رأيت أبي اشترى حَجَّامًا فأمر بالمحاجم فكسرت، قال: فسألته عن ذلك، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله، ولعن المصور". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما لم يكن له من ذلك روح فلا بأس بتصويره، وما كان له روح فهو المنهي عن تصويره، واحتجوا في ذلك بما روي عن ابن عباس: حدثنا بكار، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، عن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ابن عباس، إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنما معيشتى من صنعة يدي، وأنا أصبغ هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت [من] (¬3) رسول الله -عليه السلام- يقول: من [صوّر] (¬4) صورة فإن الله معذبه عليها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ أبدًا، قال: فربا الرجل ربوة شديدة وأصفر وجهه. فقال: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بالشجر وكل شيء ليس فيه الروح". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 200 رقم 25209)، وليس فيه ذكر وكيع. (¬2) "مسند أحمد" (4/ 308 رقم 18778). (¬3) ليست في "شرح معاني الآثار". (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن عوف. . . . فذكر بإسناده مثله. وقد دل علي صحة ما قال ابن عباس من هذا: قول رسول الله -عليه السلام-: "فإن الله يعذبه عليها حتى ينفخ فيها الروح". فدل ذلك علي أن ما نهي من تصويره هو ما يكون فيه الروح. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وهم الجمهور من الفقهاء وأهل الحديث؛ فإنهم قالوا: كل صورة لا تشبه صور الحيوان كصور الشجر والحجر والجبل ونحو ذلك فلا بأس بها، وقد دل علي ذلك قول ابن عباس في حديثه: "فعليك بالشجر وكل شيء ليس فيه الروح" فإن ابن عباس استنبط قوله هذا من قوله -عليه السلام-: "فإن الله يعذبه عليها حتى ينفخ فيها الروح، فدل هذا أن المصور قد استحق هذا العذاب، لكونه قد باشر تصوير حيوان يختص بالله تعالى، وتصوير جماد ليس في معنى ذلك؛ فلا بأس به. قوله: "واحتجوا في ذلك". أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن بكار بن قتيبة، عن عبد الله بن حمران البصري من رجال مسلم عن عوف بن أبي جميلة العبدي البصري الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) قال: قرأت علي نصر بن علي الجهضمي، عن عبد الأعلي بن عبد الأعلي، قال: نا يحيي بن إسحاق، عن سعيد بن أبي الحسن قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدني، ثم قال: ادن مني، فدنى منه حتى وضع يده علي رأسه، قال: أفتيك بما ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1670 رقم 2110).

سمعت من رسول الله -عليه السلام-: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صَوَّرها نفسًا، فيعذبه في جهنم، وقال: إن كنت لابد فاعلًا فاصنع الشجر وما لا نفس له"، فأقر به نصر بن علي. قوله: "فربا الرجل ربوة" والربوة هي التهيج وتواتر النفس كالذي يعرض للمسرع في مشيه وحركته. قوله: "ويحك" كلمة ترحم كما أن كلمة ويلك كلمة عذاب. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عوف الأعرابي. . . . إلى آخره. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن غير ابن عباس عن النبي -عليه السلام- قال: "المصورون يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". حدثنا فهد، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "المصورون يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيي, عن قتادة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ". فمعنى هذه الآثار معنى ما رويناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في معنى قول ابن عباس عن غيره من الصحابة، وأخرجه في ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة.

أما عن ابن عمر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (¬1)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن علي بن مسهر، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. الثاني: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬3): عن ابن أبي عمر، عن الثقفي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز -شيخ النسائي- عن موسي بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬4) نحوه. أما عن أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن همام بن يحيي، عن قتادة، عن عكرمة، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬5): أنا عمرو بن علي، ثنا عفان، ثنا همام، عن قتادة، عن ¬

_ (¬1) قلت: عبد الله هذا الأكثرون علي تضعيفه فلا يصحح حديثه. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 200 رقم 25210). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1670 رقم 2108). (¬4) "المجتبى" (8/ 215 رقم 5361). (¬5) "المجتبى" (8/ 215 رقم 5360).

عكرمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَن صور صورة؛ كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ". ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما يدل علي هذا المعنى: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي، قال: ثنا عيسى بن يونس، قال: ثنا أبي، قال: لما قدم مجاهد الكوفي أتيته أنا وأبى، فحدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أتاني جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمَّد إني جئتك البارحة فلم أستطع أن أدخل البيت؛ لأنه كان في البيت تمثال رجل، فَمُرْ بالتمثال فليقطع رأسه حتى يكون كهيئة الشجرة". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: "استأذن جبريل -عليه السلام- علي رسول الله -عليه السلام- فقال: ادخل، فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تماثيل خيل ورجال؟! فإما أن تقطع رءوسها، وإما أن تجعلها بساطًا، فإنَّا معشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تماثيل". فلما أبيحت التماثيل بعد قطع رءوسها الذي لو قطع من ذي الروح لم يبق؛ دلَّ ذلك علي إباحة تصوير ما لا روح له، وعلي خروج ما لا روح لمثله من الصور، مما قد نهي عنه في الآثار التي ذكرنا في هذا الباب. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في حكم الصورة ما يدل على المعنى الذي قاله ابن عباس، وهو ما رواه أبو هريرة. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيي بن صالح الوحاظي الشامي شيخ البخاري، عن عيسى بن يونس عن أبيه يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن مجاهد - رضي الله عنه -. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن

أبي بكر بن عياش الحناط -بالنون- المقرئ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن مجاهد. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هناد بن السري، عن أبي بكر، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: "استأذن جبريل -عليه السلام- على النبي -عليه السلام- فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟! فإما أن تقطع رءوسها، أو تجعل بساطًا توطأ؛ فإنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تصاوير". قوله: "فإنا معشر الملائكة" انتصاب معشر على التخصيص. قوله: "لا ندخل بيتًا" خبر "إن" في قوله: "إنا". وباقي الكلام ظاهر. ص: وقد روي عن عكرمة في هذا أيضًا: ما حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا أبو ثابت المدني، قال: ثنا حماد بن زيد، عن رجل، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: "إنما الصورة الرأس، فكل شيء ليس له رأس فليس بصورة". وفي قول جبريل -عليه السلام- لرسول الله -عليه السلام- في حديث أبي هريرة: "إما أن تجعلها بساطًا وإما أن تقطع رءوسها دليل علي أنه لم يُبَحْ من استعمال ما فيه تلك الصور إلا بأن تبسط". ش: أي وقد روي عن عكرمة في هذا المعنى الذي ذكره، وهو أن الصورة إنما تكره إذا كانت صورة ذي روح، أما إذا كانت صورة غير ذي روح فلا بأس بها، وكذلك إذا كانت صورة ذي روح ولكن قطعت صورتها، ألا ترى إلى ما روي عكرمة عن أبي هريرة قال: "إنما الصورة الرأس، فكل شيء ليس له رأس فليس بصورة"، وعن هذا قالت أصحابنا: الصورة إذا كانت ممحوة الرأس فلا بأس بها. فالحاصل هاهنا أن الممنوع هو الصورة التي تشبه ذا الروح، وأما الصورة التي لا تشبه ذا الروح، أو الممحوة الرأس، أو التي مما توطأ وتمتهن فلا بأس بها، ثم إسناد ما رواه عكرمة عن أبي هريرة مجهول. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 216 رقم 5365).

وأبو ثابت المدني اسمه محمَّد بن عبيد الله بن محمَّد مولى عثمان بن عفان، شيخ البخاري. ص: فإن قال قائل: ففي حديث أبي طلحة أنه كان في بيته ستر فيه تصاوير ولم يدخل ذلك عنده فيما سمع من النبى -عليه السلام-: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة"؛ لأنه سمع من النبي -عليه السلام- يقول: "إلا ما كان رقمًا في ثوب". قيل له: أما ما ذكرت من الستر فإنما هو فعل أبي طلحة، وقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- لم يَقِفْهُ علي أن ذلك الثوب المستثني هو الستر، وقد يجوز [أن] (¬1) يكون الستر أيضًا فيما استثنى، فلما احتمل ذلك ما ذكرناه وكان من حديث مجاهد، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- ما وصفنا؛ علمنا أن الثياب المستثناة [هي] (¬2) الثياب المبسوطة كهيئة البسط لا ما سواها من الثياب المعلقة والملبوسة. وهذا قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا السؤال يرد علي قوله: "ومن قول جبريل -عليه السلام-. . . . إلي آخره". تقريره أن يقال: كيف تقتصر في تخصيص إباحة استعمال ما فيه الصورة علي ما إذا كانت مما يبسط ويمتهن، وقد ذكر في حديث أبي طلحة المذكور فيما مضى أنه كان في بيته ستر فيه تصاوير، وهو قد روى عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة"؟! فدل أن ذلك لم يدخل فيما سمعه من هذا، وأن ما سمعه قد خُصَّ أيضًا بقوله -عليه السلام- في حديث أبي طلحة أيضًا: "إلا ما كان رقمًا في ثوب". وتقرير الجواب: أن الستر في بيت أبي طلحة إنما كان من فعله، ولكن يحتمل أن [يكون] (¬3) قد فهم أن ذلك الثوب المستثني في قوله -عليه السلام-: "إلا ما كان رقمًا في ثوب" ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) في "الأصل، ك": "هو". (¬3) ليست في "الأصل" ووضعها أليق بالسياق.

إنما هو الستر الذي فيه تصاوير، ويحتمل أن يكون غير ذلك؛ لأنه -عليه السلام- لم يوقفه علي ذلك، فإذا كان هذا دائرًا بين الأمرين؛ صرنا إلى حديث مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فإنه صَرَّح فيه أن الستر الذي فيه تصاوير قد منع من دخول الملائكة، حيث قال جبريل -عليه السلام-: "كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تماثيل خيل ورجال؟ فإما أن تقطع رءوسها وإما أن تجعلها بساطًا". فعلمنا من هذا أن الثوب الذي استثناه النبي -عليه السلام- بقوله: "إلا ما كان رقمًا في ثوب" هو الثوب الذي يبسط ويمتهن لا ما سوى ذلك من الثياب المعلقة أو الملبوسة، فافهم. فإن قيل: قد روي في حديث زيد بن خالد الجهني قال بُسْر: "فمرض زيد بن خالد، فعدناه فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير، فقلت لعبد الله الخولاني: ألم تسمع حديثًا في التصاوير؟ قال: إنه قد قال: إلا رقمًا في ثوب" وقد مضى الحديث فيما قبل. قلت: الجواب عنه كالجواب المذكور سواء.

ص: باب: الرجل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه

ص: باب: الرجل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، هل يقول كذا، أو يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: سمعت أبا جعفر بن أبي عمران يكره أن يقول الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه، ولكنه يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة، وقال: رأيت أصحابنا يكرهون ذلك يقولون: التوبة من الذنب هي تركه وترك العود عليه. وذلك غير موهوم من أحد، فإذا قال: أتوب إليه، فقد وعد الله أن لا يعود إلي ذلك الذنب، فإذا عاد إليه بعد ذلك كان كمن وعد الله ثم أخلفه، ولكن أحسن ذلك أن يقول: أسأل الله التوبة، أي أسأل الله أن ينزعني عن هذا الذنب ولا يعيدني إليه أبدًا. وقد روي في ذلك أيضًا عن الربيع بن خثيم: حدثني موسى بن المبارك، قال: ثنا أحمد بن محمَّد بن يحيي بن سعيد القطان قال: ثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن ليث، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خثيم، قال: "لا يقل أحدكم: أستغفر الله وأتوب إليه، ثم يعود فتكون كذبة وتكون ذنبًا , ولكن ليقل: اللهم اغفر لي وتب علي". ش: اختلف العلماء في قول الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه هل ينبغي أن يقال هكذا أم يكره ذلك؟ فحكى الطحاوي عن شيخه أبي جعفر أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي الإمام الكبير الحجة، عن أصحابه الحنفية أنهم يكرهون ذلك ويقولون: التوبة من الذنب هي تركه قال: وقد روي في ذلك أيضًا. أي فيما قلنا من كراهة القول المذكور عن الربيع بن خثيم بن عائذ الثوري الكوفي، أحد التابعين الكبار الثقات.

أخرجه عن موسى بن المبارك شيخ أبي حاتم الرازي، عن أحمد بن محمَّد بن يحيي بن سعيد القطان البصري نزيل بغداد وشيخ ابن ماجه، عن حسين بن علي بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ، عن زائدة بن قدامة، عن ليث بن أبي سليم الكوفي، عن منذر بن يعلى الثوري، عن الربيع بن خثيم. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التوبة من الذنب أن يتوب الرجل من الذنب ثم لا يعود إليه" فهذه صفة التوبة. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للقائلين المذكورين فيما قالوه: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبو داود، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، ضعفه يحيي والنسائي، قال ابن أبي عدي: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص، عن عبد الله، وعامتها مستقيمة. وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك الكوفي. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا علي بن عاصم أنا الهجري عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه". قوله: "فهذه صفة التوبة" أي التوبة المقبولة وهي أن يتوب الرجل من الذنب ولا يرجع إليه بعد ذلك أبدًا , ولا يحتاج إلى توبة أخرى عن توبته تلك، وقد قال بعض أهل التحقيق: إن توبتنا هذه تحتاج إلي توبة أخرى؛ لأنها توبة الكذابين. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 446 رقم 4264).

ص: وهذا غير مأمون علي أحد غير رسول الله -عليه السلام-، فإنه معصوم ولذلك كان يقول ما قد روي عنه مما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان وحيوة بن شريح، قالا: ثنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "إني لأتوب في اليوم مائة مرة، وقال أناس: إنما قال: سبعين مرة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو أيوب بن سليمان بن بلال، قال: حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان، عن محمَّد بن عبد الله بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". حدثنا يونس، قال: ثنا سلامة بن روح، قال: قال عقيل: ثنا الزهري، أنَّ أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبره، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-. . . . ثم ذكر مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمَّد بن جعفر، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، حدثه عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: " [إني] (¬1) لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أنا زيد بن المنذر، قال: أنا بردة بن أبي موسى، قال: ثنا الأغر المزني قال: "خرج إلينا رسول الله -عليه السلام- رافعًا يده وهو يقول: يا أيها الناس استغفروا ربكم ثم تويوا إليه؛ فوالله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

قالوا: فهذا كان رسول الله -عليه السلام- يقوله لأنه معصوم من الذنب، وأما غيره فلا ينبغي أن يقول ذلك؛ لأنه غير معصوم من العود فيما تاب منه. ش: أشار به إلى القول: "استغفر الله وأتوب إليه"، وهذا في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: كيف كرهتم قول الرجل: "أستغفر الله وأتوب إليه" وقد روي هذا عن النبي -عليه السلام- أنه كان يقول: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"؟. وتقرير الجواب أن غير النبي -عليه السلام- غير مأمون؛ لأنه غير معصوم فيتوهم منه خلف الوعد، والنبي -عليه السلام- مأمون عن ذلك؛ لأنه معصوم، وهو معنى قوله: "قالوا: فهذا كان رسول الله -عليه السلام- يقوله" أي قال هؤلاء القوم المذكورون هذا الذي ذكرناه من قول الرجل أستغفر الله وأتوب إليه كان النبي -عليه السلام- يقوله؛ لأنه معصوم من الذنوب، وأما غيره فلا ينبغي أن يقول ذلك؛ لأنه غير معصوم من العود، أي الرجوع إلى الذنب الذي تاب منه. فإن قيل: فما فائدة قول النبي -عليه السلام- بذلك وهو لا ذنب له، فلا يحتاج إلى التوبة؟ قلت: إظهار الشكر لله تعالى علي هذه النعمة التي اختصت به إذ إرشاد الأمة وتعليمه إياهم ما يقولون عند ارتكابهم الذنوب. ثم إنه أخرجه الحديث المذكور عن أبي هريرة وأبي موسى الأشعري والأغر بن يسار - رضي الله عنهم -. أما عن أبي هريرة فأخرجه من أربع طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي الحمصي شيخ البخاري، وحيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي شيخ البخاري أيضًا، وأبي داود، كلاهما، عن بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي، عن محمَّد بن الوليد الحمصي الزبيدي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبد الملك ابن أبي بكر بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، عن أبي هريرة.

وسماع عبد الملك المذكور عن أبي هريرة فيه خلاف. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬1): عن هشام بن عبد الملك، عن بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، به. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن أيوب بن سليمان بن بلال القرشي المدني شيخ البخاري، عن أبي بكر بن أبي أويس، وهو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني الأعشي، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن محمَّد بن عبد الله بن أبي عتيق محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعن موسى بن عقبة، كلاهما عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائى في "اليوم والليلة" (¬2): عن إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمَّد بن عبد الله بن عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن أبي بكر نحوه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلي المصري، عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي -فيه خلاف- عن عمه عقيل -بضم العين- بين خالد الأيلي، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. الرابع: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "عمل اليوم والليلة" (1/ 324 رقم 439). (¬2) "عمل اليوم الليلة" (1/ 324 رقم 437).

وأخرجه البخاري (¬1) في "الدعوات": عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة". وأما عن أبي موسى الأشعري عبد اللهَ بن قيس: فأخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، عن سعيد بن الحكم -المعروف بابن أبي مريم المصري- شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي بردة عامر بن أبي موسي عبد الله بن قيس الأشعري. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬2): عن محمَّد بن داود بن أبي ناجية الإسكندراني، عن زياد بن يونس، عن محمَّد بن جعفر، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة. . . . إلى آخره نحوه. وقال ابن عساكر في "الأطراف": المحفوظ حديث أبي بردة، عن الأغر المزني - رضي الله عنه -. وأما عن الأغر: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن مروان بن معاوية بن الحارث الكوفي، عن زياد بن المنذر الهمداني الأعمى الثقفي -فيه كلام كثير، حتي قال يحيي بن معين: هو كذاب عدو الله ليس يسوي فلسًا- وهو يروي عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، عن الأغر بن يسار الجهني الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬3): عن سليمان بن حرب ومسدد، عن حماد بن زيد، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2324 رقم 5948). (¬2) "عمل اليوم والليلة" (1/ 325 رقم 440). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 84 رقم 1515).

ثابت، عن أبي بردة، عن الأغر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "إنه ليغان علي قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة". وأخرجه النسائي في "اليوم الليلة" (¬1): عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بردة، عن الأغر -أغر مزينة- به. وعن أحمد بن سليمان، عن جعفر بن عون، عن مسعر. وعن ابن مثنى، عن ابن مهدي، عن شعبة جميعًا، عن عمرو بن مرة، عن أبي بردة، عن الأغر، نحوه. وعن بشر بن هلال، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أبي بردة، عن رجل من الصحابة، عن النبي -عليه السلام- نحوه، ولم يسمه. وعن محمد بن عبد الأعلي، عن معتمر، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، حدثني أبو بردة قال: "جلست إلى رجل من المهاجرين يعجبني تواضعه فسمعته يقول. . . ." فذكر نحوه، ولم يسمه. وقال ابن عساكر: روي عن أبي إسحاق وسعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبيه. ورواه غندر عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي بردة، عن الأغر، عن ابن عمر - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بأسًا أن يقول الرجل: "أتوب إلى الله -عز وجل-. ش: أي خالف أبا جعفر أحمد بن أبي عمران وأصحابه الحنفية والربيع بن خثيم فيما ذهبوا إليه جماعة آخرون، وأراد بهم: الجماهير من الحنفية والشافعية وغيرهم؛ فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يقول: أتوب إلى الله -عز وجل-. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما قد روي عن النبي -عليه السلام- حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج قال: أخبرني موسى بن عقبة، ¬

_ (¬1) "عمل اليوم الليلة" (1/ 325، 326 رقم 442 - 443 - 444 - 445).

عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "من جلس مجلسًا كثر فيه لغطه، ثم قال قبل أن يقوم: سبحانك ربنا لا إله إلا أنت أستغفرك ثم أتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا عثمان بن مطر، عن ثابت، عن أنس، أن النبي -عليه السلام- قال: "كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك". حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، قال: بلغني أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما من إنسان يكون في مجلس فيقول حين يريد أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس". قال: فحدثت بهذا الحديث يزيد بن خصيفة فقال: هكذا حدثني السائب بن يزيد عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن يحيي بن سعيد، عن زرارة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان رسول الله -عليه السلام- يقوم من مجلس إلا قال: سبحانك اللهم ربي وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، فقلت له: يا رسول الله، ما أكثر ما تقول هذه الكلمات إذا قمت! فقال: إنه لا يقولهن أحد حين يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد روي عنه ما ذكرنا، وهذا أولى القولين عندنا؛ لأن الله -عز وجل- قد أمر بذلك في كتابه العزيز فقال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا} (¬1)، وقال -عز وجل-: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (¬2). وأمر رسول الله -عليه السلام- بذلك في الآثار التي ذكرنا؛ فلهذا أبحنا ذلك وخالفنا أبا جعفر فيما ذهب إليه علي ما ذكرنا في أول هذا الباب. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [54]. (¬2) سورة التحريم، آية: [8].

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه: أحاديث أبي هريرة وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وعائشة - رضي الله عنهم -. أما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمَّد الأعور المصيصي، عن عبد الملك بن جريج، عن موسي بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬1): عن أبي عبيدة بن أبي السفر، عن حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، عن موسي بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه. . . إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬2): عن عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، عن حجاج، بإسناده نحوه. قوله: "لغطه" اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه. ومعنى "سبحانك": أنزهك عن جميع النقائض والمعايب، وأصله من التسبيح؛ وهو التنزيه والتقديس، وانتصاب "ربنا" بحرف النداء المقدر، والسين في "استغفرك" للطلب. وأما حديث أنس بن مالك: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الواسطي، عن عثمان بن مطر الشيباني البصري، فيه مقال كثير؛ فعن يحيي: كان ضعيفًا ضعيفًا. وعنه: ليس بشيء. وعن النسائي: ليس بثقة. وهو يروي عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 494 رقم 3433). (¬2) "عمل اليوم والليلة" (1/ 308 رقم 397).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمر بن موسى الشامي، ثنا عثمان بن مطر، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "كفارة المجلس. . . ." إلى آخره نحوه. وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه، وعثمان بن مطر لين الحديث، وقد روى عنه مسلم وغيره. أما حديث السائب بن يزيد: فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة بن عبد الله الكندي ابن أخت السائب بن يزيد، عن السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، له ولأبيه صحبة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، ثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن ابن الهاد. . . . إلى آخره نحوه سواء. وأما حديث عائشة فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن زرارة بن أوفي، عن عائشة. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬2): عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد، عن يحيي بن سعيد، عن زرارة، عن عائشة. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "وهذا أولى القولين". أراد قول أبي جعفر الفقيه ومَن تبعه، وقول الجمهور المذكورين. ثم استدل علي أوليَّة هذا القول بقوله: "لأن الله -عز وجل-. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 154 رقم 6673). (¬2) "عمل اليوم والليلة" (1/ 309 رقم 398).

قوله: "وخالفنا أبا جعفر" وهو أحمد بن أبي عمران الفقيه، أحد مشايخه الذين أخذ عنهم الحديث والفقه. ص: فإن قال قائل: إن الله -عز وجل- إنما أمرهم في كتابه أن يتوبوا، والتوية هي ترك الذنوب وترك العود إليها , وليس يكون ذلك بقولهم: قد تبنا، وإنما ذلك بالخروج من الذنوب وترك العود إليها، وكذلك روي في قول الله -عز وجل-: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (¬1) فذكروا ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا موسى بن زياد المخزومي، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا سماك، عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: "التوبة النصوح أن يجتنب الرجل السوء كان يعمله، فيتوب إلي الله -عز وجل- منه، ثم لا يعود إليه أبدًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن النعمان، عن عمر - رضي الله عنه - مثله. فهذه صفة التوبة التي أمرهم الله -عز وجل- في كتابه العزيز. وأما قولهم: نتوب إلي الله -عز وجل-، فليس من هذا في شيء. قيل له: إن ذلك إن كان كما ذكرتم، فإنا لن نبح لهم أن يقولوا: نتوب إلي الله -عز وجل- علي أنهم يعتقدون الرجوع إلي ما تابوا منه، ولكن أبحنا لهم أن يقولوا: نتوب إلي الله -عز وجل- علي أنهم يريدون به ترك ما وقعوا فيه من الذنوب ولا يريدون العود في شيء منها، فإذا قالوا ذلك واعتقدوا هذا بقلوبهم؛ كانوا في ذلك مأجورين مثابين فمن عاد منهم بعد ذلك في شيء من تلك الذنوب كان ذلك ذنبًا أصابه ولم يحبط ذلك أجوره المكتوبة له بقوله الذي تقدم منه واعتقاده معه ما اعتقد، فأما مَن قال: أتوب إلي الله -عز وجل- وهو معتقد أن يعود إلي ما تاب منه؛ فهو بذلك القول فاسق معاقب عليه؛ لأن كذب فيما قال: وأما إذا قال وهو معتقد لترك الذنب الذي كان وقع فيه وعازم علي أن لا يعود إليه أبدًا؛ فهو صادق في قوله: مثاب علي صدقه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [8].

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الله تعالى أمر عبده بالتوبة حيث قال: في كتابه الكريم: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً} (¬1) غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالتوبة، والتوبة ترك الذنوب وترك العود إليها , ولا يوصف الرجل بالتوبة حتي يترك الذنب ويترك العود إليه، ولا يكون تائبًا بقوله: قد تبت. ألا تري إلى ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: "التوبة النصوح: أن يجتنب الرجل السوء كان يعمله، فيتوب إلى الله -عز وجل- منه، ثم لا يعود إليه أبدًا"، [فهذه] (¬2) هي صفة التوبة المأمور بها في الكتاب. وأما قول التائب: أتوب إلى الله؛ فليس بشيء كما قد تقرر فيما مضي. وأخرج ما روي عن عمر - رضي الله عنه - من طريقين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن موسى بن زياد عن [المخدوجي] (¬3) إسرائيل بن يونس، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي الصحابي، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن سماك بن حرب. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن النعمان بن بشير قال: "سئل عمر - رضي الله عنه - عن التوبة النصوح فقال: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدا". ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية: [8]. (¬2) في "الأصل": "فهذا". (¬3) بيض له المصنف -رحمه الله-، وقال في "المغاني" بعد أن نسبه بالمخزومي: لا أعرفه، وأظنه موسى بن زياد بن موسى الذي ذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة من الثقات، وقال: يروي عن جده يحيي بن موسى، وعنه أبو قدامة عبد الله بن سعيد. ثم قال في "المغاني" أيضًا في ترجمة المخدومي من الأنساب: ومنهم موسي بن زياد المخدومي شيخ أبي بكرة القاضي. ولم يذكره في نسبة المخزومي. (¬4) "مصنف بن أبي شيبة" (7/ 99 رقم 34491).

قوله: "أن يجتنب الرجل السوء" وفي بعض النسخ "الشر" وفي رواية ابن أبي شيبة "السيئ" والكل صحيح. قوله: "كان يعمله" جملة وقعت حالًا من السوء، ويجوز أن تكون صفة علي تقدير زيادة الألف واللام في "السوء". قوله: "قيل له" جواب عن السؤال المذكور، وهو ظاهر. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الندم توبة". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: أخبرني زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن معقل قال: "دخلت مع أبي علي عبد الله بن مسعود، فقال له أبي: أنت سمعت النبي -عليه السلام- يقول: الندم توبة؟ فقال: نعم". حدثنا يونس قال: ثنا ابن وهب، عن مالك، عن عبد الكريم، عن رجل، عن أبيه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم -أو ابن الجراح- عن عبد الله بن معقل. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن عبد الكريم، عن زياد -وليس بابن ابن مريم- فذكر بإسناده مثله. أنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عبد الكريم، عن عبد الله بن معقل، نحوه. فهذا رسول الله -عليه السلام- قد جعل الندم توبة فدل ذلك علي أن مَن قال: أتوب إلى الله من ذنب كذا وكذا وهو نادم علي ما أصاب من ذلك الذنب؛ أنه محسن مأجور علي قوله. والله أعلم. ش: ذكر حديث ابن مسعود هذا شاهدًا لصحة قول أهل المقالة الثانية؛ وذلك أنه -عليه السلام- قد جعل الندم توبة فدل ذلك علي أن مَن قال: أتوب إلى الله، والحال أنه

نادم علي ما اقترف من تلك الذنوب التي أصابها، أنه محسن علي قوله ذلك مأجور ومثاب. وأخرج حديث ابن مسعود من خمس طرق: الأول: بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن زياد بن أبي مريم الجزري، عن عبد الله بن معقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف- قال: "دخلت مع أبي" وهو مَعْقِل بن مقرن المزني الصحابي. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الكريم الجزري، عن رجل، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود. وفيه مجهولان ولكنهما بُيِّنا في بقية الطرق أنهما: عبد الله بن معقل وأبوه معقل بن مقرن. الثالث: عن حسين بن نصر، عن عمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمر بن أبي الوليد الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم أو ابن الجراح، أي: أو زياد بن الجراح، والجراح هو اسم أبي مريم، وزياد هذا يقال له: ابن أبي مريم، ويقال له: ابن الجراح، وقال العجلي: زياد بن أبي مريم جزري تابعي ثقة. ووثقه ابن حبان أيضًا وقال: اسم أبي مريم: الجراح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا معمر بن سليمان الرقي، ثنا خصيف، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن معقل قال كان أبي عند ابن مسعود، فسمعته يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الندم توبة". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1420 رقم 4252). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 423 رقم 4014).

الرابع: عن حسين بن نصر أيضًا، عن الهيثم بن جميل الحافظ البغدادي نزيل أنطاكية وشيخ أحمد، عن زهير بن معاوية، عن عبد الكريم. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): عن أحمد بن عبدة، عن سفيان، عن عبد الكريم. . . . إلى آخره نحوه. الخامس: أيضًا صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصافي، عن زهير بن معاوية. . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2) نحوه. وقد أخرج البزار (¬3) هذا الحديث من طريق آخر: ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي -عليه السلام- قال: "الندم توبة". وهذا الحديث لم نسمعه إلا من عبد الواحد، عن أبي عوانة. قلت: الأعمش لم يدرك عبد الله بن مسعود. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 310 رقم 1926). (¬2) "المعجم الأوسط" (6/ 83 رقم 5864)، (7/ 44 رقم 6799)، "المعجم الصغير" (1/ 66 رقم 80). (¬3) "مسند البزار" (5/ 312 رقم 1927).

ص: باب: البكاء علي الميت

ص: باب: البكاء علي الميت ش: أي هذا باب في بيان حكم البكاء على الميت هل يباح أم لا؟ والبكاء يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون معه البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، وبكيته وبكيت عليه بمعنى. قال الأصمعي: بكيت الرجل وبكَّيته بالتشديد كلاهما إذا بكيت عليه، وقال أبو زيد مثله، والبكي بضم الباء جمع باك، وأصله بَكُوي، علي وزن فعول نحو رجل جالس وقوم جلوس، والبَكِيُّ -بفتح الباء-: الكثير البكاء. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، أن عتيك بن الحارث بن عتيك -وهو جد عبد الله بن عبد الله أبو أمه- أخبره، أن جابر بن عتيك أخبره: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غُلِبَ، فصاح به، فلم يجبه، فاسترجع رسول الله -عليه السلام- , وقال: غُلبنا عليك يا أبا الربيع، فصاح النسوة وبكين، وجعل ابن عتيك يُسكتهن، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعهن؛ فإذا وجب فلا تبكينَّ باكية، قالوا: يا رسول الله وما الوجوب؟ قال: إذا مات". ش: إسناده صحيح. وجابر بن عتيك بن قيس الأنصاري السلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) بأتم منه. وهو قوله بعد قوله: "إذا مات، فقالت ابنته: والله إن كنت أرجو أن يكون شهيدًا فإنك [كنت] (¬2) قد قضيت جهازك، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن الله قد أوقع أجره علي قدر نيته، وما تعدون الشهادة؟ قالوا: القتل في سبيل الله، فقال رسول الله -عليه السلام-: الشهداء سبعة سوي القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 233 رقم 554). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "الموطأ".

والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد". وأخرجه أبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. قوله: "جاء يعود عبد الله بن ثابت" أي جاء يزوره ويتفقد حاله. وعبد الله بن ثابت الأنصاري أبو الربيع الظفري من بني ظفر بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن الأوس. قوله: "قد غُلِب" علي صيغة المجهول. قوله: "فاسترجع" أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مثل ما يقال: حوقل؛ إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسمل إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. قوله: "يا أبا الربيع" هو كنية عبد الله بن ثابت المذكور. قوله: "وما الوجوب" أصل الوجوب السقوط؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (¬4) وهو أن تميل فتسقط، وإنما يكون ذلك إذا زهقت نفسها، ويقال للشمس إذا غابت: قد وجبت الشمس. قوله: "المطعون" من طُعِنَ الرجل فهو مطعون وطعين إذا أصابه الطاعون، وهو غدة كغدة البعير، تخرج في الآباط ونحوها. "والغريق": الذي يموت في الماء غرقًا. و"صاحب ذات الجنب": هي الشوصة، قاله أبو عمر، وقال غيره: ذات الجنب ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 188 رقم 311). (¬2) "المجتبى" (4/ 13 رقم 1846). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 937 رقم 1846). (¬4) سورة الحج، آية: [36].

خلط ينصب إلى الغشاء المستبطن للأضلاع، فيحدث ورمًا حارًّا، وعلامته حمي لازمة وسعال وضيق نفس ووجع ناخس. و"المبطون": العليل البطن، وهو صاحب الإسهال، وقال أبو عمر: فقيل فيه: إنه المحبون. قوله: "تموت بجُمْع" بضم الجيم وسكون الميم، والمعني تموت وفي بطنها ولد، وقيل: التي تموت بكرًا، والجمع بمعنى المجموع، كالذخر بمعنى المذخور، وكسر الكسائي الجيم، والمعني أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة، وقال أبو عمر: فيه قولان لكل واحد منهما وجهان: أحدهما: هي المرأة تموت من الولادة وولدها في بطنها وقد تم خلقه وماتت من النفاس وولدها في بطنها لم تلده، قال أبو عبيد: الجمع: الناقة في بطنها ولدها. وقيل: إذا ماتت من الولادة وسواء ماتت وولدها في بطنها أو ولدته ثم ماتت. والقول الآخر: هي التي تموت عذراء لم تنكح ولم تُفْتَض. وقيل: هي التي تموت ولم تطمث، والمعني واحد؛ لقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (¬1) أي لم يطأهن. والقول الأول أكثر وأشهر. ويستنبط منه أحكام: سنية عيادة المرضي؛ لأنه -عليه السلام- فعلها وأمر بها وندب إليها. وعيادة الرجل العالم الكبير الشريف مَن هو دونه. وفيه: الصياح بالعليل علي وجه النداء له ليسمع فيجيب عن حاله، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- صاح بقوله: يا أبا الربيع، فلما لم يجبه استرجع؟ وسنية الاسترجاع عند المصيبة. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، آية: [56].

وفيه: جواز تكنية الرجل الكبير لمن هو دونه، وهذا يبطل ما يحكي عن الخلفاء أنهم لا يكنون أحدًا. وفيه: إباحة البكاء على الميت كالصياح وغيره عند حضور وفاته. وفيه: النهي عن البكاء إذا وجب موته، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. وفيه: أن التجهز للعدو إذا حيل بينه وبينه، يكتب له أجر الغازي، ويقع أجره علي قدر نيته. وفيه: أن الأعمال بالنيات، وأن نية المؤمن خير من علمه. وفيه: طرح العالم [المسألة] (¬1) على المتعلم، ألا ترى إلى قوله -عليه السلام-: "ما تعدون الشهادة فيكم" ثم أجابهم بخلاف ما عندهم، وأن الشهداء سبعة بنصه -عليه السلام-، ولكن المراد بهذه الشهادة الحكمية، يعني أن هؤلاء كالشهيد حقيقة عند الله في وفور الأجر؛ ولهذا يغسلون ويكفنون كسائر الموتي بخلاف الشهيد الحقيقي وهو الذي قتل ظلمًا, ولم تجب بقتله دية، أو وجد في المعركة قتيلًا كما عرف في الفروع بالخلاف الذي فيه، وقد ذكر في معنى هؤلاء السبعة شيء آخر، وفي كتاب "المعرفة": حدثنا أبو علي الحنفي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعته يقول فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: من حبسه السلطان وهو ظالم له فمات في حبسه ذلك فهو شهيد، ومن ضربه السلطان ظالما فمات من ضربه ذلك فهو شهيد، وكل موت يموت به المسلم فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - "أن مَن يتردى من الجبال، أو يغرق في البحور، أو يأكله السبع، شهداء عند الله يوم القيامة". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى كراهة البكاء على الميت، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: القاسم وعروة بن الزبير وأبا نجيح وداود بن علي فإنهم قالوا: يكره البكاء على الميت، واستدلوا علي ذلك بالحديث المذكور، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب والمغيرة بن شعبة وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي أوفي وعائشة - رضي الله عنهم -. ص: وبما قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه". حدثنا ربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أحمد بن محمَّد الأزرقي، قال: ثنا عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبى مليكة يقول: "لما ماتت أم أبان بنت عثمان بن عفان حضرت مع الناس، فجلست بين يدي عبد الله بن عمرو وعبد الله ابن عباس - رضي الله عنهم - فبكى النساء، فقال ابن عمر: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء؟ إني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: قد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول ذلك، فخرجت مع عمر حتى إذا كنا بالبيداء، إذا رَكْب، فقال: يا ابن عباس من الرَّكْب؟ فذهبت فإذا هو صهيب وأهله، فرجعت فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا صهيب وأهله، فلما دخلنا المدينة، وأصيب عمر - رضي الله عنه - جلس صهيب يبكي عليه ويقول: واحِبَّاه، واصاحباه، فقال عمر - رضي الله عنه - لا تبك؛ فإني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه. قال: فذكر ذلك لعائشة - رضي الله عنها - فقالت: أمَ والله ما تحدثون هذا الحديث عن الكاذبين، ولكن السمع يخطئ، وإن لكم في القرآن لما يشفيكم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1)، ولكن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الله -عز وجل- ليزيد الكافر عذابًا ببكاء بعض أهله عليه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة. . . . فذكر نحوه، غير أنه لم يذكره قصة صهيب - رضي الله عنه -. قالوا: فلما كان الميت يعذب ببكاء أهله عليه؛ كان بكاؤهم عليه مكروهًا لهم. ¬

_ (¬1) سورة النجم، آية: [38].

ش: أي واحتجوا أيضًا بما روي عن النبي -عليه السلام-. . . . إلى آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أحمد بن محمَّد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الأزرقي المكي شيخ البخاري، عن عبد الجبار بن الورد بن أبي الورد القرشي المكي، وثقه يحيي بن معين وأبو داود وروي له والنسائي. عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي الأحول قاصّ عبد الله بن الزبير ومدونه، روى له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: "كنت عند عبد الله بن عمر ونحن ننتظر جنازة أمّ أبان ابنة عثمان - رضي الله عنه - وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده، قال: فأراه أُخبر بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي، وكنت بينهما، فإذا صوت من الدار، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله -عليه السلام-[يقول] (¬2): إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فأرسلها عبد الله مرسلة، قال ابن عباس: كنا مع أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، حتى إذا كنا بالبيداء، إذا هو برجل نازل في ظل شجرة، فقال لي: انطلق فاعلم من ذاك؟ فانطلقت، فإذا هو صهيب، فرجعت إليه، فقلت: إنك أمرتني أن أعلم لك مَن ذاك، وأنه صهيب، فقال: مُروه فليلحق بنا، فقلت: إن معه أهله، قال: وإن كان معه أهله -وربما قال أيوب: مره فليلحق بنا- فلما بلغنا المدينة لم يلبث أمير المؤمنين أن أصيب، فجاء صهيب فقال: واأخاه، واصاحباه، فقال عمر - رضي الله عنه -: ألم تعلم -أو لم تسمع أو قال: أو لم تسمع أو لم تعلم- أن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله؟ فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال ببعض، فأتيت عائشة - رضي الله عنها -، فذكرت لها قول عمر، فقالت: لا والله ما قاله رسول الله -عليه السلام-: إن الميت يعذب ببكاء أهله، ولكن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الكافر ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 41 رقم 288). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

ليزيده الله ببكاء أهله عذابًا، وإن الله لهو أضحك وأبكي، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) ". قال أيوب: وقال ابن أبي مليكة: حدثني القاسم، قال: "لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ". الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2) من طرق متعددة نحو ما رواه أحمد في "مسنده"، منها ما رواه عن عبد الرحمن بن بشر، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة نحو رواية الطحاوي هذه. قوله: "لما ماتت أم أبان" وهي بنت عثمان بن عفان، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. قوله: "بالبيداء" وهي في اللغة الأرض الواسعة، وقال ابن الأثير: البيداء المفازة لا شيء بها، وهي هاهنا اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. قوله: "إذا ركب" كلمة "إذا" للمفاجأة، والركب اسم من أسماء الجمع كنفر ورهط، وقيل: هو جمع راكب، كصاحب وصحب، والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق علي كل من يركب دابة. قوله: "واحباه، واصاحباه" كلمة "وا" للندبة وهي علي وجهين: أحدهما: أن تكون حرف نداء مختصًا بباب الندبة، نحو: وازيداه. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [164]. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 642 رقم 929).

والثاني: أن تكون اسمًا للعجب نحو: وَا بأبي أنت وفوكِ الأشنبُ قوله: "أمَ والله"، أصله: أما والله، فحذفت الألف، وهي حرف استفتاح بمنزلة "ألا" وتكثر قبل القسم. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬1): اختلف الناس في معنى قوله -عليه السلام-: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقال قائلون: معناه أن يوصي الميت بذلك. وقال آخرون: معناه أن يمدح في ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغدرات وما أشبهها من الأفعال التي هي عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها، ويمدحونه بها، وهو معذب بما يبكي عليه به من أهله. وقال الآخرون: البكاء في هذا الحديث وما كان مثله معناه النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود ونحو هذا من النياحة، وأما بكاء العِبَر فلا، وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجمع عليه بقول الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2)، وبقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (2) وبقوله -عليه السلام- لأبي [رمثة] (¬3) في ابنه: "ابك لا تجني عليه ولا يجني عليك". قال أبو عمر: أما ما صح عن النبي -عليه السلام- من حديث عمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم -، وغيرهم، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "يعذب الميت بما نيح عليه" ذكره مسلم، مع ما روي من إنكار عائشة على ابن عمر بقولها أيضًا في حديث آخر: "إنكم لتحدثون عن غير كاذبين، عمر وابنه، ولكن السمع يخطئ" ذكره أيضًا مسلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (17/ 274). (¬2) سورة الأنعام، آية: [164]. (¬3) في "الأصل، ك": "رميثة"، والمثبت من "التمهيد".

فللعلماء في ذلك قولان: أحدهما: أن طائفة من أهل العلم ذهبت إلى تصويب قول عائشة - رضي الله عنها - في إنكارها على ابن عمر، فمنهم الشافعي وغيره. قال أبو عمر: وهو عندي تحصيل مذهب مالك؛ لأنه ذكر حديث عائشة في "موطإه" ولم يذكر خلافه عن أحد. قال الشافعي: أرخص في البكاء على الميت ثلاثة أيام بلا نياحة، لما في النياحة من تجديد الحزن، ومنع الصبر، وعظم الإثم، ثم قال: وقال ابن عباس: الله أضحك وأبكي. قال الشافعي: فما روته عائشة وذهبت إليه أشبه بدلالة الكتاب والسنة، واستدل بحديث أبي رمثة، وبقوله -عز وجل-: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (¬1)، وبقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2). قال: وما زيد في عذاب الكافر فباستحبابه لا بذنب غيره. وقال: آخرون، منهم داود بن علي وأصحابه: ما روي عن عمر والمغيرة أولى من قول عائشة وروايتها، قالوا: ولا يجوز أن تدفع رواية العدل بمثل هذا الاعتراض؛ لأن مَن روى وسمع أثبت حجة علي من نفي وجهل. قالوا: وقد صح عن النبي -عليه السلام- أنه نهي عن النياحة نهيًا مطلقًا , ولعن النائحة والمستمعة، وحرم أجرة النائحة، وقال: "ليس منا من حلق وسلق، وليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعول بدعوي الجاهلية". قالوا: وقد قال الله [تعالى -عز وجل-] (¬3): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬4)، فواجب علي كل مسلم أن يعلم أهله ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ويأمرهم به، وواجب عليه أن ينهاهم عن كل ما لا يحل لهم ويوقفهم عليه ويمنعهم منه، ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [15]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [164]. (¬3) كذا في "الأصل، ك". (¬4) سورة طه، آية: [132].

ويعلمهم مُهِمَّ ذلك كله؛ لقول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬1) قالوا: فإذا علم الرجل المسلم ما جاء عن رسول الله -عليه السلام- في النياحة على الميت والنهي عنه والتشديد فيها, ولم ينه عن ذلك أهله ونيح عليه بعد ذلك، فإنما يعذب بما نيح عليه؛ لأنه لم يفعل ما أمر به من نهي أهله عن ذلك وأمره إياهم بالكف عنه، وإذا كان ذلك كذلك فإنما يعذب بفعل نفسه وذنبه لا بذنب غيره، وليس في ذلك ما يعارض قول الله -عز وجل-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2)، فكأن ما رواه عمر وابنه عبد الله والمغيرة وغيرهم صحيح المعنى غير مدفوع، وبالله التوفيق، انتهي. وقال الخطابي: قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا علي ما ذهبت عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنها قد روت أن ذلك إنما كان في شأن يهودي، فالخبر المفسر أولى من المجمل، ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحًا من غير أن يكون فيه خلاف للآية؛ وذلك أنهم كانوا يوصون أهلهم بالبكاء والنوح عليهم، فكان ذلك مشهورًا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول القائل (¬3): إذا مُتُّ فانْعِيني بما أنا أهلُه ... وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا ابنةَ معْبَدِ وكقول لبيد: فقُومَا وقُولا بالذي تَعْلَمانِهِ ... ولا تَخْمِشا وجْهًا ولا تحلِقا شَعَرْ وقولا هو المرءُ الذي لا صَديقَه ... أضاعَ ولا خافَ الأميرَ ولا غَدَرْ إلى الَحوْلِ ثُمَّ اسمُ السَّلامِ عَليكُما ... ومَنْ يَبكِ حَوْلا كامِلا فقد اعْتَذَر ومثل هذا كثير في أشعارهم، فإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقال -عليه السلام-: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها". ¬

_ (¬1) سورة التحريم، آية: [6]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [164]. (¬3) القائل هو: طرفة بن العبد.

وفيه وجه آخر: وهو أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجبت عليهم بذنوب اقترفوها وجري من قضاء الله فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم: "مطرنا بنوء كذا" أي عند نوء كذا؛ كذلك قوله: "إن الميت يعذب ببكاء أهله" أي عند بكائهم عليه، لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالاً لا سببًا؛ لأنا لو جعلناه سببًا لكان مخالفًا للقرآن، وهو قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1).والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالبكاء على الميت إذا كان بكاء لا معصية معه من قول فاحش ولا نياحة، واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن الحارث الأنصاري، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "اشتكي سعد بن عبادة شكوى، فأتى رسول الله -عليه السلام- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه وجده في غشيته، فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا والله يا رسول الله، فبكي رسول الله -عليه السلام-، فلما رأى القوم بكي رسول الله -عليه السلام- بكوا، فقال: ألا تسمعوا أن الله تعالى لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم". حدثنا أحمد بن الحسن، قال: سمعت سفيان يقول: حدثني ابن عجلان، عن وهب بن كيسان، عن أبي هريرة: "أن عمر - رضي الله عنه - أبصر امرأة تبكي علي ميت فنهاها، فقال له رسول الله -عليه السلام-: دعها يا أبا حفص فإن النفس مصابة، والعين بكية، والعهد قريب". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- مرَّ بنساء بني الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله -عليه السلام-: لكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [164].

الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله -عليه السلام- فقال: ويحهن، ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن، ولا يبكين علي هالك بعد اليوم". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن عمر، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يقبِّل عثمان بن مظعون بعد موته، ودموعه تسيل علي لحيته". ففي هذه الآثار التي ذكرنا إباحة البكاء على الموتى، وذلك علي أن ذلك غير ضار لهم ولا سبب لعذابهم، ولولا ذلك لما بكي رسول الله -عليه السلام- ولا أباح البكاء، ولمنع من ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلي والحسن البصري والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالبكاء على الميت إذا كان بلا صوت ولا قول فاحش، وروي ذلك عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن مسعود وثابت بن زيد وقرظة بن كعب وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهم -. وإليه ذهب ابن حزم، وقال في "المحلي": والصبر واجب، والبكاء مباح ما لم يكن نَوح؛ فإن النوح حرام والصياح وخمش الوجوه وضربها وضرب الصدور ونتف الشعر وحلقه للميت، كل ذلك حرام، وكذلك الكلام المكروه الذي هو تسخط لأقدار الله تعالى، وشق الثياب. قوله: "واحتجوا في ذلك". أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم -. أما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه من وجهين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن يونس بن عبد الأعلي وعمرو بن سواد العامري، كلاهما عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 636 رقم 924).

وأخرجه البخاري (¬1): عن أصبغ عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا عبيد الله بن موسى، نا أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: "رجع رسول الله -عليه السلام- يوم أحد فسمع نساء بني عبد الأشهل يبكين علي هلكاهن، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين علي حمزة، فرقد فاستيقظ فقال: يا ويحهن؛ إنهن لهاهنا حتى الآن؟! مُروهُنَّ فليرجعن، ولا يبكين علي هالك بعد اليوم". وأخرجه عن هارون بن سعيد المصري، عن عبد الله بن وهب .. إلى آخره نحوه. قوله: "اشتكي سعد بن عبادة شكوى" أي مرض مرضًا. الشكوى والشكو والشكاة والشكاية كلها مصادر بمعنى المرض. قوله: "في غشيته" وهي ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به حتى يظن أنه قد مات، وأصله من غشاه يغشاه إذا غطاه، وغشي الشيء إذا لابسه، وغشي المرأة إذا جامعها، وغُشي عليه فهو مَغْشِيٌّ عليه، إذا أُغْمِيَ عليه. قال القاضي عياض: روايتنا فيه عن أكثر شيوخنا بكسر الشين وتشديدها، وعند أبي جعفر: عشية بسكون الشين، وفي البخاري: "في غاشيته"، وقال ابن الأثير: الغاشية: الداهية من خير أو شر أو مكروه، ومنه قيل: للقيامة: الغاشية، وأراد في غَشْية من غشيات الموت، ويجوز أن يريد بالغاشية القوم الحضور عنده الذين يغشونه للخدمة والزيارة أن أي جماعة غاشية. وقال الخطابي: الغاشية تحتمل وجهين: من يغشاه من الناس، أو ما يغشاه من الكرب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1/ 439 رقم 1242). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 63 رقم 12127).

قوله: "فقال: أقد قضى؟ " أي أقد مات؟ والهمزة فيه للاستفهام، وهو علي صيغة المعلوم، وأصل معناه: فرغ، يقال: قضي نحبه أي مات، وضربه فقضي عليه أي قتله، كأنه فرغ منه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي نزيل مصر، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن وهب بن كيسان القرشي المعلم، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عفان، ثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن سلمة الأزرق، عن أبي هريرة قال: "مُرَّ على النبي -عليه السلام- بجنازة يُبكى عليها -وأنا معه وعمر بن الخطاب- فانتهر عمر - رضي الله عنه - اللَّاتي تبكين مع الجنازة، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعهن يا ابن الخطاب؛ فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن ابن أبي شيبة. . . . نحوه. والله أعلم. واعلم أنه وقع في رواية ابن ماجه بين وهب بن كيسان وبين أبي هريرة شخص واحد، وهو محمَّد بن عمرو بن عطاء. وفي رواية أخرى (2) له من طريق ابن أبي شيبة أيضًا وقع بينهما شخصان أحدهما محمَّد بن عمرو بن عطاء هذا، والآخر سلمة بن الأزرق. وأخرجه النسائي (¬3): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمَّد ابن عمرو بن حلحلة، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن سلمة بن الأزرق، عن أبي هريرة. وأما رواية الطحاوي فإنه ليس فيها بين وهب بن كيسان وبين أبي هريرة أحد كما تري ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 64 رقم 12136). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 505 رقم 1587). (¬3) "المجتبى" (4/ 19 رقم 1859).

ووهب هذا قد روى عن أبي هريرة وغيره من الصحابة. ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" من التابعين. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -، فأخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن إسماعيل بن عمر الواسطي شيخ أحمد وابن معين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، فيه مقال؛ فعن محمَّد بن سعد: كان كثير الحديث ولا يحتج به. وعن الجوزجاني: ضعيف الحديث. وعن أبي حاتم: منكر الحديث مضطرب الحديث ليس له حديث يعتمد عليه. وقال الدارقطني: مدينيّ يترك وهو مغفل، وقال النسائي: لا نعلم مالكًا روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف إلا عاصم بن عبيد الله. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن عاصم. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3)، وفي رواية ابن ماجه: "علي خديه". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال المنذري في "مختصر السنن": وفي إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. ويستفاد منه حكمان: الأول: إباحة البكاء على الميت من غير صوت. والثاني: جواز تقبيل الميت؛ فإن رسول الله -عليه السلام- قبَّل عثمان بن مظعون، وهو ممن هاجر الهجرتين، وممن شهد بدرًا، وكانت وفاته في سنة اثنتن من الهجرة وهو أول مَن دفن بالبقيع، ومظعون بالظاء المعجمة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 201 رقم 3163). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 314 رقم 989). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 468 رقم 1456).

ص: فإن قال قائل: فإن في حديث ابن عمر الذي ذكرت ما يدل علي نسخ ما كان أباح من ذلك، وهو قوله: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم". قيل له: ما في ذلك دليل علي ما ذكرت، قد يجوز أن يكون قوله -عليه السلام-: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم" من هلكاهن الذين قد بكين عليهم منذ هلكوا إلي هذا الوقت؛ لأن في ذلك البكاء ما قد أتين به علي ما جلا عنهن حزنهن. ش: تقرير السؤال أن يقال لأهل المقالة الثانية: كيف تحتجون في إباحة البكاء على الميت بلا صوت بحديث عبد الله بن عمر، وفي حديثه ما يدل علي نسخ ما كان أباح لهم من ذلك وهو قوله: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم"؟ فإنه صريح في المنع عن البكاء، والجواب عنه ظاهر. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير البكاء الذي قصد إلى النهي في نهيه عن البكاء على الموتى ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن جابر بن عبد اللهَ، عن عبد الرحمن ابن عوف قال: "أخذ النبي -عليه السلام- بيدي فانطلقت معه إلى ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فأخذه النبي -عليه السلام- فوضعه في حجره حتى خرجت نفسه، فوضعه ثم بكي، فقلت: يا رسول الله، أتبكي وأنت تنهي عن البكاء؟! فقال: إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو، ولعب، ومزامير شيطان -وصوت عن مصيبة- لطم وجوه، وشق جيوب، وهذا رحمة، من لا يَرحم ولا يُرحم، يا إبراهيم لولا أنه وعد صادق وقول حق، وأن آخرنا سيلحق أوَّلنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب". فأخبر رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث بالبكاء الذي نهى عنه في الأحاديث الأُوَل، وأنه البكاء الذي معه الصوت الشديد ولطم الوجوه وشق الجيوب، وبيَّن أن ما سوى ذلك من البكاء مما فعل من جهة الرحمة أنه بخلاف ذلك البكاء الذي نهى عنه.

ش: ذكر هذا شاهدًا للجواب المذكور عن السؤال المذكور، وتأييدًا لصحته، وهو أن البكاء على الميت مباح، وحكمه باقٍ ولم ينسخ، ولم ينه عنه، وإنما الذي نهي عنه هو البكاء الذي معه صوت أو لطم أو شق، والبكاء الذي يكون بدون هذه رحمة في القلوب، دل عليه حديث عبد الرحمن بن عوف. أخرجه بإسناد حسن عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي الكوفي -شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي الفقيه، فيه مقال، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي، عن عبد الرحمن بن عوف الصاحبي. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا النضر بن إسماعيل، قال: نا ابن أبي ليلي، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، عن عبد الرحمن ابن عوف قال: "أخذ رسول الله -عليه السلام- بيدي فانطلق إلى النخل، فوجد إبراهيم ابن رسول الله -عليه السلام-، فأخذه رسول الله -عليه السلام- فوضعه في حجره، فدمعت عيناه، ثم قال: يا بني إني لا أملك لك من الله شيئًا، فقلت: يا رسول الله تبكي؟! أو لم تنه عن البكاء؟ قال: إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة -لعب ولهو ومزامير شيطان- وصوت عند مصيبة -خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان- إنه لا يُرحم من لا يَرحم، لولا أنه أمُرُ حق ووعد صدق وأنها سبيل مأتية لابد منها حتي يلحق آخرنا بأوَّلنا، لحزنَّا حزنًا أشد من هذا -يعني عليه- وإنَّا به لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يُسخط الرب -عز وجل-". وهذا حديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقد روي عن عبد الرحمن بإسناد آخر بعض هذا الكلام. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (3/ 215 رقم 1001).

قوله: "وهو يجود بنفسه" أي يخرجها ويدفعها، مما يدفع الإنسان ماله يجود به، والجود: الكرم، يريد أنه كان في النزع وسياق الموت. قوله: "حتى خرجت نفسه" أي روحه، والنفس تطلق على الروح وعلى الدم. قوله: "عن صوتين أحمقين" أي موضوعين في غير محلهما؛ وذلك لأن الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه. قوله: "فاجرين" الفاجر هو المنبعث في المعاصي والمحارم، من فجر يفجر فجورًا، ووصف الصوت بصفة مُصوِّتِه؛ لملابسته إياه. قوله: "صوت عند نعمة: لهو" أي أحدهما صوت عند نعمة لهو. قوله: "وصوت عند مصيبة" أي والآخر: صوت عند مصيبة. قوله: "لطمُ وجوه" برفع اللطم وإضافته إلى الوجوه، وارتفاعه علي أنه بدل من صوت، أو بيان عنه. قوله: "وهذا رحمة" أشار به إلى البكاء الذي هو إرسال الدمع من غير صوت ونياحة. قوله: "لولا أنه وعد" أي لولا أن الموت وعدٌ صادق من الله تعالى. قوله: "لحزنَّا" اللام فيه للتأكيد. قوله: "لمحزونون" خبر لقوله: "إنا"، واللام فيه للتأكيد. ص: وأما ما ذكرناه عن عمر وابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فقد ذكرنا عن عائشة - رضي الله عنها - إنكار ذلك، وأن رسول الله -عليه السلام- إنما قال: "إن الله -عز وجل- ليزيد الكافر عذابًا في قبره ببعض بكاء أهله عليه" وقد يجوز أن يكون ذلك البكاء -الذي يعذب به ذلك الكافر في قبره يراد به عذابًا علي عذابه- بكاءً قد كان أوصى به في حياته، فإن أهل الجاهلية قد كانوا يوصون بذلك أهليهم أن يفعلوه بعد وفاتهم، فيكون الله -عز وجل- يعذبه في قبره بسبب قد كان سببه في حياته فُعِل بعد موته.

ش: هذا جواب عن حديث عبد الله بن عمر الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وحاصلة من وجهين: أحدهما: أن عائشة - رضي الله عنها -، أنكرت ذلك، استدلالًا بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) ونسبت ذلك إلى الوهم عن ابن عمر. الثاني: أن ذلك محمول علي ما إذا كان الميت قد كان أوصى به في حياته، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب مستقصى، فليراجع إليه. ص: وقد روي هذا الحديث عن عائشة بغير هذا اللفظ: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- أنها قالت: "يغفر الله لأبي عبد الرحمن بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي؟! والله ما ذاك إلا إيهام من عبد الله بن عمر يغفر الله له، إن الله -عز وجل- يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وما ذاك إلا أن رسول الله -عليه السلام- مرَّ علي قبر يهودي، فقال رسول الله -عليه السلام-: أنتم تبكون عليه وإنه ليعذب في قبره يقول: بعمله". فأخبرت عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- إنما أخبر أن ذلك الكافر يعذب في قبره بعمله وأهله يبكون عليه، وقد منع الله -عز وجل- أن تزر وازرة وزر أخرى، فدل ذلك علي أن مَيْتًا لا يعذب في قبره ببكاء حيٍّ لم يَأمر به في حياته، وبان بحديث جابر عن عبد الرحمن بن عوف البكاء المكروه ما هو، وأنه هو الذي معه اللطم والشق، فقد ثبت بما ذكرنا إباحة البكاء على الميت إذا لم يكن معه سبب مكروه من شق ثوب ولطم وجه ونياحة وما أشبه ذلك، وقد حدثنا فهد قال: ثنا يحيي بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: "دخلت علي قرظة ابن كعب وعلي أبي مسعود الأنصاري وثابت بن زيد - رضي الله عنهم - وعندهم جواري يغنين، فقلت: أتفعلون هذا وأنتم ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [164].

أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟! قالوا: إن كنت تسمع وإلا فامش؛ فإن رسول الله -عليه السلام- رخص في اللهو عند العرس، وفي البكاء عند الموت". ش: لما أجاب عن حديث عبد الله بن عمر بحديث عائشة - رضي الله عنها - أجاب ثانيًا بحديث آخر عن عائشة أيضًا روي عنها بوجه آخر، وفيه الجواب أيضًا عن حديث عبد الله بن عمر، وحديث آخر أيضًا عن ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -. أما حديث عائشة فأخرجه بإسناد صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -واسم أبي الزناد عبد الله بن ذكوان. فإن قيل: عبد الرحمن فيه كلام. قلت: قال يحيي بن معين: أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي الزناد. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا خلف بن هشام وأبو الربيع الزهراني، جميعًا عن حماد -قال: [خلف] (¬2)، ثنا حماد بن زيد- عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئًا فلم يحفظ، إنما مرت علي رسول الله -عليه السلام- جنازة يهودي، وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وأنه ليعذب". ثنا أبو كريب (¬3) قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: "ذكر عند عائشة - رضي الله عنها - أن ابن عمر يرفع إلى النبي -عليه السلام- أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله، فقالت: وَهِلَ، إنما قال رسول الله -عليه السلام-: إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن، وذلك مثل قوله: إن رسول الله -عليه السلام- قائم على القليب يوم بدر ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 642 رقم 931). (¬2) في "الأصل، ك": "ثنا خلف"، و"ثنا" زائدة، وليست في "صحيح مسلم". (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 643 رقم 932).

وفيه قتلي بدر من المشركين فقال لهم ما قال: إِنهِم ليسمعون ما أقول، وقد وَهِلَ، إنما قال: ليعلمون أنما كنت أقول لهم حق، ثم قرَأَتْ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (¬1) {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬2) يقول: حتى تبوءوا مقاعدهم من النار". وله رواية أخري (¬3) وفيها: "يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أَمَا إنه [لم يكذب] (¬4)، ولكنه نسي أو أخطأ". والحديث أخرجه أبو داود (¬5) والنسائي (¬6) أيضًا. وقال القاضي عياض: وقد قيل: معني قوله -عليه السلام-: "إنه ليعذب ببكاء أهله عليه" أنه يعذب بسماع بكاء أهله ويرق لهم، وقد جاء هذا مفسرًا في حديث قبله حين بكت امرأة عند ذكرها موت أبيها، فزجرها النبي -عليه السلام- ثم قال: "إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم" وإلى هذا نحى الطبري وغيره، وهو أولى ما يقال فيه؛ لتفسير النبي -عليه السلام- في هذا الحديث ما أبهمه في غيره، ويندفع به الاعتراض بقوله تعالي: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬7). وأما حديث الثلاثة من الصحابة وهم: قرظة بن كعب بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن الإطنابة الأنصاري الخزرجي حليف بني عبد الأشهل. وأبو مسعود الأنصاري اسمه عقبة بن عمرو. وثابت بن يزيد بن وديعة الأنصاري، ويقال: ثابت بن زيد بن وديعة، ويقال: ثابت بن وديعة، أبو سعد المدني، له ولأبيه صحبة. ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية: [80]. (¬2) سورة فاطر، آية: [22]. (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 642 رقم 932). (¬4) في "الأصل، ك": "ليعذب"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 211 رقم 3129). (¬6) "المجتبى" (4/ 17 رقم 1855). (¬7) سورة الأنعام، آية: [164].

فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيي بن عبد الحميد الحماني الكوفي الثقة، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عامر بن سعد البجلي الكوفي -من رجال مسلم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد البجلي، عن أبي مسعود وثابت بن زيد وقرظة بن كعب، قالوا: "رُخِّص لنا في البكاء على الميت في غير نوح". ثنا (¬2) شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: "دخلت علي أبي مسعود وقرظة بن كعب فقالا: إنه رُخِّص لنا في البكاء عند المصيبة". ص: فإن قال قائل: فقد [روي عن] (¬3) رسول الله -عليه السلام- أن الميت يعذب في قبره بنياحة أهله عليه، وذكر ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سعيد بن عبيد أبو الهذيل الطائي، عن علي بن ربيعة قال: "نيح علي قرظة بن كعب، فخطب المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فقال: "ما بال النياحة في هذه الأمة؟! إني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: إن كذبًا عليّ ليس ككذب علي أحد، من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، ومن نيح عليه عذب ما نيح عليه -أو بما نيح عليه". قيل له: هذا عندنا -والله أعلم- على النياحة التي كانوا يوصون بها أهليهم، فتكون مفعولة بعدهم بوصيتهم بها في حياتهم، فيعذبون علي ذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد أوَّلتم حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وقلتم: إن عائشة قد أنكرت حديثه، ونسبته تارة إلى الوهم، وتارة إلى النسيان، وتارة إلى الخطأ، وأوَّلت حديثه بما ذكرنا من التأويلات، فما تقولون فيما روى ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 64 رقم 12133). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 64 رقم 12134). (¬3) تكررت في "الأصل".

المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، وهو مثل ما رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، والحال أنه سالم عن نسبته إلى الوهم أو النسيان؟ فدل علي أن البكاء حرام مطلقًا وأن الميت يعذب به. وأخرجه بإسناد صحيح، عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سعيد بن عبيد الطائي أبي الهذيل الكوفي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن علي بن ربيعة الوالبي الكوفي، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن سعيد بن عبيد الطائي ومحمد بن قيس، عن علي بن ربيعة قال: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة". قوله: "فليتبوأ مقعده" أي لينزل منزله من النار، يقال: بوأه الله منزلًا أي: أسكنه، وتبوأت منزلًا أي اتخذته، والمباءة: المنزل. قوله: "ومن نيح عليه" من النياحة. قوله: "ما نيح عليه" أي ما دام النوح عليه، فكلمة "ما" بمعنى المدة. قوله: "أو بما نيح عليه" شك من الراوي، أي أو بسبب النوح عليه، والباء للسببية، وكلمة "ما" مصدرية. قوله: "قيل له: هذا عندنا. ." إلى آخره. جواب السؤال المذكور، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 643 رقم 933).

ص: باب: رواية الشعر هل هي مكروهة أم لا؟

ص: باب: رواية الشعر هل هي مكروهة أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم رواية الشعر وإنشاده، هل يباح أم يكره؟ والشعر في الاصطلاح: كلام موزون مقفي مقصود به، واحترزنا بالمقصود عما إذا وقع اتفاقًا لما في قوله -عليه السلام-: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فإنه لا يسمي شعرا؛ لأنه وقع اتفاقًا لا قصدًا، والشعر يطلق علي بيت واحد بخلاف القصيدة؛ فإنها لا تطلق إلا علي عشرة أبيات، وقيل: أقلها سبعة أبيات. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن ومحمد بن سليمان الباغندي، قالا: ثنا خلاد بن يحيي، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن حريث، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا". ش: رجاله ثقات. وعمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المدني المخزومي، ذكره ابن حبان في التابعين الثقات، وذكره ابن الأثير في الصحابة. وأبو حريث بن عمرو صحابي بالاتفاق. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا زهير بن محمد وأحمد بن إسحاق -واللفظ لزهير- قالا: ثنا خلاد بن يحيي، قال: ثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد. . . . إلى آخره نحوه سواء. وقال البزار: وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن إسماعيل، عن عمرو بن حريث، عن عمر - رضي الله عنه -، موقوفًا، ولا نعلم أسنده إلا خلاد عن سفيان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) موقوفًا: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن ¬

_ (¬1) " مسند البزار" (1/ 368 رقم 247). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 281 رقم 26089).

أبي خالد، عن عمرو بن حريث، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا خير [من] (¬1) أن يمتلئ شعرًا". قوله: "لأن يمتلئ" في محل الرفع على الابتداء، و"أن" مصدرية، و"اللام" فيه للتأكيد. قوله: "خير" خبر المبتدأ، والتقدير: لامتلاء جوف أحدكم قيحًا خير له من امتلائه شعرًا. ص: حدثنا محمَّد بن إسماعيل الصائغ، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن محمد بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن شعبة. . . .، فذكر بإسناد مثله، غير أنه لم يقل: "حتى يَرِيه". ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي: الأول: عن محمَّد بن إسماعيل الصائغ شيخ أبي داود، وعبد الرحمن بن أبي حاتم وقال: صدوق. ومحمد بن سعد بن أبي وقاص يروي عن أبيه سعد بن أبي وقاص -أحد العشر المبشرة- رضي الله عنهم -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن مثني ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمَّد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن محمَّد بن سعد، عن سعد، عن النبي -عليه السلام- قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يَرِيَه، خير من أن يمتلئ شعرًا". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1769 رقم 2258).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمد بن بشار، عن يحيي بن سعيد ومحمد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): عن محمد بن بشار، عن يحيي بن سعيد، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح. قوله: "قيحًا" نصب على التمييز، وهو الصديد الذي يسيل من الدمَّل والجرح. قوله: "حتى يَريَه" من الوَرْي وهو الداء، يقال: وُرِيَ يُوري فهو مَوْرِيّ إذا أصاب جوفه الداء. قال الأزهري: الوَريْ مثال: الرمْي: داء يدخل الجوف، يقال: رجل مَوْرِيّ. غير مهموز. وقال الفراء: هو الوَرَي بفتح الراء، وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم. وقال الجوهري: وَرَى القيح جوفه، يَرِيَه وَرْيًا: أكله. وقال قومٌ: معناه حتى يصيب رئته، وأنكره غيرهم؛ لأن الرئة مهموزة وإذا بَنَيْتَ منه فعلًا قلت: رآه يَرْأَه فهو مَرْئ. وقال الأزهري: إن الرئة أصلها من وَرَى وهي محذوفة منه، تقول: رويت الرجل فهو مَوْريّ إذا أصبت رئته، والمشهور في الرئة الهمز. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت حنظلة، قال: سمعت سالم بن عبد الله، يقول: سمعت عبد الله بن عمر يحدث، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1237 رقم 3760). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 141 رقم 2852).

وحنظلة: هو ابن أبي سفيان الجمحي المكي. وأخرجه البخاري (¬1) بإسناده عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا أبو جعفر الرازي، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبى هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا محمَّد بن إسماعيل، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. وزاد: "حتى يَرِيَه". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن الجعد الجوهري -شيخ البخاري وأبي داود- عن أبي جعفر الرازي -مولى بني تيم، قيل: اسمه عيسي بن أبي عيسى، وقيل: عيسى بن ماهان، وقيل: عيسى بن عبد الله، وقيل غير ذلك. وثقه يحيي وأبو حاتم، وروي له الأربعة. عن عاصم بن بهدلة المقرئ الكوفي -قال يحيي: لا بأس به، روي له الجماعة- الشيخان مقرونًا بغيره. عن أبي صالح ذكوان الزيات. وأخرجه أبو داود (¬2) نحوه، وليس في روايته "حتى يَرِيَه". الثاني: عن محمَّد بن إسماعيل الصائغ، عن مسلم بن إبراهيم القصاب -شيخ البخاري- عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2279 رقم 5802). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 302 رقم 5009).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا حتى يَرِيَه؛ خير من أن يمتلئ شعرًا". الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬2) والترمذي (¬3) نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عوف بن مالك، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى رهابته قيحًا يتمخض مثل السقاء؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا". ش: رجاله ثقات، غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال. وأخرجه الطبراني: ثنا يحيي بن عثمان بن صالح، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة. . . . إلى آخره نحوه سندًا ومتنًا. قوله: "إلي رهابته" قال ابن الأثير: الرَّهابة -بالفتح- غضروف كاللسان معلق في أسفل الصدر مشرف على البطن، قال الخطابي: ويروى بالنون وهو غلط. وقال الجوهري: الرهابة مثل السحابة: عظم في الصدر مشرف على البطن، مثل اللسان. قوله: "يتمخض" بالخاء والضاد المعجمتين، من المخض: وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن لتخرج زبده. و"السقاء" بكسر السين: الدلو. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1769 رقم 2257). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2279 رقم 5803). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 140 رقم 2851).

وهذا -كما قد رأيت- أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن خمسة أنفس من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وعوف بن مالك، - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي حديث سعد بن أبي وقاص قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي الدرداء. قلت: وفي الباب عن عائشة أيضًا. أما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه مسلم (¬1): حدثني قتيبة بن سعيد الثقفي، قال: ثنا ليث، عن ابن الهاد، عن يحنس مولى مصعب بن الزبير، عن أبي سعيد الخدري قال: "بينا نحن نسير مع رسول الله -عليه السلام- بالعرج، إذْ عرض علينا شاعر يُنْشِد، فقال رسول الله -عليه السلام-: خذوا الشيطان -أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا". وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه الطبراني (¬2): ثنا أبو الزنباع ويحيي بن أيوب، قالا: ثنا يوسف بن عدي، ثنا بشر بن عمارة، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا". وأما حديث عائشة فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) من حديث الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، قيل لعائشة: "أكان ينشد عند رسول الله -عليه السلام- الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه" قال الذهبي: قيل: فيه انقطاع. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكره قوم رواية الشعر، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1769 رقم 2259). (¬2) عزاه له الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 223)، وقال: رواه الطبراني، وفيه بشر بن عمارة، وهو ضعيف. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 245 رقم).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: مسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والحسن البصري وعمرو بن شعيب، فإنهم قالوا: تكره رواية الشعر وإنشاده، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس برواية الشعر الذي لا قذع فيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وعامر ابن سعد البجلي ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم والثوري والأوزاعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق بن راهويه وأبا ثور وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: لا بأس برواية الشعر الذي ليس فيه هجاء ولا نكب عرض أحد من المسلمين ولا فحش. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمران بن الحصين والأسود بن سريع وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم -. قوله: "لا قَذْع فيه" أي لا فحش، ولا خني فيه، وهو بفتح القاف وسكون الذال المعجمة وفي آخره عين مهملة، يقال: قذعته وأقذعته إذا رميته وشتمته، وفي الحديث: "مَن قال في الإِسلام شعرًا مُقَذَّعًا فلسانه هَدَرٌ" (¬1). ص: وقالوا: هذا الذي روي عن رسول الله -عليه السلام- إنما هو علي خاصٍّ من الشعر، فذكروا في ذلك ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن محمَّد بن السائب، عن أبي صالح قال: "قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 276 رقم 5088) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه به. وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 227) للبزار، وقال: ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.

فقالت عائشة - رضي الله عنها -: يرحم الله أبا هريرة، حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره؛ إن المشركين كانوا يهاجون رسول الله -عليه السلام- فقال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير من أن يمتلئ شعرًا من مهاجاة رسول الله -عليه السلام-". حدثنا علي بن عبد العزيز البغدادي، قال: ثنا أبو عبيدة، قال: سمعت يزيد يحدث، عن الشَّرقي بن القَطَامي، عن مجالد، عن الشعبي، أن النبي -عليه السلام- قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا -يعني من الشعر الذي هُجِيَ به النبي -عليه السلام-". ش: أي قال هؤلاء الآخرون، وهذا جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، بيانه أن هذه الأحاديث واردة علي نوع مخصوص من الشعر، وهو الذي يكون فيه هجاء أو فحش وليس ذلك بممنوع مطلقًا؛ والدليل علي ذلك ما روي عن عائشة وعامر الشعبي فإنهما قد بَيَّنَّا أن المراد من الشعر الممنوع هو الشعر الذي فيه هجاء وثلب عرض وفحش، ألا ترى كيف أنكرت عائشة علي أبي هريرة حيث قالت: "يرحم الله أبا هريرة؛ حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره" أرادت أن مَوْرِد هذا الحديث الذي رواه هو أن المشركين كانوا يهاجون رسول الله -عليه السلام-، فقال النبي -عليه السلام- ما قال من ذلك؛ ردعًا لهم وزجرا لغيرهم عن أن يأتوا بمثل ذلك، وكذلك قال الشعبي، فإنه فسر الشعر في قوله: "خير له من أن يمتلئ شعرًا" بالشعر الذي هُجِيَ به النبي -عليه السلام-، وليس المراد مطلق الشعر فافهم. أما ما روي عن عائشة: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلي شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن سُليم الشامي الحمصي، فيه مقال، وعن دحيم: هو غاية في الشاميين وخلط عن المدنيين. وهو يروي عن محمَّد بن السائب، ضعفه يحيي، وعنه: ليس بشيء. روي له الترمذي وابن ماجه. وهو يروي عن أبي صالح باذان -ويقال: ماذان- مولى أم هانئ بنت أبي طالب،

قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة. وعن يحيى: ليس به بأس، وإذا روي عنه الكلبي فليس بشيء. وأما ما روي عن عامر الشعبي: فأخرجه عن علي بن عبد العزيز الحافظ شيخ الطبراني، وثقه ابن حبان والدارقطني، عن أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي الفقيه القاضي، الأديب المشهور، صاحب التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. عن يزيد بن هارون -شيخ أحمد، روى له الجماعة. عن الشَّرَقِي بن قَطَامي الكوفي واسمه: الوليد، واسم أبيه: الحُصين، وثقه ابن حبان، وضعفه الساجي. عن مجالد بن سعيد الهمداني ضعفه يحيى بن معين، ووثقه النسائي، وروي له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، عن عامر الشعبي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث شَرَقِي بن قَطَامي، عن مجالد، عن الشعبي، أن النبي -عليه السلام- قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا -يعني من الشعر الذي هُجي به النبي-عليه السلام-". قال أبو عبيد: الذي فيه عندي غير هذا؛ لأن ما هُجي به الرسول لو كان شطر بيت لكان كفرًا؛ ولكن وجهه عندي: أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر. قلت: فيما ذكر أبو عبيد نظر؛ لأن الذين هجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كفار وهم في حال هجوهم موصوفون بالكفر من غير هجو، غاية ما في الباب قد زاد كفرَهم هجوُهم (¬2)، والصواب هو الذي قاله الطحاوي في آخر الباب، ولكن الذي يؤيد هذا ما روي عن عائشة - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (10/ 244 رقم 20935). (¬2) في هذا النظر نظر، وذلك أن أبا عبيد إنما قصد أن المسلم إذا ملئ فمه هجوا للنبي يكون بذلك كفرا, ولم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفار قطعا، لأنه قال: "أحدكم" أي المؤمنون، فيكون رأيه أصوب والله أعلم.

ص: قالوا: وقد روي في إباحة الشعر آثار، فمنها: ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: ثنا مَعْن بن عيسى، قال: حدثني عبد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لما دخل رسول الله -عليه السلام- عام الفتح رأى نساءً يلطمن وجوه الخيل بالخُمُر، فتبسم فقال: يا أبا بكر، كيف قال حسان بن ثابت؟ فأنشده أبو بكر - رضي الله عنه -: عَدِمْتُ بنيَتي إن لم ... تَرَوْها تثير النقع مِنْ كتفي كداء ينازعن الأعنة مسرعات ... يَلطمهن بالخمر النساء هكذا حدثنا أحمد بن داود، وأهل العلم بالعربية، يروون البيت الأول علي غير ذلك: تثير النقع موعدها كداء. حتى تستوي قافية هذا البيت مع قافية البيت الذي بعد. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدخلوها من حيث قال". ش: أي قال أهل المقالة الثانية: قد روي في إباحة قول الشعر وإنشاده أحاديث وآثار كثيرة، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمر. أخرجه بإسناد صحيح، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وهذا الحديث فيه دلالة صريحة علي إباحة إنشاد الشعر وروايته وسماعه، ألا تري كيف قال -عليه السلام-: "يا أبا بكر، كيف قال حسان بن ثابت؟ " ثم أنشد أبو بكر - رضي الله عنه - ما قاله حسان، في قوله: عَدِمْتُ بنيتي. . . . إلى آخره. وهذان البيتان من قصيدة ساقها كلها مسلم في "صحيحه" (¬1): ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: أخبرني أبي، عن جدي، قال: حدثني خالد بن يزيد، قال: حدثني سعيد بن أبي هلال، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق بالنبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1935 رقم 249).

قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بِذَنَبِه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأقرينهم بلساني قري الأديم، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تعمل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا يُلَخِّص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلَّنك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فسمعت رسول الله -عليه السلام- يقول لحسان: إن رُوح القدس لا تزال تؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: هجاهم حسان فشفي واستشفى، قال حسان: هجوت محمدًا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاءُ هجوت مباركًا برًّا حنيفًا ... رسول الله شيمته الوفاءُ فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاءُ ثكلتُ بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء ينازعن الأعنة مصعداتٍ ... علي أكتافها الأسُل الظماءُ تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يومٍ ... يعز الله فيه من يشاءُ وقال الله قد أرسلت عبدًا ... يقول الحق ليس به خفاءُ وقال الله قد أرسلت جندًا ... هم الأنصار عزمتها مضاءُ لنا في كل يوم من معد ... سباتٌ أو قتالٌ أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس لنا كفاء

وهذه القصيدة من بحر الوافر، وأصله مفاعلتن ست مرات، وله عروضان وثلاثة أضرب: الأولى: مقطوفة: ولها ضرب واحد مثلها. والثانية: مجزوة: ولها ضربان، أحدهما مجزوء مثلها والآخر معصوب، والقصيدة من العروض الأولى التي لها ضرب واحد فافهم، فإنه لا يخفي عليك أن اطلعت في علم العروض، وتقطيع البيت الأول هكذا: هجوت محم/ مدًا فأجب/ ت عنه ... وعند اللا/ـه في ذاك الـ/ جزاء مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعول ... مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعول وفيه العصب والقطف "العصب" بالمهملتين هو تسكين الخامس المتحرك فيبقي مفاعللِن بسكون اللام فينقل إلي مفاعِلِن، و"القطف": الحذف بعد العصب حتي يصير مفاعل فيرد إلى فعولن. قوله: "هجوت مباركًا برًّا" وفي بعض الروايات: هجوت محمدًا برًّا، والبرُّ: الصادق. قوله: "حنيفًا" أي: مائلًا عن الأديان إلى دين الإِسلام. قوله: "شيمته" بكسر الشين المعجمة أي: خُلُقُه. قوله: "وقاء" بكسر الواو وفتحها، وهو ما وقيت به شيئًا، من وَقَي يَقِي، يقال: وقاه الله وقاية -بالكسر- أي: حفظه. قوله: "ثكلت بنيتي" من الثكل، وهو فقدان المرأة وَلَدَها، وكذلك الثكَل بالتحريك، وامرأة ثاكل وثكلي، وثكلته أمه ثكلًا، وأثكله الله أمه. وفي رواية الطحاوي: "عَدِمْتُ بنيتي" ومعناهما واحد. والبنية: تصغير بنت. قوله: "إن لم تروها" وهي الخيول. "تثير النقع"، أي الغبار، وإثارته نشره وإظهاره في الجوِّ.

قوله: "من كنفي كَدَاء" أي من ناحية كداء -وهو بفتح الكاف وبالمد- بأعلي مكة عند المقبرة، ويسمى الناحية المعلى وهنالك المحصب، وليس بمحصب مني، وكان باب بني شيبة بإزاء، وكدا بالقصر والضم مصروفًا، هو بأسفل مكة، وهو بقرب شعب الشافعيين، وابن الزبير عند قُعَيْقِعَان، وهناك موضع آخر يقال له: كُدي مصغر، وإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن، فهو في طريقه، وليس من هذين المقدمين في شيء. ثم اعلم أن هذا البيت إذا قرئ هكذا: تثير النقع من كنفي كداء؛ يكون فيه إقواء وهو من عيوب الشعر. والإقواء هو اختلاف المجري الذي هو حركة الروي بالضم والكسر والفتح؛ وذلك لأن أواخر أبيات القصيدة كلها مرفوع ما خلا قوله: من كنفي كداء، فإنه مجرور بالإضافة، وهذا اختلاف كما ترى، وقد نبه الطحاوي على الصحيح من الرواية بقوله: وأهل العلم بالعربية يَرْوُون البيت الأول علي غير ذلك. . . . إلى آخره، فإنهم يروون هكذا. ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء فإنه علي هذه الرواية تستقيم أبيات القصيدة، ويرتفع الإقواء؛ لارتفاع كداء بالخبرية عن قوله: "موعدها" أي موعد الخيول، أراد موعد دخولها ناحية كداء. قوله: "ينازعن الأعنة" وفي بعض الرويات: "يبارين الأعنة" من المباراة وهي المجاراة والمسابقة، وفي رواية البيهقي في "سننه" (¬1): "تنازعن الأسنة" وهي جمع سنان الرمح، و"الأعنة" جمع عنان الفرس، والضمير في تنازعني يرجع إلى الخيول. قوله: "مشرعات" حال من الضمير الذي في تنازعن، وفي رواية: "مصعدات"، وهي "الصحيحة" ومعناه مقبلات متوجهات نحوكم، يقال صعد إلي فوق صعودًا إذا طلع، وأصعد في الأرض إذا مضي وسار. قوله: "بالخُمر" بضم الخاء المعجمة: جمع خمار المرأة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبري" (10/ 238 رقم 20895).

وقوله: "النساء" مرفوع على أنه فاعل لقوله: "يلطمهن". قوله: "على الأسل الظماء" الأسل: الرماح، وهو في الأصل نبات له أغصان دقاق طوال، والظماء جمع ظامئ وهو العطشان، جعل الرماح عطاشًا إلى ورود الدماء، استعارة فهي إلي ذلك أسرع، كمسارعة العطشان إلى ورود الماء. قوله:"تُظِلُّ جيادنا" أي تقبل وتدنو منكم كأنها ألقت عليكم ظلها، والجياد: الكرام من الخيول، قال الجوهري: جاد الفرس أي صار رائعًا، يَجُودُ جُودَة -بالضم- فهو جواد، للذكر والأنثي، وخيل جياد وأجياد وأجاويد. قوله: "متمطرات" نصب على الحال من جيادنا وهو من تمطر تمطرًا إذا أسرع، وكذا يقال: مَطَرَ الفرس يمْطُر مَطرًا ومُطورًا. قوله: "عرضتها اللقاة" وفي بعض الروايات الصحيحة: عرضتها اللقاء، يقال: فلان عرضة لكذا إذا كان مستعدًّا له متعرضًا له. قوله: "روح القدس" يقال لجبريل -عليه السلام-: روح القدس؛ لأنه خلق في طهارة، لأنه من التقديس وهو التطهير، ومنه: الأرض المقدسة قيل: هي الشام وفلسطين، وسمي بيت المقدس؛ لأنه الموضع الذي يُتَقَدَّس فيه من الذنوب، ومن أسماء الله تعالي: القدوس، وهو الطاهر المنزَّه عن العيوب والنقائص. قوله: "كفاء" بكسر الكاف، يقال: لا كفاء له: أي لا نظير له. ومنه الكفيء وهو النظير، وكذلك الكُفُؤ والكفوء علي وزن فُعُل وفَعُول، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد. ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا يعقوب ابن عبد الرحمن الزهري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة". ش: إسناده صحيح. وعمرو بن خالد بن فروخ الحراني، شيخ البخاري.

والحديث أخرجه غير واحد عن هشام، عن أبيه مرسلًا. فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمة". وقال البزار في "مسنده": ثنا علي بن حرب الموصلي، ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمة". وهذا الحديث رواه غير واحد عن ابن إدريس، وعن غيره عن هشام، عن أبيه مرسلًا، وأسنده يعقوب بن عبد الرحمن، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. قوله: "إن من الشعر حكمة" معناه: إن من الشعر كلامًا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، ويقال: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس، ويروي: إن من الشعر حُكْمًا، والحُكم هو العلم، والفقه، والقضاء بالعدل، وهو مصدر حَكَمَ يَحْكُم، والحكمة أيضًا بمعنى الحكم. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: "قلت لعائشة - رضي الله عنها -: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: نعم، من شعر ابن رواحة، وربما قال هذا البيت: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد". ش: إسناده صحيح. وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا علي بن حجر، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قال: قيل لها: "هل كان النبي -عليه السلام- يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 271 رقم 26006). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 135 رقم 2848).

وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) نحوه عن ابن عباس: ثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يتمثل من الأشعار: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد". وكلام الترمذي يشعر أن هذا البيت لابن رواحة، وإنما البيت لطرفة [بن العبد] (¬2) وقد صرَّح بذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3) وقال: ثنا محمَّد بن الحسن، قال: ثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن معاذ، عن عامر، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا استراب الخبر، يتمثل ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار مَن لم تُزَوِّد". وتمام البيت (¬4): ........ وهو من قصيدة طويلة وأولها هو قوله (¬5): ........ وابن رواحة: هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، من بني الحارث، يكنى أبا محمَّد، ويقال: أبا رواحة، ويقال: أبا عمرو، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله -عليه السلام- إلا الفتح وما بعده، وهو ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 272 رقم 26014). (¬2) بيض له المؤلف، وهو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو البكري الوائلي شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 278 رقم 26060). (¬4) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وتمام البيت هو: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود (¬5) بيض له المؤلف أيضًا وأولها قوله: لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ ببُرْقَةِ ثَهْمَدِ ... تلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليدِ

أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وهو خال النعمان بن بشير، وكان من الشعراء الذين يناضلون عن رسول الله -عليه السلام-، ومن شعره في النبي -عليه السلام-: إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أنْ ما خانني البصر أنت النبي ومَن يحرم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر فثبتَ الله ما آتاك من [حُسْنِ ... تثبيتٍ لموسى] (¬1) نصرًا كالذي نُصِرُوا فقال النبي -عليه السلام-: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة" قال هشام بن عروة: فثبته الله أحسن ثبات، فقتل شهيدًا، وفتحت له أبواب الجنة فدخلها شهيدًا، وكان قتله في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، قال الواقدي: في جمادى الأولى منها، وقال عروة بن الزبير: لما ودع المسلمون عبد الله بن رواحة في خروجه إلى مؤته، ودَعَوْا له ولمن معه من المسلمين أن يردهم الله سالمين، فقال ابن رواحة: لكنني أسألُ الرحمنَ مَغفْرَةً ... وطعنة ذاتِ فَزْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا أو طعنةً بيدَيْ حَرَّانَ مُجهزةً ... بحربةٍ تَنفُدُ الأحشاءَ والكَبِدا حتى يقولوا إذا مرُّوا علي جَدَثي ... يا أرشدَ الله مِنْ غازٍ وقد رَشَدا ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيي بن معين، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "استأذن حسان النبي -عليه السلام- في هجاء المشركين قال: "فكيف تنسبني فيهم؟ قال: أسُلُّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين". ش: إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا محمَّد، ثنا عبدة، أنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ويروى البيت: فثبت الله ما آتاك من حَسَنٍ ... تثبيتَ موسى ونصرًا كالذي نُصِروا (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2278 رقم 5798).

ومسلم أيضًا (¬1): ثنا يحيى بن يحيي، قال: أنا يحيي زكرياء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "قال حسانٌ: يا رسول الله، ائذن لي في أبي سفيان، قال: كيف بقرابتي منه؟ قال: والذي أكرمك لأسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من الخمير، فقال حسان بن ثابت: كأنَّ سنامَ المجدِ من آل هاشمٍ ... بنو ابنةِ مخزومٍ ووالدكَ العَبْدُ ثنا عثمان بن أبي شيبة (¬2) قال: ثنا عبدة، قال: ثنا هشام بن عروة. . . . بهذا الإسناد، وقالت: "استأذن حسان بن ثابت النبي -عليه السلام- في هجاء المشركين" ولم يذكر "أبا سفيان"، وقال بدل "الخمر": "العجين". ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيي بن حسان، قال: ثنا إبراهيم بن سليمان التيمي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال: "كنا جلوسًا بفناء الكعبة -أحسبه قال: مع ناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فكانوا يتناشدون الأشعار، فوقف بنا عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، فقال: في حرم الله وحول كعبة الله تتناشدون الأشعار؟! فقال رجل منهم: يا ابن الزبير، إن رسول الله -عليه السلام- إنما نهى عن الشعر إذا أُبنَتْ فيه النساء، وتُزدرى فيه الأموات". فقد يجوز أن يكون الشعر الذي قال فيه رسول الله -عليه السلام- ما ذكرنا في أول هذا الباب، من الشعر الذي نهى عنه في هذا الحديث. ش: يحيي بن حسان التنيسي شيخ الشافعي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. وإبراهيم بن سليمان بن رزين التيمي أبو إسماعيل المؤدب، قال أحمد ويحيي بن معين: لا بأس به. ومجالد بن سعيد الهمداني، ضعفه يحيي وغيره، وعن النسائي: ثقة. والشعبي هو عامر بن شراحبيل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1934 رقم 2489). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 273 رقم 26018).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): أنا ابن بشران، أنا ابن السماك، ثنا حنبل، ثنا إبراهيم بن نصر، ثنا أبو إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي قال: "كنا نتناشد الأشعار عند الكعبة، فأقبل ابن الزبير إلينا، فقال: أفي حرم الله وعند كعبة الله؟! فأقبل رجل من الأنصار كان معنا من أصحاب النبي -عليه السلام- فقال: يا ابن الزبير إنه ليس بك بأس إن لم تفسد نفسك، إن نبي الله -عليه السلام- إنما نهي عن الشعر إذا أُبِنَتْ فيه النساء، وتذرُّ فيه الأموال". قوله: "كنا جلوسًا" أي جالسين. قوله: "يتناشدون" من النشيد، وهو الشعر المتناشد بين القوم. قوله: "إذا أبِنَتْ فيه النساء" من أَبِنَه يأْبِنُه إذا رماه بخلة سوء، فهو مأبون. قوله: "تُزدري فيه الأموات" أي تنتقص وتعاب فيه الأموات والازدراء: الاحتقار والانتقاص. وفي رواية البيهقي: "تذر فيه الأموال" أي تفرق فيه الأموال. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا قيس قال: ثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبِيدَة، عن عبد اللهَ. وعن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللهَ قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن من الشعر حكمًا". ش: هذان إسنادان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيي بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي، فيه مقال، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عَبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن عمرو السلماني -عن عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبري" (10/ 243 رقم 20930).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا طلق بن غنام، عن قيس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمًا وإن من البيان سحرًا". الثاني: عن إبراهيم، عن الحماني، عن قيس، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن عبد الله. وأخرجه الترمذي (¬2) من غير هذا الوجه: ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا يحيي بن عبد الملك بن أبي غنية، قال: حدثني أبي، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن من الشعر حكمة". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، إنما رفعه أبو سعيد الأشج، عن ابن أبي غنية، وروى غيره عن ابن أبي غنية هذا الحديث موقوفًا، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن عبد الله بن مسعود، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "حِكمًا" أي حكمة، وقد فسرناه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أُبي بن كعب، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث. حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا إبراهيم بن سعد. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 272 رقم 26011). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 137 رقم 2844).

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني -أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وهو يروي عن مروان بن الحكم بن أبي العاص، ولد بعد الهجرة بسنتين ولم يصح له سماع من النبي -عليه السلام- ولا رآه، وهو يروي عن عبد الرحمن بن الأسود بن [عبد] (¬1) يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، أدرك النبي -عليه السلام- ولا تصح له رؤية ولا صحبة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن، أن مروان بن الحكم أخبره، أن عبد الرحمن بن الأسود ابن عبد يغوث أخبره، أن أبي بن كعب أخبره، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمة". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن عمر بن مطرف بن أبي الوزير الهاشمي المكي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن. . . . إلى آخره نحوه، غير أنه قال في هذه الرواية: عن عبد الله بن الأسود عوض عبد الرحمن بن الأسود، قال ابن حبان: ومن قال عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث فقد وهم، قاله إبراهيم بن سعد. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3) نحوه: ثنا عبد الرحمن بن مهدي وأبو كامل، ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وهي مثبتة في المتن، ومصادر الترجمة. (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2276 رقم 5793). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 125 رقم 21193).

قالا: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري -قال أبو كامل في حديثه: ثنا ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان بن الحكم، عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من الشعر حكمة". قال عبد الرحمن: هكذا يقول إبراهيم بن سعد في حديثه: عبد الله بن الأسود، وإنما هو عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث. الثالث: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إبراهيم بن سعد الزهري، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلي آخره، فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال في روايته: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث. وأخرجه أبو داود (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري. . . إلى آخره نحوه. وفيه: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا ابن فضيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من يحمي أعراض المسلمين؟ قال كعب: أنا، قال ابن رواحة: أنا، قال: إنك لتحسن الشعر، قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه -: إنا إذًا، قال: اهجهم؛ فإنه سيعينك عليهم روح القدس". ش: رجاله ثقات، غير أن مجالد بن سعيد فيه مقال. وابن فضيل: هو محمَّد بن فضيل الضبي. وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا محمَّد بن فضيل، نا مجالد، عن عامر، عن جابر قال: "قال رسول الله -عليه السلام- لحسان: اهجهم -أو هاجهم- اللهم أيده بروح القدس". وهذا الحديث لا نعلم رواه عن مجالد إلا محمَّد بن فضيل. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 303 رقم 5010).

وأخرجه ابن أبي شيبه في "مصنفه" (¬1) مرسلًا: ثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اهج المشركين؛ فإن روح القدس معك". قوله: "قال كعب" هو كعب بن مالك بن أبي كعب السلمي المدني الشاعر، صاحب النبي -عليه السلام-، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم وأنزل فيهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (¬2)، وهو أحد السبعين الذي شهدوا العقبة. قوله: "قال ابن رواحة" هو عبد الله بن رواحة، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: "روح القدس" أراد به جبريل -عليه السلام-. ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله -عليه السلام- وضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر". ش: ابن أبي عمران هو أحمد بن موسى، الفقيه البغدادي، أحد أصحاب أبي حنيفة. وأبو إبراهيم اسمه إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، قال يحيي وأبو داود: لا بأس به. والترجماني -بفتح التاء المثناة من فوق وضمها- نسبة إلى الترجمان أحد أجداده. وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، فيه مقال؛ فعن يحيي: لا يحتج بحديثه. وأبو الزناد -بالنون- اسمه عبد الله بن ذكوان. والحديث أخرجه أبو داود (¬3): ثنا محمَّد بن سليمان المصيصي لُوَيْن، قال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 273 رقم 26020). (¬2) سورة التوبة، آية: [118]. (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 304 رقم 5015).

قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يضع لحسان منبرًا في المسجد فيقوم عليه يهجو مَنْ قال في رسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن روح القدس مع حسان، ما نافَحَ عن رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر -المعنى واحد- قالا: نا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- يضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد يقوم عليه، قائمًا يفاخر عن رسول الله -عليه السلام- أو قال: ينافح عن رسول الله -عليه السلام-، ويقول رسول الله -عليه السلام-: إن الله تبارك وتعالي يؤيد حسان بن ثابت بروح القدس ما يفاخر -أو ينافح- عن رسول الله -عليه السلام-". وهذا كما ترى عن ابن أبي الزناد، عن هشام، وليس بينه وبين هشام ذكر أبيه كما في رواية الطحاوي، وفي رواية أبي داود: عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، وقد ذكرناه. وكذا أخرجه الترمذي (¬2) أيضًا من طريق آخر؛ ثنا إسماعيل وعلي بن حجر، قالا: نا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد. وأخرجه البخاري أيضًا. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حميد، قال: ثنا محمَّد بن فضيل. . . . فذكر مثل حديث ابن أبي داود -الذي قبل هذا الحديث- عن ابن نمير، عن ابن فضيل. ش: هذا طريق آخر في حديث جابر المذكور آنفًا، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن حميد الطريْثيثي الكوفي شيخ البخاري، عن محمَّد بن فضيل الضبي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن جابر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 138 رقم 2846). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 138 رقم 2846).

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج وعبد الله بن وهب، قالوا: ثنا شعبة، قال: أخبرني عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء - رضي الله عنه -، يقول: "سمعت رسول الله -عليه السلام-[يقول] (¬1) لحسان: اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عيسى بن عبد الرحمن، قال: حدثني عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء بن عازب، قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول لحسان بن ثابت: لا تزال معك روح القدس ما هجوت المشركين". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا سليمان بن حرب، نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء: "أن النبي -عليه السلام- قال لحسان: اهجهم -أو قال: هاجهم- وجبريل معك". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال وعبد الله بن رجاء كلاهما عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: ثنا شعبة. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، عن عدي بن ثابت، عن البراء. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2279 رقم 5801). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1933 رقم 2486).

وأخرجه أحمد (¬1): ثنا أبو معاوية، ثنا الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء ابن عازب قال: "قال رسول الله -عليه السلام- لحسان بن ثابت: اهج المشركين؛ فإن جبريل معك". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، مرَّ علي حسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله -عليه السلام- , فانتهره عمر - رضي الله عنه -، فأقبل عليه حسان، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانطلق عنه عمر - رضي الله عنه -، فقال حسان لأبي هريرة: يا أبا هريرة، أما سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله -عليه السلام-، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم نعم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا عبد الأعلي، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عدي بن ثابت. . . . ثم ذكره مثله، غير قوله: "قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك" فإنه لم يذكره. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وهذا كما تري مرسل. وكذا أخرجه النسائي (¬2)، وأبو داود (¬3) في رواية عن ابن المسيب مرسلًا، وفي رواية أخرى (¬4) أخرجه عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. وكذا أخرجه مسلم (¬5): ثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 286 رقم 18549). (¬2) "المجتبى" (2/ 48 رقم 716). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 303 رقم 5013). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 303 رقم 5014). (¬5) "صحيح مسلم" (4/ 1932 رقم 2485).

كلهم عن سفيان -قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة- عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: "أن عمر - رضي الله عنه -، مرّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلي أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم نعم". وأخرجه البخاري (¬1) أيضًا نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء ابن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن عبد الأعلي بن عبد الأعلي، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام. . . . إلي آخره. وأخرجه عبد الرزاق (¬2) عن معمر نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهرى، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سمع حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يستشهد أبا هريرة - رضي الله عنه -. . . . فذكر مثله. ش: إسناده صحيح. وأبو اليمان الحكم بن نافع، شيخ البخاري. وشعيب هو ابن أبي حمزة. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أنا [أبو] (¬4) اليمان، قال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1176 رقم 3040). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (1/ 439 رقم 1716). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1933 رقم 2485). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سمع حسان ابن ثابت الأنصاري يقول لأبي هريرة: أنشدك الله، أسمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله -عليه السلام-، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة القرشي، قال: حدثني جدي عنبسة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن الأسود بن سريع -وكان شاعرًا- أنه قال: "يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال له النبي -عليه السلام-: أما إن ربك يحب الحمد، وما استزاده علي ذلك شيئًا". حدثنا محمَّد بن خزيمة قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الأسود بن سريع. . . . مثله، غير أنه قال: "فجعلت أنشده". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن عبد الواحد، عن جده عنبسة بن عبد الواحد بن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، وثقه يحيى وغيره. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬1): ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا محمَّد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عامر بن صالح، ثنا يونس، عن الحسن، عن الأسود بن سريع قال: "قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال: أما إن ربك يحب الحمد، وما استزادني". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة -واسم أبي بكرة نفيع بن الحارث، صحابي، عن الأسود بن سريع. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 283 رقم 824).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا حماد بن سملة، أنا علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الأسود بن سريع قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، إني قد حمدت الله ربي بمحامد، قال: هات ما حمدت به ربك، قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل أدلم فاستأذن، قال: فقال النبي -عليه السلام-: بين بين، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، قال: قلت: يا رسول الله من هذا الذي استنصتني له، قال: هذا عمر بن الخطاب، هذا رجل لا يحب الباطل". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مسهر، قال: حدثني عبد الرحمن بن محمَّد بن أبي الرجال، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة [قالت] (¬2): "قال عبد الله بن رواحة فأحسن، ثم قال كعب فأحسن، ثم قال حسان فشفي واستشفى". ش: أبو مسهر عبد الأعلي بن مسهر الغساني، شيخ البخاري في غير الصحيح، ثقة ثبت. وعبد الرحمن بن محمَّد بن أبي الرجال الأنصاري المدني، وثقه يحيى القطان وأحمد. وعبد الرحمن بن أبي الزناد، فيه مقال. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: "صَدّق رسول الله -عليه السلام- أمية بن أبي الصلت في شعره وقال: رجلٌ وثَورٌ تحت رِجْلِ يَمينِه ... والنَّسْرُ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ فقال رسول الله -عليه السلام-: صدق. قال: والشمسُ تَطْلُعُ كل آخر ليلةٍ ... حتى الصباحِ ولونُها يَتَوَرَّدُ ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 435 رقم). (¬2) تكررت في "الأصل".

فقال النبي -عليه السلام-: صدق. فقال: تَأْبَي فما تطلعْ لنا في رِسْلِها ... إلا مُعذَّبةً وإلَّا تُجْلَدُ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق". ش: إسناده صحيح. ويعقوب [بن] (¬1) عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي المدني، وثقه أبو حاتم والدارقطني. وأخرجه الدارمي في "سننه" (¬2): أنا محمَّد بن عيسى، ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "صَدَق أمية بن أبي الصلت في بيتين من شعره، فقال: رجلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْلِ يمينِهِ ... والنَسْرُ للأخرى وليث مرصدُ . . . . إلى آخره، مثل رواية الطحاوي. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3). وأمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن غِيَرَة بن ثقيف أبو عثمان، ويقال: أبو الحكم الثقفي، شاعر جاهلي، قال ابن عساكر: قدم دمشق قبل الإِسلام وقيل: إنه كان صالحًا، وأنه كان في أول أمره على الإيمان , ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراد الله بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (¬4) الآية. وذكر السهيلي أن أمية بن أبي الصلت أول من قال: بسمك اللهم وذكر فيه قصة غريبة ذكرناها في تاريخنا (¬5). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف. (¬2) "سنن الدارمي" (2/ 383 رقم 2703). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 256 رقم 2314). (¬4) سورة الأعراف، آية: [175]. (¬5) "تاريخ ابن عساكر" (9/ 255).

قوله: "رجل وثور. . . ." إلي آخره، من بحر الكامل وأصله في الدائرة متفاعلن ست مرات، وأشار بذلك إلي حملة العرش وهم أربعة: أحدهم في صورة بني آدم، أشار إليه بقوله: "رجل"، والثاني: في صورة ثور أشار إليه بقوله: "وثور"، والثالث: في صورة النسر، أشار إليه بقوله: "والنسر للأخرى"، والرابع: في صورة الأسد أشار إليه بقوله: "وليث مرصد"، فلأجل ذلك صدقه النبي -عليه السلام-. قوله: "رجل" مبتدأ ويجوز لوقوعه مبتدأ كونه معطوفًا عليه؛ لأن قوله: وثور عطف عليه، وقد ذكرت النحاة أن العطف من مجوزات وقوع المبتدأ نكرة، والخبر قوله: "تحت رجل يمينه" أي يمين العرش، أراد: وملكٌ في صورة رجل، وآخر في صورة ثور تحت قائمتي العرش من اليمين، وملكٌ آخر في صورة النسر، وآخر في صورة الليث تحت قائمته من اليسار، فقوائمه الأربعة علي كواهل الأربعة من الملائكة بهذه الصورة. قوله: "والنسر للأخرى" جملة من المبتدأ والخبر أي للِّرجْل الأخرى، أراد بها القائمة الأخري من اليسار. قوله: "وليث" عطف علي ما قبله. وقوله: "مرصد" صفة من أرصد إذا أُعِدَّ للترقب. قوله: "يتورد" أي يحمر ويصير مثل الورد الأحمر. قوله: "تأبى" أي تمتنع من الطلوع والعود إلى الدنيا, ولا تطلع إلا بنخس من الملائكة، وهذا صحيح؛ فلذلك صدقه النبي -عليه السلام-، والدليل علي ذلك ما رواه ابن عساكر في حديثه الطويل بإسناده إلى ابن عباس أنه قال: "إن الشمس لا تطلع حتى يتنخسها سبعون ألف ملك، يقولون: اطلعي اطلعي، فتقول: لا أطلع علي قوم يعبدونني من دون الله، فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه، فإذا تضيفت للغروب غربت على السجود، فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود، فتغرب بين عينيه وتحرقه".

وقد أشار أمية بن أبي الصلت إلى هذا المعنى بقوله: "تأبي فما تطلع لنا في رسلها" أي في فورها إلا معذبةَ من جهة الملائكة. قوله: "فما تطلع" بالجزم للضرورة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو معشر البراء، عن صدقة بن طيلسة، قال: حدثني معن بن ثعلبة، قال: حدثني أعشى المازني، قال: أتيت النبي -عليه السلام- فأنشدته: يا مالكَ النَّاسِ وديَّانَ العربْ ... إني لَقِيتُ ذربة من الذَّرَبْ كالذئبة العَمْساء في ظل السَّرَبْ ... خرجتُ أبْغيها الطعامَ في رجبْ فخَلَّفَتْني بنِزاعٍ وهَرَب ... أخْلَفَتِ الوَعْد ولَطَّتْ بالذَّنَبْ وقَذَفتني بين عَصْرِ ونَشَب ... وهنَّ شرٌّ غالبٌ إن غَلَبْ قال: فجعل رسول الله -عليه السلام- يقول: وهن شر غالب لمن غلب". ش: إسناده صحيح. والمقدمي هو محمَّد بن أبي بكر بن علي بن مقدم، شيخ البخاري، وأبو معشر البراء: اسمه يوسف بن يزيد بن العطار البصري، كان يبري النبل، وقيل: كان يُبْري العود، روي له البخاري ومسلم. وصدقة بن طيلسة، وثقه ابن حبان. ومعن بن ثعلبة المازني ذكره ابن حبان في التابعين الثقات. وأعشى المازني الصحابي اسمه عبد الله بن الأعور، من بني مازن بن عمرو بن تميم، سكن البصرة. والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا المقدمي، ثنا أبو معشر يوسف بن ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلي" (12/ 289 رقم 6871).

يزيد، حدثني صدقة بن طيلسة، حدثني معن بن ثعلبة المازني، حدثني الأعشى المازني أنه قال: "أتيت النبي -عليه السلام- فأنشدته. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬1) من طريق المقدمي نحوه. ثم قال: وقال إبراهيم بن عرعرة: ثنا أبو معشر البراء يوسف بن يزيد، ثنا طيلسة المازني، حدثني أبي والحيّ، عن أعشي بن ماعز بنحوٍ منه. وقال غيره: طيلسة بن صدقة. قوله: "يا مالك الناس. . . ." إلي آخره، من بحر الرجز، وأصله في الدائرة مستفعلن ست مرات، وفي بعض الروايات: "يا سيد الناس". قوله: "وديَّان العرب", يعني يا مالكها وسايسها، قال الحُطيئة: لقد دينت أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين يعني ملكت، ويروي: سُوِّست. قوله: "إنى لقيت ذربة"، وفي بعض الرويات: إليك أشكو ذربةً من الذرب أي امرأة ذربة -بكسر الذال المعجمة وسكون الراء- وهو الفحش في اللسان، وقال ابن الأثير: كنى الأعشي عن فساد امرأته وخيانتها بالذربة، وأصله من ذَرَبِ المعدة وهو فسادها، وذِرْبَة منقولة من ذَرِبَة كمِعْدَة من مَعِدَة. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها، من قولهم: ذرب لسانه إذا كان حاد اللسان لا يبالي ما قال. قوله: "كالذئبة العساء"، أي الشديدة، الجريئة. "في ظل السرَب", والسَّرَب -بفتح السين والراء المهملتين وفي آخره باء موحدة- وهو البيت في الأرض. قوله: "خرجت أبغي الطعام"، أي أبغي لها الطعام، أي أطلب. قوله: "فخلفتني"، أي تركتني. "بنزاع" أي خصومة. "وهرب" أي فرار. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 240 رقم 20904).

قوله: "ولطت بالذنب"، أراد أنها سارت في الأرض مسرعة وملازمة بذنبها وهو كناية عن توليها وجَعْلِها ورائها إليه، يقال: لط بالأمر يلط لطًّا إذا لزمه، وهو بالطاء المهملة، وكذلك ألظ بالشيء يلظ إلظاظًا، وهو بالظاء المعجمة، وقال ابن الأثير: أراد توارت واختفت بتخفيها عنه، كما تخفي الناقة فرجَها بذَنَبِها. قوله: "وقذفتني" أي: رمتني. "بين عصر ونشب"، أراد بالعصر الشدة، والنشب -بفتح النون والشين المعجمة- من نَشِب بعضهم ببعض أي تعلق، وسبب هذه الأبيات أن الأعشي كانت عنده امرأة اسمها معاذة، فخرج يمير أهله من هَجَر، ففرت امرأته بعده ناشزًا عليه، فعاذت برجل يقال له: مطرف بن هصل، فلما قدم الأعشي لم يجدها في بيته، وأُخْبِر أنها نشزت عليه، وأنها عاذت بمطرف، فأتاه فقال له: عندك امرأتي فادفعها إليّ، قال: ليست عندي ولو كانت عندي لم أدفعها إليك، وكان مطرف أَعزَّ منه، فسَار إلى النبي -عليه السلام- فعاذبه وقال الأبيات، وشكى إليه امرأته وما صنعت، وأنها عند مطرف، فكتب النبي -عليه السلام- إلى مطرف: انظر امرأة هذا معاذة، فادفعها إليه، فأتاه كتاب النبي -عليه السلام-، فقُرِئَ عليه، فقال: يا معاذة هذا كتاب النبي فيك، وأنا دافعك إليه، قالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي -عليه السلام- أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها إليه، فأنشأ يقول: لعمركَ ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قِدم العهد ولا سوء ما جاءت به إذْ أزلَّهاَ ... غواة الرجال إذا ينادونها بعدي ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن من الشعر حكمًا". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: أنا أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "جاء أعرابي إلى النبي -عليه السلام- فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حُكمًا". وقد مرّ تفسير الحكم وهو بمعني العلم والفقه والقضاء بالعدل. ص: حدثنا أبو بشر الرقي؛ قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: "استنشدني النبي -عليه السلام- شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فكلما أنشدت بيتًا قال: هيه حتى أنشدته مائة قافية، قال: كاد ابن الصلت يسلم". ش: أبو بشر: عبد الملك بن مروان الرقي. والفريابي: هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري. وسفيان هو الثوري. وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الطائفي أبو يعلى، قال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث. وقال ابن معين: صالح. روى له النسائي، ومسلم في المتابعات. وعمرو بن الشريد روى له الجماعة. وأبوه: شريد بن سويد الثقفي الصحابي. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني زهير بن حرب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "هيه" يعني إيه، فأبدل من الهمزة هاء، وإيه اسم سمي به الفعل، ومعناه الأمر، يقول للرجل: إيه بغير تنوين إذا استزدته من الحديث المعهود بينكما، فإن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 303 رقم 5011). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1767 رقم 2255).

نونت استزدته من حديث ما غير معهود؛ لأن التنوين للتكثير، فإذا أسكته وكففته قلت: إيهًا بالنصب. قوله: "مائة قافية" أي مائة بيت مقفي. قوله: "كاد ابن أبي الصلت يُسْلِمُ" أي قرب إسلامه بهذه الأبيات، وقد عُلِمَ أن "كاد" من أفعال المقاربة، وخبره في الغالب يكون فعلًا مضارعًا مجردًا من "أن" كما في قوله تعالي: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬1) و {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} (¬2) , و {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} (¬3)، وخبره هاهنا قوله: يُسْلِم، وقد يجيء بـ "أن" نثرًا ونظمًا، فمن النثر: قول عمر - رضي الله عنه -: "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب" وقول أنس بن مالك: "فما كدنا أن نصل إلى مباركنا"، وقول جبير بن مطعم: "كاد قلبي أن يطير"، ومن النظم قول الشاعر: فما اجتمع الهلباخ في بطن حرة ... مع التمر إلا كاد أن يتكلما الهلباخ: اللبن الخاثر. ص: حدثنا محمَّد بن داود، قال: ثنا معلي بن عبد الرحمن الواسطي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال الأقرع بن حابس لشباب من شبابهم: "قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فقال: نحن الكرام فُلا حيٌّ يعادلنَا ... نحنُ الكرامُ وفينا يُقسمُ الرُّبُعُ ونَطْعِمُ النَّاس عِنْدَ القَحْطِ كُلَّهُمُ ... من السديف إذا لم يؤنس القَزَعُ فإذا أَبينَا فلا يعدل بنا أحد ... إنا كرامٌ وعندَ الفَخْرِ نَرْتَفِعُ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [71]. (¬2) سورة النساء، آية: [78]. (¬3) سورة التوبة، آية: [117].

قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا حسان أجبه فقال: نَصَرْنَا رسولَ الله والدينَ عَنْوَةً ... علي رغم عاتٍ من معدٍ وحَاصِرٍ بضَرْبٍ كإيزاع المخاض مُشَاشُهُ ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر ألسنا نخوض الموتَ في حومةِ الوغَى ... إذا صار بَرْدُ الموت بين العَسَاكِرِ ونَضْربُ هَامَ الدَّارعِينَ ونَنتمِي ... إلى حَسَبٍ من جِزْمِ غسان بَاهِرِ ولولا حَبِيبُ الله قلنا تَكَرُّمًا ... على الناس بالحيَّينِ هلْ مِنْ مُفَاخِرِ فأحياؤنا مِنْ خَيِرِ مَنْ وَطِئَ الحَصَى ... وأمواتُنَا مِنْ خَيِرْ أهلِ المقَابرِ ش: معلي بن عبد الرحمن الواسطي، قال ابن المديني: ضعيف الحديث. وذهب إلى أنه كان يضع الحديث. وعبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري أبو حفص المدني، قال أحمد: ثقة، ليس به بأس. وعن يحيى: ثقة وكان يرى القدر. روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. وعمر بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري أبو حفص المدني، واستشهد به البخاري، وروى له الباقون سوي ابن ماجه، وأخرج هذا أصحاب السير. قوله: "نحن الكرام. ." إلى آخره من بحر البسيط، وأصله في الدائرة مستفعلن فاعلن ثمان مرات. والكرام جمع كريم. قوله: "يعادلنا" أي يساوينا ويقاربنا. قوله: "يقسم الرُبْع" بضم الراء والباء، أراد به رُبُع الغنيمة، وهو واحد من أربعة، يقال: رُبعُ ورُبعْ، بتسكين الباء وضمها. قوله: "من السديف" أراد به شحم السنام، وقال الجوهري: والسديف: السنام، ومنه قول الشاعر: إذا ما الخَصِيفُ العوبَثَانِي سَاءَنا ... تَرَكنَاهُ واخْتَرْنَا السَّدِيفَ المُسَرْهَدَا

ومادته: سين ودال -مهملتان- وفاء. قوله: "إذا لم يؤنس القَزَع" بالقاف والزاي المعجمة المفتوحتين، وهو السحاب، والمعنى: نطعم الشحم في المَحِلّ. قوله: "فلا يعدل" بالجزم لأجل الوزن. قوله: "نصرنا رسول الله. . . ." إلى آخره. من بحر الطويل، وأصله في الدائرة: فعولن مفاعيلن، ثمان مرات. قوله: "عنوة" أي قهرًا وغلبة، من عَنَي يَعْنوُا: إذا ذَلَّ وخَضَعَ، والعنوة: المرة منه، كأن المأخوذ بها يخضع ويذل، وانتصابها علي أنها صفة لمصدر محذوف أي نَصَرْنَا نَصْرًا عنوة، أي: نصرًا قاهرًا للمشركين، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير الذي في "نَصَرْنَا" والمعنى: نصرنا قاهرين غالبين عليهم، والمصدر مستغنٍ عن التثنية والجمع. قوله: "علي رغم عاتٍ" أي علي ذل عاتٍ وقهره، يقال: رَغِمَ يَرْغَمُ ورَغَمَ يَرْغِمُ -من باب علم يعلم، وضرب يضرب رَغْمًا ورِغْمًا ورَغِمًا، وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في العجز والذل، والانقياد على كره. و"العاتي" من عَتَى يَعْتُو عتوًا فهو عاتٍ، وهو التجبر والتكبر، وفي بعض الروايات: علي رغم باد من معدٍ وحاضرٍ، وهذه هي الأصح؛ لأن الباد هو اللائق بالذكر في مقابلة الحاضر، وأراد بالمعد: معد بن عدنان وهو أبو العرب، وأراد بالباد: الذي يسكن البادية وهم أهل الوبر، وبالحاضر: الذي يسكن المدن والقري، وهم أهل المدر، ولا شك أن النبي -عليه السلام- انتصر على العرب كلهم من أهل البادية والحضر جميعًا. قوله: "بِضَرْتٍ". متعلق بقوله: نصرنا. قوله: "كإيزاع المخاض مُشَاشة" ذكر الإيزاع وأرد به التوزيع وهو التفريق، والمعني كتفريق المخاض مشاشة أي بولد، والمُشَاش -بضم الميم وبالشينين

المعجمتين: البول، والمخاض اسم للنوق الحوامل، واحدتها خَلِفَةً من غير لفظه، وبنت المخاض وابن المخاض ما دخل في السنة الثانية؛ لأن أمه [لحقت] (¬1) بالمخاض أي الحوامل وإن لم تكن حاملًا، وفي بعض الرواية: "كإيزاغ المخاض" بالغين المعجمة، وهو أيضًا بمعنى الإيزاع بالمهملة، وثلاثته وَزِعَ يَزَعُ وَزْعًا، والإيزاع أصله الأَوْزاغ، قلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو مصدر مضاف إلي فاعله، ومشاشة مفعوله؛ والضمير فيه يرجع إلى المخاض. وقوله: "وطعن" عطف علي قوله: و"ضرب" الضرب بالسيوف وما أشبهها، والطعن بالرماح وما أشبهها. قوله: "كأفواه اللقاح الصوادر" اللقاح -بكسر اللام: ذوات الألبان، الواحدة لقوح، و"الصوادر" جمع صادرة، وهي التي تصدر عن الماء ريّا، فلا تحتاج إلي المقام لأجل الماء، وشبه الضرب بإيزاع الإبل عن الماء بالطعن بأفواهها حتى تصدر؛ لأنه أراد الضرب بالمتابعة في زمن طويل كبول الإبل، فإنه يبول شيئًا فشيئًا ويمده زمانًا، وأراد بالطعن الواسع فيه؛ لأنه هو المهلك، شبه بأفواه الإبل الصوادر؛ لأنها حينئذ تفتح فاها بخلاف وقت الإيراد. قوله: "في حومة الوَغَي" أي في معظم القتال، وكذلك حومة الماء والرمل وغيرهما: معظمها، و"الوغي" بالغين المعجمة: الحرب، والوغي في الأصل مثل الوعي بالمهملة، ومنه قيل: الحرب وغي؛ لما فيه من الضرب والجلبة. قوله: "ونضرب هام الدارعين" الهام جمع هامة، وهي الرأس، والدراعين جمع دارع وهو الذي عليه الدرع، وهو الزَّرَدِيَّةَ. قوله: "وننتمي" أي ننتسب "إلي حسب" وهو الشرف في الآباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم، وقيل: إن الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف، والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "لحق"، والمثبت من "النهاية" (4/ 306).

قوله: "من جِذم غسان" جِذم الشيء بالكسر أصله، وغسان اسم قبيلة، قال الجوهري: غسان: اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، منهم بنو حنيفة رهط الملوك. قوله: "باهر" صفة للجذم، أي ظاهر، يقال: بهرت الشمس الأرض: أتي عليها نورها وضوءها، وفي بعض الرواية: "قاهر" من القهر وهو من الغلبة، والأول أصح. ص: فلما جاءت هذه الآثار متواترة بإباحة قول الشعر ثبت بأن ما نهي عنه في الآثار الأُوَل ليس لأن الشعر مكروه، ولكن لمعنى كان في خاصٍّ من الشعر قصد بذلك النهي إليه. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي ذكرها، وأراد بالتواتر التكاثر لا التواتر المصطلح عليه، وأراد بالآثار الأُوَل: الأحاديث التي ذكرها في أول الباب التي احتجت بها أهل المقالة الأولى. قوله: "قصُدِ بذلك" أي بالمعنى الذي كان في خاصٍّ من الشعر، وقوله: "النهيُ" بالرفع مسندٌ إلى قوله: قُصِدَ. قوله: "إليه" أي إلى المعنى المذكور. ص: وقد ذهب قوم في تأويل هذه الآثار التي ذكرناها عن رسول الله -عليه السلام- في أول هذا الباب إلي خلاف التأويل الذي وصفنا، فقالوا: لو كان أريد بذلك ما هُجِي به رسول الله -عليه السلام- من الشعر لم يكن لذكر الامتلاء معني؛ لأن قليل ذلك وكثيره كفر، ولكن ذكر الامتلاء يدل علي معنى في الامتلاء ليس فيما دونه، قالوا: فهو عندنا على الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره، فأما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك فليس ممن امتلأ جوفه شعرًا؛ فهو خارج من قول رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خيرًا من أن يمتلئ شعرًا". حدثنا ابن أبي عمران، قال: سمعت عبيد الله بن محمد بن عائشة يفسر هذا الحديث علي هذا التفسير.

وسمعت ابن أبي عمران أيضًا وعلي بن عبد العزيز يذكران ذلك عن أبي عبيد أيضًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبيد الله بن محمَّد البصري شيخ أبي داود وغيره، وأبا عبيد القاسم بن سلام ومن تبعهما في هذه المقالة؛ وباقي الكلام ظاهر. وابن أبي عمران أحمد بن موسى الفقيه البغدادي، أحد الأئمة الحنفية. وعلي بن عبد العزيز البغدادي الحافظ صاحب "المسند" والتصانيف. وأبو عبيد هو القاسم بن سلام صاحب التصانيف أيضًا. والله أعلم.

ص: باب: العاطس يشمت كيف ينبغي أن يرد على من يشمته

ص: باب: العاطس يشمت كيف ينبغي أن يرد على من يشمته ش: أي هذا باب في بيان حكم العاطس إذا شمته المشمت، كيف ينبغي أن يرد عليه، التشميت -بالشين والسين- الدعاء بالخير والبركة والمعجمة أعلاهما يقال: شَمَّتَ فلانًا، وشَمَّتَ عليه تَشْمِيتًا فهو مُشَمِّت، واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم كأنه دعاء للعاطس بالثبات علي طاعة الله، وقيل معناه: أبعدك الله عن الشماتة وجنبك ما يُشْمَتُ به عليك. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا ورقاء، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن خالد بن عرفجة قال: "كنا مع سالم بن عبيد، فعطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أمك، ما شأن السلام وشأن ما هاهنا؟! ثم سار ساعة ثم قال للرجل: أَعَظُمَ عليك ما قلت لك؟ قال: وددت أنك لم تذكر أمي بخير ولا غيره، قال: بينما نحن مع رسول الله -عليه السلام- إذْ عطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله -عليه السلام-: عليك وعلي أمك، إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين -أو على كل حال- وليردوا عليه: يرحمك الله، وليرد عليهم: يغفر الله لكم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن شيخ من أشجع قال: "كنا مع سالم. . . ." فذكر مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن ورقاء بن عمر اليشكري الكوفي، قال أحمد: ثقة صاحب سنة. روى له الجماعة. عن منصور بن المعتمر، روى له الجماعة.

عن هلال بن يساف -ويقال: إساف- الأشجعي الكوفي، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. روي له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. عن خالد بن عرفجة -ويقال: عرفطة- تابعي لا يعرف، وقال أبو حاتم: مجهول. روى له أبو داود هذا الحديث وفي روايته أيضًا: خالد بن عرفجة نحو روايته الطحاوي علي ما يأتي الآن. وهو يروي عن سالم بن عبيد الأشجعي، كان من أهل الصُّفة، يُعد في الكوفيين. وقال أبو داود (¬1): ثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق -يعني- أبي يوسف، عن أبي بشر ورقاء، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن خالد بن عرفجة، عن سالم بن عبيد الأشجعي. . . . بهذا الحديث عن النبي -عليه السلام-. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن قيس بن الربيع فيه مقال كثير، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن شيخ من أشجع قال: "كنا مع سالم" فذكر نحو الحديث المذكور، وهذا فيه ضعيف ومجهول. ورواه ابن المديني، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن منصور، عن هلال، عن رجل، عن سالم. . . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور، عن هلال، عن شيخ من أشجع، عن سالم. وهذا كما ترى فيه اختلاف. وقال الترمذي (¬2): وهذا حديث اختلفوا في روايته عن منصور، وقد أدخلوا بين هلال وبين سالم رجلًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 726 رقم 5032). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 82 رقم 2740).

وأخرجه النسائي (¬1): عن أحمد بن حرب، عن قاسم بن يزيد، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن رجل، عن سالم به. وعن بندار (¬2)، عن يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن رجل، عن آخر قال: "كنا مع سالم في سفر. . . ." فذكره. وعن القاسم بن زكرياء (¬3)، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن رجل، عن خالد بن عرفطة، عن سالم نحوه. ورواه ابن المهدي، عن أبي عوانة، عن منصور، عن هلال، عن رجل من آل عرفطة، عن سالم، وهذا كما تراه اختلاف كثير. وأخرجه أبو داود (¬4) في رواية أخري من طريق صحيح: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف قال: "كنا مع سالم بن عبيد، فعطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلي أمك، ثم قال بعد: لعلك وجدت فيما قلتُ؟ قال: لوددت أنك لم تذكر أمي بخير ولا شر، قال: إنما قلت لك كما قال رسول الله -عليه السلام- لنا؛ بينا نحن عند رسول الله -عليه السلام- إذْ عطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله -عليه السلام-: وعليك وعلي أمك، ثم قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله، -قال فذكر بعض المحامد- وليقل له مَن عنده: يرحمك الله، وليرد -يعني عليهم: يغفر الله لنا ولكم". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي هذا، فقالوا: هكذا ينبغي أن يقول العاطس، ويقال له علي ما في هذا الحديث. هكذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (6/ 66 رقم 10056). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 66 رقم 10057). (¬3) "السنن الكبرى" (6/ 66 رقم 10058). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 307 رقم 5031).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن السائب وسليمان الأعمش والثوري والنخعي؛ فإنهم قالوا: ينبغي للعاطس أن يقول: الحمد لله رب العالمين، أو الحمد لله علي كل حال، ويقول له الحاضرون أو واحد منهم: يرحمك الله، ثم يقول العاطس: يغفر الله لكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل من عند: يرحمك الله؛ وليرد عليهم: يغفر الله لنا ولكم". ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يقول العاطس بعد أن يشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم". ش: أي خالف القومَ المذكورين جماعةٌ آخرون وأراد بهم: ابن أبي ليلي وعروة ابن الزبير ويحيى وعيسي بن أبي طلحة وإبراهيم بن محمَّد بن طلحة ومالكًا والشافعي؛ فإنهم قالوا: يقول العاطس بعد تشميت الناس إياه: يهديكم الله ويصلح بالكم. قال أبو عمر: اختلفوا في كيفية رده، فقال مالك: لا بأس أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم أو يغفر الله لكم. وهو قول الشافعي، قال: أيُّ ذلك قال حسن. وروي قول هؤلاء عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة - رضي الله عنهما -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، أنه سمع عبيد بن أم كلاب يقول: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - يقول:"كان رسول الله -عليه السلام- إذا عطس حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول لهم: يهديكم الله ويصلح بالكم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 271 رقم 25998).

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة المصري. وأبو الأسود اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة روي له الجماعة. وعبيد بن أم كلاب: لم أر أحدًا يتكلم فيه (¬1). والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا إسحاق بن عيسي ويحيي بن إسحاق، قالا: نا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، قال: سمعت عبيد بن أم كلاب يحدث، عن عبد الله بن جعفر قال: يحيي بن إسحاق قال: سمعت عبد الله بن جعفر -قال أحدهما: ذي الجناحين- "إن رسول الله -عليه السلام- كان إذا عطس حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم". وأخرجه الطبرانى (¬3): عن أحمد بن يحيي، عن عمرو بن خالد، عن ابن لهيعة. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أبو معشر، عن عبد الله ابن نُجَيّ، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- أنها قالت: "عطس رجل عند رسول الله -عليه السلام-، فقال: ماذا أقول يا نبي الله؟ قال: قل: الحمد لله، قال القوم: ما نقول له يا رسول الله؟ قال: قولوا: يرحمك الله، قال: ماذا أقول لهم؟ قال: قل: يهديكم الله ويصلح بالكم". ¬

_ (¬1) وقال الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/ 278): لا يُدري من هو، قلت: هو شاعر كان بالمدينة، وكان يمدح عبد الله بن جعفر، وحديثه عنه في تشميت العاطس. . . . إلى آخره. وذكر فيه كلامًا كثيرًا، وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 88): عبيد بن أم كلاب سمع من عمر بن الخطاب، وهو عبيد بن سلمة الليثي، وهو الذي خرج من المدينة بقتل عثمان فاستقبل عائشة بسرف، فأخبرها بقتله وبيعة الناس لعلي بن أبي طالب فرجعت إلى مكة، وكان عبيد علويًّا. وانظر "تاريخ الطبري" (3/ 12). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 204 رقم 1748). (¬3) وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/ 28 رقم 9340) من طريق عمرو بن خالد عن ابن لهيعة به.

ش: أبو معشر اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي، فعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وعن البخاري: منكر الحديث. وعبد الله بن نُجي -بضم النون وفتح الجيم- قال الدارقطني: لا بأس به. والحديث أخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده". ص: فقال أهل المقالة الأولى: إنما كان قول النبي -عليه السلام-: "يهديكم الله ويصلح بالكم"؛ لأن الذين كانوا بحضرته كانوا يهودًا وكان تعليمه للعاطس في حديث عائشة من قوله: "يهديكم الله ويصلح بالكم" إنما هو لأن من كان بحضرته حينئذٍ كانوا يهودًا. واحتجوا في ذلك بما حدثنا حسين بن نصر قال ثنا أبو نعيم الفضل بن دُكين، قال: ثنا سفيان، عن حكيم بن الديلم، عن أبي بردة، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: "كانت اليهود يتعاطسون عند النبي -عليه السلام- رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن نعيم بن الديلم، عن الضحاك، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي -عليه السلام- مثله. قالوا: فإنما كان قول رسول الله -عليه السلام-: "يهديكم الله ويصلح بالكم" لليهود علي ما في هذا الحديث، فأما المسلمون فيقولون علي ما في حديث سالم بن عبيد الذي ذكرناه في أول هذا الباب. ش: هذا جواب أهل المقالة الأولى عما احتج به أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج أهل المقالة الأولى فيما أجابوا به عما احتج به أهل المقالة الثانية بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري -عن

سفيان الثوري، عن حكيم بن الديلم المدائني الكوفي، عن أبي بردة عامر بن أبي موسي، عن أبيه أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن حكيم بن الديلم، عن أبي بردة، عن أبيه. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن حكيم بن ديلم، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبي موسى. . . . إلى آخره نحوه. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسي بن مسعود النهدي، شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن الديلم، عن الضحاك بن مزاحم الهلالي الخراساني، عن أبي بردة. وهذا الطريق فيه الضحاك بين حكيم وبين أبي بردة، وحكيم هذا قد روي عن الضحاك وعن أبي بردة أيضًا. ص: وليست لهم عندنا حجة في هذا الحديث علي أصحاب المقالة الآخرى؛ لأن الذي في هذا الحديث أن اليهود كانوا يتعاطسون عن النبي -عليه السلام- رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله، فإنما كان هذا القول من النبي -عليه السلام- لليهود إذ كانوا عاطسين، وليس يختلفون هم ومخالفوهم فما يقول المشمت للعاطس، وإنما اختلافهم فيما يقول العاطس بعد التشميت، وليس في حديث أبي موسى من هذا شيء، فلم يضاد حديثُ أبي موسى هذا حديثَ عبد الله بن جعفر ولا حديثَ عائشة اللذين ذكرنا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 308 رقم 5038). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 82 رقم 2739).

ش: ينهض الطحاوي بهذا الكلام لدفع ما قاله أهل المقالة الأولي من الجواب عما قاله أهل المقالة الثانية؛ ناصرًا لأهل المقالة الثانية، وإيذانًا بأن اختياره هو ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وملخص ذلك: أن ما قاله أهل المقالة الأولى لا يطابق مُدَّعَاهم، فإن المُدَّعَي هو قول العاطس بعد تشميت الناس إياه: "يغفر الله لكم"، ثم رَدِّهِم احتجاج أهل المقالة الثانية بحديث عبد الله بن جعفر وعائشة - رضي الله عنهم - بأنَّ هذا إنما كان من النبي -عليه السلام- لليهود حين كانوا يتعاطسون عنده غير مطابق لدعوهم؛ لأنهم والخَصَّم أيضًا لا يختلفون في الذي ينبغي أن يقول المشمت للعاطس، وإنما الاختلاف بينهم في الذي ينبغي أن يقول العاطس بعد تشميت الناس إياه، فكيف يطابق بهذا ردهم بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -؟. ص: واحتجوا في ذلك بما روي عن إبراهيم النخعي: حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى (ح). وحدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، قالا: ثنا سفيان، عن واصل، عن إبراهيم قال: "يهديكم الله ويصلح بالكم عند العطاس شيء قالته الخوارج؛ لأنهم كانوا لا يستغفرون للناس". قيل لهم: وكيف يجوز أن يكون الخوارج أحدثت هذا، وقد كان النبي -عليه السلام- يقوله ويعلمه أصحابه؟ ش: أي احتج أهل المقالة الأولي أيضًا فيما ذهبوا إليه من أن العاطس بعد التشميت يقول: "يغفر الله لكم" ولا يقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم" بما روي عن إبراهيم النخغي. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن عمرو، عن يونس، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن واصل بن حيان الأحدب الكوفي، عن إبراهيم النخعي.

الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان .. إلي آخره. قوله: "قيل لهم": جواب عن هذا الاحتجاج، وهو ظاهر. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬1): روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: "يهديكم الله ويصلح بالكم شيء قالته الخوارج لأنهم لا يستغفرون للناس، واختار الطحاوي قول: يهديكم الله ويصلح بالكم؛ لأنها أحسن من تحيته، وحال من هُدي وأُصلح [باله فوق المغفور] (¬2) له، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، من قوله مثله. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه، عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه -أو أصحابه: يرحمكم الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن وحسين بن نصر، قالا: ثنا يحيي بن حسان، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. فثبت بذلك انتفاء ما قاله إبراهيم، وكان ما روي من هذا عن النبي -عليه السلام- أصح مجيئًا وأظهر مما روي من خلافه، فهو أحب إلينا مما خالفه. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (17/ 332). (¬2) في "الأصل": "بالتوفيق مغفور"، وهو تحريف، والمثبت من "التمهيد".

ش: أورد هذين الحديثين -أي حديثي أبي أيوب وأبي هريرة- شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية؛ وردًا علي إبراهيم النخعي فيما قاله من قوله المذكور، وأشار أيضًا أن هذا اختياره بقوله: "وكان ما روي في هذا. . . ." إلى آخره. وأخرج حديث أبي أيوب من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي ووهب بن جرير، كلاهما عن شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي قاضيها، فيه مقال، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود، قال: أنا شعبة، قال: أخبرني ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أبي أيوب، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله علي كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". ثنا محمد بن المثني (1)، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي ليلي، عن أبي أيوب، عن النبي -عليه السلام-، وكان ابن أبي ليلي مضطرب في هذا الحديث يقول أحيانًا: عن علي، عن النبي -عليه السلام-، ويقول أحيانًا: عن أبي أيوب، عن النبي -عليه السلام-. الثاني: عن حسين بن نصر، عن عبد الرحمن بن زياد الثفقي الرصافي، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (¬2): عن بندار، عن سعيد، عن شعبة نحوه. وأخرجه الدارمي أيضًا في "سننه" (¬3). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 83 رقم 2741). (¬2) "عمل اليوم والليلة" (1/ 235 رقم 213). (¬3) "سنن الدارمي" (2/ 368 رقم 2659).

وأخرج حديث أبي هريرة: عن ربيع بن سليمان المؤذن وحسين بن نصر، كلاهما عن يحيى بن حسان التنيسي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): عن مالك بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل صاحبه: يرحمك الله". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله علي كل حال، وليقل أخوه -أو صاحبه- يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2298 رقم 5870). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 307 رقم 5033).

ص: باب: الرجل يكون به الداء هل يجتنب أم لا؟

ص: باب: الرجل يكون به الداء هل يُجْتَنَب أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان الرجل المبتلى بداء مثل الجذام والبرص ونحوهما، هل يُجْتَنَب عنه ويُفَرُّ منه أم لا؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: قال أبو سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي -عليه السلام- قال: "لا يُوردُ الممرض على المصح، فقال له الحارث: بن أي ذباب: فإنك قد كنت حدثتنا أن النبي -عليه السلام- قال: لا عدوى، فأنكر ذلك أبو هريرة، فقال الحارث: بلى، فتمارى هو وأبو هريرة حتى اشتد أمرهما، فغضب أبو هريرة وقال للحارث: تدري ما قلتُ؟ قال الحارث: لا، قلت: تريد بذلك أني لم أحدثك ما تقول؟ قال أبو سلمة: لا أدري أنسي أبو هريرة أم ما شأنه، غير أني لم أر عليه كلمة [نَسِيَها] (¬1) بعد أن كان يحدثنا بها عن النبي -عليه السلام-، غير إنكاره ما كان يحدثنا عن النبي -عليه السلام- في قوله: لا عدوى". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن أبا سلمة حدثه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عدوى، وأن رسول الله -عليه السلام- قال: لا يُورَد ممرض علي مصح. قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله -عليه السلام- ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: لا عدوى وأقام علي أن لا يورد ممرض علي مصح. . . .". ثم حدث مثل حديث ابن أبي داود. ش: هذان طريقان رجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي: ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "تُشْبِهُهَا" وضبطها بالشَّكل كأنه يقصدها، والمثبت من "شرح معاني الآثار" وهو أليق بالسياق.

الأول: عن إبراهيم، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب ابن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، سمعت أبا هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا توردوا الممرض على المصح". وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن أبي اليمان، عن شعيب .. إلي آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني أبو الطاهر وحرملة -وتقاربا في اللفظ- قالا: نا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن [أبا] (¬4) سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عدوى، ويحدث أن رسول الله -عليه السلام- قال: لا يُورَد ممرض علي مصح. قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله -عليه السلام-، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: لا عدوى، وأقام علي: أن لا يورد ممرض علي مصح، قال: فقال الحارث بن أبي ذباب -وهو ابن عمِّ أبي هريرة: قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حدثنا آخر قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسول الله -عليه السلام-: لا عدوى، فأبي أبو هريرة أن يعرف ذلك، وقال: لا يورد ممرض علي مصح، فماراه الحارث في ذلك حتي غضب أبو هريرة، فرطن بالحبشية، وقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2177 رقم 5439). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1744 رقم 2221). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1743 رقم 2221). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

قال: لا، قال أبو هريرة: إني قلت: أَبَيْتُ، قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله -عليه السلام- قال: لا عدوى، فلا أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين الآخر". قوله: "لا يُورَدُ الممرض". من الإيراد، وهو من وَرَدْتُ الماء أَرِدْه ورودًا إذا أحضرته لتشرب؛ وأَوْرَده غيره، والورد الماء الذي يُرد عليه، والممرض الذي له إبل مرضَي من أَمْرَض الرجل إذا وقع في ماله العاهة، وقال الخطابي: الممرض هو الذي مرضت ماشيته وإبله، والمصح صاحب الصحاح منها، كما قيل: رجل مُضْعِفْ إذا كانت دوابه ضعافًا ومُقْوٍ إذا كانت أقوياء. قوله: "لا عدوى" العدوى اسم من الإعداء كالرعوى والبقوى من الإرعاء والإبقاء يقال: أعداه الدَّاءُ يُعدْيِه إِعْداءً، وهو أن يصيبه مثل ما أصابه. قوله: "فتمارى هو" أي الحارث "وأبو هريرة" أي تجادلا وتخاصما. قوله: "أنَسي أبو هريرة" الهمزة فيه للاستفهام. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي هذا، فكرهوا إيراد الممرض على المصح، وقالوا: إنما كره ذلك مخافة الإعداء، وأمروا باجتناب ذي الداء والفرار منه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا طلحة عبد الله وعمرو بن الشريد ويعلى بن عطاء وأخرين؛ فأنهم قالوا: يكره إيراد الممرض على المصح مخافة الإعداء، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وقالوا أيضًا: ينبغي للصحيح أن يجتنب من ذي الداء، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما روي عن عمر - رضي الله عنه - في الطاعون وفي رجوعه بالناس فارَّا منه، فذكروا ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقبل من الشام، فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة بن

الجراح - رضي الله عنهما -، فقالا: يا أمير المؤمنين إن معك وجوه أصحاب رسول الله -عليه السلام- وخيارهم، وإنا تركنا مَن بعدنا مثل حريق النار فارجع العام، فرجع عمر - رضي الله عنه - فلما كان العام المقبل جاء فدخل -يعني الطاعون". ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أنس. أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد نحوه. وجه الاستدلال به أن عمر رجع بالناس فرارًا عن الطاعون؛ فدل هذا علي جواز فرار الرجل عن ذي العاهة، وعلي أن المصح لا يورد على الممرض. وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري - رضي الله عنه -. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث ابن نوفل، عن عبد الله بن عباس: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه - رضي الله عنهم - فأخبروه أن الوباء قد وقع. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فقال عمر - رضي الله عنه -: ادعوا لىَّ المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستفتاهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا عليه؛ فقال: بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نَرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تُقْدِمَهم علي هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي مَن كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم علي هذا الوباء، فنادى عمر - رضي الله عنه - في الناس: إني مصبح علي ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة - رضي الله عنه -: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم: نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوتان أحداهما خصبة والأخرى جدْبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبًا في

بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علمًا: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه. قال: فحمد الله عمر - رضي الله عنه - ثم انصرف". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: "أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، فلما جاء بسرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن رسول الله -عليه السلام-. . . ." فذكر مثل حديث يونس الذي قبل هذا، من حديث عبد الرحمن خاصة -قال: "فرجع عمر - رضي الله عنه - من سرغ". حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني هشام بن سعد، عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين أراد الرجوع من سرغ واستشار الناس، فقالت طائفة منهم أبو عبيدة بن الجراح: أمِنَ الموت نفر؟ أَمَا نحن بقدر ولن يصيبنا إلا ما كتب الله؟ فقال عمر: يا أبا عبيدة لو كنت بواد إحدى عدوتيه مخصبة والأخرى مجدبة، أيتهما كنت ترعي؟ قال: المخصبة، قال: فإنا إن تقدمنا فبقدر، وإن تأخرنا فبقدر، وفي قدر نحن". حدثنا الحسين بن الحكم الجيزي، قال: ثنا عاصم بن علي (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب قال: "كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري، فقال لنا ذات يوم: لا عليكم أن تخفوا عني فإن هذا الطاعون قد وقع في أهلي، فمن شاء منكم أن يتنزه فليتنزه، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل: خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب، لو كنت خرجت لسلمت كما سلم آل فلان، أو يقول قائل: لو كنت جلست لأصبت كما أصيب آل فلان، وإني سأحدثكم بما ينبغي للناس في الطاعون: إني كنت مع أبي عبيدة وإن الطاعون قد وقع بالشام، وأن عمر - رضي الله عنه - كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فإني أعزم عليك إن

أتاك مصبحًا فلا تمسي حتى تركب، وان أتاك ممسيًا لا تصبح حتى تركب إليَّ؛ فقد عرضت لي إليك حاجة لا غني بي عنك فيها، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: إن أمير المؤمنين أراد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب إليه أبو عبيدة: إني في جند من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وقد عرفنا حاجة أمير المؤمنين؛ فحللني من عزمتك، فلما جاء عمر الكتاب بكي، فقيل له: توفي أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - إن الأردن أرض عميقة، وإن الجابية أرض نزهة، فانهض بالمسلمين إلي الجابية، فقال لي أبو عبيدة: انطلق فَبَوِّئ المسلمين منزلهم، فقلت: لا أستطيع، قال: فذهب ليركب، وقال لي: رَحِّلْ الناس قال: فأخذته أخذة فطعن فمات، وانكشف الطاعون". قالوا: فهذا عمر - رضي الله عنه - قد أمر الناس أن يخرجوا من الطاعون، ووافقه علي ذلك أصحاب رسول الله -عليه السلام-. ويروى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- ما يوافق ما ذهب إليه في ذلك. ش: هذه خمس طرق أخرى: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. . . . نحوه. الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 894 رقم 1587). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2163 رقم 5397). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1742 رقم 2219). (¬4) "موطأ مالك" (2/ 896 رقم 1589).

ومسلم (¬1) عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت علي مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة. . . . إلي آخره نحوه. الثالث: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده". الرابع: عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحِبَري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى بيع الحِبَر وهو جمع حِبَرَة، كعنب جمع عنبة، وهي بُرْد يماني. عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم الجَدَلي العَدْواني الكوفي، وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم، وروى له الجماعة. عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الكوفي، أدرك الجاهلية ورأى النبي -عليه السلام- وروي عنه، وقال أبو داود: رأى النبي -عليه السلام- ولم يسمع منه شيئًا. مات أيام الجماجم قال: "كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري" وهو عبد الله بن قيس. وأخرجه محمَّد بن جرير الطبري (¬2). الخامس: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الكوفي، ثقة، عن شعبة. . . . إلى آخره. قوله: "خرج إلى الشام" كان خروج عمر - رضي الله عنه - إلى الشام هذه المرة سنة سبع عشرة يتفقد فيها أحوال الرعية وأمرائهم، وكان قد خرج قبل ذلك سنة ست عشرة لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس فقال أهله: يكون الصلح علي يدي عمر - رضي الله عنه - فخرج لذلك. قوله: "حتى إذا كان بِسَرْغ" فتح السين المهملة وسكون الراء وفي آخره غين ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1740 رقم 2219). (¬2) "تاريخ الطبري" (2/ 487).

معجمة، قال أبو عبيد البكري: هي مدنية بالشام افتتحها أبو عبيدة هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة. قال أبو بكر الحازمي: هي أول الحجاز وآخر الشام بين المُغيْثة وتبوك من منازل حاج الشام. قال أبو عمر: قيل إنه وادٍ بتبوك، وقيل: بقرب تبوك. وقال ابن قرقوك: وعن ابن وضاح بتحريك الراء، قال: وهو من المدينة علي ثلاثة عشر مرحلة. قوله: "لقيه أمراء الأجناد" جمع جُنْد -بضم الجيم وسكون النون- قال الجوهري: الشام خمسة أجناد: دمشق وحمص وتنسرين وأردن وفلسطين يقال لكل منها: جُند. وقال كراع: كان الشام علي خمسة أجناد، علي كل ناحية أمير، ولم يمت عمر - رضي الله عنه - حتي جمع الشام كله لمعاوية - رضي الله عنه -. قوله: "إن الوباء" الوباء مهموز يمد ويقصر، وهو عبارة عن مرض عام يفضي إلى الموت غالبًا، وعند الأطباء: هو آفة تعرض للهواء فيفسد، فتفسد بفساده الأمزجة. وقال أبو زيد الأنصاري: أرض وبيئة إذا كثر مرضها. وقال صاحب الجامع: الوبا -علي وزن فعل: الطاعون، وقيل: كل مرض عام وباء. قال ابن درستويه: والعامة لا تهمزه وإن كان ترك الهمزة جائزًا. قوله: "لو غيرك قالها" جوابه محذوف، أي لو غيرك قال هذه الكلمة لعاقبته، ويقال: معناه: هلا تركت هذه الكلمة لمن قلَّ فقهه. قوله: "عدوتان" العُدوة بضم العين وكسرها وقرئ بهما في السبعة وهي جانب الوادي.

قوله: "إحداهما خصبة" قال ابن الأثير: ضبط بفتح الخاء وكسر الصاد في بعض الكتب، وفي بعضها بالسكون. و"الجدبة" بفتح الجيم وسكون الدال ضد الخصبة. قوله: "كنا نتحدث إلي أبي موسى" أي عند أبي موسي، وكلمة "إلى" تجيء بمعني "عند" كما في قوله الشاعر (¬1): أم لا سَبيلَ إلي الشَّبَابِ وذِكْرُهُ ... أَشْهَى إليَّ من الرحيقِ السَّلْسَلِ أي ذِكرهُ أشهى عند من الشرابِ الخالص الرائق. قوله: "لا عليكم" أي لا بأس عليكم أن تخفوا عني أي أن تتفرقوا عني لأجل وقوع الطاعون في أهلي. قوله: "فاحذروا اثنتين" أي خصلتين. قوله: "أن يقول قائل" أي إحدى الخصلتين أن يقول قائل. والخصلة الثانية هي قوله: "أو يقول قائل: لو كانت جلست لأصبت". قوله: "من عزمتك" العزمة: الحق من الحقوق والواجب من الواجبات. قوله: "أرض عميقة" أي غور وأودية. و"الأردن" بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال وهي (¬2). قوله: "فبوئ المسلمين" أمر من بَوَّأَ يبوِّئُ، يقال: بَوَّأَه منزلًا أي أسكنه إياه، وتبوأت منزلًا أي اتخذته. قوله: "فأخذته أخذة" بفتح الهمزة وسكون الخاء مرة من الأَخْذِ، أراد: ظهر له شيء من أمراض الطاعون فمات من ذلك، قال عروة بن الزبير: "خَرَجَتْ بأبي ¬

_ (¬1) هو أبو كبير الهذلي وهو عامر بن الحليس شاعر من شعراء الحماسة أدرك الإِسلام وأسلم، والبيت من بحر "الكامل" وهو ضمن قصيدة طويلة عدد أبياتها (48) بيتًا. (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقد عرفها في كتابه "عمدة القاري" (2/ 59) بقوله: بلدة من بلاد الغور من الشام، وانظر: "معجم البلدان" (1/ 149).

عبيدة في خنصره بثرة، فجعل ينظر إليها، فقيل: إنها ليست بشيء، فقال: إني أرجو أن يبارك الله فيها؛ فإنه إذا بارك في القليل كان كثيرًا، فمات من ذلك وقُبَر ببيسان، وقيل: توفي بعمواس سنة ثماني عشرة - رضي الله عنه -. ثم الحديث المذكور يشتمل علي أحكام: الأول: فيه خروج الخليفة إلي أعماله يطالعها وينظر إليها ويعرف أحوال أهلها. الثاني: فيه استعمال الخليفة أمراءَ عددًا في موضع واحد لوجوه يصرفهم فيها، وكان عمر - رضي الله عنه - قَسَّمَ الشام علي أربعة أمراء، تحت كل واحد منهم جند وناحية من الشام، وهم: أبو عبيدة، وشرحبيل، ويزيد بن أبي سفيان وأحسب الرابع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ثم لم يمت عمر - رضي الله عنه - حتى جمع الشام لمعاوية. الثالث: فيه دليل علي إباحة العمل والولاية، وأن لا بأس بها للصالحين والعلماء إذا كان الخليفة فاضلًا عالمًا يأمر بالحق ويعدل. الرابع: فيه دليل علي مشورة من يُوثَقْ بفهمه وعقله عند نزول الأمر المعضل. الخامس: فيه دليل علي أن المسألة إذا كان دليلها الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيه عيب مخالفه ولا الطعن عليه؛ ألا ترى أنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يُعِبْ أحد منهم علي صاحبه اجتهاده ولا وَجَدَ عليه في نفسه؟ إلي الله الشكوى، وهو المستعان. السادس: فيه دليل علي أن المجتهد إذا أدَّاه اجتهاده إلي شيء خالفه فيه صاحبه لم يجز له الميل إلي قوله صاحبه إذا لم يَبِنْ له موضع الصواب فيه، ولا قام له الدليل عليه. السابع: فيه دليل علي أن الإِمام أو الحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة، كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم، فإن لم يأت واحد منهم بدليل من كتاب أو سنة غير اجتهاده كان عليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه. الثامن: فيه دليل علي إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام.

التاسع: فيه دليل علي أن الحديث يسمى علمًا ويطلق ذلك عليه؛ ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن عوف: "عندي من هذا علم". العاشر: فيه دليل علي أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه، وأن أحدًا منهم أو شيئًا لا يخرج عن حكمه وإرادته ومشيئته. الحادى عشر: فيه أن العالم قد يوجد عند من هو في العلم دونه ما لا يوجد منه عنده؛ لأنه معلوم أن موضع عمر - رضي الله عنه - من العلم ومكانه من الفهم ودنوه من رسول الله -عليه السلام- في المدخل والمخرج فوق عبد الرحمن - رضي الله عنه - وقد كان عند عبد الرحمن عنه -عليه السلام- ما لم يكن عند عمر - رضي الله عنه -. الثاني عشر: فيه أن القاضي والإمام والحاكم لا يُنْفِذ قضاء ولا يفصل حكمًا إلا عن مشورة من يحضره ويصل إليه ويقدر عليه من علماء موضعه. الثالث عشر: فيه دليل عظيم علي ما كان عليه القوم من الإنصاف في العلم والانقياد إليه، وكيف لا يكون ذلك وهم خير الأمم؟!. الرابع عشر: فيه دليل على استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به، وهذا أصح وأقوي من جهة الأثر في خبر الواحد. ص: وقد روي عن غير عبد الرحمن بن عوف [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) في مثل هذا ما روي عن عبد الرحمن: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيي، عن هشام، عن يحيى ابن أبي كثير، عن الحضرمي، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "إذا كان الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تفروا منها، وإذا كان بأرضٍ فلا تهبطوا عليها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان؛ قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيي، أن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الحضرمي بن لاحق حدثه، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي قد روي عن غير عبد الرحمن بن عوف من الصحابة في مثل هذا الأمر المذكور وهو أمر الوباء إذا وقع بأرض ما روي عن عبد الرحمن بن عوف وهو: سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. أخرج حديثه في هذا من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن الحضرمي -بالحاء المهملة- بن لاحق التميمي السعدي اليمامي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سويد بن عمرو الكلبي، نا أبان، نا يحيي، عن الحضرمي بن لاحق، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك. أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا كان الطاعون بأرض فلا تهبطوا عليه، وإذا كان بأرض أنتم بها فلا تفروا منه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي بن لاحق. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬2) بأتم منه: ثنا هدبة بن خالد، نا أبان بن يزيد، ثنا يحيى بن أبي كثير، أن الحضرمي بن لاحق حدثه، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: "لا هامة ولا عدوى ولا طيرة، وإن يك شيء في الطير فالمرأة والفرس والدار، وكان يقول: إذا كان الطاعون بأرض فلا تهبطوا عليه، وإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 186 رقم 1615). (¬2) "مسند أبي يعلى" (2/ 106 رقم 766).

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "إن هذا الوجع -أو السقم- رجز عذب به بعض كفرة الأمم قبلكم ثم بقي في الأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به في أرض فلا يقدمن عليه، ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدًا، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن هذا الطاعون رجز -أو عذاب- عُذب به قوم؛ فإذا كان بأرض فلا تهبطوا عليه، وإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا عنه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد: "أسمعت رسول الله -عليه السلام- يذكر الطاعون؟ قال: نعم، قال: كيف سمعته؟ قال: سمعته يقول: هو رجز سلطه الله علي بني إسرائيل أو علي قوم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فرارًا منه". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن المنكدر وأيى النضر. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن محمَّد بن المنكدر، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه ذُكِرَ الطاعون عنده، فقال: إنه رجس -أو رجز- عُذب به أمة من الأمم وقد بقيت منه بقايا. . . ." ثم ذكر مثل حديث يونس , وزاد: وقال لي محمَّد: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فقال لي: هكذا حدثني عامر بن سعد. ش: هذه خمس طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق وابن خزيمة وفهدًا.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلي آخره. وأخرجه مسلم (¬1) عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب. . . . إلي آخره نحوه. قوله: "رجز" أي عقاب. قوله: "فيذهب المرة" انتصاب المرة على الظرفية. قوله: "الفرار" مرفوع علي أنه فاعل لقوله: "فلا يُخْرِجَنَّهُ". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت إبراهيم بن سعد، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدًا، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، فقلت: أنت سمعته يحدث سعدًا ولا ينكره؟ [قال: نعم] (¬3) ". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلي. . . . إلي آخره. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة وقتيبة بن سعيد، قالا: أنا المغيرة، عن أبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الطاعون آية الرجز، ابتلي الله بها أناسًا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1738 رقم 2218). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2163 رقم 5369). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬4) "صحيح مسلم" (4/ 1737 رقم 2218).

قلت: أبو النضر -بالنون والضاد- المعجمة اسمه لا يعرف (¬1)، وهو مولى عمر بن عبيد الله روى له الشيخان وأبو داود. الرابع: عن يونس أيضًا. . . . إلي آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن محمَّد بن المنكدر وأبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: "أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد: ماذا سمعت من رسول الله -عليه السلام- في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطاعون رجز أُرسل علي بني إسرائيل -أو علي من كان قبلكم- فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال مالك: قال أبو النضر: "لا يخرجكم إلا فرار منه"، وقال أبو عمر بن عبد البر (¬4): وقع في بعض نسخ شيوخنا إلا فرارًا، وإلا فرارٌ بالنصب والرفع، كأن كان في كتاب يحيى فيه تخليط، وكذلك في كتاب أبي مصعب، ولعل ذلك كان من مالك، والمعنى إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا منه فلا تخرجوا، وأما إذا كان خروجكم غير فارين منه فلا بأس به إن شاء الله. قال أبو عمر أيضًا: هكذا قال يحيى في هذا الحديث: عامر بن سعد، عن أبيه، وتابعه علي ذلك من رواة "الموطأ" جماعة منهم: مطرف وأبو مصعب، ولا وجه لذكر أبيه في ذلك؛ لأن الحديث إنما هو لعامر بن سعد عن أسامة بن زيد سمعه منه. وهكذا رواه معن بن عيسى وابن بكير ومحمد بن الحسن وغيرهم عن مالك، لم يقولوا: أبيه. ¬

_ (¬1) قلت: بل هو سالم بن أبي أمية القرشي التيمي أبو النضر المدني روي له الجماعة. وانظر تحفة الأشراف (3/ 35 رقم 92). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 896 رقم 1588). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1737 رقم 2218). (¬4) "التمهيد" (21/ 183).

وقد جوده القعنبي فرواه عن مالك، عن محمَّد بن المنكدر، عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص أنه أخبره، أن أسامة بن زيد أخبره، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الطاعون رجز. . . . وذكر الحديث ولم يقل فيه: عن أبيه، ولا ذكر أبا النضر مع محمَّد بن المنكدر. وقد رواه قوم عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، وهو وهم ولا يصح. والله أعلم. الخامس: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الأعرج. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1) نحوه: عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، من غير ذكر عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. فإن قيل: هل من أحد إلا يموت؟ فما وجه النهى عن دخول الأرض التي بها الطاعون أو الخروج منها؟ قيل له: إنما نهي عنه حِذارًا أن يظن أن الهلاك كان من أجل القدوم، وأن مَن فَرَّ منه نَجي، وزعم بعضهم أن في قوله: "لا تخرجوا فرارًا منها" جواز الخروج من بلد الطاعون علي غير سبيل الفرار منه، وكذلك حكم الداخل. وقال ابن الجوزي: قال بعض العلماء: إنما نهي عن الخروج من بلد الطاعون؛ لأن الأصحاء إذا خرجوا هلكت المرضي، فلا يبقى من يقوم بحالهم؛ فخروجهم لا يقطع بنجاتهم وهو قاطع بهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضًا. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا عكرمة بن خالد المخزومي، عن -أبيه أو عن عمه- عن جده: أن رسول الله -عليه السلام- قال في غزوة تبوك: "إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 207 رقم 21855).

ش: عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المكي، روي له الجماعة سوى ابن ماجه. وأبوه خالد بن العاص صحابي - رضي الله عنه - روى عن النبي -عليه السلام- في بيع الخمر، وقال أبو عمر: وقيل: إن خالدًا لم يسمع من النبي -عليه السلام-. وجده: العاص بن هشام، وهو قتل كافرًا يوم بدر؛ فعن هذا قالوا: إن هذا الإسناد فيه وهم؛ لأن عكرمة كيف يروي عن أبيه عن جده، وجده كافر؟!. وهكذا أخرجه الطبراني (¬1) ولكن ليس في روايته ذكر: -أو عمه- وقال: ثنا محمَّد بن عبد الله الحضرمي: ثنا شيبان بن فروخ، ثنا حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تدخلوها". وقال ابن الأثير في ترجمة خالد بن العاص بعد أن روى ما رواه الطبراني بإسناده عنه: هذا وهم؛ لأن جد عكرمة علي ما ذكره هو العاص، وخالد والد عكرمة لا جده، وقد اختلف في جد عكرمة فقال ابن أبي حاتم: عكرمة بن خالد بن سعيد بن العاص، وقال ابن حبان: عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي، وقال أبو نصر الكلاباذي مثل الطبراني: عكرمة بن خالد بن العاص، وقال ابن منده: خالد بن سلمة بن هشام بن العاص بن هشام بن المغيرة. قلت: يستقيم الإسناد المذكور علي ما ذكره ابن أبي حاتم؛ لأنه حينئذٍ يكون جد عكرمة هو سعيد بن العاص، وسعيد بن العاص صحابي ولد عام الهجرة، وروي عن النبي -عليه السلام-، وكذا علي قول ابن حبان , لأنه حينئذٍ يكون جد عكرمة سلمة بن هشام بن المغيرة، وسلمة بن هشام صحابي أسلم قديمًا، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد، وكان من خيار الصحابة وفضلائهم. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 195 رقم 4120).

وقد أخرج أبو موسى المديني هذا الحديث -وليس فيه ذكر عن جده- من طريق حَبان بن هلال، عن حماد بن سلمة، عن عكرمة بن خالد، عن أبيه -أو عن عمه: "أن النبي -عليه السلام- قال في غزوة تبوك: إذا كان الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن حميد قال: سمعت شرحبيل بن حسنة يحدث، عن عمرو بن العاص: "أن الطاعون وقع بالشام، فقال عمرو: تفرقوا عنه فإنه رجز، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنه - فقال: قد صحبت رسول الله -عليه السلام- فسمعته يقول: إنها رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تفرقوا، فقال عمرو: صدق". ش: إسناده صحيح. وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الصمد، ثنا همام، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم قال: "لما وقع الطاعون بالشام خطب عمرو بن العاص الناس وقال: إن هذا الطاعون رجس، فتفرقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة فغضب، فجاء يجر ثوبه معلق نعله بيده، فقال: صحبت رسول الله -عليه السلام-، وعمرو أضل من حمار أهله، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، ووفاة الصالحين قبلكم". ص: قالوا: فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآثار أن لا يُقدم على الطاعون، وذلك للخوف منه. ش: أي قال أهل المقالة الأولى، وأراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وطارق بن شهاب وسعد ابن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعكرمة بن خالد، عن أبيه، عن جده وشرحبيل بن حسنة - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 195 رقم 17788).

ص: قيل لهم: ما في هذا دليل علي ما ذكرتم؛ لأنه لو كان أَمْرُهُ بترك القدوم للخوف منه لكان يطلق لأهل الموضع الذي وقع فيه أيضًا الخروج منه؛ لأن الخوف عليهم منه كالخوف علي غيرهم، فلما منع أهل الموضع الذي وقع فيه الطاعون من الخروج منه، ثبت أن المعنى الذي من أجله منعهم من القدوم عليه غير المعنى الذي ذهبتم إليه. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا من الأحاديث المذكورة وهو جواب بطريق المنع، وهو أن يقال: دليلكم لا يطابق مدَّعاكم؛ وذلك لأنه لو كان أمره بترك القدوم للخوف منه. . . . إلى آخره. ص: فإن قال قائل: فما ذلك المعنى؟ قيل له: هو عندنا -والله أعلم- علي أن لا يقدم عليه رجل فيصيبه بتقدير الله -عز وجل- أن يصيبه، فيقول: لولا أن قد قدمت هذه الأرض لما أصابني هذا الوجع، وكذلك لو أقام في الموضع الذي خرج منه لأصابه، فأمر أن لا يقدمها خوفًا من هذا القول، وكذلك أمر أن لا يخرج من الأرض التي قد نزل بها؛ لئلا يسلم، فيقول: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها , ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء، فأمر بترك القدوم على الطاعون للمعنى الذي وصفنا، وبترك الخروج عنه للمعنى الذي ذكرنا، وكذلك ما روينا عنه في أول هذا الباب من قوله: "لا يورد ممرض علي مصح" ليس علي ما تأوله عليه أهل المقالة الأولي، ولكنه عندنا -والله أعلم- لا يورد ممرض علي مصح فيصيب المصح ذلك المرض، فيقول الذي أورده: لو أني لم أورده عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، فلعله لو لم يورده أيضًا لأصابه كما أصابه لما أورده، فأمر بترك إيراده وهو صحيح علي ما هو مريض لهذه العلة، التي لا يؤمن على الناس وقوعها في قلوبهم، وقولهم ما ذكرنا بألسنتهم. ش: أشار بذلك المعنى إلى قوله: غير المعنى الذي ذهبتم وهو ظاهر، وهذا جواب الجمهور، وقالوا: إن نهي النبي -عليه السلام- أن يسقي إبله الممرض مع إبله المصح لا

لأجل العدوي، ولكن لأن الصحاح ربما عرض لها مرض فوقع في نفس صاحبها أن ذلك من قبيل العدوى فتفتنه وتشككه، فأمر باجتنابه والبعد عنه، وقد يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الماء والمرعى تستوبله الماشية فتمرض، فإذا شاركها في ذلك غيرها أصابه مثل ذلك الداء، فكانوا لجهلهم يسمونه عدوى، وإنما هو فعل الله تعالى بتأثير الطبيعة علي سبيل التوسط في ذلك. والله أعلم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في نفي الإعداء: ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي، أن سعيد بن المسيب قال: "سألت سعدًا عن الطيرة، فانتهرني، وقال: من حدثك؟ فكرهت أن أحدثه، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا عدوى ولا طيرة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى. . . . فذكر بإسناده مثله، وزاد: "ولا هامة". ش: ذكر هذا الحديث وما بعده من الأحاديث شاهدةً لصحة ما ذهب إليه من خالف أهل المقالة الأولى في قولهم: لا يورد الممرض على المصح، وينبغي الفرار والاجتناب عن ذي داء وعاهة. وأخرج هذا الحديث من طريقين صحيحين، وقد ذكرهما بعينهما عن قريب. وأخرج البزار في "مسنده" (¬1) نحو الأول قال: ثنا محمَّد بن المثني، عن عبيد الله ابن موسى، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي. . . . إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2) نحو الثاني: ثنا موسي بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى، أن الحضرمي بن لاحق حدثه، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك أن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: "لا هامة ولا عدوى ولا طيرة، وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (3/ 290 رقم 1082). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 19 رقم 3921).

قوله: "لا عدوى" اسم من الإعداء، وقد فسرناه عن قريب. و"الطيرة" بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيءِ، وهو مصدر تطير، يقال: تَطَيَّرَ طيَرة كما يقال: تَخَيَّرَ خِيَرَةً ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهي عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. و"الهامة": الرأس واسم طائر، وهو المراد في الحديث؛ وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل، وقيل: هي البومة، وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت. أو قيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت -وقيل: روحه- تصير هامة فتطير، ويسمونه: الصَّدَي، فنفاه الإِسلام ونهاهم عنه. ذكره الهروي في الهاء والواو، وذكره الجوهري في الهاء والباء. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة (ح). وحدثنا ابن أبي داود قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا الوليد بن عقبة الشيباني، قال: ثنا حمزة الزيات، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماني، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يُعدي سقيم صحيحًا". ش: هذان طريقان جيدان حسنان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عثمان بن أبي شيبة، عن الوليد بن عقبة بن المغيرة الشيباني الكوفي، قال أبو زرعة: لا بأس به. ووثقه ابن حبان، وروي له أبو داود. عن حمزة بن حبيب بن عمارة الكوفي الزيات، روى له الجماعة سوى البخاري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماني الكوفي، وثقه النسائي، وروي له في "مسند علي - رضي الله عنه -" وهو صاحب شُرَطة علي بن أبي طالب.

وأخرجه أبو يعلي في "مسند" (¬1) بأتم منه: ثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا الوليد بن عقبة -قال عثمان: الشيباني- قال: نا حمزة الزيات، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة الحماني، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صفر، ولا هامة، ولا يُعدي سقيم صحيحًا". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن الوليد بن عقبة. . . . إلى آخره. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا طيرة ولا هامة ولا عدوى، فقال رجل: أطرح الشاة الجربى في الغنم فتجربهن؟ قال النبي -عليه السلام- أو ابن عباس: فالأولى من أجربها؟! ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو عوانة، عن سماك فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يشك في شيء منه، وذكره كله عن النبي -عليه السلام-. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (1/ 340 رقم 431). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1171 رقم 3539).

ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سريج بن النعمان، قال: ثنا هشيم، عن ابن شبرمة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى، فقال رجل: يا رسول الله، فإن النقبة من الجرب تكون بجنب البعير فيشمل ذلك الإبل كلها جربًا! فقال رسول الله -عليه السلام-: فمن أعدى الأول؟ خلق الله -عز وجل- كل دابة فكتب أجلها ورزقها وأثرها". ش: إسناده صحيح. وأبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. وسريج -بضم السين المهملة وبالجيم- بن النعمان الجوهري، شيخ البخاري. وهشيم هو ابن بشير. وابن شُبْرة هو عبد الله بن شُبرمة بن الطفيل الضبي الكوفي القاضي، فقيه أهل الكوفة التابعي. وأبو زرعة بن عمرو قيل: اسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، روي له الجماعة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا هاشم، نا محمد بن طلحة، عن عبد الله بن شُبْرمة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يُعدي شيء شيئًا -ثلاثًا- فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، إن النقبة تكون بمشفر البعير أو بعَجبْه؛ فتشمل الإبل جربًا! قال: فسكت ساعة، ثم قال: ما أعدى الأول؟! لا عدوى ولا صفر ولا هامة؛ خلق الله -عز وجل- كل نفس، فكتب حياتها وموتها ومصيباتها ورزقها". قوله: "فإن النُقْبَة" بضم النون وسكون القاف وفتح الباء الموحدة، وهو أول شيء يظهر من الجرب، وجمعها نُقْب بسكون القاف؛ لأنها تنقب الجلد أي تحرقه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 327 رقم 8325).

قوله: "وأثرها" بفتحتين، وأراد به: مشيها في الأرض، ومن ذلك سمي الأجل أثرًا لأن من مات لا يبقى له أثر، فلا يُرى لأقدامه في الأرض أثرٌ. ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن رجل، عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: قبيصة هو ابن عقبة السوائي، شيخ البخاري. وسفيان هو الثوري. وعمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، روي له الجماعة. وأبو زرعة هو بن عَمرو بن جرير، وقد ذكر الآن، وفيه مجهول. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن عمارة بن القعقاع، ثنا أبو زرعة، ثنا صاحب لنا، عن عبد الله بن مسعود قال: "قام فينا رسول الله -عليه السلام- فقال: لا يُعدي شيء شيئًا، لا يُعدي شيء شيئًا، لا يعدي شيء شيئًا (¬2) فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة، فتجرب كلها! فقال رسول الله -عليه السلام-: فما أجرب الأول؟! لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيباتها ورزقها". وأخرجه الترمذي (¬3) أيضًا عن محمَّد بن بشار، عن عبد الرحمن. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا المقدمي، قال: ثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، قال: ثنا سعيد بن مسروق، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن رجل من أصحاب ابن مسعود، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 440 رقم 4198). (¬2) كذا في "الأصل" تكررت "لا يعدي شيء شيئًا" ثلاث مرات، وفي "مسند أحمد" مرة واحدة. (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 450 رقم 2143).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، عن حسان بن إبراهيم بن عبد الله الكرماني قاضي كرمان، عن سعيد ابن مسروق الثوري والد سفيان الثوري، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن رجل، عن أبي هريرة. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬1) نحوه، وقد ذكرناه عن قريب. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا مالك ويونس، عن ابن شهاب، عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن ابن عمر، - رضي الله عنهما - عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عدوى". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، أن أبا الزبير حدثه، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 327 رقم 8325). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 972 رقم 1750).

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد -شيخ البخاري- عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمَّد بن حاتم، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لا عدوى ولا غول ولا صفر". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -. ص: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشَيش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، قال: ثنا قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن ابن خُشَيْش -بضم الخاء المعجمة وبشينين معجمتين- عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا طيرة؛ ويعجبني الفأل الصالح [والفأل الصحيح: الكلمة الصحيحة] (¬3) ". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1745 رقم 2222). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 18 رقم 3916). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن أبي داود": والفأل الصالح: الكلمة الحسنة.

وأخرجه الترمذي (¬1) عن ابن بشار، عن ابن أبي عدي، عن هشام، عن قتادة، عن أنس نحوه، وقال: حسن صحيح. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الصبغي، عن شعبة بن الحجاج. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن مثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قيل: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة". وأخرجه ابن ماجه (¬3) أيضًا: ص: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني ابن عجلان، قال: حدثني القعقاع بن حكيم وزيد بن أسلم وعبيد الله بن مقسم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، وزاد: "ولا هامة ولا غول ولا صفر، قال أبو صالح: فسافرت إلى الكوفة ثم رجعت فإذا أبو هريرة ينتقص: لا عدوى. لا يذكرها، فقلت: لا عدوى، فقال: أببت". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة وغيره، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا عدوى، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيجربها؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: فمن أعدى الأول؟ ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 161 رقم 1615). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1746 رقم 2224). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1170 رقم 3537).

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني معروف بن سويد الحذامي، عن عُلَيّ بن رباح اللخمي قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا عدوي". ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن القعقاع بن حكيم الكناني، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح، وعن زيد بن أسلم القرشي المدني الفقيه -أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، وعن عبيد الله بن مقسم المدني، روي له الجماعة؛ غير الترمذي، ثلاثتهم عن أبي صالح ذكوان الزيات، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1) مختصرًا: ثنا محمَّد بن عبد الرحيم [بن] (¬2) البرقي، أن سعيد بن الحكم حدثهم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني ابن عجلان قال: ثنا القعقاع بن حكيم وعبيد الله بن مقسم وزيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام-[قال] (2): "لا غول". وأخرجه البزار في "مسنده" عن محمَّد بن مسكين، عن سعيد بن أبي مريم. . . . إلى آخره. وقال: "لا عدوى ولا غول ولا هامة ولا صفر". الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، روى له الجماعة، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، روى له الجماعة، عن صالح بن كيسان المدني، روي له الجماعة، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 17 رقم 3913). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي (تكون في الرمل) (¬2) كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟! فقال: فمن أعدى الأول؟ ". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -واللفظ لأبي طاهر- قالا: نا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، قال ابن شهاب: فحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة حين قال رسول الله -عليه السلام-: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها فيجربها كلها؟! قال: فمن أعدى الأول؟ ". الرابع: عن يونس أيضًا عن عبد الله بن وهب، عن معروف بن سويد الحذاء، عن عُلَيّ -بضم العين وفتح اللام- بن رَبَاح، وقال ابن يونس في ترجمة معروف بن سويد هذا: وليس عند ابن وهب عن معروف بن سويد هذا من المسند إلا ثلاثة أحاديث كلها عن عُلَي بن رباح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قوله: "لا غَول" الغول بضم الغين المعجمة، أحد الغيلان وهي جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، فتتغول تغولًا أي: تتلون تلونًا في صور شتى، وتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي -عليه السلام- وأبطله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2161 رقم 5387). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1742 رقم 2220).

وقيل: قوله: "لا غول" ليس نَفْيًا لعين الغول أو وجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله، فيكون المعنى بقوله: "لا غول" أنها لا تستطيع أن تُضل أحدًا، ويشهد له الحديث الآخر: "لا غول ولكن السعالي" والسِّعالي جمع سِعلاة وهي السحرة من الجن، أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه الحديث: "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان" أي ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل علي أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -: "كان لي تمر في سهوة، فكان الغول يجيء فيأخذ". وقال الخطابي: قوله: "لا غول" ليس نفي الغول عينًا وإبطال كونها، وإنما فيه إبطال ما يتحدثون عنها من اختلاف تلونها في الصور المختلفة، وإضلالها الناس عن الطريق، وسائر ما يحكون عنها مما لا نعلم له حقيقة، نقول: لا تصدقوا بذلك ولا تخافوها؛ فإنها لا تقدر علي شيء من ذلك إلا بإذن الله، ويقال: إن الغيلان سحرة الجن؛ تسحر الناس وتفتنهم بالإنحلال عن الطريق. والله أعلم. قوله: "ولا صفر" كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها: الصفر تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، وأنها تُعْدِي فأبطل الإِسلام ذلك، وقيل: أراد به النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وهو تأخير المحرم إلى صفر ويجعلون صفر هو الشهر الحرام فأبطله، قال الخطابي: حكي أبو عبيد، عن رؤبة بن الحجاج أنه قال: الصفر حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب، قال أبو عبيد: فأبطل النبي -عليه السلام- أنها تُعدي. وقال أبو داود في "سننه" (¬1): ثنا محمَّد بن المصفى، قال: ثنا بقية، قال: قلت لمحمد بن راشد: قوله: هامة قال: كانت الجاهلية تقول: ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج من قبره هامة. قلت: فقوله: صفر قال: سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر، فقال: النبي -عليه السلام-: لا صفر". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 411 رقم 3915).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح. وأبو اليمان الحكم بن نافع -شيخ البخاري. وشعيب هو ابن حمزة. والزهري محمَّد بن مسلم. والسائب بن يزيد الكندي له ولأبيه صحبة. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أنا اليمان، عن شعيب، عن الزهري، قال: حدثني السائب بن يزيد ابن أخت نمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا هشام وسعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح. ومسدد هو ابن مسرهد -شيخ البخاري وأبي داود. ويحيى هو ابن سعيد القطان. وهشام هو الدستوائي. وسعيد هو ابن أبي عروبة. وأخرجه مسلم (¬2): عن هدبة بن خالد، عن همام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل؛ الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1743 رقم 2220). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1746 رقم 2224).

ص: حدثنا ابن مرزوق (قال: ثنا) (¬1) وهب قال: ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، قال: سمعت أبا الربيع يحدث، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: الطعن في الأنساب، والنياحة، ومطرنا بنوء كذا وكذا، والعدوى؛ يكون البعير في الإبل فتجرب، فيقول: مَن أعدى الأول". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن علقمة فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان حسنان جيدان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، وعن أحمد: ثبت في الحديث. روي له الجماعة، عن أبي الربيع المدني قال أبو حاتم: صالح الحديث. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا أبو داود، قال: أنا شعبة والمسعودي، عن علقمة بن مرثد، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة والطعن في الأنساب، والعدوى؛ أجرب بعير فأجرب مائة بعير؛ ومن [أجرب] (¬3) البعير الأول؟ والأنواء؛ مطرنا بنوء كذا وكذا". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود، شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد .. إلي آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): عن محمَّد بن جعفر، عن حجاج، عن شعبة، عن علقمة. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 325 رقم 1001). (¬3) في "الأصل، ك": "جرب"، والمثبت من "جامع الترمذي". (¬4) "مسند أحمد" (2/ 455 رقم 9873).

قوله: "بنوء كذا" النوء يجمع علي أنواء، وهي ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنها قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} (¬1)، ويسقط في الغرب كل ثلاثة عشرة ليلة منزلة تنزل القمر مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت من الشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رفقتها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا، وإنما سمي نوءًا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء -الطالع بالشرق- ينوء نوءًا أي نهض وطلع، وقيل: أراد بالنوء الغروب وهو من الأضداد، قال أبو عبيد: لم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، وإنما غلظ النبي -عليه السلام- في أمر الأنواء؛ لأن العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل الله، وأراد بقوله: مطرنا بنوء كذا أي في وقت هذا -وهو هذا النوء الفلاني- فإن ذلك جائز؛ فإن الله قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى. وقال: فمن أعدى الأول؟ ". ش: أبو سعيد الأشج اسمه عبد الله بن سعيد بن الحصين الكندي الكوفي شيخ الجماعة. وأبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي، روى له الجماعة. والقاسم هو ابن عبد الرحمن الشامي، فيه خلاف. وأبو أمامة صُدَيّ بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي، نا عمرو بن محمَّد ¬

_ (¬1) سورة يس، آية: [39]. (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 195 رقم 7801).

الغاز الجرشي، ثنا أبو خليد، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا هام، ولا صفر، ولا عدوى، ولا يتم شهران ثلاثون يومًا". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يونس بن محمَّد، عن مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أخد النبي -عليه السلام- بيد مجذوم فوضعها في القصعة، وقال: بسم الله، ثقة بالله وتوكلًا على الله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا إسماعيل بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان: الأول: غريب: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة -واسمه عبد الله بن محمَّد الحافظ الكوفي شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن محمَّد بن مسلم البغدادي المؤدب -روى له الجماعة- عن مفضل بن فضالة أبي مالك البصري، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بذاك، وعن ابن المديني: في حديثه نكارة، وذكره ابن حبان في "الثقات". عن حبيب بن الشهيد الأزدي البصري، روى له الجماعة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا أحمد بن سعيد الأشقر وإبراهيم بن يعقوب، قالا: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا المفضل بن فضالة. . . . إلى آخره نحوه متنًا وسندًا، غير أن في لفظه: "فأدخله معه في القصعة" قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمَّد، عن المفضل بن فضالة، هذا شيخ بصري، والمفضل بن فضالة آخر، شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 266 رقم 1817).

وأخرجه أبو داود (¬1) وابن ماجه (¬2) أيضًا. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضي البصرة وشيخ البخاري، عن إسماعيل بن مسلم المكي، فيه مقال؛ فعن أحمد: منكر الحديث. وعن ابن معين: لا شيء. وعن ابن المديني: ليس بشيء. وهو يروي عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. قوله: "بيد مجزوم" وهو الذي أصابه الجذام، قال ابن سيده: سمي بذلك؛ لتجذم الأصابع وتقطعها، ورجل أجذم ومجذم: نزل به الجذام، وقالت الأطباء: الجذام علة تحدث من انتشار السواد في جميع البدن، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها وربما تَقَرح. فإن قيل: قد أخرج البخاري (¬3) من حديث أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد". وأخرج أبو نعيم أيضًا (¬4) من حديث أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "اتقوا المجذوم كما يتقي الأسد". وفي حديث ابن عباس عنه -عليه السلام-: "فروا من الأجذم كما تفرون من الأسد" (¬5)، وفي رواية: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" (¬6). وأخرج ابن حبان (¬7) من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -عليه السلام-: إنا قد بايعناك فارجع". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 20 رقم 3925). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 172 رقم 3542). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2158 رقم 5380). (¬4) وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 218 رقم 14024) من حديث الأعرج عن أبي هريرة. (¬5) أخرجه معمر بن راشد في "جامعه" (11/ 204). (¬6) أخرجه ابن ماجه في "سننه" (2/ 1172 رقم 2543). (¬7) هو عند مسلم في "صحيحه" (4/ 1752 رقم 2231)، والنسائي في "المجتبى" (7/ 150 رقم 4182).

وأخرج أبو نعيم (¬1) أيضًا من حديث الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن أبي أوفى، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين". وأخرج ابن ماجه (¬2) من حديث فاطمة بنت الحسين، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تديموا النظر إلى المجذوم". وفي رواية (¬3) عن فاطمة، عن أبيها، عن علي ترفعه، فذكره. فهذه كلها تعارض حديث جابر - رضي الله عنه -. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأمور: الأول: أن حديث جابر لا يقاوم الأحاديث المذكورة، والمُعَارَضَة لا تكون إلا مع التساوي. الثاني: علي تقدير الصحة أن أخذه بيده، وقوله: "كل بسم الله" ليس فيه أنه أكل معه، وإنما أذن له ولم يأكل هو -عليه السلام-. ذكره الكلاباذي. الثالث: علي تقدير أكله معه؛ أراد أن يُعْلم أن هذه الأمراض لا تُعدي بطبعها، ولكن الله تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببًا لإعدائه مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب؛ ففي حديث جابر ونحوه نفي ما كان يعتقده الجاهلي، وأن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال في حديث أخر: "فمن أعدي الأول" وفي حديث أبي هريرة ونحوه أَعْلَم أن الله جعل ذلك سببًا لذلك، فحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله تعالى، أو يكون قاله لمن ضعفت نيته، وحديث جابر يكون في حق من قويت نيته وزاد يقينه، فيخاطب -عليه السلام- كل إنسان بما يليق حاله، وهو -عليه السلام- يفعل الحالتين معًا، تارة بما فيه التسوية والتشريع، وتارة بما يغلب عليه من القوة الإلهية، وزعم النظام أن قوله: "فر من ¬

_ (¬1) وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 289). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1172 رقم 3543). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في "مسنده" (1/ 78 رقم 581).

المجذوم" معارض لقوله: "لا عدوى" قال أبو بكر محمَّد بن الطيب: هذا جهل وحيف من قائله؛ لأن قوله: "لا عدوى" مخصوص يراد به شيء دون شيء، وإن كان الكلام ظاهره العموم فليس بمنكر أن يخص العموم بقول آخر، أو استثناء فيكون قوله: "لا عدوى" المراد به إلا الجذام والبرص والجرب فكأنه قال: لا عدوى إلا ما كنت بينته لكم أن فيه عدوى فلا تناقض حينئذ. وقال الطبري: اختلف السلف في صحة هذا الحديث -أي حديث: "فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"- فأنكر بعضهم أن يكون -عليه السلام- أمر بالبعد من ذي عاهة جذامًا كان أو غيره، قالوا: قد أكل مع مجذوم وأقعده معه، وفعله أصحابه المهديون، روى عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أن وفد ثقيف أتوا أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - فأتى بطعام فدعاهم، فتنحى رجل، فقال: ما له؟ قال: مجذوم، فدعاه وأكل معه". وكان ابن عمر وسلمان - رضي الله عنهم - يصنعان الطعام للمجذومين ويأكلان معهم، وعن عكرمة: "أنه تنحى من مجذوم، فقال له ابن عباس: لعله خير مني ومنك". وعن عائشة: "أن امرأة سألتها. أكان رسول الله -عليه السلام- قال: فروا من المجذومين فراركم من الأسد؟ فقالت: عائشة كلَّا والله، ولكنه قال: لا عدوى، قال: فمن أعدى الأول، وكان مولى لنا أصابه ذلك الداء، فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي". قالوا: وقد أبطل -عليه السلام- العدوى. وقال آخرون: الخبر صحيح، وقالوا: أمره -عليه السلام- بالفرار منه لنهيه عن النظر إليه. وقال محمَّد بن جرير: الصواب عندنا ما صح أنه لا عدوى وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كُتِبَ عليها من الله، لا ينبغي لذي صحة الدنو من الأجذم وذي العاهة التي يكرهها الناس لا أن ذلك حرام، ولكن حذرًا من أن يظن الصحيح إذْ نزل به الداء أن ذلك أصابه لدنوه منه، فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه وأبطله من أمر الجاهلية في العدوى، وليس في أمره -عليه السلام- بالفرار من المجذوم خلاف لأكله معه؛

لأنه كان يأمر بالأمر علي جهة الندب أحيانًا، وعل وجه الإباحة أحيانًا، ثم يترك فعله؛ ليعلم أن نهيه لم يكن علي وجه التحريم. ص: حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن أبي مسلم الخولاني، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مع صاحب البلاء؛ توضعًا لربك وإيمانًا". ش: علي بن زيد بن عبد الله الفرضي -نزيل طرسوس. وموسى بن داود الضبي قاضي طرسوس وشيخ أحمد، ثقة روي له مسلم والأربعة غير الترمذي. ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني، روي له الجماعة. وأبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثُوبَ بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وفي آخره باء موحدة، ويقال: ثواب، ويقال: ابن أثوب، ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن عوف، ويقال: ابن مسلم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف، اليماني الزاهد، سكن الشام بداريا بالقرب من دمشق رحل يطلب النبي -عليه السلام- فمات النبي -عليه السلام- وهو في الطريق، ولقي أبا بكر الصديق، وروى عن عمر وغيره من الصحابة، روى له مسلم والأربعة غير الترمذي. وأبو ذر اسمه جندب بن جنادة الغفاري - رضي الله عنه -. ص: فقد نفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدوى في هذه الآثار التي ذكرناها، وقال: "فمن أعدى الأول؟ " أي لو كان إنما أصاب الثاني لما أعداه الأول؛ إذًا لما أصاب الأول شيء؛ لأنه لم يكن معه ما يعديه، ولكنه لما كان ما أصاب الأول إنما كان بقدر الله -عز وجل-؛ كان ما أصاب الثاني كذلك. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن جماعة من الصحابة وهم: سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن

مالك والسائب بن يزيد وأبو أمامة الباهلي وأبو ذر الغفاري - رضي الله عنهم - فإن النبي -عليه السلام- نفى الإعداء في أحاديث هؤلاء حيث قال: "فمن أعدى الأول؟ " وبيَّن معنى هذا الكلام بقوله: أي لو كان إنما أصاب الثاني. . . . إلى آخره. قوله: "لما أعداه الأول" أي لأجل إعداء الأول الثاني، وكلمة "ما" مصدرية. قوله: "إذًا" أي حينئذ. قوله: "لما أصاب الأول شىء". "اللام" مفتوحة و"ما" نافية. قوله: "ولكن لمَّا كان". "لما" هذه بمعنى "حين". ص: فإن قال قائل: أفنجعل هذا مضادًا لما روي عن النبي -عليه السلام-: "لا يُورَد مُمْرِض علي مُصِح" كما جعله أبو هريرة. قلت: لا, ولكن نجعل قوله: "لا عدوى" كما قال النبي -عليه السلام- على نفي العدوى أن تكون أبدًا، ونجعل قوله: "لا يورد ممرض علي مصح" على الخوف منه أن يورده عليه فيصيبه بقدر الله -عز وجل- ما أصاب الأول، فيقول الناس: أعداه الأول، فكره إيراد المصح إلى الممرض خوف هذا القول. ش: تقرير السؤال أن يقال: الأحاديث المذكورة عن الصحابة المذكورين تدل علي نفي الإعداء، وحديث أبي هريرة الذي رواه عن النبي -عليه السلام-: "لا يورد ممرض علي مصح" الذي احتجت به أهل المقالة الأولى يدل علي وجود الإعداء، وبينهما تعارض وتضاد. وتقرير الجواب أن يقال: إنما كان يكون بينهما تعارض إذ ورد معناهما علي محل واحد، وأما إذا كان معنى كل واحدٍ واردًا علي محل واحدٍ؛ لا يتحقق التعارض ولا التضاد، وهاهنا كذلك، وقد بينه بقوله: "ولكن نجعل". قوله: "لا عدوى. . . ." إلي آخره وهو ظاهر، والهمزة في قوله: "أفنجعل" للاستفهام.

ص: وقد روينا عن رسول الله -عليه السلام- في هذه الآثار أيضًا وضعه يد المجذوم في القَصْعة، فدلّ فعل رسول الله -عليه السلام- هذا أيضًا علي نفي الإعداء؛ لأنه لو كان الإعداء مما يجوز أن يكون؛ إذًا لما فعل النبي -عليه السلام- ما يخاف ذلك منه؛ لأن في ذلك جَرُّ التلف إليه، وقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقد مَرَّ رسول الله -عليه السلام- بهدف مائل فأسرع"، فإذا كان يسرع من الهدف المائل مخافة الموت؛ فكيف يجوز عليه أن يفعل ما يخاف منه الإعداء؟!. ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من نفي التضاد بين الأحاديث المذكورة، في دلالة وضع النبي -عليه السلام- يد المجزوم في القصعة علي نفي الإعداء، ظاهره قطعًا، إذ لو كان الإعداء مما له وقوع لما فعل النبي -عليه السلام- ما يخاف الإعداء منه؛ لأن فيه جلب التلف إلى النفس، وقد نهي الله -عز وجل- عن ذلك بقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1) ولما مَرَّ النبي -عليه السلام- بهدف مائل أسرع خوفًا من الوقوع، فإذا كان قد أسرع في ذلك مخافة الموت؛ فكيف يجوز عليه فعل ما يخاف منه الإعداء الذي يؤدي إلى التلف؟!. و"الهدف" بفتحتين كل بناء مرتفع مشرف. وقد أخرج الطحاوي هذا معلقًا هاهنا. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا إسماعيل بن علية، عن حجاج الصواف قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: بلغني أن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: "إذا مَرَّ أحدكم بهدف مائل، أو صدف مائل فليسرع المشي، وليسأل الله المعافاة". ص: وقد ذكرت فيما تقدم من هذا الباب أيضًا معنى ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في الطاعون في نهيه عن الهبوط عليه، وفي نهيه عن الخروج منه، وأن نهيه عن الهبوط عليه خوفا أن يكون قد سبق في علم الله -عز وجل- أنهم إذا هبطوا عليه أصابهم، فيهبطون فيصيبهم، فيقولون: أصابنا لأنا هبطنا عليه، ولولا أنا هبطنا عليه لما أصابنا. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [29]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 335 رقم 26641).

وأن نهيه عن الخروج منه لئلا يخرج رجل فَيَسْلَم فيقول: سلمت لأني خرجت، ولولا أني خرجت لم أَسْلَم، فلما كان النهي عن الخروج عن الطاعون، وعن الهبوط عليه لمعنى واحد وهو الطيرة لا الإعداء؛ كان كذلك قوله: "لا يورد ممرض علي مصح" هو الطيرة أيضًا لا الإعداء؛ فنهاهم رسول الله -عليه السلام- في هذا كله عن الأسباب التي من أجلها يتطيرون، وفي حديث أسامة الذي رويناه عن رسول الله -عليه السلام-، "وإذا وقع بأرض وهو بها فلا يخرجه الفرار منه" دليل علي أنه لا بأس بأن يخرج منها لا على الفرار منه. ش: المعنى الذي ذكره في قوله -عليه السلام-: "إذا كان الطاعون بأرض فلا تهبطوا عليه، وإذا كان بأرض أنتم بها فلا تفروا منه" مما يؤيد المعنى الذي ذكره في التوفيق بين الأحاديث التي فيها نفي الإعداء؛ وبين قوله -عليه السلام-: "لا يورد ممرض على مصح" وهو ظاهر. وقوله: "فلما كان النهي عن الخروج. . . ." إلي آخره إشارة إلى أن حاصل المعنى المذكور يرجع إلى معنى الطيرة لا إلي معنى الإعداء، فإذا كان المعني على هذا؛ كان معني قوله: "لا يورد ممرض علي مصح" راجعًا إلى معنى الطيرة لا الإعداء، فكأن النهي في الأحاديث المذكورة عن مباشرة الأسباب التي كانوا يتطيرون من أجلها. ص: وقد دل علي ذلك أيضًا ما حدثنا يونس، قال: أنا بشر بن بكر، قال: أنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيي بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس - رضي الله عنه - أن نفرًا من عكل قدموا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو خرجتم إلي ذودٍ فشربتم من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا. . . ." ثم ذكر الحديث. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر مَرْضَي من حي من أحياء العرب، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة المُومْ وهو البرسَام، فقالوا: يا رسول الله، هذا الوجع قد وقع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها؟ قال: نعم، اخرجوا فكونوا فيها".

ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أمرهم بالخروج إلى الإبل، وقد وقع الوباء بالمدينة، فكان ذلك عندنا -والله أعلم- علي أن يكون خروجهم للعلاج لا للفرار منه؛ فثبت بذلك أن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون مكروه للفرار منه؛ مباح لغير الفرار. ش: أي وقد دل علي أنه لا بأس بالخروج من الأرض التي وقع فيها الوباء إذا كان لا علي وجه الفرار منه، ما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي قلابة عبد الله ابن زيد الجرمي، عن أنس. وأخرجه (¬1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم أناس من عكل أو عرينة. فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي -عليه السلام- بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبي -عليه السلام- واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيدهم وأرجالهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون، قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله". وأخرجه البخاري في جامعه في مواضع متعددة (¬2). وأخرجه أبو داود (¬3): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 92 رقم 231). (¬2) انظر الأرقام: (1430، 2855، 3956، 3957، 4334، 5361، 5362، 5395، 6417, 6420، 6503) وغير ذلك. (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 130 رقم 4364).

وأخرجه (¬1) أيضًا عن عمرو بن عثمان، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أنس. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة بن إياس البصري، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: نا زهير، قال: ثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- نفر من عرينة وأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الموم وهو البرسام. . . ." الحديث. وأخرجه مسلم بطرق متعددة (2). قوله: "اجتووه" أي أصابهم الجوى -بالجيم- وهو المرض، وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواها واستوخموه، يقال: اجْتَوَيْتُ البلد؛ إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة. قوله: "إلي ذَوْد" الذود من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها، كالنعم، وقال أبو عبيد: الذَّوْدُ من الإبل الإناث دون الذكور. قوله: "وقد وقع بالمدينة الموم" بميمين بينهما واو ساكنة أولاهما مضمومة، هو البرسام مع الحمي، وقيل: هو بثر أصغر من الجدري، و"الموم" أيضًا الشمع وهو معرب. و"البِرْسَام" بكسر الباء وهي علة معروفة. ويستفاد من هذا الحديث أحكام قدمناها في مواضعها. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 131 رقم 4366). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1297 رقم 1671).

ص: وعلي هذا المعنى -والله أعلم- رجع عمر - رضي الله عنه - بالناس من سرغ، لا علي أنه فار مما قد نزل بهم؛ والدليل علي ذلك: أن ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا علي بن عياش الحمصي، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " [اللهم] (¬1) إن الناس نحلوني ثلاث خصال، وأنا أبرأ إليك منهن: زعموا أني فررت من الطاعون وأنا أبرأ إليك من ذلك، وأني أحللت لهم الطلاء وهو الخمر، وأنا أبرأ إليك من ذلك, و [أني] (¬2) أحللت لهم: المكس وهو البخس، وأنا أبرأ إليك من ذلك". فهذا عمر - رضي الله عنه - يخبر أنه يبرأ إلي الله -عز وجل- أن يكون فَرَّ من الطاعون، فدل ذلك أن رجوعه كان لأمر آخر غير الفرار، وكذلك ما أراد بكتابه إلي أبي عبيدة - رضي الله عنه - أن يخرج هو ومن معه من جند المسلمين إنما هو لنزاهة الجابية وعمق الأردن، وقد بيَّن أبو موسى في حديث شعبة، المكروه في الطاعون ما هو؟ وهو أن يخرج منه خارج فيسلم فيقول: سَلِمْتُ لأني خرجت، أو يهبط عليه هابط فيصييه فيقول: أصابني لأني هبطت، وقد أباح أبو موسى مع ذلك للناس أن يتنزهوا عنه إن أحبوا، فدل علي ما ذكرنا على التفسير الذي وصفنا. فهذا معنى هذه الآثار عندنا والله أعلم. ش: أي وعلى المعنى الذي ذكرنا وهو أن الخروج من الموضع الذي وقع فيه الوباء لا بأس به إذا كان لا للفرار منه؛ رجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالناس من سَرْغ -بفتح السين وسكون الراء المهملتين وبغين معجمة- وروي بفتح [الراء] (¬3) أيضًا، وقد ذكرنا أنها قرية بوادي تبوك من طريق الشام، ولم يكن رجوع عمر منها علي أنه فر من الذي قد نزل بأهل الشام من الوباء. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) في "الأصل": "أنا"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬3) في "الأصل، ك": "السين"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، وانظر "النهاية" (2/ 361).

فإن قيل: لا نسلم أن رجوعه كان لغير الفرار من الوباء، ألا ترى أنه لما قال له أبو عبيدة: "أفرارًا من قدر الله؟ قال له: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله". قلت: لدفع هذا السؤال: قال الطحاوي: والدليل علي ذلك أي علي أن رجوع عمر بالناس لم يكن فرارًا عن الوباء؛ أن ابن أبي داود قد حدثنا. . . . إلي آخره. وقوله: "الدليل" مبتدأ. وقوله: "أن ابن أبي داود" وفي محل الرفع خبره. وهو إبراهيم البرلسي، يحدث عن علي بن عياش -بالياء المشددة وبالشين المعجمة- بن مسلم الألهاني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة .. إلي آخره. وهو إسناد صحيح. وقد صرح فيه أنه تبرأ من قول الناس: فَرَّ عمر من الطاعون، حيث قال: أبرأ إلى الله من ذلك. وقال أبو عمر (¬1): لم يبلغني أن أحدًا من أهل العلم فر من الطاعون إلا ما ذَكَر المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه فطعن فمات بالسيالة، قال: وهرب عمرو بن عبيد، ورباط بن محمَّد بن رباط إلى الرباطية، فقال إبراهيم بن علي القعنبي: ولما استفزَّ الموتُ كل مكذبٍ ... صبرتُ ولم يَصْبِرْ رباطٌ ولا عَمرو وقال المدائني: ولما وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان، خرج هاربًا، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها: سكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك، فقال: أوه، ما أراني راجعًا إلى الفسطاط، فمات في تلك القرية. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (6/ 215 - 216).

قوله: "إن الناس نحلوني" بالنون والحاء المهملة، من نَحَلْتُه القولَ أَنْحَلَه -بالفتح- إذا أضفت إليه قولًا قاله غيره، وادعيته عليه، ومنه انتحل فلان شعر غيره إذا ادعاه لنفسه، وتنحله مثله. وقوله: "الطلاء" بكسر الطاء وبالمد، وهو الشراب المطبوخ من عصير العنب، وهو الرُّبُّ، وأصله القطران الخاثر الذي تطلى به الإبل. وقوله: "وهو الخمر" أي الطلاء هو الخمر وإنما أطلق عليه الخمر لكونهم كانوا يشربون المسكر ويقولون: إنه طلاء إنما أباحه عمر - رضي الله عنه - فلأجل ذلك برئ إلي الله -عز وجل- من ذلك. وقد جاء في الحديث عن النبي -عليه السلام-: "لتشربن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه". رواه ابن أبي شيبة (¬1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن محيريز، عنه -عليه السلام-. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) ثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن فرات بن سليمان، عن رجل من جلساء القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "أول ما يكفئ [أمتي عن] (¬3) الإسلام بشراب يقال له: الطلاء" انتهي. أراد به الخمر الذي يسمونه الطلاء، وأما الطلاء الذي مباح شربه فهو ما إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حتي يصير كالرُّبِّ، وعن أنس - رضي الله عنه -: "أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة، كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه". رواه ابن أبي شيبة (¬4): عن علي بن مسهر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 69 رقم 23773). (¬2) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 70 رقم 23776). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 90 رقم 23987).

وقال ابن أبي شيبة أيضًا (¬1) ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود بن أبي هند قال: "سألت سعيد بن المسيب عن الشراب الذي كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجازه للناس؟ قال: هو الطلاء قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه". قوله: "المكس" هو الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العَشَّار. قوله: "وهو البخس" بالباء الموحدة، والخاء المعجمة، وفي آخره سين مهملة، وفُسِّر المكس به لأن البخس هو ما يأخذه الولاة باسم العشور والمكوس يتأولون فيه الزكاة والصدقة. قوله: "وكذلك ما أراد" أي وكذلك كان مراد عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي عبيدة: "إن الأردن أرض عمق، وإن الجابية أرض نزهة، فانهض بالمسلمين إلى الجابية" يعني كان مراده أن يخرج هو ومن معه من المسلمين إلى الجابية لنزاهتها ويخرجوا من الأردن لعماقها , ولم يكن ذلك لأجل الفرار من وقوع الوباء فيها. ص: وأما الطيرة فقد رفعها رسول الله -عليه السلام- وجاءت الآثار بذلك مجيئًا متواترًا: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير وروح، قالا: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى -رجل من بني أسد، عن زِرٍّ، عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الطيرة من الشرك، وما منَّا إلَّا, ولكن الله -عز وجل- يذهبه بالتوكل". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا شريح، قال: أنا هشيم، عن ابن شبرمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا طيرة". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن رجل، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 90 رقم 23988).

حدثنا يونس، قال أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس عن ابن شهاب، عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي -عليه السلام- يبغض الطيرة ويكرهها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا هشام وشعبة، عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا طيرة". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة وغيره، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني معروف بن سويد، عن عُلَيّ بن رباح اللخمي، قال: سمعت أبا هريرة يحدث، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن قتادة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا أبو أسامة، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا مروان بن معاوية بن الحارث، وابن المبارك، عن عوف، عن حيان، عن قطن بن قبيصة بن المخارق، عن أبيه، قال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت".

فلما نهى رسول الله -عليه السلام- عن الطيرة، وأخبر أنها من الشرك، نهى الناس عن الأسباب التي يكون عنها الطيرة، مما ذكر في هذا الباب. ش: لما ذكر فيها مضى أن نهيه -عليه السلام- عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الوباء وعن الهبوط إليها لمعنى واحد، وهو الطيرة لا الإعداء، أراد أن يبين أن الطيرة قد رفعها رسول الله -عليه السلام- وأخبر أنها من الشرك. وأخرج فيها عن جماعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة وأنس بن مالك وأبو أمامة وقبيصة بن المخارق - رضي الله عنهم -. أما عن ابن مسعود فأخرجه من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وروح بن عبادة، كلاهما عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم الأسدي الكوفي، وثقه أحمد، عن زِرِّ -بكسر الزاي وتشديد الراء- بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن كثير، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك -ثلاثًا- وما منا إلَّا, ولكن الله -عز وجل- يذهبه بالتوكل". وأخرجه الترمذي (¬2) وقال: حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث سلمة، وقال فيه: وروى شعبة أيضًا هذا الحديث عن سلمة. سمعت محمدًا يقول في هذا: "وما منا": إن هذا عندي من قول ابن مسعود. قوله: "رجل من بني أسد"، بجر رجل؛ لأنه عطف بيان؛ لقوله: عن عيسي. قوله: "إن الطيرة من الشرك" خارج مخرج المبالغة والتغليظ. ¬

_ (¬1) "سنن أبو داود" (4/ 17 رقم 3910). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 160 رقم 1614).

قوله: "وما منا إلا" فيه حذف، تقديره: إلا وفيه الطيرة، أو إلا قد يعتريه التطير وتسبق إلي قلبه الكراهية فيه، فحذف؛ اختصارًا للكلام، واعتمادًا علي فهم السامع. الطريق الثاني: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي -شيخ البخاري- عن سفيان الثوري، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن رجل، عن عبد الله. وقد مر هذا الإسناد بعينه في العدوى، وأعاده هاهنا في الطيرة والكل حديث واحد، وقد مر الكلام فيه مستوفى. وأما عن أبي هريرة فأخرجه من أربع طرق: الأول: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن سريج -بضم السين المهملة وفي آخره جيم- ابن النعمان، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن شبرمة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة وهذا الإسناد أيضًا بعينه قد ذكره فيما مضى في هذا الباب مقتصرًا فيه علي ذكر العدوى. الثانى: عن علي بن معبد، قال: عن يعقوب بن إبراهيم عن بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي سلمة، وغيره عن أبي هريرة. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن معروف بن سويد، عن عُلَيّ بضم العين المهملة وفتح اللام، عن أبي هريرة. وهذه الأسانيد أيضًا قد ذكرها فيما مضى في العدوي وقد أعادها هاهنا في الطيرة. وأما عن ابن عمر، فأخرجه بإسناد صحيح. عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، ويونس ابن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره.

وهذا أيضًا بعينه ذكر فيما مضي العدوي وأعاده هاهنا في الطيرة. وأما عن عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد فيه مقال. عن علقمة بن أبي علقمة، واسم أبي علقمة: بلال المدني مولى عائشة أم المؤمنين، روى له الجماعة. عن أمه مرجانة، وثقها ابن حبان وروي لها في الأربعة غير ابن ماجه. وأما عن أنس - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام الدستوائي، وشعبة، كلاهما عن قتادة، عن أنس. الثاني: عن عبد الله بن محمَّد بن خشيش، عن مسلم بن إبراهيم. . . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضُّبَعِي. . . . إلى آخره. وهذه الأسانيد الثلاثة قد ذكرت فيما مضي أيضًا في العدوي، وأعادها هاهنا في الطيرة. وأما عن أبي أمامة: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي سعيد الأشج عبد الله بن سعيد، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي، عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة صُدي بن عجلان الباهلي. وهذا أيضًا قد ذكره فيما مضى في العدوي. وأما عن قبيصة بن المخارق: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الكوفي، عن مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري الكوفي روي له الجماعة.

وعن عبد الله بن المبارك الشيخ العابد المشهور، كلاهما عن عوف بن أبي جميلة المعروف بابن الأعرابي، روى له الجماعة، عن حَيَّان -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء آخر الحروف- ابن العلاء، ويقال: أبو العلاء حيان غير منسوب، قال ابن حبان في "الثقات": حيان بن المخارق أبو العلاء، يروي عن قطن بن قبيصة. قلت: قطن بن قبيصة بن الخارق الهلالي البصري قال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". يروي عن أبيه قبيصة بن المخارق الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، قال ثنا عوف، قال: نا حيان قال غير مسدد: حيان بن العلاء -قال: ثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، قال سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "العيافة والطيرة والطَرْق من الجبْت". وأخرجه النسائى أيضًا في "اليوم والليلة" (¬2). قوله: "العيافة" بكسر العين المهملة، وفتح الياء آخر الحروف وبالفاء: وهو زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها ومَمَرَّها، وهو من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم، يقال: عَافَ يَعِيفُ عَيْفًا إذا زَجَر، وحَدَسَ، وظَنَّ. وبنوا أسد يُذكرون بالعيافة ويوصفون بها، قيل عنهم: إن قومًا من الجنّ تذاكروا عيافتهم فأتوهم فقالوا: ضلَّت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا مَنْ يعيف، فقالوا لِغُلَيمِّ منهم: انطلق معهم. فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيهم عُقابٌ كاسِرةٌ إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكي، فقالوا: مالك؟! فقال: كَسَرَتْ جناحًا وحلفت بالله صراحًا: ما أنت بإنْسِيّ، ولا تبغي لقاحًا. وقال أبو عبيد: العيافة: زجر الطير، يقال منه: عِفْتُ الطير أَعِيفُها عِيافَةً. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 409 رقم 3907). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 324 رقم 11108).

قال: ويقال: في غير هذا عَافَت الطير تَعِيفُ عَيفًا إذا كانت تحوم على الماء، وعاف الرجل الطعام يَعَافُه عَيَافًا إذا كرهه. قوله: "والطيرة" قد فسرناها. قوله: "والطَرْق" بفتح الطاء، وسكون الراء المهملتين، وفي آخره قاف، وهو الضرب بالحصى، الذي يفعله النساء. وقيل: هو الخط في الرمل، وقال ابن عباس: الحظ هو الذي يخطه الحازي، وهو علم قد تركه الناس، يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حِلوانًا، فيقول له: اقعد حتى اخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض ربوة فيخط فيها خطوطًا كثيرة بالعجلة؛ لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها علي مَهْلٍ خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: ابْنَي عِيان أسرعا البيان، فإن بقي خطَّان، فهما علامة النُّجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخَيْبَة. وقال الخطابي: الطرق: الضرب بالحصي؛ قال لبيد: لَعَمْرُكَ ما تَدْرِي الطوارِقُ بالحَصَى ... ولا زاجِراتُ الطير ما الله صانِعُ وأصل الطرق: الضرب، ومنه سميت مطرقة الصانع والحداد؛ لأنه يطرق بها، أي يضرب بها، وصورة الخط ما ذكره ابن الأعرابي. ذكر أبو عمر عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: يقعد الحازي ويأمر غلامه. . . . إلي آخر ما ذكرناه. ص: فإن قال قائل: فقد قال رسول الله -عليه السلام-: "الشؤم في الثلاث". قيل له: قد روي ذلك عن النبي -عليه السلام- علي ما ذكرت: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك، عن ابن شهاب، عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "إنما الشؤم في ثلاثة: في المرأة والدار والدابة". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول:. . . . فذكر مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: أخبرني عتبة بن مسلم، عن حمزة بن عبد اللهَ بن عمر، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: إنا مُنِعْنا من الأسباب التي تكون عنها الطيرة مطلقًا، وقد جاء عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "الشؤم في الثلاث وهي: المرأة والفرس والدار" فلم تكن الطيرة منفية من كل وجه. والتحقيق في الجواب ما أذكره لك؛ لأن الطحاوي ما أمعن فيه، فيقول: إن النبي -عليه السلام- نهى عن الطيرة مطلقًا وعدها من الشرك، ثم قال: إن كان الشؤم -وهو التطير- ففي ثلاث، يعني لو كان الشؤم يكون في شيء من اعتقادكم بهن لكان في هذه الثلاث ولم يكن في هذه الثلاث شؤم، فلا يكون في شيء شؤم؛ فافهم. والدليل علي صحة هذا الكلام: أنه -عليه السلام- لم يخبر أن الشؤم حاصل في هذه الثلاث، بل قال: "إن كان الشؤم، ففي ثلاث". فإن قيل: ما تقول في رواية: "إنما الشؤم في ثلاثة" وقد أخبر بطريق الحصر أن الشؤم موجود في ثلاثة أشياء؟. قلت: هذا ليس على ظاهره؛ وقد كان ابن مسعود يقول: "إن كان الشؤم في شيء فهو فيما بين اللحيين -يعني اللسان- وما شيء أحوج إلى سجن طويل من لسان". وإنما قلنا: إنه متروك الظاهر؛ لأجل قوله -عليه السلام-: "لا طيرة" وهي نكرة في سياق النفي فتعم سائر الأشياء التي يُتَطَيَّر بها , ولو قلت: الكلام علي ظاهره لكانت هذه الأحاديث ينفي بعضها بعضًا، وهذا محال أن يظن بالنبي -عليه السلام- مثل هذا الاختلاف من النفي والإثبات في شيء واحد ووقت واحد.

والمعنى الصحيح في هذا الباب نفي الطيرة باسرها بقوله: "لا طيرة" وهو أشبه بأصول شريعة النبي -عليه السلام- من حديث الشؤم، ألا ترى أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تنكر حديث الشؤم وتقول: إنما حكاه رسول الله -عليه السلام- عن أهل الجاهلية وأقوالهم فيكون قوله -عليه السلام-: "إنما الشؤم في ثلاثة" بطريق الحكاية عن أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يعتقدون الشؤم في هذه الثلاث، لا أن معناه أن الشؤم حاصل في هذه الثلاث في اعتقاد المسلمين. وكانت عائشة - رضي الله عنها - تتقي الطيرة ولا تعتقد منها شيئًا حتى قالت: لنسوة كن يكرهن الابتناء بأزواجهن في شوال: "ما تزوجني رسول الله -عليه السلام- إلا في شوال، ولا بني بي إلا في شوال، فمن كان أحظي مني عنده؟ وكان يُستَحَبُّ أن يدخل علي نسائهن في شوال" (¬1). وعن أبي حسان: "أن رجلين دخلا علي عائشة - رضي الله عنها - وقالا: إن أبا هريرة يحدث عن النبي -عليه السلام- أنه قال: إنما الطيرة في الفرس والمرأة والدار، فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، ثم قالت: كذب والذي أنزل الفرقان علي من حدث عنه بهذا, ولكن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة - رضي الله عنها -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬2) " (¬3). وهنا جواب آخر: وهو أنه قد يحتمل أن يكون قوله -عليه السلام-: "الشؤم في ثلاثة" كان في أول الإِسلام؛ خبرًا عما كان تعتقد العرب في جاهليتها علي ما قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم نسخ ذلك وأبطله القرآن والسنن , وأخبار الآحاد لا يقطع علي عينها وإنما توجب العمل فقط، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} (¬4) وقال {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ. . . .} (¬5) الآية, وما خط في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (7/ 290 رقم 14478). (¬2) سورة الحديد، آية (22). (¬3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6/ 246 رقم 26130). (¬4) سورة التوبة، آية: [51]. (¬5) سورة الحديد، آية: [22].

اللوح المحفوظ لم يكن منه بد، وليست البقاع ولا الأنفس بصانعة شيئًا من ذلك. فهذا هو الاعتقاد الذي يجب على العبد أن يعتقده، ويسلم أمره إلى الله تعالى، ويترك القطع علي الله بالشؤم في شيء، وقد يقال: إن شؤم المرأة أن تكون سيئة الخلق، أو غير قانعة، أو تكون سليطة، أو تكون غير ولود. وشؤم الفرس أن يكون شموسًا، وقيل: أن لا يكون يغزى عليها. وشؤم الدار أن تكون ضيقة، وقيل: أن يكون جارها سُوْءًا (¬1). فإن قيل: لم خصص -عليه السلام- هذه الثلاث؟ قلت: لما ذكرنا عن عائشة من أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون حقيقة الشؤم في هذه الثلاث؛ فلذلك نص -عليه السلام- علي هذه الثلاث دون غيرها؛ حكاية عن اعتقادهم ذلك. فإن قيل: روى مالك في "موطإه" (¬2) عن يحيى بن سعيد أنه قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر؛ فقل العدد وذهب المال، فقال رسول الله -عليه السلام-: دعوها ذميمة". قلت: إنما قال ذلك كذلك لِمَا رآه منهم وأنه رسخ في قلوبهم ما كانوا عليه في جاهليتهم، وكان رءوفًا بالمؤمنين بأخذ عفوهم شيئًا فشيئًا، وهكذا كان نزول الفرائض والسنن , حتى استحكم الإسلام وكمل ولله الحمد، ثم بيَّن رسول الله -عليه السلام- بعد ذلك لأولئك الذين قال لهم: "اتركوها ذميمة" ولغيرهم ولسائر أمته الصحيح بقوله: "لا طيرة ولا عدوى" وبالله التوفيق. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون أمرهم بتركها والتحول عنها إبطالًا لما وقع منها في نفوسهم من أن يكون المكروه إنما أصابهم بسبب الدار وسكناها، فإذا تحولوا منها انقطعت مادة ذلك والوهم. ¬

_ (¬1) وانظر هذا الجواب بتمامه في "عمدة القاري" (14/ 150). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 972 رقم 1751).

قلت: الحديث المذكور الذي رواه مالك أخرجه أبو داود (¬1) مسندًا: ثنا الحسن بن يحيى أبو علي، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "قال رجل: يا رسول الله، إنا كنا في دار كثير فيها عددنا، وكثير [فيها] (¬2) أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى، قَلَّ فيها عددنا، وقَلَّت والذميمة وقَلَّت أموالنا، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذروها ذميمة" والذميمة فعيلة بمعنى مفعولة، أي اتركوها مذمومة. ثم إنه أخرج حديث ابن عمر من خمس طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي ومالك بن أنس، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاث: المرأة والفرس والدار". وأخرجه أيضًا (¬4): عن القعنبي، عن مالك. . . . إلي آخره نحوه. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز -شيخ النسائي- عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 413 رقم 3924). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1747 رقم 2225). (¬4) في "الأصل": "عبيد"، وهو تحريف والمثبت من "صحيح مسلم".

وأخرجه مسلم (¬1): عن القعنبي، عن مالك نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن محمَّد بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وزهير بن حرب، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- من غير ذكر حمزة. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع -شيخ البخاري- عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬3) نحوه: عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سالم. وأخرجه البخاري (¬4) أيضًا. الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمَّد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن عتبة بن مسلم التيمي المدني، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬5): ثنا أبو بكر بن إسحاق، قال: أنا ابن أبي مريم، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عتبة بن مسلم، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1746 رقم 2225). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1747 رقم 2225). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1746 رقم 2223). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2177 رقم 5438). (¬5) "صحيح مسلم" (4/ 1748 رقم 2225).

ص: وقد روي أيضًا علي خلاف هذا المعنى من حديث ابن عمر وغيره: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن هشام، عن يحيى ابن أبي كثير، عن الحضرمي، أن سعيد بن المسيب قال: "سألت سعد بن مالك عن الطيرة، فانتهرني، فقال: من حدثك؟ فكرهت أن أحدثه، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا طيرة، وإن كانت الطيرة في شيء ففي المرأة والدار والفرس". ش: أي وقد روي حديث الشؤم علي خلاف المعنى الحاصل من حديث عبد الله ابن عمر وغيره؛ وذلك لأن في حديث ابن عمر يخبر عن الشؤم أنه حاصل في الثلاث، وفي حديث سعد بن أبي وقاص هذا يخبر بأنه إن كان الشؤم في شيء يكون في الثلاث، وهذا الحديث بعين هذا الإسناد قد ذكر فيما مضي هذا الباب إلى قوله: "لا طيرة" فحسب، وهاهنا أعاده بتمامه وقد ذكرنا هناك ما فيه الكفاية. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا سليمان بن بلال، قال: حدثني عتبة بن مسلم، عن حمزة بن عبد اللهَ بن عمر، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاث: في الفرس والمسكن والدار". ش: هذا الإسناد بعينة قد ذُكِرَ آنفًا، غير أن هناك: ابن أبي مريم، عن محمَّد بن جعفر، وهاهنا: عن سليمان بن بلال، وهناك لفظ الحديث: "إنما الشؤم" وهاهنا: "إن كان الشؤم". وهكذا أخرجه مسلم سندًا ومتنًا وقد ذكرناه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، سمع جابرًا يحدث، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذا الإسناد بعينه قد ذكر فيما مضى في هذا الباب في "العدوى"، وهاهنا أعاده في الطيرة أيضًا عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر، عن النبي -عليه السلام-: "إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاث. . . ." الحديث.

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد يحدث، عن النبي -عليه السلام- مثله. قال أبو حازم: فكأن سهل بن سعد لم يكن يثبته، وأما الناس فيثبتونه. ش: إسناده صحيح. وأبو حازم -بالحاء المهملة والزاي- هو سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم، راوية سهل بن سعد الساعدي الصاحبي. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار -يعني الشؤم". وأخرجه مسلم (¬2): عن القعنبي، عن مالك. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي نعيم، عن هشام بن سعد، كلاهما عن أبي حازم، عن سهل نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن عبد السلام، عن عبد الله نافع، عن مالك، عن أبي حازم، نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى، عن الحضرمي بن لاحق، عن سعيد بن المسيب، حدثه قال: "سألت سعدًا عن الطيرة فانتهرني، وقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا طيرة وإن كانت الطيرة في شيء ففي المرأة والدار والفرس". ش: ذكر هذا الإسناد بعينه فيما مضى في ذكر "العدوى" وأعاده هاهنا في ذكر "الشؤم"، والكل حديث واحد قطَّعه للمناسبة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1959 رقم 4807). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1748 رقم 2226). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 642 رقم 1994).

وحبَّان -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة- هو ابن هلال الباهلي. وأبان هو ابن يزيد العطار. ويحيى هو ابن أبي كثير. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن عتبة ابن حميد، قال: حدثنا عبيد الله بن أبي بكر، أنه سمع أنس بن مالك يحدث، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده جيد حسن. وأبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري. وعتبة بن حميد الضبي، وثقه ابن حبان، وضعفه أحمد بن حنبل. وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، ووقع في بعض روايات الطحاوي في غير هذا الموضع: "أبو بكر بن عبد الله"، ووافق علي ذلك محمَّد بن إسحاق. والصحيح عبيد الله بن أبي بكر كما وقع هاهنا. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "إن كان الشؤم في شىء ففي ثلاث: في المرأة والفرس والدار". ش: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، والبخاري (¬2) ومسلم (2) من حديث مالك وقد ذكرناه عن قريب. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن عمران بن أبي ليلي، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا عدوى ولا طيرة، وإن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 972 رقم 1749). (¬2) تقدم.

ش: محمَّد بن عمران بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب"، وثقه ابن حبان. وأبوه عمران بن محمَّد بن أبي ليلي، روى له الترمذي وابن ماجه. وابن أبي ليلي هو محمَّد بن أبي ليلى الفقيه، فيه مقال. وعطية هو ابن سعد بن جنادة الكوفي، فيه مقال؛ فضعفه النسائي، وعن يحيى: صالح. وعن أبي زرعة: ليِّن. وأبو سعيد هو سعد بن مالك الخدري - رضي الله عنه -. ص: ففي هذا الحديث ما يدل علي غير ما في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وذلك أن سعدًا انتهر سعيدًا حين ذكر له الطيرة، وأخبره عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا طيرة" ثم قال: "إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار". فلم يخبر أنها فيهن، وإنما قال: إن تكن في شيء ففيهن، أي لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء، فإذا لم تكن في هؤلاء الثلاث فليست في شيء". ش: أراد بـ"هذا الحديث" هو الحديث الذي ذكر فيه الشؤم قَبْلَهُ الشرط كما في حديث سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر -الذي رواه عنه حمزة ابنه- وجابر وسهل بن سعد وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم -. وأراد بقوله: "غير ما في الفصل" الذي قبل هذا الفصل الحديث الذي فيه ذكر الشؤم بدون كلمة الشرط، كما في حديث عبد الله بن عمر الذي رواه عنه ابناه سالم وحمزة. قوله: "وذلك" إشارة (إلى) (¬1) التغاير المذكور بين الحديثين، وأراد بـ"سعد" سعد بن أبي وقاص، وبـ"سعيد" سعيد بن المسيب، وبقية الكلام قد حررناه فيما مضى. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن ما تكلم به رسول الله -عليه السلام- في ذلك كان علي غير هذا اللفظ: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي حسان قال: "دخل رجلان من بني عامر علي عائشة، فأخبراها أن أبا هريرة - رضي الله عنه - يحدث عن النبي -عليه السلام- أنه قال في الطيرة: في المرآة والدار والفرس، فغضبت وطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي نزَّل القرآن علي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ما قالها رسول الله -عليه السلام- قط، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك". فأخبرت عائشة - رضي الله عنها - أن ذلك القول كان من النبي -عليه السلام- حكاية عن أهل الجاهلية لا أنه عنده كذلك. ش: هذا في الحقيقة جواب آخر عن أحاديث الشؤم؛ حاصله: أن عائشة - رضي الله عنها - بينت أن قوله -عليه السلام-: "الشؤم في ثلاث. . . ." الحديث ليس معناه عنده أن الأمر كذلك، وإنما هذا حكاية حكاها -عليه السلام- عن أهل الجاهلية أنهم كانوا يعتقدون ذلك في هذه الأشياء الثلاثة؛ ولهذا أنكرت رواية أبي هريرة حين أخبر الرجلان بذلك، وحلفت أن رسول الله -عليه السلام- ما قالها قط. أخرج الطحاوي ذلك عنها بإسناد صحيح إلي أبي حسان الأعرج، ويقال: الأجرد، واسمه: مسلم بن عبد الله البصري، وثقه يحيى وابن حبان، وروي له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. وأخرجه ابن عبد البر عن أبي حسان المذكور (¬1): "أن رجلين دخلا علي عائشة وقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي -عليه السلام- قال: إنما الطيرة في الفرس والمرأة والدار، فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، ثم قالت: كذب والذي أنزل الفرقان علي مَن حدَّث عنه بهذا , ولكن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: كان أهل الجاهلية ¬

_ (¬1) "التمهيد" (9/ 289).

يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة - رضي الله عنها - {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ. . . .} (¬1) الآية". قوله: "وطارت شقة" أي قطعة، ورواه بعض المتأخرين بالسين المهملة، وأورد به المبالغة في الغضب والغيظ، يقال: قد أشق فلان من الغضب والغيظ كأنه امتلأ باطنه به حتى انشق، ومنه قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (¬2)، وقال أبو عمر (¬3): قول عائشة في أبي هريرة: "كذب" فإن العرب تقول: كذبت إذا أرادوا به التغليط، ومعناه: أوهم لم يظنَّ حقا ونحو هذا، وذلك معروف في كلامهم موجود في أشعارهم كثيرًا، قال أبو طالب: كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نُبْزي محمدًا ... ولما نطاعن دونه ونناضل فهذا من باب الغلط وظنّ ما ليس بصحيح، وذلك أن قريشًا أرادوا أن يُخْرجوا بني هاشم من مكة إن لم يتركوا جوار محمَّد -عليه السلام-، فقال لهم أبو طالب: كذبتم فيما ظنتتم. قوله: "نظعن" بالظاء المعجمة أي نرحل. و"البلابل" جمع بلبلة وهي الوسواس. قوله: "نُبْزِي" بالزاي المعجمة (¬4). و"المطاعنة" بالرماح، والمناضلة بالنبال. ¬

_ (¬1) سورة الحديد، آية: [22]. (¬2) سورة الملك، آية: [8]. (¬3) "التمهيد" (9/ 289). (¬4) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وذكر ابن الأثير في "النهاية" (1/ 125): هذا البيت ووقع فيه: "يُبْزي محمدٌ"، على البناء للمجهول، وقال: يبزي: أي يقهر ويغلب، ألا دلا يُبْزي، فحذف "لا" من جواب القسم، وهي مرادة، أي لا يُقهر ولم نقاتل عنه وندافع.

ص: باب: التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام-

ص: باب: التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام- ش: أي هذا باب في بيان حكم التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام-، وذلك أن يقول: النبي الفلاني خير من فلان النبي -عليه السلام-. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد قال: ثنا سفيان، عن المختار بن فلفل، قال: سمعت أنسًا - رضي الله عنه - يقول: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا خير البرية، فقال: ذاك أبي إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن المختار بن فلفل، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن محمَّد بن يونس، قالا: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان. . . . فذكر بإسناد مثله. ثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن المختار بن فلفل، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي شيخ أحمد، روى له الجماعة. عن سفيان الثوري، عن المختار بن فلفل القرشي المخزومي الكوفي وثقه يحيى والعجلي والنسائي وروى له مسلم، وفي الأربعة غير ابن ماجه. وأخرجه مسلم (¬1): عن محمد بن مثني، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن المختار، عن أنس. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى القطان، عن سفيان. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1839 رقم 2369).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا بندار، قال: نا ابن مهدي، عن سفيان، عن المختار. . . . نحوه. وقال: حديث حسن صحيح. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، وإبراهيم بن محمَّد بن يونس بن مروان، كلاهما عن أبي حذيفة موسي بن مسعود، شيخ البخاري، عن سفيان. . . . إلي آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا زياد بن أيوب، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن مختار ابن فلفل، فذكر عن أنس قال: قال رجل لرسول الله -عليه السلام-: "يا خير البرية، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذلك إبراهيم". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن المختار. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): ثنا علي بن مسهر، وابن فضيل، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذلك إبراهيم". وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا: عن أبي بكر بن أبي شيبة. قوله: "يا خير البرية" أي: يا خير الخلق، تقول: براه الله يبروه بروًا: أي خلقه، وتجمع على البرايا والبريات، من البَرَى وهو التراب، هذا إذا لم يُهْمزْ ومن ذهب إلي أن أصله الهمز أخذه مِن برأ الله الخلق يبرؤهم أي خلقهم، ثم ترك فيها الهمز تخفيفًا, ولم تستعمل مهموزة. قوله: "فقال ذاك" إشارة إلى خير البرية. قوله: "أي إبراهيم" وهو إبراهيم الخليل بن آزر -عليه السلام- ولا شك أن أصل النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 446 رقم 3352). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 218 رقم 4672). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 329 رقم 31816). (¬4) "صحيح مسلم" (4/ 1839 رقم 2369).

من ذرية إسماعيل كما هو مقرر في نسبه الشريف، وإسماعيل هو ابن إبراهيم -عليهما السلام-، وقال المنذري في شرح هذا الحديث: قيل: يحتمل أنه قاله قبل أن يوحى إليه بأنه خير منه، أو يكون علي جهة التواضع وكَرِهَ إظهار المطاولة على الآباء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي أنه لا بأس بالتخيير بين الأنبياء -عليهم السلام-، فيقال: إن فلانًا خير من فلان علي ما جاء مما كان في كل واحد منهم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: لا بأس أن يقال: إن فلانًا النبي خير من فلان النبي بحسب ما جاء عن كل واحد منهم مما يوجب ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام-. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير أهل الحديث والفقه، فإنهم يكرهون التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام- علي وجه يؤدي إلى الإزراء بالمخير عليه؛ لأنه ربما أدى ذلك إلى إفساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم، وليس معنى ذلك أن هذه التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه وتعالي، قد أخبر أنه فاضل بينهم فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. . . .} (¬1). الآية، وقال -عليه السلام-: "أنا سيد ولد آدم" (¬2). ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تخيروا بين أنبياء الله تعالى". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [253]. (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/ 1782 رقم 2278)، وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه؛ بحديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي المصري، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، شيخ البخاري في المقرنات، وثقه العجلي ويحيى. عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، روى له الجماعة، البخاري مقرونًا بغيره. عن عمرو بن يحيى المازني، وثقه أبو حاتم. عن أبيه يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني، روى له الجماعة. عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب، قال: نا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخيروا بين الأنبياء". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، شيخ البخاري، عن وكيع، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2). الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، عن الثوري. . . . إلي آخره. وأخرجه مسلم بأتم منه (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (6/ 2534 رقم 6518). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1245 رقم 3217). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1845 رقم 2374).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، قال: أخبرني الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-. . . . مثله، في حديث طويل غير أنه قال: "لا تفضلوا". فنهى رسول الله -عليه السلام- أن يُفَضَّل بين الأنبياء -عليهم السلام-. ش: إسناده صحيح، والوهبي هو أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي، شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه يحيى وأبو زرعة. والماجشون هو عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، روى له الجماعة. وعبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة المدني، روى له الجماعة. والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): نا زهير بن حرب، قال: ثنا حجين بن المثني، قال: نا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "بينما يهودي يعرض سلعة له أعطي بها شيئًا كرهه لم يَرْضَهُ -شك عبد العزيز- قال: لا، والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا؟! قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمةً وعهدًا، وقال: فلان لطم وجهي، فقال رسول الله -عليه السلام-: لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى على البشر، وأنت بين أظهرنا، قال: فغضب رسول الله -عليه السلام- حتى عُرف الغضب في وجهه ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فَيُصْعَق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول مَنْ بعث -أو في أول من بُعث- فإذا موسى -عليه السلام- آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب لصعقته يوم الطور أو بُعث قبلي، ولا أقول أن أحدًا أفضل من يونس بن متى". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1843 رقم 2373).

وأخرجه البخاري (¬1): عن يحيى بن بكير، عن ليث، عن عبد العزيز بن أبي سلمة. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2) عن حجاج ومحمد بن يحيى، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج، كلاهما عن أبي هريرة نحوه. وفيه: "لا تخيروني علي موسى" موضع: "لا تفضلوا بين أنبياء الله تعالى". قوله: "فسمعه رجل من الأنصار" وقد قيل: إنه كان أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -. قلت: هذا لا يصح؛ إلا أن تكون قضيتان والله أعلم. واسم اليهودي: فنحاص. ص: وروي عنه أنه قال: "لا تفضلوني علي موسى": حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تخيروني علي موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى -عليه السلام- باطش بجانب العرش، فلا أدري أصَعِق فيمن كان صعق فأفاق قبلي، أو كان فيمن استثنى الله -عز وجل-". فنهى رسول الله -عليه السلام- أن يفضلوه علي موسى، وقال لهم: "إني أول من يُفِيق من الصعقة، فأجد موسى قائمًا، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان فيمن استثنى الله -عز وجل-؟ ". فكان ذلك عندنا على أنه جاز عنده أن يكون فيمن استثنى الله -عز وجل- فلم تصبه الصعقة ففضل بذلك، أو صُعِقَ فأفاق قبله فكان في منزلته؟ لأنهما قد صعقا جميعًا، فكره النبي -عليه السلام- لذلك تفضيله عليه لمَّا احتمل تَخَطيِّ الصعقة إياه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1254 رقم 3233). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 217 رقم 4671).

ش: أي: وروي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تفضلوني علي موسي"، أشار بهذا إلى أنه -عليه السلام- قد نهى أمته عن التفضيل بين الأنبياء -عليهم السلام- مطلقًا، ونهى أيضًا عن تفضيلهم إياه علي موسي -عليه السلام- خصوصًا، وجاء كلاهما في حديث أبي هريرة. فالأول: رواه الأعراج، عنه، عن النبي -عليه السلام-. والثاني: رواه سعيد بن المسيب، عنه، عن النبي -عليه السلام-. وكلا الإسنادين صحيح. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن الدارمي، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وعن محمَّد بن حاتم، عن يزيد بن هارون، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وعن زهير بن حرب وأبي بكر بن النضر، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج، عن أبي هريرة قال: "استبَّ رجلان: رجل من اليهود ورجل من المسلمين، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. قال اليهودي: والذي اصطفى موسي على العالمين. قال: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تخيروني علي موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟ ". قوله: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الصعق: أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرًا, وليس المراد به هاهنا إلا المعنى الأول؛ وذلك لأن الناس لا يموتون يوم القيامة، وإنما يصعقون، أي يغشى عليهم من شدة الأهوال حتي يصيرون كالموتى، ثم يُفيقون، للحساب، فيكون أول من يُفيق منهم رسول الله -عليه السلام-، فيرى موسي -عليه السلام- باطشًا بجانب العرش أي متعلقًا به بقوة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1844 رقم 2373).

و"البطش": الأخذ القوي الشديد. ثم إنه -عليه السلام- أخبر أنه لا يدري أكان موسى -عليه السلام- صعق فيمن كانوا صعقوا، فأفاق قبله -عليه السلام- أو كان فيمن استثنى الله -عز وجل- من الملائكة ممن لا يصعقون؛ وذلك لأجل مجازاته بصعقة الطور كما جاء في رواية أبي سعيد الخدري. أخرجها البخاري (¬1) ومسلم (¬2): "لا تخيروني من بين الأنبياء؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور؟ ". فإذا كان الأمر كذلك يكون تفضيله -عليه السلام- إياه لهذا المعنى الخاص، ولا يلزم من تفضيل أحد علي أحد في صفة خاصة أن يكون أفضل منه في جميع الصفات، ويقال: وجه نهيه -عليه السلام- عن تفضيلهم إياه علي موسى -عليه السلام- كان لما ذكر من النزاع الكائن بين الأنصاري وبين اليهودي اللذين تنازعا عنده في الفضل عليهم والإخلال، بالواجب في حقه، في هذه القضية حين تنازع إليه الأنصاري واليهودي: "لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من أبعث، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أم بعث قبلي؟ ولا أقول أن أحدًا أفضل من يونس بن متى". وهاهنا قد نهاهم أن يفضلوا بين الأنبياء كلهم لما ذكرنا من المعني، ثم خصص موسى بالذكر قطعًا لمادة النزاع وتطييبًا لقب اليهودي، ثم عمم نفي تفضيل الأنبياء كلهم علي يونس بن متى -عليه السلام-، ولكن هذا له تأويلان: أحدهما: أن يكون أراد من سواه من الأنبياء دون نفسه. والثاني: أن يكون ذلك مطلقًا فيه وفي غيره من الأنبياء -عليهم السلام- فيكون هذا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1245 رقم 3217). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1845 رقم 2374).

القول علي سبيل الهضم من نفسه وإظهار التواضع لربه -عز وجل- حتى قال في رواية أخرى: "لا ينبغي لي أن أقول: أنا خير منه"؛ لأن الفضيلة التي بيننا كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بحولي وقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها، وإنما يجب علينا من شأنه و [ما] (¬1) كان من قلة صبره علي أذى قومه فخرج مغاضبًا ولم يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، وبهذا حصل التوفيق أيضًا بين قوله -عليه السلام-: "أنا سيد ولد آدم"، قوله: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". والجواب القاطع الفاصل في هذا الباب: أن الأنبياء كلهم سواء في حق النبوة والرسالة، ولا نفضل بعضهم علي بعض في هذا المعنى، وإنما التفاضل في زيادات الأحوال والكرامات، ونفي النبي -عليه السلام- تفضيل نفسه علي موسي أو علي غيره، وتفضيل الأنبياء علي يونس ونحو ذلك كله يرجع إلى تفضيل في حق النبوة، وقد يقال: إن هذا كله يحتمل أن يكون قبل أن يوحى إليه بأنه خير الأنبياء وأفضلهم. والله أعلم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "قال الله -عز وجل-: ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "من".

حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث، عن علي - رضي الله عنه - كأنه عن الله -عز وجل-فذكر مثله، وزاد: "قد سبح الله في الظلمات". فنهى رسول الله -عليه السلام- في هذه الآثار عن التخيير بينه وبين أحد من الأنبياء بعينه، وأخبر بفضيلة لكل من ذكره منهم لم تكن لغيره. ش: هذا أيضًا من جملة الحجج التي يحتج بها في النهي عن التخيير بين الأنبياء -عليهم السلام-، وعن التخيير بين نبينا محمَّد -عليه السلام- وبين أحد منهم بعينه، وأخرج في ذلك عن ثلاثة من الصحابة: الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرج عنه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة عن أبي العالية رُفَيع بن مهران الرياحي البصري. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى". وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن مثنى وابن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا العالية يقول: حدثني ابن عم نبيكم -يعني ابن عباس- عن النبي -عليه السلام- قال: "ما ينبغي لعبد يقول: أنا خير من يونس بن متى. ونسبه إلى أبيه". وكذا أخرجه البخاري (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 217 رقم 4669). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1846 رقم 2377). (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1244 رقم 3215).

ورواية البخاري ومسلم ترد على من يقول: إن متى اسم أم يونس، وأنه لم يشتهر من الأنبياء باسم أمه إلا يونس وعيسى -عليهما السلام-. ومَتَّي: بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوق. الثاني: عن أبي هريرة بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن المثني، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". الثالث: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بإسناد صحيح -عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة الجملي الكوفي الفقيه الأعمى، عن عبد الله بن سَلِمة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمَة، عن علي قال: "قال -يعني الله -عز وجل-: ليس لعبدٍ لي أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى؛ سبَّح الله في الظلمات". وروي في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود أيضًا: أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا الفضل، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى". ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (5/ 105 رقم 1683)، وهو في "صحيح البخاري" (3/ 1255 رقم 3234)، و"صحيح مسلم" (4/ 1846 رقم 2376) كلاهما من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم به. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 377 رقم 318163). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 377 رقم 318164).

وروي عن عبد الله بن جعفر أيضًا: أخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن حكيم، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الله بن جعفر قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يقول: ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متَّى -عليه السلام-". ص: فإن قال قائل: أفتجعل هذا مضادًّا لحديث المختار بن فلفل؟ قلت: ليس هو عندي بمضادٍّ له؛ لأن حديث المختار إنما هو عن أنس - رضي الله عنه -: "أن إبراهيم خير البرية" فلم يقصد في ذلك إلي أحد دون أحد، وفي الآثار الأُخر تفضيل نبى علي نبي، ففي تفضيل أحدهم بعينه على الآخر بعينه منهم إزراء على المفضول، وليس في تفضيل رجل على الناس إزراء علي أحد منهم، هذا يحتمل أن يكون هو [المعنى] (¬2) حتى لا تتضاد هذه الآثار , وقد يحتمل أن يكون الله -عز وجل- أطلع رسوله علي أن إبراهيم -عليه السلام- خير البرية، ولم يطلعه علي تفضيل بعض الأنبياء غيره علي بعض، فوقف فيما لم يطلعه الله -عز وجل- عليه، وأمر بالوقف عنده، وأطلق الكلام فيما أطلعه الله -عز وجل- عليه. ش: تقرير السؤال أن يقال: بين حديث أنس الذي رواه عنه المختار بن فلفل وبين الأحاديث التي وردت في حق يونس -عليه السلام- تعارض ظاهر أو تضاد؛ لأن حديث أنس أخبر أن إبراهيم -عليه السلام- هو خير البرية، وهذه الأحاديث منعت أن يقال: إن أحدًا خير من يونس. والجواب ظاهر، والسؤال المذكور يَرِدُ أيضًا في قوله -عليه السلام-: "أنا سيد ولد آدم" فإنه يعارض الأحاديث التي وردت في يونس -عليه السلام-. والجواب عنه ما ذكرناه فيما مضى. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 217 رقم 4670). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: باب: إخصاء البهائم

ص: باب: إخصاء البهائم ش: أي هذا باب في بيان إخصاء البهائم، يقال: خصيت الفحل خِصَاءً -ممدود إذا سللت خصييه أي قلعتها , ولم يذكر الجوهري أخصيته، وكلاهما يستعمل: خصيت وأخصيت، والأول أصح. ص: حدثنا أبو خالد يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن نُخْصِي الإبل والبقر والغنم والخيل، وكان عبد الله بن عمر يقول: منها نشأت الخلق فلا تصلح الإناث إلا بالذكور". حدثنا يزيد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن عبد الله بن نافع. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: أي روي بإسنادين: الأول: عن يزيد بن سنان، عن أبي بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد البصري، أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، عن عبد الله بن نافع القرشي العدوي المدني، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف. وعن النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه. عن أبيه نافع مولى ابن عمر. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: نا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: "نهي رسول الله -عليه السلام- عن خصاء الخيل والبهائم. وقال ابن عمر: فيه نماء الخلق". الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الله بن يوسف التنيسي، شيخ البخاري، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 423 رقم 32577).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث جبارة بن المغلس، عن عيسى بن يونس، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل. وقال: إنما النماء في الحبَل". تابعه يحيى بن اليمان، عن عبيد الله مرفوعًا، ورواه غير جبارة عن عيسي، فقال: عن عبيد الله بن عمر، ورواه جبارة أيضًا عن عيسى فقال: عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: "نهى النبي -عليه السلام-". وعبد الله بن نافع ضعيف يليق به رفع الموقوف. قلت: رفع هذا الحديث غير صحيح، والصحيح أنه موقوف. والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: لا يحل إخصاء شيء من الفحول، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وبقول الله -عز وجل-: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬2)، قالوا: وهو الإخصاء. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عكرمة وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهدًا والحسن البصري، فإنهم قالوا: لا يحل إخصاء شيء من الفحول، واستدلوا علي ذلك بالحديث المذكور، وبقوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}، قالوا: المراد به الإخصاء. قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: سمعنا أنسًا يقول: " {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال: الخصاء". وروي كراهة الخصاء أيضًا عن ابن عمر وأبيه عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 24 رقم 19580). (¬2) سورة النساء، آية: [119]. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 423 رقم 32581).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما خيف عضاضه من البهائم، أو ما أريد شحمه منها فلا بأس بإخصائه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمَّد بن سيرين وأيوب السختياني، وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح -في الأصح عنه- والثوري والنخعي وأبا حنيفة، ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم إلا ما روي عن مالك من كراهة الخصاء في الخيل فقط. قوله: "عضاضه". العضاض -بكسر العين- مصدر كالمعاضضة يقال: عضه وعَضَّ به وعضَّ عليه، وهما يتَعَاضَّان إذا عض كل واحد منهما صاحبه، وكذلك المعاضة والعضاض. ص: وقالوا: هذا الحديث الذي احتج به علينا مخالفنا إنما هو عن ابن عمر موقوف وليس عن النبي -عليه السلام-. فذكروا ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: أنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر مثله. ولم يذكر عن النبي -عليه السلام-. فأما ما ذكروا من قول الله -عز وجل-: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬1) فقد قيل: تأويله ما ذهبوا إليه، وقيل: إنه دين الله -عز وجل-، وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- ضحى بكبشين موجوءَين وهما المرضوض خصاهما، والمفعول به ذلك فقد انقطع أن يكون له نسل، فلو كان إخصاؤهما مكروهًا لما ضحى بهما رسول الله -عليه السلام- لينتهي الناس عن ذلك فلا يفعلوه؛ لأنهم متى علموا أن ما أخصي يجتنب ويتجافى؛ أحجموا عن ذلك فلم يفعلوه، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فيما روينا عنه في باب: ركوب البغال: "أنه أتي بعبد خصي ليشتريه فقال: ما كنت لأعين على الإخصاء" فجعل ابتياعه إياه عونًا علي إخصائه؛ لأنه لولا من يبتاعه لأنه خصي لم يَخْصِهِ من أخصاه، فكذلك إخصاء الغنم لو كان مكروهًا لما ضحى رسول الله -عليه السلام- بما قد أخصي منها، ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [119].

ولا يشبه إخصاء البهائم إخصاء بني آدم؛ لأن إخصاء البهائم إنما يراد به ما ذكرنا من سمانتها وقطع عَضِّها؛ فذلك مباح، وبنو آدم فإنما يراد بإخصائهم المعاصي فذلك غير مباح، ولو كان ما روينا في أول هذا الباب صحيحًا لاحتمل أن يكون أريد به الإخصاء الذي لا يبقى معه شيء من ذكور البهائم حتى يخصي، فذلك مكروه؛ لأن فيه انقطاع النسل، ألا تراه يقول في ذلك الحديث: "منها نشأت الخلق" أي فإذا فعل لم ينشأ شيء من ذلك الخلق، فذلك مكروه، فأما ما كان من الإخصاء الذي لا ينقطع معه نشؤ الخلق؛ فهو بخلاف ذلك. ش: أي قال الآخرون، وهذا جواب عن الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى , بيانه: أن الحديث الذي احتجوا به أصله موقوف على ابن عمر ولا يصح رفعه عن النبي -عليه السلام-، أخرج ذلك الطحاوي عن محمَّد بن خزيمة، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. ولم يذكر عن النبي -عليه السلام-، فإذا كان كذلك فلا تقوم به الحجة، ولئن سلَّمنا صحة رفعه فهو ضعيف الإسناد؛ فلا يصح الاحتجاج به. قوله: "فأما ما ذكروا من قول الله -عز وجل-. . . ." إلى آخره. جواب عن احتجاجهم بقوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬1)، بيان ذلك أنهم اختلفوا في تأويله؛ فقد قال بعضهم: تأويله ما ذكره أهل المقالة الأولي، وقال الآخرون: المراد به دين الله تعالي، روي ذلك البيهقي في "سننه" (¬2) من حديث ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "يعني الفطرة الدين". وروى أيضًا (¬3) من حديث المغيرة عن إبراهيم قال: يعني دين الله. وروي أيضًا نحو ذلك عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [119]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 25 رقم 19582). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 25 رقم 19583).

قوله: "وقد رأينا رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلي آخره. ذكره شاهدًا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية؛ وتصديقًا لما ادعوه، وهو ظاهر. قوله: "ولا يشبه إخصاء البهائم. . . ." إلي آخره جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: يكره إخصاء البهائم كما يكره إخصاء بني آدم بالإجماع، والعلة قطع النسل وتعذيب الحيوان بلا فائدة، فأجاب عنه بقوله: "ولا يشبه. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ولو كان ما روينا في أول هذا الباب. . . ." إلي آخره. جواب آخر عن حديث ابن عمر المذكور في صدر الكتاب بطريق التسليم، وتقريره أن يقال: وإن سلمنا أن هذا الحديث مرفوع وأنه صحيح الإسناد، ولكنه محمول علي معنى غير ما فهمه الخصم وهو قوله: "لاحتمل أن يكون أريد به. . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ص: وقد روي في إباحة إخصاء البهائم عن جماعة من المتقدمين: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن عروة "أنه خصى بغلًا له". حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، قال: ثنا سفيان، عن هشام ابن عروة، عن أبيه مثله. حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس: "أن أباه أخصى جملًا له". حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله القواريري، قال: ثنا سفيان، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: "لا بأس بإخصاء العجل إذا خشي عِضَاضُه". ش: أسانيد هذه الآثار صحاح. وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري. وابن أبي عمران هو أحمد بن موسى الفقيه البغدادي.

وعبيد الله بن عمر بن القواريري البصري، نزيل بغداد، وشيخ البخاري ومسلم وأبو داود، وابن طاوس هو عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني، وسفيان هو الثوري، ومالك بن مغول البجلي الكوفي، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: أنا هشام: "أن أباه خصى بغلًا له". ثنا وكيع (¬2) قال: ثنا مالك بن مغول قال: "سألت عطاء عن خصاء الخيل، قال: ما خيف عِضَاضَه وسوء خلقه فلا بأس به". ثنا وكيع (¬3) قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير المدائني، عن الحسن قال: "لا بأس بخصاء الدواب". ثنا أبو بكر (¬4)، ثنا بعض البصرين، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "لا بأس بخصاء الجمل؛ لو تركت الفحول لأكل بعضها بعضًا". والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 423 رقم 32587). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 423 رقم 32588). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 424 رقم 32589). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 424 رقم 32590).

ص: باب: كتابة العلم هل تصلح أم لا؟

ص: باب: كتابة العلم هل تصلح أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم كتابة العلم هل تصلح أم لا؟ ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أنه استأذن النبي -عليه السلام- في كتابة العلم، فلم يأذن له". ش: إبراهيم بن بشار الرمادي، قال البخاري: صدوق. وقال النسائي: ليس بالقوي. وعبد الرحمن بن زيد المدني، فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف. وعن النسائي مثله. وقال أبو حاتم: في نفسه صالح، وفي الحديث واهٍ. وأبوه زيد بن أسلم القرشي المدني، روى له الجماعة. وعطاء بن يسار الهلالي مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1) بغير هذا اللفظ: ثنا هدبة بن خالد، قال: ثنا همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، ثنا عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن النبي -عليه السلام- قال: "لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، ومَن كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه، وقال: حدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَ -قال همام: أحسبه قال: متعمدًا- فليتبوأ مقعده من النار، قال: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلي كراهة كتابة العلم، ونهوا عن ذلك، واحتجوا فيه بما ذكرنا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين والقاسم وعَبِيدة والأوزاعي والزهري؛ فإنهم كانوا يكرهون كتابة العلم وينهون عن ذلك، واحتجوا في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري المذكور، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس- رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2298 رقم 3004).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بكتابه العلم بأسًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب والضحاك وسعيد بن جبير وعامرًا الشعبي وصالح بن كيسان وآخرين كثيرين، فإنهم لم يروا بذلك بأسًا، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة والبراء بن عازب - رضي الله عنهم -. ص: وعارضوا ما احتج به عليهم مخالفوهم من الأمر الذي ذكرنا بما قد روي عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك، عن المخارق، عن طارق قال: "خَطَبَنَا علي - رضي الله عنه - فقال: ما عندنا من كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله وهذه الصحيفة -يعني صحيفة في دواته، أو قال: في غلاف سيف عليه- أخذتها من رسول الله -عليه السلام- فيها فرائض الصدقة". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - قال: "ليس عندنا عن النبي -عليه السلام- من كتابٍ إلا كتاب الله -عز وجل-، وشيء في هذه الصحيفة: المدينة حرام ما بين عَير إلي ثَوْر". ش: أي عارض الآخرون ما احتج به عليهم القوم المذكورون الذين خالفوهم من الحديث المذكور بما قد روي عن النبي -عليه السلام-، وهو حديث علي بن أبي طالب. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي -شيخ البخاري- عن شريك بن عبد الله النخعي، عن المخارق بن خليفة بن جابر -ويقال: مخارق بن عبد الله بن جابر، ويقال: مخارق بن عبد الرحمن الكوفي- وثقه يحيى وأحمد، وروى له البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود في القدر. عن طارق بن شهاب الأحمسي الصحابي.

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبو نعيم، عن شريك، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: "رأيت عليًّا - رضي الله عنه - وهو يقول على المنبر: ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله -عز وجل-، وهذه الصحيفة -صحيفة معلقة في سيفه- وذكر أن فيها فرائض الصدقة التي أخذها في حياة رسول الله -عليه السلام- , ولا نعلم روى طارق بن شهاب عن علي إلا هذا الحديث، وطارق رجل قد رأى النبي -عليه السلام-. وأخرج البخاري (¬2): عن محمَّد بن سلام، عن وكيع، عن سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي: "هل عندكم عن رسول الله -عليه السلام- شيء سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدًا علمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة؟ قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: فكاك الأسير، والعقل، وأن لا يُقْتَل مسلم بكافر". وأخرجه الترمذي (¬3): عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن مطرف، عن الشعبي، أنا أبو جحيفة قال: "قلت لعلي: هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله. . . ." الحديث. والنسائي (¬4): عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، بمعناه. وابن ماجه (¬5): عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش عن مطرف، عن الشعبي نحوه. الثاني: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 150 رقم 513). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 53 رقم 111). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 23 رقم 1412). (¬4) "المجتبى" (8/ 23 رقم 4744). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 887 رقم 2658).

وقد أخرجه الطحاوي بعينه في باب: صيد المدينة، عن فهد، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "خطبنا علي - رضي الله عنه - علي منبر من آجر، وعليه سقف فيه صحيفة معلقة به، فقال: والله، ما عندنا من كتاب نقرأه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها فإذا فيها: المدينة حرام من عَيْر إلى ثَوْر". وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه الجماعة غير النسائي واستقصينا الكلام فيه هناك. وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد التيمي، وأبوه يزيد بن شريك التيمي. ص: وفي الحديث غير هذا: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا أبي إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن المغيرة بن حكيم ومجاهد، أنهما سمعا أبا هريرة يقول: "ما كان أحد أحفظ الحديث رسول الله -عليه السلام- مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإني كنت أعي بقلبي وكان يعي بقلبه ويكتب بيده، استأذن النبي -عليه السلام- في ذلك فأذن له". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن سليمان، عن عُقَيل بن خالد، عن عمرو بن شعيب، أن شعيبًا حدثه ومجاهدًا، عن عبد الله بن عمرو قال: "قلت: يا رسول الله، أكتب ما سمعت منك؟ قال: نعم، قلت: عند الغضب والرضا؟ قال: نعم، إنه لا ينبغي لي إلا أن أقول حقًا". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يعني عبد الرحمن بن سليمان، عن عُقَيل بن خالد، عن المغيرة بن حكيم، أنه سمع من أبي هريرة. . . . فذكر نحوًا من ذلك. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا ابن أبي مريم قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك أشياء أخاف [أن] (¬1) أنساها، أفتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وفي هذه الآثار الإباحة لكتابة العلم، وخلاف حديث أبي سعيد الذي ذكرناه في أول هذا الباب. ش: أي وجاء في حديث النبي -عليه السلام- غير ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، وهو ما يدل على إباحة كتابة العلم. وأخرج في ذلك عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص. أما عن أبي هريرة فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، عن محمَّد بن إسحاق، عن المغيرة بن حكيم الصعاني الأبناوي، وثقه يحيى والعجلي والنسائي، وروى له مسلم، واستشهد به البخاري. وأخرجه البيهقي في كتاب "المدخل" (¬1): أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس -هو الأصم- ثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أحمد بن خالد، نا محمَّد بن إسحاق (ح). وثنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو عمرو السماك، نا حنبل بن إسحاق، نا أحمد بن عبد الملك الحراني سأله أبو عبد الله عنه فحدثه به، قال: نا محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن مجاهد والمغيرة بن حكيم، قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله -عليه السلام- مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتبه بيده ويعيه بقلبه وكنت أعي ولا أكتب، واستأذن رسول الله -عليه السلام- في الكتاب عنه، فأذن له". قوله: "أعي بقلبي" أي أحفظ، من وَعَى يَعِي وَعْيًا أي حفظ يحفظ، وأصل أعي: أوْعى، حذفت "الواو" تبعًا لحذفها من يعي؛ لأنها حذفت فيه لوقوعها بين الكسرة والياء. فافهم. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 412 رقم 751).

سَلمان -بفتح السين وسكون اللام- الرعيني الحجري المصري، وثقه ابن يونس، وروى له مسلم والنسائي. عن عُقَيل- بضم العين- بن خالد الأيلي، عن المغيرة بن حكيم، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده". وأما عن عبد الله بن عمرو فأخرجه أيضًا من طريقين: الأول: بإسناد صحيح. عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "المدخل" (¬1): أنا أبو عبد الله بن البياع الحافظ، نا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، أنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن سَلْمان، عن عُقَيل بن خالد. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن سعيد بن الحكم -المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري- عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخرساني أبي مسعود المقدسي، ضعفه مسلم. وقال: عمرو بن علي: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. روى له ابن ماجه، وهو يروي عن أبيه عطاء الخراساني، روى له الجماعة إلا البخاري. وقوله: "ففي هذه الآثار" أراد بها أحاديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو. ص: وهذا أولى بالنظر؛ لأن الله -عز وجل- قال في الدَّيْن: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} (¬2)، فلما أمر الله -عز وجل- بكتابة الدين خوف الرَّيْب؛ كان العلم الدي حفظه أصعب من حفظ الدَّيْن أحرى أن تباح كتابته (فيه وأشد) (¬3)، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 414 رقم 754). (¬2) سورة البقرة، آية: [282]. (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار": "خوف الرَّيْب فيه والشك".

ش: أي هذا الذي ذهب إليه أهل المقالة الثانية أولى بالنظر والقياس، ووجه ذلك ظاهر. قوله: "وهذا قول أبي حينفة" أي ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية هو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو أيضًا قول مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم. ص: وقد روي في ذلك أيضًا من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوافق هذا: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا حفص بن عمر العدني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنَّ ناسًا من أهل الطائف أتوه بصحف من صحفه [ليقرأها] (¬1) عليهم، فلما أخذها لم ينطلق قال: إني لما ذهب بصري بُلهْتُ فاقرءوها عليَّ ولا يكن في أنفسكم من ذلك حرج، فإن قراءتكم عليَّ كقراءتي عليكم". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أنا سليمان التيمي، عن طاوس قال: "كان سعيد بن جبير يكتب عند ابن عباس، فقيل له: إنهم يكتبون، فقال: يكتبون، وكان أحسن شيء خلقًا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: ثنا يعقوب القُمِّي قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن عقيل قال: "كنا نأتي جابر بن عبد الله فنسأله عن [سنن] (¬2) رسول الله -عليه السلام- فنكتبها". حدثنا حسين، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أنا سليمان التيمي عن ثابت، عن أنس، قال: ثنا محمود [بن] (2) الربيع عن عتبان بن مالك قال أنس: "فلقيت عتبان فحدثني به فأعجبني، فقلت لابني: اكتبه، فكتبه". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال ثنا سفيان، عن عمرو، عن وهب بن منبه، عن أخيه، سمع أبا هريرة يقول: "ليس أحد من ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "ليقرأه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

أصحاب رسول الله -عليه السلام- أكثر حديثًا عن رسول الله -عليه السلام- مني ما خلا عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي، عن عمران بن حدير، عن بشير بن نهيك قال: "كنت آخذ الكتب من أبي هريرة فأكتبها، فإذا فرغتُ قرأتها عليه، فأقول الذي قرأته بها عليك أسمعته منك؟ فيقول: نعم". ش: أي قد روي في إباحة كتابة العلم أيضًا من بعد النبي -عليه السلام- عن الصحابة والتابعين ما يوافق ما روي من أحاديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرج في ذلك عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وأبي هريرة وبشير بن نهيك - رضي الله عنهم -. أما عن ابن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "المدخل": أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا بكر بن محمَّد بن حمدان الصيرفي بمرو، ثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي، ثنا حفص بن عمر العدني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "جاء ناس من أهل الطائف، فقالوا: إن معنا كتبًا أو علمًا من علمك فنحب أن تقرأه علينا، فأخذ ابن عباس الكتب فجعل يقدم ويؤخر، فقال: إني قد بُلِهْت منذ ذهب بصري، ولكن اقرؤا عليّ، وإن قراءتكم إياه عليّ كقراءتي إياه عليكم، ولا يكن في أنفسكم من ذلك شيء". قوله: "بُلهت" بكسر اللام من بَلِهَ يبْلَهُ بلاهة، ومنه رجل أبله، وهو الذي غلبت عليه سلامة الصدر وبلهت هنا: تغيرتُ عما كنت عليه. ويستفاد منه: جواز كتابة العلم، وأن قراءة الشيخ على التلميذ وعكسه سواء. الثاني: عن حسين بن نصر. . . . إلى آخره.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن نمير، عن عثمان بن حكيم، عن سعيد بن جبير: "أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث في أوسط الرحل فإذا نزل نَسَخَه". وقال البيهقي (¬2): أنا أبو الحسن، أنا أبو عمرو، ثنا حنبل، نا حسن بن الربيع، ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم كتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفيِّ". وأما عن جابر: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الربيع سليمان ابن داود الزهراني، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يعقوب بن عبد الله بن سعيد القمي الأشعري، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة والبخاري مستشهدًا، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب القرشي المدني، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس حديثه بحجة. وعنه: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ليِّن الحديث. وأخرج البيهقي في "المدخل" (¬3): ثنا عثمان، نا علي بن هاشم، عن محمَّد بن علي السلمي، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل قال: "كنت أختلف أنا وأبو جعفر إلى جابر بن عبد الله، نكتب عنه في ألواح". وأما عن أنس: فأخرجه عن حسين بن نصر، عن نعيم بن حماد المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: حدثنا محمود بن الربيع بن سراقة الخزرجي الأنصاري الصحابي، فإنه عقل عن النبي -عليه السلام- مجة مجها في وجهه من دلوٍ من بئر في دارهم وهو يوري عن عتبان بن مالك ابن عمرو العجلاني الصحابي وهؤلاء ثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض. وأما عن أبي هريرة فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسي، عن سفيان الثوري، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 314 رقم 26434). (¬2) "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 421 رقم 774). (¬3) "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 422 رقم 776).

عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه بن كامل الصنعاني الذماري وثقه يحيى وأبو زرعة والنسائي، وروي له الجماعة، ابن ماجه في التفسير، عن أخيه همام بن منبه، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬1): عن علي بن المديني، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: "ما أحد أكثر حديثًا عن رسول الله -عليه السلام- مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي، عن أحمد بن حمدان العسكري، عن علي بن المديني. . . . نحو رواية البخاري. وأخرجه البيهقي (¬2): عن أبي عمرو الأديب، عن أبي بكر الإسماعيلي. وأما عن بشير بن نهيك السدوسي البصري: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلي، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، وثقه أبو حاتم، عن شعيب بن إسحاق بن إبراهيم الدمشقي مولى رملة بنت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - روي له الجماعة سوى الترمذي، عن عمران بن حدير السدوسي البصري -وثقه يحيى والنسائي، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن بشير بن نهيك قال: "كنت أكتب ما أسمعه من أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابي فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 54 رقم 113). (¬2) "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 412 رقم 748). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 314 رقم 26432).

ص: باب: الكي هل هو مكروه أم لا؟

ص: باب: الكي هل هو مكروه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الكي بالنار هل يكره أم لا؟ وأصل كي: كوى علي وزن فعل؛ لأنه مصدر من كَوى يكْوِي، اجتمعت الواو الياء وسُبِقَت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، يقال: كويته فاكتوى. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: "أن ناسًا أتوا النبي -عليه السلام- بصاحب لهم، فسألوه: أنكويه؟ فسكت، فسألوه فسكت، فسألوه فسكت، ثم سألوه فقال: ارضفوه أو حرقوه، وكره ذلك". ش: إسناده صحيح. وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. وأبو الأحوص عوف بن مالك. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: "جاء نفر إلى رسول الله -عليه السلام-[فقالوا] (¬2): إن صاحبنا اشتكى أفنكويه؟ فسكت ساعةً، ثم قال: إن شئتم فاكووه، وإن شئتم فارضفوه -يعني بالحجارة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا محمد بن عبد الله، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: "أتي النبي -عليه السلام- برجل نُعِتَ له الكي، فقال له النبي -عليه السلام-: اكووه أو ارضفوه". قوله: "ارضفوه" أي كمدوه بالرضف وهو الحجر المحمي، قال الجوهري: الرضف بالحجارة المحماة يوغر بها اللبن، واحدها رضفة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 342 رقم 19336). (¬2) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "سنن البيهقي". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 52 رقم 23617).

ص: حدثنا رييع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- ثلاثة نفر فقالوا: إن صاحبًا لنا مريض وُصِفَ له الكيّ، أفنكويه؟ فسكت، ثم عادوا، فسكت، ثم قال لهم في الثالثة: اكووه إن شئتم، وان شئتم فارضفوه بالرضف". ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: "أن قومًا أتوا النبي -عليه السلام- فقالوا: صاحب لنا يشتكي، أنكويه؟ قال: فسكت، ثم [قالوا] (¬2): أنكويه؟ فسكت، ثم قال: أنكويه؟ فسكت فقال: اكووه وارضفوه بالرضف رضفًا". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ومعنى هذا عندنا على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي، كما قال الله -عز وجل-: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ. . .} (¬3) الآية، وكقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬4). ش: أي معنى هذا الحديث، وأشار به إلى أن الأمر المذكور في حديث عبد الله ليس علي حقيقته، وإنما ظاهره الأمر، ولكن باطنه النهي بطريق الوعيد والتهديد، ذلك كما في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} (3)؛ وذلك لأن الله تعالى لا يأمر الشيطان باستفزاز من يستطيعه، والاستفزاز: الاستخفاف، وكذلك في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (4) ليس علي حقيقته بأن يكون أمرًا منه بأن يعملوا كل ما يشاءون، ومنه ما يقال لعبد شتم مولاه وقد أدبه: اشتم مولاك؛ فإنه ليس يأمر بالشتم ولكنه تهديد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 390 رقم 3701). (¬2) في "الأصل": "قال"، والمثبت من "مسند أحمد". (¬3) سورة الإسراء، آية: [64]. (¬4) سورة فصلت، آية: [40].

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو سعيد محمَّد بن أسعد التغلبي، ثنا زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن كان في شيء مما تداوون به شفاء ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار، وما أحب أن أكتوي". ش: علي بن عبد الرحمن بن محمَّد الكوفي المعروف بعلَّان. ومحمد بن أسعد التغلبي أبو سعيد المصيصي، وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن ابن معين والعجلي: ثقة، وقال ابن عدي: لا بأس به، صدوق في رواياته. وأخرجه البزار في "مسنده": عن بشر بن خالد العسكري، عن محمَّد بن أسعد التغلبي، عن زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع نحوه. قوله: "شرطة محجم" مِن شرطَ الحجام يَشْرِطُ ويَشْرُط -بضم عين الفعل في المضارع وكسرها- إذا بزغ، ومنه: المِشرط بكسر الميم، وهو المبضع، والمحجم بكسر الميم، والمحجمة: قارورة الحجام. قوله: "أو لدغة نار" أراد بها الكي بالنار، وهو بالدال المهملة والغين المعجمة (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "النهاية" (4/ 247) بالذال المعجمة والعين المهملة، وقال ابن الأثير: فيه "خير ما تداويتم به كذا وكذا أو لَذْعَةٌ بنارٍ تصيب أَلمًا". ثم قال: اللذع: الخفيف من إحراق النار، يريد: الكَيّ. وفي "لسان العرب" (8/ 317) [مادة: لذع]: اللذْعُ: حُرْقَةٌ كَحُرْقَةِ النار، وقيل: هو مَسُّ النار وحِدَّته , لَذَعَهُ يلذَعه لَذْعً , ولَذَعَتْهُ النار لَذْعًا: لفحته وأحرقته، وفي الحديث. . . الخ. وقال الحافظ في "الفتح" (10/ 141): بذال معجمة ساكنة، وعين مهملة، اللَّذْعُ: هو الخفيف من حرق النار، وأما اللّدْغُ -بالدال المهملة، والغين المعجمة- فهو ضرب أو عضُّ ذات السّم. وقد ضبطها المؤلف في "عمدة القاري" (21/ 233) على الصواب بالذال المعجمة وبالعين المهملة. . . ثم قال: وأمَّا اللدْغ بالدال المهملة، وبالغين المعجمة: فهو عضّ ذات السم.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلي ربهم يتوكلون". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: "نُهينا عن الكي". ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي. . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن خلف، عن المعتمر بن سليمان، عن هشام، عن محمَّد، عن عمران قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، قيل: مَن هم؟ قال: هم الذي لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن الحسن، عن عمران بن الحصين، عن ابن مسعود قال: "تحدثنا عند رسول الله -عليه السلام-، قال: فقال النبي -عليه السلام-: سبعون ألفًا يدخلون الجنة لا حساب عليهم: الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون". قوله: "لا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بشيء. قوله: "ولا يسترقون" من الاسترقاء وهو العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، وكذلك الرقية. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر، شيخ البخاري وأبي داود. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 198 رقم 218). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 53 رقم 23624).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن عبد القدوس بن محمَّد عن عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران قال: "نُهينا عن الكي". وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضًا (¬2): عن محمَّد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الكي". وأخرجه أبو داود (¬3): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت، عن مطرف، عن عمران بن حصين، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا". وأخرجه ابن ماجه (¬4) أيضًا. ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عقبة بن عامر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الكي". ش: ابن لهيعة: عبد الله، فيه مقال. وابن هبيرة: عبد الله بن هبيرة بن أسعد السبائي الحضرمي البصري، روى له الجماعة سوى البخاري. وعبد الرحمن بن جبير المصري المؤذن مولى نافع بن عمرو، روى له مسلم. وأخرجه الطبراني (¬5): ثنا يحيى بن أيوب العلاف، نا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن لهيعة، نا الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: "نهى ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 389 رقم 2049). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 198 رقم 218). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 5 رقم 3865). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1155 رقم 3390). (¬5) "المعجم الطبراني" (17/ 338 رقم 932).

رسول الله -عليه السلام- عن الكي، وكان يكره ماء الحميم، وكان إذا اكتحل اكتحل وترًا، وإذا استجمر استجمر وترًا". ص: فذهب قوم إلى أن الكي مكروه، وأنه لا يجوز لأحد أن يفعله علي حال من الأحوال، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وأبا مجلز لاحق بن حميد والحسن البصري ومجاهدًا؛ فإنهم كرهوا الكي ولم يجوزوا لأحد أن يفعله، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالكي لِمَا عِلاجُهُ الكيّ. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: قتادة ومحمد بن الحنفية والحسن بن سعد وعطاء بن السائب والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم (قالوا) (¬1): لا بأس بالكي للمرض الذي عِلاجُهُ الكي. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "اشتكي أُبيِّ بن كعب، فأرسل إليه رسول الله -عليه السلام- طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "اشتكي أُبىِّ بن كعب، فبعث إليه رسول الله -عليه السلام- طبيبًا، فَقَدَّ عرقه الأكحَل وكواه". ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه: حديث جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع، عن أسد بن موسي، عن محمَّد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبي معاوية الضرير، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن سليمان الأنباري، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "بعث النبي -عليه السلام- إلى أُبيِّ طبيبًا، فقطع منه عرقًا". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن عمرو بن رافع، عن محمَّد بن عبيد، عن الأعمش، به. قوله: "اشتكى" أي مَرِضَ. قوله: "فَقَدَّ عرقه الأكحل". أي قطعه، والأكحل عرق في اليد يفصد، قال الجوهري: لا يقال: عرق الأكحل. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: "رمي سعد بن معاذ في أكحله فَحَسَمَهُ رسول الله -عليه السلام- بيده بمشقص، ثم وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثانية". ش: إسناده صحيح. وأحمد بن يونس شيخ البخاري ومسلم، وزهير هو ابن معاوية، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا أحمد بن يونس. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "فَحَسَمَهَ" بالحاء والسين المهملتين، أي قطع الدم عنه بالكي. قوله: "بمشقص" بكسر الميم، وهو نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإذا كان عريضًا فهو المِعْبَلَة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 5 رقم 3864). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1156 رقم 3493). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1731 رقم 2208).

قوله: "ثم وَرِمَت" بكسر الراء. أي انتفخت. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: "أن أُبيِّ بن كعب -أو سعدًا- رمي رمية في يده، فأمر رسول الله -عليه السلام- طبيبًا فكواه عليها". حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقطعوا أكحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رسول الله -عليه السلام- بالنار، فانتفخت يده، فَحَسَمَهُ مرةً أخرى". ش: هذان طريقان آخران: الأول: فيه عبد الله بن لهيعة، فيه مقال. وأخرجه أبو داود (¬1): عن موسى، عن حماد، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- كوى سعد بن معاذ من رميته". الثاني: عن ربيع أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد مسلم، عن جابر. وأخرجه ابن ماجه (¬2) وأحمد (¬3). ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- كوى أسعد بن زرارة (من شوكة) (¬4) ". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "من شوصة". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 5 رقم 3866). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1156 رقم 3494). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 363 رقم 14948). (¬4) تكررت في "الأصل".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس قال: "كواني أبو طلحة ورسول الله -عليه السلام- بين أظهرنا، فما نهيت عنه". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد، عن يزيد بن زريع، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه الترمذي (¬1): نا حميد بن مسعدة، ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- كوى أسعد بن زرارة من الشوكة". وقال: هذا حديث حسن غريب. قوله: "من شوكة" هي حمرة تعلو الوجه والجسد، يقال منه: شِيكَ الرجل، فهو مَشُوك، وكذا إذا دخل في جسمه شوكة. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن منهال الحافظ البصري، شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس. قوله: "من شوصة" وهي وجع الضرس، وقيل: وجع في البطن من ريح ينعقد تحت الأضلاع. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن عمرو بن مرزوق البصري، شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، عن عمران بن داود القطان البصري، ضعفه أبو داود، ووثقه ابن حبان، وروي له الجماعة غير مسلم، ولكن البخاري مستشهدًا. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: "كواني أبو طلحة، واكتوى من (اللقوة) (¬3) ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 390 رقم 2050). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 92 رقم 23611). (¬3) اللَّقْوَةُ: هي مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه. انظر "النهاية" (4/ 268). وقال الجوهري في "الصحاح" (1/ 251): داءٌ في الوجه، يقال منه: لُقِيَ الرجل -بالضم- فهو مَلْقُوّ.

وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس بن مالك - رضي الله عنهم -. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن بعض أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "كَوَى رسول الله -عليه السلام- سعدًا -أو أسعد بن زرارة- من الذبحة في حلقه". ش: إسناده صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حسن، ثنا زهير، عن أبي الزبير، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن بعض أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "كوى رسول الله -عليه السلام- سعدًا -أو أسعد بن زرارة- في حلقه من الذبحة، وقال: لا أدع في نفسي حرجًا من سعد -أو أسعد بن زرارة". قوله: "من الذُّبَحَةُ" بضم الذال المعجمة وفتح الباء وقد تسكن، وهو وجع يعرض في الحلق من الدم. وقيل: هي قرحة تظهر فيه فينسد معها وينقطع النفس فتقتل. ص: ففي هذه الأخبار إباحة الكي للداء المذكور فيها، وفي الآثار الأُوَل النهي عن الكي، فاحتمل أن يكون المعنى الذي كانت له الإباحة في هذه الآثار غير المعنى الذي كان له النهي في الآثار الأُوَل؛ وذلك أن قومًا كانوا يكتوون قبل نزول البلاء بهم يرون أن ذلك يَمْنع البلاء أن ينزل بهم كما يفعل الأعاجم، فهذا مكروه؛ لأنه ليس على طريق العلاج، وهو شرك؛ لأنهم يفعلونه لدفع قدر الله عنهم، فأما ما كان بعد نزول البلاء إنما يراد به العلاج، والعلاج مباح مأمور به، وقد بيَّن ذلك جابر بن عبد الله في حديث رواه عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن عاصم، عن جابر بن عبد الله، أن النبي -عليه السلام- قال: "إن يكن في شيء من أدويتكم هذه خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو [لذعة] (¬2) نار توافق داءً، وما أحب أن أكتوي". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 65 رقم 16669). (¬2) في "الأصل، ك": "لَدْغَة"، بالدال المهملة والغين المعجمة، وهو خطأ قد نبهنا عليه قريبًا.

فإذا كان في هذا الحديث أن لذعة النار التي توافق الداء مباحة، والكي مكروه، وكانت اللدغة بالنار كيَّةً؛ ثبت أن الكي الذي يوافق الداء مباح، وأن الكي الذي لا يوافق الداء مكروه. ش: أراد بهذه الأخبار: أحاديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبعض أصحاب النبي -عليه السلام-، وأشار بهذا الكلام إلى بيان وجه التوفيق بين أحاديث الفصلين؛ لأن أحاديث الفصل الأول تنهى عن الكي، وأحاديث الفصل الثاني تبيحه، فبينهما تعارض ظاهرًا، وجه التوفيق بينها أن يقال: إن المعنى الذي أبيح بسببه الكي غير المعنى الذي نهي عنه من جهة مختلفة، فاندفع التعارض؛ لأن من شرط التعارض اتحاد الجهة، وقد بين الطحاوي ذلك. وقال الخطابي -رحمه الله-: الكَيُّ من العلاج الذي يعرفه العامة والخاصة، والعرب تستعمل الكيَّ كثيرًا فيما يعرض لها من الأدواء، ومن أمثالهم: آخر الطب: الكَيَّ. فأما حديث عمران في النهي عنه فقد يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون: آخر الدواء الكي، ويريدون أنه يحسم الداء، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك إذا كان علي هذا الوجه، وأباح لهم استعماله علي معنى التوكل علي الله سبحانه، وطلب الشفاء، والترقي للبرء وما يُحْدِثُ الله من صنعه فيه، وتخلفه من الشفاء علي إثره، وهو أمر قد يكثر شكوك الناس فيه وتخطئ فيه ظنونهم وأوهامهم، فما أكثر ما تسمعهم يقولون: لو أقام فلان في أرضه وبلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يهلك، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب دون تسليط القضاء علينا، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها؛ قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (¬1)، وقال حكاية عن الكفار: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [78]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [156].

وفيه وجه آخر: وهو أن يكون نهيه عن الكي: هو أن يفعله احترازًا عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية، وذلك مكروه، وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة والضرورة إليه، ألا ترى أنه كوى سعدًا حين حاق عليه الهلاك من النزف؟ وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع (¬1)، ألا تراه يقول: "ما أفلحنا ولا أنجحنا" وقد كان به الناسور، ولعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن، والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورًا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس ذلك في بعض الأعضاء، فيشبه أن يكون [النهي] (¬2) منه صرفًا إلى النوع المخوف منه. والله أعلم. قوله: "وقد بين ذلك" أي ما ذكرنا من أن الكي بعد نزول البلاء لإرادة العلاج والتداوي؛ مباح مأمور به. وقوله: "حديث جابر" فاعل لقوله: "بيَّن". وأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الرحمن بن سليمان -هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة بن راهب المدني، روى له الجماعة، عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري المدني، روى له الجماعة. وأخرجه البخاري (¬3): عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعنا النبي -عليه السلام- يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم -أو يكون في شيء من أدويتكم- خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لَدْغَةٌ بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي". ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" بالعين المهملة، وفي "النهاية" (5/ 21): ويقال: نَجَعَ فيه الدواء، ونَجِعَ وأَنْجَعَ: إذا نفعه وعَمِلَ فيه، وقيل: لا يقال فيه: أنجع. (¬2) ليست في "الأصل، ك". (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2152 رقم 5359).

ص: ويحتمل أن يكون الكي منهيًا عنه على ما في الآثار الأُوَل، ثم أبيح بعد ذلك علي ما في هذه الآثار الأُخَر، وذلك أن ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سليمان بن سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "جاء رجل إلي رسول الله -عليه السلام- يستأذنه في الكي فقال: لا تَكْتَوِ، فقال: يا رسول الله، بلغ بي الجَهْدُ، ولا أجدُ بدًّا من أن أكتوي، قال: ما شئت، أَمَا إنه ليس من جرح إلا هو آتي الله -عز وجل- يوم القيامة يدمي يشكو الألم الذي كان بسببه، وإن جَرْحَ الكي يأتي يوم القيامة يذكر أن سببه كان من كراهة لقاء الله -عز وجل-، ثم أمره أن يكتوي". ففي هذا الحديث نهي رسول الله -عليه السلام- عن الكي وإباحته إياه بعد ذلك، فاحتمل أن يكون ما في الآثار الأُوَل كان من رسول الله -عليه السلام- في حال النهي المذكور في هذا الحديث، وما كان من الإباحة في الآثار الأُخَر كان عندما كان منه من الإباحة المذكورة في هذا الحديث، فتكون الإباحة ناسخة للنهي. ش: هذه إشارة إلى بيان وجه آخر في التوفيق بين أحاديث هذه الباب، وحاصله أن أحاديث النهي عن الكي تكون منسوخة بأحاديث الإباحة، والأصل أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يكون الحكم للمحرم احتياطًا، لكن فيما إذا لم يكن يعلم المتقدم والتأخر، فإذا علم التقدم والتأخر يكون المبيح ناسخًا إذا تقدم، وهاهنا إباحة النبي -عليه السلام- الكي بعد منعه، فدل علي أنه كان ناسخًا، والدليل علي ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الفَوْزي، شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء المشددة آخر الحروف، وبالشين المعجمة- الشامي الحمصي، قال دحيم: ثقة في الشاميين وخلط عن المدنيين. وقال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيره ففيه نظر. واحتجت به الأربعة.

عن سليمان بن سليم الكناني الحمصي -قال الدارقطني: ثقة. وروى له الأربعة، عن عمرو بن شعيب، وثقه العجلي والنسائي، عن أبيه شعيب بن محمَّد، وثقه ابن حبان وغيره، عن جده عبد الله بن عمرو وقد مَرَّ الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه كوى سارقًا بعدما قطعه. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبو بكر بن علي، قال: ثنا الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن ابن محيريز قال: "قلت لفضالة بن عبيد: أمِنَ السنة أن تقطع يد السارق وتعلق في عنقه؟ فقال: نعم؛ إن رسول الله -عليه السلام- أتي بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم حَسَمَهُ، ثم علقها في عنقه". حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: "أتي النبي -عليه السلام- برجل سرق شملة، فقال: أسرقت؟ ما إخاله سرق، قال: بلى يا رسول الله، قال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم قال: تب إلي الله". ففي هذا أيضًا دليل علي إباحة الكيِّ الذي يراد به العلاج؛ لأنه دواء. ش: ذكر هذين الحديثين شاهدين لما ذكره من أن الكي الذي يوافق الداء مباح. فالأول: أخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القطان شيخ البخاري، عن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري، روى له النسائي، عن الحجاج بن أرطاة النخعي القاص، قال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء. وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له الجماعة؛ البخاري في غير "الصحيح" ومسلم مقرونًا بغيره، عن محكول الشامي، عن عبد الرحمن بن محيريز بن جنادة المكي، روى له الأربعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا عمر بن علي، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 143 رقم 4411).

الحجاج، عن مكحول، عن عبد الرحمن بن محيريز قال: "سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في العنق للسارق؛ أمِنَ السنة هو؟ قال: أتي رسول الله -عليه السلام- بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه". وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، قال: ثنا عمر بن علي .. إلى آخره نحوه. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي، عن الحجاج بن أرطاة، وعبد الرحمن أخو عبد الله بن محيريز. وأخرجه النسائي (¬2): أنا ابن بشار، عن عمر بن علي .. إلى آخره نحوه. ثم قال النسائي: الحجاج بن أرطاة ضعيف لا يحتج بحديثه. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وبكر بن خلف ومحمد بن بشار وأبو سلمة يحيى بن خلف، قالوا: ثنا عمر بن علي. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "أمِنَ السنة" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "ثم حَسَمَهُ" أي قطع دمه بالكي. ويستفاد منه أحكام وهي: أن السارق تقطع يده. وأن يده تحسم بعد القطع لأجل قطع الدم. وأن يده تعلق في عنقه، قال بعضهم: كأنه من باب التطويف والإشارة بذكره ليرتدع به غيره، ولو ثبت لكان حسنًا صحيحًا ولكنه لم يثبت. والثاني: أخرجه عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن يزيد بن عبد الله بن خصيفة الكندي المدني، روى له الجماعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري، روى له الجماعة. وهذا مرسل. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 51 رقم 1447). (¬2) "المجتبى" (8/ 92 رقم 4983). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 863 رقم 2587).

وأخرجه البزار في "مسنده" مسندًا متصلًا: ثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن ثوبان -ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة- قال: "أتي النبي -عليه السلام- بسارق، قالوا: سرق، قال: ما إخاله سرق، قال: بلى قد فعلت يا رسول الله، قال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فَذُهِبَ به فَقُطِع، ثم حسم ثم أُتي به النبي -عليه السلام- فقال: تب إلي الله، قال: تُبت إلي الله، قال: تاب الله عليك -أو قال: اللهم تب عليه". وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬1) من حديث الدراوردي، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق سرق شملة، قالوا: يا رسول الله، إن هذا سرق، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما إخاله سرق، قال السارق: بلي يا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه ثم ائتوني به، فقطع، فأتي به، فقال: تب إلى الله، قال: تبت إلى الله، قال: تاب الله عليك". كذا رواه (¬2) يعقوب الدورقي وغيره عنه، ورواه ابن المديني عنه فأرسله، ثم قال عليّ: وحدثنيه عبد العزيز بن أبي حازم، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، وثنا سفيان، ثنا ابن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فذكره مرسلًا، قال علي: لم يسنده واحد منهم. قال: وبلغني عن أبي إسحاق أنه رواه عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة. ولا أراه حفظه. ص: وقد سأل الأعراب رسول الله -عليه السلام- فقالوا: ألا نتداوى؟ فكان جوابه في ذلك ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 271 رقم 17031). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 275 رقم 17033).

ثنا زياد بن علاقة، قال: سمعت أسامة بن شريك يقول: "شهدت النبي -عليه السلام- والأعراب يسألونه فقالوا: هل علينا جناح أن نتداوى؟ فقال: تَدَاوَوْا عباد الله؛ إن الله -عز وجل- لم يضع داءً إلا وضع له دواءً إلا الهرم". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول الله -عليه السلام- قال: "يا أيها الناس تَدَاوَوْا، فإن الله -عز وجل- لم يخلق داءً إلا خلق له شفاء إلا السام، والسام: الموت". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لكل داءٍ دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله". فأباح لهم رسول الله -عليه السلام- أن يتداووا والكَيُّ مما كانوا يتداوون به. ش: ذكر هذه الأحاديث أيضًا شاهدة لصحة ما ذكره أن الكي إذا كان يوافق الداء يباح استعماله، ألا ترى أن الأعراب سألوا رسول الله -عليه السلام- فقالوا: "هل علينا جناح أن نتداوى؟ فأمرهم رسول الله -عليه السلام- بالتداوى وقال: إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا الهرم" وفي رواية: "إلا السام وهو الموت"، فأباح لهم التداوي مطلقًا والكيّ يدخل فيه؛ لأنه من جملة ما كانوا يتداوون به، ولاسيما أهل الوبر؛ فإن غالب الطب عندهم بالنار. وأخرجها عن ثلاثة من الصحابة: الأول: عن أسامة بن شريك، وأخرجه بإسناد صحيح، وأخرجه الأربعة: فأبو داود (¬1): عن حفص بن عمر النمري، عن شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: "لقيت النبي -عليه السلام- وأصحابه كأنما علي رءوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من هاهنا وهاهنا فقالوا: يا رسول الله نتداوى؟ فقال: تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواءٍ غير داءٍ واحد: الهرم". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 3 رقم 3855).

والترمذي (¬1): عن بشر بن معاذ العقدي البصري، عن أبي عوانة، عن زياد بن علاقة. . . . بنحوه. وأوله: "قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ " وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬2): عن محمَّد بن عبد الأعلي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن زياد بن علاقة نحوه مختصرًا. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة نحوه. الثاني: عن ابن عباس: أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن طلحة بن عمرو ابن عثمان الحضرمي المكي، قال: يحيى فيه: لا شيء، ضعيف. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال: النسائي: متروك الحديث. وهو يروي عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. الثالث: عن جابر بن عبد الله: أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أخي يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا هارون بن معروف وأبو طاهر وأحمد بن عيسى، قالوا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو -هو ابن الحارث- عن عبد ربه بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيبَ دواءُ الداءِ برأ بإذن الله تعالى". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 383 رقم 2038). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 378 رقم 7553). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1137 رقم 3436). (¬4) "صحيح مسلم" (4/ 1729 رقم 2204).

قوله: "فإذا أصيب دواء الداء" بإضافة الدواء إلى الداء. والدواء بفتح الدال ممدود، وحكي جماعة -منهم الجوهري- فيه لغة بكسر الدال، قال عياض: هي لغة الكلابين وهي شاذة. وفي هذه الأحاديث: إثبات الطب والعلاج. وأن التداوي غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس. وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة؛ وإنما شُبِّة بالداء؛ لأنه جالب للتلف كالأدواء التي يعقبها الهلاك، قال النمر بن تولب: دعوت ربي بالسلامة جاهدًا ... ليصحني فإذا السلامة داء يريد أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم فصار بمنزلة المريض الذي قد أدلقه المرض. قلت: وفي هذا الباب عن أنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن مسعود وأبي خِزامة عن أبيه، وأبي الدرداء وبريدة. أما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يونس بن محمَّد، قال: نا حرب بن ميمون، قال: سمعت عمران العمي يقول: سمعت أنسًا يقول: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء؛ فَتَدَاوَوْا". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (¬2): ثنا محمَّد بن المثني، نا أبو أحمد الزبيري، نا [عمر] (¬3) بن سعيد بن أبي حسين، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء". ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 31 رقم 23415). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2151 رقم 5354). (¬3) في "الأصل، ك": "عمرو"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح البخاري"، ومصادر ترجمته.

وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا شبيب بن شيبة، قال: نا عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن الله لم ينزل داءً -أو لم يخلق داء- إلا وقد أنزل -أو قد خلق- له دواءً، علمه مَن علمه وجهله مَن جهله إلا السام، قالوا: يا رسول الله، وما السام؟ قال: الموت". وأما حديث ابن مسعود فأخرجه ابن ماجه (¬2): من حديث ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود يبلغ به النبي -عليه السلام- قال: "ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاء، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ". وأما حديث أبي خِزامة عن أبيه فأخرجه أبو بكر بن أبي عاصم (¬3) قال: ثنا الحسن بن علي، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، أن أبا خزامة -أحد بني الحارث بن سعد هُذَيم- أخبره، عن أبيه: "أنه أتى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، أرأيت دواءً نتداوى به وتقاة نتقيها هل يرد ذلك من قدر الله؟ قال: إنها من قدر الله". قال ابن أبي عاصم: قد اختلفوا فيه، فقالوا: خزيمة وخزينة وأبو خزانة وأبو خزامة وابن أبي خزامة، واختلفوا في الرفع والنصب والخفض، وقال ابن الأثير في ترجمة خزامة بن معمر الليثي، واختلف على الزهري فيه، فقيل: خزامة ابن معمر عن أبيه، وقيل: عن أبي خزامة بن زيد بن الحارث، عن أبيه". وأخرجه عبد الله بن أحمد (¬4): حدثني أبي، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله -قال سفيان مرة: سألت ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 31 رقم 23418). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1138 رقم 3438). (¬3) "الآحاد والمثاني" (5/ 70 رقم 2610)، ورواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2871 رقم 3177). (¬4) "مسند أحمد" (3/ 421 رقم 15510).

رسول الله -عليه السلام- أرأيت دواءً نتداوى به، ورقي نسترقيها، وتقاة نتقيها، أيرد ذلك من قدر الله؟ قال: إنها من قدر الله". وأخرجه الترمذي (¬1): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه قال: "سألت رسول الله -عليه السلام- قلت: يا رسول الله، أرأيت رقاة نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل يرد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ثنا سعيد (¬2) بن عبد الرحمن المخزومي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وقد روي غير ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه. وهذا أصح، ولا نعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث. وقال ابن الأثير: يَعْمُر السعدي سعد هذيم، ثم من بني الحارث بن سعد، والحارث أخو عروة بن سعد وكنيته: أبو خرامة، قاله أبو نعيم، وقيل: هو والد أبي خزامة. وهو الصواب، قاله ابن منده. وقال الحافظ ابن عساكر: يقال: أبو خزامة، ويقال: والد أبي خزامة، ويقال: أبو سعد، ويقال: اسمه الحارث، وهو أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم السعدي. وأما حديث أبي الدرداء: فأخرجه أبو داود بإسناده إليه، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله أنزل الداء والدواء، فَتَدَاوَوْا, ولا تداووا بالحرام". وأما حديث بريدة فأخرجه ابن أبي عاصم بسند صحيح عنه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تَدَاوَوْا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 399 رقم 2065). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 453 رقم 2148).

ص: وقد اكتوى أصحاب النبي -عليه السلام- من بعده، فممن روي عنه في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن أبجر، عن أبي حمزة، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: "أقسم عَليَّ عمر - رضي الله عنه - لأكتوي". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، قال: "رأيت عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة في أصل أذنيه، اللقوة: مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه". حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع: "أن ابن عمر اكتوى من اللقوة". حدثنا شعيب بن إسحاق بن يحيى، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا أبو حنيفة، عن نافع: "أن ابن عمر اكتوى من اللقوة، ورقي من العقرب". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: "دخلت علي خباب - رضي الله عنه - وقد اكتوى". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، عن خباب: "أنه أتاه يعوده وقد اكتوى سبعًا في بطنه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن أبيه، قال: سمعت حميدًا -قال ابن مرزوق: أظنه عن مطرف- قال: قال لي عمران بن الحصين - رضي الله عنه -: "أشعرت أنه كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ، فَلَمَّا أكتويت؛ انقطع عني التسليم". ش: أخرج في ذلك عن جماعة من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن عمر، وخباب بن الأرَت، وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم -:

أما عن عمر - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر الهمداني الكوفي، وثقه يحيى والنسائي، وروى له مسلم، وفي الأربعة غير ابن ماجه -عن أبي حمزة، الحاء والزاي- واسمه سَّيار، وثقه ابن حبان، عن قيس بن أبي حازم حُصَين، روى له الجماعة، عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن سيار، عن قيس، عن جرير قال: "أقسم عَلَيَّ عمر - رضي الله عنه - لأكتوي". وأما عن ابن عمر فأخرجه من أربع طرق صحاح. الأول: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2) نحوه من حديث الزهري، عن سالم: "أن ابن عمر اكتوى من اللقوة، وكوى ابنه واقدًا". الثاني: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن موسي بن عقبة. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه اكتوي من اللقوة، واسترقي من العقرب". الثالث: عن شعيب بن إسحاق بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن زيد القصير المقرئ، شيخ البخاري، عن الإمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت، عن نافع. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 52 رقم 23609). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 343 رقم 19340). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 52 رقم 23608).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع .. إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). وأما عن خباب فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حارثة بن مضرب العبدي الكوفي، وثقه يحيى وغيره. وأخرجه عبد الرزاق نحوه (¬3). الثاني: عن محمَّد بن حميد الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى بن أعين، عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي، عن قيس بن أبي حازم .. إلي آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا وكيع، قال: ثنا إسرائيل، عن قيس بن أبي حازم قال: "دخلنا علي خباب نعوده، وقد اكتوى سبعًا في بطنه". وأما عن عمران فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن حميد الطويل، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. . . . إلى آخره. قوله: "أَشَعَرْتَ" الهمزة فيه للاستفهام، أي هل علمت "أنه كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ" وهو علي صيغة المجهول، وأراد أن الملائكة كانوا يسلمون عليه، فلما اكتوى قطعوا سلامهم عنه؛ وذلك لأنه بالكي كأنه خرج عن حد التوكل. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 343 رقم 19340). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 944 رقم 1691). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (11/ 314 رقم 20635). (¬4) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 52 رقم 23607).

ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد اكْتَوَوْا، وكَوَوْا غيرهم، وفيهم ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقد روينا عنه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما أحب أن اكتوي، فدل فعله ذلك علي ثبوت نسخ ما كان النبي -عليه السلام- كرهه من ذلك، وفيهم عمران بن حصين وهو الذي روى عن النبي -عليه السلام- مدحه للذين لا يكتوون، فدل ذلك أيضًا علي علمه بإباحة رسول الله -عليه السلام- لذلك". ش: أشار بهؤلاء إلى الصحابة الذين أخرج عنهم إباحة الكي. قوله: "وفيهم عبد الله بن عمر" أي والحال أن فيهم عبد الله بن عمر، والحال أَنَّا قد روينا عنه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما أحب أن أكتوي" فمباشرة ابن عمر فعل الكي بعد روايته هذا تدل علي ثبوت نسخ ما روي عنه -عليه السلام- من كراهته، وكذلك فعل عمران بن حصين؛ فإنه أيضًا قد روى عن النبي -عليه السلام- مدحه لمن لا يكتوي؛ فدل علي ثبوت النسخ عنده. ص: فإن قال قائل: فكيف يكون ذلك وقد روي عن عمران بن حصين. . . . فذكر ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أبو جابر، قال: ثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: "كان عمران بن حصين ينهى عن الكي، فابتلي فكان يقول: لقد اكتويت كيةً بنارٍ فما أبرأتني من إثم ولا شفتني من سقم". قيل له: يجوز أن يكون الكي الذي كان عمران ينهى عنه [هو] (¬1) الكي يراد به [لا] (¬2) العلاج من البلاء الذي قد حل، ولكن لما يفعل قبل حلول البلاء، مما كانوا يرون أنه يدفع البلاء، فلما ابتلي بما كان ابتلي به؛ اكتوى علي أن ذلك علاج لما به من البلاء، فلما لم يبرأ بذلك، علم أن كيه لم يوافق بلاءه ولم يكن علاجًا له، فأشفق أن يكون بها آثما فقال: "ما شفتني من سقم ولا أبرأتني من إثم"، أي لم أعلم أني بريء من الإثم مع أنه لم يحقق أنه صار آثمًا بها؛ لأنه إنما كان أراد بها الدواء لا غير ذلك، والدواء مباح للناس جميعًا، وهم مأمورون به. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "هي"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يجوز ما ذكرت من فعل عمران على انتساخ ما نهى عنه من الكي والحال أنه قد روي عنه أن كان ينهى عن الكي؟! أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبي جابر محمد بن عبد الملك الأزدي صاحب شعبة، قال أبو حاتم: ليس بقوي. عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، ثقة كبير. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: "كان عمران بن حصين ينهى عن الكي، فابتلي، فاكتوي، فجعل بعد ذلك يعجُّ يقول: اكتويت كية بنارٍ ما أبرأتْ من ألم ولا شفت من سقم". قوله: "قيل له" جواب عن السؤال المذكور، وهو ظاهر. قوله: "فأشفق" أي خاف من والإشفاق هو الخوف. ص: وقد جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار تنهى عن التمائم، فمما روي في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أم قيس بنت محصن قالت: "دخلت علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال: علام تدغرين أولادك بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب، يسعط من العذرة ويُلَدُّ من ذات الجنب". فقد يحتمل أن يكون ذلك العلاق كان مكروهًا في نفسه؛ لأنه كتب فيه ما لا يحل كتابته؛ فكرهه رسول الله -عليه السلام- لذلك لا لغيره. ش: ذكر هذا تأييدًا للجواب المذكور؛ لأنه نظير قضية عمران بن حصين في كون كل منهما فعل قبل نزول البلاء لدفع القدر، وهذا لا يجوز، أما قضية عمران فقد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 52 رقم 23616).

ذكرناها، وأما قضية أم قيس بنت محصن فإن معناها أنها أعلقت علي ابنها من العذرة قبل نزول البلاء لدفع القدر في نزول البلاء، فافهم. ورجال حديثها كلهم رجال الصحيح. وسفيان هو ابن عيينة، والزهري محمَّد بن مسلم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وأم قيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن، لها صحبة، أسلمت قديمًا وهاجرت إلى المدينة. وأخرجه الجماعة، فقال: البخاري (¬1): ثنا صدقة بن الفضل، أنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس بنت محصن قالت: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "عليكم بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية: يُسعط به من العذرة، ويُلَدُّ به من ذات الجنب. ودخلت على النبي -عليه السلام- بابن لي لم يأكل الطعام، فبال عليه فدعى بماء، فرش عليه". وقال أيضًا (¬2): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن الزهري، أخبرني عبيد الله، عن أم قيس قالت: "دخلت بابن لي علي رسول الله -عليه السلام- وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال: علي ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق، عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية منها: ذات الجنب، يُسعط من العذرة، ويُلدُّ من ذات الجنب". وقال مسلم (¬3): ثنا حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ابن يزيد، أن ابن شهاب أخبره، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: "إن أم قيس ابنة محصن كانت من المهاجرات الأُول اللاتي بايعن رسول الله -عليه السلام-، أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة، قال: أخبرتني أنها أتت رسول الله -عليه السلام- بابن لها لم يبلغ أن يأكل طعام، وقد أعلقت عليه من العذرة -قال ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2155 رقم 5368). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2159 رقم 5383). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1735 رقم 2214).

يونس: أعلقت: غمرت فهي تخاف أن يكون به عذرة- قالت: فقال رسول الله -عليه السلام-: علامه تدغرن أولادكن بهذه الأعلاق؟! عليكم بهذا العود الهندي -يعني به الكُسْت- فإن فيه سبعة أشفية منها: ذات الجنب. . . ." الحديث. وقال أبو داود (¬1): ثنا مسدد وحامد بن يحيى، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس. . . . إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس. . . . إلى آخره نحوه. والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) لم يخرجا إلا قضية البول فقط. قوله: "وقد أعلقت" من الإعلاق وهو معالجة عذرة الصبي وحقيقة ذلك: أعلقت عنه، أي أزلت العلوق، وهي الداهية. قال الخطابي: المحدثون يقولون: أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه أي دفعت عنه، ومعنى أعلقت عليه: أوردت عليه العَلُوق أي ما عَذَّبَتْهُ به من دَغْرها. ومنه قولهم: أعلقت عليّ: إذا أدخلت يدي في حلقي أتقيأ. وقال الأصمعي: الإعلاق أن ترفع العذرة باليد. و"العُذرة" -بضم العين- وجع في الحلق يَهيجُ من الدم، وقيل: هي قرحة تخرج في الخَرْم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان عن طلوع العذرة، فتعمد المرأة إلى خِرقة فتفتلها فتلًا شديدًا، وتدخلها في أنفه، فَتَطْعَن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود، وربما أقرحه وذلك الطعن يسمى الدَّغْر، يقال: عَذَرَت المرأة الصبي: إذا غمزت حلقه من العذرة أو فعلت به ذلك، وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقًا كالعوذة، وقوله: عند طلوع العذرة هي خمسة كواكب تحت الشِّعْرى ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 8 رقم 3877). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1146 رقم 3462). (¬3) "جامع الترمذي" (1/ 104 رقم 71). (¬4) "المجتبى" (1/ 157 رقم 302).

العَبُور وتسمى العَذَاري وتطلع في وسط الحرِّ. وفي المحكم: العذرة نجم إذا اطلع اشتد الحر، والعذرة والعاذور داء في الحلق، ورجل معذور: أصابه ذلك. قوله: "من العذرة" أي من أجلها، وكلمة "من" للتعليل. قوله: "عَلَام تَدْغَرن أولادكن" أصله: "على ما" حذفت الألف من "ما"، وكلمة "على" تعليل كما في قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬1). قوله: "تَدْغَرن" خطاب لجمع المؤنث؛ أي عَلي ما تغمزن حلق الصبي بأصابعكن، والدغر هو غمز حلق الصبي بالأصبع وكبسه، قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالدال المهملة وغين معجمة، ومعناه رفع اللهاة، واللهاة هي اللحمة الحمراء التي في آخر الفم وأول الحلق، وذكره أبو عبيد في باب الدال المهملة مع الغين المعجمة وقال: الدَّغر: غمز الحلق بالأصبع؛ وذلك أن الصبي تأخذه العذرة وهي وجع يهيج في الحلق من الدم، فتدخل المرأة أُصبعها فتدفع بها ذلك الموضع وتكبسه. قوله: "بهذا العِلَاق" المعروف الإعْلَاق، وهو مصدر أَعْلَقْت، وأما العِلَاق فهو اسم منه، وأراد به هاهنا ما يعلق على الصغير من تميمة، وهي الخرزة التي تعلق على الصغير لدفع عين أو مرض أو نحو ذلك، أو رقعة مكتوب فيها أشياء من اللسان وغيرها، فكره رسول الله -عليه السلام- لاحتمال أن يكون كتب فيها ما لا يحل كتابته. قوله: "عليكن بهذا العود الهندي" وهو القُسْط البحري، وقيل: العود الذي يتبخر به. القسط بضم القاف، قال الجوهري: هو من عقاقير البحر، وقال ابن السكيت: القاف بدل من الكاف، وفي "المنتهى" لأبي المعالي: الكست والقسط والكسط ثلاث لغات وهو جزر البحر، وقال ابن البيطار: أجوده ما كان من بلاد المغرب وكان أبيض خفيفًا وهو البحري، وبعده الذي من بلاد الهند وهو غليظ أسود خفيف مثل القثاء، وبعده الذي من بلاد سوريا وهو ثقيل ولونه لون البقس ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [185].

ورائحته ساطعة، وأجودها ما كان حديثًا أبيض ممتلئًا غير متآكل ولا زهم يلدغ اللسان وقوته مسخنة مدرة للبول والطمث، وينفع من أوجاع الأرحام إذا استعمل، وشربه ينفع من لدغ الأفعي ويحرك شهوة الجماع، ويخرج حب القرع ويعمل لطوخًا بالزيت لمن نافض قبل أخذ الحمى ولمن به فالج وينقي الكلف ويقلعه إذا لطخ بماء أو بعسل وينفع من العلة المعروفة بالنسا، وهو جيد للزكام البارد إذا بخر به الأنف، ودهنه ينفع العصب والرعشة، وإذا سحق بالعسل أو الماء نفع من التشنج الذي في الوجه والسعفة، وإذا سحق وذُرَّ على القروح الرطبة خففها وهو يفتح السُّدَد الحادثة في الكبد شربًا، وينشف البلغم الذي في الرأس، وينفع من ضعف الكبد والغدة وبردهما، والأبيض فيه منفعة عظيمة من الأوجاع العتيقة التي تكون في الرأس ويطرد الرياح من الدماغ، وإذا دهن به في قمع قتل الولد وأدرَّ الحيض، وبخوره نافع من النزلات ومن الوباء الحادث عن التعفن، وإذا ضمدت به الأوجاع الباردة سكنَّهَا وكذلك دهنه، وإن قطر من دهنه في الأذن سكن أوجاعها الباردة وفتح سددها، وإذا خلط وعجن بالعسل وشرب نفع من أوجاع المعدة والمغص ومن أوجاع ذات الجنب، وهو نافع لكل عضو يحتاج أن يسخن، وينفع من أوجاع الصدر، ومن النهوش كلها. قوله: "فإن فيه سبع أشفية" الأشفية: جمع شفاء، سمي منها رسول الله -عليه السلام- اثنين ووكل باقيها إلي طلب المعرفة أو إلى الشهرة فيها، وقد عدَّ الأطباء فيها منافع كثيرة وقد ذكرناها الآن. فإن قلتَ: إذا كان فيه ما ذكرت من المنافع الكثيرة فما وجه تخصيصه -عليه السلام- منافعه بسبع؟ قلتُ: هذه السبع هي التي علمها -عليه السلام- بالوحي وتحققها، وغيرها من المنافع علمت بالتجربة، فذكر -عليه السلام- ما علمه بالوحي دون غيره. أو نقول: بيَّن -عليه السلام- ما دعت الحاجة والضرورة إليه وسكت عن الباقي؛ لأنه لم يُبعث لبيان تفاصيل الطب ولا لتعليم صنعته، وإنما تكلم ما تكلم به منه ليرشد إلى

الأخذ منه والعمل به، وعيَّن من الأدوية والعقاقير التي يُنتفع بها ما دعت حاجتهم إليه في ذلك الوقت وبحسب أولئك الأشخاص. قوله: "منها ذات الجنب" قال الترمذي: هو السل، وفي "البارع": هو الذي يطول مرضه، وعن النضر: هو الدبيلة، وهي قرحة تثقب البطن، وقيل: هي الشوصة. وفي "المنتهى": الجُناب -بالضم- داء في الجنب، وأما الأطباء فإنهم يقولون: ذات الجنب: ورم حارٌّ يكون إما في الحجاب الحاجز أو في الغشاء المستبطن للصدر وهما خالصان، وإما في الغشاء المجلل للأضلاع أو العضل الخارج، وهما غير خالصين. والخالص يلزمه أعراض خمسة: حمى لازمة، ووجع ناخس، وضيق نَفَسٍ مع صفير وتواتر ونبض منشاري، وسعال نافث. وغير الخالص: ربما أدركه حس الطبيب وقد يكون بلا حمى، وقد يقال لورم الحجاب: برسامًا , ولورم العضل الخارج: شوصة. قوله: "يسعط من العذرة" قال الأزهري: السُّعوط والنُّشُوق والنُّسُوغ في الأنف، ولخيته ولخوته وألخيته: إذا سعطته ويقال: أسعطته، وكذلك وحرته وأوحرته لغتان، وأما النشوق فيقال: أنشقته إنشاقًا وهو طيب السعوط والسعاط والإسعاط، وفي "المحكم": سَعَطَهُ الدواء يَسْعَطُه ويَسْعُطِه، والضم أعلى، والصاد في كل ذلك لغة، والسعوط اسم الدواء، والسعيط: المُسعط، والسعيط: دهن الخردل، والسعيط دهن البان والسَّعُوط من السَّعْطِ كالنُّشُوق من النشق، وفي "الصحاح": اسعطته واستعط هو بنفسه، وفي "الجامع": السَّعَوط والمُسْعَط والسَّعِيط: الرجل الذي يُفْعَل به ذلك والسعطة: المرة الواحدة من الفعل، والإسعاطة مثلها، قال أبو الفرج: الإسعاط هو تحصيل الدهن أو غيره في أقصى الأنف سواء كان بجذب النفس أو بالتفريغ فيه.

قوله: "ويُلَدُّ" من الإلداد، وقد لُدَّ الرجل فهو ملدود وألددته أنا، واللديدان: جانبا الوادي. قاله الأصمعي، وفيه؛ أحد اللدود، وهو ما يُصَبُّ من الأدوية في أحد شقي الفم، وتجمع علي ألدة، وقال ابن الأثير: لديدا الفم: جانباه، واللدود -بفتح اللام- من الأدوية: ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم. ويستنبط منه أحكام: فيه: جواز التداوي بالأدوية، وأنه لا ينافي التوكل؛ ردًّا على بعض المتصوفة. وفيه: كراهة دَغَر العذرة. وفيه: بيان فضيلة العود الهندي وأنه ينفع من أدواء كثيرة كما ذكرنا. وفيه: بيان معالجة العذرة بالإسعاط، وذات الجنب بالإلداد. وفيه: جواز التطبب، والإخبار عن طبائع الأدوية ومنافعها ومضارها عند العلم. وفيه: أنه -عليه السلام- كان عالمًا بعلم الطب أيضًا وبمنافع الأدوية؛ وإن كان مبعوثًا بعلم الدين فإنه -عليه السلام- كان كاملًا في كل شيء. وفيه: أن كل منفعة أخبر بها النبي -عليه السلام- من الأدوية فهي كذلك من غير ريب، بخلاف كلام سائر الأطباء؛ فإن كلامهم على الظن والتجربة، فخطأهم في ذلك أكثر من صوابهم. وفيه: أن من أنكر ما قاله -عليه السلام- من منفعة دواء من الأدوية أو قال: بخلاف ذلك فقد كفر؛ نعوذ بالله من ذلك. ص: وقد روي في ذلك أيضًا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن بكر بن سوادة، عن رجل من صداء قال: "أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنى عشر رجلًا، فبايعنا وترك رجلًا منا لم يبايعه، فقلنا: بايعه يا نبي الله، فقال: لن أبايعه حتى ينزع الذي عليه، إنه مَن كان منَّا عليه مثل الذي عليه كان مشركًا ما كانت عليه، فنظرنا فإذا في عضه سير من لحاء شجرة، أو شيء من الشجرة".

ش: أي قد روي في كون التمائم مكروهًا أيضًا: ما حدثنا يونس -وهو ابن عبد الأعلى- يروي عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عبيد الله بن زحْر الضمري الأفريقي، فيه مقال؛ فعن يحيى بن معين: ليس بشيء. وعن ابن المديني: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. روى له الأربعة. عن بكر بن سوادة بن ثمامة المصري، ثقة، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح. عن رجل من صداء. . . . إلى آخره. قوله: "من لِحَاء شجرة" بكسر "اللام" وبالمد، أي من قشر شجرة، يقال: لحوت الشجرة ولحيتها والتحيتها إذا أخذت لحائها وهو قشرها. ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا المقرئ، عن حيوة، قال: أخبرني خالد بن عبيد، قال: سمعنا مشرح بن هاعان يقول: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومَن تعلق ودعةَ فلا ودع الله له". ش: إبراهيم بن منقذ العصفري من أصحاب ابن وهب، قال ابن يونس: ثقة رضّى. والمقرئ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، شيخ البخاري. وحيوة هو ابن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه العابد. وخالد بن عبيد المعافري، سكتوا عنه. ومشرح بن هاعان المعافري المصري، وثقه يحيى. وأخرجه ابن يونس في ترجمة خالد بن عبيد: حدثني أبي، عن جدي أنه حدثه، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة بن شريح، عن خالد بن عبيد المعافري، عن مشرح بن هاعان قال: سمعت عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- قال: "من علق تميمة فلا أتم الله له، ومَن علق ودعة فلا ودع الله له".

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث حيوة بن شريح. . . . إلى آخره نحوه. وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي" عقيب هذا الحديث: قلت: أخرجه ابن وهب في كتبه عنه، وخالد لم يضعف، تفرد به. قوله: "تميمة" تجمع علي تمائم، وهي خرزات كانت العرب تعلقها علي أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإِسلام. و"والودعة": شيء أبيض يُجْلب من البحر، يعلق في طوق الصبيان ونحرهم، ويجمع علي وَدَع بفتح الدال وسكونها. قوله: "فلا ودع الله له" أي لا جعله في دعة وسكون، وقيل: هو لفظ مبني من الودَعة، أي: لا خفف الله عنه ما يخافه، وإنما نهى عنها؛ لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين. ثم اعلم أن قوله: "لا ودع الله" يرد علي أهل التصريف قولهم: أماتوا ماضي يَدَعُ، واستغنوا عنه بـ"تَرَك" والنبي -عليه السلام- أفصح العرب، وإنما حمل قولهم علي قلة استعماله فهو شاذ في الاستعمال، صحيح في القياس، يقال: وَدَعَ الشيء يَدَعَهُ وَدَعًا إذا تركه، وقرئ قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (¬2) بالتخفيف. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، أن أبا بشير الأنصاري أخبره: "أنه كان مع رسول الله -عليه السلام- في بعض أسفاره -قال عبد الله بن أبي بكر: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم- فأرسل رسول الله -عليه السلام- مناديًّا ألَّا لا يَبقَيَن في عنق بعير قلادة ولا وتر إلا قُطعه". قال مالك: أرى أن ذلك العين". ش: إسناده صحيح. وأبو بشير الأنصاري المازني، ويقال: الحارثي المدني صحابي، قيل اسمه قيس ابن عبيد بن الحرير. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 350 رقم 19389). (¬2) سورة الضحى، آية: [30].

والحديث أخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف عن مالك، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عباد به. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬3): عن قتيبة، عن مالك. قوله: "قلادة ولا وتر" القلادة معروفة، والوتر وتر القوس، نهاهم عن ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الدواب بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعوذة لها، فنهاهم عن ذلك، وأعلمهم أنها لا تدفع ضررًا ولا تصرف حدرًا. وقال أبو عمر: قد فسر مالك هذا الحديث أنه من أجل العين، وهو عند جماعة أهل العلم كما قال مالك، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين؛ لهذا الحديث وشبهه، ويحمل ذلك عندهم فيما علق قبل نزول البلاء خشية نزوله، فهذا هو المكروه من التمائم، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله تعالى وكتابه رجاء الفرج والبُرءْ من الله تعالى فهو كالرقي المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضي علي وجه التبرك بها إذا لم يُرِدْ معلقها بتعليقها مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين، ولو علم العائن لكان الوجه في ذلك اغتسال العائن للمعين. وأما تخصيص الأوتار بالقطع وأن لا يعلقه الدواب شيئًا من ذلك قبل البلاء وبعده، فقيل: إن ذلك لئلا تختنق بالوتر في خشبة أو شجرة فتقتلها، فإذا كان خيطًا انقطع سريعًا، وروي عن عائشة - رضي الله عنها - "أنها كانت تكره ما تعلق النساء على ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1094 رقم 2843). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 24 رقم 2552). (¬3) "السنن الكبرى" (5/ 251 رقم 8088).

أنفسهن وعلى صبيانهم من خلخال الحديد من العين، وتنكر ذلك على مَن فعله" قال أبو عمر: قد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده، والقول الأول أصح في النظر والأثر. ص: فكل ذلك عندنا -والله أعلم- على ما علق قبل نزول البلاء لدفع نزول البلاء، وذلك ما [لا] (¬1) يستطيعه غير الله -عز وجل-، فنهى عن ذلك لأنه شرك، فأما ما كان بعد نزول البلاء فلا بأس؛ لأنه علاج. وقد روي هذا الكلام بعينه عن عائشة - رضي الله عنها -: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن القاسم بن محمَّد، أن عائشة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "ليست بتميمة ما علق بعد أن يقع البلاء". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، عن عبد الله بن المبارك، عن طلحة بن أبي سعيد -أو سعد- عن بكير. . . . فذكر بإسناده مثله. فقد يحتمل أن يكون أيضًا الكي نهى عنه إذا فعل قبل نزول البلاء وأبيح إذا فعل بعد نزول البلاء؛ لأن ما فُعِلَ بعد نزول البلاء فإنما هو علاج، وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في العلاج ما قد ذكرناه في هذا الباب. ش: أي فكل ما روي من النهي عن تعليق التمائم والقلائد والأوتار ونحو ذلك محمول على ما إذا فعل ذلك قبل نزول البلاء لأجل دفع القضاء والقدر حتى لا ينزل البلاء، وليس ذلك إلا في قدرة الله تعالى، فنهى عن ذلك لأنه شرك، وأما إذا فعل من ذلك شيء بعد نزول البلاء فلا بأس به؛ لأنه يكون من باب العلاج وقد ورد عن النبي -عليه السلام- إباحة العلاج والتداوي مطلقًا على ما مَرَّ. قوله: "وقد روي هذا الكلام بعينه" أراد به ما قاله من قوله: "وكل ذلك عندنا والله أعلم. . . ." إلي آخره، وبيَّن ذلك بقوله: حدثنا يونس. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن بكير بن الأشج، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وابن لهيعة ذكر متابعةً. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن وهب، أخبرني عمرو، عن بكير، عن القاسم، عن عائشة نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك العابد الزاهد عن طلحة بن أبي سعيد -أو سعد- الإسكندري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن القاسم، عن عائشة. وأخرجه البيهقي أيضًا (¬2): من حديث ابن المبارك، عن طلحة بن أبي سعيد، عن بكير بن الأشج، عن القاسم، عن عائشة: "ليست التميمة مما يعلق قبل البلاء، وإنما التميمة ما يعلق بعد البلاء ليدفع بها المقادير". ص: وقد روي عنه أيضًا ما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء، فعليكم بألبان البقر؛ فإنها تَرُمُّ من كل الشجر". حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا المقرئ، قال: ثنا أبو حنيفة. . . . فذكر بإسناد مثله. ¬

_ (¬1) "سنن البيقهي الكبرى" (9/ 350 رقم 19392). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 350 رقم 19390).

ش: أي وقد روي عن النبي -عليه السلام- أيضًا في العلاج والتداوي ما حدثنا. . . . إلى آخره. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني، عن طارق بن شهاب الصحابي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه النسائي (¬1): من طريق الثوري عن قيس مثله، ولكن رواه ابن مهدي عن الثوري فأرسله. ورواه الربيع بن لوط، عن قيس [فوصله] (¬2). وله طرق كثيرة (¬3). الثاني: عن إبراهيم بن محمَّد بن موسي بن مروان؛ عن أبي عبد الرحمن عبيد الله ابن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن الإمام أبي حنيفة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله. وأخرجه الطبراني نحوه من طريق المقرئ، عن أبي حنيفة. . . . إلى آخره. قوله: "فإنها تَرُمُّ من كل الشجر" أي فإنها تأكل مِن رَمَمَ يَرْمُمُ باب نصر يَنْصُر، وفي رواية ترتم وهي بمعناها يقال: رمت الشاة من الأرض وإذا ولدت والمِرَمَّة -بكسر الميم وفتحها- من ذوات الظِّلْفِ كالفم من الإنسان. وفي رواية أبي نعيم (¬4) من طريق إبراهيم بن مهاجر: "تداووا بألبان البقر؛ فإني أرجو أن يجعل الله تعالى فيه شفاء أو بركة؛ فإنها تأكل من كل الشجر". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 194 رقم 6864). (¬2) في "الأصل، ك": "فوقفه"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. والحديث عند النسائي مرفوعًا. (¬3) انظر "السنن الكبرى" (4/ 194 رقم 6865). (¬4) ورواه الطبراني في "الكبير" (10/ 14 رقم 9788) من طريق الربيع بن ركين عن إبراهيم بن المهاجر به. وكذا الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 356).

وفي لفظ (¬1): "تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا السام والهرم، فعليكم بألبان البقر؛ فإنها تخبط من كل الشجر". ص: وقد كره قوم الرقي، واحتجوا في ذلك بحديث عمران بن حصين الذي ذكرته في الفصل الأول. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وقتادة وسعيد بن جبير وآخرين؛ فإنهم كرهوا الرقي، وقالوا: الواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصامًا بالله وتوكلًا عليه وثقة به، وعلمًا بأن الرقية لا تنفعه وأن تركها لا يضره إذ قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل أيام المرض وزمن الداء وعلي تكثير أيام الصحة ما قدروا على ذلك؛ قال الله -عز وجل-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬2). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بها بأسًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة وإبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه رخص في رقية الحية والعقرب". ففي هذا الحديث الرخصة في رقية الحية والعقرب، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي، فدل ذلك أن ما أبيح من ذلك نسخ ما كان في حديث عمران بن الحصين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري والثوري والأئمة الأربعة وآخرين كثيرين؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالرقى. قال أبو عمر (¬3): ذهب جماعة من العلماء إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي، وقالوا: إن من سُنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيهم -عليه السلام- ¬

_ (¬1) رواه أبو حنيفة في "مسنده" (1/ 212)، وعنه أبو يوسف في كتاب "الآثار" (1/ 235). (¬2) سورة الحديد، آية: [22]. (¬3) "التمهيد" (5/ 273).

الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر وإلى الاسترقاء وقراءة القرآن والذكر والدعاء. قوله: "احتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة - رضي الله عنها -. أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي الحافظ، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن عثمان بن أبي شيبة، وهناد بن السري، عن أبي الأحوص. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "في رقية الحية" الرقية -بضم الراء: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها وفي بعضها النهي عنها، فمن الجواز قوله: "استرقوا لها فإن بها النظرة" أي اطلبوا لها مَن يرقيها. ومن النهي قوله: "لا يسترقون ولا يكتوون". والأحاديث في القسمين كثيرة، ووجه الجمع بينهما أن الرقي يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يُعْتَقَد أن الرقيا نافعة لا محالة فَيُتَّكل عليها، وإياها أراد بقول: "ما توكل من استرقى" ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية؛ ولذلك قال للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجرًا: "من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق"، وكقوله في حديث جابر أنه -عليه السلام- قال: "اعرضوها عليَّ، فعرضناها فقال: لا بأس بها، إنما هي مواثيق"، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية، وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف له ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه ولا يجوز استعماله. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1162 رقم 3517).

وأما قوله -عليه السلام-: "لا رقية إلا من عين أو حُمَّة" فمعناه لا رقية أولى وأنفع، وهذا كما قيل: لا فتًى إلا علي - رضي الله عنه - وقد أمر -عليه السلام- غير واحد من أصحابه بالرقية، وسمع جماعة يرقون فلم ينكر عليهم. وأما الحديث الآخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلون بغير حساب، وهم الذين يسترقون ولا يكتون وعلي ربهم يتوكلون، فهذا من صفات الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا، الذي لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم، فأما العوام فمرخص لهم في التداوي والمعالجات، ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله بالدعاء كان من جملة الخواص والأولياء، ومَن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء؛ ألا ترى أن الصديق - رضي الله عنه - لما تصدق بجميع ماله لم يُنكِر عليه؛ علمًا منه بيقينه وصبره، ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب وقال: لا أملك غيره صرفه به، بحيث لو أجابه عقره، وقال فيه ما قال. قوله: "ففي هذا الحديث" أي حديث عائشة: الرخصة من النبي -عليه السلام- في الرقية للحية والعقرب، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي عن شيء، فدل ذلك أن ما كان في حديث عمران بن حصين من قوله: "ولا يسترقون" ليس على حاله، والذي حققناه آنفًا هو الفيصل بين هذه الأحاديث؛ فافهم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في الأمر بالرقية للدغة العقرب ما حدثنا محمَّد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا عبد اللهَ بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: "كنت عند رسول الله -عليه السلام- فلدغتني عقرب، فجعل يمسحها ويرقيه". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا ملازم. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن الباغندي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن ملازم ابن عمرو بن عبد الله اليمامي، عن عبد الله بن بدر بن عميرة بن الحارث اليمامي

جد ملازم بن عمرو لأبيه، وقيل: لأمه، وثقه يحيى وغيره، وروى له الأربعة، عن قيس بن طلق بن علي الحنفي اليمامي، وثقه العجلي وغيره، وروى له الأربعة، عن أبيه طلق بن علي بن المنذر الحنفي اليمامي الصحابي. وأخرجه عبد الله بن أحمد (¬1) وقال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثني بعض أصحابنا، قال: ثنا عارم، قال: نا عبد الله بن بدر، عن قيس ابن طلق، عن أبيه طلق بن علي قال: "لدغتني عقرب عند رسول الله -عليه السلام- فرقاني ومسحها". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب البصري شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن ملازم بن عمرو. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬2): ثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني، ثنا الحسن بن قزعة، ثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن طلق بن علي قال: "لدغت طلقًا عقرب عند النبي -عليه السلام- فرقاه النبي -عليه السلام- ومسحه بيده". ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "لدغت رجلًا مِنَّا عقرب عند النبي -عليه السلام-، فقال رجل: يا رسول الله، أرقه؟ فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه. ففي حديث جابر - رضي الله عنه - ما يدل على أن كل رقية تكون فيها منفعة فهي مباحة؛ لقول النبي -عليه السلام-: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 23 رقم 16341) وفيه: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا علي بن عبد الله، حدثني ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، به. (¬2) "المعجم الكبير" (8/ 338 رقم 8263).

ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني محمَّد بن حاتم، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبي الزبير، سمع جابر بن عبد الله يقول: "لدغت رجلًا منا عقرب ونحن جلوسٌ مع رسول الله -عليه السلام-، فقال رجل: يا رسول الله أأرقي؟ قال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر - رضي الله عنه -. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحة الرقية من النملة: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا أبو معاوية، عن عبد العزيز بن عمر، عن صالح بن كيسان، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن الشفاء وكانت بنت عَمٍّ لعمر - رضي الله عنه - قالت: "كنت عند حفصة، فدخل علينا رسول الله -عليه السلام- فقال: ألا تعلميها رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ ". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن محمَّد بن المنكدر، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة، عن حفصة: "أن امرأة من قريش يقال لها: الشفاء، كانت ترقي من النملة، فقال النبي -عليه السلام-: علميها حفصة". ففي هذا الحديث إباحة الرقية من النملة، فاحتمل أن يكون ذلك بعد النهى فيكون ناسخًا للنهي، أو يكون النهي بعده فيكون ناسخًا له. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1726 رقم 2199).

ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان بن الحكم القرشي الأموي المدني، روى له الجماعة، عن صالح بن كيسان المدني، روى له الجماعة، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، واسم أبي حثمة: عبد الله بن حذيفة، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية الصحابية، قال أحمد بن صالح: اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن صالح بن كيسان، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن الشفاء بنت عبد الله قالت: "دخل على النبي -عليه السلام- وأنا عند حفصة - رضي الله عنها - فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة، كما علمتيها الكتابة؟ ". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر بن عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الله بن عمرو، ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن حفصة: "أن امرأة من قريش يقال لها: الشفاء، كانت ترقي [من] (¬3) النملة، فقال النبي [لها] (3) -عليه السلام-: علميها حفصة". قوله: "رقية النملة" قال ابن الأثير: رقية النملة شيء كانت النساء تستعمله يَعْلَمُ كُلُّ من سمعه أنه كلام لا يضرُّ ولا ينفع، ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 11 رقم 3887). (¬2) "مسند أحمد" (6/ 286 رقم 26493). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المسند".

يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، ويروى عوض تفتعل: تنتعل، وعوض تختضب: تَقْتال، فأراد -عليه السلام- بهذا المقال تأنيب حفصة؛ لأنه ألقى إليها سرًا فأفشته. وقال الخطابي: النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال أيضًا: أنها تخرج في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله تعالى. وفي الحديث دليل على أن تعليم النساء الكتابة غير مكروه. قوله: "فاحتمل أن يكون ذلك بعد النهي. . . ." إلى آخره. إشارة إلى أن هذا الحديث وإن كان فيه إباحة الرقية ولكنه يحتمل أن يكون بعد النهي، فيكون ناسخًا للنهي، وأن يكون قبل النهي فيكون منسوخًا، فبهذا الاحتمال لا تثبت الحجة، ولكن وردت أحاديث أخر تدل على أن النهي منسوخ؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في إباحة الرقية من الجنون: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، عن محمَّد بن زيد، عن عُمير مولى آبي اللحم قال: "عَرَضْتُ على النبي -عليه السلام- رقية كنت أرقي بها من الجنون، فأمرني ببعضها ونهاني عن بعضها، وكنت أرقي بالذي أمرني به رسول الله -عليه السلام-". فهذا يحتمل أيضًا ما ذكرنا في الرقية من النملة. ش: إسناده صحيح. والمقدمي هو: محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، شيخ البخاري ومسلم. وعُمير مولى آبي اللحم الغفاري الصحابي. وأخرجه الطبراني (¬1): نا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، نا ابن لهيعة، نا نصر -يعني بن طريف- عن عبد الرحمن بن زياد، عن محمد بن زيد، عن عمير ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 68 رقم 134).

مولى آبي اللحم قال: "عرضت على النبي -عليه السلام- رقية كنت أرقي من الجنون، فجعل يقول: خذ منها كذا وزد فيها كذا"، وله في رواية أخرى (¬1): "اطرح منها كذا، واطرح منها كذا، وارق فيها كذا". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في الرقية من العين: ما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن معبد بن خالد، قال: سمعت عبد الله بن شداد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أمرني رسول الله -عليه السلام- أن استرقي من العين". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن معبد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة، مثله. أو قال: قال عبد الله بن شداد: "أمر رسول الله -عليه السلام- عائشة أن تسترقي من العين". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬2): عن ابن نمير، عن أبيه، عن سفيان، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة نحوه. وأخرجه البخاري (¬3): عن محمَّد بن كثير، عن سفيان. . . . إلى آخره. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن سفيان. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 68 رقم 135). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1725 رقم 2195). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2166 رقم 5406). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1161 رقم 3512).

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الرزاق ابن همام، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي -عليه السلام- قال لأسماء بنت عميس: ما لي أرى أجسام بني أخي صارعة نحيفة، أتصيبهم الحاجة؟ قالت: لا, ولكن العين تسرع إليهم، أفأرقيهم؟ فقال: بماذا؟ فعرضت عليه كلامًا لا بأس به، فقال: ارقيهم". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان وأحمد بن يونس، قالا: ثنا زهير، قال: ثنا ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن باباه، عن أسماء بنت عميس قالت: "قلت: يا رسول الله إن العين تسرع إلى بني جعفر، فأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو أن شيئًا يسبق القدر لقلت: إن العين تسبقه". فهذا يحتمل ما ذكرنا في رقية النملة والجنون. ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عقبة بن مكرم العمي قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "رخص النبي -عليه السلام- لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء ابنة عميس: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟ قالت: لا, ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، قالت: فعرضت عليه، فقال: ارقيهم". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري وأحمد بن يونس، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، كلاهما عن زهير بن معاوية، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن أبي نجيح -واسم أبي نجيح يسار، عن عبد الله بن باباه -ويقال له: ابن بابي، ويقال: ابن بابيه- المكي، روى له الجماعة سوى البخاري. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1726 رقم 2198).

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي: "أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن ولد جعفر تسرع إليه العين، أفأسترقي لهم؟ قال: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقه العين". وفيه من الفوائد: جواز الرقية للجن، وإصابة العين، وأن الرقية لا تجوز إلا بما ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- الرخصة في الرقية مِن كل ذي حمة. حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أسباط بن محمَّد، عن الشيباني، عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "رخص رسول الله -عليه السلام- في الرقية من كل ذي حمة". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الشيباني. . . . فذكر بإسناده مثله. فهذا فيه دليل على أنه كان بعد النهي؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء محظور. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن محمَّد بن عمرو بن يونس، عن أسباط بن محمَّد الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬2): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا عبد الواحد، نا سليمان الشيباني، ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: "سألت عائشة عن الرقية من الحمة، فقالت: رخص رسول الله -عليه السلام-[في] (¬3) الرقية من كل ذي حمة". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 395 رقم 2059). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2167 رقم 5409). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن الشيباني. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الشيباني. . . . إلى آخره. قوله: "من كل ذي حمة" بضم الحاء وفتح الميم المخففة وهو السم، وقد تشدد الميم وأنكره الأزهري، ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم منها يخرج، وأصلها: حُمَوٌ أو حُمَيٌّ بوزن صُردَ، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة أو الياء. وقال الخطابي: الحمة كل شيء يلدغ أو يلسع. ويقال: هي شوكة العقرب. وقال ابن سيده: قال بعضهم: هي الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور أو يلدغ بها، والجمع: حُمَاةٌ وحُمَىً، وفي كتاب "الحيوان" لعمرو بن بحر: من سمى إبرة العقرب حُمَةٌ فقد أخطأ، وإنما الحمة سموم ذوات الشعر كالدبر، وذوات الأنياب والأسنان كالأفاعي وسائر الحيات، وكسموم ذوات الإبر من العقارب، وأما النهس وما أشبهه من السموم فليس يقال له حمة. وفي كتاب "اليواقيت" للمطرز: حُمَّة -بالتشديد- وقال كراع: جمعها: حُمون وحُمات، كما قالوا: برون وبرات، قال: وكأنها مأخوذة من حميت النار تحمي إذا اشتدت حرارتها. قوله: "فهذا فيه دليل" أي قول عائشة - رضي الله عنها -: "رخص رسول الله -عليه السلام- في الرقية" دليل صريح على أنه كان بعد النهي؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء نهي عنه فحرم، فدل ذلك أيضًا على أن حديث الشفاء وعمير مولى آبي اللحم ونحو ذلك كله من باب الترخيص الدال على نسخ ما تقدم من النهي. فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1724 رقم 2193).

ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحة الرقي كلها ما لم تكن شركًا: ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: "كنا نَرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كنا نَرقي في الجاهلية فما ترى في ذلك؟ قال: اعرضوا عليّ رقاكم، فلا بأس بالرقى ما لم تكن شرك". فهذا يحتمل أيضًا ما احتمله ما روينا قبله، فاحتجنا أن نعلم: هل هذه الإباحة للرقى متأخرة لما روي في النهي عنها، أو ما روي في النهي عنها يكون متأخرًا فيكون ناسخًا لها، فنظرنا في ذلك، فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر: "أن عمرو بن حزم دُعِي لامرأة بالمدينة لدغتها حية ليرقيها فأبى، فأخبر بذلك رسول الله -عليه السلام- فدعاه، فقال عمرو: يا رسول الله، إنك تزجر عن الرقي، فقال: اقرأها علي، فقرأها عليه، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا بأس بها، إنما هي مواثيق فارق بها". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع، قال: عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "لما نهى رسول الله -عليه السلام- عن الرقي أتاه خالي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقي وإني أرقي من العقرب، قال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "كان أهل بيت من الأنصار يرقون من الحية، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن الرقى، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إني كنت أرقي من العقرب وإنك نهيت عن الرقى، فقال رسول الله -عليه السلام- من استطاع منكم أن [ينفع] (¬1) أخاه فليفعل. قال: وأتاه رجل كان يرقي من الحية، فقال: اعرضها عليَّ، فعرضها عليه، فقال: لا بأس بها إنما، هي مواثيق". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "يفعل"، وأظنه سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

فثبت بما ذكرنا أن ما روي في إباحة الرقي ناسخ لما روي في النهي عنها، ثم أردنا أن ننظر في تلك الرقى كيف هي؟ فإذا عوف بن مالك حدث عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه لا بأس بها ما لم تكن شرك". ش: ملخص هذا الكلام إثبات الإباحة في الرقى ما لم تكن فيها ألفاظ تؤدي إلى الشرك وبيان أن ما روي من إباحة ذلك قد نسخ ما روي من النهي عنها. وأخرج في ذلك عن عوف بن مالك الأشجعي وجابر بن عبد الله الأنصاري. أما عن عوف فأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: "كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك". وأما عن جابر: فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. الثاني: إسناده صحيح. عن ربيع بن سليمان أيضًا، عن أسد السنة، عن وكيع، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1727 رقم 2200). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1726 رقم 2199).

الثالث: إسناده صحيح أيضًا. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ختن أبي عوانة، شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): ثنا زهير، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: "كان جار لي من الأنصار يرقي من الحمة، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن الرقي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى وإني كنت أرقي من الحمة، فقال رسول الله -عليه السلام-: اعرضها علي، قال: فعرضها فقال: لا بأس بهذا، هذه من المواثيق". وأخرج عن عبد الله بهذا الإسناد (¬2) قال: "كان رجل من الأنصار يرقي من العقرب، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن الرقي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقي وإني كنت أرقي من العقرب، فقال رسول الله -عليه السلام-: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". قوله: "إنما هي مواثيق" أي عهود، وهو جمع ميثاق، إفتعال من الوثاق وهو في الأصل حبل وقيد يشُدَّ به الأسير والدابة. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عثمان بن حكيم قال: حدثتني الرباب، قالت: سمعت سهل بن حنيف يقول: مررنا بسيل، فدخلنا نغتسل، فخرجت منه وأنا محموم فنمي ذلك إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال: مروا أبا ثابت فليتعوذ فقلت، يا سيدي إن الرقى صالحة؟ فقال: لا رقية إلا من ثلاثة: من النظرة، والحمة، واللدغة". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (3/ 424 رقم 1913). (¬2) "مسند أبي يعلى" (3/ 424 رقم 1914).

فاحتمل أن يكون ما أباح رسول الله -عليه السلام- من الرقي هو التعوذ، فأما قول سهل: "لا رقيه إلا من ثلاثة" فيحتمل أن يكون علم ذلك من إباحة رسول الله -عليه السلام- بعد نهيه المتقدم ولم يعلم ما سوى ذلك مما روينا عن غيره أن رسول الله -عليه السلام- رخص فيه. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في إباحة الرقي أيضًا ما حدثنا. . . . إلى آخره. وهو حديث سهل بن حنيف. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي -ثقة (¬1) - عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة، عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري الكوفي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن الرباب -بفتح الراء، وبباءين موحدتين بينهما ألف ساكنة- وهي جدة عثمان بن حكيم. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عثمان بن حكيم، قال: حدثتني جدتي الرباب، قالت: سمعت سهل بن حنيف يقول: "مررنا بسيل، فدخلت فاغتسلت منه فخرجت محمومًا، فنمي ذلك إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: مروا أبا ثابت يتعوذ، قالت: فقلت: يا سيدي، والرقي صالحة؟ فقال: لا رقية إلا من عين أو حمة أو لدغة". قوله: "وأنا محموم" الواو فيه للحال، والمحموم من الحمي. قوله: "فنمي ذلك" من نميت الحديث إليه إذا بَلَّغْتُه على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بَلَّغْتُه على وجه الإفساد والنميمة قلت: نَمَّيْتُهُ -بالتشديد- قاله أبو عبيد وابن قتيبة. قوله: "مروا أبا ثابت" وهي كنية سهل بن حنيف. ¬

_ (¬1) قلت: الجمهور على تضعيفه، ورماه الإمام أحمد وابن نمير بالكذب. راجع ترجمته في "الميزان"، و"تهذيب الكمال". (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 11 رقم 3888).

قوله: "من النظرة" أي نظرة العين، يقال: هذا منظور، إذا أصابته العين، وقد مرَّ تفسير الحمة. و"اللدغة" باللام والدال المهملة والغين المعجمة من لدغته العقرب. قوله: "فأما قول سهل. . . ." إلي آخره. جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: كيف يدل حديث سهل هذا على إباحة مطلق الرقية، وقد قال سهل: "لا رقية إلا من ثلاثة" وقد حصرها على هذه الثلاثة؟ وأجاب عنه بقوله: "فيحتمل أن يكون علم ذلك. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر. وقد يجاب عن هذا بما أجبنا عن قوله: "لا رقية إلا عن عين أو حمة" وقد مَرَّ فيما مضى عن قريب. ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد "أن جبريل -عليه السلام- أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشتكيت يا محمَّد؟ قال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل ذي نفس وعين، الله يشفيك، بسم الله أرقيك". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد، عن عبد الرحمن بن السائب بن أخي ميمونة، قالت له: "ألا أرقيك" (¬1) المنهي عنه خلاف هذا. ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما قاله أهل المقالة الثانية من أن السمر إذا كان في شيء فيه قربة أو مصلحة للمسلمين فهو مباح غير مكروه، ألا ترى كيف بَيَّنَ عبد الله بن مسعود في حديثه هذا كيفية سمر رسول الله -عليه السلام-؟ وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، عن أبي الوليد هشام ابن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) سقطت ورقة من "الأصل"، و"ح" في هذا الموضع.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يسمُر عند أبي بكر الليلة كذلك في أمر من أمر المسلمين وأنا معه، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه". قوله: "ربما سمر" من السَّمَر -بفتحتين- وهو الحديث بعد العشاء وربما تسكن الميم فتكون حينئذ مصدرًا من سَمَرَ يَسمُر سمرًا، وأصل السمر: لون ضوء القمر؛ لأنهم كانوا يتحدثون فيه. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عمر - رضي الله عنه - ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "جَدَب لنا عمر السمر بعد العشاء الآخرة". ففي هذا الحديث أن عمر - رضي الله عنهم - جدب لهم السمر بعد العشاء الآخرة، ولم يبيِّن لنا في هذا الحديث أي سمر ذلك السمر؟ فنظرنا في ذلك، فإذا سليمان بن شعيب قد حدثنا، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن الجريري، قال: سمعت أبا نضرة، عن أبي سعيد مولى الأنصار قال: "كان عمر - رضي الله عنه - لا يدع سامرًا بعد العشاء الآخرة، يقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاةً أو تهجدًا، فانتهى إلينا وأنا قاعد مع ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر - رضي الله عنهم - فقال: ما يقعدكم؟ قلنا: أردنا أن نذكر الله، فقعد معهم". فهذا عمر - رضي الله عنه - قد كان ينهاهم عن السمر بعد العشاء ليرجعوا إلي بيوتهم ليصلوا، أو ليناموا نومًا ثم يقومون لصلاة يكونون بذلك متهجدين، فلما سألهم ما الذي أقعدهم؟ فأخبروه أنه ذِكْرُ الله، لم ينكر ذلك عليهم وقعد معهم؛ لأن ما كان يقيمهم له هو الذي هم قعود له. فثبت بذلك أن السمر الذي في حديث أبي وائل عن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- وعمر - رضي الله عنه - جَدَبا لهم هو الذي فيه قربة إلي الله -عز وجل- , والمنهي عنه في حديث أبي برزة هو الذي لا قربة فيه لتستوي معاني هذه الآثار فتتفق ولا تتضاد. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 79 رقم 6689).

ش: أي وقد روي في حكم السمر أيضًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما حدثنا محمَّد بن خزيمة. . . . إلى آخره. وأخرجه بإسناد صحيح: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود. قوله: "ولم يبيِّن لنا عمر. . . ." إلى آخره. أشار بهذا الكلام إلي بيان المراد من قول عبد الله بن مسعود: "إن رسول الله -عليه السلام- جَدَب لنا السمر بعد صلاة العتمة، وكذا عمر بن الخطاب أنه جَدَب لنا السمر بعد العشاء" أن النبي -عليه السلام- وعمر ما أرادا من السمر، وأي سمر هو؟ فنظرنا في ذلك فإذا أبو سعيد مولى الأنصار بيَّن ذلك في حديثه، من أن المراد من ذلك هو السمر الذي فيه قربة إلى الله -عز وجل-، وأنه غير مكروه. وأخرج ذلك بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن ابن زياد الثقفي، عن شعبة، عن سعيد بن إياس الجُرَيري -بضم الجيم وفتح الراء الأولى- نسبة إلى جُرير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، عن أبي نضرة -بالنون والضاد المعجمة- هو المنذر بن مالك العوفي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن أبي سعيد مولى الأنصار، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين، ولم يذكر له اسمًا، وقال: مولى لبني أسد الأنصاري. قوله: "لا يدع سامرًا" أي لا يتركه. قوله: "فثبت بذلك، أي بما ذكرنا من أثر أبي سعيد مولى الأنصار أن السمر الذي في حديث أبي وائل عن عبد الله "أن النبي -عليه السلام- جدب لنا السمر. . . ." الحديث، وعن أبي وائل عن عبد الله قال: "جدب لنا عمر السمر. . . ." إلي آخره هو السمر الذي فيه قربة إلي الله -عز وجل- فهذا الكلام ينادي بأعلي صوته؟؟؟ وغيره فافهم؛ فإنه موضع التأمل.

ص: وقد روينا عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة - رضي الله عنهم -: "أنهما سمرا إلي طلوع الثريا". فذلك عندنا على السمر الذي هو قربة إلي الله -عز وجل-، وقد ذكرنا ذلك الحديث بإسناده فيما تقدم من كتبانا هذا. ش: أخرج الطحاوي هذا في باب "الوتر من كتاب الصلاة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن زياد بن يحيى، عن ابن عباس: "أنه والمسور بن مخرمة سمرا". ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أيضًا من طريق ليس مثله يثبت: أنها قالت: "لا سمر إلا لمصلٍ أو مسافرٍ" فذلك عندنا إن ثبت غير مخالف لما روينا؛ وذلك لأن المسافر يحتاج إلي ما يدفع النوم عنه ليسير، فأبيح بذلك السمر وإن كان ليس بقربة ما لم يكن معصية لاحتياجه إلي ذلك، معنى قولها: "أو مصلٍ"، فمعناه عندنا على المصلي بعد ما سمر فيكون نومه إذا نام بعد ذلك على الصلاة لا على السمر، فقد عاد هذا المعنى إلى المعنى الذي صرفنا إليه معاني الآثار الأول. ش: أخرج حديث عائشة هذا معلقا. وأخرج البيهقي (¬2) مثله: عن ابن مسعود، من طريق الثوري، عن منصور، عن خيثمة، عمن سمع ابن مسعود يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا سمر بعد الصلاة إلا لمصلٍ أو مسافر". وفي إسناده مجهول. وأشار الطحاوي بقوله: "من طريق ليس مثله يثبت" إلى أن حديث عائشة المذكور ضعيف، ثم أجاب عنه على تقدير ثبوته بقوله: "فذلك عندنا -إن ثبت- غير مخالف .. إلى آخره، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 79 رقم 6691). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 452 رقم 1965).

ص: باب: نظر العبد إلى شعور الحرائر

ص: باب: نظر العبد إلى شعور الحرائر ش: أي هذا باب في بيان حكم نظر العبد إلى شعور مولاته الحرة هل يجوز ذلك أم لا؟ ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان لإحداكن مكاتبًا، وكان عنده ما يؤدي، فلتحتجب منه" قال سفيان: سمعته من الزهري وثَبتنِيهِ معمر. ش: إسناده صحيح. المزني هو إسماعيل بن يحيى، والشافعي هو محمَّد بن إدريس الإِمام، وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمَّد بن مسلم. ونبهان -بفتح النون وسكون الباء الموحدة مولى أم سلمة- وثقه ابن حبان. وأم سلمة زوج النبي -عليه السلام-، واسمها هند بنت أبي أمية. وأخرجه الأربعة: فأبو داود (¬1): عن مسدد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن نبهان مكاتب لأم سلمة، قال: سمعت أم سلمة تقول: "قال لنا رسول الله -عليه السلام-: إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي؛ فلتحتجب منه". والترمذي (¬2): عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن نبهان، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدي، فلتحتجب منه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 21 رقم 3928). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 562 رقم 1261).

والنسائي (¬1): عن محمَّد بن منصور، قال: ثنا سفيان، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان، عن الزهري .. إلى آخره. وقال الترمذي: معنى هذا الحديث عند أهل العلم على التورع، وقالوا: لا يعتق المكاتب وإن كان عنده ما يؤدي حتى يؤدي. قلت: يستفاد منه: جواز الكتابة، وأن المكاتب قد توجه إليه الحرة؛ فلذلك أمر- عليه السلام- لمن كان لها مكاتب من النساء أن تحتجب عنه. واحتج به قوم على أن العبد لا بأس أن ينظر إلى شعر مولاته ووجهها وإلى ما ينظر إليه ذو محرمها منها. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم من أهل المدينة إلي أن العبد لا بأس أن ينظر إلي شعر مولاته ووجهها، وإلي ما ينظر إليه ذو محرمها منها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا في قول النبي -عليه السلام- لأم سلمة: "فلتحتجب منه" دليل على أنها قد كانت قبل ذلك غير محتجبة منه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن شعيب ويزيد بن عبد الله بن قسيط المدني والقاسم بن محمَّد وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن رافع وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية؛ فإنهم قالوا: لا بأس للعبد أن ينظر. . . . إلى آخره. وقال أبو بكر بن العربي في "الأحكام": العبد إذا كان فحلًا كبيرًا أو وَغْدًا تملكه لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها. قال القاضي: كما قال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وقال أشهب عن مالك: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 389 رقم 9228). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 842 رقم 2520).

وأطلق علماؤنا المتأخرون القول بأن غلام المرأة من ذوي محارمها يحل له منها ما يحل لذي المحرم، وهو صحيح في القياس، وقول مالك في الاحتياط أعجب إليَّ. قلت: الوغد -بفتح الواو وسكون الغين المعجمة وفي آخره دال مهملة-: الرجل الدنيء الذي يخدم طعام بطنه، تقول منه: وَغُد الرجل بالضم. قوله: "واحتجوا في ذلك بهذا الحديث" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بحديث أم سلمة المذكور. ص: وقالوا: قد روي ذلك عن ابن عباس، وعمل به أزواج النبي -عليه السلام-: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: "لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته". ش: أي قال هؤلاء القوم: قد روي جواز نظر العبد إلي شعر مولاته عن ابن عباس. أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله القاضي، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الأعور الكوفي، عن أبي مالك الغفاري غزوان الكوفي، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: "لا بأس أن ينظر المملوك إلي شعر مولاته". ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ميمون بن يحيى -من آل الأشج- عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب ويزيد بن عبد الله وعمرة بنت عبد الرحمن، أنهم قالوا: "لو أن امرأة جلست عند عبد زوجها بغير خمار لم يكن بذلك بأس". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 11 رقم 17270).

قال بكير: وأخبرني عبد الرحمن بن القاسم: "أن أسماء بنت عبد الرحمن كانت تجلس عند عبيد القاسم -وهو زوجها- بغير خمار". قال بكير: عن عمرة بنت عبد الرحمن قال: "كانت عائشة - رضي الله عنها - يراها العبيد لغيرها". قال بكير: قالت أم علقمة مولاة عائشة: "قد كانت عائشة يدخل عليها عبيد المسلمين، قالت أم علقمة: وإن كان عبيد الناس لَيَرون عائشة بعد أن يحتلم أحدهم وإنها لتمتشط". قال بكير: عن عبد الله بن رافع: "لم تكن أم سلمة تحتجب من عبيد الناس". ش: هذا بيان لقوله: "وعمل به أزواج النبي -عليه السلام-". أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن ميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج مولى بني زهرة، عن مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، قال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا وهو حديث الوتر. وقال ابن معين: يقال: وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمع منه شيئًا. وأبوه بكير بن عبد الله، روى له الجماعة. وعمرو بن شعيب: ثقة. ويزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني الأعرج، روى له الجماعة. وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية: تابعية ثقة. وعبد الرحمن بن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - روى له الجماعة. وأسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. ذكرها ابن حبان في الثقات، وكانت في حجر عائشة - رضي الله عنها -.

وأم علقمة (¬1). وعبد الله بن رافع بن خديج الأنصاري: وثقه ابن حبان. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينظر العبد من الحرة إلا إلى ما ينظر إليه منها الحر الذي لا محرم بينه وبينها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي والحسن البصري وطاوسًا ومجاهدًا ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي، فإنهم قالوا: لا ينظر العبد من مولاته إلا إلى من ينظر إليه منها الأجنبي. وقال البيهقي: وكان الحسن والشعبي وطاوس ومجاهد يكرهون أن ينظر العبد إلى شعر سيدته، وكلهم عَدُّوا الشعر من الزينة التي لا تبديها لعبدها، كما عده ابن عباس فيما روينا عنه من الزينة التي لا تبديها لمحارمها. وقال الجصاص في "الأحكام": وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته. وهو مذهب أصاحبنا إلا أن يكون ذا محرم منها، وتأولوا قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (¬2) على الإماء؛ لأن العبد والحر في التحريم سواء، فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه، ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعرها. ¬

_ (¬1) بيض لها المؤلف -رحمه الله-: وفي "المغاني" قال أم علقمة هي مرجانة: وأحال على ترجمتها في الأسماء. وقال الحافظ في "التهذيب" (12/ 500): أم علقمة غير منسوبة، روى البخاري في "الأدب" من حديث بكير بن الأشج، عن أم علقمة عن عائشة في اللهو في الجنان. قلت: وقال البخاري في "الصيام" من "صحيحه": وقال بكير عن أم علقمة: "كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهى" وعلق لها في الحيض أيضًا مالك في "الموطإ"، وأم علقمة هذه مرجانة التي تقدم ذكرها في الأسماء، قال العجلي: مدنية تابعية ثقة. قلت: وذكرها ابن حبان في "الثقات" (5/ 466). (¬2) سورة النور، آية: [31].

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول النبي -عليه السلام- الذي ذكروا في حديث أم سلمة لا يدل على ما قال أهل تلك المقالة؛ لأنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك حجاب أمهات المؤمنين، فإنهن قد كن حجبن عن الناس جميعًا إلا من كان منهم ذو رحم محرم، فكان لا يجوز لأحد أن يراهُنَّ أصلًا إلا من كان بينه وبينهن رحم محرم، وغيرهن من النساء لسن كذلك؛ لأنه لا بأس أن ينظر الرجل من المرأة التي لا رحم بينه وبينها وليست عليه بمحرمة إلى وجهها وكفيها، وقد قال الله -عز وجل-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1)، فقيل في ذلك ما حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: " {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) قال: الزينة: القُرط والقلادة والسوار والخلخال والدُملُج وما ظهر من الثياب والجلباب". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1): الكحل والخاتم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم " {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ـ (1) قال: هو ما فوق الدرع". فأبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي -عليه السلام- لما نزلت آية الحجاب، فَفُضِّلْنَ بذلك على سائر النساء. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: "أن قول النبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. أراد به منع استدلال أهل المقالة الأولى بحديث أم سلمة، وهو أنه لا يستقيم استدلالهم به؛ لأنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك حجاب أمهات المؤمنين؛ وذلك لأنهن قد حجبن عن الناس جميعًا إلا مَن كان منهم ذو رحم محرم، ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31].

وقد فُضِّلْنَ بذلك على سائر النساء وهن لسن كذلك؛ لأنه يجوز أن ينظر الرجل إلى وجه الأجنبية وكفيها؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1)، قالوا: وما ظهر منها هو الكحل والخاتم؛ فالكحل في العينين والخاتم في الأصبع، وكني بذلك عن الوجه والكفين، وقد اختلف العلماء في ذلك، أشار إليه بقوله: "فقيل في ذلك"، وهو قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الأشجعي، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا عبد الله بن محمَّد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا الفريابي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله " {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) قال: الزينة: القرط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة". حدثنا (¬3) محمَّد بن علي الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله "في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) قال: الزينة: السوار والدُّمْلُج والخلخال والقرط والقلادة وما ظهر منها: هي الثياب والجلباب". وقال ابن عباس: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) الكحل والخاتم". أخرجه بإسناد صحيح، عن محمَّد بن حميد، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى ابن أعين، عن مسلم بن عمران -ويقال: ابن أبي عمران- البطين الكوفي، روى له الجماعة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (¬4): ثنا حفص، عن عبد الله بن مسلم، عن ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31]. (¬2) "المعجم الكبير" (9/ 228 رقم 9116). (¬3) "المعجم الكبير" (9/ 288 رقم 9117). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 547 رقم 17018).

سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1) قال: وجهها وكفاها". وقال إبراهيم النخعي: "هو ما فوق الدرع". أخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك ابن مخلد، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: " {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (¬3) قال: ما فوق الدرع إلا ما ظهر منها". قوله: "القُرط": بضم القاف وسكون الراء وفي آخره طاء مهملة، وهو نوع من حَلي الأذن معروف، ويجمع على أقراط وقِرَطَة وأقرطة، وقال الجوهري: القرط الذي يعلق في شحمة الأذن، والجمع قِرَطةٌ وقراط مثل رمح ورماح. و"السِّوار": بكسر السين وهو من الحلي معروف، وقال ابن الأثير: وبكسر السين وتضم، وجمعه أسورة ثم أساور وأساورة، وسَوَّرْتُه السِّوار إذا ألبسته إياه. و"الخلخال": واحد خلاخل النساء، والخلخل لغة فيه أو مقصور منه، قاله الجوهري. و"الدُّمْلُج": بضم الدال واللام هو: المعضد من الحلي، ويقال له: الدُّمْلُوج أيضًا، ويجمع على دمالج ودماليج. و"الجلباب": بكسر الجيم: الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، ويجمع على جلابيب. وقال الجوهري: الجلباب الملحفة. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة (3/ 546 رقم 17005) ولكن من قول أبي صالح وعكرمة، وأما قول إبراهيم فالذي في المطبوع (3/ 546 رقم 17006) من طريق وكيع عن سفيان، عن علقمة ابن مرثد، عن إبراهيم قال: "الثياب". (¬3) سورة النور، آية: [31].

قوله: "فأبيح للناس" من كلام الطحاوي. . . . إلى آخره. وهو ظاهر. ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا حميد، عن أنس، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "قلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو حجبت أمهات المؤمنين. فأنزل الله -عز وجل- آية الحجاب". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا حميد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة، عن عائشة: "أن أزواج النبي -عليه السلام- كن يخرجن بالليل إلى المناصع وهو صعيد أَفْيَح، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لرسول الله -عليه السلام-: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله -عليه السلام- يفعل، فخرجت سودة ذات ليلة -وكانت امرأة طويلة- فناداها عمر، ألا قد عرفناك يا سودة، حرصًا على أن تنزل آية الحجاب، قالت عائشة: فأنزل الحجاب". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح، قال: ثنا يحيى، قال: حدثني الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنت أعلم الناس بشأن الحجاب فيما أنزل؟ وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله -عليه السلام- بزينب بنت جحش، أصبح بها عروسًا فدعى القوم، فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند رسول الله -عليه السلام- فأطالوا المكث، فقام رسول الله -عليه السلام- فخرج وخرجت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة - رضي الله عنها - ثم ظن رسول الله -عليه السلام- أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه حتى دخل على زينب، فإذا هم جلوس، فرجع رسول الله -عليه السلام- ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم خرجوا رجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب رسول الله -عليه السلام- بيني وبينه بالستر، وأُنْزِلَ الحجاب".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس قال: "أَوْلَمَ رسول الله -عليه السلام- حين بنى بزينب بنت جحش، ثم خرج إلى حُجَر أمهات المؤمنين، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين قد مدَّ بهما الحديث، فوثبا مسرعين، فرجع حتى دخل البيت، وأرخى الستر، وأُنزِلت آية الحجاب". حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا المقرئ، عن جرير، عن سلم العلوي، عن أنس بن مالك قال: "كنت خادم رسول الله -عليه السلام- فكنت أدخل عليه بغير إذن، فجئت يومًا أدخل فقال: كما أنت، فإنه قد حدث بعدك أمرٌ، فلا تدخل علينا إلا بإذن". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن سلم العلوي، عن أنس بن مالك، قال: "لما أنزلت آية الحجاب جئت أدخل كما كنت أدخل، فقال النبي -عليه السلام-: رويدًا، وراءك يا بني". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي مجلز، عن أنس بن مالك قال: "لما تزوج النبي -عليه السلام- زينب بنت جحش، ودعى القوم فطمعوا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهَيَّأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام معه من القوم، وقعد الثلاثة، ثم إن النبي -عليه السلام- جاء فدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا وانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي -عليه السلام- أنهم قد انطلقوا، فجاء فدخل، وأنزلت آية الحجاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} (¬1) ". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكن أمهات المؤمنين قد خصصن في الحجاب ما لم يجعل فيه سائر النساء مثلهن. ش: ذكر هذه الأحاديث لبيان قوله: "ففضلن بذلك على سائر النساء". ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [53].

وأخرجها من تسع طرق: الأول: إسناده صحيح. عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا هشيم، أنا حميد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "وافقت ربي في ثلاث؛ قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله -عليه السلام- نساءه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، قال: فنزلت كذلك" (¬3). وأخرجه البخاري (¬4): ثنا مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: "وافقت الله في ثلاث -أو وافقني ربي في ثلاث- فقلت: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى. . . ." الحديث. الثاني: أيضًا صحيح، عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬5) نحوه: عن عمرو بن على، عن يزيد بن زريع، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه -. الثالث: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي. وعُقيل -بضم العين- ابن خالد الأيلي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 23 رقم 157). (¬2) سورة البقرة، آية: [125]. (¬3) سورة التحريم، آية: [5]. (¬4) "صحيح البخاري" (4/ 1692 رقم 4213). (¬5) "مسند البزار" (1/ 339 رقم 220).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "إلى المناصع" وهي المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة، واحدها منصع؛ لأنه يُبرز إليها ويطهر، قال الأزهري: أراها مواضع مخصوصة خارج المدينة، ومنه الحديث: "إن المناصع صعيد أفيح خارج المدنية". قوله: "أفيح" أي واسع، وكل موضع واسع يقال له: أفيح، وروضة فيحاء أي واسعة، وبيت فياح أي واسع. قوله: "سودة" وهي بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، أم المؤمنين زوج النبي -عليه السلام-. قوله: "حرصًا" نصب على التعليل، أي لأجل الحرص على نزول آية الحجاب. الرابع: أيضًا صحيح. عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. الخامس: أيضًا صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني عمرو الناقد، قال: ثنا يعقوب بن سعد، قال: نا أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: إن أنس بن مالك قال: "أنا أعلم الناس بالحجاب، لقد كان أبي بن كعب يسألني عنه، قال أنس: أصبح رسول الله -عليه السلام- عروسًا بزينب بنت جحش، قال: وكان تزوجها بالمدينة، فدعى الناس للطعام بعد ارتفاع النهار، فجلس رسول الله -عليه السلام- وجلس معه رجال بعدما قام القوم، حتى قام رسول الله -عليه السلام- فمشى، فمشيت معه حتى بلغ حجرة عائشة - رضي الله عنها - ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، وإذا هم جلوس مكانهم، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1709 رقم 2170). (¬2) "صحيح مسلم" (1050 رقم 1428).

فرجع فرجعت الثانية حتى بلغ حجرة عائشة، فرجع فرجعت، فإذا هم قد قاموا، فضرب بيني وبينه بالستر، وأنزل الله آية الحجاب". قوله: "في مبتنى رسول الله -عليه السلام-" من الابتناء، الابتناء والبناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها، فيقال: بني الرجل على أهله، قال الجوهري: ولا يقال: بنى بأهله. وهذا القول فيه نظر، فإن قد جاء في غير موضع من الحديث وغير الحديث، وعاد الجوهري استعمله في كتابه. والمبتنى هاهنا يراد به الابتناء، فأقامه مقام المصدر. قوله: "وبقي رهط منهم" الرهط ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (¬1) فجمع وليس لهم واحد من لفظه مثل ذَوْد، والجمع: أَرْهُط، وأَرَهاط، وأَرَاهط، كأنه جمع أرهط وأراهيط. قوله: "فإذا هم جلوس" أي جالسون، كالركوع جمع راكعين. السادس: أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي. وأخرجه البخاري بأتم منه (¬2): ثنا إسحاق بن منصور، أنا عبد الله بن بكر السهمي، ثنا حميد، عن أنس قال: "أَوْلَمَ رسول الله -عليه السلام- حين بنى بزينب ابنة جحش، فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حُجَر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن ويدعو لهن، ويسلمن عليه ويدعون له، فلما رجع إلى بيته، رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله -عليه السلام- رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أم أُخبر؟ فرجع حتى دخل البيت، وأرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب". ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية: [48]. (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1800 رقم 4516).

السابع: عن إبراهيم بن منقذ العصفري، عن عبد الله بن يزيد المقرئ القصير شيخ البخاري، عن جرير بن حازم، عن سلم بن قيس العلوي البصري -وليس هو من ولد على بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن يحيى: ضعيف. قال البخاري: تكلم فيه شعبة. وقال النسائي: ليس بالقوي. الثامن: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن سلم العلوي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو كامل مظفر بن مدرك قال: ثنا حماد بن زيد، عن سلم العلوي، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "لما نزلت آية الحجاب جئت أدخل كما كنت أدخل، فقال النبي -عليه السلام-: وراءك يا بني". وأخرجه أبو يعلى (¬2) أيضًا: عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن سلم العلوي. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "رويدًا" نصب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: تأخر تأخرًا رويدًا وراءك. التاسع: إسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد الله بن معاذ العنبري البصري -شيخ مسلم وأبي داود- عن المعتمر بن سليمان التيمي البصري، روى له الجماعة، عن أبيه سليمان بن طرخان التيمي، روى له الجماعة، عن أبي مجلز لاحق بن حميد الأعور البصري، روى له الجماعة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬3): نا يحيى بن حبيب الحارثي، وعاصم بن النضر التميمي ومحمد بن عبد الأعلى، كلهم عن معتمر -واللفظ لابن حبيب- قال: نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، قال: نا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال: "لما تزوج ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 133 رقم 12389). (¬2) "مسند أبي يعلى" (7/ 263 رقم 4276). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1050 رقم 1428).

النبي -عليه السلام- زينب بنت جحش دعى القوم، فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ النبي يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام مَن قام من القوم -زاد عاصم وابن عبد الأعلى في حديثهما قال: "فقعد ثلاثة وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد انطلقوا. قال: فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه. قال: فأنزل الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬1). انتهى. [واعلم أن هذه الآية تضمنت أحكامًا: منها: النهي عن دخول بيت رسول الله -عليه السلام- إلا بأذن، وأنهم إذا أذن لهم لا يقعدون للحديث. ومنها: النهي عن انتظار وقت طعام لم يحضر ولم ينضج في بيت رجل؛ لأن ذلك مما يؤذي صاحب البيت. ومنها: اختصاص أمهات المؤمنين في الحجاب بما لم يجعل فيه غيرهن مثلهن. فإن قيل: كيف أضاف البيوت هاهنا إلى النبي -عليه السلام- وأضافها إلى نسائه في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. قلت: إضافة البيوت إلى النبي -عليه السلام- إضافة ملك، وإضافتها إلى الأزواج إضافة محل؛ بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي -عليه السلام-، والإذن إنما يكون للمالك] (¬2). ص: فإن قال قائل: فقد قال الله -عز وجل-: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬3)، ثم ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [53]. (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من "ك". (¬3) سورة النور، آية: [31].

قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (¬1) فجعل ما ملكت أيمانهن كذي الرحم المحرم فيهن قيل له: ما جعلهن كذلك ولكنه ذكر جماعة مستثنين من قوله -عز وجل-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) فذكر البعول وذكر الآباء ومن ذكر معهم مثل ما ذكره وما ملكت أيمانهم، فلم يكن جمعه بينهم بدليل على استواء أحكامهم، لأنا قد رأينا البعل قد يجوز له أن ينظر من امرأته إلى ما لا ينظر إليها أبوها منها. ثم قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (1) فلا يكون ضمه أولئك مع ما قبلهم بدليل أن حكمهم مثل حكمهم، ولكن الذي أبيح بهذه الآية للمملوكين من النظر إلى النساء إنما هو ما ظهر من الزينة وهو الوجه والكفّان، وفي إباحته ذلك للمملوكين وليسوا بذوي أرحام محرمة دليل على أن الأحرار الذين ليسوا بذوي أرحام محرمة من النساء في ذلك كذلك، وقد بين هذا المعنى ما في حديث عبد بن زمعة من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسودة: "احتجبي منه" فأمرها بالحجاب منه وهو ابن وليدة أبيها، وليس يخلو أن يكون أخاها أو ابن وليدة أبيها فيكون مملوكًا لها ولسائر ورثة أبيها، فعلمنا أن النبي -عليه السلام- لم يحجبها منه؛ لأنه أخوها ولكن لأنه غير أخيها وهو في ذلك الحال مملوك فلم يحل له -بِرقِّهِ- النظر إليها، فقد ضاد هذا الحديث حديث أم سلمة وخالفه، وصارت الآية التي ذكرنا على قول هذا الذاهب إلى حديث سودة أنها على سائر النساء دون أمهات المؤمنين، وأن عبيد أمهات المؤمنين كانوا في حكم النظر إليهن في حكم الغرباء منهن الذين لا رحم بينهم وبينهن، لا في حكم ذوي الأرحام منهن المحرمة، فكل من كان بينهن وبينهم محرم فهو عندنا في حكم ذوي الأرحام منهن المحرمة في منع ما وصفنا. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31].

ثم رجعنا إلى النظر لنستخرج به من القولين قولًا صحيحًا، فرأينا ذا الرحم لا بأس أن ينظر إلى المرأة التي هو لها محرم إلى وجهها وصدرها وشعرها وما دون ركبتيها، ورأينا القريب منها ينظر إلى وجهها وكفيها فقط، ثم رأينا العبد حرام عليه -في قولهم جميعًا- أن ينظر إلى صدر المرأة مكشوفًا أو إلى ساقيها، وسواء كان رِقُّه لها أو لغيرها، فلما كان فيما ذكرنا كالأجنبي منها لا كذي رحمها المحرم عليها؛ كان في النظر إلى شعرها أيضًا كالأجنبي لا كذي رحمها المحرم عليها. فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-، وقد وافقهم في ذلك من المتقدمين الحسن والشعبي. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة عن الشعبي، ويونس عن الحسن: "أنهما كرها أن ينظر العبد إلى شعر مولاته". ش: تقرير السؤال أن يقال: إن قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (¬1). . . . الآية يدل على جواز نظر العبد إلى شعر مولاته؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) ثم استثنى من ذلك البعولة والآباء ومن ذُكر معهم، وذكر في جملة ذلك {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (1) فجعل ما ملكت أيمانهن كذي الرحم المحرم منهن. وتقرير الجواب أن يقال: لا نُسَلِّم أنه جعل ما ملكت أيمانهن كذلك، بل ذكر جماعةً واستثناهم من قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1). فذكر البعولة وهو جمع بعل وهو الزوج، وكذلك ذكر الآباء وجماعة معهم قبل ذكر قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (1) وليس جمعه إياهم في الذكر دليلًا على استواء أحكامهم، ألا ترى أن البعل الذي هو الزوج قد يجوز له أن ينظر من إمرأته إلى ما لا يجوز له نظر أبيها إليه منها، يدل ذلك على أن الجمع بينهم في الذكر لا يدل على استواء الحكم. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31].

وقال الجصاص في هذه الآية: قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته، وهو مذهب أصحابنا إلا أن يكون ذا رحم محرم منها، وتأولوا قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} (¬1) على الإماء؛ لأن العبد والحر في التحريم سواء، فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها؛ فإن ذلك تحريم عارض، ثم قال: فإن قال قائل: هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع. قيل له: ليس كذلك؛ لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1)، وأراد بهن الحرائر المسلمات، فجاز أن يَظُن ظانٌّ أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى غيره مما يجوز للمُحَرَّم النظر إليه منها، فأبان الله تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء، وإنما خص نسائهن بذكر في هذا الموضع؛ لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال، بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1). . . . إلى آخر ما ذكر، فكان جائز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم، فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كُنَّ ذوات محارم أو غير ذوات محارم، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} (1) لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء، إذ كان ظاهر قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1) يقتضي الحرائر دون الإماء، كما كان قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬2) على الحرائر دون المماليك، وقوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ} (¬3) على الحرائر، ثم عطف عليهن الإماء، فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر. انتهى. قوله: "وليسوا بذوي أرحام" الواو فيه للحال. قوله: "وقد بين هذا المعنى" أراد به المعنى الذي ذكره بقوله: "وفي إباحة ذلك للمملوكين. . . ." إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [31]. (¬2) سورة النور، آية: [31]. (¬3) سورة البقرة، آية: [282].

قوله: "وهو ابن وليدة أبيها" أي ابن أمة أبيها، وهذا باب فيه كلام كثير يأتي تحقيقه في باب: الأمة يطأها مولاها ثم يموت. إن شاء الله تعالى. قوله: "فقد ضاد هذا الحديث" أراد به حديث عبد بن زمعة، وأراد بحديث أم سلمة هو الحديث المذكور في أول الباب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز نظر العبد إلى شعر مولاته. وجه التضاد بينهما ظاهر يُعلم بأدنى تأمل. قوله: "ثم رجعت إلى النظر" أي إلى وجه النظر والقياس "لنستخرج به" أي بالنظر والرأي "من القولين" وهما قول أهل المقالة الأولى المحتجين بحديث أم سلمة، وقول أهل المقالة الثانية. قوله: "وقد وافقهم في ذلك" أي: وقد وافق أبا حنيفة وصاحبيه فيما ذهبوا إليه من المتقدمين: الحسن البصري وعامر بن شراحيل الشعبي. وخرج ذلك عنهما بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي عن عامر الشعبي وعن المغيرة عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن الحسن البصري. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن مغيرة نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 11 رقم 17271).

ص: باب: التكني بأبي القاسم هل يصلح أم لا؟

ص: باب: التكني بأبي القاسم هل يصلح أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان تكني الرجل بأبي القاسم، هل يصلح ذلك أم لا؟ ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن قادم، قال: ثنا فطر، عن منذر الثوري، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، إن وُلِدَ لي ابنُ أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم، قال: وكانت رخصة من رسول الله -عليه السلام- لعلي - رضي الله عنه -". ش: أبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي وأبو عوانة الإسفراييني وأبي حاتم الرازي. وعلي بن قادم الخزاعي الكوفي، عن يحيى: ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات". وفطر هو ابن خليفة القرشي الكوفي الحناط بالنون، ثقة على قليل تشيع فيه، روى له البخاري مقرونًا بغيره؛ والأربعة. ومنذر هو ابن يعلى الثوري الكوفي، روى له الجماعة. ومحمد بن على بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: ثنا أبو أسامة، عن فطر، عن منذر، عن محمَّد بن الحنفية قال: قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "قلت: يا رسول الله، إن وُلِدَ لي بعدك ولد، أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم". ولم يقل أبو بكر يعني ابن أبي شيبة: قلت: قال علي للنبي -عليه السلام-". وأخرجه الترمذي (¬2): عن ابن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن فطر بن خليفة. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 292 رقم 4967). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 137 رقم 2843).

وقال: حديث صحيح. ويستفاد منه: جواز تسمية الرجل ابنه باسم محمَّد، وجواز تكنيته بكنيته، وجواز الجمع بينهما على ما ذهب إليه قوم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا بأس بأن يكتني الرجل بأبي القاسم وأن يتسمى مع ذلك بمحمد، واحتجوا في ذلك بما روي عن النبي -عليه السلام- في هذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن الحنفية ومالكًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: لا بأس للرجل أن يكتني بأبي القاسم ويتسمى بمحمد. وقال المنذري: وقد أجاز مالك بن أنس أن يجمع بين التكني بأبي القاسم والتسمي بمحمد. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بالحديث المذكور. ص: وقالوا: أما ما ذكر من أن ذلك كان رخصة لعلي - رضي الله عنه - فلم يذكر ذلك في الحديث عن رسول الله -عليه السلام-، ولا ذكر عن على - رضي الله عنه - أن ذلك كان رخصة من رسول الله -عليه السلام- له، وإنما هو قول ممن بعد على - رضي الله عنه - قد يجوز أن يكون ذلك على ما قال، ويجوز أن يكون على خلاف ذلك، والدليل على أنه خلاف ذلك: أنه قد كان في زمن أصحاب رسول الله -عليه السلام- جماعة قد كانوا مسمون بمحمد، مكتنين بأبي القاسم، منهم: محمَّد بن طلحة، ومحمد بن الأشعب، ومحمد بن أبي حذيفة، فلو كان ما أمر به النبي -عليه السلام- في الحديث الأول خاصًّا له؛ إذًا لما سوغه غيره؛ ولأنكره على فاعله وأنكره معه مَن كان بحضرته من أصحاب النبي -عليه السلام-. ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن يقال للقوم المذكورين: كيف تحتجون بالحديث المذكور، وفيه قال: "وكانت رخصة من رسول الله -عليه السلام- لعلي - رضي الله عنه -" أي كان الجمع بين التسمِّي بمحمد والتكني بأبي القاسم رخصة من النبي -عليه السلام- لعلي - رضي الله عنه - فإذا كان كذلك فقد صار ذلك مخصوصًا لعلي - رضي الله عنه - فلا يجوز لغيره؟! وتقرير الجواب أن يقال: إن هذه الزيادة لم يذكر أنها من

النبي -عليه السلام-، ولا عن علي - رضي الله عنه - أن ذلك كان رخصةً منه له، وإنما هي قول ممن كانوا بعد علي - رضي الله عنه -. فإن قيل: هذا احتمال؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك عن النبي -عليه السلام- أو عن علي - رضي الله عنه - ويحتمل أن يكون ممن بعد علي - رضي الله عنه - فلا يصح به الاحتجاج بالحديث المذكور. وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "والدليل على أنه خلاف ذلك أنه قد كان في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - جماعة مسمون بمحمد مكتنون بأبي القاسم"، فلو كان قول النبي -عليه السلام-: "نعم" لعلي - رضي الله عنه - حين سأله ما سأل مخصوصًا له؛ لكان على - رضي الله عنه - لم يجوز ذلك لغيره، ولا سوغه غيره، ولكان أنكر ذلك مَن كان معه من الصحابة في ذلك الوقت، فسكوتهم على ذلك وترك إنكارهم، يدل على أن ذلك لم يكن مخصوصًا له، وأنه يجوز لغيره كما جاز له. قوله: "منهم: محمد بن طلحة" هو محمد بن طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي التيمي، ذكره ابن الأثير في "الصحابة" وقال: حمله أبوه إلى رسول الله -عليه السلام-، فمسح رأسه وسماه محمدًا، وكان يكنى أبا القاسم. وأمه حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي -عليه السلام- وقيل: إن رسول الله -عليه السلام- كناه أبا سليمان، فقال طلحة: "يا رسول الله أكُنِّه أبا القاسم؟ فقال: لا أجمعهما له هو أبو سليمان" والأول أصح، وكان محمَّد بن طلحة يلقب: السجَّاد؛ لكثرة صلاته وشدة اجتهاده في العبادة، قتل يوم الجمل مع أبيه سنة ست وثلاثين، وكان هواه مع علي - رضي الله عنه - إلا أنه أطاع أباه فلما رآه علي - رضي الله عنه - قال: هذا السجاد قتله بره بأبيه. قوله: "ومحمد بن الأشعث" هو محمَّد بن الأشعث بن قيس الكندي، قيل: إنه وُلِدَ على عهد النبي -عليه السلام-، وروى عن عائشة - رضي الله عنها -.

قال أبو نعيم: لا تصح له صحبة، وروى الزبير بن بكار، عن محمَّد بن الحسن قال: "المحمدون الذين اسمهم محمَّد وكَناهم أبو القاسم: محمد بن طلحة، ومحمد بن علي، ومحمد بن الأشعث، ومحمد بن سعد". قوله: "ومحمد بن أبي حذيفة" هو محمَّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي، كنيته أبو القاسم، ولد بأرض الحبشة على عهد رسول الله -عليه السلام- وأمه: سهلة بنت سهل بن عمرو العامرية، وهو ابن خال معاوية بن أبي سفيان، ولما قتل أبوه أبو حذيفة أخذه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكَفَلَهُ إلى أن كبر، ثم سار إلى مصر، فصار من أشد الناس بأسًا على عثمان - رضي الله عنه -. وقال أبو نعيم: هو أحد من دخل على عثمان حين حوصر فقتل، ولما استولى معاوية على مصر أخذ محمدًا في الرهن وحبسه، فهرب من السجن، فظفر به رشدين مولى معاوية فقتله، وانقرض ولد أبي حذيفة وولد أبيه من عتبة إلا من قبل الوليد بن عتبة، فإن منهم طائفة في الشام. قاله أبو عمر. ومِن جملة من تسمى بمحمد وتكنى بأبي القاسم من أبناء وجوه الصحابة: محمَّد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن حاطب، ومحمد بن المبشر، ذكرهم البيهقي في "سننه" (¬1) في باب: من رخص في الجمع بين التسمي بمحمد والتكني بأبي القاسم. ص: فقال الذين ذهبوا إلى أن ذلك كان خاصًّا بعلي - رضي الله عنه -: قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما قلنا، فذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن أسلم، قال: ثنا أيوب بن واقد، قال: ثنا فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، عن علي - رضي الله عنه - قال: "قال لي رسول الله -عليه السلام-: إن وُلِدَ لك بعدي ابن فَسَمِّه باسمي وكنِّه بكنيتي، وهي لك خاصَّةً دون الناس". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 309) ولفظ الباب: ما جاء من الرخصة في الجمع بينهما.

قالوا: ففي هذا الحديث الخصوصية من الرسول -عليه السلام- لعلي - رضي الله عنه - بذلك دون الناس. ش: أراد بهؤلاء الذاهبين الجماعة من أهل العلم الذي خالفوا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. قوله: "إلى أن ذلك" أي الجمع بين التسمي بمحمد والتكني بأبي القاسم "كان خاصًّا" أي مخصوصًا بعلي - رضي الله عنه - واحتجوا على ذلك بما أخرجه الطحاوي، عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن أسلم الباهلي البصري، فيه مقال، فقال أبو حاتم: عن محمَّد بن عبد الله بن أبي الثلج: سمعت عفان يقول: روح بن أسلم كذاب. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين عنه فقال: ليس بذاك لم يكن من أهل الكذب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الترمذي. وهو يروي عن أيوب بن واقد الكوفي أبي سهل، نزيل البصرة، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بثقة. وعن البخاري: حديثه ليس بالمعروف، منكر الحديث. وكذا قال الدارقطني. وهو يروي عن فطر بن خليفة .. إلى آخره. قوله: "قالوا: ففي هذا الحديث" أي قال هؤلاء الذين ذهبوا إلى أن ذلك كان خاصًا بعلي - رضي الله عنه -: ففي هذا الحديث الخصوصية ثابتة لعلي - رضي الله عنه - بذلك من النبي -عليه السلام-، فلا تجوز لغيره من الناس. ص: قيل لهم: هذا كما ذكرتم لو ثبت هذا الحديث على ما رويتم، ولكنه ليس بثابت عندنا؛ لأن أيوب بن واقد لا يقوم مقام من خالفه في هذا الحديث ممن رواه عن فطر؛ على ما ذكرنا في أول الباب. ش: أي قيل لهؤلاء الذاهبين المذكورين، وأراد به الجواب عن حديثهم الذي احتجوا به من خصوصية ذلك الحكم لعلي - رضي الله عنه - وبيانه أن يقال: هذا الذي ذكرتم مُسَلَّم لو كان الحديث الذي رويتم ثابتًا صحيحًا على الوجه الذي رويتم، ولكنه لم

يثبت ذلك كذلك؛ لأن في "سنده" أيوب بن واقد، وقد ذكرنا أنه ليس بثقة، وحديثه منكر، فلا يعارض به السند الصحيح المذكور في أول الباب. وقال البيهقي: روي هذا الحديث من غير وجه وهو مختلف في وصله. وقال الذهبي: هو بهيئة المرسل. قلت: رواه الترمذي موصولًا وصححه كما ذكرناه. فإن قيل: كيف لا يقوم أيوب بن واقد مقام من خالفه في هذا الحديث ممن رواه عن فطر، والراوي عن فطر هو علي بن قادم، وقد ذكرنا أن يحيى بن معين قد ضعفه. قلت: وقد روى عنه يحيى بن سعيد أيضًا على ما في رواية الترمذي، روى عنه أبو أسامة فافهم. ص: فقال الذين ذهبوا إلى أن ذلك كان خاصًّا لعلي - رضي الله عنه - بعد أن افترقوا فرقتين، فقالت فرقة: لا ينبغي لأحد أن يتكنى بأبي القاسم كان اسمه محمدًا أو لم يكن. وقالت الفرقة الأخرى: لا ينبغي لمن تسمى محمدًا أن يتكنَّى بأبي القاسم ولا بأس لمن لم يتسمَّ محمدًا أن يتكنى بأبي القاسم. ش: أراد بهؤلاء الذاهبين: الجماعة الذين خالفوا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز الجمع بين التسمي بمحمد والتكني بأبي القاسم. وأراد بقوله: "فقالت فرقة": محمَّد بن سيرين وإبراهيم النخعي والشافعي، وأراد بالفرقة الأخرى: طائفة من أهل الحديث منهم: أحمد في رواية، وطائفة من الظاهرية. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على ما قلنا من تخصيص رسول الله -عليه السلام- بذلك عليًّا - رضي الله عنه - فذكروا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن يزيد النخعي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَسَمُّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا هشام، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه قال: "سموا باسمي". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا الحسين بن محمَّد قال: ثنا جرير بن حازم، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب وابن نافع، قالا: ثنا داود بن قيس (ح). وحدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، فإني أنا أبو القاسم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن أشكيب الكوفي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". حدثنا محمَّد، قال: ثنا أبو ربيعة، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن قتادة. ومنصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. قالوا: فقد نهى رسول الله -عليه السلام- أن يتكنى بكنيته، وأباح أن يتسمى باسمه، وجاء ذلك عنه مجيئًا ظاهرًا متواترًا، فدل ذلك على خصوصية ما خالفه. ش: هذه كلها حجج الفرقة الأولى، والفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية في دعواهم خصوصية رسول الله -عليه السلام- عليًّا - رضي الله عنه - بالجمع بين التسمي باسمه والتكني بكنيته، وهي ما روي عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. وأخرج عن أبي هريرة من ستة طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق، وأبو زرعة بن عمرو اسمه عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقد مَرَّ ذكره غير مرة.

وهذا الحديث أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4) بأسانيد مختلفة وألفاظ متغايرة. وقوله: "تَسَمَّوْا" بفتح الميم أمر من تَسَمَّى يتَسَمَّى. قوله: "ولا تكنوا" من كَنَى يُكْنَي، وَكنَى يكنو، يقال: كَنَيتُ زيدًا -بالتخفيف وكنيته بالتشديد- تكنيةً، والكنية بضم الكاف علم مُصَدَّر بأب أو أم، والكِنْيَة بالكسر واحدة الكنى، قاله الجوهري. الثاني: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا أبا بكرة بكار القاضي. وأخرجه الدارمي في "مسنده": عن سعيد بن عامر، عن هشام، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة نحوه. قوله: "سموا" أمر من سمى يسمي تسميةً وهو بفتح السين وضم الميم، فإذا فتحت الميم يكون ماضيًا. فافهم. الثالث: أيضًا رجاله رجال الصحيح ما خلا أبا أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5): عن حسين بن محمَّد، عن جرير، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب وعبد الله بن نافع الصائغ، كلاهما عن داود بن قيس الفراء الدباغ المدني، عن موسى بن يسار القرشي المطلبي، عن أبي هريرة. وهذا أيضًا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 52 رقم 110). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1684 رقم 2134). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 291 رقم 4965). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1230 رقم 3735). (¬5) "مسند أحمد" (2/ 392 رقم 9083).

الخامس: أيضًا صحيح عن ربيع بن سليمان الجيزى، عن عبد اللَّه بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ الشيخين، عن داود بن قيس. . . . إلى آخره. وأخرجه البزار "مسنده": ثنا عمرو بن علي، قال: نا عبد الرحمن بن مهدي قال: ثنا داود بن قيس، قال: حدثني موسى بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي؛ فإني أَنا أبو القاسم". السادس: عن محمَّد بن خزيمة، عن أبي ربيعة القطعي زيد بن عوف، ليس ثقة، وقال مسلم: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. يروي عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي حَصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري بأتم منه (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال النبي -عليه السلام-: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام. . . ." الحديث. وأخرجه مسلم (¬2): عن محمَّد بن عبيد، عن أبي عوانة. . . . إلى آخره نحوه. وأخرج عن جابر - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن أحمد بن أشكيب -ويقال له: إشكاب الحضرمي الكوفي نزيل مصر وشيخ البخاري، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 52 رقم 110). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 10 رقم 3). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1230 رقم 3736).

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الله بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، كلاهما عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): عن محمد بن مثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن سالم، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلًا من الأنصار وُلد له غلام فأراد أن يسميه محمدًا، فأتى النبي -عليه السلام- فسأله، فقال: أحسنت الأنصار، سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". وأخرجه مسلم (1) بطرق متعددة. قوله: "قالوا: فقد نهى" أي قالت الفرقة الأولى والفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية: فقد نهى النبي -عليه السلام- عن التكني بكنيته وأباح التسمي باسمه. قوله: "وجاء ذلك عنه" أي عن النبي -عليه السلام-، أراد بذلك أن حديث أبي هريرة وحديث جابر من الأحاديث الصحيحة الظاهرة الدالة على جواز التسمي باسم محمَّد، ومنع التكني بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمدًا أو لم يكن. ص: ثم رجعنا إلى الكلام بين الذين ذهبوا إلى ما كان من رسول الله -عليه السلام- في حديث ابن الحنفية أنه كان خاصًّا بعلي - رضي الله عنه - فكان من حجة الفرقة التي ذهبت إلى أن النهي المذكور في حديث أبي هريرة وجابر إنما هو على الكنية خاصةً كان اسم المكتني بها محمدًا أو لم يكن؛ ما قد روي عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا بكار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يكتني بكنيته". فقصد بالنهي في هذا الحديث إلى الكنية خاصةً، فدل ذلك أن ما قصد بالنهي إليه في الآثار التي ذكرناها قبله هي الكنية أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1683 رقم 2133).

ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان حجج كل واحدة من الفرقتين من أهل المقالة الثانية فيما ذهب إليه، وبيَّن أولًا حجج الفرقة الأولى، وهو قوله: "فكان من حجة الفرقة التي ذهبت. . . ." إلى آخره. قوله: "ما قد روي عن رسول الله -عليه السلام-" في محل الرفع على أنه اسم كان. وقوله: "من حجة الفرقة" مقدمًا خبره، بيان ذلك أنهم قالوا: النهي المذكور في حديث أبي هريرة وجابر إنما هو على التكني بكنية النبي -عليه السلام- خاصةً سواء كان اسم الذي اكتنى به محمدًا أو لم يكن، والدليل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يكتني بكنيته" فنص في هذا على النهي عن الكنية، فدل على أن المنهي هو التكني بكنيته مطلقًا. وأخرج ذلك بإسناد صحيح، عن القاضي بكار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك ابن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة -واسم أبي عمرة: بشير- بن عمرو بن محصن النجاري الأنصاري المدني الصحابي. وابنه عبد الرحمن ثقة، روى له الجماعة إلا النسائي. يروي عن أبي هريرة. وفي بعض النسخ: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عمه، عن أبي هريرة. وفي رواية ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عمه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي". رواه عن وكيع عن سفيان، عن عبد الكريم، عن عبد الرحمن به. ولم يذكر في روايته: أبا هريرة. وعَمُّ عبد الرحمن هو ثعلبة بن عمرو بن محصن الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 264 رقم 25928).

ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي؛ أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة وحسين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "ولد لرجل من الأنصار غلام فسماه محمدًا، فقال النبي -عليه السلام-: أحسنت الأنصار، تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن خازم، عن الأعمش، عن ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي؛ فإنما جعلت قاسمًا أقسم بينكم". فقد أخبر رسول الله -عليه السلام- بالمعنى الذي من أجله نهى أن يكتني بكنيته؛ وإنما هو لأنه يقسم بينهم. فثبت بذلك أن ما قصده كان في النهي إلى الكنية دون الجمع بينها وبين الاسم. ش: أي: وقد دل أيضًا على أن ما قصد بالنهي في الأحاديث السالفة هو التكني بكنيته مطلقًا: ما حدثنا. . . . إلى آخره. وأخرج في ذلك عن أبي هريرة وجابر. أما عن أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن محمَّد بن عجلان، عن أبيه عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته، وسمى محمدًا وأبا القاسم". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 136 رقم 2841).

قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أبو خيثمة، نا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي، الله المعطي وأنا أقسم". وأما عن جابر فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن سفيان، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن سالم. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن هناد بن السَّري، عن عبثر، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: "وُلد لرجل منا غلام فسماه محمدًا، فقلنا: لا نكنيك برسول الله -عليه السلام- حتى نستأمره، فأتاه فقال: إنه ولد لي الليلة غلام فسميته برسول الله -عليه السلام-، وإن قومي أَبَوْا أن يكنوني به حتى نستأذن النبي -عليه السلام-، وقال: سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي؛ فإنما بعثت قاسمًا أقسم بينكم". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبي معاوية الضرير، عن سليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وأخرجه مسلم (1) أيضًا عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش نحوه. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل، وحسين بن نصر، قالا: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن حميد الطويل، قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: "كان النبي -عليه السلام- في السوق فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله -عليه السلام-، فقال الرجل: إنما أدعو ذاك، فقال رسول الله -عليه السلام-: تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1683 رقم 2133).

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا حميد، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا حميد، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- مثله. فهذا يدل على أن نهي رسول الله -عليه السلام- إنما هو التكني بكنيته خاصةً دون الجمع بينها وبين التسمية. ش: أي احتجت الفرقة الأولى من أهل المقالة الثانية أيضًا بحديث أنس. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن عبد الغني بن أبي عقيل المصري شيخ أبي داود، وعن حسين بن نصر، كلاهما عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو كريب محمَّد بن العلاء، وابن أبي عمر -قال: أبو كريب: نا وقال ابن أبي عمر: ثنا واللفظ له- قال: ثنا مروان -يعنيان- الفزاري، عن حميد، عن أنس قال: "نادى رجل رجلًا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إني لم أَعْنِكَ، إنما دعوت فلانًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي". الثاني: عن حسين بن نصر. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): عن الحسن بن علي الخلال، عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، عن النبي -عليه السلام-: "أنه سمع رجلًا في السوق ينادي: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي -عليه السلام-، فقال: لم أعنك، فقال النبي -عليه السلام-: لا تكتنوا بكنيتي". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1682 رقم 2131). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 136 رقم 2841).

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن محمَّد بن عبيد الله الأنصاري. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس قال: "كان رسول الله -عليه السلام- بالقيع، فنادى رجل رجلًا: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله -عليه السلام-، فقال: إني لم أعنك، فقال رسول الله -عليه السلام-: تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". ص: وقد ذهب إلى هذا المذهب إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين: حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن مُحِلّ قال: "قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون أن يكنى الرجل بأبي القاسم وإن لم يكن اسمه محمدًا؟ قال: نعم". فهذا إبراهيم يحكي هذا أيضًا عن مَن قبله، يريد بذلك أصحاب عبد الله أو مَن فوقهم. وقد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمَّد بن سيرين، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي قال: ورأيت محمَّد بن سيرين يكره أن يكتني الرجل أبا القاسم، كان اسمه محمدا أو لم يكن". ش: أشار بهذا المذهب إلى قول الفرقة الأولى من أهل المقالة الثانية. وأخرج عن إبراهيم النخعي من طريق أحمد بن الحسن بن القاسم بن سمرة الكوفي، فيه مقال، عن وكيع، عن مُحِلّ -بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام- أبي محرز الضبي الكوفي الأعور -وثقه أحمد وابن معين. وأخرج عن محمَّد بن سيرين: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخَصِيب - ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1231 رقم 3737).

بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، عن يزيد بن إبراهيم القشيري البصري، روى له الجماعة. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن ابن عون، قال: "قلت لمحمد: "أكان يكره أن يكنى الرجل بأبي القاسم وإن لم يكن اسمه محمدًا؟ قال: نعم". قوله: "أكانوا يكرهون" الهمزة فيه للاستفهام، وأراد به أصحاب عبد الله بن مسعود مثل: علقمة بن قيس والأسود بن يزيد وشقيق بن سلمة ومسروق وأضرابهم. وأراد بقوله: "أوْ من فوقهم": الصحابة - رضي الله عنهم - لأن أصحاب عبد الله تابعين، ومَن فوق التابعين صحابة - رضي الله عنهم - وحكى البيهقي أن هذا هو مذهب الشافعي أيضًا. وقال المنذري: اختلف هل النهي عام أو خاص؟ فذهبت طائفة من السلف إلى أن التكني وحده بأبي القاسم ممنوع كيف كان الاسم. وذهب آخرون من السلف إلى منع التكني بأبي القاسم وكذلك تسمية الولد بالقاسم، لئلا يكون سببًا للتكنية. وذهب آخرون من السلف إلى أن الممنوع الجمع بين التكنية والاسم، وأنه لا بأس بالتكني بأبي القاسم مجردًا ما لم يكن الاسم محمدًا أو أحمد. وذهب آخرون -وشذوا- إلى منع التسمية باسم النبي -عليه السلام- جملة وكيف ما كان يكنى. وذهب آخرون إلى أن النهي في ذلك منسوخ. ص: وكان من حجة من ذهب إلى أن النهي في ذلك إنما هو على الجمع بين الكنية والاسم جميعًا: ما قد حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا عبد العزيز بن خطاب الكوفي، قال: ثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن حفصة بنت البراء بن عازب، عن عمها عبيد بن عازب: "أن رسول -عليه السلام- نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته". ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (5/ 264 رقم 25930).

حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني محمَّد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سُمِّيَ باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومَن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي". قالوا: فثبت بهذه الآثار أن ما نهى عنه رسول الله -عليه السلام- من ذلك هو الجمع بين كنيته مع اسمه، وفي حديث جابر إباحة التكني بكنيته إذا لم يتسمَّ معها باسمه. ش: أراد بهؤلاء الذين ذهبوا إلى أن النهي في ذلك هو الجمع بين التسمي والتكني: الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية. قوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على أنه اسم كان. قوله: "من حجة" مقدمًا خبره، وأخرج لهم عن ثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -: الأول: عن عبيد بن عازب. أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن عبد العزيز بن خطاب الكوفي -نزيل البصرة، قال أبو حاتم: صدوق. روى له ابن ماجه والنسائي في "خصائص على - رضي الله عنه -" عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي، فيه كلام كثير، فعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: ساقط. عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي القاضي، فيه مقال، عن حفصة بنت البراء بن عازب، عن عمها عبيد بن عازب الصحابي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): أنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا عبد العزيز بن الخطاب، نا قيس بن الربيع، عن ابن أبي ليلى، عن حفصة بنت البراء بن عازب، عن عمها عبيد بن عازب، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 329 رقم 827).

الثاني: عن أبي هريرة. أخرجه بإسناد صحيح. عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف -بابن أبي مريم المصري- شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمَّد بن عجلان المدني، عن أبيه عجلان مولى فاطمة بنت عتبة، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬1) وأبو يعلى، وقد ذكرناه آنفًا. الثالث: عن جابر بن عبد الله. أخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا الحسين بن حريث، قال: نا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا سميتم باسمي فلا تكتنوا بكنيتي". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أنه قد يحتمل أن يكون رسول الله -عليه السلام- قصد بنهيه ذلك المذكور في حديث عبيد وأبي هريرة وجابر إلى الجمع بين الاسم والكنية، وأباح إفراد كل واحد منهما، ثم نهى بعد ذلك عن التكني بكنيته، فكان ذلك زيادة فيما تقدم من نهيه في ذلك. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية؛ لأهل المقالة الأولى: أنه أي أن الشأن قد يحتمل، وأراد بهذا: الجواب عما احتج به هؤلاء فيما ذهبوا إليه بأحاديث عبيد بن عازب وأبي هريرة وجابر. وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 136 رقم 2841) وقد تقدم. (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 136 رقم 2842).

ص: فإن قال قائل: فما جَعَلَ ما قلتَ أولى من أن يكون نهى عن التكني بكنيته ثم نهى عن الجمع بين اسمه وكنيته، وكان ذلك إباحة لبعض ما كان وقع عليه نهيه قبل ذلك؟ قيل له: لأن نهيه عن التكني بكنيته في حديث أبي هريرة فيما ذكرنا معه من الآثار لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون متقدمًا للمقصود فيه إلى الجمع بين الاسم والكنية، أو متأخرًا عن ذلك، فإن كان متأخرًا عنه فهو زائد عليه غير ناسخ له، وإن كان متقدمًا له فقد كان ثابتًا ثم روي هذا بعده فنسخه، فلما احتمل ما قصد فيه إلى النهي عن الكنية أن يكون منسوخًا بعد علمنا بثبوته كان عندنا على أصله المتقدم وعلى أنه غير منسوخ حتى نعلم يقينًا أنه منسوخ، فهذا وجه النظر من طريق معاني الآثار. ش: هذا السؤال وارد على قوله: "وأباح إفراد كل واحد منهما. . . ." إلى آخره. [وهو ظاهرٌ غنيٌّ عن مزيد بيان] (¬1). قوله: "فما جعل" أي: أيُّ شيءٍ جعل ما قلتَ أولى من أن يكون. . . . إلى آخره. قوله: "فهذا وجه هذا الباب. . . ." إلى آخره. أي: هذا الذي ذكرنا إلى هنا من طريق "شرح معاني الآثار". ص: وأما وجهه من طريق النظرة فقد رأينا الملائكة لا بأس أن نتسمى بأسمائهم، فكذلك سائر الأنبياء -عليهم السلام- غير نبينا -عليه السلام- فلا بأس أن يتسمى بأسمائهم ويُكنى بكناهم ويجمع بين اسم كل واحد منهم وكنيته، فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا بأس أن يتسمى باسمه، فالنظر على ذلك أن لا بأس أن يتكنى بكنيته، وأن لا بأس أن يجمع بين اسمه وكنيته، فهذا هو النظر في هذا الباب، غير أن اتباع ما ثبت عن رسول الله -عليه السلام- أولى. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "ك".

فقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر سمع جابر بن عبد الله يقول: "ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقلت: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينًا. فأتى النبي -عليه السلام-، فذكر ذلك له، فقال: سم ابنك عبد الرحمن" فهذه الأنصار قد أنكرت على هذا الرجل أن يسمي ابنه القاسم، لئلا يكتني به وقصدوا بالكراهة في ذلك إلى الكنية خاصة، ثم لم ينكر ذلك عليهم رسول الله -عليه السلام- لما بلغه، فدل ذلك أن نهي رسول الله -عليه السلام- عن التكني بكنيته على أن لا يتكنى أحد بكنيته يتسمى مع ذلك باسمه أو لم يتسم به. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، أراد أن [القياس يقتضي أن يباح] (¬1) التسمي باسم محمَّد والتكني بكنيته، كما يباح ذلك بأسماء سائر الأنبياء -عليهم السلام- وكناهم، وكما يتسمى بأسماء الملائكة، ولكن ما ثبت عن النبي -عليه السلام- فالاتباع به أولى ويرفع به القياس، وقد ثبت عنه -عليه السلام- أنه نهى عن التكني بكنيته سواء تسمّي مع ذلك باسمه أو لم يتسم، وقد أوضح ذلك الطحاوي بقوله: "فقد روي عن رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو الناقد محمَّد بن عبد الله بن نمير جميعًا عن سفيان، قال عمرو: ثنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا ابن المنكدر، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "ولد لرجل منا. . . ." إلى آخره نحوه سواء. فدل ذلك أن النهي من رسول الله -عليه السلام- عن التكني بكنيته مطلقًا سواء تسمى مع ذلك باسمه أو لم يتسم. قوله: "لا نكنيك" من كناه بكنيته بالتخفيف. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "ك". (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1684 رقم 2133).

قوله: "ولا ننعمك عينًا" بضم النون الأولى وسكون الثانية، والمعنى: لا تقر به عين، وهو نصب على التمييز، ومنه: أنعم الله بك عينًا، والمعنى: نعمك الله عينًا، أي: نعّم عينيك وأقرها، والألف زائدة وقد يحذ فوقها ويقولون: نعّمك الله عينًا. ص: فإن قال قائلٌ: ففي هذا الحديث ما يدل على كراهة التسمّي بالقاسم. قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك مكروهًا كما ذكرت لقول رسول الله -عليه السلام-: "إنما أنا قاسم أقسم بينكم". وقد يجوز أن يكون كره ذلك لأنهم كانوا يكنون الآباء بأسماء الأبناء، وقد كان أكثرهم لا يكتني حتى يولد له فيكتني باسم ابنه. ش: أراد بهذا الحديث حديث جابر المذكور آنفًا. والسؤال ظاهر، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الكراهة تجوز أن تكون لقوله -عليه السلام-: "إنما أنا قاسم أقسم بينكم" فاختص باسم القاسم لذلك فكره أن يسمي غيره به. والآخر: أن تكون الكراهة بسبب أنه تكون التسمية به ذريعة أن يكنى الآباء به، وقد نهى عن التكنية به كما مر فافهم. ص: والدليل على ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله ابن عمرو، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه صهيب - رضي الله عنه - قال: قال لي عمر - رضي الله عنه -: "نعم الرجل أنت يا صهيب لولا خصال فيك ثلاث، قلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تكنيت ولم يولد لك، وفيك سرف في الطعام، وانتميت إلى العرب ولست منهم. قلت: أما قولك: تكنيت ولم يولد لك؛ فإن رسول الله -عليه السلام- كناني أبا يحيى، وأما قولك: انتميت إلى العرب ولست منهم؛ فإني رجل من بني النمر بن قاسط سَبَتْنَا الروم من الطائف بعدما عقلت أهلي ونسبي. وأما قولك: فيك سرف في الطعام؛ فإن رسول الله -عليه السلام- قال: خياركم مَن أطعم الطعام".

فهذا عمر - رضي الله عنه - قد أنكر على صهيب أن يتكنى قيل أن يولد له، فدل ذلك أنهم أو أكثرهم لا يكتنون حتى يولد لهم فيكتنون بأبنائهم، فلما ولد لذلك الأنصاري ابن فَسُمِّي القاسم، أنكرت الأنصار ذلك عليه؛ لأنه إنما سمى به ليكنوه به، فأبوا ذلك وأنكروه عليه، فأثنى عليهم رسول الله -عليه السلام- لذلك. ش: أي الدليل على ما ذكرنا من أنهم أو أكثرهم كانوا لا يكتنون حتى يولد له. وهذا باب قد اختلفوا فيه، والصحيح أن ذلك يجوز. والدليل على ذلك ما رواه البخاري وغيره من الجماعة (¬1) من حديث أنس قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به. . . ." الحديث. قوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على أنه خبر لقوله: "والدليل على ذلك". ويونس هو ابن عبد الأعلى، يروي عن علي بن معبد بن شداد الرقي نزيل مصر من أصحاب محمَّد بن الحسن الشيباني، وثقه أبو حاتم وغيره. عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، روى له الجماعة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب المدني، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وقال البخاري: مقارب الحديث. عن حمزة بن صهيب بن سنان المدني، وثقه ابن حبان، عن أبيه صهيب الصاحبي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬2) مختصرًا: ثنا أبو بكر، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا زهير بن محمَّد، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن حمزة بن صهيب: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2270 رقم 5778)، ورواه أبو داود في "سننه" (2/ 711 رقم 4969)، والترمذي في "جامعه" (2/ 154 رقم 333)، والنسائي في "الكبرى" (6/ 91 رقم 10165)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1226 رقم 3720). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1231 رقم 3738).

"أن عمر - رضي الله عنه - قال لصهيب: ما لك تكتني بأبي يحيى وليس لك ولد؟ قال: كناني رسول الله -عليه السلام- بأبي يحيى". وأخرجه ابن حبان مختصرًا معلقًا في ترجمة حمزة بن صهيب. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمَّد بن عمرو بن خالد الحراني، قال: ثنا أبي (ح). وحدثنا جعفر بن محمَّد الفريابي، ثنا أبو جعفر النفيلي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال له: يا صهيب، اكتنيت وليس لك ولد، وانتميت إلى العرب وأنت رجل من الروم؟! فقال: يا أمير المؤمنين، أما قولك: اكتنيت وليس لك ولد؛ فإن رسول الله -عليه السلام- كناني بأبي يحيى، وأما قولك: انتميت إلى العرب وأنت رجل من الروم؛ فإني رجل من النمر بن قاسط سُبيتُ من الموصل بعد أن كنت غلامًا قد عرفت أهلي ونسبي". قوله: "وفيك سَرَفٌ" بفتحتين أي إسراف وتبذير في النفقة. قوله: "وانتميت" من الانتماء وهو الانتساب. قوله: "من بني النَّمِر بن قاسط" ونَمِر -بفتح النون وكسر الميم أبو قبيلة، وهو نمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دُعْمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، والنسبة إليه نَمُرِي بفتح الميم؛ استحسانًا لتوالي الكسرات؛ لأن فيه حرفًا واحدًا غير مكسور. ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، أن أبا الزبير المكي أخبر عن جابر بن عبد الله قال: "ولد لرجل منا غلام، فسماه القاسم وتكنى به، فأبت الأنصار أن تكنيه بذلك، فبلغ ذلك رسول الله -عليه السلام- فقال: أحسنت الأنصار، تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (8/ 38 رقم 7310).

ففي هذا الحديث ما قد دل على أن رسول الله -عليه السلام- إنما حول اسم ذلك الصبي؛ لأن أباه تكنى به، فحوله إلى اسم يجوز لأبيه التكني به. وفيه ما يدل على أن النهي إنما قصد به إلى الكنية خاصة لا إلى الجمع بينها وبين الاسم. والله تعالى أعلم. ش: [وقد دل على أن النهي إنما قصد به التكني] (¬1) خاصة: ما حدثنا إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد [بن فروخ شيخ البخاري، عن عبد الله ابن لهيعة] (1) فيه مقال، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. [وأخرجه مسلم بطرق متعددة، وقد] (1) ذكرناه. ¬

_ (¬1) في "الأصل"، والمثبت من "ك".

ص: باب: السلام على أهل الكفر

ص: باب: السلام على أهل الكفر ش: أي: هذا باب في بيان حكم السلام على أهل الكفر؛ هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عمر بن رومي، قال: ثنا محمَّد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود والمشركين من عبدة الأوثان، فسلم عليهم". ش: [محمد بن عمر بن عبد الله بن رومي روى عنه البخاري] (¬1)، قال أبو زرعة: فيه لين. وقال أبو داود: ضعيف. ومحمد بن [ثور الصنعاني وثقه يحيى والنسائي] (1) وابن حبان. ومعمر هو ابن راشد، والزهري هو محمَّد بن مسلم. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا يحيى بن موسى، ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، أن أسامة بن زيد أخبره: "أن النبي -عليه السلام- مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود، فسلم عليهم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قوله: "أخلاط" [جمع خلط بكسر الخاء، وأراد بها] (1) أنواع الناس والجماعات المتفرقة من المسلمين وأهل الكفر. قوله: "من عبدة الأوثان" [العبدة جمع عابد، والأوثان] (1) جمع وثن، وهو الصنم، قاله الجوهري. ويقال: الصنم ما يكون من الخشب أو [النحاس ونحوه من المعدنيات] (1) والوثن ما يكون من اللبد ونحوه. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل"، والمثبت من "ك". (¬2) "سنن الترمذي" (5/ 61 رقم 2702).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا بأس أن يبتدأ أهل الكفر بالسلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي وإبراهيم النخعي، وابن وهب، ومحمد بن كعب، ومحمد بن عجلان فإنهم قالوا: لا بأس بأن يبدأ المسلم أهل الكفر بالسلام، واحتجوا في ذلك بحديث أسامة بن زيد المذكور، وروي ذلك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء وأبي أمامة وفضالة بن عبيد. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا إسماعيل بن عياش، عن محمَّد بن زياد الألهاني وشرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة: "أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام". حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن عجلان: "أن عبد الله وأبا الدرداء وفضالة ابن عبيد كانوا يبدأون أهل الشرك بالسلام" (¬2). حدثنا يحيى بن [هانئ] عن ابن عجلان، عن أبي عيسى قال: قال عبد الله: "إن من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام من لقيت" (¬3). حدثنا وكيع، عن [سفيان]، عن عمار الدهني، عن رجل عن ابن عباس: "أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك" (¬4). ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فكرهوا أن يبتدأوا بالسلام، وقالوا: لا بأس بأن يرد عليهم إذا سلموا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عمر بن عبد العزيز، ومجاهدًا والحسن البصري، والثوري وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 249 رقم 25751). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 249 رقم 25752). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 249 رقم 25753). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 248 رقم 25748).

والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: يكره أن يبتدئ المسلم أهل الكفر بالسلام، فإذا سلم عليه أحد من أهل الكفر يرد عليه ولا يزيد على قوله: وعليكم. قال الحافظ المنذري: اختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة؛ فقالت طائفة: ردُّ السلام فريضة على المسلمين والكفار. قالوا: وهذا تأويل قوله -عز وجل-: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬1) قال ابن عباس وقتادة وغيرهم: هي عامة في ردِّ السلام على المسلمين والكفار. قال: وقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا} يقول: وعليكم، للكفار، قال ابن عباس: ومن سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ولو كان مجوسيًّا، وقالت طائفة أخرى: لا يرد السلام على أهل الذمة السلام المشروع وليرده عليهم بما جاء في الحديث: عليكم، وهذا قول أكثر العلماء. وقال ابن طاوس: يقول: علاك السلام أي ارتفع عنك، وفيما قاله نظر. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: أنا شريك وأبو بكر -يعني ابن عياش- عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تبدءوهم بالسلام -يعني اليهود والنصارى". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن سهيل. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن سهيل. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقَّام، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [86].

أبي عبد الرحمن الجهني قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أنا راكب غدًا إلى يهود، فلا تبدئوهم، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا عبد الرحيم، عن محمَّد بن إسحاق. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "فلا تبدءوهم بالسلام". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن يزيد بن عبد الله اليزني، عن أبي بصرة الغفاري، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، غير أنه لم يقل: "بالسلام". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، أنه سمع أبا بصرة الغفاري يقول: إنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: "إني راكب إلى يهود؛ فإذا أتيتموهم فسلموا عليكم فقولوا: وعليكم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب. . . . فذكر بإسناده مثله. ففي هذه الآثار النهي عن ابتداء اليهود والنصارى بالسلام من قول رسول الله -عليه السلام-. وفي الحديث الأول أن النبي -عليه السلام- سَلَّمَ عليهم من قول أسامة؛ فقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بسلامِهِ مَن كان فيهم من المسلمين، ولم يُرِدْ اليهود والنصارى ولا عبدة الأوثان، حتى لا تتضاد هذه الآثار، وهذا الذي وصفنا جائز، فقد يجوز أن يسلم رجل على جماعة وهو يريد بعضهم، وقد يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- سلم عليهم وأراد جميعهم؛ لأن ذلك كان في وقت قد أمر فيه أن لا يجادلهم إلا بالتي هي أحسن، فكان السلام من ذلك، ثم أُمر بقتالهم ومنابذتهم، فنسخ ذلك ما كان تقدم من سلامه عليهم. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة الغفاري.

أما حديث أبي هريرة فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله وأبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، نا عبد العزيز -يعني الدراوردي- عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبدئوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيفه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سهيل. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع، عن سفيان، عن سهيل. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن مثنى، عن محمد بن منصور، عن شعبة، عن سهيل. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". وأخرجه أبو داود [. .] (¬3). قال ابن سعد: أسلم وصحب النبي وروى عنه [. .] (3)، وسكن مصر [وأخرجه] (3) من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن [. .] (3) معمر بن الوليد القطان شيخ [. .] (3). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1707 رقم 2167). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1707 رقم 2167). (¬3) طمس في "الأصل، ك".

وأخرجه الطبراني: عن محمَّد بن عبد الله الحضرمي، عن يحيى الحماني، عن إسحاق بن عبد [. .] (¬1)، عن مرثد بن عبد الله. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي [. .] (1) عن عبد الرحيم [. .] (1) عن محمَّد بن إسحاق. . . . إلى آخره. وأخرجه [. .] (1) رسول الله -عليه السلام-[. .] (1) بصرة بالباء الموحدة وسكون الصاد المهملة [. .] (1) وفتح الميم، وقيل: جميل بالجيم. والأول أصح. وأخرجه من ثلاثة طرق: الأول: إسناده صحيح، عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقّي، عن محمَّد بن إسحاق [. .] (1) عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي بصرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "أنا راكب إلى يهود [. .] (1) سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني. الثالث: إسناده صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد الأنصاري، عن يزيد بن أبي حبيب. . . . إلى آخره. قوله: "ففي هذه الآثار" أراد بها الأحاديث التي رواها عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة - رضي الله عنهم -. قوله: "فقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين هذه الأحاديث وبين حديث أسامة بن زيد المذكور في أول الباب. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك".

وبين ذلك من وجهين: الأول: يجوز أن يكون -عليه السلام- أراد بسلامه من كان المسلمين ولم يرد غيرهم من أهل الكفر. والثاني: يجوز أن يكون قد سلم عليهم وأراد الجمع لأنه كان في ذلك الوقت مأمورًا بأن لا يجادلهم إلا بالتي هي أحسن، فكان السلام عليهم من الحسن ثم إن الله تعالى أمره بقتالهم ومنابذتهم، فنسخ ذلك [. .] (¬1) تقدم من سلامه عليهم، فيكون ما في حديث أسامة منسوخًا بالأحاديث المذكورة فافهم. ص: فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن أسامة بن زيد أخبره: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار، عليه إكاف على قطيفة، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج قبل وقعة بدر، فسار حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي بن سلول، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي بن سلول أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم النبي -عليه السلام-، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله -عز وجل- وقرأ القرآن قال عبد الله بن أبي بن سلول أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمَن جاءك فاقصص عليه، قال عبد الله بن رواحة: بل يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا؛ فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي -عليه السلام- يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي -عليه السلام- دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي -عليه السلام-: يا سعد، ألم تسمع إلى ما يقول أبو حباب، يعني ابن سلول؟ قال: كذا وكذا، قال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح، فوالذي نَزَّل عليك الكتاب، لقد جاءك الله بالحق الذي أُنزل عليك. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك".

ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يُتوِّجوه فَيُعَصِّبوه بالعصابة، فلما رد الله -عز وجل- ذلك بالحق الذي أعطاك شَرِقَ بذلك فذلك فعل به ما رأيت، فعفى عنه النبي -عليه السلام-، وكان النبي -عليه السلام- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى؛ قال الله -عز وجل-: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1)، وقال الله -عز وجل-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. . . .} الآية (¬2)، وكان النبي -عليه السلام- يتأول العفو كما أمره الله -عز وجل- به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا النبي -عليه السلام- بدرًا فقتل الله -عز وجل- به مَن قتل مِن صناديد كفار قريش، قال أبي بن أبي سلول ومَن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا رسول الله -عليه السلام- وأسلموا". ففي هذا الحديث أن ما كان من تسليم النبي -عليه السلام- كان في الوقت الذي أمره الله بالعفو عنهم والصفح، وترك مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن، ثم نسخ الله -عز وجل- ذلك، وأمره بقتالهم، فنُسخ مع ذلك السلام عليهم، وثبت قوله: "لا تبتدئوا اليهود ولا النصارى بالسلام، ومَن سلم عليكم، منهم فقالوا: وعليكم، حتى تردوا عليه ما قال" ونُهوا أن يزيدوهم على ذلك. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن عون، عن حميد بن زاذويه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "نُهينا أن نزيد أهل الكتاب على: وعليكم". فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي نظرنا فيما ذكرنا من قولنا: ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- سلم عليهم. . . . إلى آخره، وأراد بذلك أنه لما نظر في ذلك المعنى وجد حديث أسامة بن زيد قد ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [186]. (¬2) سورة البقرة، آية: [109].

دل على أن ما كان من تسليمه -عليه السلام- كان في الوقت الذي أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين وترك مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن، ثم إن الله -عز وجل- نسخ ذلك وأمره بقتال أهل الكفر ونسخ معه السلام عليهم، وثبت الأمر على قوله: "لا تبدئوا اليهود ولا النصارى بالسلام، ومَن سلم عليكم منهم فقولوا: وعليكم، حتى تردوا عليه ما قال". وأخرج حديث أسامة بن زيد بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد. وأخرجه البخاري (¬1) في تفسير سورة آل عمران: ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن أسامة بن زيد أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- ركب على حمار على قطيفة فدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول -وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. . . ." إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. وأخرجه البخاري أيضًا في الجهاد (¬2) وفي اللباس (¬3) عن قتيبة، عن أبي صفوان -وهو عبد الله بن سعيد الأموي- عن يونس. وفي الأدب (¬4) عن أبي اليمان، عن شعيب. وفي الطب (¬5) عن ابن بكير، عن الليث، عن عقيل. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1663 رقم 4290). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1089 رقم 2825). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2223 رقم 5619). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2292 رقم 5854). (¬5) "صحيح البخاري" (5/ 2143 رقم 5339).

وفي الأدب (¬1) عن إسماعيل، عن أخيه، عن سليمان، عن محمَّد بن عتيق. وفي الاستئذان (¬2) عن إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بهذا. وأخرجه مسلم (¬3) في المغازي: عن إسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر. وعن (¬4) محمَّد بن رافع، عن حجين بن المثنى، عن الليث، عن عقيل، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بهذا. قوله: "على حمار على إكاف على قطيفة". "الإكاف" بكسر الهمزة ما يشد على الحمار تحت الراكب، وكذلك الوكاف، ويجمع على آكف، يقال: أكفت الحمار وأوكفته إن شددت عليه الإكاف. و"القطيفة": كساء له خمل. فإن قلت: ما موقع "على إكاف" وموقع "على قطيفة"؟. قلت: الجملتان وقعتا حالين من الضمير الذي في "ركب" ولا يجوز أن يكون قوله: "على قطيفة" في محل الجر على أنها صفة لقوله: "إكاف"، والتقدير: على إكاف كائنة على قطيفة، لأن القطيفة فوق الإكاف. فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون على قطيفة بدلًا من قوله: على إكاف؛ لأن الإكاف هي القطيفة؟ والدليل عليه ما في رواية البخاري: "ركب على حمار على قطيفة فدكية". قلت: قد جاء في رواية لأحمد (¬5): "ركب حمارًا على إكاف عليه قطيفة فركية". فدل هذا على أنه كان على الحمار إكاف وفوقها قطيفة، وعلى أن في رواية البخاري اختصارًا. فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2292 رقم 5854). (¬2) "صحيح البخاري" (5: 2307 رقم 5899). (¬3) "صحيح مسلم" (1422: 3 رقم 1798). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1424 رقم 1798). (¬5) "مسند أحمد" (5/ 203 رقم 21817).

قوله: "يعود" جملة حالية. قوله: "أخلاط" أي جماعات من المسلمين وغيرهم. قوله: "فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة" أي: فلما غلبت المجلس غبار الدابة، مِن غشي غشيانًا، والعجاج: الغبار والدخان أيضًا، والعجاج أخص منه. قوله: "خمَّر" أي غطى. يقال: خمرت الإناء إذا غطيتها من التخمير وهو التغطية، ومنه اشتق الخمار والخَمْر. قوله: "فاغشنا" أي أقرب إلينا، مِن غَشِيَه: إذا جاءه. قوله: "يتثاورون" أي [يتوثبون] (¬1)، من المثاورة وهي [المثواثبة] (¬2) وأصله من ثار الغبار يثور ثورًا وثورانًا إذا سطع، وأثاره غيره. قوله: "أبو حباب" بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة كنية عبد الله بن أبي بن سلول، وكان حُبَاب اسم ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان أبوه يكنى به، فلما أسلم حباب سماه رسول الله -عليه السلام- عبد الله وكان من خيار الصحابة وفضلائهم، وكان أبوه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وهو الذي قال في غزوة بني المصطلق: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (¬3). قوله: "أهل هذه البحيرة" البحيرة مدينة الرسول -عليه السلام-، وهي تصغير البحرة، وقد جاء في رواية مُكَبَّرًا، والبَحْرة: البلدة، والعرب تسمي المدن والقرى: البحار. قوله: "على أن يُتَوِّجُوه" من تَوَّجْتُه إذا ألبسته التاج، وأراد أنهم كانوا أرادوا أن يُوَلُّوه ملكًا عليهم، ويلبسونه تاج المملكة. قوله: "فَيُعَصِّبوه" أي فيسودوه ويملكوه، وكانوا يسمون السيد المطاع معصبًا؛ لأنه يُعَصَّب بالتاج، أو يُعَصَّب أمور الناس: أي ترد عليه وتدار به. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "يتثاوبون"، وهو سبق قلم، والمثبت من "لسان العرب" (مادة: ثور). (¬2) في "الأصل": "المثاوبة"، وهو أيضًا سبق قلم والمثبت من المصدر السابق. (¬3) سورة المنافقون، آية: [8].

و"العمائم": تيجان العرب، وتسمى العصائب، واحدتها عصابة. قوله: "شرقِ" بكسر الراء، أي غُص وشرق بريقه أو شرق، وهو مجاز عما ناله من أمر رسول الله -عليه السلام- وحل به حتى كأنه شيء لم يقدر على إساغته وابتلاعه فغص به. قوله: "وكان النبي -عليه السلام- يتأول العفو" يعني يأخذه من قول الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (¬1) قوله: "من صناديد" جمع صنديد القوم، وهو سيدهم وكبيرهم. ويستفاد منه أحكام: فيه: الحث على التواضع والمسكنة؛ لأن ركوبه -عليه السلام- الحمار من غاية تواضعه. وفيه: جواز الارتداف على الدابة. وفيه: عيادة المريض سُنَّة. وفيه: جواز السلام على جماعة من المسلمين والكفار مختلطين، ولكن ينوي به المسلمين. وفيه: أن الإِمام إذا رأى جماعة في موقع قاعدين يقف عندهم ويعظ لهم ويعلمهم ما يحتاجون لأمور دينهم. وفيه: أنه إذا رآهم قد شرعوا في الضراب والنزل يُخَفِّضهم، ويصلح بينهم. وفيه: الإشارة إلى استحباب العفو والصفح عن مَن ظلمه وآذاه. وفيه: الدلالة على جواز اجتماع المسلمين مع أهل الكفر في موضع. وفيه: أن الذي يأتي إلى قوم يسلم عليهم: فالراكب على الماشي والقائم على القاعد. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [13].

وفيه: جواز بث ما فعله الظالم من فعله وقوله عند غيره في غيبته. قوله: "ونهوا أن يزيدوهم على ذلك" أي: نُهى المسلمون أن يزيدوا أهل الكفر على قولهم: "وعليك" في رد السلام عليهم. قوله: "حدثنا علي بن شيبة. . . ." إلى آخره بيان لقوله: ونهوا أن يزيدوهم على ذلك. وإسناده صحيح. وابن عون هو عبد الله بن عون المزني البصري، روى له الجماعة. وحميد بن زاذويه -ويقال: ابن أبي زاذويه- مولى خزاعة، ذكره ابن حبان في "الثقات"، التابعين وليس هذا بحميد الطويل. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع وأبو أسامة، عن ابن عون، عن حميد بن زاذويه، عن أنس قال: "نهينا أو أمرنا أن لا نزيد (على) (¬2) أهل الكتاب على (وعليكم) ". وروي أيضًا في هذا الباب عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. أخرجه مسلم (¬3): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-: "أن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليكم". وأخرجه أبو داود (¬4) أيضًا. وقال أبو داود: وكذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار، ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه: "وعليكم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 250 رقم 25763). (¬2) كذا في "الأصل"، وليست في "المصنف". (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1706 رقم 2164). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 353 رقم 5206).

وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا، وفي لفظ الترمذي ولفظ لمسلم والنسائي: "فقل: عليك" بغير واوٍ، قال الخطابي: هكذا يرويه عامة المحدثين: وعليكم بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه: عليكم بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودًا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه؛ لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين. قلت: قد أخرجه مسلم (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (2) من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار بغير واو أيضًا. وقال بعضهم: أما من فسر السام بالموت فلا يبعد الواو، ومن فسره بالسآمة وهي الملالة أي يسأمون دينكم، فإسقاط الواو هو الوجه. واختار بعضهم أن يُرَدُّ عليهم "السِّلام" -بكسر السين- وهي الحجارة ويقال: الأول أولى؛ لأن السنن وردت بما ذكرناه؛ ولأن الرد إنما يكون بجنس المردود لا بغيره. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 155 رقم 1603). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 102 رقم 10210). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1706 رقم 2164). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 155 رقم 1603).

ص: كتاب الصرف

ص: كتاب الصرف ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الصرف، وهو من صرفت الدارهم بالدنانير، وبين الدرهمين صرف -أي فضل- لجودة فضة أحدهما. والصرف عند الفقهاء هو بيع الثمن بالثمن، وفي اللغة هو النقل مما فيه نقل من يد إلى يد؛ ولهذا سمي مَنْ يتصرف فيه بالنقل صرَّافًا وصيرافًا وصيرفيًّا. قال الجوهري: الصيرف: المحتال المتصرف فيه الأمور، والصيرفي: الصراف من المصارفة، وقوم صيارفة، والياء للنسبة، وقد جاء في الشعر: الصياريف، وقال (¬1): تَنْفِي يَدَاها الحَصَى في كلِّ هاجرةٍ ... نَفْيَ الدراهم تَنْقَادُ الصياريف لما احتاج إلى إتمام الوزن أشبع الحركة ضرورة حتى صارت حرفًا. ولما كانت الحاجة ماسة إلى علم أحكام الصرف لما فيه من بيان أحكام الربا أيضًا أفرده بالذكر بكتاب مستقل غير تابع لكتاب البيوع وإلا كانت المناسبة تقتضي ذكره في كتاب البيوع. فإن قيل: إن إفراده بالذكر لما ذكرت، ولكن المناسبة ذكره عقب كتاب البيوع؛ لأنه نوع من أنواع البيوع. قلت: نعم، الأمر كذلك، ولكن اختار ذكره عقيب كتاب الكراهية الذي هو مشتمل على المحظورات والمباحات، فكذلك كتاب الصرف مشتمل على ما فيه الحظر وما فيه الإباحة. فافهم. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" ولم يذكر القائل، وفي "لسان العرب" (مادة: صرف) عزاه للفرزدق، وكذا هو في (مادة: درهم).

ص: باب: الربا

ص: باب: الربا ش: أي هذا باب في بيان أحكام الربا، وهو مصدر من رَبَى الشيء يربو إذا زاد، قال ابن الأثير: والأصل فيه الزيادة، رَبا المالُ يربوُ رَبْوًا إذا زاد وارتفع. والاسم: الرِّبَا مقصور. وفي الشرع: الزيادة على أصْل المال من غير عَقْد تَبَايُع، وله أحكام كثيرة في الفقه، يقال: أربَى الرجل يُربي فهو مُرْبٍ، ومنه الحديث: "من أجْبَي فقد أَرْبى" (¬1). ص: حدثنا فهد بن سليمان بن يحيى، قال: ثنا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إنما الربا في النسيئة". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن أسامة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا خالد -هو ابن عبد الله الواسطي- عن خالد -هو الحذاء- عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا ربا إلا في النسيئة". حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء: "أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس - رضي الله عنهم - فقال: أرأيت قولك في الصرف يعني الذهب بالذهب بينهما فضل، أشيءٌ سمعته من رسول الله -عليه السلام- أو شيء وجدته في كتاب الله -عز وجل-؟ فقال ابن عباس: أما كتاب الله فلا أعلمه، وأما رسول الله -عليه السلام- فأنتم أعلم به، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله -عليه السلام- قال: إنما الربا في النسيئة". ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (5/ 173 رقم 2708) في ترجمة الضحاك بن النعمان بن يوسف ضمن حديث طويل. وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 335 رقم 795)، و (22/ 46 رقم 116)، وفي "المعجم الصغير" (2/ 285 رقم 1176).

حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: "قلت لابن عباس: أرأيت الذي تقول: الدينارين بالدينار والدرهمين بالدرهم؟ أشهد سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله -عليه السلام-؟ فقلت: نعم، قال: فإني لم أسمع هذا، إنما أخبرنيه أسامة بن زيد، قال أبو سعيد: ونزع عنها ابن عباس". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا قيس -هو ابن الربيع- عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي صالح السمان قال: "قلت لأبي سعيد: أنت تنهى عن الصرف، وابن عباس يأمر به؟! فقال: لقد لقيت ابن عباس فقلت: ما هذا الذي نفتي به في الصرف أشيء وجدته في كتاب الله أو سمعته من رسول الله -عليه السلام-؟! قال: أنتم أقدم صحبة لرسول الله -عليه السلام- مني، وما أقرأ من القرآن إلا ما تقرءون، ولكن أسامة بن زيد حدثني أن رسول الله -عليه السلام- قال: لا ربا إلا في النسيئة". ش: هذه ستة طرق: الأول: رجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وأخرجه مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وعمرو الناقد، وابن أبي عمر - واللفظ لعمرو- قال إسحاق: أنا، وقال الآخرون: ثنا -سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: أخبرني أسامة بن زيد، عن النبي -عليه السلام- قال: "إنما الربا في النسيئة". وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن سفيان بن عيينة، نحوه. الثاني: إسناده صحيح أيضًا، عن نصر بن مرزوق. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو يعلى والبزار (¬2) في "مسنديهما". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 281 رقم 4580). (¬2) "مسند البزار" (7/ 10 رقم 2548).

الثالث: أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز، شيخ البخاري في كتاب الصلاة، عن خالد الطحان، عن خالد الحذاء. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا إسماعيل، قال: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إنما الربا في النسأ". الرابع: أيضًا صحيح، عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا الحكم بن موسى، قال: ثنا هقل، عن الأوزاعي، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح: "أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس، فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئًا سمعته من رسول الله -عليه السلام- أم شيئًا وجدته في كتاب الله -عز وجل-؟ قال ابن عباس: كلا، لا أقول، أما رسول الله -عليه السلام- فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله -عليه السلام- قال: ألا إنما الربا في النسيئة". الخامس: أيضًا صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره. قوله: "ونزع عنها ابن عباس" أي هذه الفتيا التي كان يفتي بها، وقد عقد الطبراني في "معجمه الكبير" (¬3) لذلك بابًا فقال: باب البيان في نسخ ذلك ورجوع ابن عباس عن الصرف ونهيه عنه، ثم أخرج فيه أحاديث منها ما رواه عن علي بن عبد العزيز قال: ثنا أبو نعيم، ثنا عبد السلام بن حرب، عن مغيرة -يعني ابن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 208 رقم 21864). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 128 رقم 1596). (¬3) "المعجم الكبير" (1/ 176 رقم 454).

مقسم- عن عبد الرحمن بن أبي نعم: "أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس، فشهد على رسول الله -عليه السلام- أنه قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل، فمن زاد فقد أربى. فقال ابن عباس: أتوب إلى الله تعالى مما كنت آمر به، ثم رجع". وقال البزار في "مسنده" (¬1): وحديث أسامة الذي روي في ذلك لا نعلم أحدًا قال به إلا الناقل له، وقد أنكر أبو سعيد الخدري كل ذلك على ابن عباس وحدثه في ذلك بما توقف عنه ابن عباس في ذلك الوقت برواية أبي سعيد عن النبي -عليه السلام-، ولا نعلم أحدًا بعد من فقهاء الأمصار في جميع الأقطار قال بحديث أسامة. السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي، عن قيس بن الربيع الكوفي، فيه مقال، عن حبيب بن أبي ثابت دينار، عن أبي صالح ذكوان الزيات. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا الحسين بن علي اليعمري، قال: ثنا القاسم بن عيسى الطائي، ثنا هشيم، عن سهل بن سالم، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي صالح ذكوان: "أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال: هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يدًا بيد. قال أبو صالح: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل، فأخبرت أبا سعيد بما قال ابن عباس وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد، فالتقيا وأنا معهما، فابتدأه أبو سعيد فقال: يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو زيادة ويدًا بيد؟! فقال ابن عباس: ما أنا أقدمكم صحبةً لرسول الله -عليه السلام- وهذا أسامة بن زيد والبراء بن عازب يقولان: سمعنا النبي -عليه السلام-". قوله: "في النسيئة" أي إنما الربا حاصل في النسيئة، وهي البيع إلى أجل معلوم، يريد أن بيع الربويات بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة، وأصلها من نسأت الشيء: أخرته، وكذلك أنسأته، فعلت وأفعلت بمعنى. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (7/ 15). (¬2) "المعجم الكبير" (1/ 173 رقم 438).

والنُّساءة -بضم النون: التأخير، وكذلك النسيئة على وزن فعيلة، تقول: نسأته البيع وأنسأته وبعته بنساءة وبعته بِكُلأَة أي بأخرة، وكذلك بعته بنسيئة أي بأخرة، وقد ذكره الجوهري في نسأ مهموز، ثم هذه العبارة تقتضي أن تقتصر حرمة الربا في النسيئة؛ لأنه ذكرها بأداة القصر، فتقتضي جواز بيع الربويات متفاضلة مع التقابض كما ذهب إليه ابن عباس وطائفة من أهل العلم، كما نذكره إن شاء الله تعالى، ولكن المراد منه ربا القرآن الذي كان في النسيئة كما سيجيء مستقصًى إن شاء الله. وقال عياض: جاء في رواية مسلم (¬1): "الربا في النسيئة" وفي بعض طرقه: "إنما الربا في النسيئة"، وفي بعض طرقه: "لا ربا فيما كان يدًا بيد". وروى البخاري (¬2): "لا ربا إلا في النسيئة". فإن قيل: كيف الوجه في بناء هذه الأحاديث مع قوله: "الذهب بالذهب. . . . الحديث". وفي آخره: "مِثْلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد" فقد أثبت الربا مع كونه يدًا بيد وهذا يمنع من حمله على أن المراد به النسيئة، حتى يكون مطابقًا لما تعلق به ابن عباس. قيل: عنه ثلاثة أجوبة: الأول: معناه لا ربا؛ لأنه العروض وما في معناها مما هو خارج عن الستة المنصوص عليها وعن ما يقاس عليه، ولا شك أن العروض يدخلها الربا نسيئة. والثاني: أن يكون المراد الأجناس المختلفة من هذه الستة وأما ما في معناها فإنه لا ربا فيها إلا مع النسيئة، فيحمل ما تعلق به ابن عباس على هذا؛ حتى لا يكون بين الأحاديث تعارض. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 762 رقم 2069).

والثالث: أراد به إثبات حقيقة الربا، وحقيقته أن يكون في الشيء نفسه، وهو الربا المذكور في القرآن في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬1)؛ لأنهم كانوا يقولون: إما أن تقضي أو تربي. قوله: "أرأيت" معناه: أخبرني. قوله: "أشيء سمعته" وقد جاء في رواية مسلم (¬2) الوجهان الرفع والنصب. قوله: "أما كتاب الله فلا أعلمه" معناه لا أعلمه فيه مذكورًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلين بمثل جائز إذا كان يدًا بيد، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن أسامة بن زيد، عن النبي -عليه السلام-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا مجلز لاحق بن حميد والحكم بن عتيبة وطاوسًا؛ فإنهم قالوا: بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب متفاضلا يجوز إذا كان يدًا بيد، وروي ذلك عن ابن عباس وأسامة بن زيد - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك أكثر العلماء، فقالوا: لا يجوز بيع الفضة بالفضة ولا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ. ش: أي خالف القوم المذكورين جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم، وقالوا: لا يجوز بيع الجنس بالجنس من أحد النقدين إلا متماثلين يدًا بيدٍ. ص: وكان من الحجة لهم في تأويل حديث ابن عباس عن أسامة - رضي الله عنهم - الذي ذكرناه في الفصل الأول أن ذلك الربا إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة؛ وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدين، فيقول له: أجلني به إلى كذا وكذا، بكذا وكذا درهمًا أزيدكها في دينك؛ فيكون مشتريًا للأجل بمال، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [279]. (¬2) تقدم.

فنهاهم الله -عز وجل- عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1)، ثم جاءت السنة بعد ذلك بتحريم الربا في الفضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وسائر الأشياء من المكيلات والموزونات على ما ذكره عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله -عليه السلام- فيما روينا عنه فيما تقدم من كتابنا هذا في باب بيع الحنطة بالشعير، فكان ذلك ربا حُرِّم بالسُّنة وتواترت به الآثار عن رسول الله -عليه السلام- حتى قامت به الحجة، والدليل على أن ذلك الربا المحرم في هذه الآثار هو عين الربا الذي رواه ابن عباس عن أسامة عن رسول الله -عليه السلام-: رجوع ابن عباس إلى ما حدثه به أبو سعيد عن رسول الله -عليه السلام- مما قد ذكرنا في هذا باب، فلو كان ما حدثه به أبو سعيد من ذلك في المعنى الذي كان أسامة حدثه به إذًا لما كان حديث أبي سعيد عنده بأولى من حديث أسامة، ولكنه لم يكن له علم بتحريم رسول الله -عليه السلام- هذا الربا حتى حدثه به أبو سعيد، فعلم أن ما كان حدثه به أسامة عن رسول الله -عليه السلام- كان في ربا غير ذلك الربا. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل هذه المقالة، وأراد به الجواب عن حديث أسامة بن زيد الذي رواه عن ابن عباس، وهو ظاهر. قوله: "على ما ذكره عبادة بن الصامت" أخرج الطحاوي حديثه في باب بيع الحنطة بالشعير مرفوعًا من ستة طرق، وموقوفًا عليه، وقد ذُكِرَت هناك مفصلة، وقد ذكرنا أن مسلمًا وإسحاق بن راهوية والترمذي والنسائي أخرجوه، وقال الترمذي: على حديث أبي سعيد العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم، وقال ابن قدامة: حديث الربا في النسيئة محمول على الجنسين، ولأنه مجمل وغير مفصل. قوله: "والدليل" مبتدأ، وخبره قوله: "رجوع ابن عباس"، وقد ذكرنا عن قريب عن الطبراني روايته في رجوع ابن عباس، فروى إسحاق بن راهويه أيضًا عن روح، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [278].

ثنا حيان بن عبيد الله -وكان رجل صدق- قال: "سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: يدًا بيد، كان ابن عباس لا يرى به بأسًا ما كان منه يدًا بيد، فأتاه أبو سعيد فقال له: ألا تتقي الله، حتى متى يأكل الناس الربا، أَوَ ما بلغك أن رسول الله -عليه السلام- قال: التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة؛ يدًا بيد عينًا بعين مثلًا بمثل، فما زاد فهو ربا؟! ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضًا، فقال ابن عباس لأبي سعيد: جزاك الله الجنة؛ ذكرتني أمرًا قد كنت أنسيته، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه. فكان ينهى عنه بعد ذلك". ص: فمما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نحو ما ذكره أبو سعيد: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: ثنا مالك بن أنس، عن مولى لهم، عن مالك بن أبي عامر، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". ش: "ما حدثنا" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: "فمما [روي] (¬1) عن رسول الله -عليه السلام-". ورجاله ثقات غير أن يعقوب بن حميد فيه مقال، ومالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس، روى له الجماعة. والحديث أخرجه مالك في "موطإه" (¬2) عن جده بلفظٍ بلغه عن جده مالك بن أبي عامر .. إلى آخره. قال أبو عمر: هكذا هذا الحديث في "الموطإ" عند جماعة رواته فيما علمت. ورواه ابن أبي حازم عن مالك، عن مولى لهم، عن مالك بن أبي عامر. وابن أبي حازم من كبار أصحاب مالك، ويقال: إن اسم هذا المولى سنان. ولا يصح. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، وهي في متن الكتاب. (¬2) "موطأ مالك" (2/ 633 رقم 1301).

ويروي هذا الحديث بُكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن مالك بن أبي عامر، عن عثمان، مسندًا. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا عمرو بن مالك، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: ثنا مخرمة -يعني ابن بكير- عن أبيه، قال: أخبرني سليمان بن يسار، أن مالك بن أبي عامر حدثه، عن عثمان بن عفان، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". وهذا الحديث قد رواه أبو سهيل بن مالك، عن أبيه، عن عثمان، رواه عاصم بن عبد العزيز، وعاصم فليس بالقوي، ولا نعلم يروى عن عثمان إلا من حديث مالك بن أبي عامر عنه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، أن حميد بن قيس حدثه، عن مجاهد المكي: "أن صائغًا سأل عبد الله بن عمر: إني أصوغ ثم أبيع الشيء بأكثر من وزنه ذلك، واستفضل من ذلك قدر علمي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك، فجعل الصائغ يرد عليه المسألة، ويأباه عليه عبد الله بن عمر، حتى انتهى إلى دابته أو إلى باب المسجد، فقال له عبد الله: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا -عليه السلام- إلينا، وعهدنا إليكم". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). وفيه: النهي عن التفاضل بالدنانير والدراهم إذا بيع شيء منها بجنسه. قال أبو عمر (¬3): قوله: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم" إشارة إلى جنس الأصل لا إلى المضروب دون غيره، بدليل إرسال ابن عمر الجواب على ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 37 رقم 382). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 633 رقم 300). (¬3) "التمهيد" (2/ 242).

سؤال الصائغ له عن الذهب المصوغ، بدليل قوله -عليه السلام-: "الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلًا بمثل وزنًا بوزن ولا أعلم أحدًا من العلماء حرم التفاضل في المضروب العين من الذهب والفضة المدرهمة دون التبر والمصوغ منهما إلا شيء جاء عن معاوية بن أبي سفيان روي عنه من وجوه، وقد أجمعوا على خلافه، فأغني إجماعهم على ذلك عن الاستشهاد فيه بغيره. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني: أنه شهد خطبة عباة، أنه حدث عن النبي -عليه السلام-، أنه قال: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلًا بكيل، والشعير بالشعير، ولا بأس ببيع الشعير بالتمر والتمر أكثرهما يدًا بيد، والتمر بالتمر، والملح بالملح من زاد أو استزاد فقد أربى". ش: أخرجه الطحاوي في باب بيع الشعير بالحنطة، عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم البصري، عن مسلم بن يسار المكي، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني، عن عبادة. وهؤلاء كلهم ثقات، وقد ذكرنا هناك أن النسائي (¬1) أخرجه، واستوفينا الكلام في معناه وحكمه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: أنا حسين بن حفص الأصبهاني، قال: ثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 276 رقم 4563) وقد تقدم.

ش: هذا أيضًا أخرجه في الباب المذكور، عن سليمان بن شعيب، عن وهيب، عن همام، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: أنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، عن النبي -عليه السلام-. . . . إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح. وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أحد الأئمة الأعلام. وأبو الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني. ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا الفضل بن حبيب السراج، قال: ثنا حيان أبو زهير، عن ابن بريدة، عن أبيه: "إن النبي -عليه السلام- اشتهى تمرًا فأرسل بعض أزواجه -ولا أراها إلا أم سلمة- بصاعين من تمر، فأتوا بصاع من عجوة، فلما رآه النبي -عليه السلام- أنكره، فقال: من أين لكم هذا؟ قالوا: بعثنا بصاعين فأتينا بصاع، فقال: ردوه، فلا حاجة لي فيه". ش: الفضل بن حبيب السراج مولى الأزد، ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه. وحيَّان -بالحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن عبيد الله أبو زهير مولى بن عدي -ذكره ابن حبان في "الثقات". وابن بريدة هو عبد الله بن بريدة، روى له الجماعة. وأبوه بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -. وأخرجه (ابن عدي) (¬2) في ترجمة حيان. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 541 رقم 1240). (¬2) في "الأصل، ك": "ابن أبي عدي"، وأظنه سبق قلم من المؤلف، والحديث عند ابن عدي في "الكامل" (2/ 425) في ترجمة حيان بن عبيد الله المذكور.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عاصم بن محمَّد، قال: حدثني زيد بن محمَّد، قال: حدثني نافع، قال: "مشى عبد الله بن عمر إلى رافع بن خديج في حديث بلغه عنه في شأن الصرف، فأتاه فدخل عليه فسأله عنه، فقال رافع: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا تشفوا الدينار على الدينار، ولا الدرهم على الدرهم، ولا تبيعوا غائبًا منها بناجز، وإن استنظرك حتى يدخل عتبة بابه". ش: أبو بكرة بكار القاضي، وعمر بن يونس بن القاسم الحنفي قاضي اليمامة، روى له الجماعة عن عاصم بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، روى له الجماعة، وزيد بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أخو عاصم بن محمَّد المذكور، روى له مسلم والنسائي. قوله: "لا تَشِفُّوا" أي لا تزيدوا، يقال: شَفَّ الشيء يَشِفُّ، مثال حَمَلَ يَحْمِلُ حملًا إن زاد، والشَّف والشِّف: الثوب الرقيق، وقال الكسائي: شف الثوب يشفِ -بكسر- شفوفًا وشفيفًا إذا رقَّ حتى حكى ما تحته، وقال ابن السكيت: الشف أيضًا النقصان، وهو من الأضداد، يقال: هذا درهم يَشفُّ قليلًا أي ينقص، وقال ابن عباد: شف الشيء يشف إن تحرك وشف جسمه، يشف شفوفًا أي نحل، وشفه الهم يشُفَّه -بالضم- أي هزله، والشُّفافة -بالضم- بقية الماء في الإناء، والشفشاف الريح الباردة، وثوب شفشاف إذا لم يحكم عمله. قوله: "بناجز" أي: حالٍ وحاضرٍ. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: أنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: "انطلقت مع عبد الله بن عمر إلى أبي سعيد. . . . فذكر مثله غير قوله: "وإن استنظرك. . . ." إلى آخر الحديث، فإنه لم يذكره. حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله. . . . فذكر مثله بإسناده.

ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم -هو محمَّد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث، ونا محمَّد بن رمح قال: أنا الليث، عن نافع: "أن ابن عمر قال له رجل من بني الليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله -عليه السلام-في رواية قتيبة- فذهب عبد الله ونافع معه -وفي حديث ابن رمح: قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه- والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل، وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، فأشار أبو سعيد بأصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله -عليه السلام- يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تَشِفُّوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا شيئًا غائبًا منه بناجز، إلا يدًا بيد". الثاني: عن محمَّد بن نصر، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع. . . . إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": نا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه لقي أبا سعيد الخدري، فحدثه أن رسول الله -عليه السلام- قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم يدًا بيد مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". وأخرج الطحاوي نحوه من حديث سالم بن عبد الله. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل الكفة بالكفة، والفضة بالفضة ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1208 رقم 1584).

مثلًا بمثل الكفة بالكفة، والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدًا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدًا بيد، حتى ذكر الملح". ش: إسناده صحيح. وحكيم بن جابر بن طارق الأحمسي، وثقه يحيى بن حبان. وهذا الطريق أخرجه الطحاوي عن عبادة بن الصامت، في باب: "بيع الشعير بالحنطة متفاضلًا" من سبع طرق خلاف هذا الطريق. وبهذا الطريق أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" (¬1). وأخرجه النسائي (¬2) وساقه من وجه آخر، عن حكيم، قال: أخبرت عن عبادة. وقد شرحنا هذا الحديث هناك مستقصًى. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، أن سهيل بن أبي صالح أخبره، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورِق بالورِق إلا وزنًا بوزن مثلًا بمثل سواءً بسواءٍ". حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدرهم بالدرهم لا زيادة، والدينار بالدينار، ولا تَشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبًا منها بناجز". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي سعيد الخدري. و"الوَرِق" بفتح الواو وكسر الراء: الفضة. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 278 رقم 10264). (¬2) "المجتبى" (7/ 277 رقم 4566).

قوله: "سواءً بسواءٍ" أي متساوية. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد العزيز بن أبي رواد ميمون المكي، عن نافع .. إلى آخره. وأخرجه البزار في "مسنده": نا محمَّد بن معمر، نا أبو عاصم، نا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس، أن نافعًا مولى ابن عمر حدثهم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تَشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلًا بمثل ولا تَشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن عبد المجيد بن سهيل، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله -عليه السلام-: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، والله يا رسول الله؛ إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاث، فقال رسول الله -عليه السلام-: فلا تفعل، بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 632 رقم 1299). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1208 رقم 1584).

ش: إسناد صحيح. ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، والبخاري (¬2) ومسلم (¬3) من حديث مالك نحوه. وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني. قال أبو عمر: اختلف على مالك في اسم هذا الرجل، فقال يحيى بن يحيى عنه فيه: عبد الحميد، وتابعه ابن نافع وعبد الله بن يوسف التنيسي، وروى بعض أصحاب ابن عيينة عن ابن عيينة عنه حديثه هذا فقال فيه: عبد الحميد، كما قال يحيى وابن نافع والتنيسي. وقال جمهور رواة "الموطإ" عن مالك فيه: عبد المجيد، وهو المعروف عند الناس، كذلك قال فيه الدراوردي وسليمان بن بلال وابن عيينة في غير هذا الحديث. وقال أيضًا: ذكر أبي هريرة في هذا الحديث لا يوجد من غير رواية عبد الحميد ابن سهيل، وإنما يحفظ هذا الحديث لأبي سعيد الخدري، كذلك رواه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري. انتهى. وأخرج البيهقي (¬4) هذا الحديث من حديث سليمان بن بلال، عن عبد المجيد بن سهيل، أنه سمع ابن المسيب، أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه: "أن رسول الله -عليه السلام- بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر فقدم معه جنيب، فقال: له رسول الله -عليه السلام-: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله؛ إنا نشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال: لا تفعلوا، ولكن مثلا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان". وقال أبو عمر (¬5): كل من روى حديث عبد الحميد بن سهل هذا عنه بإسناده ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 623 رقم 1292). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 767 رقم 2089). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1215 رقم 1593). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 285 رقم 10298). (¬5) "التمهيد" (20/ 56 - 59) بتصرف.

عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي -عليه السلام-، ذكر في آخره: "وكذلك الميزان"، إلا أن مالكًا لم يذكره في حديثه وهو أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه، كل يقول على أصله أن ماذا حكمه في الجنس الواحد من جهة التفاضل والزيادة لم يجز فيه الزيادة والتفاضل لا في كيل ولا في وزن، والوزن والكيل عندهم في ذلك سواء إلا ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلًا وما كان أصله الوزن لا يباع إلا وزنًا، وما كان أصله الكيل فبيع وزنًا فهو عندهم مماثلة وإن كرهوا ذلك، وما كان موزونًا فلا يجوز (أن يباع) (¬1) كيلًا عندهم أجمعين؛ لأن المماثلة لا تدرك بالكيل إلا فيما كان كيلًا لا وزنًا اتباعًا للسنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "البر بالبر مُدَّيْن بِمْدَّين". وأجمعوا أن الذهب والورق والنحاس وما أشبه ذلك لا يجوز شيء من هذا كله كيلًا بكيل بوجه من الوجوه، وكذلك كل موزون لا يباع كيلًا بكيل على كل حال من الأحوال. وأجمعوا أيضًا أن التمر بالتمر لا يجوز بعضه ببعض إلا مثلًا بمثل، وسواءٌ فيه الطيب والدون، وأما الجنيب من التمر فقيل: هو الجنس الواحد غير المختلط، والجمع المختلط، وقيل: الجنيب التمر الذي قد أخرج منه حشفه ورديئه، وبيع التمر الجمع بالدراهم وشراء الجنيب من رجل واحد يدخله ما يدخل الصرف في بيع الذهب بدراهم، والشراء بتلك الدراهم دنانير من رجل واحد في وقت واحد، والمراعاة في ذلك كله واحدة. قلت: "الجنيب" -بفتح الجيم، وكسر النون، بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وفي آخره باء موحدة- قال ابن الأثير: هو نوع جيد معروف من أنواع التمر. و"الجمع": بفتح الجيم وسكون الميم. قال ابن الأثير: كل لون من النخل لا يعرف اسمه فهو جمع، وقيل: الجمع تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوبًا فيه وما يخلط إلا لردائته. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا المعلى بن المنصور الرازي، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو النضر، عن عبد الله بن حنين: "أن رجلًا من أهل العراق قال لعبد الله ابن عمر: "إن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال -وهو علينا أمير: من أُعطي بالدرهم مائة درهم فليأخذها، فقال عبد الله بن عمر: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل فمن زاد فهو ربا. وقال ابن عمر: إن كنت في شك فاسأل أبا سعيد الخدري عن ذلك، فسأله، فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله -عليه السلام-، فقيل لابن عباس ما قال ابن عمر، فاستغفر ربه وقال: إنما هو رأى مني". ش: أبو أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، شيخ النسائي وأبي عوانة الإسفراييني، وثقه أبو داود. والمعلى بن منصور الرازي شيخ البخاري في غير الصحيح، وهو أحد أصحاب أبي حنيفة الأعلام، له ذكر في "الهداية"، قال العجلي: ثقة صاحب سنة، روى له الجماعة. وابن لهيعة عبد الله بن لهيعة المصري، فيه مقال. وأبو النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي المدني، روى له الجماعة. وعبد الله بن حنين القرشي الهاشمي، مولى العباس بن عبد المطلب، روى له الجماعة. ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- بتمر أنكره فقال: أنَّي لك هذا؟! قال: اشتريته بصاعين من تمر، قال: أضعفت أربيت -أو أربيت أضعفت". حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خُشَيْش، قال ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، قال: "أتي النبي -عليه السلام- بصاع تمر ريَّان، وكان تمر النبي -عليه السلام- بقلًا، فقال: أنَّى لكم هذا؟ فقالوا:

يا رسول الله، بِعْنَا صاعين من تمر بصاع من هذا، فقال: لا تفعلوا ذلك ولكن بيعوا تمركم واشتروا من هذا". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "دينار بدينار، ودرهم بدرهم، وصاع تمر بصاع تمر، وصاع بُرٍّ بصاع بُرٍّ، وصاع شعير بصاع شعير لا فضل بين شيء من ذلك". حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي عن يحيى قال: حدثني عقبة بن عبد الغافر، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صاع تمر بصاعين، ولا حنطة بصاعين، ولا درهم بدرهمين". ش: هذه أربعة طرق صحاح: [. .] (¬1) عن يحيى بن سعيد القطان الأحول، عن [. .] (1). وأخرجه أحمد في "مسنده" نا معتمر، عن [. .] (1) أتى رسول الله -عليه السلام- بتمر فأنكره، فقال: أنى لك هذا؟ قال: اشتريته بصاعين تمر [. .] (1) - صلى الله عليه وسلم -: أربيتم". الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن خشيش [. .] (1). وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال: نا خالد بن الحارث، نا سعيد -يعني: ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- أتي بتمر ريان -وكان تمر نبي الله -عليه السلام- بعلًا فيه يبس- فقال: أنى لكم هذا التمر؟ فقالوا: ابتعنا صاعًا بصاعين من تمرنا. قال: لا، ولكن بع تمرك ثم ابتع حاجتك". [. .] (1) من روى يروي من باب عمل يعلم وأراد به التمر الذي [. .] (1) بفتح الباء الموحدة وسكون العين المعجمة، أو هو التمر الذي [. .] (1) ولا غيرها، وفي تمرها يابسًا له صوت. ¬

_ (¬1) طمس بالأصل. (¬2) "مسند أحمد" (3/ 45 رقم 11430).

الثالث: رجاله كلهم رجال الصحيح، [. .] (¬1) عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري خال ابن أبي ذئب وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سعيد سعد بن مالك. الرابع: عن محمَّد بن عبد الله، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن عقبة بن عبد الغافر الأزدي العوذي البصري، روى له البخاري ومسلم. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا إسحاق بن منصور قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي قال: ثنا معاوية. وحدثني محمَّد بن سهل التميمي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي واللفظ لهما جميعًا، عن يحيى بن حسان قال: نا معاوية -وهو ابن سلام- قال: أخبرني يحيى -وهو: ابن أبي كثير- قال: سمعت عقبة بن عبد الغافر يقول: سمعت أبا سعيد يقول: "جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله -عليه السلام-: من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم التيي، فقال رسول الله -عليه السلام- عند ذلك: أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشتريه" لم يذكر ابن سهل في حديثه: "عند ذلك". ص: حدثنا ابن مرزوق قال: نا عثمان بن عمر قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن بلال قال: "كان عندي مدّ تمر للنبي -عليه السلام-، فوجدت أطيب منه صاعًا بصاعين فاشتريت، فأتيت به النبي -عليه السلام-، فقال: من أين لك هذا يا بلال؟ فقال: اشتريته صاعًا بصاعين. فقال: رده، وردّ علينا تمرنا". ش: إسناده صحيح. وإسرائيل هو ابن يونس بن [. .] (1) أبي إسحاق هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، ومسروق هو ابن الأجدع. ¬

_ (¬1) لعل هنا سقطًا في المخطوط. (¬2) "صحيح مسلم" (5/ 1215 رقم 1594).

وأخرجه الطبراني (¬1): نا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا يحيى بن معين، ثنا عثمان بن عمر، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن بلال - رضي الله عنه - قال: "كان عندي تمر لرسول الله -عليه السلام-، فوجدت ما هو خير منه صاعًا بصاعين، فاشتريته، فأتيت به رسول الله -عليه السلام-، فقال: ما هذا؟ فقلت: اشتريت صاعًا بصاعين. فقال: رد علينا تمرنا (¬2). ص: رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر يبايع اليهود وفيه: "الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله -عليه السلام-: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن". ش: عبد الله بن لهيعة فيه مقال. وعامر بن يحيى بن جَشِيب الشرعبي المصري، وثقه أبو داود والنسائي، وروى له مسلم والترمذي وابن ماجه. وخالد بن أبي عمران التجيبي التونسي قاضي إفريقية، قال ابن سعد: كان ثقة، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. و"حَنَش" -بفتح الحاء المهملة والنون وفي آخره شين معجمة- بن عبد الله أبو رشدين الصنعاني، قال العجلي وأبو زرعة: ثقة. روى له الجماعة إلا البخاري. و"السَّبَائي" -بفتح السين المهملة والباء الموحدة- نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وفضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري الأوسي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث، عن ابن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، قال: حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- يوم خيبر نبايع اليهود، الأوقية من الذهب بالدينار -قال غير ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (1/ 359 رقم 1097). (¬2) يوجد هنا سقط في "الأصل، ك". (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 249 رقم 3353).

قتيبة: بالدينارين والثلاثة- وقال رسول الله -عليه السلام-: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا المعلى بن منصور، قال: أنا عباد وعبد العزيز ابن المختار، عن يحيى بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئنا". ش: المعلى قد مَرَّ عن قريب. وعباد هو ابن العوام أبو سهل الواسطي، روى له الجماعة. وعبد العزيز بن المختار الأنصاري الدباغ البصري، روى له الجماعة. ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، روى له الجماعة. وعبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي، روى له الجماعة. وأبوه أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬1): عن أحمد بن منيع، عن عباد بن العوام، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا نافع بن يزيد، قال: أنا ربيعة بن سليم مولى عبد الرحمن بن حيان التجيبي، أنه سمع حنش الصنعاني يحدث عن رويفع بن ثابت في غزوة إياس قِبَلَ المغرب يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: "بلغني أنكم تتبايعون المثقال بالنصف والثلثين، وإنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال والوزن بالوزن". ش: ابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري -شيخ البخاري. ونافع بن يزيد الكلاعي المصري، روى له البخاري مستشهدًا، والباقون سوى الترمذي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 280 رقم 4578).

وربيعة بن سُليم -ويقال: ابن أبي سليم، ويقال: ابن سُليمان، ويقال: ابن أبي سليمان- التجبي المصري، وثقه ابن حبان. وحنش مَرَّ ذكره عن قريب. ورويفع بن ثابت بن سكن الأنصاري، نزيل مصر، توفي ببرقة وهو أمير عليها. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يحيى بن أيوب الملائي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا نافع بن يزيد. . . . إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت مالكًا يقول: حدثني موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا زهير بن محمَّد، عن موسى بن أبي تميم. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). ومسلم (¬3): عن أبي الطاهر عن ابن وهب، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن زهير بن محمَّد التميمي العنبري الخرقي، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 25 رقم 4479). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 632 رقم 1298). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1212 رقم 1588).

وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن اثني عشر نفرًا من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وبريدة ابن الخصيب، ورافع بن خديج وأبو سعيد الخدري وعمر بن الخطاب وبلال المؤذن وفضالة بن عبيد وأبو بكرة نفيع بن الحارث ورويفع بن ثابت وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. قلت: وفي الباب عن أبي بكر حديثه عند البزار، وهشام بن عامر حديثه عند الطبراني، والبراء بن عازب حديثه عند الشيخين، وزيد بن عاصم حديثه عند الشيخين أيضًا، وأبي الدرداء حديثه عند النسائي. وقد ذكرنا الجميع بأسانيده في باب بيع الشعير بالحنطة متفاضلًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فثبتت بهذه الآثار المتواترة عن رسول الله -عليه السلام- النهي عن بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب متفاضلة. وكذلك سائر الأشياء التي قد ذكرت في هذه الآثار التي رويناها، فالعمل بها أولى من العمل بحديث أسامة الذي قد يجوز أن يكون تأويله على ما قد ذكرنا في هذا الباب. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن الصحابة المذكورين، وأراد بالتواتر التكاثر والظهور، والتأويل الذي ذكره في حديث أسامة هو قوله: وكان من الحجة لهم في تأويل حديث ابن عباس عن أسامة - رضي الله عنهم - وقد مَرَّ مستوفًى. ص: ثم هذا أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده قد ذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الروايات عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن جبلة بن سحيم، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "خطب عمر - رضي الله عنه - فقال: لا يشتري أحدكم دينارًا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1212 رقم 1588).

بدينارين ولا درهمًا بدرهمين ولا نقيرًا بنقيرين، إني أخشى عليكم الرماء، وإني لا أوتى بأحد فعله إلا قد أوجعته عقوبةً في نفسه وماله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "لا يأخذ أحدكم درهما بدرهمين؛ فإني أخشى عليكم الرماء". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت نافعًا، قال: حدثني ابن عمر، قال: خطب عمر - رضي الله عنه - فقال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بمثل، ولا تَشِفُّوا بعضها على بعض؛ فإني أخاف عليكم الرماء". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - مثله. قال أبو جعفر: فهذا عمر بن الخطاب يخطب بهذا على منبر رسول الله -عليه السلام- بحضرة أصحابه، فلا ينكره عليه مُنْكِر، فدل ذلك على موافقتهم له عليه. ش: أراد أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد ذهبوا في ذلك أي في بيع أحد النقدين بالآخر إلى ما تواترت -أي تكاثرت- به الروايات عن النبي -عليه السلام- أيضًا. وأخرج في ذلك عن عمر بن الخطاب من أربع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن شعبة، عن جبلة بن سحيم التيمي الكوفي، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن جبلة بن سحيم، عن عبد الله بن عمر، عن عمر قال: "أيها الناس لا تشتروا دينارًا بدينارين ولا درهمًا بدرهمين، فإني أخاف عليكم الرماء، قيل: وما الرماء؟ قال: هو الذي تدعونه الربا". ¬

_ (¬1) "مصنفه ابن أبي شيبة" (4/ 498 رقم 22495).

الثاني: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأشعث بن أبي الشعثاء الكوفي، عن أبيه أبي الشعثاء سُليم بن أسود بن حنظلة المحاربي الكوفي، عن عبد الله بن عمر. الثالث: عن ابن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث جرير بن حازم، سمعت نافعًا يقول: "كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف ولم يسمع فيه من النبي -عليه السلام- شيئًا، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلًا بمثل سواءً، ولا تَشِفُّوا بعضه على بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء. قلت لنافع: وما الرماء؟ قال: الربا". الرابع: عن ابن مرزوق أيضًا، عن عارم -وهو محمَّد بن الفضل السدوسي- شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. قوله: "الرماء" بفتح الراء والميم ممدودا، وهي الزيادة على ما لا يحل، ويروى: الأرماء، يقال: أرمى على الشيء إرماءً إذا زاد عليه، كما يقال: أربى إرباء. قوله: "ولا تَشِفُّوا" أي لا تفضلوا، من الشف وهو الربح والزيادة، وقد حققناه مرة. ص: ثم قد روي في ذلك أيضًا عن أبي بكر وعلي وغيرهما من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما يوافق ذلك أيضًا: حدثنا بحر بن نصر، عن شعيب بن الليث، عن موسى بن عُلَيّ، حدثه عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: "كتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام: أما بعد، فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، ولا الطعام ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 279 رقم 10270).

بالطعام إلا كيلًا بكيل. قال أبو قيس: قرأت كتابه". ش: أي: ثم قد روي في النهي عن بيع أحد النقدين بالآخر متفاضلا، عن أبي بكر وعلي بن أبي طالب ما يوافق ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وإسناد ما رواه عن أبي بكر صحيح. وموسى بن عُلَيّ -بضم العين وفتح اللام- أبو عبد الرحمن المصري أمير مصر لأبي جعفر المنصور، وثقه يحيى وأحمد والنسائي. وأبوه: عُلي بن رباح اللخمي أبو موسى المصري، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. روى له الجماعة؛ البخاري في غير "الصحيح". وأبو قيس مولى عمرو بن العاص اسمه عبد الرحمن بن ثابت، روى له الجماعة. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن المغيرة بن مقسم، عن أبيه، عن أبي صالح السمان قال: "كنت جالسًا عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأتاه رجل فقال: تكون عندي الدراهم فلا تنفق في حاجتي، أفأشتري بها دراهم تجوز عني وأُهْضَمُ فيها؟ قال: فقال علي - رضي الله عنه -: لا، اشتر بدراهمك ذهبًا ثم اشتر بذهبك وَرِقًا ثم أنفقها فيما شئت". ش: الحسن بن ربيع البجلي، شيخ الجماعة غير الترمذي. وأبو إسحاق الفزاري اسمه إبراهيم بن محمَّد بن الحارث الكوفي روى له الجماعة. والمغيرة بن مقسم الضبي الكوفي الفقيه الأعمى، روى له الجماعة. وأبوه: مقسم الضبي، مسكوت عنه (¬1). وأبو صالح السمان اسمه ذكوان، روى له الجماعة. قوله: "فلا تُنْفَق" على صيغة المجهول، أراد أنها لا تروج ولا تؤخذ في البيع والشراء. ¬

_ (¬1) ذكره ابن حبان في "ثقاته" من رواية ابنه عنه (5/ 454).

قوله: "أفأشتري بها" الهمزة فيه للاستفهام، أي: هل أشتري بتلك الدراهم التي لا تنفق دراهم نافقة وهو معنى قوله: "تجوز عني". وقوله: "واهضم فيها" أي أترك منها شيئًا، من قولهم: هضمت لك من حقي طائفة أي: تركت، وأصل الهضم: الكسر. قال الجوهري: هضمت الشيء: كسرته، يقال: ... (¬1) ... أسامة مما لم يثبته منه حديث أسامة مِن كثرة مَن نقله له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قامت عليه به الحجة ولم يكن ذلك من حديث أسامة؛ لأنه خبر واحدٍ، فرجع إلى ما جاءت به الجماعة الذين تقوم بنقلهم الحجة، وترك ما جاء به الواحد الذي قد يجوز عليه السهو والغلط والغفلة، والذي ثبتنا في الصرف هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: لما أَوَّلَ ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من ذهابه إلى ما رواه عن أسامة بن زيد: "إنما الربا في النسيئة" بالتأويل المذكور؛ أَيَّدَ صحته بما روي عنه أنه رجع عن ذلك، وذلك لا يخلو عن أمرين: أحدهما: أنه كان قد علم أن الذي حدثه أسامة إنما هو ربا القرآن، وعلم أن الربا الذي بالسنة خلاف ذلك. والآخر: أنه كان قد ثبت عنده ما يخالف حديث أسامة، والدليل عليه ما أخرجه عن نصر بن مرزوق، عن الخَصَيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي البصري، عن حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة المنذر بن مالك العوقي، عن أبي الصهباء صهيب مولى ابن عباس، وثقه ابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأخرج مسلم (¬2): نا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الأعلى، قال: أنا داود، ¬

_ (¬1) هنا طمس بالأصل مقدار لوحة. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1217 رقم 1594).

عن أبي نضرة قال: "سألت ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - عن الصرف [فلم يريا به بأسًا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن الصرف] (¬1)، فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك؛ لقولهما،، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله -عليه السلام-، جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي -عليه السلام- هذا اللون، فقال له النبي -عليه السلام-: أَنَّى لك هذا؟ قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال رسول الله -عليه السلام-: ويلك؛ أربيت، إذا أردت ذلك فبع تمرك سلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت. قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني، ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه". وقال ابن حزم (¬2): وروى عنه أبو الصهباء أنه كرهه. وروى عنه طاوس ما يدل على التوقف، وروى الثقة المختص به خلاف ذلك كما حدثنا [هُمَام] (¬3)، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، نا هشيم، أنا أبو بشر -هو جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "ما كان الربا قط في هاء وهات. وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه حتى مات". قوله: "قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد" وهو قول الشافعي ومالك وأحمد أيضًا، وهو قول جماهير الفقهاء من التابعين. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" ولعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬2) "المحلى" (8/ 483). (¬3) كذا في "الأصل"، وفي "المحلى": "البغوي".

ص: باب: القلادة تباع بذهب وفيها خرز وذهب

ص: باب: القلادة تباع بذهب وفيها خرز وذهب ش. أي: هذا باب فيه بيان حكم القلادة المركبة من الذهب والخرز تباع بذهب كيف يكون حكمه؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون الواسطي، قال: ثنا هشيم، عن ليث بن سعد، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد قال: "أصبت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز، فأردت أن أبيعها، فأتيت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال: أفصل بعضها من بعض، ثم بعها كيف شئت". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدثني أبو شجاع سعيد بن زيد الحِمْيري، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد صاحب النبي -عليه السلام- قال: "اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر دينارًا، ففصلتها فإذا الذهب أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: لا تباع حتى تفصل". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، قال: سمعت خالد بن أبي عمران يحدث، عن حنش عن فضالة بن عبيد قال: "أتي النبي -عليه السلام- يوم خيبر بقلادة فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بسبع -أو بتسع- فأتى النبي -عليه السلام- فذكر ذلك له، فقال: لا، حتى يتميز ما بينهما، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال: لا، حتى تميز ما بينهما، فردَّه". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي. . . . إلى آخره، وقد مضى ذكر رجاله عن قريب.

وأخرجه النسائي (¬1) نحوه: عن عمرو بن منصور، عن محمَّد بن محبوب، عن هشيم، عن الليث، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن فضالة بن عبيد، به. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا ليث، عن أبي شجاع، عن سعيد بن يزيد، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن فضالة. . . . إلى آخره نحوه سواء. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن عبد الله بن مبارك المروزي. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬3): عن قتيبة عن ليث، وعن قتيبة عن ابن المبارك جميعًا، عن سعيد بن يزيد. . . . إلى آخره نحوه. وقال هذا حديث حسن صحيح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن القلادة إذا كانت كما ذكرنا لم يجز أن تباع بالذهب؛ لأن ذلك الثمن وهو ذهب يقسم على قيمة الخرز وعلى الذهب، فيكون كل واحدٍ منهما مبيعًا بما أصابه من الثمن، كالغرضين يباعان بذهب، فكل واحد منهما مبيع بما أصاب قيمته من ذلك الذهب. قالوا: فلما كان ما يصيب الذهب الذي في القلادة إنما يصيبه الحَزْر والظن، وكان الذهب لا يجوز أن يباع بالذهب إلا مثلًا بمثل؛ لم يجز البيع إلا أن يُعلم أن ثمن الذهب الذي في القلادة مثل وزنه من الذهب الذي اشتريت به القلادة، ولا يُعلم بقسمة الثمن، إنما يُعلم بأن يكون على حدة بعد الوقوف على وزنه، وذلك غير موقوف عليه إلا بعد أن يُفصل من القلادة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 279 رقم 4574). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1213 رقم 1591). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 556 رقم 1255).

قالوا: فلا يجوز بيع هذه القلادة بالذهب إلا بعد أن يُفصل ذهبها منها؛ لِما قد ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام-؛ ولما احتججنا به من النظر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سالم بن عبد الله والقاسم بن محمَّد وشريحًا القاضي ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور -رحمهم الله- فإنهم قالوا: بيع القلادة إذا كانت على الصفة المذكورة لا يجوز إلا بعد أن يفصل ذهبها منها. وقال عياض: حكم ما كان من الحلي منظومًا: أن يُفصل ويُباع على الانفراد ذهبه وعرضه، ولا يجمعان في عقد واحد على مذهب مالك إلا أن يكون ما مع الذهب تبعًا أو ما مع العروض من الذهب تبعًا، فيباع بخلاف ذلك من العين، ولا يجوز أن يباع بما فيه من العين، فإن كان مصوغًا بالعرض مربوطًا به لا يُفصل منه إلا بفساد أو نفقة ومؤنة، فإن كان مما لا يجوز إتخاذه كان حكمه حكم ما تقدم، وإن كان مما يجوز إتخاذه كلحي النساء والمصحف والسيف والخاتم وجميع آلة الحرب على خلاف عندنا فيما عدا السيف يجوز بيعه، بخلاف ما فيه من العين ناجزًا كيف كان من قلة ما فيه من العين أو كثرته، ويجري في بيعه مجرى الصرف مما يحل ويحرم، وأما بيعه بجنس ما فيه من العين فيجوز إذا كان فيه من العين تبعًا الثلث فأدنى نقدًا عند مالك وجمهور أصحابه وكافة العلماء. وروي عن عمر وابن عمر منع ذلك، وروي عن جماعة من السلف، وقاله محمَّد ابن عبد الحكم من أصحابنا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. ولو كان ما في السيف من ذلك مُمَوَّهًا بالذهب أو الفضة ومسبوكًا فيه مستهلكًا كان تبعًا بكل حال، وجاز بيعه كيف ما كان، وعلى هذا قاس شيوخنا جواز بيع الثياب المعلمة بالذهب إذا كان فيها من الذهب الثلث من قيمتها فأدنى بالدنانير نقدًا، أو بالدنانير والدراهم نسيئة، قال الإمام أبو عبد الله: مذهب مالك أن الذهب إذا كان معه سلعة فلا يجوز بيعها بذهب، وكذلك إذا كانت فضة وسلعة

فلا يجوز بيعها بفضة؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل بين الذهبين، والذهب المنفرد جميع أجزائه مقابلة للذهب والسلعة، فلم يقع التماثل، ولا بيع الذهب بمثله سواء بسواء ولكن مالكًا استثنى السيف المحلى إذا كانت حليته تبعًا له؛ أن يباع بالفضة، وإن كان حليته فضة انتهى. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): فإن كان مع الذهب شيء غيره أي شيء كان من فضة أو من غيرها ممزوج به أو مضاف فيه أو مجموع إليه في دنانير أو في غيرها لم يحل بيعه مع ذلك الشيء ولا دونه بذهب أصلًا، لا بأكثر من وزنه ولا بأقل ولا بمثله إلا حتى يخلص الذهب وحده خالصًا، وكذلك إن كان مع الفضة شيء غيرها كصفر أو ذهب أو غيرهما ممزوج بها أو ملصق معها أو مجموع إليها لم يحل بيعها مع ذلك الشيء ولا دونه بفضة أصلًا، دراهم كانت أو غير دارهم لا بأكثر من وزنها ولا بأقل ولا بمثل وزنها إلا حتى تخلص الفضة وحدها خالصة، سواء في كل ما ذكرنا السيف المحلى والمصحف المحلى والخاتم فيه الفصّ والحلي فيه الفصوص والفضة المذهبة والدنانير فيها خلط صفر أو الفضة أو الدراهم فيها خلط ما، ولا ربا في غير ما ذكرنا أصلًا. انتهى. وقال ابن قدامة (¬2): وإن باع شيئًا فيه الربا بعضه ببعض ومعهما أو مع إحداهما من غير جنسه، وصورتها أن يبيع مدًّا ودرهمًا بمدين، أو بمد ودرهم، أو بدرهمين، أو يبيع شيئًا محلى بجنس ما عليه، فالمذهب أنه لا يجوز؛ نصَّ عليه أحمد. وقال ابن أبي موسى في السيف المحلى بالمنطقة والمراكب المحلاة بجنس ما عليها: لا يجوز قولًا واحدًا. وذكر المتأخرون رواية أخرى: أنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 494 - 495). (¬2) "المغني" (4/ 168).

قوله: "نصيبه بالحَزْر" بالحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ثم راء مهملة-: وهو الظن والحسبان. قوله: "وكان المذهب" الواو فيه للحال. قوله: "لِما قد ذكرنا" اللام فيه مكسورة وهي للتعليل، وكذا اللام في قوله: "ولِما احتججنا". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن كانت هذه القلادة لا يُعلم مقدار ذهبها أهو مثل وزن جميع الثمن أو أقل من ذلك أو أكثر إلا بأن تُفصل القلادة فيوزن ذلك الذهب الذي فيها فيوقف على وزنه؛ لم يجز بيعها بذهب إلا بعد ما يُفصل ذهبها منها فيُعلم أنه أقل من ذلك الثمن، وإن كانت القلادة يُحيط العلم بوزن ما فيها من الذهب، ويُعلم أنه أقل من الذهب الذي بيعت به، أو لا يحيط العلم بوزنه إلا أنه يعلم في الحقيقة أنه أقل من الثمن الذي بيعت به القلادة وهو ذهب؛ فالبيع جائز؛ وذلك أنه يكون ذهبها بمثل وزنه من الذهب الثمن، ويكون ما فيها من الخرز بما بقي من الثمن، ولا يحتاج في ذلك إلى قسمة الثمن على القيمة كما يحتاج إليه في العروض المبيعة بالثمن الواحد. والدليل على ذلك أنا رأينا الذهب لا يجوز أن يباع بذهب إلا مثلًا بمثل، ورأيناهم لا يختلفون في دينارين أحدهما في الجودة أفضل من الآخر بيعا صفقة واحدة بدينارين متساويين في الجودة، أو بذهب غير مضروبٍ جيدٍ؛ أن البيع جائز، فلو كان ذلك مردودًا إلى حكم القسمة كما ترد العروض من غير الذهب والفضة إذا بيعت بثمن واحد؛ إذا لفسد البيع؛ لأن الدينار نصيبه أقل من وزنه إذا كانت قيمته أقل من قيمة الدينار الآخر، فلما أُجْمع على صحة ذلك البيع، وكانت السنة قد ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الذهب تبره وعينه سواء، ثبت بذلك أن حكم الذهب في البيع إذا كان بذهب على غير القسمة على القيمة، وأنه مخصوص في ذلك بحكمٍ دون حكمِ سائر العروض المبيعة صفقةً واحدةً، وأن ما يصيبه من الثمن هو وزنه لا ما يصيب قيمته؛ فهذا هو ما يشهد لهذا القول من النظر.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وحماد بن أبي سليمان والثوري والحسن بن حي، وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: إن هذه القلادة. . . . إلى آخر ما ذكره. وهو ظاهر. وتحقيق مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن بيع القلادة المفضوضة يجوز إذا كان بأكثر مما فيها من الفضة كثرت فضتها أو قلت، ولا يجوز مثلها أو أقل منها. وقال صاحب "البدائع" (¬1): إذا باع سيفًا محلى بفضة أو جارية في عنقها طوق فضة بفضة مفردة، والفضة المفردة أكثر؛ جاز البيع، وكان بحصة الفضة صرفًا، فيراعى فيه شرائط الصرف، وبحصة الزيادة التي هي من خلاف جنسها بيعًا مطلقًا، فلا يشترط له ما يشترط للصرف، فإن وجد التقابض وهو القبض من الجانبين قبل التفرق بالأبدان يجب الصرف والبيع جميعًا، وإن لم يوجد أو وجد القبض من أحد الجانبين دون الآخر بطل الصرف؛ لوجود الافتراق من غير قبض، وهل يبطل البيع المطلق؟ ينظر إن كانت الفضة المجموعة مع غيرها يمكن فصلها وتخليصها من غير ضرر، كالجارية مع الطوق وغير ذلك؛ فالبيع جائز، وفساد الصرف لا يتعدى إلى البيع، وإن كان لا يمكن فصلها وتخليصها إلا بضرر بطل البيع أيضًا؛ لأنه بيع ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر، وأنه لا يجوز ابتداءً كبيع الجذع في السقف ونحو ذلك، فكذا في حالة البقاء، فإذا بطل العقد في قدر الصرف بطل في البيع أيضًا. وقال ابن حزم (¬2): اتفق الحسن وإبراهيم والشعبي وقالوا: لا بأس بالسيف فيه الحلية والمنطقة والخاتم بأن يبتاعه بأكثر مما فيه أو بأقل ونسيئة. وقال المغيرة: سألت إبراهيم النخعي عن الخاتم أبيعه نسيئة، فقال: أفيه فصّ؟ فقلت: نعم، فكأنه هوَّن فيه. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (4/ 455). (¬2) "المحلى" (8/ 497).

واتفق ابن سيرين وقتادة على أنه لا بأس بشراء السيف المفضض، والخِوَان (¬1) المفضض والقدح بالدراهم. وسأل شعبة حماد بن أبي سليمان عن السيف المحلى يباع بالدراهم، فقال: لا بأس به، وروي هذا أيضًا عن سليمان بن موسى ومكحول، وعن الشعبي: إن كانت الدارهم أكثر من الحلية فلا بأس به. وروي ذلك عن الحسن وإبراهيم والثوري. وقال الأوزاعي: إن كانت الحلية تبعًا وكان الفضل في النصل جاز بيعه بنوعه نقدًا وتأخيرًا. قوله: "ويعلم أنه" أي أن الذهب الذي في القلادة. قوله: "وهو ذهب" أي والحال أنه ذهب. قوله: "وذلك" إشارة إلى الجواز الذي يدل عليه قوله: "فالبيع جائز". قوله: "والدليل على ذلك" أي على ما ذكرنا من قولنا: "ولا يحتاج في ذلك إلى قسمة الثمن على القيمة. . . ." إلى آخره. قوله: "ورأيناهم" أي العلماء الذين اختلفوا في هذا الباب. قوله: "بِيعا" على صيغة المجهول في محل النصب على الحال من قوله: "في دينارين". قوله: "إذًا لفسد البيع" أي حينئذٍ لفسد البيع. قوله: "وكانت السُّنَّة قد ثبتت" الواو فيه للحال، ويجوز أن تكون بمعنى المصاحبة. قوله: "تبره وعينه" مرفوعان على أنهما بدلان من الذهب، و"التبر" القطعة المأخوذة من المعدن. ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في "النهاية" (2/ 89): "وهو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل".

قوله: "فهذا هو" أي هذا الذي ذكرنا هو الذي يشهد لهذا القول، أي قول أهل المقالة الثانية من النظر والقياس، أراد بذلك أن السنة تشهد لهذا القول مع القياس. والله أعلم. ص: وقد اضطرب علينا حديث فضالة الذي ذكرنا، فرواه قوم على ما ذكرنا في أول هذا الباب، ورواه أخرون على غير ذلك: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا أبو هانئ، أنه سمع عُلَيّ بن رباح اللخمي يقول: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: "أتي رسول الله -عليه السلام- وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من الغنائم تباع، فأمر رسول الله -عليه السلام- بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال رسول الله -عليه السلام-: الذهب بالذهب وزنًا بوزن". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حميد بن هانئ، عن عُلي، عن فضالة، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله غير أنه لم يقل: "بخيبر". حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا المقرئ، قال: ثنا حيوة، عن هانئ. . . . فذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث غير ما في الحديث الأول، في هذا أن رسول الله -عليه السلام- نزع الذهب فجعله على حدة، ثم قال: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن" ليُعَلِّم الناس كيف حكم الذهب بالذهب، فقد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- فصل الذهب؛ لأن صلاح المسلمين كان في ذلك، ففعل ما فيه صلاحهم لا لأن بيع الذهب قبل أن ينزع مع غيره في صفقة واحدة غير جائز، وهذا خلاف ما رَوَى مَنْ رَوَى أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تباع حتى تفصل". ش: هذا جواب عن حديث فضالة بن عبيد الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه؛ حاصله أن هذا حديث مضطرب قد روي على وجوه مختلفة، فرواه قوم وأراد بهم: إبراهيم البرلسي عن عَمرو بن عون، والربيع عن أسد،

وفهد عن ابن أبي شيبة، فإنهم رووه على ما يقتضى صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى من عدم جواز بيع الذهب بالذهب إذا كان مع أحدهما شيء غير الذهب، ورواه آخرون أي قوم آخرون وأراد بهم: يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، وربيع أيضًا عن أسد عن ابن لهيعة، وبكر بن إدريس عن المقرئ على غير ذلك، أي على غير ما رواه القوم الأولون، وَبَيَّنَ ذلك بإخراجه عن ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني، عن عُلي -بضم العين- بن رباح اللخمي، عن فضالة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سَرْح قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو هانئ الخولاني، أنه سمع عُلي بن رباح اللخمي يقول: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: "أتي رسول الله -عليه السلام- وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب -وهي من المغانم- تباع، فأمر رسول الله -عليه السلام- بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله -عليه السلام-: الذهب بالذهب وزنًا بوزن. الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن حميد بن هانئ، عن عُلي بن رباح، عن فضالة .. إلى آخره. الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، شيخ البخاري، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه العابد، عن أبي هانئ حميد بن هانئ، عن عُلي بن رباح، عن فضالة، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "ففي هذا الحديث" أراد به هذا الحديث الذي أخرجه من هذه الطرق المذكورة. "غير ما في الحديث الأول" وأراد به ما أخرجه في أول الكتاب، وبين ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1213 رقم 1591).

الغيريَّة بقوله: "في هذا أن رسول الله -عليه السلام- نزع الذهب فجعله على حده. . . ." إلى آخره وهو ظاهر. ص: وقد رواه آخرون على خلاف ذلك أيضًا، فحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا خالد بن أبي عمران، قال: حدثني حنش بن عبد الله الصنعاني: "أنه كان في البحر مع فضالة بن عبيد الأنصاري، فقال حنش: فاشتريت قلادة فيها تبر وياقوت وزبرجد فأتيت فضالة بن عبيد الأنصاري فذكرت له ذلك فقال: لا تأخذ التبر بالتبر إلا مثلًا بمثل؛ فإني كنت مع رسول الله -عليه السلام- بخيبر، فاشتريت قلادة بسبعة دنانير فيها تبر وجوهر، فسألت رسول الله -عليه السلام- عنها، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تأخذ التبر بالذهب إلا مثلًا بمثل". ففي هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- هو في التبر بالذهب مثلًا بمثل، ولم يذكر فساد البيع في القلادة المبيعة بذهب إذا كان فيها ذهب وغيره، فهذا خلاف الأحاديث الأول. ش: أي: وقد روى الحديث المذكور قوم آخرون، وأراد بهم رواة الحديث الذي أخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -. قوله: "على خلاف ذلك" أشار به إلى ما رواه فيما قبله من الطرق الثلاث، وبين هذا الخلاف بقوله: "ففي هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. ص: وقد رواه آخرون أيضًا على خلاف ذلك: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن وعمرو بن الحارث، أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهما، عن حنش أنه قال: "كنت مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وَوَرِق وجوهر، فأردت أن أشتريها، فسألت فضالة، قال: انزع ذهبها واجعله في الكفة، واجعل ذهبًا في الكفة الأخرى لا تأخذ إلا مثلا بمثل؛ فإنى سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلًا بمثل".

فهذا خلاف لما تقدم من الأحاديث؛ لأن فيه أمر فضالة بنزع الذهب وبيعه وحده، ولم يذكر ذلك عن النبي -عليه السلام-، والذي ذكره عن النبي -عليه السلام- هو نهيه عن بيع الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، فهذا ما لا اختلاف فيه، والأمر بالتفصيل من قول فضالة، فقد يجوز أن يكون أمر بذلك على أن البيع عنده لا يجوز فيها بالذهب حتى يفصل، وقد يجوز أن يكون أمر بذلك لإحاطة علمه أن تلك القلادة لا يوصل إلى علم ما فيها من الذهب ولا إلى مقداره إلا بعد تفصيله منها، فقد اضطرب هذا الحديث، فلم يوقف على ما أريد منه، فليس لأحد أن يحتج بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا احتج مخالفة عليه بالمعنى الآخر. ش: أي: وقد روى الحديث المذكور قوم آخرون، وأراد بهم: رواة الحديث الذي أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، كلاهما عن عامر بن يحيى المعافري، عن حنش. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن المعافري وعمرو بن الحارث وغيرهما، أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهم، عن حنش أنه قال: "كنا مع فضالة بن عبيد. . . ." إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. قوله: "على خلاف ذلك" أشار به إلى ما روي من الاختلاف المذكور فيما مضى في حديث فضالة، وبين هذا الخلاف أيضًا بقوله: فهذا خلاف لما تقدم من الأحاديث. . . . إلى آخره. قوله: "فطارت لي ولأصحابي" أي حصل لنا النصيب قلادة. مأخوذ من طير الإنسان وهو ما حصل له في علم الله مما قدر له. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1213 رقم 1591).

قوله: "واجعله في الكفة" قال عياض: الكفة للميزان -بالكسر- ولكل مستدبر وللثوب وللطرية -بالضم- ولكل مستطيل، وقد قيل بالوجهين فيهما جميعًا. ص: وقد قدمنا في هذا الباب كيف وجه النظر في ذلك، وأنه على ما ذهب إليه الذين جعلوا حكم الذهب المبيع مع غيره بالذهب لا على تقسيم الثمن على القيم، ولكن على أن الذهب مبيع بوزنه من الذهب الثمن وما بقي مبيع بما بقى من الثمن، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: قد ذكر وجه النظر فيما قبل، وهو قوله: "والدليل على ذلك أنا رأينا الذهب. . . ." إلى قوله: "فهذا هو ما يشهد لهذا القول من النظر". ص: وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرنى ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة السبائي، عن أبي تميم الجيشاني قال: اشترى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قلادة فيها تبر وزبرجد ولؤلؤ وياقوت بستمائة دينار، فقام عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حين طلع معاوية المنبر -أو حين صلي الظهر- فقال: ألا إن معاوية اشترى الربا وأكله، ألا وإنه في النار إلى حَلْقِه". فقد يجوز أن تكون تلك القلادة كان فيها من الذهب أكثر مما اشتريت به، فكان من عبادة ما كان لذلك، ويجوز أن تكون بيعت بنسيئة فإنه قد روي عن معاوية - رضي الله عنه - أنه لم يكن يرى بذلك بأسًا". ش: أورد هذا الحديث؛ لأنه كالإيراد على أهل المقالة الثانية، ليجيب عنه نصرة لهم. أما الحديث فإنه أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة السبائي، عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني. وهؤلاء كلهم مصريون ثقات غير أن ابن لهيعة فيه مقال. والسَّبائي: نسبة إلى سبأ، وقد مَرَّ ذكره عن قريب.

والجيْشَاني -بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- نسبة إلى جيشان بن عبدان بن حجر بن ذى رعين الحميري. وأما الجواب فهو قوله: فقد يجوز. . . . إلى آخره. وحاصله على وجهين: الأول: أنه إنما قال عبادة ما قال لاحتمال أن يكون الذهب في القلادة أكثر من الذهب الثمن، فإذا كان كذلك كان مما أُجمع على عدم جوازه. الثاني: يحتمل أن يكون معاوية قد كان اشتراها نسيئة؛ فإن معاوية قد كان يرى بجواز ذلك ويذهب إليه. وهذا هو الوجه الراجح على ما يذكره الآن. ص: وقد روي في ذلك وفي السبب الذي من أجله أنكر عبادة على معاوية في ذلك ما أنكر: ما حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث قال: "كنا في غزاة علينا معاوية، فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية رجلًا أن يبيعها الناس في أعطياتهم، قال: فسارع الناس فيها، فقام عبادة فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكى إليه، فقام معاوية خطيبًا فقال: ما بال رجال يحدثون عن رسول الله -عليه السلام- أحاديث يكذبون فيها عليه لم نسمعها؟! فقام عبادة - رضي الله عنه - فقال: والله لنحدثن عن رسول الله -عليه السلام- وإن كره معاوية، قال رسول الله -عليه السلام-: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ عينًا بعينٍ". حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: ثنا عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال: "قدم أناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة إلى العطاء، فقام عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - فقال: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح، إلا مثلًا بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى".

فدل ذلك أنما كان من إنكار عبادة على معاوية هو بيع الذهب أو القلادة التي فيها الفضة المبيعة بالفضة، ولا دلالة فيما روينا عنه على حكم ذلك إذا بيع بأكثر من وزن ذهبه أو فضته من الذهب أو الفضة. ش: أي قد روي في تجويز معاوية بيع الذهب والفضة نسيئة، وروي أيضًا في السبب الذي من أجله أنكر عبادة بن الصامت على معاوية بن أبي سفيان فيما يراه من ذلك. قوله: "ما حدثا" في محل الرفع؛ لأنه مسند إلى قوله: "وقد روي". وأخرجه من وجهين صحيحين: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام محمَّد بن إدريس الشافعي، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: "كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث: قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقالوا له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية - رضي الله عنه -، فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا أنية من فضة، فأمر معاوية رجلًا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إنى سمعت رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواءً بسواءٍ عينًا بعينٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبًا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله -عليه السلام- أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟! فقام عبادة فأعاد القصة، فقال: لنحدثن بما سمعنا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1210 رقم 1587).

من رسول الله -عليه السلام- وإن كره معاوية -أو قال: وإن رغم- ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء، قال حماد هذا أو نحوه". الثاني: عن المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة. وأخرج الطحاوي هذا الحديث في باب بيع الشعير بالحنطة متفاضلًا من طرق متعددة، واستوفينا الكلام فيه هناك. ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "اشتر السيف المحلى بالفضة". فهذا ابن عباس قد أجاز بيع السيف الذي حليته فضة بفضة. ش: ذكره شاهدًا لما يقوله أهل المقالة الثانية. وأخرجه بإسناد صحيح، عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لا بأس ببيع السيف المحلى بالدراهم". ص: وقد روي في مثل ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين اختلاف: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة وابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران: "أنه سأل القاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله عن اشتراء الثوب المنسوج بالذهب، فقالا: لا يصلح اشتراؤه بالذهب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يشتري ذهبًا بذهب أو فضة بذهب وفضة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 286 رقم 20197).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يباع السيف المفضض بالدراهم بأكثر مما فيه، فتكون الفضة بالفضة والسيف بالنصل". ثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم: "أنه قال في بيع السيف المحلى: إذا كانت الفضة التي فيه أقل من الثمن فلا بأس بذلك". حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عامر الشعبي، قال: "لا بأس ببيع السيف المحلي بالدراهم؛ لأن فيه حمائله وجفنه ونصله". ش: أي: وقد روي في جواز بيع السيف المحلي بفضة بثمن فضة عن جماعة من التابعين. وأخرج في ذلك عن القاسم بن محمَّد وسالم بن عبد الله ومجاهد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي. أما ما روي عن القاسم بن محمَّد وسالم فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حيوة بن شريح المصري وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن خالد بن أبي عمران. . . . إلى آخره. وذكر ابن لهيعة متابعة. وأما ما روي عن مجاهد فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن عثمان بن الأسود بن موسى المكي، عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع، عن سليمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد نحوه. وأما ما روي عن الحسن، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن مبارك بن فضالة البصري، عن الحسن البصري.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه": عن معمر وسفيان الثوري وحُيي بن عمر قال معمر: عن قتادة، عن الحسن البصري. وقال سفيان: عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي، وقال حُيي: عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن الشعبي: ثم اتفق الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا كلهم: "لا بأس بالسيف فيه الحلية والمنطقة والخاتم بأن يبتاعه بأكثر مما فيه أو بأقل ونسيئة". وأما ما روي عن إبراهيم النخعي فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن الإِمام محمَّد بن الحسن الشيباني، عن الإِمام القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر زياد بن كليب التميمي الكوفي، عن إبراهيم النخعي. وقال ابن حزم (¬1) روينا من طريق شعبة "سألت حماد بن أبي سليمان عن السيف المحلى يباع بالدراهم، فقال: لا بأس به". وروي هذا عن سليمان بن موسى ومكحول أيضًا. ومن طريق سعيد بن منصور: ثنا هشيم، أنا حصين -هو ابن عبد الرحمن- عن الشعبي فقال: "إن كانت الدراهم أكثر من الحلية فلا بأس به" وروينا مثله أيضًا عن الحسن وإبراهيم، وهو قول سفيان الثوري. وأما ما روي عن الشعبي فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن سليمان. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 497).

ص: كتاب الهبة والصدقة

ص: كتاب الهبة والصدقة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الهبة والصدقة، الهبة: مصدر وهب يهب، وأصل هبة: وهب حذفت الواو تبعًا لمستعمله وعوضت عنه الهاء، كما في: عدة ومقة أصلهما: وَعْد ووَمْقٌ، ومعناها اللغوي: تبرع مطلقًا، ويقال: هي العطية الخالية عن الأعواض والأغراض. وفي الشرع: هي تمليك عين بلا عوض. و"الصدقة": ما تصدقت به على الفقراء. قاله الجوهري. ص: حدثثا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة وهشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس أن رسول الله -عليه السلام- قال: "العائد في هبته كالعائد في قيئه". ش: إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق. وأبو عامر: هو عبد الملك بن عمرو والعقدي. وهشام هو الدستوائي. وأخرجه البخاري (¬1): عن مسلم بن إبراهيم، نا هشام الدستوائي وشعبة، قالا جميعًا: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب. . . . إلى آخره نحوه سواء. ومسلم (¬2): عن محمَّد بن مثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن مسلم عن أبان وهمام وشعبة، كلهم عن قتادة، عن سعيد بن المسيب. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 924 رقم 2478). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1241 رقم 1622). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 291 رقم 3538).

والنسائي (¬1): عن أبي موسى، عن عبد الرحمن، عن شعبة، عن قتادة به. وابن ماجه (¬2): عن ابن بشار وابن مثنى، عن غندر، عن شعبة، عن قتاده به. قوله: "العائد في هبته" أي الراجع إلى هبته كالراجع إلى قيئه، وكلمة "في" بمعنى "إلى" كما في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (¬3) وأصل هذا الباب أن يعدي بـ"إلى" تقول عاد إليه يعود عودًا وعودةً: أي رجع، ولما كان العائد إلى قيئه قد أبشع في فعله وتقذر حيث فعل فعلًا يستقذره كل من يراه شبه به العائد في هبته تنبيهًا على عظم هذا الفعل في بلوغه إلى منتهى البخل واللؤم، وعلى سوء هذا الصنيع وقبحه، وإنما أطلق العائد في قيئه ليعمَّ كل عائد من بني آدم وغيرهم، وقد جاء في رواية أخرى مقيدًا وهو: كالكلب يعود إلى قيئه" على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وهذا أبلغ في الاستقذار للمشاهد ذلك. وقد احتج به من لم يجوِّز الرجوع في الهبة، وذلك لأن القيء لما كان حرامًا كان العائد إليه كالواقع في الحرام، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الواهب ليس له أن يرجع فيما وهب، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان رسول الله -عليه السلام- قد مثل الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء، وكان رجوع الرجل في قيئه حرامًا عليه كان كذلك رجوعه في هبته. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: ليس للواهب أن يرجع فيما وهب إلا الذي ينحله الأب لابنه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 266 رقم 3696). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 797 رقم 2385). (¬3) سورة إبراهيم، آية: [9].

وعند مالك: له أن يرجع في الأجنبي الذي قصد منه الثواب ولم يشبه، وبه قال أحمد في رواية، وغير الأب من الأصول كالأب عند الشافعي في الأصح. وعند مالك: لا، سوى الأم، وعند أحمد: لا الأم أيضًا. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ومن وهب هبة صحيحة لم يجز له الرجوع فيها أصلًا مُذْ تلفظ بها، إلا الوالد والأم فيما أعطيا أو أحدهما لولدهما، ولهما الرجوع فيه أبدًا، الصغير والكبير سواء، وهو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: للواهب أن يرجع في هبته إذا كانت قائمة على حالها لم تستهلك ولم تزد في بدنها بعد أن يكون الموهوب له ليس بذي رحم محرم من الواهب، وبعد أن يكون لم يشبه منها ثوابًا، فإن كان أثابه منها ثوابًا وقَبِلَ ذلك الثواب منه، أو كان الموهوب له ذا رحم محرم من الواهب فليس للواهب أن يرجع فيها، فإن لم يكن الواهب ذا رحم محرم للموهوب له، ولكنها امرأة وهبت لزوجها، أو زوج وهب لمرأته فهما في ذلك كذي الرحم المحرم، وليس لواحد منهم أن يرجع فيما وهب لصاحبه. ش: أي خالف القوم المذكورين، وأراد بهم: سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وشريحًا القاضي والأسود بن يزيد والحسن البصري وعامرًا الشعبي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله-؛ فإنهم قالوا: للواهب من الأجنبي الرجوع عن هبته ما دامت قائمة ولم يعوض عنها. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وفضالة بن عبيد وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. قوله: "لم يثبه" من الإثابة وهو التعويض والمجازاة، يقال: أثابه يثيبه إثابة، والاسم: الثواب ويكون في الخير والشر، إلا أنه في الخير أخص وأكثر استعمالًا. وقال ابن حزم في "المحلى" (1): قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: من وهب لذي رحم محرمة أو ولده وأقبضه إياه أو وهب أحد الزوجين لصاحبه هبة وأقبضه إياها، فلا رجوع ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 127).

لأحد ممن ذكرنا فيما وهب، ومن وهب لأجنبي أو لمولى أو لذي رحم غير محرمة هبة وأقبضه إياها فللواهب أن يرجع فيما وهب متى شاء، وإن طالت المدة ما لم تزد الهبة في بدنها أو ما لم يخرجها الموهوب له عن ملكه، أو ما لم يمت الواهب أو الموهوب له، أو ما لم يُعَوِّض الموهوب له أو غيره عنه الواهب عوضًا يقبله الواهب، فأي هذه الأسباب كان، فلا رجوع للواهب فيما وهب، ولا يجوز الرجوع في الهبة إذا لم يكن شيء مما ذكرنا إلا بتسليم الموهوب ذلك أو بحضرة الحاكم، أحب الموهوب له أم كره، قال: فلو وهب آخر جارية فعلمها الموهوب له القرآن أو الكتابة والخَبْزُ فليس ذلك بمانع من رجوع الواهب فيها. وإن كان عليها دين فأداه الموهوب له عنها، أو كانت كافرة فأسلمت فلا رجوع فيها للواهب. وأما الصدقة فلا رجوع للمتصدق فيها لأجنبي كانت أو لغير أجنبي بخلاف الهبة. وقال مالك: لا رجوع لواهب ولا لمتصدق في هبته أصلًا لا لأجنبي ولا لذي رحم محرمة إلا في هبة الثواب فقط، وفيما وهب الرجل لولده أو ابنته الكبيرين أو الصغيرين ما لم يقل: إنه وهبها لولده لوجه الله تعالى، فإن قال هذا؛ فلا رجوع فيما وهب. فإن لم يقله فله الرجوع فيما وهب ما لم يداين الولد على تلك الهبة، أو ما لم يتزوج الابن أو الابنة عليها، أو ما لم يثب الابن أو الابنة أباهما على ذلك، فأي هذه الوجوه كان فقد بطل رجوع الأب في الهبة، وترجع الأم كذلك فيما وهبت لولدها الكبار كان أبوهم حيًّا أو لم يكن. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك "أن رسول الله -عليه السلام- جعل العائد في هبته كالعائد في قيئه، ولم يبين لنأمل مَنْ العائد في قيئه، فقد يجوز أن يكون أراد الرجل العائد في قيئه فيكون قد جعل العائد في هبته كالعائد فيما هو حرام عليه، فثبت بذلك ما قال أهل المقالة الأولى.

وقد يجوز أن يكون أراد الكلب العائد في قيئه، والكلب غير متعبد بتحريم ولا تحليل فيكون العائد في هبته عائدًا في قذر كالقذر الذي يعود فيه الكلب فلا يثبت بذلك منع الواهب من الرجوع في الهبة. فنظرنا: هل نجد من الآثار ما يدل على مراد رسول الله -عليه السلام- في الحديث الأول ما هو؟ فإذا فهد قد حدثنا، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ليس لنا مثل السَّوْء؛ الراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود فيه". فدل هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- إنما أراد بما قد ذكرناه في الحديث الأول تنزيه أمته عن أمثال الكلاب لا أنه أبطل أن يكون لهم الرجوع في هباتهم. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، وهذا جواب عن الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى من ظاهر حديث ابن عباس. تقرير ذلك أن يقال: إن النبي -عليه السلام- شبه العائد في هبته كالعائد في قيئه، ولكنه لم يبين العائد في قيئه من هو، لأنه أطلقه وهو في نفسه مجمل، ثم إنه يحتمل أن يكون المراد به الرجل العائد في قيئه، فعل هذا الاحتمال يثبت ما قاله أهل المقالة الأولى؛ لأنه حينئذ يكون التشبيه بالعائد فيما هو حرام عليه فيثبت بذلك منع الرجوع في الهبة. ويحتمل أن يكون المراد به الكلب العائد في قيئه أو نحوه من أمثاله فعلى هذا الاحتمال لا يثبت ما قاله أهل المقالة الأولى ولا يرد ما قاله أهل المقالة الثانية؛ وذلك لأنه حينئذ يكون التشبيه بالكلب العائد في قيئه، والكلب غير متعبد بالحلال

والحرام، فيكون العائد في هبته عائدًا في أمر قذر كالقذر الذي يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الرجوع في الهبة. فإذا ثبت هذان الاحتمالان رجعنا إلى الآثار هل نجد شيئًا منها يدل على تجريح أحد الاحتمالين؟ فوجدنا حديث ابن عباس قد صرح بأن المراد من العائد في قيئه هو الكلب العائد في قيئه، فصارت إحدى روايتي ابن عباس مفسرة للأخرى، فتعين حينئذ وجه الاحتمال الثاني وترجح، واندفع ما قاله أهل المقالة الأولى. هذا الذي ذكره الطحاوي، وقد يجاب عن ذلك بأن المراد منه التشبيه من حيث ظاهر القبح مروءة وخلقًا لا شرعًا، ألا ترى كيف قال: "كالكلب يقي ثم يعود فيه" وذا لا يوصف بالحرمة الشرعية، لكنه يوصف بالقبح الطبيعي، وكذا أجيب عن قوله -عليه السلام- في الحديث الآخر: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته. . . ." الحديث. أن المراد منه نفي الحل من حيث المروءة والخلق لا من حيث الحكم، لأن نفي الحل يحتمل ذلك، قال الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (¬1) قيل في بعض التأويلات: لا يحل لك من حيث المروءة والخلق أن تتزوج عليهن بعدما اخترن إياك والدار الآخرة على الدنيا وما فيها من الزينة، لا من حيث الحكم إذ كان يحل له التزوج بغيرهن. ثم إنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن عبد الله بن المبارك، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الرحمن بن المبارك، عن عبد الوارث، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [52]. (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 924 رقم 2479).

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن معلى بن أسد العمي البصري، شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم المخزومي، عن وهيب، عن عبد الله ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ص: وقد روي هذا الكلام أيضًا الذي روينا عن ابن عباس، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا عوف، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن خلاس بن عمرو، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "مثل الذي يعود في عطائه كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد في قيئه فأكله". ش: أشار بهذا الكلام إلى ما رواه عن ابن عباس يعني روى حديثه عن أبي هريرة أيضًا. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن البصري، عن أبي هريرة. وقيل: إن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن روح، عن عوف، عن خلاس بن عمرو الهجري البصري، عن أبي هريرة. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لم يسمع خلاس من أبي هريرة شيئًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1241 رقم 1622).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن جعفر، قال: نا عوف، عن خلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مثل الذي يعود في هبته كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد في قيئه فأكله". ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- مثل هذا الكلام في معنى غير هذا المعنى: حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله: "أن عبد الله بن عمر كان يحدث أن عمر - رضي الله عنه - تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك، فأراد أن يشتريه، فأتى النبي -عليه السلام- فاستأمره في ذلك، فقال له رسول الله -عليه السلام-: لا تعد في صدقتك". فلذلك كان ابن عمر لا يرى أن يبتاع مالًا جعله صدقة. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أبتاعه منه فظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك رسول الله -عليه السلام- فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم واحد، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه". حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه أبصر فرسًا تباع في السوق وكان تصدق بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتريه، فقال: رسول الله لا تشتره ولا شيئًا من نتاجه". فمنع رسول الله -عليه السلام- عمر أن يبتاع ما كان تصدق به أو شيئًا من نتاجه، وجعله إن فعل ذلك كالكلب يعود في قيئه، فلم يكن ذلك موجب حرمة ابتياع الصدقة على المتصدق بها، ولكن ترك ذلك أفضل، وكذلك ما ذكرنا مثل هذا إنما ذكرنا عن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 492 رقم 10386).

رسول الله -عليه السلام- في الرجوع في الهبة ليس على تحريم ذلك، ولكنه لأن تركه أفضل. ش: أي: قد روي عن رسول الله -عليه السلام- مثل قوله: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" أي معنى غير المعنى المذكور فيه، وهو المعنى الذي كان ورد في العود في الصدقة، وأورد هذا شاهدًا لما قاله في قوله -عليه السلام-: "العائد في هبته. . . ." الحديث. من أن ذلك لا يدل على منع الواهب من الرجوع في هبته وإنما ذلك تنزيه أمته عن أمثال الكلاب، وذلك أن منع رسول الله -عليه السلام- عمر بن الخطاب عن ابتياع ما كان تصدق به أو شيئًا من نتاجه لم يكن دالًا على حرمه ذلك، ولكن ترك ذلك كان أفضل، فكذلك ما روي عنه في الهبة. ثم إنه أخرج ما روي عن عمر - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح، وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الإيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر وعبد بن حميد -واللفظ لعبد- قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: "أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها، فسأل النبي -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام- لا تعد في صدقتك يا عمر". وأخرجه النسائي (¬2): عن محمَّد بن عبد الله بن المبارك، عن حجين بن مثنى، عن ليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1240 رقم 1621). (¬2) "المجتبى" (5/ 109 رقم 2617).

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). ومسلم (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، نحوه. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه نحوه. الثالث: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام محمَّد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي (¬4). ويستفاد منه أحكام: الأول: أن من حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل فيه بعد ذلك ما يفعل في سائر أمواله: ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لم ينكر على بائعه بيعه، وأنكر على عمر شرائه؟ ولهذا قال ابن عمر: "إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به"، وقال سعيد بن المسيب: إذا بلغ به رأس مغزاه فهو له. قال أبو عمر: اختلف [الفقهاء] (¬5) في هذا المعنى، فقال مالك: إذا أعطي فرسًا في سبيل الله فقيل: هو لك في سبيل الله، فله أن يبيعه، وإذا قيل: هو في سبيل الله ركبه ورده. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الفرس المحمول عليها في سبيل الله هي لمن يحمل عليها تمليك. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 282 رقم 623). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1239 رقم 1620). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 799 رقم 2390). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 151 رقم 7421). (¬5) في "الأصل، ك": "في الفقهاء"، ولعل في زائدة، وفي "التمهيد" (3/ 258): وأما اختلاف الفقهاء في هذا المعنى.

قالوا: ولو قال له: إذا بلغت رأس مغزاك فهو لك؛ كان تمليكًا على مخاطرة فلم يجز. وقال الليث: من أعطي فرسًا في سبيل الله لم يبعه حتى يبلغ مغزاه، ثم يصنع به ما شاء، إلا أن يكون حبسًا فلا يباع. الثاني: أن كل من يجوز تصرفه في ماله وبيعه وشرائه فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن وكثيره، كان مما يتغابن الناس به أو لم يكن إذا كان ذلك ماله ولم يكن وكيلًا ولا وصيًّا؛ لقوله: "ولو أعطاكه بدرهم". الثالث: اختلف الفقهاء في كراهة شراء الرجل لصدقة الفرض والتطوع، فممن كره ذلك: مالك والشافعي وابن حَيّ، ولم يروا لأحد أن يشتري صدقته، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخوا العقد ولم يردوا البيع، ورأوا له التنزه عنها، وكذلك قولهم في شراء الإنسان لما يخرجه في كفارة اليمين مثل الصدقة سواء. قال أبو عمر: إنما كرهوا بيعها لهذا الحديث ولم يفسخوه؛ لأنه راجع إليه بغير ذلك المعنى. وقال أبو حنيفة والأوزاعي: لا بأس بمن أخرج زكاته وكفارة يمينه أن يشتريه بثمن يدفعه. وقال أبو جعفر الطحاوي: المصير إلى حديث عمر - رضي الله عنه - في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته. وقال قتادة: البيع في ذلك فاسد مردود؛ لأني لا أعلم الفيء إلا حرامًا، وكل العلماء يقولون: إن رجعت إليه بالميراث جاز، والله أعلم. ص: وقد حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا يزيد بن زريع، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد لولده".

فقال قائل: فقد دل هذا الحديث على تحريم الرجوع في الهبة من الرجل لغير ولده. قيل له: ما دل ذلك على شيء مما ذكرت، فقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- وصف ذلك الرجوع بأنه لا يحل لتغليظه إياه؛ لكراهية أن يكون أحدٌ من أمته له مثل السوء، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" فلم يكن ذلك على معنى أنها تحرم عليه كما تحرم على الأغنياء، ولكنها لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة والزمانة، فكذلك ما ذكرنا من قول رسول الله -عليه السلام- أيضًا: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" إنما هو على أنه لا يحل له ذلك كما تحل له الأشياء التي قد أحلها الله -عز وجل- لعباده، ولم يجعل لمن فعل مثلًا كمثل الذي جعله رسول الله -عليه السلام- للعائد في هبته، وقد دخل في ذلك العود فيها بالرجوع والابتياع، ثم استثنى من ذلك ما وهب الوالد لولده. فذلك عندنا -والله أعلم- على إباحته للوالد أن يأخذ ما وهب لابنه في وقت حاجته إلى ذلك وفقره إليه؛ لأن ما يجب للوالد من ذلك ليس بفعل يفعله فيكون ذلك رجوعًا منه، يكون مَثَلُه فيه كمثل الكلب الراجع في قيئه، ولكنه شيء أوجبه الله لفقره، فلم يضيق ذلك عنه كما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الحديث. حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن [عمر] (¬1)، عن عبد الكريم بن مالك، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا أتى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إنى أعطيت أمي حديقة، وإنها ماتت ولم تترك وارثًا غيري، فقال رسول الله -عليه السلام-: وجبت صدقتك ورجعت إليك حديقتك". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد أباح للمتصدق صدقته لما رجعت إليه بالميراث، ومنع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ابتياع صدقته، فثبت بهذين الحديثين إباحة ¬

_ (¬1) في "الأصل": "عَمرو"، وهو تحريف، والصواب: "عمر" كما في مصادر ترجمته، و"شرح معاني الآثار"، وجاء في الشرح على الصواب.

الصدقة الراجعة إلى المتصدق بفعل الله وكراهيته الصدقة الراجعة إليه بفعل نفسه، فكذلك وجوب النفقة للأب في مال الابن لحاجته وفقره، وجبت له بإيجاب أبيه إياها، فأباح له النبي -عليه السلام- بذلك ارتجاع هبته وإنفاقها على نفسه، وجعل ذلك كما رجع إليه بالميراث لا كما رجع إليه بالابتياع. ش: أورد حديث عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - ليجيب عنه؛ لأنه من أقوى حجج أهل المقالة الأولى. وأخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله بن عمر ابن ميسرة القواريري البصري شيخ الشيخين وأبي داود، عن يزيد بن زريع، روي له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم، روي له الجماعة، عن عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، ثقة كبير، روى له الأربعة، عن طاوس بن كيسان، روى له الجماعة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يزيد -يعني ابن زريع- قال: ثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل: الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل، فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: أنا عبد الرحمن بن محمَّد بن سلام، نا إسحاق الأزرق، أنا الحسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لأحد يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد يعطى ولده، ومثل الذي يعطي العطية فيرجع فيها كالكلب أكل حتى إذا شبع قاء، ثم عاد فرجع في قيئه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 291 رقم 3539). (¬2) "المجتبى" (6/ 267 رقم 3703).

قوله: "فقال قائل" أراد به الشافعي؛ فإنه قال: قد دل هذا الحديث على تحريم الرجوع في الهبة من الرجل لغير ولده. وبه قال أحمد. وقال النووي في "الروضة": وأما الأم والأجداد والجدات من جهة الأب والأم فالمذهب أنهم كالأب، وفي قولٍ: لا رجوع لهم. وقيل: ترجع الأم، وفي غيرها قولان، وقيل: يرجع أباء الأب وفي غيرهم قولان، ولا رجوع لغير الأصول كالإخوة والأعمام وغيرهم من الأقارب قطعًا، وسواء في ثبوت الرجوع للوالد كان متفقين في الدين أم لا، ولو وهب لعبد ولده رجع، ولو وهب لمكاتب ولده فلا، وفي حاوي الحنابلة: لا يرجع الواهب إن وهب إلا الأب وفي الأم وجهان، وعنه: لا رجوع للأب، قال: وعنه إن تعلق به في عينه بأن يفلس الولد أو تزوج، وإلا يرجع. قوله: "قيل له" أي لهذا القائل، وهذا جواب عما قاله الشافعي، بيانه أن يقال: لا نسلم أن يدل هذا الحديث على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون مراد النبي -عليه السلام- من قوله: "لا يحل لواهب أن يرجع" تعليمًا منه إياه؛ لكراهته أن يكون لأحد من أمته مثل السوء، وهو أنه قد شبه الراجع في هبته في حديث آخر بالكلب الذي يقيء، ثم يعود في قيئه، والدليل على صحة هذا التأويل قوله -عليه السلام- في حديث آخر: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" وقد أخرجه في باب الزكاة مسندًا، فإنه ليس معناه أن الصدقة تحرم على ذي مرة أي قوة، كما تحرم على الأغنياء، وإنما معناه: لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الضعف والزمانة، والعاجزين عن الكسب، فصار ذلك من باب التغليظ والتهديد، فكذلك قوله -عليه السلام- في هذا الحديث إنما هو على معنى: لا يحل لواهب أن يرجع كما تحل له الأشياء التي قد أحلها الله -عز وجل- لعباده، ولم يجعل لمن فعلها مثلًا سوءًا كمن جعل له مثلًا سوءًا لمن فعل ذلك من العائدين في هباتهم، فافهم.

قوله: "وقد دخل في ذلك العود فيها بالرجوع والابتياع" أراد أن ظاهر قوله -عليه السلام- "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" مقابل بطريق العموم للعود في الهبة مطلقًا، سواء كان برجوعه عنها أو بشرائها من الموهوب له، فإنه ينطبق عليه أنه عائد فيها. وقصد بهذا الكلام الرد والاعتراض على الشافعي حيث فرق في العود في الهبة بين الرجوع والابتياع؛ لأنه لم يَرَهُ كالعود إذا كان بطريق الرجوع، ورأى ذلك إذا كان بطريق الشراء وإن كان قد كرهه، والحال أن النص لم يفرق بين الأمرين. قوله: "ثم استثنى من ذلك. . . ." إلى آخره إشارة إلى بيان معنى قوله: إلا الوالد لولده، وبيان تأويله أي قد استثنى رسول الله -عليه السلام- من قوله: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" ما وهبه لولده، ووجهه أنه يباح له أن يأخذ ما وهب لابنه في وقت احتياجه إليه وفقره، لأن الأب إذا رجع عن هبته التي وهبها لولده وقت ضرورته وحاجته لا يوصف بأنه راجع، مثله فيه كمثل الكلب الراجع في قيئه بل إنما ذلك سائغ له حلال؛ لأجل فقره واحتياجه، فَعُلِمَ من ذلك أن إخراج الوالد للعود فيما وهب لابنه، كان للتنبيه على أنه لم يكن داخلًا في صدر الكلام بالكلية. والشافعي ومن معه تعلقوا بظاهر الاستثناء، وأثبتوا الرجوع له لا من الوجه الذي ذكرناه، على أنهم تركوا العمل بظاهر الحديث؛ فإن الحديث لا ينطوي إلا على ذكر الوالد، وهم قد جعلوا الأم والأجداد والجدات من قبل الأب والأم كلهم كالوالد وهو خلاف ظاهر الحديث. فإن قيل: ذكر الوالد يتناول الجدّ، كما في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (¬1) فجعل الله تعالى الجد والجدة أبوين والأم أيضًا وأنه يقع على الجنس. قلت: نعم ذلك كما ذكرت ولكن ليس على الحقيقة وإنما هو على المجاز وكلامنا في الاستدلال بحقائق الألفاظ؛ فافهم. قوله: "كما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الحديث. . . ." إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: [27].

ذكره تأييدًا لقوله: "لأن ما يجب للوالد من ذلك. . . ." إلى آخره. وتنبيهًا على الفرق بين الصدقة الراجعة إلى المتصدق بفعل الله والراجعة إليه بفعل نفسه. بيان ذلك: أن قوله -عليه السلام-: "وجبت صدقتك ورجعت إليك حديقتك" في الحديث الذي أخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، يدل على أنه -عليه السلام- قد أباح للمتصدق صدقته لما رجعت إليه بالميراث، ومنع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ابتياع صدقته، حيث قال له: "لا تعد في صدقتك" وقد مَرَّ الحديث عن قريب في هذا الباب، فثبت بحديث عمرو بن شعيب إباحة الصدقة الراجعة إلى المتصدق بفعل الله تعالى؛ لأنه بطريق الميراث، وليس فيه مباشرة من العبد، وثبت بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كراهية الصدقة، الراجعة إليه بفعل نفسه، لأنه مباشر في الابتياع، وكذلك وجوب النفقة للأب من مال الابن إنما هو لأجل الحاجة والفقر والضرورة وجبت له بإيجاب الله إياها، فلذلك أباح له النبي -عليه السلام- الارتجاع في هبته وإيقافها على نفسه، وجعل حكم ذلك كحكم الميراث لا حكم ما رجع إليه بطريق الابتياع والشراء، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: فقد خص النبي -عليه السلام- في هذا الحديث الوالد الواهب دون سائر الواهبين، أفيكون حكم الولد فيما وهب لأبيه خلاف حكم الوالد فيما وهب لولده؟ قيل له: بل حكمهما في هذا سواء، وذكر رسول الله -عليه السلام- أحدهما على المعنى الذي ذكرنا يجزئ من ذكره إياهما ومن ذكر غيرهما ممن حكمه في هذا مثل حكمهما، وقد قال الله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (¬1) فحرم هؤلاء جميعًا بالأنساب، ثم قال: ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [23].

{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1) ولم يذكر في التحريم بالرضاع غير هاتين، فكان ذكره ذلك دليلًا على أن سائر من حرم بالنسب في حكم الرضاع سواء، وأغناه ذكر هاتين بالتحريم [بالرضاع عن ذكر من سواهما في ذلك إذْ كان قد جمع بينهن في التحريم] (¬2) بالأنساب فجعل حكمهن حكمًا واحدًا، فدل تحريمه بعضهن أيضًا بالرضاع أن حكمهن في ذلك حكم واحد، فكذلك رسول الله -عليه السلام- لما قال: "لا يحل لأحد أن يرجع في هبته" فعم بذلك الناس جميعًا، ثم قال: إلا الوالد لولده، على المعنى الذي ذكرنا دل ذلك على أن من سوى الوالد من الواهبين في رجوع الهبات إليهم برد الله -عز وجل- إياها كذلك، وأغناه ذكر بعضهم عن ذكر سائرهم. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن النبي -عليه السلام- اقتصر في الحديث المذكور على الوالد الواهب لولده، فهل هو تنصيص عليه في اختصاص الحكم المذكور له أم ليس كذلك، بأن يكون حكم الولد الواهب لأبيه خلاف حكم الوالد الواهب لولده؟ وتقرير الجواب أن يقال: بل حكمها سواء، وإنما تخصيصه -عليه السلام- الوالد الواهب بالذكر من باب الاكتفاء، وهو أن ذكره هذا على المعنى الذي ذكره يغني عن ذكر الاثنين وعن ذكر غيرهما ممن كان حكمهم في هذا مثل حكمهما؛ وذلك لأن الحكم إذا كان معلولًا بعلة في حق أحد فمتى وجدت تلك العلة في غيره يكون ذلك الحكم جاريًا فيه أيضًا؛ لشمول العلة، وشمول العلة يستلزم شمول المعلول، ثم نَظَّر لذلك بقوله: وقد قال الله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) الآية، فالله تعالى حرم هؤلاء بالأنساب بالتنصيص عليهم، ثم ذكر الأمهات من الرضاع والأخوات من الرضاع حيث قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) فنص على هذين الصنفين مع أن حكم غيرهما في ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [23]. (¬2) سقط من "الأصل، ك"، ولعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

التحريم بالرضاع كحكم هذين الصنفين، ولكنه اكتفى بذكرهما عن ذكر سائر من حرم بالرضاع ممن كان كمن حرم بالنسب، وكذلك قوله -عليه السلام-: "لا يحل لأحد أن يرجع" يشمل سائر الناس؛ لأن النكرة في خبر النفي تعم، ثم قال: "إلا الوالد لولده" على المعنى الذي ذكره، فدل ذلك على أن من سوى الوالد من الواهبين في رجوع الهبات إليهم برد الله -عز وجل- إياها كذلك؛ لشمول العلة، وقد قلنا: إن شمول العلة يستلزم شمول المعلول، وتلك العلة هي المعنى الذي ذكره من قوله: "فذلك عندنا والله أعلم على إباحته للوالد أن يأخذ ما وهب لابنه في وقت حاجته إلى ذلك وفقره إليه. . . ." إلى آخره. ص: فلم يكن في شيء من هذه الآثار ما يدلنا على أن للواهب أن يرجع في هبته بنقضه إياها حتى يأخذها من الموهوب له ويردها إلى ملكه المتقدم الذي أخرجها منه بالهبة، فنظرنا هل نجد فيما روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك شيء؛ فإذا إبراهيم بن مرزوق حدثنا، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا حنظلة، عن سالم قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب منها بما يرضي". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المزني، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته [يرجع] (¬1) فيها إن لم يرضى منها. فهذا عمر - رضي الله عنه - قد فَرَّق بين الهبات والصدقات، فجعل الصدقات لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين: فضرب منها صلة للأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات ومنع الواهب من الرجوع فيها. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وضرب منها بخلاف ذلك، فجعل للواهب أن يرجع فيها ما لم يرض منه. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "من وهب هبة لذي رحم جازت، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها". ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي ذكرها في هذا الباب من أوله إلى هاهنا، وأشار بذلك أيضًا إلى بيان حجج لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه؛ لأنه لم يذكر لهم إلى الآن دليلًا من الآثار، وإنما ذكر عنهم ما أجابوا عن أحاديث أهل المقالة الأولى، وما أوَّلوه في ذلك. وأخرج لهم في ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق وكيع، عن حنظلة -هو ابن أبي سفيان الجمحي- عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "الرجل أحق بهبته ما لم يرضى منها". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان سعيد بن طريف المزني، عن مروان بن عبد الحكم. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن حجاج بن إبراهيم الأزرق، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 129). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 754 رقم 1440).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها". قوله: "فهذا عمر - رضي الله عنه - قد فرق. . . ." إلى آخره. أشار بهذا إلى أن ما روي عن عمر بن الخطاب من هذا الحكم المفصل؛ هو عين مذهب أهل المقال الثانية؛ فإن عندهم: لا رجوع في الصدقات، ولم يخالفهم في هذا أحد، وأما الهبات فإنها على ضربين. أحدهما: أن تكون لذوي الأرحام؛ فلا رجوع فيها. والآخر: أن تكون للأجانب، ففيه الرجوع ما لم يعوض .. والله أعلم. قوله: "حتى يثاب منها" أي حتى يعوَّض من هبته، والثواب هو العوض، ومنه ثواب الحسنات، وبهذا الفرق المروي عن عمر - رضي الله عنه - يرد على ابن حزم في قوله: الحكم في العائد في صدقته والعائد في هبته سواء والمفرق بينهما مخطئ. ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن جابر الجعفي، قال: سمعت القاسم بن عبد الرحمن يحدث، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن علي - رضي الله عنه - قال: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها". فهذا علي - رضي الله عنه - قد جعل للواهب الرجوع فيه هبته ما لم يثب منها، وذلك عندنا على الواهب اللي جعل له عمر - رضي الله عنه - الرجوع في هبته على ما ذكرنا في الحديث الذي روينا عنه قبل هذا، حتى لا يتضاد قولهما في ذلك. وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن جابر، عن القاسم. . . . فذكر بإسناده مثله على ما روينا عن سليمان. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21700).

ش: أخرج هذا عن علي - رضي الله عنه - من طريقين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة بن الحجاج، عن جابر بن زيد الجعفي، فيه مقال، كذبه أبو حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبزى، مختلف في صحبته، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن جابر عن القاسم، عن ابن أبزى، عن علي - رضي الله عنه - قال: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن جابر الجعفي. . . . إلى آخره. ص: وقد روي عن فضالة بن عبيد نحوٌ من هذا: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا أبو صالح عبد الله ابن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله ابن عامر اليحصبي قال: "كنت عند فضالة بن عبيد، فأتاه رجلان يختصمان إليه، فقال أحدهما: إنى وهبت لهذا بَازيًا، على أن يثيبني فلم يفعل، فقال الآخر: وهب لي ولم يذكر شيئًا، فقال له فضالة: أردد إليه هبته، فإنما يرجع في الهبة النساء وسُقَّاط الرجال". حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر اليحصبي أنه قال: "كنت عند فضالة بن عبيد إذا جاءه رجلان يختصمان في بازٍ، فقال أحدهما: وهبت له بازيًا، وأنا أرجو أن يثيبني منه، وقال الآخر: نعم قد وهب لي بازيًا، وما سألته وما تعرضت له، فقال فضالة: أردد إليه هبته، فإنما يرجع في الهبات النساء وشرار الأقوام". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21703).

ش: أي قد روي عن فضالة الصحابي نظير ما روي عن عمر وعَلي - رضي الله عنهم - مما يدل على جواز الرجوع في الهبة إذا كانت لأجنبي ولم يعوض فيها، ولكن يدل على كراهيته مع ذلك؛ لأن قوله: "فإنما يرجع في الهبة النساء وسُقَّاط الرجال" يدل على أن هذا صنيع غير محبوب لا يفعله أصحاب المروءات ولا يصدر إلا عن اللئام. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي زرعة الدمشقي حافظ الشام، وشيخ الطبراني وأبي داود، عن عبد الله بن صالح، كاتب الليث وشيخ البخاري، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي -قاضي الأندلس، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي .. إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية ابن صالح .. إلى آخره نحوه سواء. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح .. إلى آخره. قوله: "وسُقَّاط الرجال" بضم السين وتشديد القاف، أي أراذل الناس وأشرارهم، وقال الجوهري: الساقط والساقطة اللئيم في صفته ونعته، وقوم سقطى وسُقَّاط. فإن قلت: قال ابن حزم (¬2): خبر فضالة ضعيف، لأنه عن معاوية بن صالح وليس بالقوى وهو حجة عليهم؛ لأنه لم يشترط ذا رحم من غيره ولا أحد الزوجين للآخر، وظاهره إبطال هبة الثواب، فعلى كل حال هو حجة عليهم، لأنهم قد خالفوه. قلت: معاوية بن صالح وثقه العجلي والنسائي وأبو زرعة وأحمد وابن معين، وروى له مسلم، واحتجت به الأربعة، ولا نسلم أنه حجة عليهم؛ لأنهم يحتجون ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21701). (¬2) "المحلى" (9/ 133).

به في جواز الرجوع في الهبة، وظاهره يدل على ذلك، وأما اشتراط الأجنبي في الرجوع فحجة أخرى على أن الرجلين اللذين اختصما إلى فضالة كانا أجنبيين، وكذلك عدم جواز رجوع أحد الزوجين فيما وهبه للآخر فبحجة أخرى على ما سيجيء إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي عن أبي الدرداء في ذلك أيضًا، ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي الدرداء قال: "المواهب ثلاثة: رجل وهب من غير أن يستوهب فهي كسبيل الصدقة فليس له أن يرجع في صدقته، ورجل استوهب فوهب فله الثواب، فإن قبل على موهبته ثوابًا فليس له إلا ذلك وله أن يرجع في هبته ما لم يثب، ورجل وهب واشترط الثواب فهو دين على صاحبه في حياته وبعد موته". فهذا أبو الدرداء قد جعل ما كان من الهبات مخرجه مخرج الصدقات في حكم الصدقات، ومنع الواهب من الرجوع في صدقته، وجعل ما كان منها بغير هذا الوجه ما لم يُشترط ثوابٌ مما يرجع فيه ما لم يثب الواهب عليه، وجعل ما اشتراط فيه العوض في حكم البيع فجعل العوض لواهبه واجبًا على الموهوب له في حياته وبعد وفاته، فهكذا حكم الهبات عندنا. ش: أي قد روي عن أبي الدرداء عويمر بن مالك - رضي الله عنه - في حكم الهبة على التفصيل ما حدثنا فهد بن سليمان، عن أبي صالح عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد المقرائي الحمصي .. إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. قوله: "المواهب" جمع موهبة بمعنى الهبة كالمكارم جمع مكرمة. قوله: "من غير أن يُستوهب" على صيغة المجهول، أي من غير أن يطلب منه الهبة. قوله: "ورجل اسْتُوهب" على صيغة المجهول أيضًا أي طلبت منه الهبة.

قوله: "ما لم يثب" أي ما لم يعوض. قوله: "فهكذا حكم الهبات عندنا" يعني على التفصيل المذكور، لكن القسم الأول لا شيء على مذهب الحنفية؛ فإن عندهم يرجع في هبته للأجنبي سواء استوهب أم لا، اللهم إلا إذا كان الطحاوي قد ذهب في ذلك إلى أن الرجل إذا وهب من غير أن يستوهب فليس له الرجوع كما في الصدقة، فتأمل ذلك فإنه موضع النظر. ثم قد رأيت أنه أخرج في ذلك عن غير عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وفضالة بن عبيد وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -. وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أيضًا. أخرجه ابن حزم (¬1): من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: "أول من رد الهبة عثمان بن عفان، وأول من سأل البينة على أن غريمه مات ودينه عليه عثمان - رضي الله عنه -". وروي أيضًا عن جماعة من التابعين منهم: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، أخرج عنه عبد الله بن وهب (¬2)، عن عمر بن قيس، عن عدي بن عدي الكندي: "كتب إليّ عمر بن عبد العزيز: من وهب هبة فهو بالخيار حتى يثاب منها ما يرضى، فإن نمت عند من وهبت له فليس لمن وهبها إلا هي بعينها ليس له من النماء شيء". ومنهم: شريح القاضي، أخرج عنه سعيد بن منصور (¬3): ثنا هشيم، أنا منصور ويونس وابن عون، كلهم عن ابن سيرين، عن شريح قال: "من أعطى في صلة أو قرابة أو معروف أجزنا عطيته، والجانب المستغزر يثاب على هبته أو ترد عليه". ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 129). (¬2) وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (9/ 129). (¬3) وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (9/ 129 - 130).

ومنهم سعيد بن المسيب، أخرج عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يحيى بن يمان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: "من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثب". ومنهم إبراهيم النخعي: أخرج عنه سعيد بن منصور (¬2): أنا هشيم، أنا مغيرة، عن إبراهيم قال: "من وهب هبة لذي رحم فليس له أن يرجع، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بهبته؛ فإن أثيب منها قليل أو كثير؛ فليس له أن يرجع في هبته". فإن قيل: هل في هذا الباب حديث مرفوع؟ قلت: نعم، روي في ذلك عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وسمرة - رضي الله عنهم -. أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا سليمان بن داود المهري، أنا أسامة بن زيد، أن عمرو بن شعيب حدثه، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "مثل الذي استرد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب، فليتوقف فليعرف ما استرد، ثم ليدفع إليه ما وهب". وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجنع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها". وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي (¬5): من حديث حنظلة بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21708). (¬2) وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (9/ 130). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 291 رقم 3540). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21704). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 180 رقم 11802).

أبي سفيان، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها". وأما حديث سمرة: فكذلك أخرجه البيهقي (¬1): من حديث ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها". فإن قيل: كل هذه الأحاديث معلولة: أما حديث عبد الله بن عمرو: فلأن خبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو صحته منقطعة. وأما حديث أبي هريرة: فلأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف، قاله ابن حزم، وقال أيضًا: عمرو بن دينار ليس له سماع من أبي هريرة ولا أدركه بعقله أصلًا. وأما حديث عبد الله بن عمر: فقد قال البيهقي (¬2): هكذا رواه أحمد بن أبي غرزة وعلي بن سهل بن المغيرة، عن عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، وهو وهم، والصواب ابن وهب سمعت حنظلة، يقول: سمعت سالمًا يقول، عن أبيه، عن عمر قال: "من وهب هبة لوجه الله فذلك له، ومن وهب هبة يريد ثوابها فإنه يرجع فيها إن لم يرض منها". وأما حديث سمرة: فإن الحسن لم يسمع منه إلا ثلاثة أحاديث وهذا ليس منها. قلت: عمرو بن شعيب ثقة لا مراء فيه وروايته عن أبيه ليست مرسلة ولا منقطعة؛ لأنها إما وجادة أو بعضها سماع وبعضها وجادة [وسماعه] (¬3) من أبيه شعيب صحيح. وأما سماع شعيب عن عبد الله بن عمرو فلا يشك فيه، قال البخاري وأبو داود وغير واحد: إنه سمع من جده عبد الله بن عمرو. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 181 رقم 11806). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 181 رقم 11803). (¬3) تكررت في "الأصل".

وأما إبراهيم بن إسماعيل فإن البخاري استشهد به، وابن ماجه احتج به. وأما عمرو بن دينار فقد ذكر عبد الغني والحافظ المزي وغيرهما: أنه سمع من أبي هريرة. وأما قول البيهقي: "هذا وهم" فليس بصواب؛ لأن المرفوع رواته ثقات. كذا قال عبد الحق في "الأحكام" وصححه ابن حزم وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (¬1) عن إسحاق بن محمَّد، عن ابن أبي غرزة، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا وقد توبع رواته عليه. أخرجه الدارقطني (¬2): عن إسماعيل الصفار، عن علي بن سهل، عن عبيد الله ابن موسى، عن حنظلة. فلا حمل إذا على شيخ الحاكم ولا نسلم للبيهقي أنه وهم، بل يحمل على أن لعبيد الله فيه إسنادين. وأما الحسن البصري فإنه سمع عن سمرة أحاديث كثيرة قاله البخاري واحتج بالحسن عن سمرة. وحديثه هذا أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬3) وقال: صحيح على شرط البخاري. ص: فأما ما ذكرنا من انقطاع رجوع الواهب في هبته بموت الموهوب له، أو باستهلاك الهبة؛ فلما روي عن عمر أيضًا في ذلك: حدثنا صالح، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى، عن الحجاج، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر مثله، يعني مثل حديثه الذي ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وزاد: "ويستهلكها مستهلك أو يموت أحدهما" فجعل عمر - رضي الله عنه - استهلاك الهبة يمنع واهبها من الرجوع فيها، وجعل أيضًا موت أحدهما يقطع ما للواهب فيها من الرجوع أيضًا. فكذلك نقول. ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (2/ 60 رقم 2323). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 43 رقم 179). (¬3) "المستدرك على الصحيحين" (2/ 60 رقم 2324).

ش: أشار بهذا إلى إقامة الدليل على انقطاع حق الرجوع في الهبة بموت الموهوب له وباستهلاكه الهبة، وهو ما أخرجه عن صالح بن عبد الرحمن، عن حجاج بن إبراهيم الأزرق، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الحجاج ابن أرطاة النخعي، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهؤلاء كلهم ثقات غير أن الحجاج ابن أرطاة تكلموا فيه، ولكنه لم يخرج عن حد الاحتجاج به، فإن الأربعة احتجوا به، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس. وقد أخرجه الطحاوي فيما مضى عن قريب بهذا الإسناد ولكن هناك عن يحيى بن زكرياء، عن الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود. وهاهنا عن يحيى، عن الحجاج، عن الحكم، عن إبراهيم، وزاد في هذه الرواية مسألة استهلاك الهبة وموت الموهوب له. وقد أخرج عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: "كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يعتصر الرجل من ولده ما أعطاه ما لم يمت أو تستهلك أو يقع فيه دين". ص: وقد روي عن شريح - رضي الله عنه - في الهبة نظير ما قد روي عن عمر - رضي الله عنه -: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: سمعت محمدًا يحدث، أن شرحًا قال: "من أعطى في قرابة أو معروف أو صلة فعطيته جائزة والجانب المتسغْزِر يثاب في هبته أو ترد عليه". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن شريح مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، شيخ أبي داود وابن ماجه، عن جرير بن حازم، عن محمَّد بن سيرين، عن شريح. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 129 رقم 16622).

وأخرجه سعيد بن منصور، عن هشيم، عن منصور ويونس وابن عون، ثلاثتهم عن ابن سيرين، عن شريح، نحوه. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، عن شريح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن أبي زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن شريح قال: "من أعطى في صلة أو قرابة أو معروف أو حق؛ فعطيته جائزة، والجانب المستغْزِر يثاب من هبته، أو ترد عليه". قوله: "فعطيته جائزة" أي: نافذة، والمعنى أنها جازت ونفذت ولم يبق فيها رجوع. قوله: "والجانب" أي: الغريب، يقال: جَنَبَ فلان في بني فلانٌ يَجْنُبُ جَنابة فهو جَانِب، إذا نزل فيهم غريبًا، أي أن الغريب الطالب إذا أهدى إليك شيئًا ليطلب أكثر منه في مقابلة هديته يثاب أو ترد عليه. ومعنى "المستغْزِر" الذي يطلب أكثر مما أعطي وهو مستفعل من الغَزَارة وهي الكثرة قد غَزَر الشيء بالضم يَغْزِر فهو غزيرٌ ومَغْزُور، وقد غَزَرت الناقة إذا كثر لبنها، والاسم: الغَزْر مثال الضَّرْب. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وأما هبة كل واحد من الزوجين لصاحبه: فإن أبا بكرة حدثنا، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمَّد: "أن امرأة وهبت لزوجها هبة ثم رجعت فيها، فاختصما إلى شريح، فقال للزوج: شاهداك أنهما رأياها أنها وهبت لك من غير كره ولا هوان وإلا فبينتها لقد وهبت لك عن كره وهوان". فهذا شريح - رضي الله عنه - قد سأل الزوج البينة أنها قد وهبت له لا عن كره بعد ارتجاعها في الهبة، فدل ذلك أن البينة لو ثبتت عنده على ذلك لرد الهبة إليه ولم يجز لها الرجوع ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 420 رقم 21706).

فيها، وقد كان من رأيه أن للواهب الرجوع في هبته إلا من ذي الرحم المحرم، فجعل المرأة في هذا كذي الرحم المحرم؛ فهكذا نقول. ش: أشار بهذا إلى إقامة الدليل على أن من جملة موانع الرجوع: هبة أحد الزوجين للآخر، وقام أيضًا دليل على صحة الرجوع عند عدم مانع من الموانع التي نُصَّ عليها. وأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين. وأخرج سعيد بن منصور في "سننه": ثنا هشيم، أنا المغيرة، عن الحارث العكلي "أن رجلًا تصدق على أمه بخادم له وتزوج، فساق الخادمة إلى امرأته فقبضتها امرأته، فخاصمتها الأم إلى شريح، فقال شريح: إن ابنك لم يثبتك صدقته، وأعادها للمرأة؛ لأن الأم لم تكن قَبَضَتْهَا" انتهى. فهذا يدل على اشتراط القبض في الهبة، وعلى أن أحد الزوجين إذا وهب للآخر لا رجوع فيها. قوله: "فهذا شريح. . . ." إلى آخره. ظاهر. ص: وأما هبة الزوج لامرأته: فإن أبا بكرة حدثنا، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا أبو عوانة، عن منصور، قال: إبراهيم: "إذا وهبت المرأة لزوجها أو وهب الرجل لامرأته فالهبة جائزة، وليس لواحد منهما أن يرجع في هبته". حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: "الزوج والمرأة بمنزلة ذي الرحم المحرم، إذا وهب أحدهما لصاحبه لم يكن له أن يرجع". فجعل الزوجان في هذه الأحاديث كذي الرحم المحرم، فمنع كل واحد منهما من الرجوع فيما وهب لصاحبه. فهكذا نقول. ش: هذا أيضًا من جملة الدليل على منع رجوع أحد الزوجين للآخر.

وأخرجه عن إبراهيم النخعي من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن محمَّد ابن الحسن الشيباني، عن الإِمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم. قوله: "فجعل الزوجان في هذه الأحاديث" أي الآثار المذكورة. ص: وقد وصفنا في هذا ما ذهبنا إليه في الهبات وما قلدنا من هذه الآثار؛ إذْ لم نعلم عن أحد مثل من رويناها عنه خلافًا لها، فتركنا النظر من أجلها وقلدناها. وقد كان النظر لو خُلينا وإياه خلاف ذلك وهو أن لا يرجع الواهب في الهبة لغير ذي الرحم المحرم كما لا يرجع في الهبة لذي الرحم المحرم؛ لأن مُلكه قد ذال عنها بهبته إياها، وصارت للموهوب له دونه، فليس له نقض ما قد ملك عليه إلا برضى مالكه، ولكن اتباع الآثار وتقليد أئمة العلم أولى؛ فلذلك قلدناها واقتدينا بها، وجميع ما بينا في هذا الباب قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قد وصفنا في باب حكم الهبة ما ذهبنا إليه في الهبات، وهو جواز رجوع الواهب عن هبته من أجنبي. قوله: "وما قلدنا" عطف على قوله: "ما ذهبنا إليه". قوله: "إذْ لم نعلم" أي: لأنا لم نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين مثل من رويناها عنه خلافًا لها، وذلك لأنه قد روي عن مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وفضالة بن عبيد وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - ما يدل صريحًا على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، ولم يرو عن أحد من الصحابة منهم أو من يقاربهم خلاف ذلك، وكذلك روي عن جماعة من التابعين الكبار مثل شريح القاضي، وإبراهيم

النخعي، ما يوافق ما روي عن هؤلاء الصحابة، ولم يرو عن أحد من التابعين مثلهم أو من يقاربهم خلاف ذلك، فإذا كان كذلك؛ تَعَيَّن المصير إلى ما ذهبوا إليه والعمل به. قوله: "فتركنا النظر من أجلها" أي إذا كان الأمر كذلك تركنا النظر والقياس من أجل هذه الآثار المروية عنهم لأن القياس لا يؤخذ به إلا عند عدم الآثار والأخبار. قوله: "وقد كان النظر لو خُلِّينا" على صيغة المجهول، والواو في "وإياه" للمصاحبة، وأراد بهذا أن القياس كان يقتضي أن لا يرجع الواهب فيما يهبه لأجنبي كما لا يرجع فيما يهبه لذي رحم محرم منه؛ لأن ملكه قد زال بهبته، ودخل في ملك الموهوب له بالقبض، فلا يجوز له نقض ذلك وإخراجه عن ملكه إلا برضى صاحبه، ولكن لما وردت الآثار بخلاف ذلك وجب تقليدها وترك القياس والعمل به، ووجب العمل بما روي من الآثار، والتقليد لأئمة العلم، والله أعلم.

ص: باب: الرجل ينحل بعض بنيه دون بعض

ص: باب: الرجل ينحل بعض بنيه دون بعض ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي ينحل بعض أولاده دون بعض. قوله: "ينحل" من النُّحْل -بضم النون وسكون الحاء المهملة- وهو العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق، يقال: نَحَله ينحله نُحْلًا بالضم، والنحلة -بالكسر- العطية، وكذلك النحل على وزن فعلى، وبابه من فعل يفعل بالفتح فيهما. ص: حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، قال: ثنا الزهري، عن محمَّد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن، أخبراه أنهما سمعا النعمان بن بشير يقول: "نحلني أبي غلامًا، فأمرتني أمي أن أذهب إلى رسول الله -عليه السلام- لأشهده على ذلك، فقال: أكل ولدك أعطيته؟ فقال: لا، قال: فأردده". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعن محمَّد بن النعمان بن بشير، فحدثاه عن النعمان بن بشير قال: "إن أباه أتى به النبي -عليه السلام- فقال: إنى نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال رسول الله -عليه السلام-: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله -عليه السلام-: فارجعه". ش: هذان إسنادان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال الصحيح. وسفيان هو ابن عيينة. والزهري هو محمَّد بن مسلم. والحديث أخرجه الجماعة غير أبي داود. فالبخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وعن يحيى، عن إبراهيم بن سعد. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 913 رقم 2446). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1241، 1242 رقم 1623).

وعن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة. وعن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث. وعن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس. وعن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير، عن النعمان. والترمذي (¬1): عن نصر بن علي وسعيد بن عبد الرحمن، عن سليمان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان يحدثان، عن النعمان به. وقال: حسن صحيح. والنسائي: (¬2) عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن الزهري، نحوه. وعن محمَّد بن سلمة (¬3): والحارث بن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. وعن مجاهد (¬4): عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، جميعًا عن الزهري، عن حميد وحده، به. وابن ماجه (¬5): عن هشام بن حماد، عن سفيان، عن الزهري، عن حميد ومحمد بن النعمان به. قوله: "نحلني أبي" أي: أعطاني، وقد ذكرنا أن النحلة والنُّحلى هي العطية مبتدأة من غير عوض. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 649 رقم 1367). (¬2) "المجتبى" (6/ 258 رقم 3672). (¬3) "المجتبى" (6/ 258 رقم 3673). (¬4) "المجتبى" (6/ 258 رقم 3674). (¬5) "المجتبى" (6/ 258 رقم 3676).

والنعمان: هو ابن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي أبو عبد الله المدني، صاحب رسول الله -عليه السلام-. وأبوه: بشير بن سعد، شهد العقبة الثانية وبدرًا وأُحُدًا والمشاهد جميعًا، يقال: إنه أول من بايع أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم السقيفة من الأنصار، وقتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة. قوله: "فأمرتني أمي" وهي عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الصحابية، وهي التي سألت زوجها بشيرًا أن يهب ابنها النعمان هبة دون أخويه ففعل، فقالت له: أشهد على هذا رسول الله -عليه السلام-، ففعل، فقال: له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَكُلَّ بنيك أعطيته مثل هذا؟ قال: لا، قال: فإني [لا] (¬1) أشهد على جور". قوله: "أكُلَّ ولدك نحلته" بنصب "كل" على ما عرف في موضعه. وهذا الحديث قد جاء في مسند بشير بن سعد أيضًا والد النعمان. قال: أبو عمر: روى هشام بن عروة، عن أبيه قال: حدثني النعمان بن بشير قال: "أعطاه أبوه غلامًا، فقال رسول الله -عليه السلام- ما هذا الغلام؟ فقال: غلام أعطانيه أبي، قال: أفكل إخوتك أعطاهم كما أعطاك؟ قال: لا، قال: فاردده". نفى هذا الخبر أنه خاطب بهذا القول النعمان بن بشير، حديث ابن شهاب أنه خاطب بذلك أباه بشير المعطي، وهو الأكثر والأشهر. وهذا الحديث مشتمل على أحكام: فيه: جواز العطية من الآباء للأبناء، وهذا في صحة الأباء، لأن فعل المريض في حال وصيته، والوصية للوارث باطلة، وهذا أمر مجمع عليه. وفيه: التسوية بين الأبناء في العطاء، وأكثر الفقهاء على أن معنى هذا الحديث ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها، وهي مثبتة في مصادر التخريج المذكورة.

الندب إلى الخير والبر والفضل، والدليل على ذلك إجماع العلماء على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، وإذا جاز أن يخرج جميع ولده من ماله؛ جاز أن يخرج من ذلك بعضهم. واحتج من يقول أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه بقوله: "فارجعه" وهو موضع قد اختلف فيه الفقهاء، وقد مَرَّ الكلام فيه مستقصًى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض؛ أن ذلك باطل، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: قد كان النعمان في وقت ما نحله أبوه صغيرًا، فكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض لنفسه، فلما قال: النبي -عليه السلام-: "اردده" بعد ما كان في حكم ما قبض، دَلّ هذا أن النحلى من الوالد لبعض ولده دون بعض لا يملكه المنحول ولا تنعقد له عليه هبة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح ومجاهدًا وعروة وابن جريج والنخعي والشعبي وابن شبرمة وابن أبي داود وأحمد وإسحاق وداود وسائر أهل الظاهر. قال أبو عمر: اختلف في ذلك عن أحمد، وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الخرقي في "مختصره" قال: وإذا فضل بعض ولده في العطية، أُمِرَ برده كما أمر النبي -عليه السلام-، فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له إذا كان ذلك في صحته. وقال طاوس: لا يجوز لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وبه قال أهل الظاهر منهم داود وغيره، وروي عن أحمد مثله، وحجتهم في ذلك حديث مالك عن ابن شهاب المذكور. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ولا يحل لأحد أن يهب ولا أن يتصدق على أحد من ولده حتى يعطي أو يتصدق على كل واحدٍ منهم بمثل ذلك، ولا يحل أن يفضل ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 142) باختصار.

ذكرًا على أنثى، ولا أنثى على ذكر، فإن فعل فهو مفسوخ أيضًا، فإن كان له ولد فأعطاهم ثم ولد له ولد فعليه أن يعطيه كما أعطاهم ويشاركهم فيما أعطاهم، وإن تغيرت عين العطية ما لم يمت أحدهم فيصير ماله لغيره فعلى الأب حينئذ أن يعطي هذا الولد كما أعطى غيره، فإن لم يفعل أعطي ما ترك أبوه من رأس ماله مثل ذلك، وروي ذلك عن جمهور السلف. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي للرجل أن يُسَوِّي بين ولده في العطية؛ ليستووا في البر، ولا يفضل بعضهم على بعض فيوقع ذلك الوحشة في قلب المفضول منهم، فإن نحل بعضهم شيئًا دون بعض وقبله المنحول لنفسه إن كان كبيرًا، أو قبضه له أبوه من نفسه إن كان صغيرًا بإعلامه والإشهاد به فهو جائز. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والليث بن سعد والقاسم بن عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد في رواية. وقال أبو عمر: واختلف العلماء في كيفية التسوية بين الأبناء في العطية، فقال منهم قائلون: التسوية بينهم أن يعطي الذكر مثل ما يعطي الأنثى، وممن قال ذلك: الثوري وابن المبارك. وقال آخرون: التسوية أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وممن قال بهذا: عطاء بن أبي رباح، وهو قول محمَّد بن الحسن، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ولا أحفظ لمالك في هذه المسألة قولًا. ثم اختلف الفقهاء في معنى التسوية هل هو على الإيجاب أو على الندب؟ فأما مالك والليث والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فأجزوا أن يخص بعض بنيه دون بعض بالنحلة والعطية على كراهية من بعضهم، والتسوية أحب إلى جميعهم، وقال الشافعي: ترك التفضيل في عطية الآباء فيه حسن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم. وكره الثوري وابن المبارك وأحمد أن يفضل بعض ولده على بعض

في العطايا، وكان إسحاق يقول مثل هذا ثم رجع إلى مثل قول الشافعي، وكل هؤلاء يقول: إن فعل ذلك أحد نفذ ولم يُرَدّ، واختلف في ذلك عن أحمد، وأصح شيء عنه: أنه يُرَدّ، وقد ذكرناه مستقصى. وقال ابن حزم: اختلفوا في هذا الباب، فقال شريح وأحمد وإسحاق: العدل أن يعطى الذكر حظين، وقال غيرهم بالتسوية في ذلك. وأجاز تفضيل بعض الولد على بعض: القاسم بن محمَّد وربيعة وغيرهما، وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي، وكرهه أبو حنيفة وأجازه إن وقع، وكره مالك أن يَنْحَلَ بعض ولده ماله كله. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن حديث النعمان الذي ذكرنا قد روي عنه على ما ذكروا، وليس فيه دليل على أنه كان حينئذ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا ولم يكن قبضه، وقد روي أيضًا على غير المعنى الذي في الحديث الأول. حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب، عن داود بن أبي هند، عن أبي هند، عن عامر الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: "انطلق بي أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحلني نُحْلي ليشهده على ذلك، فقال: أَوَ كُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر كلهم سواء؟ قال: بلى، قال: فأشْهِد على هذا غيري". فكان في الحديث من قول النبي -عليه السلام- لبشير فيما كان نحله النعمان: "أَشْهِدْ على هذا غيري" فهذا خلاف ما في الحديث الأول؛ لأن هذا لا يدل على فساد العقد الذي كان عقده للنعمان؛ لأن النبي -عليه السلام- قد يتوقى الشهادة على ما له أن يشهد عليه، وعلى الأمور التي قد كانت، فكذلك لمن بعده؛ لأن الشهادة إنما هي أمر يتضمنه الشاهد للمشهود له، فله أن لا يتضمن ذلك، وقد يحتمل غير هذا أيضًا، فيكون قوله: "أشهد على هذا غيري" أي: أنا الإِمام، والإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم.

وفي قوله: "أشهد على هذا غيري" دليل على صحة العقد، وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ورقاء، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان على منبرنا هذا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سوُّوا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر". فكان المقصود إليه في هذا الحديث الأمر بالتسوية بينهم في العطية ليستووا جميعًا في البر، وليس فيه شيء من ذكر فساد للعقد المعقود على التفضيل. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، وأراد به الجواب على ما احتجت به أهل المقالة الأولى من حديث النعمان بن بشير على الوجه الذي رووا، وهو على وجهين: الأول: بطريق التسليم، وهو أن يقال: سلمنا أن حديث النعمان قد روي على الوجه الذي رَوَوْهُ، وهو معنى قوله: "قد روي عنه على ما ذكروا ولكن ليس فيه دليل على أن النعمان كان حينئذ صغيرًا، ولعله قد كان كبيرًا حينئذ ولم يكن قد قبضه" فلذلك قال لأبيه بشير: اردده، فأمر بالرجوع عن ذلك. فإن قيل: قد قال ابن حزم: كان صغر النعمان أشهر من الشمس، وأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف من أحد من أهل العلم، وقد بين ذلك في حديث أبي حيان عن الشعبي، عن النعمان "وأنا يومئذ غلام" ولا يطلق هذا اللفظ على رجل بالغ. قلت: نعم، ولد النعمان بعد الهجرة، ولكن ابن حزم ما بين تاريخ ميلاده وأبهمه ترويجًا لكلامه، وكان ميلاده على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وهو أول مولود من الأنصار، وقيل: ولد بعد سنة أو أقل من سنة، وقيل: ولد قبل وفاة النبي -عليه السلام- بثمان سنين، والأول أصح. فإذا كان الأمر كذلك يكون مراد الطحاوي من قوله: وليس فيه دليل على أنه كان حينئذ صغيرًا، يعني قبل بلوغه سن التميز وهو خمس سنين أو سبع سنين، ويكون المراد من قوله: "ولعله قد كان كبيرًا" يعني بعد بلوغه سن التمييز، ولا يشترط

البلوغ في صحة قبض الهبة، فيجوز قبض الصبي العاقل ما وُهِبَ له، لأن قبض الهبة من التصرفات النافعة المحضة، فيملكه الصبي العاقل كما يملك وَلِيُّه، وكذا الصبية إذا عقلت جاز قبضها لما قلنا. فإذا كان الأمر كذلك يكون معنى كلامه: "ولعله قد كان كبيرًا" يعني صبيًّا عاقلًا أهلا للقبض، ولكنه لم يكن قبضه، فلذلك أمر والده بالرجوع لعدم تمام الهبة، لأنها لا تتم إلا بالقبض. الوجه الثاني: بطريق المنع؛ وهو أن يقال: لا نسلم دلالة ما رويتم من حديث النعمان على ما ادعيتم، لأنه قد روي على وجوه مختلفة: منها الوجه المذكور، ومنها ما أشار إليه بقوله: "وقد روي أيضًا على غير المعنى الذي في الحديث الأول". وبينه بتخريجه بإسناد صحيح عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد البصري، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عامر الشعبي. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمَّد بن مثنى، قال: ثنا عبد الوهاب وعبد الأعلى (ح). وثنا إسحاق بن إبراهيم ويعقوب الدورقي جميعًا عن ابن علية -واللفظ ليعقوب- قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: انطلق بي [أبي] (¬2) يحملني إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله اشْهَد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: أكل بنيك نحلت مثل ما نحلت للنعمان، قال: لا، قال: فَأَشْهِد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال بلى، قال: فلا إذا". قوله: "فهذا" أي هذا الوجه في هذا الحديث "خلاف ما في الحديث الأول" وبَيَّن وجه المخالفة بقوله: "لأن هذا القول" يعني قوله -عليه السلام-: "أشهد على ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1243 رقم 1623). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

هذا غيرى" لا يدل على فساد العقد الذي صدر عن بشير للنعمان - رضي الله عنهما -، وبَيَّن ذلك من وجهين: الأول: أن النبي -عليه السلام- قد كان يتوقى الشهادة أي يتجنبها على شيء له إن شهد عليه، وذلك لغلبة ورعه وجلالة قدره؛ لأن تحمل الشهادة أمر عظيم لأجل الأداء، وكذلك غير النبي -عليه السلام- مثله في هذه القضية؛ لأن الشهادة ليست من الأمور اللازمة على الشخص؛ لأن الشاهد مخير في تحملها، فله أن يتحمل وله أن لا يتحمل. الوجه الثاني: أن يكون إنما كان أمره بإشهاد غيره بقوله: "أشهد على هذا غيري" لأنه إمام، وليس من شأن الإِمام أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، وقد طعن ابن حزم هاهنا هذا الكلام بقوله: "بل الإِمام يشهد" لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا، وبقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (¬1) الآية، فهذا أمر للأئمة بلا شك، والعجب من هذا القائل ومن قوله ومذهبه أن الإِمام إذا شهد عند حاكم من حكامه جازت شهادته، فلو لم يكن من شأنه أن يشهد لما جازت شهادته. قلت: هذا كلام صادر من يَبْس دماغ، من غير روية ولا فكر، لأن مراده من مقولة: "والإمام ليس من شأنه أن يشهد" أي: ما دام في صدد الحكم، فإنه ليس له حنيئذ أن يشهد لأحد ولا عليه، وإنما له أن يسمع الدعوى والشهادة ويحكم بينهم، وأما إذا أدى عند حاكم آخر فله ذلك، سواء كان في حال انتصابه للحكم أو بعده. وأما الآية التي استشهد بها فلا تدل على مُدَّعاه؛ لأنها ليست واردة في باب الشهادة في أمور الناس والله أعلم. قوله: "وفي قوله: أشهد على هذا غيري دليل صحة العقد" أراد بهذا الرد على أهل المقالة الأولى في قولهم: الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض أن ذلك باطل، ودلالة هذا القول على صحة العقد ظاهرة إذْ لو كان هذا الفعل باطلًا لقال قولًا دالًّا علي. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [135].

هو أكد كلامه بما أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن ورقاء بن عمر اليشكري الكوفي، عن المغيرة ابن مقسم الضبي، عن عامر الشعبي، عن النعمان - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني في "معجمه" بأتم منه: ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا أبو الربيع الزهراني (ح). وحدثنا الحسن بن إسحاق التستري، نا عثمان بن أبي شيبة، قالا: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: "سمعت النعمان بن بشير على منبرنا هذا يقول: طلبت عمرة بنت رواحة إلى بشير بن سعد أن ينحلني نُحلًا من ماله فأبى عليها، ثم بدا له بعد حول أو حولين أن ينحلنيه، فقال لها: إن الذي سألت لابني كنت منعته وقد بدا لي أن أنحله إياه، وإنها قالت: لا أرضى حتى تأخذه بيده فتنطلق به إلى النبي -عليه السلام- فتشهده، فأخذ بيدي فانطلق بي إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا نبي الله، إن عمرة بنت رواحة طلبت إليَّ أن أنحل ابني هذا نحلًا، وإني كنت أبيت عليها، ثم بدا لي أن أنحله إياه، وإنها قالت: لا أرضى حتى تأخذه بيده فتنطلق به إلى النبي -عليه السلام- فتشهده، فقال: هل لك معه ولد غيره؟ قال: نعم، قال: فهل آتيت كل واحد منهم ما آتيت هذا؟ قال: لا، قال: فإني لا أشهد على هذا؛ هذا جور، أشهد على هذا غيري، اعدلوا بين أولادكم في النُّحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف". قوله: "فكان المقصود إليه" أي الذي قصد إليه في هذا الحديث الأمر بالتسوية بينهم -أي بين الأولاد- في العطية ليستووا جميعًا في البر والإحسان وليس فيه شيء يدل على فساد العقد المذكور الذي عُقِدَ على التفضيل أي تفضيل بعضهم على بعض. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عباد بن العوام، عن حصين، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: "أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد

رسول الله -عليه السلام-، فأتى رسول الله -عليه السلام- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة عطية، وإني أشهدك، قال: كل ولدك أعطيت مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". فليس في هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- أمره برد شيء، وإنما فيه الأمر بالتسوية بينهم. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجَّي -أظنه- عن داود، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، اشهد أني قد نحلت النعمان من مالي كذا وكذا، فقال له رسول الله -عليه السلام-: أكل ولدك نحلت؟ قال: لا، قال: أما يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا". فقد اختلف لفظ داود هذا فيما روى عنه مرجَّي هاهنا وفيما روى عنه وهيب فيما تقدم من هذا الباب، وهكذا رواه الشعبي عن النعمان، وقد رواه أبو الضحى، عن النعمان أيضًا: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن فطر (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فطر، قال: ثنا أبو الضحي، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: "ذهب بي أبي إلى رسول الله -عليه السلام- ليشهده على شيء قد أعطانيه، فقال: ألك ولد غيره؟ قال: نعم، فقال بيده: ألا سويت بينهم". فلم يخبر في هذا الحديث أنه أمره برده، وإنما قال: "ألا سويت بينهم" على طريق المشورة وأن ذلك لو فعله كان أفضل. ش: هذه ثلاث وجوه أخرى في حديث النعمان، وقد سبق ذكر الوجهين فالجملة خمسة أوجه، فدل على اضطراب شديد متنًا، فالعمل بحديث جابر الذي يأتى إن شاء الله تعالى أولى، لأن جابرًا أحفظ له وأضبط، لأن النعمان كان صغيرًا على ما أشار إليه الطحاوي -رحمه الله-.

وقال أبو عمر: وأما قصة النعمان بن بشير هذه فقد روي في حديثه ألفاظ مختلفة تدل على أن ذلك على الندب لا على الإيجاب. منها: ما رواه داود بن أبي هند، عن الشعبي، عنه. ورواية حصين عن الشعبي، نحو ذلك. رواه البخاري (¬1)، وفيه قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع فرد عطيته" فلم يذكر فيه أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يرجع في صدقته، وإنما فيه: "فرجع فرد عليه عطيته". ورواه أبو داود (¬2) وقال فيه -وذكر مجالد في حديثه-: "إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك" فهذه الألفاظ كلها مع قوله: "أشهد على هذا غيري" دليل واضح على جواز العطية. وأما رواية من روى عنه: "لا أشهد إلا على حق" فيحتمل أن لا يكون مخالفًا لما تقدم؛ لاحتماله أن يكون أراد الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقًّا. انتهى. الوجه الأول: أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم، عن عباد بن العوام الواسطي، عن حُصين -بضم الحاء- ابن عبد الرحمن السلمي، عن عامر الشعبي. وأخرجه مسلم (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة إلى آخره نحوه. والبخاري (¬4): عن حامد بن عمر، عن أبي عوانة، عن حصين. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 914 رقم 2447). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 292 رقم 3542). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1242 رقم 1623). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 914 رقم 2447).

الوجه الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن مرجي بن رجاء اليشكري، خال أبي عمر المذكور، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي. وهذا إسناد لا بأس به، فإن مرجي فيه خلاف، وثقه قوم وضعفه آخرون. وأخرجه مسلم (¬1): من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي نحوه. الوجه الثالث: أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن فطر بن خليفة، عن أبي الضحى مسلم بن صُبَيْح الكوفي العطار، عن النعمان بن بشير. وأخرجه النسائي (¬2): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن فطر، قال: حدثني مسلم بن صبيح، قال: سمعت النعمان. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن فطر. . . . إلى آخره. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في قصة النعمان هذا خلاف كل ما روينا عن النعمان: حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "قالت امرأة بشير لبشير: انحل ابني غلامك، وأشهد لي رسول الله -عليه السلام-، قال: فأتى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، وقالت: وأشهد رسول الله -عليه السلام-، فقال: ألَهُ إخوة؟ قال: نعم، قال: أفكلهم أعطيت؟ قال: لا، قال: فإن هذا لا يصلح، وإني لا أشهد إلا على حق". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1243 رقم 1623). (¬2) "المجتبى" (6/ 261 رقم 3685).

ففي هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- إنما كان أمره لبشير بالرد قبل إنفاذ بشير الصدقة، فأشار النبي -عليه السلام- بما ذكرنا، وهذا خلاف جميع ما روي عن النعمان؛ لأن في تلك الأحاديث أنه نحلة قبل أن يجيء يسأل النبي -عليه السلام-، وأنه قال للنبي -عليه السلام-: إني نحلت ابني هذا كذا وكذا، فأخبر أنه قد كان فعل، وفي حديث جابر هذا إخباره للنبي -عليه السلام- بسؤال امرأته إياه، فكان كلام النبي -عليه السلام- إياه بما كلمه به على طريق المشورة، وعلى ما ينبغي أن يُفْعَل عليه الشيء إن آثر أن يفعله. ش: مخالفة حديث جابر لحديث النعمان من كل الوجوه المذكورة ظاهرة، وقد بَيَّنَهَا بقوله: "ففي هذا الحديث" أي حديث جابر. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمَّد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (¬1): عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير. . . . إلى آخره. قوله: "قالت امرأة بشير" هي عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة. وَبشِير -بفتح الباء الموحدة- هو والد النعمان. قوله: "انحل" أمر من نحل ينحل إذا أعطى ابتداء من غير تعويض. قوله: "وأَشْهِدْ لي" بفتح الهمزة، من الإشهاد، و"رسولَ الله" بنصب اللام على أنه مفعول "أَشْهِدْ". قوله: "ألَهُ إخوة" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "وإني لا أشهد إلا على حق" استدلت به الظاهرية وبقوله: "فإن هذا لا يصلح" على أن أحدًا لا يجوز له أن ينحل بعض بنيه دون بعض، فإن فعل ذلك ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1244 رقم 1624).

فهو مردود؛ لأنه -عليه السلام- منع هذا بقوله: "لا يصلح" وأخبر أن هذا ليس بحق، فإذا لم يكن حقًّا يكون باطلًا. قلنا: قد ذكرنا أن معنى قوله: "لا أشهد إلا على حق" أي الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق، وإن كان ما دونه حقًّا. قوله: "إن آثر" أي إن اختار أن يفعله. ص: وقد روى شعيب ابن أبي حمزة هذا الحديث عن الزهري، موافقًا لهذا المعنى. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان، أنهما سمعا النعمان بن بشير يقول: "نحلني أبي غلامًا، ثم مشى بي حتى إذا أدخلني على رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إني نحلت ابني غلامًا، فإن أذنت أن أجيزه له أجزت. . . ." ثم ذكر الحديث. فدل ما ذكرنا على أنه لم تكن النحلى كملت فيه من حين نحله إياه إلى أن أمره النبي -عليه السلام- برده. ش: أراد بـ"هذا الحديث" حديث النعمان بن بشير، وأراد بـ"هذا المعنى" المعنى المذكور في حديث جابر. وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن النعمان بن بشير، كلاهما عن النعمان. . . . إلى آخره. وقد روى هذا الحديث أيضًا سفيان، عن الزهري، عن حميد، ومحمد عن النعمان، على خلاف هذا، وقد تقدم في أول الباب. قوله: "لم تكن النُّحْلَى" بضم النون على وزن فعلى، بمعنى النحلة وهي العطية.

ص: وقد كان رسول الله -عليه السلام- إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا، فأعطى المملوك منهم كما يعطى الحر. حدثنا بذلك يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن القاسم ابن عباس، عن عبد الله بن دينار، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أتي رسول الله -عليه السلام- بظَبيَة خرز، فقسمها بين الحرة والأمة، قالت عائشة: وكذلك كان أبي يقسم للحر والعبد". فكان هذا مما كان النبي -عليه السلام- يعم بعطاياه جميع أهله حرهم وعبدهم ليس على أن ذلك واجب، ولكنه أحسن من غيره، فكذلك كانت مشورته في الولدان أن يسوى بينهم في العطية ليس على أنه واجب ولا على أن غيره إن فُعِلَ لم يثبت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ذكر هذا شاهدًا لما قاله من أن التسوية بين الأولاد في العطية غير واجبة وإنما هي أفضل من غيرها تطيبًا لقلوبهم، كما كان النبي -عليه السلام- إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم، حتى كان يعطي المملوك منهم مثل ما كان يعطي للحر، وهذا لم يكن لأجل كون التسوية واجبة، وإنما كان ذلك منه مراعاة لخواطرهم، وتطيبًا لأنفسهم؛ وإشارة أيضًا إلى أن الأمر المذكور بالتسوية المذكور في الأحاديث السابقة إنما هو للندب لا للوجوب. ثم إنه أخرج حديث عائشة - رضي الله عنهما - بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس بن مغيث الهاشمي المدني، عن عبد الله بن نِيَار -بكسر النون وتخفيف الياء آخر الحروف وفي آخره راء- ابن مكرم الأسلمي المدني، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن ابن نيار، عن عروة، عن عائشة، نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 136 رقم 2952).

قوله: "بظَبْيَة فيها خرز" "الظبية" -بفتح الظاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف وفي آخرها هاء-: جراب صغير عليه شعر، وقيل: هي شبه الخريطة والكيس. و"الخرز" بفتح الخاء المعجمة والراء، وفي آخره زاي معجمة: الذي ينظم، واحده خرزة، قاله الجوهري. ص: وقد فَضَّلَ بعض أصحاب رسول الله -عليه السلام- بعض أولادهم على بعض في العطايا. فحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- أنها قالت: "إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحلها جادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية، ما من أحد من الناس أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وَسْقًا، فلو كنت جددته وأحرزته كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك واختاك، فاقتسموه على كتاب الله تعالى، فقالت عائشة: والله يا أبه لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن شقيق، قال: ثنا مسروق قال: "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة نحلًا، فلما مرض قال لها: اجعليه في الميراث، وذكر القبض في الهبة والصدقة". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان عن عمرو، أخبره صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فضل بني أم كلثوم بنحل قسمه بين ولده". فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة دون سائر ولده، ورأى ذلك جائزًا، ورأته هي كذلك، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام-.

وهذا عبد الرحمن بن عوف قد فضل أيضًا بعض ولده فيما أعطاهم على بعض، ولم ينكر ذلك عليه منكر، فكيف يجوز لأحد أن يحمل فعل هؤلاء على خلاف قول النبي -عليه السلام-، ولكن قول النبي -عليه السلام- عندنا فيما ذكرنا من ذلك إنما كان على الاستحباب كاستحبابه التسوية بين أهله في العطية وترك التفضيل لحرِّهِم على مملوكهم، ليس على أن ذلك مما لا يجوز غيره، ولكن على استحبابه لذلك، وغيره في الحكم جائز كجوازه. ش: ذكر هذين الأثرين عن أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن ما كان من قول النبي -عليه السلام- في حديث النعمان بن بشير إنما كان على الاستحباب لا الوجوب، كما كان -عليه السلام- استحب التسوية بين أهله في إعطائه العطايا إياهم وترك التفضيل لحرهم على عبدهم، ولم يكن ذلك على أن غيره لا يجوز فعله، ولكن إنما كان على استحبابه لذلك تطييبًا لقلوبهم ومراعاة لهم في رضاهم، والدليل على ذلك: أنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة ما أعطى دون سائر ولده، ورأى ذلك جائزًا، وكذلك عائشة رأته جائزًا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم ينكر عليهما أحد منهم، فدل ذلك على الجواز، ولو كان الأمر كما قاله أهل المقالة الأولى، لكان يلزم خلاف أبي بكر لما قال -عليه السلام-، وحاشاه من ذلك، وكذلك عبد الرحمن بن عوف قد فَضَّل بعض ولده فيما أعطاهم على بعض، وكان ذلك أيضًا بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهم أحد منهم، فدل ذلك أيضًا على الجواز. ثم إنه أخرج أثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير. . . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة قالت: "كان أبو بكر - رضي الله عنه - نحلني جداد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة جلس ناحيتي، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد: أي بنية إن أحب الناس إلى غنى بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وَسْقًا من مالي، فوددت والله لو أنك كنت جَرَنْتِهِ وجددته، ولكن إنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك، فقلت: يا أبتاه هذه أسماء فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة -أراه جارية- فقلت: لو أعطيتني ما هو كذا إلى كذا لرددته إليك". قال الشافعي - رضي الله عنه -: وفضل عمر - رضي الله عنه - عاصمًا بشيء، وفضل ابن عوف ولد أم كلثوم. الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن مسروق بن الأجدع. . . . إلى آخره. وأخرجه الشافعي في "مسنده". وأخرج أثر عبد الرحمن بن عوف عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أن عبد الرحمن. . . . إلى آخره" وهذا منقطع؛ لأن صالح بن إبراهيم لم يدرك جده عبد الرحمن بن عوف. وأخرج عبد الله بن وهب في "مسنده" وقال: بلغني عن عمرو بن دينار: "أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أربعة آلاف درهم، وله ولد من غيرها". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 752 رقم 1438). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 178 رقم 11784).

قلت: وهذا أيضًا منقطع. قوله: "نحلها" أي أعطاها. قوله: "جَادَّ عشرين وَسْقًا" الجاد بالجيم وتشديد الدال بمعنى المجدودة، والمعنى: أعطاها نحلًا تجدُّ منها ما يبلغ عشرين وَسْقًا، أي: تقطع. "والوَسْق" بفتح الواو: ستون صاعًا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد. قوله: "بالغابة" أي في الغابة وهو موضع قريب من المدينة من عواليها، وبها أموال لأهلها. "والغابة": الأجمة ذات الشجر المتكاثف؛ لأنها تغيب ما فيها، وتجمع على غابات. قوله: "فلو كنت جددته" أي قطعته، وفي رواية البيهقي: "أنك كنت جرنته" أي ضميته في الجرن وهو بيدر التمر، ومادته: جيم وراء ونون. وقوله: "وإنما هما" الضمير يرجع إلى الوارث، ولكنه إنما ثَنَّاهُ بالنظر إلى قوله: "أخواك". قوله: "يا أبه" الهاء فيه للوقف والسكت. قوله: "ذو بطن" بالباء الموحدة والطاء المهملة وبالنون (¬1). ص: وقد اختلف أصحابنا في عطية الولد التي يُتَّبع فيها أمر النبي -عليه السلام- لبشير كيف هي؟ ¬

_ (¬1) بيض لها المصنف -رحمه الله-، وهي أم كلثوم بنت أبي بكر، قال النووي في "تهذيب الأسماء" (2/ 574): وأم كلثوم هي التي كانت حملًا في وقت كلام أبي بكر، فقالت عائشة: "من أختاي" تعني إنما لي أخت واحدة وهي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: هي ذو بطن بنت خارجة، يعني الحمل الذي في بطن بنت خارجة، فإني أظن الحمل بنتًا لا ابنًا، وبنت خارجة هي زوجة أبي بكر وكانت حاملًا حال كلام أبي بكر. . . . وقال النووي: وهذه القصة من كرامات أبي بكر.

فقال أبو يوسف: يسوى فيها بين الذكر والأنثى. وقال محمَّد بن الحسن: بل يجعلها بينهم على قدر الوارث للذكر مثل حظ الأنثيين. قال أبو جعفر -رحمه الله-: وفي قول النبي -عليه السلام-: "سَوُّوا بينهم في العطية كما تحبون أن يسووا لكم في البر" دليل على أنه أراد التسوية بين الإناث والذكور؛ لأنه لا يراد من البنت شيء من البر إلا والذي يراد من الابن مثله. فلما كان النبي -عليه السلام- أراد من الأب لولده ما يريد من ولده له، وكان ما يريد من الأنثى من البر مثل ما يريد من الذكر، كان ما أراد منه لهم في العطية للأنثى مثل ما أراد للذكر، وفي حديث أبي الضحى: "فقال النبي -عليه السلام-: ألك ولد غيره؟ فقال: نعم، فقال: ألا سويت بينهم" ولم يقل: ألك ولد غيره ذكرًا أو أنثى؛ فذلك لا يكون إلا وحكم الأنثى فيه كحكم الذكر، ولولا ذلك لما ذكر التسوية إلا بعد علمه أنهم ذكور كلهم، فلما أمسك عن البحث عن ذلك ثبت استواء حكمهم في ذلك عنده، فهذا أحسن عندنا مما قال محمَّد -رحمه الله-. ش: أراد بقوله: "أصحابنا أصحاب أبي حنيفة، ونبه أيضًا على أنه اختار قول أبي يوسف في عطية الرجل أولاده، وهو أن يسوي بينهم ولا يخص الذكر بشيء على أنثى، وهو مذهب الثوري وعبد الله بن المبارك أيضًا، وأشار إلى الحجة في ذلك بقوله ومن "قول النبي -عليه السلام-" وهو ظاهر. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك أيضًا: حدثنا أحمد بن أبي داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا عبد الله ابن معاذ، عن معمر، عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان مع رسول الله -عليه السلام- رجل، فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له فأجلسها إلى جنبه، فقال: فهلا عدلت بينهما". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد أراد منه التعديل بين الابنة والابن، وأن لا يفضل أحدهما على الآخر، فذلك دليل على ما ذكرنا في العطية أيضًا، والله أعلم. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- ما يدل على ما ذكرنا من ثبوت استواء الحكم في العطية للأولاد، وقد ذكر هذا تأييدًا لما قاله أبو يوسف، وذهب إليه.

أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن عبد الله بن معاذ بن نشيط وثقه ابن معين، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا بعض أصحابنا، عن عبد الله بن موسى، عن معمر، عن الزهري، عن أنس: "أن رجلًا كان عند رسول الله -عليه السلام- فجاء ابن له فقبله وأقعده على فخذه، وجاءته بنية له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله -عليه السلام-: ألا سويت بينهما؟! ". وهذا الحديث لا نعلمه رواه عن معمر إلا عبد الله بن موسى، وكان صنعانيًّا تحول إلى مكة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) وذكره الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" (2/ 248 رقم 1799). وذكره الهيثمي في "المجمع" (8/ 156 رقم 1893) وقال: رواه البزار فقال: حدثنا بعض أصحابنا ولم يسمه، وبقية رجاله ثقات.

ص: باب: العمرى

ص: باب: العمرى ش: أي هذا باب في بيان أحكام العُمْرى، وهو على وزن فُعلى بضم الفاء، وهو اسم من أعمرته الدار عمري أي جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلى، وكذا كانوا يفعلون في الجاهلية. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "المسلمون عند شروطهم". ش: إبراهيم بن حمزة بن محمَّد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الزبيري المدني، شيخ البخاري وأبي داود. وعبد العزيز بن [أبي حازم سلمة] (¬1) بن دينار، روى له الجماعة، وكثير بن زيد الأسلمي المدني، فيه مقال، فقال النسائي: ضعيف. وعن يحيى: ليس بذاك. وعنه: صالح. وعن ابن حبان: ثقة. والوليد بن رباح الدوسي المدني، وثقه ابن حبان، استشهد به البخاري. وأخرجه أبو داود (¬2) بأتم منه: ثنا سليمان بن داود، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال (ح). وحدثنا أحمد عبد [الواحد] (¬3) الدمشقي، قال: ثنا مروان -يعني ابن محمَّد- قال: ثنا سليمان بن بلال -أو عبد العزيز الشك من أبي داود- قال: نا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الصلح جائز بين المسلمين" زاد أحمد: "إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"، وزاد سليمان: قال رسول الله -عليه السلام-: "المسلمون على شروطهم". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "أبي سلمة حازم"، وهو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-. (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 304 رقم 3594). (¬3) في "الأصل، ك": "الواهب"، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود" ومصادر ترجمته.

وقال ابن حزم: هذا خبر فاسد، لأنه إما عن كثير بن زيد وهو هالك، وإما مرسل. قلت: لما أخرجه أبو داود سكت عنه، وذا دليل رضاه به، وكثير بن زيد قد وثقه ابن حبان كما ذكرنا، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي، يكتب حديثه. وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال يعقوب بن شيبة ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو. قوله: "المسلمون عند شروطهم" يعني المسلمون هم الذين يَثْبتُون عند شروطهم، وأراد بالشروط: الشروط الجائزة في الدين لا الشروط الفاسدة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى إجازة العمري، وجعلوها راجعة إلى المُعْمِر بعد موت المُعْمَر، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: القاسم بن محمَّد ويزيد بن قسيط ويحيى بن سعيد الأنصاري، والليث بن سعد ومالكًا؛ فإنهم قالوا: العمرى جائزة، ولكنها ترجع إلى الذي أعمرها. قال أبو عمر: قال مالك: الأمر عندنا أن العمري ترجع إلى الذي أعمرها إذا لم يقل: لك ولعقبك إذا مات المُعْمَر، وكذلك لو قال: هي لك ولعقبك ترجع إلى صاحبها أيضًا بعد انقراض عقيب المعمَر. وقال ابن حزم: قالت طائفة: العمرى راجعة إلى المعمِر أو إلى ورثته على كل حال، فإن قال: أعمرتك هذا الشيء لك ولعقبك كانت كذلك، فإذا انقرض المعمَر وعَقِبَه؛ رجعت إلى المعمِر أو إلى ورثته، وهو قولٌ روي عن القاسم بن محمَّد ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو قول مالك والليث. قوله: "راجعة إلى المعمِر" بكسر الميم الثانية على صيغة الفاعل. وقوله: "بعد موت المعمَر" بفتح الميم الثانية على صيغة المفعول.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إنما وقع قول رسول الله -عليه السلام- هذا على الشروط التي قد أباح الكتاب اشتراطها وجاءت بها السنة وأجمع عليها المسلمون، وما نهى عنه الكتاب ونهت عنه السنة فهو غير داخل في ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: طاوسًا ومجاهدًا والنخعي والثوري والأوزاعي والحسن بن حي والزهري في رواية وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وبعض الظاهرية وعبد الله بن شبرمة وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: العمرى هبة مقبولة يملكها المعمَر ملكًا تامًّا، رقبتها ومنافعها، واشترطوا فيها القبض على أصولهم في الهبات. وقال ابن حزم في "المحلي": العمرى والرقبى هبة صحيحة ثابتة يملكها المعمَر والمرقَب كسائر ماله يبيعها إن شاء وتورث عنه، ولا يرجع إلى المعمِر ولا إلى ورثته شَرَطَ أن ترجع إليه أو لم يشترط، وشرطُه لذلك ليس بشيء، والعمرى هي أن يقول: هذه الدار [طمس بالأصل مقدار لوحة]. والطحاوي أيضًا في باب: البيع يشترط فيه شرط بوجوه كثيرة وطرق متعددة. قوله: "ولكان هذا الحديث معارضا لذلك" أراد بهذا الحديث حديث النهي عن الشرطين في البيع، وأشار بقوله: "لذلك"، إلى حديث أبي هريرة: "المسلمون عند شروطهم" وجه المعارضة بينهما ظاهر، ودفعها بما ذكره آنفًا. قوله: "ولقوله: كل شرط" أي: ولكان هذا الحديث أيضًا معارضًا لقوله -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" ووجه المعارضة بينهما أيضًا ظاهر على تقدير عموم قوله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم" فإذا جعل معناه: الشروط التي أباحها الكتاب والسنة أو إجماع الأمة تندفع تلك المعارضة. قوله: "لمن هي لهم عليه نقضها" الضمير في "هي" و"نقضها" للشروط، وفي "لهم" للأصحاب الشروط، وفي "عليه" يرجع إلى مَنْ، فافهم.

ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد دل على ذلك أيضًا: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي، قال: ثنا عبد الله بن نافع الصائع، قال: ثنا كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون عند شروطهم إلا (شرط) (¬1) أحل حرامًا أو حرم حلالًا". فدل هذا أن الشروط التي المسلمون عندها هي بخلاف هذه الشروط المستثناة. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- ما قد دل على أن المراد [من] (¬2) الشروط هي الشروط التي تكون في كتاب أو سنة أو من أمر مجمع عليه. وقوله: "حدثنا. . . ." إلى آخره: بيان لذلك. وأحمد بن داود المكي شيخ الطبراني. وإبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن مغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام القرشي الأسدي الحزامي بالزاي المعجمة -المدني، شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه يحيى والنسائي. وعبد الله بن نافع الصائغ المدني، روي له الجماعة، البخاري في غير الصحيح. وكثير بن عبد الله المزني البصري، فيه مقال كثير، فعن أحمد: منكر الحديث ليس بشيء. وعن يحيى: ليس بشيء. وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وعن أبي زرعة: واهي الحديث ليس بقوي. وعن النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأبوه: عبد الله بن عمرو المزني المدني، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وفي "شرح معاني الآثار": "شرطًا". (¬2) تكررت في "الأصل".

وجده: عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني الصحابي. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا خالد بن مخلد، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الصلح جائز بين المسلمين إلا (صلح) (¬2) حرم حلالًا أو أحل حرامًا". وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث أبي يحيى بن أبي ميسرة، ثنا ابن زبالة، نا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده. . . . إلى آخره نحوه. ثم قال: وكذا رواه العقدي عن كثير بن عبد الله وعليه الاعتماد؛ لأن محمَّد بن الحسن بن زبالة واهٍ، ورواية كثير بن عبد الله إذا انضمت إلى ما قبلها قويت. قلت: رواه الترمذي (¬4) عن الحسن بن علي الخلال، عن أبي عامر العقدي، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا (صلح) (¬5) حرم حلالًا أو أحل حرامًا، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا". وقال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا أخرجه الطبراني (¬6): عن محمَّد بن إسحاق بن راهويه، عن أبيه، عن أبي عامر العقدي. . . . إلى آخره نحوه. ص: وكانت الشروط في العمرى قد وَقَفَنَا رسول الله -عليه السلام- على بطلانها في آثار قد ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 788 رقم 2353). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجه": "صلحًا". (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 65 رقم 11134). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 634 رقم 1352). (¬5) كذا في "الأصل، ك"، وفي "جامع الترمذي": "صلحًا". (¬6) "المعجم الكبير" (17/ 22 رقم 30).

جاءت عنه مجيئًا متواترًا، فمنها: ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو عن سليمان بن يسار: "أن أميرًا كان على المدينة يقال له: طارق قضى بالعمرى للوارث عن قول جابر - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام-. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن حجر، عن زيد ابن ثابت: "أن النبي -عليه السلام- قضى بالعمرى للوارث" فجعل رسول الله -عليه السلام- العمري للوارث فقطع بذلك شرط المُعْمِر. ش: "وَقَفَنَا" بفتح الفاء فعل ومفعول. وقوله: "رسول الله" فاعله، وأراد بالمتواتر: المتكاثر المتظاهر الصحيح، ولم يرد به المتواتر المصطلح عليه. وأشار بهذا الكلام إلى أن الشروط في العمرى باطلة وليست بداخله. تحت قوله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم" الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وذلك لما ذكرنا أن المراد منه هي الشروط الجائزة في الدين، وشروط العمرى شروط باطلة؛ لأحاديث وردت ببيان بطلانها، منها: ما أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سليمان بن يسار الهلالي المدني: "أن أميرًا كان على المدينة يقال له طارق -وهو طارق المكي، قاضي مكة- قضى بالعمرى للوارث عن قول جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام-". وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لأبي بكر، قال إسحاق: أنا، وقال أبو بكر-: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن سليمان بن يسار: "أن طارقًا قضى بالعمرى للوارث بقول جابر عن رسول الله -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1247 رقم 1625).

ومنها ما أخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان، عن حجر بن قيس الهمداني المدري، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، قال: قرأت على مَعقل، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعمر شيئًا فهو لمعمَرِهِ محياه ومماته، ولا ترقبوا، ومن أرقب شيئًا فهو سبيله". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا هشام بن عمار، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت: "أن النبي -عليه السلام- جعل العمري للوارث". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: ص: فقال الأولون: فلم يبين رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث ذلك الوارث وارث من هو؟ فقد يجوز أن يكون أراد وارث المُعْمِر. قيل له: هذا عندنا محال؛ لأنه إنما كان الذكر على شيء، قد جعل للمُعْمَر حياته على أن يعود بعد موته إلى المُعْمِر، فجعل رسول الله -عليه السلام- ذلك للوارث أي جعله لوارث المعمَر ما كان ليشترط فيه المعمر إلا أن يكون ميراثًا. ش: أي قال القوم الأولون وهم أهل المقالة الأولى الذين قالوا: إن العمرى راجعة إلى المعمِر -بكسر الميم الثانية- بعد موت المعمَر -بفتح الميم الثانية- وهذا اعتراض من جهتهم على ما قاله أهل المقالة الثانية، بيانه أن يقال: إن قوله: "قضى ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 295 رقم 3559). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 796 رقم 2381). (¬3) "المجتبى" (6/ 271 رقم 3721).

بالعمرى للوارث" لا يدل على مدعاكم، لأنه -عليه السلام- لم يبين لنا ذلك للوارث من هو، فهل هو وارث المعمَر أو وارث المعمِر؟ فقد يجوز أن يكون أراد وارث المعمِر -بكسر الميم الثانية. قوله: "قيل لهم. . . ." إلى آخره: جواب عن هذا الاعتراض، وهو ظاهر. قوله: "قد جعل المعمَر" بفتح الميم الثانية. قوله: "بعد موته إلى المعمِر" بكسر الميم الثانية. وقوله: "لوارث المعمَر" بفتح الميم الثانية. وقوله: "اشترط فيه المعمِر" بكسر الميم الثانية. ص: والدليل على ذلك أن محمَّد بن بحر بن مطر حدثنا، قال: ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا محمَّد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن زيد بن ثابت، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أعمر شيئًا حياته فهو له ولوارثه". فدل قول رسول الله -عليه السلام- هذا على الوارث المحكوم بها له في هذا الحديث الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا أنه وارث المعمَر. ش: أي الدليل على ما ذكرنا أن المراد من الوارث هو وارث المعمَر -بفتح الميم الثانية- أن محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي حدثنا، قال: ثنا أبو النضر -بالنون والضاد المعجمة-. وهذا إسناد صحيح وأخرجه النسائي نحوه بإسناده، عن طاوس، عن زيد بن ثابت. قوله: "فدل قول رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره: أراد أن هذا الحديث قد فسر قوله: "للوارث" في الحديث الأول أن المراد منه هو وارث المعمَر -بفتح الميم الثانية- والأحاديث يفسر بعضها بعضًا.

ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو ابن دينار، عن طاوس، أن حجر بن قيس أخبره، أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله -عليه السلام-: "العمرى ميراث". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت أن رسول الله -عليه السلام- قال: "سبيل العمرى سبيل الميراث". فهذا أيضًا معناه مثل معنى ما قبله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، شيخ البخاري -عن عبد الملك بن جريج المكي. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عبد الرزاق وأبي بكر، قالا: ثنا ابن جريج (ح). وثنا روح قال: ثنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أن طاوسًا أخبره، أن حجرًا المدري أخبره، أنه سمع زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العمرى في الميراث". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم العنبري البصري. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا محمَّد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت، عن النبي -عليه السلام- قال: "العمري سبيلها سبيل الميراث". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 189 رقم 21692). (¬2) "المعجم الكبير" (5/ 162 رقم 4950).

قوله: "المَدَرِّي" بفتح الميم والدال المهملة وتشديد الراء، نسبة إلى مدر موضع بقصور اليمن، ذكرها الرشاطي في "الأنساب" وقال: ينسب إليها من الرواة حجر المَدَرِّي الهمداني روى عن: زيد بن ثابت، روى عنه: طاوس. قوله: "فهذا أيضًا معناه مثل معنى ما قبله" أراد أن قوله -عليه السلام-: "العمرى ميراث" وقوله: "سبيل العمرى سبيل الميراث" مثل الحديث الذي رواه طارق عن جابر، وحجر عن زيد بن ثابت في أنه مجمل يتناول وارث المعمر والمعمر، وأنه مفسر بالحديث الذي رواه طاوس عن زيد، وقد مَرَّ تحقيقه. ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن معاوية، عن النبي -عليه السلام- قال: "العمرى جائزة لأهلها". فقال أهل المقالة الأولى: أهلها هم الذي أعمروها. ش: هذا من الأحاديث الدالة على صحة العمرى، واحتج به أهل المقالة الأولى أن أهلها هم الذين أعمروها، فإذا كان كذلك تعود العمرى بعد موت المعمَر -بفتح الميم الثانية- إلى المعمِر -بكسر الميم الثانية- أو إلى ورثته. وأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب، فيه مقال، فعن البخاري: مقارب الحديث. وعن النسائي: ضعيف. عن محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا أبو خليفة الفضل بن حباب، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (19/ 323 رقم 733).

ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك: أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا عبيد بن يعيش، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمَّد ابن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، قال: قال معاوية: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من أعمر عمرى فهي له، يرثها من عقبه من ورثه". فدل هذا الحديث على أن أهلها الذين جازت لهم هم المعُمَرون لا المُعْمِرون. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد بهذا منع ما قالوا من قولهم: "أهلها هم الذين أعمروها" بيان ذلك أن حديث معاوية الآخر يدل صريحًا على أن المراد من قوله -عليه السلام-: "لأهلها" هم المعمَرون -بفتح الميم الثانية- لا المعمِرون -بكسر الميم الثانية- بأنه صرح فيه بقوله: فهي له يرثها من عقبة من ورثه". أخرجه عن فهد بن سليمان، عن عبيد بن يعيش المحاملي العطار شيخ مسلم، والبخاري في غير الصحيح، عن يونس بن بكير الشيباني، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "فهي له" أي: فالعمرى للمُعْمَر -بفتح الميم الثانية. قوله: "يرثها" أي العمرى، وهي جملة من الفعل والمفعول. وقوله: "من ورثه" فاعلها، والضمير المنصوب في "ورثه" يرجع إلى "مَنْ" في قوله: "من أعمَر". قوله: "من عقبه" أي من بعده، أي من بعد موته. ص: وقد حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- قال: "العمرى لمن وُهِبَتْ له". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 510 رقم 22631).

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن هشام بن عبد الله، عن يحيى. . . . فذكر مثله بإسناده. حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أمسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له". حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عمرى، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له". ش: من الأحاديث الدالة على صحة العمرى: ما روي عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. أما حديث جابر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن أبي الحواري، عن الوليد، عن الأوزاعي .. إلى آخره نحوه. والنسائي (¬2): عن عيسى بن مساور، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 294 رقم 3552). (¬2) "المجتبى" (6/ 275 رقم 3741).

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "العمرى لمن وهبت له". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد [الحميد] (¬3) الحماني، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف. ثقة، روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "العمرى جائزة لمن أعمرها". وأخرجه النسائي (¬5): عن أحمد بن حرب، عن أبي معاوية، عن حجاج. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1246 رقم 1625). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1247 رقم 1625). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من مصادر ترجمته. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 509 رقم 22616). (¬5) "المجتبى" (6/ 269 رقم 3710).

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن إسماعيل بن أبي كثير المدني قارئ أهل المدينة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن حجر أنا إسماعيل، عن محمَّد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عمرى، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، به. وقال ابن عساكر في "الأطراف": المحفوظ رواية أبي سلمة عن جابر، كذلك رواه الزهري ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. واعلم أن الطحاوي قد أخرج أحاديث هذا الباب عن زيد بن ثابت ومعاوية وجابر وابن عباس وأبي هريرة وسمرة بن جندب على ما يأتي. ولما أخرج الترمذي حديث سمرة قال: وفي الباب عن زيد بن ثابت وجابر وأبي هريرة وعائشة وابن الزبير ومعاوية. قلت: وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. أما حديث عائشة فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إبراهيم بن هانئ، ثنا محمَّد بن يزيد بن سنان، عن يزيد بن سنان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تُعمروا شيئًا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئًا فهو لمن أُعْمِرَه أو أُرْقِبَهُ". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 27 رقم 3752). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 796 رقم 2379).

وقد رواه غيره، عن هشام، عن أبيه مرسلًا، وقال فيه: حفص بن ميسرة، عن هشام، عن أبيه، عن أبي الزبير. وأما حديث عبد الله بن الزبير فالآن ذكرناه عن البزار. وأخرجه الطبراني أيضًا: ثنا عبد الله بن محمَّد بن سعيد بن أبي مريم، نا عمرو ابن أبي سلمة التنيسي، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "العمرى جائزة لمن أُعْمِرَها والرقبي لمن أُرْقِبَهَا، سبيلها سبيل الميراث". وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه النسائي (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، عن عطاء، أنا حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا عمرى ولا رقبي، فمن أُعْمِرَ شيئًا أو أُرْقِبَهُ فهو له حياته ومماته". ص: فقال أهل المقالة الأولى: فنحن لا ننكر أن تكون العمرى لمن أُعمِرَها، وإنما قلنا: إنها ترجع إلى المُعْمِر بعد موت المُعْمَر، فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن رسول الله -عليه السلام- نهى فيما ذكرنا من الآثار عن العمرى، فاستحال أن يكون ينهى عنها وهي تجري كما عُقدت؛ ولكنه نهى عنها لأنها تجرى على خلاف ذلك، ثم قال: "من أُعْمِرَ شيئًا فهو له" فأرسل ذلك ولم يقل: فهو له ما دام حيًّا، فدل ذلك على أنها له كسائر ماله في حياته وبعد موته، وهذا معنى ما روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه جعلها جائزة، أي جعلها جائزة للمُعْمَر، لا حق فيها للمُعْمِر بعد ذلك أبدًا. ش: حاصل هذا الكلام أن أهل المقالة الأولى قالوا لأهل المقالة الثانية: كل ما ذكرتم من الحجج لا تضرنا؛ لأنَّا لا ننكر أن تكون العمرى لمن أُعْمِرَهَا، فتكون العمرى لمن أُعْمِرها ولكنها ترجع إلى المُعْمِر -بكسر الميم الثانية- بعد موت المُعْمَر -بفتح الميم- فأجاب الطحاوي عن هذا بقوله: فكان من حجتنا عليهم في ذلك أي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 273 رقم 3732).

فيما قالوا: أن رسول الله -عليه السلام- نهى في الأحاديث المذكورة عن العمرى، فمن المحال أن يكون النبي -عليه السلام- ينهى عن العمرى والحال أنها تجري مثل ما عقدت، ولكنه إنما نهى عنها لأنها تجرى على خلاف ذلك، ثم قال: "من أُعْمِرَ شيئًا فهو له" فأرسل أي: أطلق، أراد أنه لم يقيده بحياته ولم يقل: ما دام حيًّا، فدل إطلاقه ذلك على أن العمرى له كسائر ماله في حياته وبعد موته، فإذا كان كذلك تكون من بعده لورثته، وهذا مستفاد من معنى قوله -عليه السلام-: "العمرى جائزة لأهلها" ومعنى جوازها لأهلها أن تكون للمُعْمَر -بفتح الميم الثانية- لا حق فيها للمُعْمِر -بكسر الميم الثانية- بعد ذلك أبدًا. ص: فمما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جعلها جائزة: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العمرى جائزة". ش: أي: فمن الأحاديث التي رويت عن رسول الله -عليه السلام- أنه -عليه السلام- جعلها جائزة حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى .. إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي -عليه السلام- قال: "العمرى جائزة لأهلها، أو ميراث لأهلها". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن محمَّد بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة. . . . إلى آخره. فإن قيل: قد روي عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا عمرى" كما مَرَّ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 632 رقم 1349). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 509 رقم 22617).

ذكره يعارض هذا الحديث، وكذلك يعارض حديث أبي هريرة الآخر الذي رواه عنه بشير بن نهيك. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن معنى قوله: "لا عمرى" بالشروط الفاسدة نفي لا تجري العمرى كما هي عقدت كما أشار إليها الطحاوي فيما مضى، ومعنى قوله: "العمرى جائزة" يعني قد جازت على المُعْمِرَ، وجازت على المُعْمِر في حياته ولورثته بعد مماته كسائر أمواله. ص: والدليل على ذلك أيضًا: أن ابن أبي داود وأحمد بن داود قد حدثانا، قالا: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، قال: قال لي سليمان بن هشام: "ما تقول في العمرى؟ فقلت له: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "العمرى جائزة". قال الزهري: إنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه، فقال لعطاء بن أبي رباح: ما تقول؟ فقال: حدثني جابر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "العمرى ميراث". فهذا عطاء وقتادة قد جعلاها جائزة للمُعْمَرِ موروثة عنه، ولم ينكر ذلك عليهما الزهري، وإنما قال: لا تكون عمرى فيكون هذا حكمها حتى تجعل للمُعْمَر ولعقبه، فتكون كماله، وتكون موروثة عنه كما يورث عنه سائر ماله، وإن كان من يرثها عنه فيهم خلاف عقبه على ما حدثه أبو سلمة، وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى. ش: أي: الدليل على ما ذكرنا من أن العمرى جائزة وأنها تكون للمُعْمَرِ في حياته وبعده لورثته: أن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأحمد بن داود المكي، قالا: حدثنا أبو عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود .. إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وبشير -بفتح الباء- بن نهيك السدوسي روي له الجماعة، وسليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، كان أميرًا في عهد أبيه هشام.

وأخرجه البيهقي مطولًا (¬1): من حديث الأصم: ثنا عباس الدوري، ثنا الحوضي، ثنا همام، ثنا قتادة قال: قال لي سليمان بن هشام: إن هذا لا يدعنا -يعني الزهري- نأكل شيئًا إلا أمرنا أن نتوضأ منه، قلت: سألت عنه سعيد بن المسيب فقال: إذا أكلت وهو طيب فليس عليك فيه وضوء، وإذا خرج فهو خبث عليك فيه الوضوء، فقال: ما أراكما إلا قد اختلفتما فهل في البلد أحد؟ قلت: نعم، أقدم رجل في جزيرة العرب، قال: من؟ قلت: عطاء، فأرسل إليه، فجيء به، فقال: إن هذين قد اختلفا عَلَيَّ، فما تقول؟ قال: حدثني جابر بن عبد الله أنهم أكلوا مع أبي بكر - رضي الله عنه - خبزًا ولحمًا، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فقال لي: ما تقول في العمرى؟ قلت: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي -عليه السلام- قال: العمرى جائزة، قال: وقال الزهري: إنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه، قال: فقال لعطاء: ما تقول؟ قال: حدثني جابر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: العمرى جائزة. قال الزهري: إن الخلفاء لا يقضون بذلك، قال عطاء: بلى؛ قضى به عبد الملك بن مروان في كذا وكذا. ورواه البخاري (¬2) دون القصة. ص: ومما يدل أيضًا على صحة ما ذكرنا: أن يونس حدثنا، قال: ثنا سفيان، [عن ابن جريج عن عطاء] (¬3)، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أُعْمِر شيئًا أو أُرْقبَه فهو للوارث إذا مات". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها، فإنه من أُعْمِرَ فهي له حيًّا وميتًا ولعقبه". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 174 رقم 11758). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 925 رقم 2483). (¬3) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا وهب بن جرير قال: ثنا هشام، [عن أبي الزبير] (¬1) عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أُعْمِر عمرى حياته فهي له في حياته ولورثته بعد موته". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن حميد، عن جابر قال: "نحل رجل منا أمه نحلى لها حياتها، فلما ماتت قال: أنا أحق بنحلي، فقضى النبي -عليه السلام- أنها ميراث". قال ابن أبي شيبة: حميد هذا رجل من كندة. فقد كشفت لنا هذه الآثار مراد رسول الله -عليه السلام- في الآثار التي قبلها، وأنها على ما وصفنا من التأويل الذي ذكرنا. ش: أي: ومن الذي يدل على صحة ما ذكرنا من أن العمرى جائزة، وأنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه؛ حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. أخرجه من أربع طرق: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمَّد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر .. إلى آخره نحوه. قوله: "لا تعمروا" من الإعمار، "ولا ترقبوا" من الإرقاب، والاسم: الرقبي وهي فُعلى -بالضم- من المراقبة، وهي أن يقول الرجل لآخر: قد وهبت لك هذه الدار، فإن مُتَّ قبلي رجعت إلي، وإن مُتُّ قبلك فهي لك. وقد اختلف العلماء فيها، فأجازها أبو يوسف والشافعي وأحمد، وأبطلها القاضي شريح وأبو حنيفة ومحمد -رحمهم الله-. الثاني: أيضًا إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) "المجتبى" (6/ 272 رقم 3731).

وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه. الثالث: أيضًا صحيح: وأخرجه النسائي (¬2): أنا محمَّد بن عبد الأعلى، ثنا خالد، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها، فمن أُعْمِر شيئًا حياته فهو له حياته وبعد موته". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، عن يحيى بن أبي زكرياء بن أبي زائدة، عن أبيه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن حميد الكندي -وليس هو بحميد الطويل، ولم أر أحدًا تكلم فيه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3). قوله: "فقد كشفت لنا هذه الآثار" أي الأحاديث المروية فيما مضى. ص: وقد رويت في العمرى أيضًا آثار بغير هذا اللفظ، فمنها: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أيما رجل أُعْمِر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لأنه أعطي عطاء وقعت فيه المواريث". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا؟ ليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من أعمر رجلًا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أُعْمِرَها ولعقبه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1246 رقم 1625). (¬2) "المجتبى" (6/ 274 رقم 3737). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 10 رقم 29073).

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- فَمَن أُعْمِرَ عمرى فهي له ولعقبه بتَّةٌ، لا يجوز للمعطِي فيها شرط ولا ثُنْيا". ففي هذه الآثار: من أُعْمرَ عمرى له ولعقبه، فهي للذي أُعْمِرَها لا ترجع إلى المعطي بشرط ولا ثنيا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. ش: أي: قد رويت عن النبي -عليه السلام- أيضًا أحاديث بغير لفظ الأحاديث المذكورة عن جابر وغيره فيما مضى. قوله: "فمنها" أي فمن هذه الآثار المروية: ما حدثنا يونس بن عبد الأعلى .. إلى آخره. وأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري -عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن جابر. وأخرجه النسائي (¬3): أنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 756 رقم 1441). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1245 رقم 1625). (¬3) "المجتبى" (6/ 275 رقم 3744).

أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جبار، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من أعمر رجلًا. . . ." إلى آخره نحوه. الثالث: عن ربيع المؤذن -صاحب الشافعي- عن أسد بن موسى، عن ليث بن سعد. . . . إلى آخره. الرابع: عن ربيع أيضًا، عن أسد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬1): نا محمَّد بن رافع، نا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى فيمن أُعْمِرَ عمرى له ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا، قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه". قوله: "بتة" أي قاطعة من البت وهو القطع، وكذلك البتل، ومنه ما جاء في الحديث: "بتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العمرى". أي أوجبها وملكها ملكًا لا يتطرق إليه نقض، يقال: بتَلَه يَبْتِلُه بَتْلًا إذا قطعه، وانتصاب "بَتَّةً" على المصدرية. قوله: "ولا ثنيا" بضم الثاء المثلثة وسكون النون، وهو بمعنى الاستثناء. ص: فقال الذين أجازوا الشرط في العمرى: بهذا نقول، إذا وقعت فيه العمرى على هذا لم ترجع إلى المعطي أبدًا، وإذا لم يكن فيها ذكر العقب فهي راجعة إلى المعطي بعد زوال المُعْمَر. قالوا: وهذا أولى مما روى عطاء وأبو الزبير، عن جابر؛ لأن هذا قد زاد عليهما قوله: "ولعقبه" وليس هو بدونهما، فالزيادة أولى. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1246 رقم 1625).

ش: أي: فقال القوم الذين أجازوا الشرط في العمرى بقوله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم" وهم أهل المقالة الأولى، ومنهم: مالك والليث بن سعد كما قد ذكرنا، والحاصل أنهم قالوا: نحن نقول مثلكم من كون العمرى للمُعْمَر ولعقبه بتة إذا وقعت معقبة على ما وصف في حديث أبي سلمة عن جابر، وأما إذا لم يكن فيها ذكر العقب فهي راجعة إلى المعطِي -بكسر الطاء بعد زوال المُعْمَر-بفتح الميم الثانية- قالوا: "وهذا أولى" أي الذي رواه أبو سلمة أولى مما رواه عطاء بن أبي رباح وأبو الزبير محمَّد بن مسلم عن جابر، وهو الذي ذكر فيما قبل هذا؛ "لأن هذا" أي أبا سلمة "قد زاد عليهما" أي على عطاء وأبي الزبير. قوله: "لعقبه" حيث قال في روايته: "أيما رجل أُعْمِرَ عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها. . . ." الحديث. "وليس هو" أي أبو سلمة "بَدونهما" أي بدون عطاء وأبي الزبير في ارتفاع الشأن وجلالة القدر "فالزيادة أولى" لأنها من الثقة الثبت والعمل بالزيادة أكثر فائدة وأشد إيضاحًا وأقوى بيانًا في الحكم. ص: فكان من حجتنا للآخرين في ذلك: أنه لو لم يكن روي عن رسول الله -عليه السلام- في العمرى حديث غير حديث أبي سلمة هذا؛ لكان فيه أكبر الحجة للذين يقولون أن العمرى لا ترجع إلى المُعْمِر أبدًا ولا يجوز شرطه، وذلك أن العمرى لا تخلو من أحد وجهين: إما أن تكون داخلة في قول النبي -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم" فينفذ للمُعْمِر فيها الشرط على ما شرطه لا يبطل من ذلك شيء، كما تنفذ الشروط من الموقف فيما يوقف. أو تكون خارجة من ملك المُعْمِر داخلة في ملك المُعَمر فتصير بذلك في سائر ماله. ويبطل ما شرطه عليه فيها، فنظرنا في ذلك، فإذا العمرى إذا أوقعت على أنها للمُعْمَر ولعقبه فمات وله عقب وزوجة أو أوصى بوصايا، أو كان عليه دين؛ أن

تلك الأشياء تنفذ فيها كما تنفذ في ماله، ولا يمنعها الشرط الذي كان من المُعْمِر في جعله إياها له ولعقبه، وزوجته ليست من عقبه ولا غُرَمَاؤه ولا أهل وصاياه، وكذلك لو مات المُعْمَر ولا عقب له لم يرجع بشيء من ذلك إلى المُعْمِر، فلما كان ما وصفنا كذلك كانت كذلك أبدًا تجوز على ما جعلها عليه المعمَر، ويبطل شرطه الذي اشترطه فيها فلا ينفذ منه قليل ولا كثير، وتخرج من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" فتكون شروطها ليست من الشروط التي عناها النبي -عليه السلام-. وهذا القول الذي صححناه هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي: فكان من دليلنا وبرهاننا لأهل المقالة الثانية في ما ذكروا: أنه أي أن الشأن لو لم يكن روي عن النبي -عليه السلام- غير حديث أبي سلمة عن جابر هذا المذكور أي لكان فيه أكبر الحجة لأهل المقالة الثانية، ثم بين ذلك بقوله: "وذلك أن العمرى. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "لا ترجع إلى المُعْمِر" بكسر الميم الثانية. قوله: "في الموقف" بكسر القاف، فاعل من الإيقاف، من أوقفَ، وهذه لغة ردية، واللغة الفصيحة: يوقف يقف وقفًا، قال الجوهري: وقفت الدار للمساكين وقفًا وأوقفتها -بالألف- لغة ردية، وليس في الكلام "أوقفت" إلا حرف واحد، وأوقفت عن الأمر الذي كنت فيه أي أقلعت. قوله: "من ملك المُعْمِر" بكسر الميم الثانية. قوله: "داخلة في ملك المُعْمَر" بفتح الميم الثانية، وكذلك قوله: "على أنها للمُعْمَر"، والميم تكسر وتفتح بحسب المعنى ولا يظهر ذلك إلا بالتأمل. ص: وقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثل ذلك: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت ابن عمر وسأله رجل عن رجل وهب لرجل ناقة حياته فنتجت، فقال: هي له وأولادها، فسألته بعد ذلك فقال: هي له حيًّا وميتًا".

ش: أي قد روي عند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مثل ما ذكرنا من أن العمرى تكون للمُعْمَر حياته وبعده لعقبه. وأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: "أتاه أعرابي، فقال: إني أعطيت ابن أختي ناقة حياته، فنمت حتى صارت إبلًا، فما ترى فيها؟ قال: هي له حياته وموته، فقال الأعرابي: إنما جعلتها صدقة، قال: ذاك أبعد لك منها". وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث ابن عيينة، عن عمرو، عن حميد الأعرج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: "كنت عند ابن عمر - رضي الله عنهما -، فجاءه رجل من أهل البادية، فقال: إنى وهبت لابني ناقة حياته، وإنها نتجت إبلًا، فقال ابن عمر: هي له حياته وموته، فقال: إني تصدقت عنه بها، فقال: ذاك أبعد لك منها". وأخرج (¬3) أيضًا من حديث ابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "حضرت شريحًا قضى لأعمي بالعمرى، فقال له الأعمى: يا أبا أمية، بم قضيت لي؟ فقال شريح: لست أنا قضيت لك، ولكن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قضى لك منذ أربعين سنة، قال: من أُعْمِر شيئًا حياته، فهو لورثته إذا مات" والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 510 رقم 22624). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 174 رقم 11762). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 175 رقم 11765).

ص: باب: الصدقات الموقوفات

ص: باب: الصدقات الموقوفات ش: أي: هذا باب من بيان أحكام الصدقات الموقوفة. الوقف في اللغة: الحبس، يقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها، وفي الشرع: الوقف حبسُ عينٍ على ملك الواقف وتصدق بالمنفعة، وقد ذكرنا في الباب السابق أن اللغة الفصيحة وقفت، ولا يقال: أوقفت بالهمزة إلا على لغة ردية. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، وسعيد بن سفيان الجحدري، قالا: ثنا ابن عون، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: "أن عمر - رضي الله عنه - أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي -عليه السلام- فقال: إنى أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أحسن منها، فكيف تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها لا تباع ولا توهب -قال أبو عاصم: فأراه قال: ولا تورث- فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متمول. قال: فذكرت ذلك لمحمد فقال: غير متأثل". حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن عبد العزيز بن مطلب، عن يحيى بن سعيد، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر: "أن عمر - رضي الله عنه - استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يتصدق بماله بثمغ، فقال رسول الله -عليه السلام-: تصدق به، يقسم تمره ويحبس أصله، لا يباع ولا يوهب". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز عن أبي عاصم النبيل الضحاك ابن مخلد شيخ البخاري، وعن سعيد بن سفيان الجحدري نسبة إلى جحدر اسم رجل، وهو ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكانة بن معبد بن علي بن بكر بن وائل البصري، قال أبو حاتم: محله الصدق. روي له الترمذي. وهما يرويان عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، روي له الجماعة.

عن نافع مولى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه البخاري (¬1): نا مسدد، ثنا يزيد بن زريع، قال: نا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أصاب عمر - رضي الله عنه - بخيبر أرضًا، فأتى النبي -عليه السلام- فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أفضل منه، فكيف تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. وأخرجه (¬2) عن أبي عاصم، عن ابن عون أيضًا مختصرًا. وأخرجه مسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، قال: أنا سليم بن جعفر، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أصاب عمر - رضي الله عنه - أرضًا بخيبر، فأتى النبي -عليه السلام- يستشيره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر - رضي الله عنه - أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه". قال: فحدثت بهذا الحديث محمدًا، فلما بلغت هذا المكان "غير متمول" قال محمَّد: "غير متأثل مالًا"، قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه: "غير متأثل مالًا". وأخرجه النسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي داود الحفري عمر بن سعد، عن الثوري، عن ابن عون، عن نافع. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1019 رقم 2620). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1020 رقم 1621). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1255 رقم 1632). (¬4) "المجتبى" (6/ 230 رقم 3597).

وعن هارون (¬1) بن عبد الله، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن ابن عون، عن نافع. وعن إسماعيل (¬2) بن مسعود، عن بشر، عن ابن عون، عن نافع. وعن إسحاق (¬3) بن إبراهيم، عن أزهر السمان، عن ابن عون، عن نافع. الطريق الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن، عن عمه عبد الله بن وهب المصري. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬4): من حديث ابن وهب: أخبرني إبراهيم بن سعد إلى آخره نحوه. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬5): ثنا محمَّد بن عبد الله بن زكرياء، نا أبو عبد الرحمن النسائي، نا محمَّد بن مصفى بن بهلول، نا بقية، عن سعيد بن سالم المكي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "سألت رسول الله -عليه السلام- عن أرض من ثمغ فقال: حَبِّس أصلها وَسبِّل ثمرها". قوله: "بخيبر" هي بلد بين عنزة في جهة الشمال والشرق عن المدينة على نحو ستة مراحل. "وخيبر" بلغه اليهود: الحصن، وقيل: أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل اسمه خيبر فسميت به، ولها نخيل كثير وكان في صدر الإِسلام دارًا لبني قريظة والنضير، وحكي عن الزهري أن خيبرًا فتحت في سنة ست من الهجرة، والصحيح أن ذلك كان في أول سنة سبع من الهجرة. قوله: "فأراه" أي أظنه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 230 رقم 3598). (¬2) "المجتبى" (6/ 231 رقم 3600). (¬3) "المجتبى" (6/ 231 رقم 3601). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 160 رقم 11672). (¬5) "سنن الدارقطني" (4/ 193 رقم 5).

قوله: "والقربى" على وزن فُعْلى -بالضم- مصدر في الأصل، تقول: بيني وبينه قرابة وقربي وقرب ومَقْرَبة ومَقْرُبة وقُرْبَة وقُرْبة بضم الراء وسكونها، قال الله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬1) أراد به هاهنا القرابة في الرحم. قوله: "والرقاب" جمع رقبة، وفي معناها قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وجماعة. والثاني: أنه العتق وذلك بالابتياع مَنْ بالوقف ثم العتق. ويكون ولاؤهم لأصحاب الوقف إن كان له أهل. قال مالك: سبيل الله كثيرة، وقال أبو يوسف، سبيل الله منقطع الغزاة، وقال محمَّد: منقطع الحاج، وبه قال أحمد وإسحاق. قوله: "وابن السبيل" وهو الذي انقطعت به الأسباب في سفره، وغاب عن بلده وماله بحيث لا يقدر عليه. قوله: "لا جناح على من وليها" أي لا إثم على من ولي الأرض الموقوفة وأراد به القَيِّم عليها والناظر في أمرها من جهة الواقف أو من جهة الإِمام. قوله: "غير متمول" نصب على الحال، يقال: مال الرجل وتمول إذا صار ذا مال، وقد مَوَّله غيره، ويقال: رجل مال أي كثير المال، كأنه قد جعل نفسه مالًا، وحقيقته: ذو مال. قوله: "غير متأثل" أي غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد ماثل، أي مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء أصله، ومنه ما جاء في حديث أبي قتادة أنه لأول مالٍ تأثلته. قوله: "فذكرت ذلك لمحمد" أراد به محمَّد بن سيرين، والذاكر هو ابن عون. قوله: "بثمغ" أي في ثَمَغ، وهو بفتح الثاء المثلثة والميم، وفي آخره غين معجمة، وهي بقعة على نحو ميل من المدينة، وكان بها مال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية: [7].

ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه أن الوقف مشروع؛ خلافًا لمن يبطله جملة، وهو قول شريح، ولا خلاف بين الجمهور في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الواقف حيًّا حتى إن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة. ولا خلاف أيضًا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مُتُّ، فقد جعلت داري أو أرضي وقفًا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي. واختلفوا في جوازه مزيلًا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت، ولا اتصل به حكم حاكم، فقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته، وإذا مات يصير ميراثًا لورثته. وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء: يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بينهما إذا وقف في حالة المرض حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعًا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم، وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده ويعتبر من الثلث، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته، وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض، وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطًا أو خانًا للمسافرين أو سقاية للمسلمين، أو جعل أرضه مقبرة، لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة إلا إذا أضاف إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما يزول بدون ذلك، لكن عند أبي يوسف بنفس القول وعند محمَّد بواسطة التسليم، وذلك تسليم المسافرين في الرباط والخان واستسقاء الناس في السقاية والدفن في المقبرة، وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدًا يجوز، وتزول الرقبة عن ملكه، لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد حتى كان له أن يرجع قبل

ذلك، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله: جعلته مسجدًا وليس له أن يرجع عنه. الثاني: احتج به الجمهور وأبو يوسف ومحمد على ما ذهبوا إليه، وقد ذكرناه مفصلًا. الثالث: فيه أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا يصير ميراثًا؛ لأنه صار لله تعالى وخرج عن ملك الواقف، واختلفوا: هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم لا؟ فقال أصحابنا: لا يدخل، لكنه ينتفع بغلته بالتصدق عليه؛ لأن الوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع، والحبس لا يوجب ملك المحبوس كالرهن، وعن الشافعي ومالك وأحمد: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه لو كان أهلًا له، وعن الشافعي في قول: ينتقل إلى الله تعالى. وهو رواية عن أصحابنا، وعن الشافعي أن الملك في رقبة الوقف لله تعالى، وذكر صاحب "التحرير" أنه إذا كان الوقف على شخص، وقلنا الملك للموقوف عليه افتقر إلى قبضه كالهبة، وقال النووي في "الروضة": هذا غلط ظاهر. الرابع: فيه أن الوقف يجوز بلفظ: حبست، بل الأصل هذه اللفظة؛ لأن الوقف في اللغة الحبس. وفي "الروضة": لا يصح الوقف إلا بلفظ، فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدًا وألفاظه على مراتب: إحداها: قوله: وقفت كذا أو حبست أو سبَّلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور وفي وجهٍ: هذا كله كناية، وفي وجه: الوقف صريح والباقي كناية. الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أَبَّدْتُها، أو داري محرمة، أو مؤيدة، كناية على المذهب.

الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح فإن زاد معه صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة؛ التحق بالصريح، وقيل: لابد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب، وقال الحنابلة: يصح الوقف بالقول، وفي الفعل الدال عليه روايتان، وألفاظه الصريحة: وقفت وحبست وسلبت، والكناية: تصدقت وحرمت وأبدت، وتحتاج الكناية إلى نية أو زيادة حكم الوقف، وإن كان على -أو من- معيَّن افتقر إلى قبول، كالوصية والهبة. وقال القاضي: منهم لا يفتقر إلى قبوله كالعتق. الخامس: فيه أن قيم الوقف له أن يتناول من غلة الوقف بالمعروف، ولا يأخذ أكثر من حاجته، هذا إذا لم يعين الواقف له شيئًا معينًا، فإذا عَيَّنَهُ، له أن يأخذ ذلك قليلًا أو كثيرًا. والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا وقف داره على ولده وولد ولده ثم من بعدهم في سبيل الله أن ذلك جائز، وأنها خرجت بذلك من ملكه إلى الله -عز وجل-، ولا سبيل له بعد ذلك إلى بيعها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن قال ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وهو قول أهل المدينة والبصرة. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر. وممن قال بقولهم: أبو يوسف ومحمد، وروي ذلك عن عثمان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وخالد بن الوليد - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو حنيفة وزفر بن الهذيل فقالوا: هذا كله ميراث لا يخرج من ملك الذي أوقفه بهذا السبب. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: شريحًا وعطاء بن السائب وأبا بكر بن محمَّد وأبا حنيفة وزفر؛ فإنهم قالوا: الوقف غير لازم، وهو ميراث لا يخرج عن ملك الواقف.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك، أن رسول الله -عليه السلام- لما شاوره عمر - رضي الله عنه - في ذلك، قال له: "حَبِّس أصلها وَسبِّل الثمرة" فقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك تخرج به من ملكه، ويجوز أن يكون ذلك لا يخرجها من ملكه ولكنها تكون جارية على ما أجراها عليه من ذلك ما تركها، ويكون له فسخ ذلك متى شاء، كرجل جعل لله عليه أن يتصدق بثمرة نخله ما عاش، فيقال له: أنفذ ذلك ولا يجبر عليه، ولا يؤخذ به إن شاء وإن أبى، ولكن إن أنفذ ذلك فحسن فإن منعه لم يجبر عليه وكذلك ورثته من بعده إن أنفذوا ذلك على ما كان أبوهم أجراه عليه فحسن، وإن منعوه ذلك كان ذلك لهم وليس في بقاء حبس عمر - رضي الله عنه - إلى غايتنا هذه مما يدل على أنه لم يكن لأحد من أهلهم نقضه فإنما الذي يدل على أنه ليس لهم نقضه لو كانوا خاصموا فيه بعد موته فمنعوا من ذلك، فلو كان ذلك لكان فيه لعمري ما يدل على أن الأوقاف لا تباع ولكن إنما جاء في تركهم لوقف عمر - رضي الله عنه - يجرى على ما كان عمر أجراه عليه في حياته ولم يبلغنا أن أحدًا منهم عرض فيه بشيء. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه؛ وأراد به: أن الذي احتج به أهل المقالة الأولى من قضية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في لزوم الوقف غير تام، وبين ذلك بقوله: فقد يجوز أن تكون. . . . إلى آخره وهو ظاهر. قوله: "لَعَمْرِي" بفتح اللام، وهو قسم في محل الرفع على الابتداء، وخبره محذوف تقديره لعمري قسمي أو ما أقسم به، وكذلك لعمرك قسمي. ص: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على أنه قد كان له نقضه. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله -عليه السلام-أو نحو هذا- لرددتها". فلما قال عمر - رضي الله عنه - هذا، دل أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها وأنه إنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله -عليه السلام- أمره فيها بشيء وفارقه

على الوفاء به، فكره أن يرجع عن ذلك كما كره عبد الله بن عمرو أن يرجع بعد موت رسول الله عن الصوم الذي كان فارقه عليه أنه يفعله، وقد كان له أن لا يصوم. ش: ذكر هذا شاهدًا لما قاله من الكلام فيما تقدم. وأخرجه بإسناد صحيح مرسل: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زياد بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. فإن قلت: قال ابن حزم: الخبر الذي ذكروه عن مالك منكر وبليَّة من البلايا، وكذب بلا شك، وما ندري من رواه عن يونس، ولا هو معروف من حديث مالك وَهَبْكَ لو سمعناه من الزهري لما وجب أن نتشاغل به، ولقطعنا بأنه سمعه ممن لا خير فيه كسليمان ابن أرقم وضربائه، ونحن نثبت ونقطع بأن عمر - رضي الله عنه - لم يندم على قبوله أمر رسول الله -عليه السلام- وما اختاره له من حبس أرضه وتسبيل ثمرتها، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1) وليت شعري إلى أي شيء كان يصرف عمر تلك الصدقة لو ترك ما أمره -عليه السلام- فيها؟! حاشى لعمر من هذا. قلت: هذا تهافت عظيم وكيف يكون هذا كذبًا ورواته من رجال الصحيح؟ وكيف لا يكون معروفًا من حديث مالك وقد روى عنه مثل عبد الله بن وهب، وروى عن عبد الله مثل يونس بن عبد الأعلى أحد مشايخ مسلم في "صحيحه"، وقد روى عن يونس مثل الطحاوي الإِمام؟! قوله: "ونقطع بأن عمر لم يندم. . . ." إلى آخره. كلام صادر من غير رويّ لأنه ما ادعى أحد أن عمر - رضي الله عنه - ندم لأجل أمر رسول الله -عليه السلام- إياه بالصدقة والتحبيس، وإنما كان تدارك لنفسه ما صدر منه من ذكره صدقته لرسول الله -عليه السلام-؛ لأنه بعد ذكره له ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [36].

لم يكن له رجوع عمَّا فارقه عليه، وذلك كما أن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - كره أن يرجع عن الصوم الذي فارق رسول الله -عليه السلام- عليه ومع هذا كان له أن لا يصوم، وهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ص: ثم هذا شريح - رضي الله عنه - وهو قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - قد روي عنه في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن عطاء بن السائب قال: "سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده فقال: إنما أقضي ولست أفتي، قال: فناشدته فقال: لا حبس عن فرائض الله". فهذا لا يسع القضاة جهله، ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله، ثم لا ينكر عليه منكر من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ولا من تابعيهم. ش: ذكر هذا أيضًا تأييدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) بأتم منه من حديث الحميدي: ثنا سفيان، ثنا عطاء بن السائب، قال: "أتيت شريحًا في زمن بشر بن مروان، فقلت: يا أبا أمية أفتني، فقال: يا ابن أخي إنما أنا أقضي ولست بمفت، قلت: إني والله ما جئت أريد خصومة، إن رجلًا من الحي جعل داره حبسًا، قال عطاء: فدخل من الباب الذي في المسجد في المقصورة فسمعته حين دخل وتبعته وهو يقول: فحسب الرجل تقدم إليه الخصومة، أجب الرجل، إنه لا حبس عن فرائض الله". قوله: "لا حبس عن فرائض الله" أراد أنه لا يوقف مال ولا يزول عن ورثته ولا يمنع عن القسمة بينهم، والحبس بضم الحاء وفتحها، فبالضم الاسم، وبالفتح المصدر، يقال: حَبَسْتُ أَحبْسُ حَبْسًا وأَحْبَسْت أَحْبِسُ إحْبَاسًا، أي وقفت. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 162 رقم 11689).

فإن قيل: قال ابن حزم: قوله: لا حبس عن فرائض الله قول فاسد؛ لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة والصدقة في الحياة، والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة. قلت: لا نسلم أن هذه الأشياء تسقط فرائض الورثة، أما الهبة والصدقة فإنهما تكونان في حياة الرجل ففي ذلك الوقت لا فرائض للورثة، فكيف تسقطها؟. وأما الوصية فإنها لا تنفذ إلا في الثلث، ففرائض الورثة في الثلثين؛ فافهم، بخلاف الحبس فإنه إذا حبس ماله ومات، فلو فرضنا لزوم هذا الحبس لكان قد أسقط فرائض الورثة. ص: ثم قد روي عن ابن عباس عن النبي -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أخي عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام-بعدما أنزلت سورة النساء وأنزل فيها الفرائض- نهى عن الحبس". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير وعمرو بن خالد، قالا: ثنا عبد الله بن لهيعة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح ومحمد بن خزيمة، قالا: قال لنا أحمد بن صالح: هذا حديث صحيح وبه أقول. قال روح: قال لي أحمد: وحدثنيه الدمشقي -يعني عبد الله بن يوسف- عن ابن لهيعة. فأخبر ابن عباس أن الأحباس منهي عنها غيره جائزة ولذا قد كانت قبل نزول الفرائض بخلاف ما صارت عليه بعد نزول الفرائض؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

ش: ذكر ما روي عن ابن عباس؛ تأييدًا لما قاله شريح - رضي الله عنه -. وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث يحيى بن يحيى، عن ابن لهيعة، عمن سمع عكرمة يحدث، عن ابن عباس أنه قال: "لما أنزلت الفرائض في سورة النساء قال رسول الله -عليه السلام-: لا حبس بعد سورة النساء". الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير وعمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، كلاهما عن ابن لهيعة، عن أخيه، عن عكرمة. وأخرجه ابن حزم (¬2) من طريق العقيلي، عن روح بن الفرج. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن ابن لهيعة إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬3): عن عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، عن كامل بن طلحة، عن ابن لهيعة، نحوه. الرابع: عن روح بن الفرج، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن يوسف الدمشقي، عن ابن لهيعة. وأخرجه ابن حبان (¬4) في ترجمة عيسى بن لهيعة نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 162 رقم 11686). (¬2) "المحلى" (9/ 177). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 68 رقم 3). (¬4) "الثقات" (7/ 234)، وكذا أخرجه العقيلي في ترجمة عيسى في "الضعفاء الكبير" (3/ 397) وقال: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.

فإن قيل: قال ابن حزم (¬1): هذا حديث موضوع، وابن لهيعة لا خير فيه وأخوه مثله وبيان وضعه: أن سورة النساء نزلت أو بعضها بعد أحد -يعني آية المواريث- وحُبْس الصحابة بعلم رسول الله -عليه السلام- بعد خيبر، وبعد نزول المواريث في سورة النساء وهذا أمر متواتر جيلًا بعد جيل، ولو صح هذا الخبر لكان منسوخًا باتصال الحبس بعلمه -عليه السلام- إلى أن مات. انتهى. وقال الدارقطني: لم يسند هذا الحديث غير ابن لهيعة عن أخيه، وهما ضعيفان، وقال البيهقي في "الخلافيات" والمشهور أنه قول شريح، وابن لهيعة وأخوه ضعيفان. قلت: قوله: هذا حديث موضوع عَسْفٌ عظيم غير مقبول منه، وكيف يكون موضوعًا وليس في رواته من يتهم بالوضع، ولا فيه أمارة من الأمارات التي يثبت بها الوضع؟! فإن كان هذا من أجل ابن لهيعة عن أخيه فابن لهيعة في نفسه صادق، فقد قال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقًا، وقال في موضع آخر: وحدثني الصادق البار والله ابن لهيعة. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة. وعنه: من مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. ولهذا حدث عنه أحمد في "مسنده" بحديث كثير. وقال ابن حبان: كان صالحًا، غاية ما في الباب أنه قد اشتهر بالضعف عند أكثر الناس؛ لأنه كان يدلس عن الضعفاء واحترقت كتبه. وكان ابن حبان يقول: كان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة: عبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد، وعبد الله بن مسلمة القعنبي صحيح، وقد قال مثل أحمد بن صالح المعروف بابن الطبري الحافظ الكبير المشهور المصري أحد مشايخ البخاري وأبي داود: هذا حديث ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 178).

صحيح وبه أقول. وكفى به شهيدًا، ولو لم تثبت عنده صحة هذا الحديث ووضوح طريقه وسلامة إسناده من الكدر لما حكم فيه بالصحة. وإن كان هذا من أجل أخيه عيسى بن لهيعة فإن ابن حبان ذكره في الثقات وأدخله بينهم، وروى هذا الحديث عند ترجمته. وإن كان ذلك من أجل قوله: "بيان وضعه أن سورة النساء. . . ." إلى آخره. فنقول: نعم إن آية المواريث نزلت بعد أُحُد، كما روي في حديث جابر بن عبد الله الطويل (¬1): "فجاءت المرأة بابنتين لها إلى رسول الله -عليه السلام-، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل معك يوم أحد، وقد استفى عمهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالًا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا ينكحان أبدًا إلا ولهما مال، قال رسول الله -عليه السلام-: يقضي الله في ذلك، فنزلت سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬2). وأما حبس الصحابة بعلم رسول الله -عليه السلام- بعد خيبر وبعد نزول آية المواريث فلا نسلم صحة ذلك أن يكون كذلك؛ فإنه يحتمل أن يكون قد كان قبل نزول ذلك فلم يقع حبسًا عن فرائض الله. فإن قيل: فما تقول في وقف رسول الله -عليه السلام- وفي أوقاف الصحابة بعد موت رسول الله -عليه السلام-؟. قلت: أما وقف رسول الله -عليه السلام- فإنما جاز لأن المانع من وقوعه حبسًا عن فرائض الله، ووقفه -عليه السلام- لم يقع حبسًا عن فرائض الله، لقوله -عليه السلام-: "إنَّا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3/ 120 رقم 2891)، والترمذي (4/ 414 رقم 2092)، وابن ماجه (2/ 908 رقم 2720)، وأحمد (3/ 352 رقم 14840). (¬2) سورة النساء، آية: [11]. (¬3) رواه النسائي في "الكبرى" (4/ 64 رقم 6309) وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (3/ 100): وإسناده صحيح على شرط مسلم. =

وأما أوقاف الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة، هذا هو الظاهر، والله أعلم. وأما قوله: "ولو صح هذا الخبر لكان منسوخًا" فغير صحيح أيضًا؛ لأنه مجرد دعوى، والنسخ لا يثبت إلا بدليل، ولم يبين دليله في ذلك ولا الناسخ ما هو، فَخَلُص الحديث حينئذ عما ذكره، وصح على ما قاله أحمد بن صالح المصري على ما ذكرنا، ولئن سلمنا أنه ضعيف على ما ذهب إليه الأكثرون، ولكن لا نسلم أنه موضوع لما ذكرنا، والضعيف يصلح للاستشهاد والمتابعة، فإنه لما روى هذا الحديث عن شريح بطرق صحيحة رواه أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا مسندًا تأييدًا لذلك وتأكيدًا لصحته، على أنه يفهم من كلمته أيضًا أنه يذهب مذهب أحمد بن صالح في هذا الحديث. ص: وأما وجهه من طريق النظر فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر -رحمهم الله- وجميع المخالفين لهم والموافقين قد اتفقوا أن الرجل إذا وقف داره في مرضه على الفقراء والمساكين ثم توفي في مرضه ذلك، أن ذلك جائز من ثلثه، وأنها غير موروثة عنه، فاعتبرنا ذلك هل يدل على أحد القولين؟ وكان الرجل إذا جعل شيئًا من ماله من دنانير أو دراهم صدقة فلم ينفذ ذلك حتى مات أنه ميراث، وسواء جعل ذلك في مرضه أو في صحته، إلا أن يجعل ذلك وصية بعد موته فينفذ ذلك بعد موته من ثلث ماله كما تنفذ الوصايا. فأما إذا جعله في مرضه ولم ينفذه للمساكين بدفعه إياه إليهم فهو كما جعله في صحته وكان جميع ما يفعله في صحته فينفذ من جميع ماله ولا يكون له عليه بعد ذلك ملك، مثل العتاق والهبات والصدقات هو الذي ينفذ إذا فعله في مرضه من ثلث مال. ¬

_ = قلت: والحديث متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، بلفظ: "لا نورث، ما تركنا صدقة" بدون لفظ: "إنا معشر الأنبياء" البخاري (3/ 1126 رقم 2926)، ومسلم (3/ 1380 رقم 1759).

وكان الواقف إذا وقف في مرضه داره أو أرضه وجعل آخرها في سبيل الله كان ذلك جائزًا باتفاقهم من ثلث ماله بعد وفاته، لا سبيل لوارثه عليه، وليس ذلك بداخل في قول النبي -عليه السلام-: "لا حبس عن فرائض الله". فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك سبيله إذا وقف في الصحة، فيكون نافذًا من جميع المال ولا يكون له عليه سبيل بعد ذلك. قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا. وإلى هذا أذهب وبه أقول من طريق النظر لا من طريق الآثار؛ لأن الآثار في ذلك قد تقدم وصفي لها وبيان معانيها وكشف وجوهها. ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس. . . . إلى آخره وهو ظاهر. قوله: "على أحد القولين" أراد بهما قول أهل المقالة الأولى وقول أهل المقالة الثانية. ص: فإن قال قائل: أفتخرج الأرض بالوقف من ملك ربها بوقفه إياها لا إلى ملك مالك؟ قيل له: وما تنكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين، ويخلي بينها وبينهم؛ أنها قد خرجت بذلك من ملكه لا إلى ملك مالك، ولكن إلى الله -عز وجل-، فالذي يلزم مخالفك فيما احتججت عليه بما وصفنا يلزمك من هذا مثله. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الوقف إذا صح يخرج من ملك الواقف بلا خلاف، ولكن هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم يصير إلى ملك مالك، وهو معنى قوله: أفتخرج الأرض -بهمزة الاستفهام- وعند الشافعي وأحمد وآخرين: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه وإلا يلزم أن يكون ملكًا بلا مالك. وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل: "وما تنكر من هذا" أي من خروج الوقف عن ملك الواقف لا إلى ملك مالك، وبَيَّنَ صورة ذلك ونظيره بأرض يجعلها صاحبها مسجدًا ليصلي فيه المسلمون، فإن تلك الأرض تخرج بذلك

من ملكه لا إلى ملك مالك؛ لأنها تنتقل إلى الله تعالى، وهذا لا خلاف فيه، ولهذا نظيرٌ أحسن من هذا؛ وهو العبد المشتري لخدمة الكعبة، فإنه ملك بلا مالك، وكذا كسوة الكعبة ملك بلا مالك، ولما كان الشافعي يعترض على الحنفي بأنه لا يوجد ملك بلا مالك، كيف يقول يخرج الوقف من ملك الواقف ولا يدخل في ملك الموقوف عليه، أجاب عن ذلك بقوله: "كالذي يلزم مخالفك فيما احتججت عليه بما وصفنا" أراد به قوله: "أفتخرج الأرض بالوقف من ملك ربها لا إلى ملك مالك" حاصلة: إن ألزمتنا أنت بهذا الذي ذكرته؛ يلزمك أنت أيضًا في هذا مثله، وهو ما ذكره من قوله: "وقد اتفقت أنت وخصمك. . . ." إلى آخره، حاصله: أن ما كان جوابك في مسألة المسجد فهو جوابنا فيما سألت، فافهم. ص: فإن قال قائل: فما معنى نهي رسول الله -عليه السلام- عن الحبس الذي رويته عنه في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -؟ قيل له: قد قال الناس في ذلك قولين: أحدهما: القول الأول الذي ذكرناه عند روايتنا إياه. والآخر: أن ذلك أريد به ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فكانوا يُحَبِّسون ما يجعلونه كذلك، فلا يورثونه أحدًا، فلما أنزلت سورة النساء وبين الله -عز وجل- فيها المواريث، وقسم الأموال عليها؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حبس". ش: لما بين أن الوقف صحيح نافذ، فإن كان في الصحة فمن جميع المال، وإن كان في المرض فمن الثلث، ولا سبيل للورثة عليه، وأقام عليه دليلًا من السنة والقياس انتهض سائل فقال: إذا كان الأمر كذلك، فما يكون معنى نهيه -عليه السلام- عن الحبس الذي روي عن ابن عباس مرفوعًا، وعن شريح موقوفًا عليه؟! فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له. . . ." إلى آخره، بيانه: أن العلماء أجابوا عن ذلك بجوابين: منهم من قال: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، وقد مضى الكلام فيه.

ومنهم من قال: "إن ذلك أريد به ما كان أهل الجاهلية. . . ." إلى آخره، وهذا القول منقول عن الشافعي ومالك، فقال البيهقي في "الخلافيات": أنا أبو عبد الله الحافظ محمَّد بن عبد الله والأستاذ أبو الطاهر محمَّد بن محمش الفقيه من أصل كتابه، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، قال: سمعت محمَّد بن عبد الله ابن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: قال مالك: "الحبس الذي جاء محمَّد -عليه السلام- بإطلاقه هو الذي في كتاب الله -عز وجل- {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬1) قال محمَّد بن عبد الله: كَلَّم به مالك أبا يوسف عند أمير المؤمنين". وأخرجه في "سننه الكبرى" (¬2): من حديث ابن عبد الحكم أيضًا، سمعت الشافعي يقول: "اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين، فتكلما في الوقوف وما يحبسه الناس، فقال يعقوب: هذا باطل، قال شريح: جاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس، وقال مالك: إنما جاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة. فأما الوقوف فهذا وقف عمر - رضي الله عنه - حيث استأذن النبي -عليه السلام- فقال: "حَبِّس أصلها وَسبِّل ثمرتها"، وهذا وقف الزبير - رضي الله عنه -. فأعجب الخليفة ذلك منه وبقي يعقوب" قلت: يعني انقطع. و"البحيرة" من البحر وهو الشق، كانوا إذا ولدت إبلهم سَقْبًا بحروا أذنه -أي شقوها- وقالوا: اللهم إن عاش فَفَتِيّ، وإن مات فَذَكِيّ، فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة. وقيل: البحيرة هي بنت "السائبة"، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، وتركوها مسيَّبَة لسبيلها، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [3]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 163 رقم 11692).

وسموها السائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها وخلوا سبيلها وحرم منها ما حرم من أمها وسموها البحيرة. وقيل: السائبة كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو شفاء من مرض أو غير ذلك قال: ناقتي سائبة، فلا تمنع من ماء ولا مرعى، ولا تحلب ولا تركب، وكان الرجل إذا أعتق عبدًا فقال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجئ كيف شاءت. "والوصيلة": هي الشاة ولدت ستة أبطن اثنين اثنين وولدت في السابعة ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها فأحلوا لبنها للرجال، وحرموه على النساء. وقيل: إن كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاه ولم يذبح، وكان لبنها حرامًا على النساء. "والحام": هو الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم. قال الفراء: إذا لقح ولد وَلَدَهُ فقد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يجزّ له وبر، ولا يمنع من مرعى، فهو فاعل من حمَى يحمي حماية، إذا وقيت عنه. ص: ثم تكلم الذين أجازوا الصدقات الموقوفات فيما بعد تثبيتهم إياها على ما ذكرنا، فقال بعضهم: هي جائزة قبضت من المتصدق بها أو لم تقبض، وممن قال بذلك: أبو يوسف. وقال بعضهم: لا تنفذ حتى يخرجها من يده ويقبضها منه غيره، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أراد بالذين أجازوا الصدقات أهل المقالة الأولى، وأنهم بعد اتفاقهم على صحة الوقف وجوازه، اختلفوا في القبض هل هو شرط فيه كالهبة، أم ليس بشرط كالعتق؟ فقال بعضهم وأراد بهم: الشافعي -في قول- وأحمد وإسحاق: القبض ليس بشرط، وممن قال بهذا القول: أبو يوسف.

وقال بعضهم: وأراد بهم: طائفة من فقهاء المدينة والكوفة يشترط القبض، حتى إنه لا ينفذ حتى يقبضها منه غير الواقف. وممن قال بذلك: محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن والشافعي في أصح أقواله. ص: فاحتجنا أن ننظر في ذلك لنستخرج من ذلك القولين قولًا صحيحًا، فرأينا أشياء يفعلها العباد على ضروب: فمنها: العتاق ينفد بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه إلى الله -عز وجل-. ومنها: الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذي مَلَّكها له. فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيهما هي أشبه فنعطفه عليه؟ فرأينا الرجل إذا وقف أرضه أو داره فإنما ملك الذي أوقفها عليه منافعها ولم يملكه من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله -عز وجل-، فثبت أن ذلك نظير ما أخرجه من ملكه إلى الله -عز وجل-. فلما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول؛ كان كذلك أيضًا الوقف لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول. ش: أشار بهذا الكلام إلى ترجيح قول من لا يشرط القبض، وَبَيَّنَ وجه الترجيع بقوله: "فرأينا أشياء. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "على ضروب" أي على أنواع وهو جمع ضرب. قوله: "بأيهما" أي بأي الضربين "أشبه فنعطفه عليه" أي فنضمه إليه ونجعل حكمه كحكمه. ص: وحجة أخرى: أن القبض لو أوجبناه؛ فإنما لأن القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إياه وغير قبضه إياه سواء.

فثبت بما ذكرنا ما ذهب إليه أبو يوسف -رحمه الله-. ش: أي دليل آخر لمن لا يشترط القبض، حاصله: أن اشتراط القبض لا يفيد، لأن الموقوف عليه يقبض حينما يقبض ما لم يملكه؛ لأنه لا يملك رقبته، فإذا كان كذلك فقبضه وعدم قبضه سواء، فظهر بذلك قول أبي يوسف على قول غيره، والله أعلم بالصواب.

ص: كتاب القضاء والشهادات

ص: كتاب القضاء والشهادات ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام القضاء وأحكام الشهادات، و"القضاء": الحكم، وأصله قضاي؛ لأنه من قضيت إلا أن "الياء" لما جاءت بعد "الألف" همزت، والجمع الأقضية والقضية مثله والجمع القضايا، وقضى: أي حكم، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (¬1) ويجيء لمعان أخرى. و"الشهادات" جمع شهادة وهي الخبر القاطع، تقول منه: شهد الرجل على كذا، وربما قالوا: شَهْدَ الرجل بسكون الهاء للتخفيف، وشَهِدَ شهودًا أي حضره فهو شاهد، وقوم شهود أي حضور، وهو في الأصل مصدر، وشُهَّد أيضًا مثل رُكَّع، جمع راكع، وشهد له بكذا شهادة أي أدى ما عنده من الشهادة فهو شاهد، والجمع: شَهْد، مثل صاحب وصَحْب، وبعضهم ينكره، وجمع الشَهْد: شهود وأشهاد، والشهادة عند الفقهاء: إخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، وإليه الإشارة بقوله -عليه السلام-: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع -أي اترك". ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [23].

ص: باب: القضاء بين أهل الذمة

ص: باب: القضاء بين أهل الذمة ش: أي هذا باب في بيان أحكام القضاء بين أهل الذمة، وهم أهل العهد من الكفار كاليهود والنصاري والسامرة. و"الذمة" في اللغة العهد والأمان، وكذلك الذمام، وسمي أهل الذمة؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- رجم يهوديًّا ويهودية حين تحاكموا إليه". ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي صاحب محمَّد الحسن الشيباني، وثقه أبو حاتم وغيره. وأخرجه الجماعة فقال البخاري (¬1): ثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله -عليه السلام- فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمَّد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -عليه السلام- فرجما، فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة. وقال مسلم (¬2): حدثني الحكم بن موسى أبو صالح، قال: ثنا شعيب بن إسحاق، قال: أنا عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2510 رقم 6450). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1326 رقم 1699).

بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله -عليه السلام- حتى جاء يهود، فقال: ما تجدون في التوراة على من زني؟ قالوا نسود وجوههما ونحممها، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بها وقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله -عليه السلام-: مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -عليه السلام- فرجمهما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، ولقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه". وأخرجه أيضًا (¬1) عن أبي الطاهر، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . . نحو رواية البخاري. وقال أبو داود (¬2): حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن نافع. . . . إلى آخره. وقال الترمذي (¬3): ثنا إسحاق بن [موسى عن] (¬4) معن، عن مالك مختصرًا: "أن النبي -عليه السلام- رجم يهوديًّا ويهودية". وقال: وفي الحديث قصة، وهو حسن صحيح. وقال النسائي (¬5): أنا قتيبة بن سعيد، عن مالك .. إلى آخره مطولًا. وقال ابن ماجه (¬6): ثنا علي بن محمَّد الطنافسي، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر .. إلى آخره. قوله: "نفضحهم" أي نكشف مساوئهم، والاسم: الفضيحة والفضوح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1326 رقم 1699). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 153 رقم 4446). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 38 رقم 1436). (¬4) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي". (¬5) "السنن الكبرى" (4/ 321 رقم 73334). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 854 رقم 2556).

قوله: "يَجْنَأ" بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الجيم وبعدها نون مفتوحة وهمزة، يقال: جَنَأَ الرجل الشيء، وجانأ عليه، وتجانأ عليه إذا أكَبَّ عليه، ويروي بضم الياء يقال: أجني عليه، يُجْنِئ إجناءً إذا أكب عليه يقيه شيئًا وروي يَحْني بفتح الياء وسكون الحاء المهملة أي يكب عليه، ويروى يحاني من المحاناة، ويروي بجيم ثم باء موحدة ثم همزة، أي يركع عليها، ويروي بعضهم "يُحَنِّي عليها" بفتح الحاء المهملة وتشديد النون. قوله: "ونحممها" من التحميم، وهو تسويد الوجه بالحمم وهو جمع حممة، وهي الفحمة، وقال الحافظ المنذري: هذه المرأة المرجومة ذكر أبو القاسم الخثعمي عن بعض أهل العلم أن اسمها بسرة. ويستفاد منه أحكام: فيه: سؤال أهل الكتاب عن كتابهم، وفيه دليل على أن التوراة صحيحة لديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله -عليه السلام- عنها ولا دعى بها. وفيه: دليل على أن الكتاب الذي كانوا يكتبونه بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله، هي كتب أحبارهم وفقهائهم ورهبانهم، كانوا يضيفون لهم أشياء من عندهم وأهوائهم ويضيفوها إلى الله -عز وجل-، ولهذا وشبهه من أشكال أمرهم نهينا عن التصديق بما حدثونا به وعن التكذيب بشيء من ذلك؛ لئلا نصدق بباطل أو نكذب بحق، وقد خلطوا الحق بالباطل، ومن صح عنده شيء من التوراة ففعل مثل عبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود الذين يعلمون جاز له أن يقرأه ويعمل بما فيه إن لم يكن مخالفًا لشريعتنا وسنة نبينا محمد -عليه السلام-. وفيه: دليل على أنهم كانوا يكذبون على توراتهم ويضيفون كذبهم إلى ربهم وكتابهم، لأنهم قالوا وهم يقرءون في التوراة إن الزناة يفضحون ويجلدون محصنين كانوا بالنكاح أو غير محصنين وفي التوراة غير ذلك من رجم الزناة المحصنين. وفيه: دليل على ما اليهود عليه من الخبث والمكر والتبديل.

وفيه: إثبات الرجم والحكم به على الثيب الزاني، وهو أمر أجمع عليه أهل الحق، وهم الجماعة أهل السنة والأثر، ولا يخالف في ذلك من بعده أهل العلم خلافًا. وفيه: دليل على أن شرائع مَنْ قَبلَنا شرائع لنا إلا ما ورد في القرآن أو السنة نسخه. وفيه: أن أهل الكتاب وسائر أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ورضوا بحكم حكامنا هل يحكمون بينهم أم لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن أهل الذمة إذا أصابوا شيئًا من حدود الله تعالى، لم يحكم عليهم بحكم المسلمين حتى يتحاكموا إليهم ويرضوا بحكمهم، فإذا تحكموا إليهم كان الإِمام مخيَّرًا؛ إن شاء أعرض عنهم فلم ينظر فيما بينهم وإن شاء حكم، واحتجوا في ذلك بقول الله -عز وجل-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬1). ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومالكًا والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: أهل الذمة إذا أصابوا شيئًا من حدود الله. . . . إلى آخر ما ذكره. وقال ابن حزم: هل تقام الحدود على أهل الذمة أم لا؟ قال علي: اختلف الناس في هذا: جاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا حد على أهل الذمة في الزنا، وجاء عن ابن عباس: لا حد على أهل الذمة في السرقة، وقال مالك: لا حد عليهم في زنا ولا في شرب الخمر، وعليهم الحد في القذف والسرقة، وقال الشافعي وأبو سليمان وأصحابهما: عليهم الحد في كل ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: على الإِمام أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين، وكل ما وجب على الإمام أن يقيمه على المسلمين فيما أصابوا من الحدود وجب أن يقيمه على أهل الذمة، غير ما يستحلونه في دينهم كشربهم الخمر وما أشبهه فإن ذلك يختلف حالهم فيه وحال المسلمين؛ لأن المسلمين ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [42].

يعاقبون على ذلك، وأهل الذمة لا يعاقبون عليه، وخلا الرجم في الزنا فإنه لا يقام عندهم على أهل الذمة. لأن الأسباب التي يجب بها الإحصان في قولهم: أحدها الإسلام، فأما ما سوى ذلك من العقوبات الواجبات في انتهاك الحرمات فإن أهل الذمة فيه كأهل الإسلام، ويجب على الإمام أن يقيمه عليهم وإن لم يتحاكموا إليه، كما يجب عليه أن يقيمه على أهل الإسلام وإن لم يتحاكموا إليه. ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول. ولكن فيما بينهم خلاف من وجه آخر، فقال أبو حنيفة: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، فإن جاءت المرأة وحدها ولم يرضى الزوج لا يحكم. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر: بل يحكم. وكذلك اختلف أصحاب مالك على هذين القولين، والمشهور من مذهب مالك في الذميين يشكو أحدهما ويأبى صاحبه من الحاكم عندنا أنه لا يحكم بينهما إلا بأن يتفقا جميعًا على الرضى بحكمنا، فإن كان ظلمًا ظاهرًا منعوا بأن يظلم بعضهم بعضًا. وقال مالك وجمهور أصحابه في الذمي والمعاهد والمستأمن يسرق من مال ذِمِّي: أنه يقطع كما لو سرق من مال مسلم. وقال أبو عمر: إذا سرق الذمي من ذمي ولم يترافعوا إلينا فلا تعرَّض لهم عندنا، وإن ترافعوا إلينا حكمنا عليهم بحكم الله بينهم، وإذا سرق ذمي من مسلم كان الحكم حينئذ إلينا فوجب القطع. وقال أيضًا: اختلف الفقهاء في اليهوديَّيْن الذمين إذا زنيا هل يُحَدَّان أم لا؟ فقال مالك: إذا زني أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإِمام إلا أن يُظهروا ذلك في ديار المسلمين ويُدْخِلُون عليهم الضرر، فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين.

وقال الشافعي: إن تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم أو ندع وإن حكمنا رجمنا المحصن، وجلدنا البكر مائة وغربناه عامًا، واختار هذا القول جماعة من أصحابه، وقال في كتاب الجزية: لا خيار للإمام ولا للحاكم إذا جاءوا في حدٍّ لله تعالى، وعليه أن يقيمه عليهم. وهذا القول اختاره المزني. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحدان إذا زنيا كحد المسلم. انتهى. وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام" قال أصحابنا: أهل الذمة يُحْكَمون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإِسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم؛ لأنهم مُقِّرون على أن يكون مَالًا لهم ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا: أن عليه قيمتها، وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر في العشور فكتب إليهم عمر - رضي الله عنه - أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها، فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما، وما عدا ذلك فهم محمولون على أحكامنا، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1). ثم قال: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود، وأهل الذمة والمسلمون فيها سواء، إلا أنهم لا يرجمون؛ لأنهم غير محصنين. واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم. فقال أبو حنيفة: هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا، فإن تراضى بها الزوجان حملًا على أحكامنا، وإن أبي أحدهما لم يعترض عليهم، فإن تراضيا جميعًا حملهما على أحكام الإِسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم، وكذلك إن أسلموا، وقال محمَّد: إذا رضى أحدهما حُمِلَا جميعًا على أحكامنا، وإن أبوا، إلا في النكاح بغير شهود فإنه يجيزه إذا تراضوا بها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [49].

وقال زفر: يحملون في النكاح بغير شهود على أحكامنا، ولا نجيزه إذا تراضوا بها. ص: وكان من الحجة لهم في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - الذي ذكرنا: أنه إنما أخبر فيه ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- رجم يهودية ويهودي حين تحاكموا إليه، ولم يقل: إن رسول الله -عليه السلام- قال: إنما رجمتهم لأنهم تحاكموا إلي، ولو كان قال ذلك لَعُلِم أن الحكم منه إنما يكون إليه بعد أن يتحاكم إليه، وأنهم إذا لم يتحاكموا إليه لم ينظر في أمورهم، ولكنه لم يجيء هكذا، وإنما جاء عنه أنه رجمهما حين تحاكموا إليه، فإنما أخبر عن فعل النبي -عليه السلام- وحكمه إذا تحكموا إليه، ولم يخبر عن حكمهم عنده قبل أن يتحاكموا إليه هل يجب عليهم فيه إقامة الحد عليهم أم لا؛ فبطل أن يكون في هذا الحديث دلالة في ذلك عن رسول الله -عليه السلام- ولا عن ابن عمر من رأيه. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. . . . إلى آخره، وأرد بذلك الجواب عن حديثه الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، حاصلة: أنه لا يدل على ما ادعوا من ذلك، وَبَيَّنَ ذلك بقوله: "ولم يقل: إن رسول الله -عليه السلام- قال. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ص: ثم نظرنا فيما سوى ذلك من الآثار، هل فيه ما يدل على شيء من ذلك؟ فإذا أحمد بن أبي عمران قد حدثنا، قال: ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال: ثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، عن جابر بن عبد الله: " [أن] (¬1) اليهود جاءوا إلى رسول الله -عليه السلام- برجل وامرأة منهم زنيا، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: ائتوني بأربعة منكم يشهدون". فثبت بهذا أن رسول الله -عليه السلام- قد كان نظر بينهم قبل أن يُحَكِّمه الرجل والمرأة المدعى عليهما الزنا، لأنهما جميعًا جاحدان، ولو كانا مقرين لما احتاج مع إقرارها إلى أربعة يشهدون. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ش: ذكر هذا شاهدًا لما قاله من قوله: إن الإِمام يجب عليه أن يحكم بأحكام المسلمين إذا تحاكموا إليه فيما أصابوا من الحدود إلا في المواضع المسستثناة على ما مَرَّ آنفًا. أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن زهير بن حرب بن شداد النسائي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة، عن مجالد بن سعيد، فيه مقال، عن عامر الشعبي، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود بأتم منه (¬1): نا يحيى بن موسى البلخي قال: ثنا أبو أسامة، قال: نا مجالد، أنا عامر، عن جابر بن عبد الله قال: "جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتوه بابني صورياء، فنشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة؛ رُجِمَا، فقال: ما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعى رسول الله -عليه السلام- بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله -عليه السلام- برجمهما". وأخرجه (¬2) عن الشعبي أيضًا مرسلًا. قوله: "بابني صُورياء" لعله أراد عبد الله وكنانة ابني صورياء. وصُورِياء ممدود وبضم الصاد المهملة، وسكون الواو وكسر الراء. ص: وقد روي عن البراء بن عازب، عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على ذلك أيضًا: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 561 رقم 4452). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 562 رقم 4453).

ثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن البراء - رضي الله عنه - قال: "مر رسول الله -عليه السلام- بيهودي قد حمم وقد ضرب، يطاف به، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما شأن هذا؟ فقالوا: زنى، قال: فما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نحمم وجهه ويعزر ويطاف به، فقال: أنشدكم بالله ما تجدون حده في كتابكم؟ فأشاروا إلى رجل منهم فسأله رسول الله -عليه السلام- فقال الرجل: نجد في التوراة الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكرهنا أن نقيم الحد على سفلتنا وندع أشرافنا، فاصطلحنا على شيء فوضعنا هذا، فرجمه رسول الله -عليه السلام- وقال: أنا أول من أُحيي ما أماتوا من أمر الله -عز وجل-". ففي هذا ما قد دل أن النبي -عليه السلام- قد كان له أن يحكم بينهم وإن لم يحكموه؛ لأن في هذا الحديث أنهم مروا به عليه وهو يحمم. . . . فذكر باقي الحديث، ثم رجمه رسول الله -عليه السلام-، فلما دعاهم رسول الله -عليه السلام-؛ إنكارًا لما فعلوا من قبل أن يأتوه، فرد أمرهم إلى حكم الله الذي قد عطلوه وغيروه؛ ثبت بذلك أنه قد كان له أن يحكم فيما بينهم حَكَّمُوه أو لم يُحَكِّمُوه. فهذا ما في هذه الآثار من الدليل على ما تكلمنا فيه. ش: أي: قد روي عن البراء بن عازب، عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن الإِمام له أن يحكم فيما بين أهل الذمة سواء حكمَّوه أو لا، ويجب عليه أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين. وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي معاوية -قال يحيى: أنا أبو معاوية- عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: "مُرَّ على النبي -عليه السلام- بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حَدُّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعى رجلًا من علمائهم فقال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1327 رقم 1700).

أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، قال رسول الله -عليه السلام-: اللهم إني أول من أُحيي أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (¬1) إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (1) يقول: ائتوا محمدًا -عليه السلام- فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله -عز وجل-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ} (¬3)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4) في الكفار كلها". وأخرجه أبو داود (¬5): عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬6) وابن ماجه (¬7) أيضًا. قوله: "حمم" أي سوده بالحممة وهي الفحمة، وقد مَرَّ تفسيرها مرة. قوله: "أنشدكم بالله" يقال: نشدتك بالله وناشدتك، وأنشدك عهد الله، وأنشدك الله، قيل: معناه سألتك بالله، وقيل: ذكرتك بالله، وقيل: هو من النشيد وهو رفع الصوت أي سألت الله يرفع صوتي لك بذلك. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [41]. (¬2) سورة المائدة، آية: [44]. (¬3) سورة المائدة، آية: [45]. (¬4) سورة المائدة، آية: [47]. (¬5) "سنن أبي داود" (4/ 154 رقم 4447). (¬6) "السنن الكبرى" (4/ 294 رقم 7218). (¬7) "سنن ابن ماجه" (2/ 855 رقم 255).

قوله: "على سَفَلَتِنَا" السَّفَلَة بفتح السين وكسر الفاء: السقاط من الناس، والسفالة: النذالة، يقال: هو من السفلة. ولا يقال: هو سفلة والعامة تقول: هو رجل سفلة من قوم سفل، وليس بعربي، وبعض العرب يخفف فيقول: فلان من سِفْلة الناس، فينقل كسرة الفاء إلى السين. ويستنبط منه أحكام: حكم النبي -عليه السلام- على اليهود بحكم التوراة، وأن حكم التوراة كان باقيًا في زمن رسول الله -عليه السلام-، وأن مبعث النبي -عليه السلام- لم يوجب نسخه، ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان كائنا لم ينسخ بشريعة الرسول -عليه السلام-. وفيه إيجاب الحكم بما أنزل الله وأن لا يُعدل عنه ولا يُحابي فيه مخافة الناس. وفيه أن اليهود قد حرفوا أكثر التوراة لأجل الدنيا، وأخذوا الرشا على ذلك، قال الله تعالى فيهم: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬1). وفيه أن من لم يحكم بما أنزل الله يطلق عليه الكافر والظالم والفاسق، ولكن المراد من الكفر كفران النعمة من غير جحود حكم، وقد اختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: هو في الجاحد لحكم الله، وقال: هي في اليهود خاصة، وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: هي عامة. يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله، وحكم بغيره أنه حكم الله، وفي رواية البراء: هي كلها في الكفار كما مَرَّ آنفًا، وقال إبراهيم النخعي: "الآية نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها" وروى الثوري، عن زكرياء، عن الشعبي قال: "الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى". والله أعلم. ص: وأما قول الله -عز وجل-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬2) فإن الذين ذهبوا إلى تثبيت الحكم يقولون: هي منسوخة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [41]. (¬2) سورة المائدة، آية: [42].

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال: نسختها هذه الآية: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1). وقال الآخرون: تأويلها: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت. فلما اختلف في تأويل هذه الآية، وكانت الآثار قد دلت على ما ذكرنا؛ ثبت أن الحكم عليهم على إمام المسلمين ولم يكن له تركه؛ لأن في حكمه النجاة في قول جميعهم؛ لأن من يقول: عليه أن يحكم، يقول: قد فعل ما هو عليه أن يفعله، ومن يقول: هو مخير يقول: قد فعل ما له أن يفعله، وإذا ترك الحكم فمن يقول: عليه أن يحكم، يقول: قد ترك ما كان عليه أن يفعله، ومن يقول: له أن لا يحكم يقول: قد ترك ما كان له تركه، فإذا حكم شهد له الفريقان جميعًا بالنجاة، فإذا لم يحكم لم يشهدا بذلك. فأولى الأشياء بنا أن تفعل ما فيه النجاة بالاتفاق دون ما فيه ضد النجاة بالاختلاف. وهذا الذي ذكرنا من وجوب الحكم عليه هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا جواب عن الآية التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه وهي قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬2)، وكانوا قد قالوا: إن الله تعالى قد خير نبيه -عليه السلام- بين الحكم والإعراض إذا ارتفع أهل الذمة إليه، فَدَلَّ ذلك أنه لا يجب على الإِمام أن يحكم عليهم إذا ارتفعوا إليه، وبيان الجواب عن ذلك أن التخيير منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [49]. (¬2) سورة المائدة، آية: [42].

أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكوفي، عن عكرمة مولى ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) عن عكرمة نحوه. وكذا روى سعيد بن الجبير، عن الحكم، عن مجاهد. وكذا روى عثمان، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الجصاص: ذكر هؤلاء أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬2) ناسخ للتحيز المذكور في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬3) ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي والاجتهاد، وإنما طريقه التوقيف. قوله: "وقال الآخرون" وأراد بهم أهل المقالة الأولى "تأويلها" أي تأويل الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} (2) الآية، غير ناسخة لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ} (3) وإنما تأويلها: احكم بينهم بما أراك الله إن حكمت. ويقال: يحتمل أن يكون قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (2) قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإِسلام بالجزية، ويكون قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) بعد عقد الذمة لهم ودخولهم في أحكام الإِسلام، والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس: "أن قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (3) إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف ويدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله -عليه السلام-، فأنزل الله ذلك فيهم، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 428 رقم 21783). (¬2) سورة المائدة، آية: [49]. (¬3) سورة المائدة، آية: [42].

فحملهم رسول الله -عليه السلام- على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء، ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم يكن لهم ذمة قط، وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس أن آية التخيير نزلت فيهم، فجائز أن يكون حكمها باقيًا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الآخرى في وجوب الحكم في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله ثابتًا في أهل الذمة، فلا يكون فيها نسخ. قال الجصاص: هذا تأويل سائغ لولا ما روي من السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى. قوله: "ولم يكن له" أي للإمام "تركه" أي ترك الحكم، والباقي ظاهر. ص: فإن قال قائل: فأنتم لا ترجمون اليهود إذا زنوا، فقد تركتم بعض ما في الحديث الذي به احتججتم!. قيل له: إن الحكم كان في الزناة في عهد موسى -عليه السلام- هو الرجم على المحصن وغير المحصن، وكذلك كان جواب اليهودي الذي سأله رسول الله -عليه السلام- عن حد الزنا في كتابهم، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله -عليه السلام-، فكان على النبي -عليه السلام- اتباع ذلك والعمل به؛ لأن على كل نبي اتباع شريعة النبي الذي كان قبله حتي يحدث الله شريعة تنسخ شريعته، قال الله -عز وجل-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، فرجم رسول الله -عليه السلام- اليهوديين على ذلك الحكم ولا فرق حينئذ في ذلك بين المحصن وغير المحصن، ثم أحدث الله -عز وجل- لنبيه -عليه السلام- شريعة نسخت هذه الشريعة فقال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2) فكان هذا ناسخًا لما كان قبله، ولم يفرق في ذلك أيضًا بين المحصن وغير المحصن، ثم نسخ الله -عز وجل- ذلك فجعل الحد هو الأذى بالآية التي بعدها ولم يفرق في ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [90]. (¬2) سورة النساء، آية: [15].

ذلك أيضًا بين المحصن وغير المحصن، ثم جعل الله لهن سبيلًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" ففرق حينئذ بين حد المحصن وحد غير المحصن، فجعل حد المحصن الرجم، وحد غير المحصن الجلد. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد استدللتم فيما ذهبتم إليه من وجوب الحكم على الإِمام بين أهل الذمة وإن لم يُحَكِّموه بحديثي جابر والبراء - رضي الله عنهما - وحديثاهما عام في المحصن وغير المحصن، ثم تركتم بعض ما فيه، حيث قلتم: إن اليهود إذا زنوا لا يرجمون، وشرطتم في وجوب الرجم الإِسلام، وجعلتموه من جملة شروط الإحصان. فأجاب عنه بقوله: "قيل له. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر، ولكنا نتكلم في الآية الكريمة فنقول: لم يختلف السلف في حد الزانِيَيْن في أول الإِسلام ما قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬1) إلى قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (¬2) فكان حد المرأة الحبس والأذي بالتعيير، وكان حد الرجل التعيير، ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3) ونسخ عن المحصن بالرجم، وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام-: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر. . . . الحديث". وكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1). وقال الجصاص ما ملخصه: إن كون حد الزانيين في أول الإِسلام الحبس والأذى وكون المحصن وغير المحصن فيه سواء، دليل على أنه -عليه السلام- رجم اليهوديين بحكم ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [15]. (¬2) سورة النساء، آية: [16]. (¬3) سورة النور، آية: [2].

مبتدأ وأن الرجم الذي أوجبه الله تعالى في التوراة قد كان منسوخًا، ولما ثبت أنه رجمها؛ صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما إلا أنه لما رجمهما لم يكن من شرط الرجم الإحصان فلذلك رجمهما، فلما شُرِطَ الإحصان فيه، وقال -عليه السلام-: "من أشرك بالله فليس بمحصن" صار حدهما الجلد، وسيجيء زيادة تحقيق في هذا، وفي قوله -عليه السلام-: "البكر بالبكر. . . ." الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت وأخرجه في كتاب الحدود مستوفى. وأما قوله -عليه السلام-: "من أشرك بالله فليس بمحصن". فنقول: قال الدارقطني (¬1): ثنا عبد الله بن خشيش، ثنا سلم بن جنادة، ثنا وكيع، عن سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". ثنا دعلج (¬2)، ثنا ابن شيرويه، ثنا إسحاق، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". قال الدارقطني: لم يرفعه غير إسحاق، ويقال: إنه رجع عنه، والصواب موقوف. وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا من حديث جويرية، عن نافع، أن ابن عمر كان يقول: "من أشرك بالله فليس بمحصن". قال البيهقي: وهكذا رواه أصحاب نافع عنه، وقال البيهقي في "الخلافيات" وابن عمر إنما أرد به إحصان العفائف في حد القذف دون الإحصان الذي من شرائط الرجم، فهو يروي: "أن رسول الله -عليه السلام- رجم يهوديين زنيا" وهو لا يخالف النبي -عليه السلام- فيما روى عنه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 147 رقم 198). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 147 رقم 199). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 215 رقم 16713).

قلت: إسحاق هو ابن راهويه، حجة حافظ، فإذا رفع الثقة حديثا لا يضره وقف من وقفه فظهر أن الصواب فيه الرفع، وتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه، وليس ابن عمر مخالف لما رواه ولا يقال فيه ذلك، وكلها روايات صحيحة، أما روايته الأولى التي فيها: "أنه -عليه السلام- رجم يهوديين زنيا" فكان ذلك قبل اشتراط الإحصان كما ذكرنا، وأما روايته الأخرى فكان ذلك حين اشترط الإحصان؛ فافهم، والله أعلم. وروى الدارقطني (¬1) أيضًا: ثنا عبد الله بن أحمد بن ثابت البزاز، حدثنا أحمد بن يوسف الثعلبي، ثنا أحمد بن أبي نافع، ثنا عفيف بن سالم، ثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -عليه السلام- "لا يحصن المشرك بالله شيئًا". قال الدارقطني: وَهِمَ عفيف في رفعه، والصواب موقوف من قول ابن عمر. قلت: عفيف ثقة. قاله ابن معين وأبو حاتم، ذكره ابن القطان، وقال صاحب "الميزان": محدث مشهور، صالح الحديث، وقد قلنا: إن الثقة إذا رفع الحديث لا يضره وقف من وقفه (¬2). ص: ثم اختلف الناس من بعد في الإحصان، فقال قوم: لا يكون الرجل محصنًا بامرأته ولا المرأة محصنة بزوجها حتى يكونا حُرَّين مسلمين بالغين، قد جامعها وهما بالغان في نكاح صحيح، وممن قال بذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: لما ذكر أن اليهود لا يرجمون إذا زنوا لعدم شرط الإحصان وهو الإِسلام؛ أخذ في بيان شروط الإحصان مع بيان الخلاف فيه، واعلم أن شروط إحصان الرجم ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 146 رقم 197). (¬2) قلت: وفي هذا نظر، قد نبهنا عليه مرارًا، والصواب أن ينظر في حال من وقف ومن رفع، والحكم للأحفظ والأضبط. كما هو معلوم في علم علل الحديث.

سبعة: العقل والبلوغ والحرية والإِسلام والنكاح الصحيح، وكون الزوجين جُمعا على هذه الصفات وهو أن يكونا جميعًا عاقلين بالغين حُرَّين مسلمين، فوجود هذه الصفات فيهما معًا شرط لكون كل واحد منها محصنًا، والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشروط متأخرًا عنها، وإن تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها، فلا إحصان للصبي والمجنون والعبد والكافر، ولا بالنكاح الفاسد، ولا بنفس النكاح ما لم يوجد الدخول، وما لم يكن الزوجان جميعًا وقت الدخول على صفة الإحصان حتى أن الزوج العاقل البالغ الحر المسلم إذا دخل بزوجته وهي صبية أو مجنونة أو أمة أو كتابية، ثم أدركت الصبية وأفاقت المجنونة وأعتقت الأمة وأسلمت الكتابية، لا يصير محصنًا ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض، حتى لو زنى قبل دخول آخر لا يرجم، فإذا وجدت هذه الصفات صار الشخص محصنًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "فقال قوم: لا يكون الرجل محصنًا. . . ." إلى آخره. وأراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وطاوسًا وموسى بن عقبة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا. قال أبو عمر (¬1): اختلف الفقهاء في الإحصان الموجب للرجم، فجملة قول مالك ومذهبه أن يكون الزاني حرًّا مسلمًا بالغًا عاقلًا قد وطيء وطئًا مباحًا في عقد نكاح، ثم زنى بعد هذا، والكافر عنده والعبد لا يثبت لواحد منهما إحصان، وكذلك الوطء المحظور كالوطء في الإحرام أو في الصيام أو في الاعتكاف أو في الحيض، لا يثبت بذلك إحصان، إلا أن الأمة والكافرة والصغيرة تحصن الحر المسلم، ولا يحصنهن، هذا كله تحصيل مذهب مالك وأصحابه. وَحَدُّ الحصانة في مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه على ضربين: أحدهما: إحصان يوجب الرجم يتعلق بسبع شرائط: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والنكاح الصحيح، والدخول. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (9/ 84).

والآخر: إحصان يتعلق به حد القذف، له خمس شرائط في المقذوف: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة. ص: وقال آخرون: يحصن أهل الكتاب بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانية ولا تحصن النصرانية المسلم، وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول في "الإملاء" فيما حدثني به سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف -رحمه الله-. ش: أي: وقال جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: يحصن أهل الكتاب. . . . إلى آخره. قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن زيد وسعيد بن المسيب: "في اليهودية والنصرانية تكون تحت المسلم ثم يفجر، قالا: يرجم". ثنا إسماعيل (¬2) بن علية، عن يونس، عن الحسن قال كان يقول: "تحصن اليهودية والنصرانية المسلم". حدثنا الضحاك (¬3) بن مخلد، عن ابن جريج، عن عطاء: "في الرجل يتزوج المرأة من أهل الكتاب أنها تحصنه". حدثنا ابن مهدي (¬4)، عن إسرائيل، عن سالم قال: "سألت سعيد بن جبير عن الرجل يتزوج اليهودية والنصرانية والأمة، أيحصن معهن؟ قال: نعم". وقال أبو عمر: قال الشافعي: إذا دخل بامرأته وهما حران ووطئها فهذا إحصان، كافرين كانا أو مسلمين، وقد قال مالك: تحصن الأمة الحر ويحصن العبد ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 536 رقم 28756). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 536 رقم 28757). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 536 رقم 28758). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 537 رقم 28759).

الحرة، ولا تحصن الحرة العبد، ولا الحر الأمة، وتحصن اليهودية والنصرانية المسلم، وتحصن الصبية الرجل، وتحصن المجنونة العاقل، ولا يحصن الصبي المرأة ولا يحصن العبد الأمة، ولا تحصنه إذا جامعها في حال الرق، وإذا تزوجت المرأة خصيًّا وهي لا تعلم أنه خصي فوطئها ثم علمت أنه خصي فلها أن تختار فراقه ولا يكون ذلك الوطء إحصانًا. وقال الأوزاعي في العبد تحته الحرة: إذا زنى فعليه الرجم. وقال ابن حزم في "المحلى": اختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى، فقالت طائفة: حده حد الحر من الجلد والرجم والنفي، وقال مجاهد: إحصان العبد أن يتزوج الحرة، وإحصان الأمة أن يتزوجها الحر، وبهذا يأخذ أصحابنا كلهم. وقال أبو ثور: الأمة المحصنة والعبد المحصن عليهما الرجم إلا أن يمنع من ذلك إجماع. وقال الأوزاعي: إذا أُحِصَن العبد بزوجة حرة فعليه الرجم، وإن لم يعتق، فإن كان تحته أمة لم يجب عليه الرجم إن زنى، وإن أعتق، وكذلك قال أيضًا: إذا أُحْصِنَت الأمة بزوج حر فعليها الرجم، وإن لم تعتق، ولا تكون محصنة بزوج عبد. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد: حد العبد المحصن وغير المحصن والأمة: الجلد لا الرجم في شيء من ذلك. قوله: "وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول" أي بقول الجماعة الآخرين، روى الطحاوي ذلك عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن أبي يوسف. وقال أبو عمر: وقد روي عن أبي يوسف في "الإملاء": أن المسلم يحصن النصرانية ولا تحصنه، وروي عنه أيضًا أن النصراني إذا دخل بامرأته النصرانية ثم أسلما أنهما محصنان بذلك الدخول.

وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى: إذا زنى اليهودي أو النصراني بعد ما أحصنا فعليهما الرجم. قال أبو يوسف: وبه نأخذ. ص: فاحتمل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب بالثيب: الرجم" أن يكون هذا على كل ثيب، واحتمل أن يكون على خاص من الثيب، فنظرنا في ذلك فوجدناهم مجمعين أن العبيد غير داخلين في ذلك، وأن العبد لا يكون محصنًا ثيبًا كان أو بكرًا، ولا يحصن زوجته حرة كانت أو أمة، وكذلك الأمة لا تكون محصنة بزوجها حرًّا كان أو عبدًا، فثبت بما ذكرنا أن قول النبي -عليه السلام-: "الثيب بالثيب: الرجم" إنما وقع على خاص من الثيب لا على كل الثيب، فلم يدخل فيما قد أجمعوا أنه وقع على خاص إلا ما قد أجمعوا أنه فيه داخل، وقد أجمعوا أن الحرين المسلمين البالغين الزوجين اللذين قد كان منهما جماع محصنين، واختلفوا فيمن سواهما، فقد أحاط علمنا أن ذلك قد دخل في قول رسول الله -عليه السلام-: "الثيب بالثيب: الرجم" فأدخلناه فيه، ولم نحط علمًا بما سوى ذلك فأخرجناه منه، وقد كان يجيء في القياس لما كانت الأمة لا تحصن الحر ولا يحصنها الحر، وكانت هي في عدم إحصانها إياه كهو في عدم إحصانه إياها؛ أن تكون كذلك النصرانية لما كانت لا تحصن زوجها المسلم كان هو أيضًا كذلك لا يحصنها، وقد رأينا الأمة أيضًا لما بطل أن تكون تحصن الحر، بطل أن تكون تحصن العبد، فكذلك يجيء في النظر أيضًا أن تكون النصرانية لما بطل أن تحصن المسلم بطل أن تحصن الكافر؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا. ش: أشار بهذا إلى الجواب عما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، محتجين بعموم قوله -عليه السلام-: "الثيب بالثيب: الرجم" وذلك أنه يعم المسلمين والكافرين ولا يُخَصُّ منه شيء إلا ما خصَّه الله ورسوله -عليه السلام- من العبيد والإماء. وتقرير الجواب: أن يقال: إن قوله -عليه السلام-: "الثيب بالثيب" يحتمل أن يكون على عمومه فيشمل كل ثيب، ويحتمل أن يراد به الثيب الخاص، فلما نظرنا فيه فوجدنا

العبيد والإماء قد خرجوا منه باتفاق الخصوم، ظهر لنا أن المراد به الثيب الخاص لا مطلق الثيب، فإذا كان كذلك وقد كانوا أجمعوا على إحصان الحرين المسلمين البالغين الزوجين اللذين حصل بينها الجماع، واختلفوا فيمن سواهما فقد دخل ما أجمعوا عليه في قوله -عليه السلام-: "الثيب بالثيب: الرجم" لإحاطة علمنا بذلك، ولم يدخل ما اختلفوا فيه في ذلك لعدم إحاطة علمنا به، فلذلك قلنا: النص لا يتناول الكافرين كما لا يتناول العبيد والإماء؛ فافهم، هذا حاصل ما ذكره الطحاوي. وقد يقال: إن قوله -عليه السلام-: "الثيب بالثيب: الرجم" خُصَّ بقوله: "من أشرك بالله فليس بمحصن" والذمي مشرك على الحقيقة فلم يكن محصنًا، والله أعلم بالصواب.

ص: باب: القضاء باليمين مع الشاهد

ص: باب: القضاء باليمين مع الشاهد ش: أي هذا باب في بيان حكم القاضي بيمين المدعي مع الشاهد الفرد هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: أخبرني سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قضى باليمين مع الشاهد". ش: رجاله ثقات إلا أن النسائي قال: يحيى بن عبد الحميد ضعيف. ووثقه غيره. وزيد بن الحباب بن الريان الكوفي، روي له الجماعة سوى البخاري، وسيف بن سليمان ويقال: ابن أبي سليمان المكي، روي له الجماعة سوى الترمذي. وقيس بن سعد المكي مولى نافع بن علقمة، روي له مسلم والأربعة غير الترمذي. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي، أن زيد بن الحباب حدثهم، قال: ثنا سيف المكي -قال عثمان: سيف بن سليمان- عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- قضي بيمين وشاهد". وأخرجه النسائي (¬2) عن عبيد الله بن سعيد، عن عبد الله بن الحارث، عن سيف. . . . بإسناده نحوه. وابن ماجه (¬3) عن إبراهيم بن عبد الله الهروي، عن عبد الله بن الحارث، عن سيف، به نحوه. فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟ ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 308 رقم 3608). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 490 رقم 6011). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 793 رقم 2370).

قلت: قال البيهقي: قال الشافعي: حديث ابن عباس ثابت، ومعه ما يشده. وأخرجه مسلم في "الصحيح" (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير، عن زيد ابن الحباب. وقال البيهقي في "الخلافيات": سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: وقد تعرض لهذا الحديث بعض المخالفين ممن ليس بصناعته معرفة الحديث الصحيح من السقيم، واحتج فيه بما روى العباس الدوري، عن يحيى بن معين قال: حديث ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قضى بشاهد ويمين" ليس هذا بمحفوظ. قال أبو عبد الله: فنقول وبالله التوفيق: إن شيخنا أبا زكريا لم يطلق هذا القول على حديث سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وإنما أراد الحديث الخطأ الذي روي عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. أو الحديث الذي تفرد به إبراهيم بن محمَّد عن ابن أبي مليكة. وأما حديث سيف بن سليمان فليس في إسناده من يجرح، ولم تعلم له أيضًا علة يعلل بها الحديث، والإمام أبو زكرياء أعرف بهذا الشأن من أن يظن به يوهن حديثا يرويه الثقات الأثبات، قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن سيف بن سليمان، فقال: كان عندنا ثبتًا ممن يصدق ويحفظ. وعلل الطحاوي هذا الحديث بأنه لا يعلم قيسًا يحدث عن عمرو بن دينار بشيء وليس ما لا يعلمه الطحاوي لا يعلمه غيره، وقد أخبرنا الحسن بن أبي عبد الله الفارسي، أنا أبو حامد بن إسماعيل بن أبي حامد العدل، أنا أبو عبد الله بن مخلد الدوري، ثنا يحيى بن مسلم بن عبد الله الرزاي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن رجلًا وَقَصَتْهُ ناقته وهو محرم" ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1337 رقم 1712).

وليس من شرط قبول الأخبار كثرة رواية الراوي عن من روى عنه، وإذا روى الثقة عن من لا ينكر سماعه منه حديثا واحدًا وجب قبوله، وإن لم يرو عنه غيره. قلت: ذكره الترمذي في "علله" وقال: سألت محمدًا عنه -أي عن هذا الحديث- فقال: عمرو بن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس، فعل هذا يُرمى الحديث بالانقطاع في موضعين: الأول: من البخاري بين عمرو وابن عباس. والثاني: من الطحاوي بين قيس وعمرو، وطعن البيهقي في كلام الطحاوي لا وجه له؛ لأن أحدًا من أهل هذا الشأن لم يصرح بأن قيس بن سعد سمع من عمرو بن دينار، ولا يلزم من قول جرير: سمعت قيسًا يحدث عن عمرو أن يكون قيس سمع ذلك من عمرو، وقد روى البيهقي في باب فضل التأذين على الإمامة من حديث أبي حمزة السُّكري، سمعت الأعمش يحدث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال -عليه السلام-: "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن. . . ." الحديث. ثم لم يجعل البيهقي ذلك سماعًا للأعمش من أبي صالح، بل قال: هذا الحديث لم يسمعه الأعمش من أبي صالح إنما سمعه من رجل عن أبي صالح. وأما سيف فإن الذهبي ذكره في كتابه في "الضعفاء" وقال: رُمِي بالقدر، وقال في "الميزان": ذكره ابن عدي في "الكامل" وساق له هذا الحديث، وسأل عباس يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظ. ثم لو سلمنا ما ذكروا كله وقطعنا بصحة هذا الحديث وخلوه عن العلة، فنقول: إن نص القرآن يرده على ما يجيئ بيانه مستقصًى، إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا سليمان بن بلال والدراوردي. . . . فذكر بإسناده مثله. قال عبد العزيز: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه. ش: هذان طريقان: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود (¬1) قال: ثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري ثنا الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد"، وسيأتي الكلام على هذا الحديث. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحماني، عن سليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬2) بدون قصة السؤال. ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- باليمين مع الشاهد الواحد". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذا مرسل، وجعفر بن محمَّد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 309 رقم 3610). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 627 رقم 1343).

قال أبو عمر (¬1): هذا الحديث في "الموطإ" عن مالك مرسل عند جميع رواته، وقد رواه عنه مسندًا عثمان بن خالد المديني، قال: ثنا مالك بن أنس، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قضى بشاهد ويمين". هكذا حدث عنه به عثمان مسندًا، والصحيح فيه: عن مالك أنه مرسل في روايته، وقد تابع عثمان على روايته هذه عن مالك: إسماعيل بن موسى الكوفي، فرواه أيضًا عن مالك، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر، وقد أسنده عن جعفر بن محمَّد جماعة حفاظ منهم: عبيد الله بن عمر وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن عبد الرحمن بن رداد المديني ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حية، ورواه عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه مرسلًا ابن عيينة كما رواه مالك، وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وعمرو بن دينار جميعًا عن محمَّد بن علي مرسلًا. ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: عثمان بن الحكم الجذامي المصري، قال أبو حاتم: هو شيخ ليس بالمتقن. روي له أبو داود والنسائي. وزهير بن محمَّد التميمي العنبري، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي (¬2) من حديث ابن وهب، نا عثمان بن الحكم، حدثني زهير بن محمَّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- قضي بيمين وشاهد". قال الذهبي: هذا منكر، عثمان متكلم فيه. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (3/ 134 - 135). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 172 رقم 20457).

ص: حدثنا وهبان بن عثمان، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، ولم يذكر جابرًا. حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمَّد ومالك بن أنس ويحيى بن أيوب، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: مسند مرفوع، وأبو همام اسمه الوليد بن شجاع الكندي الكوفي نزيل بغداد، وشيخ مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار ومحمد بن أبان قالا: ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن بشار، عن عبد الوهاب. . . . إلى آخره. الثاني: مرسل، وقد ذكره آنفًا بهذا الإسناد، غير أن هاهنا زاد قوله: "ولم يذكر جابرًا". الثالث: أيضًا مرسل، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن عمر بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس ويحيى بن أيوب الغافقي المصري، ثلاثتهم عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-. وقد تكلمنا فيه عن ابن عمر بما فيه الكفاية. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 628 رقم 1344). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 793 رقم 2369).

وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي حديث أبي هريرة قال: وفي الباب عن علي وجابر وابن عباس وَسُرَّق - رضي الله عنهم -. قلت: وفي الباب أيضًا عن سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة ورجل له صحبة وزُبَيْب بن ثعلبة - رضي الله عنهم -. أما حديث علي - رضي الله عنه - فأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا ابن مخلد، ثنا عباس بن محمَّد، ثنا شبابة، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقضى به علي في العراق". وأما حديث سُرَّق فأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أنا جويرية بن أسماء، ثنا عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن رجل من أهل مصر، عن سرق: "أن النبي -عليه السلام- أجاز شهادة رجل ويمين الطالب". وأما حديث سعد بن عبادة فأخرجه الدارقطني (¬3): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، ثنا صلت بن مسعود، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن سعد بن عبادة قال: "وجدنا في كتاب سعد بن عبادة: أن رسول الله -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد". وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي (¬4): من حديث مطرف بن مازن، ثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "قضى النبي -عليه السلام- بشاهد ويمين في الحقوق". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 212 رقم 31). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 793 رقم 2371). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 213 رقم 33). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 172 رقم 20455).

وقال الذهبي: مطرف كذبه ابن معين. وأخرجه (¬1) أيضًا من حديث النفيلي: ثنا محمَّد بن عبد الله بن عتبة بن عمير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد". وقال الذهبي: محمَّد واهٍ. وأما حديث عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة، فأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": أخبرني ابن لهيعة، ونافع بن يزيد، عن عمارة بن غزية، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل: "أنه وجد في كتاب آبائه: هذا ما رفع -أو ذكر- عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة، قالا: بينا نحن عند رسول الله -عليه السلام-، دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهد له على حقه، فجعل رسول الله -عليه السلام- يمين صاحب الحق مع شاهده، فاقتطع بذلك حقه". وأما حديث رجل له صحبة فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الشافعي، أنا إبراهيم بن محمَّد، عن ربيعة بن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس وآخر له صحبة: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد". وأما حديث زُبَيْب -بضم الزاي، وفتح الباء الموحدة- بن ثعلبة فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أحمد بن عبدة، قال: ثنا عمار بن شعيث بن عبيد الله بن الزبيب العنبري، قال: حدثني أبي، قال: سمعت جدي الزبيب يقول: "بعث نبي الله -عليه السلام- جيشًا إلى بني العنبر فأخذوا بركبة -من ناحية الطائف- واستاقوهم إلى نبي الله -عليه السلام-، فركبت فسبقتهم إلى النبي -عليه السلام-، فقلت: السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أتانا جندك فأخذونا، وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم، فلما قدم ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 172 رقم 20456). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 168 رقم 20430). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 309 رقم 3621).

بلعنبر قال لي نبي الله -عليه السلام-: هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام؟ قلت: نعم، قال: من بينتك؟ قلت: سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له، فشهد الرجل وأبي سمرة أن يشهد، فقال النبي -عليه السلام-: قد أبى أن يشهد لك، فتحلف مع شاهدك الآخر؟ قلت: نعم، فاستخلفني، فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا، وخضرمنا آذان النعم، فقال النبي -عليه السلام-: اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال، ولا تمسوا ذرايهم، لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالًا. . . ." الحديث. قلت: زُبيب -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره باء موحدة أيضًا- هو ابن ثعلبة بن عمرو بن سواء بن أبي بن عبدة بن عدي بن جندب بن المعتمر بن عمرو بن تميم التميمي العنبري، وفد على النبي -عليه السلام- ومسح رأسه ووجهه وصدره، وقيل: هو أحد الغلمة الذين أعتقتهم عائشة - رضي الله عنها - كان ينزل بالبادية على طريق الناس بين الطائف والبصرة. وشعيث -آخره ثاء مثلثة-، وابنه عمار، قال أبو محمَّد عبد الحق الأزدي: عمار ابن شعيث لا يحتج بحديثه. قوله: "خضرمنا آذان الأنعام" يعني قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك علامة بين من أسلم ومن لم يسلم، والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا. قوله: "لا يحب ضلالة العمل" أي بطلانه. قوله: "ما رزيناكم" قال الخطابي: اللغة الفصيحة: ما رزأناكم يقال: ما أصبنا من أموالكم عقالًا، وقال الخطابي: وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال، إلا أن إسناده ليس بذاك، وقد يحتمل أن يكون أيضًا اليمين قصد بها هاهنا المال؛ لأن الإِسلام يعصم المال كما يحمي الدم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى القضاء باليمين مع الشاهد في خاصٍّ من الأشياء في الأموال خاصة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سليمان بن يسار وأبا سلمة بن عبد الرحمن وأبا الزناد وعبد الرحمن بن عبد الحميد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وداود بن علي؛ فإنهم قالوا: يجوز القضاء باليمين مع الشاهد المفرد في الحقوق المالية. قال الخطابي: حديث فصل رسول الله -عليه السلام- بيمين وشاهد خاص في الأموال دون غيرها؛ لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يعد حجة ولا يقاس عليه غيره، واقتضاء العموم منه غير جائز؛ لأنه حكاه فعلًا، والفعل لا عموم له، فوجب صرفه إلى أمر خاص، ولما قال الراوي: هو في الأموال كان مقصورًا عليه. وقال ابن حزم: قال الشافعي في بعض الآثار: إن النبي -عليه السلام- حكم بذلك في الأموال، وهذا لا يوجد أبدًا في شيء من الآثار الثابتة، ورأى مالك والشافعي: أن لا يقضى باليمين والشاهد إلا في الأموال. وقال مالك: وفي القسامة، وهذا لا معنى له؛ لأنه تخصيص للخبر بلا دليل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه قضى بذلك في جراح العمد والخطأ، ويقضي به مالك أيضًا، في النفس ولا يقضي به في العتق. والشافعي يقضي به في العتق. وقال أبو عمر بن عبد البر: وممن روي عنه القضاء باليمين مع الشاهد من الصحابة منصوصًا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو، وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب أن يقضى في شيء من الأشياء إلا برجلين أو رجل وامرأتين، ولا يقضى بشاهد ويمين في شيء من الأشياء. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والزهري والثوري والأوزاعي والحكم بن عتيبة والليث بن سعد ويحيى بن يحيى وعروة بن الزبير وعبد الله بن شبرمة قاضي الكوفة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا

وزفر -رحمهم الله-؛ فإنهم قالوا: لا يجوز القضاء في شيء من الأشياء إلا برجلين أو رجل وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1) فوجب بطلان القول بالشاهد واليمين، فقد ألزم الله الحكام الحكم بالعدد المذكور بالأمر، والأمر للوجوب؛ فلا يجوز العدول عن العدد المذكور، كما لا يجوز الاقتصار على العدد المذكور في قوله {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2). وقال ابن حزم: وروينا إنكار الحكم به عن الزهري، وقال: هو بدعة مما أحدثه الناس، أول من قضى به: معاوية. وقال عطاء: أول من قضى به: عبد الملك بن مروان. وأشار إلى إنكاره الحَكَم بن عُتيبة، وروي عن عمر بن عبد العزيز الرجوع إلى ترك القضاء به؛ لأنه وجد أهل الشام على خلافه. ص: وقال: ما رويتموه عن رسول الله -عليه السلام- مما ذكر فيه أنه قضى باليمين مع الشاهد فقد دخله الضعف الذي لا تقوم معه حجة. فأما حديث ربيعة عن سهيل؛ فقد سأل الدراوردي عنه سهيلًا فلم يعرفه، ولو كان ذلك من السنن المشهورة والأمور المعروفة إذًا لما ذهب علمه، وأنتم قد تضعفون من الأحاديث ما هو أقوى من هذا الحديث بأقل من هذا. وأما حديث عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد، عن سهيل، عن أبيه، عن زيد بن ثابت؛ فمنكر أيضًا؛ لأن أبا صالح لا تعرف له رواية عن زيد، ولو كان عند سهيل من ذلك شيء ما أنكر على الدراوردي ما ذكره له عن ربيعة ويقول له: لم يحدثني أبي عن أبي هريرة، ولكن حدثني به عن زيد بن ثابت، مع أن عثمان ليس بالذي يثبت مثل هذا بروايته. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [182]. (¬2) سورة النور، آية: [2].

وأما حديث ابن عباس؛ فمنكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو ابن دينار بشيء؛ فكيف تحتجون به في مثل هذا؟! وأما حديث جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر؛ فإن عبد الوهاب رواه كما ذكرتم، وأما الحفاظ مالك وسفيان الثوري وأمثالهما فرووه عن جعفر، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- ولم يذكروا فيه عن جابر، وأنتم لا تحتجون بعبد الوهاب فيما يخالف فيه الثوري ومالك. ش: هذا جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهي أربعة أحاديث التي أخرجها عن أربعة أنفس من الصحابة، وهم: ابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. أما حديث ابن عباس فقد تقدم الكلام فيه مستقصى. وأما حديث أبي هريرة فإنه معلول أيضًا، لأن عبد العزيز الدراوردي قد سأل سهيلًا عنه فلم يعرفه، وهذا قدح فيه؛ لأن الخصم يضعف الحديث بما هو أدنى من ذلك. وقال أبو داود -لما أخرج هذا الحديث-: وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث، قال: أنا الشافعي، عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وقد كانت أصابت سهيل علة أزالت بعض عقله؛ فنسي حديثه؛ فكان سهيل بعدُ يحدثه عن ربيعة، عنه، عن أبيه. وقال أبو داود: ثنا محمَّد بن داود الإسكندراني، ثنا زياد -يعني ابن يونس-، حدثني سليمان بن بلال، عن ربيعة، بإسناد أبي مصعب ومعناه. قال سليمان: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث؟ فقال: ما أعرفه، فقلت: إن ربيعة أخبرني به عنك قال: فإن كان ربيعة أخبرك به عني، فحدث به عن ربيعة عني. ومثل هذا الحديث لا تثبت به شريعة مع إنكار من روى عنه إياه، وفقد معرفته به.

فإن قلت: يجوز أن يكون رآه ثم نسيه. قلت: يجوز أن يكون قد وهم في أول الأمر وروى ما لم يكن سمعه، وقد علمنا أن آخر أمره كان جحوده؛ وفقد العلم به، فهو أولى. وأما حديث زيد بن ثابت؛ فمنكر أيضًا، وقد استوفينا الكلام فيه فيما مضى. وأما حديث جابر فإنه معلول أيضًا؛ لأن عبد الوهاب هو الذي أوصله وأسنده، وخالف فيه الحافظ مثل مالك والثوري وابن عيينة وعمرو بن دينار والحكم بن عتيبة، فإنهم رووه مرسلًا، والخصم لا يحتج بعبد الوهاب في ما يخالف فيه الثوري وأضرابه، على أن ابن معين قال: اختلط عبد الوهاب في آخر عمره. وقال ابن سعد: هو ثقة، وفيه ضعف. وقال ابن مهدي: أربعة كانوا يحدثون من كتب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ، فذكر منهم عبد الوهاب. وقال ابن عبد البر: إرساله أشهر، ورواه الترمذي من حديث عبد الوهاب موصولًا، ثم أخرجه من حديث إسماعيل بن جعفر، عن جعفر، عن أبيه مرسلًا، ثم قال: وهذا أصح. وكذا روى الثوري عن جعفر عن أبيه مرسلًا. ولهذا ذكر البيهقي في كتاب "المعرفة" أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة؛ لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطًا. ص: ثم لو لم ينازع في طريق هذا الحديث، وسلمت على هذه الألفاظ التي قد رويت عليها، لكانت محتملة للتأويل الذي لا يقوم لكم بمثلها حجة معه؛ وذلك أنكم إنما رويتم أن رسول الله قضى باليمين مع الشاهد الواحد، ولم يُبَيِّن في هذا الحديث كما كان ذلك السبب، ولا المستحلف من هو؛ فقد يجوز أن يكون ذلك على ما ذكرتم، ويجوز أن يكون أريد به يمين المدعى عليه، ادعى المدعي ولم يقم على دعواه إلا شاهدًا واحدًا، فاستحلف له النبي -عليه السلام- المدعى عليه فروى ذلك ليعلم الناس أن المدعي لا يجب له اليمين على المدعى عليه إلا بحجةٍ أخرى غير الدعوى

لا يجب له اليمين إلا بها، كما قال قوم: إن المدعي لا يجب له اليمين فيما ادعى إلا أن يقيم البينة أنه قد كانت بينه وبين المدعي عليه خلطة ولبس؛ فإن أقام على ذلك بَيِّنة استحلف له، ولا لم يستحلف. فأراد الذي روى هذا الحديث أن ينفي هذا القول، ويثبت اليمين بالدعوى وإن لم يكن مع الدعوى غيرها، فهذا وجه. ش: هذا جواب آخر عن الأحاديث المذكورة بطريق التسليم، تقريره أن يقال: سلمنا صحة هذه الأحاديث وسلامة طرقها عن ما ذكرنا، ومجيئها على الألفاظ التي رويت عليها، ولكنها تحتمل التأويل الذي يدفع به الاحتجاج بها، وذلك أنكم رويتم أنه -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد الواحد، ولم يبين فيه كيفية السبب، ولا بين الذي يستحلف من هو؛ فقد يجوز أن يكون المستحلف هو المدعي كما ذهبتم إليه، ويجوز أن يكون هو المدعي عليه إذا لم يقم المدعي إلا شاهدًا واحدًا؛ فيكون النبي -عليه السلام- قد استحلف المدعي عليه لعدم كمال النصاب في بينة المدعي، فروى الراوي ذلك كذلك حتى يعلم الناس أن اليمين إنما يتعين على المدعي عليه بدعوى المدعي لا بحجة أخرى من غير دعواه، كما ذهبت إليه طائفة من أهل العلم، وهم الشعبي والنخعي وشريح في قول؛ فإنهم قالوا: لا يحب اليمين للمدعي على المدعي عليه فيما ادعاه إلا إذا أقام البينة أنه قد كانت بينهما خلطة، فإن أقام بينة على ذلك استحلف له وإلا لا. فأراد إذًا الراوي بقوله: "قضى رسول الله -عليه السلام- بيمين وشاهد" نَفْيَ هذا القول وإثبات اليمين بالدعوى، وإن لم يكن معها غيرها. هذا ما ذكره الطحاوي، وقد يقال يحتمل أن يراد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعي عليه، وأنه يستحلفه مع شهادة شاهد؛ فأفاد أن شهادة الواحد لا تمنع استحلاف المدعي عليه، وأن وجوده وعدمه بمنزلة. قال الجصاص -في هذا الموضع-: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما يجب على المدعي عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلًا؛ فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان بذلك.

ص: وقد يجوز أن يكون ذلك أريد به يمين المدعي مع شاهده الواحد؛ لأن شاهده الواحد كان ممن يحكم بشهادته وحده وهو خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه -؛ فإن رسول الله -عليه السلام- قد كان عدل شهادته بشهادة رجلين. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عمارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي -عليه السلام- "أن رسول الله ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي -عليه السلام- المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يشعرون أن النبي -عليه السلام- ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي -عليه السلام-، فنادى الأعرابي النبي -عليه السلام-، فقال: إن كنت مبتاعًا لهذا الفرس فابتعْهُ وإلا بعْتَهُ، فقام النبي -عليه السلام- حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي -عليه السلام-: بلى قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي -عليه السلام- والأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هَلَمَّ شاهدًا يشهد لك أني قد بايعتك فمن جاء من المسلمين قال: يا أعرابي، ويلك، إن النبي -عليه السلام- لم يكن يقول إلا حقًّا، حتى جاء خزيمة - رضي الله عنه -، فاستمع لمراجعة النبي -عليه السلام- ومراجعة الأعرابي وهو يقول: هلم شهيدًا يشهد لك أني قد بايعتك، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي -عليه السلام- على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله -عليه السلام- شهادة خزيمة بشهادة رجلين". فلما كان ذلك الشاهد الذي ذكرنا قد يجوز أن يكون هو خزيمة بن ثابت، فيكون المشهود له شهادة واحدة مستحقًّا؛ لما شُهِدَ له به كما يستحق غيره بالشاهدين ما شهدا له به، فادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إلى المدعى، فاستحلفه به النبي -عليه السلام- على ذلك، وأريد بنقل هذا الحديث ليعلم أن المدعي إذا أقام البينة على دعواه، وادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إليه أن عليه اليمين مع بينته، فهذه وجوه تحملها ما جاء عن النبي -عليه السلام- من قضائه باليمين مع الشاهد، فلا ينبغي لأحد

أن يأتي إلى خبر قد احتمل هذه التأويلات فيعطفه على أحدها بلا دليل يدله على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع، ثم يزعم أن من خالف ذلك مخالف لما روي عن النبي -عليه السلام-[وكيف يكون مخالفًا لما قد روي عن رسول الله] (¬1) وقد تأول ذلك على معنى يحتمل ما قال؟! بل ما خالف إلا تأويل مخالفه لحديث رسول الله -عليه السلام- ولم يخالف شيئًا من حديث رسول الله -عليه السلام-. ش: هذا جواب آخر عن الأحاديث المذكورة التي فيها الإخبار عن القضاء بيمين وشاهد واحد، وهو تأويل حسن يقع به التطابق بين الكتاب والسنة، وما ذهب إليه الخصم يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب والسنة المجتمع عليها. بيان ذلك أن يقال: يجوز أن يكون المراد من قوله: "قضي باليمين مع الشاهد" هو يمين المدعي مع شاهده الواحد؛ لأن شاهده الواحد كان يقوم مقام الشاهدين وهو خزيمة بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -؛ وذلك لأنه -عليه السلام- قد كان عدل شهادته بشهادة رجلين وذلك فيما أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت، وثقه النسائي وابن حبان، وروي له الأربعة. عن عمه خزيمة بن ثابت الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، حدثني عمارة بن خزيمة، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب رسول الله -عليه السلام-: "أن النبي -عليه السلام- ابتاع فرسًا. . . ." إلى آخره. وأخرج الطبراني (¬3) من حديث خزيمة بن ثابت، ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة (ح). ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "مسند أحمد" (5/ 215 رقم 21933). (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 87 رقم 3730).

وحدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة (ح). وحدثنا محمَّد بن عبد الله الحضرمي، ثنا ليث بن هارون العكلي، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، حدثني محمَّد بن زرارة بن خزيمة بن ثابت، حدثني عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- اشترى فرسًا من سواء بن الحارث، فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا؟! قال: صدقتك لما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًّا، فقال رسول الله -عليه السلام-: من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه". قوله: "ابتاع فرسًا من أعرابي" أي اشترى، واسم هذا الفرس: المترجز، من الارتجاز؛ سُمي بذلك؛ لحسن صهيله، كأنه ينشد رجزًا، واسم الأعرابي سواء بن الحارث، ويقال: هو سواء بن قيس المحاربي، وقد فرق بينهما ابن شاهين فجعل لكل منهما ترجمة وهما واحد، وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة. قوله: "فاستتبعه" أي استتبع النبي -عليه السلام- الأعرابي بأن قال له: اتبعني حتى أدفع إليك الثمن. قوله: "فطفق رجال" طفق من أفعال المقاربة ملحق بأخذ وجعل في الدلالة على الشروع، وفيها ثلاث لغات: طَفِقَ بوزن سَمِعَ، قال الله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} (¬1)، وطَفَقَ بوزن ضَرَبَ، وطَبِقَ بكسر الباء الموحدة. قوله: "فيساومون الفرس" أي يطلبون منه بيعه. قوله: "لا يشعرون" جملة وقعت حالًا، أي لا يعلمون. قوله: "إن كنت مبتاعًا" أي مشتريًا. قوله: "يلوذون بالنبي -عليه السلام-" أي ينضمون به وبالأعرابي. قوله: "هَلُمَّ شاهدًا" أي هات شاهدًا، وهو مركب من "ها" و"لم" من لممت الشيء إذا جمعته، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجيء ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: [22].

متعديًا ولازمًا، فالمتعدي نحو قوله: هلم شاهدًا، قال الله تعالى: {قُل هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} (¬1) واللازم نحو: هلم لك وهلم لكما وهلم لكم، قال الله تعالى {هَلُمَّ إِلَينَا} (¬2). قوله: "فبم تشهد" أصله: فبما حذفت منه الألف كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاَءَلُونَ} (¬3). قوله: "فلما كان ذلك الشاهد" أراد به الشاهد المذكور في متن الأحاديث المذكورة. قوله: "فهذه وجوه يحتملها ما جاء عن النبي -عليه السلام-" أراد بها الوجوه التي ذكرها من التأويلات في قوله: "قضى باليمين مع الشاهد". قوله: "فيعطفه على أحدها" أي فيعطف الخبر على أحد التأويلات. قوله: "على ذلك" أي على التأويل الذي تأوله، والباقي ظاهر. ص: وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا بلغكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث فَظنُوُّا به الذي هو أهنا، والذي هو أهدى، والذي هو أتقى، والذي هو خير". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو. . . . فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يقل: "والذي هو خير". فهكذا ينبغي للناس أن يفعلوا، وأن يحسنوا تحقيق ظنونهم، ولا يقولوا على رسول الله -عليه السلام- إلا بما قد علموه؛ فإنهم منهيون عن ذلك معاقبون عليه، وكيف يجوز لأحد أن يحمل حديث رسول الله -عليه السلام- على ما حمله عليه هذا المخالف، وقد وجدنا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [150]. (¬2) سورة الأحزاب، آية: [18]. (¬3) سورة النبأ، آية: [1].

كتاب الله -عز وجل- لدفعه، ثم السنة المجمع عليها تدفعه أيضًا، فأما كتاب الله -عز وجل- فإن الله يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬1) وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2)، وقد كانوا قبل نزول هاتين الآيتين لا ينبغي لهم أن يقضوا بشهادة ألف رجل ولا أكثر منهم ولا أقل؛ لأنه لا يوصل بشهادتهم إلى حقيقة صدقهم، فلما أنزل الله -عز وجل- ما ذكرنا قطع بذلك العذر وحكم بما أمر به على ما تعبد به خلقه، ولم يحكم بما هو أقل من ذلك؛ لأنه لم يدخل فيما تُعبدوا به، وأما السنة المتفق عليها فهي أنه لا يحكم بشهادة جارٍّ إلى نفسه مغنمًا ولا دافع عنها مغرمًا، والحكم باليمين مع الشاهد على ما حمل عليه هذا المخالف لنا حديث رسول الله -عليه السلام- فيه حكم لمدع بيمينه؛ فذلك حكم لجارٍّ إلى نفسه بيمينه، فهذه سنة متفق عليها تدفع الحكم باليمين مع الشاهد على ما قد دفعه مما قد ذكرنا من كتاب الله والسنة المتفق عليها، لا إلى ما يخالفهما أو يخالف أحدهما. ش: ذكر أثر علي - رضي الله عنه - شاهدًا لقوله: "فلا ينبغي لأحد أن يأتي إلى خبر. . . ." إلى آخره. وأخرجه بإسناد صحيح من طريقين رجالها ثقات: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، عن مسعر بن كدام الكوفي، عن عَمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الأعمى، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق، وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي واسمه عبد الله بن حبيب، ولأبيه صحبة. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن. . . . به نحوه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [282]. (¬2) سورة الطلاق، آية: [2]. (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 9 رقم 20).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي -شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن سعيد، عن مسعر، ثنا عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا حُدثتم عن رسول الله -عليه السلام- فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه". قوله: "فَظُنوا به" أي استيقنوا به؛ لأن الظن يجيء بمعنى العلم، قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرَّد أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. قوله: "أهنا" أي أطيب وأقرب إلى الاتباع. قوله: "وأهدي" أي إلى الصواب. قوله: "وأتقى" أي في العمل. فقد دل هذا على أن الواجب على الرجل إذا بلغه الحديث وله تأويلات أو معاني كثيرة لا يصرف تأويله أو معناه إلا إلى معنى يوافق الكتاب أو سنة أخرى أو الإجماع، فإذا صرفه إلى غير ذلك يكون مخالفًا لما قصده النبي -عليه السلام-، وصارفًا معناه إلى غير ما قصده، فيكون كاذبًا فيه، فيدخل تحت قوله: "من كذب على متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار" (¬2). قوله: "هذا المخالف" أراد به الشافعي، والواو في قوله: "وقد وجدنا" للحال. قوله: "جارٍّ" بتشديد الراء من جَرَّ يَجُرُّ. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 122 رقم 986). (¬2) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، البخاري (1/ 434 رقم 1229)، ومسلم (1/ 10 رقم 4).

ص: ولقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يدفع القضاء باليمين مع الشاهد على ما أدعى هذا المخالف لنا. حدثنا إبراهيم بن مرزوق ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن علقمة، عن وائل بن حجر قال: "كنت عند رسول الله -عليه السلام- فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا يا رسول الله انتزى على أرضه في الجاهلية -وهو امرئ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان- فقال له: بيِّنتكَ، فقال: ليس لي بَيِّنة، قال: لك يمينه، [قال] (¬1) إذًا يذهب بها، قال؛ ليس لك منه إلا ذلك، فلما قام ليحلف؛ قال رسول الله -عليه السلام-: من اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبان". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: "جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله -عليه السلام- للحضرمي: ألك بيِّنة؟ فقال: لا، فقال النبي -عليه السلام-: فأحلفه، فقال: إنه ليس له يمين، فقال رسول الله -عليه السلام-: ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق لِيُحْلِفَهُ، فقال رسول الله -عليه السلام-: أما إنه إن حلف على مالك ظالمًا ليأكله؛ لقي الله -عز وجل- وهو عنه معرض". حدثنا فهد، قال: ثنا جندل بن والق، قال: ثنا أبو الأحوص. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما قال رسول الله -عليه السلام-: بينتك أو يمينه ليس لك منه إلا ذلك، دل على أنه لا يستحق شيئًا بغير البينة، فهذا ينفي القضاء باليمين مع ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

الشاهد، والذي هو أولى بنا أن نحمل وجه ما اختلف فيه تأويله من الحديث الأول على ما يوافق هذا لا على ما يخالفه، وقد قال رسول الله -عليه السلام-: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" فدل ذلك أن اليمين لا يكون أبدًا إلا على المدعى عليه، وقد ذكرنا ذلك بالإسناد فيما تقدم من هذا الكتاب. ش: ذكر هذا لبيان خطأ ما ذهب أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز القضاء باليمين مع الشاهد، وهو حديث وائل ابن حجر الحضرمي الكندي الصحابي. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ومحمد بن خزيمة، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عبد الملك بن عمير بن سويد الكوفي، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل ابن حجر - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (¬1): من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه نحوه. قوله: "فأتاه رجلان يختصمان" وقد بينهما بقوله: "وهو امرئ القيس: بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان". أما امرئ القيس: فهو ابن عابس بن المنذر بن امرئ القيس الكندي، وفد إلى النبي -عليه السلام- فأسلم وثبت على إسلامه ولم يرتد فيمن ارتد من كندة وكان شاعرًا وله. وأما ربيعة فهو ابن عبدان بن وائل بن ذي العرف بن وائل بن ذي طوف الحضرمي ويقال: الكندي. قاله ابن يونس، شهد فتح مصر وله صحبة وليست له رواية. وعبدان بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون، وقال عبد الغني: وقيل: عبدان بالباء الموحدة وبكسر العين. ¬

_ (¬1) "معرفة الصحابة" (2/ 1099 رقم 2774).

الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن سماك بن حرب، عن علقمة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3). قوله: "فجاء رجل من حضرموت ورجل من كندة" قد بينهما الطبراني (¬4) في تخريجه: ثنا أحمد بن داود المكي وأبو خليفة، قالا: ثنا إبراهيم بن أبي سويد، ثنا إبراهيم بن عثمان، ثنا عبد الملك بن عمير، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: "اختصم الأشعث بن قيس الكندي ورجل من حضرموت إلى رسول الله -عليه السلام- في أرض في يد الأشعث بن قيس الكندي ادعاها الحضرمي، فقال رسول الله -عليه السلام- للحضرمي: بينتك، قال: ليس لي بينة، قال: فإن لم تكن لك بينة حَلِّف الأشعث، قال: هلك حقي يا رسول الله إن جعلتها يمين الأشعث: فقال رسول الله -عليه السلام-: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن جندل بن والق بن هجرس الكوفي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن أبي الأحوص سلام، عن سماك، عن علقمة. وأخرجه الترمذي: (¬5) ثنا قتيبة، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال: "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي -عليه السلام-، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرضٍ لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق، فقال النبي -عليه السلام- للحضرمي: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 123 رقم 139). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 221 رقم 3245). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 484 رقم 5989). (¬4) "المعجم الكبير" (22/ 18 رقم 24). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 625 رقم 1340).

ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي ليأكله ظلما على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك، قال: فانطلق الرجل ليحلف، فقال رسول الله -عليه السلام- لما أدبر: لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليأتين الله وهو عنه معرض". قوله: "انتزى على أرضه" أي غلبه عليها وأخذها منه قهرًا، يقال: نزى عليه ينزو إذا تطاول، وأنزى فلان بفلان إذا غلبه وقهره وهو منزٍ بهذا الأمر أي قوي عليه ضابط له. قوله: "بينتك" بنصب التاء على حذف عامله، والتقدير: هات بينتك. قوله: "من اقتطع" أي من أخذها لنفسه متملكًا، وهو افتعال من القطع. قوله: وقد قال رسول الله -عليه السلام-: "لو يعطى الناس بدعواهم. . . ." الحديث. أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأخرجه الطحاوي في باب الرجل يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني، على ما يجيء إن شاء الله تعالى. فإن قيل: كيف قال: "فيما تقدم من هذا الباب" والحال أنه فيما بعد ولم يتقدم؟ قلت: كأن الباب المذكور قد كان متقدمًا في المسودة وأخرّه في المبيضة، أو ترتيب الأبواب يختلف، وهو الظاهر على ما شاهدنا من النسخ والله أعلم. ص: وأما النظر في هذا فإنه يغنينا عن ذكر أكثره فساد قول الذين ذهبوا إلى القضاء باليمين مع الشاهد فجعلوا ذلك في الأموال خاصة دون سائر الأشياء، فلما ثبت أنه لا يقضى بيمين وشاهد في غير الأموال؛ كان حكم الأموال في النظر كذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما القياس في هذا الباب، فإنه. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1656 رقم 4277). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1336 رقم 1711).

حاصله أن ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى فاسد من جهة القياس أيضًا؛ لأنهم اتفقوا على بطلان القضاء باليمين والشاهد في غير الأموال، مع أن القصة المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها، كان القياس يقتضي أن يكون حكم الأموال كغيرها، وتخصيصهم إياه بالأموال ترجيح بلا دليل وهو باطل. فإن قيل: قال عمرو بن دينار: "في الأموال" أخرج البيهقي ذلك في "الخلافيات" وغيرها (¬1) وقال: أنا أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، نا الربيع بن سليمان: ثنا الشافعي، ثنا عبد الله بن الحارث المخزومي، عن سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- قضي باليمين مع الشاهد" قال عمرو: "في الأموال". قلت: هو قول عمرو بن دينار ومذهبه، وليس فيه أن النبي -عليه السلام- قضي بها في الأموال. وقال ابن حزم: قال الشافعي في بعض الآثار أن النبي -عليه السلام- حكم بذلك في الأموال وهذا لا يوجد أبدًا في شيء من الآثار الثابتة، والواجب أن يحكم بها في الدماء والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة والأموال حاشي الحدود؛ لأن ذلك عموم الأخبار، ولم يأت في شيء من الأخبار منع من ذلك. وقال الجصاص: فإذا جاز أن [لا] (¬2) يقضى به في غير الأموال، وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان ذكر الأموال ولا غيرها ولا ذكر الواقعة ولا بيان أسماء الخصمين فكذلك لا يقضى بها في الأموال، إذا لم يبين كيفيتها، وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 167 رقم 20422). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 254).

فإن قيل: إنما يقضى به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال، فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر. قيل له: [هذه] (¬1) دعوى لا دلالة عليها، ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد واحدٍ دون أن تقوم مقام امرأة. ويقال لهم: أرأيت لو كان المدعي امرأة هل يقوم يمينها مقام شهادة رجل؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فقد صارت اليمين آكد في الشهادة لأنكم لا تقبلون شهادة امرأة واحدة في الحقوق، وقبلتم يمينها وأقمتموها مقام شهادة رجل واحد، والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء وإن كانت هذه الشهادة لو قامت يمينها مقام شهادة لرجل فقد خالفهم القرآن؛ لأن أحدًا لا يكون مرضيًّا فيما يدعيه لنفسه، ومما يدل على تناقض قولهم: أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات، وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة، ثم إن كان المدعي كافرًا أو فاسقًا وشهد معه شاهد واحد، أيستحلف ويستحق ما يدعيه بيمينه وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينًا فلم تقبل شهادته ولا أيمانه، وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله، مع أنه غير مرضي ولا مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه، وفي ذلك دليل على بطلان قولهم وتناقض مذهبهم. ص: وقد حدثنا وهبان، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري: "أن معاوية - رضي الله عنه - أول من قضى باليمين مع الشاهد، وكان الأمر على غير ذلك". ش: أشار بذلك إلى أن محمَّد بن مسلم الزهري قد أنكر القضاء باليمين وشاهد حيث قال: "وكان الأمر على غير ذلك" وروى ابن حزم عن الزهري ولفظه قال: "هو بدعة مما أحدثه الناس، أول من قضي به معاوية" وقال عطاء بن أبي رباح "أول من قضي به عبد الملك بن مروان". ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "هذا"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص.

وأخرجه الطحاوي عن وهبان بن عثمان، عن أبي همام الوليد بن شجاع شيخ مسلم وأبي داود وآخرين، عن عبد الله بن المبارك، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. فإن قيل: كيف قال الزهري إن معاوية أول من قضى باليمين مع الشاهد وقد روي البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث أبي عاصم، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عامر: "حضرت أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - يقضون بشهادة الشاهد واليمين". وروي أيضًا (¬2) من حديث طلحة بن زيد، ثنا جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - "أن رسول الله -عليه السلام- وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي، قال جعفر: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم". قلت: أبو بكر بن أبي سبرة ضعيف قد ضعفه البيهقي في باب وطء أم الولد، وقال أحمد: كان يضع الحديث، وذكره الذهبي في كتاب "الضعفاء"، وقال في "مختصر السنن": أبو بكر تركوه. وكذا قال: وطلحة بن زيد متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. ومن يكون حاله هذا كيف يجوز الاستدلال به في المذهب؟! فيا للعجب من البيهقي، يستدل في كتابه "السنن" بمن هو ضعيف فيصرح بضعفه في باب ويسكت عنه في باب آخر ويحتج به! ثم هو يحطّ على الطحاوي بأنه يستدل بالضعفاء، ومع هذا لا يذكر الطحاوي أحاديث الضعفاء إلا في الشواهد والمتابعات، أو في احتجاجات الخصوم؛ يظهر ذلك لمن يتأمل كلامه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 173 رقم 20461). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 173 رقم 20460).

ص: باب: رد اليمين

ص: باب: رد اليمين ش: أي هذا باب في بيان رد المدعى عليه اليمين على المدعي، هل يجوز ذلك أم لا؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: اختلف الناس في المدعى عليه يرد اليمين على المدعي. فقال قوم: لا يستحلف المدعي. وقال آخرون: بل يستحلف، فإن حلف استحق ما ادعى بحلفه وإن لم يحلف لم يكن له شيء. ش: أراد بالقوم: النخعي وابن سيرين وابن أبي ليلى في قول وسوَّار بن عبد الله العنبري وعبيد الله بن الحسن العنبري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأبا عبيد وإسحاق -في قول- وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا يستحلف المدعي، ولا يرد عليه اليمين. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وشريحًا القاضي وابن أبي ليلى -في قول- وإسحاق -في قول- ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: يستحلف المدعي ويرد عليه اليمين، فإن حلف استحق ما ادعاه به، وإن لم يحلف فلا شيء له، وقال ابن حزم: قال مالك: ترد اليمين في الأموال ولا نرى ردها في النكاح ولا في الطلاق ولا في العتق، وقال الشافعي وأبو ثور وسائر أصحابه: ترد اليمين في كل شيء؛ في القصاص في النفس فما دونها، وفي النكاح، والطلاق، والعتاق، فمن ادعت عليه امرأته أنه طلق، أو عبده وأمته أنه أعتق، ومن ادعى على امرأته النكاح أو ادعته عليه ولا شاهد لهما ولا بينة؛ لزمه اليمين أنه ما طلق ولا أعتق، ولزمه اليمين أنه ما نكحها، ولزمتها اليمين كذلك فأيهما بكل حلَّف الآخر المدعي، وصح العتق والنكاح والطلاق، وكذلك في القصاص. ص: واحتجوا في ذلك بما قد روينا في غير هذا الموضع عن سهل بن أبي حثمة في القسامة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال للأنصار: "أتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا:

كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: أتحلفون وتستحقون؟ " قالوا: فقد رد رسول الله -عليه السلام- الأيمان التي جعلها في البدء على المدعى عليهم، فجعلها على المدعيين بعد أن جعلها على المدعى عليهم، فدل على جواز رد اليمين على المدعي. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث سهل بن أبي حثمة. أخرجه في باب "القسامة": عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، سمع بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال: "وجد عبد الله بن سهل قتيلًا في قليب من قلب خيبر. . . . الحديث" على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وجه استدلالهم به: أن رسول الله -عليه السلام- رد الأيمان على المدعيين بعد أن جعلها على المدعى عليهم، فدل على جواز رد اليمين على المدعي. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن رسول الله -عليه السلام- لما قال: "أتبرئكم يهود خمسين يمينًا" لم يكن من اليهود رد الأيمان على الأنصار فيردها النبي -عليه السلام-، فيكون ذلك حجة لمن يرى رد اليمين في الحقوق، إنما قال: "أتبرئكم يهود خمسين يمينًا" فقالت الأنصار: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال النبي -عليه السلام-: أتحلفون وتستحقون؟ " فقد يجوز أن يكون كذلك حكم القسامة، ويجوز أن يكون على النكير منه عليهم إذ قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال لهم: أتحلفون وتستحقون"، كما يقال: أيدعون ويستحقون، فلما احتمل الحديث هذين الوجهين لم يكن لأحد أن يحكمه على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان يدله على ذلك، فنظرنا فيما سوى هذا الحديث من الآثار المروية في هذا فإذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". فثبت بذلك أن المدعي لا يستحق بدعواه دمًا ولا مالًا وإنما يستحق بها يمين المدعى عليه خاصة، هذا حديث ظاهر المعنى وأولى بنا أن نحمل ما خفي علينا معناه من الحديث الأول على ذلك.

ش: أي فكان من الدليل والبرهان على الآخرين لأهل المقالة الأولى وأراد بذلك الجواب عما احتجوا به من حديث سهل بن أبي حثمة وهو ظاهر. وقال ابن حزم: وأما حديث القسامة فاحتجاجهم به إحدى فضائحهم؛ لأن المالكيين والشافعيين مخالفون لما فيه، أما المالكيون فخالفوه جملة، وأما الشافعيون فخالفوا ما فيه من إيجاب القود، فكيف يستحلون الاحتجاج بحديث قد هان عليهم خلافه فيما فيه وزادوا من ذلك تثبيت الباطل الذي ليس في الحديث منه شيء أصلًا، وإنما في هذا الخبر تحليف المدعيين أولًا خمسين يمينًا بخلاف جميع الدعاوى، ثم رد اليمين على المدعى عليهم بخلاف قولهم، فمن أين رأوا أن يقيسوا عليه ضده من تحليف المدعى عليه أولًا فإن نكل؛ حلف المدعي، ولم يقيسوا عليه في تبرئة المدعي في سائر الدعاوى وأن يجعلوا الأيمان في كل دعوى خمسين يمينًا، فهل في التخليط وخلاف السنن وعكس القياس وضعف النظر أكثر من هذا النهي؟! وقال أبو عمر: في حديث القسامة أن المدعيين الدم يبدءون بالأيمان في القسامة، وهذا في القسامة خاصة، وهو يخص قول النبي -عليه السلام-: "البينة على المدعي واليمين على ما أنكر". وقد روي عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة" (¬1). قلت: ابتداء المدعيين الدم بالأيمان لا يستلزم جواز رد اليمين على المدعي ولا فيه دلالة على هذا، وحديث عمرو بن شعيب في إسناده مقال. فإن قيل: روى الحكم في "مستدركه" (¬2): من حديث سليمان بن عبد الرحمن، ثنا محمَّد بن مسروق، عن إسحاق بن الفرات، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- رد اليمين على طالب الحق". ¬

_ (¬1) "المحلي" (9/ 379). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (40/ 113 رقم 7057).

وروى البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي - رضي الله عنه - قال: "اليمين مع الشاهد، وإن لم يكن له بينة فاليمين على المدعى عليه إذا كان قد خالطه فإن نكل حلف المدعي". قلت: سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ابن بنت شرحبيل قد تفرد به، قال أبو حاتم: هو صدوق مستقيم الحديث ولكنه أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين وكان عندي في حد لو أن رجلًا وضع له حديثا لم يفهم وكان لا يميز وابن ضميرة ضعيف، قال ابن حزم: الرواية عن علي - رضي الله عنه - ساقطة؛ لأنها عن الحسين ابن ضميرة، عن أبيه، وهو متروك ابن متروك لا يحل الاحتجاج بروايتهما فلم يصح في هذا عن أحد من الصحابة كلمة. فإن قيل: أخرج ابن وهب في "مسنده": عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان التجيبي أخبره أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من كانت له طلبة عند أحد فعليه البينة والمطلوب أولى باليمين فإن نكل حلف الطالب وأخذ". قلت: قال ابن حزم: هذا مرسل ولا حجة في مرسل عندنا ولا عند الشافعيين، ثم لو صح لكان حجة على المالكيين؛ لأنهم مخالفون لما فيه من عموم رد اليمين في كل طلبة طالب. قوله: فإذا ابن عباس. . . . إلى آخره. أخرجه مسلم (¬2): حدثني أبو الطاهر [أحمد] (¬3) بن عمرو بن سرح قال: أنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 184 رقم 20530). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1336 رقم 1711). (¬3) في "الأصل، ك": "حرملة"، وهو سبق قلم أو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"تهذيب الكمال".

وأخرجه البخاري (¬1) أيضًا، والطحاوي على ما يأتي. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة على دعواه لا تكون حجته تلك جارة إلى نفسه مغنمًا، ولا دافعة عنها مغرمًا، فلما وجبت اليمين على المدعى عليه فردها على المدعي فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له فحكمنا له بحجة كانت منه هو بها جار إلى نفسه مغنمًا، وهذا خلاف ما تُعبد به العباد فبطل ذلك. ش: أي: وأما وجه رد اليمين على المدعي من طريق النظر والقياس فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة أن البينة على دعواه لا يكون هو بتلك الحجة جارًّا إلى نفسه مغنمًا ولا دافعًا عنها مغرمًا. فإن قيل: اليمين أيضًا حجة مثل البينة فلا يكون أيضًا إذا حلف جارًّا إلى نفسه مغنمًا فكيف الفرق بينهما؟ قلت: ظهور المغنم له عند إقامة البينة بواسطة البينة وليس له في ذلك عمل بخلاف ما إذا حلف عند الاستحلاف؛ لأنه حينئذ يكون هو الذي أظهر ذلك المغنم بإقدامه على اليمين وهو عمل ينسب إليه فيكون بذلك جارًّا إلى نفسه مغنمًا فافهم فإنه موضع دقيق. ص: فإن قال قائل: إنا إنما نحكم له بيمينه وإن كان بها جارًّا إلى نفسه؛ لأن المدعى عليه قد رضي بذلك. قيل له: وهل يوجب رضى المدعى عليه زوال الحكم عن جهته؟ أرأيت لو أن رجلًا قال: ما ادعى على فلان من شيء فهو مصدق فادعى عليه درهمًا فما فوقه هل يقبل ذلك منه؟ أرأيت لو قال: قد رضيت بما يشهد به زيد علي لرجل فاسق أو لرجل جار إلى نفسه بتلك الشهادة مغنمًا فشهد زيد عليه بشيء هل ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1656 رقم 4277).

يحكم بذلك عليه؟ فلما كانوا قد اتفقوا أنه لا يحكم عليه بشيء من ذلك وإن رضي به، وأن رضاه في ذلك وغير رضاه سواء، وأن الحكم لا يجب في ذلك -وإن رضي بذلك- إلا بما كان يجب لو لم يرضى كان كذلك أيضًا يمين المدعي لا يجب له بها حق على المدعى عليه وإن رضي المدعى عليه بذلك، وحكم يمينه بعد رضاه بها كحكمها قبل ذلك، فثبت بما ذكرنا بطلان رد اليمين على المدعى عليه وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن المدعي إذا حلف عند الاستحلاف فهو وإن كان بيمينه جارًّا إلى نفسه مغنمًا ولكنه برضى المدعى عليه فلا يضره حينئذ ذلك، فبطل بذلك ما قلتم من قولكم: فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له -أي للمدعي- فحكمنا له بحجة كانت منه -أي من المدعي- هو بها -أي بتلك الحجة التي هي اليمين- جارًّا إلى نفسه مغنمًا. وهذه جملة وقعت حالًا بدون الواو كما في قوله: كلمته فوه إلى في. فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له:. . . ." إلى آخره وهو ظاهر. قوله: "أرأيت" أي أخبرني. قوله: "فهو مصدق" بفتح الدال المشددة. قوله: "فلما كانوا" أي أهل المقالتين جميعًا.

ص: باب: الرجل تكون عنده الشهادة للرجل هل يجب أن يخبره بها؟ وهل يقبله الحاكم على ذلك أم لا؟

ص: باب: الرجل تكون عنده الشهادة للرجل هل يجب أن يخبره بها؟ وهل يقبله الحاكم على ذلك أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي عنده شهادة لرجل في قضية من القضايا، هل له أن يخبره بتلك الشهادة؟ وهل يقبل الحاكم هذه الشهادة منه أم لا؟ ص: حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير قال: ثنا إسرائيل قال: ثنا عبد الملك بن عمير قال: ثنا جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "خطبنا عمر - رضي الله عنه - بالجابية فقال: قام فينا رسول الله -عليه السلام- مقامي فيكم اليوم فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتى يحلف الرجل على اليمين ولا يستحلف". حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش قال: ثنا عارم بن الفضل قال: ثنا جرير بن حازم قال: ثنا عبد الملك بن عمير. . . . فدكر بإسناده مثله غير أنه قال: "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة نحوه. الثاني: عن ابن خشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن عارم -وهو محمَّد بن الفضل السدوسي إلى آخره. [وأخرجه ابن ماجه: عن عبد الله بن الجراح، عن جرير، عن عبد الملك بن عمير. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن النسائي الكبرى" (5/ 387 رقم 9219).

قوله: "بالجابية" أي: في الجابية، وهي مدينة بالشام، وإليها ينسب باب الجابية بدمشق. قوله: "يلونهم" من ولي يلي وليًا إذا تابعه، وأصل الولي القرب الدنو. قوله: "ثم يفشو" من فشى الأمر إذا شاع وانتشر. قوله: "ولا يسألها" على صيغة المجهور، وكذلك قوله: "ولا يستحلف". ومن فوائد هذا الحديث: ألا يتعرض أحدٌ إلى أحدٍ من الصحابة إلا بإحسان. وفيه: معجزة للنبي -عليه السلام- حيث أخبر بشيءٍ قبل كونه. وفيه: الإشارة إلى فضيلة الصحابة، ثم إلى فضيلة التابعين، وأتباع التابعين؛ لأن الذين يلون الصحابة هم التابعون، والذين يلونهم هم أتباع التابعين؛ فأبو حنيفة من التابعين، وأبو يوسف ومحمد من أتباع التابعين. وفيه: الإشارة على أن زمن من بعد أتباع التابعين زمن شرٍّ وفساد حيث يظهر فيه الكذب، ويشهد الرجل قبل أن يستشهد، ويحلف قبل أن يستحلف. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن يزيد، قال: ثنا معاوية بن قرة المزني، قال: سمعت كهمسًا يقول: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول، فذكر نحو حديث أبي بكر عن أبي أحمد. ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حماد بن يزيد -بالياء آخر الحروف قبل الزاي- ابن مسلم أبي يزيد البصري وثقه ابن حبان، وهذا يشتبه على كثيرٍ ممن ليس لهم يد في هذا الشأن بحماد بن زيد بن درهم البصري، وكلاهما بصريان، وكل منهما يسمى حمادًا، ولكن تميزهما باسم الأب.

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حماد بن يزيد البصري -روى عنه جماعة- قال: ثنا معاوية بن قرة، عن كهمس الهلالي، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "خير الناس قرني الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم ينشأ أقوامٌ يفشوا فيهم السمن، يشهدون ولا يستشهدون، ولهم لغط في أسواقهم". ولا نعلم أسند كهمس الهلالي عن عمر إلا هذا الحديث، وكهمس قد روى عن النبي -عليه السلام- حديثًا واحدًا. قلت: هو حديث في الصوم، وقد ذكرناه في ترجمته. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قومٌ إلى أن من شهد بالشهادة قبل أن يُسألها، أنه يكون مذمومًا، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أهل الحديث وطائفة من الظاهرية؛ فإنهم احتجوا بهذه الأحاديث التي رويت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقالوا: من شهد بالشهادة قبل أن يُسألها فهو مذموم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: بل هو محمود مأجور على ما كان منه في ذلك. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وآخرين؛ فإنهم قالوا: أداء الشهادة قبل أن يسألها محمود غير مذموم، وهو مأجور على ذلك؛ لأن فيه المبادرة إلى إحاء الحق، والاجتناب عن الدخول تحت الوعيد في قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬2). ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (1/ 370 رقم 248). (¬2) سورة البقرة، آية: [283].

ص: وكان من الحجة لهم في دفع ما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى أن النبي -عليه السلام- قال: "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة لا يسألها، وحتى يحلف على اليمين لا يستحلف". فمعنى ذلك أن يشهد كاذبًا أو يحلف كاذبًا؛ لأنه قال: حتى يفشو الكذب فيكون كذا وكذا؛ فلا يجوز أن يكون الذي يكون إذا فشى الكذب إلا كذبًا، وإلا فلا معنى لذكره فشو الكذب. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين. . . . إلى آخره. وأراد بهذا الجواب عن استدلال أهل المقالة الأولى بالأحاديث المذكورة فيا حق من يشهد كاذبًا أو يحلف كاذبًا بقرينة قوله "ثم يفشو الكذب" ولو لم يكن المعنى كما ذكرنا، لم يكن لذكر فشو الكذب فائدة، والدليل على صحة هذا ما جاء في رواية كهمس التي أخرجها البزار (¬1) "ثم ينشأن أقوام يفشو فيهم السمن؛ فيشهدون ولا يستشهدون" فهذا خارجٌ في معرض الذم لهؤلاء؛ فلا يستحقون الذم إلا بارتكاب أمرٍ عظيم، وهو ظهور السمن فيهم الذي هو كناية عن أكلهم الحرام وشهادتهم الكاذبة؛ لأن معنى قوله "فيشهدون ولا يستشهدون" أن يشهدوا من غير أن يتحملوا الشهادة، وهي شهادة كذب وزور. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم، بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أنا محمَّد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - "أنه خطبهم بالجابية. فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد". ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بحديث عمر بن الخطاب. أخرجه بإسنادٍ صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد المروزي الفارضي الأعور، عن عبد الله بن المبارك، عن محمَّد بن سوقة الغنوي الكوفي، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) تقدم.

وأخرجه الترمذي (¬1): عن أحمد بن منيع، عن أبي المغيرة النضر بن إسماعيل، عن محمَّد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمَّد بن الوليد الفحام البغدادي عن النضر بن إسماعيل، عن محمَّد بن سوقة. . . . إلى آخره. ص: حدثنا عبد الله بن محمَّد المصري، قال: ثنا عارم، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين الذين يلونهم -قال: والله أعلم أذكر الثالثة أم لا- ثم ينشأ أقوام يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يأتمنون، ويفشو فيهم السمن". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن ثابت البزار، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن زهدم بن مضرب الجرمي، أنه سمع عمران بن حصين يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم قرني"، ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن عبد الله بن محمَّد المصري، عن عارم وهو محمَّد بن الفضل السدوسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): عن محمَّد بن المثنى وابن بشار، كلاهما عن معاذ بن هشام، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين. . . . إلى آخره. قوله: "قرني" القرن: هم أهل كل زمان، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الأقران، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 465 رقم 2165). (¬2) "السنن الكبرى" (5/ 388 رقم 9225). (¬3) "صحيح مسلم" (4/ 1964 رقم 2535).

أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق من الزمان، وهو مصدر قرن يقرن. قوله: "ثم الذين يلونهم" هم التابعون، والذين يلونهم من أتباع التابعين. والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن ثابت البصري البزار، عن شعبة، عن أبي جمرة بالجيم والراء نصر بن عمران الضبعي، عن زهدم بن مضرب الجرمي البصري، عن عمران. وأخرجه مسلم أيضًا (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن مثنى ومحمد بن بشار، جميعًا عن غندر محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي جمرة، عن زهدم بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين يحدث، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه مرتين أو ثلاثة- ثم يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يأتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمن". ص: قالوا: فقد ذم النبي -عليه السلام- في هذا الحديث الذي يشهد ولا يستشهد، قيل لهم: هذا الذي لا يستشهد في بدء الأمر فيكون في شهادته عند الحكم شاهدًا بما لم يشهد عليه ولا يعلمه، فعاد معنى هذا الحديث إلى معنى الحديث الأول. ش: أي قال أهل المقالة الأولى؛ وأراد به بيان وجه استدلالهم بالحديث المذكور. قوله: "قيل لهم" جواب عن استدلالهم بذلك، حاصله: أنه -عليه السلام- أراد] (¬2) في هذا الحديث الشاهد الذي يشهد بغير تحمل الشهادة والعلم بالقضية فيكون بذلك شاهد الزور. ص: وذكروا في ذلك أيضًا ما حدثنا حسين بن نصر قال: ثنا ابن أبي مريم قال: ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سليم، عن مصعب بن عبد الله بن أبي أمية قال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1964 رقم 2535). (¬2) طمس في "الأصل"، والمثبت من "ك".

حدثتني أم سلمة أنها سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "يأتي على الناس زمان يكذب فيه الصادق، ويُصدَّق فيه الكاذب، ويُخوَّن فيه الأمين، ويؤتمن فيه الخائن، ويشهد فيه المرء وإن لم يستشهد، ويحلف المرء وإن لم يستحلف". ش: أي ذكر أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه حديث أم سلمة زوج النبي -عليه السلام-. أخرجه عن حسين بن نصر بن المبارك، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يحيى سليم بن زيد مولى رسول الله -عليه السلام-ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه- عن مصعب بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي أمية المخزومي، عن أم سلمة هند - رضي الله عنها -. ص: حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عفان قال: ثنا حماد (ح). وحدثنا ابن أبي داود قال: ثنا هشام بن عبد الملك قال: ثنا أبو عوانة قالا جميعًا: عن أبي بشر، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم لا أدري أذكر الثالث أم لا؟، ثم تخلف بعدهم خلوف تعجبهم السمانة فيشهدون ولا يستشهدون". ش: هذان إسنادان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم -شيخ أحمد- عن حماد ابن سلمة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسماعيل بن سالم، عن هشيم، عن أبي بشر، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير أمتي قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، -والله أعلم أذكر الثالث أم لا-؟ قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1963 رقم 2534).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن حجاج بن الشاعر، عن أبي الوليد، عن أبي عوانة. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "خُلُوف" بضم الخاء جمع خَلْف بفتح الخاء وسكون اللام، والخَلَف بالتحريك والسكون كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر يقال: خَلَف صدقٍ وخَلْف سوءٍ، ومعناهما جميعًا: القرن من الناس. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا أبو مسهر قال: ثنا صدقة بن خالد قال: حدثني عمرو بن شراحيل، عن بلال بن سعد، عن أبيه قال: "قلنا: يا رسول الله، أي أمتك خير؟ قال: أنا وقرني. قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: ثم القرن الثاني. قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: ثم القرن الثالث. قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويؤتمنون ولا يؤدون". ش: إسناده صحيح. وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، شيخ البخاري في غير الصحيح، روى له الجماعة. وصدقة بن خالد القرشي الأموي وثقه أحمد وأبو زرعة، وعمرو بن شراحيل أبو المغيرة الشامي، وثقه ابن حبان. وبلال بن سعد السكوني الأشعري العابد القاص، وثقه ابن حبان (¬2). وأبوه سعد بن تميم السكوني الصحابي، إمام جامع دمشق. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1964 رقم 2534). (¬2) وكذا وثقه ابن سعد والعجلي، انظر "تهذيب الكمال" (4/ 293).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر الدمشقي، وحدثنا أحمد ابن المعلى الدمشقي، قالا: ثنا هشام بن عمار الدمشقي، ثنا صدقة ابن خالد، نا عمرو بن شراحيل العنسي، عن بلال بن سعد، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أي أمتك خير. . . ." إلى آخره نحوه. ص: فالكلام في تأويل هذا هو الكلام الذي ذكرنا في تأويل الآثار التي في الفصل الذي قبل هذا الفصل. ش: أراد به ما قاله من قوله: "قيل لهم: هذا الذي لا يستشهد في بدء الأمر. . . ." إلى آخره. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، عن منصور وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم [الذين] (¬2) يلونهم، ثم يخلف قوم تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا أحمد بن إشكاب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن مسعود. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر وسليمان الأعمش، كلاهما عن إبراهيم النخعي، عن عَبِيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن عمرو السلماني، عن عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (6/ 44 رقم 5460). (¬2) تكررت في "الأصل".

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد وهناد بن السري، قالا: ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن عَبيدة السلماني، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" -لم يذكر هناد "القرن" في حديثه، وقال قتيبة: "ثم يجيء أقوام". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن أحمد بن إشكاب الحضرمي شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه الترمذي (¬2): عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبيدة. . . . به، وقال: حسن صحيح. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن عبد الله بن موله القشيري قال: "كنت أسير مع بريدة الأسلمي وهو يقول: اللهم ألحقني بقرني الذي أنا منه وأنا معه، فقلت: وأنا، فدعى لي، ثم قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم تسبق شهاداتهم أيمانهم، وأيمانهم شهاداتهم". ش: رجاله ثقات. والجُريري -بضم الجيم، وفتح الراء الأولى- هو سعيد بن إياس، روى له الجماعة. وأبو نضرة -بالنون والضاد المعجمة- المنذر بن مالك العبدي العوفي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا. وعبد الله بن مَوَلَة القشيري، وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 1962 رقم 2533). (¬2) "جامع الترمذي" (5/ 659 رقم 3859).

وبُريدة -بضم الباء الموحدة- بن الخُصَيب الأسلمي الصحابي. والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي، نا حماد بن سلمة، عن سعيد الجُرَيْرِي، عن أبي نضرة، عن عبد الله بن مَوَلَة، عن بريدة الأسلمي، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "يكفي أحدكم من الدنيا خادم ومركب"، قال: وقال بريدة: "اللهم ألحقني بقرني الذي أنا منه، قال: فقلت: وأنا معك، فقال: نعم، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا حسين بن على الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن خيثمة، عن النعمان بن بشير، عن النبي -عليه السلام- قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم تسبق شهاداتهم أيمانهم وأيمانهم شهاداتهم". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم. . . . فذكر بإسناده مثله، وزاد: "ثم الذين يلونهم -مرة أخرى- ثم يأتي قوم". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة محمَّد شيخ الشيخين، عن حسين بن علي الجعفي الكوفي، روي له الجماعة، عن زائدة بن قدامة، روي له الجماعة، عن عاصم بن بهدلة المقرئ، ثقة، عن خيثمة بن عبد الرحمن الكوفي، روي له الجماعة. وأخرجه الطبراني: ثنا محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، عن عاصم، عن خيثمة، عن النعمان بن بشير. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد أيضًا عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- المقرئ، وقد اختلف في اسمه جدًّا، والصحيح أن اسمه كنيته، قال أحمد: صدوق صاحب قرآن. وعنه: ثقة روي له الجماعة؛ مسلم في مقدمة كتابه.

وأخرجه الطبراني: عن أبي حصين القاضي، عن يحيى الحماني، عن أبي بكر بن عياش. . . . إلى آخره. ص: فكان من حجتنا على الذين احتجوا بهذه الآثار لأهل المقالة الأولى: أن هذه لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنما أريد بها الشهادة في الأيمان، وقد روي ما يدل على ذلك عن إبراهيم النخعي. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شيبان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: "قلنا يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه، قال إبراهيم: كان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد". فدل هذا من قول إبراهيم أن الشهادة التي ذم النبي -عليه السلام- صاحبها هو قول الرجل: أشهد بالله بما كان كذا، على معنى الحلف، فكره ذلك كما يكره الحلف، فإنه مكروه للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا، فنهي عن الشهادة التي هي حلف كما نهى عن اليمين إلا أن يُستخلف بها، فيكون حينئذٍ معذورًا، ولعله أن يكون أراد بالشهادة التي ذكرنا الحلف بها على ما لم يكن، لقوله: "ثم يفشوا الكذب" فتكون تلك الشهادة شهادة كذب. ش: أي فكان من دليلنا وبرهاننا على القوم [الذين] (¬1) احتجوا بالأحاديث المذكورة التي رويت عن عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين وأم سلمة وأبي هريرة وسعد بن تميم وعبد الله بن مسعود وبريدة الأسلمي والنعمان بن بشير - رضي الله عنهم -. وأشار بذلك إلى الجواب عما قاله أهل المقالة الثانية من الاستدلال بالأحاديث المذكورة فيما ذهبوا إليه، وبيانه أن يقال: استدلالكم بهذه الأحاديث غير تام ولا مطابق لمدَّعاكم؛ لأن المراد من هذه الشهادة هي الشهادة في الأيمان لا الشهادة في الحقوق، والدليل على ذلك: قول إبراهيم النخعي: "كان أصحابنا ينهوننا ونحن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك".

غلمان أن نحلف بالشهادة"، وهو أن يقول الرجل: أشهد بالله ما كان كذا أو كان كذا على قصد اليمين، فكره هذا كما يكره اليمين، فإنه لا شك أنه يكره للرجل الإكثار من اليمين وإن كان صادقًا؛ لأن فيه استخفافًا باسم الله تعالى، فدل ذلك أن المراد هي الشهادة التي هي حلف فنهى عن ذلك كما نهى عن اليمين اللهم إلا إذا اسْتُحْلف الرجل بالشهادة؛ فإن ذلك لا يدخل في هذا الباب لأنه معذور في ذلك. ثم إسناد حديث إبراهيم صحيح. وشيبان هو ابن عبد الرحمن التميمي النحوي البصري، روى له الجماعة. ومنصور هو ابن المعتمر. وعبيدة -بفتح العين- وقد مَرَّ ذكره آنفًا. وأخرجه الطبراني (¬1) عن أبي مسلم الكشي، عن عبد الله بن رجاء عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن منصور. . . . إلى آخره. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في تفضيل الشاهد المبتدئ بالشهادة: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها، أو يخبر بشهادته قبل أن يُسأل عنها" قال مالك: الذي يخبر بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له، أو يأتي بها الإمام. فهذا رسول الله -عليه السلام- قد مدح الذي يخبر بشهادته من هي له، أو يأتي الإِمام فيشهد بها عنده، وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الآثار الأول على المعاني التي ذكرنا، ويكون هذا الأثر الآخر على تفضيل المبتدئ بالشهادة من هي له، أو المخبر بها الإِمام. ش: هذه إشارة إلى بيان حجة ظاهرة تشهد لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وهي حديث زيد بن خالد الجهني. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (10/ 165 رقم 10338).

أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني -يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمَّد، ويقال اسمه وكنيته واحد. عن عبد الله بن عمرو بن عثمان القرشي الأموي، عن أبي عمرة الأنصاري الصحابي، اختلف في اسمه، فقيل: يسير، وقيل: ثعلبة بن عمرو، ويقال: أسيد ابن مالك، قتل يوم صفين مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. . . . إلى آخره، وفي روايته: "عن ابن أبي عمرة". وأبو داود (¬2): عن أحمد بن سعيد الهمداني وابن السرح، عن ابن وهب، عن مالك. . . . إلى آخره، وفي روايته: أن عبد الرحمن بن أبي عمرة. والترمذي (¬3): عن أحمد بن الحسن، عن القعنبي، عن مالك. وعن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد نحوه، وقال: أكثر الناس يقولون: ابن أبي عمرة، واختلف على مالك فيه، فروى بعضهم عن ابن أبي عمرة، وابن أبي عمرة أصح عندنا؛ لأنه قد روي في غير حديث: مالك عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن زيد، وقد روي عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد غير هذا الحديث، وهو صحيح أيضًا. وأبو عمرة هو مولى زيد بن خالد الجهني، وله حديث الغلول. وأخرجه النسائي (¬4): عن محمَّد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن أبي القاسم، عن مالك. . . . إلى آخره، وفي روايته: عن أبي عمرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1344 رقم 1719). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 304 رقم 3596). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 544 رقم 2296). (¬4) "السنن الكبرى" (3/ 494 رقم 6029).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، ومحمد بن عبد الرحمن الجعفي، عن زيد بن الحباب، عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة بمعناه. وقال أبو عمر: اختلف رواة "الموطأ" في إسناد هذا الحديث عن مالك، وهكذا روى يحيى بن يحيى هذا الحديث عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد، وكذا رواه عن مالك ابن القاسم وأبو مصعب الزهري ومصعب الزبيري. ورواه القعنبي ومعن بن عيسى وسعيد بن عفير ويحيى بن عبد الله بن بكير كلهم عن مالك، وقالوا: عن ابن أبي عمرة. وكذلك قال ابن وهب وعبد الرزاق، إلا أنهما سمياه فقالا: عبد الرحمن بن أبي عمرة. قوله: "قال مالك: الذي يخبر بشهادته. . . ." إلى آخره. تفسير عن مالك لمعنى هذا الحديث، وفسره يحيى بن سعيد نحوه. وقال ابن وهب: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: من دعي بشهادة عنده فعليه أن يجيب إذا علم أنه ينتفع بها الذي يشهد له بها، وعليه أن يؤديها. ومن كانت عنده شهادة لا يعلم بها صاحبها فليؤدها قبل أن يُسأل عنها فإنه كان يقال: "من أفضل الشهادات شهادة لا يعلم بها صاحبها قبل أن يُسألها". وقال أبو عمر: تفسير مالك ويحيى بن سعيد لهذا الحديث أولى ما قيل فيه، فمن سمع شيئًا أو علمه جاز له أن يشهد به قبل أن يُسألها؛ لأن صاحبها لا يعلم بها، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬3)، وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 792 رقم 2364). (¬2) سورة الزخرف، آية: [86]. (¬3) سورة الطلاق، آية: [2]. (¬4) سورة المعارج، آية: [33].

وقال: الترمذي، ومعنى هذا الحديث: هو أن الرجل إذا شُهِّد على شيء لا يمتنع من شهادته، ومعنى حديث ابن مسعود وعمران بن حصين وأمثالهما أن يشهد بالزور، وقد بَيَّنَ ذلك ابن عمر في حديثه عن عمر بن الخطاب عن النبي -عليه السلام- قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ويحلف الرجل ولا يستحلف". ص: وقد فعل ذلك أصحاب رسول الله -عليه السلام- فأتوا الإمام فشهدوا ابتداءً، منهم: أبو بكرة ومن كان معه حين شهدوا على المغيرة بن شعبة فرأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنفهم عمر - رضي الله عنه - على ابتدائهم إياه بذلك، بل سمع شهاداتهم، ولو كانوا في ذلك مذمومين لَذَمَّهم وقال: من سألكم عن هذا؟ ألا قعدتم حتى تُسْألوا؟ فلما سمع منهم ولم ينكر ذلك عليهم عمر - رضي الله عنه - ولا أحد ممن كان بحضرته من أصحاب النبي -عليه السلام-؛ دل ذلك أن فرضهم كذلك، وأن من فعل ذلك ابتداءً لا عن مسألة محمود. ش: أي وقد فعل ابتداء الشهادة قبل السؤال أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فأتوا الإِمام فشهدوا عنده ابتداء من غير أن يسألوا. قوله: "منهم" أي من أصحاب رسول الله -عليه السلام- الذين فعلوا ذلك ابتداء: أبو بكرة نفيع بن الحارث الصحابي ومن كان معه، وهم: شبل بن معبد ونافع بن الحارث الثقفي أخو أبي بكرة لأمه أمهما سمية، وزياد بن أبي سفيان على ما يأتي، والباقي ظاهر. ص: فمما روي في ذلك: ما حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان وسعيد ابن أبي مريم، قالا: ثنا السري بن يحيى، قال: حدثني عبد الكريم، عن أبي عثمان النهدي قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فشهد على المغيرة بن شعبة، فتغير لون عمر، ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر، ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر - رضي الله عنه - حتى عرفنا ذلك فيه، وجاء آخر يحرك بيديه، فقال: ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح أبو عثمان صيحة يشبه بها صيحة عمر - رضي الله عنه - حتى كدت أن يغشى

عليَّ، قال: رأيت أمرًا قبيحًا، فقال عمر - رضي الله عنه -: الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بأولئك النفر فجلدوا". ش: أي فمن الذي روي في ابتداء الشهادة قبل السؤال: ما حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة المصري المعروف، بعلَّان، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، وسعيد بن أبي مريم شيخ البخاري كلاهما عن السري بن يحيى ابن إياس الشيباني البصري، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن ملّ النهدي. وهذا إسناد صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن علية، عن التيمي، عن أبي عثمان قال: "لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة؛ جاء زياد، فقال له عمر - رضي الله عنه -: رجل لن يشهد -إن شاء الله- إلا بحق، قال: رأيت انبهارًا ومجلسًا سيئًا، فقال عمر - رضي الله عنه -: هل رأيت المرود دخل المكحلة؟ قال: لا، قال: فأمر بهم فجلدوا". قوله: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. . . ." إلى آخره. فهؤلاء الأربعة هم الذين ذكرناهم وهم: أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد بن أبي سفيان. وأصل هذه القضية أن المغيرة بن شعبة كان عمر - رضي الله عنه - قد ولاه البصرة، وكان في قبالة العلية التي فيها المغيرة علية فيها هؤلاء الأربعة، فرفعت الريح الكوة عن العلية، فنظروا إلى المغيرة وهو على أم جبل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة، فكتبوا ذلك إلى عمر - رضي الله عنه - فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود، وولى البصرة أبا موسى الأشعري، فلما قدم إلى عمر شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة بالزنا، وأما زياد بن أبي سفيان فلم يفصح بشهادة الزنا، وكان عمر - رضي الله عنه - قد قال قبل ذلك: أرى رجلًا أرجو أن لا يفضح الله به رجلًا من ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 544 رقم 28822).

أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فقال زياد: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة ورأيت رجلين مرفوعتين كَأُذني حمار ونَفَسًا يعلو [واستًا ينبو عن ذكر، ولا أعرف ما وراء ذلك، فقال عمر: رأيت كالهيل] (¬1) في المكحلة؟ قال: لا. فقال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبهها. فأمر عمر [بالثلاثة الذين شهدوا بالزنا أن يُحَدُّوا] (¬2) حد القذف، فجلدوا". وحدثت هذه القضية في سنة سبع عشرة من الهجرة. قوله: "يا سلح العقاب" [السلح من] (2) سَلَح سلحًا إذا خرى مائعًا، والسُلاح بالضم النجو. قال الجوهري: [والعقاب طائر معروف؛ فشبه عمر - رضي الله عنه - زيادًا] (2) بسلح العقاب وهو نجوه المائع الذي [يذرقه؛ تحقيرًا له وتهديدًا عليه في شهادته؛ لأنه لو شهد مثل شهادة رفيقيه] (2)، لكان ترتب الرجم على المغيرة، فلما لم يفصح في شهادته استثناه عن الرجم [وجلد الثلاثة حد القذف] (2)، وفرح عمر - رضي الله عنه - عنه على ذلك وقال: الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمَّد -عليه السلام-. [ثم اعلم أن أبا بكرة نفيع] (2) بن الحارث من خيار الصحابة. وشبل بن معبد بن عبيد [بن الحارث بن عمرو بن علي بن أسلم بن أحمث بن الغوث بن أنمار البجلي] (2) الصحابي - رضي الله عنه -. وأبو عبد الله نافع بن الحارث [صحابي أيضًا، وأما زياد بن أبي سفيان، ويقال له] (2) زياد بن أبيه، وزياد بن سميّة، وهي أمه، وهو الذي [استحلقه معاوية بن أبي سفيان، وليست له صحبة ولا رواية] (2). ص: حدثنا فهد قال: ثنا ابن أبي مريم قال: أنا محمَّد بن مسلم الطائفي قال: حدثني إبراهيم بن ميسرة، عن سعيد بن المسيب قال: "شهد على المغيرة أربعة، فنكل زياد بن أبي سفيان، فجلد عمر - رضي الله عنه - الثلاثة واستتابهم، فتاب اثنان، وأبى ¬

_ (¬1) طمس بالأصل، والمثبت من "ك". (¬2) طمس بالأصل.

أبو بكرة أن يتوب، فكان يقبل شهادتهما حين تابا، وكان أبو بكرة لا تقبل شهادته لأنه أبى أن يتوب، وكان مثل النضو من العبادة". ش: إسناده صحيح. وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن قسامة بن زهير قال: "لما كان من شأن أبي بكرة والمغيرة بن شعبة الذي كان قال أبو بكرة تنح عن صلاتنا فإنا لا نصلي خلفك. قال: فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - في شأنه. قال: فكتب على المغيرة: أما بعد، فإنه قد رقى إليّ من حديثك حديثًا فإن يكن مصدوقا عليك فلأن تكون مت قبل اليوم خير لك قال: فكتب إليه وإلى الشهود أن يقبلوا إليه. فلما انتهوا إليه دعا الشهود فشهد أبو بكرة وشبل وأبو عبد الله بن نافع، فقال عمر حين شهد هؤلاء الثلاثة: أودى المغيرة أربعة. وشق على عمر شأنه جدًّا، فلما قام زياد قال: إن تشهد إن شاء الله إلا بحق ثم شهد، فقال: أما الزنا فلا أشهد به، ولكني قد رأيت أمرًا قبيحًا. قال عمر: الله أكبر، حدوهم. فجلدوهم، فلما فرغ من جَلْد أبي بكرة قام فقال: أشهد أنه زان. فذهب عمر - رضي الله عنه - يعيد عليه الحد، فقال علي - رضي الله عنه -: إن جلدته فارجم صاحبك. فتركه فلم يجلد قذف مرتين بعد". قوله: "مثل النضو" بكسر النون وسكون الضاد المعجمة البعير المهزول، والناقة نضوة وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة. واستفيد من هذا أربعة: الأول: ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. الثاني: أن حد الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 545 رقم 28824).

[الثالث: أنهم إذا] (¬1) فإن نقصوا عن الأربعة يحدُّون حد القذف. الرابع: أن الزاني إذا حُدَّ وتاب [عن ذلك تقبل توبته. الخامس: أن مبني الحدُّ على] (1) الستر، ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - كيف صعب عليه أمر المغيرة لما شهد الثلاثة المذكورون ولم يفصح الرابع وأسقط الحد وفرح على ذلك. ص: حدثثا فهدٌ قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدثني أبو الطفيل قال: "أقبل وهي معهم امرأة، حتى نزلوا فتفرقوا في حوائجهم، فتخلف رجل مع أمرأة، فرجعوا وهو بين رجليها، فشهد ثلاثة منهم أنهم رأه يهب كما يهب المرود في المكحلة وقال الرابع: أحمي سمعي وبصري، لم أره يهب فيها، رأيت سخنتيه -يعني خصيتيه- يضربان أستها ورجليها مثل أذني الحمار، وعلى مكة يومئذ نافع بن عبد الحارث الخزاعي، فكتب إلى عمر - رضي الله عنه -، فكتب إليه عمر: إن شهد الرابع مثل ما شهد الثلاثة فقدمهما فاجلدهما وإن كانا محصنين فارجمهما، وإن لم يشهد إلا بما كتبت به إليَّ فاجلد الثلاثة، وخل سبيل الرجل والمرأة، قال: فجلد الثلاثة، وخلى سبيل الرجل والمرأة. ش: إسناده صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين الملائي شيخ البخاري. والوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي، وقد ينسب إلى جده، وثقه يحيى والعجلي، وروى له مسلم ومن الأربعة غير ابن ماجه. وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي. ونافع بن عبد الحارث بن حبالة الخزاعي الصحابي، كان من فضلاء الصحابة وكبارهم، قيل: أسلم يوم الفتح، وأنكر الواقدي أن تكون له صحبة. قوله: "رأوه يَهِبُّ" بالتشديد من الهِبَّة -بكسر الهاء- وهو هياج الفحل تقول: هب التيس يَهِبُّ -بالكسر- هبيبًا وهبابًا إذا هَبَّ للسفاد، أي صاح. ¬

_ (¬1) طمس بالأصل.

قوله: "رأيت سُخْنتيه" تثنية سخنة -بضم السين المهملة وسكون الخاء المعجمة بعدها نون- وهي الخصية. ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شهد بعضهم ابتداءً وقبلها بعضهم، وحضر ذلك أكثرهم فلم ينكره. فدل ذلك على اتفاقهم جميعًا على هذا المعنى، وثبت أن معاني الآثار الأُوَل على ما ذكرنا من معانيها التي وصفناها في مواضعها. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: قد مَرَّ أن من جملة من شهد من الصحابة ابتداء قبل السؤال: أبو بكرة، وشبل بن معبد، وأبو عبد الله نافع بن الحارث. ومن جملة من قَبِلَ هذه الشهادة: عمر بن الخطاب، ونافع بن عبد الحارث الخزاعي. قوله: "وحضر ذلك أكثرهم" أي حضر على ما ذكر من الشهادة ابتداء والعمل بها أكثر الصحابة - رضي الله عنهم -. قوله: "على هذا المعنى" أراد به المعنى الذي ذكره من الشهادة ابتداء، والعمل به، وقبول الصحابة ذلك. وأراد بـ "الآثار الأول" الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه.

ص: باب: الحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر

ص: باب: الحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر ش: أي هذا باب في بيان حكم القاضي بشيء وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، هل ينفذ ذلك ظاهرًا وباطنًا، أم ينفذ ظاهرًا دون باطن؟. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة أخبرته، أن أمها أم سلمة قالت: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جلبة خصام عند بابه، فخرج إليهم فقال: إنما أن بشر مثلكم، وإنه يأتيني الخصم، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأقضي له بذلك وأحسب أنه صادق، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أنَّ مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذه". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، سمعه من عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: "جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى النبي -عليه السلام- في مواريث بينهما قد درست وليست بينهما بينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنا بشر، فإنه يأتيني الخصم، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض؛ فأقضي له بذلك وأحسب أنه صادق، فمن قضيت له بحق

مسلم فإنما هي قطعة من النار؛ فليأخذها أو ليدعها، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي الآخر، فقال رسول الله -عليه السلام-: أما إذا فعلتما هذا فاذهبا فاقتسما وتوخيا الحق. ثم اسْتَهِمَا ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا أسامة بن زيد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع الصائغ، قال حدثني أسامة، فذكر بإسناده مثله. ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان بن الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن زينب بنت أبي سلمة المخزومية الصحابية ربيبة النبي -عليه السلام-. واسم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي -عليه السلام-، واسمها هند بنت أبي أمية. وأخرجه البخاري (¬1): عن أبي اليمان إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي شيخ البخاري، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن صالح بن كيسان المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن زينب، عن أم سلمة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2627 رقم 6762). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 867 رقم 2326).

وأخرجه البخاري (¬1): عن القعنبي، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن محمَّد بن عمرو بن يونس، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن هشام بن عروة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام. . . . إلى آخره نحوه. وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع، وعن كريب عن عبد الله بن نمير، كلاهما عن هشام بن عروة. وعن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. وعن عمرو الناقد، عن يعقوب، عن أبيه، عن صالح. وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، كلاهما عن عروة. الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع أبي رافع المدني المخزومي مولى أم سلمة روى له الجماعة، عن أم سلمة - رضي الله عنها -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة. . . . إلى آخره نحوه. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة. وأخرجه أبو داود (¬4): عن الربيع بن نافع، عن ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 867 رقم 2326). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1337 رقم 1713). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 320 رقم 26760). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 310 رقم 3584).

السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة. وأخرجه الطبراني (¬1): عن أبي يحيى الرازي، عن سهل بن عثمان، عن وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "جلبة خصام": الجلبة الصوت واللغط، والخصام: جمع خَصِيم كالكرام جمع كريم، قال الجوهري: الخصم: معروف يستوي فيه الجمع والمذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل المصدر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول: خصمان وخصوم، والخصيم أيضًا الخصم، والجمع: الخصماء، وخاصمته مخاصمة وخصامًا، والاسم الخصومة. قوله: "ألحن بحجته" أي أفطن لها وأجدل بها، قال أبو عبيد: اللحن -بفتح الحاء- الفطنة، واللحن -بجزم الحاء- الخطأ من القول. قوله: "في مواريث" جمع ميراث. قوله: "درست" أي عفيت ومضى عليها زمان. قوله: "أو ليدعها" أي أو ليتركها. قوله: "وتوخيا الحق" أي تحرياه واقصداه. قوله: "ثم استهما" أي اقترعا. ويستنبط منه أحكام: الأول: أن البشر لا يعلمون ما غيب عنهم وستر في الضمائر وغيرها، لأنه قال -عليه السلام-: "إنما أنا بشر" أي من البشر ولا أدري باطن ما تتحاكمون فيه عندي وتختصمون فيه إليَّ وإنما أقضي بينكم على ظاهر ما تقولون، فإذا كان الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون ذلك فغير جائز أن تصح دعوى غيرهم من كاهن أو منجم، وإنما يعلم الأنبياء -عليهم السلام- من الغيب ما أعلموا به بوجه من وجوه الوحي. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (23/ 298 رقم 663).

الثاني: فيه أن بعض الناس أدرى بمواضع الحجة وتصرف القول من بعض. الثالث: فيه أن القاضي إنما يقضي على الخصم بما يسمع منه من إقرار وإنكار أو بِبَيِّنَات على حسب ما أحكمته السنة في ذلك. وفيه: إبطالٌ ورَدٌّ للحكم بالهوى. قال أبو عمر: قد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في ردِّ حكم القاضي بعلمه. قلت: إلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وهو قول شريح والشعبي: أن القاضي لا يقضي بعلمه في شيء من حقوق الناس ولا غيرها من حقوق الله إلا بالْبَيِّنَات أو الإقرار. وقال ابن حزم (¬1): فرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعدها، وروي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: "لا يحكم الحاكم بعلمه في الزنا" وصح عن الشعبي: "لا يكون شاهدًا وقاضيًا". وقال مالك وابن أبي ليلى -في أحد قوليه- وأحمد وأبو عبيد ومحمد بن الحسن في أحد قوليه: لا يحكم الحاكم بعلمه في شيء أصلًا، وقال حماد بن أبي سليمان: يحكم الحاكم بعلمه بالاعتراف في كل شيء إلا في الحدود خاصة، وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن في أحد قوليه: يحكم بعلمه في كل شيء من قصاص وغيره إلا في الحدود، وسواء علمه قبل القضاء أو بعده، وقال أبو حنيفة: لا يحكم بما علمه قبل ولايته أصلًا، فأما ما علمه بعدها فإنه يحكم به في كل شيء إلا في الحدود خاصة. وقال: الليث لا يحكم بعلمه إلا أن يقيم الطالب شاهدًا واحدًا في حقوق الناس خاصة، فيحكم القاضي حينئذ بعلمه مع ذلك الشاهد. ¬

_ (¬1) "المحلي" (9/ 426) بتصرف واختصار.

وقال الحسن بن حي: كل ما علم قبل ولايته لا يحكم فيه بعلمه، وما علم بعد ولايته حكم فيه بعلمه بعد أن يستحلفه وذلك في حقوق الناس، وأما الزنا فإن شهد به ثلاثة والقاضي يعرف صحة ذلك حكم فيه بتلك الشهادة مع علمه. وقال الأوزاعي: إن أقام المقذوف شاهدًا واحدًا وعلم القاضي بذلك حَدَّ القاذف. وقال الشافعي وأبو سليمان وأبو ثور وأصحابهم كما قلنا. الرابع: فيه جواز الاجتهاد للحاكم فيما لم يكن فيه نص. الخامس: فيه جواز التحري في أداء المظالم. السادس: قال أبو عمر: فيه جواز الصلح على الإنكار خلافًا للشافعي. السابع: فيه أن قضاء القاضي بالظاهر الذي يعتد به هل يحل في الباطن حرامًا؟ فيه الخلاف الذي عقد له الباب، وسيجيء مفصلًا مستقصى. الثامن: جواز الاقتراع والاستهمام. التاسع: فيه استحباب توخي الحق وتحريه بعد العلم به. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، روي له الجماعة؛ البخاري مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات. وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. والحديث أخرجه أحمد (¬1) نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 332 رقم 8375).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن كل قضاء قضى به الحاكم من تمليك مال، أو إزالة ملك، أو إثبات نكاح أو من حله بطلاق أو بما أشبه ذلك؛ أن ذلك كله على حكم الباطن فإن كان ذلك في الباطن كهو في الظاهر وجب ذلك على ما حكم به، وإن كان ذلك في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان وعلى خلاف ما حكم به فشهادتهما على الحكم الظاهر لم يكن قضاء القاضي موجبًا فيه من تمليك ولا تحريم ولا تحليل، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وممن قال ذلك: أبو يوسف -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود وسائر الظاهرية؛ فإنهم جعلوا الحديث المذكور أصلًا في هذا الباب. وقال ابن حزم: لا يحل ما كان حرامًا قبل قضائه، ولا يحرم ما كان حلالًا قبل قضائه، إنما القاضي منفذ على الممتنع فقط، لا مزية له سوى هذا. قوله: "وممن قال ذلك" أي القول الذي ذهب إليه هؤلاء القوم: أبو يوسف يعقوب القاضي -رحمه الله-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما كان من ذلك من تمليك مال فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذها، فإنما اقطع له قطعة من النار" وما كان من ذلك من قضاء بطلاق أو نكاح بشهود ظاهرهم العدالة وباطنهم، فحكم الحاكم بشهادتهم على ظاهرهم الذي تعبد الله أن يحكم بشهادة مثلهم معه، فذلك تحريم في الباطن كحرمته في الظاهر. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم عامرًا الشعبي وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-، فإنهم قالوا: ما كان من ذلك. . . . إلى آخره. وقال ابن حزم: [قال أبو حنيفة] (¬1) لو أن رجلًا رشى شاهدين فشهدا له بزور أن فلانًا طلق امرأته فلانة أو أعتق أمته فلانة وهما كاذبان متعمدان، وأن المرأتين ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلي" (9/ 422).

بعد العدة رضيتا بفلان زوجًا فقضى القاضي بهذه الشهادة، فإن وطء تينك المرأتين حلال للفاسق الذي شهدا له بالزور، حرام على المشهود عليه بالباطل، وكذلك من أقام شاهدي زور على فلان أنه أنكحه ابنته برضاها وهي في الحقيقة لم ترضه قط ولا زوجها إياه أبوها فقضى القاضي بذلك، فوطئه إياها حلال. ثم قال ابن حزم: ما نعلم أحدًا قبله قال بهذه الطامة. قلت: جهله بذلك لا يرد علم غيره به، وقد قال أبو عمر بن عبد البر: وجاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وروي ذلك عن الشعبي قبلهما في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته، فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب في ذلك أو غلطا، ففرق القاضي بين الرجل وامرأته بشهادتهما، ثم اعتدت المرأة جاز لأحدهما أن يتزوجها وهو عالم أنه كاذب في شهادته، وعالم بأن زوجها لم يطلقها؛ لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج فإن الشهود وغيرهم في ذلك سواء. ص: والدليل على ذلك ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في المتلاعنين: حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان وقال لهما: حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله، صداقي الذي أصدقتها، قال: لا مال لك؛ إن كنت صدقت عليها فهو بها استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منه". ش: أي الدليل على ما ذهب إليه الآخرون: حديث المتلاعنين. أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره.

وأخرجه البخاري (¬1): عن علي بن عبد الله، نا سفيان، قال عمرو: سمعت سعيد بن جبير قال: "سألت ابن عمر عن حديث المتلاعنين، فقال: قال النبي -عليه السلام- للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك"، قال سفيان: حفظته من عمرو. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن سعيد بن جبير .. إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬3): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير. . . . إلى آخره نحوه. والنسائي (¬4): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "بين أخوي بني العجلان" وهما عويمر بن أبيض العجلاني وزوجته، ووقع في رواية "الموطأ" (¬5) وأبي داود: عويمر بن أشقر، وكان الذي رمى به زوجته شريك بن سحماء، وكان ذلك في شعبان سنة تسع من الهجرة. قوله: "إن أحدكما كاذب" ظاهره أنه بعد الملاعنة، وحينئذ تحقق الكذب عليهما جميعًا ووجبت التوبة، وذهب الداودي أنه إنما قاله النبي -عليه السلام- قبل اللعان لا بعده تحذيرًا لهما ووعظًا. قال عياض: والأول أظهر وأولى بمساق الكلام. قلت: الصواب مع الداودي؛ لأن بعد الملاعنة يتحقق الكذب عليهما فلا يصدق أن يقال: "إن أحدكما كاذب" فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2035 رقم 5006). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1131 رقم 1493). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 278 رقم 2257). (¬4) "المجتبى" (6/ 177 رقم 3476). (¬5) "الموطأ" (2/ 566 رقم 1177).

وقوله: "إن أحدكما"، فيه رد على من ذهب من النحاة أن أحدًا لا تستعمل إلا في النفي، وقول بعضهم: لا يستعمل إلا في الوصف وأنه لا يوضع موضع واجب ولا يوقع موقع واحد، وقد أجار هذا المبرد، وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أحَدِهِم} (¬1) قال الخطابي: فيه أن البَيِّنتيْن إذا تعارضتا تهاترتا وسقطتا. قوله: "لا سبيل لك عليها" حمله جمهور العلماء على العموم، فلا تحل له أبدًا، واختلفوا إذا أكذبَ نفسه: هل تحل له أم لا؟ فعند أبي حنيفة: إذا أكذب نفسه حلت له، لارتفاع المعنى المانع لإكذاب نفسه، وبه قال محمَّد بن الحسن، وهو قول حماد بن أبي سليمان وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن البصري والزهري. وقال الأوزاعي والثوري والحسن بن حي والليث بن سعد والشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف وزفر وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد: لا يجتمعان أبدًا سواء أكذب نفسه أو لا، ولكنه إن أكذب نفسه جُلِدَ الحدّ ولحق به الوالد، ولا يجتمعان أبدًا. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. وقال الشعبي والضحاك: إذا كذب نفسه جُلد الحدّ وَرُدَّت إليه امرأته. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، سمع سهل بن سعد الساعدي يقول: "شهدت النبي -عليه السلام- فرق بين المتلاعنين، فقال: يا رسول الله كذبت عليها إن أمسكتها". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره: "أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: أرأيت يا عاصم لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [6].

فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله -عليه السلام-، فقال عاصم لعويمر: لم تأت بخير؛ قد كره رسول الله -عليه السلام- المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله -عليه السلام- وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: فقد أُنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها، قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله -عليه السلام-، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام- بطلاقها. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا الماجشون، عن الزهري، عن سهل بن سعد، عن عاصم بن عدي قال: "جاءني عويمر. . . ." ثم ذكر مثله. ش: هذه ثلاث طرق أخرى صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (¬1): عن سفيان، عن الزهري، عن سهل نحوه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سهل. وأخرجه البخاري (¬2): عن إسماعيل، عن مالك، عن الزهري، عن سهل بن سعد. . . . إلى آخره نحوه. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 19 رقم 17367). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2033 رقم 5002). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1129 رقم 1492).

وأبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك. والنسائي (¬2): عن محمَّد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. وابن ماجه (¬3): عن محمَّد بن عثمان، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬4): نا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، نا علي بن الجعد، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد قال: "جاء رجل من بني العجلان إلى عاصم بن عدي، فقال: يا عاصم، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي رسول الله -عليه السلام-، فكره رسول الله -عليه السلام- المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله -عليه السلام-، فلما جاء عاصم إلى أهله، جاء عويمر فقال: ماذا قال لك رسول الله -عليه السلام-؟ فقال: قد كره رسول الله -عليه السلام- المسألة التي سألت عنها، فأقبل عويمر حتى سأل رسول الله -عليه السلام- في وسط الناس فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال: قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها. قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله -عليه السلام-، فلما فرغا من تلاعنهما قال: يا رسول الله، كذبت عليها إن أمسكتها، قال: فطلقها قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام- بطلاقها، فكان فراقه إياها سنة بين المتلاعنين". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 273 رقم 2245). (¬2) "المجتبى" (6/ 143 رقم 3402). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 677 رقم 2066). (¬4) "المعجم الكبير" (6/ 119 رقم 5692).

قوله: "أرأيت" أي أخبرني. قوله: "أيقتله" الهمزة فيه للاستفهام. وفيه: تحرز في السؤال لئلا يصرح بالقذف؛ فيجب عليه الحد في الرجل، ولا يخلصه منه لزوجته إلا لعانه؛ خلافًا للشافعي في إسقاطه عنه الحد في الرجل بلعان زوجته؛ لأنه عنده كحكم التبع، ولأنه في ترك تسميته لا حد عليه حتى يصرح باسمه خلافًا للشافعي في حده وإن لم يسمه إن لم يلتعن، أو لعله كان يعتقد أن ذلك كان يجب عليه في زوجته فلذلك لم يصرح، أو أبهم الأمر حتى يرى كيف يكون الحكم فيه فيعمل بحسب ذلك من كتمه أو إبدائه. وقال عياض: وقوله: "أيقتله فيقتلونه؟ " يحتمل أن يكون سؤالًا عن الحكم إذا فعله، ويحتمل أنه علم الحكم ولكنه قال على سبيل التوصل إلى وجه آخر غيره يصل به إلى شفاء غيظه وإزالة عثرته. قال الإِمام: وجعل بعض الناس حجة على الزوج إذا قتل رجلًا وزعم أنه وجده مع امرأته أنه يقتل به ولا يصدق إلا ببينة؛ لأنه -عليه السلام- لم ينكر عليه ما قال. قال القاضي: قد يكون سكوته -عليه السلام- لئلا يتسبب بذلك أهل الأذى والشر إلى القتل وَيَدَّعون هذا السبب لكل من قتلوه. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فجمهور العلماء على أنه يقتل به إن لم يأت بأربعة شهداء، وهو قول الشافعي وأبي ثور، قالا: ويسعه قتله فيما بينه وبين الله تعالى. وقال أحمد وإسحاق: يهدر دمه إذا جاء بشاهدين. قال عياض: اختلف أصحابنا هل يهدر دمه إذا قامت البينة إذا لم يكن المقتول محصنًا؟ فعند ابن القاسم: هما سواء ويهدر دمه واستحق الدية في غير المحصن، وقال ابن حبيب: إن كان المقتول محصنا فهذا الذي ينجي قاتله البينة من القتل، وقد اختلف عن عمر - رضي الله عنه - في هدر دم قتل هذا، وروي عن علي - رضي الله عنه -: يقاد منه.

وقال أبو عمر: لا خلاف علمته بين العلماء فيمن قتل رجلًا ثم ادعى إنه إنما قتله لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها أو نحو ذلك من وجوه زناه بها، ولم يعلم ما ذكر عنه إلا بدعواه أنه لا يقبل منه ما ادعاه، وأنه يقتل به إلا أن يأتى بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطأه لها وإيلاجه فيها، ويكون مع ذلك محصنا مسلمًا بالغًا. قوله: "قد كَرِهَ رسول الله -عليه السلام-" قيل: يحتمل أنه كره قذف الرجل امرأته ورميها في غير بَيِّنَة لاعتقاده أن الحد يجب عليه، وذلك قبل نزول حكم اللعان، بدليل قوله في الحديث الآخر لهلال بن أمية: "البينة وإلا حد في ظهرك. . . ." الحديث. وفيه نزل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬1) الآية، ويحتمل أنه كره السؤال لما فيه من قبح النازلة والفاحشة وهتك ستر المسلم، أو لما كان فيه من نهيه عن كثرة السؤال إما سدًّا لباب سؤال أهل الشغب من الجهلة والمنافقين وأهل الكتاب، أو لما يخشى من كثرة السؤال من التضييق عليهم في الأحكام التي لو سكتوا عنها لم يُلْزَموها وتُرِكُوا إلى اجتهادهم كما قال: "اتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبيائهم". قلت: المسائل إذا كانت فيما يضطر إليها السائل فلا بأس بها، وقد كان -عليه السلام- يُسأل عن الأحكام فلا يكره ذلك، وإن كان على جهة التعنيت فهو منهي عنه. وعاصم بن عدي هذا إنما سأل لغيره، ولعله لم يكن به ضرورة إلى ذلك. قوله: "وَسْط النَّاس" بسكون السين؛ لأن الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل، كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، وقيل: كل ما يصلح فيه "بين" فهو بالسكون، وما لا يصلح فيه "بين" فهو بالفتح، وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر وكأنه الأشبه. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [6].

قوله: "فقد أُنزل فيك وفي صاحبتك" يحتمل أنه -عليه السلام- عرف أن عويمر صاحب المسألة حين كرر السؤال له عليها؛ إما بما دل عليه من قوله أو حاله مما لم يذكر في الحديث، أو بوحي أوحى إليه عند نزول آية اللعان، وفيه أن القرآن لم ينزل جملة واحدة إلى الأرض وإنما نزل بحسب الوقائع والحوادث، آية فآية، سورة فسورة. قوله: "فتلاعنا" أجمع المسلمون على صحة حكم اللعان بين الزوجين بهذا الحديث إذا أدعى رؤية، وكذلك قال الجمهور إذا نفى ولدًا، واختلفوا فيما بعد ذلك، فقالت فرقة: لا لعان في القذف المجرد وهو أحد قولي مالك وقول الليث وأبي الزناد والبتي ويحيى بن سعيد، وأن في هذا الحدّ بكل حال. وقال الكوفيون والشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث باللعان في القذف المجرد، وروي عن مالك أيضًا. واختلفوا إذا أقام الزوج البينة على زناها: فعند مالك والشافعي: يلاعن؛ إذْ لا عمل للشهود في نفي الولد. وقال أبو حنيفة وداود: إنما اللعان لمن لم يأت بأربعة شهداء، فمن أتى بهم فلا لعان. واختلفوا في اللعان ينفي الحمل وفي وقته، فذهب الكوفيون إلى أنه لا لعان به إلا أنه ينفيه ثانية بعد الولادة. وهو قول عبد الملك بن ماجشون. كذا حكاه ابن عبد البر. وذهب الشافعي إلى أن كل من نفي الحمل يلاعن، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وحكي عنه أنه لا يلاعن حتى تلد، وهو المعروف عن عبد الملك. وروي عن مالك وعبد العزيز وأشهب. وعن مالك وأصحابه في ذلك ثلاثة أقوال أيضًا: يلاعن إذا ادعى رؤية واستبراء معًا، ويلاعن بالجملة دون استشهاد، ويلاعن بدعوى الاستبراء، ولا يلاعن إن لم يدعه إلا أن تلد لأقل من ستة أشهر من يوم الرؤية.

ونحوه عن أبي يوسف ومحمد، بن الحسن إلا أن يكون مقرونًا بحمل، أو رآه فلم ينكره. قوله: "وأنا مع النَّاس" فيه أن سنة التلاعن أن لا يكون مكتومًا ويكون مشهودًا بحضرة الناس، وأن سنته أن يكون بحضرة الإِمام أو من يستنيبه الإِمام لذلك من الحكام، وهذا إجماع أن لا يكون إلا بالسلطان. قوله: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله -عليه السلام-" قال الخطابي: يشبه أن يكون إنما دعي به -أي إلى هذا القول- لأنه لما قيل له: لا سبيل لك عليها، وجد من ذلك في نفسه شيئًا، فقال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثًا يريد بذلك تحقيق ما مضى وتوكيده. وقال عياض: احتج بهذا الشافعي على جواز الطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة. وانفصل أصحابنا عن هذا بأنها قد بانت منه باللعان، فوقعت الثلاث على غير زوجة فلم يكن لها تأثير، وقال الخطابي: وقد يحتج بذلك من يرى أن الفرقة لا تقع بنفس اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وذلك أن الفرقة لو كانت واقعة بينهما لم يكن للتطليقات الثلاث معنى. قيل: يندفع هذا بما ذكرناه عن عياض آنفًا، وأيضًا فإن الفرقة لو لم تكن بنفس اللعان لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثًا، وقد أجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثًا فدل أن الفرقة واقعة قبل. قلت: قال الحنفية: لا تقع الفرقة بينهما بنفس اللعان حتى يحكم القاضي بينهما بالفراق، لقوله: "ففرق بينهما" وهذه إشارة للحكم، وأيضًا فإن هذا من الفسوخ التي يحتاج فيها إلى حضرة الحاكم فإنها لا تقع إلا بهم. قوله: "فكانت سنة المتلاعنين" أي الفرقة بينهما. ص: فقد علمنا أن النبي -عليه السلام- لو علم الكاذب منهما بعينه لم يفرق بينهما ولم يلاعن، ولو علم أن المرأة صادقة لحدَّ الزوج لها بقذفه إياها، ولو علم أن الزوج

صادق لحد المرأة للزنا الذي كان منها، فلما خفي الصادق منهما على الحكم وجب حكم آخر، فحرم الفرج على الزوج في الباطن والظاهر ولم يردّ ذلك إلى حكم الباطن، فلما ثبت هذا في المتلاعنين ثبت أن كذلك الفروق كلها والقضاء بما ليس فيه تمليك أموال أنه على حكم الظاهر لا على حكم الباطن، وأن حكم القاضي يُحدث في ذلك التحريم والتحليل في الظاهر والباطن جميعًا، وأنه خلاف الأموال التي يقضى بها على حكم الظاهر وهي في الباطن على خلاف ذلك؛ فتكون الآثار الأول هي على القضاء بالأموال، والآثار الأُخر هي على القضاء بغير الأموال في إثبات العقود وحلها؛ حتى تتفق معاني وجوه الآثار والأحكام ولا تتضاد. وقد حكم رسول الله -عليه السلام- في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة أنهما يتحالفان ويترادان، فتعود الجارية إلى البائع ويحل له فرجها ويحرم على المشترى، ولو علم الكاذب منهما بعينه إذًا لقضى بما يقول الصادق، ولم يقض بفسخ بيع ولا بوجوب حرمة فرج الجارية المبيعة على المشتري، فلما كان ذلك على ما وصفنا؛ كان كذلك كل قضاء بتحريم أو تحليل أو عقد نكاح على ما حكم القاضي فيه في الظاهر، لا على حكمه في الباطن، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-. ش: هذا كله ظاهر. قوله: "منهما" أي من المتلاعنين، وهما الزوجان. قوله: "فتكون الآثار الأُول": وهي الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى. قوله: "وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . ." إلى آخره، ذكره شاهدًا لما قبله. قوله: "أنهما يتحالفان" مفعول لقوله: "حكم" أي أن المتبايعين. قوله: "إذًا" أي حينئذ.

ص: باب: الحر يجب عليه دين ولا يكون له مال، كيف حكمه؟

ص: باب: الحر يجب عليه دين ولا يكون له مال، كيف حكمه؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الحر الذي ركبت عليه ديون وليس له مال يوفى به ديونه، كيف يكون حكمه؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي، قال: ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: "كنت بمصر فقال لي رجل: ألا أدلك على رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام-؟ فقلت: بلى، فأشار إلى رجل فجئته فقلت: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا سرق، فقلت: سبحان الله ما ينبغي لك أن تسمى بهذا الاسم فأنت رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- سماني بسرق فلن أدع ذلك أبدًا. قلت: ولم سماك سرق؟ قال: لقيت رجلًا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما، فابتعتهما منه، فقلت له: انطلق معي حتى أعطيك، فدخلت بيتى ثم خرجت من خلف لي وقضيت بثمن البعيرين حاجتي وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج، فخرجت والأعرابي مقيم، فأخذني وقدمني إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبرته الخبر، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله قال: فاقضه، قال: قلت: ليس عندي، قال: أنت سرق اذهب به يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك، قال: فجعل الناس يسومونه بي، ويلتفت إليهم فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نبتاعه منك، قال: فوالله إن منكم أحد أحوج إليه مني، اذهب فقد أعتقتك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار، قال: حدثني زيد بن أسلم، قال: "لقيت رجلًا بالأسكندرية يقال له سرَّق، فقلت له: ما هذا الاسم؟ قال: سمانيه رسول الله -عليه السلام-، قدمت المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال فبايعوني فاستهلكت أموالهم، فأتوا النبي -عليه السلام-: فقال أنت سرق، فباعني بأربعة أبعرة، فقال له غرماؤه: ما تصنع به؟ قال: أعتْقِه، قالوا: ما نحن بأزهد في الأجر منك، فأعتقوني".

ش: هذان طريقان: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي أبي زكرياء الدمشقي -ويقال: الحمصي- أحد الأئمة الحنفية وشيخ البخاري، ونسبته إلى وُحَاظة -بضم الواو، وبالحاء المهملة وبعد الألف ظاء معجمة- وهو وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي، يروي عن مسلم بن خالد الزنجي الملكي -شيخ الشافعي، ضعفه يحيى وأبو داود، وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. روي له أبو داود وابن ماجه، عن زيد بن أسلم القرشي المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - روى له الجماعة، عن عبد الرحمن ابن البيلماني، قال أبو حاتم: لين. روي له الأربعة وعن سُرَّق -بضم السين المهملة وفتح الراء المشددة وفي آخره قاف- وقال ابن الأثير: سرق محفف بوزن غدر ونسق، وأصحاب الحديث يشددون الراء والصواب تخفيفها، وهو سرق بن أسد الجهني. ويقال: الديلمي، ويقال: الأنصارى، سكن مصر، قيل: كان اسمه الحباب فسماه رسول الله -عليه السلام- سُرَّق لما ذكره في الحديث المذكور. وأخرجه الطبراني (¬1): حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا معلي بن مهدي الموصلي (ح). وحدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني العباس بن [عبد] (¬2) الواحد القرشي، قالا: ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني. . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي العنبري البصري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار العدوي المدني، عن زيد بن أسلم. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 165 رقم 1716). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير".

وأخرجه ابن يونس (¬1) في ترجمة سرق فقال: سُرَّق رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-، روى عنه زيد بن أسلم، كان بالإسكندرية وهو معروف من أهل مصر وقد روى، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس، ثنا محمَّد بن المثنى، نا عبد الصمد بن عبد الوارث، نا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، ثنا زيد بن أسلم قال: "رأيت شيخًا بالإسكندرية يقال له: سرق، فقلت: ما هذا الاسم؟! فقال: سمانيه رسول الله -عليه السلام- فلن أدعه، قال: قلت: ولم سماك؟ قال: قدمت المدينة فأخبرتهم أن مالي يقدم، فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا النبي -عليه السلام- فذكروا ذلك له، فقال: أنت سرق، فباعني -قال: بأربعة أبعرة- فقال الغرماء للذي اشتراني: فما تصنع به؟ قال: أعتقه، قالوا فلسنا بأزهد في الأجر منك، قال: فأعتقوه، قال: وبقي اسمي هذا فلن أدعه". قوله: "ثم خرجت من خلف لي" أراد به [ظهر بيته، يعني كان لبيته بابان، دخل من أحدهما فخلى الأعرابي عليها، وخرج من الآخر فقضى حاجته ثم عاد، وظن أن الأعرابي قد ذهب، فلا خرج مسكه وذهب به إلى النبي -عليه السلام-؛ ومن هذا القبيل ما جاء في حديث عائشة وبناء الكعبة، قال: "لولا حدثان قومك بالكفر؛ بنيتها على أساس إبراهيم، وجعلت لها خلفين. . . ." الحديث. كأنه أراد أن يجعل لها بابين، والجهة التي تقابل الباب من البيت ظهره؛ فإذا كان لها بابان فقد صار لها ظهران، والخلف: الظهر فافهم، ويقال للمربد أيضًا خلف. قال الجوهري: يقال: وراء بيتك خلف حيد وهو المربد. ويمكن أن يكون راء بيت مربد فخرج منه وغيبه. ص: وقال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث بيع الحر في الدين، وقد كان ذلك في أول الإسلام يباع من عليه دين فيما عليه من الدين إذا لم يكن له مال يقضيه عن ئفسه، حتى نسخ الله -عز وجل- من الدين؛ فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬2) وقضى رسول الله -عليه السلام- بذلك في الذي ابتاع الثمار فأصيب فيها، فكثر ¬

_ (¬1) "المستدرك" (2/ 62 رقم 233)، "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 50 رقم 11056)، "سنن الدارقطني" (3/ 62 رقم 236). (¬2) سورة البقرة، آية: [280].

دينه، فقال رسول الله -عليه السلام-: "تصدقوا عليه، فتصدق عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله -عليه السلام-: خذوا ما وجد نفر، وليس لكم إلا ذلك". وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا. ففي قول رسول الله -عليه السلام- لغرمائه: "ليس لكم إلا ذلك" دليل على أن لا حق لهم في بيعه، ولولا ذلك لباعه كما باع سرق في دينه لغرمائه، وهذا قول أهل العلم جميعًا. ش: كان بيع الحر بالدين جائزًا في صدر الإِسلام إذا لم يكن له مال يُوفي ما عليه؛ فلذلك باع -عليه السلام- سرق لما استهلك أموال الناس وركبت عليه ديون، ثم نسخ الله ذلك بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) وعليه وقع الإجماع، إلا ما روي عن الليث بن سعد أنه قال: يُؤاجر الحر المعسر فيقضي دينه من أجرته. وقال الجصاص: ولا نعلم أحدًا قال بمثل هذا القول إلا الزهري؛ فإن الليث بن سعد روى عن الزهري قال: يُؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضي عنه. وقال ابن حزم في "المحلى" (1): وفي هذا خلاف قديم وحديث نورد -إن شاء الله- منه ما تيسر لإيراده؛ ليعلم مدعي الإجماع فيما هو أخفى من هذا أنه كاذب. روينا من طريق محمَّد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن هشام الدستوائي -قال عبد الرحمن: ثنا همام بن يحيى، وقال معاذ: ثنا أبي، ثم اتفق هشام وهمام- كلاهما عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة: "أن رجلًا باع نفسه فقضى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأنه عبد كما أقر على نفسه، وجعل ثمنه في سبيل الله -عز وجل-" هذا لفظ همام. وأما لفظ هشام: "فإنه أقر لرجل حتى باعه" واتفقا فيما عدا ذلك، والمعنى واحد في كلا اللفظين. ومن طريق ابن أبي شيبة، ثنا شريك، عن جابر، عن عامر الشعبي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "إذا أقر على نفسه بالعبودية فهو عبد". ومن طريق سعيد بن منصور، ثنا هشيم، أنا المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 17).

النخعي -فيمن ساق إلى امرأته رجلًا حرًّا- فقال إبراهيم: "هو رهن بما جعل فيه حتى يَفْتَكّ نفسه". وعن زرارة بن أوفى قاضي البصرة من التابعين أنه باع حرًّا في دين، وقد روينا هذا القول عن الشافعي وهي قول غريبة لا يعرفها من أصحابه إلا من تبحر في الحديث والآثار؟. انتهى. ثم الكلام في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} (¬1) فنقول: فيه تأويلان: أحدهما: أن تكون "كان" من النواقص ويكون الخبر محذوفًا تقديره: وإن كان ذو عسرة غريمًا لكم، فنظرة أي فعليكم انتظاره إلى ميسرته. والثاني: أن تكون "كان" تامة بمعنى وُجِدَ ووقع، أي: وإن وُجِدَ ذو عسرة فنظرة. وقد اختلف في حكم هذه الآية: فروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم أنه في الربا خاصة. وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون. وروي عن إبراهيم والحسن والربيع بن خثيم والضحاك أنه في سائر الديون. وروي عن ابن عباس رواية أخرى مثل ذلك. وقال آخرون: إن الذي في الآية إنظار المعسر في الربا، وسائر الديون في حكمه قياسًا عليه. قلت: اللفظ عام يجب حمله على العموم ولا يُقتصر به على الربا إلا بدلالة؛ لما فيه من تخصيص لفظ العموم من غير دلالة. قوله: "وقضى رسول الله -عليه السلام-" ذكره شاهدًا لصحة ما ذكره فيما قبله، وقد تقدم ذكر هذا في باب (¬2). قوله: "وهذا قول أهل العلم جميعًا" أي نسخ بيع الحر في الدين، وإنظار المعسر إلى وقت الميسرة هو قول [أهل] (¬3) العلم جميعًا، ولا خلاف فيه اليوم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [280]. (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-. (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ص: باب: الوالد هل يملك مال ولده

ص: باب: الوالد هل يملك مال ولده ش: أي هذا باب في بيان حكم الوالد في مال ولده، هل يملك ماله كما يملك مال نفسه أم لا؟ ص: حدثنا ربيع الجيزي وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا عيسى بن يونس، قال: ثنا يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، وانه أراد أن يأخذ مالي إلى ماله، فقال رسول الله -عليه السلام-: أنت ومالك لأبيك". ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي، وابن المنكدر هو محمَّد بن المنكدر. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس، عن يوسف ابن إسحاق، عن محمَّد بن المنكدر به. وأخرجه البزار أيضًا: نا محمَّد بن يحيى وعبد الكريم، ثنا عبد الله بن داود -هو الخُرَيْبي- عن هشام بن عروة، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "أنت ومالك لأبيك". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رجل: "يا رسول الله إن لي مالًا، ولي والد يريد أن يجتاح مالي، فقال رسول الله -عليه السلام-: أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم. ش: رجاله ثقات. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 769 رقم 2291).

وأبو عمر اسمه حفص بن عمر شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض داود محلة ببغداد. وأخرجه أبو داود (¬1): عن حميد بن مسعدة، عن خالد بن الحارث. عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن والدي يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". وأخرجه النسائي (¬2): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن حسين. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أحمد بن الأزهر، عن روح بن عبادة، عن حسين المعلم به نحوه. قوله: "يريد أن يجتاح" بالجيم وفي آخره حاء مهملة، قال الخطابي أي يريد أن يستأصله ويأتي عليه، والعرب تقول: جاحهم الزمان واجتاحهم إذا أتى على أموالهم، ومنه الجائحة وهي الآفة التي تصيب الأموال فتهكلها، ويمكن أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة عليه، وأن مقدرا ما يحتاج إليه منها كثير لا يسعه عفو مال إلا بأن يجتاح أصله، فلم يعذره النبي -عليه السلام- ولم يرخص له في ترك النفقة، وقال له: أنت ومالك لأبيك على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، فأما أن يكون أراد به إباحة ماله حتى يجتاحه ويأتي عليه فلا أعلم أحدًا ذهب إليه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 289 رقم 3530) ولكن من طريق محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب به. (¬2) قلت: هذا وهم من المؤلف -رحمه الله- في تخريج هذا الحديث والتبس عليه بحديث "كُلْ من مال يتيمك غير مسرف ولا مُتاثل" وهو في تحفة الأشراف (6/ 309 رقم 8681)، وأما حديث الباب فهو في تحفة الأشراف (6/ 306 رقم 8670). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 769 رقم 2292) بسند مختلف.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن ما كسب الابن من مال فهو لأبيه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومسروق بن الأجدع ومجاهدًا والحكم بن عتيبة وعامرًا الشعبي والحسن البصري وابن أبي ليلى؛ فإنهم قالوا: مال الابن لأبيه، يأخذ منه ما شاء ويأكل منه ما شاء. وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وعائشة الصديقة -رضي الله عنهم -. وقال ابن حزم (¬1): روينا من طريق ابن الجهم، ثنا أبو قلابة الرقاشي، ثنا روح -هو ابن عبادة- نا ابن جريج، أنا ابن الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "يأخذ الأب والأم من مال ولدهما بغير إذنه، ولا يأخذ الابن ولا الابنة من مال أبويهما بغير إذنهما" وصح مثله أبي عن عائشة -رضي الله عنها - من قولها، وعن أنس -رضي الله عنه -. وروى (¬2) من طريق أبي داود، عن محمَّد بن أبان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أولادكم هبة الله لكم، وأموالهم لكم". ومن طريق ابن مسعود (2) عن عمر بن الخطاب: "أنه أتاه أب وابن، والابن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياه، والأب يقول أنه لا يقدر عليها، فأخذ عمر بيد الابن فوضعها في يد الأب فقال: هذا وماله من هبة الله لك". وعن علي بن أبي طالب (2) -رضي الله عنه - نحو هذا وأنه "قضى بمال الولد للوالد". وأخرج ابن أبي شيبة (¬3): عن عبيد الله بن موسى، عن الحسن بن حي، عن ليث، عن مجاهد والحكم قالا: "يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء إلا الفرج". ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 103). (¬2) "المحلى" (8/ 104). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 564 رقم 23156).

وأخرج أيضًا (¬1): عن معاوية بن هشام، عن الثوري، عن أبي حمزة، عن إبراهيم النخعي قال: "الوالد في حل من مال ولده إلا الفرج". وأخرج عبد بن حميد (¬2)، عن يزيد بن هارون، عن داود بن أبي هند، عن سعيد ابن المسيب قال: "الوالد يأكل من مال ولده ما شاء، والولد لا يأكل من مال والده إلا بإذنه". وأخرج عبد الرزاق (¬3)، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: "يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء، وإن كانت جارية تسراها" قال قتادة: "لم يعجبني ما قال في الجارية". وقال ابن أبي ليلى (3): "لا يغرم الأب ما استهلك من مال ولده، ويجوز بيعه لمال ولده الكبير". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما كسب الابن من شيء فهو له خاصة دون أبيه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والزهري ومحمد بن سيرين وحماد بن زيد ومجاهدًا -في قول- وحماد بن أبي سليمان سفيان وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: مال الابن له دون أبيه إلا إذا احتاج الأب أو الأم، فإنهما يأكلان من مال ابنهما بالمعروف، وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم (¬4): للأب والأم أن يأكلا من مال الولد حيث وجداه من بيت أو غير بيت فقط، ثم لا شيء لهما ولا حكم في شيء من ماله لا بعتق ولا بإصداق ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 564 رقم 23155)، وهو في "المحلى" (8/ 104). (¬2) "المحلى" (8/ 104 - 105). (¬3) "المحلى" (8/ 105). (¬4) "المحلى" (8/ 106).

ولا بارتهان إلا إن كانا فقيرين، فيأخذ الفقير منهما من مال ولده من كسوة وأكل وسكني وخدمة وما احتاجا إليه فقط، وأما الولد فيأكل من بيت أبيه وبيت أمه ما شاء بغير إذنها ولا يأكل من غير البيت شيئًا. ص: وقالوا: قول النبي -عليه السلام- ليس على التمليك منه للأب كسب الابن، إنما هو على أنه لا ينبغي للابن أن يخالف الأب في شيء من ذلك، وأن يجعل أمره فيه نافذًا كأمره فيما يملك، ألا تراه يقول: "أنت ومالك لأبيك"؟ فلم يكن الابن مملوكًا لأبيه بإضافة النبي -عليه السلام- إياه إليه، فكذلك لا يكون مالكًا لماله بإضافة النبي -عليه السلام- إياه إليه. وقد حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نفعني مال قط ما نفعي مال أبي بكر، فقال أبو بكر -رضي الله عنه -: أنا ومالي لك يا رسول الله". فلم يرد أبو بكر -رضي الله عنه - بذلك أنّ ماله للنبي -عليه السلام- ملكًا ,ولكنه أراد أن أمره ينفذ فيه وفي نفسه كما ينفذ أمر ذى المال في ماله بإيجابه ذلك له، فكذلك قوله: "أنت ومالك لأبيك" هو على هذا المعنى أيضًا. ش: أي قال أهل المقالة الثانية، وهذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى بالحديث المذكور، وهو ظاهر، واستشهد على ذلك بحديث أبي هريرة. وأخرجه بإسناد صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وأبو معاوية محمَّد بن خازم الضرير. والأعمش هو سليمان بن مهران، وأبو صالح ذكوان الزيات. وأخرجه النسائى (¬1): عن محمَّد بن عبد العزيز، عن أبي معاوية، عن الأعمش نحوه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (5/ 37 رقم 8110).

وابن ماجه (¬1): عن ابن أبي شيبة وعلي بن محمَّد، عن أبي معاوية. . . . إلى آخره نحوه. وادعى ابن حزم أن حديث: "أنت ومالك لأبيك" منسوخ لا شك فيه؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- حكم بميراث الأبوين والزوج والزوجة والبنين والبنات من مال الولد إذا مات، وأباح في القرآن لكل مالك أمة وطأها بملك يمين، وحرمها على من لا يملكها بقوله تعالى: {إَلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬2) إلى قوله: {الْعَادُونَ} (¬3) فدخل في هذا من له والد ومن لا والد له، فصح أن مال الولد له بيقين لا لأبويه ولا حق لهما فيه، إلا ما جاء به النص مما ذكرنا من الأكل، أو عند الحاجة فقط، ولو كان مال الولد للوالد لما ورثت زوجة الولد ولا زوج البنت ولا أولادهما من ذلك شيئًا؛ لأنه مال لإنسان حي ولا كان يحل لذي والد أن يطأ جاريته أصلًا؛ لأنها لأبيه كانت تكون، فصح بورود هذين الحكمين وبقائهما إلى يوم القيامة بآيتين غير منسوختين أن ذلك الخبر منسوخ، وكذلك أيضًا صح بالنص والإجماع المتيقن أن من ملك أمة أو عبدًا لهما والد فإن ملكهما لمالكهما لا لأبيهما، فصح أن قوله -عليه السلام- أنه لأبيه منسوخ، وارتفع الإشكال. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه حرم أموال المؤمنين كما حرم دماءهم ولم يستثنِ في ذلك والدًا ولا غيره، فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، قالوا: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة بن شراحيل، قال: حدثني رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام-وأحسبه قال: في غرفتي هذه- قال: "قام فينا رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 36 رقم 49). (¬2) سورة المؤمنون، آية: [6]. (¬3) سورة المؤمنون، آية: [7].

فقال: هل ترون أي يوم هذا؟ قالوا: نعم، يوم النحر، قال: صدقتم، يوم الحج الأكبر، قال: هل تدرون أي شهر هذا؟ قالوا: نعم، ذو الحجة، قال: صدقتم، شهر الله الأصم، قال: هل تدرون أي بلد هذا؟ قالوا: نعم، المشعر الحرام، قال: صدقتم فقال رسول الله -عليه السلام-: إن دماءكم وأموالكم -وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". ش: ذكر هذا الحديث وما بعده شاهدة لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة الفقيه، عن مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬1): عن ابن مثنى وابن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو ابن مرة، عن مرة الهمداني، قال: حدثني رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-. . . . فذكره. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير. . . . إلى آخره. واستفيد منه: أن حرمة مال الرجل ودمه وعرضه سواء. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة البكراوي، قال: ثنا عوف الأعرابي، عن محمَّد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة -رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- قال في خطبة يوم النحر يوم حجة الوداع: إن أموالكم وأعراضكم ودماءكم حرام بينكم في مثل يومكم هذا في مثل شهركم هذا في مثل بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات إلا في رواية عن أحمد أن هوذة ضعيف. وأبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 44 رقم 4099).

وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن عبد الوهاب قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمَّد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة ذكر النبي -عليه السلام- قال: "فإن دماءكم وأمو الكم -قال محمَّد: وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب". وأخرجه من طرق أخرى متعددة. وأخرجه مسلم (¬2) بطرق متعددة أيضًا. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "إن أعظم الأيام حرمة هذا اليوم، وإن أعظم الشهور حرمة هذا الشهر، وإن أعظم البلدان حرمة هذا البلد، وإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة هذا اليوم وهذا الشهر وهذا البلد، هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد". ش: إسناده صحيح. وعمر بن حفص النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم. وأبوه حفص بن غياث بن طلق النخعي، روى له الجماعة. والأعمش هو سليمان، وأبو صالح ذكوان. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا هشام بن عمار، نا عيسى بن يونس، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع: "ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا، ألا إن أحرم الشهور شهركم هذا، ألا وإن أحرم البلد بلدكم هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 52 رقم 105). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1305 رقم 1679). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1297 رقم 3931).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله -عليه السلام- خطبهم في حجة الوداع، قال: ألا إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا نبيكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". ش: إسناده صحيح. وجعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم -. وهذا حديث مطول في صفة حج النبي -عليه السلام-. أخرجه مسلم (¬1) في المناسك: عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر بطوله. وأبو داود (¬2) وابن ماجه أيضًا (¬3) مطولًا والنسائي (¬4) مختصرًا وقد ذكرناه في كتاب الحج. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا دحيم بن اليتيم، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا هشام بن الغاز الجرشي، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام-. . . ." ثم ذكره مثله. ش: دحيم هو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي المعروف بدحيم بن اليتيم قاضي الأردن وفلسطين، شيخ البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والوليد بن مسلم الدمشقي روي له الجماعة. وهشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي الدمشقي، وثقه أحمد ودحيم وروى له الأربعة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 886 رقم 1218). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 585 رقم 1905). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1025 رقم 3074). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 421 رقم 4001).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن هشام بن الغاز، سمعت نافعًا يحدث عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف يوم النحر [بين] (¬2) الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال النبي -عليه السلام-: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: هذا بلد [الله] (2) الحرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر [الله] (2) الحرام، قال: هذا يوم الحج الأكبر، دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد [في هذا الشهر] (2) في هذا اليوم، ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم، فطفق النبي -عليه السلام- يقول: اللهم أشهد، ثم ودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع". ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر، قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا غادية الجهني قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام- .. ثم ذكر مثله". ش: إسناده صحيح. وربيعة بن كلثوم البصري وثقه يحيى والنسائي، وروى له مسلم والنسائي. وأبوه كلثوم بن جبر البصري، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. وأبو غادية -بالغين المعجمة- اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن أزهر، وقيل: مسلم، يعد في الشاميين، وكان من شيعة عثمان -رضي الله عنه -، وهو قاتل عمار بن ياسر -رضي الله عنه -. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا عبد الصمد بن عبد الوراث، ثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن أبي غادية، قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام- غداة العقبة ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1016 رقم 3058). (¬2) ما بين المعكوفين ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه". (¬3) "مسند أحمد" (4/ 76 رقم 16745).

فقال: ألا إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمَّد، قال: ثنا حسين بن عازب، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه عمرو قال: "خطب رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع. . . ." فذكر مثله. ش: يونس بن محمَّد بن مسلم البغدادي المؤذن، روى له الجماعة. وحسين بن عازب ذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل وسكت عنه. وشبيب بن غرقدة السلمي الكوفي، روى له الجماعة. وسليمان بن عمرو الجشمي الكوفي، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة. وأبوه عمرو بن الأحوص بن جعفر بن كلاب الجشمي الكلابي الصحابي -رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه مطولًا (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وهناد بن السري، ثنا أبو الأحوص، عن شبيب، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه قال: "سمعت النبي -عليه السلام- يقول في حجة الوداع: يا أيها الناس، ألا أي يوم أحرم؟ ثلاث مرات، قالوا: يوم الحج الأكبر، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. . . . الحديث". ص: فجعل رسول الله -عليه السلام- حرمة الأموال كحرمة الأبدان، فلما لا تحل أبدان الأبناء للآباء إلا بالحقوق الواجبة، فكذلك لا تحل أموالهم إلا بالحقوق الواجبة. ش: أي سَوَّى رسول الله -عليه السلام- بين الأموال والأبدان في الحرمة، فلا يحل مال الابن للأب كما لا يحل له بدنه إلا بالحق الواجب، وهو احتياجه إلى مال ابنه لأجل النفقة وما أشبه ذلك. ص: فإن قال قائل: نريد أن توجدنا ما ذكرت في الأب منصوصًا عليه عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1015 رقم 3055).

قلت: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عياش بن عباس القتباني، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص -رضي الله عنهما -: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لرجل: أمرت بيوم الأضحى عيدًا جعله الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذه الأمة، فقال الرجل: أفرأيت إن لم أجد إلا منيحة ابني، أفأضحي بها؟ قال: لا , ولكن تأخذ من شعرك ومن أظفارك، وتقص من شاربك وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله". ش: أن توجدنا: أي أن توجد لنا ما ذكرت من قولك: إن مال الابن لا يجوز للأب تملكه إلا عند الحاجة؛ منصوصًا عليه من النبي -عليه السلام- فقال: حدثنا يونس. . . . إلى آخره، وأراد به أنه جاء منصوصًا من النبي -عليه السلام- أن الأب ليس له أن يتملك مال ابنه إلا عند الحاجة. وأخرجه بإسناد مصري صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن سعيد بن أبي أيوب مقلاص الخزاعي المصري، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة- بن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القتباني -بكسر القاف وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون، نسبة إلى قتبان من رعين. روي عن عيسى بن هلال الصدفي المصري، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثني سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني عياش بن عباس القتباني، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أمرت بيوم الأضحى عيدًا. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 93 رقم 2789).

وأخرجه النسائي (¬1): عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا. وقد اشترك الطحاوي مع النسائي في تخريج هذا الحديث عن شيخ واحد. قوله: "إلا منيحة ابني" وهي الناقة التي يعطيها صاحبها لآخر ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانًا ثم يردها، وفيه دلالة على أن الأب لا يملك مال ابنه، وأن قوله -عليه السلام-: "أنت ومالك لأبيك" ليس للتمليك في جميع مال الابن وإنما هو في الأكل والشرب منه بمقدار حاجته عند احتياجه إليه، وفيه الحض على الأضحية، حتى احتج به بعضهم على وجوبها، وفيه استحباب حلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة يوم عيد الأضحية، وعن هذا قال بعضهم: من أراد أن يضحي ينبغي أن لا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئًا إلا يوم العيد، وكان ابن سيرين يكره إذا دخل العشر أن يأخذ الرجل من شعره حتى يكره أن يحلق الصبيان في العشر، وهو قول الشافعي وأبي ثور وإسحاق وأبي سليمان، وإليه ذهب الأوزاعي وأهل الظاهر، وخالفهم في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى في كتاب الأضاحي. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما قال هذا الرجل: يا رسول الله، أضحي بمنيحة ابني فقال رسول الله -عليه السلام-: لا، وقد أمره أن يضحي من ماله وحَضَّه عليه؛ دل ذلك على أن حكم مال ابنه خلاف حكم ماله، مع أن أولى الأشياء بنا حمل هذه الآثار على هذا المعنى لأن كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- يدل على ذلك، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2) ثم قال: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} (2) فورث الله -عَزَّ وَجَلَّ- غير الوالد مع الوالد من مال الابن، فاستحال أن يكون المال للأب في حياة الابن ثم يصير بعضه لغير الأب في حياة الأب، ثم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) فجعل الله المواريث للوالد وغيره بعد قضاء الدين -إن كان على الميت- وبعد إنفاذ وصاياه من ثلث ماله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 212 رقم 4365). (¬2) سورة النساء، آية: [11].

وقد أجمعوا أن الأب لا يقضي من ماله دين ابنه ولا ينفذ وصايا ابنه من ماله، ففي ذلك ما قد دل على ما قد ذكرنا. وقد أجمع المسلمون أن الابن إذا ملك مملوكة حل له وطؤها، وهي ممن أباح الله -عَزَّ وَجَلَّ- له وطؤها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬1) فلو كان ماله لأبيه إذا لحرم عليه وطء ما كسب من الجواري كحرمة وطء جواري أبيه عليه فدل ذلك أيضًا على انتفاء ملك الأب لمال الابن وأن ملك الابن فيه ثابت دون أبيه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: استدل على عدم تملك الأب مال ابنه بالحديث المذكور، واستدلاله به ظاهر، وبالكتاب وهو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬2) ووجه دلالته على ذلك ظاهر. وبالقياس أشار إليه بقوله: "وقد أجمعوا. . . ." إلى آخره. قوله: إذًا. أي حينئذ. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، آية: [5، 6]. (¬2) سورة النساء، آية: [11].

ص: باب: الوليد يدعيه رجلان كيف حكمه؟

ص: باب: الوليد يدعيه رجلان كيف حكمه؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الولد الذي يدعيه الرجلان أنه ولد لهما يعني أن كل واحد منهما يقول أنه ولده، كيف يكون حكمه؟. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل مجزز المدلجي على رسول الله -عليه السلام-، فرأى أسامة وزيدًا عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل رسول الله -عليه السلام- مسرورًا". حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: "دخل عَليَّ رسول الله -عليه السلام- مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض؟ ". ش: هذان إسنادان صحيحان ورجالهما كلهم رجال الصحيح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1) عن قتيبة، عن الليث .. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح وقتيبة، كلهم عن الليث. وأبو داود (¬3): عن مسدد وعثمان بن أبي شيبة وابن السرح، عن سفيان، عن الزهري، به. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2486 رقم 6388). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1082 رقم 1459). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 280 رقم 2267).

والترمذي (¬1): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، به. والنسائي (¬2): عن قتيبة عن ليث، وعن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان، جميعًا عن الزهري، نحوه. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار ومحمد بن الصباح، عن سفيان، عن الزهري. قوله: "دخل مُجَزز" بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي الأولى، وهو مجزز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن غثوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، وإنما قيل له: مجزز، لأنه كان كلما أسر أسيرًا جَزَّ ناصيته، وهو معدود في الصحابة. قوله: "تبرق أسارير وجهه" يعني الخطوط التي في جبهته مثل التكسر، واحدها سر وسرر، والجمع أسرار، وأسارير جمع الجمع، قال القاضي: ومعنى ذلك مثل قوله في الرواية الأخرى: مسرورًا, لأن المسرور ينطلق وجهه ويجري ماء البشر فيه ويحسن، بخلاف المقطب والحزين. وقال ابن الأثير: الأسارير: الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر، واحدها سر وسرر، وجمعها أسرار وأسره، وجمع الجمع أسارير. ثم سبب هذا ما ذكره المحدثون: أنه كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، كذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح، فلما قضي هذا القائف بإلحاق هذا النسب مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تصغي إلى قول القافة؛ سُرَّ بذلك -عليه السلام- لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 440 رقم 2129). (¬2) "المجتبى" (6/ 184 رقم 3493). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 787 رقم 2349).

وقال القاضي: قال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته للنبي -عليه السلام- فتبناه، فكان يدعى زيد بن محمَّد، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬1) فقيل: زيد بن حارثة، وابنه أسامة أمه أم أيمن بركة وتدعى أم الظباء مولاة عبد الله بن عبد المطلب ورابَّة النبي -عليه السلام-، ولم يقل أحد أنها كانت سوداء إلا أن أحمد بن سعيد الصدفي ذكر في تاريخه من رواية عبد الرزاق، عن ابن سيرين: "أن أم أيمن هذه كانت سوداء فلهذا خرج أسامة، لكن لو كان هذا صحيحا لم ينكر الناس لونه لمعرفتهم أسامة، إذْ لا يُنكر أن يلد الأبيض أسود من سوداء. وقد نسبها الناس فقالوا: أم أيمن بركة بنت حصين بن ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سليمان بن عمرو بن النعمان. وذكر مسلم (¬2) في كتاب الجهاد: عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت من الحبش وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي -عليه السلام-، وكذا ذكر الواقدي. وأما زوجها عبيد قبل ذلك فكان حبشيًّا، إلا أن يكون معنى قول ابن شهاب: حبشية: أي من مهاجرة الحبشة فيحتمل؛ فقد كانت منهن كما قال عمر -رضي الله عنه - لأسماء بنت عميس: الحبشية هذه. والمعروف أنه كانت للنبي -عليه السلام- بركة أخرى حبشية، كانت تخدم أم حبيبة، فلعله اختلط أمرهما لاشتباه اسمهما، وقد قال أبو عمر بن عبد البر: وأظنها أم أيمن. وذكر بعض المؤرخين أن أم أيمن هذه من سبي حبش أبرهة صاحب الفيل، لما انهزم عن مكة أخذها عبد المطلب، من فل عسكره، والله أعلم. وهذا يؤكد أيضًا ما ذكره ابن سيرين. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [5]. (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1391 رقم 1771).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فاحتج قوم بهذا الحديث، فزعموا أن فيه ما قد دلهم أن القافة يحكم بقولهم وتثبت به الأنساب، قالوا: ولولا ذلك لأنكر النبي -عليه السلام- على مجزز ولقال له: وما يدريك، فلما سكت ولم ينكر عليه؛ دل أن ذلك القول مما يؤدي إلى حقيقة يجب بها الحكم. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد ابن حنبل وداود وسائر الظاهرية وأكثر أهل الحديث؛ فإنهم حكموا بقول القافة في تمييز الأنساب إذا اشتبهت، وقال الخطابي: في حديث عائشة دليل على ثبوت أهل القافة وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد، وذلك أنه -عليه السلام- لا يظهر السرور إلا بما هو حق عنده، وممن أثبت الحكم بالقافة: عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، وبه قال مالك والشافعي، وعليه أهل الحديث. وقال ابن حزم في "المحلي" (¬1): والحكم بالقافة في لحاق الولد واجب في الحرائر والإماء، وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وقال مالك: يحكم بشهادتهم في ولد الأمة ولا يحكم به في ولد الحرة، وهذا تقسيم بلا برهان. وقال عياض: اختلف الناس في القول بالقافة، فنفاه أبو حنيفة وأثبته الشافعي، ونفاه مالك في المشهور عنه في الحرائر وأثبته في الإماء، وقد روى الأبهري، عن الرازي، عن ابن وهب، عن مالك أنه أثبته في الحرائر والإماء جميعًا. ثم اختلفوا: هل يحتاج فيه إلى اثنين وأنه بمعنى الشهادة -وهو قول مالك والشافعي- أم يكتفى فيه بواحد -وهو قول القاسم من أصحابنا-؟. واختلفوا إذا ألحقته القافة بمدعييه معًا، هل يكون ابنًا لهما؟ وهو قول سحنون وأبي ثور. وقيل: يترك حتى يكبر فيوالي من شاء منهما، وهو قول عمر بن الخطاب، وقاله مالك والشافعي، وقال عبد الملك ابن الماجشون ومحمد بن مسلمة: يلحق بأكثرهما له شبهًا، قال ابن مسلمة: إلا إن علم الأول ¬

_ (¬1) "المحلى" (2/ 169).

فيلحق به، والقافة جمع قائف، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف بشبه الرجل بأخيه وأبيه، من قَافَ يقُوفُ، يقال: فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة مثل قفا الأثر واقتفاه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز أن يحكم بقول القافة في نسب ولا غيره. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: سفيان الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وإسحاق؛ فإنهم منعوا الحكم بقول القافة. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن سرور النبي -عليه السلام- بقول مجزز المدلجي الذي ذكروا في حديث عائشة - رضي الله عنها - ليس فيه دليل على ما توهموا من وجوب الحكم بقول القافة؛ لأن أسامة قد كان نسبه ثبت من زيد قبل ذلك ولم يحتج النبي -عليه السلام- في ذلك إلى قول أحد، ولولا ذلك لما كان دعى أسامة فيما تقدم إلى زيد، وإنما تعجب النبي -عليه السلام- من إصابة مجزز كما تعجب من ظن الرجل الذي يصيب بظنه حقيقة الشيء الذي ظنه، ولا يجب الحكم بذلك، وترك رسول الله -عليه السلام- الإنكار عليه؛ لأنه لم يتعاطى بقوله ذلك إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدم، فهذا ما يحتمله هذا الحديث. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث مجزز، وهو ظاهر. قوله: "وتَرْكُ رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره جواب عن قوله: "فلما سكت ولم ينكر عليه". قوله: "لأنه لم يتعاطى" أي لم يتناول ولم يأخذ بقوله ذلك. ص: وقد روي في أمر القافة عن عائشة -رضي الله عنها - ما يدل على غير هذا: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا ابن وهب، قال:

أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة -رضي الله عنها - زوج النبي -عليه السلام- أخبرته "أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء، فمنه أن يجتمع الرجال العدد على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، وكن ينصبن على أبوابهن رايات، فيطأها كل من دخل عليها، فهذا حملت ووضعت حملها جمع لهم القافة، فأيهم ألحقوه به صار أباه ودعي بأبيه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله -عَزَّ وَجَلَّ- محمدًا بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية وأقر نكاح أهل الإِسلام". ففي هذا الحديث أن إثبات النسب بقول القافة كان من حكم الجاهلية، وأن رسول الله -عليه السلام- هدم ذلك النكاح الذي كان يكون فيه ذلك الحكم، وأقر الثاني على النكاح الذي لا يحتاج فيه إلى قول القافة، وجعل الولد لأبيه الذي يدعيه، فيثبت نسبه بذلك، ونسخ الحكم المتقدم الذي كان الحكم فهي بقول القافة، وقد كان أولاد البغايا الذين ولدوا في الجاهلية من أدعى أحدًا منهم في الإِسلام ألحق به. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد (ح). وحدثنا يونس، نا أبي، ثنا أنس، عن يحيى بن سعيد -قال مالك في حديثه: عن سليمان بن يسار وقال أنس: أخبرني سليمان بن يسار: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يليط أهل الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام، فدل ذلك أنهم لم يكونوا يلحقون بهم بقول القافة، فيكون قولهم كالبينة التي تشهد على ذلك، فلو كان قولهم مستعملًا في الإِسلام كما كان مستعملًا في الجاهلية إذا لم قالت عائشة - رضي الله عنها -:إن ذلك مما هدم، إذًا كان يجب به علم أن الصبي ممن وطئ أمه من الرجال، ففي نسخ ذلك دليل على أن قولهم لا يجب به حكم ثبوت النسب. ش: هذا في الحقيقة جواب آخر عما احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه أن حديث عائشة الذي احتج به هؤلاء منسوخ، والدليل عليه ما روي عن عائشة أيضًا، لأن في حديثها هذا يخبر أن إثبات النسب بقول القافة، كان من حكم الجاهلية، وأنه -عليه السلام- هدم النكاح الذي كان يكون فيه الحكم بالقافة، وأقر النكاح الذي لا يحتاج فيه إلى قول القافة؛ فثبت بذلك انتساخ إثبات النسب بالقافة.

ومما يدل على ذلك أيضًا أنه -عليه السلام- حكم باللعان في قصة العجلاني، ولم يؤخر حتى تضع ويرى الشبه. وأيضًا فقد ذكر في قصة المتلاعنين: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، ثم لم ينقضي حكمه لما جاءت به على الصفة المكروهة، ولا حَدَّهَا؛ فدل ذلك على أن الشبه غير معتبر. ثم إسناد حديث عائشة -رضي الله عنها - صحيح. وابن أبي داود إبراهيم البرلسي. وأصبغ بن الفرج أبو عبد الله الفقيه القرشي الأموي مولى عبد العزيز بن مروان المصري وراق عبد الله بن وهب وشيخ البخاري، وابن وهب هو عبد الله ابن وهب. ويونس هو ابن يزيد الإيلي، روي له الجماعة. وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري. وأخرجه البخاري (¬1) بأتم منه من حديث عائشة: "أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحببت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع الرجل، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1970 رقم 4834).

ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا ينصبن على أبوابهن الرايات وتكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمِعُوا لها، ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم". وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثني يونس بن يزيد، قال: قال محمَّد بن مسلم بن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -عليه السلام- أخبرته: "أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء. . . ." إلى آخره نحوه، إلا أنه قدم الرابع فجعله أولًا. قوله: "أنحاء" جمع نحو، وأراد به على أربعة ضروب. قوله: "من طمثها" أي من حيضها. قوله: "فاستبضعي منه" من الاستبضاع وهو استفعال من البضع وهو الجماع، والبضع يطلق على عقد النكاح والجماع معًا، وعلى الفرج. قوله: "يجتمع الرهط" قال أبو عبيدة: هو ما دون العشرة من الناس وكذلك النفر، وقيل: من ثلاثة إلى عشرة، وقال غيره: الرهط من الرجال ما دون العشرة لا يكون فيهم امرأة قال الله تعالى: {وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (¬2) وليس له واحد من لفظه كذَوْد وقيل: هو من ثلاثة إلى الأربعين ولا يكون فيهم امرأة. قوله: "وهن البغايا" جمع بَغِيّ، وهي الزانية. قوله: "فالتاط به" أي استلحقه، من اللوط وهو الإلصاق. قوله: وقد كان أولاد البغايا. . . ." إلى آخره ذكره تأييدًا لقوله: "إن إثبات النسب بقول القافة كان من حكم الجاهلية، ولم يبق له حكم في الإِسلام. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 281 رقم 2272). (¬2) سورة النمل، آية: [48].

قوله: "حدثنا يونس. . . ." إلى آخره، بيان لقوله: "وقد كان أولاد البغايا". وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، عن سليمان بن يسار المدني. الثاني: عن يونس أيضًا، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. قوله: "كان يليط" من أَلاط إلاطة إذا أَلصق، والظاهر أنه من لاط يليط وهو يتعدى بنفسه، وجاء لاط يلوط، ومنه حديث أشراط الساعة: "وليقومن وهو يلوط حوضه"، وفي رواية "يليط حوضه" والله أعلم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا: بما حدثنا يونس، قال: أنا أنس، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن رجلين أتيا عمر -رضي الله عنه - كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعى لهما رجلًا من بني كعب قائمًا، فنظر إليهما فقال لعمر -رضي الله عنه -: قد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ودعى المرأة فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها وهي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يطأ ويظن أن قد استمر بها حمل ثم ينصرف عنها، فأهراقت عنه دمًا، ثم خلفها هذا -تعنى الآخر- فلا يفارقها حتى استمر بها حمل، فلا تدري ممن هو، فكبَّر الكعبي، فقال عمر -رضي الله عنه - للغلام: "والي أيهما شئت" (¬1). حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثنا، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان، مثله. حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن حاطب، عن أبيه قال: "أتى رجلان إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يختصمان في غلام من ولادة الجاهلية، يقول هذا: هو ابني، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 166 رقم 6550)، وابن حبان في صحيحه (15/ 259 رقم 6845) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -.

ويقول هذا: هو ابني، فدعى لهما عمر -رضي الله عنه - قائفًا من بني المصطلق، فسأله عن الغلام، فنظر إليه المصطلقي، ثم نظر، ثم قال لعمر -رضي الله عنه -: والذي أكرمك، ليس لأحدهما، قد اشتركا فيه جميعًا، فقام إليه عمر بالدرة فضربه حتى اضطجع، ثم قال: والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب، ثم دعى أم الغلام فسألها , فقالت: إن هذا -لأحد الرجلين- قد كان غلب على الناس حتى ولدت له أولادًا، ثم وقع بي على نحو ما كان يفعل، فحملت فيما أرى، فأصابتني هراقة من دم حتى وقع في نفسي أن لا شيء في بطني، ثم إن هذا الآخر، وقع بي فوالله ما أدري من أيهما هو، فقال عمر - رضي الله عنه - للغلام: اتبع أيهما شئت، فاتبع أحدهما، قال عبد الرحمن بن حاطب: فكأني أنظر إليه متبعًا لأحدهما فذهب به، فقال عمر - رضي الله عنه -: قاتل الله أخا بني المصطلق". قالوا: ففي هذا الحديث أن عمر - رضي الله عنه - حكم بالقافة، فقد وافق ما تأولنا من حديث مجزّز المدلجي. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان بن يسار المدني. وأخرجه البيهقي في "الخلافيات" من حديث يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام، قال سليمان: فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قائفًا فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر - رضي الله عنه - بالدرة، ثم قال للمرأة: أخبريني خبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها وهي في إبل أهلها، فلا يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف

عنها فأهريقت دمًا، ثم خلف هذا -تعنى الآخر- فلا أدري من أيها هو، فكبَّرَ القائف، ثم قال عمر بن الخطاب للغلام: وَالِ أيهما شئت". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1)، والبيهقي في "سننه" (¬2) من حديث مالك. الثالث: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة ابن الزبير بن العوام، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه عبد الرحمن ابن حاطب. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) من حديث ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبيه: "أتى رجلان يختصمان في غلام من ولاد الجاهلية، يقول هذا: ابني، ويقول هذا: ابني، فدعى عمر - رضي الله عنه - قائمًا من بني المصطلق. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه الشافعي أيضًا (¬4): عن أبي ضمرة، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن، نحوه. قوله: "قالوا" أي أهل المقالة الأولى "ففي هذا الحديث" أراد به أثر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -. ص: فكان من الحجة عليهم للآخرين: أن في هذا الحديث ما يدل على بطلان ما قالوا، وذلك أن فيه أن القائف قال: هو منهما جميعًا، فلم يجعله عمر -رضي الله عنه - كذلك، ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 740 رقم 1420). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 263 رقم 21048). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 263 رقم 21050). (¬4) "الأم" (6/ 344).

وقال له: "وَالِ أَيهما شئت" على ما يجب في صبي ادعاه رجلان، فإن أقر أحدهما كان ابنه، فلما رَدَّ عمر - رضي الله عنه - حكم ذلك الصبي إلى الصبي المدعى إذا ادعاه رجلان ولم يكن بحضرة الإِمام قائف لا إلى قول القائف؛ دل ذلك على أن القافة لا يجب بقولهم ثبوت نسب من أحد. ش: أي: فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى للجماعة الآخرين، وأراد بها الجواب عن أثر عمر - رضي الله عنه - المذكور الذي احتج به هؤلاء فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر. قوله: "على ما يجب في صبي ادعاه رجلان" أراد أن عمر - رضي الله عنه - حكم في الأثر المذكور بقول الصبي بأن يختار أيهما شاء، كما هو الحكم في الصبي الذي يدعيه اثنان كل واحد يقول: إنه ابنه، فإن الصبي لا يكون إلا لمن أقرّ أنه ابنه، وهاهنا تفصيل: وهو أن الغلام إذا كان في يد إنسان وادعى صاحب اليد أنه ابنه ولدته أمَّه هذه في ملكه، وأقام البينة على ذلك، وادعى خارج أن الغلام ابنه ولدته الأمة في ملكه، وأقام البينة، فإن كان الغلام صغيرًا لا يتكلم يقضى لصاحب اليد لاستوائهما في البينة، فترجح صاحب اليد باليد كما في النكاح، وإن كان كبيرًا يتكلم فقال: أنا ابن الآخر؛ يقضى بالأمة والغلام للخارج؛ لأن الغلام إذا كان كبيرًا يتكلم كان في يد نفسه. فالنسبة التي يدعيها الغلام أولى، وكذلك لو كان الغلام ولد حرة وهما في يد رجل، فأقام صاحب اليد البينة على أنه ولد على فراشه، والغلام يتكلم ويدعي ذلك، وأقام خارج البينة على مثله؛ يقضي بالمرأة والولد للذي هما في يده لما قلنا، وإن كان الذي في يديه من أهل الذمة والمرأة ذمية، فأقام شهودًا مسلمين، يقضى بالمرأة والولد للذي هما في يده؛ لأن شهادة المسلمين حجة مطلقة، وهاهنا مسائل كثيرة طوينا ذكرها. ص: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - من وجوه صحاح أنه جعله ابن الرجلين جميعًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري،

عن الشعبي، عن ابن عمر: "أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت، فدعى عمر - رضي الله عنه - القافة، فقالوا: أخذ الشبه منهما جميعًا، فجعله بينهما". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر - رضي الله عنه -، نحوه، قال: فقال لي سعيد، لمن ترى ميراثه؟ قال: هو لآخرهما موتًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، عن أبي المهلب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في رجل ادعاه رجلان كلاهما يزعم أنه ابنه -وذاك في الجاهلية- فدعى عمر أم الغلام المدعى، فقال: أذكرك بالذكر هداك للإسلام، لأيهما هو؟ فقالت: لا والذي هادني للإسلام ما أدري لأيهما هو؛ أتاني هذا أول الليل، وأتاني هذا آخر الليل، فما أدري لأيهما هو، قال: فدعى عمر - رضي الله عنه - من القافة أربعة، ودعى ببطحاء فغشوها، فأمر الرجلين المدعيين فوطئ كل واحد منهما بقدم، وأمر المدعى فوطئ بقدم ثم أراها القافة فقال: انظروا فهذا أثبتُّم فلا تتكلموا حتى أسألكم، قال: فنظر القافة فقالوا: قد أثبتنا، ثم فرق بينهم ثم سألهم رجلًا رجلًا قال: فتقادعوا -يعني فتتابعوا- أربعتهم كلهم يشهد أن هذا لَمِنْ هذين، فقال عمر -رضي الله عنه -: يا عجبًا لما يقول هؤلاء، قد كنت أعَلم أن الكلبة تلقح بالكلاب ذوات العدد ولم أكن أشعر أن النساء يفعلن ذلك قبل هذا، إني لأرى ما يرون، اذهب فهما أبواك". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن رجلين اشتركا في طهر امرأة، فولدت لهما ولدًا، فارتفعا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فدعى لهما ثلاثة من القافة، فدعى بتراب فوطئ فيه الرجلان والغلام، ثم قال لأحدهم: انظر، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر، ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلِن؟ قال عمر - رضي الله عنه -: بل أَسِرَّ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا، فما أدري لأيهما هو، فأجلسه، ثم قال للآخر: انظر، فنظر

واستقبل واستعرض واستدبر ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ قال: لا، بل أَسِرَّ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فلا أدري لأيهما هو، فأجلسه، ثم أمر الثالث، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر، ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ قال: أَعْلِنْ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فما أدري لأيهما هو، فقال عمر - رضي الله عنه -: إنا نقوف الآثار ثلاثًا بقولها، وكان عمر - رضي الله عنه -، فجعله لهما يرثانه ويرثهما، فقال لي سعيد: أتدري مَنْ عصبته؟ قلت: لا، قال: الباقي منهما". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فليس يخلو حكمه في هذه الآثار التي ذكرنا من أحد وجهين: إما أن تكون بالدعوى؛ لأن الرجلين ادعيا الصبي وهو في أيديهما، فألحقه بهما بدعواهما. أو يكون فعل ذلك بقول القافة، وكان الذين يحكمون بقول القافة لا يحكمون بقولهم إذا قالوا: هو ابن هذين، فلما كان قولهم كذلك ثبت على قولهم أن يكون قضاء عمر - رضي الله عنه - بالولد للرجلين كان بغير قول الفاقة، وفي حديث سعيد بن المسيب ما يدل على ذلك؛ وذلك أنه قال: فقال القافة: لا ندري لأيهما هو، فجعله عمر - رضي الله عنه - ابنهما، والقافة لم يقولوا: هو ابنهما، فدل ذلك أن عمر - رضي الله عنه - أثبت نسبه من الرجلين بدعواهما ولما لهما عليه من اليد، لا بقول القافة. ش: لما أدعت أهل المقالة الأولى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حكم بقول القافة عند اشتباه الأنساب، وذكروا في ذلك ما مَرَّ ذكره عن قريب، وأجاب عنه الطحاوي بما أجاب من نفي حكم عمر - رضي الله عنه - بقول القافة، وأن بقولهم لا يجب ثبوت النسب؛ شرع فذكر هاهنا ما هو شاهد على ذلك، وأنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه لم يرجع إلى قول القافة في الصورة المتنازع فيها، بل هو جعل الولد بين المدعيين، وذلك لأن حكم عمر في الآثار المذكورة لم يكن بقول القافة , لأنهم قالوا: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فما ندري لأيهما هو، ولم يقولوا: هو لهما وأنه ابنهما، ومع هذا كان عمر - رضي الله عنه - أيضًا قائفًا فلم يلتفت إلى ذلك بل حكم بالنسب بين الرجلين بسبب

تساويهما في الدعوى، ولأجل أن لهما عليه من اليد، فلم يكن ذلك بقول القافة، ومن الدليل القاطع على ذلك أن أهل المقالة الأولى لا يقولون بالحكم بقول القافة إذا قالوا: هو ابن الاثنين، إذا ادعياه جميعًا. ثم إنه أخرج عن عمر - رضي الله عنه - من أربع وجوه صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن توبة العنبري البصري، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن حزم (¬1) ثم طعن فيه لترويج مذهبه، فقال: توبة العنبري ضعيف متفق على ضعفه. قلت: هذا غير صحيح، فإن توبة روى عنه الحفاظ الأجلاء نحو الثوري وشعبة وهشام بن حسان وحماد بن سلمة وغيرهم، ووثقه يحيى بن معين وأبو حاتم، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال ابن حزم أيضًا: قول ابن عمر: "جعله بينهما" ليس فيه أنه ألحقه بنسبهما، لكن الظاهر أن معناه: وقفه بينهما حتى يلوح له فيه وجه حكم، ولا يجوز أن يظن بعمر - رضي الله عنه - غير هذا. قلت: هذا غير صحيح، بل معناه أنه جعله بينهما وألحقه بنسبهما، والدليل عليه ما في رواية سعيد بن المسيب: "وكان عمر - رضي الله عنه - قائفًا؛ فجعله لهما يرثانه ويرثهما" على ما يأتي إن شاء الله تعالى. والثاني: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث همام، عن قتادة، عن ابن المسيب: "أن رجلين اشتركا في طهر امرأة، فولدت ولدًا، فارتفعوا إلى عمر - رضي الله عنه -، فدعي لهم ثلاثة من القافة فدعوا بتراب فوطأ فيه الرجلان والغلام، ثم قال لأحدهم: ¬

_ (¬1) "المحلي" (10/ 151). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 264 رقم 21054).

انظر، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر وقال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ [قال: بل أَسِرَّ] (¬1) فقال: لقد أخذ الشبه منهما، فلا أدري لأيهما هو، فقال عمر: إنا نقوف الآثار -ثلاثًا يقولها- وكان عمر - رضي الله عنه - قائفًا، فجعله لهما يرثانه ويرثهما، فقال سعيد: أتدري من عصبته؟ قلت: لا، قال: الباقي منهما". فإن قيل: قال البيهقي: هذه رواية منقطعة. وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة عن عمر - رضي الله عنه -؛ لأنها مرسلة من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، ولم يحفظ سعيد من عمر شيئًا إلا نعي النعمان بن مقرن على المنبر مع أن فيها حكم مع القافة. قلت: الشافعي يحتج بمرسل سعيد بن المسيب في مثل هذه الصورة فما للبيهقي يتبرأ عن هذه الرواية وهي عند إمامه مقبولة؟! وقول ابن حزم مع أن فيها حكم بالقافة غير صحيح، لأنه لو حكم بقول القافة لألحق الولد بأحدهما؛ لأن القافة لم يقولوا: هو ابنهما، وقد مر تحقيق الكلام فيه آنفًا. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن عوف الأعرابي، عن أبي المهلب الجرمي البصري عم أبي قلابة، وقال النسائي: أبو المهلب عمرو بن معاوية، وقال غيره: اسمه معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح. وأخرج البيهقي (¬2) نحوه من حديث مبارك بن فضالة، عن الحسن، وفيه: "وكان عمر - رضي الله عنه - قائفًا، فقال: قد كانت الكلبة ينزو عليها الكلب الأسود والأصفر والأحمر فتؤدي إلى كل كلب شبهه، ولم أكن أرى هذا في الناس حتى رأيت هذا، فجعله عمر لهما يرثانه ويرثهما وهو للباقي منهما". قوله: "ودعى ببطحاء" البطحاء الحصى الصغار اللين في بطن الوادي. قوله: "فنثرها" من نثرت النثار. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى". (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 264 رقم 21056).

قوله: "فتقادعوا" قد فسره في الحديث بقوله: "يعني فتتابعوا". قال الجوهري: التقادع: التتابع والتهافت في الشيء، كأن كل واحد منهما يدفع صاحبه لكي يسبقه، وتقادعوا بالرماح تطاعنوا. قلت: مادته: قاف، ودال وعين مهملتان. قوله: "تلقح بالكلاب" وأصله من ألقح الفحل الناقة إلقاحًا ولقاحًا إذا أولدها، كما يقال: أعطى إعطاء وعطاء، والأصل فيه للإبل، ثم استعير للناس وغيرهم. الرابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون -شيخ أحمد- عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن سعيد بن المسيب. . . . إلى آخره. قوله: "إنا نقوف الآثار" من قاف الأثر يقوفه ويقتافه قيافة، وقد ذكرنا معناه مرة. ص: فإن قال قائل: فإذا كان ذلك كما ذكرت فما كان احتياج عمر - رضي الله عنه - إلى القافة حين دعاهم؟ قيل له: يحتمل عندنا ذلك -والله أعلم- أن يكون عمر - رضي الله عنه - وقع بقلبه أن حملًا لا يكون من رجلين ليستحيل إلحاق الولد بمن يعلم أنه لم يلده، فدعى القافة ليعلم منهم: هل يكون ولد يحمل من نطفة رجلين أم لا؟ وقد بين ذلك ما ذكرنا من حديث أبي المهلب، فلما أخبره القافة بأن ذلك قد يكون وأنه غير مستحيل؛ رجع إلى الدعوى التي كانت بين الرجلين فحكم بها، فجعل الولد ابنهما جميعًا يرثهما ويرثانه، فذلك حكم بالدعوى لا بقول القافة. ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان إثبات عمر - رضي الله عنه - نسب الولد من الرجلين فيما ذكر بدعواهما لا بقول القافة كما ذكرت، فما كان احتياج عمر إلى القافة حتى طلبهم؟ والجواب ظاهر.

قوله: "في حديث أبي المهلب" وهو الذي أخرجه عن أبي بكرة، عن سعيد بن عامر، عن عوف عنه. وقد اعترض ابن حزم هاهنا وقال: وما نعرف إلحاق الولد باثنين عن أحد من المتقدمين إلا عن إبراهيم النخعي ولا حجة في أحد دون رسول الله -عليه السلام-، والثابت عنه -عليه السلام- يكذب جواز كون ولد من مني أبوين. وهو الذي رويناه من طريق مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: ثنا الأعمش، عن زبد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح. . . ." الحديث فصح يقينًا أن ابتداء العدد من حين وقوع النطفة وبلا شك أن الدقيقة التي تقع فيها النطفة في الرحم هي غير الدقيقة التي تقع فيها نطفة الواطئ الثاني فلو جاز أن يجمع الماءين فيصير منهما ولد واحد لكان العد مكذوبًا فيه؛ لأنه إن عد في حين وقوع نطفة الأولى فهو للأول وحده فلو استضاف إليه الثاني لابتداء العدد من وقت حلول المني الثاني فكان يكون في الأربعين يومًا نقص وزيادة بلا شك. قلت: هذا تخبيط ولا يلزم من اجتماع الماءين في رحم المرأة كون العد مكذوبًا فيه؛ لأنه لا شك أن ابتداء العد من حين وقوع النطفة في الرحم، فإذا وقعت نطفة الأول في ساعة مثلًا ووقعت نطفة الثاني عقيب تلك الساعة صار كله ماءً واحدًا فلم يتعلق الخلق بالماء الأول وحده، بل إنما تعلق به العد، وذا لا يضر ولا ينافي أن يكون الولد من ماءين أو أكثر، ولو لم يكن هذا جائزًا لما حكم به عمر - رضي الله عنه - حيث جعل الولد فيما ذكرنا بين الاثنين، وكذلك على بن أبي طالب - رضي الله عنه - حكم كذلك، على ما يأتي الآن. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2036 رقم 2643).

ص: وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في ذلك أيضًا: ما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن مولى لبني مخزوم قال: "وقع رجلان على جارية في طهر واحد، فعلقت الجارية، فلم يُدر من أيهما هو، فأتيا عمر - رضي الله عنه - يختصمان في الولد، فقال عمر - رضي الله عنه -: ما أدري كيف أقضي في هذا، فأتيا عليًّا - رضي الله عنه -، فقال: هو بينكما يرثكما وترثانه، وهو للباقي منكما". فهذا علي - رضي الله عنه - قد حكم بالولد لمدعييه جميعًا فجعله ابنهما، ولم يَحْتَجْ في ذلك إلى قول القافة، فبهذا نأخذ. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: إسناده فيه مجهول، والباقي ثقات. ويوسف بن عدي شيخ البخاري، وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وسماك هو ابن حرب. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن الثوري، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه أتاه رجلان وقعا على امرأة في طهر واحد، فقال: الولد بينكما، وهو للباقي منكما". ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن حنش، عن علي - رضي الله عنه -. وهذا السند على شرط مسلم، وإليه ذهب الكوفيون، وأكثر أهل العراق، وعمل بذلك أبو ثور فقال: إذا قال القافة: الولد بينهما؛ لحق بهما وورثهما وورثاه. وقال الشافعي: إذا كبر الولد قيل له انتسب إلى أيهما شئت. فهذا الشافعي لم يعمل هاهنا بقول القافة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 359 رقم 13473). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 286 رقم 31466).

ص: باب: الرجل يبتاع السلعة فيقبضها ثم يموت أو يفلس وثمنها عليه دين

ص: باب: الرجل يبتاع السلعة فيقبضها ثم يموت أو يفلس وثمنها عليه دين [ص] (¬1): حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أيما رجل أفلس، فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد، أنه أخبره أنه سمع عمر بن عبد العزيز يحدث، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه سمع أبا هريرة يحدث، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وبشر بن عمر (ح). وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالوا: ثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري القاضي، عن أبي بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي المدني، عن الإِمام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بن مروان، عن ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك" كتب حرف "ش"، ولم يذكر الشرح ثم سرد الأحاديث دون وضع حرف "ص" كعادته.

أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني، أحد الفقهاء السبعة، عن أبي هريرة. وهذا الحديث أخرجه الجماعة على ما يأتى: فأخرجه أبو داود (¬1): عن القعنبي، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني البصري، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن ليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم. . . . إلى آخره، وقال: حسن صحيح. الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن ليث، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4) عن ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، وعن ابن رمح عن الليث، جميعًا عن يحيى بن سعيد، به. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وبشر بن عمر، كلاهما عن شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس بن مالك الأنصاري، عن بَشير -بفتح الباء الموحدة- بن نَهِيك -بفتح النون- السدوسي، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 286 رقم 3519). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 562 رقم 1262). (¬3) "المجتبى" (7/ 311 رقم 4676). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 790 رقم 2358).

وأخرجه مسلم (¬1) عن أبي موسى، عن غندر وابن مهدي، عن شعبة. وعن زهير، عن ابن علية، عن سعيد. وعن زهير بن حرب، عن معاذ بن هشام، عن أبيه. كلهم عن قتادة، عن النضر، عن بَشير بن نَهيك بهذا. السادس: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن قتادة، عن النضر، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬2) عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن يحيى بن سعيد الأنصاري. . . . إلى آخره. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا اشترى عبدًا بثمن، وقبض العبدَ ولم يدفع ثمنه، فأفلس المشتري وعليه دين والعبد قائم في يده بعينه؛ أن بائعه أحق به من غيره من غرماء المشتري، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير وطاوسًا وعامرًا الشعبي والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وداود؛ فإنهم [قالوا] (¬3): صاحب السلعة أحق بها في هذه الصورة. وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال أبو عمر (¬4): حديث التفليس هذا من رواية الحجازيين والبصريين حديث صحيح عند أهل النقل ثابت، وأجمع فقهاء الحجاز وأهل الأثر على القول بجملته وإن اختلفوا في أشياء من فروعه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1194 رقم 1559). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 846 رقم 2272). (¬3) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬4) "التمهيد" (8/ 410 - 412).

ثم قال: واختلف مالك والشافعي في المفلس يأبي غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها وقد وجدها بعينها، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل، فقال مالك: ذلك لهم، وليس لصاحبها أخذها إذا دفع إليه الغرماء الثمن. وقال الشافعي: ليس للغرماء في هذا مقال، قال: وإذا لم يكن للمفلس ولا لورثته أخذ السلعة، فالغرماء أبعد من ذلك، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها وإن شاء تركها وضرب مع الغرماء. لأنه -عليه السلام- جعل صاحبها أحق بها منهم. وبه قال أبو ثور وأحمد وجماعة. واختلف مالك والشافعي أيضًا إذا اقتضي صاحب السلعة من ثمنها شيئًا، فقال ابن وهب وغيره، عن مالك: إن أحب صاحب السلعة أن يرد ما قبض من الثمن ويقبض سلعته كان ذلك له. وقال الشافعي: لو كانت السلعة عبدًا فأخذ نصف ثمنه ثم أفلس الغريم كان له نصف العبد، لأنه بعينه وبيع النصف الثاني الذي بقي للغرماء، ولا يرد شيئًا مما أخذ؛ لأنه مستوف لما أخذ. وبه قال أحمد. واختلف مالك والشافعي في المفلس يموت قبل الحكم عليه وقبل توقيفه، فقال مالك: ليس حكم المفلس كحكم الميت، وبائع السلعة إذا وجدها بعينها أسوة للغرماء في الموت، بخلاف التفليس. وبه قال أحمد. انتهى. وقال ابن حزم: قال قتادة: من وجد بعض سلعته -قل أو كثر- فهو أحق بها من سائر الغرماء في التفليس في الحياة، وأما بعد الموت فهو أسوة الغرماء فيها. وقال الشافعي: إن وجدها أو بعضها فهو أحق بها -أو بالذي وجد منها- من الغرماء -ولم يخص حياة من موت- قال: فإن كان قبض من الثمن شيئًا فهو أحق بما بقي له فقط.

وقال أحمد: هو أحق بها في الحياة وأما في الموت فهو أسوة الغرماء. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بائع العبد وسائر الغرماء فيه سواء؛ لأن ملكه قد زال عن العبد، وخرج من ضمانه، فإنما هو في مطالبته غريم من غرماء المطلوب، يطالبه بدين في ذمته لا وثيقة في يديه به، فهو وهم في جميع ماله سواء. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والحسن البصري والشعبي -في رواية- ووكيع بن الجراح وعبد الله بن شبرمة قاضي الكوفة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر -رحمهم الله-؛ فإنهم قالوا: بائع السلعة أسوة الغرماء. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. وروى وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي بن أبي طالب قال: "هو فيهما أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها، إذا مات الرجل وعليه دين وعنده سلعة قائمة لرجل بعينها، فهو أسوة الغرماء. قال ابن حزم: وهو قول إبراهيم النخعي والحسن. وقال الشعبي: من أعطى إنسانًا مالًا مضاربة، فمات فوجد كسبه بعينه؛ فهو والغرماء فيه سواء. وصح عن عمر بن عبد العزيز أن من أقبض من ثمن سلعة شيئًا ثم أفلس، فهو أسوة الغرماء وهو قول الزهري. ص: وكان من حجتهم على أهل المقالة الأولى على فساد ما ذهبوا إليه واحتجوا به لقوهم من حديث أبي هريرة الذي ذكرنا: أن الذي في ذلك الحديث "فأصاب رجل ماله بعينه"، والمبيع ليس هو عين ماله وإنما هو عين مال قد كان له، وإنما ماله بعينه يقع على الغصوب والعواري والودائع وما أشبه ذلك، فذلك ماله بعينه فهو أحق به من سائر الغرماء، وفي ذلك جاء هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- وإنما يكون هذا الحديث حجة لأهل المقالة الأولى لو كان: "فأصاب رجل عين مال قد كان له، فباعه من الذي وجده في يده ولم يقبض منه ثمنه فهو أحق به من سائر الغرماء" فهذا الذي

يكون حجة لهم لو كان لفظ الحديث كذلك , فأما إذا كان على ما روينا في الحديث؛ فلا حجة لهم في ذلك، وهو على الودائع والغصوب والعواري والرهون أموال الطالبين في وقت المطالبة بها وذلك كما جاء عن رسول الله -عليه السلام- في حديث سمرة - رضي الله عنه -، فإنه حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن سعيد بن زيد بن عقبة، عن أبيه، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ومن سرق له متاع -أو ضاع له متاع- فوجده في يد رجل بعينه، فهو أحق بعينه، ويرجع المشتري على البائع بالثمن". ش: أي: وكان من حُجَّة هؤلاء الآخرين، وأراد بها الجواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من حديث أبي هريرة المذكور، وبيانه أن يقال: استدلالهم به لما ذهبوا إليه فاسد؛ وذلك لأن المذكور في الحديث "فأصاب رجل ماله بعينه". والمبيع ليس هو عين ماله؛ لأنه خرج عن ملكه بالعقد وملكه المشتري فكأن العين قد تبدلت بتبدل الملك الوارد عليها، نعم قد كان ذلك عين ماله قبل ورود العقد عليه. وقوله: "ماله بعينه" إنما يقع على الغصوب والعواري والودائع ونحوها؛ لقيام ملكه فيها، والحديث إنما يكون حجة لهؤلاء لو كان رجل أصاب غير ماله الذي قد كان له، فباعه من الرجل الذي وجده في يده، والحال أنه لم يقبض منه ثمنه، فهو أحق به من سائر الغرماء، فلو كان لفظ الحديث هكذا كان يكون حجة لهم، فأما إذا كان على اللفظ الذي روي فيما مضى، فليس لهم فيه حجة، وإنما هو على الغصوب والودائع والرهون ونحوها، والدليل على ذلك ما روى عن سمرة بن جندب. أخرجه عن محمَّد بن عمرو بن يونس الثعلبي السوسي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن الحجاج بن أرطاة النخعي فيه مقال، عن سعيد بن زيد الفزاري الكوفي وثقه ابن حبان، عن أبيه زيد بن عقبة الفزاري الكوفي -أخي حصين بن عقبة، وثقه العجلي والنسائي وروى له وأبو داود والترمذي أيضًا.

وأخرجه الطبراني (¬1): نا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ح). وحدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن سعيد بن زيد. . . . إلى آخره نحوه. فهذا يبين أن المراد من حديث أبي هريرة أنه على الودائع والعواري ونحوهما، وأن صاحب المتاع أحق به إذا وجده في يد رجل بعينه، وليس للغرماء فيه نصيب، لأنه باق على ملكه ولم يخرج؛ لأن يد الغاصب يد التعدي والظلم، وكذلك يد السارق، بخلاف ما إذا باعه وسلمه إلى المشتري، فإنه يخرج عن ملكه وإن لم يقبض الثمن. ص: فقال أهل المقالة الأول: لو كان الحديث على ما ذكرتم من التأويل الذي وصفتم؛ إذا لما كان بنا إلى ذكر النبي -عليه السلام- ذلك من حاجة؛ لأن هذا تعلمه العامة فضلًا عن الخاصة، فالكلام بذلك فضل وليس من صفته -عليه السلام- الكلام بالفضل ولا الكلام بما لا فائدة فيه، فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: أن ذلك ليس بفضل بل هو كلام صحيح وفيه فائدة؛ وذلك أنه أعلمهم أن الرجل إذا أفلس فوجب أن يقسم جميع ما في يده بين غرمائه، فثبت ملك رجل لبعض ما في يده؛ أنه أولى بذلك، وإذا كان الذي ذلك في يده قد ملكه وغَرَّ فيه؛ فلا يجب له فيه حكم إذ كان مغرورًا؛ فعلمهم بهذا الحديث ما علمهم بحديث سمرة - رضي الله عنه -، وبقي أن يكون المغرور الذي يُشكِل حكمه عند العامة يستحق بذلك المغرور شيئًا، فهذا وجهٌ لهذا الحديث صحيح. ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى على ما ذكره أهل المقالة الثانية من التأويل المذكور في حديث أبي هريرة، وهو ظاهر، وأجاب عن ذلك بقوله: فكان من الحجة للآخرين عليهم -أي على أهل المقالة الأولى وهو ظاهر. قوله: "أنه أعلمهم" أي أن رسول الله -عليه السلام- أعلم أمته. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 185 رقم 6781).

قوله: "أنه أولى" جملة وقعت خبرًا في قوله: "أن الرجل". قوله: "إذْ كان" "إذْ" هاهنا للتعليل. قوله: "صحيح" مرفوع؛ لأنه صفة لقوله: "فهذا وجه". ص: فقال أهل المقالة الأولى: فقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه بألفاظ غير ألفاظ الحديث الأول، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى بالسلعة يبتاعها الرجل فيفلس وهي عنده بعينها , ولم يقبض البائع من ثمنها شيئًا أن ترد إلى صاحبها، فإن كان صاحبها قد قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرماء، قال أبو بكر: وقضى رسول الله -عليه السلام- أنه من توفي وعنده سلعة رجل بعينه لم يقبض من ثمنها شيئًا؛ فصاحب السلعة أسوة الغرماء". قالوا: فقد بان بهذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- إنما أراد في الحديث الأول الباعة لا غيرهم. ش: هذا منع من جهة أهل المقالة الأولى لما قاله أهل المقالة الثانية من التأويل المذكور في حديث أبي هريرة، وذلك أنهم قالوا: إن حديث أبي هريرة محمول على الودائع والعواري والغصوب ونحوها، وجه المنع أن يقال: إن ما ذكرتم من ذلك يبطله ما روي عنه -عليه السلام-: "أنه قضي بالسلعة يبتاعها الرجل. . . ." الحديث فإنه قد بَيَّن أن المراد في حديث أبي هريرة هو الباعة لا غيرهم، وهو جمع بائع، كالجاكة جمع جائك. وهو ما أخرجه بإسناد مرسل: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، قيل اسمه محمَّد، والصحيح أن اسمه وكنيته سواء.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) وفي "الخلافيات": أنا أبو أحمد عبد الله بن محمَّد ابن الحسن العدل، أنا أبو بكر بن جعفر، نا محمَّد بن إبراهيم، نا بكير، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه منه شيئًا فوجده بعينه، فهو أحق به من غيره، وإن مات المشترى فصاحب المتاع أسوة الغرماء". وقال ابن حزم (¬2): وأما من فرق بين الموت والحياة وبين أن يدفع من الثمن شيئًا أو لا يدفع منه شيئًا فإنهم احتجوا بآثار مرسلة، منها طريق مالك ويونس بن عبيد، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، أن رسول الله -عليه السلام-. وعن عمر بن عبد العزيز، أن رسول الله -عليه السلام-. وإسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، أن رسول الله -عليه السلام-. ومسند من طريق إسماعيل بن عياش وبقية، كلاهما عن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام-[وبقية وإسماعيل ضعيفان. وآخر من طريق إسحاق بن إبراهيم بن جوتي عن عبد الرزاق، عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام-] (¬3) قال: "أيما رجلٌ باع رجلًا متاعًا، فأفلس المبتاع ولم يقبض الذي باع من الثمن شيئًا، فإن وجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها، وإن مات المشترى فهو أسوة الغرماء" فإن إسحاق بن إبراهيم بن جوتي مجهول وهذا غير معروف من حديث مالك. وخبر آخر من طريق عبد الرزاق، عن وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن بشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثل حديث الزهري، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 46 رقم 11037) سند مختلف. (¬2) "المحلى" (8/ 179). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، ولعله انتقال نظر من المؤلف -رحمه الله-، والمثبت من "المحلى".

هكذا لم يذكر متنه ولا لفظه، ثم هو منقطع , لأن قتادة لم يسمعه من بَشير بن نَهيك إنما سمعه من النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، هكذا رويناه من طريق شعبة وسعيد بن أبي عروبة والدستوائي كلهم عن قتادة، مثل قولنا. ثم لو صحت هذه الآثار لكانت مخالفة لقول مالك والشافعي؛ لأن في جميعها الفرق بين الموت والحياة، والشافعي لا يفرق بينهما، وفي جميعها الفرق بين أن يكون قبض من الثمن شيئًا وبين أن لا يكون قبض، ومالك لا يفرق بينهما؛ فحصل قولهما مخالفًا لكل الآثار. ص: فكان من الحجة عليهم: أن هذا الحديث منقطع لا يقوم بمثله حجة، فإن قالوا: إنما قبلناه وإن كان منقطعًا؛ لأنه بين ما أشكل في الحديث المتصل. قيل لهم: قد كان ينبغي لكم لما اضطرب حديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا فرواه عنه الزهري كما ذكرنا آخرًا، ورواه عنه عمر بن عبد العزيز على ما وصفنا أولًا، أن ترجعوا إلى حديث غيره وهو بَشير بن نَهيك فتجعلونه أصل حديث أبي هريرة، وتسقطون ما خالفه، فإذا فعلتم ذلك عادت الحجة الأولى عليكم، وإن لم تفعلوا ذلك كان لخصمكم أيضًا أن يقول: هذا الحديث الذي رواه الزهري عن أبي بكر ففرق فيه بين حكم التفليس والموت هو غير الحديث الأول، فيكون الحديث الأول عنده مستعملًا من حيث تأوله ويكون هذا الحديث الثاني حديثًا منقطعًا شاذًّا لا تقوم بمثله حجة، فيجب لذلك ترك استعماله، فهذا الذي ذكرنا هو وجه الكلام في الآثار المروية في هذا الباب. ش: أي: فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما قالوه من قولهم: "فقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. وقد ذكرنا ما قاله ابن حزم آنفًا.

ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا الرجل إذا باع من رجل شيئًا، كان له أن يحبسه حتى ينقده الثمن، وإن مات المشتري وعليه دين فالبائع أحق بذلك الشيء من سائر الغرماء، وإن دفعه إلى المشترى ثم مات وعليه دين فالبائع أسوة الغرماء، فكان البائع متى كان محتبسًا لما باع حتى مات المشترى كان أولى به من سائر غرماء المشتري، ومتى دفعه إلى المشتري وقبضه منه فمات، فهو وسائر غرماء المشتري فيه سواء، فكان الذي يوجب له الانفراد بثمنه دون الغرماء إنما هو بقاؤه في يده، فلما كان ما وصفنا كذلك؛ كان كذلك إفلاس المشترى إن كان العبد في يد البائع أولى به من سائر غرماء المشتري، وإن كان قد أخرجه من يده إلى المشتري؛ فهو وسائر غرمائه فيه سواء، فهذه حجة صحيحة. ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس: فإنا رأينا. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "فهذه" إشارة إلى ما ذكره من وجه القياس، والتأنيث باعتبار الحجة. ص: وحجة أخرى: أَنَّا رأيناه إذا لم يقبضه المشتري وقد بقي للبائع كل الثمن أو نقده بعض الثمن وبقيت له عليه طائفة منه؛ أنه أولى بالعبد حتى يستوفي ما بقي له من الثمن، فكان ببقائه في يده أولى به إذا كان له كل الثمن أو بعض الثمن، ولم يفرق بين شىء من ذلك، بل جعل حكمه حكمًا واحدًا، فلما كان ذلك كذلك، وأجمعوا أن المشتري إذا قبض العبد ونقد البائع من ثمنه طائفة ثم أفلس المشتري؛ أن البائع لا يكون بتلك الطائفة الباقية له أحق بالعبد من سائر الغرماء، بل هو وهم فيه سواء، وكذلك إذا بقي له ثمنه كله حتى أفلس، فلا يكون بذلك أحق بالعبد من سائر الغرماء، ويكون هو وهم فيه سواء، فيستوى حكمه إذا بقي له كل الثمن على المشتري أو بعض الثمن حتى أفلس المشتري، كما استوى بقاؤهما جميعًا له عليه حتى كان الموت الذي أجمعوا فيه على ما ذكرنا؛ فثبت بالنظر ما ذكرنا من ذلك. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.

ش: أراد بها وجهًا آخر في القياس الصحيح وهو أيضًا ظاهر. قوله: "رأيناه" أي المباع. قوله: "طائفة منه" أي من الثمن، وأراد بالطائفة بعض الثمن؛ لأن الطائفة من الشيء هي قطعة منه. قوله: "بل هو وَهُمْ" أي الغرماء. ص: وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم. وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن أشعث مولى آل حمران، عن الحسن قال: "هو أسوة الغرماء". ش: هذان أثران ذكرهما شاهدًا لصحة القياس المذكور: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي. الثاني: عن سليمان أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن أشعث بن عبد الملك الحمراني -وهو حمران مولى عثمان بن عفان، وثقه النسائي وغيره. قوله: "هو أسوة الغرماء" أي صاحب السلعة أسوة لغرماء المشتري الذي أفلس أو مات وعليه دين، والأسوة بالكسر والضم لغتان، والمعنى هاهنا: مُساوٍ للغرماء، ومادته: (ألف، وسين، وياء) فافهم.

ص: باب: شهادة البدوي هل تقبل على القروي

ص: باب: شهادة البدوي هل تقبل على القروي ش: أي: هذا باب في بيان شهادة أهل البادية هل تقبل على أهل القري؟ و"البدوي" من سكن في البادية، وهو نسبة إلى البدو لا إلى البادية؛ لأن النسبة إلى البادية بادوي، والنسبة إلى البدو بدوي، والبدو والبادية واحد. و"القروي" نسبة إلى القرية. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني نافع بن يزيد ويحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تقبل شهادة البدوي على القروي". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. وابن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني. وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن سعيد الهمداني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد، عن ابن الهاد، عن محمَّد بن عمرو، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن حرملة، عن ابن وهب، عن نافع بن يزيد، عن ابن الهاد. . . . إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الشهادة من أهل البادية غير مقبولة على أهل الحضر، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن يسار ومالك بن أنس وطائفة من المحدثين، فإنهم ذهبوا إلى ظاهر هذا الحديث، وقالوا: لا تجوز شهادة البدوي على أهل المدينة والقرى والريف. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 306 رقم 3602). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 793 رقم 2367).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما ما كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي وفيه من أسباب العدالة ما في أهل العدالة من أهل الحضر؛ فشهادته مقبولة، وهو كأهل الحضر، ومن كان منهم لا يجيب إذا دعي، فلا تقبل شهادته. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: البدوي إذا كان عدلًا ظاهر العدالة وممن يجيب إذا دعي؛ تقبل شهادته، وإن كان من أهل الجفاء والغلظ غير ظاهر العدالة ولا يجيب إذا دعي؛ فإنه لا تقبل شهادته. وقال الخطابي: إنما قال -عليه السلام-: "لا تقبل شهادة البدوي على القروي" لما في أهل البادية من الجفاء في الدين ومن الجهالة بأحكام الشريعة، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها , ولا يقيمونها على حقها؛ لقصور علمهم عما يحيلها ويُغَيرِّها عن جهتها، وأما إذا كان عدلًا يقيم الشهادة على وجهها فإن شهادته جائزة، وهو قول عامة أهل العلم. وقال أيضًا: والذي يُشهِد بدويًا ويدع جيرته من أهل الحضر؛ عندي مريب. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في تبيان ذلك ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قدمت أم سنبلة الأسلمية ومعها وطب من لبن تهديه لرسول الله -عليه السلام-، فوضعته عنده ومعها قدح لها، فدخل النبي -عليه السلام- فقال: مرحبًا وأهلأ يا أم سنبلة فقالت: بأبي أنت وأمي، أهديت لك هذا الوطب من لبن، قال: بارك الله عليك صُبِّي في هذا القدح، فصبت له في القدح، فلما أخذه قلتُ: قد قلتَ لا أقبل هدية من أعرابي! فقال: أأعراب أسلم يا عائشة؟ إنهم ليسوا بأعراب ولكنهم أهل باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، إذا دعوناهم أجابونا وإذا دعونا أجبناهم، ثم شرب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن دينار، عن عروة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- بنحوه، وزاد في آخره: "فليسوا بالأعراب". فأخبر رسول الله -عليه السلام- أن من كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي فهو كالحضري، وأن الأعراب المذمومين الذين لا تقبل هداياهم خلاف هؤلاء، وهم الذين لا يجيبون إذا دعوا، فمن كان كذلك لم تقبل شهادته وهم الذين عناهم رسول الله -عليه السلام- في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا فيما نرى والله أعلم. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في بيان المراد من قوله: "لا تقبل شهادة البدوي على القروي" وهو حديث عائشة - رضي الله عنها -، فإنه -عليه السلام- أخبر فيه أن من كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي فهو كالحضري، فمن كان كذلك فشهادته تقبل على الحضري وغيره، ومن كان بخلاف ذلك فلا تقبل. وأخرجه من ثلاث صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمَّد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان المدني، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): نا عقبة بن مكرم، نا يونس، نا محمَّد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا أقبل هدية من أعرابي، فجاءته أم سنبلة الأسلمية بوطب لبن أهدته له، فقال: أفرغي منه في هذا الثعب فأفرغت، فتناوله فشرب، وقلت: ألم تقل: لا أقبل هدية من أعرابي فقال: إن أعراب أسلم ليسوا بأعراب، ولكنهم أهل باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، إن دعونا أجبناهم وإن دعوناهم أجابوا". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (8/ 209 رقم 4773).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن بكير الشيباني، عن محمَّد بن إسحاق. . . . إلى آخره. الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن سعيد بن كثير بن عفير، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن عبد الرحمن بن حرملة بن عمرو المدني، عن عبد الله بن نِيَار بكسر النون بعدها الياء آخر الحروف المخففة وفي آخره راء. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يحيى بن غيلان، نا المفضل، حدثني يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن عبد الله بن نِيَار الأسلمي، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "أهدت أم سنبلة لرسول الله -عليه السلام- لبنًا فلم تجده، فقالت لها: إن رسول الله -عليه السلام- قد نهي أن يؤكل من طعام الأعراب، فدخل رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر فقال: ما هذا معك يا أم سنبلة؟ قالت: لبن أهديته لك يا رسول الله، قال: اسكبي أم سنبلة، فسكبت، فقال: ناولي أبا بكر ففعلت، فقال: اسكبي أم سنبلة فسكبت، فناولي عائشة فناولتها فشربت، ثم قال: اسكبي أم سنبلة فسكبت فناولته رسول الله -عليه السلام- فشرب، قالت عائشة: ورسول الله -عليه السلام- يشرب من لبن أسلم وأبردها على الكبد يا رسول الله؛ قد كنت حدثت أنك قد نهيت عن طعام الأعراب؟! فقال: يا عائشة: إنهم ليسوا بأعراب، وهم أهل باديتنا ونحن أهل حاضرتهم، وإذا دُعوا أجابوا فليسوا بالأعراب". قوله: "وطب" بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وفي آخره باء موحدة، وهو الزق الذي يكون فيه السمن واللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه، وجمعه أوطاب ووطاب. قوله: "أأعرابٌ أسلم؟ " أراد أن أسلم ليسوا بأعراب، والهمزة الأولى فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، والثانية همزة الجمع، وأسلم -بفتح اللام- ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 133 رقم 25054).

ابن أقصى، وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ومنهم سلمة بن الأكوع. وفي مذحج أسلم أيضًا حيّ باليمن، وهو أسلم بن أوس الله بن سعد العشيرة بن مذحج. وفي عيلة أسلم، بطن، وهو أسلم بن عمرو بن لؤي بن رهّم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن عيلة ذكره ابن الكلبي. وأما الأعراب فقال الجوهري: هم سكان البادية خاصة، والنسبة إلى الأعراب أعرابي، لأنه لا واحد له من لفظه، وليس الأعراب جمعًا لعرب كما أن الأنباط جمع لنبط، وإنما العرب اسم جنس. ومعنى قوله -عليه السلام-: "أسلم ليسوا بأعراب" وإن كانوا من سكان البادية؛ لأنهم كالحضر في أحكام الدين وأحكام الشريعة والمعاملات مع الناس، وليسوا كغيرهم من سكان البادية في الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة، وعدم الضبط في الأمور. قوله: "باديتنا" البادية خلاف الحاضرة، والبادي خلاف الحاضر، والحاضرة: هي المدن والقرى والريف، يقال: فلان من أهل البادية وفلان من أهل الحاضرة. قوله: "عناهم" أي قصدهم، وأراد بحديث أبي هريرة: الذي احتجت به أهل المقالة الأولى (¬1). ¬

_ (¬1) كتب المؤلف هنا: فرغت يمين مؤلفه عن تنقيح هذا الجزء يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد عام تسعة عشر وثمانمائة بحارة كتامة بالقاهرة المحروسة بمدرسته التي أنشأها فيها عمرَّها الله بذكره، والسؤال من فضله ولطفه الخفي البلوغ إلى آخره؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين، يتلوه الجزء الثامن إن شاء الله تعالى وأوله: كتاب الأيمان والنذور.

نُخَب الأَفْكَارِ فِي تَنقِيحِ مَبَانِي الأَخَبار فِي شَرْح مَعَاني الآثارِ تَألِيفُ الإِمَام بَدْر الدّيِن العَيْنِيِّ مَحَمُود بنِ أحمَد بنِ مُوسَى العَينتَابيِّ الحَلَبِيِّ ثُمَ القَاهِرِيِّ الحَنَفِيِّ المولود سنه 762هـ والمتوفى سنة 875هـ رَحِمَهُ الله تَعَالى المُجَلَّدُ الخَامِسَ عَشَرَ حَقّقهُ وَضَبَطَ نَصَّهُ أَبُو تَمِيم يَاسر بن إِبرَاهِيم إصدارات وَزَارَةِ الأَوْقَافِ وَالشُّؤُوْن الإِسلاَمِيّةُ إِدَارَةُ الشّؤُونِ الإِسلاَمِيَةِ -دَولةِ قَطَر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نُخب الأَفكَارِ

حُقُوق الطَّبع محَفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دوله قطر الطَبَعة الأولى / 1429 هـ -2008م قامت بعمليات الإخراج الفني والطباعة دَارُ النَّوادِر لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّيْن طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

(¬1) كل مسكين مدّ بيضاء". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني سفيان الثوري، عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا كفر يمينه فأطعم عشرة مساكين بالمد الأصفر، وقال: إن ذلك يجزئ عنه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالك أخبره، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "من حلف بيمين فوكدَّها ثم حنث، فعليه عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، ومن حلف على يمين فلم يوكدها ثم حنث، فعليه إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مُدّ من حنطة". ¬

_ (¬1) الورقة الأولى في هذا المجلد مطموسة من "الأصل، ك". وهي من أول كتاب الأيمان والنذور ونصها كالتالي في "ش": كتاب الأيمان والنذور باب المقدار الذي يعطي كل مسكين من الطعام والكفارات حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي قال: ثنا هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رجلًا قال: إني وقعت بأهلي في رمضان، قال له: اعتق رقبة، قال: ما أجدها يا رسول الله، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا، قال: ما أجده يا رسول الله، قال: فَأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكتل فيه قدر خمسة عشرة صاعًا تمرًا فقال: خذها فتصدق به، قال: أعلى أحوج مني وأهل بيتي؟! قال: فكله أنت وأهل بيتك وصم يومًا مكانه واستغفر الله". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الإطعام في كفارات الأيمان إنما هو مدٌّ لكل مسكين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل في الحديث الذي ذكرنا أن يطعم ستين مسكينًا، خمسة عشرة صاعًا، فالذي يصيب كل مسكين منهم مدٌّ مدٌّ، قالوا: وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفارات الأيمان إلى ما قلنا، فذكروا في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن، أن أبا حازم حدثه، عن أبي جعفر مولى ابن عباس، عن ابن عباس: "أنه كان يقول: في كفارات الأيمان إطعام عشرة مساكين. . . .

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قال: "يُجزئ في كفارة اليمين مدُّ حنطة لكل مسكين". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني الخليل بن مرة، أن يحيى بن أبي كثير حدثه. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: أي قال هؤلاء القوم: قد ذهب جماعة من الصحابة إلى ما قلنا من أن الكفارة في اليمين هو مدٌّ لكل مسكين، وأخرج في ذلك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم-. أما عن ابن عباس فأخرجه من طريقين ثانيهما صحيح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد القاري المدني، عن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن أبي جعفر مولى ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬1). الثاني: عن يونس أيضًا. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن فضيل وابن إدريس، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: "في كفارة اليمين: مدٌّ ربعه إدامه". وأما عن ابن عمر: فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا حنث أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدّ من حنطة". ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وذكره في "المغاني" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وإنما قال: روى عن ابن عباس، وروى عنه أبو حازم سلمة بن دينار، روى له أبو جعفر الطحاوي. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 71 رقم 12205). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 72 رقم 12207).

الثاني: عن يونس أيضًا. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأما زيد بن ثابت فأخرجه أيضًا من طريقين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن وكيع، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير. . . . إلى آخره. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الخليل بن مرة البصري، قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي: ليس بالقوي عند أصحاب الحديث. وقال أبو زرعة: شيخ صالح. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجزئ في الإطعام في كفارة الأيمان إلا مدين مدين لكل مسكين، ويجزئ من التمر صاع كامل، وكذلك الشعير. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا، ومحمد بن سيرين، وجابر بن زيد، وعامرًا الشعبي، والثوري، وإبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: لا يجوز في الإطعام في كفارة اليمين إلا نصف صاع لكل مسكين، وهو من الحنطة مدَّان؛ لأن الصاع أربعة أمداد، ومن التمر والشعير صاع كامل، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وهو رواية عن سعيد بن المسيب وقتادة. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 479 رقم 1018). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 72 رقم 12206).

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأولى: أنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- لما علم حاجته أعطاه ما أعطاه من التمر؛ ليستعين به فيما وجب عليه، لا على أنه جميع ما وجب عليه، كالرجل يشكو إليه ضعف حاله وما عليه من الدين، فيقول: خذ هذه العشرة الدراهم فاقض بها دينك، ليس على أنها تكون قضاء عن جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء بمقدارها من دينه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عن الحديث استدلوا به لما ذهبوا إليه وهو ظاهر. ص: وقد رُوِيَ عن النبي -عليه السلام- مقدارٌ ما يجب من الطعام في كفارة من الكفارات وهي ما تجب في حلق الرأس في الإحرام من أذى، فجعل ذلك مُدّين من حنطة لكل مسكين. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: سمعتُ عبد الله بن مَعْقل يقول: "قعدتُ إلى كعب بن عجرة في المسجد، فسألته عن هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1) فقال: فيّ أُنزلت، حُمِلْتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى أن الجهد بلغ بك هذا، أَوَ بَلَغَ بك ما أرى؟ فنزلت فيّ خاصّة، ولكم عامّة، فأمرني أن أحلق رأسي، وأن أنسك نسيكة، أو أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع من حنطة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن ابن الأصبهاني، عن عبد الله بن مَعْقل، عن كعب بن عجرة، عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه قال: "وأطعم فرقًا في ستة مساكين". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [196].

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا وُهَيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبيّ، قال: حدثني كعب بن عجرة، مثله، غير أنه قال: "كل مسكين نصف صاع من تمر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عُمر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه لم يذكر التمر. حدثنا أبو شريح محمد بن زكرياء، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان الثوري (ح). وحدثنا نصر، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا وُهَيْب، قالا جميعًا: عن أيوب، عن مجاهد: فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، فذكر بإسناده مثله. حدثنا إسماعيل بن يحيى، المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا مالك بن أنس، عن حميد بن قيْس، عن مجاهد، فذكر بإسناده مثله. حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن يحيى بن جَعْدة، عن كعب بن عجرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. وزاد: "وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الكريم بن مالك الجزريّ، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن كعب بن عجرة،

عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه لم يذكر الزيادة التي فيها على ما في الأحاديث التي قبله فكان الذي أمر به النبي -عليه السلام- من الإطعام في هذه الآثار مع تواترها نصف صاع من حنطة لكل مسكين، فَأُجْمِع على العمل بذلك في كفارة حلق الرأس. وجاء عنه في إطعام المساكين في الظهار من التمر: حدثنا فهد، قال: ثنا فروة [بن أبي المغراء] (¬1) قال: ثنا يحيى بن أبي زكرياء، عن محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة بن أخي عبادة بن الصامت: "أن رسول الله -عليه السلام- أعان زوجها حين ظاهر منها بعرق من تمر، وأعانته هي بعرق آخر، وذلك ستون، وقال رسول الله -عليه السلام-: تصدق به. وقال: اتقي الله وارجعي إلى زوجك". فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك إطعام كل مسكين في كل الكفارات؛ من الحنطة نصف صاع ومن التمر صاع. ش: لما كانت الكفارة في حلق الرأس في الإحرام هي الإطعام من المقدار المعين على ما في هذه الأحاديث، وهي نصف صاع من الحنطة لكل مسكين؛ ذكر هذه الأحاديث ليقيس عليها إطعام كل مسكين في كل الكفارات، وهو أن يكون من الحنطة نصف صاع، ومن التمر صاع، ثم لا خلاف أن الإطعام في كفارة حلق الرأس في الإحرام نصف صاع. قال أبو عمر: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مُدَّان بمُدِّ النبي -عليه السلام-. وهو قول أبي ثور وداود. ورُوِيَ عن الثوري أنه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "عن أبي المغيرة"، والمثبت هو الصواب. انظر المقتنى في سرد الكنى (1/ 926).

ورُوِيَ عن أبي حنيفة: نصف صاع بُرّ عدل صاع تمر. وقال أحمد بن حنبل: مرة كما قال مالك والشافعي ومرة قال: إن أطعم برًّا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرًا فنصف صاع. ثم إنه أخرج حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - من اثني عشر طريقًا، كلها صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني الكوفي، عن عبد الله بن مَعْقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف- بن مقرن المزني الكوفي، عن كعب بن عجرة. وأخرجه البخاري (¬1): عن أبي الوليد، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن مَعْقِل. . . . إلى آخره نحوه. ورواه (¬2) أيضًا: عن آدم، عن شعبة. وأخرجه مسلم (¬3): عن أبي موسى وبندار، [عن محمد بن جعفر] (¬4) عن شعبة، عن ابن الأصبهاني. . . . إلى آخره. ورواه (¬5) أيضًا: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن زكرياء ابن أبي زائدة، عن ابن الأصبهاني. . . . إلى آخره نحوه. والنسائي (¬6): عن ابن المثنى وابن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن ابن الأصبهاني. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 645 رقم 1721). (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1642 رقم 4245). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 861 رقم 1201). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم"، وسيأتي عند النسائي بهذه الزيادة. (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 862 رقم 1201). (¬6) "المجتبى" (2/ 448 رقم 4113).

وابن ماجه (¬1): عن ابن بشار ومحمد بن الوليد، عن غندر، عن شعبة، به. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني. . . . إلى آخره. الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح الحارثي، عن وُهِيْب ابن خالد، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عامر الشعبي. وأخرجه أبو داود (¬2): عن ابن مثنى، عن الثقفي. وعن نصر بن علي، عن يزيد بن زريع، جميعًا عن داود، عن عامر، به. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وأخرجه الترمذي (¬3): عن علي بن حُجْر، عن هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن. . . . نحوه. الخامس: عن أبي شريح محمد بن زكريا بن يحيى القضاعي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أيوب السختياني، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب. وأخرجه النسائي (¬4): عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن. . . . نحوه. السادس: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح، عن وهيب بن خالد، عن أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1028 رقم 3079). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 172 رقم 1858). (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 212 رقم 2973). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 447 رقم 4110).

وأخرجه مسلم (¬1): عن عُبيد الله القواريري وأبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نحوه. السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله ابن عمرو الرقّي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن كعب. وأخرجه مسلم (¬2): عن ابن أبي عمر، عن ابن عُيَيْنة، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الرحمن. الثامن: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن، عن كعب. وأخرجه الطيالسي (¬3) في "مسنده". التاسع: عن المزني، عن الشافعي، عن مالك. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4). والشافعي في "مسنده". العاشر: عن يزيد بن سنان، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن دينار المكي، عن يحيى ابن جَعْدة، عن كعب. وأخرجه الطبراني (¬5) في "معجمه": نا عبدان بن أحمد، نا محمد بن يحيى القطيعي، نا محمد بن بكر البرساني، ثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 859 رقم 1201). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 861 رقم 1201). (¬3) "مسند الطيالسي" (1/ 143 رقم 1065). (¬4) "الموطأ" (1/ 417 رقم 938). (¬5) "المعجم الكبير" (19/ 157 رقم 347).

يحيى بن جعدة، عن كعب بن عجرة: "أن النبي -عليه السلام- أمر كعب بن عجرة أن يحلق رأسه من القمل، قال: صُم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين، أو اذبح". الحادي عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن عبد الرحمن بن إبراهيم، عن عبد الله بن نافع، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب، عن كعب بن عجرة، قال: "أمرني رسول الله -عليه السلام- حين آذاني القمل. . . ." الحديث. الثاني عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك (¬2) في "موطإه". قوله: "حُمِلْت إلى رسول الله -عليه السلام-" على صيغة المجهول. قوله: "والقمل يتناثر" جملة حالية. قوله: "ما كنت أُرى" بضم الهمزة أي أظن. قوله: "أن الجَهْد بلغ بك" بفتح الجيم وهو الشقة، وبالضم الوسع والطاقة. قوله: "وأن أنسك" أي وأن اذبح، من نَسَكَ يَنْسُكُ -من باب نَصَرَ يَنْصُرُ- نسكًا إذا ذبح، والنسيكة الذبيحة، وجمعها نُسُك. قوله: "فَرَقا" بفتح الفاء والراء وفي آخره قاف، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثني عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، وقيل الفرق: خمسة أقساط، والقِسْط نصف صاع، فأما الفرْق بسكون الراء، فمائة وعشرون رطلًا. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1029 رقم 3080). (¬2) "الموطأ" (1/ 417 رقم 937).

قوله "وجاء عنه" أي عن النبي -عليه السلام-، ذكره شاهدًا لما قبله. وأخرجه عن فهد بن سليمان، عن فروة بن أبي المغراء الكندي شيخ البخاري، واسم أبي المغراء معد كرب، وهو يروي عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله بن حنظلة. قال الذهبي: لا يُدْرى من هو. عن يوسف بن عبد الله بن سلّام بن الحارث الإسرائيلي أبي يعقوب المدني حليف الأنصار، أجلسه رسول الله -عليه السلام- في حجره ووضع يده على رأسه وسماه يوسف، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: رأى النبي -عليه السلام- وليست له صحبة. وقال البخاري في "كتابه": إن له صحبة. فسمعت أبي يقول: ليست له صحبة، له رؤية. وهو يروي عن خولة بنت مالك بن ثعلبة، وكانت تحت أوس بن الصامت، فظاهر منها، وفيها نزلت: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} (¬1) الآيات. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله -عليه السلام- أشكو إليه، ورسول الله -عليه السلام- يجادلني فيه ويقولى: اتق الله؛ فإنه ابن عمك. فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1) فقال: ليعتق رقبةً. قالت: لا يجد. قال: فيصوم شهرين متتابعين. قالت: يا رسول الله، إنه شيخٌ كبير ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينًا. قالت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: فإني سَأُعِينُه بعرق من تمر. قلتُ: يا رسول الله، وأنا سَأُعينُه بعرق آخر. ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، آية: [1]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 266 رقم 2214).

قال: قد أحسنت، اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينًا وارجعي إلى ابن عمك". قال: والعَرَق: ستون صاعًا. قال أبو داود: في هذا أنها كفرت عنه من غير أن تستأمره. قوله: "بعَرَق" بفتح العين والراء المهملتين وفي آخره قاف. قال ابن الأثير: هو زَبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عَرَق وعَرَقة، بفتح الراء فيهما. وقال الخطابي: وأصل العَرَق السَّفيفة التي تُنْسج من الخوص، فتتخذ منها المكاييل والزَّبيل. وقد جاء تفسيره في هذا الحديث ستون صاعًا وروى أبو داود (¬1)، عن محمد ابن إسحاق: أن العَرَق مكتل يسع ثلاثين صاعًا. وعن أبي سلمة (¬2): أن العرَق زِنْبيل يَسع خمسة عشر صاعًا (¬3). فدل أن العَرَق قد يختلف في السعة والضيق. فهذا الحديث قد دل على أن المُظاهر إذا كَفَّر بالإطعام فعليه أن يعطي لكل مسكين من التمر صاعًا، وهو حجة على الشافعي وأحمد حيث قالا: يعطي لكل مسكين مدّ. وكذلك قال مالك: إلا أنه بمدِّ الشام، وهو مدُّ وثلث. وفيه دلالة أيضًا أن المرأة إذا أعانت زوجها في الكفارة يجوز ويجزيء عنها، وكذلك غيرها لو أعانه في ذلك، والله أعلم. ص: وقد رُوِيَ ذلك عن نفر من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 674 رقم 2215). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 675 رقم 2216). (¬3) وقال الجوهري في "الصحاح" (مادة: زبل): الزَّبِيل: القفة، فإذا كسرته شددت، فقلت: زِبِّيل أو زِنْبيل.

حدثنا أبو بشر الرَّقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن يسار بن نمير، قال: قال لي عمر - رضي الله عنه -: "إني أحلف أن لا أُعطي أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيهم، فهذا رأيتني فعلتُ ذلك فأطعم عني عشر مساكين؛ كل مسكين صاعًا من تمر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن يسار بن نُمَيْر، عن عمر - رضي الله عنه -، مثله. غير أنه قال: " [عشرة] (¬1) مساكين كل مسكين نصف صاع حنطة، أو صاع تمر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت أبا وائل، عن يسار. . . . فذكر مثله، وزاد: "أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعير". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن يسار، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا هلال بن يحيى، قال: ثنا أبو يوسف، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن يسار مثله. حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا بشر بن الوليد وعلي بن صالح، قالا: ثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - في كفارة الأيمان. . . . فذكر نحوًا مما رُوِيَ عن عمر - رضي الله عنه -. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حسن بن صالح، عن مسلم -وهو الأعور- عن مجاهد، عن ابن عباس في كفارة اليمين، قال: "نصف صاع من حنطة". وهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس في الفصل الذي قبل هذا. ¬

_ (¬1) تكررت بـ "الأصل".

فهذا عمر وعلي - رضي الله عنهما - قد جعلا الإطعام في كفارات الأيمان من الحنطة مُدّين مُدَّين لكل مسكين، ومن الشعير والتمر صاعًا صاعًا. فكذلك نقول: كل إطعام في كفارة أو غيرها؛ هذا مقداره على ما أُجمع على ذلك في كفارة الأذى، وقد شدّ ذلك أيضًا ما قد بيّناه في صدقة الفطر من مقدارها، وما ذكرنا في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قد رُوِيَ الإطعام في الكفارات بصاع من تمر أو شعير، ونصف صاع من حنطة، عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-. وأخرج في ذلك عن ثلاثة من الصحابة، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس -رضي الله عنهم-. أما عن عمر - رضي الله عنه - فأخرجه من خمس طرق صحاح غير أن هلالًا في الطريق الخامس قد تكلم فيه: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن يسار -بفتح الياء آخر الحروف، والسين المهملة- ابن نُمير -بضم النون- مولى عمر بن الخطاب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال: قال لي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إني أحلف أن لا أعطي أقوامًا شيئًا، ثم يبدو لي فأعطيهم، فإذا فعلتُ ذلك، فأطعم عَنِّي عشرة مساكين، بين كل مسكينين صاع من بُر، أو صاع تمر لكل مسكين". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن سليمان الأعمش. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 70 رقم 12194).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير. . . . إلى آخره نحوه. ثم قال البيهقي: هذا شيء كان يراه عمر - رضي الله عنه -؛ فلعله كان يتفضل بما زاد. قلت: هذا التأويل خلاف الأصل. الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، [عن] (¬2) أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن يسار بن نمير. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". الرابع: عن أبي بكرة بكَّار أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن يسار. الخامس: عن أبي بكرة أيضًا، عن هلال بن يحيى الرأي، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن يسار بن نمير. . . . إلى آخره. وأما عن علي - رضي الله عنه - فأخرجه: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن بشر بن الوليد الكندي الفقيه أحد الأئمة الحنفية، وثقه الدارقطني. وعن علي بن صالح بن صالح بن حَيّ الكوفي، كلاهما عن أبي يوسف، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة الجملي الكوفي، عن عبد الله بن سَلِمة -بكسر اللام- عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي قال: "كفارة اليمين إطعام عشرة ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 55 رقم 19763). (¬2) تكررت بـ "الأصل". (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 70 رقم 12192).

مساكين، لكل مسكين نصف صاع". وأما عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن حسن بن صالح بن حَيّ الكوفي العابد، عن مسلم بن كيْسان البرّاد الكوفي الأعور، قال يحيى: لا شيء. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وعن النسائي متروك. وقال أبو داود: ليس بشيء. وهو يروي عن مجاهد، عن ابن عباس. قوله: "وهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس في الفصل الذي قبل هذا". أراد به ما رواه في حجج أهل المقالة الأولى: عن يونس، عن ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن أبي جعفر، عن ابن عباس: "أنه كان يقول في كفارات الأيمان: إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مُدّ بيضاء". فهذا يخالف ما رواه عنه مجاهد [عنه] (¬1) فسقط الاحتجاج به لأهل المقالة الأولى. فإن قيل: كيف يعارضه ما رواه مجاهد، وهو ضعيف لما قلنا؟ قلت: فكذلك ذاك لأن أبا جعفر لا يُدرى حاله ومع هذا يكفينا ما رُوِيَ عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- ولاسيّما قد شدّ ذلك وأيده بما رواه في باب صدقة الفطر في بيان مقدار ذلك، وما ذكره هناك مما رُوِيَ عن النبي -عليه السلام- وعن أصحابه من بعده. ¬

_ (¬1) لعلها تكررت.

ص: باب: الرجل يحلف لا يكلم الرجل شهرا كم عدد ذلك الشهر من الأيام؟

ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم يمين الرجل الذي يحلف ألَّا يكلم زيدًا -مثلًا- شهرًا، كم يحسب عدد ذلك الشهر من الأيام؟ ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا محمد ابن بشر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمد بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا ونقص في الثالثة إصبعًا". ش: إسناده صحيح. ومحمد بن بشر بن الفرافصة العبدي، وثقه يحيى. وإسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي، روى له الجماعة. ومحمد بن سعد القرشي الزهري المدني، روى له الجماعة. وأبوه سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة. وأخرجه النسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن بشر، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن محمد بن سَعْد، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- ضرب بيده على الأخرى، وقال: الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، ونقص في الثالثة إصبعًا". وأخرجه أيضًا (¬2): عن سويد، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل، عن محمد بن سعد، قال: قال النبي -عليه السلام-. . . . لم يذكر أباه. قال النسائي: رواه يحيى وغيره، عن إسماعيل، عن محمد مرسلًا، وحديث يحيى أولى بالصواب عندي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 138 رقم 2135). (¬2) "المجتبى" (4/ 138 رقم 2136).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن محمد بن بشر، عن إسماعيل، به مسندًا، نحو رواية الطحاوي. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي يَعْفور، قال: "تذاكرنا عند أبي الضحى الشهر، فقال بَعضُنا: تسع وعشرون. وقال بَعضُنا: ثلاثون. فقال أبو الضُحى: حدثنا ابن عباس، قال: أصبحنا يومًا ونساء النبي -عليه السلام- يبكين عند كل امرأة منهن أهلُها، فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فصعِد إلى النبي -عليه السلام- وهو في غرفة له، فسلّم، فلم يُجبْه أحدٌ، ثم سلّم، فلم يُجبْه أحد، فلما رأى ذلك انصرف، فدعاه بلال - رضي الله عنه -، فدخل على النبي -عليه السلام-، فقال: اطلّقتَ نسائك؟ قال: لا، ولكن آليتُ شهرًا شهرًا. فمكث تسعًا وعشرين ثم نزل، فدخل على نسائه". ش: رجاله ثقات، وهشام بن إسماعيل بن يحيى بن سليمان الدمشقي العطار شيخ البخاري في غير الصحيح. ومروان بن معاوية بن الحارث الفزاري الكوفي نزيل دمشق، روى له الجماعة. وأبو يعفور وقدان الكوفي ويقال: اسمه واقد. والأول أشهر، روى له الجماعة. وأبو الضُحى مسلم بن صُبيح الكوفي العطار روى له الجماعة. والحديث أخرجه النسائي (¬2): عن أحمد بن عبد الله بن الحكم، عن مروان بن معاوية، عن أبي يعفور، عن أبي الضحى، عن ابن عباس نحوه. قوله: "وهو في غرفة" جملة حالية، والغُرفة -بضم الغين- العُلِّيَّة (¬3) والجمع غُرَفَات وغُرْفات. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 530 رقم 1657). (¬2) "المجتبى" (6/ 166 رقم 3455). (¬3) كذا في "الأصل" و"النهاية في غريب الحديث" (مادة: علا) لابن الأثير، بضم العين المهملة ضبطها بالشكل، والذي في "الصحاح" للجوهري، وعنه "لسان العرب": "عِلِّيَّة"، بكسر العين المهملة.

قوله: "ولكن آليتُ" أي حلفت من الإيلاء وهو اليمين. ص: حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا جَبَلة ابن سُحَيْم، قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "الشهر هكذا، وهكذا، [وهكذا] (¬1) وضم إبهامَهُ في الثالثة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الأسود بن قيس، قال: سمعت سعيد بن عمرو يقول: سمعت عبد الله بن عمر يذكر عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا بشر بن المُفضّل، عن سلمة ابن علقمة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الشهر تسع وعشرون، فهذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". قال أبو جعفر -رحمه الله-: وقد ذكرنا في هذا آثارًا أيضًا فيما تقدم من كتابنا هذا. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن بكر بن إدريس، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن جَبَلة، به نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن الأسود بن قيس العبدي الكوفي، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة القرشي الأموي المدني، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار". (¬2) "المجتبى" (4/ 140 رقم 2142). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 296 رقم 2319).

قيس، عن سعيد بن عمرو -يعني: ابن سعيد بن العاص- عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إنا أُمّة أُمّية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وحبس سليمان إصبعه في الثالثة، يعني تسعًا وعشرين، وثلاثين". وأخرجه النسائي (¬1): عن ابن مثنى وابن بشار، عن غندر، عن شعبة، بنحوه. وعن ابن مثنى (¬2): عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأسود نحوه. الثالث: رجاله رجال الصحيح ما خلا أحمد بن داود المكّي. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا حُميد بن مَسْعدة الباهلي، قال: [حدثنا] (¬4) بشر بن المفضل، قال: ثنا سلمة -وهو ابن علقمة- عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له". قوله: "فإن غُمّ عليكم" أي إن حال بينكم وبينه غيم، ويروى: "فإن أُغْمِيَ عليكم" يقال: غُمَّ علينا الهلال وغُمِّي وأُغمي فهو مُغْمى، وقد غامت السماء تغيم غيمومة فهي غائمة وغيمة، وأغامت وغيّمت وتغيمت وأَغْيمت وغيّمت. قال القاضي: روي هذا الحرف في "الموطأ" "غُم" بضم الغين وتشديد الميم بلا خلاف، وكذلك في أكثر أحاديث مسلم، وعنده في حديث يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة: "أُغْمي" وفي رواية بعضهم في حديث يحيى بن يحيى: "غُمي" بالضم مخففًا. وللعذري في حديث محمد بن سلام مثله مشدد الميم، وكذا لابن بحر في حديث عبد الله ومعاذ، وكلها صحيحة المعنى. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 145 رقم 2141). (¬2) "المجتبى" (4/ 139 رقم 2140). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 760 رقم 1080). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "صحيح مسلم".

وقيل: معنى هذه الألفاظ مأخوذ من إغماء المريض، يقال: غُمِّي عليه، وأُغْمِي، والرباعي أفصح، وقد يصح أن يُرجع إلى ما تقدم من إغماء السماء والسحاب، وقد يكون أيضًا من التغطية، ومنه قولهم: غممت الشيء، إذا سترته، والغمى مقصور ما سُقِّف به البيت من شيء، ووقع في حديث محمد بن سلام الجمحي في هذا الحرف عند القاضي الشهيد عُمِيَ -بالعين المهملة والميم المخففة- وكذا حدثنا به الحُسَني عن الطبري، ومعناه: خفي، يقال: عمي عليه الخبر: خفي. وقيل: هو من العَماء، وهو السحاب الرقيق، وقيل: السحاب المرتفع أي دخل في العَماء أو يكون من العمى المقصور وهو عدم الرؤية. وقد وقع في كتاب أبي داود: "فإن حالت دونه غائمة". وفي كتاب الترمذي: "غيامة". وهو بمعنى، وهذا يفسر أنه من الغمام على من رواه "غُمّ" وقد وقع عند البعض فإن غَبي عليه بفتح الغين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة، ومعناه خفِي، وبعضهم ضم الغين على ما لم يُسمّ فاعله. قوله: "فاقدروا له" أي قَدَّروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يومًا، يُقال: قَدَرْتُ الشيء أقْدُرُه وأَقْدِره وقدّرته وأقدرته بمعنىً. وقال ابن قتيبة: معناه أي قدروه بالمنازل. قال الإمام: ذهب بعض العلماء إلى أن الهلال إذا التبس يحسب له بحساب المنجمين، وزعم أن هذا الحديث يدل عليه، واحتج أيضًا بقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬1) وحمل جمهور العلماء معنى الحديث على أن المراد به إكمال العدة ثلاثين يومًا، كما فسره في حديث آخر، وكذلك تأولوا قوله سبحانه: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (1) على أن المراد به الاهتداء في الطريق في البر والبحر، وقالوا أيضًا: لو كان التكليف يتوقف على حساب التنجيم لضاق الأمر فيه، ولا يعرف ذلك إلا قليل من الناس، والشرع مبني على ما يعرفه الجماهير، وأيضًا فإن ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [16].

الأقاليم على رأيهم مختلفة، ويصح أن يُرى في إقليم دون إقليم، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها مع كون الصائمين منهم لا يُعَوِّلون غالبًا على طريق مقطوع به، ولا يلزم قوم ما ثبت عند قوم. قال القاضي: لم يحك مذهب الصوم بتقدير النجوم والمنازل إذا غُمَّ الهلال إلا عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، من كبار التابعين؛ بل من المخضرمين. قال ابن سيرين: وليته لم يفعل. وحكى ابن شريح عن الشافعي مثله. والمعروف من مذهب الشافعي والموجود في كتبه خلافه. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أنبأني سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا الحكم السلمي، يحدث عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- آلى من نسائه شهرًا، فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد، الشهر تسع وعشرون". ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكَّار، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو الحكم السُلَمي اسمه عمران بن الحارث، من رجال مسلم والنسائي. وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن يزيد، عن بهز، عن شعبة نحوه. وعن (¬2) ابن بشار، عن غندر، عن شعبة نحوه. ولم يذكر جبريل -عليه السلام-. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحاظي، قال: ثنا معاوية بن سلّام، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الشهر تسع وعشرون". ش: إسناده صحيح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 138 رقم 2133). (¬2) "المجتبى" (4/ 138 رقم 2134).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني حجاج بن الشاعر، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا شيبان، عن يحيى، قال: أخبرني أبو سلمة، أنه سمع ابن عمر يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "الشهر تسع وعشرون". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي، أن عكرمة بن عبد الرحمن أخبره، أن أم سلمة أخبرته: "أن النبي -عليه السلام- حلف لا يدخل على بعض أهله شهرًا، فلما مضى تسع وعشرون غدا عليهم -أو راح- فقيل له: حلفت يا نبي الله ألَّا تدخل عليهن شهرًا؟ فقال: إن الشهر تسع وعشرون يومًا". ش: إسناده صحيح، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني هارون بن عبد الله، قال: حدثني حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفي، أن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث أخبره، أن أم سلمة أخبرته: "أن النبي -عليه السلام- حلف ألا يدخل على بعض أهله شهرًا، فلما مضى تسعة وعشرون يومًا غدا عليهم أو راح. . . ." إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، قال: ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "هجر رسول الله -عليه السلام- نسائه شهرًا، وكان يكون في العلوّ ويَكُنّ في السفل، فنزل إليهن في تسع وعشرين، فقال رجل: إنك مكثت تسعًا وعشرين ليلةً! فقال: الشهر هكذا وهكذا -بأصابع يديه- وهكذا. وقبض في الثالثة إبهامه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 760 رقم 1080). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 764 رقم 1085).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول:. . . . فذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن زكرياء بن إسحاق، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا هارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر، قالا: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "اعتزل النبي -عليه السلام- نسائه شهرا، فخرج إلينا صباح تسع وعشرين، فقال بعض القوم: يا رسول الله، إنما أصبحنا لتسع وعشرين. فقال النبي -عليه السلام-: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين، ثم طَبَّقَ النبي -عليه السلام- يديه ثلاثًا مرتين بأصابع والثالثة بتسع منها". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬3) نحوه. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، قال: "آلى رسول الله -عليه السلام- من نسائه، فقام في مَشْربةٍ تسعًا وعشرين، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله، آليتَ شهرًا؟ فقال: الشهر تسع وعشرون". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 763 رقم 1084). (¬2) "المجتبى" (4/ 136 رقم 2131). (¬3) "مسند أحمد" (3/ 334 رقم 14625).

وأخرجه البخاري (¬1): ثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان، عن حميد الطويل، سمع أنس بن مالك يقول: "آلى رسول الله -عليه السلام- من نسائه، وكانت انفكت رِجْلُهُ، فأقام في مَشْرُبة له تسعًا وعشرين، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرًا؟ فقال: الشهر تسع وعشرون". قوله: "في مَشْرُبة" بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وضم الراء وفتحها: الغرفة، والميم فيه زائدة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا حلف أن لا يُكَلِّمَ رجلًا شهرًا فكلمه بعد مضي تسعة وعشرين يومًا؛ أنه لا يحنث، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي، وسويد بن غفلة، والشافعي في قولٍ، وأحمد في رواية، فإنهم قالوا: مَن حلف ألا يكلم زيدًا -مثلًا- شهرًا، فكلمهُ بعد مُضي تسعة وعشرين يومًا؛ أنه لا يحنث، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وإليه ذهب محمد بن الحكم من المالكية. ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: إن كان الحلف مع رؤية الهلال؛ فهو على ذلك الشهر كان ثلاثين يومًا أو تسعًا وعشرين يومًا، وإن كان حلف في بعض شهر فيمينه على ثلاثين يومًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدا، ومالكًا، والشافعي في قول، وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: إن كان الحلف. . . . إلى آخره. وقال عياض: ومذهبنا أن من عليه صوم شهر غير معين أو صوم شهر من الكفارات المتتابعة، وكان ابتداء صومه للأهلة، فإنه يجزئه ما كان منها تسعًا وعشرين. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2026 رقم 4984).

وحكى الخطابي أنه لا يجزئه إلا أن يكون معينًا. ومذهب مالك أنه إن صامه على غير الأهلة، فلا يجزئه إلا ثلاثين يومًا. ص: واحتجوا في ذلك بالحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الشهر تسع وعشرون، فهذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا ثلاثين". أفلا تراه قد أوجب عليهم إذا غُمّيَ: ثلاثين، وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك، وكذلك أيضًا في شعبان أمر بالصوم بعد ما يُرى هلال شهر رمضان، فهذا غُمي عليهم لم يصوموا وكان شعبان على الثلاثين، إلا أن ينقطع ذلك برؤية الهلال. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- المذكور فيما مضى. قوله: "أفلا تراه" توضيح لما قبله أي: أفلا ترى النبي -عليه السلام- قد أوجب على أمته. . . . إلى آخره. ص: وقد رُوِيَ عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك غير ما في الآثار الأُوَل: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "حلف رسول الله -عليه السلام- ليهجرنا شهرًا، فدخل علينا لتسع وعشرين، فقلتُ: يا رسول الله، إنك حلفت ألا تكلمنا شهرًا، وإنما أصبحتَ من تسع وعشرين، فقال: الشهر لا يتم". فأخبر أنه إنما فعل ذلك لنقصان الشهر، فهذا دليل على أنه كان حلف عليهن مع غرة الهلال، فكذلك نقول. ش: أشار بهذا إلى أن استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بالأحاديث المتقدمة غير تام؛ لأنه قد رُوِيَ في هذا الباب غير ما في الأحاديث المتقدمة، وهو حديث عائشة -رضي الله عنها-، فإنه دليل على أنه -عليه السلام- قد كان حلف على نسائه مع غرة

الهلال، فلذلك قال: "إن الشهر لا يتم" لمّا قالت له عائشة: "إنك حلفتَ ألا تكلمنا شهرًا، وإنما أصبحتَ من تسع وعشرين". فثبت بهذا ما قاله أهل المقالة الثانية، واندفع ما قاله أهل المقالة الأولى. وإسناد حديثها صحيح، والوهبي هو أحمد بن خالد الكنْدي شيخ البخاري في غير "الصحيح". وابن إسحاق: هو محمد بن إسحاق المدني صاحب المغازي، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، رَوى له الجماعة. وعمرة: هي بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي خالة لعبد الله بن أبي بكر المذكور. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو سعيد، نا عبد الرحمن بن أبي الرجال، قال: سمعت أبي يحدث، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- حلف ألا يدخل على نسائه شهرًا، فلما كان تسعة وعشرون من الشهر جاء ليدخل، فقلت: ألم تحلف شهرًا؟ قال: إن الشهر تسعة وعشرون". ص: وقد رُوِيَ في ذلك ما هو أَبْيَنُ من هذا. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وقولهم: إن رسول الله -عليه السلام- قال: إن الشهر تسعٌ وعشرون. لا والله، ما كذلك قالها، والله إني لأعلم بما قال في ذلك؛ إنما قال حين هجرَنا: لأهجرنكنّ شهرًا. فجاء حين ذهبت تسعٌ وعشرون ليلة، فقلتُ: يا نبي الله، إنك أقسمت شهرا، وإنما غبْت عنا تسعًا وعشرين ليلة، فقال: إن شهرنا هذا كان تسعًا وعشرين ليلةً". فثبت بذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال. ش: أي قد رُوِيَ في هذا الباب ما هو أظهر مما رُوِيَ قبل هذا في أن الحلف إذا كان مع رؤية الهلال فهو على ذلك الشهر سواء كان ثلاثين أو تسعة وعشرين، ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 105 رقم 2487).

ألا ترى أنه -عليه السلام- عليه قال في حديث عائشة هذا جوابًا لها: "إن شهرنا هذا كان تسعًا وعشرين ليلةً" فظهر من ذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال. ورجال هذا الحديث ثقات غير ابن أبي الزناد فيه مقال، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان. ص: وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذا شيء. حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن سماك أبي زُمَيل، قال: حدثني عبد الله بن عباس، قال: حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .. فذكر إيلاء رسول الله -عليه السلام- من نسائه، وأنه نزل لتسع وعشرين، وقال: "إن الشهر سيكون تسعًا وعشرين". ش: أي في كون الشهر تسعًا وعشرين. أخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكّار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عمر بن يونس بن القاسم الحنفي اليمامي قاضي اليمامة، عن عكرمة بن عمّار، عن سماك بن الوليد الحنفي وكنيته أبو زميل -بضم الزاي المعجمة. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) مطولًا جدًّا: ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عمر ابن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمّار، قال: حدثني أبو زُميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس، قال: حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لما اعتزل رسول الله -عليه السلام- نسائه؛ دخلتُ المسجدَ، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله -عليه السلام- نسائه؛ وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، قال: فدخلت على عائشة -رضي الله عنها-، فقلت: يا ابنة أبي بكر، لقد بلغ من شأنك أن تُؤذي رسول الله -عليه السلام-؟! قالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب، عليك بِعَيْلتك. فدخلت على حفصة بنت عمر، فقلت: يا حفصة، قد بلغ من شأنك أن تؤذي الله ورسوله -عليه السلام-، لقد علمت أن رسول الله -عليه السلام- لا يُحبك ولولا أنا لطلقك. قال: ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (1/ 303 رقم 195).

فبكت أشدَّ البكاء، فقلت: أين رسول الله -عليه السلام-؟ قالت: في خزانته في المَشْرُبة. فإذا بغلام رسول الله -عليه السلام- رباح قاعدٌ على أسكفة المَشْرُبة مُدْلي رجليه على نقير من خشب وجذعًا يرقى عليه رسول الله -عليه السلام-، فناديتُ: يا رباح، استأذن لي على رسول الله -عليه السلام-؛ فنظر إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئًا. فقلت: يا رباح، استأذن لي على رسول الله -عليه السلام- فإني أظن أن رسول الله -عليه السلام- ظنّ أني جئت من أجل حفصة، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربتُ عنقها. فأومأ إليّ بيده، فدخلت على رسول الله -عليه السلام- وهو مضطجع على حصير، فجلست فإذا عليه إزار ليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جسده فذهبت أرمي ببصري [في] (¬1) خزانة رسول الله -عليه السلام- فاذا شطر من شعير قدر صاع وقرظ في ناحية الغرفة، فابتدرت عيناي، فقال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت: يا رسول الله، ألا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جسدك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وقيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! قال: ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى. قال: ودخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله، ما شق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر، وقل ما تكلمت -وأحمد الله- بكلامٍ إلا رجوت أن يصدق الله قولي، ونزلت هذه الآية، {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (¬2) ونزلت: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) إلى آخر الآية، وكانت بنت أبي بكر وحفصة تظاهرتا على سائر نساء رسول الله -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، طلقتهن؟ قال: لا. قلت: أنزل فأخبرهن أنك لم تطلقهن؟ قال: ¬

_ (¬1) "ليست في الأصل" والمثبت من البحر الزخار (1/ 304 حديث رقم 195). (¬2) سورة التحريم، آية: [5]. (¬3) سورة التحريم، آية: [4].

نعم إن شئت. فلم أزل أحدثه حتى كشر الغضب عن وجهه، وكشر يضحك، وكان من أحسن الناس ثغرًا، فنزل النبي -عليه السلام-، ونزلت أتشبث بالجذع، ونزل كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده، فقلت: يا رسول الله، كنت في الغرفة تسعةً وعشرين يومًا؟ قال رسول الله -عليه السلام-: إن الشهر قد يكون تسعة وعشرين. فقمتُ على باب المسجد فناديتُ بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله -عليه السلام- نسائه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1) قال: "فكنت أنا الذي استنبطتُ ذلك من رسول الله -عليه السلام-" (¬2). ص: ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- في ذلك: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة حدثه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن الشهر يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة". فأخبر رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث أنه إنما يكون تسعًا وعشرين برؤية الهلال قبل الثلاثين، فقد دلّت هذه الآثار لمّا كشفَت على ما ذكرنا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فيما ذكرناه من أن الشهر يكون تسعًا وعشرين برؤية الهلال. وأخرجه بإسناد صحيح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه النسائي (¬3): عن سليمان بن سيف، عن هارون بن إسماعيل البصري، عن علي بن المبارك، عن يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحوه. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [83]. (¬2) "البحر الزخار" (1/ 303 رقم 195). (¬3) "المجتبى" (4/ 139 رقم 2138).

ورواه (¬1) أيضًا معاوية بن سلام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. ص: وقد رُوِيَ ذلك عن الحسن: حدثنا أبو بشر الرّقّي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن، في رجل نذر أن يصوم شهرًا، قال: "إن ابتدأ رؤية الهلال صام لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإن ابتدأ من بعض الشهر صام ثلاثين يومًا". ش: أي قد رُوِيَ عن الحسن البصري ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية. وأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرّقّي، عن معاذ ابن معاذ بن نصر بن حسان العنبري قاضي البصرة، عن أشعث بن عبد الملك عن الحسن البصري - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 139 رقم 2139).

ص: باب: الرجل يوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره ش: أي هذا باب في بيان حكم من يوجب على نفسه أن يصلي في مكان بعينه، مثلًا في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، فيصلي في غيره؛ هل سقط عنه ما أوجبه أم لا؟ ص: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حبيب المُعَلِّم، عن عطاء -وهو ابن أبي رباح- عن جابر - رضي الله عنه -: "أن رجلًا قال يوم فتح مكة: يا رسول الله، إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس. فقال له النبي -عليه السلام-: صلِّ هاهنا. فأعادها على النبي -عليه السلام- مرتين أو ثلاثًا، فقال النبي -عليه السلام-: شأنك إذًا". ش: إسناده صحيح، وأخرجه أبو داود (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن حبيب المُعَلِّم. . . . إلى آخره نحوه. والبيهقي في "سننه" (¬2): من حديث حبيب بن الشهيد، عن عطاء، عن جابر، نحوه. ويستفاد منه: صحة النذر بالصلاة ونحوها، إن فعل الله كذا وكذا. وفيه: وجوب النذر لقوله -عليه السلام-: "صَلِّ هاهنا" فلو لم يكن نذره موجبًا لم يأمره بالصلاة، وبهذا يُردّ على ابن حزم ومن تبعه في أن مَنْ نذر صلاة تطوع في بيت المقدس، أو في مكة، أو مسجد المدينة؛ فإنه لا يلزمه شيء من ذلك. وفيه: أن من نذر أن يصلي في مكان فصلى في مكان أعلى منه في الفضل، فإنه يجوز على ما يجيء الآن مع الخلاف فيه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 236 رقم 3305). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 82 رقم 19922).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: معنى هذا الحديث: أن رسول الله -عليه السلام- أمر الذي نذر أن يصلي في بيت المقدس أن يصلي في غيره. فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-: مَنْ جعل لله عليه أن يصلي في مكان فصلّى في غيره أجزأه ذلك، واحتجوا في ذلك بهذا الأثر، غير أن أبا يوسف قد قال في "أماليه": مَنْ نذر أن يصلي في بيت المقدس فصلى في المسجد الحرام، أو في مسجد رسول الله -عليه السلام- أجزأه ذلك؛ لأنه صلّى في موضعٍ الصلاةُ فيه أفضل من الصلاة في الموضع الذي أوجب الصلاة فيه على نفسه. ومن نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلّى في بيت المقدس لم يجزئه ذلك؛ لأنه صلّى في مكانٍ ليس للصلاة فيه من الفضل ما للصلاة في المكان الذي أوجب على نفسه [الصلاة] (¬1) فيه. ش: هذا ظاهر، ومذهب زفر هاهنا كمذهب أبي يوسف: أنه لا يجوز ذلك إلا في مكان عَيَّن فيه، أو في مكان أعلى شرعًا منه، لا أحط؛ كمن نذر في المسجد الأقصى يجوز أن يؤديه في أحد الحرمين وبالعكس لا، وبه قال أحمد، والشافعي في قول. وقد ذكر المتأخرون من الحنفية أن أبا يوسف مع صاحبيه، وجعلوا الخلاف بينهم وبين زفر، ولم يذكروا ما ذكره الطحاوي. وقال ابن حزم (¬2): قال الشافعي: مَنْ نذر أن يصلي بمكة لم يجزه إلا فيها، فإن نذر أن يصلي بالمدينة، أو ببَيْتِ المقدس، أجزأه أن يصلي بمكة، أو في المسجد الذي ذكر لا فيما سواه، فإن نذر صلاةً في غير هذه الثلاثة المساجد لم يلزمه؛ لكن يصلي حيث هو. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار" (3/ 125). (¬2) "المحلى" (8/ 21).

قلت: وعن الشافعي كقول أبي حنيفة، ومحمد، وبعضهم نَصَّ على أنه هو الصحيح عنده. ص: واحتج في ذلك بما رُوِيَ عن رسول الله -عليه السلام-: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا شعبة، عن أبي عبد العزيز الزبيدي، عن عمر بن الحكم، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي -عليه السلام- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي، وشجاع، (ح). وحدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا مكي: قالا: ثنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . مثله (¬1). ذكر في هذه الآثار، لم يجز لمن أوجب على نفسه صلاة في شيء منها إلا أن يصليها حيث أوجب، أو فيما هو أفضل منه من المواضع. ش: أي احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه بأحاديث أخرجها عن تسعة أنفس من الصحابة وهم: سَعْد بن أبي وقاص، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وميمونة زوج النبي -عليه السلام-، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، ففي أحاديث هؤلاء فضل الصلاة في بعض هذه المساجد [أي] (¬2) المسجد الحرام، ومسجد النبي -عليه السلام-، ومسجد بيت المقدس، فإذا أوجب الرجل على نفسه صلاةً في مسجدٍ من هذه المساجد ليس له إلا أن يصليها حيث عيّنها فيه، أو في موضع أفضل منه، وهو معنى قوله: "قال: فلما كان فَضَّل". ¬

_ (¬1) وقع هاهنا طمس في "الأصل" وترك موضعه بياضًا في "ك". (¬2) في "الأصل": "على"، وهو سبق قلم أو تحريف، ولعَلَّ ما أثبتناه هو الصواب.

أي قال أبو يوسف: فلما كان النبي -عليه السلام- فَضَّل الصلاة .. إلى آخره. أما حديث سعد فأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن عمرو بن مرزوق البصري شيخ أبي داود، عن شعبة، عن أبي عبد العزيز موسى بن عُبيدة الرَّبَذِي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. ونسبته إلى رَبَذَة -بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة- وهي قرية معروفة قرب المدينة، وبها قبر أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده " (¬1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، نا شعبة، عن موسى بن عُبيدة أبي عبد العزيز الرَّبَذِي، عن عمر بن الحكم، عن سَعْد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام". واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث وأمثاله ومعناه، فتأوله قوم منهم: أبو بكر عبد الله بن نافع الزبيري، صاحب مالك على أن الصلاة في مسجد رسول الله -عليه السلام- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجة، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، وقال بذلك جماعة من المالكية، ورواه بعضهم عن مالك. قال أبو عمر: قال عامّة أهل الأثر والفقه: إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله -عليه السلام- بمائة صلاة. وقال: وأما تأويل ابن نافع فبعيد عند أهل المعرفة باللسان؛ ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسع مائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع، فأنّى حَدَّ حدًّا في ذلك لم يكن لقوله دليل ولا حجّة. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (4/ 59 رقم 1225).

وأما حديث عائشة فأخرجه من طريقين: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري. وعن شجاع بن مخلد الفلاس شيخ مسلم وأبي داود وابن ماجه، كلاهما عن موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي، عن داود بن مُدرك، مسكوت عنه، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه البزار في "مسنده" بأتم منه: ثنا أحمد بن منصور، نا عبيد الله بن موسى، نا موسى -وهو ابن عُبيدة- عن داود بن مُدرك، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن تزار وترحل إليه الرواحل: المسجد الحرام، ومسجدي، صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام". الثاني: عن عبد الرحمن بن الجارود، عن مكي بن إبراهيم، عن موسى بن عُبيدة، عن داود بن مدرك .. إلى آخره. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يعلى بن عبيد الطنافسي، عن موسى بن عبد الله ويقال عبد الرحمن الجهني الكوفي، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي وابن مثنى ويحيى، عن موسى الجهني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 213 رقم 2897).

وقال النسائي: لا أعلم رواه عن نافع، عن ابن عمر غير موسى، وخالفه ابن جريج وغيره -يعني عروة- عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله (¬1). أبي الدرداء فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إبراهيم بن حميد، قال: ثنا محمد ابن يزيد بن شداد، نا سعيد بن سالم القداح، نا سعيد بن بشير، عن إسماعيل ابن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره: مائة ألف صلاة، وفي مسجدي: ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس: خمسمائة صلاة". قال البزار: إسناده حسن. وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه الطبراني (¬2). ثنا معاذ بن المثنى، قال: ثنا مسدد، ثنا حصين بن نُمير، ثنا حصين، عن محمد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام". وأما حديث أبي ذر - رضي الله عنه - فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (¬3) من رواية قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: "تذاكرنا ونحن عند رسول الله -عليه السلام- أيهما أفضل؛ مسجد رسول الله -عليه السلام- أو بيت المقدس؟ فقال رسول الله -عليه السلام-: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولَنِعم المُصَلَّى هو. . . ." الحديث. وأما حديث علي - رضي الله عنه - فأخرجه البزار (¬4) في "مسنده" من رواية سلمة بن وردان، عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "ما بين قبري ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، ولعله قد وقع هاهنا سقط بمقدار ورقة. والله أعلم. (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 132 رقم 1558). (¬3) "المعجم الأوسط" (7/ 103 رقم 6983). (¬4) "مسند البزار" (2/ 148 رقم 511).

ومنبري روضة من رياض الجنة، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام". وسلمة بن وردان ضعيف، ولم يسمع من علي - رضي الله عنه -. ص: وكان من الحجّة لأبي حنيفة ومحمد على أهل هذا القول: أن معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" إنما ذلك على الصلوات المكتوبة؛ لا على النوافل، ألا ترى إلى قوله في حديث عبد الله بن سعد: "لأن أصلي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلي في المسجد". وقوله في حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وذلك حين أرادوا أن يقوم بهم في شهر رمضان في التطوع، وورد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، فلما رُوِيَ ذلك على ما ذكرنا، كان تصحيح الآثار يوجب أن الصلاة في مسجد رسول الله -عليه السلام- التي فيها الفضل على الصلاة في البيوت هي الصلاة التي هي خلاف هذه الصلاة وهي المكتوبة. فثبت بذلك فسادُ ما احتج به أبو يوسف، وثبت أن من أوجب على نفسه صلاة في مكان، فصلّاها في غيره أجزأه، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأبي حنيفة ومحمد بن الحسن فيما ذهبا إليه على قول أبي يوسف، وأراد بها أن احتجاج أبي يوسف بالأحاديث المذكورة لما ذهب إليه فاسدٌ، وبيّن ذلك بقوله: "إن معنى قول رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. قوله: "ألا ترى إلى قوله" أي قول النبي -عليه السلام-، فحديث عبد الله بن سعد الأنصاري الحرامي الصحابي. وحديثه رواه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو بشر بكر بن خلف، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حرام بن معاوية، عن عمّه عبد الله بن سعد، قال: "سألت رسول الله -عليه السلام- أيهما أفضل؛ الصلاة في ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 439 رقم 1378).

بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحبّ إليَّ [من] (¬1) أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبةً". وقوله: "في حديث زيد بن أسامة مرّ في كتاب [. . . .] (¬2). ص: وأمّا وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الرجل إذا قال: لله عليّ أن أصلي ركعتين في المسجد الحرام، فالصلاة التي أوجبها قربة حيث ما كانت، فهي عليه واجبة: ثم أردنا أن ننظر في الموطن الذي أوجب على نفسه أن يصليها فيه، هل تجب عليه كما تجب عليه تلك الصلاة، أم لا؟ فرأيناه لو قال: لله عليّ أن ألبث في المسجد الحرام ساعة لم يجب ذلك عليه، وإن كان ذلك اللبث هو لو فعله قربةً، فكان اللبث وإن كان قربةً لا يجب بإيجاب الرجل إياه على نفسه. فلما كان ما ذكرنا كذلك كان من أوجب على نفسه صلاة في المسجد الحرام ولم يجب عليه اللبث لها في المسجد الحرام، فهذا هو النظر في هذا الباب. ش: أي وأمّا وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس .. إلى آخره. حاصله: أن الرجل إذا أوجب على نفسه صلاة مقيدة بمكان، فإن الصلاة تجب عليه بإيجابه إياها على نفسه، ولكن ننظر في المكان الذي قيد الصلاة به، هل له دخل في ذلك الإيجاب أم لا؟ فرأيناه لو قال: عَلَّي أن ألبث في المسجد الحرام ساعةً؛ فإنه لا يجب عليه وإن كان يقع ذلك قربةً عند فعله إياه، فإذا كان لا يجب عليه اللبث في المسجد الحرام لأجل الصلاة المنذورة، كان ذكره وعدمه سواء، فلا يجب عليه إلا تلك الصلاة دون اللبث. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه". (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-.

ص: باب: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام، هل يلزمه شيء أم لا؟ ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الهِقْل بن زياد، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن بن اليمان، عن يحيى بن سعيد، أن حُميدًا الطويل أخبره، أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: "مَرَّ رسول الله -عليه السلام- برجل يُهادى بين [ابنين] (¬1) له، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي. فقال: إن الله -عز وجل- لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسه. وأمره أن يركب". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن صالح. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا محمد بن خزيمة وابن أبي داود، قالا: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن حُميد، عن ثابت، عن أنس، عن النبي -عليه السلام-. . . . مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن صالح المصري ورّاق الليث ابن سعد وشيخ البخاري، عن الِهقْل بن زياد بن عُبيد الله السكسكي الدمشقي كاتب الأوزاعي، واسمه محمد، وقيل: عبد الله. وهِقْل لقبٌ عليه، روى له الجماعة سوى البخاري. يَروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام عن عبد الرحمن بن اليمان أبي معاوية الحضرمي، قد سُكِت عنه. عن يحيى بن سعد الأنصاري، عن حُميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "اثنين"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه الترمذي (¬1): عن ابن مثنى، عن ابن أبي عديّ، عن حُميد، عن أنس. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن عبد الله بن صالح، عن الهِقْل. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم ابن طهمان، عن يحيى بن سعيد، عن حُميد، عن أنس - رضي الله عنه -. الثالث: عن محمد بن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود البرلّسي، كلاهما عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد، عن حُميد، عن ثابت البناني، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬3): عن مسدد، عن يحيى، عن حُميد، عن ثابت، عن أنس قال: "مرّ شيخ كبير يُهادى بين ابنَيْه، فقال: النبي -عليه السلام-: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي إلى البيت. قال: إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، مُرُوه فليركب". وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا. قوله: "يُهادى" على صيغة المجهول أي يحمل بينهما، وقال ابن الأثير: أي يمشي بينهما معتمدًا عليها من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها إذا تمايلت، وكل من فعل ذلك بأحد فهو يهاديه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز ابن مسلم، قال: ثنا يزيد بن أبي منصور، عن دُخين الحجري، عن عقبة بن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 111 رقم 1537). (¬2) "المجتبى" (7/ 30 رقم 3854). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2464 رقم 6323). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1263 رقم 1642).

عامر الجُهَني، قال: "إن أختي نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً حاسرةً، فأتى عليها رسول الله -عليه السلام- فقال: ما هذه؟ قالوا: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً حاسرةً. فقال: مُرُوها فلتركب ولتختمر". ش: عيسى بن إبراهيم بن سيّار شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان والنسائي، وروى عنه البخاري في غير "الصحيح". وعبد العزيز بن مسلم القَسْمَليّ المروزي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه. ويزيد بن أبي منصور الأزدي البصري وثقه ابن حبان وروى له الترمذي. ودُخين -بالدال المهملة المضمومة وبالخاء المعجمة- بن عامر الحُجري أبو ليلى المصري وكان كاتب عقبة بن عامر الجهني، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا عبدان بن أحمد، نا عمار بن عمر بن المختار (ح). وحدثنا حكيم بن يحيى المثوثي البصري، ثنا أحمد بن عَبْدة الضبي، قالا: ثنا أشهل بن أسلم العدوي، نا يزيد بن أبي منصور، عن دُخَيْن الحجري، عن عقبة بن عامر: "أن أخت عقبة نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافيةً متحسرةً، فمر بها رسول الله -عليه السلام-، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: إنها نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافيةً حاسرةً. قال رسول الله -عليه السلام-: مُرُوها فلتختمر ولتركب ولتحج". وأخرجه البخاري (¬2): عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها النبي -عليه السلام-، فاستفتيت النبي -عليه السلام- فقال: لتمشي ولتركب". قال: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 320 رقم 886). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 660 رقم 1767).

وأخرجه مسلم (¬1): عن زكرياء بن يحيى كاتب العمري، عن مفضل، عن عبد الله بن عياش. وعن (1) محمد بن رافع، عن عبد الرازق، عن ابن جريج، عن سعيد بن أبي أيوب، ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة. وأخرجه أبو داود (¬2): عن مخلد بن خالد الشَّعِيري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن يوسف بن سعيد، عن حجاج، عن ابن جريج. . . . بإسناده نحوه. قوله: "نذرت أختي" وهي أم حِبَّان بنت عامر الأنصارية الصحابيّة، وحِبّان -بكسر الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة. قوله: "حاسرة" أي مكشوفة الرأس. قوله: "لتختمر" أي لتجعل على رأسها الخمار. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: مَنْ نذر أن يحج ماشيًا؛ أُمر أن يركب، ولا شيء عليه غير ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكًا وداود وسائر الظاهرية، فإنهم قالوا: إذا نذر أن يحجّ ماشيًا لا يلزمه المشي، ويركب ولا شيء عليه أصلًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يركب. كما جاء بهذا الحديث، فإن كان أراد بقوله: "لله عليّ" معنى اليمين، فعليه مع ذلك كفارة يمين؛ لأن معنى "لله عليَّ" قد يكون في معنى والله؛ لأن النذر معناه معنى اليمين. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1264 رقم 1644). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 234 رقم 3299). (¬3) "المجتبى" (7/ 19 رقم 3814).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء والشعبي والحسن البصري وقتادة والشافعي في قول، فإنهم قالوا: من نذر أن يمشي إلى بيت الله فله أن يركب؛ لمقتضى حديث عقبة المذكور، وإن كان قد نوى بكلامه اليمين فعليه كفارة اليمين. وقال الخطابي: قال الشافعي: من نذر أن يمشي إلى بيت الله يمشي، فإن عجز أراق دمًا وركب. وقال البيهقي: قال الشافعي: إن قدر لزمه. وقال أصحابنا: لأن المشي إلى موضع البِّر بِرُّ. قال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} (¬1). وقال ابن حزم: قال الشافعي: من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس؛ أجزأه الركوب إليهما. وقال الليث: من نذر أن يمشي إلى مسجد من مساجد الله مشى إلى ذلك المسجد. انتهى قوله: "يركب كما جاء بهذا الحديث" أي حديث عقبة بن عامر، وحديث أنس أيضًا -رضي الله عنهما-. ص: وقد رُوِيَ عن رسول الله -عليه السلام-: "أن في النذر كفارة يمين" فمما رُوِيَ في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن محمد بن الزبير التميمي، عن أبيه، عن عمران بن الحُصَين - رضي الله عنه -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين". حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن محمد ابن الزبير. . . . فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [27].

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو سلمة المنقري، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمد بن الزبير الحنظلي. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا أحمد بن عبد المؤمن، قال: ثنا علي بن الحسن، قال: ثنا عباد بن العوام، قال: ثنا محمد بن الزبير. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسّان، قال: ثنا خالد بن عبد الله (ح). وحدثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قالا: أنا محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن رجل، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أيوب بن سليمان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي أُوَيس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير الذي كان يسكن اليمامة، أنه حدّثه، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن يخبر، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شُمَاسة المهدي، عن أبي الخير، عن عقبة ابن عامر، عن النبي -عليه السلام- قال: "كفارة النذر كفارة يمين". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت يحيى بن عبد الله بن سالم يُحدث، عن سَهْل بن رافع، عن خالد بن يزيد، عن عقبة بن عامر، قال: أشهد لسمعتُ رسول الله -عليه السلام- يقول: "مَنْ نذر نذرًا لم يسمّه، فكفارته كفارة اليمين". ش: هذا بيان لقوله: "إن النذر معناه معنى اليمين"، ولهذا جعل رسولُ الله -عليه السلام- في النذر كفارة يمين، والدليل عليه ما رُوِيَ عنه -عليه السلام- في ذلك من حديث عمران بن الحصين، وعن رجل عن النبي -عليه السلام-، وعن عائشة، وعقبة بن عامر -رضي الله عنهم-. أما حديث عمران فأخرجه من أربع طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم

البصري، عن محمد بن الزبير التميمي البصري، فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف لا شيء. وقال البخاري: منكر الحديث وفيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وفيه فسادٌ من وجه آخر وهو ما رواه البيهقي، عن عباس الدوري، قال ابن معين: قيل لمحمد بن الزبير الحنظلي: سمع أبوك من عمران بن الحصين؟ قال: لا. وأيضًا قال الخطابي: الزبير هذا مجهول لا يُعرف. وأخرجه النسائي (¬1): عن هناد، عن وكيع، عن ابن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وأخرجه (¬2) عن عمرو بن عثمان، عن بقيّة، عن الأوزاعي. وعن (¬3) علي بن ميمون، عن معمر بن سليمان، عن عبد الله بن بشر. وعن (¬4) إبراهيم بن يعقوب، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، كلهم عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران. ومنهم من قال: "في غضب". وعن قتيبة (¬5)، عن حماد، عن محمد، عن أبيه، به. وقال: "في غضب". قال النسائي: محمد بن الزبير ضعيف لا تقوم بمثله حجّة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، وقيل: إن الزبير لم يسمع هذا من عمران. والله أعلم. الثاني: عن يونس أيضًا، عن يحيى بن حسان التنيسي شيخ الشافعي، عن حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير، عن أبيه الزبير، عن عمران. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 27 رقم 3840). (¬2) "المجتبى" (7/ 28 رقم 3841). (¬3) "المجتبى" (7/ 28 رقم 3842). (¬4) "المجتبى" (7/ 28 رقم 3843). (¬5) "المجتبى" (7/ 28 رقم 3844).

وأخرجه النسائى (¬1): عن قتيبة، عن حماد. . . . إلى آخره نحوه. وقد مَرَّ الآن. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن محمَّد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران. وأخرجه البيهقي (¬2) نحوه بطرق مختلفة. الرابع: عن أحمد بن عبد المؤمن المروزي، عن علي بن الحسن بن شقيق، عن عباد بن العوّام بن عمر الواسطي، عن محمَّد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران. وأما حديث رجل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان، عن محمَّد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل، عن رسول الله -عليه السلام-. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن محمَّد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل، عن النبي -عليه السلام-. والظاهر أن هذا الرجل هو عمران بن الحصين. وهذا الحديث قد اختلف في إسناده جدًّا. فروى الطبراني (¬3) من حديث محمَّد بن الزبير، عن الحسن البصري، عن عمران، بدون ذكر أبيه. قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الحضرمي قال: حدثني أحمد بن يونس، نا أبو بكر النهشلي، عن محمَّد بن الزبير الحنظلي، عن الحسن، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 27 رقم 3840). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 69 - 70 رقم 19851). (¬3) "المعجم الكبير" (18/ 164 رقم 363).

عمران بن حصين، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين". وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث أبي كريب، عن معاوية، عن سفيان، عن محمَّد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". ورواه عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان فقال: "في معصية أو غضب". قال البيهقي: وهذا أيضًا منقطع؛ لا يصح للحسن سماع من عمران. قاله ابن المديني. قلت: ذكر البيهقي في "سننه" (¬2) في باب: لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها حديث زائدة بن قدامة، عن هشام، عن الحسن، أن عمران بن حصين حدثه. . . . فذكر معناه، ومعنى حديث تعريسهم آخر الليل. وقد صرَّح في هذا الحديث بأن عمران حدث الحسن. وقال ابن حبان: سمع الحسن من عمران. وكذا قال صاحب "المستدرك" وأخرج روايته عنه. وقال في كتاب "اللباس": مشايخنا وإن اختلفوا في سماع الحسن من عمران؛ فإن أكثرهم على أنه سمع منه. وذكر صاحب "الكمال" أنه سمع منه. وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أيوب بن سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني شيخ البخاري، عن أبي بكر عبد الحميد بن أبي أوس المدني الأعمى، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 70 رقم 19859). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 217 رقم 2994).

المدني، عن محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وموسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سليمان بن أرقم البصري مولى الأنصار، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن محمَّد المروزي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمَّد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة. . . . الحديث. قال أبو داود: سمعت أحمد بن شبُّوية يقول: قال ابن المبارك في هذا الحديث: حدث أبو سلمة، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة. وأخرجه الترمذي (¬2): عن أبي إسماعيل محمَّد بن إسماعيل بن يوسف، عن أيوب بن سليمان. . . . بهذا الإسناد مثله، وقال: غريب. وأخرجه النسائي (¬3): عن أبي إسماعيل الترمذي بإسناده مثله، وقال: سليمان بن أرقم متروك الحديث، خالفه غير واحد من أصحاب يحيى في هذا الحديث. قلت: قال أحمد: سليمان بن أرقم ليس بشيء. وعن يحيى: ليس بشيء. ليس يُسْوى فلْسًا. وقال أبو داود: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: ساقط. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 233 رقم 3292). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 103 رقم 1525). (¬3) "المجتبى" (7/ 27 رقم 3839).

وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه. وأما حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب، عن كعب بن علقمة بن كعب التَنُوخي، عن عبد الرحمن ابن شماسة بن ذُؤيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليَزَني. وهؤلاء كلهم مصريون ثقات، من رجال مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): عن هارون الأيلي ويونس بن عبد الأعلى وأحمد بن عيسى، عن ابن وهب. . . . إلى آخره نحوه. وقد اشترك الطحاوي ومسلم في تخريج هذا الحديث، عن يونس بن عبد الأعلى. وأخرجه أبو داود (¬2): عن هارون بن عَبَّاد الأزدي، عن أبي بكر بن عياش، عن محمَّد مولى المغيرة، حدثني كعب بن علقمة، عن أبي الخير به. وعن محمَّد بن عوف، عن سعيد بن الحكم، عن يحيى بن أيوب، عن كعب ابن علقمة، أنه سمع ابن شهاب، عن أبي الخير، به. وأخرجه الترمذي (¬3): عن أحمد بن منيع، عن أبي بكر بن عياش. . . . بإسناده نحوه، وزاد: "إذا لم يُسمِّ". وقال: حسن صحيح غريب. الثاي: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن إسماعيل بن رافع بن عُوَيمر المزني المدني القاص، فيه مقال؛ فعن أحمد ويحيى: ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وكذا قال الدارقطني. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 265 رقم 1645). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 241 رقم 3323). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 106 رقم 1528).

وهو يروي عن خالد بن يزيد -وقيل: زيد- الجهني، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه نحوه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن إسماعيل بن رافع، عن خالد بن يزيد، عن عقبة بن عامر. ص: وذكروا في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني حُيي بن عبد الله المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عقبة بن عامر الجُهني: "أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً غير مختمرة، فذكر ذلك عقبة لرسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: مُر أختك فلتركب ولتختمر، ولتصم ثلاثة أيام". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن زَحْر، أنه سمع أبا سعيد الرعيني يذكرُ، عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر، مثله. حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . . مثله. قالوا: فتلك الثلاثة الأيام إنما كانت كفارة ليمينها التي كانت بها حالفةً؛ لقولها: لله عليّ أن أحُج ماشيةً. ش: أي ذكر أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه: حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن حُيَي -بضم الحاء المهملة، وفتح الياء آخر الحروف الأولى- بن عبد الله المَعَافري -بفتح الميم ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 687 رقم 2127).

والعين المهملة وكسر الفاء- نسبة إلى معافر بن يَعفر، قبيل ينسب إليه كثيرٌ عامّتهم بمصر. وهو يروي عن أبي عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد الحُبُلى -بضم الحاء المهملة والباء الموحدة- نسبة إلى بني الحُبْلى حَيٌّ من اليمن من الأنصار، وذكر سيبويه: الحُبَلى -بضم الحاء وفتح الباء- منسوبًا إلى بني الحبلى، والمحدثون يضمون الباء. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خَلا حُيَي بن عبد الله، قال البخاري: فيه نظر. وهذا أخرجه عبد الله بن [أحمد] (¬1) في "مسنده". الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عبيد الله بن زَحْر الضَمْري الإفريقي، عن أبي سعيد جعثل بن هاعان الرعيني المصري قاضي إفريقية، وذكره ابن أبي حاتم فيمن اسمه جعيل ووهم في ذلك، وهو يروي عن عبد الله بن مالك اليَحْصبي المصري، وثقه ابن حبان، وقد فرق أبو حاتم الرازي بين هذا وبين أبي تميم عبد الله بن مالك الجَيْشاني الرعيني المصري، وجعلهما ابن يونس واحدًا، وقال الذهبي: هو الصواب. وتشهد له رواية ابن لهيعة لهذا الحديث عن بكر بن سوادة، عن أبي سعيد القتباني وهو الرعيني، عن أبي تميم الجيشاني، عن عقبة بن عامر به. وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبيد الله بن زَحْر، أن أبا سعيد الرعيني أخبره، أن عبد الله بن مالك أخبره، عن عقبة بن عامر. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والحديث في "مسند أحمد" (4/ 149 رقم 17386). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 233 رقم 3293).

والترمذي (¬1): عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري. . . . بإسناده نحوه. وقال: حديث حسن. الثالث: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي الأنطاكي، عن الهيثم بن جميل البغدادي الحافظ نزيل أنطاكية، عن هشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبيد الله بن زَحْر، عن أبي سعيد جعثل، عن عبد الله بن مالك. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمرو بن علي وابن مثنى، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن زحر، عن أبي سعيد، عن عبد الله، به. وابن ماجه (¬3): عن علي بن محمَّد، عن عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد، عن عُبيد الله به. ص: وقد دل على ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان، عن شريك، عن محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كُريب، عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول اللهَ، إن أختي نذرت أن تحج ماشيةً، فقال: إن الله -عز وجل- لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لتحج راكبةً، وتكفر عن يمينها". ش: أي وقد دل على كون الثلاثة الأيام في الحديث المذكور كفارة عن يمينها: حديث ابن عباس. أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بِسَعْدَوَيه شيخ البخاري وأبي داود، عن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 116 رقم 1544). (¬2) "المجتبى" (7/ 20 رقم 3815). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 689 رقم 2134).

شريك بن عبد الله النخعي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن عبيد مولى آل طلحة ابن عُبيد الله القرشي الكوفي، عن كريب مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): عن حجاج بن أبي يعقوب، عن النضر، عن شريك، عن محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس .. إلى آخره نحوه. ص: وخالف هؤلاء آخرون، فقالوا: بل نأمر هذا الذي نذر أن يحج ماشيًا أن يركب ويكفر إن كان أراد يمينًا، ونأمره مع هذا بالهدي. ش: أي خالف أهل المقالتين المذكورتين جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب، وعكرمة، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: من نذر أن يحج ماشيًا فله أن يركب ويكفر، إن أراد به اليمين، ويُهدي هديًا أيضًا، وذلك لأنه -عليه السلام- أمر أخت عقبة بالهدي لأجل ركوبها، وبالتكفير لأجل يمينها، حيث قال في الحديث الآخر: "ولتصم ثلاثة أيام". قلت: مذهب أبي حنيفة وأصحابه أن من نذر أن يمشي إلى بيت الله: يركب ويريق دمًا، سواء أطاق المشي أو لم يُطق. وقال الحسن البصري: من نذر أن يحج ماشيًا يمشي، حتى إذا أعيي ركب وأهدى. وكذا قال قتادة. وقال الشعبي: إذا ركب في نذر نصف الطريق، يجيء من قابل فيركب ما مشيَ ويمشي ما ركب، وينحر بدنة. وكذا رواه عن ابن عباس، وقال عطاء: أيما امرأة جعلت عليها المشي إلى البيت فلم تستطع، فلتركب ولتُهْدٍ بدنة. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن علي بن شيبة حدثنا، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 234 رقم 3295).

عقبة بن عامر الجُهنَي أتى النبي -عليه السلام- فأخبره أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً ناشرةً شعرها. فقال له النبي -عليه السلام-: مُرها فلتركب ولتختمر، ولتُهْد هديا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطر الوراق، عن عكرمة، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: "نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة، فأتى عليها -عليه السلام- فقال: ما لهذه؟ فقالوا: نذرت أن تمشي إلى الكعبة. فقال: إن الله لغني عن مشيها، مُرُوها فلتركب ولتُهد بدنة". ففي هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- أمرها بالهدي؛ لمكان ركوبها. فتصحيح هذه الآثار كلها يوجب أن يكون حكم مَنْ نذر أن يحجّ ماشيًا أن يركب إن أحب ذلك، ويهدي هديًا لترك المشي، ويكفّر عن يمينه لحنثه فيها، وبهذا كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يقولون. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه [حديث] (¬1) أخت عقبة بن عامر الذي رواه عبد الله بن عباس، وعكرمة مولاه، عن عقبة بن عامر. وأخرج ما رواه ابن عباس بإسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: نا أبو الوليد، قال: ثنا همّام، قال: ثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك، فقال النبى -عليه السلام-: إن الله -عز وجل- لغنيٌّ عن مشي أختك ولتهد هديًا". وأخرج ما رواه عكرمة عن عقبة بإسناد صحيح أيضًا. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والسياق يقتضيها. (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 234 رقم 3296، 3297).

وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا شعيب بن أيوب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، عن عقبة بن عامر الجهني: "أنه قال للنبي -عليه السلام-: إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال: إن الله لا يصنع بمشي أختك إلى البيت شيئًا". قوله: "ففي هذا الحديث" أي الحديث الذي رواه ابن عباس عن عقبة بن عامر. والباقي ظاهر. ص: وأما وجه النظر في ذلك: فإن قومًا قالوا: ليس المشي فيما يوجبه نذر؛ لأن فيه تعبًا للأبدان، وليس الماشي في حال مشيه في حرمة إحرام، فلم يوجبوا عليه المشي ولا بدلًا من المشي. فنظرنا في ذلك، فرأينا الحج فيه الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وبجَمْعٍ، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل في حال إحرامه وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه وهو طواف الصدر، فكان ذلك كله إذ كان من أسباب الحج قد أُريد أن يفعله الرجل ماشيًا، وكان من فعله راكبًا مقصرًا، وجُعل عليه الدم، هذا إذا كان فعله لا من عذر، وإن كان فعله من علّة فإن الناس مختلفون في ذلك، فقال بعضهم: لا شيء عليه. وممن قال بذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. وقال بعضهم: عليه دمٌ. وهذا هو النظر عندنا؛ لأن العلل إنما تُسْقط الآثام في انتهاك الحرمات، ولا تُسقط الكفارات، ألا ترى أن الله -عز وجل- قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) فكان حلق الرأس حرامًا على المحرم في إحرامه إلا من عذر، فإن حلقه فعليه الإثم والكفارة، وإن اضطر إلى ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 235 رقم 3304). (¬2) سورة البقرة، آية: [196].

حلقه فَحَلَقَهُ، فعليه الكفارة ولا إثم عليه، فكان العذر تسقط به الآثام ولا تسقط به الكفارات، فكان يجب في النظر أن يكون كذلك حكم الطواف بالبيت، إذا كان مَنْ طافه راكبًا للزيارة لا من عذر فعليه دم؛ إلا أن يكون من طافه من عذر راكبًا كذلك أيضًا. فهذا حكم النظر في هذا الباب، وهو قياس قول زفر -رحمه الله-, ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا لم يجعلوا على من طاف بالبيت طواف الزيارة راكبًا من عذرٍ شيئًا. فلما ثبت بالنظر ما ذكرنا، كان كذلك المشي لما رأيناه، قد يجب بعد فراغ الإحرام إذ كان من أسبابه، كما يجب في الإحرام، كان كذلك المشي الذي قبل الإحرام من أسباب الإحرام، حكمه حكم المشي الواجب في الإحرام؛ فلما كان على تارك المشي الواجب في الإحرام دم؛ كان على تارك هذا المشي الواجب قبل الإحرام دم أيضًا، وذلك واجب عليه في حال قُوَّتهِ على المشي، وفي حال عجزه عنه في قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد أيضًا؛ وذلك دليلٌ لنا صحيح على ما بيناه من حكم الطواف في حال القوة عليه، وفي حال العجز عنه. ش: أي وأمّا وجه القياس في الحكم المذكور: فإن قومًا وأراد بهم: أهل المقالة الأولى، وهم: عطاء والشعبي والحسن وقتادة قالوا: ليس المشي يعني مَنْ نذره أن يحج ماشيًا مما يوجبه أي من الذي يوجبه نذرٌ، أراد أن النذر لا يوجب المشي؛ لأن فيه تعبًا للأبدان، فإذا لم يجب عليه المشي، لا يجب عليه بدله أيضًا عند تركه إياه. قوله: "وبِجَمع" أراد به المزدلفة. قوله: "وكان الطواف. . . ." إلى آخره تقسيم الطواف في الحج. قوله: "إذ كان" أي حين كان. قوله: "فقال بعضهم" أراد به: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وصاحبيه.

قوله: "وقال بعضهم: عليه دم" أراد به: زفر والشافعي ومالكًا وأحمد -رحمهم الله-. قوله: "وهذا هو النظر عندنا" أشار بهذا إلى أن القياس يقتضي ما قاله زفر ومن تبعه، وهو مختارُه أيضًا وَبَيَّن وجه ذلك بقوله: "لأن العلل. . . ." إلى آخره. قوله: "فكان يجب في النظر" أي في القياس، والباقي ظاهر جدًّا. ص: فإن قال قائل: فإذا وجب عليه المشي بإيجابه على نفسه أن يحج ماشيًا، فكان ينبغي إذا ركب أن يكون في معنى مَن لم يأت بما أوجب على نفسه، فيكون عليه أن يحج بعد ذلك ماشيًا، ويكون كمن قال: لله علىّ أن أصلي ركعتين قائمًا. فصلاهما قاعدًا. فمن الحجة على قائل هذا القول عندنا: أنَّا رأينا الصلوات المفروضات التي علينا أن نصليها قيامًا لو صليناها قعودًا لَا لعذر؛ وجب علينا إعادتُها، وكنا في حكم من لم يصلها، وكان من حجَّ منا حجة الإِسلام التي يجب علينا المشى في الطواف لها، فطاف ذلك الطواف راكبًا ثم رجع إلى أهله، لم يُجْعل في حكم من لم يطف ويؤمر بالعود؛ بل قد قبل في حكم من طاف، وأجزأه طوافه ذلك؛ إلا أنه جعل عليه دم لتقصيره، فكذلك الصلاة الواجبة بالنذر والحج الواجب بالنذر هما مقيسان على الصلاة والحج الواجبين بإيجاب الله -عز وجل-، فما كان من ذلك مما وجب بإيجاب الله -عز وجل- يكون المقصر فيه في حكم تاركه، كان كذلك ما وجب عليه من ذلك بإيجابه إياه على نفسه فقصّر فيه، فلم يجب عليه إعادة، ولم يكن بذلك التقصير في حكم تاركه، كان كذلك ما وجب عليه من ذلك الجنس بإيجابه إياه على نفسه فقصّر فيه، فلا يكون بذلك التقصر في حكم تاركه فيجب عليه إعادته، ولكنه في حكم فاعله وعليه لتقصيره ما يجب عليه من التقصير في أشكاله من الدماء. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا وجب على الناذر المذكور بإيجابه إياه على نفسه كان ينبغي إذا ركب ألا يكون آثمًا بما أوجبه على نفسه، فيجب عليه أن يحج بعد ذلك ماشيًا، وكذلك قلنا على من نذر أن يُصلِّي ركعتين قائمًا فصلاهما قاعدًا بغير عذر فإنه يجب عليه إعادتهما. وأجاب عن ذلك بقوله: "فمن الحجة على قائل هذا القول. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر غني عن البيان. قوله: "في أشكاله" بفتح الهمزة أي في أمثاله وأقرانه.

ص: باب: الرجل ينذر وهو مشرك نذرا ثم يسلم

ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي نذر نذرًا وهو مشرك، ثم أسلم بعده، هل يجب عليه الوفاء بذلك النذر السابق أم لا؟ ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام. فقال: فِ بنذرك". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: ثنا حفص ابن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -أراه عن عمر - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية نذرًا، فقد جاء الله بالإِسلام، فقال: فِ بنذرك". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، أن أيوب، حدثه أن نافعًا حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: "أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله بالجعرانة، فقال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام. فقال النبي -عليه السلام-: اذهب فاعتكف يومًا". ش: رجال هذه الأسانيد الثلاثة كلهم من رجال الصحيح ما خلا يزيد بن سنان وعلي بن شيبة وهما أيضًا ثقات. وعُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وإسحاق بن إبراهيم هو المعروف بابن راهوَيْه، شيخ الجماعة مما خلا ابن ماجه. وأيوب: هو السختياني. فالأول: أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ولكن في روايته: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف على باب المسجد. فقال النبي -عليه السلام-: أوفي بنذرك" رواه عن محمَّد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن محمَّد بن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

والثاني: أخرجه البخاري (¬1): نا محمَّد بن مقاتل أبو الحسن، أنا عبد الله، أنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال: "يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام. قال: أوفِ بنذرك". وأبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبيه، به. والترمذي (¬3): عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى، به. وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن حفص بن غياث. وعن يعقوب (¬5) بن إبراهيم، عن يحيى جميعًا، عن عُبيد الله به. والثالث: أخرجه مسلم (¬6): حدثني أبو الطاهر، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: نا جرير بن حازم، أن أيوب حدثه، أن نافعا حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل رسول الله -عليه السلام- وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يومًا. . . ." الحديث. وأخرجه ابن ماجه (¬7): عن إسحاق بن موسى الخَطْمي، عن سفيان، عن أيوب، عن نافع به. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2464/ رقم 6319). (¬2) "سنن أبى داود" (3/ 242/ رقم 3325). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 112/ رقم 1538). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 261/ رقم 3349). (¬5) "السنن الكبرى" (2/ 261/ رقم 3350). (¬6) "صحيح مسلم" (2/ 1277 رقم 1656). (¬7) "سنن ابن ماجه" (1/ 563 رقم 1772).

قوله: "فِ بنذرك" أصله: أَوْف؛ لأنه أمر من وفى يفي، كَقِ أمرٌ من وَقَّى يَقِي، أصله يَوْفي، حذفت "الواو"؛ لوقوعها بين الياء والكسرة، فصار يفي على وزن يَعِل والأمر منه "فِ". قوله: "أُراه" بضم الهمزة أي أظنه. قوله: "بالِجعْرانة" بكسر الجيم وسكون العين المهملة. وقد تكسر العين وتشدد الراء، وهو موضع قريب من مكة، وهي في الحل، وميقات للإحرام. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أوجب على نفسه شيئًا في حال شركه، من اعتكاف أو صدقة أو شيء مما يوجبه المسلمون لله، ثم أسلم؛ أن ذلك واجب عليه، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوسًا، وقتادة، والحسن البصري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجماعة الظاهرية؛ فإنهم قالوا: إذا أوجب المشرك على نفسه شيئًا من اعتكاف أو صدقة أو عتق أو نحو ذلك، ثم أسلم؛ يجب عليه الوفاء به. وقال ابن حزم (¬1): ومن نذر في حال كفره طاعةً لله -عز وجل-، ثم أسلم؛ لزمه الوفاء به. ثم قال: وروينا عن طاوس: "من نذر في كفره، ثم أسلم، فليوف بنذره". وعن الحسن وقتادة مثله. وبهذا يقول الشافعي وأبو سليمان وأصحابهما. وقال الخطابي: قوله -عليه السلام- لعمر - رضي الله عنه - "فِ بنذرك" يدل على تعلق ذمته بما نذره في الجاهلية، وفيه دليل على أنه يؤاخذ بتوابع الأحكام التي كانت مبَادئها في حالة الكفر، فلو حلف في الجاهلية وحنث في الإِسلام لزمته الكفارة، وهذا أصل الشافعي. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 26).

وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفرائض، مأمورون بالطاعات. وفيه دليل على أن الاعتكاف جائز بغير صوم؛ لأنه إنما كان نذر اعتكاف ليلة، والليل ليس بمحل للصوم. قلت: لا خلاف أن الكفار مخاطبون بالإيمان, ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة، فأما وجوب الأداء في أحكام الدين فمذهب العراقيين من مشايخنا: أن الخطاب يتناولهم أيضًا والأداء واجب عليهم، ومذهب مشايخ ما وراء النهر: أنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات، وقد عرف هذا في موضعه مستقصىً. وأما الاعتكاف هل يشترط فيه الصوم أم لا؟ فإن كان تطوعًا فالصوم ليس شرط فيه، في ظاهر الرواية عن المذهب. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه شرط، واختلاف الرواية فيه مبني على اختلاف الرواية في اعتكاف التطوع أنه مقدر بيوم أو غير مقدر، وإن كان الاعتكاف واجبًا فلا يصح إلا بالصوم لرواية عائشة - رضي الله عنها -: "لا اعتكاف إلا بالصوم". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب عليه من ذلك شيء. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي -في قول- وأحمد -في رواية- فإنهم قالوا: لا يجب عليه من ذلك شيء. ص: واحتجوا في ذلك بما رُوِيَ عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا مالك بن أنس، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ نذر أن يُطع الله فليُطعْه، ومن نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن مالك. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن طلحة بن عبد الملك. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن طلحة. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو سلمة المنقري، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير عن محمد بن أبان، عن القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: "من نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد قال: ثنا يحيى. . . . فذكر بإسناد مثله. حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن كعب الحلبي، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن ابن حرملة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إنما النذر ما ابتُغِي به وجه الله تعالى". قالوا: فلما كانت النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب بها إلى الله تعالى، فلا تجب إذا كانت معاصي لله تعالى، وكان الكافر إذا قال: لله عليّ صيام. أو قال: لله عليّ اعتكاف. فهو لو فعل ذلك لم يكن به إلى الله متقربًا، وهو في وقت ما أوجبه إنما قصد به إلى ربه الذي يعبده من دون الله -عز وجل- وذلك معصية، فدخل ذلك في قول رسول الله -عليه السلام-: "لا نذر في معصية الله". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديثي عائشة وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -. أما حديث عائشة فأخرجه من ست طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حسان التنيسي، عن مالك بن أنس. . . . إلى آخره.

وأخرجه البخاري (¬1): نا أبو نعيم، نا مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن مالك بن أنس. وأخرجه أبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك نحوه. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الزعافري الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬3): عن أبي كُريب، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه الترمذي (¬4): عن قتيبة، عن مالك. . . . إلى آخره. الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، [عن يحيى بن أبي كثير] (¬5) عن محمَّد بن أبان الأنصاري المدني، عن القاسم بن محمَّد، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2463 رقم 6318). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 232 رقم 3289). (¬3) "المجتبى" (7/ 17 رقم 3808). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 104 رقم 1526). (¬5) ليست في "الأصل"، وهو مثبت في "ص" و"شرح معاني الآثار".

السادس: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري البصري العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن أبان، عن القاسم، عن عائشة. وأما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن يعقوب بن كعب بن حامد الحلبي شيخ أبي داود، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن عبد الرحمن بن حرملة بن عمرو المدني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه، وهؤلاء كلهم ثقات، وقد مرّ الكلام في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده غير مرة. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي -عليه السلام- قال: "إنما النذر ما ابتُغِيَ به وجه الله". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من طريق ابن وهب. . . . نحوه. قوله: "قالوا" أي هؤلاء الآخرون، وهذا إشارة إلى بيان وجه الاستدلال بالحديثين المذكورين. فإن قيل: روى أبو داود (¬2): من حديث عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن امرأة أتت فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ، فقال: أوفي بنذرك". قلت: إنما قال لها ذلك لإظهار الفرح بظهوره ورجوعه سالمًا لا أنه يجب بالنذر. وقال البيهقي: يشبه أن يكون أذن لها لأنه فعل مباح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 67 رقم 19836). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 257 رقم 3312).

وقال الخطابي: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي تتعلق بهذا النذر وأحسن حاله أن يكون من باب المباح غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله -عليه السلام- حين قدم المدينة من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين؛ صار فعله كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات، ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب في النكاح؛ لما فيه من الإشاعة لذكره، والخروج به عن معنى السفاح الذي هو الاستتار عن الناس فيه، ومما يبين هذا المعنى قول النبي -عليه السلام- لحسّان حين استنشده وقال له: "كأنما تنضح به وجوه القوم النبل". ص: وقد يجوز أن يكون قول رسول الله -عليه السلام-: "فِ بنذرك" ليس من طريق أن ذلك كان واجبًا عليه، ولكن على أنه قد كان سمح في حال ما نذره أن يفعله فهو معصية لله -عز وجل-، فأمره النبي -عليه السلام- أن يفعله الآن على أنه طاعةٌ لله -عز وجل-، فكان ما أُمِرَ به خلاف ما كان أوجبه على نفسه. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به أهل المقالة الأولى، حاصله: أن أمره -عليه السلام- لعمر بن الخطاب بقوله: "فِ بنذرك" ليس للوجوب، وإنما هو للإباحة، وذلك لأنه لما نذر أن يفعله وهو في كفره كان ذلك على وجه المعصية لله تعالى، فأمره النبي -عليه السلام- بعد إسلامه على وجه الطاعة لله -عز وجل-، فكان الذي أُمر به في هذه الحالة خلاف ما كان أوجبه على نفسه في تلك الحالة. فافهم. والله أعلم.

ص: كتاب العتاق

ص: كتاب العتاق ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام العتاق، وهو اسم للعتق، يقال: أعتقتُ العبدَ أُعْتِقه إعتاقًا وعتاقةً، فهو مُعتَق وأنا مُعتقِ، وعُتِقَ هو فهو عَتِيق، أي حرَّرته فصار حرًّا. وقال الجوهري: العِتْقُ: الحرية، وكذلك العَتاق -بالفتح- والعَتَاقة، تقول فيه: عتَقَ العبدى يعتِق -بالكسر- عتقًا وعتاقًا وعتاقة، فهو عتيق وعاتق، وأعتقه أنا انتهى. والعتق في اللغة: القوة، من عَتَق الطائر إذا قويَ على جناحيه، وفي الشرع: عبارة عن قوة شرعية في مملوك، والإعتاق: إثبات العتق عندهما، وعند أبي حنيفة: إثبات النقل المفضي إلى حصول العتق، والرق ضعف شرعي يثبت في المحل فيعجزه عن التصرفات الشرعية، ويسلبه أهلية القضاء والشهادة والسلطنة والتزوج وغير ذلك، فافهم.

ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما ش: أي هذا باب في بيان أحكام العبد المشترك بين الرجلين، إذا أعتقه أحدهما، كيف يكون حكمه؟ ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شقصًا له في مملوك، ضمن لشركائه حصصهم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن عُفَير، قال: حدثني داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق عبدًا بينه وبين شركائه، قُوِّم عليه قيمته وعتق". حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عليّ بن مَعبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "مَنْ أعتق جزءًا له مِنْ عبد -أو أَمَة- حمل عليه ما بقي في ماله حتى يعتق كله جميعًا". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم والبخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا هناد، قال: نا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق شقصًا له في عبد؛ ضمن لأصحابه أنصابهم". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 180 رقم 4938).

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن عفير المصري شيخ البخاري. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: أنا قتيبة، قال: نا داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-: "من كان له عبد بينه وبين آخر، فأعتق نصيبه. . . ." الحديث. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد. . . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، وأسانيد متباينة. فقال البخاري (¬2): نا مسدد، ثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق شِركًا له في مملوك وجب عليه أن يعتق كله، إن كان له مال قدر ثمنه، يقام قيمة عدل، ويُعطَى لشركاؤه حصّتَهم، ويُخَلَّى سبيل المُعتَق". حدثنا (¬3) علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق عبدًا بين اثنين، فإن كان موسرًا قوِّم عليه، ثم يعتق". حدثنا (¬4) عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أعتق شركًا له في عبد، وكان له ما يبلغ ثمن العبد؛ قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأُعطي شركائه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (3/ 180 رقم 4940). (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 885 رقم 2369). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 893 رقم 2385). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 892 رقم 2386).

حدثنا عُبيد (¬1) بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق شركًا له في مملوك، فعليه عتقه كله، إن كان له مال يبلغ ثمنه؛ فإن لم يكن له مال، يقوم عليه قيمة عدل على المعتِق وأعتق ما أعتق". حدثنا أبو النعمان (¬2)، نا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "مَنْ أعتق نصيبًا له في مملوك، أو شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل، فهو عتيق". قال نافع: "وإلا فقد عتق منه ما عتق". قال أيوب: لا أدري أشيء قاله نافع أو شيء من الحديث. وقال مسلم (¬3): نا يحيى بن يحيى، قال: قلت لمالك: حدثك نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره، نحو رواية البخاري. وحدثنا ابن ابن نمير (3) قال: ثنا أبي، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام- .. . . . إلى آخره، نحو رواية البخاري. وحدثنا شيبان (3) بن فروخ، قال: نا جرير بن حازم، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق نصيبًا له في عبدٍ، وكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته، قُوِّم عليه قيمة عدل؛ وإلا فقد عتق منه ما أعتق". وأخرجه مسلم بأسانيد أخرى (3). وقال أبو داود (¬4): نا القعنبي، عن مالك، عن نافع. . . . إلى آخره، نحو روايتي البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 892 رقم 2387). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 893 رقم 2388). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 1139 رقم 1501). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 418 رقم 3940).

وحدثنا (¬1) إبراهيم بن موسى الرازي، قال: أنا عيسى -يعني ابن يونس- قال: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق شركًا له في مملوك، فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه؛ وإن لم يكن له مال عتق نصيبه". وحدثنا (¬2) أحمد بن حنبل، نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه يبلغ به النبي -عليه السلام-: "إذا كان العبد بين اثنين، فأعتق أحدهما نصيبه؛ فإن كان موسرًا تُقوَّم عليه قيمته، لا وكس ولا شطط، ثم يعتق". وقال الترمذي (¬3): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق نصيبًا -أو قال: شقيصًا، أو قال: شركًا- له في عبدٍ، فكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق، وإلا فقد عتق منه ما عتق". وقال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، وقد روى سالم، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحو ذلك. وقال النسائي (¬4): أنا عمرو بن علي، نا يزيد بن زريع، نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق شركًا له في مملوك وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو أعتق من ماله". أخبرنا (¬5) نوح بن حبيب، قال: أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق شركًا له في عبد، أُتمّ ما بقي في ماله إن كان له مال يبلغ ثمن العبد". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 419 رقم 3943). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 419 رقم 3947). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 629 رقم 1346). (¬4) "المجتبى" (7/ 319 رقم 4699). (¬5) "المجتبى" (7/ 319 رقم 4698).

وقال ابن ماجه (¬1): نا يحيى بن حكيم، ثنا عثمان بن عُمير، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. . . . إلى آخره، نحو ما ذكرناه آنفًا. قوله: "شقصًا" بكسر الشين أي نصيبًا، والشقيص النصيب في العين المشتركة في كل شيء. "والحِصَص" بكسر الحاء جمع حصة، وهي النصيب أيضًا، وكذلك "الشِرْك" بكسر الشين. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما ضَمن قيمة نصيب شريكه، موسرًا كان أو معسرًا. وقالوا: به جعل العتاق من الشريك جناية على نصيب شريكه، يجب عليه بها ضمان قيمته من ماله، وكان من جَنى على مالٍ لرجلٍ وهو موسر أو معسر وجب عليه ضمان ما أتلف لجنايته، ولم يفترق حكمه في ذلك إن كان موسرًا أو معسرًا في وجوب الضمان عليه. قالوا: فكذلك لما وجب على الشريك ضمان نصيب شريكه لجنايته لما كان موسرًا، وجب ضمان ذلك أيضًا عليه وإن كان معسرًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وزفر بن الهذيل؛ فإنهم قالوا: من أعتق شركا له في مملوك؛ ضَمِنَ قيمة حصة شريكه، موسرًا كان أو معسرًا. ورووا ذلك عن عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -. قوله: "وقالوا" أي هؤلاء الآخرون. تقرير هذا الكلام: أنَّ عِتْق أحد الشريكين نصيبه جناية منه على نصيب الآخر، فالجاني عليه الضمان، سواء كان موسرًا أو معسرًا، وسواء كان شريكًا أو غير شريك، فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 844 رقم 2528).

واعلم أن هاهنا أربعة عشر مذهبًا: الأول: مذهب هؤلاء المذكورين. الثاني: مذهب ربيعة. فإنه قال: من أعتق حصة له من عبد بينه وبين آخر لم يُعد عتق. روى ذلك الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران، عن محمَّد بن سماعة، عن أبي يوسف، أن ربيعة قال له ذلك. الثالث: مذهب الزهري، وعبد الرحمن بن يزيد، وعطاء بن رباح، وعمرو ابن دينار. فإنهم قالوا: ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه، يفعل فيه ما شاء. الرابع: مذهب عثمان البتِّي. فإنه قال: ينفذ عتق الذي أعتق في نصيبه، ولا يلزمه شيء لشريكه؛ إلا أن تكون جارية رائعة إنما تلتمس للوطئ؛ فإنه يضمن للضرر الذي أدخل على شريكه. الخامس: مذهب الثوري، والليث، والنخعي في قول. فإنهم قالوا: شريكه بالخيار، إن شاء أعتق، وإن شاء ضمّن المُعْتِق. السادس: مذهب ابن جريح وعطاء بن أبي رباح في قول. فإنهما قالا: إن أعتق أحد الشريكين نصيبه استسعي العبد، سواء كان المُعْتِق موسرًا أو معسرًا. قال ابن جريح: هذا أول قول خطأ. ثم رجع إلى ما ذكر أولًا. السابع: مذهب عبد الله بن أبي يزيد. فإنه قال: إن أعتق شِركًا له في عبدٍ وهو مُفلس، فأراد العبد أخذ نفسه بقيمته، فهو أولى بذلك إن يُفْد.

الثامن: مذهب ابن سيرين. فإنه قال في عبد بين اثنين أَعْتَقَ أحدهما نصيبه: إن باقيه يعتق من بيت مال المسلمين. التاسع: مذهب مالك. فإنه قال: من أعتق شِركَا له في عبدٍ أو أَمَة فإن كان موسرًا قُوِّم عليه حصصُ شركائه وأغرمها لهم، وأُعتق كله بعد التقويم لا قبله، وإن شاء الشريك أن يُبق حصته فله ذلك، وليس له أن يمسكه رقيقًا ولا أن يكاتبه ولا أن يبيعه ولا أن يدبِّره، فإن غفل عن التقويم حتى مات المعتق أو العبد بطل التقويم، وماله كله لمن يمسك بالرق، فإن كان الذي أعتق نصيبه معسرًا، فقد عتق ما أعتق، والباقي رقيق يبيعه الذي هو له إن شاء، أو يمسكه رقيقًا، أو يكاتبه، أو يهبه، أو يدبِّره، وسواء أيْسر المعتق بعد عتقه أو لم يُوسر، فإن كان عبدًا أو أمة بين ثلاثة، فأعتق أحدهم نصيبه وهو معسر، ثم أعتق الآخر وهو موسر لم يُقوَّم عليه ولا على المعتق، وبقي بحصته، فإن كان كلاهما موسرًا قُوِّم على الذي أعتق أولًا فقط، فلو أعتق الاثنان معًا وكانا غنيين قُوَّمت حصة الباقين عليهما، فمرة قال: نصفين. ومرة قال: على قدر حصصهما، فإن كان أحدهما غائبًا لم يُنتظر، لكن يُقوّم على الحاضر. العاشر: مذهب الشافعي -في قول- وأحمد وإسحاق. فإنهم قالوا: إن كان الذي أعتق موسرًا قوِّم عليه حصة مَنْ شركه وهو حُرّ كله حين أعْتَق الذى أعْتَق نصيبه، وليس لمن شركه أن يعتقوا ولا أن يمسكوا، فإن كان المُعْتِق معسرًا فقد عتق ما عتق، وبقي سائره مملوكًا يتصرف فيه مالكه كما شاء. الحادي عشر: مذهب ابن شبرمة، والأوزاعي، والحسن بن حي، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والشعبي، والحسن البصري، وحماد بن أبي سليمان وقتادة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-.

فإنهم قالوا: إن كان المعتق لنصيبه معسرًا استسعي العبد في قيمة من لم يعتق، وعتق كله. وذهب إليه الطحاوي. وقال ابن حزم: وقد ذكرناه عن ثلاثين من الصحابة - رضي الله عنهم -. قلت: اختلف هؤلاء، أيكون حرًّا منذ يعتِق الأول نصيبه ولا يكون للآخر تصرف بعتق ولا بغيره، أو لا يعتق إلا بأداء؟ ولمن يكون ولاؤه إن عتِق باستسعائه؟ وهل يرجع على الذي أعتَق بعضه أولًا بما بقي له أم لا؟. أما الفصل الأول: فإن أبا يوسف، ومحمدًا والأوزاعي والحسن بن حيّ قالوا: هو حرّ ساعة التلفظ بعتقه. وقال قتادة: هو عبد حتى يؤدى إلى من يعتق حقه. وأما الفصل الثاني: فإن حمادًا والحسن البصري قالا: إن كان للمعتق مال فضمنه فالولاء كله له، وإن عتق بالاستسعاء فالولاء بينهما. وهو قول سفيان أيضًا. وقال الشعبي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وكل من قال: هو حُرٌّ حين يعتق بعضه: إن ولاءه كله للذي أعتق بعضه، عتق عليه أو بالاستسعاء. وهو قول النخعي أيضًا. وأما الفصل الثالث: فإن ابن أبي ليلى وابن شبرمة قالا: يرجع المعتق بما أدّى على العبد، ويرجع العبد إذا استسعى بما أدى على الذي ابتدأ عتقه. وقال أبو يوسف وغيره: لا رجوع لأحدهما على الآخر. الثاني عشر: مذهب أبي حنيفة. فإنه قال: من أعتق نصيبًا له من عبد أو أمة، فشريكه بين خيارين: إن شاء أعتق نصيبه، ويكون الولاء بينهما سواء كان في كلا الأمرين موسرًا أو معسرًا، وله إن كان موسرًا خيار في وجه ثالث وهو: إن شاء ضَمَّن المعتِقَ حصته, ويرجع المعتِق الآخر على العبد بما ضمنه شريكه الذي أعتق، فإذا أداها العبد عتق رقبته، والولاء في هذا الوجه خاصةً للذي أعتق حصته فقط.

قال: فإن أعتق أم ولد بينه وبين آخر فلا ضمان عليه ولا عليها أيضًا، موسرًا كان المعتِق أو معسرًا، أو قال: فإن دبَّر عبدًا بينه وبين آخر فهو بالخيار إن شاء احتبس نصيبه رقيقًا كما هو، ويكون نصيب شريكه مدبرًا وإن شاء دبر نصيبه أيضًا، وإن شاء ضمَّن العبد حصته منه مدبرًا، فإذا أداها عتق وضمَّن الشريك الذي دبر العبد أيضًا قيمة حصته مدبرًا, ولا سبيل له إلى شريكه في تضمين، وإن شاء عتق نصيبه فإن ضمَّن كان لشريكه الذي دبره أن يضمِّن الشريك المعتق قيمة نصيبه مدبرًا. الثالث عشر: مذهب بكير بن الأشج. فإنه قال في رجلين بينهما عبد، فأراد أحدهما أن يعتق أو يكاتب: فإنهما يتقاومانه. الرابع عشر: مذهب الظاهرية. فإنهم قالوا: من أعتق نصيبه من العبد أو الأمة، فإنه يُعتق كله حين يلفظ بذلك، فإن كان له مال يفي بقيمة حصة شريكه حين لفظ بالعتق إذا ما أبى شريكه، وإلا كلف العبد أو الأمة بالاستسعاء في قيمة حصة شريكه على حسب طاقته، ليس للشريك غير ذلك ولا له أن يعتق، والولاء للذي أعتق أولًا، ولا يرجع العبد على من أعتقه بشيء مما سعى فيه، حدث له مال أو لم يحدث. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب الضمان عليه لقيمة نصيب شريكه لعتاقه إلا أن يكون موسرًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجب الضمان على أحد الشريكين للآخر لقيمة نصيبه، إلا إذا كان موسرًا. وتقرير مذهب الشافعي ما قاله في الجديد: أنه إذا كان المعتق لحصته من العبد موسرًا عتق جميعه حين أعتقه، وهو حر من يومئذٍ يرث ويورث، وله ولاءه ولا

سبيل للشريك على العبد، وعليه قيمة نصيب شريكه كما لو قتله وجعل عتقه إتلافًا هذا كله إذا كان موسرًا في حين العتق للشقص، سواء أعطاه القيمة أو منعه، وإن كان معسرًا فالشريك على ملكه يقاسمه كسبه أو يخدمه يومًا ويُخلي لنفسه يومًا، ولا سعاية عليه. قال أبو عمر بن عبد البر (¬1): ولم يختلف قول الشافعي أن المعتق لحصته من عبد بينه وبين غيره وهو معسر في حين تكلم بالعتق؛ أنه لا شيء عليه من سعاية ولا غيرها، وأنه لا يعتق من العبد غير تلك الحصة، وهو قول مالك في عتق المعسر، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود والطبري. وقال مالك: إن مات المعتق الموسر قبل أن يُحكم عليه بعتق الباقي، لم يُحكم على ورثته بذلك. وقال الشافعي: يحكم بعتقه إذا مات ولو أتى على تركته، إلا أن يَعْتِقَ في المرض، فيقوم في الثلث. ص: وقالوا في حديث ابن عمر هذا: إنما الضمان المذكور فيه على الموسر خاصة دون المعسر وقد بُين ذلك عن ابن عمر في غير هذه الآثار، فمما روي عنه في ذلك: حدثنا يونس قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوَّم عليه قيمة العبد فأعطى شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا بن أبي ذئب، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق شركا له في مملوك، وكان للذي يعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه، فهو عتيقٌ كله". ¬

_ (¬1) "التمهيد" (14/ 281 - 282).

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام- "مَنْ أعتق شركًا له في مملوك، فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه، وإن لم يكن له مال فيُقوَّم قيمة عَدْلِ على المُعْتِق، وقد عتق ما عتق". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق شركًا له في مملوك، فقد عتق كله، فإن كان للذي أعتقه من المال ما يبلغ ثمنه، فعليه عتقه كله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا صخر بن جويرية، عن نافع: "أن ابن عمر كان يفتي في العبد أو الأمة يكون أحدهما بين شركائه، فيعتق أحدهم نصيبه منه، فإنه يجب عتقه على الذي أعتقه إذا كان له من المال ما يبلغ ثمنه، يقوم في ماله قيمة عدل، فيدفع إلى شركائه أنصابهم، ويُخلَى سبيل العبد، يخبر بذلك عبد الله بن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسرًا فإنه يقوّم عليه بأعلى القيمة، ثم يعتق". قال سفيان: وربما قال عمرو بن دينار: "قيمة عدل لا وكس فيها ولا شطط". فثبت بتصحيح هذه الآثار، أن ما رواه ابن عمر عن النبي -عليه السلام- من ذلك إنما هو في الموسر خاصة، فأردنا أن ننظر في حكم عتاق المعسر كيف هو؟. فقال قائلون: قول رسول الله -عليه السلام-: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" دليل على أن ما بقي من العبد لم يدخله عتاق، فهو رقيق لم يعتق على حاله.

ش: أي قال هؤلاء الآخرون، أشار بذلك إلى بيان استدلالهم لما ذهبوا إليه، وهو أن الضمان المذكور في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إنما هو على الموسر خاصةً دون المعسر، وقد بين ذلك ابن عمر في غير الأحاديث المذكورة. فمما روي عنه في ذلك ما أخرجه الطحاوي من ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عنه. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3): من حديث مالك، وقد ذكرناه عن قريب. قال أبو عمر: هكذا قال يحيى بن يحيى في هذا الحديث "من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد" وتابعه ابن القاسم وابن وهب وابن بكير في بعض الروايات عنه، وقال القعنبي: "من أعتق شركًا له في مملوك قُيِّم عليه بقيمة عدل" ولم يقل: "فكان له مال يبلغ ثمن العبد". وقد تابعه بعضهم عن مالك ومن ذكر هذه الكلمة فقد حفظ وجوَّد، ومن لم يذكرها سقطت له ولم يفهم الحديث، ولا خلاف بين العلماء أن هذه اللفظة مستعملة صحيحة. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المديني، عن نافع. وأخرجه مسلم (¬4): ثنا محمَّد بن رافع، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر. . . . إلى آخر نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 892 رقم 2386). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1285 رقم 1501). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 418 رقم 3940). (¬4) "صحيح مسلم" (2/ 1139 رقم 1501).

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (¬1): عن ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عنه، نحوه. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله، عن نافع. وأخرجه النسائي (¬2): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد. وعن ابن قدامة (¬3). وعن يحيى (¬4)، عن عبيد الله، عن نافع. الخامس: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن روح بن عبادة، عن صخر بن جويرية، عن نافع. وأخرجه البخاري (¬5): عن أحمد بن المقدام، عن فضيل بن سليمان، عن موسى ابن عقبة، أخبرني نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يُفتي في العبد أو الأَمَة يكون بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه فيه، يقول: قد وجب عليه عتقه كله؛ إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ، يقوم من ماله قيمة العدل ويدفع إلى الشركاء أنصبائهم، ويُخلّى سبيل المُعْتَق" يخبر بذلك ابن عمر عن النبي -عليه السلام-. السادس: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه عبد الله، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1139 رقم 1501). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 182 رقم 4947). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 181 رقم 4946). (¬4) "السنن الكبرى" (3/ 182 رقم 4948). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 893 رقم 2389).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه. . . . فذكر مثله. قوله: "شِركًا" بكسر الشين، وهو النصيب. قوله: "وإلا فقد عتق عليه ما عتق". أي فإن لم يكن له مال يبلغ ثمن العبد، عتق منه ما عتق. وقال الخطابي: فيه دليل على أنه لا عتاقة وراء ذلك، وفيه سقوط السعاية. قلت: وفي حديث آخر وجوب السعاية، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: "لا وَكس" بفتح الواو، أي لا نقصان، والشطط: الجور والظلم والبعد عن الحق. وقال الخطابي: فيه حجة لمن ذهب إلى أن العتق لا يقع بنفس الكلام، ولكنه بعد التقويم والأداء وهو قول مالك وربيعة. قوله: "تصحيح هذه الآثار" أراد بها هذه الأحاديث التي رواها من ستة طرق. قوله: "كيف هو" يعني: قوله: "عتاق المعسر كيف هو" أي كيف يكون حكمه. قوله: "قائلون" أي قوم قائلون من أهل هذه المقالة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يسعى العبد في نصف قيمته للذي لم يعتقه. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامر الشعبي والحسن البصري، والأوزاعي، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وعبد الله بن شبرمة القاضي، والحسن بن حَيّ، وأبا يوسف ومحمد -رحمهم الله- فإنهم قالوا: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد يُعتق كله، ويسعى البعد في نصيب الذي لم ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 419 رقم 3947).

يعتق إذا من نصيبه كان المعتق معسرًا ولا يرجع المعتق على العبد بشيء ولا العبد بما سعى عليه بشيء إلا أن ابن شبرمة قال: يرجع العبد على المعتق بما سعى عنه متى أيسر، وبه قال ابن أبي ليلى. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد روى ذلك عن النبى -عليه السلام- كما رواه ابن عمر وزاد عليه شيئًا بَيَّن كيف حكم ما بقي من العبد بعد نصيب المعتق. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق نصيبًا -أو شركًا- له في مملوك فعليه خلاصُه كله في ماله، فإن لم يكن له مال؛ استسعى العبد غير مشقوق عليه". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، عن قتادة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني جرير بن حازم، عن قتادة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الرحمن بن سليمان الرازي، عن حجاج بن أرطاة، عن قتادة .. فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن صَبيح، عن قتادة. . . . فذكر بإسناده مثله. فكان هذا الحديث فيه ما في حديث ابن عمر، وفيه وجوب السعاية على العبد إذا كان معتقه معسرا. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد روى ذلك -أي: حكم العبد المشترك بين اثنين إذا أعتقه أحدهما- كما رواه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-، وزاد -أي أبو هريرة- عليه

أي على ما رواه ابن عمر شيئًا بيّنَ به أن ذلك الشيء الزائد كيف حكم ما بقي من العبد بعد نصيب الذي أعتقه، تلك الزيادة هي قوله: "فإن لم يكن له مال، استسعى العبد غير مشقوق عليه" فهذا صريح على وجوب السعاية على العبد إذا كان معتقه معسرًا. قوله: "حدثنا يزيد بن سنان. . . ." إلى آخره. بيان لما رواه أبو هريرة، وأخرجه من خمس طرق: الأول: بإسناد صحيح، والنضر بالنون والضاد المعجمة، وبَشِير بفتح الباء الموحدة، ونَهيك بفتح النون. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهيك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من أعتق نصيبًا -أو قال: شقيصًا- في مملوك، فخلاصه في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال قُوِّم قيمة عدل، ثم يستسعى في نصيبه الذي لم يعتق، غير مشقوق عليه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. الثانى: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود. . . . إلى آخره. وهذا أيضًا إسناده صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان، قال: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة قال: قال النبي -عليه السلام-: "من أعتق شقيصًا في مملوك، فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال، وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 630 رقم 1348). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 417 رقم 3937).

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري. . . . إلى آخره. ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أحمد بن أبي رجاء، ثنا يحيى بن آدم، ثنا جرير بن حازم، سمعت قتادة، حدثني النضر بن أنس بن مالك، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي الأشل، عن حجاج بن أرطاة النخعي، فيه مقال، عن قتادة، عن النضر، عن بشير، عن أبي هريرة. الخامس: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن صَبِيح بفتح الصاد الخراساني المقرئ، كلاهما عن قتادة. . . . إلى آخره. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬2) بأسانيد مختلفة. قوله: "فكان هذا الحديث" أي حدث أبي هريرة فيه ما في حديث عبد الله بن عمر المذكور فيما مضى، وفيه زيادة عليه، وهو وجوب السعاية على العبد إذا كان معسرًا. فإن قيل: قال الخطابي: قوله: "استسعى العبد غير مشقوق عليه" كلام لا يثبته أهل النقل مسندًا عن النبي -عليه السلام-، ويزعمون أنه من قول قتادة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 893 رقم 239). (¬2) البخاري (2/ 882 رقم 2360)، ومسلم (3/ 1285 رقم 1503)، وأبو داود (2/ 417 رقم 3938)، والترمذي (3/ 630 رقم 1348)، والنسائي في "الكبرى" (3/ 185 رقم 4963)، وابن ماجه (2/ 844 رقم 2527).

وقد تأوله بعض الناس فقال: معنى السعاية: أن يستسعى العبد لسيده، أي يستخدم، ولذلك قال: "غير مشقوق عليه" أي لا يحمَّل فوق ما يلزمه من الخدمة إلا بقدر ما فيه من الرق، ولا يطالب بأكثر منه. وأيضًا لم يذكر ابن أبي عروبة السعاية في روايته عن قتادة، وفيه اضطراب؛ فدل أنها ليست من متن الحديث عنده، وإنما هي من كلام قتادة، ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬1): روى أبو هريرة هذا الحديث على خلاف ما رواه ابن عمر، واختلف في حديثه وهو حديث يدور على قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. واختلف أصحاب قتادة عليه في الاستسعاء، وهو الموضع المخالف لحديث ابن عمر في رواية مالك وغيره، واتفق شعبة وهمام على ترك ذكر السعاية في هذا الحديث، والقول قولهم في قتادة عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم في قتادة غيرهم، وأصحاب قتادة الذين هم حجة فيه هؤلاء الثلاثة، فإن اتفق هؤلاء الثلاثة لم يعرج على من خالفهم في قتادة، وإن اختلفوا نظر، فإن اتفق منهم اثنان وانفرد واحد فالقول قول الاثنين لاسيما إذا كان أحدهما شعبة، وليس أحد بالجملة في قتادة مثل شعبة لأنه كان يوقفه على الإسناد والسماع، وقد اتفق شعبة وهشام في هذا الحديث على سقوط ذكر الاستسعاء فيه، وتابعهما همام وفي هذا تقوية لحديث ابن عمر وهو حديث مدني صحيح لا يقاس به غيره، وهو أولى ما قيل به في هذا الشأن. وقال البيهقي: ضعف الشافعي السعاية بوجوه: منها: أن شعبة وهشامًا روياه عن قتادة وليس فيه استسعاء، وهما أحفظ. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (14/ 273 - 277).

ومنها: أنه سمع بعض أهل العلم يقول: لو كان حديث سعيد منفردًا لا يخالفه غيره ما كان ثابتًا. قلت: تابع ابن أبي عروبة على روايته عن قتادة يحيى بن أبي صبيح رواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي عروبة ويحيى بن أبي صبيح، عن قتادة، على ما رواه الطحاوي. وقد ذكر البيهقي أيضًا في "سننه": أن الحجاج وأبان وموسى بن خلف وجرير بن حازم رووه عن قتادة كذلك يعني ذكروا فيه الاستسعاء، وإذا سكت شعبة وهشام عن الاستسعاء لم يكن ذلك حجة على ابن أبي عروبة, لأنه ثقة وقد زاد عليهما شيئًا فالقول له، كيف وقد وافقه على ذلك جماعة. وقال ابن حزم (¬1): هذا خبرٌ في غاية الصحة فلا يجوز الخروج عن الزيادة التي فيه وقد رواه عنه يزيد بن هارون وعيسى بن يونس وجماعة كثيرة ذكرهم صاحب "التمهيد" ولم يختلفوا عليه في أمر السعاية منهم عبدة بن سليمان وهو أثبت الناس سماعًا من أبي عروبة. وقال صاحب "الاستذكار": وممن رواه عنه كذلك روح بن عبادة ويزيد بن زريع وعلي بن مسهر ويحيى بن سعيد ومحمد بن بكر ويحيى بن أبي عدي ولو كان هذا الحديث غير ثابت كما زعمه الشافعي لما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما". وقال شارح "العمدة": الذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعللات على البعد ولا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدل فيها بأحاديث يرد عليهم فيها مثل تلك التعليلات. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه: "أن رجلًا أعتق ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 199).

شِقْصًا له في مملوك، فأعتقه النبي -عليه السلام- كله عليه وقال: ليس لله شريك". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام. . . . فذكر بإسناده مثله. فدل قول النبي -عليه السلام-: "ليس لله شريك" على أن العتاق إذا أوجب بعض العبد لله تعالى، انتفى أن يكون لغيره على بقيته ملكٌ؛ فثبت بذلك أن إعتاق الموسر والمعسر جميعًا يبرئان العبد من الرق، فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أبي هريرة، وزاد حديث أبي هريرة عليه وعلى حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وجوب السعاية للشريك الذي لم يُعْتِق إذا كان المعتق معسرًا. فتصحيح هذه الآثار يوجب العمل بذلك، ويوجب الضمان على المعتق الموسر لشريكه الذي لم يعتق، ولا يوجب الضمان على المعتق المعسر، ولكن العبد يَسْعى في ذلك للشريك الذي لم يعتق. وهذا كله قول أبي يوسف ومحمد، وبه نأخذ. ش: ذكر هذا الحديث إشارة إلى أن الإعتاق لا يتجزأ، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد، وتنبيهًا على أنه في المعنى مثل حديث أبي هريرة، لكن حديث أبي هريرة يزيد عليه وعلى حديث ابن عمر أيضًا بوجوب السعاية على العبد للشريك عند إعسار المعتِق. وأشار بقوله: "وبه نأخذ" إلى أنه اختار ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد ومن تبعهما فيه. وأخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي المليح عامر وقيل: زيد -عن أبيه أسامة بن عمير بن عامر الهذلي الصحابي - رضي الله عنه -.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن أبي الوليد الطيالسي، عن همام. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن المثنى، عن أبي الوليد، عن همام. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن همام. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): عن محمَّد بن يحيى القزاز، عن أبي عمر الحوضي وهانئ بن يحيى، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه: "أن رجلًا أعتق شقيصًا من مملوك، فأجاز النبي -عليه السلام- عتقه، وقال: ليس لله شريك". ص: فأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فكان يقول: إذا كان المعتق موسرًا فالشريك بالخيار، إن شاء أعتق كما أعتق وكان الولاء بينهما نصفين، وإن شاء استسعى العبد في نصف القيمة فإذا أداها عُتِقَ وكان الولاء بينهما نصفين، وإن شاء ضمن المعتق نصف القيمة، فإذا أداها عُتِقَ، ورجع بها المضمن على العبد فاستسعاه فيها، وكان الولاء للمعتق. وإن كان المعتق معسرًا فالشريك بالخيار، إن شاء أعتق، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، فأيهما فعل فالولاء بينهما نصفان. ش: قد قررنا مذهب أبي حنيفة فيما مضى، وحاصل مذهبه أنه يرى بتجزيء العتق، وأن يسار المعتق لا يمنع السعاية، على ما عرف في موضعه من فروع الحنفية. ص: واحتج في ذلك بما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان لنا غلام قد شهد القادسية فأبلى فيها، كان بيني وبين أمي وبين أخي الأسود، فأرادوا عتقه، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 416 رقم 3933). (¬2) "سنن النسائي الكبرى" (3/ 186 رقم 4970). (¬3) "المعجم الكبير للطبراني" (1/ 191 رقم 507).

وكنتُ يومئذٍ صغيرًا، فذكر ذلك الأسود لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: أعتقوا أنتم، فإذا بلغ عبد الرحمن، فإن رغب فيما رغبتم أعتق، وإلا ضَمَّنكم". ففي هذا الحديث أن لعبد الرحمن بعد بلوغه أن يعتق نصيبه من العبد الذي قد كان دخله عتاق أمه وأخيه قبل ذلك. قال أبو حنيفة -رحمه الله-: فلما كان له أن يعتق بلا بدل كان له أن يأخذ العبد بأداء قيمة ما بقي له فيه حتى يعتق بأداء ذلك إليه. وكما كان للذي لم يُعتق أن يَعْتق نصيبه من العبد، فضمَّن الشريك المعتق، رجع إلى هذا المضمَّن من هذا العبد مثل ما كان للذى ضمَّنه، فوجب له أن يستسعى العبد في قيمة ما كان لصاحبه فيه، وفيما كان لصاحبه أن يستسعيه فيه. فهذا مذهب أبي حنيفة في هذا الباب. والقول الأول الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-، أصح القولين عندنا؛ لموافقته لما رويناه عن رسول الله -عليه السلام-. ش: أي احتج أبو حنيفة -رحمه الله-: فيما ذهب إليه بما حدثنا أبو بشر عبد الملك ابن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي. وفيه إشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: "كان بيني وبين الأسود وبين أمِّنا غلام قد شهد القادسية، وأبلى فيها، فأرادوا عتقه، وكنت صغيرا فذكر ذلك الأسود لعمر - رضي الله عنه -، فقال عمر: اعتقوا أنتم، ويكون عبد الرحمن على نصيبه حتى يرغب في مثل ما رغبتم فيه، أو يأخذ نصيبه". وجه احتجاج أبي حنيفة: أن عمر - رضي الله عنه - أثبت لعبد الرحمن الإعتاق بعد بلوغه، بعد أن ثبت في العبد إعتاق، فدل على تجزئ الإعتاق. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 423 رقم 21729).

وبهذا سقط كلام ابن حزم (¬1): وأما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد؛ لأنه قول لم يتعلق بقرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة، ولا بقول صاحب. ومما احتج به أبو حنيفة -رحمه الله-: ما رواه إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده، قال: "كان لهم غلام يقال له: طهمان أو ذكوان، فأعتق جده نصفه، فجاء العبد إلى النبي -عليه السلام- فأخبره، فقال: "يعتق في عتقك، وترق في رقك"، قال: وكان يخدم سيده حتى مات". أخرجه عبد الرزاق (¬2): عن عمر بن حوشب، عن إسماعيل بن أمية. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من طريق عبد الرزاق. فإن قيل: قال البيهقي: تفرد به عمر عن إسماعيل بن أمية بن عمرو الأشدق، والأشدق لا صحبة له، وهو عمرو بن سعيد بن العاص. قلت: ذكر ابن حبان في التابعين وكذا فعل ابن منده، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": له صحبة. وأخرج أحمد هذا الحديث في "مسنده" (¬4): في مسند عمرو بن سعيد. ومما احتج به أبو حنيفة ما رواه البيهقي في "سننه" (¬5): من حديث الثوري عن الأشعث عن الحكم، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا كان لرجل عبد فأعتق نصفه ولم يعتق منه إلا ما عتق". فإن قيل: قال البيهقي: هذا منقطع. قلت: قد روي عن علي - رضي الله عنه - من وجه آخر. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 198). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 148 رقم 16705). (¬3) "السنن الكبرى للبيهقي" (10/ 274 رقم 21108). (¬4) "مسند أحمد" (3/ 412 رقم 15438). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 274 رقم 21110).

فقال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن، قال: قال علي: "يعتق الرجل ما شاء من غلامه". وذكر صاحب "الاستذكار": أن هذا قول: الحكم بن عتيبة، وربيعة، والحسن، والشعبي، وطاوس، وحماد، وعبيد الله بن الحسن، وأهل الظاهر. قوله: "والقول الأول. . . ." إلى آخره. والعجب من الطحاوي أنه أثبت ترجيح قول أبي يوسف ومحمد في هذا الباب على قول أبي حنيفة؛ لأنه موافق للآثار، وقول أبي حنيفة أيضًا كذلك فإن أكثر الحنفية احتجوا لأبي حنيفة في ذلك بما رواه البخاري (¬2): بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه، وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وقد مرّ ذكره [. . . .] (¬3). واحتجوا في ذلك بما رواه البخاري (¬4): بإسناده عن أبي هريرة أن النبي -عليه السلام- قال: "من أعتق نصيبًا أو شقصًا في مملوك فخلاصه عليه من ماله إن كان له مال، وإلا قوِّم عليه فاستسعي به غير مشقوق عليه" أي لا يستغلى عليه الثمن، فدل هذا أيضًا على تجزء الإعتاق لأنه قال: "خلاصه عليه إن كان له مال" فلو لم يكن الإعتاق متجزئًا لم يقل: "خلاصه عليه" لأنه خلص قبل، وأثبت السعاية أيضًا، وهي دليل على التجزء أيضًا, لأن السعاية إنما تكون على العبد، فعلم أنه بقي منه ملك. فإن قلت: ذات الإعتاق لا يتجزأ؛ لأنه معنى واحد لا يقبل التجزء. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 329 رقم 20706). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 892 رقم 2386). (¬3) طمس بـ"الأصل". (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 892 رقم 2390).

قلت: "ليس المراد ذلك، بل المراد من تجزييء الإعتاق والملك أن يتجزأ المحل في قبول أحكام الإعتاق، وهو زوال الملك بأن يزول في البعض دون البعض، وأن يتجزأ المحل في قبول حكم الملك، وهو أن يكون البعض مملوكًا لواحد، والبعض لآخر. فإن قلت: العتق والرق لا يتجزآن بالاتفاق، والإعتاق (¬1) عن العتق لأنه علته فلا يتجزأ الإعتاق أيضًا، وهذا لأن ما لا يتجزأ إذا أضيف إلى المحل ثبت كله كالطلاق، والعفو عن القصاص. ويؤيد ذلك ما رواه البخاري (¬2): عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "من أعتق نصيبًا له في مملوك، أو شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة عدل فهو عتيق". قلت: لا نسلم أن ما لا يتجزأ إذا أضيف إلى المحل يثبت كله، وفي الطلاق والعفو عن القصاص عدم التجزء؛ لعدم الحالة المتوسطة، وفيما نحن فيه حالة متوسطة، وهو زوال بعض الملك فلم يلزم العتق والمراد بالحديث: بعد ما أدى حصص الشركاء، بدليل الحديثين المذكورين. ¬

_ (¬1) طمس "بالأصل، ك". (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 893 رقم 2388).

ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرم منه هل يعتق عليه أم لا؟

ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يملك ذا رحم محرم منه بوجه من وجوه التملك، هل يعتق عليه بدون العتق أو لا؟ الرحم: هم الأقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب، ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء، يقال: ذو رحم محرَّم. ومحرَّم هو من لا يحل نكاحه، كالأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا، فيشتريه فيعتقه". حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان (ح). وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن سهيل. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا زهير بن معاوية، عن سهيل. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن سهيل. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 757 رقم 5137).

الثانى: عن محمَّد بن عمرو بن يونس، عن يحيى بن عيسى النَّهْشلي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن سهيل. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي: عن علي بن خَشْرم، عن عيسى بن يونس، عن الثوري، عن سهيل، به نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان، عن سهيل، نحوه وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن سهيل، نحوه. الرابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن علي بن الجعد شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سهيل. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "لا يجزي ولدٌ" معناه لا يعطيه جزاء ما أسلف من إحسانه وبِرَّه إليه وتربيته إياه وتحمله المشاق له ومن هذا قولهم: جزاه الله خيرًا أي: أعطاه جزاء ما أسلف من طاعته، ويقال: جزي عني هذا الأمر أي قضى. قوله: "فيعتقه" بالنصب عطفًا على قوله: "فيشتريه" وأصل "الفاء" للعطف، وموجبه التعقيب بعتق الرجل ألا ترى أنهم وصلوا حرف "الفاء" بالجزاء، وسموه حرف الجزاء؛ لأن الجزاء يتصل بالشرط، على أن يتعقب نزوله وجود الشرط بلا فصل. وأما "الفاء" هاهنا فلعطف الحكم على العلة كما يقال: جاء الشتاء فتأهب، وكما يقال: ضرب فأوجع أي بذلك الضرب، وأطعم فأشبع أي بذلك الإطعام وكذا قوله: "فيشتريه فيعتقه" أي بذلك الشراء، ولهذا جعل الشراء إعتاقًا في القريب بواسطة الملك. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1148 رقم 1510).

قال المحققون من الأصوليين: "الفاء" للتعقيب فلهذا تدخل في الجزاء، فإن قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق. فالشرط أن تدخل على الترتيب من غير تراخ. وقد تدخل في المعمول نحو جاء الشتاء فتأهب. وقد يكون المعلول عين العلة في الوجود لكن في المفهوم غيرها، نحو: سقاه فأرواه. وقوله: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". وقال الخطابي (¬1): قوله: "فيعتقه" ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك؛ لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما وجهه أنه إذا اشتراه ودخل في ملكه عُتِقَ عليه، فلما كان الشراء سببًا لعتقه أضيف العتق إلى عقد الشراء إذا كان تولد منه ووقوعه به، وإنما صار هذا جزاء له، وأداءً لحقه؛ لأن العتق أفضل ما يُنْعِم به أحد على أحدٍ؛ لأنه يخلصه من الرق، ويجبر منه النقص الذي فيه، ويكمل له أحكام الأحرار في الأملاك والأنكحة والشهادة ونحو ذلك. ص: فذهب قوم إلى أن من ملك أباه لم يعتق عليه حتى يعتقه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: ربيعة ومالكًا ومكحولًا، فإنهم قالوا: لا يعتق إلا بعتق شراء. وقال الكاساني (¬2): إذا اشترى أباه أو أمه أو ابنه عتق عليه، نوى أو لم ينو، عند عامة العلماء. وقال مالك: لا يعتق إلا بإعتاق مبتدأ واحتج بحديث أبي هريرة المذكور، وقال: حقق الإعتاق عقيب الشراء ولو كان الشراء نفسه إعتاقًا لم يتحقق الإعتاق عقيبه, لأن إعتاق المُعْتق لا يتصور، فدل أن شراء القريب ليس ¬

_ (¬1) "معالم السنن" (4/ 139 رقم 1398). (¬2) "بدائع الصنائع" (3/ 465).

بإعتاق، ولأن الشراء إثبات الملك، والإعتاق إزالة الملك، وبينهما منافاة فكيف يكون اللفظ الواحد إثباتًا وإزالة؟!. والجواب: أما عن الحديث فعن قريب يجيء. وأما قوله: الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالة الملك، فنعم، لكن الممتنع إثبات الحكم [وضده] (¬1) بلفظ واحد في زمان واحد، أما في زمنين فلا؛ لأن علل الشرع في الحقيقة دلائل وأعلام على المحكومات الشرعية، فيجوز أن يكون لفظ الشراء السابق عَلَمًا على إثبات الملك في الزمان الأول، وذلك اللفظ بعينه عَلَمًا على ثبوت العتق في الزمان الثاني، إذ لا تنافي عند اختلاف الأزمان. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يعتق عليه بملكه إياه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي، والأوزاعي، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، والشافعي وإسحاق، وداود فإنهم قالوا: إذا ملك أباه يعتق عليه بمجرد الملك، ولا يحتاج إلى عتق مستأنف، وأما إذا ملك غير الوالدين من ذي الرحم المحرمة وغيرهم ففيه خلاف وتفصيل. فقال أصحابنا: شرط العتق أن يكون من ذوي الرحم المحرمة، وذو الرحم المحرم كل شخصين يدليان إلى أصل واحد بغير واسطة كالأخوين، أو أحدهما بواسطة والآخر بواسطة كالعم وابن العم وكذلك إذا ملك ابن العم والعمة أو ابنتها أو ابن خاله أو خالته أو ابنتيهما، وكذا لو ملك حليلة ابنه أو منكوحة أبيه، أو أما من الرضاع لا تعتق؛ لأن في الأول وجد رحم بلا محرم، وفي الثاني وجد المحرم بلا رحم. وقالت طائفة: لا يعتق إلا من ولده من جهة أب أو أم, أو من ولده هو كذلك، ولا يعتق غير هؤلاء لا أخ ولا غيره وهو قول الشافعي، وقال ¬

(¬1) في "الأصل": الواحد، والمثبت من "بدائع الصنائع".

الأوزاعي: يعتق كل ذي رحم محرمة حتى ابن العم وابن الخال فإنهما يعتقان عليه ويستسعيهما. وقال ابن حزم (¬1): ما نعلم قول الشافعي عن أحدٍ قبله، فإن قالوا: إنه روي عن إبراهيم: "إذا ملك الوالد أو الولد عتق"، قلنا: نعم، وقد صح عنه هذا أيضًا في كل ذي رحم، وليس في قوله: "إذا ملك الوالد والولد عتق" أن غيرهما لا يعتق. وقال ابن حزم أيضًا: ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر ساعة تملكه، فإن ملك بعضه لم يعتق عليه إلا الوالدين خاصة والأجداد والجدات فقط، فإنهم يعتقون عليه كلهم إن كان له مال يحمل قيمتهم، فإن لم يكن له مال يحمل قيمتهم اسْتُسْعوا، وهم كل من ولده، من جهة أم أو جدة أو أب، وكل من ولده هو من جهة ولد، أو ابنة الأعمام والعمات وإن علوا كيف كانوا، لأم أو لأب، والأخوة والأخوات كذلك، وكل من نالته ولادة أخت أو أخ بأي جهةٍ كانت، ومن كان له مال وله أب أو أم أو جد أو جدة أُجبر على ابتياعهم بأغلى قيمتهم، وعتقهم إذا أراد سيدهم بيعهم، فإن أبى لم يُجبر السيد على البيع، فإن ملك ذا رحم غير محرمة، أو ملك ذا محرم من غير رحم لكن بصهر، أو وطئ أب، أو ابن لم يلزمه عتقهم، وله بيعهم إن شاء. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول النبي -عليه السلام- هذا يحتمل ما قالوا، ويحتمل: "فيشتريه فيعتقه بشرائه" هذا في الكلام صحيح، وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث حتى يتفق هو وغيره مما روي عن النبي -عليه السلام-. فإنه حدثنا محمد بن عبد الله الأصبهاني، قال: ثنا أبو عُمير النحاس، قال: ثنا ضمرة، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ملك ذا رحم محرمة فهو حرٌّ". ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 200 - 201).

حدثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا إبراهيم بن الحجاج وعبد الواحد بن غياث، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ملك ذا محرم فهو حر". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج. (ح) وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قالا: ثنا حماد بن سلمة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ملك ذا رحم فهو حر". وتصحيح حديثي سمرة هذين يوجب أن ذا الرحم المذكور فيهما هو ذو الرحم المحرم، وأن ذا المحرم المذكور فيهما هو ذو المحرم من الرحم، فيكون معناهما لما جمع ما فيهما هو مثل ما في حديث ابن عمر: من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ". وقد بلغني أن محمد بن بكر كان يحدث، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ملك ذا رحم من ذي محرم فهو حرٌّ". فدل على ما ذكرناه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن قول النبي -عليه السلام-: "لا يجزي ولد والده .. . . ." الحديث يحتمل أن يكون معناه مثل ما قاله أهل المقالة الأولى، وهو أن يكون العتق بهذا الشراء بكلام مبتدأ، ويحتمل ما قاله أهل المقالة الثانية، وهو أن يكون نفس الشراء عتقًا من غير كلام مبتدأ، وهذا في الكلام صحيح كما قلنا في قولهم: سقاه فأرواه، وأطعمه فأشبعه، وضربه فأوجعه. فإذا كان الحديث محتملًا للمعنيين المذكورين، فصرفه إلى المعنى الثاني أولى؛ ليتفق هو وحديث عبد الله بن عمر وحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنهم -، فإن حديثهما

يقتضي أن يكون الملك هو الإعتاق، من غير حاجة إلى كلام مستأنف، وحمل معاني الآثار على الاتفاق أولى بل المتُعَيَّن من حملها على التضاد. وأما حديث ابن عمر، فأخرجه بإسناد صحيح. وأبو عُمير النحاس هو عيسى بن محمد بن إسحاق الرملي شيخ أبي داود النسائي وابن ماجه. وضمرة هو ابن ربيعة الفلسطيني الرملي من الثقات المأمونين. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا عيسى بن محمد -هو أبو عُمير الرملي- وعيسى بن يونس الفاخوري، عن ضمرة، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ملك ذا رحم محرم عتق". وأخرجه البيهقي بهذا الإسناد (¬2) ولفظه: "فهو عتيق". ثم قال: تفرد به ضمرة والمحفوظ بهذا الإسناد: "نهى عن بيع الولاء"، وقد رواه أبو عمير أيضًا مع الحديث الأول. قلت: ليس انفراد ضمرة به دليلًا على أنه غير محفوظ، ولا يوجب ذلك علةً فيه، لأنه من الثقات المأمونين لم يكن بالشام رجل يشبهه، كذا قال ابن حنبل. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا لم يكن هناك أفضل منه. وقال أبو سعيد بن يونس: كان فقيه أهل فلسطين في زمانه. والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحًا، ولا يضره تفرده، فلا ندري من أين وهم في هذا الحديث روايه كما زعم البيهقي. وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح، تقوم به الحجة على الخصم، وكل رواته ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 173 رقم 4897) وقال النسائي بعده: لا نعلم أن أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر. (¬2) "السنن الكبرى للبيهقي" (10/ 289 رقم 21208).

ثقات، وإذا انفرد به ضمرة كان ماذا، ودعوى أنه أخطأ فيه، باطل لأنه دعوى بلا برهان. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1): عن أبي علي الحسين بن علي الحافظ، ثم قال: وثنا أبو على بإسناده سواء "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن بيع الولاء وعن هبته". وهذا يقتضي أن المتنين محفوظان. ثم قال عن حديث "من ملك ذا رحم محرم": صحيح على شرط الشيخين، وشاهده الحديث الصحيح المحفوظ عن سمرة بن جندب، ثم ذكره بإسناده من طريق سمرة - رضي الله عنه - انتهى. وأما حديث سمرة فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، عن إبراهيم بن الحجاج السامي -بالسين المهملة- الناجي -بالنون- البصري شيخ أبي زرعة الرازي وأبي يعلى الموصلي. وعن عبد الواحد بن غياث البصري الصيرفي. كلاهما عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة. وأخرجه الترمذي (¬2): نا عبد الله بن معاوية الجمحي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "مَن ملك ذا محرم فهو حرٌّ". الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المستدرك" (2/ 233 رقم 2851). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 646 رقم 1365).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): نا أبو كامل، ثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، أن النبي -عليه السلام- قال: "من ملك ذا محرَّم فهو حرٌّ". الثالث: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره. الرابع: عن محمد بن عبد الله الأصبهاني، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد ابن هارون الواسطي، عن حماد. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي -عليه السلام- قال: "من ملك ذا رحم فهو عتيق". وأخرجه أبو داود (¬3) نحوه غير مرفوع. ثنا محمد بن سليمان الأنباري، قال: ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: "من ملك ذا رحم فهو حرٌّ". وهذا كما رأيت الحديث صحيح. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬4) وصححه. وقال ابن حزم: صحح الحنفيون هذا الخبر، ورأوه حجة، وقالوا: لا يضره ما قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة، والمنقطع تقوم به الحجة. قلت: الحديث صحيح وليس بمنقطع؛ لأن الحسن قد ثبت سماعه من سمرة في غير ما حديث، قاله البخاري وغيره، وقد مَرَّ هذا غير مرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 20 رقم 20240). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 15 رقم 2079) , (5/ 18/ رقم 20217). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 420 رقم 3951). (¬4) "المستدرك" (2/ 233 رقم 2852).

فإن قيل: أخرج البيهقي هذا الحديث (¬1): من طريق محمد بن بكر، عن حماد بن سلمة، عن عاصم وقتادة، عن الحسن، عن سمرة. ومن طريق مسلم (¬2): بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل: عن حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- قال موسى في موضع آخر، عن سمرة فيما يحسب حماد ثم علله البيهقي بأن حمادًا شك في سمرة. قلت: رواه النسائي والترمذي وابن ماجه من غير شك كما ذكرناه، وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي كامل ويزيد بن هارون عن حماد كما ذكرناه، ومن شك ليس بحجة على من لم يشك، كيف والذين لم يشكوا جماعة؟. قوله: "وتصحيح حديثي سمرة هذين. . . ." إلى آخره. إشارة إلى وجه التوفيق بين حديثي سمرة المذكورين بلفظين متغايرين، وبين [حديث] (¬3) عبد الله بن عمر، ففي رواية إبراهيم بن الحجاج وعبد الواحد بن غياث: "من ملك ذا مَحْرم فهو حرٌّ" وفي رواية أسد وحجاج ويزيد بن هارون: "من ملك ذا رحم فهو حرٌّ". وفي رواية عبد الله بن عمر: "من ملك ذا رحم محَرْم فهو حرٌّ". ووجه التوفيق بينها أن المراد من قوله: "ذا رحم" هو ذو الرحم المحرم، وأن المراد من قوله: "ذا محرم" هو ذو المحرم من الرحم، فإذا جمع معناهما يكون مثل ما في حديث ابن عمر: "من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ" قوله: "وقد بلغني. . . ." إلى آخره. ذكره شاهدًا لصحة تأويله، لأن محمد بن بكر بن عثمان البُرْسَاني البصري ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 289 رقم 21204). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 289 رقم 21205). (¬3) تكررت في "الأصل".

كان يحدث، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من ملك ذا رحم من ذي محرم فهو حرٌّ". فهذا دليل صريح على أن المراد من اللفظين المذكورين، نحو ما ذكره من التأويل. وإسناد هذا صحيح، ورجاله كلهم من رجال الصحيح. وأخرجه الترمذي (¬1) نحوه: ثنا عقبة بن مكرم العمي البصري وغير واحدٍ، قالوا: نا محمد بن بكر البُرْساني، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وعاصم الأحول، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي -عليه السلام- نحوه. والنسائي (¬2) عن [عبيد الله بن سعيد] (¬3)، عن محمد بن بكر. وابن ماجه (¬4): عن إسحاق بن منصور وعقبة بن مكرم، عن محمد بن بكر البرساني، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وعاصم، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي -عليه السلام- قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر". قلت: بُرْسان -بضم الباء الوحدة- من الأزد. ص: وقد روي عمن بعد رسول الله -عليه السلام- من أصحابه وتابعيهم - رضي الله عنهم - ما يوافق هذا أيضًا. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي عوانة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 646 رقم 1365). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 173 رقم 4902). (¬3) في "الأصل" عبد الله بن سعد، وهو من شيوخ النسائي أيضًا، غير أنه لم يذكروا له رواية عن محمد بن بكر البرساني، وقد جاء على الصواب في "السنن الكبرى" للنسائي، و"تحفة الأشراف" للحافظ المزي (4/ 63 رقم 4580). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 843 رقم 2524).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن المستورد: "أن رجلًا زوج ابن أخيه مملوكته، فولدت له أولادًا، فأراد أن يَسْتَرِقَ أولادها، فأتى ابنُ أخيه عبد الله بن مسعود، فقال: إن عمي زوجني وليدته، وإنها ولدت لي أولادًا، فأراد أن يسترق ولدي، فقال عبد الله: كذب، ليس له ذلك". حدثنا أحمد بن الحسن، قال: ثنا أسباط بن محمد، قال: ثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح قال: "إذا ملك الرجل عمته أو خالته أو أخاه أو أخته، فقد عتقوا وإن لم يعتقهم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد قال: -أبو جعفر: أظنه- عن حجاج، عن عطاء والشعبي، مثله. قال: وقال إبراهيم: "لا يعتق إلا الوالد والولد". فلما روينا عن رسول الله -عليه السلام- ما روينا ووافق ذلك ما روينا عمن ذكرنا من أصحابه وتابعيهم، ولم نعلم في ذلك خلافًا عن مثلهم، وجب القول بما روي عنهم من ذلك، وترك خلافه. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: ذكر في ذلك من الصحابة: عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، ومن التابعين: عن عطاء بن أبي رباح وعامر الشعبي. أما أثر عمر فأخرجه بإسناد صحيح، عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر بن الخطاب. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم -هو الضحاك بن مخلد- ثنا أبو عوانة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 203).

النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر بن الخطاب قال: "من ملك ذا رحم محرمة فهو حرٌّ". وأخرجه أبو داود (¬1) بغير هذا الإسناد: ثنا محمد بن سليمان الأنباري، قال: ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ". وأخرجه النسائي أيضًا بطرق عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأما أثر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح. عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن روح بن عبادة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن المستورد بن الأحنف الكوفي. . . . إلى آخره نحوه، ثم قال: وإليه ذهب بعض أصحابنا. وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬3): من طريق غندر، نا غندار، نا شعبة وسفيان -قال شعبة: عن غيلان، وقال سفيان: عن سلمة بن كهيل، كلاهما عن المستورد هو ابن الأحنف-: "أن رجلًا أتى عبد الله بن مسعود، فقال له: إن عمي زوجني جاريته، وإنه يريد أن يَسْتَرِقَ ولدي، فقال ابن مسعود: ليس له ذلك". وأما أثر عطاء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي، عن أسباط بن محمد القرشي الكوفي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل ابن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 26 رقم 3950). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 290 رقم 21213). (¬3) "المحلى" (9/ 203).

وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء قال: "إذا ملك الأخ أو الأخت والعمة والخالة، عتقوا". وأما أثر عامر الشعبي فأخرجه من طريق الحجاج بن أرطاة النخعي، وفيه مقال. قوله: "قال: وقال إبراهيم: لا يعتق إلا الوالد والولد". أي قال الحجاج بن أرطاة: قال إبراهيم النخعي. . . . إلى آخره. وروي عن إبراهيم النخعي مثل قول الجمهور، أخرجه ابن حزم (¬2): من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن ابن شبرمة، عن الحارث العكلي. عن إبراهيم النخعي قال: "من ملك ذا رحم فهو حرٌّ". وهو قول ابن شبرمة. وروي عبد الرزاق: عن معمر، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد، قالا جميعًا: "من ملك ذا رحم عتق". وأخرج ابن حزم (1): من طريق وكيع، عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة وحماد بن أبي سليمان، قالا جميعًا: " [كل من ملك] (¬3) ذا رحم محرمة عتق". قال ابن حزم: وصح أيضًا عن قتادة، وهو قول الزهري وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف والليث وسفيان الثوري والحسن بن حيّ وأبي حنيفة وجميع أصحابه، وعبد الله بن وهب وغيرهم. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 184 رقم 16859). (¬2) "المحلى" (9/ 203). (¬3) في "الأصل، ك": من ملك كل. والمثبت من "المحلى" لابن حزم.

ص: باب: المكاتب متى يعتق؟

ص: باب: المكاتب متى يعتق؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم المكاتب متى يعتق؟. المكاتَب -بفتح التاء: هو الرق الذي يلتزم بالمال إما حالًا، وإما مُنَجَّمًا ليعتق عند وفائه. والمكاتب: بكسر التاء هو المولى. والكتابة: تحرير مملوك يدًا في الحال، ورقبة بعد أخذ المال. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حُرٍّ وما بقي دية عبد". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا حماد بن زيد، عن يونس، عن عكرمة، عن النبي -عليه السلام-، مثله، ولم يذكر ابن عباس. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوري، قال: ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- في مكاتبٍ قُتِلَ بدية الحر بقدر ما عتق منه". قال ابن عباس: "ويقام على المكاتب حَدُّ المملوك". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا الحجاج الصوّاف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يُؤَدَّى المكاتب بقدر ما أدى دية الحُرِّ وبقدر ما رق منه دية العبد". ش: هذه أربع طرق صحاح غير أن الثاني مرسل.

فكالأول: أخرجه الترمذي (¬1): نا هارون بن عبد الله البزاز، قال: ثنا يزيد ابن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا أصاب المكاتب حدًّا أو ميراثًا ورث بحساب ما عتق منه". وقال النبي -عليه السلام-: "يُودَّى المكاتب بحصة ما أدى دية حُرٍّ وما بقي دية عبد". وقال: حديث حسن. وكالثاني: أخرجه أبو داود معلقًا (¬2) وقال: وأرسله حماد بن زيد وإسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي -عليه السلام-. وكالثالث: أخرجه النسائي (¬3): أنا القاسم بن زكرياء بن دينار، نا سعيد بن عمرو، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة. وعن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن مكاتبًا قُتل على عهد رسول الله, فأمر أن يُوَدَّى بما أدى: ديّة الحُر، وما لا: دية المملوك". وكالرابع: أخرجه أبو داود (¬4): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا يعلى بن عُبَيْد، ثنا الحجاج الصوّاف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- في المكاتب يُقتل: يَوَدَّى ما أدى من مكاتبته: ديّة الحُر، وما بقي: ديّة المملوك". وأخرج الحاكم (¬5) هذا الحديث من وجهين، وقال فيهما: صحيح على شرط البخاري. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 560 رقم 1259). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 603 رقم 4582). (¬3) "المجتبى" (8/ 46 رقم 4812). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 193 رقم 4581). (¬5) "مستدرك الحاكم" (2/ 237 رقم 2684 - 2865).

ثم رواه (¬1) من وجه ثالث، وقال: صحيح الإسناد. فإذ قيل: لما أخرج البيهقي هذا الحديث في "سننه" (¬2) وبيّن الاختلاف فيه قال: هذا المذهب إنما يُروى عن علي - رضي الله عنه - وفي ثبوته عن النبي -عليه السلام- نظر. قلت: رواه جماعة مرفوعًا وهو زيادة فلا تضرهم رواية من وقف، ولهذا حسّنه الترمذي وصحّحه الحاكم، وقال ابن حزم: خبر علي وابن عباس -رضي الله عنهم- في غاية الصحة، وليت شعري من أين وقع أن العدل إذا أسند الخبر وأوقفه آخر -أو أرسله- أن ذلك علة في الحديث، هذا لا يوجبه نص ولا نظر ولا معقول (¬3). قوله: "يُوَدى المكاتب" على صيغة المجهول من وديتُ القتيل أَدِيه ديةً إذا أعطيت ديته، وأصل دِية وِدْية، كعِدة أصلها وَعْدٌ، حذفت الواو منهما تبعًا للفعل المضارع، وعوضت عنها الهاء، والأمر من هذا: دِ، دَيا، دُوا، كقِ قِيًا قوا، أصله: أود، كما أن أصل قِ: أوق حذفت الواو تبعًا للفعل، فصار "أد"، فاستغني عن الهمزة، فطرحت، فبقي "د" على وزن "ع" لأن المحذوف "فاء" الفعل، و"لامه"، أما الفاء فَلِمَا ذكرنا، وأما اللام فلأن آخر الأمر مجزوم، والجزم في النواقص بحذف اللام، فافهم. قوله: "بحصة ما أدى" أي بقدر حصة ما أدّى من مال الكتابة. قوله: "دية الحُر" بنصب الدية على الإطلاق. ¬

_ (¬1) "مستدرك الحاكم" (2/ 238 رقم 2866). (¬2) "السنن الكبرى" (10/ 326 رقم 21446). (¬3) ليس الأمر على إطلاقه كما هو معلوم في علم أصول الحديث، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين المحققين من المحدثين، والفقهاء والأصوليين. والراجح عند المحققين من المحدثين المتقدمين ومن تبعهم أن الترجيح يكون بحسب القرائن المحتفة بالرواية فيرجح المرفوع إذا كان راويه أحفظ وأتقن ممن وقفه، أو أكثر عددا، وبالعكس.

قوله: "وما بقي: دية عبد" أي يَوُدَّى المكاتب بحصة ما بقي من مال الكتابة دية عبدٍ". قوله: "في مكاتب قُتِلَ" على صيغة المجهول. ويستفاد منه أحكام: الأول: احتجت به طائفة على أن المكاتب يعتق بقدر ما أدى، على ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. الثاني: احتجت به طائفة على أن المكاتب إذا جَنى عليه أحد، فإنه يؤاخذ بحكم الحرية لما عتق منه بمقدار ما أدى وبحكم الرِّقِّية فيما بقي منه من الرِّقِّية، وإليه ذهبت الظاهرية. وقال ابن حزم في "المحلي" (¬1): المكاتب عبد ما لم يؤد شيئًا، فإذا أدى من كتابته شيئًا شرع فيه العتق والحرية بقدر ما أدّى، وبقي سائره مملوكًا، وكان لما أعتق منه حكم الحرية في الحدِّ والمواريث و [الديات وغير ذلك، وكان لما بقى منه حكم العبيد في الديات والمواريث] (¬2) وغير ذلك وهكذا أبدًا حتى يتم عتقه بتمام أدائه. ثم استدل على هذا بالحديث المذكور. وقالت طائفة: المكاتب حُرٌّ ساعة العقد بالكتابة. قال ابن حزم (¬3): روي هذا عن ابن عباس ولم نجد له إسنادًا إليه. قلت: فعلى هذا القول إذا جني عليه يؤاخذ الجاني بحكم الحرية مطلقًا. وقالت طائفة: إذا أدى نصف كتابته فهو غريم، وهو قول شريح، ورُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نحوه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 227). (¬2) سقط من "الأصل" ولعله انتقال نظر من المؤلف: والمثبت من "المحلى". (¬3) "المحلى" (9/ 229، 230).

وقالت طائفة: إذا أدى الثلث فهو غريم، رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود. وقالت طائفة: إذا أدّى الربع فهو غريم، رُوي ذلك عن إبراهيم النخعي. وقالت طائفة: إذا أدّى ثلاثة أرباع الكتابة فهو غريم، رُوي ذلك عن عطاء بن أبي رباح، رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه. وقالت طائفة: إذا أدى ثمنه فهو غريم، رُوي ذلك عن قتادة عن الحسن، عن ابن مسعود، ورواه شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي. وقالت طائفة: إذا بقي عليه خمس أواقٍ -أو خمس ذَوْدٍ أو خمسة أوسق- فهو غريم، رُوي ذلك عن ابن عباس. وقال أصحابنا الحنفية: إذا جنى على المكاتب أحد، فإن كان خطأ فالأرش له والأرش أرش العبد. وإذا كان عمدًا فالمسألة على ثلاثة أوجه: * في وجه يجب القصاص في قولهم. * في وجه لا يجب في قولهم. * وفي وجه اختلفوا فيه. أما الأول: فهو أن يقتله رجلٌ عمدًا ولم يترك وفاء، فللمولى أن يقتل القاتل؛ لأنه إذا لم يترك وفاء فقد مات عاجزًا، فمات عبدًا، والعبد إذا قتل عمدًا يجب القصاص على قاتله إن كان عبدًا بالإجماع، وإن كان حرًّا عندنا كذلك هنا. وأما الثاني: فهو أن يُقتل عمدًا ويترك وفاء، ويترك ورثة أحرار سوى المولى فلا يجب القصاص لاستيفاء وليَّ القصاص، لاختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- أنه يموت حرًّا أو عبدًا. وأما الوجه الثالث: فهو أن يُقتل عمدًا ويترك الوفاء، ولا وارث له سوى المولى.

فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف يجب القصاص للمولى؛ لأنه لا استيفاء هاهنا. وقال محمد: لا يجب. الثالث: أن المكاتب يُقام عليه حَدُّ المملوك؛ لقول ابن عباس: "ويقام على المكاتب حدُّ المملوك". قال أصحابنا: يؤخذ المكاتب بأسباب الحدود الخالصة وغيرها نحو الزنا والسرقة والشرب والسكر والقذف؛ لا القن؛ لأن القن يؤخذ بها، فالمكاتب أولى، ولا يقطع في سرقته من مولاه؛ لأنه عبده، وكذا لا يقطع في سرقة من آل مولاه ولا من امرأة مولاه، ولا من كل ذي رحم محرم من مولاه، ولو سرق منه أجنبي يقطع بخصومته؛ لأن المكاتب أحق بمكاسبه ومنافعه فكانت له الخصومة كالحرِّ، فيقطع بخصومته (¬1). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويكون حكمه فيه حكم الحُرِّ، ويكون حكمه فيما لم يؤدِّ حكم العبد، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي، وعكرمة، والحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي، وشريحًا، وعطاء بن أبي رباح، وأحمد بن حنبل في قول، وداود وجماعة الظاهرية، وقد مَرَّ الكلام فيه مستوفى. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يعتق إلا بأداء جميع المكاتبة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الزهري، والثوري، والأوزاعي، وقتادة، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، فإنهم قالوا: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. ¬

_ (¬1) انظر "بدائع الصنائع" (3/ 621).

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته درهم". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الفوزي الحمصي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، عن سليمان بن سليم الكناني الحمصي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وأخرجه أبو داود (¬1): عن هارون بن عبد الله، عن أبي بدر شجاع بن الوليد، حدثني أبو عتبة إسماعيل بن عياش، وحدثني سليمان بن سُلَيْم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. . . . إلى آخره نحوه. فإن قيل: ما حال هذا الحديث وبما يحكم فيه؟ قلت: أما خطاب فهو من رجال الصحيح، وأما إسماعيل بن عياش فقد قال ابن معين: ثقة فيما يروي عن الشاميين، وقال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر. وهو يروي عن سليمان بن سليم وهو شامي من أهل بلده ووثقه يحيى وأبو حاتم، وأما عمرو بن شعيب فهو في نفسه ثقة بلا خلاف، وأما أبوه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه وثقه ابن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 20 رقم 3926).

حبان وغيره، وجده هو عبد الله بن عمرو؛ لأن الضمير في جده عائدٌ إلى شعيب، وشعيب ثبت سماعه من عبد الله بن عمرو، قال البخاري وأبو داود وغير واحدٍ: إنه سمع من جده عبد الله بن عمرو، فحينئذٍ يكون حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، صحيحًا متصلًا. وبهذا يُردُّ على ابن حزم أن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، ومما يؤيد هذا الحديث ويعضده ما روي عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" رواه عبد الباقي بن قانع، عن موسى بن زكرياء، عن عباس بن محمد، عن أحمد بن يونس، عن هُشيم، عن جعفر بن إياس، عن نافع عنه به (¬1). فهذا وإن كان قد ضعّفه بعضُهم بعبد الباقي، فإنه يصلح للمتابعة والاستشهاد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكانت هذه الآثار قد اختلف فيها عن رسول الله -عليه السلام-، فنظرنا فيما روي عن أصحابه من ذلك فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن مَعْبد الجهني، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "إذا أدى المكاتب النصف فهو غريم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، عن عمر بن الخطاب أنه قال: "يا أيها الناس، إنكم تكاتبون مكاتبين، فأيهم أدى النصف فلا رَدٌّ عليه في الرق". فهذا خلاف ما رويناه قبله عن عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 231).

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بَشِير، عن سالم سبلان أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي -عليه السلام-: "ما أراك ألا تستحي مني؟ فقالت: مالك؟! فقال: كاتبت، قالت: إنك عبد ما بقي عليك شيء". حدثنا أبو بشر الرقي، حدثنا أبو معاوية وشجاع بن الوليد، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، قال: "استأذنت على عائشة، فقالت: كم بقيَ عليك من كتابتك؟ قلتُ: عشرُ أواقٍ. فقالت: ادخُل، فإنك عبد ما بقيَ عليك شيء". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا عمرو بن ميمون. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: "إذا أدى المكاتب ثلثًا أو رُبعًا فهو غريم". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله - رضي الله عنه -: "إذا أدى المكاتب قيمة رقبته فهو غريم". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي، قال: كان عبد الله وشريح يقولان في المكاتب: "إذا أدى الثلث فهو غريم". حدثنا يونس، قال: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن أبي مَعْشر -وهو السندي- عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، أن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت:"المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته شيء". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، ومالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يقول: "المكاتب عبدٌ ما بقيَ عليه شيء من مكاتبته". وكان جابر بن عبد الله يقول: "شروطهم جائزة فيما بينهم". ش: أراد أن أحاديث هذا الباب لما اختلفت وتعارضت ظاهرًا؛ وذلك لأن حديث عبد الله بن عمرو يخالف حديث ابن عباس في المعنى والحكم، ولم يتم الاستدلال بها للخصوم، وجب الرجوع في ذلك إلى ما جاء في هذا الباب من الصحابة، فإن ما جاء منهم على وجه يرجع ما ذهب إليه أحد الخصوم، وقد روي في ذلك عن عمر بن الخطاب وعائشة وعبد الله بن مسعود وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، ما يرجح ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، ويرجح حديث عبد الله بن عمرو على حديث ابن عباس. أما ما رُوِيَ عن عمر بن الخطاب فأخرجه بإسناد صحيح من ثلاث طرق: الأول: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن مَعْبد الجهني، عن عمر بن الخطاب قال: "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم". والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن جابر بن سمرة، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 325 رقم 21438). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 345 رقم 15482).

عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن جابر بن سمرة، عن عمر بن الخطاب قال: "إذا أدى المكاتب الشطر فهو غريم". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المَسْعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، عن عمر بن الخطاب. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الثوري، عن عبد الرحمن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "إذا أدى المكاتب النصف لم يُسْتَرَقّ". وقال البيهقي: القاسم لم يثبت سماعه من جابر، وإن صحّ فكأنه أرادَ قُربَ عتقه، فليمهل حتى يكتسب ما بقيَ، ولا يُردُّ عبدًا بالعجز عن الباقي. وأما ما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن عمران بن بشير بن محرر، عن سالم بن عبد الله النصري -بالنون، والصاد المهملة- الملقب سَبَلان -بفتح السين المهملة والباء الموحدة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث ابن وهب، أخبرني سعيد بن سليم، سمعت سالمًا سَبَلان يذكر: "أنه كان يكري عائشة في الحج والعمرة، قال: فكاتبت، ثم جئت فوقفت بالباب، فاستأذنت استئذانًا لم أكن استئذنه، فأنكرتْ ذلك وقالت: يا بني، مالك لا تدخل؟! قلت: يا أم المؤمنين كاتبت. قالت: فادخل عليّ ما كان عليك درهم، فإنك لن تزال مملوكًا ما كان عليك من كتابتك درهم". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 325 رقم 21439). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 324 رقم 21435).

الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، وشجاع بن الوليد السكوني، كلاهما عن عمرو بن ميمون بن مهران الجزري، عن سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة، قال: "استأذنت عليها، فقالت: مَن هذا؟ فقلت: سليمان. قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قلت: عشرة أواقٍ. قالت: ادخل فإنك عبدٌ ما بقي عليك درهم". الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، نحوه. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن حفص بن غياث، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار. . . . إلى آخره نحوه. وأما ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: منقطع لأن إبراهيم لم يلق عبد الله. أخرجه عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، قال: قال عبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود: "إذا أدّى المكاتب ثلث كتابته فهو غريم". الثاني: أيضًا مثل ما قبله عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سفيان الثوري، عن المغيرة بن مِقسم الضبِّي، عن إبراهيم. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 324 رقم 21435). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 317 رقم 20567). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 317 رقم 20575).

الثالث: أيضًا منقطع؛ لأن الشعبي لم يسمع من عبد الله - رضي الله عنه - , وأيضًا معلول بجابر الجعفي. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص بن غياث عن الأعمش، عن إبراهيم. وعن أشعث عن الشعبيّ، قالا: قال عبد الله: "إذا أدى المكاتب ثلث مكاتبته فهو غريم". وأخرجه ابن حزم (¬2): من طريق سفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: قال لي الشعبي: قول شريح مثل قول ابن مسعود: "إذا أدّى المكاتب قيمته فهو غريم من الغرماء". قال ابن حزم: هذا إسناد جيد, لأن الشعبيّ صحب شريحًا، وشريح صحب ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأما ما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني، عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِنْدي المدني، عن سعيد بن أبي سعيد كيْسان المقبري. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن حزم، وقال (¬3): أبو معشر السندي ضعيف. قلت: ضعفه جماعة، ولكن عن أحمد: أنه كان صدوقًا. وقال أبو زرعة: صدوق في الحديث وليس بالقوي. واحتجت به الأربعة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) "المحلى" (9/ 230). (¬3) "المحلى" (9/ 229).

وأما ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر فأخرجه بإسناد صحيح وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1). وأما ما رُوِيَ عن زيد بن ثابت فأخرجه عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان زيد يقول: "المكاتب عبد ما بقيَ عليه شيءٌ من مكاتبته، وكان جابر يقول (2): شروطهم جائزة بينهم". فإن قيل: إذا كانت الآثار عن الصحابة مختلفة أيضًا مثل الأحاديث عن النبي -عليه السلام- في هذا الباب، لم يترجح لأحد الفريقين استدلالًا بما استدلوا به على ما استدل به الفريق الآخر. قلت: بل ظهر رجحان ما ذهب إليه الفريق الثاني لما يشهد وجه النظر والقياس لهم، وقد أشار إلى بيان ذلك بقوله: ص: فلما كانوا قد اختلفوا في ذلك كما ذكرنا، وكلهم قد أجمع أن المكاتب لا يعتق بعقد المكاتبة، وإنما يعتق بحال ثانية؛ فقال بعضهم: تلك الحال أداء جميع المكاتبة. وقال بعضهم: هي أداء بعض المكاتبة. وقال بعضهم: يُعتق منه بقدر ما أدى من المكاتبة. ثبت أن حكم ذلك قد خرج من حكم المعتق على مال؛ لأن المعتق على مال يعتق بالقول قبل أن يؤدي شيئًا، والمكاتب ليس كذلك؛ لإجماعهم على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 787 رقم 1486). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 324 رقم 21431).

فلما ثبت أن المكاتب لا يستحق العتاق بعقد الكتابة، وإنما يستحق بحالة ثانية، نظرنا في ذلك وفي سائر الأشياء التي لا تجبُ بالعقود؛ وإنما تجب في حال آخر بعدها كيف حالها؟ فرأينا الرجل يبيع العبد بألف درهم، فلا يجب للمشتري قبض العبد بنفس العقد حتى يؤدي جميع الثمن، ولا يكون له قبض بعض العبد بأدائه بعض الثمن، وكذلك الأشياء التي هي محبوسة بغيرها مثل: الرهن المحبوس بالدين، وكلٌّ قد أجمع أن الراهن لو قضى المرتهن بعض الدين فأراد أن يأخذ الرهن أو بعضه بقدر ما أدّى من الديْن لم يكن له ذلك إلا بأدائه جميع الدين، فكان هذا حكم الأشياء التي تملك بأشياء إذا وجب احتباسها، فإنما تحبس حتى يؤخذ جميعُ ما جُعل بدلًا منها. فلما خرج المكاتب من أن يكون في حكم المعتق على المال الذي يعتق بالعقد لا بحال ثانية، وثبت أنه في حكم من يحبس لأداء شيء، ثبت أن حكمه في المكاتبة وفي احتباس المولى إياه كحكم المبيع في احتباس البائع إياه، فكما كان المشتري غير قادر على أخذه إلا بعد أداء جميع الثمن، كان كذلك المكاتب أيضًا غير قادر على أخذ رقبته من ملك المولى إلا بأداء جميع المكاتبة. فثبت بما ذكرنا قول الذين قالوا: لا يعتق من المكاتب شيء إلا بأداء جميع المكاتبة. وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فلما كانت الصحابة وبعدهم التابعون ومَنْ بعدهم من الأئمة قد اختلفوا في حكم المكاتب متى يعتق كما مر ذكره فيما مضى. قوله: "وكلهم" أي وكل من ذكرنا من هؤلاء قد أجمع أن المكاتب لا يعتق بنفس عقد المكاتبة وإنما يعتق بحالةٍ ثانيةٍ، فاختلفوا في هذه الحالة؛ فقال بعضهم وهم: الزهري والأوزاعي والثوري وسعيد بن المسيب

وقتادة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فإنهم قالوا: تلك الحال: أداء جميع المكاتبة، يعني لا يعتق إلا بأداء جميع بدل الكتابة، وهو عبدٌ ما بقي عليه درهم. وقال بعضهم وهم: شريح، والنخعي، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح: هي أي تلك الحال، وهي حالة العتق أداء بعض المكاتبة، أي أداء بعض ما وقع عليه الكتابة. فقال الشعبي وشريح: هي أداء النصف. وقال النخعي: هي أداء الثلث. وعنه: أداء الربع. وقال عطاء: هي أداء ثلاثة أرباع المكاتبة. وقال الحسن: هي أداء الثُمن، ورواه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضًا. وقال بعضهم وهم عكرمة، والحكم بن عتيبة والظاهرية: يُعتق منه -أي من المكاتب- بقدر ما أدى من المكاتبة. ورُوِيَ ذلك أيضًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قوله: "ثبت أن حكم ذلك" جواب "لَمَّا" أي حكم عقد الكتابة، وباقي الكلام ظاهر.

ص: باب: الأمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أم ولد أم لا؟

ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الأَمة التي قد كان مولاها يطأها ثم مات المولى، والحال أن الأَمة قد كانت جاءت بولد قبل موت مولاها، هل يكون ذلك الولد ابنًا للمولى أم لا؟ وهل تكون تلك الأَمة أم ولدٍ أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان عتبة بن أبي وقاص عَهِد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مِنِّي فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، وقال: ابن أخي، وقد كان عَهِدَ إليَّ فيه. وقال: عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله -عليه السلام-: هو لك يا عبد بن زمعة. وقال رسول الله -عليه السلام-: الولد للفراش وللعاهر الحجرُ، ثم قال رسول الله -عليه السلام- لِسَوْدة بنت زمعة: احتجبي منه. لِمَا رأى به من شبهه بعتبة. قالت: فما رآها حتى لقي الله. ش: ذكر الطحاوي: هذا الحديث بغير هذا الإسناد باب الرجل ينفي ولد امرأته حين يولد هل يلاعن أم لا، ولكنه مقتصرًا على قوله: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1). وكذلك أخرجه الجماعة (1) غير الترمذي، وقد ذكرناه هناك. وعتبة بن أبي وقاص هو أخو سعد بن أبي وقاص لأبيه، شهد أُحُدًا مع المشركين ومات بعد ذلك كافرًا، وزمعة بن قيس هو والد سودة بنت زمعة زوج النبي -عليه السلام-وهو بفتح الزاي والميم، والمحدثون يسكنون الميم- وكانت الإماء في الجاهلية ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

يبغين، وكان مواليهن يأتونهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولدٍ فربما يدعيه السيد، وربما يدعيه الزاني، فإن مات السيد، ولم يكن ادّعاه ولا أنكره، فادعاه ورثته لحق به إلا أنه يشارك مستلحقه في ميراثه، إلا أن يستلحقه قبل القسمة، وإن كان السيد أنكره لم يُلحق به بحال، وكان لزمعة بن قيس أَمة باغية وهو يُلِمُّ بها، فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص -وهلك كافرًا- فعهد إلى أخيه سعد قبل موته، فقال: استلحق الحمل الذي بأَمَة زمعة، فلما استلحقه سعدٌ - رضي الله عنه - خاصمه عبد بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد بن زمعة: "بل هو أخي، ولد على فراش أبي" يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإسلام. فقضى رسول الله -عليه السلام- لعبد بن زمعة؛ إبطالًا لحكم الجاهلية. فإن قيل: إذا كان الولد استقر لزمعة بن قيس صار أخًا لسودة بنت زمعة، فلما قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه؟!. قلت: هذا قد أشكل قديمًا على العلماء؛ فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرِّم الحلال، وأن الزنا لا تأثير له في التحريم، وهو قول عبد الملك بن الماجشون إلاَّ أن قوله ذلك كان منه على وجه التنزه، وأن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، هذا قول الشافعي. وقال طائفة: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر، فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر وهو الولد للفراش، وحكم باطن وهو الاحتجاب من أجل الشبه، كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلاَّ في حكم الله تعالى، فأمرها بالاحتجاب منه. ومن هذا أخذ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد أن وطأ الزنا محرم وموجب للحكم، وأنه يجري مجرى الوطأ الحلال في التحريم منه، وحملوا أمره -عليه السلام- لسودة بالاحتجاب على الوجوب، وهو أحد قولي مالك، وفي قوله

الآخر: الأمر هاهنا للاستحباب، وهو قول الشافعي وأبي ثور؛ لأنهم يقولون: إن وطأ الزنا لا يحرم شيئًا ولا يوجب حكمًا. والحديث حجة عليهم. قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" معناه: هو لك بيدك عليه، لا إنك تملكه، ولكن يمنع بيدك عليه كل من سواك منه، كما قال في اللقطة: "وهي لك بيدك عليها، يدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها" ليس على إنه ملك له. قوله: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش. "وللعاهر الحجر" أي للزاني الحجر. قيل: معناه أن الحجر يرجم به الزاني المحصن، وقيل: معناه: أن الزاني له الخَيْبة، ولا حظّ له في الولد؛ لأن العرب تجعل هذا مثلًا في الخَيْبة كما يقال: له التراب، إذا أرادوا: له الخَيْبة، وقد مرّ الكلام فيه مستوفىً في باب الرجل ينفي ولد امرأته. ص: فدهب قوم إلى أن الأَمة إذا وطأها مولاها فقد لزمه كل ولد تجيء به بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قال: "هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر" فألحقه رسول الله -عليه السلام- بزمعة لا لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن لأن أُمّه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري، والشافعي، ومالكًا, وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور وداود، فإنهم قالوا: إذا وطئ الرجل أَمَته، لزمه كل ولدٍ تجيء به بعد ذلك، ادَّعاه أو لم يدعه. وقال أبو عمر: قال مالك: إذا أقر بوطئها صارت فراشًا، وإن لم يدع استبراءً لَحِقَ به وَلدُها، وإن ادّعى استبراءً حَلف وبريء من ولدها. وقال ابن حزم: قال مالك: يلحق به ولد الأَمَه بوطئه إياها، إلا أن يدعي استبراءً، ثم لم يطأها.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما، حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن؟! لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألمَّ بها إلا قد ألحقت ولدها، فاعزلوا أو تركوا". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:. . . . فذكر مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن نافع، عن صفية بنت أبي عُبيد، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "ما بال رجالٍ يطأون ولائدهم يدعونهن يخرجن؟! لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألّم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعدُ أو أمسكوهن". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "من وطىء أَمة ثم ضيعها فأرسلها تخرج، ثم ولدت، فالولد منه والضيعة عليه". قال نافع: فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقول ابن عمر - رضي الله عنهما -. ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بآثار رويت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابنه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. أخرجها من أربع طرق صحاح رجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم ابن أبي داود البرلسي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وأبو اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، وشعيب هو ابن أبي حمزة.

وأخرجه عبد الرزَّاق (¬1): عن معمر وابن جريج، كلاهما عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "بلغني أن رجالًا منكم يعزلون: فإذا حملت الجارية، قال: ليس مني، والله لا أوتى برجل منكم فعل ذلك إلا ألحقتُ به الولد، فمن شاء فليعزل، ومن شاء لا يعزل". وأخرج عبد الرزَّاق (¬2) أيضًا: عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عُبيد، أن عمر بن الخطاب قال: "من كان منكم يطأ جارية فليحصنها، فإن أحدكم لا يقر بإصابته جاريته، إلا ألحقت به الولد". وأخرجه البيهقي (¬3): من طريق ربيع المؤذن، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبي عُبيد. . . . إلى آخره. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: ما جاءت به هذه الأمة من ولدٍ فلا يلزم مولاها إلا أن يقرّ به، وإن مات قبل أن يُقرّ به لم يلزمه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية, فإنهم قالوا: إذا أتت الأمة بولدٍ من مولاها فاعترف به المولى ثبت نسبه، وإن لم يعترف لا يثبت، حتى إذا مات قبل الاعتراف لا يثبت نسبه منه لأنه لا فراش لها بخلاف الحُرة، ولو وطئها في دبرها لا يلزم عندهم، خلافًا لمالك وأحمد والشافعي في وجه ضعيف. ص: وكان من الحجة لهم في الحديث الأول أن رسول الله -عليه السلام- إنما قال لعبد بن زمعة: هو لك يا عبد. ولم يقل: هو أخوك. فقد يجوز أن يكون أراد بقوله: "هو لك" أي: هو مملوك لك بحق ما لَكَ عليه من اليد، ولم يحكم في نسبه بشيء، والدليل على ذلك أن رسول الله -عليه السلام- قد أمر سودة بنت زمعة ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 132 رقم 12522). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 132 رقم 12521). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 413 رقم 15151).

بالحجاب منه، فلو كان النبي -عليه السلام- قد جعله ابن زمعة إذًا لَمَا حجب بنت زمعة منه؛ لأنه -عليه السلام- لم يكن يأمر بقطع الأرحام؛ بل كان يأمر بصلتها، ومن صلتها التزاور، فكيف يجوز أن يأمرها بالحجاب منه وقد جعله أخاها؟! هذا لا يجوز عليه، وكيف يجوز ذلك عليه وهو يأمر عائشة - رضي الله عنها - أن تأذن لعمها من الرضاعة عليها، ثم يحجب سودة ممن قد جعله أخًا لها وابن أبيها؟! لكن وجه ذلك عندنا والله أعلم: أنه لم يكن حكم فيه بشيء غير اليد التي جعله بها لعبدٍ، ولسائر ورثة زمعة، دون سَعْد. ش: أي وكان من الحجة والبرهان لأهل المقالة الثانية في الحديث الأول -وهو حديث عائشة - رضي الله عنها -، وأراد بها الجواب عنه- الذي احتجت به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه، وبيانه: هو قوله: "إنما قال لعبد بن زمعة. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر. وبه قيل: إن في قوله: "إنما قيل لعبد بن زمعة هو لك يا عبد ولم يقل: هو أخوك" نظر. لأن أبا داود (¬1) روى هذا الحديث: عن سعيد بن منصور ومسدد، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله -عليه السلام- في ابن أَمة زمعة، فقال سعد: أوصاني أخي عتبة إذا قدمتَ مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه، فإنه ابنه، وقال ابن زمعة: أخي، ابن أَمة أبي، ولد على فراش أبي، فرأى رسول الله -عليه السلام- شبهًا بيَّنًا بعتبة، فقال: الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة". وزاد مسدد في حديثه: "فقال: هو أخوك يا عبد". والجواب عن ذلك عن الصحيح ما رواه سعيد بن منصور، والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحدًا تابعه عليها، نعم قد روي: "هو لك يا عبد" كما مرّ ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 282 رقم 2273).

في الحديث في أول الباب، ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب؛ لأنه يجوز أن يضاف، فيقال: هو له، وقد قال عبد الله بن رواحة لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" (¬1) ولم يُرد به الملك، والخصم ادعى أنه لم يرد إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه؛ لأن قوله: "هو لك" إضافة نسبة على الحقيقة، فليس حمله على إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد، ولئن سلمنا أن ما زاده مسدد صحيح، ووافقه على ذلك غيره، ولكنه يُراد به أخوك في الدين، وأنه ليس بعبد؛ لإقراره بأنه حر، ويحتمل أن يكون أصل الحديث: "هو لك" فظن الراوي أن معناه: أخوه في النسب، فحمله على المعنى عنده، والخبر الذي يرويه عبد الله بن الزبير صرّح بأنه -عليه السلام- قال: "فإنه ليس لك بأخ" على ما نذكره عن قريب، وهذا صريح لا احتمال فيه، فوجب حمل خبر الزهري -الذي مضى ذكره- على المعنى الذي ذكرناه. قوله: "فلو كان النبي -عليه السلام- قد جعله ابن زمعة. . . ." إلى آخره. قيل: فيه نظر لأن احتجاب الأخت عن أخيها ليس مبطل لأخوته لها؛ لأنه ليس بفرض على المرأة رؤية أخيها لها، إنما الفرض عليها صلة رحمه، ولم يأمرها -عليه السلام- قط بأن لا تصله. والجواب عن ذلك: أن هذا كلام صادر من غير تروّي، وذلك أنّا ما ادعينا أن احتجاب الأخت عن أخيها مبطل لأخوته لها، وإنما قلنا: إنه لو كان ابن زمعة لما كان -عليه السلام- أمر سودة بالاحتجاب عنه، فَأَمْره إياها بذلك يدل على أنه ليس بأخ لها، وإلا لا يكون للنهي فائدة، وكلام النبي -عليه السلام- مصون من اللغو. وقوله: "لأنه ليس بفرض على المرأة رؤية أخيها لها" كلام ساقط لأنه ليس له دخل في المبحث؛ بل يمكن أن يدّعى فرضية رؤية أحد الأخوين للآخر إذا وجد ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "موطإه" (2/ 703 رقم 1387)، وأحمد في "مسنده" (3/ 367 رقم 14996).

القصد إليها من أحدهما وامتنع الآخر أشد الامتناع؛ لأن في ذلك يكون قطعًا محضًا لصلة الرحم، وهو حرام، وترك الحرام فرض، وصلة الرحم وإن كانت تحصل بدون الرؤية، ولكن لا تقع على ما ينبغي إلا بالتزاور، والتزاور لا يكون إلا بالرؤية، فافهم. ص: فإن قيل: فما معنى قوله الذي وصله بهذا: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". قيل له: ذلك على التعليم منه لِسَعْد - رضي الله عنه - أي أنت تدعي لأخيك، وأخوك لم يكن له فراش، وإنما يثبت النسب منه لو كان له فراش، فإذا لم يكن له فراش فهو عاهر، وللعاهر الحجر. ش: تقرير السؤال أن يقال: لما وقع التنازع في ابن وليدة زمعة بين سَعْد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، ولم يحكم النبي -عليه السلام- فيه بشيء غير اليد التي جعلها لعبد ولسائر ورثة زمعة، ما كان فائدة قوله -عليه السلام-: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" متصلًا بقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة". وأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له ذلك. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ص: وقد ثَبَّت هذا المعنى وكشفه: ما حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، قال: ثنا محمد بن قدامة، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - قال: "كانت لزمعة جارية يطأها، وكان يظنُّ برجل آخر أنه يقع عليها، فمات زمعة وهي حبلى، فولدت غلامًا كان يشبه الرجل الذي كان يظن بها، فذكرته سودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أما الميراث فله، وأما أنت فاحتجبي منه، فإنه ليس لك بأخٍ". ففي هذا الحديث أن زمعة كان يطأ تلك الأَمَة، وأن رسول الله -عليه السلام- قال لسودة: "ليس هو لك باخٍ" يعني ابن الموطوءة، فدلَّ هذا أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن قضى في نسبه على زمعة بشيء، وأن وطئ زمعة لم يكن عنده بموجب أن ما جاءت به تلك الموطوءة من ولدٍ، منه.

ش: أراد بهذا المعنى هو الذي ذكره من قوله: "لكن" وجه ذلك عندنا والله أعلم. . . . إلى آخره. وقوله: "ما حدثنا" فاعل لقوله: "بيّن" و"كشفه" وفيه تنازع العاملين. وإسناد الحديث صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير مولىً لهم، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - قال: "كانت لزمعة جارية يطؤها، وكان يظن بآخر يقع عليها، فجاءت بولدٍ شبه الذي كانت تَظُن به، فمات زمعة وهي حبلى، فذكرت ذلك سودة لرسول الله -عليه السلام- (¬2). فقال رسول الله -عليه السلام-: "الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة، فليس لك بأخ". قوله: "كان لزمعة جارية يطؤها" وفي رواية النسائي على ما ذكرنا: "يتطؤها"، وهو بمعنى "يطؤها" أيضا، وأصله يوطئها؛ لأنه من باب الافتعال، تقول: أوتطأ يوتطئ فقلبت الواو تاء وأدغمت التاء في الطاء فصار يتطئ. قوله: "وكان يظن برجل أخر" أي: وكان زمعة يتهمها برجل أنه يطؤها. ص: فإن قال قائل: قضى هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- قال: "أما الميراث فله" فهذا يدل على قضائه بنسبه، قيل له: ما يدلك على ذلك على أنه ما ذكرت؟ لأن عبد بن زمعة قد كان ادعاه وزعم أنه ابن أبيه، وأن عائشة - رضي الله عنها - قد أخبرت في حديثها الذي ذكرناه عنها في أول هذا الباب: أن عبدا قال لرسول الله -عليه السلام- حين نازعه سعد بن أبي وقاص: "أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراش أبي". فقد يجوز أن تكون سودة قالت مثل ذلك، وهما وارثان معه، فكانا بذلك مقرين له بوجوب الميراث مما ترك زمعة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 180 رقم 3485). (¬2) طمس في "الأصل" بمقدار نصف ورقة، والمثبت من "ك".

فجاز ذلك عليهما في المال الذي يكون لهما لو لم يقرا بما أقر به من ذلك، ولم يجب بذلك ثبوت نسب يجب به حكم فيخلى بينه وبين النظر إلى سودة. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم لم يثبت نسب ابن وليدة زمعة؛ لأن النسب إنما يثبت إذا كان فراش، ففي حديث عبد الله بن الزبير المذكور ما يدل على ثبوت نسبه منه؛ لأنه -عليه السلام- قال: "أما الميراث فله". فهذا يدل على أنه -عليه السلام- قضى بنسبه منه بأنه لا توارث بين الأجنبيين. وتقرير السؤال أن يقال: إن عبد بن زمعة ادعى نسب هذا -ذلك الابن- وزعم أنه ابن أبيه، فصح إقراره في حق الميراث وشاركه فيه ولم يثبت النسب؛ لأن فيه حمل النسب على غيره، فلم يلزم من ثبوت الميراث بهذه الطريقة ثبوت النسب، وكذلك سودة يجوز أن تكون قالت مثل ما قال عبد، والحال أنهما وارثان معه؛ فكانا بذلك مقرين له بوجوب الميراث من تركة زمعة، فصح ذلك بطريق صحة إقرارهم، ولم يلزم من ذلك ثبوت النسب على ما ذكرنا، وهو معنى قوله: "فجاز ذلك عليهما في المال. . . . إلى آخره". قوله: "ولم يجب بذلك" أي: بما ادعى عبد وسودة ومشاركته إياهما في الميراث بثبوت نسب يجب به الحكم يقتضي جواز نظره إلى سودة، فلذلك قال -عليه السلام- لسودة: "احتجبي منه". ص: فإن قال قائل: إنما كان أمرها بالحجاب منه لما كان رأى من شبهه بعتبة كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -. قيل له: هذا لا يجوز أن يكون كذلك؛ لأن وجود الشبه لا يجب به ثبوت النسب، ولا يجب بعدمه انتفاء النسب، ألا يرى أن الرجل الذي قال لرسول الله -عليه السلام-: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود" فقال له رسول الله -عليه السلام-: "هل لك من إبل؟ " فقال: نعم. فقال: "ما ألوانها؟ " فذكر كلاما، قال: "فهل فيها

من أورق؟ " قال: إن فيها لورقا، قال: "مما ترى ذلك جاءها؟ " قال: من عرق نزعه، فقال رسول الله -عليه السلام-: "ولعل هذا عرق نزعها". وقد ذكرنا هذا بإسناده في باب اللعان، فلم يرخص له رسول الله -عليه السلام- في نفيه لبعد شبهه منه، ولا منعه من إدخاله على بناته وحرمه، بل ضرب له مثلا أعلمه أن الشبه لا يوجب ثبوت الأنساب، وأن عدمه لا يجب به انتفاء الأنساب، فكذلك ابن وليدة زمعة، لو كان وطئ زمعة لأمه يوجب ثبوت نسبه منه، إذ لما كان لبعد شبهه منه معنى، ولو كان نسبه منه ثابتا لدخل على بناته كما يدخل عليهن غيره من بنيه. ش: تقرير السؤال أن يقال: أمر النبي -عليه السلام- بالاحتجاب منه إنما كان لشبهه بعتبة بن أبي وقاص كما ذكر ذلك في حديث عائشة - رضي الله عنها - المذكور في أول الباب، ولم يلزم من ذلك نفي نسبه من زمعة. وتقرير الجواب أن يقال: أن الشبه لا يُبنى عليه حكم، فلا يثبت النسب بوجوده ولا يُنْفى بعدمه، ثم أوضح الطحاوي ذلك بقوله: "ألا ترى أن الرجل الذي قال لرسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. بيانه: أنه -عليه السلام- لما قال له الرجل: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود" لم يحكم بنفي نسبه منه، لعدم الشبه بينه وبينه، فدل ذلك على أن الشبه وعدمه لا يُبْنى عليهما حكم. والباقي ظاهر. ص: وأما ما احتجوا به عن عمر وابن عمر - رضي الله عنهما - في ذلك مما قد رويناه عنهما، فإنه قد خالفهما في ذلك عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان ابن عباس يأتي جارية له، فحملت، فقال: ليس مني؛ إني أتيتها إتيانًا لا أُريد به الولد".

حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي قال: ثنا سفيان، وعن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد: "أن أباه كان يعزل عن جارية فارسيَّة، فحملت بحمل، فأنكره، وقال: إني لم أكن أريد ولدك، وإنما أستطيب نفسك، فجلدها وأعتقها، وأعتق الولد". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مثله، غير أنه لم يقل: "فأعتقها وأعتق ولدها". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: "ولدت جاريةٌ لزيد بن ثابت - رضي الله عنه -, فقال: إنه ليس مني، وإني كنت أعزل عنها". فهذا زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قد خالفا عمر وابن عمر - رضي الله عنهما - في ذلك، فقد تكافأت أقوالهم ووجب النظر لنستخرج من القولين قولًا صحيحًا، فرأينا الرجل إذا أقر بأن هذا ولده من زوجته، ثم نفاه بعد ذلك لم ينتف، وكذلك لو ادعى أن حملها منه، ثم جاءت بولد من ذلك الحمل لم يكن له أن ينفيه بلعان ولا بغيره؛ لأن نسبه قد ثبت منه، فهذا حكم ما قد وقعت عليه الدعوة. مما ليس لمدعيه أن ينفيه. ورأيناه لو أقر أنه وطئ امرأته ثم جاءت بولدٍ فنفاه، لكان الحكم في ذلك أن يُلاعَن بينهما، ويخرج الولد عن نسب الزوج ويُلْحق بأمّه، فلم يكن إقراره بوطء امرأته يجب به ثبوت نسب ما تلد منه. ولم يكن في حكم ما قد لزمه مما ليس له نفيه. فلما كان هكذا حكم الزوجات كان حكم الإماء أَحْرى أن يكون كذلك، فإن أقر رجلٌ بولد أمته أنه منه، أو أقر وهي حامل أن ما في بطنها منه لزمه ولم يُنتف منه بعد ذلك أبدًا، وإن أقر أنه قد وطئها لم يكن ذلك في حكم إقراره بولدها أنه منه، بل يكون بخلاف ذلك، فيكون له أنه ينفيه، ويكون حكمه وإن أقر بوطأ أمته منه كحكمه لو لم يكن أقر بوطئها، قياسًا على ما وصفنا من الحرائر.

وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا الجواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أثر عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وبيانه أن يقال: نعم هذا الذي ذكرتم قد رُوِيَ عن عمر وابنه عبد الله، ولكن قد رُوِيَ أيضًا عن عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - ما يخالف ما رُوِيَ عنهما -على ما نبينه الآن إن شاء الله- فإذا كان الأمر كذلك قد تساوت أقوالهم، وهو معنى، قوله: "فقد تكافت أقوالهم" فإذا تساوت أقوالهم ولم يبق فيما رُوِيَ عنهم حجة لأحد الفريقين, لأن أحد الفريقين، إذا احتج على الآخر بما رُوِيَ عن بعضهم يحتج الآخر عليه بما رُوِيَ عن الآخرين، وجب عند ذلك الرجوع إلى النظر والقياس الصحيح ليُستخرج من القولين قولٌ صحيح على ما هو القاعدة وبَيَّن ذلك بقوله: "فرأينا الرجل. . . . إلى آخره". أما ما رُوِيَ عن ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن عمارة بن أبي حفصة ثابت الأزدي البصري، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن محمد بن عمر، عن عمرو بن دينار: "أن ابن عباس وقع على جارية له وكان يعزلها فولدت فانتفى من ولدها". وأما ما روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن عيسى بن إبراهيم الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي، عن سفيان بن عُيينة، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن خارجة بن زيد. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 135 رقم 12534).

وأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬1): من طريق محمد بن عبيد الله بن يزيد المقرئ، نا سفيان بن عُيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن سفيان، عن ابن ذكوان، عن خارجة بن زيد ابن ثابت، قال: "كان زيد بن ثابت يقع على جارية له وكان يعزل عنها، فلما ولدت انتفى من ولدها، وضربها مائة، ثم أعتق الغلام". الثالث: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 322). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (7/ 135 رقم 12532).

ص: كتاب الرهن

ص: كتاب الرهن ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الرهن، وهو في اللغة: مطلق الحبس، وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬1) أي محبوسة. وفي الشرع: هو حبس شيء لحقٍّ يمكن استيفاؤه منه كدين، تقول: رهنت الشيء عند فلان، ورهنته الشيء، وأرهنت الشيء، بمعنىً. قال ثعلب: يجوز رهنته وأرهنته. وقال الأصمعي: لا يقال أرهنتُ الشيء، وإنما يقال رهنته. ويُجمع الرهن على رهان ورُهُن بضمتين. وقال الأخفش: رُهُن بضمتين قبيحة؛ لأنه لا يجمع فَعُل على فُعُل إلا قليلًا شاذًّا، نحو سَقْف وسُقُف، قال: وقد يكون رُهُن جمعًا للرهان كأنه يجمع رهن على رهان، ثم يجمع رهان على رُهُن، مثل فراش وفُرُش، والراهن الذي يرهن، والمرتهن الذي يأخذ الرهن والشيء مرهون ورهين، والأنثى رهينة. ¬

_ (¬1) سورة المدثر، آية: [38].

ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه ش: أي هذا باب في بيان حكم ركوب المرتهن الرهن، وبيان حكم استعماله، وبيان حكم شرب لبنه. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مركوبًا، ولبن الدّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا". ش: إسناده صحيح، والشعبي هو عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي. وأخرجه البخاري (¬1): عن أبي نعيم، عن زكرياء عن الشعبي، عن أبي هريرة نحوه. وعن (¬2) محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك، عن زكرياء، نحوه. وأبو داود (¬3): عن هناد، عن ابن المبارك، عن زكرياء، عن الشعبي، عن أبي هريرة نحوه. والترمذي (¬4): عن أبي كريب ويوسف بن عيسى، عن وكيع، عن زكرياء، عن عامر، به نحوه. وقال: حسن صحيح، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عامر الشعبي. قال: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 888 رقم 2376). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 888 رقم 2377). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 310 رقم 3526). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 555 رقم 1254).

وابن ماجه (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن زكرياء، عن الشعبي به. قوله: "الظهر يركب الإبل التي يحمل عليها وتركب" يقال: عند فلان ظهر، أي: إبل، ويجمع على ظهران بالضم. قوله: "ولبن الدر" أي ذوات الدر، أي اللبن. قال الجوهري: الدر اللبن، يقال في الذم: لا در دره، أي لا كثر خيره، ويقال في المدح: لله دره، أي عمله، ويقال: ناقة درور، أي كثيرة اللبن، ودار أيضًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى إن للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي، والشافعي، وجماعة الظاهرية، فإنهم قالوا: للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، ويشرب لبنه كذلك. وروي ذلك أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال البيهقي (¬2): قال الشافعي يشبه قول أبي هريرة: أن من رهن ذات درّ وظهر لم يمنع الراهن درّها وظهرها, لأن له رقبتها. قال: ومنافع الرهن للراهن وليس للمرتهن منها شيء. قلت: قول أبي هريرة الذي قاله الشافعي هو ما رواه شعبة ووكيع وابن عُيينة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "الرهن محلوب ومركوب". ذكر في كتب الشافعية: أن الراهن يجوز له استيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن كسكنى الدار، وركوب الدابة، واستكتاب العبد، ولبس الثياب إلا إذا نقص ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 816 رقم 2440). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 38 رقم 10991).

باللبس وإكراء الفحل إلا إذا نقصت قيمته؛ لأن الرهن في ملك الراهن، فلا يمنع التصرف فيه. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): ومنافع الرهن كلها لا تحاشى منها شيئًا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن ولا فرق، حاشى ركوب الدابة المرهونة، وحاشى لبن الحيوان المرهون فإنه لصاحب الرهن كما ذكرنا، إلا أن يُضَيِّعهما فلا ينفق عليهما، وينفق على كل ذلك المرتهن، فيكون له حينئذٍ ركوب الدابة، ولبن الحيوان بما أنفق، لا يحاسب به من دينه، كثر ذلك أم قل، وذلك؛ لأن ملك الراهن باقٍ في الرهن، ولم يخرج عن ملكه، لكن الركوب والاحتلاب خاصة لمن أنفق على المركوب والمحلوب؛ لحديث أبي هريرة: "الظهر يركب. . . . إلى آخره". ثم قال: وصح عن أبي هريرة قوله مثل قولنا، وهو أنه قال: "وصاحب الرهن يركبه، وصاحب الدَّر يحلبه، وعليهما النفقة" وأنه قال: "الرهن مركوب ومحلوب بعلفه". ومن طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبرهيم النخعي: "فيمن ارتهن شاة ذات لبن قال: يشرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربًا". قال علي: هذه الزيادة من إبراهيم لا نقول بها. وقال الشافعي: جميع منافع الرهن للراهن كما كانت، وقال أبو ثور بذلك، وبقولنا في الركوب والحلب، إلا أنه زاد الاستخدام، ولا نقول بهذا؛ لأنه لم يأت به نص. وقال ابن قدامة في "المغني" (¬2): "أما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 89 - 91). (¬2) "المغني" (4/ 251).

عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحريًا للعدل في ذلك في إحدى الروايتين، نصّ عليه أحمد في رواية [بكر بن محمد] (¬1) وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء اتفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته، أو امتناعه من الإنفاق، أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه. والرواية الأخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها، وليس له الانتفاع بالرهن بقدر نفقته. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقوله -عليه السلام-: "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه". ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به، ولا الإنفاق عليه، فلم يكن له ذلك كغير الرهن" (¬2). ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس للراهن أن يركب الرهن ولا يشرب لبنه وهو رهن معه، وليس له أن ينتفع بشيء منه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد في رواية, فإنهم قالوا: ليس للراهن ذلك لأنه ينافي حكم الرهن، وهو الحبس الدائم فلا يملكه. وقال أصحابنا: ليس للراهن أن ينتفع بالمرهون استخدامًا وركوبًا ولبنًا وسكنى وغير ذلك, لأن حق الحبس ثابت للمرتهن على سبيل اللزوم، وهذا يمنع الاسترداد والانتفاع، وليس له أن يبيعه من غير المرتهن بغير إذنه، ولو باعه يوقف على إجازته فإن أجازه جاز، ويكون الثمن رهنًا سواء شرط المرتهن عند الإجازة أن يكون مرهونًا عنده أو لا. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وفي "المغني": محمد بن الحكم. (¬2) "المغني" (6/ 511).

وعن أبي يوسف أنه لا يكون رهنًا إلا بالشرط، وكذا ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون حتى لو كان عبدًا ليس له أن يستخدمه، وإن كان دابة ليس له أن يركبها، وإن كان ثوبًا ليس له أن يلبسه، وإن كان دارًا ليس له أن يسكنها، وإن كان مصحفًا ليس له أن يقرأ فيه، وليس له أن يبيعه إلا بإذن الراهن. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن هذا الحديث الذي احتجوا به حديث مجمل, لم يبين فيه من الذي يركب ويشرب اللبن؟ فمن أين جاز لهم أن يجعلوه الراهن دون أن يجعلوه المرتهن؟! هذا لا يكون لأحد إلا بدليل يدله على ذلك إما من كتاب أو سنة أو إجماع، ومع ذلك فقد روى هذا الحديث هشيم فبين فيه ما لم يبين يزيد بن هارون. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم الصائغ، قال: أنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي، عن أبي هريرة، ذكر أن النبي -عليه السلام- قال: وإذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب". فدل هذا الحديث أن المعْني بالركوب وشرب اللبن في الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجُعلت النفقة عليه بدلًا مما يتعوض منه مما ذكرنا، وكان هذا عندنا والله أعلم في وقت ما كان الربا مباحا، ولم يُنه حينئذ عن القرض الذي يجر منفعةً، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حُرِم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة. وأجمع أهل العلم أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى، وأراد بها: الجواب عن الحديث المذكور. بيانه: أن هذا الحديث -أعني حديث أبي هريرة المذكور- مجمل؛ لأنه لم يبين

فيه مَنْ الراكب والشارب؟ فيحتمل أن يكون هو الراهن، ويحتمل أن يكون المرتهن، فتخصيص الراهن به من غير دليل يدّل عليه ترجيح بلا مرجح، وهو لا يجوز، فإذا كان كذلك فقد بطل الاستدلال به لأهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، ومع هذا فقد بين هُشَيم بن بشير في روايته هذا الحديث أن المراد من الراكب والشارب هو المرتهن لا الراهن. وقد أخرج ذلك عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن إسماعيل بن سالم الصائغ، عن هشيم بن بشير، عن زكرياء بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. فإذا كان الأمر كذلك كان ينبغي أن يذهبوا إلى عكس ما ذهبوا إليه، وهو أن يكون جواز الركوب وشرب اللبن للمرتهن بحق نفقته عليه، لا للراهن. فإن قيل: إذا كان حديث هشيم قد بين أن المراد من الراكب والشارب هو المرتهن، فلم لم تقولوا به، وهو حجة عليكم حيث أطلقتم المنع للراهن والمرتهن جميعًا؟. قلت: قد كان ذلك جائزًا للمرتهن بهذا الحديث حين كان الربا مباحًا، وحين لم ينه عن القرض الذي يجرّ منفعة، ولا عن إبدال شيء بشيء وإن كانا متفاضلين، فلما حدثت هذه الأشياء، انفسخ الحكم المذكور أيضًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "وكان هذا عندنا والله أعلم. . . ." إلى آخره. فإن قيل: قال ابن حزم (¬1): حديث هشيم المذكور ليس مسندًا؛ لأنه ليس فيه بيانٌ بأن هذا اللفظ من كلام رسول الله -عليه السلام-، وأيضًا فإن لفظه مختلط لا يفهم أصلًا، وهو قوله: "ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها، ويركب" ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 92).

وهذه الرواية إنما هي من طريق إسماعيل بن سالم الصائغ مولى بني هاشم، عن هشيم، فالتخليط من قبله لا من قبل هشيم فمن فوقه. قلت: هذا كلام ساقط, لأنه كيف يقول ليس فيه بيان؛ بأن هذا اللفظ من كلام رسول الله -عليه السلام-، وأيضًا فإن لفظه مختلط لا يفهم أصلًا، وهو قوله: "ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقها ويركب". وقد صرّح فيه بقوله: ذكر أن النبي -عليه السلام- قال. والطاعن هذا هو المخلِّط، والتخليط منه لا من إسماعيل بن سالم، فإنه من رجال الصحيح، وروى عنه مسلم. ص: فمما روي في نسخ الربا: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن ابن زياد، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما نزلت الآيات التي في آخر سورة البقرة، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأهن على الناس، ثم حرّم التجارة في بيع الخمر". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني منصور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة مثله. فلما حُرِّم الربا حُرّمت أشكاله، وَرُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المتساوية لها، وحُرّم بيع اللبن في الضروع، فدخل في ذلك النهي عن النفقة التي يملك بها المنفق لبنًا في الضروع، وتلك النفقة فغير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا، فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التي تجب له عوضًا منها، وباللبن الذي يحتلبه فيشربه. ش: أي فَمِنَ الذي روي عن النبي -عليه السلام- في فسخ الربا: حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، كلاهما عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسلم، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن منصور، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق. وأخرجه الترمذي (¬2): عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق به نحوه. ص: ويقال لمن صرف ذلك إلى الراهن فجعل له استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يَرهن رجلًا دابةً هو راكبها فلا يجد بدًّا من أن يقول: لا. فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون مخلى بينه وبين المرتهن، فيقبضه ويصير في يده دون الراهن كما وصف الله -عز وجل- الرهن بقوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) فيقول: نعم. فيقال له: فلما لم تجز أن تستقبل الرهن على ما الراهن راكبه، لم يجز ثبوته في يده بعد ذلك رهنًا بحقه إلا كذلك أيضًا؛ لأن دوام القبض لابد منه في الرهن إذ كان الرهن إنما هو المرتهن للشيء المرهون بالدين، وفي ذلك أيضًا ما يمنع استخدام الأمة الرهن؛ لأنها تُرجع بذلك إلى حال لا يجوز عليها استقبال الرهن. ش: أي يقال لمن صرف قوله -عليه السلام-: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مركوبًا، ولبن الدرِّ يُشرب بنفقته إذا كان مرهونًا" إلى أن ذلك إلى الراهن، والذين ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 280 رقم 3490)، والحديث متفق عليه، فأخرجه البخاري (2/ 775 رقم 2113) عن مسلم بن إبراهيم أيضًا به مثل رواية أبي داود، وعند مسلم (3/ 1206 رقم 1580) من طريق إسحاق بن إبراهيم وأبي معاوية، عن الأعمش به ومن طريق منصور عن أبي الضحى به. (¬2) ليس في الترمذي إنما هذا الإسناد عند النسائي في "الكبرى" (4/ 53 رقم 6261)، كما في "تحفة الأشراف" (12/ 319 رقم 17636)، ولم يعزه المزي للترمذي في هذا الموضع. (¬3) سورة البقرة، آية: [283].

صرفوا ذلك إلى الراهن هم أهل المقالة الأولى، وتحقيق هذا الكلام: أن هذا إيراد على أهل المقالة الأولى بأن يقال لهم: إذا رهن رجل دابة والحال أنه راكبها، فإن قال لآخر: رهنتك هذه الدابة. فإن هذا لا يجوز، هم أيضًا يقولون: لا يجوز. فدلَّ هذا أن التخلية بين الرهن والمرتهن شرط حتى يكون في قبضه وفي يده دون يد الراهن، وذلك لأن الله تعالى قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) فوصف الرهن بالقبض، فدلَّ أنه شرط. فإذا قيل لهم: هل هذا كذلك؟ فيقولون: نعم. فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقال: للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، أو يشرب لبنه بحق نفقته عليه؟!. قوله: "على ما الراهن راكبه" أي على الشيء الذي هو راكبه، وهو الدابة. قوله: "وفي ذلك أيضًا" أي وفي ما ذكرنا من اشتراط دوام القبض في الرهن ما يمنع أن يستخدم الراهن الأمة التي رهنها؛ لأنه حينئذ يشبه رهن الدابة وهو راكبها. ص: وحجة أخرى: أنهم قد أجمعوا أن الأَمَة الرهن ليس للراهن أن يطأها، وللمرتهن منعه من ذلك، فلما كان المرتهن يمنع الراهن بحق الرهن من وطئها، كان له أيضًا أن يمنعه بحق الرهن من استخدامها. ش: أي دليل آخر يدل على عدم استعمال الراهن الرهن بالركوب والوطأ ونحوهما، وهو أن الأخصام كلهم قد أجمعوا على أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الأمة المرهونة، وأن للمرتهن أن يمنعه من ذلك، فإذا كان له منعه من ذلك بسبب حق الرهن، كان له أيضًا أن يمنعه بسبب حق الرهن من أن يستخدمها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [283].

ثم اعلم أن الطحاوي أطلق بقوله: "قد أجمعوا. . . ." إلى آخره، ولكن قال بعض أصحاب الشافعي: للراهن وطأ الآيسة والصغيرة؛ لأنه لا ضرر فيه، فإن علة المنع: الخوف من أن تلد منه، فتخرج بذلك من الرهن، وهذا معدوم في حقهما، والجمهور على خلاف ذلك. ثم إن خالف فوطأ، فلا حدّ عليه لأنها ملكه، ولا مهر عليه، فإذا ولدت صارت أم ولد له، وخرجت من الرهن، وعليه قيمتها حين أحبلها, ولا فرق بين الموسر والمعسر إلا أن الموسر تؤخذ قيمتها منه، والمعسر تكون في زمته قيمتها وهذا قول أصحابنا والشافعي أيضًا، وقال مالك: إن كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن، فيؤخذ ولدها وتباع الجارية. وقال ابن حزم: قال الشافعي: إن رهن أمة فوطأها فحملت، فإن كان موسرًا خرجت من الرهن، وكُلِّف رهنا آخر مكانها، فإن كان معسرًا، فمرة قال: تخرج من الرهن ولا يُكلف رهنا مكانها ولا تكلف هي شيئًا. ومرة قال: تباع إذا وضعت، ولا يباع الولد، ويُكلف رهن آخر. وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن، ولا يتكلف لا هو ولا هي شيئًا، سواء كان موسرًا أو معسرًا. وعن قتادة: أنها تباع ويتكلف سيدُها أن يُفْتَكَّ ولده منها. وعن ابن سيرين: أنها استسعيت، وكذلك العبد المرهون إذا أعتق. وقال مالك: إن كان موسرًا كُلِّف أن يأتي بقيمتها، فتكون القيمة رهنًا، وتخرج هي من الرهن، وإن كان معسرًا، فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي خارجة من الرهن، ولا تتبع بغرامة، ولا يتكلف هو رهنًا مكانها, لكن يتبع بالدين الذي عليه، وإن كان تَسَور عليها، بيعت هي وأُعطي هو ولده منها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن حملت وأقر بحملها فإن كان موسرًا خرجت من الرهن، وكُلِّف قضاء الدين إن كان حالًا، أو كلف رهنًا بقيمتها إن كان إلى

أجل، فإن كان معسرًا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغًا ما بلغ، ولا ترجع به على سيدها, ولا يتكلف ولدها سعاية، فإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تسعى في قيمتها فقط، فجعلت رهنًا مكانها، فإذا حلّ أجل الدين كلفت من قبل أن تستسعى في باقي الدين إن كان أكثر من قيمتها، وإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر، قُسِّمَ الدين على قيمتها يوم ارتهنها، وعلى قيمة ولدها يوم استلحقه مما أصاب الأمَّ سَعَت فيه بالغًا ما بلغ للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، وما أصاب الولد سعى في الأقل من الدين أو من قيمته، ورجع به على أبيه، ويأخذ المرتهن كل ذلك. ص: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وهذا الذي ذكرنا من عدم جواز استعمال الراهن الرهن بالركوب والاستخدام والوطأ، هو قول أبي حنيفة وصاحبيه -رحمهم الله-. ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: "لا ينتفع من الرهن بشيء". فهذا الشعبي يقول هذا، وقد روى عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- ما ذكرنا، أفيجوز عليه أن يكون أبو هريرة يحدثه عن النبي -عليه السلام- بذلك، ثم يقول هو بخلافه ولم يثبت النسخ عنده؟! لئن كان ذلك كذلك فلقد صار متهمًا في رأيه، وإذا كان متهمًا في رأيه كان متهمًا في روايته، وإذا ثبتت له العدالة في روايته ثبتت له العدالة في ترك خلافها، فإن وجب سقوط أحد الأمرين وجب سقوط الآخر، والمحتج علينا بحديث أبي هريرة هذا يقول: من روى حديثًا عن النبي -عليه السلام- فهو أعلم بتأويله، فكان يجيء على أصله، ويلزمه في قوله أن يقول لمَّا قال الشعبي ما ذكرنا مما يخالف ما روى عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام-: كان ذلك دليلًا على نسخه. ش: ذكر أثر الشعبي بإسناد صحيح.

عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي العابد؛ شاهدًا لما ذكره فيما مضى من عدم جواز انتفاع الراهن بالركوب والاستخدام وشرب اللبن ونحو ذلك؛ لأن عامرًا الشعبي قال من رأيه: "لا يُنتفع من الرهن بشيء". وهذا بعمومه يتناول الراهن والمرتهن، والحال أنه هو الذي روى عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "الظهر يُركب بنفقته إذا كان مركوبًا, ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا" ولا يجوز لمثل الشعبي أن يروي عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- حديثًا ثم يقول هو من رأيه بخلاف ذلك بدون ثبوت نسخ ذلك عنده، وذلك لأنه قد عُلِمَ أن الراوي إذا ظهرت منه المخالفة قولًا أو عملًا، فإن كان ذلك بتاريخ قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث، فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يُعْلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث، وأما إذا عُلم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث، فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجةً؛ لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع، وأنه لا أصل للحديث، فإن الحال لا يخلو إما أن تكون الرواية تقولًا منه لا عن سماع، فتكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث فيصير به فاسقًا لا تقبل روايته أصلًا، أو يكون ذلك عن غفلة ونسيان، وشهادة المغفل لا تجوز فلا يكون حجة فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أن علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه، فيجب الحمل؛ عليه تحسينًا للظن بروايته وعمله، فإنه روى على طريق إبقاء الإسناد، وعلم أنه منسوخ، فأفتى بخلافه. قوله: "أفيجوز عليه" أي على الشعبي، والهمزة في "أفيجوز" للاستفهام.

قوله: "لئن كان ذلك كذلك" أي لئن كان جاز للراوي عن الصحابي، عن النبي -عليه السلام- بحديث أن يقول قولًا بخلاف حديثه الذي رواه، فلقد صار متهمًا. . . . إلى آخره. قوله: "والمحتج علينا. . . ." إلى آخره إشارة إلى بيان إلزام هذا القائل بقوله، وكونه محجوجًا بما قاله؛ لأنه لما قال: الراوي للحديث عن النبي -عليه السلام- أعلم بتأويل هذا الحديث. كان يلزمه أن يقول: حديث الشعبي، عن أبي هريرة هذا منسوخ لا يعمل به, لأنه لو لم يعلم بحاله لما قال بخلافه، إذْ لا يجوز عليه أن يقول بخلافه بدون علمه بانتساخه، كما ذكرنا، فافهم. والله أعلم.

ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه؟

ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرهن إذا هلك في يد المرتهن. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أنه سمع مالكًا ويونس وابن أبي ذئب يحدثون، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن" قال يونس بن يزيد: قال ابن شهاب: وكان ابن المسيب يقول: "الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء وسليمان بن موسى، قالا: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن". ش: هذان إسنادان منقطعان مرسلان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ثلاثتهم عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬1)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه". والدارقطني في "سننه" (¬3): عن أبي بكر النيسابوري، عن أبي الأزهر، عن عبد الرزاق، به. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 728 رقم 1411). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 237 رقم 15033). (¬3) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 132).

والشافعي في "مسنده" (¬1): عن محمَّد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه"، وقال الشافعي: غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه ونقصه. وأخرجه البيهقي في كتاب "الخلافيات": عن محمَّد بن عبد الله الحافظ، عن أبي بكر بن أحمد، عن عبد الله بن يوسف الأصبهاني، عن محمَّد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، به. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الحنظلي، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه. قوله: "لا يغلقُ الرهن" برفع القاف على الخبر، أي ليس يغلق الرهن، ومعناه: لا يذهب ويتلف باطلًا، قاله أبو عمر، وقال أيضًا: والأصل في ذلك: الهلاك، والنحويون يقولون: غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص، وقال ابن الأثير: هو من غَلِقَ الرهنُ يَغْلَقُ غُلُوقًا إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإِسلام، وقال الأزهري: يقال: غَلِقَ البابُ وانْغَلَق واسْتَغْلَق إذا عَسُرَ فتحه، والغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه، وقد أَغْلَقْتُ الرهن فَغَلِقَ: أي أوجبته فوجب للمرتهن، وباب هذه المادة من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. فافهم. ¬

_ (¬1) "مسند الشافعي" (1/ 148).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقال قائل: لما قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه وعليه غرمه" ثبت بذلك أن الرهن لا يضيع بالدين، فإن لصاحبه غنمه وهو سلامته، وعليه غرم الدين بعد ضياع الرهن". ش: أراد بهذا القائل: الشافعي، فإنه قال هذا القول، وفسر الغنم والغرم بما فسره. وبقوله قال أحمد وأبو ثور وابن المنذر، وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وعطاء بن أبي رباح. قال ابن قدامه: الرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن ولا تفريط منه فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروي ذلك عن علي - رضي الله عنه -، وبه قال الشافعي. ويروى عن شريح والنخعي والحسن: أن الرهن يُضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته؛ لأنه روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "الرهن بما فيه"، وقال مالك: إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحرق فمن ضمان الراهن، وإن أدعى تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله وضَمِن. وقال ابن حزم (¬1): وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن ولا المرتهن فللناس فيه خمسة أقوال: قالت طائفة: يترادان الفضل. تفسير ذلك: أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد سقط الدين عن الذي كان عليه، ولا ضمان عليه في الرهن، فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين ومقداره من الرهن، وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين، وإن كانت قيمة الرهن أقل، سقط من الدين بمقداره، وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن، وهو قول عبيد الله بن الحسن وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 96 - 98).

وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه، سواء كان قيمة الدين أو أقل أو أكثر، إذا تلف، سقط الدين، ولا يغرم أحدهما للآخر شيئًا. صحَّ هذا عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وشريح والشعبي والزهري وقتادة. وصح عن طاوس في الحيوان يرتهن. وروينا عن النخعي والشعبي: "فيمن ارتهن عبدًا فاعوَّر عنده قالا: ذهب بنصف دينه". وقالت طائفة: إن كان الرهن مما يخفى كالثياب ونحوها، فضمان ما تلف منها على المرتهن بالغة ما بلغت، ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدى إليه بكماله. وإن كان الرهن مما يظهر كالعقار والحيوان فلا ضمان فيه على المرتهن، ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه، وهو قول مالك. وقالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلًا، ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه. وهو قول الشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وأبي سليمان، وأصحابهم. وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو مثلها، فقد بطل الدين كله، ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين، فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين مقدار قيمة الرهن، وأدى الراهن إلى المرتهن ما بقي من دينه. وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة. وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. ص: وهذا تأويل قد أنكره أهل العلم جميعًا باللغة، وزعموا أنه لا وجه له عندهم، والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث وإن كان منقطعًا: احتجاج الذي يقول بالمسند علينا، ودعواه أنا خالفناه، وقد كان يلزمه على أصله لو أنصف خصمه أن لا يحتج بمثل هذا، إذ كان منقطعًا، وهو لا تقوم الحجة عنده بالمنقطع.

فإن قال: قبلته وإن كان منقطعًا؛ لأنه عن سعيد بن المسيب، ومنقطع سعيد بن المسيب يقوم مقام المتصل. قيل له: ومن جعل لك أن تخص سعيدًا بهذا وتمنع منه مثله من أهل المدينة، مثل أبي سلمة والقاسم وسالم وعروة وسليمان بن يسار وأمثالهم من أهل المدينة، والشعبي وإبراهيم النخعي وأمثالهما من أهل الكوفة، والحسن وابن سيرين وأمثالهما من أهل البصرة، وكذلك من كان في عصر من ذكرنا من سائر فقهاء الأمصار، ومن كان فوقهم من الطبقة الأول من التابعين مثل علقمة والأسود وعمرو بن شرحبيل وعَبيدة وشريح -رحمهم الله-. لئن كان هذا لك مطلقًا في سعيد بن المسيب، فإنه مطلق لغيرك فيمن ذكرنا، وإن كان غيرك ممنوعًا من ذلك فإنك ممنوع من مثله، لأن هذا تحكم، وليس لأحد أن يحكم في دين الله بالتحكم. ش: أي التأويل الذي تأوله الشافعي في قول سعيد بن المسيب: "له غنمه وعليه غرمه" تأويل قد أنكره عليه أهل العلم جميعًا باللغة، فحكى عن أبي عمرو غلام ثعلب: أنه أخطأ من قال: الغرم الهلاك، بل الغرم اللزوم ومنه الغريم؛ لأنه لزمه الدين، وقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (¬1) أي لازما، والصحاح: الغرامة: ما يلزم أداؤه، وكذلك المغرم والغرم، وفي كتاب "الأفعال": غارمت غرما: لزمني ما لا يجب علي. وقد فسر غير الشافعي الحديث بأشياء موافقة لما قاله أهل اللغة؛ فقال الهروي في "الغريبين": قال ابن عرفة: الغرامة عند العرب: ما كان لازما، والغرم: أداء شيء يلزم، ومنه الحديث: "له غنمه وعليه غرمه". ففي زيادته: وغرمه: أداء ما يفك به الرهن. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، آية: [65].

وقال الجصاص: الغرم: الدين، فيكون تفسيرا لقوله: "لا يغلق الرهن، أي: لا يملك بالشرط عند محل الأصل، ولصاحبه إذا جاء زيادته وعليه دينه الذي هو مرهون به". وفي "التمهيد": قال أبو عبيد: لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: قد غلق، إنما يقال: غلق، إذا استحقه المرتهن فذهب به، وهذا كان من فعل الجاهلية فأبطله النبي -عليه السلام- بقوله: "لا يغلق الرهن"، وقال مالك تفسيره بما يرى: أن يرهن شيئًا فيه فضل فيقول للمرتهن: إن جئتك تجعل إلي كذا؛ وإلا فالرهن لك بما فيه، فهذا لا يحل، وهو الذي نهي عنه، وبنحو هذا فسره الزهري والنخعي والثوري وطاوس وشريح. وفي "القواعد" لابن رشد: أن أبا حنيفة وأصحابه تأولوا غنمه بما فضل منه، وغرمه بما نقص، ومعنى قوله: "وعليه غنمه" عند مالك ومن قال بقوله: أي نفقته. وحكى صاحب "التمهيد" عن أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما في تأويل الحديث كما حكاه ابن رشد. فالحاصل: أن الشافعي احتج بمرسل سعيد بن المسيب، وأوله بتأويل أنكره عليه أهل العلم جميعًا باللغة. وأقل الأحوال أنه يجعل غير ما ذكر مما تقدم من التأويلات وترك القول بالتضمين مع أنه منصوص عليه في عدة أحاديث قد تأيد بعضها ببعض، وتأيدت بأقوال السلف والتابعين، على أن مذهب ابن المسيب بخلاف ما تأول الشافعي حديثه به، فقال صاحب "التمهيد": قال شريح والشعبي وغير واحد من الكوفيين: يذهب الرهن بما فيه؛ كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء، وهذا قول الفقهاء السبعة المدنيين إذا هلك وعميت قيمته ولم تقم بينة، فإن قامت بينة يردا الفضل، وهكذا قال الليث، وقال:. . . . (¬1) بلغني عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل.

وابن المسيب من الفقهاء السبعة بلا خلاف، وروى عبد الرزاق في "مصنفه": عن معمر، عن الحسن والزهري وقتادة وابن طاوس عن أبيه قالوا: من ارتهن حيوانًا فهلك فهو بما فيه. وقال أبو بكر الجصاص: اتفقت الصحابة على أنه مضمون؛ وإن اختلفوا في كيفية الضمان، فالقول بأنه أمانة خلاف الإجماع. قوله: "والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث" أي: حديث سعيد بن المسيب -وإن كان منقطعا- أشار بهذا الكلام إلى الإنكار على الشافعي؛ حيث احتجوا على الشافعية بالمسند إذا احتجوا بالمنقطع، ويدعي أنهم قد خالفوه بكونه قد احتج بالمسند وهم قد احتجوا بالمنقطع، ثم قال: لو أنصف الشافعي خصمه كان ينبغي على أصله الذي يذهب إليه أن لا يحتج بمثل هذا الحديث هاهنا؛ لأنه منقطع، وهو لا يرى الحجة بالمنقطع. قوله: "فإن قال" أي: فإن قال الشافعي: إنما قبلته -أي: حديث سعيد بن المسيب- وإن كان منقطعا، وهذا جواب الشافعي عما قاله: الحنفية وقد كان يلزمه على أصله. . . ." إلى آخره. قيل له: "ومن جعلك. . . ." إلى آخره. منع لما أجابه الشافعي، وحاصله: أن تخصيص الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب في العمل بها دون مراسيل غيره ممن هم أضرابه وأشكاله من أهل المدينة مثل: أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق وسالم بن عبد الله بن الخطاب وعروة بن الزبير بن العوام وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-. ومثل: عامر بن شراحيل الشعبي وإبراهيم بن يزيد النخعي وأضرابهما من أهل الكوفة. ومثل: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأضرابهما من أهل البصرة.

وأمثال من كانوا في عصرهم وزمانهم، وأمثال من كان فوقهم من الطبقة الأولى من التابعين مثل: علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد بن قيس النخعي وعمرو بن شرحبيل الهمداني وعَبِيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- ابن عمرو السلماني وشريح بن الحارث الكندي -رحمهم الله-. تحكم وترجيح بلا مرجح، فلا يقبل منه، على أن الشافعي قد خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع. فمن ذلك: ما روي عن سعيد بن المسيب بسند صحيح: "فرض رسول الله -عليه السلام- زكاة الفطر مدين من حنطة"، وقد رده الشافعي وقال: هذا خطأ، وقد نص البيهقي في رسالته إلى أبي محمَّد الجويني أن إسناده صحيح، وذكر فيها أيضًا أن الشافعي خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع، فكيف رده الشافعي وزعم أنه خطأ وهو صحيح ولاسيما وقد اعتضد بأحاديث وآثار أخرى على ما ذكرناها في موضعها. فإن قيل: قد روي حديث سعيد بن المسيب هذا مسندًا أيضا فلذلك قامت به الحجة عند الشافعي. وهو ما رواه الدارقطني (¬1): ثنا محمَّد بن الحسين بن سعيد الهمذاني [الحياني] (¬2)، ثنا عبد الله بن هشام القواس، ثنا بشر بن يحيى المروزي، ثنا أبو عصمة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه". ثنا (¬3) أبو محمَّد بن صاعد، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا سفيان بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 32 رقم 125). (¬2) كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن الدارقطني" المطبوع: الخباز، وفي ترجمته من "تاريخ بغداد" (2/ 239)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 342) أثناء سرد أحاديثه، ويعرف بالطَّيان، وكذا ذكره ابن نقطة في "تكملة الإكمال" (4/ 70) فيمن عرف بالطيان. (¬3) "سنن الدارقطني" (3/ 34 رقم 126).

عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه". قال الدارقطني: زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن متصل. ثنا (¬1) أبو محمَّد بن صاعد، ثنا محمَّد بن عوف، نا عثمان بن سعيد بن كثير، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه وعليه غرمه". ثئا (¬2) أبو الطيب محمَّد بن جعفر بن دُران ومحمد بن أحمد بن الصلت الأطروش، قالا: ثنا محمَّد بن خالد بن يزيد الراسبي، ثنا أبو ميسرة أحمد بن عبد الله بن ميسرة، ثنا سليمان بن داود الرقي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يغلق الرهن حتى يكون لك غنمه وعليك غرمه". ثئا (¬3) أبو العباس أحمد بن عبد الله بن نصر بن بحير، ثنا عمران بن بكار، نا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا الزبيدي عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه". حدثنا (¬4) أحمد بن عبد الله، ثنا عمران بن بكار، ثنا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل، ثنا محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-، مثله. حدثنا (¬5) محمَّد بن أحمد بن زيد الحنائي، ثنا موسى بن زكرياء، ثنا محمَّد بن يزيد الروَّاس، ثنا كريب أبو يحيى، ثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 127). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 128). (¬3) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 129). (¬4) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 130). (¬5) "سنن الدارقطني" (3/ 33 رقم 131).

المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، لك غنمه وعليك غرمه". وأخرجه البيهقي (¬1): من طريق عبد الله بن عمران، عن سفيان بن عُيينة عن زياد بن سعد، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه الحاكم (¬2): عن الأصم، عن محمَّد بن عوف، عن عثمان بن سعيد ابن كثير، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3) أيضًا من طريق الحاكم. وأخرجه بن حزم في "المحلى" (¬4): ثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمَّد بن قاسم، ثنا جدي: قاسم بن أصبغ، حدثني محمَّد بن إبراهيم، حدثني يحيى بن طالب الأنطاكي وجماعة من أهل الثقة ثنا نضر بن عاصم الأنطاكي، نا شبابة بن ورقاء، نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه". فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب. قلت: قال أبو عمر: أصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللوها. والعجب من البيهقي كيف سكت هاهنا عن إسماعيل بن عياش وقال في باب السيف: لا نقضي في مثله، وفي باب أكل الضب: لا يحتج بمثله، وقال في باب ترك الوضوء من الدم: ماروي عن الشاميين صحيح وعن أهل الحجاز ليس بصحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 39 رقم 11002). (¬2) "المستدرك على الصحيحين" (2/ 59 رقم 2317). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 39 رقم 11000). (¬4) "المحلى" (8/ 99).

وابن أبي ذئب مدني وليس بشامي، على أن إسماعيل لم يسمعه من ابن أبي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير، وعباد ضعيف عندهم. ولئن سلمنا أنه حديث مسند صحيح فهو حجة عليه لا علينا, لأن قوله: "لا يغلق الرهن" معناه لا يهلك، إذ الغلق يستعمل في الهلاك، قال الكاساني (¬1): كذا قال بعض أهل اللغة، وعلى هذا كان الحديث حجة عليه، لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكًا معنىً، وقيل: معناه لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكمًا جاهليًّا جاء الإِسلام فأبطله. وقوله: "عليه غرمه" أي نفقته وكفنه ونحن نقول به. والله أعلم. ص: وقد قال أهل العلم في تأويل قول رسول الله -عليه السلام- غير ما ذكرت: حدثنا علي بن عبد العزيز -فيما أعلم، فإن لم يكن فقد دخل فيما كان إجازةً لي- قال: ثنا أبو عُبيد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: "في رجل دفع إلى رجل رهنًا وأخذ منه دراهم وقال: إن جئتك بحقك إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بحقك. فقال إبراهيم: لا يغلق الرهن". قال أبو عبيد: فجعله جوابًا لمسألته. وقد روي عن طاوس نحوٌ من هذا، بلغني ذلك عن ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس. قال: وأخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس وسفيان ابن سعيد: "أنهما كانا يفسرانه على هذا التفسير". حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك بن أنس بذلك أيضًا. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: سمعت ابن المسيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغلق الرهن". فبذلك يمنع صاحب الرهن من أن يبتاعه من الذي رهنه عنده حتى يباع من غيره، فذهب الزهري أيضًا في ذلك الغلق إلى أنه في البيع لا في الضياع. ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (5/ 223).

فهؤلاء المتقدمون يقولون بما ذكرنا. ش: الخطاب في قوله: "غير ما ذكرت" للشافعي -رحمه الله-: وأشار بهذا إلى أنه قد جاء عن إبراهيم النخعي وطاوس بن كيسان ومالك بن أنس وسفيان الثوري ومحمد بن مسلم الزهري تأويلات خلاف ما ذهب إليه الشافعي من التأويل المذكور. أما ما جاء عن إبراهيم فإنه قد رواه إما مشافهة، وإما بطريق الإجازة، عن علي بن عبد العزيز البغدادي الحافظ صاحب المسندات، عن أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي الفقيه الأديب القاضي، عن جرير بن عبد الحميد، عن المغيرة ابن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي. وهذا إسناد صحيح. وأما ما جاء عن طاوس فرواه بطريق البلاغ، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو دينار، عن طاوس بن كيسان، أنه فسر الحديث بما فسر به إبراهيم. وأما ما جاء عن مالك بن أنس وسفيان الثوري، فرواه أبو عبيد، عن عبد الرحمن بن مهدي عنهما، وأشار إليه بقوله: قال: وأخبرني أبي، قال أبو عبيد: وأخبرني عبد الرحمن. وأخرج أبو جعفر الطحاوي أيضًا تأويل مالك من طريق: يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. وأما ما جاء عن الزهري، فرواه عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب -رحمه الله-. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في هذا أيضًا ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التَيْمي، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا مصعب بن ثابت، عن عطاء بن أبي رباح: "أن رجلًا ارتهن فرسًا، فمات الفرس في يد المرتهن، فقال رسول الله -عليه السلام-: ذهب حقك".

فدل هذا من قول رسول الله -عليه السلام- على بطلان الدين بضياع الرهن. فإن قال: هذا أيضًا منقطع. قيل له: والذي تأولته أيضًا منقطع، فإن كان المنقطع حجة لك علينا فالمنقطع أيضًا حجة لنا عليك. ش: أي وقد روي عن النبي -عليه السلام- في حكم الرهن إذا هلك عند المرتهن أنه يهلك بالدين. أخرج ذلك بإسناد رجاله كلهم ثقات. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، قال: سمعت عطاء يحدث: "أن رجلًا رهن رجلًا فرسًا فنفق في يده، فقال رسول الله -عليه السلام- للمرتهن: ذهب حقك". فإن قلت: مصعب بن ثابت ضعفه يحيى وأحمد، وقال ابن حزم: هذا مرسل ومصعب ليس بالقوي. قلت: ابن حبان وثقه وصدَّقه أبو حاتم، وروى عنه مثل عبد الله بن المبارك وزيد بن أسلم -وهو أكبر منه- وعيسى بن يونس وأضرابهم. قوله: "فإن قال: هذا أيضًا منقطع" أي فإن قال الشافعي: هذا الحديث أيضًا منقطع فلا يكون حجة. قوله: "قيل له" أي لهذا القائل -وهو الشافعي- وهو ظاهر. فإن قيل: فقد روى البيهقي (¬2) هذا الحديث من طريق أبي داود: ثنا محمَّد بن العلاء، ثنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، سمعت عطاء: "أن رجلًا رهن فرسًا، فنفق في يده، فقال رسول الله -عليه السلام- للمرتهن: ذهب حقك"، ثم ذكر أن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 524 رقم 22803). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 41 رقم 11007).

الشافعي وَهَّنَه فقال: ثنا إبراهيم، عن مصعب، عن عطاء قال: "زعم الحسن. . . ." ثم ذكره فجعله من مرسلات الحسن. قلت: الراوي من طريق أبي داود عن مصعب هو عبد الله بن المبارك كما صرح به أيضًا من طريق الطحاوي، وهو جبل من الجبال، فكيف تعارض روايته رواية إبراهيم، وأظنه بن أبي يحيى وهو ضعيف جدًّا، وعلى تقدير صحة هذه الرواية, فالمرسل حجة عند خصم الشافعي سواء كان من جهة الحسن أو من جهة عطاء. فافهم. فإن قيل: ذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال: ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء -إن كان رواه- أن عطاء كان يفتي بخلافه، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفضل، وهذا أثبت الروايات عنه، وروي عنه: يترادان مطلقًا, ولا شك أن عطاء لا يروي عن النبي -عليه السلام- ويقول بخلافه. قلت: لم يسند الشافعي قول عطاء حتى ننظر فيه، وقد قال الطحاوي: ثنا ابن مرزوق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء: "في رجل رهن رجلًا جاريةً فهلكت، قال: هي حق المرتهن". وهذا إسناد جيد يظهر به أن قول عطاء موافق لحديثه المرسل لا مخالف له، ثم لو ثبت أن قوله مخالف لما رواه، فالعبرة عند الشافعي وأكثر المحدثين لما روى لا لما رأى، على ما عرف. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- من جهة أخرى ما يوافق ذلك أيضًا: حدثنا أبو العوام محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: "أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم منهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمَّد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجه بن زيد وعبيد الله بن عبد الله في مشيخة من نظرائهم، أهل فقه وصلاح وفضل، فذكر جميع ما جُمع من

أقاويلهم في كتابه على هذه الصفة، أنهم قالوا: الرهن بما فيه، إذا هلك وعميت قيمته، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي -عليه السلام-" فهؤلاء أئمة المدينة وفقهاؤها يقولون: إن الرهن يهلك بما فيه، ويرفع الثقة منهم إلى النبي -عليه السلام-، فأيهم حكاه فهو حجة؛ لأنه فقيه إمام، ثم قولهم جميعًا بذلك واجتماعهم عليه قد ثبت به صحة ذلك أيضًا. ثَمَّ سعيد بن المسيب، وهو المأخوذ منه قول رسول الله -عليه السلام-: "لا يغلق الرهن". ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- من جهة أخرى ما يوافق ما أوله النخعي وطاوس ومالك والثوري والزهري في حديث سعيد بن المسيب. وهو ما أخرجه بإسناد جيد عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي المصري، عن خالد بن نزار الأيلي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن أبيه عبد الله قال: "أدركت. . . ." إلى آخره. وعبد الرحمن هذا احتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه، واستشهد به البخاري وقال ابن المديني: حديثه بالمدينة حديث مقارب. وقد ذكر في حديثه ستة من الأمة الكبار الثقات الأثبات أهل الفقه والصلاح والفضل والأمانة وجلالة القدر: الأول: سعيد بن المسيب الذي هو سيد التابعين الذي يقال له: فقيه الفقهاء. الثاني: عروة بن الزبير بن العوام، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث فقيهًا عالمًا مأمونًا ثبتًا. روى له الجماعة. الثالث: القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -، ذكره محمَّد بن سعد أيضًا في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال فيه ما قال في عروة. الرابع: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة. قيل: اسمه

محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن كنيته واسمه واحد، قال ابن خراش: هو أحد أئمة المسلمين. روى له الجماعة. الخامس: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري أبو زيد، أحد الفقهاء السبعة، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، روى له الجماعة. السادس: عُبيد الله -بتصغير العبد- بن عبد الله -بالتكبير- بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة. قال العجلي: كان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح، جامع للعلم، وهو معلم عمر بن عبد العزيز. روى له الجماعة. قوله: "في مَشِيخة" بفتح الميم وكسر الشين: جمع شيخ، وكذلك أشياخ وشُيُوخ وشِيَخَة وشِيخَان ومَشَايخ ومَشْيُوخَاء. "الشيخ" في اللغة من استبان فيه السن, والمراد به هاهنا: من كان متقدمًا في العلم إمامًا يقتدى به. و"النُّظراء" بضم النون: جمع نظير، ونظير الشيء: مثله. ومحل قوله: "في مَشِيخة" نصب على الحال. قوله: "الرهن بما فيه" يعني الرهن محبوس بما فيه من الدين، فإذا هلك هلك الدين؛ لأنه في مقابلته. قوله: "وعميت قيمته" يجوز أن يكون من العلماء وهو السحاب الرقيق، أي حال دونه ما أعمى الأبصار عن معرفة قيمته، ويجوز أن يكون من العمى مقصورًا بمعنى وخفيت قيمته، لأن الأعمى تخفى عليه الأشياء. ص: وقد زعم هذا المخالف لنا أن من روى حديثًا عن رسول الله -عليه السلام- فهو أعلم بتأويله، حتى قال في حديث ابن عباس الذي رواه سيف، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى باليمين

مع الشاهد -قال عمرو: في الأموال" فجعل هو قول عمرو بن دينار هذا وتأويله له حجة ودليلًا له أن ذلك الحكم في الأموال دون سائر الأشياء، فلئن كان قول عمرو بن دينار هذا وتأويله تجب به حجة، فإن قول سعيد بن المسيب الذي ذكرنا وتأويله فيما روى أحرى أن يكون حجة. ش: أراد بالمخالف الشافعي، وأراد بهذا الكلام الرد عليه فيما زعم أن مَن روى حديثًا عن رسول الله -عليه السلام- فهو أعلم بتأويله، حتى قال في حديث ابن عباس الذي أخرجه الطحاوي في باب القضاء باليمين مع الشاهد: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن زيد بن الحباب، عن سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قضى باليمين مع الشاهد -قال عمرو: في الأموال". يعني عمرو أَوَّلَ هذا الحديث في الأموال دون غيرها، فجعل الشافعي قول عمرو هذا حجة ودليلًا له في أن القضاء باليمين مع الشاهد إنما هو في باب الأموال دون غيرها. وجه ردِّ الطحاوي ذلك: أنه إذا كان قول عمرو في هذا حجة، لكونه أعلم بتأويل حديثه الذي رواه فكون قول سعيد بن المسيب وتأويله أحرى وأولى أن يكون حجة. ص: وهذا المخالف لنا فقد زعم أنه يقول بالاتباع، فعن مَنْ أخذ قوله هذا؟ أو مَن إمامه فيه؟ وقد روينا عن رسول الله -عليه السلام- خلافه، وعن تابعي أصحابه خلافه أيضًا. ش: أي زعم الشافعي أنه يقول بالاتباع للأحاديث والآثار, ولهذا ينقل عنه أنه قال: كل ما صح من الحديث فهو مذهبي، وقد ترك الاتباع في مسألة الرهن إذا هلك عند المرتهن، وذهب إلى قول لا يُدرى عَمَّن أخذه، ولا مَنْ إمامه فيه؟. فإن قيل: اتبع هاهنا حديث ابن المسيب المخرج مرسلًا وموصلًا كما ذكرناه. قيل له: قد بَيَّنَا أنه أول الحديث بتأويل أنكره عليه أهل العلم باللغة والنقل، فلم يبق له دليل يُعتمد عليه، ولا برهان يقوم به الحكم.

قوله: "وقد [روينا عن] (¬1) رسول الله -عليه السلام- خلافه" أشار به إلى ما رواه عطاء ابن أبي رباح، المذكور عن قريب. قوله: "وعن تابعي" أي وقد روينا عن التابعين لأصحاب رسول الله -عليه السلام- خلاف ما ذهب إليه أيضًا، وهو ما رواه عن الفقهاء الستة الذين ذُكروا عن قريب. ص: وقد روي عن أئمة أصحابه خلاف ذلك أيضًا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي العوام -يعني عمران بن دَاوَر- عن مطر، عن عطاء، عن عبيد بن عمير: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال في الرجل يرتهن الرهن فيضيع، قال: إن كان بأقل ردوا عليه، وإن كان بأفضل فهو أمين في الفضل". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن محمَّد بن الحنفية، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: "إذا رهن الرجِلُ الرجلَ رهنًا، فقال له المعطي: لا أقبله إلا بأكثر مما أعطيك، فضاع رَدَّ عليه الفضل، وإن رهنه وهو أكثر مما أعطى بطيب نفس من الراهن فضاع فهو بما فيه". حدثنا نصر، قال: ثنا الخصِيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلاس، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: "إذا كان في الرهن فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه، وإن لم تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن الحسن وخِلاس بن عمرو، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال في الرهن: "يترادَّان الزيادة والنقصان جميعًا، فإن أصابته جائحة برئ". فهذا عمر وعلي - رضي الله عنهما - قد أجمعا أن الرهن الذي قيمته الدين يضيع بالدين، وإنما اختلافهما فيما زاد من قيمة الرهن على مقدار الدين، فقال عمر - رضي الله عنه - هو أمانة، وقال علي - رضي الله عنه - ما قد رويناه عنه في حديث نصر وأحمد بن داود. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

ش: أي خلاف ما ذهب إليه الشافعي -رحمه الله-، وهو ما روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، وهما من كبراء الصحابة - رضي الله عنهم -. أما ما روي عن عمر - رضي الله عنه - فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن أبي العوام عمران بن دَاوَر -براء مهملة في آخره- القطان المصري، عن مطر بن طهمان الوراق، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير بن قتادة الجندعي المكي قاضي أهل مكة، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عمران القطان، نحوه. فإن قيل: أخرجه البيهقي (¬2) ثم قال: وهذا ليس بمشهور عن عمر - رضي الله عنه -. وقال ابن حزم (¬3): لم يصح هذا عن عمر - رضي الله عنه - لأنه من رواية عبيد بن عمير، وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر - رضي الله عنه - أو أدركه صغيرًا لم يسمع منه شيئًا. وقال البيهقي أيضًا في "الخلافيات": عمران بن داود القطان انفرد به، وأكثر أصحاب الحديث لا يحتجون به. قلت: أما قول البيهقي: هذا ليس بمشهور عن عمر تسليم منه، وهذا ليس بجرح. وأما قول ابن حزم: وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر - رضي الله عنه - فغير صحيح، لأن مسلمًا -رحمه الله- قال: ولد عبيد بن عمير في زمن النبي -عليه السلام-. حتى قال بعضهم: إنه رأى النبي -عليه السلام-، وقال ابن الأثير: ذكر البخاري أنه رأى النبي -عليه السلام-، وذكر مسلم أنه ولد على عهد النبي -عليه السلام-، وهو معدود في كبار التابعين، فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينكر سماعه من عمر - رضي الله عنه -؟!. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 525 رقم 22803). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 43 رقم 11010). (¬3) "المحلى" (8/ 98).

وأما قول البيهقي أيضًا: إنه انفرد به عمران القطان فليس بقدح فيه، لأن ابن حبان وثقه، والبخاري استشهد به، واحتجت به الأربعة، وأحسن يحيى عليه الثناء، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه. وأما ما روي عن علي - رضي الله عنه -، فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إسرائيل بن يونس، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة، والعين المهملة- عن محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): عن وكيع، عن علي بن صالح، عن عبد الأعلى بن عامر، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي نحوه. الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلَاس -بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2)، وفي "الخلافيات": أنا عبد العزيز، ثنا عبد الباقي ابن قانع، ثنا علي بن محمَّد، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلَاس، عن علي - رضي الله عنه -، نحوه. الثالث: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن الحسن وخِلَاس، كلاهما عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن حزم (¬3): من طريق الحجاج بن منهال، عن همام بن يحيى, عن قتادة، عن خِلَاس، عن علي - رضي الله عنه -، نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 525 رقم 22795). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 43 رقم 11011). (¬3) "المحلى" (8/ 97).

فإن قيل: قال البيهقي: اختلفت الرواية في ذلك عن علي وذكر يحيى بن معين وغيره أن ما رواه خلاس عن علي، أخذه من صحيفة. قلت: الروايات كلها عن علي متفقة صحيحة على التضمين والاختلاف في كيفيته، وذكر ابن حزم في كتاب الجهاد من "المحلى" (¬1) أن رواية خلاس عن علي صحيحة، وقال أيضًا في كتاب الرهن (¬2): أما علي فمختلف عنه في ذلك، وأصح الروايات عنه إسقاط التضمين فيما أصابته جائحة. فهذا يدل على أن رواياته في هذا صحيحة، غير أن بعضها أصح. والله أعلم. ص: وقد روي أيضًا عن الحسن وشريح في ذلك ما قد حدثنا نصر، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، أن الحسن وشريحًا قالا: "الرهن بما فيه". حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حَصِين، قال: سمعت شريحًا يقول: "ذهبت الرهان بما فيها". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن جابان قال: "رهنت حليًّا، وكان أكثر مما فيه، فضاع، فاختصمنا إلى شريح فقال: الرهن بما فيه". فهذا الحسن وشريح قد رأيا الرهن يُبطل ذهابه الدين. ش: أي قد روي أيضًا عن الحسن البصري وشريح بن الحارث القاضي في حكم الرهن إذا هلك، أنه يهلك بما فيه من الدين. أما ما روي عن الحسن وفيه عن شريح أيضًا فأخرجه بإسناد صحيح. عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن وشريح. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 301). (¬2) "المحلى" (8/ 98).

وأخرجه ابن أبي شيبة: عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح قال: "الرهن بما فيه". حدثنا عبد الأعلى (¬1): عن يونس، عن الحسن قال: "الرهن بما فيه". وأما ما روي عن شريح خاصة فأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل ابن دُكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن ابن أبي زائدة، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح قال: "ذهبت الرهان بما فيها". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بالقوي. روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره. عن عيسى بن جابان (¬3). ص: وقد روي ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي: حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في الرهن يهلك في يدي المرتهن: "إن كانت قيمته والدين سواء ضاع بالدين، وإن كانت قيمته أقل من الدين ردّ عليه الفضل، وإن كانت قيمته أكثر من الدين فهو أمين في الفضل". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 524 رقم 22788). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 524 رقم 22786) ولكن من طريق شريك، عن أبي حصين، قال: سمعت شريحا يقول، فذكره. (¬3) بيَّض له المصنف: وعيسى بن جابان هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" (8/ 491)، وقال: من عباد أهل الكوفة، ممن حفظ لسانه، ليس يروي الأخبار ولا يسمع الآثار، إنما يحكى عنه الرقائق في التعبد، روى عنه الكوفيون.

ش: أي قد روى الحكم المذكور في الرهن -وهو ذهابه بالدين- عن إبراهيم النخعي. أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن محمَّد بن الحسن الشيباني، عن الإِمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن القعقاع بن يزيد، عن إبراهيم قال: "إذا كان الرهن أكثر مما رُهن به فهلك فهو بما فيه، لأنه أمين في الفضل، وإذا كان أقل مما رهن به فهلك رد الراهن الفضل". ص: وروي في ذلك أيضًا عن عطاء بن أبي رباح ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء في رجل رهن رجلًا جاريةً فهلكت، قال: "هي بحق المرتهن". فهذا عطاء يقول هذا، وقد روينا عنه عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "لا يغلق الرهن". فهذا أيضًا حجة على مخالفنا إذ كان من أصله أن من روى حديثًا عن رسول الله -عليه السلام- فتأويله فيه حجة، فقد خالف هذا كله في هذا الباب، وخالف ما قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام-، وعن عمر وعلي، وعمن ذكرنا من التابعين، فَمَنْ إمامه في هذا، وبمن أقتدى؟! ش: أي قد روي في حكم الرهن أنه إذا هلك هلك بما فيه من الدين عن عطاء بن أبي رباح. ¬

_ (¬1) هذا المتن هو في المطبوع من "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 525 رقم 22795) من طريق وكيع، عن علي بن صالح، عن عبد الأعلى بن عامر، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي قال من قوله. وأما هذه الرواية فقد رواها ابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/ 525 رقم 22795) بلفظ آخر، ولعله انتقال نظر من المؤلف.

أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء. وأثر عطاء هذا قد دَلَّ على شيئين: الأول: أن التأويل الذي أوله الشافعي في حديث ابن المسيب: "لا يغلق الرهن" غير صحيح، لأن عطاء أيضًا روى هذا، وأفتى من رأيه بما ذكرنا. والثاني: أن فتواه هذه قد وافقت حديثه المرسل الذي رواه عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عنه، وقد مَرَّ بيانه مستوفى، فصار هذا أيضًا حجة على الشافعي؛ لأن من أصله: أن من روى حديثًا عن النبي -عليه السلام- فتأويله فيه حجة، فقد خالف الشافعي هذا كله في هذا الباب، وخالف أيضًا ما روي عن النبي -عليه السلام-، وعن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وشريح، والحسن، وإبراهيم النخعي؛ فلهذا استبعد الطحاوي هذا الأمر منه فقال: فمن إمامه في هذا -أي فيما ذهب إليه- وبمن اقتدى فيه. ص: ثم النظر في هذا أيضًا يدفع ما قال وما ذهب إليه، إذ جعل الرهن أمانة تضيع بغير شيء، وقد أجمعوا أن الأمانات لربها أن يأخذها، وحرام على المرتهن منعه منها، والرهن مخالف لذلك، إذا كان للمرتهن حبسه، ومنع مالكه منه حتى يستوفي دينه، فخرج بذلك حكمه من حكم الأمانات. ورأينا الأشياء المغصوبة حرام على الغاصبين حبسها، وحلال للمغصوبة منهم أخذها، والرهن ليس كذلك؛ لأن المرتهن حلال له حبس الرهن، ومنع الراهن منه حتى يستوفي منه دينه. ورأينا العواري للمستعير الانتفاع بها, وللمعير أخذها منه متى أحب، والرهن ليس كذلك، لأن المرتهن حرام عليه استعمال الرهن، وليس للراهن أخذه منه حتى يوفيه دينه. فبان حكم الرهن من حكم الودائع والغصوب والعواري، وثبت أن حكمه بخلاف حكم ذلك كله.

وقد أجمعوا أن للمرتهن حبسه حتى يستوفي الدين وحلال للراهن أخذه إذا بَرئ من الدين. فلما كان حبس الرهن مضمنًا بحبس الدين، وسقوط حبسه مضمنًا بسقوط حبس الدين، كان كذلك أيضًا ثبوت الدين مضمنًا بثبوت الرهن، فما كان الرهن ثابتًا فالدين ثابت، وما كان الرهن غير ثابت فالدين غير ثابت. وكذلك رأينا المبيع في قولنا وقول هذا المخالف لنا: للبائع حبسه بالثمن، ومتى ضاع في يده ضاع الثمن، فالنظر على ما اجتمعنا عليه نحن وهو من هذا: أن يكون الرهن كذلك، وأن يكون ضياعه يبطل الدين كما كان ضياع المبيع يُبطل الثمن، فهذا هو النظر في هذا الباب. ش: أي ثم وجه النظر والقياس أيضًا في هذا الباب يدفع ما قال الشافعي وما ذهب إليه، حيث جعل الرهن أمانة يهلك بغير شيء، والحاصل أن الرهن ليس له مشابهة بالأمانات؛ لأن في الأمانة لصاحبها أن يأخذها ويحرم على المؤتمن منعه منها، والرهن ليس كذلك، ولا له مشابهة للغصب ولا للوديعة ولا للعارية لوجوه قد بينها, وليس له مشابهة إلا بالبيع، وقد أجمعوا أن المبيع إذا هلك في يد البائع هلك بالثمن، فالنظر على ذلك أن يكون الرهن كذلك، إذا هلك هلك بالدين. هكذا هو وجه القياس في هذا الباب. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، كان ينبغي لأبي حنيفة وصاحبيه أن يجروا حكم الرهن على ما يقتضيه القياس المذكور، فأجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: ص: غير أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- ذهبوا في الرهن إلى ما قد رويناه في هذا الباب عن عمر بن الخطاب وإبراهيم النخعي. واحتجوا في ذلك بما قد أجمعوا عليه في الغصب، فقالوا: رأينا الأشياء المغصوبة لا يوجب ضياعها على من غصبها أكثر من ضمان قيمتها، وغصبها حرام، وقالوا: فالأشياء المرهونة التي قد ثبت أنها مضمونة أحرى أن لا يجب بضمانها

على من قد ضمنها أكثر من مقدار قيمتها. وكانوا يذهبون في تفسير قول سعيد ابن المسيب - رضي الله عنه -: "له غنمه وعليه غرمه" إلى أن ذلك في البيع، يريدون [إذا بيع الرهن وفيه نقص عن الدين، غرم المرتهن ذلك النقص، وهو "غرمه" المذكور في الحديث] (¬1). وإذا بيع بفضل عن الدين أخذ الراهن ذلك الفضل وهو "غنمه" المذكور في الحديث. ش: الحاصل أن أبا حنيفة وصاحبيه قد ذهبوا في الرهن إلى ما قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وإلى ما روي عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- ذهبوا أن الرهن إذا هلك وكان أقل من الدين رد الراهن ما فضل من الدين إلى المرتهن، وإن كان الرهن أكثر من الدين يكون الفاضل منه أمانةً، ولم يمشوا هاهنا على سنن القياس، بل تركوه؛ لأثر عمر بن الخطاب وإبراهيم النخعي. وأما في تشبيهه للمبيع وفي جعله مضمونًا، أجروه على مقتضى القياس الذي ذُكر مفصلًا. قوله: "وكانوا يذهبون" أي كان أبو حنيفة وصاحباه يذهبون. . . . إلى آخره، وكان هذا جواب عن سؤال مقدار، تقريره أن يقال: كيف ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى ما ذهبوا إليه، وحديث سعيد بن المسيب يقتضي أن يغرم الراهن الدين عند هلاك الرهن أيضًا؛ لأنه قال: "وعليه غرمه" أي: غرم الدين بعد ضياع الرهن كما فسره الشافعي؟. فأجاب عن ذلك بقوله: "وكانوا يذهبون. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل، ك".

ص: كتاب الشفعة

ص: كتاب الشفعة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الشفعة، وهي مشتقة من الشفع، وهو الضم، ومنه الشَّفْع الذي هو ضد الوتر، ومنه الشفاعة؛ لأنها تضم الجاني إلى الفائز، ومعناها الشرعي: ضم بقعة مشتراة إلى عقار الشفيع بسبب الشركة أو الجوار. ... ص: باب: الشفعة بالجوار ش: أي هذا باب في بيان أحكام الشفعة بسبب الجوار. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة في كل شرك بأرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه؛ يأخذ أو يدع". ش: إسناده صحيح. وابن جريج: هو عبد الملك بن جريج. وأبو الزبير: هو محمَّد بن مسلم المكي. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي طاهر، عن ابن وهب، عن ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. وعن (1) أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وإسحاق بن راهويه، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، به. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1229 رقم 1608).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن أحمد بن حنبل، عن ابن عُليّة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، به. والنسائي (¬2): عن يوسف بن سعيد، عن حجاج، عن ابن جريج بمعناه. وعن (¬3) عمرو بن زرارة، عن ابن عُليّة. وعن (¬4) أبي كريب، عن ابن إدريس، جميعًا عن ابن جريج نحوه. قوله: "كل شِركٌ بأرض" أي في كل اشتراك بأرض، أو في كل نصيب بأرض، والشِّرك بالكسر. قوله: "أو ربع" أي منزل ودار إقامة، وربع القوم: محلتهم، وتجمع على رباع، وفي رواية: "أو ربعة" والربعة أخص من الربع. و"الحائط": البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، ويجمع على حوائط. ويستفاد منه أحكام: فيه أن الشفعة أمر مشروع، وحق واجب، وأنها واجبة في الأرض والرباع والحوائط التي لا تجب في السفن خلافًا لمالك. والحديث حجة عليه واحتجت به طائفة على أن الشفعة لا تكون إلا بالشركة، ولا تكون بالجوار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، واستدل به الثوري والحسن بن حَيّ، وإسحاق وأحمد في رواية وأبو عبيد والظاهرية: أن أحد الشريكين إذا عرض عليه الآخر فلم يأخذ، سقط حقه من الشفعة، وروي ذلك عن الحكم بن عتيبة أيضًا، وعن الطحاوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 285 رقم 3513). (¬2) انظر "تحفة الأشراف" (2/ 317 رقم 2806). (¬3) "المجتبى" (7/ 301 رقم 4646). (¬4) "المجتبى" (7/ 320 رقم 4701).

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم: لا يسقط حقه بذلك؛ بل له أن يأخذ بعد البيع؛ لأن الشفعة لم تجب بعد، وإنما تجب له بعد البيع، فتركه ما لم يجب له بعد لا معنى له، ولا يسقط حقه إذا وجب. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الشفعة لا تكون إلا بالشركة في الأرض، أو الحائط، أو الربع، ولا تجب بالجوار، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، فإنهم قالوا: لا شفعة إلا لشريك لم يقاسم، ولا تجب الشفعة بالجوار. وقال ابن حزم: وصح عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي الزناد، وربيعة مثل قول الشافعي ومالك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الشفعة فيما وصفتم واجبة للشريك الذي لم يقاسم، ثم هي من بعده واجبة للشريك الذي قاسم بالطريق الذي قد بقي له فيه الشرك، ثم هي من بعده واجبة للجار الملازق. ش: أي خالف القومَ المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وشريحًا القاضي، وعمرو بن حزم والحسن بن حَيّ، وقتادة والحسن البصري وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: تجب الشفعة في الأراضي والرباع والحوائط للشريك الذي لم يقاسم، ثم للشريك الذي يليهم، وقد بقي حق طريقه أو شربه، ثم من بعدهما للجار الملازق. وقال أصحابنا: سبب وجوب الشفعة أحد الأشياء الثلاثة المشتركة في نفس المبيع والخلطة، وهي الشركة في حقوق الملك والجوار، وإن شئت قلت: أحد أسبابه الشركة والجوار. ثم الشركة نوعان: شركة في ملك المبيع، وشركة في حقوقه كالشرب والطريق، ثم المراد بالجار الملازق، وهو الذي داره على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة

أخرى، ثم إن السبب عندنا أصل الشركة لا قدرها، وأصل الجوار لا قدره؛ حتى لو كان للدار شريك واحد، أو جار واحد أخذ كل الدار بالشفعة، كثرت شركته وجواره أو قَلَّت، وعلى هذا يخرج قول أصحابنا في قسمة الشفعة بين الشركاء عند اتحاد السبب، وهو الشركة أو الجوار: أنها تقسم على قدر الرءوس لا على قدر الشركة، وبه قال إبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وشريك النخعي، والحسن بن حَيّ، وعثمان البتي، وعُبيد الله بن الحسن، وأبو سليمان، والشافعي في قول، وقال الشافعي في قول آخر: على قدر الشركة في ملك الجميع، حتى لو كانت الدار بين ثلاثة نفر، لأحدهم نصفها, وللآخر ثلثها, وللآخر سدسها، فباع صاحب النصف نصيبه كانت الشفعة بين الباقين أثلاثًا: ثلثاه لصاحب الثلث، وثلثه لصاحب السدس على قدر الشركة، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري في رواية, ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد وسوار بن عبد الله. ثم خلف مَن يتأول الشفعة للجار فقال أصحابنا: لا شفعة إلا للجار الملازق كما ذكرناه، وقال الحسن بن حَيّ للجار مطلقًا بعد الشريك. وقال آخرون: الجار الذي تجب له الشفعة أربعون دارًا حول الدار، وقال آخرون: من كل جانب من جوانب الدار أربعون دارًا. وقال آخرون: هو كل من صلى معه صلاة الصبح في المسجد. وقال بعضهم: أهل المدينة كلهم جيران. وقال ابن حزم (¬1): روينا من طريق أبي الجهم، نا أحمد بن الهيثم، نا سليمان بن حرب، ثنا أبو العيزار، سمعت أبا قلابة يقول: "الجوار أربعون دارًا". ومن طريق ابن الجهم، نا أحمد بن فرج، نا نصر بن علي الجهضمي، نا أبي، نا الوليد، سمعت الحسن يقول: "أربعون دارًا هَاهنا وأربعون دارًا هَاهنا، هي من جوانبنا الأربع، أربعون، أربعون". ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 101).

ومن طريق ابن الجهم: نا أحمد بن محمَّد بن المؤمل خالي، نا علي بن المديني، نا ابن أبي زائدة، عن إسحاق بن فائد: "سئل محمَّد بن علي بن الحسن بن علي: مَن جار الرجل؟ قال: من يصلي معه صلاة الغداة". ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الأثر إنما فيه: أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الشفعة في كل شرك، بأرض، أو ربع، أو حائط" ولم يقل: إن الشفعة لا تكون إلا في كل شرك، فلو قال ذلك نفى أن الشفعة واجبة بغير الشرك، ولكنه إنما أخبر في هذا الحديث أنها واجبة في كل شرك، ولم ينف أن تكون واجبة في غيره، وقد جاء عن جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام- ما قد زاد على معنى هذا الحديث: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بشفعة جاره، فإن كان غائبًا انتظر، إذا كان طريقهما واحدًا". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد الملك، قال: ثنا عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ففي هذا الحديث إيجاب الشفعة في المبيع الذي لا شرك فيه بالشرك في الطريق، فلا يُجعل واحد من هذين الحديثين مضادًّا للحديث الآخر، ولكن يثبتان جميعًا، ويعمل بهما، فيكون حديث أبي الزبير فيه إخبار عن حكم الشفعة للشريك في الذي بيع منه ما بيع، وحديث عطاء فيه إخبار عن حكم الشفعة في المبيع الذي لا شركة لأحد فيه بالطريق. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن هذا الأثر -أي الحديث- الذي ذكر في هذا الباب الذي رواه أبو الزبير عن جابر إنما

فيه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الشفعة في كل شرك" يعني الشفعة لغير الشريك؛ لأنه لم يقل: الشفعة لا تكون إلا في كل شرك، على أنه قد جاء أيضًا في حديث عطاء، عن جابر ثبوت الشفعة في المبيع الذي لا شرك فيه بالشرك في الطريق، ولا منافاة بين حديثي جابر؛ لأن في حديثه الذي رواه عنه أبو الزبير إخبارًا عن حكم الشفعة للشريك في الذي بيع منه. وفي حديثه الذي رواه عنه عطاء إخبارًا عن حكم الشفعة في البيع الذي لا شركة لأحد فيه بالطريق. فإذا كان كذلك؛ يعمل بالحديثين جميعًا ولا يترك أحدهما. وفيما قاله أهل المقالة الأولى إعمال أحد الدليلين وإهمال الآخر. ثم إنه أخرج حديث عطاء عن جابر من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه الترمذي (¬1): نا قتيبة، قال: نا خالد بن عبد الله الواسطي، عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بشفعته، ينتظر به وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدة". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 651 رقم 1369). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 286 رقم 3518).

الثالث: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي شيخ مسلم، عن هشيم. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): عن محمَّد بن مثنى، عن يحيى، عن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن عثمان بن أبي شيبة، عن هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر نحوه. فإن قلت: ما حال هذا الحديث عندهم وما سنده؟ قلت: سنده صحيح على شرط مسلم، ولما أخرجه الترمذي حسّنه، وقال: هذا حديث حسن غريب ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر. وقد تكلم شعبة في عبد الملك بن أبي سليمان من أجل هذا الحديث. وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث، وقد روى وكيع، عن شعبة، عن عبد الملك هذا الحديث. وروى عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري قال: عبد الملك بن أبي سليمان ميزان في العلم. فإن قيل: قال البيهقي: قال الشافعي: سمعنا بعض أهل العلم يقول: نخاف ألا يكون محفوظًا، ثم استدل الشافعي على ذلك برواية أبي سلمة، عن جابر، قال: قال -عليه السلام-: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". قال: وروى أبو الزبير عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة، ويخالف ما روى عبد الملك. ¬

_ (¬1) انظر "تحفة الأشراف" (2/ 229 رقم 2434). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 833 رقم 2494).

قلت: في حديث أبي سلمة، عن جابر زيادة وهي قوله: "وصرفت الطريق"، كما رواه البخاري (¬1) عن محمَّد بن محبوب، عن عبد الواحد بن زياد. وهشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". فانتفى الشفعة مجموع الأمرين، فمقتضاه أنه إذا وقعت الحدود وكان الطريق مشتركًا لا تثبت الشفعة، فيثبت بذلك أن الحديثين متفقان لا مختلفان. وقد أخرج النسائي في "سننه" (¬2): عن محمَّد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن الفضل بن موسى، عن [حسين بن واقد] (¬3)، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قضى بالشفعة بالجوار". وهذا سند صحيح يظهر به أن أبا الزبير روى ما يوافق رواية عبد الملك لا رواية أبي سلمة كما ذكر الشافعي، وتأيّد هذا بعدة أحاديث يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. فإن قيل: قال البيهقي: إن شعبة قيل له: تدع حديث عبد الملك وهو حسن الحديث. قال: من حسنها فررت. قلت: كتب الحديث مشحونة بأن شعبة روى عنه، قال الترمذي: روى وكيع، عن شعبة، عن عبد الملك، هذا الحديث كما ذكرناه آنفًا. فإن قيل: ذكر البيهقي عن جماعة أنهم أنكروا عليه هذا الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 770 رقم 2100، 2101). (¬2) "المجتبى" (7/ 320 رقم 4705). (¬3) في "الأصل": "حرب بن أبي العالية". وهو وهم، والمثبت من "المجتبى"، و"تحفة الأشراف"، ولعله انتقال نظر من المؤلف، حيث يعتمد في تخريجه دائمًا على تحفة الأشراف، و"مسند حرب ابن أبي عالية" فوق "مسند حسين بن واقد" في "التحفة"، فلعله انتقل نظره، وانظر "تحفة الأشراف" (2/ 293 رقم 2686).

قلت: ذكر ما فيه "الكمال" عن ابن معين أنه قال: لم يحدث عنه إلا عبد الملك، وقد أنكر عليه الناس، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لا يرد على مثله، وذكر أيضًا عن الثوري وابن حنبل، قالا: هو من الحفاظ. وكان الثوري يسميه الميزان, وعن أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت. وأخرج له مسلم في "صحيحه"، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عنه الثوري وشعبة وأهل العراق، وكان من خيار أهل الكوفة وحفاظهم، والغالب على مَن يحدث من حفظه أن يهم، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخٍ ثبتٍ بأوهام من يهم في روايته، ولو (سلمنا ذلك لزمنا) (¬1) ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة؛ لأنهم لم يكونوا معصومين. ص: فقال أصحاب المقالة الأولى: فإنه قد روي عن النبي -عليه السلام- ما ينفي ما ادعيتم، فذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي قُتَيلة المدني، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة مثله. حدثنا سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال: ثنا مالك. . . . فذكر بإسناده مثله. قالوا: فنفي هذا الحديث أن تكون الشفعة تجب إذا حددت الحدود. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "الثقات" (7/ 97): سلكنا هذا المسلك للزمنا. والشيخ دائما ينقل من المصادر بتصرف منه واختصار، وكذا فعل في باقي هذه الترجمة.

ش: احتجت أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه من عدم وجوب الشفعة للجار بحديث أبي هريرة وقالوا: هذا ينفي ما ادعيتم من وجوب الشفعة للجار. وأخرجه من أربع طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسماعيل القاضي، عن ابن المديني، عن أبي عاصم، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب -أو عن أبي سلمة- عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". قال البيهقي: وكذا شك غيره. الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عاصم النبيل، عن مالك، نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن يحيى، عن أبي عاصم النبيل عن مالك. . . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن إبراهيم بن عثمان ابن داود المعروف بابن أبي قُتَيلة المدني، عن مالك. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث محمَّد بن إسماعيل الترمذي، عن ابن أبي قتيلة، عن مالك. الرابع: عن سعد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري، عن عبد الملك ابن الماجشون، عن مالك. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 104 رقم 11349). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 834 رقم 2497). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 103 رقم 11345).

وأخرجه النسائي (¬1): عن سليمان بن داود، عن عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، عن مالك، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة فيها". ص: فكان من الحجة عليهم أن الحديث على أصل المحتج به علينا لا تجب به حجة؛ لأن الأثبات من أصحاب مالك إنما رووه عن مالك منقطعًا، لم يرفعوه إلى أبي هريرة. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر والقعنبي، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة، مثله. فصار هذا الحديث منقطعًا، والمنقطع لا تقوم به حجة، ثم لو ثبت هذا الحديث واتصل إسناده لم يكن فيه عندنا ما يخالف الحديث الذي ذكرناه عن عطاء عن جابر؛ لأن الذي في هذا الحديث إنما هو قول أبي هريرة: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة فيما لم يُقسم" فكان بذلك مخبرًا عما قضى به رسول الله -عليه السلام- بالشفعة، ثم قال بعد ذلك: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، وكان ذلك قولًا من رأيه لم يحكه عن رسول الله -عليه السلام-. وإنما يكون هذا الحديث حجة على من ذهب إلى وجوب الشفعة بالجوار لو كان أن رسول الله -عليه السلام- قال: الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، فيكون ذلك نفيًا من رسول الله -عليه السلام- لما قد قُسم أن يكون فيه الشفعة، ولكن ¬

_ (¬1) انظر "تحفة الأشراف" (10/ 42 رقم 13241).

أبا هريرة إنما أخبر في ذلك عن رسول الله -عليه السلام- بما عليه من قضائه، ثم نفى الشفعة برأيه ما لم يعلم من رسول الله -عليه السلام- فيه حكمًا، وعلمه غيره. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما قالوه، بيانه أن يقال: إن هذا الحديث لا تقوم به حجة علينا؛ لأنه في الأصل منقطع، لأن الحفاظ الأثبات رووه عن مالك لم يرفعوه إلى أبي هريرة، وقال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث عن مالك أكثر الرواة للموطأ وغيره مرسلًا، إلا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وأبا عاصم النبيل، ويحيى بن إبراهيم بن داود بن أبي قتيلة المدني، وأبا يوسف القاضي؛ فإنهم رووه عن مالك بهذا الإسناد متصلًا عن أبي هريرة مسندًا. وأخرج الطحاوي ذلك من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وعبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، كلاهما عن مالك. وأخرجه النسائي (¬1): عن الحارث، عن أبي القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن النبي -عليه السلام-. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن حماد الظهراني، عن أبي عاصم، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "ثم لو ثبت هذا الحديث. . . ." إلى آخره جواب آخر بطريق التسليم، بيانه أن يقال: سلمنا أن هذا الحديث متصل، ولكن لا نسلم أن يكون فيه خلاف لحديث جابر بن عبد الله الذي رواه عنه عطاء بن أبي رباح، وقد أوضح ذلك بقوله: "لأن الذي في هذا الحديث. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) انظر "تحفة الأشراف" (10/ 42 رقم 13241). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 834 رقم 2497).

ص: ثم قد روى معمر هذا الحديث فخالف مالكًا في متنه وإسناده: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- في كل ما لم يقسم بالشفعة، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر فذكر بإسناده مثله. ففي هذا الحديث نفي الشفعة بعد وقوع الحدود وصرف الطرق، فذلك دليل على ثبوتها قبل صرف الطرق وإن حُدَّت الحدود، فقد وافق هذا الحديث حديث عبد الملك، عن عطاء، وزاد على ما روى مالك فهو أولى منه. ش: هذا جواب آخر، تقريره أن يقال: إن معمر بن راشد قد روى هذا الحديث، عن محمَّد بن مسلم الزهري، فخالف مالكًا في متنه وإسناده، حيث قال في حديثه: "قضى رسول الله -عليه السلام- في كل ما لم يقسم بالشفعة، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". وأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد العنبري البصري، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن جابر. وأخرجه البخاري (¬1): عن محمَّد بن محبوب، عن عبد الواحد بن زياد، وهشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، فيه مقال، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر، عن الزهري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (10/ 770 رقم 2100، 2101).

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1). وهذا دليل على ثبوت الشفعة قبل صرف الطرق وإن حُدَّت الحدود، فحينئذ يكون هذا الحديث موافقًا لحديث عبد الملك، عن عطاء، وفيه زيادة على ما رواه مالك، فيكون هو أولى منه. فإن قيل: قال ابن حزم (¬2): هذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا اللفظ نص ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا في الأرض والعقار والبناء؛ بل الحدود واقعة في كل ما يقسم من طعام وحيوان وثياب وعروض، وإلى كل ذلك طريق ضرورة، كما هو إلى البناء وإلى الحائط ولا فرق. قلت: هذا كلام مخبط؛ لأن أحدًا لم يقل: إن الطعام له حدود أو الحيوان له حدود، أو الثوب له حدود، وكيف وقد روى أبو حنيفة، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شفعة إلا في دار أو عقار". أخرجه البيهقي (¬3): من حديث أبي أسامة الحلبي، عن الضحاك بن حجوة المنبجي، عن عبد الله بن واقد، عن أبي حنيفة به. ص: وقد يحتمل أيضًا حديث مالك أن يكون عَنِي بوقوع الحدود التي نفيت بوقوعها الشفعة في الدور والطرق، فيكون المبيع لا شرك لأحد فيه ولا في طريقه، فيكون معنى هذا الحديث مثل معنى حديث معمر، وهو أولى ما حمل عليه حتى لا يتضاد هو وحديث معمر، وقد روى ابن جريج، عن الزهري ما يوافق ما روى معمر: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن أبي رَوّاد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن النبي -عليه السلام- قال: "إذا حُدَّت الطرق فلا شفعة". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 79 رقم 14391). (¬2) "المحلى" (9/ 86). (¬3) "السنن الكبرى" (6/ 109 رقم 11377).

ش: هذا جواب آخر، بيانه أن يقال: يجوز أن يراد بوقوع الحدود في حديث مالك التي تنفي ثبوت الشفعة بوقوعها في الدور والطرق جميعًا، فيكون المبيع لا شرك لأحد فيه ولا في طريقه، وذلك ليتفق معنى حديث مالك مع معنى حديث معمر، ولا يتضادان؛ لأنا إذا جعلنا قوله في حديث مالك: "فإذا وقعت الحدود" في الدور وحدها يضاده حديث معمر بحسب الظاهر؛ لأنه أعم من ذلك، حيث يشتمل وقوع الحدود فيه الدور والطرق، فإذا أُوِّل حديث مالك على ما ذكرنا؛ يتفق الخبران ويرتفع التضاد. قوله: "وقد روى ابن جريج. . . ." إلى آخره. مرسل منقطع. أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ميمون المكي، عن عبد الملك بن جريج، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن النبي -عليه السلام-. ص: فإن قال قائل: فقد ثبت بما ذكرت وجوب الشفعة بالشرك في الدور والأرضين وبالشرك في الطريق إلى ذلك، فمن أين أوجبت الشفعة بالجوار؟ قيل له: أوجبتها بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن بحر القطان وأحمد بن جناب، قالا: ثنا عيسى بن يونس، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "جار الدار أحق بالدار". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي وأحمد، قالا: ثنا عيسى بن يونس، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جار الدار أحق بشفعة الدار". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق وأحمد بن داود، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن [قتادة] (¬1). . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا حُميد وقتادة، عن الحسن، عن النبي -عليه السلام- مثله، ولم يذكر سمرة. حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا أحمد بن جَنَاب (ح). وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن بحر وأحمد بن جَنَاب، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن شعبة، عن يونس، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم، عن من سمع عليًّا وعبد الله - رضي الله عنهما - يقولان: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالجوار". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمَّد بن كثير، قال: ثنا سفيان -هو الثوري- عن أبي حيان، عن أبيه، عن عمرو بن حريث، مثله. ففي هذه الآثار وجوب الشفعة بالجوار. ش: أخرج في وجوب الشفعة بالجوار أحاديث عن أنس بن مالك، وسمرة ابن جندب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمرو بن حريث - رضي الله عنهم -. أما عن أنس - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر القطان البغدادي شيخ أبي داود، والبخاري في التعليقات، وعن أحمد بن جَنَاب -بفتح الجيم والنون المخففة- بن المغيرة المِصِّيصي شيخ مسلم وأبي داود، كلاهما عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن هاشم، ثنا علي بن بحر، نا عيسى بن يونس، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "جار الدار أحق بالدار". فإن قيل: قال الترمذي (¬1): وروى عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "جار الدار أحق بالدار". وروي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام-. والصحيح عند أهل العلم حديث الحسن عن سمرة، ولا نعرف حديث قتادة، عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس. قلت: عيسى بن يونس حجة ثَبْت، فقال ابن المديني حين سئل عنه: بخ بخ، ثقة مأمون. وقال محمَّد بن عبد الله بن عمار: عيسى حجة، وهو أثبت من إسرائيل. وقال العجلي: كان ثبتًا في الحديث. فإذا كان كذلك فلا يضر كون الحديث عنه وحده، وقد قال البزار: وعيسى بن يونس جمع الحديثين جميعًا عن قتادة، عن أنس. وعن الحسن، عن سمرة بن جندب. والحديث أخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬2) نحوه. وأما عن سمرة فأخرجه من ستة طرق صحاح أحدهما مرسل: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر القطان وأحمد بن جناب، كلاهما عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 650 رقم 1368). (¬2) "صحيح ابن حبان" (11/ 585 رقم 5182).

وأخرجه الترمذي (¬1): نا علي بن حجر، قال: أنا إسماعيل بن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جار الدار أحق بالدار". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): عن إسماعيل، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "جار الدار أحق بالدار". الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق وأحمد بن داود المكي، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن حميد وقتادة، كلاهما عن الحسن، عن النبي -عليه السلام-. وهذا مرسل. وأخرج أحمد في "مسنده" (¬4) بهذا الإسناد متصلًا: ثنا عفان، نا حماد، عن قتادة، وحميد، عن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الجار أحق بالجوار". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 650 رقم 1368). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 13 رقم 20159). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 3517). (¬4) "مسند أحمد" (5/ 8 رقم 20100).

الخامس: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن أحمد بن جَنَاب، عن عيسى بن يونس، عن شعبة، عن يونس بن عُبيد بن دينار البصري، عن الحسن البصري. وأخرجه الطبراني (¬1): نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: ثنا أحمد بن جناب المصيصي، نا عيسى بن يونس، عن شعبة، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "جار الدار أحق بالدار". السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر القطان وأحمد بن جَنَاب، كلاهما عن عيسى بن يونس، عن شعبة، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عن سمرة. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" ولفظه: "جار الدار أحق بشفعة الدار". فإن قيل: الحسن لم يسمع من سمرة إلا ثلاثة أحاديث، وهذا ليس منها. قلت: قد ذكرنا غير مرة أن الحسن قد سمع من سمرة عدة أحاديث، قاله الترمذي عن البخاري، وقال الحاكم في أثناء كتاب البيوع في "المستدرك" (¬2): قد احتج البخاري بالحسن عن سمرة. وذلك بعد أن روى حديثًا من رواية الحسن عن سمرة - رضي الله عنه -. وأما عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما -: فأخرجه عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عتيبة، عمن سمع عليًّا وعبد الله .. إلى آخره. وفيه مجهول. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، ¬

_ (¬1) "معجم الطبراني الكبير" (7/ 222 رقم 6923). (¬2) "المستدرك" (2/ 41 رقم 2251). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 518 رقم 22716).

عن الحكم، عن علي وعبد الله - رضي الله عنهما - قالا: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة للجوار". قلت: هذا منقطع؛ لأن الحكم لم يدرك عليًّا ولا عبد الله - رضي الله عنهما -. وأما عن عمرو بن حريث فأخرجه بإسناد صحيح عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن أبي حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- يحيى بن سعيد بن حيان التيمي الكوفي، عن أبيه سعيد بن حيان التيمي الكوفي، عن عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر المخزومي الصحابي. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) موقوفًا عليه: ثنا معاوية بن هشام، قال: ثنا سفيان، عن أبي حيان، عن أبيه: "أن عمرو بن حريث كان يقضي بالجوار". أي يقضي للجار بالشفعة بسبب الجوار. ص: فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون هذا الجار شريكًا، فإنه قد يقال للشريك: جار. قيل له: ما في الحديث ما قد يدل على شيء مما ذكرت، ولكنه قد روي عن أبي رافع ما قد دلَّ على أن ذلك الجار هو الذي لا شركة له. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد قال: "أتاني المسور بن مخرمة فوضع يده على أحد منكبيَّ، فقال: انطلق بنا إلى سعد، فأتينا سعد بن أبي وقاص في داره، فجاء أبو رافع فقال للمسور: ألا تأمر هذا -يعني سعدًا- أن يشتري مِنِّي بيتين في داري. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو منجمة، فقال: سبحان الله لقد أُعطِيتُ به خمسمائة دينار نقدًا، ولولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الجار أحق بسقبه ما بعتك". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 519 رقم 22728).

فدل ما ذكرنا أن ذلك الجار الذي عناه رسول الله -عليه السلام- هو الجار الذي تعرفه العامة، ومن أعطاك أن الشريك يقال له: جار وأين وجدت هذا في لغات العرب؟ فإن قال: لأني قد رأيت المرأة تسمى جارة زوجها. قيل له: صدقت، قد سُميت المرأة جارة زوجها، ليس لأن لحمها مخالط للحمه، ولا دمها مخالط لدمه، ولكن لقربها منه، فكذلك الجار سمي جارًا لقربه من جاره، لا لمخالطته إياه فيما جاوره به. وأنت فقد زعمت أن الآثار على ظاهرها، فكيف تركت الظاهر في هذا ومعه الدليل، وتعلقت بغيره مما لا دلالة معه؟!. ش: هذا القائل هو الشافعي، فإنه أَوَّلَ الجار في الأحاديث المتقدمة بالشريك، وقال: قد يقال للشريك جارٌ، ونفى الطحاوي هذا الإطلاق؛ حيث قال: قيل له -أي لهذا القائل: ما في الحديث ما قد يدل على شيء مما ذكرت- أي مما ذكرت من أن المراد من الجار الشريك. ثم أخرج حديث أبي رافع -لكونه دالًا على أن ذلك الجار الذي ذكره رسول الله -عليه السلام- في الأحاديث المتقدمة هو الذي لا شركة له- عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن سفيان بن عُيينة، عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي، وثقه يحيى وغيره وروى له الشيخان، عن عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي الطائفي، قال العجلي: حجازي تابعي ثقة. روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل"، قال: "أتاني المِسْوَر -بكسر الميم- بن مَخْرمة -بفتح الميم- بن نوفل، له ولأبيه صحبة. وأبو رافع القبطي مولى النبي -عليه السلام-، يقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز.

والحديث أخرجه البخاري (¬1): عن مكي، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد: "أنه وقف على سعد، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أُعْطِيتُ بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: الجار أحق بصقبه ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه". ومنهم من قال: "بيتًا"، وفي رواية مختصرًا: "الجار أحق بصقبه". وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي أيضًا (¬3). قوله: "ألَا تأمر" كلمة "ألا" للتحضيض، كأنه يحرض المخاطب بالفعل الذي يأمره به. قوله: "مقطعة أو منجمة" أراد بالمقطعة المؤداة في دفعات، وهي والمنجمة سواء؛ لأن تنجيم الدين هو أن يقرر عطاءه في أوقات معدودة. قوله: "بسقبه" السقب -بالسين المهملة- في الأصل القرب، يقال: سقب الدار وأُسْقِبَت أي قَرُبت، ويقال بالصاد أيضًا، قال ابن الأثير: الصقب: القرب والملاصقة. وقال الجوهري: صَقِبت داره -بالكسر- أي قربت، وفي الحديث: "الجار أحق بصقبه" ويقال: أصقبه فصقب، أي قَرَّبه فَقَرُبَ، وقال في فصل السين: السقب: القرب، وقد سَقِبَتَ -بالكسر- داره أي قربت، وأسقبتها أي قربتها. ومعنى قوله: "الجار أحق بسقبه" أي بسبب قربه يعني أن الجار أحق بالشفعة من الذي ليس بجار، وتأويل الشافعي الجار بالشريك بعيد كما ذكرنا، وكذا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 787 رقم 2139). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 308 رقم 3516). (¬3) "المجتبى" (3/ 652 رقم 1370).

تأويله السقب بالبر والمعونة يعني أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره، فهذا كله خلاف الأصل. قوله: "أن ذلك الجار الذي عناه" أي قصده رسول الله -عليه السلام- هو الجار الذي يعرفه العامّة. فإن قيل: إذا كان المراد من الجار هو الذي تعرفه العامة، فما وجه التخصيص بالجار الملازق، والجار أعم من الملازق وغيره، ولهذا رأى بعضهم الشفعة لكل جار سواء كان ملازقًا أو لم يكن، حتى إن بعضهم ذهبوا إلى أن الجار الذي تجب له الشفعة أربعون دارًا حول الدار، روي ذلك عن الحسن البصري، وقد ذكرنا الخلاف فيه مستوفى. قلت: لأن الحكمة فيها دفع ضرر الدخيل، ولا يوجد ذلك إلا في الجار الملازق، إلا أن الشريك في نفس المبيع أو حقه إنما يقدم على الجار؛ لأن ضرر الدخيل يكون فيه أشد أو أكثر، بخلاف الجار غير الملازق فإنه وسائر الناس سواء، وعن هذا قال أبو يوسف: إذا كان خليط بين داري رجلين والحائط بينهما أن الشريك في الحائط أولى أن يجمع الدار؛ لأنه شريك في بعض المبيع، فكان أولى من الجار الذي لا شرك له كالشريك في الشرب والطريق، وعن أبي يوسف في رواية وهي قول زفر أيضًا: أن صاحب الشرك في الحائط أولى من الجار بالحائط وبقية الدار، فأخذها بالجوار مع الجار بينهما لاستوائهما في الجوار. ص: ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- من إيجابه الشفعة بالجوار، وتفسيره ذلك الجوار: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد، قال: "قلت: يا رسول الله، أرضي ليس لأحد فيها قسم، ولا شرك إلا الجوار بيعت، قال: الجار أحق بسقبه".

فكان قول رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بسقبه" جوابًا لسؤال الشريد إياه عن أرض منفردة لا حَقَّ لأحدٍ فيها ولا طريق، فدل ما ذكرنا أن الجار الملازق تجب له الشفعة بحق جواره. فقد ثبت بما روينا من الآثار في هذا الباب وجوب الشفعة بكل واحد مِن معان ثلاثة: بالشرك في المبيع، بيع منه ما بيع، وبالشرك في الطريق إليه، وبالمجاورة له، فليس ينبغي ترك شيء منها، ولا حمل بعضها على التضاد لبعض إذ كانت قد خرجت على الاتفاق من الوجوه التي ذكرنا، على ما شرحنا وبيَّنَّا في هذا الباب. ش: ذكر هذا تأييدًا لما ذكره من أن الجار الذي ذُكر في الحديث هو الجار المعهود الذي تعرفه العامة. أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) وابن جرير الطبري في "تهذيبه" ولفظه: "ليس فيها لأحد شِرب ولا قسم إلا الجوار". وقال ابن جرير: ورواه عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن الشريد بن سويد -من حضرموت- أنه -عليه السلام- قال: "الجار والشريك أحق بالشفعة ما كان يأخذها أو يترك". فظاهر عطف الشريك على الجار يقتضي أن الجار غير الشريك، وهذا مما يُبطل تأويل الشافعي أن المراد من الجار الشريك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 519 رقم 22729).

قوله: "بالشرك في المبيع" أي بالنصيب في نفس المبيع، وهو أن يكون شريكه في رقبة المبيع. قوله: "وبالشرك في الطريق إليه" أراد به أن يكون شريكًا في حق المبيع مثل الطريق والشرب. ص: فإن قال قائل: فقد جعلت هؤلاء الثلاثة شفعاء بالأسباب التي ذكرت، فلم أوجبت الشفعة لبعضهم دون بعض إذا حضروا وطالبوا بها وقدمت بعضهم فيها على حق بعض ولم تجعلها لهم جميعًا إذ كانوا كلهم شفعاء؟. قيل له: لأن الشريك في الشيء المبيع خليط فيه وفي الطريق إليه، فمعه من الحق في الطريق مثل الذي مع الشريك في الطريق، ومعه اختلاط ملكه بالشيء المبيع، وليس ذلك مع الشريك في الطريق، فهو أولى منه ومن الجار الملازق، ومع الشريك في الطريق، شركه في الطريق وملازقة للشيء المبيع فمعه من أسباب الشفعة مثل الذي مع الجار الملازق، ومعه أيضًا ما ليس مع الجار الملازق من اختلاط حق ملكه في الطريق بملكه فيه، فلذلك كان -عندنا- أولى بالشفعة منه. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: حاصل السؤال: أن الشفعاء لما كانوا ثلاثة، وهم: الشريك في نفس المبيع، والشريك في حق المبيع، والجار الملازق كان ينبغي أن يتساووا في الشفعة، ولا يقُدَّم بعضهم على بعض إذ العلة في الكل واحدة. وحاصل الجواب: أن الشريك في نفس المبيع، له من الحق ما للشريك في حق المبيع وزيادة، فيقدم على الشريك في حق المبيع، وأن الشريك في حق المبيع له من الحق ما ليس للجار الملازق، فيقدم عليه. ص: وقد روي ذلك عن شريح: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن هشام، عن محمد، عن شريح، وأشعث -أظنه عن الشعبي عن شريح- قال: "الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق ممن سواه".

حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثني إسماعيل بن سالم، قال: أنا هشيم، عن يونس، وهشام، عن محمد (ح). وحدثنا أحمد قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن هشام، عن محمد، عن شريح، مثله. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن شريح قال: "الشفعة شفعتان: شفعة للجار وشفعة للشريك". ش: أي قد روي ما ذكرنا من الترتيب في حق الشفعاء الثلاثة، عن شريح بن الحارث الكندي القاضي. وأخرج ذلك عنه من أربع طرق: الأول: إسناده صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيربن، عن شريح. وروى سفيان أيضًا، عن أشعث بن سوَّار الكندي الكوفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن شريح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " (¬1): ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن شريح، قال: "الخليط أحق من الشفيع، والشفيع: الجار، والجار أحق ممن سواه". قوله: "الخليط أحق من الشفيع" أراد بالخليط الشريك في نفس المبيع وحق المبيع، وأراد بالشفيع الجار الشفيع، فهذا قدم الشريك على الجار. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 519 رقم 22725).

الثاني: عن أحمد أيضًا، عن إسماعيل بن سالم الصائغ شيخ مسلم، عن هشيم ابن بشير، عن يونس بن عبيد البصري وهشام بن حسان، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن شريح. الثالث: عن أحمد أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب فيه مقال، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن شريح. الرابع: عن رَوح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن جابر الجعفي فيه مقال، عن عامر الشعبي، عن شريح. وأخرج عبد الرزاق (¬1): عن سفيان الثوري، عن جابر، عن الشعبي، عن شريح: "قال في الجار: الأول فالأول. يعني في الشفعة". ص: فإن قال قائل: فقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - خلاف هذا فذكر ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا هشيم، عن محمد بن إسحاق، عن منظور بن أبي ثعلبة، عن أبان بن عثمان، قال: قال عثمان - رضي الله عنه -: "لا مكابلة، إذا وقعت الحدود فلا شفعة". قيل له: قد روي هذا عن عثمان كما ذكرت، وليس فيه عندنا حجة؛ لأنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك إذا حدت الحدود من الحقوق كلها، وأدخل الطريق في ذلك، فيكون ذلك موافقًا لما قد رويناه عن جابر في هذا الباب: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ولو كان على ما تأولتموه عليه لكان قد خالفه في ذلك سعد بن أبي وقاص، والمسور بن مخرمة، وأبو رافع فيما قد رويناه عنهم فيما مضى من هذا الباب. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 82 رقم 14402).

ش: هذا اعتراض على ما روي عن شريح في إيجاب الشفعة بالجوار بعد إيجابها للخليط بما روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد جيد: عن أحمد بن داود، عن إسماعيل بن سالم شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن محمد بن إسحاق المدني، عن منظور بن أبي ثعلبة بن أبي مالك القرظي، عن أبان بن عثمان، عن أبيه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وأخرجه سعيد بن منصور: عن هشيم، أنا محمد بن إسحاق، عن منظور بن أبي ثعلبة، عن أبان بن عثمان، أن أباه عثمان قال: "لا مكابلة، إذا وقعت الحدود فلا شفعة". وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق سعيد بن منصور. وجه الاعتراض به: أن عثمان - رضي الله عنه - إنما كان يرى الشفعة للخليط؛ لأنه قال: "لا مكابلة" قال أبو عبيد في "الغريب": قال الأصمعي: المكابلة تكون في الحبس، يقول: إذا حدت الحدود فلا يحبس أحد عن حقه. وأصل هذا من الكَبْل، وهو القيد، قال ابن الأثير: الكبل هو القيد. وهذا على مذهب من لا يرى الشفعة إلا للخليط، وقيل: المكابلة: أن تباع الدار التي جنب دارك وأنت تريدها فتؤخرها حتى يستوجبها المشتري، ثم تأخذها بالشفعة، وهي مكروهة. وهذا عند من يرى شفعة الجوار. قلت: المكابلة مفاعلة من الكبل -بالباء الموحدة- ولقد جعل هذا بعض مَن لا خبرة له بالفنون، ولا يَدَ لَهُ في الحديث ومتونه، من الكيل -بالياء آخر الحروف- وهذا غلط فاحش هَاهنا. والجواب عنه ما قاله: بقوله: "قيل له. . . ." إلى آخره. حاصله: أن أثر عثمان ليس فيه حجة علينا؛ لأنه يحتمل أن يكون عثمان - رضي الله عنه - أراد بذلك إذا حدت الحدود كلها وأدخل الطريق في ذلك، كما مَرَّ نظير هذا في ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 105).

حديث جابر - رضي الله عنه - وهو: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"؛ فإن فيه نفي الشفعة بعد وقوع الحدود وصرف الطرق، وذلك دليل على ثبوتها قبل صرف الطرق، وإن حدت الحدود، فافهم. ولو كان معناه على ما ذكره المعترض؛ لوقع بينه وبين ما روي عن سعد بن أبي وقاص والمسور بن مخرمة وأبي رافع الذي تقدم فيما مضى. ص: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أيضًا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يزيد بن خالد بن موهب، قال: ثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إذا وقعت الحدود وعرف الناس حقوقهم فلا شفعة". فقد وافق هذا ما رويناه عن عثمان، واحتمل ما احتمله حديث عثمان - رضي الله عنه -. ش: أي وقد روي عن عمر بن الخطاب أيضًا مثل ما روي عن عثمان. أخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن يزيد بن خالد بن موهب الهمداني الرَمْلي الزاهد شيخ أبي داود، عن عبد الله بن إدريس الزَّعَافري الكوفي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عُبيد الله -بتصغير العبد- بن عبد الله -بالتكبير- بن عمر، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عون بن عبد الله بن أبي رافع، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: قال عمر بن الخطاب: "إذا وقعت الحدود وعرف الناس حدودهم، فلا شفعة بينهم". وأخرجه سعيد بن منصور أيضًا في "سننه": عن إسماعيل بن زكرياء، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره نحوه. ص: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - خلاف ذلك أيضًا: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 510 رقم 22745).

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي بكر بن حفص: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى شريح أن يقضي بالشفعة للجار الملازق". ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب خلاف ما روي عنه عبيد الله بن عبد الله. وأشار بهذا إلى أن رواية عمر هذه تفسر مراده من حديثه الأول، ولو لم نصِر إلى هذا تلزم المعارضة بين روايتيه، والتوفيق بينهما بهذا الوجه أحسن مِنْ إهدارهما. وأخرج هذه الرواية عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد المدني، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي بكر عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن عُيينة، عن عمرو، عن أبي بكر بن حفص: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى شريح أن يقضي بالجوار. قال: فكان شريح يقضي للرجل من أهل الكوفة على الرجل من أهل الشام". وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي بكر بن حفص، قال شريح: "كتب إليَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اقض بالشفعة للجار". زاد بعضهم: "للجار المطلق". ص: وقد روي أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على أن الشفعة تجب بالشرك في الطريق: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن أبي حمزة السكري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا ابن إدريس، عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 519 رقم 22724).

ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة في كل شيء، فلما كان الشريك في الطريق سمي شريكًا، كان داخلًا في ذلك". ش: ذكر هذا حجة على مَن يقول من أهل المقالة الأولى: إن الشفعة لا تجب إلا لشريك لم يقاسم؛ وذلك لأن قوله -عليه السلام-: "الشريك شفيع" أعم من أن يكون شريكًا قاسم أو شريكًا لم يقاسم، وسواء كان شريكًا في حق المبيع أو شريكًا في نفس المبيع. وأخرج في ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. أما عن ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نُعيم بن حماد المروزي الفارضي الأعور شيخ البخاري في المقرنات، عن الفضل بن موسى السيناني أحد أصحاب أبي حنيفة، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- محمد بن ميمون المروزي السكري، عن عبد العزيز بن رفيع الأسدي المكي، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير المكي الأحول قاضي عبد الله بن الزبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه البيهقي (¬1) من حديث نعيم بن حماد. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬2): عن البغوي، عن الحسين بن حريث، عن الشيباني، عن أبي حمزة نحوه. وقال الدارقطني: خالفه شعبة وإسرائيل وعمرو بن أبي قيس وأبو بكر بن عياش، رووه عن عبد العزيز، عن ابن أبي مليكة مرسلًا، وهو الصواب. وأما عن جابر فأخرجه عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الكوفي، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 109 رقم 11378). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 222 رقم 69).

وهذا إسناد صحيح. وأخرجه القاضي أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن مسلمة المعروف بابن أبي حنيفة من طريق في جعفر، نحوه (¬1). ص: فإن قال قائل: فأنت لا تقول بهذا الحديث؛ لأنه يوجب الشفعة في كل شيء من حيوان وغيره، وكنت لا توجب الشفعة في الحيوان. قيل له: هذا على ما ذكرت إنما معنى "قضى بالشفعة في كل شيء" أي في الدور والعقار والأرضين، والدليل على ذلك ما قد روي عن ابن عباس: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا معن بن عيسى، عن محمد ابن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا شفعة في الحيوان". ش: تقرير السؤال أن يقال: إن هذين الحديثين يدلان على أن الشفعة تجب في كل شيء سواء كان أرضًا أو حيوانًا أو نحوهما، وأنتم لا توجبون الشفعة إلا في العقار، وقد تركتم العمل بهذا الحديث. وتقرير الجواب أن يقال: إن المراد من قوله: "والشفعة في كل شيء" هو الدور والعقار والأرضون؛ وليس المراد منه سائر الأشياء. والدليل على ذلك ما قد روي عن ابن عباس أنه قال: "لا شفعة في الحيوان". أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد المدني شيخ ابن ماجه، عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي القزاز المدني، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرج ابن حزم (¬2) هذا وقال: محمد بن عبد الرحمن مجهول. ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (9/ 83). (¬2) "المحلى" (9/ 84).

قلت: لعل هذا يكون محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني المشهور الثقة، فإن معن بن عيسى قد روى عنه. والله أعلم. ثم اعلم أن طائفة قد ذهبوا إلى ظاهر هذين الحديثين، وقالوا: تجب الشفعة في كل شيء من الأرضين والحيوان والثياب وغيرها. ونقل ذلك أيضًا عن عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن أبي مليكة، وهو مذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعًا غير مقسوم بين اثنين فصاعدًا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض، أو شجرة واحدة فأكثر، أو عبدًا، أو أَمَة، أو ثوب، أو من سيف، أو من طعام، أو من حيوان، أو أي شيء بيع لا يحل لمن له ذلك الجزء أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه، فإن أراد من يشركه فيه الأخذ له بما أعطاه فيه غيره، فالشريك أحق به، وإن لم يرد أن يأخذه فقد سقط حقه ولا قيام له بعد ذلك إذا باعه ممن باعه، فإن لم يعرض عليه كما ذكرنا حتى باعه من غير مَن يشركه، فمن يشركه مُخَيِّر بين أن يمضي ذلك البيع وبين أن يبطله ويأخذ ذلك الجزء لنفسه بما بيع به. ثم قال: وقال أبو حنيفة والشافعي: لا شفعة إلا في الأرض فقط، أو في أرض بما فيها من بناء أو شجر نابت فقط، وقال مالك: الشفعة واجبة في الأرض وحدها، وفي الأرض بما فيها من بناء أو شجر نابت، أو في الثمار التي في رءوس الشجر، وإن بيعت دون الأصول. وقال أبو عمر: اختلف مالك وأصحابه في الشفعة في الثمرة إذا بيعت حفنة منها دون الأصل، فأوجب الشفعة فيها للشريك ابن وهب وابن القاسم وأشهب، ورووه عن مالك. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 82).

وقال المغيرة وعبد الملك بن الماجشون وابن أبي حازم وابن دينار: لا شفعة فيها، ورووه أيضًا عن مالك. وهو قول أكثر أهل المدينة، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وداود بن علي وأهل النظر والأثر، وهو الصحيح عندي. واختلف قول مالك وأصحابه في الشفعة في الحمام، فأوجبها بعضهم ونفاها بعضهم. وكذلك اختلف قول مالك وأصحابه أيضًا في الشفعة في الكراء وفي المساقاة. وقال محمد بن عبد الحكم: لا شفعة إلا في الأرضين والخيل والأشجار، ولا شفعة في ثمرة ولا كتابة مكاتب ولا في دين، وإنما الشفعة في الأصول والأرضين خاصة، وهو قول الشافعي وجمهور العلماء، وقال: لا شفعة في عين إلا أن يكون لها بياض، ولا في بئر، ولا عرصة دار، ولا فحل نخل. وقال أصحابنا الحنفية: وشرط وجوب الشفعة أن يكون المبيع عقارًا أو ما هو بمعناه، فإن كان غير ذلك فلا شفعة فيه عند عامة العلماء. وقال مالك: هذا ليس بشرط، وتجب الشفعة في السفل، ثم عندنا سواء كان العقار محتملًا للقسمة أو لا يحتملها كالحمام والبئر والنهر والعين والدور القصار. وقال الشافعي: لا تجب الشفعة إلا في عقار يحتمل القسمة، وإذا بيع سفل عقار دون علوه، أو علوه دون سفله، أو بيعا جميعًا؛ وجبت الشفعة، ولو انهدم العلوّ ثم بيع السفل؛ وجبت الشفعة لصاحب العلو عند أبي يوسف، وعند محمد لا شفعة له، والله أعلم بالصواب.

ص: كتاب الجنايات

ص: كتاب الجنايات ش: أي هذا كتاب في بيان الجنايات، وهي جمع جناية، وهي مصدر من جناه يجنيه من شر أي يحدثه، قال ابن الأثير: الجناية الذنب والجرم، وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا أو الآخرة. قال الجوهري: جنى عليه جناية، وجَنَيْتُ الثمرة أجنيها جنيًا واجتنيتها بمعنىً. وقال الفقهاء: الجناية اسم لفعل محرم واقع في النفس والأطراف. * * * ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد ش: أي هذا باب في بيان ما يجب في قتل العمد، وهو القصد، وفي بيان ما يجب في جراح العمد أيضًا. والجراح: بكسر الجيم بمعنى الجَرْح -بفتح الجيم- والجَرح -بالفتح- مصدر من جرحه يجرحه، والجُرح -بالضم- الاسم، ويجمع على جُروح، ولا يقال: أجراح، إلا في الشعر، ويقال: رجل جريح، وامرأة جريح أيضًا، ورجال جرحى، ونسوة جَرْحى. ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة، قال: "لما فتح الله -عز وجل- على رسوله -عليه السلام- مكة -شرفها الله- قتلت هذيل رجلًا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي -عليه السلام- فخطب وقال في خطبته: مَن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يُودى". واللفظ لمحمد بن عبد الله.

وقال أبو بكرة في حديثه: "قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي نزيل إسكندرية وشيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): عن يحيى بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه. وأخرجه أيضًا (¬2) عن أبي نُعيم، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن خزاعة قتلوا رجلًا". وقال عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى، نا أبو سلمة، نا أبو هريرة: "أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله -عليه السلام- فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها، ولا يَلتقط ساقطتها إلا منشد، ومَن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُودى له، وإما أن يقاد. فقام رجل من اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله -عليه السلام-: اكتبوا لأبي شاة، ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنما نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إلا الإذخر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 857 رقم 2302). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2522 رقم 6486).

وأخرجه مسلم (¬1): عن زهير وعبيد الله بن سعيد، عن الوليد، عن الأوزاعي. وعن إسحاق بن منصور، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان، كلهم عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بهذا. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، به نحوه. وأخرجه الترمذي (¬3): عن محمود بن غيلان ويحيى بن موسى، عن الأوزاعي به منقطعًا. وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬4): عن عباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن يحيى، به. وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، به مختصرًا. الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد، عن يحيى. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬6) من هذا الطريق أيضًا. قوله: "لما فتح الله -عز وجل- على رسوله -عليه السلام- مكة" كان فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 988 رقم 447). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 579 رقم 4505). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 21 رقم 1405). (¬4) "المجتبى" (8/ 38 رقم 4786). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 876 رقم 2624). (¬6) "صحيح البخاري" (6/ 2522 رقم 6468).

قوله: "قتلت هذيل" وهي حيٌّ من مكة. وهو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مُضَر. و"بنو ليث" أيضًا قبيلة. وهو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مُضَر. قوله: "بقتيل" أي بسبب قتيل كان لهم، ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والعِوَض. قوله: "فهو بخير النظرين" أي بخير الأمرين، يعني القصاص، والديَّة، أيهما اختار كان له. قوله: "وإما أن يُوَدَّى" من ودَّيت القتيل أَدِيَه دِيَةً، إذا أعطيت ديته. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا الحديث ذكر ما يجب في النفس خاصة، وقد رُوِيَ عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي -عليه السلام-، مثل ذلك. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله -عليه السلام- في خطبته يوم فتح مكة: "ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي قتيل، فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا". ش: أراد بهذا الحديث: هو الذي أخرجه عن محمد بن ميمون وأبي بكرة. قوله: "مثل ذلك" أي مثل ما رُوِيَ عن أبي هريرة. وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود عن يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي الخزاعي العدوي الصحابي قيل: اسمه خويلد بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، والمشهور خويلد بن عمرو.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد، قال: سمعت أبا شريح. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "معشر خزاعة" خزاعة حي من الأزد؛ سموا بذلك؛ لأن الأزد لما خزعت عن مكة لتفترق في البلاد تخلفت عنهم خزاعة وأقامت بها. و"المعشر": واحد المعاشر وهم جماعة الناس. قوله: "وأنا عاقله" من العَقْل وهو الديّة، وأصله؛ أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الديّة من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسميت الدية عَقْلًا بالمصدر، يقال: عَقَل البعيرُ يَعْقِله عَقْلًا، وجمعها عُقُول، وكان أصل الدية الإبل، ثم قوّمت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم وغيرها. والعاقلة: هم العَصَبَة والأقارب من قِبَل الأب الذين يُعْطُون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة عاقلة، وأصلها اسم فاعلة من العَقْل، وهي من الصفات الغالبة. ص: وقد رُوِيَ عن أبي شريح الخزاعي من غير هذا الوجه عن النبي -عليه السلام- فيما دون النفس، مثل ذلك أيضًا. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَنْ أصيب بدم أو بخبل -يعني بالخبل الجراح- فوليه بالخيار بين إحدى الثلاث: بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية. فإن أتى الرابعة فخذوا على يديه، فإن قبل واحدة منهن ثم عداهن بعد ذلك، فله النار خالدًا فيها مخلدًا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 579 رقم 4504).

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا عباد، عن أبي إسحاق، قال: أخبرني الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي عن النبي -عليه السلام- مثله. ففي هذا الحديث أن حكم الجراح العمد كحكم القتيل العمد فيما يجب في كل واحد منهما من القصاص والدية. ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة، قالا: نا أبو خالد الأحمر. وثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، ثنا جرير وعبد الرحمن بن سليمان، جميعًا عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن ابن أبي العوجاء -واسمه سفيان- عن أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَن أصيب بدم أو خبل -والخبل: الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يَقْتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئًا من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا". قوله: "أو بخبل" بسكون الباء، وهو فسادُ الأعضاء، يقال: خَبَل الحُبُّ قَلْبَه: إذا أفسده، يَخْبِله ويَخْبُلُه خَبْلًا، ورجل خَبِلَ ومُخْتَبَل أي من أصيب بِقَتْلِ نفس أو قطع عُضوٍ يقال: بنو فلان يطالبون بدماء وخَبْل، أي بقطع [أيدٍ وأرجل] (¬2)، وقد فسره في الحديث بالجراح. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا قُتل عمدًا فوليه بالخيار بين أن يعفو، أو يأخذ الديّة، أو يقتص، رضي بذلك القاتل أو لم يرض. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 876 رقم 2623). (¬2) كذا في "الأصل، ك"، وفي "النهاية" لابن الأثير، ومنه ينقل المؤلف (2/ 8): "يدٍ أو رجل".

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ومجاهدًا، والشعبي، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: وليُّ المقتول مخير بين هذه الأشياء الثلاثة، سواء رَضِيَ بذلك القاتل أو لم يرض. وإلى هذا ذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال ابن حزم: صح هذا عن ابن عباس، ورُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز وقتادة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس له أن يأخذ الديَة إلا برضى القاتل. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وعبد الله بن ذكوان، وسفيان الثوري، وعبد الله بن شبرمة، والحسن بن حَيّ، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: ليس لولي المقتول أن يأخذ الديَة إلا برضى القاتل، وليس له إلا القود أو العفو. ص: وكان من الحجة لهم أن قوله: "أو يأخذ" الدية، قد يجوز أن يكون على ما قال أهل المقالة الأولى، ويجوز أن يأخذ الدية إن أعطيها كما يقال للرجل: خُذ بديتك إن شئت دراهم وإن شئت دنانير وإن شئت عروضًا، وليس المراد بذلك أنه يأخذ ذلك رضي الذي عليه الدين أو كره، ولكن يراد إباحة ذلك له إن أعطيه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي، بيانه أن قوله -عليه السلام-: "أو يأخذ الدية" يحتمل معنيين: أحدهما: ما قاله أهل المقالة الأولى، وهو أن يأخذها، رضي بذلك القاتل أو لم يرض. والآخر: يحتمل معناه أن يكون يأخذها إن أعطيها يعني له ذلك إن أعطي، ومثل هذا له نظير في الكلام، وذلك كما يقال للرجل الذي له دين على آخر: خذ بدينك إن شئت دراهم، وإن شئت دنانير، وإن شئت عروضًا فإن معناه إباحة

ذلك له إن أُعطيه، وليس معناه أن يأخذ ذلك سواء رضي الذي عليه الدين أو لم يرض، وكما قال -عليه السلام- لبلال حين أتاه بتمر: "أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا، ولكن نأخذ الصالح منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال -عليه السلام-: لا تفعل، ولكن بع تمرًا بعرض ثم خذ بالعرض هذا" ومعلوم أنه لم يرد يعني بأخذ التمر بالعرض بغير رضا الآخر، فإذا كان الأمر كذلك لم يجز لأحد الفريقين أن يحمل الحديث على أحد الاحتمالين إلا بدليل من خارج يدل على ذلك، فيترجح به أحد الاحتمالين، ويبقى الاحتمال الآخر في حكم الساقط. ص: فإن قال قائل: فما حاجتهم إلى ذكر هذا؟ قيل له: لما قد رُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. حدثنا يونس، قال: سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم دية. فقال الله -عز وجل- لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬1) إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والعفو في أن يقبل الديَّة في العمد {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كان كتب على من كان قبلكم". فأخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- أن بني إسرائيل لم يكن فيهم دية، أي: إن ذلك كان حرامًا عليهم أن يأخذوه أو يتعرضوا بالدم بدلًا أو يتركوه حتى يسفكوه وأن ذلك مما كان كتب عليهم، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة ونسخ ذلك الحكم بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1)، إذا وجب الأداء. وسنبين ما قيل في ذلك في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى. فبين لهم رسول الله -عليه السلام- أيضًا على هذه الجهة فقال: "مَن قتل له ولي فهو بالخيار بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ الديَّة" التي أبيحت لهذه الأمة وجعل لهم أخذها إذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178].

اعطوها. هذا وجه يحتمله هذا الحديث. وليس لأحد إذا كان حديث مثل هذا يحتمل وجهين متكافئين أن يعطفه على أحدهما دون الآخر إلا بدليل من غيره يدل أن معناه ما عطفه عليه. ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان ولي المقتول ليس له أن يأخذ الديَّة. إلا برضا، فما كانت حاجتهم إلى ذكره -عليه السلام-. بقوله: "أو يأخذ الدية". وتقرير الجواب أن يقال: إن أخذ الدية من القاتل كان حرامًا على بني إسرائيل، ولم يكن لهم إلا سفك الدم، وهو القصاص، فخفف الله تعالى على هذه الأمة فأنزل قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ. . . .} (¬1) الآية، وأطلق لهم أخذ الدية، ونسخ ذلك الحكم تخفيفًا ورحمة، ثم بين لهم رسول الله -عليه السلام- على هذه الجهة فقال: "من قتل له قتيلٌ فوليه بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية التي أبيحت لهم، وجعل لهم أخذها إذا أعطوها"، فأخبر ابن عباس أن الآية كانت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية، وأباح للولي قبولها إذا بذلها القاتل تخفيفًا من الله علينا ورحمة بنا، فلو كان الأمر على ما ادعاه أهل المقالة الأولى من إيجاب التخيير لما قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية؛ لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له من غيره، ولو لم يكن أراد بذلك لقال: إذا اختار الولي؛ فثبت بذلك أن المعنى عنده جواز تراضيهما على أخذ الدية. ثم إسناد حديث ابن عباس صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا قتيبة بن سعيد: نا سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178]. (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2523 رقم 6487).

لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} (¬1) إلى هذه الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1)، قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (1)، أي: يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان. قوله: "فالعفو أن يقبل الدية في العمد" قد فسر ابن عباس العفو: بقبول الدية في العمد. وهذا ينافي أخذ الدية من غير رضي القاتل كما ذكرنا، وقد ذكر بعضهم أن العفو له في اللغة خمس موارد: الأول: العطاء، يقال: جاد بالمال عفوًا صفوًا، أي مبذولًا من غير عوض. الثاني: الإسقاط ونحوه، فاعف عنا، وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق. الثالث: الكثرة، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَفَواْ}، أي كثروا، ويقال: عفى الزرع أي: طاب. الرابع: الذهاب، ومنه قوله: عفت الديار. الخامس: الطلب يقال: عفوته واعتفيته، ومنه قوله: ما أكلت العافية فهو صدقة، ومنه قول الشاعر: يطوف العفاة بأبوابه وإذا كان مشتركًا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ومقتضى الأدلة، فالذي يليق بذلك منها العطاء والإسقاط، فرجح الشافعي الإسقاط؛ لأنه ذكر قبله القصاص، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر. ورجح مالك وأصحابه العطاء؛ لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة "عن" كقوله: {وَاعْفُ عَنَّا} (¬2)، وكقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل"، وإذا كان بمعنى العطاء كانت صلة "له" فيرجح ذلك بهذا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178]. (¬2) سورة البقرة، آية: [286].

وبوجه ثان وهو: أن تأويل مالك هو اختيار حبر القرآن ومن تابعه. وبوجه ثالث وهو: أن الظاهر في الجزاء هو أن يعود على مَن يعود عليه الشرط، والجزاء عائد إلى الولي، فليعد إليه الشرط، ويكون المراد بـ "مَنْ": مَن كان المراد بالأمر بالاتباع. الرابع: أنه قال "شيء" مُنَكَّر، ولو كان المراد القصاص لأنكره؛ لأنه مُعَرَّف، وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه. وقال ابن العربي في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ. . . .} (¬1) إلى آخره: هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء، واختلفوا في مقتضاه. فقال مالك -في رواية ابن القاسم: يوجب العمد القود خاصة، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل، وبه قال أبو حنيفة، وروى أشهب عنه أن الولي مخير بين أحد أمرين: إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وبه قال الشافعي. وكاختلافهم اختلف مَن مضى من السلف قبلهم. ورُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "العفو": أن يقبل الديّة في العمد فيتبع بمعروف ويؤدي إليه بإحسان، يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ولا عنف، ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف، ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسدِّي، ثم قال ابن العربي: هذا يدور على حرف، وهو معرفة تفسير العفو، وقد ذكرنا الآن ما قالوا في تفسيره ويظهر من ذلك الصحيح من الفاسد مما قاله العلماء في هذا الباب. قوله: "وجهين متكافئين" أي متماثلين. ص: فنظرنا في ذلك، هل نجد من ذلك شيئًا يدل على شيء من ذلك؟ فقال أهل المقالة الأول: فقد قال الله -عز وجل-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} الآية (1). فأخبر الله -عز وجل- في هذه الآية أن للولي أن يعفو ويتبع القاتل بإحسان. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178].

فاستدلوا بذلك أن للولي إذا عفى أن يأخذ الدية من القاتل وإن لم يكن اشترط ذلك عليه في عفوه عنه. ش: أي فنظرنا في الحكم المذكور، هل نجد من دليل يدل على ترجيح أحد الوجهين المتكافئين؟ فقال أهل المقالة الأولى: فقد قال الله -عز وجل-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} الآية (¬1)، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الولي له العفو، واتباع القاتل بإحسان، فيدل ذلك أن للولي أن يعفو، فإذا عفى، له أن يأخذ الدية من غير شرط في العفو. ص: قيل لهم: ما في هذا دليل على ما ذكرتم، وقد يحتمل ذلك وجوهًا: أحدها: ما وصفتم. ويحتمل أيضًا: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2) على الجهة التي قلنا برضا القاتل أن يُعتفى عنه على مال يؤخذ منه. وقد يحتمل أيضًا أن يكون ذلك في الدم الذي يكون بين جماعة، فيعفو أحدهم، فيتبع الباقون القاتل بحصصهم من الدية بالمعروف، ويؤدي ذلك إليهم بإحسان. هذه تأويلات قد تأولت العلماء هذه الآية عليها، فلا حجّة فيها لبعض على بعض إلا بدليل آخر في آية أخرى متفق على تأويلها، أو سُنَّة، أو إجماع. وفي حديث أبي شريح عن النبي -عليه السلام-: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ. . . ." الحديث، فجعل عفوه غير أخذه الدية، فثبت بذلك أنه إذا عفى فلا دية له، وإذا كان لا دية له إذا عفى عن الدم، ثبت بذلك أن الذي كان وجب له هو الدم، وأن أخذه الدية التي أبيحت له هو بمعنى أخذها بدلًا من القتل، والإبدال من الأشياء لم نجدها تجب إلا برضى مَن تجب ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) سورة البقرة، آية: [178].

عليه ورضى من تجب له، فإذا ثبت ذلك في القتل، ثبت ما ذكرنا، وانتفى ما قال المخالف لنا. ش: هذا جواب عن استدلال أهل المقالة الأولى المذكور، حاصله: أن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية (¬1) يحتمل وجوهًا: الأول: ما ذكره هؤلاء. الثاني: يحتمل أن يكون معناه: فعفى عنه على مال يرضاه يؤخذ منه. الثالث: يحتمل أن يكون ذلك في الدم بين جماعة، إذا عفى بعضهم تحول نصيب الآخرين مالًا، وقد رُوِيَ عن علي وعمر وعبد الله - رضي الله عنهم - ذلك؛ لأنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) وهذا يقتضى وقوع العفو عن شيء من الدم، لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالًا، وعليهم اتباع القاتل بالمعروف، وعليه آداؤه بإحسان. فهذه تأويلات قد تأولوا هذه الآية عليها، فلا حجة فيها لبعض على بعض إلا بدليل آخر. قلت: إذا سقط تأويل أهل المقالة الأولى، يتعين الباقي للعمل، ولا شك أن تأويلهم ساقط. بيان ذلك: أن ظاهر الآية يدفعه ويرده؛ لأن العفو لا يكون مع أخذ الديّة؛ لأن النبي -عليه السلام- قال: "العمد قود إلا أن يعفو الأولياء" فأثبت له أحد الشيئين: قتل، أو عفو، ولم يثبت له مالًا. فإن قلت: إذا عفى عن الدم بأخذ المال كان عافيًا، ويتناوله لفظ الآية. قلت: إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضًا أن يكون عافيًا بترك المال، وأخذ القود، فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل، أو أخذ المال، وهذا فاسد لا يطلقه أحد. ومن جهة أخرى ينفيه ظاهر الآية، وهو أنه إن كان الولي هو العافي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178].

بترك القود وأخذ المال؛ فإنه لا يقال له: عُفي له، وإنما يقال له: عفي عنه فتقام "اللام" مقام "عن"، أو بحمله على أنه عفي له عن الدم، فينضم حرفًا غير مذكور، ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف، لم يجز لنا إثبات الحذف. وهَاهنا وجه آخر يَرُدُّ تأويلهم: وهو أن قوله: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬1) كلمة "مِن" تقتضي التبعيض؛ لأن ذلك حقيقتها وبابها، إلا أن تقوم الدلالة على غيره، فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه، وعندهم هو عفو عن جميع الدم وتركه إلى الدية، وفيه إسقاط حكم "مِن"، ومن وجه آخر وهو قوله: {شَيْءٌ} (1) وهذا أيضًا يوجب العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه؛ لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال: فمن عفي له عن الدم وطولب بالدية فأسقط حكم قوله: "من" وقوله: "شيء"، ولا يجوز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته، ومتى استعمل على ما ذكره أهل المقالة الثانية كان موافقًا لظاهر الآية. وأيضًا فتأويلهم أشد ملاءمة لرواية ابن عباس بنسخ ما كان على بني إسرائيل من إيجاب حكم القود ومنع أخذ البدل، فأبيح لنا بالآية أخذ قليل المال وكثيره، ويكون الولي مندوبًا إلى القبول -إذا سهل له القاتل بإعطائه المال- وموعودًا عليه بالثواب، ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات وأُمِرُوا فيه بالاتباع بالمعروف، وأُمِرَ القاتل بالأداء إليهم بإحسان. فإن قيل: ما تأوله أهل المقالة الأولى في إيجاب الديّة للولي باختياره من غير رضا القاتل تحتمله الآية، فوجب أن يكون مرادًا؛ إذ ليس فيه نفي لتأويلات غيرهم، ويكون قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} (1) معناه ترك لهم، من قوله: عفت ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178].

المنازل إذا تركت حتى درست، والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها، فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية. قلت: إن كان ذلك كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية وأخذ القود أن يكون عافيًا؛ لأنه تارك لأخذ الدية وقد سمي ترك المال وإسقاطه: عفوًا، قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬1) فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال، ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على مَن آثر أخذ القود وترك أخذ الدية فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي، إذ كان إنما اختار أحد شيئين كان مخيرًا في اختيار أيهما شاء؛ لأن مَن كان مخيرًا بين أحد شيئين فاختار أحدهما، كان الذي اختاره هو حقه الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره، ألا ترى أن مَن اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته؟ كأنه لم يكن غيره، وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه؟ كذلك هذا الولي لو كان مخيرًا في أحد شيئين من قود أو مال، ثم اختار أحدهما، لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر، فلما كان اسم العافي منتفيًا عمن ذكرنا حاله؛ لم يجز تأويل الآية عليه. والله أعلم. قوله: "وفي حديث أبي شريح. . . ." إلى آخره إشارة إلى أن استدلال أهل المقالة الأولى به أيضًا غير صحيح؛ لأن المذكور فيه: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية" فجعل الشارع عفوه غير أخذه الديّة، فظهر من ذلك أنه إذا عفى لا تكون له دية، وإذا لم تكن له دية بعفوه عن الدم، يثبت بذلك أن الذي كان قد وجب له هو الدم، وأن أخذه الدية التي أباحها الله لهذه الأمّة رحمةً وتخفيفًا، هو الذي يأخذها بدلًا عن ذلك الدم، وأخذ البدل من الشيء لم نجده يجب ألا برضا من يجب عليه، ورضا من يجب له، يعني بالتراضي من الجانبين، وذلك كمتلف المال الذي له مثل لا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي، لقوله ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [237].

تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬1) وقد طعن بعضهم في هذا الكلام، وقال: يرد عليكم ما قلتم فيمن كسر قلب فضة لغيره، فصاحب القلب مخير بين أخذ قلبه المكسور كما هو ولا شيء له، وإن شاء ضمنه قيمته مصوغًا غير مكسور من الذهب، أحب الكاسر أم أبى، وما قلتم فيمن غصب ثوبًا لآخر فقطعه قطعًا يستهلكه به كخرق أو خرق في بعضه، فإن صاحب الثوب مخير بين أن يأخذ ثوبه وقيمة نقصانه، وإن شاء أعطاه للغاصب وألزمه قيمته صحيحًا، فهذه أبدال أوجبتموها بغير رضا الذي ألزمتموها إياه، ولا طيب نفسه. قلت: لا نسلم أن هذه أبدال أوجبناها بغير التراضي؛ لأن المأخوذ في المسألة الأولى هو القلب مصوغًا غير مكسور من الذهب، وهي مثله في الشرع، قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) والمِثْل ينقسم إلى وجهين: أحدهما: مثله في صفته، وذلك في المكيل والموزون والمعدود. والآخر: مثله في قيمته؛ لأنه -عليه السلام-: "قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر، أن عليه ضمان نصف قيمته" فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة، فصار أصلًا في هذا الباب، وفي أن المثل قد يقع على القمية ويكون اسمًا لها ويدل على أن المثل قد يكون اسمًا لما ليس هو في صفته إذا كان وزانه وعروضه في القدر المستحق من الجزاء أن مَن اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه؛ بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين، فإذا كان كذلك فالمأخوذ هاهنا هو المثل بمقتضى النص لا البدل عنه والبدل عنه هو أن يأخذ شيئًا آخر غير القيمة المذكورة، فإذا أراد أن يأخذ شيئًا آخر، ليس له ذلك إلا برضى المأخوذ منه، ورضا الآخذ، وكذلك المأخوذ في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [194].

المسألة الثانية هو مثل الثوب وهو القيمة وإذا أراد أن يأخذ شيئًا آخر غير القيمة ليس له ذلك إلا بالتراضي. فافهم. قوله: "ثبت بذلك أن الذي كان وجب له هو الدم" أي ثبت بما ذكرنا أن الواجب للولي هو القود وأن المال بدل منه، وقد تكلموا فيه أن الواجب للولي بنفس القتل هو القود والدية جميعًا، أو القود دون الدية، أو إحداهما على وجه التخيير، فلا يجوز أن يكون حقه الأمرين جميعًا بالاتفاق، ولا أن يكون أحدهما على حسب ما يختاره الولي كما في كفارة اليمين ونحوها، وذلك لأن الذي أوجبه الله تعالى في الآية هو القصاص، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص ونفي لإيجاب القصاص، ومثله عندنا يوجب النسخ، فإذا الواجب هو القود لا غير، فلا يجوز له أخذ المال إلا برضى القاتل. فإن قلت: سلمنا أن الواجب هو القصاص ولهما جميعًا نقله إلى المال بالتراضي إذ ليس في ذلك إسقاط لوجب حكم الآية من القصاص. قلت: القصاص حق للولي على القاتل من غير إثبات تخيير بين القود وغيره، وتراضيهما على نقله إلى المال لا يخرجه من أن يكون هو الواجب دون غيره؛ لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر في الأصل الذي كان واجبًا من غير خيار، ألا ترى أن الرجل يملك طلاق امرأته ويملك الخلع وأخذ البدل عن الطلاق، وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له ندبًا، على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضي المرأة، وأنه لو كان له أن يطلق ويأخذ المال ندبًا من غير رضاها لكان ذلك موجبًا كونه كونه مالكًا أحد شيئين من طلاق أو مال. ص: ولما لم يكن فيما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم ما يدل عليه؛ نظرنا هل للآخرين خبر يدل على ما قالوا؛ فإذا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق قد حدثانا قالا: ثنا عبد الله بن بكر السهمي (ح). وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قالا: ثنا

حميد الطويل، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن عمته الربيع لطمت جارية فكسرت ثنيتها، وطلبوا إليهم العفو فأبوا، والأرش، فأبوا إلا القصاص، فاختصموا إلى رسول الله -عليه السلام-؛ فأمر رسول الله -عليه السلام- بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟! لا والذي بعثك بالحق؛ لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله -عليه السلام-: يا أنس كتاب الله -عز وجل- القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، يزيد بعضهم على بعض". فلما كان الحكم الذي حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الربيع للمنزوعة ثنيتها هو القصاص ولم يخيرها بين القصاص وأخذ الدية. وحاج أنس بن النضر حين أبى ذلك، فقال: "يا أنس كتاب الله -عز وجل- القصاص" فعفا القوم فلم يقض لهم بالدية. ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -عليه السلام- في العمد هو القصاص؛ لأنه لو كان يجب للمجني عليه الخيار بين القصاص وبين العفو، فما يأخذ به الجاني إذًا لخيرها رسول الله -عليه السلام- ولا علمها بما لها أن تختاره من ذلك، ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم إليه رجل في شيء يجب له فيه أخذ شيئين فثبت عنده أنه لا يحكم له بأحد الشيئين دون الآخر؛ وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب من كذا ومن كذا، فإن تعدى ذلك فقد قصَّر عن فهم الحكم، ورسول الله -عليه السلام- أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص، وأخبر أن كتاب الله -عز وجل- القصاص؛ ثبت بذلك أن الذي في مثل ذلك هو القصاص لا غيره. فلما ثبت هذا الحديث على ما ذكرنا، وجب أن نعطف عليه حديث أبي شريح وأبي هريرة، فنجعل قول رسول الله -عليه السلام- فيهما: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية" على الرضا من الجاني بغرم الدية، حتى يتفق معنى هذين الحديثين، ومعنى حديث أنس - رضي الله عنه -. ش: لما أبطل ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى وبيّن أن حججهم غير دالة على

دعواهم، شرع في بيان دليل يدل على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، من أن موجب القتل العمد هو القود لا المال، وأن المال بدل عنه، فلا يصار إليه إلا بالتراضي، وهو حديث أنس - رضي الله عنه -. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حُميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): نا محمد [بن سلام، أخبرنا] (¬2) الفزاري، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: "كَسَرت الرُّبيِّع -وهي عمة أنس بن مالك- ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي -عليه السلام-، فأمر رسول الله -عليه السلام- بالقصاص، فقال أنس بن النضر -عم أنس بن مالك-: والله لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله -عليه السلام-: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري القاضي، عن حميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬3): نا مسدد، نا معتمر بن سليمان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "كسرت الرُّبيِّع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة، فأتوا النبي -عليه السلام-، فقضى بكتاب الله القصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها اليوم، فقال: يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضوا بأرش أخذوه، فعجب النبي -عليه السلام- فقال: إن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره". قال أبو داود: سألت أحمد بن حنبل: كيف يقتص من السن؟ قال: يبرد. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1685 رقم 4325). (¬2) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 607 رقم 4595).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا حميد بن مسعدة وإسماعيل بن مسعود، قالا: نا بشر بن المفضل، عن حُميد .. إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬2): نا ابن مثنى، عن خالد وابن أبي عدي، عن حميد .. إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، نا ثابت، عن أنس: "أن أخت الربيع -أم حارثة- جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: القصاص، القصاص، فقالت أم الرُّبيِّع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها أبدًا، فما زالت حتى قبلوا منها الدية، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره". قوله: "أن عمته الرُّبيِّع" بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف، وهي بنت النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن الجار، وهي أخت أنس عم أنس بن مالك خادم النبي -عليه السلام- وهي أم حارثة بن سراقة، الذي استشهد بين يدي النبي -عليه السلام- ببدر. وفي الصحابيات ربيع أخرى، وهي بنت معوذ بن عفراء، وعفراء أمه وهو: معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، وهي من المبايعات تحت الشجرة. وقد وقع في رواية مسلم: أن التي لطمت الجارية هي أخت الربيع كما قال ابن أخت الربيع أم حارثة: جرحت إنسانًا. . . . الحديث"، كما ذكره آنفًا. قوله: "فقال أنس بن النضر" ابن ضمضم، وهو عم أنس بن مالك خادم النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 27 رقم 4756). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 884 رقم 2649). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1302 رقم 1675).

قوله: "أتكسر ثنية الربيع" استفهام على سبيل الإنكار. قوله: "كتاب الله القصاص" أراد قول الله تعالى: {السِّنَّ بِالسِّنِّ}. قوله: "إن من عباد الله .. إلى آخره" قاله رسول الله -عليه السلام- تعجبًا من قسم أنس بن النضر. وإبرار الله تعالى قسمه يستفاد منه أحكام: الأول: فيه جواز العفو للولي عن القصاص؛ وأخذ الدية بالتراضي. الثاني: فيه أن السن بالسن، لقوله -عليه السلام-: "كتاب الله القصاص" فتأخذ الثنية بالثنية، والناب بالناب، والضرس بالضرس، والأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل؛ وسواء في ذلك كسر السن أو قلعها، وكيفية ذلك أن يؤخذ في الكسر من سن الكاسر مثل ما كسر بالمبرد، وفي القلع يؤخذ سنه بالمبرد إلى أن ينتهي إلى اللحم ويسقط ما سوى ذلك. وقيل في القلع: تقلع سنهُ؛ لأن تحقيق المماثلة فيه، والأولى الاستيفاء على وجه النقصان؛ إلا أن في القطع احتمال الزيادة؛ لأنه لا يؤمن فيه أن يفعل المقلوع أكثر مما فعل القالع. الثالث: فيه إشارة إلى أفضلية العفو عن القصاص وتركه بالكلية، أو أخذه الأرش بالتراضي. الرابع: فيه أن وجوب القصاص هو العمد. الخامس: فيه أنه لا خيار للولي بين القصاص وأخذ المال، إذ لو كان له الخيار؛ لكان رسول الله -عليه السلام- خير المنزوعة ثنيتها بين القصاص وأخذ المال، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله القصاص؛ ثبت بذلك أن الواجب هو القصاص في مثل هذه الصورة، لا المال؛ فإذا اختار الولي المال ليس له ذلك إلا بالتراضي، ولا يجوز لأحد إثبات شيء معه ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما يجوز نسخ الكتاب، وهذا معنى قوله: "فلما كان الحكم الذي حكم به رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره".

فإن قيل: قد ذكرت فيما مضى أن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬1) أن أحد التأويلات فيه تحتمل جواز أخذ المال من غير رضي القاتل، فيعمل بذلك التأويل. قلت: لما كثرت التأويلات في الآية المذكورة صارت مثل المتشابه؛ لكونها مشتركة محتملة للمعاني، ومعلوم أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1) بحكم ظاهر المعنى بين المراد، لا اشتراك في لفظه، ولا احتمال في تأويله، وحكم المتشابه أن يحمل على المعنى المحكم ويرد إليه بقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (¬2) إلى قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2) فأمر الله -عز وجل- برد المتشابه إلى المحكم؛ لأن وصفه بالمحكم بأنه أم الكتاب يقتضي أن يكون غيره محمولًا عليه، ومعناه معطوفًا عليه؛ إذ كان أم الشيء ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه، ثم ذم من اتبع المتشابه واكتفى بما احتمله اللفظ من تأويله، غير رد له إلى المحكم، وحمله على موافقته في معناه، وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم. وإذا ثبت هذا، أو ثبت أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1) محكم، وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) متشابه، وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشيء من حكمه، وهو أن يكون على الوجه الذي ذكرنا من التأويلات وهو وجوب القصاص من غير معنى آخر يُضَم إليه، ولا عدول عنه إلى غيره. قوله: "إذًا لخيرها" أي حينئذٍ لخير رسول الله -عليه السلام- المنزوعة ثنيتها. قوله: "ألا ترى. . . . إلى آخره" توضيح لما قبله. قوله: "ورسول الله -عليه السلام- أحكم الحكماء". بمعنى أحكم الناس الحاكمين وأدراهم بالحكم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178]. (¬2) سورة آل عمران، آية: [7].

والحكماء: جمع حكيم، وليس جمع حاكم، ولم يقل: أحكم الحاكمين -وإن كان المعنى على هذا- تأدبًا؛ لأن أحكم الحاكمين هو الله تعالى. قوله: "فلما ثبت هذا الحديث". يعني حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وجب أن يُعطف عليه بمعنىً يُضَم إليه ويقرن بينه، وبين حديثي أبي شريح الخزاعي وأبي هريرة لتتفق معاني الأحاديث ولا تختلف. ص: فإن قال قائل: فإن النظر يدل على ما قال أهل المقالة الأولى، وذلك أن على الناس أن يستحيوا أنفسهم، فإذا قال الذي له سفك الدم: قد رضيت بأخذ الدية وتركت سفك الدم؛ وجب على القاتل استحياء نفسه، فإذا وجب ذلك عليه؛ أُخِذَ من ماله وإن كره، فالحجة عليه في ذلك أن على الناس استحياء أنفسهم -كما ذكر- بالدية، وبما جاوز الدية وبجميع ما يملكون. وقد رأيناهم أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك، أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله -عز وجل- تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى، لم يجبر عليه باتفاقهم، ولم يؤخذ منه كرهًا فَيُدْفع إلى الولي، فكذلك الدية إذا طلبها الولي فإنه يجب على القاتل فيما بينه وبين ربه أن يستحيي نفسه بها، وإن أبى لم يجبر عليه، ولم يؤخذ منه كرهًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن وجه النظر والقياس يقتضي صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ وذلك لأنه يجب على الناس أن يستحيوا أنفسهم، يعني يجب عليهم أن يسعوا في إبقاء أنفسهم وإحيائها، فإذا قال الولي الذي له سفك دم القاتل فقد رضيت بأخذ المال وتركت سفك الدم، وجب على القاتل إحياء نفسه وإبقاؤها، فإذا كان هذا واجبًا عليه، يؤخذ منه المال رضي أم لم يرض. وتقرير الجواب: هو ما أشار إليه بقوله: "فالحجة عليه في ذلك". أي فالدليل والبرهان على هذا القائل فيما قاله.

وأراد بها الجواب عن سؤاله، بيانه أن يقال: يجب على كل أحد إحياء نفسه بدفع الديّة وبدفع أكثر منها وبدفع جميع ما يملكه لإبقاء نفسه، وقد أجمعوا أن الولي إذا طلب من القاتل شيئًا مُعَيَّنًا ليترك قتله؛ فإنه يجب عليه فيما بينه وبين الله أن يدفع إليه ذلك الشيء لحقن دمه، ومع هذا لو أبى وامتنع من ذلك لا يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، فكذلك الدية إذا طلبها ولي المقتول يجب على القاتل فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفعها إليه؛ حقنًا لدمه، فإن أبى وامتنع لم يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، وكذلك يجب على كل أحد إحياء غيره إذا خاف التلف عليه، مثل أن يرى إنسانًا قصد بالقتل أو خاف عليه الغرق يجب عليه تخليصُه، أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع، فعليه إحياؤه بطعامه وإن كثرت قيمته، فإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه، فعلى الولي إحياؤه إذا أمكنه ذلك، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بَذل القاتل، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلًا؛ لأنه إذا كان على واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود، فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة؛ كان عليه أن يعطيه؛ لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير. فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة؛ كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده .. فإن قيل: احتج المزني للشافعي ومن تبعه في هذه المسألة، وقال: لو صالح في حد القذف على مال أو كفالة نفس؛ لبطل الحد والكفالة، ولم يستحق شيئًا، ولو صالح في دم عمد على مالٍ، صح باتفاق الجميع. فدل ذلك على أن دم العمد مالٌ في الأصل، لولا ذلك لما صح الصلح، كما لم يصح عن حد القذف والكفالة.

قلت: فيما قاله المزني خطأ ومناقضة، أما الخطأ: فهو أن من أصل أهل المقالة الثانية: أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل بالمال، والكفالة بالنفس فيها روايتان: إحداهما: لا تبطل أيضًا. والأخرى: أنها تبطل. وأما المناقضة: فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الإطلاق، ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال، وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالًا عن طلاق بغير رضاها، على أن الشافعي: قد قال -فيما حكاه المزني عنه: إن عفو المحجور عليه عن الدم جائز وليس لأصحاب الوصايا والديون منعه من ذلك؛ لأن المال لا يملك مع العمد إلا باختيار المجني عليه، فلو كان الدم مالًا في الأصل؛ لثبت فيه الغرماء وأصحاب الوصايا، وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير، وإن لم يوجب له خيارًا من القتل والدية. فإن قلت: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (¬1) يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال إذْ كان اسم السلطان يقع عليهما. والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلمًا ثبت فيه الدية نحو قتل شبه العمد، والأب إذا قتل ابنه، وبعضهم يُجِبْ فيه القود، وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادًا بالآية؛ لاحتمال اللفظ لهما، وقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك فقال في معنى قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1) أنه إن شاء قتل، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية. فلما احتمل السلطان ما وصفنا؛ وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود؛ لوقوع الاسم عليهما. قلت: حَمْله على القود أولى من حمله على الدية؛ لأنه لما كان "السلطان" لفظًا مشتركًا محتملًا للمعاني، كان متشابهًا فيجب رده إلى الحكم، وحمله على ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [33].

معناه، وهي آية محكمة في وجوب القصاص وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ} (¬1) فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية، أن يكون مقطوعًا حتمًا في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص، وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد، فيكون معنى المتشابه محمولًا عليه؛ فلذلك وجب الاقتصار بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره، لموافقته المعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه، على أن في الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه؛ لأنه قال: {فَلَا يُسْرِفْ في الْقَتْلِ} (¬2) والسرف فيه: أن يقتل غير قاتله، أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق للقتل، وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله: {سُلْطَانًا} (2) القود. والله أعلم. ص: ثم رجعنا إلى أهل المقالة الأولى في قولهم: "إن للولي أن يأخذ الدية وإن كره ذلك الجاني". فنقول لهم: ليس يخلو ذلك من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون ذلك؛ لأن الذي له على القاتل هو القصاص والدية جميعًا، فإذا عفى عن القصاص فأبطله بعفوه، كان له أخذ الدية. وإما أن يكون الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلًا من ذلك القصاص. وإما أن يكون الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص، وإما الدية، يختار من ذلك ما شاء. ليس يخلو ذلك من أحد هذه الوجوه الثلاثة، فإن قلتم: الذي وجب له هو القصاص والدية جميعًا فهذا فاسد؛ لأن الله -عز وجل- لم يوجب على أحد فَعل فعْلًا أكثر مما فعل، وقد قال الله -عز وجل-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [178]. (¬2) سورة الإسراء، آية: [33].

بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1) فلم يوجب الله -عز وجل- على أحد بفعله أكثر مما فعل، ولو كان كذلك لوجب أن يقتل ويأخذ الدية، فلما لم يكن له بعد قتله أخذ الدية، دلَّ ذلك على أن الذي كان وجب له هو خلاف ما قلتم. وإن قلتم: إن الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلًا من ذلك القصاص فإنَّا لا نجد حقًّا لرجل يكون له أن يأخذ به بدلًا بغير رضا مَن عليه ذلك الحق؛ فبطل هذا المعنى أيضًا. وإن قلتم: إن الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص، وإما الدية، يأخذ منهما ما أحب، ولم يجب له أن يأخذ واحدًا منهما دون الآخر، فإنه ينبغي إذا عفى عن أحدهما بعينه ألا يجوز عفوه؛ لأن حقه لم يكن هو المعفو عنه بعينه، فيكون له إبطاله، إنما كان له أن يختاره فيكون هو حقه، أو يختار غيره فيكون هو حقه، فإذا عَفَى عن أحدهما قبل اختياره إياه، وقبل وجوبه له بعينه، فعفوه باطل، ألا ترى أن رجلًا لو جرح أبوه عمدًا، فعفى عن جارح أبيه، ثم مات أبوه من تلك الجراحة ولا وارث له غيره، أن عفوه باطل؛ لأنه إنما عفى قبل وجوب العفو عنه له؟ فلما كان ما ذكرنا كذلك، وكان العفو عن القاتل قبل اختياره القصاص أو الدية جائزًا؛ ثبت بذلك أن القصاص قد كان وجب له بعينه قبل عفوه عنه، ولولا وجوبه له إذًا لما كان له إبطاله بعفوه، كما لم يجز عفو الابن عن دم أبيه قبل وجوبه له. ففي ثبوت ما ذكرنا وانتفاء هذه الوجوه التي وصفنا؛ ما يدل على أن الواجب على القاتل عمدًا أو الجارح عمدًا هو القصاص لا غير ذلك من دية ولا غيرها؛ ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [45].

إلا أن يصطلح هو إن كان حيًّا، أو وارثه إن كان ميتًا، والذي وجب ذلك عليه على شيء، فيكون الصلح جائزًا على ما اصطلحا عليه من دية أو غيرها. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا إلى الجواب عن قول أهل المقالة الأولى: "أن للولي أن يأخذ الدية، وإن كره ذلك الجاني" وبيَّن أن هذا فاسد؛ لأن هذا لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة: وهي أن يكون الواجب على القاتل هو القصاص والدية جميعًا، أو القصاص وحده ولكن له أخذ الدية بدلًا منه، أو يكون الولي مخيرًا بينهما؛ فلا سبيل إلى الأول لفساده بالنص، وهو قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1)، ولا سبيل إلى الثاني أيضًا على الوجه الذي ذكرتم؛ لأن الرضا شرط، ولا نجد حقًّا لرجل يكون له أخذ بدله بغير رضا مَن عليه ذلك الحق. فإن اعترض معترض بمسألة القلب إذا كسره رجل، وبالثوب الذي غصبه رجل فقطعه قطعًا استهلك به؛ فجوابه ما ذكرنا فيما مضى من هذا الباب. ولا سبيل إلى الثالث أيضًا على الوجه الذي ذكرتم، وبَيَّن فساده بقوله: "وإن قلتم: إن الذي وجب له هو أحد أمرين. . . ." إلى آخره. فإذا بطلت هذه الوجوه، ثبت أن الواجب على القاتل عمدًا أو الجارح عمدًا هو القصاص لا غير؛ إلا أن يأخذ المال بالتراضي كما ذكرنا. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [45].

ص: باب: الرجل يقتل الرجل كيف يقتل

ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقتل الرجل كيف يُقتل قصاصًا عن قتله إياه؟ ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن يهوديًّا رضَّ رأس صبي بين حجرين، فأمر النبي -عليه السلام- أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين". ش: إسناده صحيح. وأبو بكرة بكّار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وهمام هو ابن يحيى. وأخرجه البخاري (¬1): حدثني إسحاق، أنا حبان، ثنا همام، عن قتادة، ثنا أنس بن مالك: "أن يهوديًّا رض [رأس] (¬2) جارية بين حجرين، فقيل لها: مَن فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النبي -عليه السلام-، فَرُضّ رأسه بالحجارة -وقد قال همام: بالحجرين-". وأخرجه مسلم (¬3): عن هداب بن خالد، عن همام، عن قتادة، عن أنس، نحوه. وأبو داود (¬4): عن ابن كثير، عن همام، عن قتادة. والترمذي (¬5): عن علي بن حجر، عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة بمعناه، وقال: حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2524 رقم 6490). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري". (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1299 رقم 1672). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 590 رقم 4535). (¬5) "جامع الترمذي" (4/ 15 رقم 1394).

والنسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة، عن سعيد، عن قتادة، نحوه. وعن (¬2) علي بن حجر، عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة. وابن ماجه (¬3): عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع، عن همام، عن قتادة نحوه. قوله: "رضَّ" من الرضِّ، وهو الدق الجريش وقد رضضت الشيء، فهو رضيض ومرضوض. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه، وقالوا: يُقتل كل قاتل بما قتل به. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وابن سيرين، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق، وابن المنذر، وجماعة الظاهرية؛ فإنهم قالوا: يقتل القاتل بما قتل به. وقال ابن حزم: قال مالك: إن قتله بحجر أو بعصا أو بالنار أو بالتغريق؛ قُتل بمثل ذلك، يكرر عليه أبدًا حتى يموت. وقال الشافعي: إن ضربه بحجر أو بعصا حتى مات، ضُرب بحجر أو بعصا أبدًا حتى يموت، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى يموت، حُبس مثل المدة حتى يموت، فإن لم يمت قتل بالسيف، وهكذا إن غرقه، وهكذا إن ألقاه من مهواة عالية. فإن قطع يديه ورجليه فمات؛ قطعت يد القاتل ورجلاه، فإن مات وإلا قتل بالسيف. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 22 رقم 4740). (¬2) "المجتبى" (8/ 22 رقم 4742). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 889 رقم 2665).

قال أبو محمد: إن لم يمت ترك كما هو حتى يموت، لا يطعم ولا يسقى، وكذلك إن قتله جوعًا أو عطشًا؛ عُطِّش أو جُوِّع حتى يموت ولابُدَّ، ولا تراعى المدة أصلًا. وقال ابن شبرمة: إن غمسه في الماء حتى مات، غمسه حتى يموت، وإن ضربه ضربًا، ضربه مثل ضربه لا أكثر من ذلك. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل من وجب عليه القود لم يقتل إلا بالسيف. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: لا يقتل القاتل في جميع الصور إلا بالسيف. قال ابن حزم: وهو قول أبي سليمان، وظاهر ما روينا عن الشعبي والحسن: إيجاب القود بالسيف والرمح والسكين والمطرقة. ص: وقالوا: هذا الحديث الذي رويتموه يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- رأى أن ذلك القاتل يجب قتله لله إذْ كان إنما قتل على مال، قد بيّن ذلك في بعض الحديث. حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، قال: "عدى يهودي في عهد رسول الله -عليه السلام- على جارية فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتى بها أهلُها رسولَ الله -عليه السلام- وهي في آخر رمق، وقد أصمتت، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: من قتلك، أفلان -لغير الذي قتلها-؟ فأشارت برأسها أن لا، فقال: فلان -لقاتلها-؟ فأشارت برأسها: أن نعم، فأمر به رسول الله -عليه السلام- فرضَّ رأسه بين حجرين". فإن كان رسول الله -عليه السلام- جعل دم ذلك اليهودي قد وجب لله -عز وجل- كما يجب دم قاطع الطريق لله تعالى، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف أو بغير ذلك، والمثلة حينئذٍ مباحة كما فعل رسول الله -عليه السلام- بالعرنيين.

ش: أي قال الآخرون: هذا الحديث يحتمل وجوهًا، فلا يتم بها استدلالهم لما ذهبوا إليه: الأول: أنه يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- رأى قتل هذا اليهودي حقًا لله تعالى؛ وذلك لأنه إنما قتل تلك الجارية أو الصبي -على اختلاف الرواية- لأجل مالها كما بين ذلك في حديث آخر لأنس - رضي الله عنه - حيث قال: "فأخذ أوضاحًا كانت عليها ورضخ رأسها" فصار حكمه حكم قاطع الطريق؛ لأن سفك دمه يجب لله تعالى، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف وغيره، وكانت المثلة أيضًا مباحةً في ذلك الوقت، كما فعل ذلك (¬1) بالعرنيين: "لما قتلوا راعي النبي -عليه السلام-، واستاقوا إبله، فبعث وراءهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم حتى ماتوا" ولما نهى رسول الله -عليه السلام- عن المثلة بعد ذلك وانتسخ حكمها نسخ ذلك الحكم الذي حكم به في اليهودي بانتساخ المثلة، وهذا الذي ذكره الطحاوي -رحمه الله-. الثاني: يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- رأى ذلك واجبًا لأولياء الجارية بقتله لهم، ولم يكن ذلك حقًّا لله تعالى. الثالث: يحتمل أن يكون -عليه السلام- قتله كما فعل؛ لأن الذي وجب عليه كان يقتضي ذلك بأن كان نقض العهد ولحق بدار الحرب لقرب محال اليهود من المدينة، فأخذه بعد ذلك فقتله على أنه حربي ناقض للعهد متهم بقتل الصبي؛ لأنه لا يجوز أن يكون بإيماء الصبية وإشارتها أنه قتلها؛ لأن ذلك لا يوجب قتل المدعى عليه القتل عند الجميع، فلا محالة قد كان هناك سبب آخر استحق به القتل لم ينقله الراوي على جهته. الرابع: أن يكون أولياؤها قد اختاروا الرضخ؛ لكون الواجب سفك دمه بأيٍّ ما شاءوا، ففعل رسول الله -عليه السلام- ما فعله لأجل ذلك. فإذا كان هذا الحديث محتملًا هذه الوجوه؛ لم يكن الاستدلال به في أن يقتل ¬

_ (¬1) حديث العرنين مشهور، وهو متفق عليه، وسيأتي تخريجه عن قريب إن شاء الله.

القاتل بما قتل به صحيحًا، والأحسن أن يقال: إنه منسوخ بنسخ المثلة؛ وذلك لأن النهي عن المثلة مستعمل عند الجميع، والقود على الوجه مختلف فيه، ومتى ورد عنه -عليه السلام- خبران واتفق الناس على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر؛ كان المتفق منهما قاضيًا على المختلف فيه، خاصًّا كان أو عامًّا. ثم إنه أخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن يهوديًّا قتل جاريةً على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي -عليه السلام- وبها رمق، فقال: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي -عليه السلام- بحجرين". وأخرجه مسلم (¬2): عن محمد بن مثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن شعبة، عن هشام، به نحوه. وأخرجه النسائي (¬4): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن بندار، عن غُندر، وعن إسحاق بن منصور المروزي، عن النضر بن شميل، جميعًا، عن شعبة، عن هشام نحوه. قوله: "فأخذ أوضاحًا" الأوضاح: جمع وضح، وهو نوع من الحلي يُعمل من الفضة، سميت بها لبياضها. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2522 رقم 6845). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1299 رقم 1672). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 588 رقم 4529). (¬4) "المجتبى" (8/ 35 رقم 4779). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 889 رقم 666).

قوله: "ورضخ رأسها" بالضاد والخاء المعجمتين، من الرضخ وهو الدق والكسر هَاهنا، ويجيء بمعنى الشدخ أيضًا، وبمعنى العَطِيَّة. قوله: "في آخر رمق" الرمق: بقية الروح التي تتردد في الحلق. قوله: "وقد أَصْمَتت" جملة حالية على صيغة المعلوم، يقال: صمت العليل وأصمت، فهو صامت، ومصمت إذا اعتقل لسانه. قوله: "أفلان" الهمزة فيه للاستفهام. قوله: "أن لا" أي ليس بفلان، و"أنْ" تفسيرية في الموضعين. قوله: "فرضَّ رأسه" من الرضّ وهو الدق الجريش، وقد مرَّ مرةً. فإن قيل: كيف قتل رسول الله -عليه السلام- ذلك اليهودي بلا بينة ولا اعتراف؟ قلت: قد قيل: بأن هذا كان في ابتداء الإِسلام، وكان يقتل القاتل بقول القتيل. وقوله: "كان يقتل فيه"، وقال هذا المجيب: هذا معنى الحديث، وما جاء من اعتراف اليهودي فإنما جاء من رواية قتادة، ولم ينقله غيره، وهو مما عُدَّ عليه. قلت: وفيه نظر؛ فإن لفظة الاعتراف أخرجها البخاري في "صحيحه" وأبو داود والترمذي، وفي "صحيح مسلم": "فأخذ اليهودي فاعترف" وفي لفظ للبخاري "فلم يزل به حتى أقر". فإذا كان كذلك لا يرد السؤال المذكور؛ لأن القتل حينئذٍ يكون بالاعتراف. وقال الخطابي: أقل ما يؤخذ من هذا الحديث لفظة: "فاعترف فقتل" وفيها الشفاء والبيان أن النبي -عليه السلام- لم يقتل اليهودي بإيماء المدعي، أو بقوله، وقد شغب بعض الناس في هذا حين وجد أكثر الروايات خاليًا عن هذه اللفظة، فقال: كيف يجوز أن يقتل أحد بقول المدعي أو بكلامه فضلًا عن إيمائه برأسه؟! وأنكروا هذا الحديث، وهذه اللفظة لو لم تكن مروية في هذه القصة لم يكن ضرر؛ لأن من العلم الشائع المستفيض على لسان الأمة خاصتهم وعامتهم: أنه

لا يُستحق دم ولا مال إلا ببينة، وقد روي كثير من الحديث على الاختصار؛ اعتمادًا على أفهام المخاطبين. قلت: يمكن أن يكون -عليه السلام- قتل بلا بيّنة ولا اعتراف لسبب موجب لقتله غير إيماء الصبية، قد ظهر عنده ذلك وثبت، كما ذكرناه عن قريب، أو نقول: كان -عليه السلام- قد علمه بالوحي فلذلك قتله. فإن قيل: اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ففيما مضى في رواية: "رضَّ رأسه بين حجرين" وفي أخرى لـ"مسلم ": "فرضخ رأسه بين حجرين"، وفي رواية أخرى لأبي داود عن أنس: "أن يهوديًا قتل جاريةً من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فَأُخِذَ، فأتي به النبي -عليه السلام-، فأَمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات". قلت: لا اختلاف في ذلك في المعنى؛ لأن الرجم والرضخ والرضّ كله عبارة عن الضرب بالحجارة، لكن بيَّن قتادة الموضع الذي ضرب عليه، ولم يبينه أبو قِلَابة فيؤخذ بالبيان. والله أعلم. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "قدم ثمانية رهط من عكل فاستوخموا المدينة، فبعثهم النبي -عليه السلام- إلى ذَوْدٍ له، فشربوا من ألبانها، فلما صحوا ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي الإبل، وساقوا الإبل، فبعث في آثارهم، فأُخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَل أعينهم، وتركهم حتى ماتوا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس - رضي الله عنه -: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} قال: هم من عكل، قطع النبي -عليه السلام- أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حميد، عن أنس (ح). وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- قطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم حتى ماتوا". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- نفر من حي من أحياء العرب، فأسلموا وبايعوه، قال: فوقع الموم -وهو البرسام- فقالوا: يا رسول الله هذا الوجع قد وقع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها؟ قال: نعم، اخرجوا فكونوا فيها، فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين، وذهبوا بالإبل، قال: وجاء الآخر وقد خرج فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعنده شبان من الأنصار قربت من عشرين، قال: فأرسل إليهم الشبان، وبعث معهم قائفًا يقص آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم". ففعل رسول الله -عليه السلام- بالعرنيين ما فعل بهم من هذا، فلما حل له من سفك دمائهم، فكان له أن يقتلهم كيف أحب وإن كان ذلك تمثيلًا بهم؛ لأن المثلة حينئذٍ كانت مباحة، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها رسول الله -عليه السلام-، فلم يكن لأحد أن يفعلها، فيحتمل أن يكون فعل باليهودي ما فعل من أجل ذلك، ثم نُسخ ذلك بَعْدُ بنسخ المثلة، ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- لم يَر ما وجب على اليهودي من ذلك لله، ولكنه رآه واجبًا لأولياء الجارية، فقتله لهم، واحتمل أن يكون قتله كما فعل؛ لأن ذلك هو الذي وجب عليه، واحتمل أن يكون الذي كان وجب عليه، هو سفك الدم بأي شيء ما شاء الولي سفكه به, فاختاروا الرضخ، ففعل ذلك لهم رسول الله -عليه السلام-. هذه الوجوه يحتملها هذا الحديث، ولا دلالة معنا تدلنا أن النبي -عليه السلام- أراد بعضها دون بعض.

ش: هذا بيان لقوله كما فعل رسول الله -عليه السلام- بالعرنيين. وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): نا موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "قدم رهط من عكل على النبي -عليه السلام-، كانوا في الصفة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله ابغنا رسلا فقال: ما أجدكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله -عليه السلام-، فَأَتَوْهَا فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأتى النبي -عليه السلام- الصريخُ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا، قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬5): عن موسى، عن حماد، عن حميد، عن أنس، نحو رواية البخاري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2495 رقم 6419). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1296 رقم 1671). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 534 رقم 4364). (¬4) "المجتبى" (7/ 95 رقم 4027). (¬5) "سنن أبي داود" (1/ 144 رقم 333).

والنسائي أيضًا (¬1) من حديث حميد، عن أنس - رضي الله عنه -. الثالث: عن أبي أميّة محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أنس. وأخرجه النسائي (¬2): عن أحمد بن سليمان، عن محمَّد بن بشر، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: "أتى النبي -عليه السلام- نفر من عكل -أو عرينة- فأمر لهم واجتووا المدينة بذود ولقاح يشربون ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث في طلبهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم". الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه النسائي (¬3): من حديث حميد، عن أنس. الخامس: عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬4): عن يحيى بن يحيى التميمي وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هشيم -واللفظ ليحيى، قال: أنا هشيم- عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس بن مالك: "أن أناسًا من عرينة قدموا على رسول الله -عليه السلام- المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإِسلام، وساقوا ذود النبي -عليه السلام-، فبلغ ذلك النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 95 رقم 4028). (¬2) "المجتبى" (7/ 95 رقم 4027). (¬3) "المجتبى" (7/ 95 رقم 4028). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1296 رقم 1671).

فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا". السادس: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): عن هارون بن عبد الله، عن مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- نفر من عرينة، وأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الصوم وهو البرسام. . . ." الحديث. وأخرجه الطحاوي مرةً في باب الرجل يكون به الداء هل يجتنب أم لا؟ وأخرجه أيضًا من طرق أخرى في الباب المذكور: عن يونس، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس. قوله: "ثمانية رهط من عُكل" الرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (¬2). و"عُكْل": بضم العين المهملة، وسكون الكاف، وفي آخره لام وهي قبيلة، قال ابن الأثير: عُكْل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناف بن أدّ بن طابخة، وحكى ابن الكلبي قال: ولد عوف بن وائل: الحارث وحسمًا وسعدًا وعديًّا وقيسًا، وأمهم ابنة ذي اللحية من حمير، وحضنتهم عُكْل أَمَةٌ لهم فغلبت عليهم، قال ابن دريد: اشتقاق عُكْل من قولهم: عَكَلْتُ الشيء أَعْكِلُه عَكْلًا: إذا جمعته، قال الشاعر: وَهُمْ على [هَدَب] (¬3) الأَمِيل تداركوا ... نَعَمًا تُشَلُّ إلى الرئيس وتُعْكَلُ ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) سورة النمل، آية: [48]. (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وكذا وقع في "لسان العرب" (مادة: أمل)، و"تاج العروس" (1/ 6851)، ووقع في "لسان العرب" أيضًا (مادة: عكل)، و"تاج العروس" (1/ 7350)، وكتاب "العين": صدف، بالصاد، والدال المهملتين وآخره فاء. والبيت للفرزدق.

أي: يجمع. وقال أبو جعفر أحمد بن محمَّد: يكون من عَكَلَ يَعْكُل عَكْلًا إذا قال برأيه، مثل حَدَسَ، ورجل عكل أي أحمق، منهم خزيمة بن عاصم بن قطن بن عبد الله بن عبادة بن سعد بن عوف، وسعد هو ممن حضنته عكل. وخزيمة هذا هو الذي أتى النبي -عليه السلام- بإسلام عُكْل فمسح وجهه وكتب له كتابًا يوصي به من ولي الأمر بعد النبي -عليه السلام-، وجعله شاعر قومه. ذكر ذلك ابن الكلبي. قوله: "فاستوخموا المدينة" أي استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانهم، يقال: بلدة وخيمة إذا لم توافق ساكنها، ومنه استوخمت الطعام. قوله: "إلى ذَوْد" بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره دال مهملة، وهي من الإبل ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير أذواد. وقال أبو عبيد: الذَّوْد من الإناث دون الذكور، وقيل: الذَّوْد ما بين الثنتين إلى التسع. قوله: "وقتلوا راعي الإبل" الراعي هذا اسمه يسار وهو مولى رسول الله -عليه السلام-، وقيل: كان رسول الله -عليه السلام- أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله رسول الله -عليه السلام- في لقاح له يرعى ناحية الحمى. قوله: "سمل أعينهم" أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو نقرها بالشوك، وهو بمعنى السمر الذي جاء في رواية أخرى: "فسمر أعينهم". أي أحمى لهم مسامير الحديد، ثم كحلهم بها. قوله: "فوقع الموم" بميمين أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة، وقد فسره في الحديث بالبرسام، وهي علة معروفة.

قوله: "وبعث معهم قائفًا" وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، من قَافَ يَقُوفُ قِيَافةً. ويستفاد منه أحكام: الأول: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬1) الآية، نزلت في هؤلاء الذين ساقوا ذَوْد النبي -عليه السلام- وقتلوا راعيه، على ما نص عليه أنس بن مالك - رضي الله عنه - في روايته، وذكر بعضهم عن أنس أنه قال: "إن خبر العرنيين كان سبب نزول الآية". وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس: "أنها نزلت في أصحاب أبي بردة الأسلمي، وكان موادعًا للنبي -عليه السلام-، فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإِسلام، فنزل ذلك فيهم". وروى عكرمة عن ابن عباس: "أنها نزلت في المشركين" فلم يذكر مثل قصة العرنيين. وروي عن ابن عمر: "أنها نزلت في العرنيين" ولم يذكر ردةً. وقال الحسن البصري: "نزلت في الكفار دون المسلمين؛ وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله". قال الخطابي: وقال أكثر العلماء: إنها نزلت في أهل الإِسلام، والدليل على ذلك {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬2) والإِسلام عن الكفر يحقن الدم قبل القدرة وبعدها، فَعُلِمَ أن المراد بها المسلمون. فأما قوله سبحانه وتعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) فمعناه: يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله، وأضيف ذلك إلى الله وإلى رسوله كما في قوله -عليه السلام-: "من آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [33]. (¬2) سورة المائدة، آية: [34].

وقال ابن العربي في "الأحكام": في سبب نزولها خمسة أقوال: الأول: أنها نزلت في أهل الكتاب؛ نقضوا العهد، وأخافوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله نبيه -عليه السلام- فيهم. الثاني: أنها نزلت في المشركين. قاله الحسن. الثالث: نزلت في عُكْل وعُرينة. الرابع: أن هذه الآية نزلت معاتبةً للنبي -عليه السلام- في العرنيين. قاله الليث. الخامس: قال الليث: هي ناسخة لما فعل بالعرنيين. واختار الطبري أنها نزلت في يهود، ودخل تحتها كل ذمِّي وملِّي وهذا ما لم يصح، وأنه لم يبلغنا أن أحدًا من اليهود حارب ولا أنه جوزي بهذا الجزاء. ومَن قال أنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عكلًا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا, ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم ولا يلزم صلبهم، ولا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبلها، وقد قيل في الكفار: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1)، وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬2) وكذلك المرتد يقتل بالردة والمحاربة، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل. فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون. وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام": لا يخلو نزول الآية من أن تكون في العرنيين أو الموادعين، فإن كان في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم؛ لأنهم لا حكم للسبب عندنا، وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن يقوم الدليل على الاقتصار على السبب؛ ولأن الآية عامة ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: [38]. (¬2) سورة المائدة، آية: [34].

في سائر من يتناوله الاسم غير مقصورة الحكم على المرتدين، وقد روى همام، عن قتادة، عن ابن سيرين قال: "كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود" فأخبر أنه كان قبل نزول الآية. ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب، وليس فيها ذكر سمل الأعين، ولا يجوز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم، ولا أن يكونوا مرادين بها؛ لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي -عليه السلام- حكمها عليهم، فلما لم يصلبهم النبي -عليه السلام- وسملهم؛ دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتًا حينئذٍ، فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين، وأنه عام في سائر المحاربين. وقال أيضًا: لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مقصور على أهل الردة، وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة. وحكى عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين، وهو قول ساقط مرذول مخالف للآية وإجماع الخلف والسلف. ويدل على أن المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬1) الآية. الثاني: فيه حكم المحاربين، فإذا حارب الرجل الرجل فَقَتَل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف، وقُتلَ وصلب، فإن قَتَلَ ولم يأخذ المال قُتل، وإن أخذ المال ولم يَقْتُل قُطِعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يَقْتُل ولم يأخذ المال نُفي. وروي عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم "في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل: فإن الإِمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف، وقتله وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله، وإن شاء قتله ولم يقطع يده ولا رجله ولم يصلبه. وإن أخذ مالًا ولم يقتل عُزر ونُفي من الأرض". ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [34].

وفي رواية أخرى: "أوجع عقوبة، وحبس حتى يحدث خيرًا". وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني، فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب. وقال آخرون: الإِمام مخير فيهم إذا خرجوا -يجري عليهم أي هذه الأحكام إن شاء- ولم يأخذوا مالًا. وممن قال بذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر -رحمهم الله-: إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا. وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك. وإن قتلوا وأخذوا المال، فإن أبا حنيفة قال: للإمام أربع خيارات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وإن شاء صلبهم، وإن شاء قتلهم وترك القطع. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قَتلوا وأَخذوا المال فإنهم يُصلبون ويُقتلون ولا يُقطعون. وقال الشافعي: إذا قَتلوا وأخَذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا لم يقتلوا وأخذوا المال قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل نفوا، وإذا هربوا طُلبوا حتى يُوجدوا فتُقام عليهم الحدود، ومن تاب من قبل أن يقدروا عليه سقط عنه الحد، ولا تسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، ويقطع من سرق ربع دينار فصاعدًا. وقال مالك: إذا أُخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإِمام يخير في إقامة الحدود التي أمر الله بها قَتَل المحارب أو لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذ، الإِمام يخير في

ذلك، إن شاء قتل، وإن شاء قطعه خلافًا، وإن شاء نفاه، ونفيه حبسه حتى تظهر توبته، فإن لم يقدر على المحارب حتى أتاه تائبًا وضع عنه المحاربة القتل والقطع والنفي، وأخذ بحقوق الناس. وقال الليث بن سعد: الذي يَقتل ويَأخذ المال، يُصلب ويُطعن بالحربة حتى يموت، والذي يَقتل، فإنه يُقتل بالسيف. وقال أبو الزناد: المحاربون ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب، مِنْ قَطْعٍ أو قتل أو صَلْبٍ أو نَفْي. واختلفوا في الموضع الذي يكون به محاربًا. فقال أبو حنيفة: من قطع الطريق في العصر ليلًا أو نهارًا، أو بين الحيرة والكوفة ليلًا أو نهارًا؛ لا يكون قاطعًا للطريق، ولا يكون قاطعًا للطريق إلا في الصحاري. وحكى أصحاب الإِمام عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء، وهم محاربون، يُقام حدهم. وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين (يَكْبسون) (¬1) الناس ليلًا في دورهم في العصر: أنهم بمنزلة قطع الطريق، تجري عليهم أحكامهم. وحكي عن مالك أنه قال: لا يكون محاربًا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية. وذُكر عنه أيضًا قال: المحاربة: أن يقاتل على طلب المال من غير ثائرة. ولم يفرق هَاهنا بين المصر وغيره. وقال الشافعي: قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال، والصحاري والمصر واحد. وقال الثوري: لا يكون محاربًا بالكوفة حتى يكون خارجًا منها. ¬

_ (¬1) التكبس: الاقتحام على الشيء، وقد تَكَبَّسوا عليه، ويقال: كبسوا عليه. انظر "لسان العرب" (مادة: كبس).

الثالث: أن إبل الصدقة يجوز لأبناء السبيل شرب لبنها؛ وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة روي ذلك في حديث حماد، عن حميد وقتادة وثابت، عن أنس، فذكر القصة قال: "فبعثهم رسول الله -عليه السلام- في إبل الصدقة". قوله: "فلما حل له" أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من سفك دمائهم، أي دماء العرنيين. حاصله أنه -عليه السلام- لما أبيح له سفك دماء هؤلاء؛ مجازاة لما فعلوا, أبيح له أن يقتلهم كيف أحب، وإن كانت فيه مثلة؛ لأن المثلة حينئذٍ ما كانت حرامًا، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها -عليه السلام- فلم يجز بعد ذلك فعلها. ثم إن فعله -عليه السلام- باليهودي المذكور في حديث أنس يحتمل أن يكون من هذا القبيل، ثم نسخ بنسخ المثلة، وذكر فيه أربع احتمالات: الأول: هذا. والثاني: يحتمل أن يكون ما وجب على اليهودي حقًّا لأولياء الجارية التي قتلها اليهودي، فقتله لأجلهم لا لله تعالى حقًّا له. والثالث: يحتمل أن يكون فعل؛ به ما فعل، لكونه هو الواجب عليه. والرابع: يحتمل أن يكون الواجب عليه سفك دمه بأي شيء اختاره الولي، فلما اختار أولياؤه الرضخ أمر بأن يرضخ به. فإذا كان الحديث المذكور محتملًا هذه الاحتمالات، ولم يقم دليل قاطع أن النبي -عليه السلام- أراد بعضها دون بعض، لم يقم به الاستدل الذي تعيين وجه من الوجوه. والله أعلم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه قتل ذلك اليهودي بخلاف ما كان قتل به الجارية. حدثنا إبراهيم بن أبي داود وأحمد بن داود، قالا: ثنا أبو يعلى محمَّد بن الصلت، قال: ثنا أبو صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان -قال ابن أبي داود: وكان ثقة ووفع به- عن ابن جريج، عن معمر، عن أيوب، عن

أبي قلابة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن رجلًا من اليهود رضخ رأس جارية على حلي لها؛ فأمر به النبي -عليه السلام- أن يُرجم حتى قتل". ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- كان قتل اليهودي رجمًا، بقتله الجارية على ما ذكرنا في هذا الأثر وفيما تقدمه من الآثار، وهو رضخه رأسها، والرجم قد يصيب الرأس وغير الرأس، فقد قتله بغير ما كان قتل به الجارية، فدل ذلك أن ما كان فعل، هذا كان حلالًا يومئذٍ، ثم نسخ بنسخ المثلة. ش: ذكر هذا شاهدًا لما ذكره من أن ما فعل النبي -عليه السلام- بذلك اليهودي ما فعل، كان كفعله بالعرنيين حين كانت المثلة مباحة، ثم نسخ ذلك بانتساخ المثلة. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم البرلسي وأحمد بن داود المكي، كلاهما عن محمَّد بن الصلت البصري شيخ البخاري، عن أبي صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة القرشي الأموي الدمشقي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن معمر بن راشد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أنس. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: "أن يهوديًّا قتل جاريةً من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فَأُخذ فأتي به النبي -عليه السلام-، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات". ص: فمما روي عن رسول الله -عليه السلام- في نسخ المثلة: ما قد حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المجثمة -والمجثمة: الشاة ترمى بالنبل حتى تُقتل". ش: إسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 180 رقم 4528).

وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري. وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، قال: أنا قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الشرب من فيّ السقاء، وعن ركوب الجلالة، والمجثمة". قال أبو داود: الجلالة: التي تأكل العذرة. وأخرجه الترمذي (¬2): عن ابن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه. وعن ابن بشار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، جميعًا عن قتادة، عن عكرمة، نحوه. وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام، عن قتادة، عن عكرمة نحوه. قوله: "المُجَثَّمة" بضم الميم، وفتح الجيم، والثاء المثلثة المشددة المفتوحة: وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل، إلا أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يَجْثِمُ بالأرض، أي يلزمها ويلتصق بها، وجَثَمَ الطائر جُثَومًا، وهو بمنزلة البروك للإبل. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر (ح). وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني قالا: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 336 رقم 3719). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 270 رقم 1825). (¬3) "المجتبى" (7/ 240 رقم 4448).

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول وسماك، عن عكرمة -قال أحدهما عن ابن عباس- عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدثني أبي، قال: ثنا شعبة، عن عدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني -بضم الغين المعجمة- عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن سويد، عن ابن المبارك، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن وكيع وابن جعفر، كلاهما عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1549 رقم 1957). (¬2) "المجتبى" (3/ 72 رقم 4532). (¬3) "مسند أحمد" (1/ 345 رقم 3215).

الرابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن عاصم الأحول وسماك بن حرب، كلاهما عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا الفضل [ثنا سفيان] (¬3) نا سماك، عن عكرمة، قال: "مرَّ ابن عباس على أناس قد وضعوا حمامةً يرمونها، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- أن تتخذ الروح غرضًا". قلت: "الغرض" بفتح الغين المعجمة والراء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الهدف. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، أو مجاهد، قال: "مَرَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - بدجاجة قد نصبت ترمى، فقال ابن عمر: "سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى أن يُمَثَّل بالبهائم". ش: إسناده صحيح. وعمر بن حفص النخعي الكوفي، شيخ الشيخين. وأبوه حفص بن غياث بن طلق النخعي، قاضي الكوفة، وأحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 454 رقم 8427). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 273 رقم 2474). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

والأعمش: هو سليمان. وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن شعبة، عن المنهال ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لعن الله مَن مثل بالحيوان". قوله: "أن يمثل بالبهائم" أي أن تنصب فترمى، أو تقطع أطرافها وهي حيّة. ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي -وهو ابن وهب- قال: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة، أن بُكير بن عبد الله حدثهما، عن أبيه، عن ابن تعلى أنه قال: "غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - رضي الله عنهما - فأتي بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم عبد الرحمن فقتلوا صبرًا بالنبل، فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهي عن قتل الصبر، والذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها، فبلغ ذلك عبد الرحمن؛ فأعتق أربع رقاب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا أبو إسحاق، عن بُكير. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشجع، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب الأنصاري: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن صبر الدابة، قال أبو أيوب: ولو كانت دجاجة ما صبرتها". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أحمد بن عبد الرحمن، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 238 رقم 4442).

عبد الله، عن عُبيد بن تعلى -بالتاء المثناة من فوق- الطائي الفلسطيني، وثقه النسائي وابن حبان. وابن لهيعة لا يضر صحة الإسناد؛ لأنه ذكر متابعةً. وأبو أيوب الأنصاري: اسمه خالد بن زيد. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن ابن تعلى، قال: "غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأتي بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبرًا -قال أبو داود: قال لنا غير سعيد، عن ابن وهب في هذا الحديث، قال: بالنبل صبرًا- فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري، فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن قتل الصبر، فوالذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها فبلغ ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأعتق أربع رقاب". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمَّد بن إسحاق، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى. وأخرجه الطبراني (¬2) مختصرًا: ثنا داود بن محمَّد بن صالح المروزي، ثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، ثنا محمد بن إسحاق، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب، قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن صبر البهيمة". الثالث: عن أبي بكرة بكّار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله المدني، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن بُكير. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 67 رقم 2687). (¬2) "المعجم الطبراني الكبير" (4/ 159 رقم 4003).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا أبو عاصم، ثنا عبد الحميد بن جعفر، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن بكير، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن صبر الدابة. قال أبو أيوب: لو كانت لي دجاجة ما صبرتها". قوله: "أعلاج" جمع عِلْج وهو الرجل الكافر من العجم، ويجمع على عُلوج أيضًا. قوله: "صبرًا بالنبل" الصبر هو أن يُمسك من ذوات الروح شيء حيًّا، ثم يُرمى بشيء حتى يموت. و"النبل": السهام العربية، ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة، ولا يقال: نبلة. وقد جمعوها على نبال، قال الهروي: إذا أرادوا الواحد قالوا: نشابة وسهم. قوله: "لو كانت دجاجة" فيها ثلاث لغات: فتح الدال وضمها وكسرها، ويقال: فتح الدال يتناول الديوك، فإذا قيل: دَجاج يتناول الديوك وغيرها، وإذا قالوا: دِجاج -بكسر الدال- لا يتناول إلا الإناث خاصةً، وقال الأصمعي: اللغة الفصيحة عند العرب: الدَّجاجة والدَّجاج بالفتح، وقد كسرها يونس. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال: "كان النبي -عليه السلام- يخطبنا فيأمرنا بالصدقة، وينهانا عن المثلة". ش: إسناده صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا أبو كامل، ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال: "ما خطبنا رسول الله -عليه السلام- إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 422 رقم 23637). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 429 رقم 19871).

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا الحسن، قال: قال سمرة - رضي الله عنه -: "إن رسول الله -عليه السلام- قل ما قام فينا يخطب إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن حميد، عن الحسن، قال: سمرة بن جندب قال: "قَلَّ ما خطبنا رسول الله -عليه السلام- خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة، ونهانا عن المثلة". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن أبي بكرة بكار. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، ثنا وكيع، ثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: "كان النبي -عليه السلام- ينهى عن المثلة ويحث على الصدقة". والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن الحسن البصري، قال: ثنا سمرة. وهذا الطريق قد صرح فيه الحسن بالتحديث عنه، وهذا ردّ على من قال: إن سماع الحسن من سمرة غير صحيح. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، قال: هشام بن زيد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن تصبر البهائم". ش: إسناده صحيح، ووهب هو ابن جرير بن حازم. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت هشام بن زيد بن أنس بن مالك، قال: "دخلت مع جدِّي ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 227 رقم 6944). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1549 رقم 1956).

أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، قال: فقال أنس: نهى رسول الله -عليه السلام- أن تصبر البهائم". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا القاسم -يعني بن مالك- عن مسلمة بن نوفل الثقفي، قال: ثنا مغيرة بن صفية، عن المغيرة بن شعبة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المثلة". ش: إسناده حسن جيد. ويوسف بن عدي شيخ البخاري، والقاسم بن مالك المزني الكوفي، روى له الجماعة سوى أبي داود. ومسلمة بن نوفل الثقفي الكوفي حفيد عروة بن المغيرة بن شعبة، وثقه ابن معين وابن حبان. والمغيرة بن صفية هو ابن بنت المغيرة بن شعبة، وثقه ابن حبان. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا مسلمة بن نوفل، عن المغيرة بن بنت المغيرة، قال: "مَرَّ المغيرة بن شعبة بالحيرة، فإذا قوم نصبوا ثعلبًا يرمونه غرضًا، فوقف عليهم فقال: إني سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن المثلة". ص: حدثنا ابن أبي عمران وابن أبي داود، قالا: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن مغيرة، عن شِبَاك، عن إبراهيم، عن هُنَيّ بن نُويرة، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- قال: "أحسن الناس قتلة: أهل الإيمان". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم -ولم يذكر شيئًا عن هُنيّ- عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 381 رقم 894).

ش: هذان طريقان: الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عثمان بن أبي شيبة شيخ الشيخين، عن غندر -هو محمَّد بن جعفر البصري- روى له الجماعة عن شعبة بن الحجاج. عن مغيرة بن مقسم الضبي. عن شِبَاك -بكسر الشين المعجمة، وبالباء الموحدة المخففة، وبعد الألف كاف- هو الضبي الكوفي الأعمى. عن إبراهيم النخعي. عن هُنَيّ -بضم الهاء، وفتح النون- بن نُوَيْرَة -بضم النون، وفتح الواو، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الراء- الضبي الكوفي، قال أبو داود: كان من العباد. عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمَّد بن عيسى وزياد بن أيوب، قالا: ثنا هشيم، قال: أنا المغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، عن هُنَي بن نُويرة، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أعف الناس قتلةً: أهل الإيمان". فإن قيل: ما حال إسناد هذا الحديث؟ قلت: جيد حسن، ورجاله ثقات. فإن قيل: ابن حزم أخرجه في "المحلى" (¬2) من طريق أبي داود، ثم قال: وهذا وإن لم يصح -لأن فيه هني بن نويرة، وهو مجهول- فمعناه صحيح؛ لأن أعف قتلة من قتل كما أمر الله -عز وجل- فاعتدى بمثل ما اعتدى المقتص منه على وليه ظلمًا، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 59 رقم 2666). (¬2) "المحلى" (10/ 377).

وما عف قط في قلته مَنْ ضرب عنق مَن لم يضرب عنق وليه، بَلْ هو متعدٍ ظالم، فاعل ما لم يبحه الله له قط. قلت: هُني ليس بمجهول، بل هو مشهور، قتله شبيب الجارحي فأرسل إلى أهله بالدية، فأبوا أن يقبلوها. قال أبو داود: كوفي كان من العباد، وذكره ابن حبان في "الثقات". وأما نفيه كلامه فيرده قوله -عليه السلام-: "لا قود إلا بالسيف" (¬1). قوله: "قِتلة" بكسر القاف: الحالة من القتل؛ لأن الفِعلة -بالكسر- للحالة، وبالفتح للمَرَّة. الطريق الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن هُني، عن علقمة، عن عبد الله. ولم يذكر إبراهيم في روايته هذه: "شباك". وأخرجه ابن ماجه (¬2) ولكن نحو الرواية الأولى. ص: فثبت بهذه الآثار نسخ المثلة بعد أن كانت مباحة، على ما روينا في حديث العرنيين. ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن ابن عباس وابن عمر وأبي أيوب الأنصاري وعمران بن الحصين وسمرة بن جندب وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. ص: فإن قال قائل: لم يدخل ما اختلفنا نحن وأنتم فيه من القصاص في هذا؛ لأن الله -عز وجل- قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬3). ¬

_ (¬1) الحديث له طرق كثيرة كلها لا تخلو من ضعيف أو متروك، وضعفه الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"، وقال أبو حاتم الرازي: "هذا حديث منكر"، وانظر "تلخيص الحبير" (4/ 19). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 895 رقم 2682). (¬3) سورة النحل، آية: [126].

قيل له: ليست هذه الآية يراد بها هذا المعنى، إنما أريد بها ما قد روي عن النبي -عليه السلام- مما رواه ابن عباس وأبو هريرة - رضي الله عنهم -: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: "لما قُتل حمزة - رضي الله عنه - ومُثِّل به، قال رسول الله -عليه السلام-: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلًا منهم، فأنزل الله -عز وجل- قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬1)، فقال رسول الله -عليه السلام-: بل نصبر". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال (ح). وحدثنا الحسين بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل قالا: ثنا صالح المري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف على حمزة حين استشهد، فنظر إلى أمر لم ينظر إلى أمرٍ قط أوجع لقلبه منه، فقال: يرحمك الله، إن كنت لوصولًا للرحم، فعولًا للخيرات، ولولا حزن مَن بعدك لسرني أن أدعك حتى تُحشر من أفواج شتى، وايم الله، لأمثلن بسبعين منهم، فنزل جبريل -عليه السلام- والنبي -عليه السلام- واقف بعد بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1) إلى أخر السورة، فصبر رسول الله -عليه السلام- وكفَّر يمينه". فإنما نزلت هذه الآية في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكرت. ش: تقرير السؤال أن يقال: من جهة أهل المقالة الأولى فيه من كيفية القصاص غير داخل فيما ذكرتم من الآثار؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1)، ففي هذه الآية جواز التماثل في القصاص، فمن قَتَل بحديدة قُتِل بها، ومن قتل بحجر قتل به قتل بما قَتَل به. ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [126].

والجواب أن يقال: لم يُرد بهذه الآية ما ذكرتم في هذا المعنى، وإنما أراد بها ما رواه ابن عباس وأبو هريرة - رضي الله عنهم - في قصة حمزة؛ وذلك أنه لما قتل أُخذ ومُثِّل به، فجدعوا أنفه وأذنيه وبقروا بطنه عن كبده. وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر عن كبد حمزة - رضي الله عنه - وحشي فجعلها إلى هند بنت عتبة، فلاكتها فلم تستطع، ووقف عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلًا منهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي رواية أبي هريرة: "حَلَفَ على ذلك، فلما سمع قوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬1)، صبر على ذلك وكَفَّر عن يمينه". فثبت بهذا أن هذه الآية نزلت في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكره هؤلاء المعترضون. فإن قيل: أنتم تقولون: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ونزول الآية على سبب لا يمنع استعمالها في جميع ما يشمله الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها. قلت: نعم، العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا إذا منع مانع، وهَاهنا مانع وهو أنه لا يمكن للمعاقب القاتل إذا قتل مثلًا برضخ رأس المقتول بحجر أو نصبه غرضًا وقتله برمية؛ لأنا لا نحيط علمًا بمقدار الضرب وعدده وألمه، فلم تحصل المماثلة، ولكن يمكننا المعاقبة بمثله في باب إتلاف نفسه قتلًا بالسيف فوجب استعمال حكم هذه الآية فيه من هذا الوجه دون الوجه الأول. فإن قيل: قد ذكر بعضهم أن هذه الآية مكيّة، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟! قلت: إن صح أنها مكيّة فالجواب عن ذلك ما ذكرنا، وهو عدم إمكان المعاقبة بالمثل فيما نحن فيه، وأما في غير ذلك من المواضع التي يمكن فيها المعاقبة بالمثل، ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [126].

يعاقب بالمثل، كما إذا استهلك لرجل مالًا فعليه مثله، وإذا غصبه ساحةً فأدخلها في بنائه، أو غصبه حنطةً قضينا أن عليه المثل؛ لأن المثل في الحنطة بمقدار كيلها من جنسها، وفي الساحة قيمتها، وقد ذكرنا فيما مضى أن القيمة تطلق عليه المثل. فافهم؛ فإنه موضع دقيق. أما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بَحَرَة -بالحركات- مولى ابن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الواحدي في كتابه "أسباب النزول" (¬1): أنا أبو حسان المزكي، قال: أنا أبو العباس محمَّد بن إسحاق، قال: ثنا [يحيى] (¬2) بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا قيس بن مالك عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قتل حمزة بن عبد المطلب ومُثل به: "إن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين منهم، فأنزل الله -عز وجل-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬3)، فقال النبي -عليه السلام-: بل نصبر يا رب". وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين: الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن صالح بن بشير المري -بضم الميم، وتشديد الراء المهملة- البصري، عن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي عثمان عبد الرحمن ابن مُلّ النهدي، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "أسباب النزول" (1/ 189). (¬2) "الأصل، ك": "محمَّد"، وهو تحريف، والمثبت من "أسباب النزول"، مصادر ترجمته. (¬3) سورة النحل، آية: [126].

وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" (¬1): أنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، قال: ثنا أبو العباس أحمد بن محمَّد بن عيسى الحافظ، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، قال: ثنا بشر بن الوليد الكندي، قال: ثنا صالح المري، قال: ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: "أشرف النبي -عليه السلام- على عمه حمزة - رضي الله عنه - فرآه صريعًا، فلم ير شيئًا كان أوجع لقلبه منه، قال: والله لأمثلن بك سبعين منهم، فنزلت: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} (¬2)، الآية. الثاني: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، عن الهيثم بن جميل الأنطاكي الحافظ، عن صالح المري. . . . إلى آخره. وأخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق، عن الحجاج، عن صالح المري، عن سليمان التيمي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬3): من طريق إسماعيل بن إسحاق المذكور، ثم قال: هذا لو صح ولو لم يكن من طريق صالح المري ويحيى الحماني وأمثالهما لكان حجة لنا عليهم؛ لأن فيه أنه -عليه السلام- أُمِرَ أن يُعَاقِب بمثل ما عوقب به، وهذا إباحة التمثيل بمن مثَّل بحمزة - رضي الله عنه - فإنما نهاه الله -عز وجل- أن يمثل بسبعين منهم لم يمثلوا بحمزة، وهذا قولنا لا قولهم. قلت: أما صالح المري فإنهم تكلموا فيه بسبب قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وإنما هو في نفسه صدوق، وعن يحيى: صالح المري: ليس به بأس، واحتج به الترمذي. وأما قوله: "لأن فيه أنه -عليه السلام- أمر أن يُعَاقِب. . . . إلى آخره" فغير صحيح؛ لأنه -عليه السلام- لم يأمر فيه بذلك، وإنما حَلَفَ أن يمثلن بسبعين منهم، وذلك من شدة ¬

_ (¬1) "أسباب النزول" (1/ 187). (¬2) سورة النحل، آية: [126]. (¬3) "المحلى" (10/ 377).

حزنه عليه، فلما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} (¬1) الآية صَبَر رسول الله -عليه السلام- وكفَّر عن يمينه. قوله: "إن كنت لوصولًا" كلمة "إنْ" مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه كنت كذا وكذا، واللام في "لوصولًا" للتأكيد، والوصول صيغة المبالغة في الواصل، وكذلك فعول في الفاعل. وقوله: "وايم الله" اسم مختص بالقسم، وليس بحرف خلافًا للزجاج، والمعنى: أحلف بيمين الله، ويقولون فيه: أيم الله وإيم الله بفتح الهمزة وكسرها وأصله أيمن الله، ويقال: مُن الله، ومَن الله، ومِن الله. ويقال أيضًا: مُ الله ومِ الله، والكل قسم كقولك: والله، وبالله، وتالله. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا قود إلا بالسيف. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود إلا بالسيف". فدل هذا الحديث أن القود بكل قتل [ما كان] (¬2) لا يكون إلا بالسيف. ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، ولصحة ما استدلوا به من الآثار المذكورة؛ لأنه -عليه السلام- قال: "لا قود إلا بالسيف" ومعناه: لا قصاص حاصل إلا بالسيف، وقد علم أن النكرة في موضع النفي تعم، ويكون المعنى: لا فرد من أفراد القود إلا وهو يستوفى بالسيف، وفيه النفي والاستثناء، وهو طريق من طرق القصر، وتحقيق القصر فيه: أنه لما قيل: "لا قود" توجه النفي إلى ذات القود فانتفى القود المنكَّر الشامل لكل واحد من أفراد القود، ولما قيل إلا بالسيف جاء القصر، وفيه إثبات ذلك القود المنفي بالسيف، ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [126]. (¬2) تكررت في "الأصل".

وإنما قلنا: توجه النفي إلى ذات القود؛ لأن القود معنى من المعاني، وليس له قيام إلا بالذات، والذات لا يتوجه إليه النفي، ولهذا نقول: المنفي في قولنا: ما زيد قائم هو اتصاف الزيد بالقيام لا ذات الزيد؛ لأن أنفس الذوات أي الأجسام تمتنع بنفسها كما تبين ذلك حيث بيَّن فيها أن أجسام العالم لا تحتمل الزيادة وإلَّا لزم تداخل الأجسام، ولا النقصان وإلا لزم الخلاء، فعلى هذا لا تنتفي الأجسام بمعنى، أنها تنعدم من العين مطلقًا، بل تتبدل عوارضه في غير الكون والفساد وصورها النوعية فيها، وإنما تبقى صفاتها الممكنة الانتفاء لا الممتنعة كالطول والعرض والقصر. فافهم. وقال أبو بكر الرازي: خبر النعمان حوى معنيين: أحدهما: بيان أن مراد الآية في ذكر القصاص والمثل. والآخر: أنه ابتداء عموم يحتج به في نفي القود بغير السيف. ثم هذا الحديث أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن جابر الجُعفي، عن أبي عازب مسلم بن عمرو أو مسلم بن أراك، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا قود إلا بالسيف". وأخرجه أبو داود الطيالسي (¬1): عن قيس، عن جابر الجعفي، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا قود إلا بحديدة". وأخرجه الدارقطني (¬2): نا محمَّد بن سليمان النعماني، نا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، ثنا موسى بن داود، عن مبارك، عن الحسن، قال رسول الله -عليه السلام-: "لا قود إلا بالسيف: قيل للحسن عمن؟ قال سمعت النعمان بن بشير يذكر ذلك. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 108 رقم 802). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 106 رقم 83).

وقيل: عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة مرفوعًا، رواه الوليد بن صالح عنه. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) مرسلًا، نا عيسى بن يونس، عن أشعث وعمرو ابن عبيد، عن الحسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود إلا بالسيف". فإن قلت: قال البيهقي: هذا حديث لم يثبت له إسناد، وجابر الجُعفي مطعون فيه. قلت: الجعفي وإن طعن فيه فقد قال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكوا أن جابرًا ثقة، وقال شعبة: صدوق في الحديث، وقال الثوري لشعبة: لئن تكلمتَ في جابر لتكلمتُ فيك. وقال الذهبي في "الكاشف": إن ابن حبان أخرج له في "صحيحه". وقد تابع الثوري أيضًا قيس بن الربيع كما ذكرنا في رواية الطيالسي. وقال عفان: كان قيس ثقة، فوثقه الثوري وشعبة، وقال أبو داود الطيالسي: هو ثقة حسن الحديث. ثم إنا ولئن سلمنا ما قاله البيهقي، فقد وجدنا شاهدًا لحديث النعمان المذكور. وهو ما رواه ابن ماجه: (¬2) ثنا إبراهيم بن المستمر، ثنا الحر بن مالك العنبري، ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود إلا بالسيف". وسنده جيد. وابن المستمر صدوق. كذا قال النسائي. والحرّ: قال ابن أبي حاتم في كتابه: سألت أبي عنه، فقال: صدوق. والمبارك وإن تكلم فيه فقد أخرج له البخاري في المتابعات في باب قول النبي -عليه السلام-: "يخوف الله عباده بالكسوف". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 432 رقم 27722). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 889 رقم 2668).

وأخرج له ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" ووثقه. وقال عفان: كان ثقة وكان وكان. ووثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى. وكان يحيى القطان يُحسن الثناء عليه. وروي أيضًا نحوه عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن مصفى، ثنا بقية، حدثني سليمان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا قود إلا بالسيف". ثم قال البيهقي: ورواه بقية بن الوليد، عن أبي معاذ وهو سليمان بن أرقم، عن الزهري هكذا. وعن أبي معاذ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا قود إلا بسلاح". ورواه يعلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا قود إلا بحديدة". وروي أيضًا عن أبي سعيد الخدري. أخرجه الدارقطني (¬2): عن عبد الصمد بن علي، عن الفضل بن عباس، عن يحيى بن غيلان، عن عبد الله بن بزيع، عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن جابر، عن أبي عازب، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- قال: "القود بالسيف، والخطأ على العاقلة". وهذا الحديث كما رأيت قد روي عن النعمان بن بشير وأبي بكرة وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم -، ولا شك أن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 63 رقم 15870). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 107 رقم 89).

بعضها يشهد لبعض، وأقل أحواله أن يكون حسنًا، فإذا كان حسنًا صح الاحتجاج به. وهو مذهب النخعي الحسن البصري وعامر الشعبي. ص: وقد جاء عن رسول الله -عليه السلام- ما قد دلّ على ما ذكرنا أيضًا. ثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن ابن أبي أُنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- أتي في جراح، فأمرهم أن يستأنوا بها سنة". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا مهدي بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عنبسة بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ". ولو كان يفعل بالجاني كما فعل هو، كما قال أهل المقالة الأولى لم يكن للاستيناء معنىً؛ لأنه يجب على القاطع قطع يده إن كانت جنايته قطعًا بريء من ذلك المجني عليه أو مات، فلما ثبت الاستيناء لينظر ما تؤول إليه الجناية؛ ثبت بذلك أن ما يجب فيه القصاص هو ما تؤول إليه الجناية لا غير ذلك، فإن طعن طاعن في يحيى بن أبي أنيسة وأنكر علينا الاحتجاج بحديثه، فإن علي بن المديني قد ذكر عن يحيى بن سعيد أنه أحب إليه في حديث الزهري من محمَّد بن إسحاق. ش: أي وقد جاء عن النبي -عليه السلام- أيضًا ما قد دل على ما ذكرنا من أن القصاص لا يكون إلا بالسيف، وهو حديث جابر - رضي الله عنه -، وقد بيَّن به وجه الدلالة بقوله: "ولو كان يفعل بالجاني. . . . إلى آخره". وأخرجه من طريقين بوجهين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سليمان بن حيان -بالحاء المهملة المفتوحة وتشديد الياء آخر الحروف- أبى

خالد الأحمر الكوفي، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا أحمد بن عيسى الخواص، ثنا أحمد بن الهيثم بن خالد, ثنا هانئ بن يحيى، ثنا يزيد بن عياض، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يستأنى بالجراحات سنة". الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن مهدي بن جعفر الرملي الزاهد، عن عبد الله بن المبارك، عن عنبسة بن سعيد بن ضُرَيْس الأسدي الكوفي قاضي الري، عن عامر الشعبي، عن جابر. وهذا إسناد جيد ورجاله ثقات. وأخرجه البزار في "مسنده" وقال: سمعت رجلًا من أصحاب الحديث يقول: ثنا عبد الله بن سنان، ثنا ابن المبارك، نا عنبسة، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يستقاد من جرح حتى يبرأ". فإن قلت: قال ابن حزم: حديث أسد بن موسى حديث ساقط موضوع؛ لأن أسد بن موسى ضعيف، ويحيى بن أبي أنيسة كذاب. وحديث الشعبي باطل؛ لأن عنبسة هذا مجهول وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاص؛ لأن ابن المبارك لم يدركه. قلت: كلام ابن حزم ساقط لا يساوي شيئًا في هذا المقام، فإن أسد بن موسى هو الذي يقال له: أسد السنة، قال البخاري: صالح مشهور الحديث، يقال له: أسد السنة. وقال النسائي: ثقة. واحتج به أبو داود والنسائي. وأما يحيى بن أبي أنيسة الجزري أخو زيد بن أبي أنيسة، قال الطحاوي لأجل هذا الطعن: قد نقل عن علي بن المديني الإِمام المبرز وشيخ البخاري، أنه قد ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 90 رقم 32).

ذكر عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: يحيى بن أبي أنيسة أحب إليّ في حديث الزهري من محمَّد بن إسحاق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: ثنا علي بن المديني، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: يحيى بن أبي أنيسة أحب إليّ من هؤلاء الذين يذكرون -يعني حجاج بن أرطاة وأشعث بن سوار ومحمد بن إسحاق. ولئن سلمنا أن يحيى بن أبي أنيسة كذاب على ما قاله ابن حزم، ولكن تابعه في هذا الحديث يزيد بن عياض عن أبي الزبير كما ذكرنا في رواية الدارقطني. فإن قلت: قال الدارقطني: يزيد بن عياض ضعيف متروك. قلت: ولئن كان ضعيفًا فإنه يحصل به اعتضاد للحديث ويخرج به عن الخروج عن حد المقبول. وأما قوله: "عنبسة مجهول" فليس بصحيح، وإنما هو عنبسة بن سعيد بن ضريس الأسدي، وهو ثقة مشهور، روى عنه عبد الله بن المبارك ووثقه يحيى وأبو زرعة وأبو داود، وقد وهم فيه ابن حزم حيث قال: وليس هو عنبسة ابن سعيد بن العاص فكأنه اعتقد أنهم قالوا: عنبسة هذا هو عنبسة بن سعيد بن العاص فرد عليهم بقوله: لأن ابن المبارك لم يدركه. وليس كذلك، بل هو عنبسة بن سعيد بن الضريس كما ذكرنا، فعاد الحديث صحيحًا لما ذكرنا. ومما يشد هذا الحديث ما رواه الدارقطني في "سننه" (¬1): نا محمَّد بن مخلد، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا يعقوب بن حميد، نا عبد الله بن عبد الله الأموي، عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ويعقوب بن عطاء، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رجلًا جُرح، فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله -عليه السلام- أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 88 رقم 25).

وقال أيضًا (¬1): ثنا محمَّد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمَّد بن عبدوس بن كامل، ثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: ثنا ابن عليه، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر: "أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فأتى النبي -عليه السلام- يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل فاستقاد، قال: فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي -عليه السلام- فقال له: ليس لك شيء، إنك أبيت". فإن قلت: قال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره عن ابن علية، عن أيوب، عن عمرو مرسلًا. وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار، عنه وهو المحفوظ: مرسلًا. قلت: ابنا أبي شيبة إمامان حافظان، وقد زادا الرفع فوجب قبوله على ما عرف، قال عمرو بن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وكذا قال أبو زرعة، وقال ابن معين: ابنا أبي شيبة ليس فيهما شك، ولهذا صحح ابن حزم هذا الحديث من هذا الوجه، ولئن سلمنا أن هذا الحديث مرسل؛ فقد روي مرسلًا ومسندًا من وجوه: قال الحازمي: قد روي هذا الحديث عن جابر من غير وجه، وإذا اجتمعت هذه الطرق قوي الاحتجاج بها. قوله: "أتي في جراح" أي بسبب جراح، وكلمة "في" للتعليل كما في قوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (¬2) وفي الحديث: "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها" (¬3). قوله: "أن يستأنوا" أي أن ينتظروا، يقال: استأنيت بكم أي انتظرت وتربصت، يقال: أَنَيْت وأنَّيْت تَأَنَّيْت، واستأنيت، وثلاثيه: أناه، يؤنيه إيناء أي آخره وحبسه وأبطأه، والاسم منه الأناة، بالفتح. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 89 رقم 27). (¬2) سورة يوسف، آية: [32]. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري (3/ 1205 رقم 3140)، ومسلم (4/ 2110 رقم 2619). ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، البخاري (3/ 1205 رقم 3140)، ومسلم (4/ 2021 رقم 2242).

ويستفاد منه: أنه لا يقتص من جرح ولا يودَى حتى يبرأ، وفي "الاستذكار": أكثر أهل العلم -مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وسائر الكوفيين والمدنيين- على أنه لا يقتص من جرح ولا يودَى حتى يبرأ. ص: وقد حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن الله -عز وجل- كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". فأمر النبي -عليه السلام- بأن يحسنوا القتلة، وأن يريحوا ما أحل الله لهم ذبحه من الأنعام، فما أحل لهم قتله من بني آدم فهو أحرى ألا يفعل به ذلك. ش: ذكر هذا الحديث أيضًا شاهدًا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، من أن القصاص لا يستوفى إلا بالسيف، ولا يفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول، ودلالته على ذلك ظاهرة؛ وذلك لأنه -عليه السلام- أمر أمته بأن يُحسنوا القِتلة والذبح، فإذا كانوا مندوبين بإحسان الذبح فيما يحل من الأنعام؛ ففي إحسان القِتلة فيمن يحل قتله من بني آدم بالطريق الأولى. وإسناد الحديث المذكور صحيح. أخرجه عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني من صنعاء دمشق. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الوهاب الثقفي. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1548 رقم 1955).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث. وأخرجه الترمذي (¬2): عن أحمد بن منيع، عن هشيم، بمعناه. وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): عن علي بن حجر [حدثنا إسماعيل] (¬4) عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد، به. وابن ماجه (¬5): عن ابن مثنى، عن عبد الوهاب، عن خالد. . . . نحوه. ص: فإن قال قائل: لا يُستأنى بُرء الجرح، وخالف ما ذكرنا في ذلك من الآثار؛ فكفى به جهلًا في خلافه كل من تقدمه من العلماء، وعلى ذلك فإنا نُفسد قوله من طريق النظر؛ وذلك أنا لو رأينا رجلًا قطع يد رجل خطأ فبرأ منها وجبت عليه دية اليد، ولو مات منها وجبت عليه دية النفس ولم يجب عليه في اليد شيء، ودخل ما كان يجب في اليد فيما وجب في النفس، فصار الجاني كمن قتل وليس كمن قطع، وصارت اليد لا يجب لها حكم إلا والنفس قائمة، ولا يجب لها حكم إذا كانت النفس تالفة، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك إذا قطع يده عمدًا، فإن برأ فالحكم لليد وفيها القود، وإن مات منها فالحكم للنفس، وفيها القصاص لا في اليد، قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من حكم الخطأ. ويدخل أيضًا على مَن يقول أن الجاني يُقتل كما قَتَلَ أن يقول: إذا رماه بسهم فقتله أن ينصب الرامي فيرميه حتى يقتله، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن صبر ذي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 109 رقم 2815). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 23 رقم 1409). (¬3) "المجتبى" (7/ 227 رقم 4405). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى". (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 1058 رقم 3170).

الروح، فلا ينبغي أن يُصبر أحدٌ؛ لنهي رسول الله -عليه السلام-، ولكن يُقْتل قتلًا لا يكون معه شيء من النهي. ألا ترى أن رجلًا لو نكح رجلًا فقتله بذلك، أنه لا يجب للولي أن يفعل بالقاتل كما فعل، ولكن يجب له أن يقتله لأن نكاحه إياه حرام عليه، فكذلك صبره إياه فيما وصفنا حرامٌ عليه، ولكن له قتله كما يقتل مَن حل دمه بردة أو بغيرها. هذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- غير أن أبا حنيفة لا يوجب القود على من قَتل بحجر، وسنبيِّن قوله هذا والحجة له في باب شبه العمد إن شاء الله تعالى. ش: أي فإن قال قائل من أهل المقالة الأولى: لا ينتظر برء الجرح، وخالف فيما ذهب إليه من ذلك الأحاديث المذكورة، فكفى به جهلًا في ذلك، حيث خالف كل مَن تقدمه من العلماء على ذلك. قوله: "وعلى ذلك" أي وعلى خلاف هذا القائل نُفسد قوله من طريق النظر والقياس، والحاصل أن هذا القائل إذا ذهب إلى ما قاله من القول المذكور، فقد خالف فيه العلماء من الكوفيين والمدنيين، وأتى بقول يُبطله ويُفسده عليه النظر الصحيح، ثم بيَّن ذلك بقوله: "وذلك أنا لو رأينا. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر. قوله: "ويدخل أيضًا. . . . إلى آخره" إشارة إلى بيان فساد يلزم مَنْ يقول: إن الجاني يُقتل كما قتل. واعترض ابن حزم (¬1) في قوله: "إذا رماه بسهم. . . . إلى آخره"، فقال: يطعن بسهم مثله في الموضع الذي صادفه فيه سهمه ظلما حتى يموت، وكذلك يجاف بجائفة (¬2) يوقن أنه يموت منها. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 378). (¬2) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف، وطعنة جائفة: تخالط الجوف، وقيل: هي التي تنفذه، وجافه بها وأجافه بها: أصابه جوفه. انظر "لسان العرب" (مادة: جوف).

قلت: لم يرد ابن حزم بهذا الكلام إلا نزاعًا، فإنه إذا لم يمت بذلك الطعن أفيطعن ثانيًا وثالثًا إلى أن يموت؟ فهذا على عدم المماثلة، وكذلك الكلام فيما إذا أجاف جائفة. وقال ابن حزم: نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم: إن ضرب بالسيف عنقه فلم يقطع أو قطع قليلًا وأعيد عليه مرارًا، وهذا أشد مما قلتم. قلت: هذا أمر نادر، والنادر لا حكم له؛ لأن الغالب أن السيف لا يلبث، فافهم. واعترض أيضًا على قوله: ألا ترى أنه لو نكح رجلًا. . . . إلى آخره. وقال: يستدبر القاتل بوتد حتى يموت؛ لأن المثل محرم عليه. قلت: لا مماثلة هَاهنا أصلًا، وهو معلوم بالحس، ولأن فيه زيادة تعذيب فوق القتل بالسيف، وهو لا يجب عليه إلا إزهاق روحه فقط دون تعذيبه، والسيف فيه الكفاية. والله أعلم.

ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو؟

ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم شبه العمد الذي لا يجب فيه القصاص، ما هو؟ ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن، عن عقبة بن أوس السدوسي، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-: "أن رسول الله -عليه السلام- خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته: أما إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر، فيه دية مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون خَلِفة، في بطونها أولادها". ش: إسناده صحيح. ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم والبخاري. والقاسم بن ربيعة بن جوشن -بالنون في آخره- الغطفاني الجوشني، وثقه ابن المديني. وعقبة بن أوس -ويقال: يعقوب بن أو- السدوسي البصري، قال العجلي: بصري ثقة تابعي. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا العباس بن يزيد البحراني، ثنا يزيد بن زريع وبشر بن المفضل، قالا: ثنا خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس -قال بشر: وهو الذي كان يقول محمَّد بن عقبة بن أوس- عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-: "أن رسول الله -عليه السلام- لما دخل مكة عام الفتح قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة تعد وتدعى ودم ومال تحت قدمي هاتين، غير سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وإن في قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 103 رقم 76).

وهذا الحديث اختلفت الرواية فيه، وساقه البخاري في "التاريخ الكبير" (¬1) وكذا الدارقطني في "سننه" وقال بعد أن أخرجه بالطريق المذكور: ثنا (¬2) الحسين بن إسماعيل، ثنا العباس بن يزيد، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام-، مثله في أسنان الإبل ولم يذكر غير ذلك، كذا رواه أيوب، عن القاسم بن ربيعة لم يذكر يعقوب بن أوس، وأسنده عن عبد الله بن عمرو. ورواه علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر ابن الخطاب. كذلك رواه عنه ابن عيينة ومعمر، وخالفهما حماد بن سلمة فرواه عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام-. لم يذكر القاسم بن ربيعة، وأسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. ورواه حميد الطويل، عن القاسم بن ربيعة، عن النبي -عليه السلام- قاله حماد بن سلمة عنه. حدثنا (¬3) عثمان بن أحمد الدقاق: ثنا حنبل بن إسحاق، ثنا أبو سلمة، ثنا وهيب، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي -عليه السلام- لما فتح مكة قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت تُعدّ أو تدعى تحت قدمي هاتين إلا السدانة والسقاية، ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد -قتيل السوط والعصا- دية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يعني مائة من الإبل". حدثنا (¬4) أحمد بن عيسى بن السكين، ثنا إسحاق بن زريق، ثنا إبراهيم بن ¬

_ (¬1) "التاريخ الكبير" (6/ 434). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 104 رقم 77). (¬3) "سنن الدارقطني" (3/ 104 رقم 78). (¬4) "سنن الدارقطني" (3/ 105 رقم 79).

خالد، ثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "لما قدم النبي -عليه السلام- مكة. . . . فذكر نحوه. قال ابن سكين: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا. . . ." نحوه. حدثنا (¬1) أبو حامد محمَّد بن هارون، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا سفيان بن عُيينة، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "قام النبي -عليه السلام- على درج الكعبة يوم الفتح فقال: الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ -بالسوط أو العصا- مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة في الجاهلية -دم ومال- تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت أو سقاية الحاج، فإني أمضيتها لأهلها كما كانت". حدثنا (¬2) محمَّد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ابنا عبد الرزاق، عن معمر، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن ابن عمر قال: "سمعت النبي -عليه السلام- يقول على درج الكعبة .. ثم ذكر نحوه". وأخرجه أبو داود (¬3): نا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: ثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله -عليه السلام-قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثًا ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده -إلى هاهنا حفظته من مسدد، ثم اتفقا- فقال: ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميّ، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، ثم قال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد -ما كان بالسوط والعصا- مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" حديث مسدد أتم. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 105 رقم 80). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 105 رقم 81). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 593 رقم 4547).

قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. ورواه أيوب عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، مثل حديث خالد. ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام-. وهو قول زيد وأبي موسى وعمر مثل حديث النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن بشار، ثنا عبد الرحمن، نا شعبة، عن أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- قال: "قتيل الخطأ شبه العمد -بالسوط أو العصا- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها". أخبرني (¬2) محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، نا يونس، نا حماد، عن أيوب، عن القاسم بن ربيعة: "أن رسول الله -عليه السلام- خطب يوم الفتح. ." مرسل. أخبرني (¬3) يحيى بن حبيب بن عربي، ثنا حماد، عن خالد -يعني الحذاء- عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد -ما كان بالسوط والعصا- مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها". ثنا (¬4) محمد بن كامل، ثنا هشيم، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "خطب النبي -عليه السلام- يوم فتح مكة فقال: ألا وإن قتيل الخطأ العمد -بالسوط والعصا والحجر- مائة من الإبل منها أربعون ثنية إلى بازل عامها، كلهن خَلِفَة". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 40 رقم 4791). (¬2) "المجتبى" (8/ 40 رقم 4792). (¬3) "المجتبى" (8/ 41 رقم 4793). (¬4) "المجتبى" (8/ 41 رقم 4794).

أنا (¬1) محمَّد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة ابن أوس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ألا إن قتيل الخطأ -قتيل السوط والعصا- فيه مائة من الإبل مغلظة، أربعون منها في بطونها أولادها". أنا (¬2) إسماعيل بن مسعود، نا بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-: "أن رسول الله -عليه السلام- لما دخل مكة يوم الفتح قال: ألا وإن كل قتيل خطأ العمد -أو شبه العمد قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها". أخبرنا (¬3) محمَّد بن عبد الله بن بزيع، ثنا يزيد، نا خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، أن رجلًا من أصحاب النبي -عليه السلام- حدثه: "أن رسول الله -عليه السلام- لما قدم مكة عام الفتح قال: ألا وإن قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها". أنا (¬4) محمَّد بن عبد الله بن بزيع، ثنا يزيد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس أن رجلًا من أصحاب النبي -عليه السلام- حدثه: "أن النبي -عليه السلام- دخل مكة عام الفتح قال: ألا إن قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها". أنا (¬5) محمَّد بن منصور، ثنا سفيان، ثنا ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "قام رسول الله -عليه السلام- يوم فتح مكة على درجة الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ -بالسوط والعصا شبه العمد- فيه مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 41 رقم 4795). (¬2) "المجتبى" (8/ 41 رقم 4796). (¬3) "المجتبى" (8/ 42 رقم 4797). (¬4) "المجتبى" (8/ 42 رقم 4798). (¬5) "المجتبى" (8/ 42 رقم 4799).

ثنا (¬1) محمَّد بن المثنى، ثنا سهل بن يوسف، ثنا حميد، عن القاسم بن ربيعة، أن النبي -عليه السلام- قال: "الخطأ شبه العمد -يعني بالعصا والسوط- مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها". وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد ابن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن أيوب، قال: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- قال: "قتيل الخطأ شبه العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل، أربعون منها خَلِفَة، في بطونها أولادها". حدثنا محمَّد بن يحيى، نا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن قاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ثنا (¬3) عبد الله بن محمَّد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جُدْعان، سمعه من القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله -عليه السلام- قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل الخطأ -قتيل السوط والعصا- فيه مائة من الإبل، منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم، تحت قدمي هاتين، إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا إني قد أمضيتها لأهلهما كما كانا". واعلم أن هذا الحديث كما رأيته قد روي عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي مرسلًا أيضًا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 42 رقم 4800). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 877 رقم 2627). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 878 رقم 2628).

وقال ابن حزم (¬1) في رواية القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: هذا خبر مدلس أسقط منه بين القاسم بن ربيعة وبين عبد الله بن عمرو رجل، ثم بَيَّن ذلك بروايته عن طريق النسائي، عن يحيى بن حبيب بن عدي، عن حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي -عليه السلام-. . . . فذكر الخبر. وعقبة بن أوس مجهول لا يدرى مَن هو، ولا يصح للقاسم بن ربيعة سماع من عبد الله بن عمرو. وقال أيضًا في رواية يعقوب بن أوس عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-: إن يعقوب بن أوس مجهول. ورواه أيضًا عن حمام، عن عباس بن أصبغ، عن محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، عن أحمد بن زهير بن حرب، عن أبيه، عن ابن علية، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "خطب رسول الله -عليه السلام-. . . . الحديث" وقال: يعقوب بن أوس لا صحبة له وهو مجهول. وقال أيضًا (¬2) في رواية ابن جدعان عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: إن ابن جدعان هو علي بن زيد بن جدعان ضعيف جدًّا، ويعقوب السدوسي مجهول، وقال في رواية القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو: إن القاسم هذا لم يلق عبد الله بن عمرو قط. قلت: خبر القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص ليس مدلس؛ لأنه يروى عن عبد الله بن عمرو تارة، ويروى عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو تارةً، وقال الحافظ المنذري: رواية خالد الحذاء عن القاسم بن ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 381). (¬2) "المحلى" (10/ 382).

ربيعة عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو يحتمل أن يكون القاسم بن ربيعة سمعه من عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو، وسمعه عن عبد الله بن عمرو، فرواه مرةً عن عقبة، ومرة عن عبد الله بن عمرو. وأما القاسم هذا فإنه ثقة، وثقه ابن المديني وغيره. وقول ابن حزم وعقبة بن أوس: مجهول لا يدرى من هو غير صحيح؛ لأن العجلي قال فيه: بصري تابعي ثقة، ووثقه ابن حبان وابن سعد، ويقال له: يعقوب بن أوس أيضًا، فسقط جميع ما قاله. قوله: "ألا" للتنبيه، كأنه ينبه المخاطب على أمر يأتيه ليكون على تيقظ منه، والمراد بـ"خطأ العمد": هو شبه العمد. قوله: "بالسوط" في محل الرفع؛ لأنه خبر "إن" والمتعلق بمحذوف، والتقدير: ألا إن قتل شبه العمد حاصل بالسوط والحجر، أي بالقتل بالسوط والقتل بالحجر، والمراد بالحجر الحجر الصغير بقرينة السوط، فافهم. قوله: "فيه دية مغلظة" أي الواجب في هذا القتيل الموصوف بهذا الوصف دية مغلظة، وإنما غلظت الدية فيه لأنه زاد صفة على الخطأ فزيدت صفة في الدية، والدية المغلظة هي مائة من الإبل منها أربعون خَلِفَة -بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام وفتح الفاء- وهي الحامل من النوق، وتجمع على خَلِفَات، وخَلَائِفَ، وقد خَلِفَت إذا حملت، وأَخْلَفْت إذا حالت. قوله: "المأثرة" بضم الثاء المثلثة، وهي كل ما يؤثر ويذكر من مكارم الجاهلية ومفاخرتهم التي تُؤْثر عنهم، أي تذكر وتروى. قوله: "تحت قدميَّ" معناه إبطالها وإسقاطها. قوله: "وسقاية الحاج" يعني سقي الناس من زمزم. قوله: "والسِّدَانة" بكسر السين المهملة، وهي خدمة البيت شرفه الله والقيام بأمره، والسَّادن: خادم الكعبة، والجمع السَّدَنَة، وقد سَدَنَ يَسْدُن -بالضم-

سَدْنًا وسِدانة، وكانت السدانة لبني عبد الدار في الجاهلية، والسقاية في بني هاشم، فأقرها رسول الله -عليه السلام- لهم في الإِسلام. ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه إثبات شبه العمد، وذهب إليه النخعي والشعبي وعطاء وطاوس ومسروق والحكم بن عتيبة وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة والزهري وأبو الزناد وحماد بن أبي سليمان والثوري والأوزاعي وعبد الله بن شبرمة وعثمان البتي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. وقال مالك: ليس في كتاب الله -عز وجل- إلا الخطأ والعمد، وأما شبه العمد فلا نعرفه. وهو مذهب الظاهرية أيضًا. وقال ابن حزم: القتل قسمان: عمد وخطأ؛ برهان ذلك الآيتان في القرآن، فلم يجعل -عز وجل- في القتل قسمًا ثالثًا. قلت: الحديث المذكور حجة عليهم. الثاني: فيه أن دية شبه العمد مغلظة، وهي مائة كما ذكرنا. الثالث: استدل بظاهر الحديث محمَّد بن الحسن والشافعي: أن الدية في شبه العمد مائة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفَة. وروي ذلك عن عطاء وطاوس والحسن والزهري. وعند أبي حنيفة: دية شبه العمد أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وبه قال أبو يوسف، وهو مذهب عبد الله بن مسعود.

روى سعيد بن منصور: عن أبي عوانة، عن منصور بن المعتمر، عن النخعي، أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في دية العمد: "أرباعًا: خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون". الرابع: مسألة الكتاب، ويجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا قود على من قتل رجلًا بعصا أو حجر. وممن قال بذلك: أبو حنيفة -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن ذكوان وسفيان الثوري وآخرين؛ فإنهم قالوا: لا قصاص على مَن قتل رجلًا بعصا أو حجر. وممن قال بذلك أبو حنيفة. قال أبو بكر الرازي: قال أبو حنيفة: القتل بالعصا والحجر صغيرًا كان أو كبيرًا فهو شبه العمد، وكذلك التفريق في الماء، وفيه الدية المغلظة على العاقلة وعليه الكفارة. وقال الأشجعي: عن الثوري: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو بحجر أو بيده فيموت، ففيه الدية المغلظة، فلا قود فيه. وروى الفضل بن دُكين عن الثوري قال: إن أخذ عودًا أو عصًا فجرح به بطن حُرٍّ فهذا شبه العمد، ليس فيه قود. وقال أبو بكر: هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو يوسف ومحمد، فقالوا: إذا كانت الخشبة مثلها يَقْتل، فعلى القاتل بها القصاص؛ وذلك عمد، وإن كان مثلها لا يقتل ففي ذلك الدية، وذلك شبه العمد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي وعطاء بن أبي رباح والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا كانت الخشبة مثلها يقتل فعلى القاتل بها القصاص، وإلا فالدية، فالأول عمد والثاني شبه عمد، وبه قال أبو يوسف ومحمد.

وقال أبو بكر الرازي أصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد ما لا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط، ولو كرر ذلك حتى صارت جملته مما يقتل كان عمدًا وفيه القصاص، وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله. وقال ابن شبرمة: وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء، فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته. وقال ابن وهب: عن مالك: إذا ضربه بالعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدًا فهو عمد وفيه القصاص، ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما وينصرف عنه وهو حي ثم يموت فيكون فيه القسامة. وقال الأوزاعي: في شبه العمد الدية في ماله، فإن لم يكن تمامًا فعلى العاقلة، وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت، فإن ثنَّى بالعصا ثم مات بمكانه فهو عمد يقتل به، والخطأ على العاقلة. وقال الحسن بن صالح: إذا ضربه بعصا ثم علا فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص، وإن علا الثانية ولم يمت منها، ثم مات بعد فهو شبه العمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة، والخطأ على العاقلة. وقال الليث: العمد ما تعمده إنسان، فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول، والخطأ فيه على العاقلة، وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون خطأ أو عمد. وقال المزني في "مختصره" عن الشافعي: إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو مما يشق بحده إذا ضرب به أو رمي به، الجلد واللحم فجرحه جرحًا كبيرًا أو صغيرًا فمات فعليه القود، وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق، أو والى عليه بالسوط حتى يموت، أو طبق عليه مطبقًا بغير طعام ولا شراب، أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد فيما الأغلب أنه يموت منه فمات منه فعليه

القود، وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح، أو ألقاه في البحر قرب اليم وهو يُحسن العوم، أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات، فلا قود، وفيه الدية مغلظة على العاقلة. ص: وقالوا: ليس فيما احتج به علينا أهل المقالة الأولى من قوله -عليه السلام-: "ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه مائة من الإبل" دليل على ما قالوا؛ لأنه قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بذلك العصا التي لا يقتل مثلها التي هي كالسوط الذي لا يقتل مثله. فإن كان أراد ذلك فهو الذي قلنا، وإن لم يكن أراد ذلك وأراد ما قلتم أنتم فقد تركنا الحديث وخالفناه، فنحن بعد لم نثبت خلافنا لهذا الحديث إذ كنا نقول: إن من العصا ما إذا قتل به لم يجب على القاتل قود، وهذا المعنى الذي حملنا عليه معنى هذا الحديث أولى مما حمله عليه أهل المقالة الأولى؛ لأن ما حملناه لا يضاد حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- في إيجابه القود على اليهودي الذي رضخ رأس الجارية بحجر، وما حمله عليه أهل المقالة الأولى يضاد ذلك وينفيه، فلأن يحمل الحديث على ما يوافق بعضه بعضًا أولى من أن يُحمل على ما يضاد بعضه بعضًا. ش: أي قال أهل المقالة الثانية، حاصل هذا أنهم يقولون: إن قوله -عليه السلام-: "ألا إن قتيل خطأ العمد. ." الحديث لا يدل على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى. بيانه: أن العصا المذكور في الحديث لا يخلو إما أن يراد به العصا التي لا يقتل مثلها كالسوط الذي لا يقتل مثله، أو لم يكن ذلك فإن كان الأول فهو ما ذهب إليه؛ لأنا نقول: إذا كانت العصا مثلها لا يقتل فقتل بها ففيه الدية دون القصاص؛ لأنه شبه عمد. وإن كان الثاني الذي ذهبتم إليه، فقد نكون حينئذٍ تاركين للحديث المذكور ومخالفين إياه، على زعمكم ولكن لا نقول بذلك، ولا نثبت الخلاف المذكور؛ لأنا نقول: إن من العصا ما إذا قتل به لم يجب على القاتل به قصاص، بل تجب دية، كما إذا كانت العصا لا يقتل مثلها.

وحمل الحديث المذكور على هذا المعنى أولى مما حملتم عليه؛ لأن فيما ذهبتم إليه يقع التضاد بين هذا الحديث وحديث أنس بن مالك المذكور في الباب السابق الذي فيه إيجاب القود على ذاك اليهودي الذي رضَّ رأس تلك الجارية بحجر. ووجه وقوع التعارض بين الحديثين ظاهر؛ لأن الحديث الذي فيه: "ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر" يُخبر أن القتل بالحجر لا يوجب القصاص. وحديث أنس - رضي الله عنه - يُخبر أنه يوجب القصاص، وبينهما منافاة، فإذا حملنا الحديث الأول على المعنى الذي ذهبنا إليه، يتفق حينئذٍ مع حديث أنس ولا يعارضه، فحمل الأحاديث التي يعارض بعضها بعضًا على التوافق أولى من إبقائها على التعارض والتضاد. فهذا حاصل ما ذكره الطحاوي نصرةً لأهل المقالة الثانية. ولقائل أن يقول: لا نُسلم وقوع التعارض بين الحديثين حتى نحتاج إلى التوفيق؛ لأن حديث أنس - رضي الله عنه - يجوز أن يكون أمر النبي -عليه السلام- فيه بالقود لكون الحجر الذي قتل به اليهودي تلك الجارية مروة وهي التي لها حدّ، وهي التي تعمل عمل السكين، فلذلك أوجب -عليه السلام- قتله. وأيضًا فقد روي في وجه آخر في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أنه -عليه السلام- أمر اليهودي أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات" على ما مضى ذكره، ولا خلاف أن الرجم لا يجب على القود. ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون اليهودي مستأمنًا، فقتل الجارية ولحق بأرضه لقربه من المدينة، فأخذ وهو حربي، فقتله على أنه محارب حربي ورجمه، كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا إبله -عليه السلام- وقتلوا راعيه، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى ماتوا، ثم نسخ القتل على وجه المثلة. ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون قتل النبي -عليه السلام- اليهودي حقًّا لله تعالى، حيث جعله لقاطع الطريق الذي يكون الواجب عليه حدًّا من حدود الله

تعالى، وإلى هذا أشار الطحاوي بقوله: فكان من حجة الذين قالوا: "إن القتل بالحجر لا يوجب القود. . . ." إلى آخره على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: فإن قال قائل: فإنك قد قلت: إن حديث أنس هذا منسوخ في الباب الأول، فكيف أثبت العمل به؟ قيل له: لم نقل: إن حديث أنس هذا منسوخ من جهة ما ذكرت، وقد ثبت وجوب القود في القتل بالحجر في حديث أنس، وإنما قلت: إن القصاص بالحجر قد يجوز أن يكون منسوخًا لما قد ذكرت من الحجة في ذلك، فحديث أنس في إيجاب القود عندنا غير منسوخ، وفي كيفية القود الواجب به يحتمل أن يكون منسوخًا على ما فسرنا وثبتنا في الباب الذي قبل هذا الباب. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنك قد قلت في الباب السابق: إن حديث أنس منسوخ، والمنسوخ لا يبقى له حكم، فكيف تقول في هذا الباب: إنه معمول به؟! وحاصل الجواب: أن حديث أنس له جهتان: جهة النسخ، وجهة الثبوت: أما جهة الثبوت فهو وجوب القود في القتل بالحجر. وأما جهة النسخ فهي في كيفية القود الواجب به، ونحن لم نقل إنه منسوخ إلا من الجهة الثانية على ما مَرَّ مستقصٍ في الباب السابق. ص: فكان من حجة الدين قالوا: إن القتل بالحجر لا يوجب القود في دفع حديث أنس: أنه قد يحتمل أن يكون ما أوجب النبي -عليه السلام- من القتل في ذلك عليه حقًّا لله -عز وجل-، وجعل اليهودي كقاطع الطريق الذي يكون ما وجب عليه حدًّا من حدود الله -عز وجل-، فإن كان ذلك كذلك؛ فإن قاطع الطريق إذا قتل بحجر أو بعصا وجب عليه القتل في قول الذين قالوا إنه لا قود على من قتل بعصا، وقد قال بهذا القول جماعة من أهل النظر. وقد قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - في الخناق أن عليه الدية، وأنه لا يقتل إلا أن يفعل ذلك غير مرة فيقتل، ويكون ذلك حدًّا من حدود الله -عز وجل-، فقد يجوز أن يكون

النبي -عليه السلام- قتل اليهودي على ما في حديث أنس؛ لأنه وجب عليه القتل لله -عز وجل- كما يجب على قاطع الطريق، فإن كان ذلك كذلك فإن أبا حنيفة -رحمه الله- يقول: كل من قطع الطريق فقتل بعصًا أو حجر، أو فعل ذلك في المصر يكون حكمه فيما فعل حكم قاطع الطريق، وكذلك الخناق الذي فعل ذلك غير مرة أنه يقتل، وقد كان ينبغي في القياس على قوله أن يكون يجب على من فعل ذلك مرةً واحدةً القتل، ويكون ذلك حدًّا من حدود الله -عز وجل-، كما يجب إذا فعله مرارًا؛ لأنا رأينا الحدود يوجبها انتهاك الحرمة مرة واحدةً، ثم لا يجب على من انتهك تلك الحرمة ثانية إلا ما كان وجب عليه في انتهاكها في البدء، فكان النظر فيما وصفنا أن يكون الخناق كذلك أيضًا، وأن يكون حكمه في أول مرة هو حكمه في آخر مرة. هذا هو النظر في هذا الباب، وفي ثبوت ما ذكرنا ما يدفع أن يكون في حديث أنس حجةً على مَن يقول: من قتل رجلًا بحجر فلا قود عليه. ش: لما قال أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى: أنتم محجوجون بحديث أنس المذكور في الباب السابق؛ أشار الطحاوي إلى الجواب عن ذلك بقوله: فكان من حجة الذين قالوا: إن القتل بالحجر لا يوجب القود في دفع حديث أنس، أي: فكان من دليلهم وبرهانهم في دفع هذا الاعتراض. وهو ظاهر. قوله: "جماعة من أهل النظر" أي القياس. قوله: "وقد قال أبو حنيفة. . . . إلى آخره" ذكره تفريعًا على ما قاله من جعل ذلك اليهودي كقاطع الطريق حتى قتل حدًّا لله تعالى، فكذلك أبو حنيفة جعل الخناق الذي يفعل الخنق غير مرة كقاطع الطريق، حيث يأمر بقتله حدًّا. قوله: "وقد كان ينبغي في القياس على قوله" أي على قول أبي حنيفة، وهذا اعتراض على ما ذهب إليه أبو حنيفة حيث لم يوجب القود على الخناق في أول مرة حدًّا لله تعالى، وإنما أوجبه فيما إذا اعتاد ذلك، وبيَّن وجه الاعتراض بقوله: "لأنا رأينا الحدود. ." إلى آخره، وهو ظاهر.

ويمكن أن يجاب عنه بأن الخناق في أول مرة لا يعلم قصده إعدام المخنوق، فلا يجب فيه القود، كما إذا صاح على وجه إنسان فمات من صيحته، بخلاف ما إذا اعتاد الخنق فإنه يصير حينئذٍ طالبًا لإزهاق النفس فيجب عليه القصاص؛ ولأن قياس أبي حنيفة هاهنا وجوب الدية أيضًا, ولكنه لما ألحقه بقاطع الطريق أوجب فيه القصاص حقًّا لله تعالى، وعند أبي يوسف ومحمد: يجب القصاص في الخنق مطلقًا، وكذلك الخلاف بينهم إذا غَرَّقه بالماء أو ألقاه من جبل أو سطح فمات، لا قصاص فيه عند أبي حنيفة خلافًا لهما. ص: وكان من حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - أيضًا في قوله هذا: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله -عليه السلام-، فقضى أن دية جنينها عبدًا أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، أغرم مَن لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟! فمثل ذلك يُطَل، فقال رسول الله -عليه السلام-: هذا مِن إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجعه". وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة الخزاعي، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: "أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلها، فقضى رسول الله -عليه السلام- بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بغرة، والغرة: عبد أو أمة، فقال الأعرابي: أغريم من لا طعم ولا شرب ولا صاح فاستهل ومثل ذلك يُطَل، فقال: سجع كسجع الأعراب". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة، عن المغيرة عن النبي -عليه السلام- مثله.

قالوا: فهذه الآثار تخبر أن النبي -عليه السلام- لم يقتل المرأة القاتلة بالحجر ولا بعمود الفسطاط، وعمود الفسطاط يقتل مثله، فدل ذلك على أنه لا قود على من قتل بخشبة وإن كان مثلها يقتل. ش: أي: وكان من دليل أبي حنيفة ومَن معه في قولهم: إن القاتل بعصًا أو حجر لا قود عليه: ما روي عن أبي هريرة والمغيرة بن شعبة، ودلالة حديثيهما على ما قالوا ظاهرة لا تحتاج إلى البيان. أما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): نا حرملة بن يحيى التميمي، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس .. إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا أحمد بن صالح، نا ابن وهب، نا يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي -عليه السلام- فقضى أن دية جنينها: غرة عبد أو وليدة، وقضى دية المرأة على عاقلتها". وأخرجه أبو داود (¬3): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. ولم يذكر أبا سلمة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1309 رقم 1681). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2532 رقم 6512). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 602 رقم 4577).

وأخرجه أيضًا (¬1) عن وهب بن بيان وابن السرح، عن ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله -عليه السلام- فقضى رسول الله -عليه السلام- دية جنينها: غرةً عبدٍ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع". وأخرجه النسائي أيضًا (¬2). وأخرجه الترمذي (¬3): عن قتيبة، عن ليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وحده. وقال: وروى يونس هذا الحديث عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة. وروى مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وعن الزهري، عن سعيد، عن النبي -عليه السلام-. وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن عبيد بن نضلة الخزاعي الكوفي، عن المغيرة بن شعبة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 601 رقم 4576). (¬2) "المجتبى" (8/ 48 رقم 4818). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 426 رقم 2111).

وأخرجه مسلم (¬1) والنسائي (¬2): كلاهما عن ابن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عُبيد بن نضلة، عن المغيرة، نحوه. الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغُداني شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن منصور بن المعتمر .. إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن علي بن محمَّد بن علي، عن خلف بن تميم، عن زائدة، عن منصور. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) عن إسحاق، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد. . . . إلى آخره. وعن محمد بن رافع (4)، عن يحيى بن آدم، عن مفضل، عن منصور، عن إبراهيم. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬5): عن حفص، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم. وعن عثمان (¬6)، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم. وأخرجه الترمذي (¬7): عن الحسن بن علي الخلال، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور. وعن الحسن، عن زيد بن حباب، عن سفيان، عن منصور نحوه. وقال: حسن صحيح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1310 رقم 1682). (¬2) "المجتبى" (8/ 50 رقم 4823). (¬3) "المجتبى" (8/ 49 رقم 4821). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1310 رقم 1682). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 599 رقم 4568). (¬6) "سنن أبي داود" (2/ 599 رقم 4569). (¬7) "جامع الترمذي" (4/ 24 رقم 1411).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد به مختصرًا: "قضى بالدية على العاقلة". قوله: "اقتتلت امرأتان من هذيل" وفي رواية: "أن امرأتين من بني كنانة" وهما واحد؛ لأن كنان قبيل من هذيل، وهو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأكثر وادي محلة بالقرب من مكة من هذيل، ولحيان -بكسر اللام وفتحها، وسكون الحاء المهملة، وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وبعد الألف نون- وهو كنان بن هذيل بن مدركة. وكانت المرأتان تحت حَمَل بن النابغة، والدليل عليه ما جاء في رواية: "إن امرأتين لي" فدل هذا على أنهما زوجتاه. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان اسم إحداهما مُليكة والأخرى أم غطيف. قلت: مُليكة -بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف، وكاف مفتوحة وتاء تأنيث- وهي مليكة بنت عويمر الهذلية. قاله أبو عمر. وقال أبو موسى: عويمر بغير راء. وغطيف -بضم الغين المعجمة، وفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ويقال: أم عفيف بنت مروج وهي التي ضربت مليكة في سطح بيتها فقتلتها. قوله: "فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة" الجنين: الولد ما دام في البطن سمي جنينًا؛ لأنه مُوارى في بطن أمه، والمجنة الموضع الذي يُستتر فيه، ومنه سمي الجن لأنهم متوارون، وجنه الليل وأجنه: ستره، وسمي القبر جنينًا لأنه يواري صاحبه، وسمي الترس مجنًّا لأنه يُوارى به، وسمي القلب جنانًا لأن الصدر يواريه، وسمي المجنون بذلك لأنه مستور الفهم، وكل شجر متكاثف يستر بعضه بعضًا فهو جنة، والإمام جُنة لأنه يقي المأموم الزلل والسهو، كما يقي الترس صاحبه من وقع السلاح. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 879 رقم 2633).

والوليدة في اللغة: الصبية، وأراد بها هاهنا الجارية وهي الأمة. قوله: "فقال حَمَل بن النابغة" وهو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة الهذلي، وهو بفتح الحاء المهملة والميم وفي آخره لام، وقد ينسب إلى جده، وكذا وقع في رواية مسلم، فقال: حَمَل بن النابغة. قوله: "ولا استهل" بفتح التاء المثناة، أي: ولا رفع صوته، وكل من رفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء أو نحو ذلك. قوله: "يُطَل" بضم الياء آخر الحروف، وفتح الطاء المهملة، من طَلَّ دمه إذا أُهدر ولم يطلب به، قال: طُل دمه، وأطله الله، ولا يقال: طله، وعن الكسائي جوازه، وقال الجوهري: قال أبو زيد: طُلَّ دمه، فهو مَطْلُول، قال الشاعر (¬1): دماؤهم ليس لها طالبٌ ... مَطْلُولَةٌ مثل دَم العُذْره وأُطِلَّ دمه وطَلّه الله وأَطَلَّه: أهدره، قال: ولا يقال: طَلَّ دمه بالفتح، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه، قال أبو عبيدة: فيه ثلاث لغات: طَلَّ دمه، وأُطِل دمه، وأَطَلَّ عليه أي أشرف. قال المنذري: أكثر الروايات بالباء الموحدة يعني من البطلان، يقال: بَطل الشيء: ذهب. وكذلك الدم إذا لم يؤخذ به القاتل. ورجح الخطابي الرواية الأولى. قوله: "هذا من إخوان الكهان" بضم الكاف: جمع كاهن، ويجمع على كهنة أيضًا من كَهَنَ يَكْهُن كَهِانة مثل كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابةً، إذا تكهن، وإذا أردت أنه صار كاهنًا قلت: كَهُنَ بالضم، كَهَانة -بالفتح- وقيل: الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شهرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب، وساعدتهم بما في ¬

_ (¬1) هو: دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، شاعر هجَّاء أصله من الكوفة أقام ببغداد.

وسعها من القدرة، وفرق بعضهم بين الكاهن والعراف بأن الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدَّعي معرفة الأسرار. والعراف الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة، وقد كان في العرب كهنة منهم مَن يزعم أن له صاحبًا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي أنه يعرف الأمور بمقدمات أسبابها، ومنهم من سمى المنجم كاهنًا. وفي قوله -عليه السلام-: "هذا من إخوان الكهان" دليل على أن الكهان كانوا يسجعون أو كان الأغلب منهم السجع، وهذا معروف عن كهان الأعراب يعني عن الاستشهاد عليه. قوله: "من أجل سجعه" كلمة "مِن" هاهنا للتعليل، و"السجع": أصله من سَجَعَت الحمامة أي هدرت، وسَجَعَت الناقة: أي مدَّت حنينها على جهة واحدة، قال الجوهري: السجع: الكلام المقفى، والجمع: أسجاع وأساجيع، وقد سجع الرجل سجعًا، وسجَع تسجيعًا، وكلام مسجَّع، وبينهم أسجوعة، وعند أهل البديع: السجع: تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، والفاصلة في النثر كالقافية في النظم، والسجع في النثر كالقافية في الشعر، فإن اختلفت الفاصلتان في الوزن سمي سجعًا مطرفًا، نحو قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (¬1) وإن لم يختلفا فلا يخلو إما أن يكون ما في إحدى القرينتين كلمة أو أكثر مثل ما يقابله من القرينة الأخرى في الوزن والتقفية، أو لم يكن؛ فالأول يسمى سجعًا مرصعًا، نحو قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. والثاني يسمى سجعًا متوازنًا نحو قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة نوح، آية: [13، 14]. (¬2) سورة الغاشية، آية: [13، 14]. (¬3) انظر "خزانة الأدب" (2/ 411 - 413) فقد ذكر هناك أنواع السجع وأمثلته.

قوله: "على عصبة القاتلة" أي المرأة القاتلة، والعصبة: بنو الرجل وقرابته لأبيه، وسموا عصبة لأنهم عصبوا به، أي أحاطوا به، فالأب طرف، والابن طرف، والعم جانب، والأخ جانب، والجمع العصبات. قوله: "بغرة" الغرة عند العرب أنفس شيء يملك، وتطلق الغرة على الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، والغرة هاهنا النَّسْمَة من الرقيق ذكرًا كان أو أنثى؛ وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الغرة: عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سميت غرة لبياضها, ولا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء، قال: ولولا أن رسول الله -عليه السلام- أراد بالغرة معنىً زائدًا على شخص العبد والأمة لما ذكرها, وليس ذلك بشرط عند الفقهاء؛ لعموم الحديث. وقيل: إطلاق الغرة على العبد والأمة على طريق التوسع والمجاز، فإن الغرة اسم للوجه؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء فسمي الجبار من المماليك غرة؛ لأنه في المماليك كالوجه في الأعضاء. قوله: "عبد أو أمة" عطف بيان من الغرة، وحمله غير واحد من العلماء على التفسير لا على الشك؛ فافهم. ويستنبط منه أحكام: الأول: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا حيًّا ثم مات بقرب خروجه، وعلم أن موته كان من أجل الضربة ففيه الدية كاملة، وأنه يعتبر فيه الذكر والأنثى، وفي إجماعهم على ما ذكرنا دليل واضح على أن الجنين الذي قضى فيه رسول الله -عليه السلام- بغرة عبد أو أمة، كانت أمه قد ألقته ميتًا، وأجمع الفقهاء أن الجنين إذا خرج حيًا ثم مات كانت فيه الدية والكفارة. واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتًا، فقال مالك: فيه الغرة والكفارة، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة. وهو قول داود بن علي. وإذا ألقت جنينين، قال أصحابنا: إن كانا ميتين ففي كل منهما غرة، وإن كانا

حيين ثم ماتا ففي كل منهما دية، فإن ألقت أحدهما ميتًا والآخر حيًّا ثم مات، فعليه في الميت الغرة وفي الحي الدية. فإن ماتت الأم من الضربة وخرج الجنين بعد ذلك حيًّا ثم مات فعليه ديتان: دية في الأم، ودية في الجنين. وإن خرج جنينان بالحياة ثم ماتا ففيه ثلاث ديات، وقال الزهري: إن أسقطت ثلاثة ففي كل واحد غرة، تَبَيَّن خلقه أو لم يتبين أنه حمل، وبه قال ابن وهب والليث بن سعد. واختلفوا في جنين الأمة، فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: جنين الأمة إن وقع ميتًا من ضرب الضارب لأمه، ففيه عشر قيمة أمه ذكرًا كان الجنين أو أنثى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: إن كان غلامًا ففيه نصف عشر قيمة نفسه لا قيمة أمه، وإن كان أنثى فعشر قيمة نفسها لو كانت حيةً. وقال داود: لا شيء في جنين الأمة. وقال ابن حزم: لا خلاف في أن جنين الأمة من سيدها الحر مثل جنين الحرة ولا فرق. ثم اختلفوا في جنين الأمة من غير سيدها الحر. فقالت طائفة: فيه عشر قيمة أمه، وبه قال الحسن البصري ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحابهم. وقالت طائفة: من ثمن أمه كقدر ما في جنين الحرة من دية أمه، وهو قول الزهري. وقالت طائفة: فيه نصف عشر ثمن أمه، وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة وابن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة. وقالت طائفة: فيه نصف عشر ثمنه إن خرج ميتًا، فإن خرج حيًّا فثمنه كله. وهو قول سفيان الثوري والحسن بن حي.

وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل: إن كان جنين الأمة ذكرًا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، فإن كانت أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية. قال زفر: وعليه مع ذلك نقص أمه. وقال أبو يوسف: لا شيء في جنين الأمة إلا أن يكون نقص أمه، ففيه ما نقصها. وقالت طائفة: فيه عشرة دنانير. وهو قول سعيد بن المسيب. وقالت طائفة: حكومة. وهو قول حماد بن أبي سليمان، فإنه قال: ينظر ما بلغ ثمن جنين الحرة من جميع ثمنها، فإن كانت عشرًا أعطيت الأمة عشرة، وإن كانت خمسًا وإن كان سبعًا وإن كان ثمانيًا فكذلك. وقالت طائفة: في جنين الأمة غرة عبد أو أمة كما في جنين الحرة ولا فرق. وهو قول ابن سيرين وعروة ومجاهد وطاوس وشريح والشعبي. انتهى. واختلفوا في صفة الجنين الذي تجب فيه الغرة ما هو؟ فقال مالك: ما طرحته من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد ففيه الغرة. قاله أبو عمر. وقال ابن حزم (¬1): إن قتلت حامل بينة الحمل فسواء طرحت جنينها ميتًا أو لم تطرحه فيه غرة، ولابد لما ذكرنا من أنه جنين أهلك، وهذا قد اختلف الناس فيه كما ثنا حمام، ثنا عبد الله بن محمَّد بن علي الباجي، ثنا عبد الله بن يونس، ثنا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة, ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري أنه كان يقول: "إذا قتلت المرأة وهي حامل قال: ليس في جنينها شيء حتى تقذفه" وبه قال مالك. وقال أبو عمر: قال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخًا ففيه الغرة أبدًا حتى يستهل صارخًا فيه الدية كاملة. وقال الشافعي وسائر الفقهاء: إذا عُلمت حياته بحركة أو ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 29).

بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك مما يستيقن به حياته، ثم مات ففيه الدية، وجماعة فقهاء الأمصار يقولون في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتًا بعد موتها؛ أنه لا يحكم فيه شيء فإنه هدر إلا الليث بن سعد وداود فإنهما قالا: فيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها، المعتبر. حياة أمه في وقت ضربها لا غير. ومما يلحق بهذا الباب إسقاط المرأة ولدها، فعن إبراهيم النخعي: إذا أسقطت ولدها فعليها عتق رقبة ولزوجها عليها غرة عبد أو أمة. وقال ابن حزم: إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كانت قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرة أيضًا على عاقلتها والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة في مالها، فإن ماتت هي في كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم ألقته فالغرة واجبة في كل ذلك في الخطأ على عاقلة الجاني هي كانت أو غيرها، وكذلك في العمد قبل أن ينفخ فيه الروح، وأما إن كان قد نفخ فيه الروح فالقود على الجاني إن كان غيرها، وأما إن كانت هي فلا قود ولا غرة ولا شيء؛ لأنه لا حكم على ميت، وماله قد صار لغيره. انتهى. واختلف في الغرة وقيمتها، فقال مالك: تُقَوَّم الغرة بخمسين دينارًا أو ستمائة درهم نصف عشر دية الحر المسلم الذكر، وعشر دية أُمُّهُ الحرة. وهو قول الزهري وربيعة وسائر أهل المدينة. وقال أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين: قيمة الغرة خمسمائة درهم. وبه قال إبراهيم والشعبي. وقال مغيرة: خمسون دينارًا. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين، وليس عليه أن يقبلها معيبةً. وقال داود: كل ما وقع عليه اسم غرة. واختلفوا أيضًا فيمن يرث الغرة، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله لأنها دية.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم ليس لأحد معها فيها شيء وليست ديةً، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: اختلف الناس فيمن تجب له الغرة الواجبة في الجنين، فعن الزهري: أنه سئل في رجل ضرب امرأته فأسقطت، لمن دية السقط؟ قال: بلغنا في السنة أن القاتل لا يرث من الدية شيئًا، فديته على فرائض الله ليس للذي قتله من ذلك شيء. وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وأبي حنيفة ومالك والشافعي. وقال الكاساني في "بدائعه": الغرة ميراث بين ورثة الجنين على فرائض الله عند عامة العلماء. وقال مالك: إنها لا تورث وهي للأم خاصةً. قلت: هذا هو مذهب أبي حنيفة، والذي نقله أبو عمر عن أبي حنيفة ليس مذهبه. والله أعلم. الثاني: أن في الحديث ما يدل على أن الغرة تجب على العاقلة، وهو مذهب الشافعي أيضًا. وقال مالك وأصحابه والحسن بن حي: هي في مال الجاني. والحديث حجة عليهم. الثالث: فيه حجة لأبي حنيفة ومن معه لما ذهبوا إليه من أن القاتل بالعصا لا يجب عليه القصاص، ألا ترى أن إحدى المرأتين قتلت الأخرى بعمود الفسطاط ولم يقض رسول الله -عليه السلام- عليها بالقصاص، بل قضى بديتها على عاقلة القاتلة. الرابع: فيه أن الدية في شبه العمد على العاقلة، أما وجوب الدية فلامتناع القصاص للشبهة فتجب الدية، وأما الوجوب على العاقلة فلأن العاقلة إنما تعقل الخطأ تخفيفًا على القاتل؛ نظرًا له لوقوعه فيه لا عن قصد، وكذلك في شبه العمد، شبه عدم القصد لحصوله بآلة لا يقصد بها القتل عادةً كان مستحقًا لهذا النوع من التخفيف. والله أعلم.

ص: فكان من حجة مَن خالفهم في ذلك أن قال: فقد روى حَمَلٌ عن النبي -عليه السلام- خلاف هذا، فذكروا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نشد الناس قضاء رسول الله -عليه السلام- في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: إني بين امرأتين، وان إحداهما ضربت الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله -عليه السلام- في الجنين بغرة، وأن تقتل مكانها". حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس مثله. غير أنه لم يذكر قوله: "وأن تقتل مكانها". قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا حَمَل بن مالك يروي عن النبي -عليه السلام- أنه قتل المرأة بالتي قتلتها بالمسطح، فقد خالف أبا هريرة والمغيرة فيما رويا عن النبي -عليه السلام- من قضائه بالدية في ذلك، فقد تكافأت الأخبار في ذلك، فلما تكافأت واختلفت وجب النظر في ذلك؛ لنستخرج من القولين قولًا صحيحًا، فاعتبرنا ذلك، فرأينا الأصل المجتمع عليه: أن من قتل رجلًا بحديدة عمدًا فعليه القود، وهو آثم في ذلك ولا كفارة عليه، في قول أكثر العلماء، وإذا قتله خطأ فالدية على عاقلته والكفارة عليه، ولا إثم عليه، فكانت الكفارة تجب حيث يرتفع الإثم، وترتفع الكفارة حيث يجب الإثم. ورأينا شبه العمد قد أجمعوا أن الدية فيه وأن الكفارة فيه واجبة. واختلفوا في كيفيتها ما هي؟ فقال قائلون: هو الرجل يقتل رجلًا متعمدًا بغير سلاح. وقال آخرون: هو الرجل يقتل الرجل بالشيء الذي لا يرى أنه يقتله، كأنه يتعمد ضرب رجل بسوط أو بشيء لا يقتل مثله، فيموت من ذلك، فهذا شبه العمد عندهم، فإن كرر عليه الضرب بالسوط مرارًا حتى كان ذلك مما قد يقتل

جملته، كان ذلك عمدًا ووجب عليه القود، فكل مَن جعل منهم شبه العمد على جنس من هذين الجنسين أوجب فيه الكفارة. ولقد رأينا الكفارة فيما قد أجمع عليه الفريقان تجب حيث لا يجب الإثم, وتنتفي حيث يكون الإثم, وكان القاتل بحجر أو بعصًا -ومثل ذلك يقتل- عليه إثم النفس، وهو فيما بينه وبين ربه كمن قتل رجلًا بحديدة، وكان من قتل رجلًا بسوط -ليس مثله يقتل- غير آثم إثم القتل، ولكنه آثم إثم الضرب، فكان إثم القتل في هذا عنه مرفوعًا؛ لأنه لم يُرده، وإثم الضرب عليه مكتوب؛ لأنه قصده وأراده. فكان النظر أن يكون شبه العمد الذي قد أجمع أن فيه الكفارة في النفس هو ما لا إثم فيه، وهو القتل بما ليس مثله يقتل، الذي يتعمد به الضرب ولا يراد به تلف النفس، فيأتي ذلك على تلف النفس. فقد ثبت بذلك قول أهل هذه المقالة، وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله-. ش: أي فكان من دليل من خالف أهل المقالة الأولى -وهم: أبو حنيفة ومن معه- فيما ذهبوا إليه؛ بيان ذلك أن يقال: إن استدلال أبي حنيفة ومن معه بحديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة المذكور على أن القاتل بعصًا ونحوها ليس عليه القصاص، غير تام، ولا مطابق لدعواهم؛ وذلك لأن حديثهما قد رواه حَمَل بن مالك حين نشد عمر الناس قضاء رسول الله -عليه السلام- في الجنين، وأخبر في حديثه أنه -عليه السلام- قتل تلك المرأة القاتلة التي قتلت صاحبتها بالمِسْطح -وهو بكسر الميم- عود من أعواد الخِبَاء، فقد خالف حَمَل في ذلك أبا هريرة والمغيرة فيما روياه عن النبي -عليه السلام- من قضائه بالدية في ذلك على عاقلتها، فإذا كان كذلك فقد تكافأت الأخبار -أي تساوت- في وجه الاستدلال، بمعنى أن كل واحد من الفريقين إذا احتج بأحد الحديثين، احتج عليه الآخر بالحديث الآخر، فحينئذٍ يجب الرجوع إلى وجه النظر والقياس، فمن شهد له وجه النظر من ذلك بشيء

يحكم له، فاعتبرنا ذلك، ورأينا الأصل المجتمع عليه أن من قتل رجلًا بحديدة حال كونه عامدًا فعليه القود، أي القصاص، ومع ذلك هو آثم في ذلك؛ لأنه تعمد القتل ولا كفارة عليه في قول أكثر العلماء، وأراد بهم أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- وسائر أهل الظاهر. وقال الشافعي: تجب عليه الكفارة كما تجب على القاتل خطأ. وهو قول الحكم بن عتيبة. وقال مالك والليث بن سعد: يعتق رقبةً، أو يصوم شهرين ويتقرب إلى الله تعالى بما أمكنه من الخير. واحتج الشافعي بما رواه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا أبي، نا ابن المبارك نا إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش، عن واثلة بن الأسقع قال: "أتى النبي -عليه السلام- نفر من بني سُليم، فقالوا: إن صاحبًا لنا قد أوجب، قال: فليعتق رقبة، يفك الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار". وبما رواه البزار (¬2): ثنا الحسين بن مهدي، ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل، عن النعمان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إني وأدت بناتٍ لي في الجاهلية، فقال: أعتق على كل واحدة منهن بدنة". قلت: قال ابن حزم: حديث واثلة غير صحيح؛ لأن الغريف مجهول. فإن قلت: قد أخرج الحاكم (¬3) هذا الحديث وصححه وقال: ثنا الأصم، ثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، ثنا ضمرة، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 173 رقم 4891). (¬2) "مسند البزار" (1/ 355 رقم 238). (¬3) "المستدرك" (2/ 230 رقم 2843).

الديلمي قال: "أتينا واثلة، فقال: أتينا رسول الله -عليه السلام- في صاحب لنا قد أوجب النار، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار". وأخرجه البيهقي (¬1) من طريقه ثم قال: رواه الحكم بن موسى، عن ضمرة نحوه، وزاد "قد أوجب -يعني- ألنار بالقتل". قلت: رواه ابن المبارك عن ابن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب النار بالقتل، وهو أثبت وأضبط وأتقن من ضمرة بن ربيعة. ولئن سلمنا أنه صحيح، فالحديث لا يدل على دعواه من وجوه: الأول: تأويل من الراوي في قوله: "أوجب النار بالقتل"؛ لأنه قال: يعني بالقتل. والثاني: أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنةً، فلما لم يشترط لهم الأيمان فيها، دل على أنها ليست من كفارة القتل. والثالث: أنه إنما أمرهم بأن يعتقوا عنه، ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه. والرابع: أن عتق الغير عن القاتل لا يجزئه عن الكفارة. والخامس: ما قاله ابن حزم: إنما فيه أن صاحبًا لنا قد أوجب، ولا نعرف في اللغة أن "أوجب" بمعنى قتل عمدًا فصار هذا التأويل كذبًا مجردًا، ودعوى على اللغة بما لا يعرف، وقد يكون معنى "أوجب" أي أوجب لنفسه النار بكثرة معاصيه، وقد يكون معنى أوجب أي قد حضرت منيته، وقد يقال: قد أوجب فلان بمعنى مات. وأما حديث البزار فقد قال ابن حزم: إنه غير صحيح؛ لأن في طريقه إسرائيل وهو ليس بالقوي، وكان يقبل التلقين، وأيضًا فكان يكون في إيجاب ذلك على مَن قتل نفسًا في جاهليته وهو كافر حربي كما كان قيس بن عاصم المأمور بهذه الكفارة في هذا الحديث، وهم لا يقولون بهذا أصلًا؛ فبطل تعلقهم بهذا الخبر. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 132 رقم 16257).

فإن قلت: لما وجبت الكفارة على الخاطئ، فهي على العامد أوجب؛ لأنه أغلظ. قلت: ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيها؛ لأن المخطئ غير آثم باعتبار المأثم فيه ساقط، ألا ترى أنه -عليه السلام- أوجب سجود السهو على الساهي ولم يوجب على العامد؟. قوله: واختلفوا في كيفيتها ما هي؟ " أي في كيفية شبه العمد، ويمكن أن يكون لما ثبت باعتبار الكيفية. قوله: "قال قائلون" وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة، فأبو حنيفة يقول: القتل بالعصا والحجر صغيرًا كان أو كبيرًا: شبه العمد، وكذلك التفريق في الماء. وقال الثوري: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو بحجر أو بيده فيموت، ففيه الدية مغلظة، ولا قود فيه، والعمد ما كان بسلاح. وقال الأوزاعي: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو سوط ضربةً واحدة، فإن ثَنَّى بالعصا، ثم مات مكانه، فهو عمد يقتل به. قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: عثمان البتي والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: شبه العمد: القتل بما لا يقتل مثله، كاللطمة الواحدة، والضربة الواحدة بالسوط، ولو كرر ذلك حتى صارت جملته مما يقتل؛ كان عمدًا وفيه القصاص. وقال الكاساني: أما شبه العمد فثلاثة أنواع، بعضها متفق على كونه شبه عمد، وبعضها مختلف فيه. أما المتفق عليه: فهو أن يقصد القتل بعصًا صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة أو نحو ذلك مما لا يكون الغالب فيه الهلاك، كالسوط ونحوه إذا ضرب ضربةً أو ضربتين ولم يوال في الضربات.

وأما المختلف فيه: فهو أن يضرب بالسوط الصغير ويوالي في الضربات إلى أن يموت، وهذا شبه عمد بلا خلاف بين أصحابنا، وعند الشافعي هو عمد، وإن قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك مما ليس بجارح ولا طاعن، كمدقة القصارين, والحجر الكبير، والعصا الكبيرة، ونحوهما، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي: هو عمد. قوله: "فقد ثبت بذلك". أي بما ذكرنا من وجه النظر والقياس قول أهل هذه المقالة وهم أهل المقالة الثانية، ومنهم: أبو يوسف ومحمد. والذي يفهم من كلامه أن هذا هو مختاره أيضًا. ولقائل أن يقول: وجه هذا النظر الذي ذكره إنما يرجع إليه عند تكافؤ الأخبار، كما ذكره بقوله: "فلما تكافأت واختلفت وجب النظر. . . ." إلى آخره. وهاهنا ليس كذلك؛ لأن خبر حَمَل بن مالك بن النابغة الذي رواه ابن عباس مشتمل على تناقض وتعارض، وذلك لأن رواية أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار تخبر أن رسول الله -عليه السلام- قضى بأن تقتل تلك المرأة القاتلة مكان تلك المرأة المقتولة، وكذلك جاء في رواية الحجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، ورواية هشام بن سليمان، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار لم تخبر إلا قضاء رسول الله -عليه السلام- بالغرة في الجنين، وكذلك جاء في رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ولم يذكر في روايتهما عن عمرو بن دينار قتل المرأة، وروى سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح، عن حَمَل بن مالك قال: "كانت له امرأتان، فرجمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب قلبها وهي حامل، فألقت جنينًا وماتت، فرفع ذلك إلى رسول الله -عليه السلام-، فقضى رسول الله -عليه السلام- بالدية على عاقلة القاتلة، وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة". وهذا مرسل أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) معلقًا، فهذا كما رأيت أخبار مختلفة ومتضادة فسقطت، وبقي حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم، ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 43).

وحديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه مسلم والأربعة، في نفي القصاص، غير مُعَارَض، والعمل به أولى، فافهم. ثم إنه أخرج حديث حمل بن النابغة من طريقين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان، عن عبد الله بن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): نا محمَّد بن مسعود، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، سمع طاوسًا، عن ابن عباس، عن عمر: "أنه سأله عن قضية النبي -عليه السلام- في ذلك، فقال: قام إليه حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله -عليه السلام- في جنينها بغرة، وأن تقتل" قال النضر بن شميل: المسطح: العود يرقق به الخبز. وقال أبو عبيد: المسطح عود من العيدان. وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3). الثاني: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس. ولم يذكر فيه "وأن تقتل مكانها". وقال الحافظ المنذري: لم يذكر: "وأن تقتل" في غير هذه الرواية -يعني في رواية أبي عاصم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار- وقد روي عن عمرو بن دينار أنه شك في قتل المرأة بالمرأة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 600 رقم 4572). (¬2) "المجتبى" (8/ 21 رقم 4739). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 882 رقم 2641).

وقال البيهقي: شك فيه عمرو بن دينار، والمحفوظ أنه قضى بديتها على عاقلة القاتلة. وقد قيل: إن ابن جريج أخطأ فيه؛ لأن سفيان بن عُيينة روى هذا الخبر عن عمرو بن دينار ولم يذكر فيه ما ذكر ابن جريج من قوله: "وأن تقتل". قلت: يؤيد هذا أيضًا ما رواه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن محمَّد الزهري قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال: "قام عمر - رضي الله عنه - على المنبر. . . .". فذكر معناه، أي معنى حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس المذكور، ولم يذكر: "أن تقتل" زادَ: "بغرة عبد أو أمة، فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا". وأخرجه النسائي (¬2) نحوه، ولكن هذا منقطع؛ لأن طاوسًا لم يسمع عمر - رضي الله عنه -. وهذا الحديث روي أيضًا عن جابر وبريدة - رضي الله عنهما -: أما حديث جابر فأخرجه أبو داود (¬3): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا يونس بن محمَّد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: نا المجالد، قال: نا الشعبي, عن جابر بن عبد الله: "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولدها، قال: فجعل رسول الله -عليه السلام- دية المقتول على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا، ميراثها لزوجها وولدها". وأخرجه ابن ماجه (¬4) مختصرًا. وأما حديث بريدة فأخرجه أبو داود (¬5) أيضًا: ثنا عباس بن عبد العظيم، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 601 رقم 4573). (¬2) "المجتبى" (8/ 47 رقم 4816). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 601 رقم 4575). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 884 رقم 2648). (¬5) "سنن أبي داود" (2/ 602 رقم 4578).

قال: نا عبيد الله بن موسى، قال: نا يوسف بن صهيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: "أن امرأة خذفت أخرى، فأُسقطت، فرفع ذلك إلى النبي -عليه السلام-، فجعل في ولدها خمسمائة شاة، ونهى يومئذٍ عن الخذف". قال أبو داود: هكذا قال عباس، وهو وهم، والصواب: "مائة شاة". وأخرجه النسائي مسندًا (¬1) ومرسلًا (¬2). فإن قيل: ما وجه الاختلاف في ألفاظ هذا الحديث، حيث وقع في رواية أبي هريرة "فرمت إحداهما الأخرى بحجر" وفي حديث المغيرة بن شعبة "بعمود" وفي رواية عنه: "بعمود فسطاط" وفي حديث عبد الله بن عباس: "بمسطح" وفي رواية عنه: "بحجر" وفي حديث بريدة: "خذفت" "بالخاء والذال المعجمتين" والقصة واحدة. قلت: يحتمل أن يكون الضرب وقع بالعمود والحجر، فذكر بعض الرواة أحدهما، وذكر الآخرُ الآخرَ، ووقع في حديث ابن عباس اللفظان، ورواية "الخذف" موافقة لرواية "الحجر". والله أعلم. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم البركي، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا الحجاج، قال: حدثني زيد بن جبير الجشمي، عن جروة بن حُميل، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم -قال الحجاج: يعني العصا- ثم يقول: لا قود عليّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلا أقدته". ش: أي قد روي وجوب القود على مَن قتل بعصًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 46 رقم 4813). (¬2) "المجتبى" (8/ 47 رقم 4814).

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيار الشعيري البصري المعروف بالبِرَكي -بكسر الباء الموحدة وفتح الراء- كان ينزل سكة البِرَك بالبصرة، فنُسب إليها، روى عنه أبو داود وأبو زرعة والبخاري في غير الصحيح. يروي عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة. عن الحجاج بن أرطاة فيه مقال. عن زيد بن جبير -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن حرمل الطائي الكوفي الجُشَمي -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- نسبة إلى بني جُشم بن معاوية، روى له الجماعة. وهو يروي عن جروة -بالجيم- بن حُمَيل -بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره لام- وقيل: جَميل -بالجيم المفتوحة- والأول أصح، وثقه ابن حبان. عن أبيه حميل بن شبيب بن إساف بن هذيم القضاعي، وثقه ابن حبان، وقال: شيخ يروي عن عمر - رضي الله عنه - روى عنه ابنه جروة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن زيد بن جبير، عن جروة بن حميل، عن أبيه، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "يعمد أحدكم إلى أخيه فيضربه بمثل آكلة اللحم، لا أوتى برجل فعل ذلك فقتل، إلا أقدته منه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث ابن أرطاة، عن زيد بن جبير، عن جروة بن حُميل، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم ثم يرى أني لا أقيده، والله لأقيدنه منه". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 428 رقم 27686). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 44 رقم 15773).

وقال البيهقي: رواه إسرائيل، عن زيد بن جبير، وقال عن أبيه، عن عمر - رضي الله عنه - قال حجاج: آكلة اللحم محدودة، قال أبو عبيد: يعني أنه يرى القود بغير حديد، وذلك إذا كان مثله يقتل. قوله: "إلا أقدته" مِن أقاد: إذا اقتص منه، وثلاثيه: قاد، من القود، وهو القصاص. ص: وقد روي عن علي - رضي الله عنه - خلاف ذلك: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود". ش: أي قد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خلاف ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ وذلك لأن عمر كان يرى القود بالعصا، وعليٌّ لا يراه، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - ومَن معه. أخرجه بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: "شبه العمد: بالعصا والحجر العظيم". وأخرج ابن حزم (¬2) من طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "شبه العمد: الضربة بالخشبة، والقذفة بالحجر العظيم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 428 رقم 27688). (¬2) "المحلى" (10/ 385).

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه -: "قال: في الخطأ شبه العمد -الضرب بالخشبة، والحجر الضخم- ثلاث حقاق، وثلاث جذاع، وثلاث ما بين ثنية إلى بازل عامها". قلت: في هذا حجتان: الأول للجمهور: أن شبه العمد من أقسام القتل، وهو حجة على مالك والظاهرية في إنكارهم شبه العمد. والحجة الثانية: لأبي حنيفة على مَن خالفه في أن القاتل بالعصا والحجر لا قود عليه، وهو مذهب الحكم بن عتيبة أيضًا. قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد: "عن الرجل يضرب الرجل بالعصا فيقتله، قال الحكم: ليس عليه قود. وقال حماد: يقتل". والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 429 رقم 2790).

ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس؟

ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم شبه العمد، هل يكون فيما دون النفس -وأراد به الأطراف- كما يكون في النفس عند الجمهور؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فإن قال قائل: لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النفس قد يكون فيها شبه العمد، كان كذلك ما دون النفس، وذكر في ذلك الآثار التي رويناها عن رسول الله -عليه السلام- التي فيها: "ألا إن قتيل خطأ العمد -بالسوط والعصا والحجر- فيه مائة من الإبل منها أربعون خَلِفةً في بطونها أولادها" فكان من حجتنا عليه في ذلك: أنه قد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد روي عنه فيها، وقد روي عنه فيما دون النفس ما يخالف ذلك، وهو ما ذكرنا بإسناده في أول هذا الكتاب في خبر الربَيِّع: "أنها لطمت جاريةً فكسرت ثنيتها، فاختصموا إلى رسول الله -عليه السلام-، فأمر بالقصاص". وقد رأينا اللطمة إذا أتت على النفس لم يجب فيها قود، ورأيناها فيما دون النفس قد أوجبت القود، فثبت بذلك أن ما كان في النفس شبه عمد أنه فيما دون النفس عمد، على تصحيح هذه الآثار. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أراد بالقائل هذا: الشافعي -رحمه الله-. حاصل هذا: أن القائلين بشبه العمد فيما دون النفس يحتجون بقوله -عليه السلام-: "ألا إن قتيل خطأ العمد .. الحديث"، وقد مضى ذكره في الباب الذي قبله: عن عقبة بن أوس السدوسي، عن رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. فقالوا: لما ثبت عنه أن النفس قد يكون فيها شبه العمد، كان كذلك ما دون النفس يكون فيها شبه العمد.

وأجاب عن ذلك بقوله: "فكان من حجتنا عليه في ذلك: أن على هذا القائل فيما ذهب إليه أنه قد روي عن النبي -عليه السلام- الذي قد روي عنه في النفس، وكذلك روي عنه فيما دون النفس ما يخالف ما روي عنه في النفس، وهو ما مضى ذكره في خبر الربيِّع: "أنها لطمت جاريةً. . . ." الحديث فأمر النبي -عليه السلام- فيها بالقصاص، وقد رأينا الرجل إذا قتل آخر باللطمة لا يجب فيها القصاص، فثبت بذلك أن ما كان في النفس شبه عمد يكون عمدًا فيما دون النفس وهي الأطراف. ونقول أيضًا: إن الله تعالى قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1) وقال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (1)، ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره، والحديث إنما ورد في إثبات شبه العمد في القتل، وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق التوقيف، ولم يَرِد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد فيه؛ فثبت بذلك أن ما كان في النفس شبه عمد أنه يكون فيما دون النفس عمدًا؛ ولأن قصد إتلاف النفس يختلف باختلاف الآلات، وما دون النفس لا يختص بآلة، فيبقى المعتبر تعمد الضرب، وقد وُجد، فكان عمدًا محضًا، فننظر إن كان يمكن إيجاب القصاص يجب القصاص، وإن لم يكن يجب الأرش. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [45].

ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني

ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل يقول عند موته: إن قتلوني يكون من فلان الذي قتلني، هل يعمل بقوله هذا أم لا؟ ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: قد روينا فيما تقدم من هذا الباب "أن رسول الله -عليه السلام- لما سأل الجارية التي رُضخ رأسها: مَنْ رَضَخَ رأسك، أفلان هو؟ فأومأت برأسها أن نعم. فأمر رسول الله -عليه السلام- فرضخ رأسه بحجرين" فذهب قوم إلى هذا الحديث فزعموا أنهم قلدوه، وقالوا: مَن ادعى وهو في حال الموت أن فلانًا قتله ثم مات، قُبِلَ قوله في ذلك، وقُتِل الذي ذكر أنه قتله. ش: الحديث المذكور أخرجه في باب: الرجل يقتل الرجل كيف يقتل، من ثلاث طرق صحاح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، والقاتل كان يهوديًّا، والمقتولة كانت جارية من الأنصار، فذهب قوم من الظاهرية وأهل الحديث إلى هذا الخبر، وقالوا: من ادعى وهو في حالة الموت والاحتضار: أن فلانًا قتلني ثم مات؛ فإنه يُقبل قوله في ذلك، ويؤخذ الرجل الذي عينه ويقتل؛ وذلك أن الجارية التي رضخ اليهودي رأسها، قد أُصمتت، فقال لها رسول الله -عليه السلام-: "مَن قتلك، أفلان؟ -لغير الذي قتلها- فأشارت برأسها: أن لا، فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أن لا، قال: ففلان -لقاتلها- فأشارت: أن نعم، فأمر رسول الله -عليه السلام- باليهودي فَرُضَّ رأسه بين حجرين". فدل هذا أن دعوى القتيل قبل موته وتعيينه قاتله صحيحة يعمل بها، ويُقتل بقوله من عيَّنه بدعواه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- سأل اليهودي فأقر بما ادعت الجارية عليه من ذلك، فقتله بإقراره لا بدعوى الجارية،

فاعتبرنا الآثار [التي] (¬1) قد جاءت في ذلك، هل نجد فيها على شيء من ذلك دليلًا؟ فإذا ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- نحوه، وزاد قال: "فسأله فأقر بما ادعت، فرضخ رأسه بين حجرين". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن يهوديًّا رضخ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا، أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي، فأُتي به، فاعترف، فأمر به النبي -عليه السلام- فَرُضَّ رأسه بالحجارة". فبين هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- إنما قتله بإقراره بما ادعي عليه لا بالدعوى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء، منهم: الأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا يجوز أن يُقتل أحدٌ بقول المدعي أو بكلامه فضلًا بإيمائه برأسه، وأجابوا عما احتج أهل المقالة الأولى من حديث أنس - رضي الله عنه - بأنه قد جاء في بعض طرقه أن قتل النبي -عليه السلام- لذلك اليهودي إنما كان بإقراره واعترافه بذلك، لا بدعوى الجارية. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا حجاج بن منهال، ثنا همام، عن قتادة، عن أنس ابن مالك: "أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: مَن فعل بك هذا، أفلان؟ أفلان؟ حتى سُمي اليهودي، فأتي به النبي -عليه السلام- فلم يزل به حتى أقر به، فَرَضَّ رأسه بالحجارة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من (ش، ح). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2520 رقم 6482).

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أنس بن مالك: "أن جاريةً وُجد رأسها قد رُضَّ بين حجرين، فسألوها: مَن صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًّا، فأومأت برأسها، فأُخذ اليهودي فأقرَّ، فأمر به رسول الله -عليه السلام- أن يُرضّ رأسه بالحجارة". وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) أيضًا. وقد استوفينا الكلام فيه في باب الرجل يقتل الرجل كيف يُقتل؟ ص: وقد بيَّن ذلك أيضًا ما قد أجمعوا عليه، ألا ترى أن رجلًا لو ادعى على رجل دعوى قتل أو غيره، فسئل المدعى عليه عن ذلك، فأومأ برأسه أن نعم، أنه لا يكون بذلك مقرًّا، فإذا كان إيماء المدعى عليه برأسه لا يكون منه ذلك إقرارًا يجب به عليه حق، كان إيماء المدعي برأسه [أحرى] (¬4) أن لا يوجب له حقًّا. ش: أي قد بيَّن أيضًا ما ذكرنا من أن إشارة المدعي برأسه لا توجب حكمًا، إجماع العلماء على أن الرجل إذا ادعى على غيره دعوى -قتل أو غيره- فسئل المدعى عليه عن ذلك، فأشار برأسه أنْ نعم؛ أن ذلك لا يكون إقرارًا منه، ولا يجب به شيء، فإذا لم يثبت بهذا شيء من جانب المدعى عليه، فأحرى وأولى أن لا يثبت به من جانب المدعي الذي لا اعتبار لمجرد دعواه بدون بينة، أو اعتراف من المدعى عليه. ص: وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1299 رقم 1672). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 587 رقم 4527). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 15 رقم 1394). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من (ش، ح).

فمنع رسول الله -عليه السلام- أن يعطى أحدٌ بدعواه دماء أو مالًا، ولم يوجب للمدعي فيه بدعواه إلا اليمين. فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار. ش: ذكره شاهدًا لقوله: إن دعوى الرجل على غيره -بقتل أو غيره- لا تقبل بدون بينة، أو يمين أو اعتراف من المدعى عليه، ألا ترى أنه -عليه السلام- منع أن يُعطى أحد بدعواه مالًا أو دمًا, ولم يُثبت للمدعي في دعواه إلا اليمين وحلف المدعى عليه. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن عبد الله بن عبيد الله ابن أبي مليكة زهير المكي الأحول قاضي عبد الله بن الزبير، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أنا ابن وهب، عن ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنهم قد أجمعوا أن رجلًا لو ادعى في حال موته أن له على رجل درهمًا ثم مات، أن ذلك غير مقبول منه، وأنه في دعواه ذلك كهو في دعواه في حال الصحة؛ فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو في دعواه الدم في تلك الحال، كهو في دعواه ذلك في حال الصحة. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وأما وجه ذلك الحكم المذكور من حيث النظر والقياس. وهو ظاهر جدًّا لا يحتاج إلى مزيد بيان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1336 رقم 1711). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 778 رقم 2321).

ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا خالد بن نزار، قال: أنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: "كنت عاملًا لابن الزبير - رضي الله عنهما - على الطائف، فكتبت إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - في امرأتين كانتا في بيت تخرزان جرزًا لهما، فأصابت إحداهما يد صاحبتها بالإشفي فجرحتها، فخرجت وهي تدمي، وفي الحجرة حدَّاث، فقالت: أصابتني، فأنكرت ذلك الأخرى. فكتبتُ في ذلك إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -، فكتبَ إليَّ: أن رسول الله -عليه السلام- قضى أن اليمين على المدعى عليه، ولو أن الناس أعطوا بدعواهم؛ لادعى ناس من الناس دماء رجال وأموالهم، فادعها فاقرأ هذه الآية عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬1) الآية، فقرأت عليها الآية فاعترفت. قال نافع: فحسبت أنه قال: "فبلغ ذلك ابن عباس فسَّره" ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- ردَّ حكمها في ذلك إلى حكم سائر ما يدعي بعض الناس على بعض. ش: هذا أيضًا شاهد مثل ما قبله. أخرجه بإسناد صحيح، عن نصر بن مرزوق، عن خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي، عن نافع بن عمر بن عبد الله المكي، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي الأحول. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة: "كتبتُ إلى ابن عباس في امرأتين كانت تخرزان جرزًا في بيت، وفي الحجرة حدَّاث، فأخرجت إحداهما يدها تشخب دمًا، فقالت: أصابت يدي هذه، وأنكرت الأخرى، فكتب إليَّ ابن عباس: أن رسول الله -عليه السلام- قضى أن اليمين على المدعى عليه. . . . إلى آخره". ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [77]. (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 83 رقم 11229).

وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) مختصرًا. قوله: "تخرزان" من خَرَزَ الخف وغيره، يَخْرِزُهُ خَرزًا، من باب ضَرَب يَضْربُ ومادته: خاء معجمة، وراء، ثم زاي معجمة. و"الجِرْز" بكسر الجيم، وسكون الراء المهملة، وفي آخره زاي معجمة، وهو لباس من لباس النساء من الوبر، ويقال هو الفرو الغليظ. قوله: "بالإشْفَى" بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الفاء مقصور، وهي التي يقال لها بالفارسية: درفس، وقال الجوهري: الإشفى الذي للأساكفة، وقال ابن السكيت: الإشْفَي ما كان للأساقي والمزاد وأشباهها، والمخصف للنعال. قلت: الأساقي جمع السقاء وهو الدلو، وهو الجمع الكثير، والجمع القليل الأسقية والأسقيات، والمزاد -بفتح الميم-: جمع مَزادة، وهي الراوية، وتجمع على مزايد أيضًا. قوله: "وهي تدمي" من دَمِيَ الشيء يَدْمَى: إذا خرج منه الدم، وهو من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، قاله الجوهري، يقال: دَمِيَ الشيء يَدْمي دَميًا ودُميًّا فهو دمٍ، مثل فَرِقَ يَفْرِقُ فَرقًا فهو فَرِقٌ، والمصدر متفق عليه أنه بالتحريك، وإنما اختلفوا في الاسم. قوله: "وفي الحجرة حُدَّاث" جملة حالية، والحُدَّاث -بضم الحاء المهملة وتشديد الدال: أي جماعة يتحدثون، وهو جمع على غير قياس حملًا على نظيره، نحو سَامِر وسُمَّار، فإن السُّمار- بالضم: المتحدثون. قوله: "يشخب دمًا" أي يسيل دمًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1656 رقم 4277). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1336 رقم 1711). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 335 رقم 3619).

ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدا

ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا ش: أي هذا باب في بيان حكم قتل المؤمن الكافر على وجه العمد، هل يجب قصاص أم لا؟ ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا سفيان (ح). وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قالا: ثنا أسباط، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال: "سألت عليًّا - رضي الله عنه -: هل عندكم من رسول الله -عليه السلام- علمٌ غير القرآن؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا من رسول الله -عليه السلام- سوى القرآن وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، عن عامر الشعبي، عن أبي جحيفة -بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الفاء- واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -. وأخرجه البخاري (¬1): نا صدقة بن الفضل، أنا ابن عيينة، ثنا مطرف، سمعت الشعبي، قال: سمعت أبا جحيفة قال: "سألت عليًّا - رضي الله عنه -: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ -وقال ابن عيينة مرةً: ما ليس عند الناس- فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2531 رقم 6507).

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أسباط بن محمَّد القرشي الكوفي، عن مطرف. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان بن عيينة، ثنا مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي، نا أبو جحيفة قال: "قلت لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: هل عندكم من رسول الله -عليه السلام- سوى القرآن؟ قال علي: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر". وأخرجه الترمذي (¬2): عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن مطرف، عن الشعبي، أنا أبو جحيفة، به. وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬3): عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة بمعناه. وابن ماجه (¬4): عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن مطرف، عن الشعبي. قوله: "والذي فلق الحبة" أي وحق الذي فلق الحبة، أي أقسم بالله الذي فلق الحبة، وكان علي - رضي الله عنه - كثير القسم بهذه اللفظة، أي الذي شق حبَّة الطعام، ونوى التمر للإنبات. و"الفَلْق": الشق، وهو بسكون اللام، وأما الفَلَق بالتحريك: فهو الصبح نفسه. قوله: "وبرأ النسمة" أي وخلق النسمة، والبارئ هو الخالق، وهو الذي خلق الخلق لا عن مثال، ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 79 رقم 599). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 24 رقم 1412). (¬3) "المجتبى" (8/ 23 رقم 4744). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 787 رقم 2658).

من المخلوقات، وقلما يستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة وخلق السموات والأرض. والنسمة: النفس والروح، وكل دابة فيها روح تسمى نسمة. قوله: "العقل" أي الدية، وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي شدها في عقلها ليُسْلمها إليهم ويقبضونها منه، فسميت الدية عقلًا بالمصدر، يقال: عَقَلَ البعير يَعْقله عَقْلًا، وجمعها عُقُول. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن المسلم إذا قتل الكافر متعمدًا لم يُقتل به، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وابن شبرمة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا يقتل المسلم بالكافر. وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): وإن قتل مسلم عاقل بالغ ذميًّا أو مستأمنًا، عمدًا أو خطأً، فلا قود عليه ولا دية ولا كفارة، لكن يؤدب في العمد خاصةً ويسجن حتى يتوب، كفًّا لضرره. وقال مالك: لا يقادُ المسلم بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة فيقاد به ولابد، وعليه في قتله خطأً أو عمدًا غير غيلة الدية فقط، والكفارة في الخطأ. وقال الشافعي: لا يقاد المسلم بالذمي أصلًا، لكن عليه في قتله إياه عمدًا أو خطأ الدية والكفارة. وقد اختلف عن عمر بن عبد العزيز في ذلك كما روينا عن عبد الرزاق عن معمر، عن سماك بن الفضل -قاضي اليمن- قال: "كتب عمر بن عبد العزيز في زياد بن مسلم -وكان قد قتل هنديًّا باليمن- أن أغرمه خمسمائة ولا تقده به. وقول آخر رويناه عنه: "أنه يقتل" كما ذكرناه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (10/ 347 - 350) بتصرف واختصار.

قال: ورجع إليه زفر بن الهذيل روينا ذلك من طريق أبي عبيد عن عبد الرحمن ابن مهدي عنه. وقال أبو بكر الرازي: قال مالك والليث بن سعد: إن قتله غيلة قتُل به، وإلا لم يُقتل. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يقتل به. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وعامرًا الشعبي ومحمد بن أبي ليلى وعثمان البتي وأبا حنيفة وأبا يوسف -في رواية- ومحمدًا. فإنهم قالوا: يقتل المسلم بالكافر. وذكر أبو بكر الرازي قول زفر مع هؤلاء، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الكلام الذي حكاه أبو جُحيفة في هذا الحديث عن علي - رضي الله عنه - لم يكن مفردًا, ولو كان مفردًا لاحتمل ما قالوا، ولكنه كان موصولًا بغيره. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد قال: "انطلقت أنا والأشتر إلى علي - رضي الله عنه - فقلنا: هل عهد إليك رسول الله -عليه السلام- عهدًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما كان في كتابي هذا، فأخرج كتابًا من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على مَن سواهم، لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ومَن أحدث حدثا فعلى نفسه، ومَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". فهذا هو حديث علي - رضي الله عنه - بتمامه، والذي فيه مِن نفي قتل المؤمن بالكافر هو قوله: "لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فاستحال أن يكون معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى؛ لأنه لو كان معناه على ما ذكروا لكان ذلك لحنًا من رسول الله -عليه السلام-، ورسول الله -عليه السلام- أبعد الناس من ذلك، ولكان لا يقتل

مؤمن بكافر ولا ذي عهد في عهده، فلما لم يكن لفظه كذلك، - صلى الله عليه وسلم - إنما هو: ولا ذو عهد في عهده علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص؛ فصار ذلك كقوله: "لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر"، وقد علمنا أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي نسخ النبي -عليه السلام- أن يقتل به المؤمن في هذا الحديث هو الكافر، الذي لا عهد له، فهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي، وأن ذا العهد الكافر الذي قد صارت له ذمة لا يُقتل به أيضًا، وقد نجد مثل هذا كثيرًا في الكلام، قال الله -عز وجل-: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (¬1) فقدَّم وأخَّر، فكذلك قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" إنما مراده فيه -والله أعلم- لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر؛ فالكافر الذي منع - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن هذا الكلام -أعني قول علي - رضي الله عنه - الذي حكاه عنه أبو جحيفة السوائي: "وأن لا يقتل مسلم بكافر" لم يكن مفردًا يعني لم يكن كلامًا مستقلًا برأسه، وإنما كان معه كلام آخر، وهو الذي رواه قيس بن عباد والأشتر، فإن في روايتهما: "لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فهذا هو أصل الحديث وتمامه، وهذا الأولى على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ لأن المعنى على أصل الحديث: لا يقتل مؤمن بسبب قتل كافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده" بسبب قتل كافر، ومن المعلوم أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي منع النبي -عليه السلام- أن يُقتل به مؤمن -في الحديث المذكور- هو الكافر الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد أن المؤمن لا يُقتل بالكافر الحربي، ولا الكافر الذي له عهد يُقتل به أيضًا، فحاصل معنى الحديث -الذي رواه أبو جحيفة: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [6].

فإن قيل: كل واحد من الحديثين كلام مستقل مفيد فيعمل به، فما الحاجة إلى جعلهما واحدًا حتى نحتاج إلى هذا التأويل؟ قلت: قد ذكرنا لك أن أصل الحديث واحد، فبتقطيعه لا يزول المعنى الأصلي، ولئن سلمنا أن أصله ليس بواحد، وأن كل واحدٍ حديث برأسه، ولكن الواجب حملهما على أنهما وردا معًا؛ وذلك لأنه لم يثبت أن النبي -عليه السلام- قال ذلك في وقتين: مرةً من غير ذكر ذي العهد، ومرة مع ذكر ذي العهد. وأيضًا أن أصل هذا كان في خطبته -عليه السلام- يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلًا من هذيل في الجاهلية، فقال -عليه السلام-: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" يعني -والله أعلم- الكافر الذي قتل في الجاهلية، وكان ذلك تفسيرًا لقوله: "كل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ"؛ لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث، وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة، وأنه إنما كان قُبْلُ بين النبي -عليه السلام- وبين المشركين عهود إلى مُدد، لا على أنهم داخلون في ذمة الإِسلام وحكمه، وكان قوله -عليه السلام- يوم فتح مكة: "لا يُقتل مؤمن بكافر" منصرفًا إلى الكفار والمعاهدين؛ إذْ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده"، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مُدد؛ ولذلك قال: "ولا ذو عهد في عهده"، كما قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (¬1)، وقال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (¬2)، وكان المشركون حينئذٍ على ضربين: أحدهما: أهل الحرب ومَن لا عهد بينه وبين النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [4]. (¬2) سورة التوبة، آية: [2].

والآخر: أهل عهد إلى مدة، ولم يكن هناك أهل ذمة فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين، ولم يدخل فيه مَن لم يكن على أحد هذين الوضعين. وفحوى هذا الخبر ومضمونه على أن الحكم المذكور في نفي القصاص على الحربي المعاهد دون الذمي؛ وذلك أنه عطف عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" ومعلوم أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله، فهو إذًا مفتقر إلى ضمير، وضميره ما تقدم ذكره، ومعلوم أن الكافر الذي هو ذو العهد هو الحربي المستأمن فثبت أن مراده مقصور على الحربي، ولا يجوز أن يُجعل الضمير: ولا يُقتل ذو عهد في عهده من وجهين: الأول: أنه لما كان القتل المبدوء بذكره قتلًا على وجه القصاص، وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرًا في الثاني؛ لم يجز لنا إثبات الضمير قتلًا مطلقًا؛ إذا لم يتقدم على الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة، وهو القتل على وجه القود، فوجب أن يكون هو المَعْنِيّ بقوله: "ذو عهد في عهده" فالكافر المذكور بدًا ولو أضمرنا قتلًا مطلقًا كنا مثبتين لضمير لم يجر له ذكر في الخطاب، وهذا لا يجوز، وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يُقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي، كان قوله: "لا يُقتل مؤمن بكافر" في منزلة قوله: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، فلم يثبت عن النبي -عليه السلام- نفي قتل المؤمن بالذمي. والوجه الآخر: أنه معلوم أن ذا العهد يُحظر قتله ما دام في عهده، فلو حملنا قوله: "ولا ذو عهد في عهده" على أن لا يُقتل ذو عهد في عهده لأخلينا اللفظ عن الفائدة، وحكم كلام النبي -عليه السلام- حمله على مقتضاه في الفائدة، ولا يجوز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه. قوله: "فهذا هو" أشار به إلى ما رواه قيس بن عباد والأشتر. قوله: "وقد نجد مثل هذا كثيرًا في الكلام" أراد به مثل ما ذكره في الحديث المذكور من التقديم والتأخير، وهو أن معنى قوله -عليه السلام-: "لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر؛

وذلك كما في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1) والمعنى: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن، إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، فكما أن المعنى فيه على التقديم والتأخير، وهو أن المعنى يقتضي أن يكون قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (1) عقيب قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} (1) ليقع قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (1) جوابًا عن الاثنين؛ لأن حكم اللائي يئسن وحكم اللائي لم يحضن سواء، وهو وجوب العدة على كل واحدة منهما بثلاثة أشهر عوضًا عن ثلاث حيض، فكذلك التقدير في قوله -عليه السلام-: "لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده": لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر، فدل أن الكافر الذي منع -عليه السلام- أن يقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد والله أعلم. ثم إنه أخرج حديث عُبَاد بن قيس بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة السدوسي، عن الحسن البصري، عن قيس بن عُبَاد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- القيسي البصري، روى له الجماعة سوى الترمذي. والأشتر هو مالك بن الحارث النخعي، أدرك الجاهلية، وكان من شيعة علي - رضي الله عنه -، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، قال: نا سعيد بن أبي عروبة، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد قال: "انطلقت أنا والأشتر إلى علي - رضي الله عنه -. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا: عن أبي موسى، عن يحيى. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية: [4]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 588 رقم 4530). (¬3) "المجتبى" (8/ 19 رقم 4734).

قوله: "عهد إليك" أي أوصى إليك، كما جاء في حديث آخر: "عهد إليَّ النبي -عليه السلام-" أي أوصى. قوله: "من قِراب سيفه" بكسر القاف، وهو غلافه. قوله: "تتكافأ" أي تتساوى دماؤهم في القصاص والديات، من الكفؤ وهو النظير والمُساوي، ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها، وغير ذلك. قوله: "يسعى بذمتهم أدناهم" أي إذا أعطى أحد الجيش العدو أمانًا صار ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخفروه، ولا أن ينقضوا عليه عهده، وقد أجاز عمر - رضي الله عنه - أمان عبدٍ على جميع الجيش. قوله: "يدٌ على مَن سِواهم" أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضًا على جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدًا واحدة، وفعلهم فعلًا واحدًا. قوله: "لا يُقتل مؤمن بكافر" "الباء" فيه يجوز أن تكون للتعليل، والمعنى بسبب كافرٍ، ويجوز أن تكون للعوض والمقابلة، كما في قولك: اشتريته بدرهم. قوله: "ولا ذو عهد في عهده" أي ولا ذو ذمة في ذمته، وقد قلنا: إن التقدير: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر، أي لا يقتل مسلم ولا كافر معاهد بكافر، فإن الكافر قد يكون معاهدًا أو غير معاهد. قوله: "ومَن أحدث حدثًا" الحدث: الأمر المنكر الذي ليس معتاد ولا معروف في السُّنَّة، قيل: الحدث هاهنا: الإثم، وقيل: هو عام في الجنايات والحدث في الدين. قوله: "أو آوى مُحْدثًا" بضم الميم وسكون الحاء، ويروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: مَن نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء: الرضا به والصبر عليه؛ فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه؛ فقد آواه.

واستُفيد منه أحكام: فيه: أن المسلمين متساوون في الدماء، حتى إن الشريف يُقاد بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة. فإن قيل: فعل هذا ينبغي أن لا يُقتل المسلم بالكافر؛ لأن دم الكافر لا يساوي دم المسلم. قلت: قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" لا ينفي مكافأة دماء غير المؤمنين من أهل الذمة، والدليل على ذلك: أنه لم يمنع تكافؤ دماء الكفار حتى تقاد بعضهم لبعضهم إذا كانوا ذمةً لنا، وكذلك لا يمنع تكافؤ دماء المسلمين وأهل الذمة. وفيه: أن أحدًا من أهل العسكر إذا أمَّنَ أهل حصن أو أهل مدينة صح أمانه سواء كان حرًّا أو حرةً، ولا يصح أمان ذمي؛ لأنه منهم، إلا شاذًا عن مالك: يصح، ولا أمان أسير ولا فاجر منهم؛ لأنهما مقهوران تحت أيديهم. وعن الشافعية وجه: يصح إذا لم يخف. وفيه: أن المؤمن لا يقتل بالحربي، وأن الذمي أيضًا لا يقتل بالحربي. ص: فإن قال قائل: قوله: "ولا ذو عهد في عهده" إنما معناه: لا يقتل مؤمن بكافر، فانقطع الكلام، ثم قال: "ولا ذو عهد في عهده" كلام مستأنف، أي ولا يُقتل المعاهد في عهده، فكان من حجتنا عليه: أن هذا الحديث إنما جرى في الدماء المسفوك بعضها ببعض؛ لأنه قال: "المسلمون يدٌ على مَن سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" ثم قال: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فإنما جرى الكلام على الدماء التي تجري قصاصًا, ولم يجر على حرمة دم بعهد، ليحمل الحديث على هذا. فهذا وجه. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن قوله -عليه السلام-: "لا يُقتل مؤمن بكافر" كلام مستقل بذاته مفيد لحكم، وليس له تعلق به لما بعده، فلما قال هذا الكلام: انقطع عما قبله وتم.

ثم قوله -عليه السلام- بعده: "ولا ذو عهد في عهده" كلام مستأنف أي مبتدأ، وهو أيضًا كلام مستقبل بذاته مفيد لحكمه، ومعناه: لا يُقتل المعاهد في عهده، فإذا كان كذلك كان كل من الكلامين حكمًا، وهو أن يكون حكم الأول: منع قتل المؤمن بالكافر، أي كافر كان، وحكم الثاني: منع قتل المعاهد ما دام في عهده. وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "فكان مِن حجتنا عليه -أي على هذا القائل- أن هذا الحديث" يعني أن مورد الحديث في الدماء التي يُسفك بعضها ببعض بقرينة قوله: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى في القصاص كما ذكرنا, ولما قال: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" عُلم أن جريان الكلام كان على الدماء التي تسفك من حيث القصاص، ولم يكن على حرمة دم بسبب العهد والذمة؛ وذلك لأن حرمة دم العهد معلومة بدون هذا. ولو قلنا: المعنى ولا يُقتل المعاهد في عهده؛ لخلا اللفظ عن الفائدة. فإذا كان كذلك لم يكن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلامًا مستقلًا بدايةً، مفيدًا لحكم غير معلوم، فاحتاج إلى تأويل كما ذكرناه فيما مضى محققًا. قوله: "فهذا وجه" أي فهذا الذي ذكرناه وجه في الجواب. ص: وحجة أخرى: أن هذا الحديث إنما روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُعلم أنه رُوي عن غيره من طريق صحيح، فهو كان أعلم بتأويله، وتأويله هو فيه إذْ كان محتملًا عندكم هذين المعنين اللذين ذكرنا، دليل على أن معناه في الحقيقة هو ما تأوله علي. ش: أراد بقوله: "حجة أخرى": جوابًا آخر، وهو أن هذا الحديث الذي رواه قيس بن عُبَاد إنما رواه عن علي بن أبي طالب، عن النبي -عليه السلام-، وكان علي - رضي الله عنه - أعلم بتأويله، وتأويل علي - رضي الله عنه - فيه هو الذي يدل على أن معناه في الحقيقة هو الذي ما تأوله عليه من أن المراد بالكافر: هو الكافر الحربي على ما يجيء بيانه عن قريب.

قوله: "ولا نعلم أنه رُوي عن غيره" أي ولا نعلم أن هذا الحديث رُوي عن غير علي من طريق صحيح. وأشار بذلك إلى أن طريق هذا الحديث التي رُويت عن غير علي غير صحيحة، فالطريق الصحيح هو الذي رُوي عن علي - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري ومسلم وبقية الجماعة (¬1) فاقتصر عليه؟ فلذلك قلنا: إنه كان أعلم بتأويله؛ لانفراده به وبمعناه. فإن قلت: عمن روي عن غير علي - رضي الله عنه -؟ قلت: روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمران بن حصين، ومعقل ابن يسار، وعائشة الصديقة، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن مرسلًا. أما ما روي عن عبد الله بن عمرو، فأخرجه أبو داود (¬2): نا عبيد الله بن عمر، قال: ثنا هشم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . . فذكر نحو حديث علي - رضي الله عنه -، زاد فيه: "ويجير عليهم أقصاهم وَيَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضعِفَهُم ومُتَسَرِّيهم على قاعِدهم". وأخرجه ابن ماجه (¬3): أيضًا، وهذا الإسناد لا يلحق إسناد حديث علي - رضي الله عنه -؟ لأن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مختلف في الاحتجاج به. قوله: "ويجير عليهم أقصاهم" أي: إن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا [عقد] عقدًا لكافر لم يكن لأحد أن ينقضه. قوله: "ويَرْدُّ مُشِدُّهم" المُشِدُّ: الذي له دواب شديدة قوية، والمُضْعِفُ الذي دوابه ضعيفة، يريد أن القوي من الغزاة يساهم الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة. قوله: "ومُتَسَرِّيهم" المتسري: الذي يخرج في السرية التي يبعثها الإِمام من الجيش، فإذا غنموا شيئًا كان بينهم وبين الجيش عامة؛ لأنهم رِدْءٌ لهم، وأما إذا بعثهم من البلد فإنهم لا يردون على المقيمين شيئًا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 181 رقم 4531). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 895 رقم 2685).

وأما السريَّة: فقال ابن السكيت: هي ما بين [خمسة] (¬1) إلى ثلثمائة. وقال الخليل: هي نحو أربعمائة، وهو الأظهر، وقد جاء في الخبر "خير السرايا أربعمائة" (¬2). وأما حديث ما روي عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن عياض، عن عبد الملك بن عبيد، عن خرينق بنت الحصين، عن أخيها عمران بن الحصين قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: ألم تر إلى ما صنع صاحبكم هلال بن أمية؟! لو قتلت مؤمنًا بكافر لقتلته فَدُوه، فَوَدَّيْناه وبنو مدلج معنا، فجاءوا بغنم غفر لم أر أحسن منها ألوانًا، وكانت بنو مدلج حلفاء بني كعب في الجاهلية". قلت: يزيد بن عياض متروك، قاله الذهبي. وأما ما روي عن معقل بن يسار فأخرجه أبو أحمد بن (¬4) عدي الحافظ، نا عمر بن سنان، نا إبراهيم بن سعيد، نا أنس بن عياض، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، والمسلمون يدٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم". وأخرجه البيهقي من طريقه (¬5). ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": خمسمائة، وهو خطأ، والمثبت من "هدي الساري" (1/ 131)، و"شرح الزرقاني" (3/ 17). (¬2) رواه أبو داود في "سننه" (2/ 42 رقم 2611)، والترمذي في "جامعه" (4/ 125 رقم 1555)، وأحمد في "مسنده" (1/ 294 رقم 2682)، وغيرهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 29 رقم 15692). (¬4) "الكامل لابن عدي" (5/ 332 رقم 1487). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 30 رقم 15694).

قلت: عبد السلام متروك. قاله الذهبي. وأما ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو سعيد الصيرفي، نا أبو العباس، نا محمَّد بن سنان، نا عبيد الله ابن عبد المجيد، نا ابن موهب -يعني- عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب قال: سمعت مالكًا، عن ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "وجد في قائم سيف رسول الله -عليه السلام- كتابان، فذكر أحدهما، قال: وفي الآخر: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يُقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها, ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا تسافر المرأة ثلاث ليال إلا مع ذي رحم محرم". قلت: محمَّد بن سنان بن يزيد بن الذيال أبو الحسن القزاز البصري، قال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب. وكان أبو داود يُطلق عليه الكذاب. ثم العجب من البيهقي يذكر مثل هذا الحديث في "سننه" وفي كتابه "الخلافيات" وغيرهما في معرض الاستدلال لإمامه، ثم يسكت عن بيان علته، وأعجب منه أنه استدل ببعض هذا الحديث وترك بعضه، فإنه عجيب عجيب. وأما ما روي عن مجاهد ومن معه فأخرجه الشافعي في "مسنده" (¬2): أنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي حسين، عن عطاء وطاوس -أحسبه قال: ومجاهد والحسن- أن رسول الله -عليه السلام- قال يوم الفتح: "لا يُقتل مؤمن بكافر". قلت: مسلم بن خالد شيخ الشافعي، قال ابن المديني: ليس بشيء. وقال الرازي: لا يُحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 29 رقم 15693). (¬2) "مسند الشافعي" (1/ 190 رقم 925).

ولئن سلمنا صحة إسناد هذا، فالشافعي لا يقبل مرسل عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وغيرهم، سوى مراسيل سعيد بن المسيب -رحمه الله-. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال حين قُتل عمر - رضي الله عنه -: "مررت على أبي لؤلؤة ومعه الهرمزان، فلما بعثهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ومَمْسكة في وسطه فانظروا لعله الخنجر الذي قتل به عمر - رضي الله عنه -، فنظروا فإذا هو الخنجر الذي وصف عبد الرحمن، فانطلق عبيد الله بن عمر حين سمع ذلك من عبد الرحمن ومعه السيف حتى دعى الهرمزان، فلما خرج إليه قال: انطلق حتى ننظر إلى فرس لي، ثم تأخر عنه حتى إذا مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد مس السيف قال: لا إله إلا الله. قال عبيد الله: ودعوت جفينة -وكان نصرانيًّا من نصارى الحيرة- فلما خرج علوته بالسيف فصلب بين عينيه، ثم انطلق عبيد الله يقتل ابنة أبي لؤلؤة صغيرة تدعي الإِسلام، فلما استخلف عثمان - رضي الله عنه - دعى المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا عليَّ في قتل هذا الرجل الذي فتق في الدين ما فتق، فأجمع المهاجرون فيه على كلمة واحدة يأمرونه بالشد عليه، ويحثون عثمان - رضي الله عنه - على قتله، وكان فوج الناس الأعظم مع عبيد الله يقولون لجفينة والهرمزان أبعدهما الله، فأكثر في ذلك الاختلاف، ثم قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر قد أغناك الله من أن تكون بعدما قد بويعت، فإنما كان ذلك قبل أن يكون لك على الناس سلطان، فأعرض عن عبيد الله، وتفرق الناس على خطبة عمرو بن العاص، وودي الرجلان والجارية". ففي هذا الحديث أن عبيد الله قتل جفينة وهو مشرك، وضرب الهرمزان وهو كافر، ثم كان إسلامه بعد ذلك، فأشار المهاجرون على عثمان - رضي الله عنه - بقتل عبيد الله وعليٌّ - رضي الله عنه - فيهم فمحال أن يكون قول النبي -عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر" يراد به

غير الحربي، ثم يشير المهاجرون وفيهم علي - رضي الله عنه - على عثمان - رضي الله عنه - بقتل عبيد الله بكافر ذمي، ولكن معناه هو على ما ذكرنا من إرادته الكافر الذي لا ذمة له. ش: ذكر هذا شاهدًا لصحة تأويل قوله -عليه السلام-: "لا يُقتل المؤمن بكافر" أي بكافر حربي لا الكافر الذي له عهد وذمة، ولصحة ما ذكر عن علي - رضي الله عنه - أنه على هذا التأويل. وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم. وعُقيل -بضم العين وفتح القاف- هو ابن خالد الأيلي. وابن شهاب: هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. بيان ذلك: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قتله أبو لؤلؤة قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة، ثم لما ولي عثمان - رضي الله عنه - الخلافة، أشار المهاجرون كلهم على عثمان بأن يقتل عبيد الله بن عمر، وكان أكثر الناس مع عبيد الله يقولون: أبْعد الله جفينة والهرمزان، كيف يقتل عبيد الله بهما؟! فوقع في ذلك اختلاف كثير بين الناس، ثم أشار عمرو بن العاص على عثمان بالكف عن قتل عبيد الله، لأن قضيته لم تقع في سلطان عثمان - رضي الله عنه - وإنما كانت قبل أن بُويع له فأغناه الله تعالى عن ذلك، فأعرض عثمان عن عبيد الله، وتفرق الناس على كلام عمرو بن العاص. ففي هذا أشار المهاجرون على عثمان بقتل عبيد الله لأجل جفينة والهرمزان، والحال أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان فيهم، فكيف يجوز لعلي - رضي الله عنه - أن يشير مع المهاجرين بقتل عبيد الله، والحال أنه قد روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا يقتل مؤمن بكافر" وهذا محال في حق علي - رضي الله عنه -، فلو لم يكن أراد من قوله: "بكافر" الكافر الحربي لما أشار هاهنا فيمن أشار بقتل عبيد الله بكافر ذمي، فدل ذلك على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وانتقى أن يكون في قوله -عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر" حجَّة تدفع أن يقتل المؤمن بالذمي. والله أعلم.

واعترض البيهقي هاهنا على الطحاوي -رحمه الله- وقال (¬1): هذا الذي ذكره الطحاوي ساقط من أوجه: أحدها: أنه ليس في الحديث الذي رواه في هذا الباب أن عليًّا - رضي الله عنه - أشار بذلك؛ فإدخاله في جملة من أشار به على عثمان دون رواية موصولة محال. والثاني: أن في الحديث الذي رواه: أنه قتل أيضًا ابنة لأبي لؤلؤة صغيرة كانت تدعي الإِسلام، وإذا وجب القتل بواحد من قتلاه صحَّ أن يشيروا عليه بالقصاص. والثالث: أن الهرمزان وإن أقرَّ بالإِسلام حال مسِّه السيف في الخبر الذي رواه الطحاوي؛ فكان قد أسلم قبل ذلك، وهو معروف مشهور فيما بين أهل المغازي، وإنما قال: لا إله إلا الله حين مسَّه السيف تعجبًا أو تبعيدًا لما اتهمه به عبيد الله بن عمر - رضي الله عنه -، ومن الدليل على إسلامه قبل ذلك: ما أنا أبو الحسين ابن بشران، أبنا أبو الحسن المصري، نا مالك بن يحيى، نا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. . . . فذكر قصة قدوم الهرمزان على أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وما جرى في أمانه، فقال عمر: أخرجوا هذا عني فسيروه في البحر، قال الهرمزان: فسمعت عمر - رضي الله عنه - تكلم بكلام بعدي، فقلت للذي سمعه أيْش قال؟ قال: قال: اللهم اكسر به، قال: فلما حمل في السفينة، فسارت السفينة غير بعيد، ففتح ألواح السفينة، فقال الهرمزان: فوقعت في البحر، فذكرت قوله أنه لم يقل: اللهم غرِّقه، فرجوت أن أنجو، فسبحت فنجوت، فأسلم". فهذأ أنس بن مالك قد أخبر بإسلامه قبل ذلك بزمان. وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أبنا الربيع، أنا الشافعي، أبنا الثقفي، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: "حصرنا تستر، فنزل ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار (6/ 270) ووقع خطأ في ترتيب الكتاب في النسخة المطبوعة، وجاء باقي الكلام من أول قوله: الثالث في (6/ 147).

الهرمزان على حكم عمر - رضي الله عنه -. . . . فذكر الحديث في قدومه على عمر - رضي الله عنه - وما جرى في أمانه، قال أنس: "وأسلم وفرض له" يعني أسلم الهرمزان وفرض له عمر - رضي الله عنه -. وأخبرنا أبو سعيد، قال: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: "فرض عمر - رضي الله عنه - للهرمزان دهقان الأهواز ألفين حين أسلم". وأخبرنا الحسن بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، نا عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن خليفة قال: "رأيت الهرمزان مع عمر بن الخطاب رافعًا يديه يهلل ويكبر". ثم قال البيهقي: ولو اقتصر هذا الشيخ على ما اقتصر به مشايخه لم يقع له هذا الخطأ الفاحش لكنه يغرب ويخطئ، ولا يستوحش من رد الأخبار الصحيحة ومعارضتها بأمثال هذا. قلت: أما عن الوجه الأول: فهو أن يقال إنه ساقط؛ لأن مثل هذه القضية التي فيها أعظم الأمور وهو حِلّ دم مثل عبيد الله بن عمر بن الخطاب يستحيل أن يخلو عنها علي بن أبي طالب الذي هو من أكبر المهاجرين، وقد أخبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في حديثه: "أن عثمان - رضي الله عنه - دعى المهاجرين والأنصار، وقال: أشيروا عليّ في قتل هذا الرجل. . . . إلى آخره" فكيف يجوز أن يتخلف علي عن هؤلاء؟ أم كيف يجوز على عثمان أن لا يدعوه؟ وهذا من المحال. وأما عن الثاني: فهو أن يقال: إن في حديث عبد الرحمن ما يدل على أنه أراد قتله بجفينة وهذا جواب سؤالين ذكرهما الطحاوي على ما يجيء عن قريب، أخذ البيهقي سؤاله واعترض على الطحاوي وذهل عن جوابه، فلو تذكره لما أورده عليه.

وأما عن الثالث: فهو أن يقال: إن الأخبار التي رواها التي فيها إسلام الهرمزان قبل أن يقتله عبيد الله بن عمر يعارضها خبر سعيد بن المسيب وهو أقوى وأصح من هذه، فسقط الاحتجاج بها والاعتراض على الطحاوي، على أن في سند الخبر: مالك بن يحيى بن عمرو. قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بأفراده. وفيه علي بن عاصم، قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب. وقال يحيى: ليس به. شيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وفي سند الخبر الأخير عبد الله بن خليفة، قال الأزدي: تكلموا فيه. فهذا البيهقي يأتي بمثل هذه الأخبار ثم يعارض بها الخبر الصحيح ثم يقول: "ولو اقتصر هذا الشيخ. . . ." إلى آخر ما قال، ولو اقتصر هو عن مثل هذا الكلام لكان أحسن وأبعد له من نسبته إلى التعصب الفاسد، والإتيان بالمتاع الكاسد. قوله: "خبر قتل عمر - رضي الله عنه -" وكان قتله وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، قتله أبو لؤلؤة، واسمه فيروز المجوسي الأصل الرومي الدار، غلام المغيرة بن شعبة بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات، وقيل: ست ضربات إحداهن تحت سرته فقطعت السفاق فخر من قامته، واستخلف عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلًا مَات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف بُرْنُسا فانتحر نفسه، وحمل عمر - رضي الله عنه - إلى منزله والدم يسيل من جرحه وذلك قبل طلوع الشمس فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يُذَكِّرونه بالصلاة فيفيق ويقول: نعم، ولا حظ في الإِسلام لمن تركها، ثم صلى في الوقت ثم سأل عمن قتله من هو؟ فقالوا: أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل مَنيَّتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة، ثم قال: قبحه الله،

لقد كنا أمرنا به معروفًا، وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين، ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه، فإنه نجار نقاش حداد فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر، وقال: لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحًى تدور بالهواء فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملن لك رحًى يتحدث الناس بها في المشارق والمغارب، وكان هذا الكلام يوم الثلاثاء عشيةً، وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وخمس ليال، وعمره يوم مات: خمس وستون، وقيل: ست، وقيل: سبع وعن ابن عباس: ست وستون، وصلى عليه صهيب الرومي. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفة" (¬1): ثنا وكيع عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون قال: "كنت أدع الصف الأول هيبة لعمر - رضي الله عنه -، وكنت في الصف الثاني يوم أصيب، فجاء فقال: الصلاة عباد الله، استووا، قال: فصلى بنا، فطعنه أبو لؤلؤة طعنتين أو ثلاثًا، قال: وعلى عمر - رضي الله عنه - ثوب أصفر، قال: فجمعه على صدره ثم أهوى وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (¬2)، فقَتَل وطعن ثلاثة عشر -أو اثني عشر- قال: ومال الناس عليه، فاتكأ على خنجره فقتل نفسه". قوله: "ومعه الهرمزان" وهو الهرمزان صاحب تستر، وكان مجوسيًّا، ولما فتحت الصحابة مدينة تستر في سنة سبع عشرة من الهجرة أسروا الهرمزان هذا، وسيروه مع الجيش على يد وفد فيهم أنس بن مالك خادم النبي -عليه السلام- إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فلما بعثهم ثاروا -أي: فلما فاجأهم نهضوا وقاموا- يقال: بَعَثَهُ يَبعَثُهُ بَعْثًا أي فاجأه، ويقال: ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع. قوله: "ومَمْسَكه" بفتح الميم وهو موضع المسك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 438 رقم 37068). (¬2) سورة الأحزاب، آية: [38].

قوله: "ودعوت جُفَيْنة" بضم الجيم وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف بعدها نون مفتوحة وفي آخره هاء، وكان نصرانيًّا من أهل الحيرة، وكان قد مالا هو والهرمزان أبا لؤلؤة على قتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قوله: "فصَلَّب بين عينيه" بالصاد المهملة وتشديد اللام وفي آخره باء موحدة، ومعناه: ضربه على عرضه حتى صارت الضربة كالصليب. قوله: "فلما استخلف عثمان" كان استخلافه يوم الاثنين لليلةٍ بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، كذا قاله الواقدي. وأول حكومة حكم فيها بقضية عبيد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قوله: "الذي فتق" أصل الفتق: الشق، قال تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (¬1) وأراد به هاهنا نقض العهد وهتك أمر الشريعة. قوله: "وكان فوج الناس" الفوج: الجماعة من الناس. و"الأعظم" بالرفع صفة للفوج. قوله: "أبعدهما الله" أي أهلكهما الله، من البَعَد -بفتحتين- وهو الهلاك. قوله: "وودى الرجلان" أي: أدى ديتهما، مِن ودَاه يَدِيَهُ ديةً، وقد ذكرناها مرةً. ص: فإن قال قائل: ففي هذا الحديث أن عبيد الله قتل ابنة لأبي لؤلؤة صغيرةً تدعي الإِسلام، فيجوز أن يكون إنما استعجلوا سفك دم عبيد الله بها لا بجفينة والهرمزان. قيل له: في هذا الحديث ما يدل على أنه أراد قتله بجفينة والهرمزان وهو قولهم: أبعدهما الله، فمحال أن يكون عثمان - رضي الله عنه - أراد أن يقتله بغيرهما، ويقول الناس له: أبعدهما الله، ثم يقول لهم: إني لم أرد قتله بهذين، إنما أردت ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، آية: [30].

قتله بالجارية، ولكنه أراد قتله بهما وبالجارية، ألا تراه يقول: فأكثر في ذلك الاختلاف، فكيف يكثر الاختلاف في ابنة أبي لؤلؤة وهي صغيرة، ولا نعلم خلافًا أنه يقتل المؤمن بالطفل الصغير. فدل ذلك أن عثمان - رضي الله عنه - إنما أراد قتله بمن قتل وفيهم الهرمزان وجفينة، فقد ثبت بما ذكرنا ما صحح عليه معنى هذا الحديث أن معنى حديث علي - رضي الله عنه - الأول على ما وصفنا، فانتفى أن يكون فيه حجة تدفع أن يقتل المسلم بالذمي. ش: هذا السؤال وجوابه ظاهران. وهذا السؤال الذي أخذه البيهقي وجعله مطعنًا في حق الطحاوي وترك جوابه ولم يتأمل فيه؛ إذ لو لاحظ الجواب لما أقدم إلى الطعن بما طعنه من غير وجه. ص: وقد وافق ذلك أيضًا وشده ما قد روي عن النبي -عليه السلام- وإن كان منقطعًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن البيلماني "أن رسول الله -عليه السلام- أتى برجل من المسلمين قد قَتَل معاهًدا من أهل الذمة، فأمر به فضربت عنقه، وقال: أنا أولى من وفى بذمته". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن سلام، عن محمَّد بن أبي حميد المدني، عن محمَّد بن المنكدر، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي قد وافق ما ذكرناه من التأويل في حديث علي بن أبي طالب من أن المراد من الكافر في قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" هو الكافر الحربي لا المعاهد، وشده -أي أحكمه- ما قد روي عن النبي -عليه السلام-، وإن كان منقطعًا، فالمنقطع وإن لم يتم به الاستدلال ولكنه يصلح شاهدًا ومؤيدًا وشادًّا، وهذان مرسلان منقطعان، ورجالهما ثقات. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال القرشي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة

الرأي، شيخ مالك، عن عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود في "المراسيل": (¬1) ثنا محمَّد بن داود بن أبي ناجية الاسكندراني، ثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، حدثني ربيعة، عن عبد الرحمن بن البيلماني حدثه: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي برجل. ." إلى نحوه. الثاي: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التميمي البصري نزيل مصر، عن محمَّد بن أبي حميد إبراهيم الزرقي الأنصاري، عن محمَّد بن المنكدر بن عبد الله المدني. وأخرجه ابن حزم (¬2): من حديث يحيى بن سلام، عن محمَّد بن أبي حميد، عن ابن المنكدر، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ثم قال: وهما مرسلان ولا حجة في مرسل. وأخرج البيهقي (¬3) من حديث ابن البيلماني مرفوعًا متصلًا: أنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، أنا علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، أخبرني جدي سعيد بن محمَّد الرهاوي، أن عمار بن مطر حدثهم، ثنا إبراهيم بن محمَّد الأسلمي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن رسول الله -عليه السلام- قتل مسلمًا بمعاهد، وقال: أنا أكرم مَن وفى بذمته". ثم قال البيهقي: أخطأ عمار بن مطر في إسناد هذا الحديث من وجهين: أحدهما: في قوله: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإنما يرويه إبراهيم بن محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن البيلماني. والآخر: في ذكر ابن عمر فيه، وإنما رواه إبراهيم بهذا الإسناد مرسلًا دون ذكر ابن عمر فيه، وهذا غير مستساغ من عمار بن مطر الرهاوي، فقد كان ¬

_ (¬1) "مراسيل أبي داود" (1/ 207 رقم 250). (¬2) "المحلى" (10/ 351). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 30 رقم 9).

يقلب الأسانيد ويسرق الأحاديث، حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط عن حد الاحتجاج به. قلت: المنقطع إذا روي من وجه آخر متصلًا كان حجةً، والاعتبار لمن وصله لا لمن قطعه، ولكن الصواب هاهنا الانقطاع، لأن عمار بن مطر متروك الحديث، وقد قلنا: إن المنقطع إذا كان إسناده صحيحًا يصلح للاستشهاد والتقوية. والله أعلم. ص: والنظر عندنا شاهد لذلك أيضًا، وذلك أنَّا رأينا الحربي دمه حلال وماله حلال، فإذا صار ذميًّا حرم دمه وماله كحرمة دم المسلم ومال المسلم، ثم رأينا من سرق من مال الذمي -ما يجب فيه القطع- قطع كما يقطع في مال المسلم، فلما كانت العقوبات في انتهاك المال الذي قد حرم بالذمة كالعقوبات في انتهاك المال الذي حرم بالإِسلام؛ كان في النظر أيضًا أن تكون العقوبة في الدم الذي قد حرم بالذمة كالعقوبة في الدم الذي حرم بالإِسلام. ش: أي القياس عندنا شاهد لما ذكرنا من أن المسلم يقتل بالذمي، وبينه بقوله: "وذلك أنا رأينا. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. وقد اعترض ابن حزم على قوله: "ثم رأينا من سرق من مال الذمي. . . ." إلى آخره، فقال: هذا قياس فاسد، لأن القصاص للمسلم من الذمي حق للذمي عندهم، له طلبه، وله تركه والعفو عنه، وليس كذلك القطع في السرقة؛ لأن القطع فيها ليس هو من حقوق المسروق منه المال ولا له طلبه دون غيره، ولا له العفو عنه، إنما هو حق الله -عز وجل- أمر به، شاء المسروق منه أو أبى، فلا سبيل فيه للذمي على المسلم أصلًا. قلت: ليس القياس المذكور من الوجه الذي فهمه ابن حزم، وإنما هو من وجه آخر، وهو استواء العقوبة في الدم الذي قد حرم بعقد الذمة بالعقوبة في الدم الذي قد حرم بالإِسلام، قياسًا على استواء العقوبة في انتهاك المال الذي قد

حرم بعقد الذمة بالعقوبة في انتهاك المال الذي قد حرم بالإسلام، ولا شك أن دم الرجل وماله في الحرمة سواء، على أن القطع في السرقة وإن كان من حقوق الله تعالى، ولكنه لا يظهر إلا من جهة المسروق منه. ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فُرِّق بينها وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم، وذلك أنا رأينا العمد يسرق من مال مولاه فلا يُقطع، ويَقْتُل مولاه فيُقْتَل، فَفُرق بين ذلك، فما تنكرون أيضًا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه؟ قيل له: هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيًدا؛ لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يُقطع في مال مولاه، وأنه يقتل بمولاه وبعبد مولاه، فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم، فأوجبوا العقوبة في الدم حيث لم يوجبوها في المال. فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال، ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم من العقوبة كما يجب عليه فيه انتهاكه مال المسلم، كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته من العقوبة ما يكون عليه في انتهاك دم المسلم، وقد أجمعوا أن ذميًّا لو قتل ذميًّا ثم أسلم القاتل، أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره، ولا يبطل ذلك بإسلامه. فلما رأينا الإِسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان في حال الكفر، وكانت الحدود تمامها أخذها ولا يؤخذ على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال، ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء، وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم ارتد فمات منها لم يقتل، فصارت ردته التي تقدمت الجناية والتي طرأت عليها في درء القتل سواء، فكان كذلك في النظر: أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء، فلما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يُقْتل بها، لا يدفع عنه القود، كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن القياس الذي ذكرته قياس بالفارق، والدليل عليه: أنه قد فرق بين سرقة العبد من مولاه وبين قتله إياه، حيث لا يجب القطع في السرقة ويجب القصاص في القتل، فكذلك يُفرق بين مال الذمي ودمه، فيجب الضمان في ماله ولا يجب القصاص في دمه. وهذا السؤال قريب من اعتراض ابن حزم الذي ذكرناه آنفًا، والجواب عنه ظاهر مبسوط. قوله: "وقد أجمعوا أن ذميًّا. . . ." إلى آخره. حاصل ذلك أن أهل المقالة الأولى قد وافقوا أهل المقالة الثانية على أن ذميًّا لو قتل ذميًّا ثم أسلم فإنه لم يسقط عنه القود بإسلامه، فلو كان الإِسلام مانعًا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرأ بعد وجوبه قبل استيفائه ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للابن على الأب إذا قتله، كان ذلك حكمه إذا ورث من أبيه القود من غيره، فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه، فكذلك لو قتل مرتدًّا لم يجب القود، ولو جرحه وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود، فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء فلو لم يجب القتل بدءًا لما وجب إذا أسلم بعد القتل. وهاهنا شيء آخر من وجوه النظر: وهو أنه لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراده الله بقاء حياة الناس بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1) وهذا المعنى موجود في الذمي، لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة، وجذب أن يكون ذلك موجبًا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجب في قتل بعضهم بعضًا. فإن قلت: يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن، لأنه محظور الدم. قلت: ليس كذلك، بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة، ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإِسلام ويلحقه بمأمنه، والتأجيل لا يزيل عنه الإباحة، كالثمن المؤجل لا يخرجه العاجل عن وجوبه، فافهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [179].

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن النَزَّال بن سبرة قال: "قتل رجل من المسلمين رجلًا من العباد فذهب أخوه إلى عمر - رضي الله عنه -، فكتب عمر - رضي الله عنه - أن يُقتل، فجعلوا يقولون: اقتل حُنين فيقول: حتى يجيء الغيظ، قال: فكتب عمر - رضي الله عنه - أن يودى ولا يُقتل". فهذا عمر - رضي الله عنه - قد رأى أيضًا أن يقتل المسلم بالكافر، وكتب به إلى عماله بحضرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُنكر عليه منهم منكر. فهذا عندنا منهم على المتابعة له على ذلك، وكتابه بعد هذا: "لا يُقتل" فيحتمل أن يكون ذلك كان منه على أنه كره أن يبيحه دمه، لما كان من وقوفه على قتله، وجعل ذلك شبهة منعه بها من القتل، وجعل له ما يجعل في القتل العمد الذي يدخله شبهة، وهو الدية. ش: ذكر ذلك الأثر أيضًا شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري، عن النَزَّال بن سبرة الهلالي العامري المختلف في صحبته. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من وجهين: الأول (¬1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: "قتل رجل من فرسان أهل الكوفة عباديًّا من أهل الحيرة، فكتب عمر - رضي الله عنه - أن أقيدوا لأخيه منه، فدفعوا الرجل إلى أخي العبادي فقتله، ثم جاء كتاب عمر - رضي الله عنه -: أن لا تقتلوه، وقد قتله". الثاني (¬2): عن وكيع، عن محمَّد بن قيس الأسدي، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة "أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من أهل الحيرة، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكتب عمر: أن اقتلوه به، فقيل لأخيه حنين: اقتله، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 408 رقم 27463). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 409 رقم 27470).

قال: حتى يجيء الغضب، قال: فبلغ عمر أنه من فرسان المسلمين، قال: فكتب: أن لا تقيدوه به، قال: فجاءه الكتاب وقد قتل". وأخرجه الجصاص في "أحكامه": (¬1) ثنا عبد الباقي بن قانع، ثنا معاذ بن المثنى، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال ابن سبرة: "أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من العباديين، فقدم أخوه على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: فكتب عمر أن يُقتل، فجعلوا يقولون: يا حنين اقتل، فجعل يقول: حتى يأتي الغيظ، قال: فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن لا يقتل ويودى". قال الجصاص: ويروى في غير هذا الحديث أن الكتاب وَرَدَ بعد أن قتل، وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه أنه من فرسان المسلمين". وأخرجه البيهقي في كتاب "الخلافيات": أنبأني أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الوليد، ثنا ابن زهير، ثنا علي بن خشرم، ثنا عيسى، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: "قتل رجل من المسلمين يهوديًّا، فركب أخوه إلى عمر - رضي الله عنه -، فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن يُقيده، فجعل يقول: اقتل، فيقول: لا، حتى يجيء الغيظ، فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن لا يقاد وأن يودى". قوله: "رجلًا من العَباد" بفتح العين المهملة، والباء الموحدة المخففة، وبعد الألف الساكنة دال مهملة. والعَبَاد: قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة، والنسبة إليهم: عَبَادي. قوله: "فذهب أخوه" أي أخو المقتول، واسمه حنين، وهو المذكور في قوله: "فجعلوا يقولون: اقتل حنين" يعني اقتل يا حنين قاتل أخيك. قوله: "فيقول" يعني حنين: "حتى يجيء الغيظ" يعني الغضب. ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 175).

قوله: "فكتب عمر أن يودى" أي تؤخذ الدية من القاتل، من وَدَى يَدِي دَيَة. قوله: "إلى عماله" بضم العين وتشديد الميم: جمع عامل، وهو المتولي على موضع. قوله: "على المتابعة منهم" أي من الصحابة له، أي لعمر. "على ذلك" أي على قوله أن يقتل ذلك المسلم لأجل ذلك العبادي النصراني؛ وإنما قال ذلك تنبيهًا على أن عدم إنكار الصحابة لعمر في هذه القضية لم يكن إلا لأجل المتابعة منهم له فيما ذهب إليه من قتل المسلم بالذمي، ولم يكن سكوتهم لعلة غير ذلك؛ لأنه لا يُظَن في حقهم السكوت عن الحق ولا مراعاة أحد فيه. قوله: "وكتابه بعد هذا ألَّا يقتل" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: استدلالكم بهذا الأثر لا يتم؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قد رجع عما أمر به من قتل ذلك المسلم بذلك العَبَادي، ورجوعه عن ذلك يدل على أنه قد ظهر عنده ما يمنعه من جواز ذلك. وتقرير الجواب أن يقال: إن كتابه بترك قتله بعد كتابه بقتله، لاحتمال أن يكون قد ثبت عنده بعد كتابه بالقتل ما أوقفه على أن ذلك القتل كان فيه شبهة يدفع بها القود، فجعل ذلك كقتل العمد الذي فيه شبهة، فأوجب فيه الدية، هذا الذي ذكره الطحاوي. وأما الذي ذكره الجصاص: أن كتابه بترك القتل لم يكن لظهور ما ينفي القتل عنده، وإنما كان لأجل ما بلغه أن القاتل كان من فرسان المسلمين، فكتب أن يسأل الصلح عن أخي المقتول، ثم يودى بعد وقوع الصلح. وعك كل حال قد وُجِدَ قتل مسلم بسبب ذمي في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -. ص: وقد قال أهل المدينة: إن المسلم إذا قَتَل الذمي فتلَ غَيْلَةٍ على ماله، أنه يقتل به، فهذا كان هذا عندهم خارجًا من قول النبي -عليه السلام-: "لا يُقتل مسلم بكافر" فما تنكرون على مخالفيكم أن يكون كذلك الذمي المعاهد خارجًا من قول النبي -عليه السلام-: "لا يُقتل مسلم بكافر"، والنبي -عليه السلام- فلم يشترط من الكفار أحدًا،

فلما كان لهم أن يخرجوا من الكفار من أريد ماله، كان لمخالفيهم أن يخرج أيضًا من وجبت ذمته. ش: مذهب أهل المدينة -منهم مالك بن أنس: أن المسلم لا يقاد بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة، وإليه ذهب الليث بن سعد. قال الطحاوي -رحمه الله-: فإذا كان هذا خارجًا من عموم قوله -عليه السلام-: "لا يُقتل مسلم بكافر"، ويخص به هذا العام على زعمهم، فكيف ينكرون على من يخصه أيضًا بذمي الذي وجبت ذمته؟! وكيف يسوغ إنكارهم على هؤلاء بعد ذلك؟ فما كان جوابهم في هذا، فهو جوابنا بعينه، فافهم.

ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها؟

ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها؟ ش: أي هذا باب في بيان القسامة إذا وجد القتيل في دارٍ تكون على مَنْ؟ على ساكني الدار أو على مالكها؟ والقَسَامة: بفتح القاف: اليمين كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه مقتولًا بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين يكرر عليهم اليمين حتى يتم العدد، وقد أَقْسَم يُقْسِمُ قَسَمًا وقَسَامة: إذا حلف، وقد جاءت على بناء الغرامة والحمالة؛ لأنها تلزم أهل الموضع الذي يوجد فيه القتيل. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال: "وجد عبد الله بن سهل قتيلًا في قليب من قليب خيبر، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى رسول الله -عليه السلام-، فذهب عبد الرحمن ليتكلم، فقال النبي -عليه السلام-: الكبر الكبر، فتكلم أحد عميه إما حويصة وإما محيصة، تكلم الكبير منهما فقال: يا رسول الله، إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلًا في قليب من قليب خيبر، وذكر عداوة يهود لهم، قال: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينًا أنهم لم يقتلوا؟ قال: قلت: وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون؟! قال: فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه؟ قالوا: فكيف نقسم على ما لم نَرَ؟ فوداه رسول الله -عليه السلام- من عنده". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أنه أخبره: "أن عبد اللهَ بن سهل الأنصاري ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا في حوائجهما، فقُتل عبد الله بن سهل، فبلغ محيصة فأتى هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل إلى رسول الله -عليه السلام-، فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه، فقال رسول الله -عليه السلام-: كبر كبر، فتكلم حويصة

ومحيصة، فذكرا شأن عبد الله بن سهل، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول اللهَ -عليه السلام-: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ قالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! قال مالك: قال يحيى بن سعيد: فزعم بشير أن رسول الله -عليه السلام- وداه من عنده". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار، أن رجلًا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة أخبره: "أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى نبي الله -عليه السلام- فقالوا: يا نبي الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أخانا قتيلًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: الكُبر الكُبر، فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتل؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: أفيحلفون لكم؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -عليه السلام- أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي ليلى بن عبد الله ابن عبد الرحمن، عن سهل بن أبي حثمة: "أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهدٍ أصابهم، فأتى محصية فأخبر أن عبد الله بن سهل قُتل وطرح في فَقِير أو عين، فأتى يهود فقال: أنت والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة -وهو أكبر منه- وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله -عليه السلام- لمحيصة: كَبِّر كَبِّر يريد السن، فتكلم حويصة قيل: ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله -عليه السلام-: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب إليهم رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله -عليه السلام- لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: أفتحلف لكم اليهود؟ قالوا:

ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله -عليه السلام- من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار". ش: هذه أربع طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشير -بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- ابن يسار -بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة المخففة- الحارثي الأنصاري، عن سهل بن أبي حثمة عبد الله الأنصاري المدني الصحابي، قال: "وجد عبد الله بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي -أخو عبد الرحمن بن سهل وابن أخي حويصة ومحيصة وكان قد خرج إلى خيبر في أصحاب له يمتارون تمرا فوجد في عين- قد كسرت عنقه ثم طرح فيها فدفنوه". وعبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري شهد أحدًا والخندق والمشاهد مع النبي -عليه السلام-. وحُويصة -بضم الحاء- ومُحيصة -بضم الميم- أخوان، ابنا مسعود بن كعب بن عامر، الصحابيان، ويقال فيهما جميعًا: بتشديد الياء وتخفيفها. وهذا الحديث أخرجه الجماعة (¬1) بأسانيد مختلفة وألفاظ متباينة. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1158 رقم 3002)، "صحيح مسلم" (3/ 1291 رقم 1669)، "سنن أبي داود" (2/ 584 رقم 4520)، "جامع الترمذي" (4/ 30 رقم 1422)، "المجتبى" (8/ 7 رقم 4712)، "سنن ابن ماجه" (2/ 892 رقم 2677). (¬2) "الموطأ" (2/ 878 رقم 1566).

وقال أبو عمر: لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد رواه حماد بن زيد وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج جميعًا عن النبي -عليه السلام-، وربما لم يذكر بعضهم رافع بن خديج، وكلهم يجعله عن سهل بن أبي حثمة مسندًا. الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين -شيخ البخاري- عن سعيد بن عبيد الطائي. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أبو نعيم، ثنا سعيد بن عبيد، عن بُشير بن يسار زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة،: "أخبره أن نفرًا من قومه. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه مسلم (¬2): عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن سعد بن عبيد، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬3): عن الحسن بن محمَّد بن الصباح، عن أبي نعيم، عن سعيد بن عبيد. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬4): عن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم. . . . إلى آخره. وهذا الحديث فيه حجة للحنفية في قولهم: إن الذي يبدأ أولًا هو يمين المدعى عليه؛ لأن ظاهر الحديث يشهد بذلك، فافهم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2528 رقم 6502). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1294 رقم 1669). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 178 رقم 4523). (¬4) "المجتبى" (8/ 11 رقم 4719).

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي ليلى -قيل: اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، وقيل: داود بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن سهل، وقال فيه ابن إسحاق: أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة، وقيل: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن سهل. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). وأخرجه البخاري (¬2): عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. ومسلم (¬3): عن إسحاق بن منصور، عن بشر بن عمر، عن مالك. وأبو داود (¬4): عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مالك. والنسائي (¬5): كذلك: عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مالك. وابن ماجه (¬6): عن يحيى بن حكيم، عن بشر بن عمر، عن مالك نحوه. قوله: "في قَلِيب" بفتح القاف وكسر اللام وفي آخره باء موحدة، وهو البئر التي لم تطو، ويذكر ويؤنث، ويجمع على قُلُب بضم القاف واللام. و"خيبر" مدينة بني عنزة، من المدينة ست مراحل من ناحية الشرق. قوله: "الكُبرَ الكُبْرَ" بضم الكاف وسكون الباء الموحدة وفتح الراء، أي: قدموا الأكبر، إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسن، وفي رواية: "كبِّرْ الكُبَّر" أي ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 877 رقم 1565). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2630 رقم 6769). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1291 رقم 1669). (¬4) "سنن أبي داود" (2/ 585 رقم 4521). (¬5) "المجتبى" (8/ 5 رقم 4710). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 892 رقم 2677).

قدم الأكبر وبابه من: كَبِرَ يَكْبَرُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ: إذا أسن، ومصدره: كِبَر بكسر الكاف وفتح الباء، وكذا مكبِر بكسر الباء، وأما: كَبرَ يَكْبُرُ كحسُنَ يحسْنُ، فمعناه: عظُمَ، وكِبْرُ الشيء بكسر الكاف وسكون الباء: معظمه، قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} (¬1)، والكِبْر: التجبر أيضًا، وأما الكُبر بضم الكاف وسكون الباء كما هو لفظ الحديث فهو يعني الأكبر كما في حديث آخر "الولاء للكبْر" (¬2) وهو أن يموت الرجل ويترك ابنًا وابن ابن، فالولاء للابن دون ابن الابن، وإنما كرر لفظ: "الكُبْرَ" في الحديث لأجل التأكيد، وانتصابه على المفعولية، أي: قدموا الأكبر، ويجوز الرفع بمعنى ليبدأ الأكبر أو ليتقدم؛ فافهم. قوله: "تكلم الكبير منهما" كان الكبير من الأخوين هو حويصة. قوله: "أفتبرئكم" الهمزة فيه للاستفهام، وهو من الإبراء. قوله: "فوداه رسول الله -عليه السلام-" أي أدى ديته من عنده، وفي رواية أخرى: "فوداه من إبل الصدقة". فإن قلت: إبل الصدقة للفقراء والمساكين ولا تؤدى في الديات. قلت: كأن رسول الله -عليه السلام- رأى تطييب قلوب الفريقين، ووداه من عنده واستلفها من إبل الصدقة حتى يؤديها مما أفاء الله عليه من خُمس المغنم، لأنه -عليه السلام- لم يكن يجتمع عنده من سهمه ما يبلغ مائة إبل لإعطائه إياها، ومن روى: "من إبل الصدقة" أخبر عن ظاهر الأمر، ومن روى: "من عنده" أخبر عن باطن القصة. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [11]. (¬2) رواه الدارمي في "سننه" (2/ 470 رقم 3022) من طريق الشعبي عن عمر وعلي وزيد -قال: وأحسبه قد ذكر عبد الله أيضًا، ورواه البيهقي في "سننه" أيضًا من طريق الشعبي به (10/ 303 رقم 21283) ومن طريق إبراهيم عن عمر وعبد الله وزيد - رضي الله عنهم - (10/ 303 رقم 21284) وغيرهما.

قوله: "من جَهْد" بالفتح: الشدة وضيق العيش، وبضم الجيم: الوسع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، وأما في الشدة والفاقة فبالفتح لا غير، وهاهنا بالفتح لا غير. قوله: "في فَقِير" بفتح الفاء وكسر القاف، قال الحافظ المنذري: الفقير: البيت، وقيل: هي البئر قليلة الماء، والفقير أيضًا: فم القناة، وفقير النخلة: حفرة تحفر للفسيلة إذا خُوَّلت لتغرس فيها. قوله: "إما أن يَدُوا" من وَدَى يَدِي إذا أدى الدية. قوله: "وإما أن يؤذنوا بحرب" قال الخطابي: أنكر بعض الناس قوله: "وإما أن يؤذنوا بحرب" وقال: إن الأمة اجتمعت على خلاف هذا القول، فدل أن خبر القسامة غير معمول به، ووجه الكلام بيَّن وتأويله صحيح، وذلك أنهم إذا امتنعوا عن القسامة لزمتهم الدية، فإن أبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بالحرب، لا يؤذنون بها إلا إذا امتنعوا من أداء الدية. قلت: احتج أصحابنا بقوله: "إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب" وقالوا: ومعلوم أن النبي -عليه السلام- لم يقل ذلك لهم إلا وقد تحقق عنده قبل ذلك وجود القتيل بخيبر، فدل ذلك على وجوب الدية على اليهود لوجود القتيل بينهم، ولأنه لا يجوز أن يؤذنوا بحرب إلا بمنعهم حقًّا واجبًا عليهم. قوله: "وتستحقون دم صاحبكم" قال أبو عمر: الظاهر أنه أراد به القود. قلت: معناه وتستحقون دية صاحبكم؛ لأن من استحق دية صاحبه فقد استحق دمه؛ لأن الدية قد تؤخذ في العمد، فيكون ذلك استحقاقًا للدم والله أعلم. ويستفاد منه أحكام: الأول: مشروعية القسامة في الدم، وهو أمر كان في الجاهلية، فأقره رسول الله -عليه السلام- في الإِسلام، وتوقفت طائفة عن الحكم بالقسامة، وروي ذلك عن سالم بن عبد الله ابن عمر وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عتيبة. وإليه مال البخاري.

الثاني: فيه بيان أن القوم إذا اشتركوا في معنى من معاني الدعوى وغيرها، كان أولاهم بأن يبدأ بالكلام أكبرهم، فإذا سُمع منه، تكلم أصغرهم أيضًا فسمع منه أيضًا إن احتيج إلى ذلك، وهذا أدب وعلم. فإن كان في الشركاء من له بيان ولتقدمته في القول وجه لم يكن بتقدمته بأس إن شاء الله. وذكر سفيان بن عيينة قال: قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام ويهش إليه، فقال عمر -رحمه الله-: كبروا كبروا -يقول: قدموا الكبار- فقال الفتى: يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن، ولو كان الأمر كذلك لكان في المسلمين مَن هو أسن منك، قال: صدقت، فتكلم رحمك الله، قال: إنا وفد شكر. . . . وذكر الخبر. الثالث: فيه جواز الوكالة في المطالبة بالحدود. الرابع: فيه جواز وكالة الحاضر، وذلك أن ولي الدم إنما هو عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل، وحويصة ومحيصة ابنا عمه. الخامس: فيه كيفية القسامة الواقعة. وفيه خلاف يأتي في الباب الآتي مفصلًا إن شاء الله. السادس: فيه: أن القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهلها، وكذا إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة، فيحلف منهم خمسون، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلًا منهم تكرر عليهم الأيمان حتى تكمل خمسين يمينًا، وإن كان في المحلة قبائل شتى، فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون، فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: وعلى المشترين جميعًا. وقيل: إن أبا حنيفة بني الجواب على ما شاهده بالكوفة، وكان تدبير أهل المحلة فيها إلى أهل الخطة، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة، كانوا من أهل الخطة أم

لا، فبنى الجواب على ذلك، فعل هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة، فإن لم يكن أهل الخطة وكان في المحلة مُلاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: عليهم جميعًا، وقال: لأنه -عليه السلام- أوجب القسامة على أهل خيبر كانوا سكانًا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة ومحمد: أهل خيبر كانوا مُلاكًا ولم يكونوا سكانًا، فإنه روي عنه -عليه السلام- "أنه أقرهم على أملاكهم". السابع: أن القسامة خمسون يمينًا على خمسين رجلًا، فإن لم يكمل العدد يكرر عليهم اليمين حتى يكمل خمسين يمينًا كاملةً. وقال ابن حزم (¬1): اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: لا يحلف إلا خمسون، وإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر بطل حكم القسامة وعاد الأمر إلى التداعي. وقال آخرون: إن نقص واحد فصاعدًا ردت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد، وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين. وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم. وقال آخرون: يحلف خمسون، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدًا ردت الأيمان عليهم حتى يرجعوا إلى واحد. فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد بطلت القسامة وعاد الحكم إلى التداعي. وهذا قول مالك. وقال آخرون: تردد الأيمان، وإن لم يكن إلا واحدًا فإنه يحلف خمسين يمينًا وحده. وهو قول الشافعي. وهكذا في أيمان المدعى عليهم أنها ترد عليهم وإن لم يبق إلا واحد، ويجبر الكسر عليهم. ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 91).

الثامن: فيه أن الواجب في القسامة الدية، وهذا باب اختلف فيه، فصح عن الحسن البصري أن لا يقاد بالقسامة، لكن يحلف المدعى عليهم بالله ما قتلنا، ويُبدءون، فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية. وصح عن شريح ترديد الأيمان، وأن القتيل إذا وجد في دار قوم فادعى أهله على غير تلك الدار فقد بطلت القسامة، ولا شيء لهم على أحد إلا ببينة. وصح عن إبراهيم النخعي إبطال القود في القسامة لكن يبدأ المدعى عليهم فيحلفون خمسين يمينًا ثم يغرمون الدية مع ذلك، ورأى ترديد الأيمان. قلت: مذهب أبي حنيفة وأصحابه أيضًا عدم وجوب القود، وروي عن عروة وأبي بكر بن حزم وأبان بن عثمان وجوب القود، فقالوا: إن ادعى المصاب على إنسان أنه قتله أو على جماعة فإن أولياء المدعى عليهم يبتدئون فيحلفون خمسين يمينًا، على واحد، ويردد عليهم الأيمان إلى أن يتموا خمسين، فإذا حلفوا دفع إليهم الواحد فقتلوه، وجلد الآخرون مائة مائة وسجنوا سنةً. وصح عن سفيان الثوري أنه قال: إن وجد القتيل في دار قوم فالبينة على أولياء القتيل، فإن أتوا بها قضى لهم بالقود، وإلا حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا، وغرموا الدية مع ذلك. وقال مالك: لا تكون القسامة إلا بأن يقول المصاب: فلان قتلني عمدًا، فإذا قال ذلك ثم مات قبل أن يفيق حلف خمسون من أوليائه قيامًا في المسجد الجامع مستقبلي القبلة: لقد قتله فلان عمدًا، فإذا حلفوا على واحد فلهم القود منه، فإن حلفوا على جماعة لم يكن لهم القود إلا من واحد، ويضرب الباقون مائة مائة ويسجنون سنة. فإن شهد شاهد عدل بأن فلان قتل فلانًا كانت القسامة أيضًا كما ذكرنا وكذلك إن شهد لوث من نساء أو غير عدول، فإن لم يكونوا خمسين ردت عليهم أيمانهم حتى تتم خمسين، ولا يحلف في القسامة أقل من اثنين ولا غرامة، قال:

فإن نكل جميع أولياء القتيل حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا، فإن لم يبلغوا خمسين ردت الأيمان عليهم، فإن لم يوجد إلا المدعى عليه وحده حلف خمسين يمينًا وبرئ، فإن نكل أحد ممن له العفو من الأولياء بطلت القسامة ووجبت الأيمان على المدعى عليهم، ولا قسامة في قتيل وجد في دار قوم ولا غرامة، ولا في دعوى عبد أن فلانًا قتله. وفي دعوى المريض أن فلانًا قتلني خطأ روايتان: إحداهما: أن في ذلك قسامة. والأخرى: لا قسامة في ذلك ولا في كافر. وقال الشافعي: لا قسامة في دعوى إنسان أن فلانًا قتلني أصلًا، سواء كان عمدًا أو خطأ، ولا غرامة في ذلك، وإنما القسامة في قتيل وجد بين دور قوم كلهم عدوٌّ للمقتول فادعى أولياؤه عليهم؛ فإن أولياء القتيل يبدءون فيحلف منهم خمسون رجلًا يمينًا يمينًا أنهم قتلوه عمدًا أو خطأ، فإن نقص عددهم ردت الأيمان، فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينًا واستحقت الدية على سكان تلك الدور، ولا يستحق بالقسامة قود أصلًا، وإن شهد واحد عدل أو جماعة متواترة غير عدول أن فلانًا قتل فلانا تجب القسامة كما ذكرنا والدية، أو وجد قتيل في زحام فالقسامة أيضًا والدية كما ذكرنا. وقال ابن حزم: قال أصحابنا: إن وجد قتيل في دار قوم أعداء له، فادعى أولياؤه على واحد منهم، حلف خمسون منهم واستحقوا القود أو الدية، ولا قسامة إلا في حُرٍّ مسلم. ص: قال أبو يوسف -رحمه الله-: فقد علمنا أن خيبر كانت للمسلمين لأنهم افتتحوها، وكانت اليهود عمالهم فيها، فلما وجد فيها هذا القتيل جعل رسول الله -عليه السلام- القسامة فيه على اليهود السكان لا على المالكين، قال: فكذلك

نقول: كل قتيل وُجد في دار قوم أو أرض فيها ساكن مستأجر أو مستعير فالقسامة في ذلك والدية على الساكن لا على ربها المالك. وكان أبو حنيفة ومحمد بن الحسن يقولان: الدية والقسامة في ذلك على المالك لا على الساكن. ش: بقول أبي يوسف قال مالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله-، والخلاف بين أبي يوسف وصاحبيه فيما إذا كان المالك ساكنًا، فلو لم يكن ساكنًا يدخل السكان جميعًا. ص: وكان من حجتنا لهما على أبي يوسف أن ذلك القتيل لم يذكر لنا في هذا الحديث أنه وجد بخيبر بعد ما افتتحت أو قبل ذلك، فقد يجوز أن يكون أصيب فيها بعدما افتتحت فيكون ذلك كما قال أبو يوسف، ويجوز أن يكون أصيب في حال ما كانت صلحًا بين النبي -عليه السلام- وبين أهلها؛ فإن كان موجودًا في حال ما كانت صلحًا قبل أن تفتتح فلا حجة لأبي يوسف في هذا الحديث، وفي حديث أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ما يدل أنها كانت يومئذ صلحًا، وذلك أن فيه أن رسول الله -عليه السلام- قال للأنصار: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" فلا يقال هذا إلا لمن كان في أمان وعهد في دار هي صلح بين أهلها وبين المسلمين. ش: أي وكان من دليلنا وبرهاننا لأبي حنيفة ومحمد فيما ذهبا إليه على أبي يوسف فيما ذهب إليه: أن ذلك القتيل وهو عبد الله بن سهل المذكور في الأحاديث السابقة، والباقي ظاهر. ص: وقد بين ذلك سليمان بن بلال في حديثه عن يحيى بن سعيد: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد اللهَ بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: "أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد الأنصاري من بني حارثة خرجا إلى خيبر في زمن رسول الله -عليه السلام- وهي يومئذ صلح وأهلها عود، فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد اللهَ بن

سهل فوجد في شربة مقتولًا، فدفنه صاحبه ثم أقبل إلى المدينة، فمشى أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول الله -عليه السلام- شأن عبد الله بن سهل وكيف قُتل، فزعم بُشير بن يسار وهو يحدث عمن أدرك من أصحاب رسول الله -عليه السلام- أنه قال لهم: تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: يا رسول الله ما شهدنا ولا حضرنا، قال: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا: يا رسول الله، وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فزعم بشير أن رسول الله -عليه السلام- عقله من عنده". فبيَّن لنا هذا الحديث أنها كانت في وقت وجود عبد الله بن سهل فيها قتيلًا دار صلح ومهادنة، فانتفى بذلك أن يلزم أبا حنيفة ومحمدًا شيء مما احتج به أبو يوسف عليهما من هذا الحديث؛ لأن فتح خيبر إنما كان بعد ذلك. ش: أي وقد بين ما ذكرنا من أمر خيبر يومئذٍ هل كانت دار صلح أو لا؟ سليمان بن بلال القرشي في حديثه عن يحيى بن سعيد الأنصاري. أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، شيخ الشيخين وأبي داود، عن سليمان بن بلال. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم: (¬1) نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا سليمان بن بلال. . . . إلى آخره نحوه سواء. قوله: "في شرَبَة" بفتح الشين المعجمة والراء والباء الموحدة، وهي حوض يكون في أصل النخلة وحولها تملأ ماءً لتشربه. ثم اعلم أن القتيل إذا وجد على الدابة كانت الدية على عاقلة السائق، وكذا القائد والراكب لو اجتمعوا كانت الدية على عاقلتهم، وعند مالك والشافعي ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1291 رقم 1669).

وأحمد: على مالك الدابة لو كان هناك لوث، ولو وجد بين القريتين كانت الدية على أقربهما، وإن وجد في السفينة كانت القسامة على مَن فيها من السكان والملاحين بالإجماع، ولو وجد في مسجد محلة فعل أهلها بالإجماع، ولو وجد في الجامع أو الشارع الأعظم فلا قسامة عندنا، وتجب الدية في بيت المال، وعند مالك دمه هدر، وعند الشافعي: الزحام فيها لوث، ولو وجد في وسط الفرات أو النيل فهو هدر كما لو وجد في برية. وقال زفر: تجب القسامة على أقرب القرى والأراضي حيث وُجد كالمحتبس على شاطئ الفرات. وقال مالك والشافعي وأحمد: في البرية يعتبر اللوث بأن يكون هناك واحد على ثوبه دم. وقال ابن حزم: وسواء وجد القتيل في دار أعداء كفار أو أعداء مؤمنين أو أصدقاء كفار أو أصدقاء مؤمنين أو في دار أخيه أو أبيه أو حيثما وجد فالقسامة في ذلك. وهو قول ابن الزبير ومعاوية بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم -. قال: وسواء وُجد المقتول في مسجد أو في دار نفسه أو في المسجد الجامع أو في السوق أو في غار أو على دابة واقفة أو سائرة كل ذلك سواء، ومتى ادعى أولياؤه في كل ذلك على أحد فالقسامة في ذلك، كما حكم رسول الله -عليه السلام-. فإن قيل: بم يستدل في القتيل إذا وجد بين القريتين؟ قلت: بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. أخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن معمر، قال: ثنا الفضل بن دكين، نا أبو إسرائيل الملائي، عن عطية، عن أبي سعيد قال: "وجد قتيل بين قريتين، فأمر النبي -عليه السلام- فذرع ما بينهم، فوجده أقرب إلى إحديهما، فكأني أنظر إلى شبر رسول الله -عليه السلام-يعني أقرب إلى إحديهما بشبر- فألقاه على أقربهما".

قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي -عليه السلام- إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وأبو إسرائيل ليس بالقوي في الحديث، وإنما نكتب من حديثه ما لا نحفظه عن غيره. وأخرجه ابن حزم (¬1) ثم قال: هذا الحديث هالك؛ لأنه انفرد به عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف جدًّا، ضعفه هشيم والثوري وابن معين وأحمد بن حنبل، وما ندري أحدًا وثقه، وذكر أحمد بن حنبل عنه أنه بلغه عنه أنه كان يأتي إلى الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد، فيوهم الناس أنه الخدري وهذا من تلك الأحاديث -والله أعلم- فهو ساقط. ثم هو أيضًا من رواية أبي إسرائيل الملائي، وهو إسماعيل بن أبي إسحاق، فهو بلية عن بلية. والملائي هذا ضعيف جدًّا. وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا، لا مسند ولا مرسل. قلت: روي عن يحيى بن معين أنه قال: عطية بن سَعْد صالح. وقال أبو زرعة: لين. وقال ابن عدي: وقد روى عنه جماعة من الثقات وهو مع ضعفه يكتب حديثه. واحتج به أبو داود والترمذي والنسائي، وهذا البزار قد روى له ولم يتعرض إليه بشيء. والله أعلم. ص: قال أبو يوسف -رحمه الله-: والنظر يدل على ما قلنا أيضًا، وذلك أنا رأينا الدار المستأجرة والمستعارة في يد مستأجرها ومستعيرها لا في يد ربها، ألا ترى أنهما وربها لو اختلفا في ثوب وُجد فيها أن القول فيه قولهما لا قول رب الدار؟! فكذلك ما وُجد فيها من القتلى فهم موجودون فيها، وهي في يد مستأجرها ومستعيرها لا في يد ربها، فما وجب بذلك من قسامة ودية فهي على مَن هي في يده لا على من ليست في يده، وإن كان ملكها له. ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 86).

ش: أي القياس يدل على ما قلنا من أن القسامة والدية إذا وجد القتيل في دار على ساكنها المستأجر أو المستعير لا على ربها المالك، وبيَّن وجه القياس بقوله: "وذلك أنا رأينا. . . ." إلى آخره. قوله: "ألا ترى". توضيح لما قبله. ص: فكان من حجة محمَّد بن الحسن -رحمه الله- في ذلك: أن قال: رأيت إجماعهم قد دل على أن القسامة تجب على المالك لا على الساكن؟ وذلك أن رجلًا وامرأته لو كانت في أيديهما دار يسكنانها وهي للزوج، فوجد فيها قتيل كانت القسامة والدية على عاقلة الزوج خاصةً دون عاقلة المرأة، وقد علمنا أن أيديهما عليها، وأن ما وجد فيها من ثياب فليس أحدهما أولى به من الآخر إلا لمعنى ليس من قِبَل الملك واليد في شيء، فلو كانت القسامة يحكم بها على مَن الدار في يده لحكم بها على المرأة والرجل جميعًا، لأن الدار في أيديهما، ولأنهما سكانها، فلما كان ما يجب في ذلك على الزوج خاصةً دون المرأة؛ إذْ هو المالك لها؛ كانت القسامة والدية في كل المواضع الموجود فيها القتلى على مالكيها لا على ساكنيها. والله أعلم. ش: أي فكان من دليل محمَّد بن الحسن فيما ذهب إليه من أن القسامة تجب على مالك الدار إذا وجد فيها القتيل دون المستأجر والمستعير. قوله: "أن قال" في محل الرفع أنه اسم "كان". وقوله: "من حجة محمَّد بن الحسن". مقدمًا خبره، وبيَّن وجه حجته بقوله: "وذلك أن رجلًا. . . ." إلى آخره. وهذه العبارة تدل على أن ما ذهب إليه محمَّد مختار الطحاوي على ما لا يخفى.

ص: باب: القسامة كيف هى؟

ص: باب: القسامة كيف هى؟ ش: أي هذا باب في بيان كيفية القسامة. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: اختلف الناس في القتيل الموجود في محلة قوم كيف القسامة الواجبة فيه، فقال قوم: يحلف المدعى عليهم بالله ما قتلنا، فإن أبوا أن يحلفوا استحلف المدعون واستحقوا ما ادعوا. واحتجوا في ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة الذي ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب. ش: أراد بالقوم هؤلاء: يحيى بن سعيد وأبا الزناد عبد الله بن ذكوان وربيعة ومالكًا والشافعي وأحمد والليث بن سعد؛ فإنهم قالوا: يستحلف المدعون بالدم، فإذا حلفوا استحقوا ما ادعوا. وقال أبو عمر: المدعون بالدم يبدءون بالأيمان في القسامة، وهذا في القسامة خاصةً، وهو يخصّ قوله -عليه السلام-: "البينة على المدعي واليمين على مَن أنكر"، وقد روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة". وقال البيهقي أيضًا في "الخلافيات" أن حديث: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" مخصوص بما أخبرنا علي بن بشران، أنا علي بن محمَّد المصري، نا عبدة بن سليمان، نا مطرف بن عبد الله، ثنا الزنجي عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "البينة على من ادعى واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة" (¬1). قلت: هذا الحديث معلول من خمس وجوه: الأول: أن الزنجي هو مسلم بن خالد، شيخ الشافعي، ضعيف. كذا قال ¬

_ (¬1) انظر "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 123 رقم 16222).

البيهقي نفسه في "سننه" (¬1): في باب من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال أبو زرعه والبخاري: منكر الحديث. الثاني: أن ابن جريج لم يسمع من عمرو. حكاه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2): في باب وجوب زكاة الفطر على أهل البادية. عن البخاري: أن ابن جريج لم يسمع من عمرو. الثالث: أن الاحتجاج بعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مختلف فيه. الرابع: أن الزنجي مع ضعفه خالفه عبد الرزاق وحجاج وقتادة، فرووه عن ابن جريج عن عمرو مرسلًا. كذا ذكره الدارقطني في "سننه" (¬3). الخامس: أن الزنجي اختلف عليه، قال الذهبي: قال عثمان بن محمَّد الرازي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "البينة على مَن ادعى واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة". قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب السابق، وقال البيهقي (¬4): البداية في القسامة مع اللوث بأيمان المدعين، ثم احتج على ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه مالك، المذكور في الباب السابق، وبحديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه مسلم، وبحديث سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الذي أخرجه الشيخان، وقد مر ذكره أيضًا في الباب السابق. ثم قال (¬5): أخرجه مسلم من حديث سعيد بن عبيد ولم يسُق متنه لمخالفته ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 495 رقم 4388). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 173 رقم 7517). (¬3) "سنن الدارقطني" (3/ 111 رقم 100). (¬4) "السنن الكبرى" (8/ 117 رقم 16207). (¬5) "السنن الكبرى" (8/ 120 رقم 16215).

رواية يحيى بن سعيد وقال: قال مسلم: رواية سعيد غلط، ويحيى بن سعيد أحفظ منه. ثم قال البيهقي: وإن صحت رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى، لأنه قد يريد بالبينة الأيمان مع اللوث، كما في رواية يحيى، ثم يردها على المدعى عليهم عند نكول المدعين. قلت: لا وجه لتشكيك البيهقي بقوله: "وإن صحت رواية سعيد" مع نفيه، وإخراج البخاري حديثه هذا، وأخرجه مسلم أيضًا ولم يشك في صحته، وإنما رجح يحيى على سعيد، وقد جاءت أحاديث تقوي رواية سعيد وتعضدها، منها: ما رواه أبو داود (¬1) بسند حسن عن رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار مقتولًا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي -عليه السلام- فذكروا ذلك له، فقال: ألكم شاهدان يشهدان على قاتل صاحبكم؟ فقالوا: يا رسول الله لم يكن به أحد من المسلمين، وإنما هم يهود وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: فاختار منهم خمسين، فاستحلفهم فأبوا، فوداه رسول الله -عليه السلام- من عنده". ومنها: ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ما يجيء عن قريب، وهذا هو الذي تشهد له الأصول من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فكان الوجه ترجيح هذه الأدلة على ما يعارضها، وتأويل البيهقي لرواية سعيد تعسف ومخالفة للظاهر، وحين قالوا: "ما لنا بينة" عقّب -عليه السلام- ذلك بقوله: "فيحلفون لكم" فكيف يقول البيهقي: وقد يطالبهم بالبينة ثم يعرض عليهم الأيمان، ثم يردها على المدعى عليهم؟! ص: وقال آخرون: بل يستحلف المدعى عليهم، فإذا حلفوا غرموا الدية. ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: عثمان البتي والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن شبرمة وعامرًا الشعبي ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 587 رقم 4524).

وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- فإنهم قالوا: يُبدأ بأيمان المدعى عليهم فيحلفون، ثم يغرموا الدية. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ص: وقالوا: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "أتحلفون وتستحقون" إنما كان على النكير منه عليهم، كأنه قال: أتدعون وتأخذون، وذلك أن رسول الله -عليه السلام- قال لهم: "أفتبرئكم عود بخمسين يمينًا بالله ما قتلنا؟ قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: أتحلفون وتستحقون" أي إن اليهود وإن كانوا كفارًا فليس عليهم فيما يدعون عليهم غير أيمانهم. ش: أي قال أهل المقالة الثانية في جواب ما قاله أهل المقالة الأولى، بيانه: أن حديث سهل بن أبي حثمة مؤل، وأن استدلالهم به فيما ذهبوا إليه غير صحيح، وبيَّن ذلك بقوله: قول رسول الله -عليه السلام- للأنصار: "أتحلفون" إنما خرج على سبيل الإنكار منه -عليه السلام- عليهم، فكأنه قال: كيف تدَّعون وتأخذون وليس لكم عليهم غير أيمانهم، فكما أنه لا يقبل منكم وإن كنتم مسلمين أيمانكم ولا تستحقون بها شيئًا، فكذلك اليهود وإن كانوا كفارًا لا يجب بدعواكم عليهم غير أيمانهم. ص: والدليل على صحة هذا التأويل: ما قد حكم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد رسول -عليه السلام- بحضرة أصحابه، فلم ينكره عليه منهم مُنكِر، ومحال أن يكون عند الأنصار من ذلك علم ولاسيما مثل محيصة وقد كان حيًّا يؤمئذٍ وسهل بن أبي حثمة فلا يخبرونه به ويقولون: ليس هكذا قضى رسول الله -عليه السلام- لنا على اليهود. فمما روي عن عمر - رضي الله عنه - في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن الحارث بن الأزمع أنه قال لعمر - رضي الله عنه -: "أما ندفع أموالنا عن أيماننا ولا أيماننا عن أموالنا، قال: لا، وعقله".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال: "قتل قتيل بين وادعة وحي آخر، والقتيل إلى وادعة أقرب، فقال عمر - رضي الله عنه - لوادعة: يحلف خمسون رجلًا منكم بالله ما قتلنا، ولا نعلم له قاتلًا، ثم أغرموا، فقال له الحارث: نحلف وتغرمنا؟! قال: نعم". حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عثمان بن مطر، عن أبي حرِيز، عن الشعبي، عن الحارث الوادعي قال: "أصابوا قتيلًا بين قريتين، فكتبوا في ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن قيسوا بين القريتين، فأيهما كان إليه أدنى فخذوا قسامة يحلفون بالله ثم غرموا الدية، قال الحارث: فكنت فيمن أقسم ثم غرمنا الدية. فهذه القسامة التي حكم بها أصحاب رسول الله -عليه السلام-. ش: أي الدليل على صحة تأويل أهل المقالة الثانية المذكور: ما حكم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد النبي -عليه السلام- ما ذهبوا إليه. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن الحارث بن الأزمع الهمداني الكوفي، وثقه ابن حبان، وذكره في التابعين، وذكره أبو عمر وغيره في الصحابة. وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن الثوري، عن منصور، عن الحكم، عن الحارث ابن الأزمع نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن الأزمع. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 35 رقم 18266).

وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا وكيع، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال: "وُجد قتيل باليمن بين وادعة وأرحب، فكتب عامل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، إليه فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن قس ما بين الحيين فإلى أيهما كان أقرب فخذهم به، قال: فقاسوا فوجدوه أقرب إلى وادعة، فأُخذنا وأُغرمنا وأُحلفنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين أتحلفنا وتغرمنا؟ قال: نعم، قال: فأحلف منا خمسون رجلًا بالله، ما فعلت ولا علمت له قاتلا. الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي، شيخ البخاري، عن عثمان بن مطر الشيباني أبي الفضل البصري، عن أبي حَرِيز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء المهملة، بعدها ياء ساكنة، وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن حسين الأزدي البصري. عن عامر الشعبي. وهذا إسناد معلول بعثمان بن مطر، فإنه ضعفه يحيى وأبو داود والنسائي، وعن يحيى: ليس بشيء. وأبو حريز وثقه ابن حبان ويحيى في رواية، وضعفه في أخرى، وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي: "أن قتيلًا وجد باليمن بين حيين، قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: انظروا أقرب الحيين إليه فأحلِفوا منهم خمسين رجلًا بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، ثم تكون عليهم الدية". وأخرجه عبد الرزاق: عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبي الزناد، عن سعيد بن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 442 رقم 27813). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 442 رقم 27814).

المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "قال في القتيل يؤخذ في الحي: يقسم خمسون -من الحي الذين وُجد فيهم- بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، فإن حلفوا برئوا وإن لم يحلفوا أقسم من هؤلاء خمسون بالله: إن دمنا فيكم ثم يغرمون الدية". وأخرج البيهقي (¬1): من حديث أبي عوانة، عن مغيرة، عن عامر: "أن قتيلًا وُجد في خربة من خرب وادعة همدان، فرفع إلى عمر - رضي الله عنه -، فأحلفهم خمسين يمينًا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، ثم غرمهم الدية، ثم قال: يا معشر همدان حقنتم دماءكم بأيمانكم، فما يبطل دم هذا الرجل المسلم؟ ". وأخرج من حديث الشافعي (¬2): عن سفيان، عن منصور، عن الشعبي: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب في قتيل وُجد بين خيوان ووادعة: أن يقاس بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسين رجلًا حتى يوافوه بمكة، وأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، قالوا: ما دفعت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا، قال عمر - رضي الله عنه -: كذلك الأمر". قال البيهقي: فذكر الشافعي في الجواب عنه: ما يخالفون عمر في هذه القضية من الأحكام. ثم قيل: أفثابت هو؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث مجهول، ونحن نروي عن رسول الله -عليه السلام- بالإسناد الثابت: "أنه بدأ بالمدعين فلما لم يحلفوا قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا" وإذْ قال: "تبرئكم يهود" فلا يكون عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار أيمانهم، وداه النبي -عليه السلام- ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئًا. ثم قال البيهقي: قال الربيع المرادي: أخبرني بعض أهل العلم، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال الحارث الأعور: كان كذابًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 123 رقم 16226). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 124 رقم 16227).

قال: وروي عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عمر، ومجالد غير محتج به. وروي عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع، عن عمر، وأبو إسحاق لم يسمعه منه. روى ابن المديني عن أبي زيد، عن شعبة، سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع: "أن قتيلًا وجد بين وادعة وخيوان" فقلت: يا أبا إسحاق، مَن حدَّثك؟ قال: مجالد، عن الشعبي، عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحاق إلى مجالد، واختلف فيه على مجالد. قلت: أما مخالفتهم عمر - رضي الله عنه - في تلك الأحكام، لأنه قامت عندهم فيها أدلة أقوى من أدلة عمر - رضي الله عنه -، وقد ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج أن مخالفه قال: قد تركتم من حديث عمر أشياء، لأنه كتب إلى عامله باليمن أن ابعث بهم إلى مكة، وأنتم تقولون: يدفع في الحكومة إلى أقرب القضاة. وفيه: أنه استحلفهم في الحِجْر، وأنتم تنكرون أن يستحلف إلا في مجلس الحكم حيث كان. وفيه: أنه قال لعامله: أبعث إليَّ بخمسين رجلًا. وعندكم الخيار للمدعي. وفيه: حقنتم بأيمانكم دماءكم. وأنتم تقولون: إن لم يحلفوا لم يقتلوا. ثم أجاب ابن أبان عن ذلك بما ملخصه: أنه أراد أن يتولى الحكم، وأن عامله لا يقوم فيه مقامه لينتشر في البلاد ويعمل بها مَن بعده، ولهذا فعله في أشهر المواضع وهو الحِجْر ليراه أهل الموسم وينقلوه إلى الآفاق، ولا شك أن نوابَه كانوا يقضون في البلاد الثانية، ولو وجب حمل كل أحد إليه لم يكتب إلى موسى وغيره في الأحكام، ولهذا لم يستحلف عمر - رضي الله عنه - والأئمة بعده أحدًا في الحجر، وإنما كتب عمر - رضي الله عنه - أن لا يقتل دونه احتياطًا واستعظامًا بالدم، ولم يقل: ابعث إليَّ بخمسين تتخيرهم أنت، ولم يكن يولي جاهلًا فإنما كتب إلى من

يعلم أن الخيار للمدعين؛ لأنه لم يستحلف، فكيف يستحلف من لا يريدونه؟ وإنما قال: "حقنتم بأيمانكم دماءكم"؛ لأنهم لو لم يحلفوا حبسوا حتى يقروا فيقتلوا أو يحلفوا، فأيمانهم حقنت دماءهم إذ تخلصوا بها من القتل أو الحبس، كقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} (¬1)، فلو لم تلاعن حبست حتى تلاعن فتنجو أو تقر فترجم. وأما قوله: "أفثابت هو عندك؟ " أي: قضية عمر - رضي الله عنه -. . . . إلى آخره. فنقول: لم يذكر أحد -فيما علمنا- أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي، ولم يذكر سنده في ذلك، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي، عن الحارث الوادعي كما مرَّ ذكره عن قريب، وكذلك مجالد رواه عن الشعبي. ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا، عن عمر - رضي الله عنه - أمارة على أنه هو الواسطة لا الحارث الأعور كما زعم الشافعي. ورواه في أيضًا عبد الرزاق (¬2): عن الثوري، عن منصور، عن الحكم، عن الحارث ابن الأزمع، والحارث هذا ذكره أبو عمر في الصحابة - رضي الله عنهم - كما ذكرناه. وذكره ابن حبان في "الثقات" التابعين، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي، بل هو معروف، روى عنه: الضحاك والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم. ص: وقد وافق ذلك ما قد رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الموضع أنه قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". فسوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بين الأموال والدماء، وحكم فيها بحكم واحد، فجعل اليمين في ذلك كله على المدعى عليه، فثبت بذلك أن معنى حديث سهل هذا أيضًا على ما قد تأولناه. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [8]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 35 رقم 18266).

ش: أي قد وافق ما ذكرناه أن ابتداء اليمين بالمدعى عليه في باب القسامة ما قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم. . . . الحديث". أخرجه الطحاوي مسندًا عن ابن عباس في باب: الرجل يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني. وأخرجه مسلم (¬1): أيضّا وقد ذكرناه هناك، وهذا فيه قد سوى -عليه السلام- بين الأموال والدماء وجعل حكمهما حكمًا واحًدا حيث جعل وظيفة المدعى عليه في الجميع اليمين فلا يجوز تخصيصه بغير دليل. فإن قيل: قد خصصه قوله -عليه السلام-: "البينة على المدعي واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة". رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام -. قلت: قد ذكرنا الجواب عنه في هذا الباب: أن هذا الحديث ضعيف ومعلول من وجوه كثيرة، فلا يعارض به الحديث الصحيح الثابت. ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب، عن سعيد بن عبيد، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم بالبينة، فلما ذكروا أن لا بينة لهم قال: أفيحلفون لكم؟ ". فدل ما ذكرنا أن ما كان من حكم رسول الله -عليه السلام- من ذلك هو هذا، وكان ما زاد عليه مما في حديث يحيى بن سعيد وأبي ليلى بن عبد الله ليس على الحكم، ولكن على المعنى الذي تأولناهما عليه. ش: أي وقد دل على ما ذكرنا أيضًا من أن اليمين على المدعى عليه في الأموال والدماء جميعًا: ما ذكرنا من حديث سعيد بن عبيد. . . . إلى آخره. قوله: "وكان ما زاد عليه" أي وكان الذي زاد على حديث سعيد بن عبيد الذي رواه عنه أبو نعيم الفضل بن دُكين، عن الذي في حديث يحيى بن ¬

_ (¬1) تقدم.

سعيد، عن بشير بن يسار، وحديث أبي ليلى الذي رواه عنهما مالك بن أنس وأراد بقوله: وكان ما زاد عليه هو قوله -عليه السلام-: "أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم قاتلكم" بأن فيه ابتداء اليمين بالمدعي، وتعلقت به أهل المقالة الأولى حيث قالوا: يُستحلف المدعون بالدم، فإذا حلفوا استحقوا ما ادعوا. قوله: "ليس على الحكم" يعني قوله -عليه السلام -: "أتحلفون خمسين يمينًا" ليس على أنه حكم قد شرع لكم، و"لكن على المعنى الذي تأولناهما" وهو أن المراد منه: إنكاره -عليه السلام- عليهم ذلك، وقد ذكرناه مستوفًى. والضمير المنصوب في "تأولناهما" يرجع إلى حديث يحيى بن سعيد وأبي ليلى، فافهم. ص: ثم هذا الزهري قد علم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة، فمما روي عنه في ذلك: ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله -عليه السلام-: "أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله -عليه السلام- على ما كانت عليه، وقضى بها رسول الله -عليه السلام- بين أناس في قتيل ادعوه على اليهود". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعى، قال: ثنا الزهري، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله -عليه السلام- مثله. ثم قال الزهري في القسامة أيضًا ما قد حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري: "أن رسول -عليه السلام- قضى بالقسامة على المدعى عليهم". فدل ذلك على أن القسامة على المدعى عليهم لا على المدعى، على ما بيَّن الزهري في حديثه هذا، وإنما كان أخَذَ القسامة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فكان هذا مما أخذه عنهم. ش: ذكره هذا شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من أن القسامة على المدعى عليهم دون المدعين، ولصحة التأويل الذي ذكره في حديث سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -، بيان ذلك: أن محمَّد بن مسلم الزهري روى "أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله -عليه السلام- على ما كانت عليه". أخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أيوب بن سويد الحميري السيباني -بفتح السين المهملة- فيه مقال، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وسليمان بن يسار الهلالي المدني مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمَّد بن هاشم، ثنا الوليد بن مسلم، أنا الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. غير أن في لفظة: "على يهود خيبر". وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح. وأخرجه مسلم: (¬2) حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -قال أبو الطاهر: نا، وقال حرملة: أنا- ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- من الأنصار: "أن رسول الله -عليه السلام- أقر القسامة على ما كانت في الجاهلية". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 206 رقم 6911). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1295 رقم 1670).

وحدثنا (¬1) محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب بهذا الإسناد مثله، وزاد: "وقضى رسول الله -عليه السلام- بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسليمان، عن أناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام-: "أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله -عليه السلام- على ما كانت عليه، وقضى بها بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود". ثم روى الزهري أيضًا: "أنه -عليه السلام- قضى بالقسامة على المدعى عليهم". أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد ابن خازم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا شبابة بن سوار، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري: "أن النبي -عليه السلام- قضى في القسامة أن اليمين على المدعى عليهم". وأخرج أيضًا نحوه (¬4): عن أبي معاوية، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري به. فدل هذا أن القسامة التي كانت في الجاهلية التي قررها رسول الله -عليه السلام- على ما كانت عليه إنما كانت على المدعى عليهم لا على المدعين. قوله: "وإنما كان أخذ القسامة. . . . إلى آخره" جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: هذا من كلام الزهري وهو ليس بحجة علينا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1295 رقم 1670). (¬2) "سنن البيهقي" (8/ 122 رقم 16220). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 442 رقم 27819). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 443 رقم 27822).

فأجاب عنه بأن هذا في الحقيقة عن النبي -عليه السلام-؛ لأن الزهري إنما أخذ القسامة عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، وهما أخذاها عن أناس من الصحابة، والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوها عن النبي -عليه السلام-، وقد وافق الزهري في ذلك عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب. قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: أخبرني عبيد الله بن عمر، أنه سمع أصحابًا له يحدثون: "أن عمر بن عبد العزيز بدأ المدعى عليهم باليمين، ثم ضمنهم العقل". ثئا أبو معاوية (¬2)، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: "أنه كان يرى القسامة على المدعى عليهم". وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك أيضًا. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو معاوية، عن مطيع، عن فضيل ابن عمرو، عن ابن عباس أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم. ص: وقد وافق ذلك ما رويناه عن عمر - رضي الله عنه - مما فعله وحكم به بحضرة سائر أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكره عليه منكر. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وقد وافق ما روي عن الزهري ما رويناه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو الذي رواه الحارث بن الأزمع، وقد مر ذكره عن قريب. قوله: "وهذا" أي كون القسامة على المدعى عليهم لا على المدعين، قول أبي حنيفة وصاحبيه -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 443 رقم 27820). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 443 رقم 27822). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 443 رقم 27821).

ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار ش: أي هذا باب في بيان حكم ما تصيبه البهائم وتفسده في الليل أو النهار كيف يكون ذلك؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: "أن ناقة لرجل من الأنصار دخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله -عليه السلام- على أهل الحوائط بحفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم بالليل". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة: "أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطًا لرجل فأفسدت، فقضى رسول الله -عليه السلام- أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. ش: هذان طريقان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن أيوب بن سويد الحميري شيخ الشافعي، فيه مقال. عن أبي عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن حرام -ضد حلال- ابن سعد بن محيصة بن مسعود الأنصاري، وقد ينسب إلى جده، قال ابن سعد: كان ثقة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمود بن خالد، قال: ثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة الأنصاري، عن البراء بن عازب قال: "كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فكلم رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 298 رقم 3570).

فيها، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت مواشيهم بالليل". وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي. . . . إلى آخره. الثاني: مرسل، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة. وأخرجه مالك في "موطأه"، (¬2) والشافعي في "مسنده" (¬3) عن مالك. والبيهقي (¬4) عن القاضي أحمد بن الحسن، عن محمَّد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي. وأخرجه النسائي (¬5) عن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن ابن محيصة أخبره أن ناقة للبراء. . . . إلى آخره نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬6) مرفوعًا: نا معاوية بن هشام، نا سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء بن عازب: "أن ناقة لآل البراء أفسدت شيئًا، فقضى رسول الله -عليه السلام- أن حفظ الثمار على أهلها بالنهار، وضمن أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 411 رقم 5785). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 747 رقم 1435). (¬3) "مسند الشافعي" (1/ 195). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 341 رقم 42). (¬5) كذا في "الأصل، ك" وهو تحريف، والصواب ابن ماجه كما في "تحفة الأشراف" (3/ 363 رقم 1753) فقد عزاه المزي بهذا الإسناد لابن ماجه، وهو في "السنن" (2/ 781 رقم 2332). وأما النسائي فأخرجه في "الكبرى" (3/ 411 رقم 5785) من طريق عمرو بن عثمان عن الوليد عن الأوزاعي به. (¬6) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 304 رقم 36301).

وقال ابن حزم: (¬1) الخبر المرسل أحسن طرقه: ما رواه مالك ومعمر، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: "أن ناقة للبراء. . . .". وما رواه ابن جريج، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل: "أن ناقة دخلت. . . ." فلم يُسند أحد من هاتين الطريقين اللتين لو أسند منهما أو من إحديهما لكان حجةً يجب الأخذ بها، وإنما أسند من طريق حرام بن سعد بن محيصة مرةً، عن أبيه، ولا صحبة لأبيه. ومرةً عن البراء فقط. وحرام بن سعد بن محيصة مجهول لم يرو عنه أحد إلا الزهري، وهو يروي عمن لا يوثق بروايته، كروايته عن سلمان بن قرم، ونبهان مولى أم سلمة وغيرهم من المجاهيل والهلكى، ولا يحل لأحد أن يقطع على رسول الله -عليه السلام- في الدين إلا مَن يعرف حاله وعدالته، فسقط التعلق بهذا الخبر. قلت: حرام بن سعد معروف، روى عنه مثل الزهري، ووثقه ابن سعد كما ذكرنا. وروايته عن أبيه أخرجها عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن حرام ابن محيصة، عن أبيه: "أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى النبي -عليه السلام- على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل". وقال أبو عمر بن عبد البر: رواية عبد الرزاق عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه. لم يتابع على قوله: عن أبيه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: ما أصابت البهائم نهارًا فلا ضمان على أحد فيه، وما أصابت ليلًا ضمنه أرباب تلك البهائم. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 5). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 82 رقم 18437).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: شريحًا والشعبي والليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: ما أفسدت البهائم في النهار لا ضمان على أحد فيه، وما أفسدته في الليل يضمنه أصحاب البهائم، إلا أن الليث قال: لا يضمنون أكثر من قيمة الماشية. قال أبو عمر (¬1): قال مالك: ما أفسدت المواشي والدواب من الزروع والحوائط بالليل فضمان ذلك على أربابها، وما كان بالنهار فلا شيء على أصحاب الدواب، ويقوَّم الزرع الذي أفسدت بالليل على الرَّجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس سواء، والمحظر عليه وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغًا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها، قال مالك: فإذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئًا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث. وقال ابن القاسم: ما أفسدت المواشي بالليل فهو في مال ربها وإن كان أضعاف قيمتها؛ لأن الجنابة من قبله إذْ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد. حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم. وحكى المزني عن الشافعي قال: الضمان عن البهائم بوجهين: أحدهما: ما أفسدت من الزرع بالليل ضمنه أهلها، وما أفسدت بالنهار لم يضمنوا. واحتجوا بحديث هذا الباب. والوجه الثاني: إذا كان الرجل راكبًا، فما أصابت بيدها أو رجلها أو فيها أو ذنبها من نفس أو جرح فهو ضامن له؛ لأن عليه منعها في تلك الحال من كل ما يتلف فيه أحدًا. قال: واختلف أصحاب داود في هذا الباب، فقال بعضهم بقول مالك والشافعي، وقال بعضهم مثل قول الليث إلا أن يتعدى في إرسالها، أو يربطها في ¬

_ (¬1) "التمهيد" (11/ 82 - 83).

موضع لا يجب له ربطها فيه، أو يعنف عليها في السياق فيضمن بجناية نفسه، قال: وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الشعبي "أن شاةً وقعت في غزل حائك، واختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم: أليلًا وقعت فيه أو نهارًا؟ ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} (¬1) قال: والنفش بالليل، والهمل بالنهار. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابته مواشيم في الليل والنهار إذا كانت منفلتة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وبعض الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا ضمان على أصحاب البهائم فيما أفسدت من الزرع وغيره، سواء كان ليلًا أو نهارًا إذا كانت منفلتة. وقال ابن حزم: والقول عندنا في هذا كله ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ثبت عنه من أن العجماء جرحها جبار، وعملها جبار، فلا ضمان فيما أفسده الحيوان من أدم أو مال لا ليلًا ولا نهارًا، فإن أتى بها وحملها على شيء وأطلقها فيه ضمن حينئذٍ؛ لأنه فعله، ليلًا كان أو نهارًا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا الخضر بن محمَّد الحراني، قال: ثنا عباد بن عباد، قال: ثنا مجالد، عن الشعبي؛ عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السائمة عقلها جبار والمعدن جبار". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث جابر، أخرجه عن فهد بن سليمان، عن الخضر بن محمَّد بن شجاع الجزري أبي مروان الحراني، وثقه أحمد وابن حبان، وقال أبو حاتم: ليس به بأس. عن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صُفْرة العتكي البصري، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، آية: [78].

عن مجالد -بالجيم- ابن سعيد الهمداني الكوفي، قال النسائي: ثقة. وعن يحيى: ضعيف. روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة. عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبد الواحد، نا حماد بن زيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السائمة جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". قوله: "السائمة" أي الدابة السائمة المرسلة في رعيها. قوله: "عقلها" أي ديتها وأرشها. قوله: "جُبار" بضم الجيم، أي هدر لا ينبني عليه حكم. قال أبو عمر: لا يختلفون أن الجبار: الهدر الذي لا أرش فيه ولا دية. قال الشاعر: وكم ملك نزعنا الملك (منه) (¬1) ... وجبار بها دمه جبار قلت: "السائمة" مبتدأ، و"عقلها" مبتدأ ثان، وخبره "جبار"، والجملة خبر المبتدأ الأول. قوله: "والمعدِن جبار" المعدِن -بكسر الدال- الموضع الذي تستخرج منه جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، ويجمع على معادن، واشتقاقه من المعدِن وهو الإقامة، ومعنى قوله: "والمعدن جبار" أي: المعادن التي يطلب فيها الذهب والفضة تحت الأرض إذا سقط منها شيء أو انهار على أحد من العاملين فيها فمات أنه هدر لا دية له في بيت المال ولا غيره، وكذلك من سقط فيها فعطب بعد حفرها. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك"، ويروى: "عنه" والقائل هو أبو فراس الحمداني.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام- "العجماء جبار، والمعدن جبار". حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- مثله. فقال السائل: يا أبا محمَّد، أبو سلمة معه؟ قال: إن كان معه فهو معه. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا محمَّد بن عمرو. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عبد الله بن عون، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن محمَّد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. . . . فذكر مثله. حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفرياني، قال: ثنا سفيان، عن ابن ذكوان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، يرفعه مثله. ش: هذه تسع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن

مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن محمَّد بن رافع، عن إسحاق بن عيسى، عن مالك. الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬3): عن ابن منيع، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار". الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله ابن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬4): عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة نحوه. الرابع: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا عبد العزيز، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 545 رقم 1428). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1335 رقم 1710). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 661 رقم 1377). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1334 رقم 1710).

عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". الخامس: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف البصري شيخ أحمد، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده": (¬1) ثنا يحيى، عن محمَّد، حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: "جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". السادس: عن فهد بن سليمان، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬2): عن يعقوب الدورقي، عن هشيم، عن منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن الزهري، عن النبي -عليه السلام- قال: "البئر جبار، والعجماء جبار. . . ." الحديث. السابع: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يزيد بن هارون، عن عبد الله بن عون المزني، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد (¬3): عن محمَّد بن جعفر، عن هشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "البهيمة عقلها جبار، والبئر عقلها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". وأخرجه النسائي (2): عن يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن منصور وهشام، عن محمَّد، عن أبي هريرة نحوه. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 475 رقم 10152). (¬2) "المجتبى" (5/ 45 رقم 2498). (¬3) "مسند أحمد" (2/ 411 رقم 9316).

الثامن: عن فهد بن سليمان، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن زياد الجمحي المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا حجاج، ثنا شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -عليه السلام-أو قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". قال شعبة: ما سمعت أحدًا يقول: "الركاز" غيره. التاسع: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه إلى النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن سلمة عن ابن القاسم، عن مالك، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "العجماء جبار". قوله: "العجماء جبار" العجماء عند العرب: كل بهيمة وسبع وحيوان غير ناطق مفصح. وقال ابن الأثير: العجماء: البهيمة؛ سميت به لأنها لا تتكلم، وكل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم، ومنه الحديث: "بعدد كل فصيح وأعجم"، قيل: أراد بعدد كل آدمي وبهيمة. وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن العجماء إذا جنت جناية نهارًا أو جرحت جرحًا لم يكن فيه لأحد سبب أنه هدر لا دية فيه على أحد، ولا أرش. واختلفوا في المواشي يهملها صاحبها ولا يمسكها ليلًا، فتخرج فتفسد زرعًا ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 454 رقم 9858). (¬2) عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/ 46 رقم 13858). للنسائي في "الكبرى" رواية ابن حيوة.

أو كرمًا أو غير ذلك من ثمار الحوائط والأجنة وخضرها، وقد مضى الكلام فيه عن قريب. واحتج أبو الزناد بهذا الحديث: "أن الكلب إذا عقر أحدًا أنه هدر". قال ابن وهب: أخبرني يونس، أنه سأل أبا الزناد عن عقل الكلب أو الفهد أو السبع الداجن أو الكبش النطاح، أو نطح الثور أو البعير أو الفرس، الذي يعض فيعقر مسكينًا أو زائرًا أو عابدًا. فقال أبو الزناد أن قتل واحد من هذه الدواب أو أصاب كسر يد أو رِجْل أو فقأ عين أو أي شيء جرح من ذلك أحدًا من الناس فهو هدر، قضى رسول الله -عليه السلام- أن العجماء جرحها جبار إلا أن يكون قد استعدى في شيء من ذلك، فأمره السلطان [بإيثاق] (¬1) ذلك فلم يفعل فإن عليه أن يغرم ما جرح بالناس. وأما ما أصيبت به الدابة أو شيء منها فلم يكن السلطان تقدم إلى صاحبه، فإن على مَن أصابها غرم ما أصابها به. وقال مالك فيمن اقتنى كلبًا في دار البادية فعقر ذلك الكلب إنسانًا: إنه إن اقتناه وهو يدري أنه يفترس الناس ويعقرهم فهو ضامن لما فرس الكلب. وعن (¬2) سفيان الثوري، عن [طارق] (¬3) قال: "كنت عند شريح فأتاه سائل فقال: إني دخلت دار قوم فعقرني كلبهم وخرق جرابي، فقال: إن كنت دخلت بإذنهم فهم ضامنون، وإن كنت دخلت بغير إذنهم فليس عليهم شيء". وعن الشعبي قال: "إذا كان الكلب في الدار فأذن أهل الدار للرجل، فعقره الكلب ضمنوا، وإن دخل بغير إذنهم فعقره فلا ضمان عليهم، وأيما قوم غَشَوْا ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": بإتلاف، والمثبت من "المحلي" (11/ 9). (¬2) انظر "المحلى" لابن حزم (11/ 10). (¬3) في "الأصل، ك": طاوس، وهو تحريف، والمثبت من "المحلى" والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 431 رقم 27719) ومن طريق سفيان عن طارق بن عبد الرحمن بنحوه.

غنمًا في مرابضها فعقرتهم الكلاب فلا ضمان على أصحاب الغنم، وإن عرضت لهم الكلاب في الطريق فعقرتهم في الطريق ضمنوا". وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والحسن بن حي: مَن كان في داره كلب فدخل إنسان بإذنه أو بغير إذنه فقتله الكلب فلا ضمان في ذلك، وكذلك قال ابن أبي ذئب. وقد روى الواقدي عن مالك نحو هذا، وروى عنه ابن وهب: أنه إن اتخذ الكلب وهو يدري أنه يفترس ضَمن، وإن لم يعلم ذلك لم يضمن، إلا أن يتقدم إليه السلطان. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فجعل رسول الله -عليه السلام- ما أصابته العجماء جبارًا، والجبار هو الهدر فنسخ ذلك ما تقدم ما في حديث حرام بن محيصة وإن كان منقطعًا لا تقوم بمثله عند المحتج به علينا حجة؛ لأنه وإن كان الأوزاعي قد وصله، فإن مالكًا والأثبات من أصحاب الزهري قد قطعوه، ومع ذلك فإن الحكم المذكور فيه مأخوذ من حكم سليمان النبي -عليه السلام- في الحرث إذ نفشت فيه الغنم، فحكم النبي -عليه السلام- بمثل ذلك الحكم حتى أحدث الله -عز وجل- له هذه الشريعة فنسخت ما قبلها. ش: هذا جواب عن حديث حرام بن محيصة الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو على وجهين: الأول: أن هذا الحديث منقطع، وهؤلاء لا يحتجون بالمنقطع فكيف يحتجون به على أهل المقالة الثانية، وهذا غير صحيح. فإن قيل: قد أوصله الأوزاعي فصح أن يحتج به على الخصم، فأجاب عنه بقوله: وإن كان الأوزاعي قد وصله فإن مالك بن أنس والأثبات الثقات من أصحاب محمَّد بن مسلم الزهري قد رَوَوْه مقطوعًا.

قال أبو عمر: روى هذا الحديث جميع رواة "الموطأ" مرسلًا، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحرام بن سعد بن محيصة، جمعهما جميعًا في هذا الحديث ولم يقل ذلك غير ابن عيينة، عن ابن شهاب فيما أعلم. والله أعلم. فإن قيل: مذهب أكثر المحدثين: أن الحديث إذا كان منقطعًا من وجه متصلًا من وجه آخر يكون حجة؛ لوجود الاتصال فيه بطريق واحد، والطريق الآخر الذي هو منقطع كأن ليس؛ لأن ذلك الطريق ساكت عن الراوي وحاله أصلًا، وفي الطريق المتصل بيان له، ولا معارضة بين الساكت والناطق. قلت: ولئن سلمنا أنه حجة عند بعض، فليس هو بحجة عند الآخرين؛ لأن اعتبار الاتصال فيه يسقط بالانقطاع من وجه، فإذا كان كذلك فلا تقوم بمثله حجة عند الخصم. الوجه الثاني: أن هذا الحديث منسوخ بحديث جابر وأبي هريرة - رضي الله عنهما -. بيان ذلك: أن الحكم المذكور فيه قد أخذه -عليه السلام- من حكم سليمان النبي -عليه السلام-، وقد أخبر الله تعالى في القرآن بقوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ. . . .} (¬1) الآية. قال ابن عباس: كان الحرث زرعًا. وقال ابن مسعود: كان كرمًا قد نبت عناقيده؛ وذلك أنه دخل عليه رجلان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلت غنمه ليلًا فوقعت في حرثي فلم تُبق منه شيئًا، فقال له داود -عليه السلام-: اذهب فإن الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرا على سليمان -عليه السلام- فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فأُخبر داود -عليه السلام- بذلك فدعاه، فقال له: بحق النبوَّة كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث سنةً فيكون له نسلها ولبنها وصوفها ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، آية: [78].

ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أُكل، دُفع إلى أهله، وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود -عليه السلام-: القضاء على ما قضيت، وحَكَم بذلك. ثم لا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بما حكما منسوخ، وذلك لأن داود -عليه السلام- حكم بدفع الغنم إلى أهل الحرث، وحكم سليمان له بأصوافها وأولادها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، وأنه لا يسلم أولادها وألبانها وأصوافها، فثبت أن الحكمين جميعًا منسوخان بشريعة النبي -عليه السلام-. ثم إنه حكم بمثل الحكم المذكور إلى أن أحدث الله -عز وجل- هذه الشريعة المطهرة، فنسخت ما قبلها. فإن قلت: قد تضمنت القضية معانٍ منها: وجوب الضمان على صاحب الغنم، ومنها: تبقية ذلك الضمان، وإنما المنسوخ فيه ما يجب به الضمان، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ. قلت: قد ثبت ذلك الضمان على لسان النبي -عليه السلام- بالخبر الذي تلقاه الناس بالقبول واستعملوه، وهو ما رواه أبو هريرة وجابر: "العجماء جبار"، ولا خلاف في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانًا أو مالًا أنه لا ضمان على صاحبها؛ إذ لم يرسلها هو عليه. ولما كان هذا الخبر مستعملًا عند الجميع، وكان عمومه ينفي ضمان ما يصيبه ليلًا أو نهارًا، ثبت بذلك نسخ ما ذكرنا من قصة داود وسليمان -عليهما السلام - ونسخ ما ذكرنا في حديث حرام بن محيصة من وجوب الضمان في الليل. ووجه آخر: أن الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه. فلما اتفق الجميع على نفي ما أتلفت الماشية نهارًا وجب أن يكون ذلك حكمها ليلًا.

وجواب آخر: أنه يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- إنما أوجب الضمان في حديث حرام بن محيصة لأجل كون صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون المعلوم أن الذي يسوق ماشيته بالليل في الزرع والحوائط لا يخلو من نفش بعضها في زرع الناس وإن لم يعلم بذلك، فبيَّن -عليه السلام- حكمها إذا أصابت ربها، ويكون الضمان حينئذ لسوقه وإرساله في الزرع وإن لم يعلم بذلك، وبيَّن -عليه السلام- تساوي حكم العلم والجهل فيه. والله أعلم. ص: فمما دلَّ على هذا الذي رويناه عن جابر وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: "أنه كان بعد ما في حديث حرام بن محيصة من قوله: "فقضى رسول الله -عليه السلام- أن على أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل، وأن على أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار" فجعل النبي -عليه السلام- الماشية إذا كان على ربها حفظها مضمونًا ما أصابت، وإذا لم يكن عليه حفظها غير مضمون عليه ما أصابت، فأوجب في ذلك ضمان ما أصابت المنفلتة بالليل إذ كان على صاحبها حفظها. ثم قال في حديث العجماء: "جرحها جبار" فكان ما أصابت في انفلاتها جبارًا، فصارت كما لو هدمت حائطًا أو قتلت رجلًا، لم يضمن صاحبها شيئًا، وإن كان عليه حفظها حتى لا تنفلت إذا كانت مما يخاف عليه مثل هذا، فلما لم يراع النبي -عليه السلام- في هذا الحديث وجوب حفظها عليه، وراعى انفلاتها فلم يضمنه فيها شيئًا مما أصابت ليلًا أو نهارًا رجع الأمر في ذلك إلى استواء الليل والنهار، فثبت بذلك أن ما أصابت ليلًا أو نهارًا إذا كانت منفلتة فلا ضمان على ربها فيه، وإن كان هو سيبها فأصابت شيئًا في فورها أو في سيبها ضمن ذلك كله، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-، وهو أولى ما حملت عليه هذه الآثار لما ذكرنا وبيَّنا. ش: أي فمن الذي دل على هذا، وأشار به إلى ما ذكره من قوله: "فحكم النبي -عليه السلام-" إلى قوله: "فنسخت ما قبلها".

وقوله: "الذي رويناه" فاعل لقوله: "دلّ". وقوله: "أنه كان" بدل من قوله: "الذي". قوله: "إذ كان" أي لأجل كون حفظها غير مضمون عليه. قوله: "فصارت". أي العجماء "كما لو هدمت حائطًا لرجل أو قتلت رجلًا" فإن صاحبها لم يضمن شيئًا. قوله: "وهو أولى ما حُملت عليه" أي الذي ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه أولى ما حملت عليه "الآثار" أي الأحاديث المذكورة، وهي حديث حرام بن محيصة وحديث أبي هريرة وجابر - رضي الله عنهم -. فإن قيل: قال أبو عمر: جعلت الحنفية حديث: "جرح العجماء جبار" معارضًا لحديث البراء، وليس كما زعموا وذهبوا إليه؛ لأن التعارض في الآثار إنما يصح إذا لم يمكن استعمال أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث: "العجماء جبار" عام قد خُص بحديث البراء، وهذا من باب العموم والخصوص والمجمل والمفسر. وقال البيهقي في "الخلافيات" ما ملخصه: أن الحنفية قالوا: حديث البراء منسوخ بحديث: "العجماء جبار". والجواب فيما ذكره الشافعي، وهو فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، ثنا الربيع قال: قال الشافعي: فأخذنا به -يعني بحديث البراء بن عازب- لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله، ولا يخالفنا هذا الحديث -يعني حديث: "العجماء جبار"- وجملة من الكلام العام المخرج الذي يُراد به الخاص، وقضاء رسول الله -عليه السلام- فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دليل على ما إذا أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار، وفي حال غير جبار. وفي هذا دليل على أنه إذا كان على أهل العجماء حفظها ضمنوا ما أصابت، وإذا لم يكن عليهم حفظها لم يضمنوا شيئًا مما أصابت، فيضمن أهل الماشية بالليل إذا أصابت من زرع، ولا يضمنونه بالنهار.

قلت: أما قول أبي عمر في نقله عن الحنفية أنهم جعلوا كذا وكذا فغير صحيح، لأنهم لم يدعوا تعارضًا بين الحديثين وإنما ادعوا نسخًا على ما ذكره، فإذا كان حديث: "العجماء جبار" ناسخًا، وثبت ذلك، لا يبقى فيه مجال أن يقال بالعموم والخصوص، والعموم والخصوص بين الحديثين المعمول بهما، وهاهنا حديث البراء منسوخ، فكيف يقال: إنه مخصص للحديث الآخر؟! وكيفية ثبوت النسخ قد ذكرناها آنفًا، وهذا يقع جوابا أيضًا عما نقله البيهقي عن الشافعي من قوله: وجملة من الكلام المخرج الذي يراد به الخاص. . . . إلى آخره. وأما قوله: "لثبوته واتصاله. . . ." إلى آخره. فغير مسلم؛ لأنا قد بينا علة الحديث فيما مضى من أنه مقطوع عند أكثر الأثبات من أصحاب الزهري، وأنه لا تقوم به حجة عنده، فكيف يحتج به على خصمه؟! فافهم.

ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي؟

ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الغرة التي تجب لأجل الجنين، يكون الثمن لأم الجنين أم لمن يرث الجنين لو كان حيًّا؟ وقد مرتا -الغرة والجنين- في باب: شبه العمد الذي لا قود فيه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن امرأتين من هُذيل رمت إحداهما الأخرى بحجر، فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو وليدة". حدثنا يونس، قال: أنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة، وأن التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله -عليه السلام- أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقال الذي قضى عليه العقل: كيف يدي مَن لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن هذا يقول يقول شاعر. فيه غرة عبد أو أمة". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

وقد أخرجه الطحاوي مرةً في باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، عن يونس، عن ابن وهب، عن يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وقد ذكرناه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬3) والترمذي (¬4): كلاهما عن قتيبة، عن الليث. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه: (¬5) نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمَّد بن بشر، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله -عليه السلام- في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقال الذي قضي عليه: أنعقل من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل مثل ذلك يطل؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: إن هذا ليقول بقول شاعر، فيه غرة عبد أو أمة". وأخرجه الترمذي (¬6): عن علي بن سعيد الكندي، عن ابن أبي زائدة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2172 رقم 5427). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1309 رقم 1681). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 602 رقم 4577). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 426 رقم 2111). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 882 رقم 2639). (¬6) "جامع الترمذي" (4/ 23 رقم 1410).

وقال: حديث حسن. قوله: "أن امرأتين من هذيل" قد ذكرنا أن اسم إحداهما مُليكة، واسم الأخرى: أم غُطيف. و"هذيل": وابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قوله: "بغرة عبد" يتعلق بقوله: "قضى"، وعبد بالجر عطف بيان عن الغرة. قوله: "أو وليدة" أي: أو جارية، وهذا محمول على التفسير لا على الشك عند الجمهور، فافهم. قوله: "من بني لحيان" بكسر اللام وفتحها وهو لحيان بن هذيل بن مدركة، ولحيان قبيل من هذيل، فلذلك جاء في رواية: "امرأتان من هذيل"، وفي أخرى: "من بني لحيان". قوله: "وأن العقل" أي: الدية "على عصبتها" أي: عصبة المرأة القاتلة. قوله: "فقال الذي قضى عليه العقل": أي: الدية، وهو على صيغة المجهول. قوله: "كيف ندي" من ودى يدي، أي: كيف نُودي دية من لا شرب ولا أكل، ولا صاح أي ولا صوَّت. قوله: "فاستهل" بالتاء، تفسير لقوله: "صاح" أي: ولا رفع صوته، وكل من رفع صوته فقد استهل. قوله: "يُطَل" بضم الياء آخر الحروف وفتح الطاء المهملة، من طَلَّ دمه إذا هدر، وروي "بطل" بالباء الموحدة، من البطلان وقد حققنا القول فيه في باب: شبه العمد. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة، عن المغيرة بن شعبة: "أن رجلًا كانت له امرأتان، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط أو بحجر فأسقطت، فرفع ذلك إلى النبي -عليه السلام-، فقال الذي يخاصم: كيف نعقل -أو كيف

ندِي- من لا صاح فاستهل، ولا شرب ولا أكل؟! فقال النبي -عليه السلام-: أسجع كسجع الأعراب؟! فجعل رسول الله -عليه السلام- فيه غرة عبد، وجعله على قومها". ش: إسناده صحيح. وأخرجه مرةً في باب: شبه العمد عن الحسين بن نصر، عن الفريابي، عن سفيان، عن منصور. . . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة غير البخاري، وقد بيناه هناك. قوله: "أن رجلًا كانت له امرأتان" هذا الرجل هو حمل بن مالك بن النابغة الهذلي. قوله: "أسجع" أي: أكلامك سجع مثل سجع الأعراب؟! وقد استوفينا الكلام فيه في باب: شبه العمد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الغرة الواجبة في الجنين إنما تجب لأم الجنين؛ لأن الجنين لم يعلم أنه كان حيًّا في وقوع الضربة بأمه. ش: أراد بالقوم هؤلاء: داود وجماعة الظاهرية، ومالكًا في رواية، والشافعي في قول، فإنهم قالوا: غرة الجنين لأم الجنين ليس لأحد معها فيها شيء، وليست هي دية، وإنما هي بمنزلة جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها، ألا ترى أنه لا يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يعتبر في الديات؟ وقال داود: الغرة لم يملكها الجنين حتى تورث عنه. قلت: يرد عليه دية المقتول خطأ، فإنه لم يملكها وتورث عنه. قال أبو عمر: كان عبد الرحمن بن هرمز يقول: هي لأبويه خاصة، لأبيه ثلثاها، ولأمه ثلثها، مَن كان منهما حيًّا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أمّا، لا يرث الإخوة شيئًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل تلك الغرة المحكوم بها للجنين، ثم يرثها مَن كان يرثه لو كان حيًّا.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي، والزهري والثوري وعبد العزيز بن أبي سلمة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول، وأحمد وأصحابهم فإنهم قالوا: الغرة تكون للجنين، ثم يرثها من كان يرث الجنين لو كان حيًّا، مثلًا لو كان له أبوان يرث الأب الثلثين والأم الثلث، ولو كان لو إخوة وليس له أب، ترث الأم السدس والباقي بين الإخوة، للذكر مثل حظ الأنثيين. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد ذكرناه في هذه الآثار: أن رسول الله -عليه السلام- لما قضى على المحكوم عليه بالغرة قال: كيف نعقل مَن لا أكل ولا شرب ولا نطق؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيه غرة عبد أو أمة. ولم يقل للذي سجع ذلك السجع: إنما حكمت هذا للجناية على المرأة لا في الجنين، وقد دل على ذلك أيضًا ما قد روينا فيما تقدم من هذا الكتاب: أن المضروبة ماتت بعد ذلك من الضربة، فقضى رسول الله -عليه السلام- فيها بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى لها بالدية، ولكن حكمها حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربها فعليها ديتها، ولا يجب عليها للضربة أرش. فلما حكم رسول الله -عليه السلام- مع دية المرأة بالغرة؛ ثبت بذلك أن الغرة دية للجنين لا لها، فهي موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيًّا فمات، اتباعًا لما روي عن رسول الله -عليه السلام-. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من أن الغرة يرثها مَن كان يرث الجنين لو كان حيًّا ومات. والباقي كله ظاهر. فإن قيل: الجنين لا يخلو حاله عن أمرين: الأول: أن يكون قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة.

الثاني: أن لا يكون ذلك. ففي الأول يورثه ورثته لو كان حيًّا مسلم، لأنه قد نفخ فيه الروح، فصار كالقتيل فيرث ورثته ديته. وفي الثاني لا شيء. هذا؛ لأنه إنما هو ماء، أو علقة من دم، أو مضغة من عضل، أو عظام ولحم، وليس هو بحي، فهو في كل ذلك بعض أمه، فإذا سقط بضرب أحد يكون كمن ضرب أمَّه وقطع عضوًا منها، فلا يكون الضارب قاتلًا ولا الجنين مقتولًا، وإذا لم يكن مقتولًا لا يكون له حكم القتيل، فتكون الغرة لأمه. ثم الدليل على ما ذكرنا من التفصيل ما رواه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا وكيع وأبو معاوية، قالا جميعًا: عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله -عليه السلام- وهو الصادق المصدوق قال: "يجمع أحدكم خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد". قلت: هذا كله سفهه أهل الظاهر. وقول الطحاوي -رحمه الله-: "وقد دلَّ على ذلك أيضًا ما رويناه. . . ." إلى آخره يقطع هذه السفهه ويرفع هذا السؤال بأقل قدر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2036 رقم 2643).

ص: كتاب الحدود

ص: كتاب الحدود ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الحدود، وهو جمع حد وهو المنع لغة ولهذا قيل للبواب حدادًا لمنعه الناس عن الدخول. وفي الشرع: الحد عقوبة مقدرة لله تعالى، وإنما جمعه لاشتماله على أنواع الحدود وهي: حد الزنا، وحد القذف، وحد الشرب. ... ص: باب: حد البكر في الزنا ش: أي هذا باب في بيان حد البكر في الزنا. البكر: بكسر الباء في اللغة: العذباء، وتجمع على أبكار، والبكر أيضًا المرأة التي ولدت بطنًا واحدًا، وبكرها ولدها، الذكر والأنثى فيه سواء. قال ابن الأثير: بكر الرجل -بالكسر: أول ولده. ولكن المراد هاهنا من البكر: خلاف الثيب، فلما كان الثيب يطلق على الرجل والمرأة، فكذلك البكر الذي هو ضده يطلق عليهما جميعًا. "والزنا": من زنى يزني زناء يمد ويقصر، فالقصر لأهل الحجاز، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬1)، والمد لأهل نجد، قال الفرزدق: أبا حاضرٍ من يَزنِ يُعْرَفُ زناؤه ... ومَنْ يَشْرَبِ الخُرطومَ يصْبح مُسَكّرًا وفي الشرع: الزنا: وطء من قُبل خالٍ، عن ملك وشبهة. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن قتادة، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [3].

عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا، عني، خذوا، عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا؛ البكر بالبكر، والثيب بالثيب، البكر يجلد وينفى، والثيب يجلد ويرجم". ش: إسناده صحيح على شرط مسلم. والحسن هو البصري. وحطان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الطاء- ونسبته إلى رقاش -بفتح الراء والقاف المخففة- بنت ربيعة بن قيس بن ثعلبة، من بني بكر بن وائل. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وأخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. قوله: "خذوا عني" إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬5) ثم فسر السبب بقوله: "البكر بالبكر" يراد إذا زنى البكر بالبكر، وكذا قوله: "الثيب بالثيب" يعني إذا زنى الثيب بالثيب. وقال الخطابي: اختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية، وهل هو ناسخ للآية أو مبيِّن لها؟ فذهب بعضهم إلى أن معناه النسخ، وهذا على قول مَن يرى نسخ الكتاب بالسنة. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1316 رقم 1690). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 549 رقم 4415). (¬3) "جامع الترمذي " (4/ 41 رقم 1434). (¬4) "سنن النسائي الكبرى" (4/ 270 رقم 7144). (¬5) سورة النساء، آية: [15].

وقال آخرون: بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه قال: عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلًا، فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية، فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل قال - صلى الله عليه وسلم -: خذوا، عني تفسير السبيل وبيانه، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان أمر كان ذكر السبيل منطويًا عليه، فأبان المبهم منه وفسَّر المجمل من لفظه، فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة، وهذا أصوب القولين. والله أعلم. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا، عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". ش: ابن أبي داود: هو إبراهيم البرلسي. ويحيى بن عبد الحميد: أبو زكريا الكوفي، عن يحيى: صدوق مشهور، ما بالكوفة مثله، ما يقال فيه إلا من حسد. وعن النسائي: ضعيف. ونسبته إلى حِمان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون- قبيل من تميم. والفضل بن دلهم الواسطي ثم البصري القصاب، قال أحمد: ليس به بأس. وقال يحيى: صالح. وقال أبو داود: ليس بالقوي ولا بالحافظ. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وقبيصة بن حريث، ويقال له: حريث بن قبيصة الأنصاري البصري، قال البخاري: في حديثه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الأربعة. وسلمة بن المحبق -بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الباء الموحدة وقيل بفتحها، والأول أصح، وفي آخره قاف- له صحبة، سكن البصرة.

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، ثنا الفضل بن دلهم. . . . إلى آخره نحوه سواء. ص: حدثنا يونس وعيسى بن إبراهيم الغافقي، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل - رضي الله عنهم -، قالوا: "كنا قعودًا عند النبي -عليه السلام-، فقام إليه رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله -عز وجل-، فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادمٍ، ثم سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم، فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - قالا: "كنا جلوسًا عند النبي -عليه السلام-. . . ." ثم ذكر مثله. ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال "الصحيح" ما خلا عيسى بن إبراهيم شيخ أبي داود. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، وعيسى بن إبراهيم بن عيسى المروزي الغافقي المصري، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه المدني، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني الصحابي وشبل بن خالد ويقال: خليد. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 476 رقم 15951).

قال الطبري: شبل بن معبد البجلي، ويقال: شبل بن خليد، ويقال: شبل بن حامد، فصوب بعضهم ابن معبد، وقيل: إن شبل هذا لا صحبة له، وعن هذا أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث، ولم يذكرا في روايتهما شبلًا، ويقال: لا ذكر له في الصحابة إلا في رواية ابن عيينة ولم يتابع عليها، وقال يحيى بن معين: ليست لشبل صحبة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس لشبل معنى في حديث الزهري. وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن علي بن عبد الله، ثنا سفيان، قال: حفظناه من في الزهري، قال: أخبرني عبيد الله، أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا: "كنا عند النبي -عليه السلام-، فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه في مواضع متعددة في "جامعه": في كتاب الصلح (¬2) وفي الأحكام (¬3): عن آدم، عن ابن أبي ذئب. وفى كتاب المحاربين (¬4): عن عاصم بن علي، عن ابن أبي ذئب. وفي الشروط (¬5): عن قتيبة، عن الليث. وفي النذور (¬6): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2502 رقم 6440). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 959 رقم 2549). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2631 رقم 6770). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2508 رقم 6446). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 971 رقم 2575). (¬6) "صحيح البخاري" (6/ 2446 رقم 6258).

وفي كتاب المحاربين أيضًا (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وفيه أيضًا: عن علي (¬2)، وعن محمَّد بن يوسف (¬3)، عن سفيان بن عيينة. وفي الاعتصام: عن مسدد (¬4)، عن سفيان. وفي خبر الواحد: عن زهير بن حرب (¬5)، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح. وعن أبي اليمان، عن شعيب، كلهم عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد. وفي الشهادات: عن يحيى بن بكير (¬6)، عن الليث، عن عقيل. وفي كتاب المحاربين أيضًا: عن مالك بن إسماعيل (¬7)، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، كلاهما عن الزهري، عن عبيد الله، عن زيد وحده، بهذا مختصرًا. ومسلم (¬8): عن قتيبة، قال: نا ليث (ح). ونا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: "إن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلَّا قد قضيت بكتاب الله. . . ." إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2510 رقم 6451). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2502 رقم 6440). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2515 رقم 6467). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2655 رقم 6850). (¬5) "صحيح البخاري" (6/ 2650 رقم 6831، 6832). (¬6) "صحيح البخاري" (2/ 937 رقم 2506). (¬7) "صحيح البخاري" (6/ 2507 رقم 6443). (¬8) "صحيح مسلم" (3/ 1324 رقم 1697).

وأخرجه أيضًا (¬1): عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، وعن عمرو الناقد، عن يعقوب، عن أبيه، عن صالح، وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة وزيد، عن النبي -عليه السلام-. وهذا كما ترى لم يذكر البخاري ولا مسلم شبلًا في روايتهما. وأبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر -وكان أفقه: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، قال: تكلم، فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا -والعسيف: الأجير- فزنى بامرأته، فأخبروني أنما على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله -عليه السلام-: أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد إليك، وجلد ابنه مائة وغربه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها". وهذا أبو داود أيضًا لم يذكر شبلا في روايته. والترمذي (¬3): عن نصر بن علي وغير واحد، قالوا: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله سمعه من أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل: "أنهم كانوا عند النبي -عليه السلام- فأتاه رجلان يختصمان، فقام إليه أحدهما فقال: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1326 رقم 1698). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 558 رقم 4445). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 39 رقم 1433).

أنشدك الله يا رسول الله لما قضيت بيننا بكتاب الله، فقال خصمه -وكان أفقه منه: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي. . . ." إلى آخره، نحوه. وهذا الترمذي قد ذكر في روايته شبلًا كالطحاوي. والنسائي (¬1): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل، قالوا: "كنا قعودًا عند النبي -عليه السلام-، فأتاه رجل فقال: أنشدك بالله إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله. . . ." إلى آخره. وأخرجه أيضًا (¬2): عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله -عليه السلام-، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله. . . ." إلى آخره. فهذا النسائي ذكر شبلًا في روايته عن قتيبة، ولم يذكره في حديث مالك. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالوا: ثنا سفيان. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي. الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي ومالك بن أنس، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬4). ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 241 رقم 5411). (¬2) "المجتبى" (8/ 240 رقم 5410). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 852 رقم 2549). (¬4) "الموطأ" (2/ 822 رقم 1502).

والبخاري (¬1): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. والترمذي (¬2): عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك. والنسائي (¬3): عن محمَّد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. قوله: "كنا قعودًا" أي قاعدين، كالركوع والسجود جمع الراكع والساجد. قوله: "أنشدك الله" أي سألتك بالله، يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله وبالله، وناشدتك الله وبالله، أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة، وَتَعْدِيتُهُ إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله كما قالوا: دعوت زيدًا وبزيد إلا أنهم ضمنوه معنى ذكرت، فأما أنشدتك بالله فخطأ. قوله: "إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله" فيه تأويلات: أحدها: أن يكون معنى الكتاب الفرض والإيجاب تقول: لأقضين بينكما بما فرضه الله -عز وجل- وأوجبه، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض؛ كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} (¬4) أي فرضنا. الثاني: أن الرجم وإن لم يكن منصوصًا عليه باسمه الخاص فإنه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال، وهو قوله -عز وجل-: {فَآذُوهُمَا} (¬5) والأذى يقع في معناه الرجم وغيره من العقوبة، الغالب أن الأصل في ذلك قوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬6)، وقد جاء في بيانه في السنة: مائة جلدة والرجم. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2446 رقم 6258). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 39 رقم 1433). (¬3) "المجتبى" (8/ 240 رقم 5410). (¬4) سورة المائدة، آية: [45]. (¬5) سورة النساء، آية: [16]. (¬6) سورة النساء، آية: [15].

الرابع: أنه مما رفعت تلاوته وبقي حكمه. قوله: "وكان أفقه" أي أفهم وأزكى منه، والفقه معناه: الفهم، قال الله تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬1) وذلك لأنه تأدب في سؤاله النبي -عليه السلام- بقوله: "وائذن لي" وخاف من الوقوع في النهي عن التقدم بين يديه، ومخاطبته بخطاب بعضهم بعضًا، وهذا ضد ما فعله الآخر من قوله: "أنشدك الله" وكلامه له بجفاء الأعراب. أو كان أفقه منه، لأنه بيَّن القصة على وجهها. قوله: "كان عسيفا" قد فسر أبو داود في روايته وقال: العسيف: الأجير. والعسيف أيضًا: العبد المستهان به، قال الزمخشري: لا يخلو من أن يكون فعيلًا بمعنى فاعل، كعليم بمعنى عالم، أو بمعنى مفعول كأسير، فهو على الأول من قولهم: هو يعسُف ضيعته أي يرعاها، ويقال: لم أعسِفْ عليك، أي لم أعمل لك. وعلى الثاني من العَسف؛ لأن مولاه يعسفه على ما يريده، ويجمع على عسفاء في الوجهين، نحو قولهم: علماء وأسراء. قوله: "وخادم" أراد بها الجارية كما وقع هكذا في رواية أبي داود، والخادم يقع على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال، كحائض وعاتق. قوله: "المائة شاة" بالإضافة، و"الخادمُ" بالرفع عطفًا على المائة. قوله: "ردّ" مصدر، ولهذا وقع خبرًا، عن اثنين، والمعنى مردودان إليك. قوله: "واغد يا أنيس" من غدا يغدو غدوًّا، وهو الذهاب، وهو بالغين المعجمة. و"أنيس" بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة، قيل هو ابن الضحاك الأسلمي يعد في الشاميين، ومخرج الحديث عليهم، وقد حدث، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) سورة طه، آية: [28].

قوله: "فاعترفت فرجمها" فيه حذف، أي: فسألها فاعترفت، فرجمها باعترافها. ويستنبط منه أحكام: فيه: أن أولى الناس بالقضاء بينهم: الخليفة إذا كان عالمًا بوجوه القضاء. وفيه: أن المدعي أولى بالقول، والمطالب أحق أن يتقدم بالكلام، وإن بدأ المطلوب. وفيه: أن الباطل من القضاء مردود، وما خالف السنة الواضحة من ذلك فباطل. وفيه: أن قبض مَن قضى له بما قضي له به، إذا كان خطأ وجورًا وخلافًا للسنة لا يُدخله قبضه في ملكه، ولا يصح ذلك له، وعليه رده. وفيه: أن للعالم أن يُفتي في مصر فيه مَن هو أعلم منه إذا أفتى بعلم. قال القاسم بن محمَّد: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - يفتون على عهد رسول الله -عليه السلام-. وفيه: أن يمين رسول الله -عليه السلام- كانت: والذي نفسي بيده، وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة. وفيه: أنه لم يجمع بين الرجم والجلد على المحصن. وفيه: أنه لم يوقع بينهما الفرقة بالزنا. وفيه: أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه. وفيه: إثبات الإجارة والحديث فيها قليل. وفيه: دليل على وجوب قبول خبر الواحد. وفيه: أدب السائل في طلب الإذن. وفيه: أن الرجم إنما يجب على المحصن. وفيه: إثبات النفي والتغريب سنةً، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيه: أنه لم يجعله قاذفًا بقوله: زنى بامرأته.

وفيه: أنه لم يشترط في الاعتراف التكرار، وهو حجة على الشافعي، واحتج أصحابنا بحديث ماعز على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وفيه: أن للإمام أن يسأل المقذوف، فإن اعترف حكم عليه بالواجب، وإن لم يعترف وطالب القاذف أخذ له بحقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء؛ فقال مالك: لا يحدّ الإمام القاذف حتى يطالبه المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه، فيحده إن كان معه شهود غيره عدول. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي والشافعي: لا يحد القاذف إلا بمطالبة المقذوف. وقال ابن أبي ليلى: يحده الإِمام وإن لم يطلبه المقذوف. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن البكر إذا زنى فعليه جلد مائة وتغريب، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى والحسن بن حيّ والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: الرجل إذا لم يكن محصنًا وزنى يجلد مائة جلدة ويغرب عامًا. قال أبو عمر -رحمه الله-: لا خلاف بين المسلمين أن البكر إذا زنى فإنه يجلد مائة جلدة، واختلفوا في التغريب، فقال مالك: ينفى الرجل ولا تُنفى المرأة ولا العبد. وقال الأوزاعي: ينفى الرجل ولا تُنفى المرأة. وقال الثوري والشافعي والحسن بن حي: ينُفى الزانى إذا جلد، امرأة كان أو رجلًا. واختلف قول الشافعي في العبد، فقال مرةً: أستحي الله في تغريب العبد، وقال مرةً: يُنفى العبد نصف سنةٍ. وقال مرة: ينفى سنةً إلى غير بلده، وبه قال الطبري.

وقال الترمذي: وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفي، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- منهم: أبو بكر وعمر وعلي وأبي كعب وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: حد البكر إذا زنى مائة جلدة، ولا نفي عليه مع الجلد إلا أن يرى الإمام أن ينفيه للدعارة التي كانت منه، فينفيه إلى حيث أحب كما يُنفى الدعار غير الزناة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر؛ فإنهم قالوا: البكر إذا زنى جُلد مائة جلدة ولا يُنفي، اللهم إلا إذا كان داعرًا فإن الإِمام ينفيه إلى حيث شاء إن أحب ذلك، وهو معنى قوله: "أن ينفيه للدَّعارة" بفتح الدال والعين المهملتين، والفاعل منه داعر وهو المفسد الخبيث. وقال ابن الأثير: الدعارة الفساد والشر. وقال الجوهري: الدَّعَر -بالتحريك-: الفساد، والدعر أيضًا مصدر، قولك: دَعِرَ العود -بالكسر- يدعر دَعَرًا فهو عودٌ دَعِر: أي رديء كثير الدخان، ومنه أخذت الدعارة وهي الفسق والخبث، يقال: هو خبيث داعْر بيِّن الدعر، والمرأة داعرة. وإنما يجوز للإمام نفي الزاني الداعر لفشو فساده وكثرة فسقه، فينفيه قطعًا لشره وحسمًا لفساده، ومكان النفي ومدته موكولان إلى رأي الإمام. قوله: "كما يُنفي الدُّعَّار غير الزناة" الدُّعَّار بضم الدال وتشديد العين جمع داعر، والزناة جمع زاني، أراد أنه كما يجوز للإمام نفي الداعرين الذين يُفسدون في الأرض من غير ثبوت الزنا عليهم، وذلك لما روي عن بعض السلف التغريب في الخمر والسرقة. وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه غرَّب في الخمر، وكان عمر - رضي الله عنه -

إذا غضب على رجل نفاه إلى الشام، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قطع يد سارق ونفاه إلى زرارة وهي قرية قريبة من الكوفة، وكذا جاء النفي في المخنثين كما رواه البخاري بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسول الله -عليه السلام- المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم وأخرج فلانًا وأخرج فلانًا" فهذا هو حدهم. قال ابن حزم: وبنفي المخنثين يقول يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس. روى ذلك عنه ابن وهب، فنفيهم واجب إلى مكان لا يتمكنون به من أذى الرجال والنساء. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إذا زنت ولم تحصن فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير". قال مالك: قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة". ش: أي احتج أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. أخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). والبخاري (¬2): عن إسماعيل، عن مالك. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 826 رقم 1510). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 756 رقم 2046).

وعن (¬1) عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى. والقعنبي (2): عن مالك. وعن (¬3) أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك. قال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث مالك عن ابن شهاب بهذا الإسناد، وتابعه يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد. ورواه عُقيل والزبيدي وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله أن شبلًا أو شُبيل بن خالد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن الأمة. . . ." وذكروا الحديث إلا أن عقيلًا وحده، قال: مالك بن عبد الله الأويسي، وقال الزبيدي وابن أخي الزهري: عبد الله بن مالك. وكذلك قال يونس بن يزيد: عن ابن شهاب، عن شبل بن خالد المزني، عن عبد الله بن مالك الأوسي، فجمع يونس بن يزيد الإسنادين جميعًا في هذا الحديث، وانفرد مالك ومعمر بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد. ثم وجه الاستدلال به من وجهين: الأول: أن النفي لو كان ثابتًا لذكره -عليه السلام- مع الجلد. والثاني: أن الله تعالى، قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬4)، فلما كان حد الأمة نصف حد الحرة، وأخبر النبي -عليه السلام- أن حدها الجلد دون النفي، دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفي فيه. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2509 رقم 6447). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1328 رقم 1703). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1329 رقم 1704). (¬4) سورة النساء، آية: [25].

فإن قلت: إنما أراد بذلك التأديب دون الحد، وقد روي عن ابن عباس أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها. قلت: قوله -عليه السلام-: "ثم بيعوها ولو بضفير" يدل على أنها لا تُنفى؛ لأنها لو وجب نفيها لما جاز بيعها، إذ لا يمكن للمشتري تسلمها؛ لأن حكمها أن تُنفى. قوله: "ولو بضفير" أي حبل مفتول من شعر، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عمر: هذا على وجه الاختيار والحض على مباعدة الزانية لما في ذلك من الاطلاع بها على المنكر والمكروه، وأجمع العلماء أن بيع الأمة الزانية ليس بواجب لازم على ربها، وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها إذا زنت في الرابعة، منهم داود. قال الحافظ المنذري: في هذا الحديث مجانبة أهل المعاصى، وجواز التغابن وبيع الحقير باليسير، وقال بعضهم: ليس فيه عندي ما يستدل على المسألة به، وإنما هو على طريق المبالغة في بيعها بما أمكن ولا يحبس ليرصد بها ما يرضى من الثمن. وقال أبو عمر: فيه دليل على التغابن في البيع، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله القدر الكبير بالتافه اليسير، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: إذا عرف قدر ذلك جاز كما تجوز الهبة لو وهب. وقال آخرون: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدًا حرًّا بالغًا. ومن الحجة لمن ذهب إلى هذا القول قوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن شبل بن خالد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الوليدة إذا زنت. . . ." مثله. إلا أنه قال في الثالثة أو الرابعة: البيع. وأخبره زيد بن خالد صاحب رسول الله -عليه السلام- مثل ذلك.

قال أبو جعفر: هذا خطأ، شبل هذا ابن خليد المزني. حدثنا فهد، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن الزبيدي، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الوليدة إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير، والضفير: الحبل". ش: هذان طريقان: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن شبل بن خالد قال البخاري فيه: شبل بن خليد، وهذا هو الصحيح؛ ولهذا، قال الطحاوي: "هذا خطأ" أي شبل بن خالد خطأ، وإنما شبل هذا وابن خليد المزني، على ما ذكره الزبيدي عن الزهري في روايته على ما يأتي الآن. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد المزني أخبره أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الوليدة إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير. والضفير: الحبل". الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن حيوة بن شريح بن يزيد الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحميري الحمصي فيه مقال، عن محمَّد بن الوليد الزُّبَيْدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- عن محمَّد بن مسلم الزهري. ¬

_ (¬1) هذا وهم من المؤلف -رحمه الله-، فالحديث بهذا السند تفرد به النسائي في "الكبرى" (4/ 302 رقم 7261) ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف" (8/ 270 رقم 9158) إلا للنسائي في "الكبرى".

وأخرجه الطبراني (¬1): نا عبدان بن أحمد، ثنا محمَّد بن مصفى، ثنا بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي، أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الوليدة إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوه، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير. والضفير الحبل". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن مكحول، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا زنت أمة أحدهم فليجلدها الحد ولا يُثرِّب عليها، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: ثم ليبعها ولو بضفير". حدثنا بحر بن نصر، عن شعيب بن الليث، أن أباه أخبره، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول. . . . فذكر مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري تعليقًا (¬2). الثاني: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه أبي سعيد كيسان، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) وأخرجه في "مسند الشاميين" (3/ 36 رقم 1757) من طريق محمَّد بن مصفى به. (¬2) هذا وهم أيضًا من المؤلف: فإن الجماعة لم يخرجوا هذا الحديث من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة، ولم يذكره المزي في "تحفة الأشراف" في ترجمة عراك عن أبي هريرة. والحديث رواه الطبراني في "مسند الشاميين" (4/ 385 رقم 3622).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني عيسى بن حماد المصري، قال: نا الليث، عن سعيد ابن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه سمعه يقول: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ولم يذكر، عن أبيه. وأخرجه مسلم (1): عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ولم يذكر، عن أبيه. وكذا رواه إسماعيل بن أمية، عن سعيد، عن أبي هريرة، رواه البيهقي. قوله: "ولا يثرب عليها" أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب، وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد؛ فإن زنا الإماء لم يكن عند العرب مكروهًا ولا منكرًا، فأمرهم بحد الإماء كما أمرهم بحد الحرائر. وقال أبو ثور: في هذا الحديث إيجاب البيع وإيجاب الحد، ولا يمسكها إذا زنت أربعًا، حكى ذلك الخطابي. وقال أبو عمر: اختلف العلماء في القول بهذا الحديث، فقال مالك: يحد المولى عبده وأمته في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام، وهو قول الليث، وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس - رضي الله عنهم -، ولا مخالف لهم من الصحابة. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1328 رقم 1703).

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنا وسائر الحدود. وهو قول الحسن بن حي. وقال الثوري في رواية الأشجعي: يحده المولى في الزنا. وبه قال الأوزاعي. وقال الشافعي: يحده الولي في كل حد ويقطعه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: أنا أبو أويس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير". ش: أبو أويس اسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس ابن ابن عم مالك بن أنس، عن أحمد: صالح. وعنه: ثقة. وعن يحيى: ضعيف. وعنه: صدوق وليس بحجة. روى له الجماعة سوى البخاري. وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، روى له الجماعة. وعباد بن تميم بن غزية الأنصاري المدني، روى له الجماعة. وعمه عبد الله بن عاصم الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن معلى بن منصور، عن أبي أويس. . . . إلى آخره نحوه. والطبراني في "الكبير": عن محمَّد بن علي الصائغ المكي، عن محمَّد بن معاوية النيسابوري، عن أبي أويس. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا علي، قال: ثنا معلى، عن أبي أويس، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد مثله. ش: علي هو ابن معبد المذكور، ومعلى وابن منصور المذكور، وأبو أويس هو عبد الله المذكور. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 281 رقم 36091).

وهذا إسناد صحيح. وأخرجه النسائي (¬1): عن أبي داود الحراني، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة وزيد جميعًا. وأبو داود (¬2): عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد جميعًا نحوه. وأخرجه الطبراني (¬3): عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أحمد بن إبراهيم الموصلي، نا عبد الله بن جعفر، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها، ولو بضفير". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن زيد بن أبي حبيب، عن عمارة بن أبي فروة، أن محمَّد بن مسلم، حدثه أن عروة، حدثه أن عمرة بنت عبد الرحمن، حدثته أن عائشة - رضي الله عنها -، حدثتها أن رسول الله -عليه السلام- قال. . . . ثم ذكر مثله. ش: رجاله كلهم ثقات غير أن عمارة بن أبي فروة لم أر أحدًا ذكره بشيء (¬4). ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 302 رقم 7258). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 566 رقم 4469). (¬3) "المعجم الكبير" (5/ 240 رقم 5207). (¬4) كذا قال، والصواب أنه عمار بن أبي فروة كما نبه عليه المزي في "تهذيب الكمال" (21/ 262) وعدَّه من أوهام صاحب "الكمال". وعمار بن أبي فروة هذا هو القرشي أبو عمر الأموي المدني مولى عثمان بن عفان، قال البخاري: لا يتابع عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال ابن عدي في "الكامل" (5/ 74): وعمار بن أبي فروة ما أقل ما له من الحديث ومقدار ما يرويه، لا أعرف له شيئًا منكرًا.

وأخرجه ابن ماجه (¬1): نا محمَّد بن رمح، أنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمارة بن أبي فروة، أن محمَّد بن مسلم، حدثه أن عروة، حدثه أن عمرة بنت عبد الرحمن، حدثته أن عائشة - رضي الله عنها -، حدثتها أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن زنت الأمة فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير". ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي جميلة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "أُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمة فجرت، فأرسلني إليها فقال: اذهب فأقم عليها الحد، فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها، فرجعت إليه، فقال لي: فرغت؟ فقلت: وجدتها لم تجف من دمها، فقال: إذا هي جفت من دمها فاجلدها، قال علي - رضي الله عنه -: قال رسول الله -عليه السلام-: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". ش: يوسف بن عدي، شيخ البخاري. وأبو الأحوص سلام بن سُليم الحنفي، روى له الجماعة. وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة- فيه مقال، ضعفه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. روى له الأربعة. وأبو جميلة الطهوي اسمه ميسرة، وثقه ابن حبان. وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمَّد بن كثير، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة، عن علي بنحوه. والنسائي (¬3): عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة به. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 758 رقم 2566). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 567 رقم 4473). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 304 رقم 7269).

واحتج الشافعي ومالك بهذا الحديث على أن للمولى أن يقيم الحد على مملوكه، وهو قول الثوري والأوزاعي، وقد ذكرناه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم الحد على أحد إلا الإمام. والجواب عن هذا الحديث أنه ضعيف؛ لأن فيه عبد الأعلى الثعلبي وهو لا يحتج به. فإن قيل: أخرج مسلم في "صحيحه" (¬1): من حديث أبى عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب قال: "خطب علي - رضي الله عنه - فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن؛ فإن أمة لرسول الله -عليه السلام- زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: أحسنت". وأخرجه الترمذي (¬2). قلت: هذا حجة لنا لا علينا؛ لأن عليًّا - رضي الله عنه - يخبر أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يقيم الحد على تلك الأمة التي زنت فكان الحد بأمر الإمام، وأما قول علي - رضي الله عنه -: "أقيموا على أرقائكم الحد"، فمعناه كمعنى قوله -عز وجل-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬3)، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬4) ومعلوم أن المراد رفعه إلى الإمام لإقامة الحد، فالمخاطبون بإقامة الحد الأئمة، وسائر الناس مخاطبون برفعهم إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود، وكذا معنى قوله -عليه السلام- في الحديث الذي رواه أبو جميلة، عن علي، عن النبي -عليه السلام-: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1330 رقم 1705). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 47 رقم 1441). (¬3) سورة المائدة، آية: [38]. (¬4) سورة النور، آية: [2].

"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" (¬1) أي ارفعوا إلى الأئمة ليقيموا الحدود عليهم. ص: قالوا: فلما أمر رسول الله -عليه السلام- في الأمة إذا زنت أن تجلد، ولم يأمر مع الجلد بنفي، وقد قال الله -عز وجل-: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬2) فأعلمنا بذلك أن ما يجب على الإماء إذا زنين هو نصف ما يجب على الحرائر إذا زنين، ثم ثبت أن لا نفي على الأمة إذا زنت كان كذلك أيضًا لا نفي على الحرة إذا زنت. ش: أي قال أهل المقالة الثانية: لما أمر رسول الله -عليه السلام- في الأحاديث المذكورة في الأمة إذا زنت أن تجلد ولم يأمر مع ذلك بالنفي، فدل على أنه لا نفي على الأمة مع الحد، فإذا لم يثبت النفي على الأمة إذا زنت، لم يثبت على الحرة أيضًا إذا زنت؛ لأن ما يجب على الإماء نصف ما يجب على الحرائر، فإذا ثبت النفي في ذلك النصف لم يثبت في الكل. فافهم. ص: وقد روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما تقدم من كتابنا أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم، فدل ذلك أيضًا أن لا تسافر المرأة ثلاثة أيام في حد الزنا بغير محرم، وفي ذلك إبطال النفي عن النساء في الزنا. فإذا انتفى أن يكون يجب على النساء اللاتي غير المحصنات نفي في الزنا، انتفى ذلك أيضًا عن الرجال أيضًا، وكان درء النبي -عليه السلام- إياه عن الإماء فيما ذكرنا درءًا عن الحرائر، وفي درئه إياه عن الحرائر دليل على درئه إياه عن الأحرار. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سورة النساء، آية: [25].

ش: حديث النهي عن مسافرة المرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم قد مرَّ في. . . . (¬1) وباقي الكلام ظاهر. فإن قيل: يلزم الحنفية على ما ذكروا أن لا يمنعوا من تغريب المرأة إلى ما دون ثلاثة أيام. قلت: لا يلزم ذلك؛ لأن النفي ليس من الحد، حتى يستعملوه فيما يمكنهم، وإنما هو من باب التعزير، ومن الدليل على ذلك: أن الحدود معلومة المقادير والنهايات؛ ولذلك سميت حدودًا، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، فلما لم يذكر النبي -عليه السلام- للنفي مكانًا معلومًا ولا مقدارًا من المسافة والبعد، علمنا أنه ليس بحد، وأنه موكول إلى رأي الإِمام، والإمام لا يرى بالنفي في النساء خوفًا عليهن من الفتنة. وقال إبراهيم النخعي: كفى بالنفي فتنة (¬2)، وروى عبيد الله، عن نافع، عن [أبي بكر] (¬3): "أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها"، وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬4) "أنه غرَّب ربيعة بن أمية في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر - رضي الله عنه -: "لا أغرب بعدها أحدًا". ولم يستثن الزنا. ص: فإن قال قائل: إني أنفي الأمة إذا زنت ستة أشهر مثل نصف ما تنفى الحرة، وقال: لم ينف النبي -عليه السلام- النفي فيما ذكرتموه عنه من جلد الأمة إذا زنت، ولا بقوله: "ثم بيعوها" في المرة الرابعة. فكفى بهذا القائل المخالف جهلًا إذ قد خالف كل من تقدمه من أهل العلم وخرج من أقاويلهم، ويقال له: بل فيما روينا عن النبي -عليه السلام- من ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف:. (¬2) انظر "نصب الراية" (3/ 330). (¬3) في "الأصل، ك": "إبراهيم"، وهو تحريف، والحديث أخرجه عبد الرزاق بنحو (7/ 204 رقم 12796) من طريق عبيد الله عن نافع أن رجلًا جاء إلى أبي بكر. . . . إلى آخره، وفيه قصة. (¬4) رواه النسائي (8/ 319 رقم 5676)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (7/ 314 رقم 13320).

قوله: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"، ثم قال في الرابعة: "فليبعها"، دليل على أن لا نفي عليها؛ لأنه إنما علمهم في ذلك ما يفعلون بإمائهم إذا زنين، فمحال أن يكون يقصر في ذلك عن جميع ما يجب عليهن، ومحال أن يأمر ببيع مَن لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه ولا يصل إلى ذلك إلا بعد مضي ستة أشهر. ويقال له أيضًا: أنت زعمت أن قول النبي -عليه السلام- لأنيس: "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" دليل على أن لا جلد عليها مع ذلك، وإن كان إبطال الجلد لم يذكر في هذا الحديث، وجعلت ذلك معارضًا لما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فإذا كان هذا عندك دليلًا على ما ذكرنا، فما تنكر على خصمك أن يكون قول النبي -عليه السلام-: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" عنده دليلًا على إبطاله النفي عن الأمة، فإن كان ما ذكرنا في السكوت عن نفي الأمة ليس يرفع النفي عنها، فما ذكرت أنت أيضًا في السكوت عن الجلد مع الرجم لا يرفع الجلد عن الثيب الزاني مع الرجم، فما يلزم خصمك من قول النبي -عليه السلام-: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" شيء إلا لزمك مثله في قول النبي -عليه السلام- لأنيس: "فإن اعترفت فارجمها". ويقال له: قد روي عن النبي -عليه السلام- في النفي في غير الزنا: ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد العزيز الواسطي، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، قال: ثنا الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا قتل عبده عمدًا، فجلده النبي -عليه السلام- مائة ونفاه سنة ومحى سهمه من المسلمين، وأمره أن يعتق أمته". فلم يكن ما فعله رسول الله -عليه السلام- في هذا من نفيه القاتل سنة دليلًا عندنا ولا عندك على أن ذلك حد واجب لا ينبغي تركه، وإنما كان على أنه للدعارة، لا لأنه حد واجب، فما تُنكر أيضًا أن يكون ما روي عن النبي -عليه السلام- مما أمر به من نفي الزاني على أنه للدعارة لا لأنه حد واجب لوجوب الجلد والرجم.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن نفي الأمة عندنا قدر نصف نفي الحرة؛ لأن حد الأمة نصف حد الحرة، والحديث الذي احتججتم به من جلد الأمة إذا زنت لا ينافي النفي، وكذا قوله -عليه السلام-: "ثم بيعوها" لا ينافي ذلك حتى قال بعض من يتعصب لهم: إنه يبيعها في مكان ينفيها إليه. وأجاب الطحاوي عن ذلك بثلاثة أجوبة بعد أن جنى على هذا القائل بقوله: فكفى بهذا القائل المخالف جهلًا. . . . إلى آخره. الجواب الأول: هو قوله: "ويقال له بل فيما روينا. . . ." إلى آخره، بيانه أن يقال: الذي ذكرتم غير صحيح، بل الحديث يدل على أن لا نفي عليها؛ وذلك لأنه -عليه السلام- مأمور بالبيان وتعليم الأحكام الشرعية لأمته، منزه عن التقصير في ذلك، وقد علم بهذا الحديث أُمتَّه ماذا يفعلون بالإماء إذا زنين، ولو كان النفي واجبًا كما ذكر هؤلاء لما ترك النبي -عليه السلام- بيانه هاهنا، فمن المحال أن يقصر النبي -عليه السلام- في بيان ذلك عن جميع ما يجب عليهن. وأيضًا من المحال أن يأمر النبي -عليه السلام- ببيع من لا يقدر المشتري على قبضه من البائع ولا يصل إلى ذلك إلا بعد ستة أشهر. الجواب الثاني: هو قوله: "ويقال له أيضًا: أنت زعمت. . . ." إلى آخره. وحاصل هذا: أنه معارضة بالمثل، وإلزام للخصم بمثل ما يُلزم هو خصمه، وهو ظاهر. الجواب الثالث: هو قوله: "ويقال له: قد روي عن النبي -عليه السلام- في النفي في غير الزنا"، بيانه أن يقال: ما ورد في هذا الباب من النفي محمول على أنه كان تأديبًا لرفع الفساد لا حدًّا كما ينفي الإمام أهل الدعارة، ونظير ذلك نفيه -عليه السلام- في غير الزنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد العزيز الواسطي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وفي

آخره شين معجمة- عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمَّد بن يحيى، عن ابن الطباع، عن إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه. فهذه الأشياء التي فعلها رسول الله -عليه السلام- لم تكن حدًّا باتفاق الخصوم، وإنما كان -عليه السلام- فعلها لأجل دعارة الرجل -أي فساده وشره- وكذلك ما روي عنه -عليه السلام- من النفي يكون على هذا المعنى، لا لأنه حد واجب كوجوب الجلد والرجم. وقد طعن البيهقي في كتابه "الخلافيات" على الطحاوي لذكره هذا الحديث في هذا المقام فقال: وهو يحتج بما هو أضعف من هذا الإسناد فيما يوافق هواه، فأما نحن فإنما تركناه لضعف إسناده. وهذا لا يقبل من البيهقي؛ لأن الطحاوي لم يحتج هاهنا بهذا الحديث على شيء، وإنما ذكره شاهدًا لما قاله من أن النفي الذي أمر به -عليه السلام- في الزاني ليس لكونه حدًّا لا يجوز تركه، وإنما هو لأجل الدعارة كما ذكرناه، فسبحان الله هل بلغ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إلى حد لا يجوز الاستشهاد به ولئن سلمنا أنه احتج به فماذا يقال فيه؟ فإن قيل: فيه أن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ليس بحجة. فيقال: كيف كان حجة في مواضع من "سننه" وغيره فيما وافق هواه على أنا قد ذكرنا غير مرة أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده صحيح متصل إذا صح الإسناد إليه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 888 رقم 2664).

وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم. وإن قيل: لأجل إسماعيل بن عياش بن سُليم الشامي. فيقال: ما لإسماعيل؟! فإن دُحيمًا قال: هو في الشاميين غاية. وقال الفسوي: تكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل، أعلم الناس بحديث أهل الشام أكثر ما تكلموا فيه، قالوا: يغرب عن ثقات الحجازيين. وقال البخاري: إذا حدَّث عن أهل بلده فصحيح. ولا شك أن حديثه هذا عن إمام أهل الشام وهو الأوزاعي، فافهم.

ص: باب: حد الزاني المحصن

ص: باب: حد الزاني المحصن ش: أي هذا باب في بيان كيفية الحد على الزاني المحصن. والإحصان على نوعين: إحصان الرجم، وإحصان القذف. أما إحصان الرجم فهو في الشرع عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم وهي سبعة: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والنكاح الصحيح، وكون الزوجين جميعًا على هذه الصفات، وهو أن يكونا عاقلين بالغين حرين مسلمين، فوجود هذه الصفات فيهما جميعًا شرط لكون كل واحد منهما محصنًا، والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشروط متأخرًا عنها، وإن تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها. وأما إحصان القذف فهو في الشرع عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع، وهي خمسة: العقل، والبلوغ، والحرية والإسلام، والعفة عن الزنا. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج، يحدث عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: "أن رجلًا زنى، فأمر به النبي -عليه السلام- فجلد، ثم أخبر أنه كان قد أحصن فأمر به فرجم". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس هو ابن عبد الأعلى، شيخ مسلم. وابن وهب هو عبد الله بن وهب، روى له الجماعة. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، روى له الجماعة. وأبو الزبير هو محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.

وأخرجه أبو داود (¬1): نا ابن السرح، قال: نا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أيضًا (¬2)، عن أبي يحيى البزاز، عن أبي عاصم، عن ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا حد المحصن إذا زنى: الجلد والرجم جميعًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي والحسن البصري وإسحاق وداود وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: المحصن يُجلد ويرجم. وقال الترمذي: وهو مذهب بعض أهل العلم من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهم - رضي الله عنه -، قالوا: الثيب يجلد ويرجم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل حده الرجم دون الجلد، وقالوا: قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- إنما رجمه لما أخبر أنه محصن؛ لأن الجلد الذي كان جلده إياه ليس من حده في شيء؛ لأن حده كان الرجم دون الجلد، ويجوز أن يكون رجمه؛ لأن ذلك الرجم هو حده مع الجلد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: إبراهيم النخعي والزهري والثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد في الأصح؛ فإنهم قالوا: المحصن إذا زنى يرجم فقط. قال المنذري: قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والنخعي والزهري ومالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وسفيان وأبو حنيفة وأهل الكوفة ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 555 رقم 4438). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 556 رقم 4439).

والشافعي وأصحابه ما عدا ابن المنذر: إن الثيب إنما عليه الرجم ولا يجلد، ورأوا حديث عبادة منسوخًا، وتمسكوا بأحاديث تدل على النسخ، واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة وفيه: "فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها". قال: فهذا الحديث آخر الأمرين؛ لأن أبا هريرة قد رواه، وهو متأخر الإسلام ولم يعرض للجلد. وقال الترمذي: وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- منهم: أبو بكر وعمر وغيرهما: الثيب إنما عليه الرجم دون الجلد، وقد روي عن النبي -عليه السلام- مثل هذا في غير حديث في قصة ماعز وغيره، أنه أمر بالرجم ولم يأمر أن يجلد قبل أن يرجم، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي. قوله: "وقالوا: قد يجوز" أي قال هؤلاء الآخرون، وهذا جواب عن حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وهو على وجهين: الأول: قوله: قد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام-. . . . إلى آخره. والثاني: قوله: ويجوز أن يكون رجمه. . . . إلى آخره. ص: واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا لقولهم: بما حدثنا يونس، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، أن النبي -عليه السلام- قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر يجلد وينفى، والثيب يجلد ويرجم". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا منصور بن زاذان، عن الحسن، قال: ثنا حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".

قالوا: فبهذا نقول: نرى أن يجلد المحصن ثم يرجم بعد ذلك كما، قال رسول الله --عليه السلام--. ش: احتجاجهم بحديث عبادة ظاهر، ولكنه منسوخ على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أسد بن موسى، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه الطحاوي مرة في باب: حد البكر، عن ابن أبي داود، عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن قتادة. . . . إلى آخره. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن منصور. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه الأربعة (¬2) أيضًا، وقد استوفينا الكلام فيه في باب: حد البكر. ص: وكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: ما قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في أمره أنيسًا الأسلمي برجم المرأة التي أمره أن يغدو عليها فيرجمها إن اعترفت، ولم يأمره بجلدها. وقد ذكرت ذلك بإسناده في الباب الأول، وفي ذلك الحديث أيضًا أن الذي قام إلى النبي -عليه السلام- قال له: "إني سألت رجالًا من أهل العلم، فأخبروني أن على أمرأة هذا الرجم " ولم يذكر معه الجلد، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1316 رقم 1690). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 549 رقم 4415). و"جامع الترمذي" (4/ 41 رقم 1434). و"السنن الكبرى" (4/ 270 رقم 7143). و"سنن ابن ماجه" (2/ 852 رقم 2550).

هذا أن جميع ما كان عليها من الحد في الزنا الذي كان منها: هو الرجم دون الجلد. وقد شد ذلك أيضًا ما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- فيما فعل بماعز - رضي الله عنه -. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا الأسود بن عامر، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن جابر بن سمرة: "أن النبي -عليه السلام- رجم ماعزًا" ولم يذكر جلدًا. ففيما ذكرنا من ذلك ما يدل أن حد المحصن هو الرجم دون الجلد. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للجماعة الأولى وهم أهل المقالة الثانية "عليهم" أي على أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه: ما قد رويناه عن النبي -عليه السلام- وهو حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني؛ فإنهما أخبرا في حديثهما: "أن النبي -عليه السلام- أمر أنيسًا الأسلمي بأن يغدو على تلك المرأة ويرجمها إن اعترفت، فغدا عليها فسألها فاعترفت فرجمها". ولم يأمره بجلدها، فدل ذلك على أن حد المحصن هو الرجم فقط. وأيضًا لما قال ذلك الرجل مخبرًا عن أهل العلم أن عليها الرجم لم ينكر عليه رسول الله -عليه السلام- في ذلك، ولو كان الجلد من جملة الحد لأنكر عليه. وقد شد هذا -أي عضده- وقواه ما رواه جابر بن سمرة أنه -عليه السلام- رجم ماعزًا، ولم يذكر فيه جلدًا، فدل أن حد المحصن هو الرجم فقط. وأخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1) مطولًا: عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة. وأخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) أيضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1319 رقم 1692). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 551 رقم 4422). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 282 رقم 7183).

ص: فإن قال قائل: فلم لا كان ما فيه الرجم والجلد أولى مما فيه الرجم خاصةً. قيل له: لدلالة قد دلت على نسخ الجلد مع الرجم، وهو أنا رأينا أصل ما كان على الزاني قبل أن يفرق بين حكمه إذا كان محصنًا وبين حكمه إذا كان غير محصن ما وصف الله -عز وجل- في كتابه بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1)، فكان هذا هو حد الزانية أن تمسك في البيوت حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلًا، ثم قال النبي -عليه السلام-: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا". فذكر ما قد ذكرناه في حديث عبادة، فكان ذلك هو السبيل الذي قال الله -عز وجل- {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}، فجعل الله ذلك السبيل على ما قد بينه على لسان نبيه -عليه السلام-، وفرض في ذلك الجلد والرجم على الثيب والجلد والنفي على غير الثيب فعلمنا أن ذلك القول كان من النبي -عليه السلام- بعد نزول هذه الآية وأنه لم يتقدم نزول هذه الآية وجوب الرجم على الزاني؛ لأن حده كان ما وصف الله -عز وجل- في كتابه من الحبس في البيوت، ولم يكن بين قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وبين حديث عبادة - رضي الله عنه - حكم آخر، فعلمنا أن حديث عبادة كان بعد نزول هذه الآية، وأن حديث ماعز الذي سأله رسول الله -عليه السلام- فيه عن إحصانه لتفرقته بين حد المحصن وغير المحصن، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- أنه فرق رسول الله -عليه السلام- فيه بين حكم البكر والثيب، فجعل على البكر جلد مائة وتغريب عام، وعلى الثيب الرجم، متأخرًا عنه، فكان ذلك ناسخًا له؛ لأن ما تأخر من حكم رسول الله -عليه السلام- ينسخ ما تقدم منه، فلهذا كان ما ذكرنا من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد وحديث ماعز أولى من حديث عبادة مع ما قد شد ذلك من النظر الصحيح وذلك أنا رأينا ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [15].

العقوبات المتفق عليها في انتهاك الحرمات كلها إنما هي شيء واحد، من ذلك أنا رأينا أن السارق عليه القطع لا غير، والقاذف عليه الجلد لا غير. فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك الزاني عليه شيء واحد لا غير فيكون عليه الرجم الذي قد اتفق أنه عليه، وينتفي عنه الجلد الذي لم يتفق به عليه. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: لمَّا كان حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي فيه الزيادة -وهي الرجم والجلد- أولى من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وجابر بن سمرة في قصة ماعز التي فيها الرجم فقط، والأخذ بالزائد أولى لشموله الكل، فيكون العمل بكل الآثار، وهو أولى من إعمال بعضها إهمال بعضها. والجواب ما ذكره بقوله: "قيل له: لدلالة. . . ." إلى آخره. وملخصه أن يقال: إن الذي ذكرتم إنما يتمشى إذا لم يكن ثمة نسخ، وحديث عبادة منسوخ فلا يُعمل به، ووجه النسخ ما بينه مستقصى. وقال أبو عمر: أما حديث عبادة فإنما كان هذا في أول نزول الجلد؛ وذلك أن الزناة كانت عقوبتهم إذا شهد عليهم أربعة من العدول في أول الإسلام أن يُمْسَكوا في البيوت إلى الموت، أو يجعل الله لهم سبيلًا، فلما نزلت آية الجلد قام رسول الله -عليه السلام- فقال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر .. الحديث". فكان هذا في أول الأمر، ثم رجم رسول الله -عليه السلام- ولم يجلد، فعلمنا أن هذا كان حكمًا أحدثه الله نسخ به ما قبله، ومثل هذا كثير في أحكامه وأحكام رسوله -عليه السلام- ليبتلي عباده، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -عليه السلام-، وقد كان الزهري يُنكر الجلد مع الرجم ويقول: "رجم رسول الله -عليه السلام- ولم يجلد" ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. قال أبو عمر (¬1): حدثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا ¬

_ (¬1) "التمهيد" (9/ 83).

بكر بن حماد، ثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "أيها الناس إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله -عليه السلام- قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم، وإنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا". قال أبو عمر: الخوارج والمعتزلة يكذبون بهذا كله. نعوذ بالله من ذلك. انتهى. قلت: لم يختلف السلف في حد الزَّانِيَيْن في أول الإسلام ما قال الله -عز وجل-: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} (¬1) إلى قوله: {فَآذُوهُمَا}، فكان حد المرأة: الحبس والأذى بالتعيير، وكان حد الرجل: التعيير ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2) ونسخ عن المحصن بالرجم؛ وذلك لأن في حديث عبادة: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا" بيانًا على أن المراد من السبيل هو ما ذكره من قوله: "البكر بالبكر. . . ." الحديث. ولم يكن بينهما حكم آخر؛ وذلك لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدمًا لقول النبي -عليه السلام-، وقد بيَّن -عليه السلام- بحديث عبادة أن المراد من السبيل هو ما ذكره دون غيره. فإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية، وعن المحصن بالسنة وهو الرجم، ثم جاء حديث أبي هريرة بعد حديث عبادة، فصار ناسخًا لما فيه من الجلد؛ إذ لو كان الجمع بينهما ثابتًا لاستعمله النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [15 - 16]. (¬2) سورة النور، آية: [2].

ولاسيما في قضية ماعز، وقد وردت قصة ماعز - رضي الله عنه - من جهات مختلفة، ولم يذكر في شيء منها الجلد مع الرجم. فإن قيل: سلمنا أن حديث عبادة بعد نزول الآية فمن أين لنا التاريخ الذي يدل على أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديثه؟ قلت: قد ثبت فيما مضى أنه لم يكن بين قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1) وبين حديث عبادة حكم آخر، وأن الآية المذكورة في سورة النور ونزولها كان في قصة الإفك، وقصة الإفك كانت قبل إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه -، فبالضرورة يكون حديثه متأخرًا فيكون ناسخًا. والله أعلم. قوله: "مما قد شد ذلك" أشار به إلى عدم جواز الجمع بين الجلد والرجم، وأراد بالنظر الصحيح: القياس وبيَّن وجهه بقوله: "وذلك أنا رأينا العقوبات. . . ." إلى آخره. ولقائل أن يقول: السارق عليه القطع والضمان عندي، فلم يصح القياس فيه، فافهم. ص: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك منسوخًا، وقد عمل به علي - رضي الله عنه - بعد رسول الله -عليه السلام-؟ فذكر ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "جاءت امرأة من همدان -يقال لها: شراحة- إلى علي - رضي الله عنه - فقالت: "إني زنيت، فردَّدها حتى شهدت على نفسها أربع شهادات، فأمر بها فجلدت، ثم أمر بها فرجمت". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص. . . . فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [15].

حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا محمد بن بكار بن بلال، قال: ثنا سعيد بن بَشِير، عن قتادة، عن الرضراض بن أسْعَد، قال: "شهدت عليًّا - رضي الله عنه - جلد شراحة ثم رجمها". حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن مسلم الأعور، عن حبة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:"أتته شراحة فأقرت عنده أنها زنت، فقال لها علي - رضي الله عنه -: لعلك غُصبت نَفْسُكِ؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة، قال: فأخرها حتى ولدت وفطمت ولدها، ثم جلدها الحد بإقرارها، ثم دفنها في الرحبة إلى منكبها، ثم رماها هو أول الناس، ثم قال: ارموا، ثم قال: جلدتها بكتاب الله -عز وجل-، ورجمتها بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن سلمة، عن الشعبي قال: "جلد علي - رضي الله عنه - شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله -عز وجل-، ورجمتها بسنة رسول الله -عليه السلام-". ش: تقرير السؤال أن يقال: لا نسلم أن يكون حديث عبادة منسوخًا، والدليل على أن حكمه وهو الجمع بين الجلد والرجم في الزاني باقٍ: فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنه جمع بين الجلد والرجم بعد النبي -عليه السلام-، وذلك في قضية شراحة الهمدانية، ولو كان حكم الجمع بين الجلد والرجم منسوخًا لما عمل به علي - رضي الله عنه - بعد النبي -عليه السلام-. وأخرج في ذلك، عن علي من خمس طرق: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ الشيخين، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري. وهذا إسناد صحيح، وفيه حجة لأصحابنا حيث يشترطون إقرار الزاني أربع مرات، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: يكفي مرة واحدة، وهو قول حماد بن أبي سليمان والحسن بن حي.

الثاني: أيضًا صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص. . . . إلى آخره. الثالث: عن عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام، عن محمد بن بكار بن بلال العاملي الدمشقي قاضيها، عن سعيد بن بشير الأزدي النصري -بالنون والصاد المهملة- فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء. وعنه: ضعيف. وكذا عن النسائي. روى له الأربعة. وهو يروي عن قتادة، عن الرضراض بن أسعد وثقه ابن حبان. الرابع: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى بن أعين الجزري الحراني، عن مسلم بن كيسان البراد الكوفي الأعور، فيه مقال، فعن يحيى: لا شيء. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث. وعن النسائي: متروك. روى عن حبة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن جوين بن علي العرني البجلي الكوفي قيل: إنه رأى النبي -عليه السلام-. الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عامر الشعبي. وهذا إسناده صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا آدم، نا شعبة، نا سلمة بن كهيل، قال: سمعت الشعبي، يحدث عن علي - رضي الله عنه - حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال: "قد رجمتها بسنة رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي قال: "أتي علي - رضي الله عنه - بشراحة -امرأة من همدان- وهي حبلى من زنا، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2498 رقم 6427). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 543 رقم 28811).

فأمر بها علي - رضي الله عنه - فحبست في السجن، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة سوط، ورجمها يوم الجمعة". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، أن عليًّا - رضي الله عنه - قال لشراحة: "لعلك استكرهت؟ لعل زوجك أتاك؟ لعلك. . . . قالت: لا، فلما وضعت جلدها، ثم رجمها، فقيل له: لم جلدتها ثم رجمتها؟ قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -عليه السلام-". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2) مطولًا من حديث جعفر بن عون: أنا الأجلح، عن الشعبي قال: "جيء بشراحة إلى علي - رضي الله عنه - فقال لها: ويلك، لعلك وقع عليك وأنت نائمة؟ قالت: لا، قال: لعلك استكرهت؟ قالت: لا، قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك، فأنت تكرهي أن تدلي عليه، يلقنها لعلها تقول: نعم، قال: فأمر بها فحبست، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة وأحاط الناس بها وأخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرجم، إذًا يصيب بعضكم بعضًا، صفوا كصف الصلاة صفًّا خلف صف، ثم قال: أيها الناس، أيما امرأة جيء بها وبها حبل، أو رجل زانٍ فشهد عليه أربعة بالزنا، فالشهود أول من يَرجم، ثم الإمام، ثم الناس، ثم رجمها، ثم أمرهم فرجم صف ثم صف، ثم قال: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم". ص: قيل له: إن هذا وإن كان قد روي عن علي - رضي الله عنه - كما ذكرنا، فإن غير علي من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قد روى عنه في ذلك خلاف ما قد روي عن علي - رضي الله عنه -، فمن ذلك: ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن أبا واقد الليثي ثم الأشجعي - ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 153 رقم 1316). (¬2) "سنن البيهقي" (8/ 220 رقم 11).

وكان من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قال: "بينما نحن عند عمر - رضي الله عنه - مقدمه الشام بالجابية، أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن امرأتي زنت بغلام، فهي هذه تعترف بذلك، فأرسلني عمر - رضي الله عنه - في رهط إليها لنسألها عن ذلك، فجئتها فإذا هي جارية حديثة السن، فقلت: اللهم أفرج فاها اليوم عما شئت، فسألتها وأخبرتها بالذي قال زوجها، فقالت: صدق، فبلغنا عمر - رضي الله عنه -، فأمر برجمها". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا، حدثه عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن أبي واقد الليثي "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتاه رجل وهو بالشام، فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلًا، فبعث عمر بن الخطاب أبا واقد الليثي إلى امرأته ليسألها عن ذلك، فأتاها وعندها نسوة حولها، فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، ذهبت أن تنتزع وثبتت على الاعتراف، فأمر بها عمر - رضي الله عنه - فرجمت". فهذا عمر - رضي الله عنه - بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- لم يجلدها قبل رجمه إياها، فهذا خلاف لما فعل علي - رضي الله عنه - بشراحة، مِن جلده إياها قبل رجمها، وهو أولى الفعلين عندنا لما قد ذكرنا في هذا الباب. والله أعلم. ش: هذا جواب عن السؤال المذكور، بيانه أن يقال: إن فعل علي - رضي الله عنه - معارض بفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ وذلك أنه أمر برجم امرأة اعترفت بالزنا ولم يجلدها، وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد منهم، فصار فعل عمر أولى الفعلين لما قد ذكر في هذا الباب من دلالة أحاديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وجابر بن سمرة، على عدم الجمع بين الجلد والرجم، وأنها ناسخة لحديث عبادة بن الصامت مع شهادة القياس الصحيح على عدم الجمع بينهما، على ما مر مستوفى. ويمكن أن يجاب بوجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون علي - رضي الله عنه - لم يعلم يإحصان شراحة فجلدها، ثم لما علم أنها محصنة أمر برجمها.

فإن قيل: قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا أنه جلد ورجم. فروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن حفص بن غياث، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: "كان عمر - رضي الله عنه - يرجم ويجلد، وكان علي - رضي الله عنه - يرجم ويجلد". قلت: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن ابن سيرين لم يدرك عمر - رضي الله عنه -؛ لأن مولده لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فيكون منقطعًا. والثاني: أن قوله: يرجم ويجلد لا يدل على أنه كان يجمع بينهما، فيحتمل أن يكون معناه: يرجم في الثيب، ويجلد في البكر. والثالث: أن أفعال الصحابة -رضي الله عنهم- إذا تعارضت يرجع إلى نقل النبي -عليه السلام-، ولم يثبت عن النبي -عليه السلام- في قضية ماعز أنه جلد ورجم، ولا في تحصينه تلك المرأة التي بعث إليها أنيسًا الأسلمي، فكان هذا آخر الفعل من النبي -عليه السلام-. ثم إنه أخرج أثر عمر بن الخطاب من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي واقد الليثي الصحابي، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان بن يسار المدني. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬2). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 541 رقم 28790). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 823 رقم 1505).

قوله: "بينما" أصله "بين" فزيدت فيه "ما" فصار "بينما" وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، ويضاف إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاج إلى جواب يتم المعنى، والأفصح في جوابه أن يكون فيه إذْ أو إذا، وهاهنا هكذا وقع الجواب وهو قوله: "أتاه"، وكذا الكلام في "بينا". قوله: "مقدمه الشام" أي وقت قدومه الشام، ومنه قولك: وردت مقدم الحاج، تجعله ظرفًا، وهو مصدر، أي وقت قدوم الحاج، وكان قدوم عمر - رضي الله عنه - الشام أربع مرات: مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين. قال ابن جرير: وفي سنة سبع عشرة قدم عمر بن الخطاب إلى الشام فوصل إلى سرغ في قول ابن إسحاق، وقال سيف: وصل إلى الجابية وهي مدينة بالشام والآن هي قرية ومن أبواب سور الشام باب ينسب إليها، فيقال لها: باب الجابية. قوله: "في رهط" وهو اسم لما دون العشرة، ليس فيهم امرأة. قوله: "وجعل يلقنها أشباه ذلك"، وفي أكثر نسخ "الموطأ": "وجعل يلقنها أشياء". قوله: "وثبتت على الاعتراف" وفي بعض نسخ "الموطأ": "وتمت على الاعتراف"، والله أعلم.

ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد ش: أي هذا باب في بيان حكم إقرار الرجل بالزنا الذي يجب به الحد. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا أقر بالزنا مرة واحدة، أقيم عليه حد الزنا، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الكتاب من قوله لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، ففي هذا دليل على أن الاعتراف بالزنا مرة واحدة يوجب الحد. ش: أراد بالقوم هؤلاء: حماد بن أبي سليمان وعثمان البتي والحسن بن حي ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: إذا أقر الرجل بالزنا مرة واحدة يجب عليه الحد، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني المدني: "أمر رسول الله -عليه السلام- أنيسًا الأسلمي بأن يغدو على تلك المرأة؛ فإن اعترفت فليرجمها، فاعترفت فرجمها". فهذا صريح على أنه حدَّها بإقرارها مرة واحدة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يجب حدّ الزنا على المعترف بالزنا حتى يقر به على نفسه أربع مرات، وقالوا: ليس فيما ذكرتم من حديث أنيس دليل على ما قد وصفتم وذلك أنه قد يجوز أن يكون أنيس قد كان علم حد الاعتراف الذي يوجب حدَّ الزنا على المعترف ما هو بما علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماعز وغيره، فخاطبه النبي -عليه السلام- بهذا الخطاب بعد علمه أنه قد علم الاعتراف الذي يوجب الحد ما هو؟ ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وأحمد في الأصح عنه وإسحاق؛ فإنهم قالوا: بإقرار واحدٍ لا يثبت حد الزنا، ولا يجب عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

قوله: "وقالوا" أي قال هؤلاء الآخرون في الجواب عن حديث أبي هريرة الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه أن يقال: إن أُنيسًا الذي أمر له -عليه السلام- بأن يغدو على تلك المرأة ويرجمها إن اعترفت يجوز أن يكون قد علم من قبل ذلك حد الاعتراف الموجب لحد الزنا بتعليم النبي -عليه السلام- إياهم في قضية ماعز وغيره، فأمره النبي -عليه السلام- بإقامة الحد عليها بعد علمه الاعتراف الموجب لحد الزنا بأنه أربع مرات، فاكتفى لذلك على قوله: "فإن اعترفت فارجمها" والمعنى على هذا: إن اعترفت الاعتراف الذي تعلمه وهو أربع مرات. ص: وقد جاء غير هذا الأثر من الآثار ما قد بيَّن الاعتراف بالزنا الذي يوجب الحد على المعترف ما هو؟ من ذلك ما قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي بكر - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ماعزًا أربع مرات". ش: أي قد جاء غير حديث أبي هريرة -الذي فيه الأمر لأنيس الأسلمي برجم تلك المرأة إن اعترفت- من الآثار ما قد بيَّن كمية الاعتراف الذي يجب به الحد، فمنها حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ فإنه أخبر أنه -عليه السلام- رد ماعزًا أربع مرات. فدل ذلك أن الحد لا يجب بإقراره مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا. وأخرجه عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري روى له الجماعة، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن جابر بن يزيد الجُعفي، فيه مقال، عن عامر الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، المختلف في صحبته، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "كنت ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 538 رقم 28769).

عند النبي -عليه السلام- فجاء ماعز بن مالك فاعترف عنده مرةً فرده، ثم جاء فاعترف الثانية فرده، ثم جاء فاعترف الثالثة فرده، فقلت له: إن اعترفت الرابعة رجمك، فاعترف الرابعة فحبسه، ثم سأل عنه فقالوا: ما نعلم إلا خيرًا فأمر برجمه". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن أسود بن عامر، عن إسرائيل. . . . إلى آخره نحوه. وقد طعنوا في هذا الحديث بسبب جابر الجعفي، ولكن ابن حبان أخرج له في "صحيحه"، وقال صاحب "التمهيد": أجمعوا على أنه يُكتب حديثه، واختلفوا في الاحتجاج به، وشهد له بالصدق والحفظ: الثوري وشعبة ووكيع وزهير بن معاوية، وقال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن جابرًا الجعفي ثقة، وزاد في "الاستذكار": كان شعبة والثوري يشهدان له بالحفظ والإتقان، وكان وكيع وزهير بن معاوية يوثقانه ويثنيان عليه. فإن قيل: الإقرار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وهذا المعنى عند التكرار والتوحُّد سواء؛ لأن الإقرار إخبار، والإخبار لا يزيد رجحانًا بالتكرار، ولهذا لم يشترط في سائر الحدود. قلت: هذا هو القياس، ولكنا تركناه بالنص، وهو أنه -عليه السلام- رد ماعزًا أربع مرات، فلو كان الإقرار مرةً مظهرًا للحد لما أخره -عليه السلام- إلى الأربع؛ لأن الحد بعدما ظهر وجوبه للإمام لا يحتمل التأخير. فإن قيل: يحتمل رد النبي -عليه السلام- ماعزًا أربع مرات لكونه أفهمه أنه لا يدري ما الزنا، فردده لذلك، لا لكون اشتراط الأربع في الإقرار، ألا ترى كيف قال له: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت". وفي رواية قال بعد ذلك: "قبلتها؟ قال: نعم". أخرجها النسائي (¬2) وغيره من حديث ابن عباس، فدل ذلك أن ترديده -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 8 رقم 41). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 278 رقم 7168).

لم يكن مراعاة لتمام الإقرار أربع مرات أصلًا، وإنما كان لتهمته إياه في عقله، وفي جهله ما هو الزنا. قلت: يرد هذا كله حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - فإنه يخبر فيه: "أن ماعزًا لما أقر مرة رده رسول الله، فلما كان من الغد أتاه أيضًا فاعترف أيضًا بالزنا. . . ." الحديث على ما يأتي، عن قريب إن شاء الله إلى أن قال بريدة في آخره: "كنا نتحدث بيننا أصحاب رسول الله -عليه السلام- أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإنما رجمه عند الرابعة". وهذا أدل دليل على أن ترديده -عليه السلام- أربع مرات لم يكن إلا لكون اشتراط الأربع؛ إذْ لو كانت لتهمته إياه في عقله لرجمه في اليوم الثاني؛ لأن عقله كان يعلم في ترديده. فإن قلت: يعارض هذا ما رواه النسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: "جاء الأسلمي إلى رسول الله -عليه السلام- فشهد على نفسه أربع مرات بالزنا يقول: زنيت بامرأة حرامًا، كل ذلك يُعرض عنه رسول الله -عليه السلام-، فأقبل في الخامسة فقال له: أنكحتها؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيتُ منها حرامًا مثل ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله -عليه السلام- أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله -عليه السلام- رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رَجمَ الكلب، فسكت عنهما رسول الله -عليه السلام- ساعةً، فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن يا رسول الله، فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله غفر الله لك مَن يأكل هذا؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: ما نلتما من عرض هذا آنفًا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 277 رقم 7165).

فهذا حديث صحيح، وفيه أنه -عليه السلام- لم يكتف بإقراره أربع مرات، ولا بتقريره أربع مرات حتى أقر في الخامسة، ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة: هل تعرف ما الزنا؟ ولم يكتف بذلك حتى سأله السابعة: ما تريد بهذا القول؟ فهذا يدل على أن ترديده -عليه السلام- لم يكن إلا لتهمته إياه في عقله، ولو جعل العدد شرطًا كان ينبغي أن يشترط أكثر من أربع؛ على ما في الحديث. قلت: لم يكن ما فوق الأربع في هذا الحديث من الإقرار بالزنا، وإنما كان في الخامسة سؤالا وجوابًا عن صحة وقوع الزنا، وفي السادسة كان سؤالا وجوابًا عن ماهية الزنا، والسابع: كان سؤالا وجوابًا عما يخرج به من هذه الورطة وليس ذلك داخلا في الآثار المعتبرة والأقارير المشروطة هي التي حصلت بقوله: "فشهد على نفسه أربع مرات" فافهم. ص: حدثنا أحمد بن الحسن، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، عن عبد الله بن المقدام، عن ابن شداد، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله -عليه السلام- في سفر فأتاه رجل فأقر بالزنا، فردده أربعًا، ثم نزل فأمرنا فحفرنا حفرة ليست بالطويلة، فأمر به فرجم، فارتحل رسول الله -عليه السلام- كئيبًا حزينًا، فسرنا حتى نزلنا منزلا فقال لي رسول الله -عليه السلام-: يا أبا ذر ألم تر إلى صاحبكم قد غُفر له وأدخل الجنة". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا إبراهيم بن الزبرقان وأبو خالد الأحمر، عن الحجاج. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان: الأول: عن أحمد بن الحسن، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن الحجاج بن أرطاة النخعي فيه مقال، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي وثقه ابن حبان، وروى له الترمذي، عن عبد الله بن المقدام بن الورد الطائفي، عن ابن شداد وهو نسعة -بكسر النون وسكون السين وفتح العين المهملتين- ابن شداد، عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - جندب بن جنادة.

وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا يوسف بن موسى، نا سلمة بن الفضل، ثنا الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن مغيرة، عن عبد الله بن المقدام، عن ابن شداد. وثنا الحسن بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الله بن المقدام، عن نسعة بن شداد، عن أبي ذر -متقاربان في حديثهما- قال: "كنتُ مع رسول الله -عليه السلام- وهو راكب، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، إن الأخِر زنى، فأعرض عنه، ثم أتاه الثانية فقال: إن الأخِر زنى، فأعرض عنه، ثم عاد الثالثة فقال: إن الأخِر زنى، فأعرض عنه، ثم أعاد له الرابعة فقال: إن الأخِر زنى، فنزل فأمر برجمه، ثم ركب، ثم نزل فقال: يا أبا ذر، قد غفر لصاحبكم وأدخل الجنة" واللفظ لفظ سلمة بن الفضل. وقال البزار: لا نعلمهما أي عبد الله بن المقدام وابن شداد ذُكِرا في حديث مسند إلا في هذا الحديث. قوله: "إن الأخِر" بوزن الكَبِدَ، بقصر الهمزة وكسر الخاء المعجمة، ومعناه: الأبعد على الذم، وقيل: الأرذل. الطريق الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن إبراهيم بن الزبرقان وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به. يروي هو وأبو خالد الأحمر سليمان بن حيان، كلاهما عن الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الله بن المقدام بن الورد، عن نسعة بن شداد، عن أبي ذر - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبد الملك ابن المغيرة الطائفي، عن عبد الله بن المقدام، عن ابن شداد، عن أبي ذر قال: "كنا ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (9/ 428 رقم 4036). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 179 رقم 21594).

مع رسول الله -عليه السلام- في سفر، فأتى رجل فقال: إن الأخِر قد زنى، فأعرض عنه، ثم ثلث ثم ربع، فنزل النبي -عليه السلام-وقال مرة: فأقر عنده بالزنا فرده أربعًا، ثم نزل- فأمرنا فحفرنا له حفرة ليست بالطويلة فرجم، فارتحل رسول الله -عليه السلام- كئيبًا حزينًا، فسرنا حتى نزل منزلًا، فسري عن رسول الله -عليه السلام- فقال: يا أبا ذر، ألم تر إلى صاحبكم؛ غفر له، وأدخل الجنة". ص: حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لماعز: أحقٌّ ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك أتيت جارية آل فلان، فأقر على نفسه أربع مرات، فأمر به فرجم". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو عوانة. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن محمد الصيرفي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، .. إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري -واللفظ لقتيبة- قالا: ثنا أبو عوانة، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- قال لماعز بن مالك. . . ." إلى آخره نحوه. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن أبي عوانة،. . . إلى آخره نحوه، ولكن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1320 رقم 1693). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 147 رقم 4425).

في روايته: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موضع: عن عكرمة، عن ابن عباس كما في رواية مسلم. وأخرجه الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) أيضًا. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رجلًا من أسلم أتى رسول الله -عليه السلام- وهو في المسجد، فناداه فحدثه أنه زنى، فأعرض رسول الله -عليه السلام-، فتنحى لشقه الذي أعرض قبله فأحبره أنه زنى وشهد على نفسه أربع مرات، فدعاه رسول الله -عليه السلام- فقال: هل بك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به رسول الله -عليه السلام- أن يرجم بالمصلى، فلما أذلفته الحجارة جمز حتى أدرِك بالحرة، فقتل بها رجمًا". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم. والثاني هو ابن يزيد الأيلي. وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. والحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه: فقال البخاري (¬3): حدثني محمود، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: "أن رجلًا من أسلم جاء النبي -عليه السلام- فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي -عليه السلام- حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي -عليه السلام-: أَبِكَ جنون؟ قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فَرَّ، فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي -عليه السلام- خيرًا، وصلى عليه". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 35 رقم 1427). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 279 رقم 7171). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2500 رقم 6434).

ولم يقل يونس وابن جريج، عن الزهري: "فصلى عليه". وقال مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر وحرملة، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وقال أبو داود (¬2): نا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي، قالا: نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله. . . . إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬3): ثنا الحسن بن علي، عن عبد الرزاق. . . . إلى آخره نحوه. وقال النسائي (¬4). قوله: "فلما أذلقته الحجارة" أي أصابته بحدها فعقرته، وذلق كل شيء حده، والإذلاق أيضًا سرعة الرمي، فيكون معناه على هذا: أنه لما تتابع عليه وقع الحجارة وتناولته من كل وجه فرَّ. ومادته ذال معجمة ولام وقاف. قوله: "جَمز" بالجيم والزاي المعجمة، أي أسرع هاربًا من القتل، يقال: جَمَزَ يَجْمِزُ جَمْزًا من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ. قوله: "حتى أُدرك" على صيغة المجهول. قوله: "بالحرة" بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي أرض ذات حجارة سود، والمراد بها أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة، وكانت بها وقعة مشهورة زمن يزيد بن معاوية. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1318 رقم 1691). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 148 رقم 4430). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 148 رقم 1429). (¬4) بيض له المؤلف -رحمه الله-، والحديث في "المجتبى" (4/ 62 رقم 1956)، وفي "الكبرى" (1/ 635 رقم 2083) من طريق عبد الرزاق، به.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر وعثمان بن عمر، قالا: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أشعر قصير ذو عضلات، فأقر له بالزنا، فأعرض عنه، فأتاه من قبل وجهه الآخر، فأعرض عنه، قال -لا أدري مرتين أو ثلاثًا- فأمر به فرجم. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: رده أربع مرات". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "يردده مرتين". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وعثمان بن عمر، كلاهما عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر العقدي، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه، وفيه: "فرده مرتين أو ثلاثًا". الثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه، وفيه: "فرده مرتين". وأخرجه النسائي (¬3) أيضًا. وأخرج مسلم (¬4) أيضًا، عن محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1320 رقم 1692). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 147 رقم 4423). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 282 رقم 7182). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1319 رقم 1692).

جابر بن سمرة قال: "أتي النبي -عليه السلام- برجل قصير أشعث ذي عضلات، وعليه إزار قد زنى، فرده مرتين، ثم أمر به فرجم، فقال رسول الله -عليه السلام-: كلما نفرنا غازين في سبيل الله نخلف أحدهم ينبُّ نبيب التيس، يمنح إحداهن الكثبة، إن الله لا يمكنني من أحدهم إلا جعلته نكالًا أو نكلته. قال: فحدثته سعيد بن جبير فقال: إنه رده أربع مرات". قوله: "أشعث" هو الذي لم يحلق شعره ولم يرجِّله، وقيل: هو كثير الشعر، وقيل: طويله. قوله: "ذو عضلات" جمع عضلة، والعضلة في البدن كل لحمة صلبة مكتنزة، ومنه عضلة الساق، ويجوز أن يكون أريد به أن عضلة ساقيه كبيرة. قوله: "ينب نبيب التيس" نبيب التيس: صوته عند السفاد، يقال: نبَّ التيس يَنِبُّ نبيبًا إذا صاح وهاج وبابه من باب: ضرب يضرب، والكثبة: كل قليل جمعته من طعام وغيره. قوله: "يمنح" بفتح النون وكسرها، أي يعطي. قوله: "نكالًا" بفتح النون أي: عقوبة. قوله: "نكلته" أي منعته عنهن، يقال: نكل عن الأمر يَنْكُل بالضم، ونكل بالكسر ينكل لغة فيه وأنكره الأصمعي: إذا امتنع، ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها. ص: فقال قائل: ففي هذا الحديث أنه حدَّه بعد إقراره أقل من أربع مرات. قيل له: في هذا الحديث علة؛ وذلك أن ربيعًا المؤذن حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- ماعز بن مالك، فاعترف مرتين، فقال: اذهبوا به، ثم ردوه فاعترف مرتين، حتى اعترف أربعًا، فقال رسول الله -عليه السلام-: اذهبوا به فارجموه".

ففي هذا الحديث أنه أقر مرتين، ثم ذهبوا به، ثم ردوه فأقر مرتين، فيجوز أن يكون جابر بن سمرة حضر المرتين الأخريين ولم يحضر ما كان قبل ذلك، وحضر ابن عباس الإقرار كله، وكذلك من وافقه على أنه كان أربعًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم شرطتم في وجوب الحد على المعترف بالزنا أربع مرات، ولم توجبوا الحد إذا أقر مرة أو مرتين أو ثلاثًا، فقد جاء في حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه حده بعد إقراره مرتين أو ثلاثًا. وتقرير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون جابر بن سمرة قد حضر في قصة ماعز عند إقراره المرتين الأخريين ولم يحضر عند إقراره المرتين الأوليين، فحكى بحسب ما شاهد من ذلك، والدليل عليه حديث ابن عباس فإنه قال: "أتى ماعز رسول الله -عليه السلام- فاعترف مرتين، فقال لهم النبي -عليه السلام-: اذهبوا به لعله أن ينزع، عن ذلك ثم ردوه، فاعترف مرتين أخريين حتى كمل اعترافه أربعًا، ثم أمرهم رسول الله -عليه السلام- أن يذهبوا به ويرجموه، فصار أقاريره الأربع في مجلسين، في كل مجلس إقراران، فيحتمل أن يكون بين المجلسين يوم أو أقل منه أو أكثر، ويكون جابر بن سمرة قد حضر المجلس الأخير فعاين منه إقرارين فحكى على ذلك، وحضر ابن عباس المجلسين جميعًا فحكى أقاريره الأربعة، وكذلك كل مَن روى أربعًا عن ابن عباس على هذا فافهم. وهذا المعنى هو المراد من قوله: "في هذا الحديث علة"، أي معنى قد بينه، والله أعلم. وإسناد حديث ابن عباس صحيح، ورجاله ثقات قد تكرر ذكرهم. ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن هضاض، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن ماعز بن مالك زنى، فأتى هزالًا فأقر له أنه زنى، فقال له هزال: ائت رسول الله -عليه السلام-

فأخبره قبل أن ينزل فيك قرآن، فأتى النبي -عليه السلام- فقال: إني زنيت، فأعرض عنه حتى قال ذلك أربعًا، ثم أمر به فرجم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: "أتى رجل من أسلم رسول الله -عليه السلام- وهو في المسجد، فناداه، فحدثه أنه زنى، فأعرض عنه رسول الله -عليه السلام- فتنحى لشقه الذي أعرض قِبَلَه، فأخبره أنه زنى وشهد على نفسه أربع مرات، فدعاه رسول الله -عليه السلام- فقال: هل بك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به رسول الله -عليه السلام- أن يرجم بالمصلى". ش: ذكره شاهدًا لما ذكره من قوله: "وكذلك من وافقه على أنه كان أربعًا". وأخرجه من وجهين: الأول: حسن جيد، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن عبد الرحمن ابن هضاض، ويقال: هضاب، ويقال: هضهاض، ويقال: ابن الصامت الدوسي ابن عم أبي هريرة، وقيل: ابن أخي أبي هريرة، وثقه ابن حبان. وأخرجه النسائي (¬1): نا محمد بن حاتم بن نعيم، أنا حبان بن موسى، أنا عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن هضاض، عن أبي هريرة: "أن ماعزًا أتى رجلًا يقال له: هزال [فقال: يا هزال] (¬2): إن الأخِرَ قد زنى، قال: ائت رسول الله -عليه السلام- قبل أن ينزل فيك قرآن، فأتى رسول الله -عليه السلام- فأخبره أنه زنى، فأعرض عنه، ثم أخبره فأعرض عنه، ثم أخبره فأعرض عنه أربع مرات، فلما كانت الرابعة، أمر برجمه، فلما رجم أتى إلى شجرة فقتل". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 277 رقم 7166). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى".

فإن قيل: قال ابن حزم: عبد الرحمن بن هضاض مجهول لا يدرى من هو، ثم روى حديثًا من طريق عبد الرحمن بن الصامت، عن أبي هريرة. . . . إلى آخره نحوه، وقال: هذا خبر صحيح. قلت: قد اشتبه على ابن حزم فوهم في الاسمين وظن أن كل واحد منهما اسم لشخص، فحكم على أحدهما بالجهالة، وليس كذلك، بل هما واحد كما ذكرنا، وقد ذكره البخاري في "تاريخه" وحكى الخلاف فيه بأن عبد الرحمن هذا يقال له: ابن الصامت، ويقال فيه: ابن هضهاض، وابن هضاض، وصحح بعضهم ابن الهضهاض، وقال البخاري: حديثه في أهل الحجاز، ليس يعرف إلا بهذا الحديث الواحد، وذكر له هذا الحديث. الوجه الثاني: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): نا سعيد بن عُفير، قال: حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة، أن أبا هريرة قال: "أتى رسول الله -عليه السلام- رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي -عليه السلام-، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي -عليه السلام- الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي -عليه السلام- فقال: أَبِكَ جنون؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنت؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: اذهبوا فارجموه". وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: نا أبي، عن جدي، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2502 رقم 6439). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1318 رقم 1691).

المسيب، عن أبي هريرة أنه قال: "أتى رجل من المسلمين رسول الله -عليه السلام- وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إني زنيت. . . ." إلى آخره نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا بشير بن المهاجر الغنوي، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: "كنت جالسًا عند النبي -عليه السلام- فأتاه رجل يقال له: ماعز بن مالك، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت وإني أريد أن تطهرني، فقال له: ارجع، فلما كان من الغد أتاه أيضًا فاعترف عنده بالزنا، فقال له النبي -عليه السلام-: ارجع، ثم أرسل النبي -عليه السلام- إلى قومه فسألهم عنه، فقال: ما تقولون في ماعز بن مالك، هل ترون به بأسًا أو تنكرون من عقله شيئًا؟ فقالوا: يا رسول الله، ما ننكر من عقله شيئًا، وما نرى به بأسًا، ثم عاد إلى النبي -عليه السلام- الثالثة فاعترف أيضًا عنده بالزنا، فقال: يا رسول الله، طهرني، فأرسل النبي -عليه السلام- إلى قومه فسألهم عنه، فقالوا له كما قالوا له في المرة الأولى: ما نرى به بأسًا وما ننكر من عقله شيئًا، ثم رجع إلى النبي -عليه السلام- الرابعة فاعترف عنده بالزنا، فأمر به النبي -عليه السلام- فحفرت له حفرة فجعل فيها إلى صدره، ثم أمر الناس أن يرجموه، قال بريدة: كنا نتحدث بيننا أصحاب النبي -عليه السلام- أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلب، وإنما رجمه عند الرابعة". فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يرجمه بإقراره مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا، دل ذلك أن الحد لم يكن وجب عليه بذلك الإقرار، ثم رجمه رسول الله -عليه السلام- بإقراره في المرة الرابعة، فثبت بذلك أن الإقرار بالزنا الذي يوجب الحد على المُقرِّ هو إقراره أربع مرات، فمن أقر كذلك حُد، ومن أقر أقل من ذلك لم يُحد، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-، وقد عمل بذلك علي - رضي الله عنه - في شراحة فرددها أربع مرات. ش: ذكر حديث بريدة - رضي الله عنه - لكونه دليلًا صريحًا على اشتراط الإقرار أربع مرات في وجوب الحد على الزاني.

وأخرجه بإسناده صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي نُعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن بشير بن المهاجر الغنوي الكوفي التابعي الثقة، عن عبد الله بن بريدة الأسلمي أبي سهل المروزي قاضي مرو روى له الجماعة، عن أبيه بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1) بأتم منه: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن نمير (ح). ونا محمد بن عبد الله بن نمير -وتقاربا في لفظ الحديث- قال: نا أبي، قال: نا بشير بن المهاجر، قال: ثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه: "أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده، فلما كان من الغداة أتاه فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله -عليه السلام- إلى قومه فقال: تعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه، فأخبروا أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحبلى، قال: أما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا ولدته، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد ابن الوليد - رضي الله عنه - بحجر فرمى به فينضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1323 رقم 1695).

النبي -عليه السلام- سبه إياها فقال: مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها فصلي عليها؛ فدفنت". وأخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) كرواية الطحاوي مقتصرا على قصة ماعز دون قصة الغامدية. واستفيد منه فوائد: الأول: اشتراط الأربعة في الإقرار بالزنا صريح، الحديث دل على هذا والحديث صريح صحيح. فإن قيل: كيف تقول صحيح، وفي إسناده بشير بن المهاجر الغنوي؛ وقد قال أحمد: منكر الحديث يجيء بالعجائب، مرجئ متهم، وقال في أحاديث ماعز كلها تريده إنما كان في مجلس إلا ذاك الشيخ بشير بن المهاجر، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به؟ قلت: يكفي في صحته إخراج مسلم إياه، والله أعلم. الثائية: فيه أن الإمام إذا اعترف رجل عنده بالزنى يسوف به، ويرد عليه لعله ينتزع؛ فإن ثبت على إقراره إلى أربع مرات يحده. الثالثة: فيه أنه يحفر للرجل أيضًا كما يحفر للمرأة، وقال أصحابنا: يحفر للمرأة ولا يحفر للرجل، بل يرجم قائما، وقالوا: لأنه -عليه السلام- لم يفعل شيئا من ذلك بماعز. وهذا الحديث يرد عليهم؛ لأنه فيه: "فأمر النبي -عليه السلام- فحفرت له حفرة" وكذلك في حديث أبي ذر المذكور فيما مضى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 554 رقم 4434). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 278 رقم 7167).

الرابعة: احتج أحمد وإسحاق بما في رواية مسلم من قوله: "اذهبي فأرضعيه حتى تفطمي" أن الحبلى لا تحد حتى تضع ما في بطنها، ثم تترك حولين حتى تفطم. وقال أصحابنا ومالك والشافعي: تحد حين تضع حملها ولا تؤخر بعد ذلك. فكأنهم ذهبوا إلى ما روى عمران بن حصين الذي رواه مسلم والأربعة: "أن امرأة من جهينة أتت إلى النبي -عليه السلام- فقالت: إنها قد زنت، وهي حبلى فدعا رسول الله -عليه السلام- وليها؛ فقال له رسول الله -عليه السلام-: "أحسن إليها، فإذا وضعت فجئ بها" فلما وضعت جاءه بها، فأمر بها النبي -عليه السلام- فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها". فإن قيل: تعارض حديثا عمران وبريدة ظاهرا. قلت: قد أجاب بعضهم عن هذا أن حديث عمران أجود من حديث بريدة؛ لأن في حديث بريدة بشير بن المهاجر، وقد قيل فيه ما قيل. قلت: هذا ليس سديدا؛ لأن كلا من الحديثين أخرجه مسلم، متساويان في الصحة، والأحسن في الجواب أن يقال: أن يكونا امرأتين؛ إحداهما وجد لوليها كفيل وقتلها، والأخرى لم يوجد لها كفيل ولم تقتل فوجب إمهالها حتى يستغني عنها ولدها لئلا يهلك بهلاكها، ويكون الحديث محمولا على حالتين، ويرتفع الخلاف.

ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته.

ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته. ش: أي: هذا باب في بيان حكم الرجل يزني بجارية امرأته. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا بكر بن بكار، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق: "أن رجلًا زنى بجارية امرأته فقال النبي -عليه السلام-: إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه مثلها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القاسم بن سلام بن مسكين، قال: حدثني أبي، قال: سألت الحسن عن الرجل يقع بجارية امرأته؟ قال: حدثني قبيصة بن حريث الأنصاري، عن سلمة بن المحبق، عن النبي -عليه السلام-، فذكر مثله، وزاد: "ولم يقم عليه حدا". ش: الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن بكر بن بكار القيسي البصري، وثقه أبو عاصم النبيل، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن حبان: ثقة، ربما يخطئ، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن جون بن قتادة بن الأعور التميمي، يعد في البصريين، قيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له ولا رؤية، وقال أحمد: لا يعرف، عن سلمة بن المحبق الصحابي بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء المكسورة، وقيل بفتحها، والأول أصح. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا عبدان بن أحمد: ثنا نصر بن علي: ثنا بكر بن بكار. . . . إلى آخره نحوه. وقال النسائي: لا يصح هذا الحديث. وقال ابن المنذر: لا يثبت خبر سلمة بن المحبق. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (7/ 45 رقم 6335).

وقال الخطابي: هذا حديث منكر، وفيه أمور تخالف الأصول منها: إيجاب المثل في الحيوان، واستجلاب الملك بالزنى، وإسقاط الحد عن البدن، وإيجاب العقوبة في المال، وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء، وخليق لأن يكون منسوخا إن كان له أصل في الرواية. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن القاسم بن سلام، عن أبيه سلام بن مسكين الأزدي البصري، عن الحسن البصري، عن قبيصة بن حريث البصري، عن سلمة بن المحبق. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى في رجل وقع على جارية امرأته: إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها". قال أبو داود: رواه يونس بن عبيد وعمرو بن دينار ومنصور بن زاذان وسلام، عن الحسن هذا الحديث بمعناه، لم يذكر يونس ومنصور: قبيصة. ثنا (¬2) علي بن الحسين الدرهمي، قال: ثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سلمة بن المحبق، عن النبي -عليه السلام- نحوه، إلا أنه قال: "وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها". وأخرجه النسائي (¬3): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق. . . . بإسناده نحوه. وعن (¬4) محمد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سلمة به، ولم يذكر قبيصة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 158 رقم 4460). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 158 رقم 4461). (¬3) "المجتبى" (6/ 124 رقم 3363). (¬4) "المجتبى" (6/ 125 رقم 3364).

وعن (¬1) يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، عن يونس، عن الحسن، عن سلمة نحوه. وعن (¬2) هناد بن السري، عن عبد السلام بن حرب الملائي، عن هشام، عن الحسن، عن سلمة به مختصرًا، وقال: لا تصح هذه الأحاديث. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد السلام بن حرب، عن هشام بن حسام، عن الحسن، عن سلمة به. وقال البيهقي: وقبيصة بن حريث غير معروف. وروينا عن أبي داود أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الذي رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف، لا يحدث عنه غير الحسن -يعني قبيصة بن حريث- وقال البخاري في "تاريخه": قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبق، في حديثه نظر. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هذا هو الحكم فيمن زنى بجارية امرأته على ما في حديث سلمة هذا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وعامر بن مطر وقبيصة والحسن؛ فإنهم قالوا: الحكم فيمن زنى بجارية امرأته على ما في حديث سلمة بن المحبق. ص: وقالوا: قد عمل بذلك عبد الله بن مسعود بعد رسول الله -عليه السلام- وذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن منصور، عن عقبة بن جيان: "أن رجلًا أتى عبد الله فقال: إني زنيت، فقال: كيف صنعت؟ فقال: وقعت على جارية امرأتي، فقال عبد اللهَ: الله أكبر، إن كنت استكرهتها فأعتقها، وإن كانت طاوعتك فأعتق وعليك مثلها". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" للنسائي (4/ 297 رقم 7231). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 297 رقم 7230). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 853 رقم 2552).

ش: أي قال هؤلاء القوم: قد عمل بما قلنا: عبد الله بن مسعود بعد النبي -عليه السلام-. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن عقبة بن جيان بالجيم، كذا ذكره ابن أبي حاتم في باب الجيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عامر بن مطر، عن عبد الله: "في الرجل يقع على جارية امرأته، قال: إن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه مثلها لسيدتها". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل نرى عليه الرجم إن كان محصنًا، والجلد إن كان غير محصن، وكان ما ذهبوا إليه في ذلك من الآثار المروية عن النبي -عليه السلام- ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا هشيم بن بشير، عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم: "أن رجلًا وقع بجارية امرأته، فأتت امرأته النعمان بن بشير - رضي الله عنه - فأخبرته، فقال: أما إن عندي من ذلك خبرًا ثابتًا أحدثه عن النبي -عليه السلام-: إن كنت أذنتِ له جلدته مائة، وإن كنت لم تأذني له رجمته". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: "سئل قتادة، عن رجل وطئ جارية امرأته، فحدثنا عن حبيب بن يساف، عن حبيب بن سالم أنها رفعت إلى النعمان بن بشير فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله -عليه السلام-: إن كانت أحلتها له جلدته مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجمته". ففي هذا الحديث خلاف ما في الحديث الأول؛ لأن فيه أنها إن لم تكن أذنت له رُجم. فأما قوله: "وإن كنت أذنت له جلدته مائة" فتلك المائة عندنا تعزير، كأنه درأ عنه الحد بوطئه بالشبهة وعزره بركوبه ما لا يحل له". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28550).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير الفقهاء من التابعين ومَن بعدهم منهم: ابن عيينة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: الحكم المذكور في حديث سلمة بن المحبق منسوخ، ولكن يحكم على الرجل بالرجم إن كان محصنًا، والجلد إن كان غير محصن، وروي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-. قوله: "وكان ما ذهبوا إليه" إشارة إلى بيان ما احتج به أهل هذه المقالة من الآثار، وهو حديث النعمان بن بشير، وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري روى له الجماعة، عن حبيب بن سالم الأنصاري مولى النعمان بن بشير وكاتبه روى له الجماعة، عن النعمان بن بشير. وأخرجه الترمذي (¬1): عن علي بن حُجر، عن هشيم، عن أبي بشر، عن حبيب ابن سالم، عن النعمان بن بشير، مثله. وأخرجه أيضًا (¬2): عن علي بن حُجر، عن هشيم، عن سعيد بن أبي عروبة وأيوب بن مسكين، عن قتادة، عن حبيب بن سالم قال: "رفع إلى النعمان بن بشير رجل وقع على جارية امرأته قال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله -عليه السلام-؛ لئن كانت أحلتها له لأجلدنه مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجمته". وأخرجه النسائي (¬3): عن يعقوب بن ماهان، عن هشيم، [عن أبي بشر] (¬4)، عن حبيب بن سالم، عن النعمان. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 54 رقم 1452). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 54 رقم 1451). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 296 رقم 7226). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى".

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن حميد بن مسعدة، عن خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن حبيب قال: "أتي النعمان. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو داود (¬2) من وجه آخر: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، قال: ثنا قتادة، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم: "أن رجلًا يقال له: عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله -عليه السلام-، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوها أحلتها له، فجلده مائة". قال قتادة: كتبت إلى حبيب بن سالم، فكتب إليَّ بهذا. ثنا (¬3) محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، عن النبي -عليه السلام-: "في الرجل يأتي جارية امرأته، قال: إذا كانت أحلتها له جلد مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجمته". الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي عمر حفص عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن حبيب بن يساف -بالياء آخر الحروف، والسين المهملة، وفي آخره فاء- قال ابن أبي حاتم: مجهول. عن حبيب بن سالم. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقى في "سننه" (¬4): من حديث الحوضي، ثنا همام، قال: "سئل قتادة عن رجل وطئ جارية امرأته فحدثنا عن حبيب بن يساف، عن حبيب بن ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 853 رقم 2551). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 563 رقم 4458). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 563 رقم 4459). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 239 رقم 16847).

سالم أنها رفعت إلى النعمان، فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله -عليه السلام-، إن كانت أحلتها له جلدته وإلا رجمته". وقال الترمذي: حديث النعمان في إسناده اضطراب، سمعت محمدا يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان أنه قال: كتبت إلى حبيب بن سالم، وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا أيضًا، إنما رواه عن خالد بن عرفطة. وقال الخطابي: الحديث غير متصل وليس العمل عليه. وقال النسائي: أحاديث النعمان هذه مضطربة. وقال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: أنا أتقي هذا الحديث. قلت: الطريق الثاني للطحاوي متصل؛ ولكن فيه حبيب بن يساف وقد ذكرنا عن أبي حاتم الرازي أنه مجهول. وطريق أبي داود أيضًا متصل ولكن فيه خالد بن عرفطة. قال أبو حاتم الرازي: مجهول. قوله: "فتلك المرأة" عندنا تقرير، أشار بهذا الكلام إلى أن المرأة إذا أذنت لزوجها فوطئ جاريتها لا يجب عليه الحد لتمكن الشبهة في الوطء المحظور الذي لا يكاد يعذر بجهله أحد نشأ في الإسلام، ثم إنه زيد في عدد التعزير حتى بلغ به عدد حد الزاني البكر ردعًا له وتنكيلًا. ص: فإن قال قائل: أفيجوز التعزير بمائة؟ قيل له: نعم، قد عزر رسول الله -عليه السلام- بمائة في حديث قد ذكرناه عنه في رجل قتل عبده متعمدًا في باب: حد البكر في هذا الكتاب. ش: تقرير السؤال أن يقال: هل يجوز التعزير بمائة التي هي منتهى الحد، وينبغي أن يكون التعزير أدنى عددًا من الحد؟ والجواب عنه أن يقال: إن الإمام إذا رأى مصلحة في زيادة العدد في التعزير لزيادة التنكيل والردع في المعزَّر جاز له ذلك، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد عزر

ذلك الرجل الذي قتل عبده عمدًا بمائة، كما جاء في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رجلًا قتل عبده عمدًا، فجلده النبي -عليه السلام- مائةً، ونفاه سنةً، ومحى اسمه من المسلمين وأمره أن يعتق رقبةً". فهذا بالاتفاق بين الخصوم لم يكن حدًّا له لا ينبغي تركه، وإنما كان لزيادة التنكيل لأجل الدعارة، وقد مرَّ الحديث والكلام فيه في باب: حد البكر. فإن قيل: روى البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله"، فكيف يجوز التعزير بمائة أو ما فوق العشر؟! قلت: هذا معناه في حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فيه أدنى الزجر، كأشراف الناس وأشراف أشرافهم، وأما السفلة وأسقاط الناس فلا يؤثر فيهم عشر جلدات ولا عشرون، فيعزرهم الإمام بحسب ما يراه، ألا ترى إلى ما روي عن سعيد بن المسيب والزهري، قالا: "إن عمر - رضي الله عنه - ضرب رجلًا -دون المائة- وجد مع امرأة بعد العتمة" (¬2)، وروى سفيان بن عيينة، عن جامع، عن شقيق قال: "كان لرجل على أم سلمة أم المؤمنين حق، فكتب إليها فحرَّج عليها، فأمر عمر - رضي الله عنه - بأن يجلد ثلاثين سوطًا" (2). وعن هذا قال أصحابنا: التعزير على أربع مراتب: تعزير الأشراف: وهم الدهاقين والقواد، وتعزير أشراف الأشراف: وهم الفقهاء والعلوية، وتعزير الأوساط: وهم السوقة، وتعزير الأحساء: وهم السِّفلة. فتعزير أشراف الأشراف بالإعلام المجرد، وهو أن يبعث القاضي أمينه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2512 رقم 6456). (¬2) انظر "المحلى" (11/ 403).

وتعزير الأشراف: الإعلام والجر إلى باب القاضي والخطاب بالمواجهة. وتعزير الأوساط: الإعلام والجر والحبس. وتعزير السفلة: الإعلام والجر والضرب والحبس؛ لأن المقصود من التعزير: الزجر، وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب (¬1). وفي هذا الباب خلاف بين العلماء: فمذهب الطحاوي -رحمه الله-: أن التعزير ليس له مقدار محدود، ويجوز للإمام أن يبلغ به ما رآه وإن تجاوز به الحدود. وهو مذهب مالك وأبي ثور واحد أقوال أبي يوسف. وقالت طائفة: التعزير مائة جلدة فأقل. وقالت طائفة: أكثر التعزير مائة جلدة إلا جلدة. وقالت طائفة: أكثره تسعة وتسعون سوطًا فأقل. وهو أحد أقوال أبي يوسف. وقالت طائفة: أكثره خمسة وتسعون سوطًا فأقل. وهو قول ابن أبي ليلى، وأحد أقوال أبي يوسف. وقالت طائفة: أكثره ثلاثون سوطًا. وقالت طائفة: أكثره عشرون سوطًا. وقالت طائفة: لا يتجاوز بالتعزير تسعة. وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقالت طائفة: أكثره عشرة أسواط فأقل، لا يجوز أن يتجاوز به أكثر من ذلك. وهو قول الليث بن سعد والشافعي وأصحاب الظاهر. ص: فهذا الذي ذكره النعمان عندنا ناسخ لما رواه سلمة بن المحبق؛ وذلك أن الحكم كان في أول الإسلام يوجب عقوبات بأفعال في أموال، ويوجب عقوبات في الأبدان باستهلاك أموال. من ذلك ما قد ذكرناه في باب: تحريم الصدقة على ¬

_ (¬1) انظر "بدائع الصنائع" (5/ 534).

بني هاشم في قول رسول الله -عليه السلام- في مانع الزكاة: "إنا آخذوها منه وشطر ماله؛ عقوبة لما قد صنع". ش: أي هذا الحكم الذي ذكره النعمان بن بشير فيمن زنى بجارية امرأته ناسخ لحديث سلمة بن المحبق، وبيَّن وجه النسخ بقوله: "وذلك أن الحكم. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر. ثم استشهد على كون العقوبة بأخذ الأموال وبالنكال في الأبدان لأجل استهلاك الأموال في ابتداء الإسلام بأحكام منها: ما كان في مانع الزكاة، وهو أنه كان تؤخذ منه الزكاة ويؤخذ معها شطر ماله عقوبةً له لما صنع، وقد مرَّ هذا مستوفى في باب: تحريم الصدقة على بني هاشم. ص: ومن ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، عن أبي ثور، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة -أحسبه- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- قال: في ضالة الإبل المكتومة: غرامتها ومثلها معها". ش: أي ومن كون العقوبة بأخذ الأموال في ابتداء الإسلام ما حدثنا إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد المروزي، عن محمد بن ثور الصنعاني العابد، عن معمر بن راشد، عن عمرو بن مسلم الجَنَدِي -بفتح الجيم والنون- عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): عن مخلد بن خالد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة -أحسبه- عن أبي هريرة نحوه. قوله: "في ضالة الإبل" الضالة هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره، وتجمع على ضوال، والمراد بها هاهنا الإبل؛ لأنها أضيفت إليها، والإضافة للتخصيص. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 139 رقم 1718).

قوله: "غرامتها ومثلها معها" والأصل أن لا يجب على متلف الشيء أكثر من مثله، ولكن كان هذا في صدر الإسلام، وكان يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ، وقد قيل: يحتمل أن يكون هذا على سبيل التوعد لينتهي فاعل ذلك عنه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا من مزينة أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: هي ومثلها والنكال، ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح وبلغ ثمنه ثمن المجن ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطعٌ إلا ما أواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمنه ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال". ش: هذا مما كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ. وأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري وهشام بن سعد القرشي المدني، كلاهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب بن محمد، وسماعه عن جده عبد الله بن عمرو صحيح، قاله البخاري وأبو داود. والحديث أخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن السلمي من أصل كتابه، قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، نا ابن وهب، نا عمرو ابن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا من مزينة. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 278 رقم 17063).

وأخرجه النسائي (¬1): عن الحارث بن مسكين قراءة عليه وهو يسمع، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "إن رجلًا من مزينة أتى رسول الله -عليه السلام-. . . ." إلى آخره نحوه سواء. قوله: "في حريسة الجبل" الحريسة فعيلة بمعنى مفعولة، والمعنى هل فيما تحرس بالجبل إذا سرق قطع، ويقال للشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مراحها: حريسة، فقال -عليه السلام-: "هي ومثلها" يعني: لا يجب قطع؛ لأنه ليس بحرز، وإنما تجب هي ومثلها عقوبة على سارقها وزيادة تنكيل. قوله: "إلا فيما أواه المراح" أي ضمه، والمُرَاح -بضم الميم- الموضع الذي تروح إليه الماشية، أي تأوي إليه ليلًا، وأما المَرَاح -بالفتح- فهو الموضع الذي يروح إليه القوم أو يروحون منه، كالمغْدَى للموضع الذي يُغدى منه. قوله: "ويلغ ثمن المجن" بكسر الميم، وهو الترس؛ سمي به لأنه يواري حامله أي يستره، والميم فيه زائدة، وسيأتي الكلام في بيان ثمن المجن كم هو؟ مع الخلاف فيه. قوله: "إلا ما أواه الجرين" أي ضمه الجرين -وهو بفتح الجيم- موضع تجفيف التمر وهو له كالبيدر للحنطة، ويجمع على جُرُن بضمتين. ويستفاد منه أحكام: الأول: فيه اشتراط الحرز لوجوب القطع في السرقة، وهو مذهب الجمهور منهم: سفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا يقطع إلا فيما أخرج من حرز. وقالت طائفة: عليه القطع سواء سرق من حرز أو غيره، وإليه ذهبت الظاهرية. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 85 رقم 4959).

ويتفرع على هذا الخلاف هل يجب القطع على المختلس أم لا؟ فعند أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا قطع على المختلس، وهو قول إبراهيم النخعي، وقال علي بن رباح وعطاء وإياس بن معاوية: عليه القطع. الثاني: فيه أن الماشية لا يقطع فيها إلا إذا سرقها من مراحها؛ فإن مراحها حرزها. الثالث: فيه اشتراط بلوغ قيمة المسروق إلى ثمن المجن في القطع، وقد اختلفوا فيه، فقال أصحابنا: إنه مقدر بعشرة دراهم، فلا قطع في أقل من ذلك. وقال مالك وابن أبي ليلى: بخمسة دراهم. وقال الشافعي: بربع دينار. وسيجيء الكلام فيه مستقصى في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى. الرابع: في أن الثمر لا قطع فيه إلا إذا سرق بعد أن أواه الجرين؛ لأن الجرين حرز له. فهذه أربعة أحكام يعمل بها عند الأئمة، وبقيت فيه أربعة أحكام أخرى وهي منسوخة لا يعمل بها: الأول: في وجوب الغرامة بالمثلين في حريسة الجبل. الثاني: وجوب الغرامة بالمثلين أيضًا فيما أواه المراح ولم يبلغ ثمن المجن. والثالث: وجوب الغرامة كذلك بالمثلين في الثمر المعلق. والرابع: وجوب الغرامة كذلك إذا أواه الجرين ولم يبلغ ثمن المجن. فهذه أربعة أحكام كانت في ابتداء الإسلام، فانتسخت بتحريم الربا، فعاد الأمر إلى أن لا يؤخذ ممن أخذ شيئًا إلا مثل ما أخذ. فإن قيل: كيف تدعي النسخ فيها وقد حكم بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة -رضي الله عنهم- فلم ينكر عليه منهم أحد؟ وذلك أن قاسم بن أصبغ روى عن مطرف بن قيس، عن يحيى بن بكير، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: "أن رقيقًا لحاطب سرقوا

ناقة للمزني -رجل من مزينة- فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأمر عمر لكثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، قال عمر - رضي الله عنه -: إني أراك تجيعهم، والله لأغرمنك غرمًا يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال: أربعمائة درهم، قال عمر - رضي الله عنه -: أعطه ثمانمائة درهم" (¬1). وكذلك حكم عثمان - رضي الله عنه - بتضعيف الغرامة، روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبان بن عثمان أن أباه عثمان - رضي الله عنه - أغرم في ناقة محرم أهلكها رجل، فأغرمه الثلث زيادة على ثمنها. وقال الزهري: ما أصيب من أموال الناس ومواشيهم (¬2) فإنه يزاد الثلث لهذا في العمد؛ فهذا الزهري أيضًا عمل بعد الصحابة - رضي الله عنهم -. قلت: هذا محمول منهم على السياسة زيادة في الزجر والعقوبة. ص: فكانت العقوبات جارية في هذه الآثار على ما ذكر فيها حتى نسخ ذلك بتحريم الربا، فعاد الأمر إلى أن لا يؤخذ ممن أخذ شيئًا إلا مثل ما أخذ، وأن العقويات لا تجب في الأموال بانتهاك الحرم التي هي غير الأموال، فحديث سلمة عندنا كان في الوقت الأول، فكان الحكم على من زنى بجارية امرأته مستكرهًا لها أن تعتق عليه عقوبة له في فعله ويغرم مثلها لامرأته، وإن كانت طاوعته ألزمها جارية زانية، وألزم مكانها جارية طاهرة ولم تعتق هي لطواعيتها إياه، وفرق في ذلك بين ما إذا كانت مطاوعة له وبين ما إذا كانت مستكرهة. ثم نسخ ذلك فردت الأمور إلى أن لا يعاقب أحد بانتهاك حرمة لم يأخذ فيها مالًا بأن يغرم مالًا ووجبت عليه العقوبة التي أوجب الله على سائر الزناة، فثبت بما ذكرنا ما روى النعمان، ونَسْخ ما روى سلمة بن المحبق - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (11/ 324 - 325). (¬2) زاد في "المحلى" (11/ 325): "في الشهر الحرام".

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها أبو هريرة وعبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنهم - وإلى الحديث الذي ذكره في باب: تحريم الصدقة على بني هاشم. قوله: "بانتهاك الحرم" بضم الحاء وفتح الراء جمع حرمة. قوله: "مستكرِهًا" بكسر الراء. قوله: "عقوبة له" أي لأجل العقوبة. قوله: "ألزمها" الضمير المنصوب فيه يرجع إلى قوله: "لامرأته". قوله: "جارية طاهرة" أي عفيفة من الزنا. قوله: "ولم تعتق هي" أي الجارية التي زنى بها الزوج. "لأجل طواعيتها إياه" أي الزوج. قوله: "بأن يغرم مالًا" يتعلق بقوله: "أن لا يعاقب أحد". ص: وأما ما ذكروا من فعل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومذهبه في ذلك إلى مثل ما روى سلمة - رضي الله عنه - فقد خالفه فيه غيره من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: لا أوتى برجل وقع على جارية امرأته إلا رجمته". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه: "أن عمر - رضي الله عنه - بعثه مصدقًا على سعد بن هذيم، فأتى حمزة بمالٍ ليصدقه، فإذا رجل يقول لامرأته: أد صدقه مال مولاك، وإذا المرأة تقول له: بل أنت فأد صدقة مال ابنك، فسأل حمزة عن أمرهما وقولهما؟ فأخبر أن ذلك الرجل زوج تلك المرأة، وأنه وقع على جارية لها فولدت ولدًا فأعتقته امرأته، قالوا: فهذا المال لابنه من جاريتها، فقال حمزة: لأرجمنك بأحجارك، فقيل له: أصلحك الله، إن أمره قد

رُفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجلده عمر مائة ولم ير عليه الرجم، فأخذ حمزة بالرجل كفيلًا حتى يقدم على عمر - رضي الله عنه - فيسأله عما ذكر من جلد عمر - رضي الله عنه - إياه ولم يرَ عليه رجمًا، فصدقهم عمر بذلك من قولهم وقال: إنما درأ عنه الرجم عذره بالجهالة". فهذا حمزة بن عمرو صاحب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قد رأى [أن على] (¬1) من زنى بجارية امرأته الرجم ولم ينكر عليه عمر - رضي الله عنه - ما كان رأى من ذلك حين كفل الرجل حتى يجيئه أمر عمر - رضي الله عنه - في إقامة الحد عليه، فقد وافق ذلك أيضًا ما روي عن علي - رضي الله عنه - وما رواه النعمان عن النبي -عليه السلام-. ثم جاء في حديث حمزة أيضًا من جلد عمر ذلك الرجل مائة تعزيرًا بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- فقد دل ذلك على ما روى النعمان عن النبي -عليه السلام- من جلد الزاني بجارية امرأته مائة أنه أراد بذلك التعزير أيضًا فقد وافق كل ما في حديث حمزة - رضي الله عنه - هذا ما روي عن النعمان عن النبي -عليه السلام-. وأما عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فكان على الحكم الأول الذي رواه سلمة بن المحبق، ولم يعلم ما نسخه مما رواه النعمان - رضي الله عنه -، وعلم ذلك عمر وعلي وحمزة بن عمرو - رضي الله عنه - فقالوا به. ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه مما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قد ذهب في ذلك إلى نحو ما روي عن سلمة بن المحبق - رضي الله عنه -، بيانه أن يقال: إن عبد الله وإن كان قد جاء عنه ما ذكرتم ولكنه قد خالفه فيه غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم: علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وحمزة بن عمرو الأسلمي؛ فإنهم وقفوا على الناسخ مما رواه النعمان وغيره وعملوا به، ولم يقف عبد الله عليه، وثبت على الحكم الأول وهو ما رواه سلمة بن المحبق. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "على أن"، والمثبت من "ش".

أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن ابن عمرو بن الحارث، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن عكرمة قال: "جاءت امرأة إلى علي - رضي الله عنه - فقالت: إن زوجي وقع على وليدتي، قال: إن تكوني صادقة رجمناه، وإن تكوني كاذبة جلدناك". فإن قيل: قد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قد أسقط الحد في مثل هذا. فقال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن الهيثم بن بدر، عن حرقوص، عن علي - رضي الله عنه -: "أن رجلًا وقع على جارية امرأته، فدرأ عنه الحد". قلت: الهيثم بن بدر تكلموا فيه، وحرقوص مجهول لا يدرى من هو، قاله الذهبي. وأما ما روي عن عمر وحمزة -رضي الله عنهما- فأخرجه بإسناد حسن، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن محمد بن حمزة الأسلمي الحجازي، عن أبيه حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬3) تعليقًا. قوله: "ثم جاء في حديث حمزة أيضًا من جلد عمر - رضي الله عنه - ذلك الرجل مائة تعزيرًا" ذكر هذا تنبيها على أن جلد عمر ذلك الرجل مائة جلدة لم يكن حدًّا وإنما ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 515 رقم 28535). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28547). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2548).

كان تعزيرًا، كما هو في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - حيث قال في حديثه: "إن كانت أحلتها له جلدته مائة". وذلك لأنه ادعى جهالة فعذره عمر - رضي الله عنه - وعزَّره مائة. كما جاء في رواية أخرى أخرجها البيهقي (¬1): من حديث معمر، عن سماك ابن الفضل، عن عبد الرحمن بن البيلماني: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رفع إليه رجل وقع على جارية امرأته، فجلده مائة ولم يرجمه". فهذا وإن كان منقطعًا فإنه محمول على ما ذكرناها، وعن هذا قال أصحابنا فيمن وقع على جارية امرأته وظن أنها تحل له فإنه لا يحد ولكنه يعزر، أما سقوط الحد فللشبهة حتى يجب للعلم بالحرمة لانتفاء الشبهة، وأما التعزير فلأنه ارتكب أمرًا محرمًا، وكذا لا يحد إذا أحلت المرأة إياها له لما ذكرناه، وإليه أشار الطحاوي بقوله: "فكذلك نقول: من زنى بجارية امرأته. . . ." إلى آخره على ما يجيء الآن إن شاء الله. ص: وقد أنكر علي - رضي الله عنه - على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في هذا قضاءه بما قد نسخ: حدثنا أحمد بن الحسن، قال: ثنا علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن محمد ابن سيرين، قال: "ذكروا لعلي - رضي الله عنه - شأن الرجل الذي أتى ابن مسعود وامرأته وقد وقع على جارية امرأته، فلم ير عليه حدًّا، فقال علي - رضي الله عنه -: لو أتاني صاحب ابن أم عبد لرضخت رأسه بالحجارة، لم يدر ابن أم عبد ما حدث بعده. فأخبر علي - رضي الله عنه - أن ابن مسعود تعلق في ذلك بأمر قد كان ثم نسخ بعده فلم يعلم ابن مسعود بذلك. ش: ذكر هذا تأييدًا لما قاله من أن عبد الله بن مسعود قد تعلق في الحكم المذكور بما نسخ من ذلك، حيث خفي عليه الناسخ، ولهذا أنكر عليه ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 241 رقم 16860).

علي بن أبي طالب حين حكم بالمنسوخ حيث قال علي - رضي الله عنه -: لم يدر ابن أم عبد ما حدث بعده. أراد أنه لم يدر الناسخ ولم يقف عليه، وأم عبد هي أم عبد الله بن مسعود. وأخرجه برجال ثقات: عن أحمد بن الحسن بن القاسم، عن علي بن عاصم ابن صهيب الواسطي، عن خالد الحذاء، عن محمد بن سيرين. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين: "أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: إن ابن أم عبد لا يدري ما حدث بعده، لو أتيت به لرجمته". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "أتى رجل ابن مسعود فقال: إني وقعت على جارية امرأتي، فقال: قد ستر الله عليك فاستتر، فبلغ ذلك عليًّا - رضي الله عنه - فقال: لو أتاني الذي أتى ابن أم عبد لرضخت رأسه بالحجارة". ص: وقد خالف علقمة في ذلك عبد الله بن مسعود أيضًا، ومال إلى قول من خالفه على أنه أعلم أصحابه به. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة: "أنه سئل عن رجل أتى جارية امرأته فقال: ما أبالي إياها أتيت أو جارية امرأة عوسجة". فهذا علقمة وهو أجل أصحاب عبد الله - رضي الله عنه - وأعلمهم قد ترك قول عبد الله في ذلك مع جلالة عبد الله عنده، وصار إلى غيره، وذلك عندنا لثبوت نسخ ما كان ذهب إليه عبد الله في ذلك عنده. ش: أي قد خالف علقمة بن قيس النخعي في الحكم المذكور عبد الله بن مسعود، وذهب إلى قول من خالف عبد الله، والحال أن علقمة أعلم أصحاب ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 240 رقم 16855). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28546).

عبد الله بعبد الله وأجلهم، فلو لم يثبت عنده نسخ ما كان ذهب إليه عبد الله لما خالف قوله مع جلالة قدر عبد الله عنده. وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال علقمة: "ما أبالي وقعت على جارية امرأتي أو جارية عوسجة رجل من الحي". ص: فكذلك نقول: من زنى بجارية امرأته حدَّ، إلا أن يدعي شبهة، مثل أن يقول: ظننت أنها تحل لي، أو تكون المرأة أحلتها له، فَيُدْرَأ عنه الحد ويعزر، ويجب عليه العقر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي كما قال علقمة نقول بأن الزاني بجارية امرأته لا يجب عليه إلا الحد، إلا إذا ادعى شبهة الحِلّ، أو تكون امرأته قد أحلتها له، فإنه حينئذ يجب عليه التعزير دون الحد، ويجب عليه العقر أيضًا وهو مهر المثل، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 516 رقم 28541).

ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها ش: أي هذا باب في بيان حكم من تزوج امرأة أبيه فدخل بها، كيف يكون حكمه؟ أو تزوج امرأة من ذوات الرحم والمحرم منه؟ ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تذهب؟ فقال: أرسلني رسول الله -عليه السلام- إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه أو أقتله". حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف -هو ابن منازل- وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه اللواء. . . . فذكر مثله، إلا أنه قال: "آتيه برأسه". حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: [ثنا] (¬1) سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: ثنا هشيم، قال: أنا الأشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "مر بي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله -عليه السلام-. فقلت: إلى أي شيء بعثك؟ قال: إلى رجل تزوج امرأة أبيه، أن أضرب عنقه". حدثنا فهد قال: ثنا يوسف بن منازل، قال: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب قال: "ضلت إبل لي، فخرجت في طلبها، فإذا الخيل قد أقبلت، فلما رأى أهل الماء الخيل انضموا إليَّ، وجاءوا إلى خباء من تلك الأخبية فاستخرجوا منه رجلًا، فضربوا عنقه، فقالوا: هذا رجل عرَّس بامرأة أبيه، فبعث إليه رسول الله -عليه السلام- فقتله. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "ش".

ش: هذه خمس طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حي الكوفي العابد أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكوفي الأعور، كان يقعد في سُدة باب الجامع بالكوفة، فسمي السدي، وهو من التابعين الثقات، روى له الجماعة سوى البخاري. عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن حسن بن صالح، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "لقيت خالي ومعه الراية، فقلت له، فقال: بعثني النبي -عليه السلام- إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله أو أضرب عنقه". انتهى. وخاله هو أبو بردة هانئ بن نيار بن عمرو البلوي المدني حليف بني الخارج بن الخزرج، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله -عليه السلام-. الثاني: عن فهد أيضًا، عن يوسف بن منازل -بفتح الميم- التميمي الكوفي، وعن أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج شيخ الجماعة كلها. كلاهما عن حفص بن غياث، عن أشعث بن سوار الكندي الكوفي فيه اختلاف، عن عدي بن ثابت، عن البراء. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): عن حفص بن غياث، عن أشعث. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 549 رقم 28867). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 549 رقم 28866).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي خالد الأحمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن البراء، عن خاله: "أن رجلًا تزوج امرأة أبيه -أو امرأة ابنه كذا قال أبو خالد الأحمر عن أشعث- فأرسل إليه النبي -عليه السلام- فقتله. وأخرج عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن أبيه قال: "لقيني عمي ومعه راية، فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني النبي -عليه السلام- إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أقتله". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): عن عبد الرزاق. وهذا كما ترى فيه اضطراب. الثالث: عن محمَّد بن علي بن داود البغدادي، عن سعيد بن يعقوب الطالقاني شيخ أبي داود والترمذي والنسائي، عن هشيم بن بشير، عن الأشعث بن سوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "مرَّ بي الحارث بن عمرو. . . ." إلى آخره. والحارث بن عمرو الأنصاري هذا خال البراء بن عازب، وقيل: عمه، كذا في "معرفة الصحابة". وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا هشيم، عن أشعث بن سوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "مرَّ بي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله -عليه السلام- لواء، فقلت: أي عم، إلى أين بعثك رسول الله -عليه السلام-؟ فقال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 237 رقم 16832). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (6/ 271 رقم 10804). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 297 رقم 18649). (¬4) "مسند أحمد" (4/ 292 رقم 18602).

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن منازل، عن حفص بن غياث، عن أشعث بن سوار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب وهذا مثل الطريق الثاني، ولكن فيه: "مرَّ بي الحارث بن عمرو"، وفي ذاك: "مر بي خالي أبو بردة بن نيار". وأخرجه ابن حزم (¬1): من حديث هشيم، عن أشعث بن سوار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: "مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله -عليه السلام-، فقلت له: أي عمي، أين بعثك رسول الله -عليه السلام-؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه". الخامس: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ قيل: اسمه محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، والصحيح أن اسمه وكنيته، روى له الجماعة مسلم في "مقدمة كتابه". وهو يروي عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، روى له الجماعة، عن أبي الجهم سليمان بن الجهم الجوزجاني مولى البراء بن عازب، وثقه ابن حبان. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب قال: "بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء -فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي -عليه السلام- إذ أتوا قبة، فاستخرجوا منها رجلًا فضربوا عنقه، فسألت عنه، فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه". ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 252). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 562 رقم 4456).

قوله: "فإذا الخيل" الخيل: الفرسان، قال الله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} (¬1) أي فرسانك، ويجوز أن يكون المضاف محذوفًا، أي: فإذا أصحاب الخيل قد أقبلت. قوله: "عرَّس بامرأة أبيه" كذا هو في رواية الطحاوي، وفي رواية أبي داود: "أعرس" من الإعراس، يقال: أعرس الرجل إذا دخل بامرأته عند بنائها. قال ابن الأثير في "النهاية": لا يقال فيه: عَرَّس، وقال الجوهري: أعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها, ولا يقال: عرَّس والعامة تقوله. ص: فذهب قوم إلى أن من تزوج ذات محرم منه وهو عالم بحرمتها عليه فدخل بها، أن حكمه حكم الزاني، ويقام عليه حد الزنا الرجم أو الجلد، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن قال بهذا القول أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور، فإنهم قالوا: مَن تزوج ذات محرم منه. . . . إلى آخره، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد، قالوا: ولا يلحق الولد في العقد إلا أن مالكًا فرق بين الوطء في ذلك بعقد النكاح وبين الوطء في بعض ذلك بملك اليمين، فقال فيمن ملك بنت أخيه أو بنت أخته أو عمته أو خالته أو امرأة أبيه أو امرأة ابنه بالولادة، أو أمه من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو أخته من الرضاعة وهو عارف بتحريمهن وعارف بقرابتهن منه ثم وطئهن كلهن عائد فإن الولد لاحق به ولا حدَّ عليه لكن يعاقب. وقال الخطابي: اختلف فيمن نكح ذات محرم، فقال الشافعي ومالك وجماعة: يحد، وقال أحمد: يقتل ويؤخذ ماله، وقال ابن حزم: قال جابر بن زيد أبو الشعثاء وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: كل من وطئ حريمته عالم بالتحريم بقرابتها منه، فسواء وطئها باسم نكاح أو بملك يمين أو بغير ذلك فإنه يقتل ولابد، محصنًا كان أو غير محصن. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية: [64].

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب في هذا حد الزنا, ولكن يجب فيه التعزير والعقوبة البليغة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وسفيان الثوري: حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة بذلك. وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم قال: "سمعت سفيان يقول في رجل تزوج ذات محرم منه ودخل بها قال: لا حدَّ عليه". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم فقهاء الكوفة منهم: أبو حنيفة وسفيان الثوري، فإنهم قالوا: لا يجب في الصورة المذكورة حد الزنا, ولكن يجب فيها التعزير البالغ والعقوبة البليغة. وأخرج قولي أبي حنيفة وسفيان مسندًا: أما قول أبي حنيفة فأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب ابن سليمان، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، عن الإِمام أبي حنيفة. وأما قول سفيان فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين -شيخ البخاري- عن سفيان. وقال ابن حزم في "المحلى": قال أبو حنيفة: لا حدَّ عليه في كل ذلك، ولا حد على من تزوج أمه التي ولدته وابنته وأخته وجدته وعمته وخالته وبنت أخيه بنت أخته عالمًا بقرابتهن منه، عالمًا بتحريمهن عليه، ووطئهن كلهن، والولد لاحق به، والمهر واجب لهن عليه، وليس عليه إلا التعزير دون الأربعين فقط، وهو قول سفيان الثوري. قالا: فإن وطئهن بغير عقد النكاح فهو زنى، عليه ما على الزاني من الحد. ص: وكان من الحجة على الذين احتجوا عليهما بما ذكرنا؛ أن في تلك الآثار أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتل، وليس فيه ذكر الرجم، ولا ذكر إقامة الحد، وقد

أجمعوا جميعًا أن فاعل ذلك لا يجب عليه قتل، إنما يجب عليه في قول من يوجب الحد على الرجم إن كان محصنًا، فلما لم يأمر رسول الله -عليه السلام- بالرجم وإنما أمره بالقتل؛ ثبت بذلك أن ذلك القتل ليس لحد الزنى، ولكن المعنى خلاف ذلك، وهو أن المتزوج فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فصار بذلك مرتدًّا، فأمر رسول الله -عليه السلام- أن يفعل به ما يفعل بالمرتد، وهكذا كان أبو حنيفة وسفيان يقولان في هذا المتزوج: إن كان أتى ذلك على الاستحلال أنه يقتل. فإذا كان ليس في الحديث ما ينفي قول أبي حنيفة وسفيان لم يكن فيه حجة عليهما؛ لأن مخالفهما ليس بالتأويل أولى منهما. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان على القوم الذين احتجوا على أبي حنيفة وسفيان بحديث البراء بن عازب المذكور. ملخص هذا: أن الأحاديث المذكورة ليست بحجة على أبي حنيفة وسفيان؛ لأن المأمور فيها هو القتل دون الرجم، وكان ذلك لأجل الاستحلال، فصار حكمه حكم المرتد، فلذلك أمر -عليه السلام- بالقتل دون الرجم، وكلامه ظاهر لا يحتاج إلى البسط. ص: وفي ذلك الحديث أيضًا أن رسول الله -عليه السلام- عقد لأبي بردة الراية، ولم تكن الرايات تعقد إلا لمن أمر بالمحاربة، والمبعوث على إقامة حد الزنى غير مأمور بالمحاربة. ش: هذا جواب آخر في دفع كون الأحاديث المذكورة حجة على أبي حنيفة وسفيان، وهو ظاهر لا يخفى. ص: وفي الحديث أيضًا أنه بعثه إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، وليس فيه أنه دخل بها، فإن كانت هذه العقوبة وهي القتل مقصودًا بها إلى المتزوج لتزوجه، دل ذلك أنها عقوبة وجبت بنفس العقد لا بالدخول، ولا يكون ذلك إلا والعاقد مستحل لذلك.

ش: هذا جواب آخر، وهو أيضًا ظاهر، وقد غمز الخطابي هاهنا على الطحاوي فقال: وقد زعم بعضهم أن النبي -عليه السلام- إنما أمر بقتله لاستحلال نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك من مذهب أهل الجاهلية؛ كان الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي، فيرثها كما ترث ماله، وفاعل هذا على الاستباحة يرتد عن الدين، فكان جزاؤه القتل لردته، وهذا تأويل فاسد، ولو جاز أن يتأول ذلك في قتله لجاز أن يتوهم في رجم من رجم رسول الله -عليه السلام- من الزناة، فيقال: إنما قتله بالرجم لاستحلاله الزنى، فقد كان أهل الجاهلية يستحلون الزنا، فلا يجب على من زنى الرجم حتى يعتقد هذا الزاني، وهذا ما لا خفاء بفساده. قلت: هذا الذي قاله فاسد، وقياسه باطل؛ لأن الحكم المتنازع فيه لا يشبه حكم الرجم الذي فعله رسول الله -عليه السلام- في الذين زنوا؛ لأن الذين رجمهم رسول الله -عليه السلام- لم يستحلوا الزنى أصلًا حتى يتوهم فيه ما توهم في المتنازع فيه، وهذا من المعلوم الذي لا يشتبه، إذ لو استحلوا ذلك لأمر النبي -عليه السلام- بقتلهم دون رجمهم، ولما أمر أصحابه أن يفعلوا بهم مثل ما يفعلون بموتاهم من مراعاة سنن الغسل والتكفين والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، فافهم. ص: فإن قال قائل: فهذا عندنا على أنه قد تزوج ودخل، قيل له: وهو عند مخالفك على أنه تزوج واستحل. فإن قال: ليس للاستحلال ذكر في الحديث. قيل: ولا للدخول ذكر في الحديث؛ فإن جاز لك أن تحمل معنى الحديث على الدخول غير مذكور في الحديث جاز لخصمك أن يحمله على استحلال غير مذكور في الحديث. ش: هذا السؤال وارد على الجواب الأخير، بيانه أن يقال: لا نسلم قولك: ليس في الحديث أنه دخل بها، بل هو عندنا محمول على أنه دخل بها، وتقرير الجواب: أنك إذا ادعيت أنه دخل بها، فندعي نحن أيضًا أنه تزوج واستحل هذا التزوج.

فإن قلت: ليس في الحديث ذكر الاستحلال ولا ما يدل عليه. فنجاريك نحن أيضًا ونقول: كذلك ليس فيه ذكر للدخول. فإن قلت: أنا أحمله على الدخول وإن كان غير مذكور. فنقول: نحن أيضًا نحمله على الاستحلال وإن كان غير مذكور، وليس حملك على ما أردت بأولى من حملنا على ما أردنا، والله أعلم. ص: وقد روي في ذلك حرف زائد على ما في الآثار الأول: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن جابر الجعفي، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال: "أتى خاله ومعه راية، فقلت له: إلى أين تذهب؟ قال: بعثني رسول الله -عليه السلام- إلى رجل نكح امرأة أبيه، أن أقتله، وآخذ ماله". ش: أي: قد روي فيمن تزوج بامرأة أبيه حرف زائد، وأراد بها كلمة على ما في هذه الآثار الأول، وهي قوله: "وآخذ ماله"، فإن هذه اللفظة ليست في الأحاديث الأول. وأخرجه عن: حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي، عن جابر بن زيد الجعفي: فيه مقال، عن يزيد بن البراء الثقة، عن أبيه البراء بن عازب. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" بإسناد أصح منه: ثنا عبيد بن جناد الحلبي: نا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال: "لقيت عمي وقد اعتقد راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: إلى رجل نكح امرأة أبيه، أضرب عنقه وآخذ ماله". ص: وقد روي نحو ذلك عن غير البراء أيضًا.

حدثنا محمَّد بن علي بن داود وفهد ومحمد بن الورد، قالوا: ثنا يوسف بن منازل الكوفي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه، أن يضرب عنقه ويخمس ماله". ش: أي قد روي نحو ما روي بالحرف الزائد عن غير البراء بن عازب. وأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن علي وفهد بن سليمان ومحمد بن الورد ابن زنجويه البغدادي ثلاثتهم، عن يوسف بن منازل بفتح الميم والنون، عن عبد الله بن إدريس الزعافري، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- بعث أباه -جد معاوية- إلى رجل عرس بامرأة أبيه، فضرب عنقه وخمس ماله". وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن محمَّد بن عبد الرحمن الجعفي، عن يوسف بن منازل. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "بعث جد معاوية" وهو: إياس بن هلال بن رباب المزني. قوله: "عرَّس" بتشديد الراء، أي بني بامرأة أبيه، وقد مر أن اللغة العليا: أعرس من الإعراس. قوله: "ويخمس" من التخميس، وهو أن يأخذ خمس ماله. ص: فلما أمر رسول الله -عليه السلام- في هذين الحديثين بأخذ مال المتزوج وتخميسه؛ دل ذلك أن المتزوج كان بتزوجه مرتدًّا محاربًا؛ فوجب أن يقتل لردته، وكان ماله كمال الحربيين؛ لأن المرتد الذي لم يحارب كل قد أجمع في ماله على خلاف التخميس، فقال قوم وهم: أبو حنيفة وأصحابه ومن قال بقولهم: ماله لورثته من المسلمين، وقال مخالفوهم: ماله كله فيء، ففي تخميس النبي -عليه السلام- مال المتزوج الذي ذكرنا دليل على ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 869 رقم 2608).

أنَّه قد كانت منه الردة والمحاربة جميعًا، فانتفى بما ذكرنا أن يكون على أبي حنيفة وسفيان -رحمهما الله- في ذلك الحديث حجة. ش: أراد بهذين الحديثين حديث البراء بن عازب الذي فيه تلك الحرف الزائدة، وحديث جدّ معاوية بن قرة، ودلالة هذين الحديثين على كون ذلك المتزوج مرتدًّا من أهل المحاربة ظاهرة، ولهذا كان ماله مثل مال الحربيين، وكان قتله كقتل المرتدين. قوله: "وقال مخالفوهم" أي مخالفوا أبي حنيفة وأصحابه، وأراد بهم: ربيعة ومالكًا وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد. وقال الأوزاعي: إن قتل في أرض الإِسلام فماله لورثته من المسلمين. وقالت طائفة: ميراثه لأهل دينه. وإليه ذهب النخعي والحكم بن عتيبة. وقالت طائفة: إن كان له وارث على دينه فهو أحق به، وإلا فماله لورثته من المسلمين. قوله: "لأنه لم يوجف عليه" أي لم يعمل عليه بخيل ولا ركاب، وأصله من الوجيف، وهو ضرب من سير الإبل والخيل. ص: فإن قال قائل: قد رأينا ذلك النكاح نكاحًا لا يثبت، فكان ينبغي إذا لم يثبت أن يكون في حكم ما لم يُعقد، فيكون الواطئ عليه كالواطئ لا على نكاح، فيُحد. قيل له: فإن كان ذلك كذلك فلِمَ كان في سؤالك إيانا ما ذكرتَ ذكر التزويج؟ كان ينبغي أن تقول رجل زنى بذات محرم منه. فإن قلت، كان جوابنا لك أن نقول: عليه الحد، وإن أطلقت اسم التزويج وسميت ذلك النكاح نكاحًا، وإن لم يكن ثابتا فلا حد على واطئ [على نكاح] (¬1) جائز ولا فاسد. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "ش".

ش: تقرير السؤال أن يقال: هذا النكاح ليس بشيء في الحقيقة؛ لأنه في غير محله، فكان حكمه حكم العدم، فحينئذ يكون الواطئ في مثل هذا النكاح كالواطئ بلا نكاح فيجب عليه حد الزنا. وتقرير الجواب أن يقال: فعل ما ذكرت كان ينبغي أن لا تذكر في سؤالك لفظ التزويج، وجوابنا نحن مبني على التزويج حتى إذا قلت: رجل زنى بذات محرم منه، نقول: يجب عليه الحد لارتكابه الزنا المحرم. وإذا قلت: رجل تزوج بذات محرم منه ووطئها نقول: لا حدَّ عليه للشبهة؛ لأن الحد لا يجب في النكاح مطلقًا سواء كان نكاحًا حلالًا أو حرامًا. قوله: "إيانا" ضمير منصوب وقع مفعولًا للمصدر المضاف إلى فاعله وهو قوله: "سؤالك". وقوله: "ما ذكرت" في محل النصب أيضًا على المفعولية، وقوله: "ذكر التزويج" كلام إضافي مرفوع؛ لأنه اسم كان في قوله: "فلم كان". قوله: "فإن قلت" أي فإن قلت: رجل زنى بذات محرم منه كان جوابنا لك. . . . إلى آخره. قوله: "وإن أطلقت اسم التزويج" يعني وإن ذكرت لفظ التزويج ونحوه. . . . إلى آخره. ص: وقد رأينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في المتزوج في العدة التي لا يثبت فيها نكاح الواطئ على ذلك ما يدل على خلاف مذهبك؛ وذلك أن إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: "أن طُليحة نكحت في عدتها، فأتي بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضربها ضربات بالمخفقة، وضرب زوجها، وفرَّق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينها وبين زوجها الذي نكحت ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر إن كان دخل بها الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا، وان لم يكن دخل بها اعتدت من الأول، وكان الآخر خاطبًا من الخطَّاب".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن رجلًا تزوج امرأة في عدتها، فرفع إلى عمر بن الخطاب فضربهما دون الحد، وجعل لها الصداق، وفرَّق بينهما وقال: لا يجتمعان". قال: وقال علي - رضي الله عنه -: "إن تابا وأصلحا؛ خطبها مع الخُطَّاب". أفلا ترى أن عمر - رضي الله عنه - قد ضرب المرأة والزوج بالمخفقة، فاستحال أن يضربهما وهما جاهلان بتحريم ما فعلا؛ لأنه كان أعرف بالله من أن يعاقب مَن لم تقم عليه الحجة، فلما ضربهما دلَّ ذلك أن الحجة قد كانت قامت عليهما بالتحريم قبل أن يقتلا، ثم هو فلم يقم عليهما الحد وقد حضره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتابعوه على ذلك ولم يخالفوه فيه، فهذا دليل صحيح أن عقد النكاح إذا كان وإن كان لا يثبت وجب له حكم النكاح في وجوب المهر بالدخول الذي يكون بعده، وفي العدة منه، وفي ثبوت النسب، وما كان يوجب ما ذكرنا من ذلك، فيستحيل أن يجب به حد؛ لأن الذي يوجب الحد هو الزنا، والزنا لا يوجب ثبوت نسب ولا عدة ولا مهر. ش: ذكر هذا الأثر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تأييدًا لما ذكره من أن النكاح وإن لم يكن ثابتًا فلا حدَّ على فاعله؛ وذلك لأن عمر - رضي الله عنه - قد حكم فيمن تزوج في العدة التي لا يثبت فيها نكاح الواطئ ما يدل على ذلك، حيث ضرب الزوجين فيه بالمخفقة، ولم يقم عليهما الحد، وحكم لها بالصداق، وفرَّق بينهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد في ذلك. فهذا دليل صريح صحيح أن عقد النكاح مطلقًا إذا وُجد وإن لم يكن ثابتًا فإنه يصير له حكم النكاح في وجوب المهر بالدخول، ووجوب العدة منه بالتفريق، وثبوت النسب إن حصل ولد، فمثل ذلك يستحيل أن يجب به الحد؛ لأن موجب الحد هو

الزنا، والزنا لا يثبت به النسب، ولا تثبت العدة ولا المهر، فإذا كان كذلك يسقط الحد لعدم سببه ويجب التعزير، لارتكابه المحرَّم. وأخرج الأثر المذكور من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار المدني. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري. . . . إلى آخره. والثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) مختصرًا: ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن امرأة تزوجت في عدتها، فضربها عمر - رضي الله عنه - تعزيرًا دون الحد". وقال ابن حزم (¬3): الإسناد إلى عمر منقطع؛ لأن سعيدًا لم يحلق عمر - رضي الله عنه - إلا نعيه النعمان بن مقرن على المنبر. قلت: سعيدٌ وُلِدَ لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر، فيكون عُمْر سعيد حين توفي عمر - رضي الله عنه - ثمان سنين وستة أشهر، فكيف لا يحلق عمر ولا يسمعه وهو في المدينة عنده؟!. قوله: "أن طليحة نكحت" هي طليحة بنت عبيد الله، وكانت تحت رشيق ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 536 رقم 1115). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28553). (¬3) "المحلى" (11/ 247).

الثقفي فطلقها، ونكحت في عدتها، ووقع في "الموطأ": "أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي" وقال ابن وضاح: هي تيمية، وقيل: إنها أخت طلحة بن عبيد الله التيمي صاحب رسول الله -عليه السلام- وأحد العشرة، وقد ذكرها ابن الأثير في الصحابيات. قوله: "بالمِخْفَقة" بكسر الميم وسكونا لخاء المعجمة، وهي الدرة. قوله: "مِن الخُطَّاب" بضم الخاء: جمع خاطب، مِن خَطَبَ المرأة، يَخْطِبُ، خِطْبَة بالكسر، فهو خاطب: إذا طلبها ليتزوجها. ويستفاد منه أحكام: فيه: أن نكاح المعتدة فاسد، وأنها إذا دخل بها من تزوجها يجب عليهما التعزير دون الحد، وكذا روي عن الشعبي وحماد بن أبي سُليمان وإبراهيم النخعي: قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، وعن حماد، عن إبراهيم "في امرأة نكحت في عدتها فقالا: ليس عليهما حد". وكذا روي عن الزهري، عن مروان. أخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: "أن مروان جلدهما أربعين أربعين، وفرَّق بينهما". وفيه: وجوب التفريق بينهما؛ لفساد العقد، ووجوب العدة، لشبهة النكاح، وثبوت النسب؛ لأنه حصل من عقد نكاح وإن كان لا يثبت وليس هو بزنا؛ لأن اسم الزنا اسم غير النكاح، فوجب أن يكون له حكم غير حكمه. وفيه: وجوب المهر بالدخول، وقال مالك في "موطأه" عقيب الأثر المذكور، قال سعيد بن المسيب: "ولها مهرها بما استحل منها". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28556). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 517 رقم 28555).

ص: فإن قال قائل: إن هذا الذي ذكرت من وطء ذات المحرم منه، على النكاح الذي وصفت، وإن لم يكن زنا فهو أغلظ من الزنا وأحرى أن يجب فيه ما يجب في الزنا. قيل له: قد أخرجته بقولك هذا من أن يكون زنا، وزعمت أنه أغلظ من الزنا, وليس ما كان مثل الزنا أو ما كان أعظم من الزنا من الأشياء المحرمة يجب في انتهاكها من العقوبات ما يجب في الزنا؛ لأن العقوبات إنما تؤخذ من جهة التوقيف لا مِن جهة القياس، ألا ترى أن الله -عز وجل- قد حرَّم الميتة والدم ولحم الخنزير كما حرَّم الخمر، وقد جعل على شارب الخمر حدًّا لم يجعل مثله على آكل لحم الخنزير. ولا على آكل لحم الميتة؟ وإن كان تحريم ما أتى به هذان كتحريم ما أتى ذلك. وكذلك قذف المحصنة جعل الله -عز وجل- فيه جلد ثمانين، وسقوط شهادة القاذف، وإلزامه اسم الفسق، ولم يجعل ذلك فيمن رَمى رجلًا بالكفر، والكفرُ في نفسه أعظم وأغلظ من القذف، وكانت العقوبات قد جعلت في أشياء خاصة ولم تجعل في أمثالها ولا في أشياء هي أعظم منها وأغلظ، فكذلك ما جعل الله -عز وجل- من الحد في الزنا لا يجب به أن يكون واجبًا فيما هو أغلظ من الزنا. فهذا الذي ذكرنا في هذا الباب هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وسفيان -رحمهما الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن وطئ ذات المحرم منه بالنكاح وإن لم يكن زنا على ما ذكرت، ولكنه أغلظ من الزنا في الحرمة، وكان الحد في الزنا الذي هو أدنى درجة منه واجبًا، فوجوبه فيما هو أعلى منه بالطريق الأولى. وملخص الجواب أن يقال: إن باب العقوبات توقيفي لا مجال للقياس فيه، ولو كان هذا الباب يؤخذ بالقياس لكان يجب الحد على آكل لحم الخنزير أو الميتة كما يجب على شارب الخمر، مع وجود التساوي في الحرمة في هذه الأشياء، ومع هذا أوجب الشارع الحد على شارب الخمر ولم يجعل مثله على آكل لحم الخنزير أو

الميتة، وكذلك أوجب الحد على قاذف المحصنة وأسقط شهادته وألزمه اسم الفسوق، ولم يوجب شيئًا من ذلك على مَن رمى رجلًا بالكفر، والحال أن الكفر في نفسه أعظم وأغلظ من القذف بالزنا، فعلمنا أن القياس لا يجري في باب العقوبات. قوله: "فهذا الذي ذكرنا" أشار به إلى ما ذكره فيما مضى من الاستدلالات لأبي حنيفة وسفيان "هو النظر" أي القياس، وأراد أن القياس الصحيح هو قولهما مع ورود الآثار الدالة على ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

ص: باب: حد الخمر

ص: باب: حد الخمر ش: أي هذا باب في بيان حد الخمر، واعلم أن أهل اللغة اختلفوا في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة المعاني متداخلة، كلها موجودة المعنى في الخمر، فقال بعضهم: إنما سميت خمرًا لأنها تخمر العقل -أي تغطيه وتستره- ومنه خمار المرأة؛ لأنه يغطي رأسها، قال النحاس: هذا أصح ما قيل في اشتقاقها، قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم -. وعن سعيد بن المسيب: إنما سميت الخمر خمرًا لأنها صعد صفوها ورَسَب كدرها. وفي كتاب "الأشربة" لأحمد: ثنا أبو كامل، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، عن أبي بردة قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "فأخمرته عبقته فهو خمر"، وفي لفظ: "ما عبقت وخمرت فهي خمر". وقال بعضهم: سميت خمرًا لأنها اشتقت من المخامرة وهي المخالطة لأنها تخالط العقل، وقال بعضهم: إنما سميت خمرًا لأنها تُركت حتى أدركت يقال: خمر العجين أي بلغ إدراكه، وقيل: سميت خمرًا لتغطيتها العقل، وقيل: لتغظيتها الدماغ، قال -عليه السلام-: "خمروا آنيتكم" أي غطوها، وقال أبو حنيفة: هي مؤنثة وقد تُذكر، ذكر ذلك الفراء وأنشد قول الأعشى: وكأن الخمر العتيق من الأسفنـ ... ـط ممزوجة بماء زلال ويقال ذكرها على إرادة الشراب، وقيل ذكَّرها كما ذكر غيره النار، وقال الفراء: نعوتها مؤنثات. والخمر تكنى أم ليلى ولها أسماء كثيرة منها: الراح والدم والخمول والقهوة والعقار والقرقف والسلافة والسُّلَاف والخرطوم والمُدام والرحيق والكلفاء والكُمَيت والطلاء والجريال والماذي والماتع والمزة والدرياق والدرياقة والفيهج والسُّخامية والخندريس والشموس وأم زبنق وبكر وعاتق وعانس والخميطة والخلة والأسفنط والرساطون والمقذية والعانية والهيتية والبابلية

والبيسانية والزيتية والثميلية والآسرة والساهرية والمفتاح والمصرعة والمنوِّمة والرينية والمسلية والمنسية والسارية والمغنية والنمامة والدبابة والطاردة، وفؤاد الدن، والضريع، والحلس، والسويق، والمصطار، والعنقوان، والفضيخ، والجمهوري، والباذق، والاستيداف، والنطل، والحاذق، والقارص، وثقيف، ونا قس بالقاف وقيل بالفاء، والباسل، والكأس، الرياح، والمشمولة، والوردة، والدنوانا، والصفراء، والمزاء، والمعتقة، والعتيق، والشراب، والشروب، والمعرقة، والمصفقة، والبتع، والجعة، والصهباء، والمشَعْشِعَة، والسكركة، السكر. ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا مسدد بن مسرهد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن الداناج، عن حُضَين بن المنذر الرقاشي أبو ساسان، عن علي - رضي الله عنه - قال: "جلد رسول الله -عليه السلام- في الخمر أربعين، وأبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، وكملها عمر - رضي الله عنه - ثمانين، وكلٌّ سنة". ش: إسناده صحيح. ويحيى هو ابن سعيد القطان. والداناج هو عبد الله بن فيروز البصري روى له الجماعة وهو معرَّب داناه بالفارسية وهو العالم. وحُضَين -بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون- هو ابن المنذر بن الحارث البصري كنيته أبو محمَّد ولقبه أبو ساسان، قال العجلي والنسائي: ثقة، روى له مسلم ومن الأربعة غير الترمذي. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة عن الداناج، عن حُصين بن المنذر، عن علي - رضي الله عنه - على آخره نحوه. قوله: "وكلٌّ سنة" أي كل واحد -من الأربعين والثمانين- سُنَّة. قال الخطابي: نقول إن الأربعين سُنَّة قد عمل بها النبي -عليه السلام- في زمانه، والثمانين سُنَّة قد عمل بها عمر - رضي الله عنه - في زمانه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 164 رقم 4481).

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز ابن المختار الأنصاري، قال: ثنا عبد الله الداناج، قال: ثنا حُضين بن المنذر الرقاشي قال: "شهدت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقد أوتي بالوليد بن عقبة وقد صلى بأهل الكوفة أربعًا، وقال: أزيدكم؟ قال: فشهد عليه حمران ورجل آخر، قال: فشهد عليه أحدُهما أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يقيئها، قال: فقال عثمان - رضي الله عنه -: لم يقيئها حتى شربها، قال: فقال عثمان لعلي - رضي الله عنهما -: أقم عليه الحد، فقال علي لابنه الحسن - رضي الله عنهما -: أقم عليه الحد، فقال الحسن: ولِّ حارها مَن تولَّى قارَّها، قال: فقال علي لعبد الله بن جعفر - رضي الله عنهم -: أقم عليه الحد، فأخذ السوط، فجعل يجلده، وعلي - رضي الله عنه - يعدّ حتى بلغ أربعين، ثم قال له: أمسك، ثم قال: إن النبي -عليه السلام- جلد أربعين، وجلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، وجلد عمر - رضي الله عنه - ثمانين، وكلٌّ سُنَّة، وهذا أحبُّ إليّ". ش: إسناده صحيح. ومسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب البصري، شيخ البخاري وأبي داود. وعبد العزيز بن المختار الأنصاري أبو إسحاق الدباغ البصري، روى له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، وعلي بن حُجر قالوا: نا إسماعيل وهو ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن عبد الله الداناج (ح). وثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -واللفظ له- قال: أنا يحيى بن حماد، قال: نا عبد العزيز بن المختار، قال: ثنا عبد الله بن فيروز مولى أبي عامر الداناج قال: نا حُصين بن المنذر أبو ساسان قال: "شهدت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أُتِيَ بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1331 رقم 1707).

وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن عبد العزيز بن المختار. . . . إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬2): عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن عبد العزيز بن المختار. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "أوتي بالوليد" هو الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسم أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، وأمه أروى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أم عثمان بن عفان، فالوليد أخو عثمان لأمه، يُكنى أبا وهب، أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه خالد بن عقبة. قال أبو عمر: أظنه لما أسلم كان قد ناهز الاحتلام. قال ابن ماكولا: رأى الوليد رسول الله -عليه السلام- وهو طفلٌ صغير. وكان من رجال قريش ظرفًا وحلمًا وشجاعة وأدبًا، وكان من الشعراء المطبوعين، كان الأصمعي وأبو عبيدة والكلبي وغيرهم يقولون: كان الوليد شريب خمر وكان شاعرًا كريمًا، وكان عثمان - رضي الله عنه - ولَّاه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، ولما قُتل عثمان اعتزل الفتنة، وقيل: شهد صفين مع معاوية، وقيل: لم يشهدها ولكنه كان يحرِّض معاوية بكتبه وشعره، وأقام في الرِّقة إلى أن تُوفي بها والله أعلم. قوله: "وقد صلى بأهل الكوفة أربعًا" أراد أنه صلى صلاة الصبح أربع ركعات وقال: "أزيدكم"، وفي رواية مسلم: "قد صلى الصبح ركعتين، وقال: أزيدكم؟ " قال أبو عمر: وخبر صلاته بهم سكران. وقوله: "أزيدكم بعد أن صلى الصبح أربعًا" مشهور مِن رواية الثقات مِنْ أهل الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 163 رقم 4480). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 858 رقم 2571).

قوله: "فشهد عليه حُمران" وهو حُمران بن أبان مولى عثمان بن عفان من التابعين الثقات. قوله: "يقيئها" مِنْ قاء يقيء قيئًا إذا استفرغ. قوله: "ولِّ حارّها مَن تولى قارّها" قال الأصمعي: يعني ولِّ شديدها مَنْ تولى هَيِّنها. قاله أبو داود في "سننه". وقال المنذري: "ولِّ حارّها" بتشديد اللام، هذا مثل من أمثال العرب معناه: ولِّ العقوبة والضرب مَنْ تولّيه العمل والنفع، وقال الخطابي: القارّ: البارد. وقال ابن الأثير: جعل الحرَّ كنايةً عن الشرّ والشدة، والبرد كنايةً عن الخير والهَيْن، والقارّ فاعل من القُرِّ وهو البرد، أراد: ولِّ شرها مَن تولى خيرها. قلت: "ولِّ" أمر مِنْ ولي يولي تولية، والضمير في حارّها وقارها يرجع إلى القضية المعهودة، و"الحارّ" منصوب بقوله: "ولِّ" و"القارّ" منصوب بقوله: "تولى". ويستفاد منه: إقامة الفضلاء الحدود بأنفسهم؛ لأنها من أفضل القربات، ويُختار لها أهل الفضل والعدل إذا أمكنوا؛ لئلا يتعدوا ذلك. وفيه: جواز استنابة الحكام فيما قلدوه لاسيما بحضرة المقلد، وقيل: إنما خص عثمان عليًّا - رضي الله عنهما - بحدِّه، لكونه أقرب إليه من غيره إذْ يجمعهما عبد مناف، علي بن أبي طالب من بني هاشم بن عبد مناف، والوليد بن عقبة من بني عبد شمس ابن عبد مناف. وفيه أن أصل الحدّ هو أربعون، وما وراءها تعزير، قاله الخطابي، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الحد الذي يجب على شارب الخمر هو أربعون، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: حد السكران أربعون سوطًا. وقال ابن حزم: وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي وعبد الله ابن جعفر - رضي الله عنهم -، وبه يقول الشافعي وأبو سليمان وأصحابنا، وبه نأخذ. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فادعوا فساد هذا الحديث، وأنكروا أن يكون علي - رضي الله عنه - قال من ذلك شيئًا؛ لأنه قد روي عنه ما يخالف ذلك ويدفعه، وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن مطرف، عن عُمير بن سعيد النخعي، قال: قال علي - رضي الله عنه -: "مَنْ شرب الخمر فجلدناه فمات وَدَيْنَاه؛ لأنه شيء صنعناه". حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني قال: أنا شريك، عن أبي حُصين، عن عُمير بن سعيد، عن علي - رضي الله عنه - قال: "ما حدَدْتُ أحدًا فمات فيه فوجدت في نفسي شيئًا إلا الخمر، فإن رسول الله -عليه السلام- لم يَسُن فيه شيئًا". فهذا علي - رضي الله عنه - يُخبر أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن يسن في شرب الخمر حدًّا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الطائفة الذين قالوا: لم يكن يستوفي حد شارب الخمر في زمن النبي -عليه السلام- شيء. يقول علي - رضي الله عنه - في حديث عمير بن سعيد الذي رواه البخاري وغيره: وذلك أن رسول الله -عليه السلام- لم يسنه. وذهب الحسن البصري والشعبي وأبو حنيفة ومالكٌ وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية, على أن حدَّ السكران ثمانون سوطًا على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم -. قوله: "فادعوا" أي ادعى هؤلاء الآخرون فسادَ حديث عبد الله الداناج الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، بيان ذلك أنهم قالوا: لا نسلم صدور هذا القول من علي - رضي الله عنه -، فإن عندنا دلائل تدل على أن عليًّا لم يقل

ذلك، وأن الذي روي عنه يخالف ذلك، منها ما روي عنه أنه قال: "لأنه شيء صنعناه" أي لأن الحد في الخمر شيء نحن صنعناه، ولم يَسُن فيه النبي -عليه السلام- شيئًا. أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي المروزي، عن مطرف بن طريف الحارثي، عن عمير بن سعيد النخعي، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن عبد الله بن محمَّد الزهري، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف، عن عمير بن سعيد قال: قال علي - رضي الله عنه -: "كنتُ أدِي من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر؛ فإن رسول الله -عليه السلام- لم يَسُن فيه شيئًا، إنما هو شيء جعلناه نحن". وقد صرَّح بذلك المعنى في الحديث الذي أخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي حصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين- عثمان ابن عاصم الأسدي الكوفي، عن عمير بن سعيد النخعي الصُّهباني الكوفي، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، نا خالد بن الحارث، نا سفيان، نا أبو حصين، سمعت عمير بن سعيد النخعي، سمعت علي بن أبي طالب قال: "ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموت فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وَدَيْتُه، وذلك أن رسول الله -عليه السلام- لم يَسُنَّه". وأخرجه مسلم (¬3): ثنا محمَّد بن منهال الضرير، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سفيان الثوري. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 858 رقم 2569). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2488 رقم 6396). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1332 رقم 1707).

وأخرجه أبو داود (¬1) وابن ماجه أيضًا (¬2). فهذا علي - رضي الله عنه - أخبر أن النبي -عليه السلام- لم يسن في الخمر شيئًا من الحد المقدر، ولذلك قال: "وَدَيْنَاه" وإنما قال ذلك احتياطًا حيث وضع شيئًا لم يسنه رسول الله -عليه السلام-، ومعناه أدينا ديته من وَدَى يَدِي ديةً، أصلها ودية على ما عرف. ويستفاد من هذين الحديثين أحكام: الأول: أن مَن مات فيه من الضرب لأجل السكر تجب الدية على قاتله؛ لقول علي - رضي الله عنه -: "وديناه"، وإليه ذهب الشافعي وقال: وجوب الدية لأجل الإحداث على الأربعين على وجه التعزيز. قلت: لم يفهم من هذا أن الأربعين كان الحد حتى تجب الدية في الإحداث عليها، بل الحديث يدل على أن حد الخمر لم يكن مؤقتا في زمن النبي -عليه السلام-. فإن قيل: روي عن أبي سعيد، عن النبي -عليه السلام-: "أنه ضرب في الخمر أربعين". قلت: فسّر هذا ما رواه أنس - رضي الله عنه -: "أنه -عليه السلام- أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين". أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4). فهذا يبيِّن أنه كان ثمانين، على أن الطبري ادعى أن حد الخمر ثمانون، وأَوَّلَ ضربه -عليه السلام- أربعين بإن المضروب كان عبدًا، أو أنه ضربه كذلك بسوطين، فإذا كان كذلك يكون الثمانون هو جميع الحد، فلا يجب حينئذٍ شيء على أحد إذا مات المحدود من الضرب، وعن هذا قال أصحابنا أن مَن مات مِن ضرب حدٍّ وجب عليه، أنه لا دية فيه على الإِمام ولا على بيت المال، ولكن اختلفوا فيمن مات ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 165 رقم 4486). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 858 رقم 2569). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2488 رقم 6397). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1330 رقم 1706).

من التعزير، فقال الشافعي: عقله على عاقلة الإِمام وعليه الكفارة، وقيل على بيت المال، وجمهور العلماء أنه لا شيء عليه، وقال المنذري: وإذا ضرب الإِمام شارب الخمر أربعين فمات لا يضمنه، ومَن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، وإن جلده واحدًا وأربعين ضمن نصف الدية، وقيل: يضمن جزءًا من أحد وأربعين جزءًا من الدية. قلت: هذا على ما ذهبوا إليه من أن حد السكر كان مقدرًا بأربعين في زمن النبي -عليه السلام- وأما على ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية فلا يتمشى ذلك؛ لأنهم قالوا: إن حد السكر لم يكن موقتا في زمنه -عليه السلام-، وإنما ثبت ذلك واستقر على الثمانين في زمن الصحابة، فصار حدًّا من حدود الله، فلا يجب شيء على أحد إذا مات المحدود. وأما قول علي - رضي الله عنه -: "وديناه" فقد ذكرنا أنه قال ذلك احتياطًا حيث وضع شيئًا لم يسنَّه -عليه السلام-. الثاني: فيه أن وجوب الحد يتعلق بنفس الشرب في الخمر ولا يشترط فيه السكر بخلاف غير الخمر فإنه لا يُحد فيه إلا بالسكر. الثالث: أن حد السكر لم يكن موقتًا في زمن النبي -عليه السلام- على ما ذكرناه. ص: ثم الرواية عن علي - رضي الله عنه - في حد شارب الخمر فعلى خلاف ما في الحديث الأول أيضًا من اختياره للأربعين على الثمانين: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه قال: "أتي علي - رضي الله عنه - بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد وضربه عشرين، ثم قال: إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان وجرأتك على الله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، ثنا سفيان، عن أبي مصعب، عن أبيه "أن رجلًا شرب الخمر في رمضان ثم ذكر نحوه".

ش: هذا من الدلائل الدالة على أن عليًّا - رضي الله عنه - لم يقل ما روي عنه في حديث الداناج، وأن الذي روي عنه خلاف ما روي في حديث الداناج. وأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح، عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه أبي مروان الأسلمي المدني، وثقه ابن حبان وأحمد بن عبد الله، ولا يُعرف اسمه. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث الثوري، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه قال: "أتي علي - رضي الله عنه - بالنجاشي قد شرب خمرًا في رمضان فأفطر فضربه ثمانين، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: إنما ضربتك هذه العشرين لجرأتك على الله وإفطارك [في شهر رمضان] (¬2) ". الثاني: أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن أبي مصعب هو عطاء بن أبي مروان المذكور، عن أبيه أبي مروان. . . . إلى آخره. و"النجاشي" بفتح النون هو على صورة النسبة، شاعرٌ اسمه قيس بن عمرو بن مالك، كذا ذكره الرشاطي. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي، أن ابن شهاب حدثه، أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف حدثه، أن رجلًا من كلب يُقال له: ابن وَبْرة أخبره: "أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يجلد في الشراب أربعين، وكان عمر - رضي الله عنه - يجلد فيها أربعين. قال: فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فقدمت عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ خالدًا بعثني إليك، قال: فيم؟ قلت: إن الناس قد تجافوا العقوبة وانهمكوا في ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 321 رقم 17324). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

الخمر فما ترى في ذلك؟ فقال عمر - رضي الله عنه - لمن حوله: ما ترون؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: نرى يا أمير المؤمنين ثمانين جلدة، فقبل عمر - رضي الله عنه - ذلك". فكان خالد - رضي الله عنه - أول مَن جلد ثمانين، ثم جلد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناسًا بعده. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا أسامة بن زيد الليثي. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: "أتيت عمر بن الخطاب فوجدت عنده عليًّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -، وهم متكئون في المسجد. . . . فذكر مثل ما في حديث يونس، غير أنه زاد في كلام علي - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون وتابعه أصحابه. . . ." ثم ذكر الحديث. أفلا ترى أن عليًّا - رضي الله عنه - لما سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هي، ثم استخرج منها حدًّا برأيه فجعله لحد المفتري، ولو كان عنده شيء مؤقت عن النبي -عليه السلام- لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه أيضًا في ذلك عن رسول الله -عليه السلام- شيء، إذًا لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب الأمثال، فدل ما ذكرنا منه ومنهم أنه لم يكن عندهم في ذلك عن رسول الله -عليه السلام- شيء، فكيف يجوز أن يقبل بعد هذا عن علي - رضي الله عنه - مما يخالف هذا؟! ". ش: هذا أيضًا من الدلائل الدالة على ما ذكرنا. وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي وبر وهو رجل من كلب. ووَبْرة بفتح الواو وسكون الباء. وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده".

الثاني: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن أسامة بن زيد الليثي. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أسامة بن زيد، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي وَبْرة الكلبي قال: "أرسلني خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى عمر - رضي الله عنه -، فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالدًا أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتجافوا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي - رضي الله عنه -: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر - رضي الله عنه -: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد ثمانين، وجلد عمر ثمانين، قال: وكان عمر - رضي الله عنه - إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضًا ثمانين وأربعين". قوله: قال: "فبعثني خالد بن الوليد" القائل هو ابن وَبَرة الكلبي. قوله: "فيم؟ " أي في أي شيء بعثك؟ قوله: "تجافوا العقوبة" أي أبعدوها عن أنفسهم، وأصله من الجفاء -بالجيم- وهو التبعد. قوله: "وانهمكوا" من الانهماك، وهو التمادي في الشيء واللجاج فيه. قوله: "وهم متكئون في المسجد" المتكئ في العربية كل من استوى قاعدًا على وطآء متمكنًا، والعامة لا تعرف المتكئ إلا مَنْ مال في قعوده معتمدًا على أحد شقيه، والياء فيه بدل من الواو، وأصله من الوكاء وهو ما يشد به الكيس وغيره، كأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطآء الذي تحته. قوله: "هذى" من الهذيان وهو اختلاط الكلام، يقال: هَذَى في منطقه يَهْذِي وَيهْذُو هَذْوًا وهَذَيَانًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 320 رقم 17317).

قوله: "افترى" أي كذب، يقال: فَرَى يَفْرِي فَرْيًا، وافْتَرى يَفْتَرِي افتراء، إذا كذب، وهو افتعال منه. قوله: "أفلا ترى. . . ." إلى آخره، توضيح لما قاله فيما قيل من أن عليًّا - رضي الله عنه - لم يكن عنده شيء مؤقت في حد الخمر. قوله: "إذا" أي حينئذ. ص: حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي الله عنه - قال: "شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يؤمئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي حلال، وتأولوا: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا. . . .} الآية (¬1). فكتب فيهم إلى عمر - رضي الله عنه -، فكتب عمر: أن ابعث بهم إليَّ قبل أن يفسدوا مَنْ قِبلك، فلما قدموا على عمر - رضي الله عنه - استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم قد كذبوا على الله -عز وجل- وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي - رضي الله عنه - ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى فيهم أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين". ففي هذا الحديث أن عليًّا - رضي الله عنه - لما سأله عمر - رضي الله عنه - عن حدهم أجابه أنه ثمانون، ولم يقل له: إن شئت جعلته أربعين وإن شئت جعلته ثمانين، فهذا ينفي ما في حديث الداناج مما ذكر فيه عن علي عن النبي -عليه السلام- في الأربعين، ومن اختياره هو بعد ذلك. ش: هذا أيضًا من الدلائل الدالة على فساد ما رواه الداناج في حديثه من تعيين الأربعين في حد الخمر، وإسناده إلى النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [93].

وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن محمَّد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: "شرب قوم من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (¬2) فكتب فيهم إلى عمر - رضي الله عنه -، فكتب أن ابعث بهم إليَّ. . . ." إلى آخره نحوه سواء. ص: وقد روي أن السوط الذي ضُرِبَ به الوليد كان له طرفان، فكانت الضربة ضربتين. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي: "أن عليًّا - رضي الله عنه - جلد الوليد أربعين بسوط له طرفان". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: حدثني أبو الأسود، عن عروة: "أن عليًّا - رضي الله عنه - جلد الوليد -بسوط له ذنبان- أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان - رضي الله عنه -". ففي هذا الحديث أن عليًّا - رضي الله عنه - ضربه ثمانين؛ لأن كل سوط من تلك الأسواط سوطان، فاستحال أيضًا أن يكون علي - رضي الله عنه - يقول: إن الأربعين أحب إليَّ من الثمانين، ثم هو يجلد ثمانين، فهذا أيضًا دليل على فساد حديث الداناج. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 503 رقم 28409). (¬2) سورة المائدة، آية: [93].

ش: هذا أيضًا من الدلائل الدالة على فساد حديث الداناج؛ لأنه من المحال أن يقول علي - رضي الله عنه -: "إن الأربعين أحب إلى" ثم يجلد هو ثمانين. وأخرجه من طريقين: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي الأثرم، عن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - المعروف بالباقر، وهذا إسناد منقطع؛ لأن محمَّد بن علي هذا لم يدرك علي بن أبي طالب. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد ابن علي: "أن عليًّا جلد رجلًا في الخمر أربعين جلدة بسوط له طرفان" ثم قال البيهقي: وكأنه أراد صار أربعين بالطرفين، فقد روينا في الحديث الموصول أنه أمر بجلده أربعين. قلت: إذا جلد بسوط له طرفان أربعين، صار الكل ثمانين لا محالة، وتأويل البيهقي بعيد جدًّا مخالف لمقتضى اللفظ. قال القاضي عياض: المعروف من مذهب علي: الجلد في الخمر ثمانين، ومنه قوله: "في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة"، وروي عنه أنه جلد المعروف بالنجاشي ثمانين، وقد مرَّ ذكره. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم -شيخ البخاري- عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن علي - رضي الله عنه -. وهذا موصول، وفيه ابن لهيعة فيه مقال. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 321 رقم 17325).

ص: وقد روى آخرون عن علي - رضي الله عنه - خلاف ذلك كله: حدثنا فهد، قال: ثنا حسان بن عبد الله (ح) وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الغفار بن داود وعثمان بن صالح، قالوا: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نُبيه بن وهب، عن محمَّد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام-: "أنه جلد رجلًا في الخمر ثمانين". غير أن صالحًا قال في حديثه: "جلد رجلًا من بني الحارث بن الخزرج". وهذا أيضًا فاسد عندنا، لا يثبت عن علي - رضي الله عنه -؛ لما قد روينا عنه متقدمًا من قوله: "إن رسول الله -عليه السلام- مات ولم يَسُن في الخمر حدًّا". وأنهم جعلوه بعده بالتمثيل الذي قد ذكرناه عنه في هذا الباب، ولا يجوز عندنا -والله أعلم- على علي - رضي الله عنه - أن يكون يحتاج في استخراج حد الخمر من ذلك، وعنده فيه عن النبي -عليه السلام- ما في هذا الحديث. ش: أي قد روى قوم آخرون عن علي بن أبي طالب خلاف ما روي فيما تقدم من الروايات كلها. وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن حسان بن عبد الله الواسطي نزيل مصر وشيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد المصري الإسكندراني، عن سعيد بن أبي هلال المصري مولى عروة بن شُيَيم، عن نُبيه بن وهب بن عثمان القرشي العبدري الحجبي، عن محمَّد بن علي المعروف بابن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الغفار بن داود بن مهران الحراني شيخ البخاري، وعن عثمان بن صالح بن صفوان المصري شيخ البخاري أيضًا، كلاهما عن عبد الله بن لهيعة. . . . إلى آخره.

قوله: "وهذا أيضًا فاسد" أي وهذا الحديث أيضًا فاسد لم يثبت عن علي - رضي الله عنه -، وبيّن وجه فساده بقوله: "لما قد روينا عنه"، أي عن علي "متقدمًا من قوله. . . ." إلى آخره، والباقي ظاهر. ص: وقد جاءت الآثار متواترة أن رسول الله -عليه السلام- لم يكن يقص في حد الشارب إلى عدد من الضرب معلوم، حتى لقد بيَّن في بعض ما روي عنه في ذلك مثل ما رويناه عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله -عليه السلام- مات ولم يَسُن فيه حدًّا، فمما روي في ذلك: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب حدثه، عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "كأني أنظر إلى رسول الله -عليه السلام- وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يوم حنين، فبينما هو كذلك أتي برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم مَن ضربه بالعصي ومنهم من ضربه الميتَخَة -يريد الجريدة الرطبة- ثم أخذ رسول الله -عليه السلام- ترابًا من الأرض فرمى به في وجهه". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا أسامة بن زيد، قال: حدثني ابن شهاب، قال: حدثني عبد الرحمن بن أزهر الزهري قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يوم حُنين يتخلل الناس، يسأل عن منزل خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، فأتي بسكران، فأمر مَن كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، ثم حثى عليه التراب، ثم أتي أبو بكر - رضي الله عنه - بسكران، فتوخى الذي قد كان من ضربهم عند رسول الله -عليه السلام-، فضربه أربعين، ثم أتي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بسكران، فضربه أربعين". أفلا ترى أن أبا بكر - رضي الله عنه - إنما كان ضرب بعد النبي -عليه السلام- أربعين على التحري منه لضرب النبي -عليه السلام- الذي كان؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يكن أوقفهم في ذلك على شيء بعينه.

ش: أي قد جاءت الأحاديث متكاثرة، أنه -عليه السلام- لم يكن يقصد في حد شارب الخمر إلى عدد معين في الضرب، وأشار بهذه الأحاديث إلى معنيين: أحدهما هذا، والآخر أن هذه تعضد ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "مات رسول الله -عليه السلام- ولم يَسُنّ فيه حدًّا". وأخرج حديث عبد الرحمن بن أزهر من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر الزهري القرشي عم عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا سليمان بن داود المهري ابن أخي رشدين بن سعد قال: أنا ابن وهب. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): عن القاضي الحسين بن إسماعيل، عن يعقوب الدورقي، عن صفوان بن عيسى، عن أسامة، عن الزهري، عن عبد الرحمن ابن أزهر قال: "رأيت رسول الله -عليه السلام- يوم حنين وهو يتخلل الناس. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3) وفي كتابه "الخلافيات": عن أحمد بن محمَّد الأصبهاني، عن الدارقطني. . . . إلى آخره. قوله: "بالميتَخَة" بكسر الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح التاء المثناة من فوق، والخاء المعجمة، قال ابن الأثير: هكذا جاء في رواية بتقديم الياء على التاء وهي الدرة أو العصا أو الجريدة، وقيل: هي بكسر الميم، وتشديد التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 165 رقم 4487). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 157 رقم 223). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 320 رقم 17317).

وجاء فتح الميم أيضًا، مع تشديد التاء المثناة من فوق قبل الياء. وجاء كسر الميم، مع سكون التاء المثناة من فوق قبل الياء. قال الأزهري: وهذه كلها أسماء لجرائد النخل وأصل العرجون، وقيل: هي اسم للعصا، وقيل: القضيب الدقيق اللين، وقيل: كل ما ضرب به من جريد أو عصًا ودرة وغير ذلك، وأصلها فيما قيل من متَخَ الله رقبته بالسهم: إذا ضربه، وقيل: من تَيَّخَهُ العذاب، وطَيَّخَهُ إذا ألح عليه، فأبدلت التاء من الطاء. قوله: "فتوخى" من توخيت الشيء أتوخاه توخِّيًا، إذا قصدت إليه وتعمدت فعله، وتحريت فيه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد قال: "لا أشرب نبيذ الجرِّ بعد أن أتي رسول الله -عليه السلام- بنشوان، فقال: يا رسول الله، ما شربت الخمر، إنما شربت نبيذ تمر وزبيب في وباء، فأمر به النبي -عليه السلام- فبهز بالأيدي وخفق بالنعال". ش: إسناده صحيح، وأبو التياح -بفتح التاء المثناة من فوق، وتشديد الياء آخر الحروف- واسمه يزيد بن حميد الضبعي، روى له الجماعة. وأبو الودَّاك -بفتح الواو، وتشديد الدال، وفي آخره كاف- اسمه جبر بن نوف الهمداني الكوفي، وثقه يحيى، وعن النسائي: صالح. روى له مسلم ومن الأربعة غير النسائي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعبة، عن أبي التياح، عن أبي الودَّاك. . . . إلى آخره نحوه، وفي آخره: "قال: ونهى عن الزبيب والتمر وعن الدباء". قوله: "نبيذ الجر" وفي رواية: "نبيذ الجرار" الجرّ: بفتح الجيم وتشديد الراء، والجرار: جمع جرة، وهي الإناء المعروف من الفخار، وإنما قال ذلك لأن مراده ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 317 رقم 17301).

الجرار المدهونة، وهي أسرع في الشدة والتخمير، ومنه ما جاء في حديث آخر: "أنه نهى عن نبيذ الجر". قوله: "بنشوان" أي بسكران، وهو من الانتشاء وهو أول السكر ومقدماته، وقيل: هو السكر نفسه، ورجل نشوان بيِّن النشوة. قوله: "في دباء" الدباء القرع، واحدها دباءة، كانوا ينتبذبون فيها فتسرع الشدة في الشراب. قوله: "فبهز" من البهز وهو الدفع العنيف، ومادته باء موحدة، وهاء، وزاي معجمة. قوله: "وخُفق بالنعال" على صيغة المجهول، وكذلك "بُهز" مجهول، وكل ضرب بشيء عريض فهو خفق، يقال: خفق الأرض بنعله، وخفقه بالسيف يخفق إذا ضربه ضربة خفيفة، ومنه المخفقة وهي الدرة التي يضرب بها، والمخفق السيف العريض. ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا نافع ابن يزيد، قال: حدثني ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم حدثه، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي بشارب، فقال: اضربوه، فمنهم من ضربه بيده وبثوبه وبنعله". حدثنا يونس، قال: أنا أنس بن عياض، عن يزيد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن نصر بن مرزوق، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن نافع بن يزيد الكلاعي المصري، روى له الجماعة سوى الترمذي، البخاري مستشهدًا.

عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المصري، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا أبو ضمرة، عن يزيد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- أتي برجل قد شرب، فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تقولوا، هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان". الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا علي بن عبد الله بن جعفر، ثنا أنس بن عياض، ثنا ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "أتي النبي -عليه السلام- بسكران، فأمر بضربه، فمنا مَنْ يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا مَن يضربه بثوبه، فلما انصرف، قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا تكونوا عَون الشيطان على أخيكم". ص: حدثنا فهد، قال: أنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمَّد بن بشر، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة ومحمد بن إبراهيم والزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر قال: "أتي رسول الله -عليه السلام- بشارب يوم حنين، فقال رسول الله -عليه السلام- للناس: قوموا إليه، فقام الناس فضربوه بنعالهم". ش: إسناده صحيح. واسم أبي بكر عبد الله، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، والزهري محمد بن مسلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 162 رقم 4477). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2489 رقم 6399).

والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1). ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث قال: "أتي بالنعيمان إلى النبي -عليه السلام- وهو سكران، فشق على النبي -عليه السلام- مشقة شديدة، قال: فأمر مَن كان في البيت أن يضربوه، قال: فضربوه بالنعال والجريد، قال عقبة: كنت فيمن ضربه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا وهيب. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: بالنعيمان أو بابن النعيمان. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وهيب. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه طرق صحاح. الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن المعلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث بن عامر المكي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الصمد، ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث قال: "أتي رسول الله -عليه السلام- بالنعيمان قد شرب الخمر، فأمر رسول الله -عليه السلام- مَن في البيت فضربوه بالأيدي والجريد والنعال، فكنت فيمن ضربه". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن أيوب. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬3): عن سليمان بن حرب. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 503 رقم 28410). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 7 رقم 16195). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2488 رقم 6393).

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب ابن خالد، عن أيوب. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1) من حديث وهيب، عن أيوب. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "بالنعيمان" بضم النون وفتح العين وسكون الياء آخر الحروف وبعد الألف نون، هو النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد بعدها، وكان كثير المزاح يضحك النبي -عليه السلام- من مزاحه، وكان يشرب الخمر. ص: فدل ما ذكرنا أن رسول الله -عليه السلام- لم يوقفهم في حد الخمر على ضرب معلوم كما أوقفهم في حد الزنا في حق غير المحصن وفي حد القذف. ش: أي فدل ما ذكرنا من الأحاديث أنه -عليه السلام- لم يوقف الصحابة في حد الخمر على عدد معين من الضرب كما أوقفهم على عدد معين في حد الزنا في حق غير المحصن وهو مائة جلدة، وفي حد القذف وهو ثمانون جلدة، فصارت هذه حجة على مَن يدعي التعيين في حق شارب الخمر في زمن النبي -عليه السلام-. ص: فإن قال قائل: فقد روي عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- ضرب في الخمر بنعلين أربعين، فجعل عمر - رضي الله عنه - بكل نعل سوطًا". قيل له: صدقت قد حدثنا بذلك محمَّد بن بحر بن مطر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا المسعودي، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي أو أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -عليه السلام- وعمر - رضي الله عنه - مثل ذلك. فليس في هذا الحديث أيضًا ما يدل أن رسول الله -عليه السلام- قصد بذلك الضرب إلى ثمانين، قد يجوز أن يكون قصد إلى ضرب غير معلوم، فضرب الناس فكان ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 317 رقم 17297).

ضربهم في جملته ثمانين فتوخى عمر - رضي الله عنه - ذلك لما أراد أن يوقف الناس في ذلك على شيء معلوم، فجعل مكان كل نعل سوطًا. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: إن الأحاديث المذكورة كلها قد دلت على أنه -عليه السلام- لم يوقف الصحابة في حد الخمر على عدد معين من الضرب كما أوقفهم في حد الزنا في حق غير المحصن وفي حد القذف، فهذا أبو سعيد قد روى عن النبي -عليه السلام- أنه ضرب في الخمر بنعلين أربعين أربعين، ثم جعل عمر - رضي الله عنه - بكل نعل سوطًا، فصارت الجملة ثمانين، فهذا يدل على التوقيف. وأجاب عن ذلك بقوله: فليس في هذا الحديث. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. وأخرج حديث أبي سعيد عن محمَّد بن بحر البغدادي، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، وثقه ابن المديني وغيره، عن زيد بن الحواري البصري قاضي هراة، المعروف يزيد العمي فيه مقال، عن أبي الصديق بكر بن عمرو البصري الناجي -بالنون والجيم- نسبة إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي، وهي قبيلة كبيرة. قوله: "أو أبي نضرة" شك من الراوي، وهو بالنون والضاد المعجمة، واسمه المنذر بن مالك العوقي البصري. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- ضرب الحد بنعلين أربعين. قال مسعر: أظنه في الخمر". قال الترمذي: حديث أبي سعيد حديث حسن. ص: والدليل على ذلك أيضًا أن عبد الله بن محمَّد بن خُشَيْش حدثنا، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما وُلي عمر - رضي الله عنه - دعا ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 47 رقم 1442).

الناس، قال: ما ترون في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أراه أن تجعله كأخف الحدود، وتجعل فيه ثمانين". فلو كان عمر - رضي الله عنه - قد عَلِم أن ما في حديث أبي سعيد الذي ذكرناه توقيفًا من رسول الله -عليه السلام- الناس على حد الخمر أنه ثمانون، إذًا لما احتاج في ذلك إلى شورى، ولكنه إنما شاور ليستنبطوا وقتًا معلومًا في ذلك لا يتجاوزوه إلى ما هو أكثر منه ولا ينقصوه إلى أقل منه. ش: أي الدليل على ما ذكرنا من أن عمر - رضي الله عنه - توخى ذلك لما أراد أن يوقف الناس في ذلك على شيء معلوم: ما رواه أنس - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد صحيح، عن عبد الله بن محمَّد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن مسلم بن إبراهيم القصاب الأزدي شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، ثم جلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، فلما كان عمر - رضي الله عنه - ودنا الناس في الريف والقرى قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين". وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- كان يضرب الناس في الخمر بالنعال والجريد أربعين. . . ." ثم ذكر نحو الأول، ولم يذكر الريف والقرى. وأخرجه البخاري (¬2) وليس فيه قضية عمر فقال: ثنا مسلم، ثنا هشام، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1331 رقم 1706). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2488 رقم 6394).

عن قتادة، عن أنس قال: "جلد النبي -عليه السلام- في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين". قوله: "أراه أن تجعله" أي أرى أن تجعل حد الخمر كأخف الحدود وهو الثمانون كحد القذف، ثم الذي أشار به على عمر بن الخطاب هو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة كما وقع هاهنا وفي "صحيح مسلم"، ووقع في "الموطأ" وغيره أن الذي أشار على عمر بالثمانين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلا أنه من رواية ثور بن زيد الديلي، عن عمر - رضي الله عنه -، وثور بن زيد لم يدرك عمر، فهو منقطع. قوله: "من الرِّيف" بكسر الراء المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، ثم فاء، وهو كل أرض فيها نخل وزرع، وقيل: هو ما قارب الماء من أرض العرب ومن غيرها، وقيل: الريف أرض فيها زرع وخِصب، وقيل: هو الخِصب والسعة في المأكل والمشرب. ص: وقد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا فهد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام، قالا جميعًا: عن قتادة، عن أنس بن مالك: "أن النبي -عليه السلام- أتي برجل شرب الخمر، فأمر به فضُرب بجريدتين نحوًا من أربعين، ثم صنع أبو بكر - رضي الله عنه - مثل ذلك، فلما كان عمر - رضي الله عنه - استشار النَّاس، فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين أخفّ الحدود ثمانون، ففعل ذلك فيه". ش: هذان طريقان آخران صحيحان: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام-: "أنه أتي برجل قد شرب الخمر، فضربه بجريدتين نحو الأربعين، وفعله أبو بكر - رضي الله عنه -، فلما كان عمر - رضي الله عنه - استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: كأخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر - رضي الله عنه -". قال أبو عيسى: حديث أنس حديث صحيح. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن موسى بن داود الضبي قاضي طرسوس الثقة، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس. أخرجه البيهقي (¬2): من حديث همام، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- وفيه: "فأمر قريبًا من عشرين رجلًا، فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال"، ثم قال: سمعه بهز من همام. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن هشام، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - دعا الناس فقال لهم: إن الناس قد دنوا من القرى والريف، فما ترون في حد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: نرى أن تجعله كأخف الحدود، فجلد فيه ثمانين". قال أبو داود: رواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن النبي -عليه السلام-: "أنه جلد بالجريد والنعال أربعين". ورواه شعبة عن قتادة، عن أنس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ضرب بجريدتين نحو أربعين". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 48 رقم 1443). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 319 رقم 17313). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 163 رقم 4479).

ص: فثبت بما ذكرنا: أن التوقيف في حد الخمر على جلد معلوم إنما كان زمن عمر - رضي الله عنه -، وأن ما وقفوا عليه من ذلك كان ثمانين، ولم يخالفهم في ذلك أحد منهم، فلا ينبغي لأحد منهم أن يدع ذلك ويقول بخلافه؛ لأن إجماع أصحاب رسول الله -عليه السلام- حجة إذ كانوا برآء من الوهم والزلل، وهو كنقلهم الحديث البريء من الوهم والزلل، فلما كان فعلهم الذي نقلوه جميعًا حجة ولا يجوز لأحد خلافه، فكذلك رأيهم الذي رأوه حجة لا يجوز لأحد خلافه. ش: أي فثبت بما ذكرنا من الأحاديث: أن التوقيف في حد الخمر على عدد معين لم يكن في زمن النبي -عليه السلام-، وإنما كان في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ومن الدليل القاطع على صحة هذا: ما رواه أبو داود (¬1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله -عليه السلام- لم يَقِتْ في الخمر حدًّا". قوله: "لم يَقِتْ" أي لم يوقت، يقال: وقت يَقِت، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2) قاله الخطابي، وقال غيره: لم يَقِتْ رسول الله -عليه السلام- أي: لم يقدره ولم يحدده بعدد مخصوص، والتوقيت والتأقيت: أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وَقَّتَ الشيء يُوقِّته وَوَقَتَه يَقِتُه إذا بيَّن حده، ثم اتُّسع فيه فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات. قوله: "أن يدع ذلك" أي أن يترك، من الوَدْع: وهو الترك. قوله: "برآء" جمع بريء، والمراد من الوهم الغلط: من وَهِمَ في الحِسَاب -بالكسر- إذا غلط. ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان ابن بلال، عن ربيعة، عن السائب بن يزيد: "أن عمر - رضي الله عنه - صلى على جنازة، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 568 رقم 4476). (¬2) سورة النساء، آية: [103].

فلما انصرف أخذ بيد ابن له ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إني وجدت من هذا ريح الشراب، فإني سائل عنه، فإن كان سكر جلدناه، قال السائب: فرأيت عمر - رضي الله عنه - جلد ابنه بعد ذلك الحد ثمانين". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: ثنا السائب. . . . فذكر مثله. وهذا بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- أيضًا في التوقيف على حد الخمر أنه ثمانون، فلم ينكره عليه منهم مُنكِر، فدل ذلك على متابعتهم له. ش: ذكر حديث السائب هذا تأييدًا لصحة ما قاله من أن التوقيف في حد الخمر على عدد معين إنما كان في زمن عمر - رضي الله عنه - بإجماع الصحابة على ذلك، حيث لم ينكروا على عمر حين وضع الثمانين على ابنه وقت استشارته إياهم. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي المدني، عن السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي أو الأسدي أو الليثي أو الهذلي الصحابي - رضي الله عنه -. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن السائب. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أنه أخبره: "أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان يُسكر جلدته الحد، فجلده عمر الحد تامًّا". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 842 رقم 1532).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن عيينة، عن الزهري، سمع السائب بن يزيد، سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: ذكر لي أن عبيد الله بن عمر وأصحابًا له شربوا شرابا وأنا سائل عنه، فإن كان يُسكر حددتهم. قال سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن السائب: "فرأيته يحدهم". قوله: "أخذ بيد ابنٍ له" هو عبيد الله بن عمر بن الخطاب. قوله: "بعد ذلك الحد" الحدَّ منصوب بقوله: جلد ابنه. وقوله: "ثمانين" عطف بيان عن الحد. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا -في التوقيف على حد الخمر أنه ثمانون- حديثٌ إن كان ثابتًا، وهو ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا هشام بن يوسف، عن عبد الرحمن بن صخر الإفريقي، عن جميل بن كريب، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد اللهَ بن عمرو، أن النبي -عليه السلام- قال: "من شرب بَسْقة خمر فاجلدوه ثمانين". فهذا الذي وجدنا فيه التوقيف من رسول الله -عليه السلام- في حد الخمر هو ثمانون، فإن كان ذلك ثابتًا فقد ثبتت به الثمانون، وإن لم يكن ثابتًا فقد ثبت عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- ما قد تقدم ذِكرنا له في هذا الباب من إجماعهم على الثمانين ومن استنباطهم إياها من أخف الحدود، فذلك من إجماعهم بعد ما كان خلافه, كإجماعهم على المنع من بيع أمهات الأولاد، وتكبيرات الجنائز، وقد كان خلافه، فكما لا ينبغي خلافهم في ترك بيع أمهات الأولاد، فكذلك لا ينبغي خلافهم في توقيفهم الثمانين في حد الخمر. فهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: قوله: "حديث" مرفوع. بقوله: "روي"، وإنما قال: "إن كان ثابتًا"؛ لأنه حديث منكر، وما ثبت في الصحاح خلافه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (8/ 312 رقم 17274).

وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن إسحاق بن أبي إسرائيل واسم أبي إسرائيل إبراهيم بن كامجرا المروزي وهو شيخ أبي يعلى الموصلي والبخاري في غير "الصحيح" وأبي داود، وثقه يحيى بن معين. يروي عن هشام بن يوسف الصنعاني قاضي صنعاء، قال أبو حاتم: ثقة متقن. عن عبد الرحمن بن صخر الإفريقي لم أقف على من تعرض إليه بشيء (¬1) عن جميل بن كريب المعافري من أهل أفريقية قال ابن يونس: كان من أهل الدين والفضل. عن عبد الله بن يزيد المعافري أبي عبد الرحمن الحبلي المصري روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن يونس في "تاريخه" في ترجمة جميل بن كريب: ثنا أسامة بن علي الرازي، ثنا أحمد بن خالد بن زيد بن خالويه، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا هشام بن يوسف، ثنا عبد الرحمن بن صخر الإفريقي، عن جميل بن كريب، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من شرب بزقة من خمر فاجلدوه ثمانين". قوله: "بزقة" أي بصقة، وفي رواية الطحاوي: بَسْقَةً بالسين، والكل بمعنى واحد، والزاي بدلًا من السين والسين من الصاد. ¬

_ (¬1) ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة جميل بن جرير من "اللسان" (2/ 341) عن ابن حزم أنه قال في كتاب "الإيصال": هو موضوع لا شك فيه، إسناده ظلمات بعضها فوق بعض، ولا يدرى من عبد الرحمن بن صخر، ولا من جميل بن جرير، ولا من عبد الله بن يزيد، ولا من رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل. قال الحافظ: تصحف على ابن حزم ابن عمرو فصبره ابن عمر، ثم تحرف عليه والد جميل وهو كريب. . . . إلخ.

ويستفاد من هذا: وجوب الحد في مطلق الشرب من الخمر سواء كان قليلًا أو كثيرًا. وروى البيهقي (¬1): من حديث الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اجلدوا في قليل الخمر وكثيره، فإن أولها وآخرها حرام". قوله: "كإجماعهم" أي كإجماع الصحابة على المنع من بيع أمهات الأولاد، فإنها كانت تباع في زمن النبي -عليه السلام-. قيل: فيه نظر؛ لأن المنقول عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - جواز بيع أمهات الأولاد. قلت: يجوز أن يكون ذلك في أول خلافة أبي بكر، وفي خلافة أبي بكر إلى صدر خلافة عمر - رضي الله عنه -. والدليل على ذلك ما رواه أبو داود (¬2) عن جابر قال: "بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر، فلما كان عمر - رضي الله عنه - نهانا، فانتهينا". وقال البيهقي: يشبه أن يكون عمر - رضي الله عنه - بلغه عن النبي -عليه السلام- أنه حكم بعتقهن نصًّا، فاجتمع هو وغيره على عتقهن، فالأولى بنا متابعتهم مع الاستدلال بالسنة. قوله: "وتكبيرات الجنائز" أي وكإجماعهم على تكبيرات الجنائز أنها أربع بعد أن كانت سبعًا وخمسًا وأربعًا وثلاثًا، ومنع ابن حزم القول بالإجماع على ذلك فقال: كيف يكون إجماعًا على الأربع وقد كبَّر علي - رضي الله عنه - خمسًا. روى عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كبَّر على جنازة خمسًا". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 313 رقم 17277). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 27 رقم 3954). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 481 رقم 6400، 6402).

وكذلك: "كبَّر عبد الله بن عباس على الجنازة ثلاثًا، وكذلك أنس بن مالك كبَّر ثلاثًا". روى حماد بن [سلمة] (¬1)، عن شيبة بن أيمن: "أن أنس بن مالك صلى على جنازة فكبَّر ثلاثًا". وكذلك: "عبد الله بن مسعود صلى على جنازة وكبَّر خمسًا". وأخرج ابن حزم (¬2) ذلك من حديث زر بن حبيش قال: "رأيت ابن مسعود صلى على جنازة من بلعدان فخذ من بني أسد، فكبَّر عليه خمسًا". ثم قال ابن حزم: أفٍّ لكل إجماع يخرج عنه علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. قلت: روى عبد الرزاق (¬3): عن سفيان الثوري، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: "جمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقالوا: كبَّر النبي -عليه السلام- سبعًا وخمسًا وأربعًا، فجمعهم عمر - رضي الله عنه - على أربع تكبيرات كأطول الصلاة". فهذا إجماع فلا يجوز خلافه، والله تعالى أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "سليمان"، وهو تحريف، والمثبت من "المحلى": (5/ 127). (¬2) "المحلى" (5/ 127). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 479) رقم 6395 وزاد في آخره بعد قوله: "أطول صلاة" قال: يعني الظهر.

ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده؟

ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده؟ ش: أي هذا باب في بيان من سكر أربع مرات كيف يكون الحد في حقه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عاصم، عن ذكوان أبي صالح، عن معاوية ابن أبي سفيان، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن شربوا خمرًا فاجلدوهم، ثم إن شربوها عند الرابعة فاقتلوهم". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سهل بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة بن مقسم، عن معبد القاص، عن عبد الرحمن بن عبد الجدلي، عن معاوية، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عاصم بن أبي النجود المقرئ الكوفي، عن أبي صالح ذكوان الزيات. وأخرجه أبو داود (¬1)، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، عن أبي صالح ذكوان، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن معاوية قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 164 رقم 4482). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 48 رقم 1444).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار، عن شعيب بن إسحاق، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سهل بن بكار الدارمي البصري المكفوف شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن معبد بن خالد الجدلي الكوفي القاصّ، عن عبد الرحمن بن عبدٍ، وقيل: عبد بن عبد -بدون لفظ الله فيهما- المكنى بأبي عبد الله الجدلي، عن معاوية. وأخرجه الطبراني (¬2): نا إبراهيم بن هاشم البغوي، نا كثير بن يحيى، ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن معبد، عن عبد الرحمن بن عبد الجدلي، قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه -ثلاثًا- فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا قرة بن خالد، عن الحسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي -عليه السلام- مثله. قال: فقال عبد الله بن عمرو: "ائتوني برجل قد أقيم عليه الحد ثلاث مرات، فإن لم أقتله فأنا كذاب". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا هدبة، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي -عليه السلام- مثله، ولم يذكر قول عبد الله بن عمرو. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف العجلي البصري، عن قرة بن خالد السدوسي البصري، عن الحسن البصري. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 859 رقم 2573). (¬2) "المعجم الكبير" (19/ 360 رقم 844).

وأخرجه الطبراني: نا محمَّد بن إسحاق بن راهويه، قال: ثنا أبي، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا قرة بن خالد، عن الحسن البصري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه. قال: فكان عبد الله بن عمرو يقول: ائتوني برجل يشرب الخمر ثلاث مرات فلكم علي أن أضرب عنقه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن هدبة بن خالد القيسي البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن همام بن يحيى, عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا عفان، ثنا همام، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن عمرو أن النبي -عليه السلام- قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، ومن شرب الثانية فاجلدوه، ثم إن شرب الثالثة فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا شريك، عن الزهراني. (ح) وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي المدني خال ابن أبي ذئب، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 214 رقم 7003).

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (¬1): عن شبابة بن سوَّار، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاضربوا عنقه". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني، عن ابن أبي ذئب. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن نصر بن عاصم، عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وأخرجه النسائي (¬3) وابن ماجه (¬4) أيضًا. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا داود بن يزيد الأودي، عن سماك بن حرب، عن خالد بن جرير، عن جرير، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: إسناده صحيح. وأخرجه الطبراني (¬5): نا محمد بن شعيب الأصبهاني، نا عبد السلام بن عاصم الرازي، ثنا الصباح بن محارب، ثنا داود الأودي، عن سماك بن حرب، عن خالد بن جرير، عن أبيه قال: قال النبي -عليه السلام-: "مَن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". ¬

_ (¬1) انظر "المحلى" (11/ 367). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 164 رقم 4484). (¬3) "المجتبى" (8/ 313 رقم 5662). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 859 رقم 2572). (¬5) "المعجم الكبير" (2/ 335 رقم 2397).

وأخرجه أيضًا (¬1): عن محمد بن صالح، عن محمد بن المثنى، عن مكي بن إبراهيم، عن داود الأودي، عن سماك، عن خالد، عن أبيه جرير. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا ابن هُبَيْرة، أن أبا سليمان مولى أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- حدثه، أن أبا الرمداء البلوي، أخبره "أن رجلًا منهم شرب الخمر، فأتوا به رسول الله -عليه السلام- فضربه، ثم شرب الثانية فأتوا به فضربه، ثم شرب الخمر فأتوا به فضربه، فما أدري قال في الثالثة أو في الرابعة: فأمر به، فجعل على العجل ثم ضرب عنقه". ش: ربيع هو ابن سليمان المؤذن شيخ أبي داود، وأسد هو ابن موسى ثقة، وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة، فيه مقال، وابن هبيرة هو عبد الله بن هبيرة السبائي المصري، روى له الجماعة سوى البخاري. وأبو سليمان مولى أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- ذكره ابن يونس في الكنى، ولم يتعرض إليه بشيء (¬2). وأبو الرمداء -بفتح الراء وسكون الميم وفتح الدال المهملة- وقيل: أبو الربداء بالباء الموحدة موضع الميم. قال ابن الأثير: أبو الرمداء وقيل: أبو الربداء البلوي مولى لهم، وأكثر أهل الحديث يقولونه بالميم، وأهل مصر يقولونه بالباء. والحديث أخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن أبي سليمان مولى أم سلمة أم المؤمنين، عن أبي الربداء البلوي "أن رجلًا منهم. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 335 رقم 2398). (¬2) ذكره الحافظ ابن حجر في "اللسان" (8/ 63)، وقال: لا يعرف حاله، قاله ابن القطان.

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح المصري، ثنا أبو صالح الحراني، ثنا ابن لهيعة، أن أبا سليمان مولى أم سلمة زوج النبي -عليه السلام- أخبره، أن أبا الرمداء البلوي أخبره: "أن رجلًا منهم شرب الخمر. . . ." إلى آخره نحوه. قوله: "على العِجَل" بكسر العين وفتح الجيم جمع عِجْلة، كقِرَب جمع قِربة، قال أبو حاتم: هي الأنطاع. قال الخولاني: العِجْلة السقاء، والجمع عِجَل، والمراد هاهنا ما قاله أبو حاتم. فهذا كما رأيت فقد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن خمسة أنفس من الصحابة وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وجرير بن عبد الله البجلي، وأبو الرمداء. ولما أخرج الترمذي حديث معاوية قال: وفي الباب عن أبي هريرة، والشريد، وشرحبيل بن أوس، وجرير، وأبي الرمداء البلوي، وعبد الله بن عمرو. قلت: وفي الباب عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله. أما حديث الشريد فأخرجه النسائي (¬2): أنا محمد بن يحيى [بن عبد الله، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، قال] (¬3) ثنا يزيد بن زريع، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عتبة بن عروة بن مسعود، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه". وأما حديث شرحبيل بن أوس فأخرجه الطبراني (¬4): نا أحمد بن عبد الوهاب، ثنا أبو المغيرة وعلي بن عياش الحمصي، قالا: ثنا حريز بن عثمان، أنا أبو الحسن ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (22/ 355 رقم 893). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 256 رقم 5301). (¬3) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى"، و"تحفة الأشراف" (4/ 154 رقم 4845). (¬4) "المعجم الكبير" (7/ 306 رقم 7212).

نمران، عن شرحبيل بن أوس الكندي وكان من أصحاب رسول الله -عليه السلام- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها الثانية فاجلدوه، فإن شربها الثالثة فاجلدوه، فإن شربها الرابعة فاقتلوه". وأما حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فأخرجه البزار في "مسنده": نا محمد بن يحيى القطيعي، ثنا الحجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة، عن جميل بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "مَن شرب الخمر فاجلدوه -ثلاثًا- فإن عاد فاقتلوه في الرابعة". وأما حديث جابر فأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، نا عمي -هو يعقوب بن سعد- نا شريك، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن نبي الله -عليه السلام- قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه، فأتي رسول الله -عليه السلام- برجل منا فلم يقتله". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقلدوها، وزعموا أن من شرب الخمر أربع مرات فحده القتل. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث وجماعة الظاهرية، فإنهم قالوا: من شرب الخمر أربع مرات فإنه يقتل. قال ابن حزم: الرواية في ذلك عن أبي هريرة ومعاوية ثابتة تقوم بها الحجة، والواجب ضم أوامر الله تعالى وأوامر رسوله -عليه السلام- بعضها إلى بعض، والانقياد إلى جميعها والأخذ بها، وأن لا يقال في شيء منها: إنه منسوخ إلا بيقين، وقد صح أمره -عليه السلام- بقتله، ولم يصح نسخه، ولو صح لقلنا به، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 257 رقم 5302).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: حده في الرابعة كحده في الأولى. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جمهور العلماء من التابعين ومَن بعدهم منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: حد شارب الخمر في الرابعة كحده في الأولى، وليس عليه قتل. وقال الترمذي: والعمل على هذا، أي على عدم القتل عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث. ثم قال الشافعي: القتل منسوخ بحديث قبيصة على ما يأتي. وقال غيره: وقد يراد بالأمر الوعيد، ولا يراد به وقوع القتل، وإنما يقصد به الردع والزجر والتحذير. وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبًا ثم نسخ. بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل، وقال بعضهم: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا أنه لا يقتل إذا تكرر منه، إلا طائفة شاذة قالت: يقتل بعد حده أربع مرات؛ للحديث، وهو عند العامة منسوخ. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان قال: ثنا حبان هلال (ح): وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم بن الفضل، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، أن أبا أمامة بن سهل بن حنيف -هكذا قال ابن مرزوق في حديثه، وقال يزيد في حديثه: عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف- قال: "كنا مع عثمان - رضي الله عنه - وهو محصور، فقال: علامَ تقتلوني وقد سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق دينه التارك للجماعة". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون بحديث عثمان - رضي الله عنه - فإنه يخبر أن دم المسلم لا يحل إلا بإحدى معانٍ ثلاث، وشارب الخمر في الرابعة لم يكن داخلا في هذا، فلا يقتل. وقد اعترض ابن حزم على الحنفية، والشافعية، والمالكية هاهنا.

وملخصه: أن هذا الحديث حجة على الحنفية والمالكية في قتلهم الساحر، وعلى الشافعية في قتلهم اللوطي وتارك الصلاة. قلت: أما الحنفية والمالكية فلا حجة عليهم في هذا؛ فإن الساحر يكفر بعمله فيكون داخلًا في الحديث. وأما كونه حجة على الشافعية فظاهر؛ لأن تارك الصلاة خارج عن هذا الحديث فلا يقتل. وأما اللوطي فليس بزاني عند أبي حنيفة فيخرج عن الحديث، وعند صاحبية والشافعي فهو كالزاني فإذا كان محصنًا يكون داخلًا في معنى الحديث، فافهم. ثم إنه أخرج حديث عثمان من طريقين صحيحين: الأول: عن يزيد بن سنان، عن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحد- ابن هلال، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي أمامة قيل: اسمه أسعد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته. والأول هو المشهور. وأخرجه الترمذي (¬1): نا أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة: "أن عثمان أشرف عليهم يوم الدار فقال: أنشدكم الله أن تعلمون أن النبي -عليه السلام- قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث. . . ." الحديث وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ورواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد فرفعه. وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن يحيى هذا الحديث فوقفوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 460 رقم 2158).

وأخرجه البيهقي نحوه (¬1). قوله: "والمفارق دينه" أراد به المرتد المفارق لجماعة المسلمين، قيل: إنه عام في كل مفارق للإسلام بأي ردة كانت منه. وقيل: يحتمل أن يكون خروجه خروجًا يترك به الجماعة، أو يبقى عليها فيُقَاتَل حتى يفيء إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافر ويمكن أن يكون خروجه كفرًا. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا علي بن شيبة وأبو أمية، قالا: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا شيبان، عن الأعمش. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا أبو أمية قال: ثنا قبيصة بن عقبة قال: ثنا سفيان، عن الأعمش. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه حفص، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وهذا الحديث أخرجه الجماعة: فالبخاري أخرجه بهذا الإسناد (¬2): عن عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 18 رقم 15621)، (8/ 194 رقم 16594). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2521 رقم 6484).

ومسلم (¬1) أخرجه: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، وأبي معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة. . . . إلى آخره نحوه غير أن في روايته: "والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وأبو داود: عن عمر بن عون، عن أبي معاوية، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحو رواية مسلم. والترمذي: عن هناد، عن أبي معاوية. . . . إلى آخره. وقال: حسن صحيح. والنسائي: عن بشر بن خالد، عن غندر، عن شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت عبد الله بن مرة، عن مسروق. . . . إلى آخره. وابن ماجه: عن علي بن محمد وأبي بكر بن أبي خلاد، عن وكيع، عن الأعمش. . . . إلى آخره. الثاني: عن علي بن شيبة وأبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، كلاهما عن عبيد الله بن موسى بن حفص التميمي شيخ أبي داود، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي المؤدب، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله. وأخرجه أحمد في "مسنده": عن وكيع، عن الأعمش. . . . إلى آخره. الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني في "سننه": ثنا أبو علي المالكي محمد بن سليمان بن علي: ثنا أبو موسى: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 302 رقم 1676). وهو في "سنن أبي داود" (4/ 126 رقم 4352)، و"جامع الترمذي" (4/ 48 رقم 1444)، (4460 رقم 2158)، و"المجتبى" (7/ 90 رقم 4016)، (8/ 13 رقم 4721)، و"سنن ابن ماجه" (2/ 847 رقم 2534).

عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- قال: "والذي لا إله غيره، لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر: التارك للإسلام المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس". ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن سابق، قال: ثنا زائدة. (ح) وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله. (ح). وحدثنا أبو أمية أيضًا، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا زائدة، قال: محمد بن سابق في حديثه، قال: ثنا سليمان الأعمش، وقال عبيد الله في حديثه: عن الأعمش، فذكر بإسناده مثله. قال سليمان: فحدثت به إبراهيم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن غالب، قال: "دخل الأشتر على عائشة - رضي الله عنها - فقالت: أردت قتل ابن أختي؟ فقال: لقد حرص على قتلي، وحرصت على قتله، فقالت: أما إني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول. . . ." فذكرت مثله. ش: هذه أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن محمد بن سابق البزاز شيخ البخاري في كتاب "الأدب"، عن زائدة بن قدامة، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله. الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبيد الله بن موسى شيخ أبي داود، عن زائدة، عن الأعمش. الثالث: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم، عن عبيد الله بن موسى، عن زائدة، عن الأعمش. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني: ثنا محمد بن مخلد: نا جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: ثنا إبراهيم بن عرعرة: ثنا عبد الرحمن بن مهدي: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن

عبد الله ابن مرة، عن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم. . . ." الحديث. قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم، فقال: حدثني الأسود، عن عائشة. قال: وحدثنا إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن مسروق، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثل حديث عبد الله بن مرة، قال عبد الرحمن: أفسد هذين الحديثين جميعًا حديث مسروق، عن عبد الله، وحديث إبراهيم عن الأسود، ثنا أبو علي المالكي: ثنا أبو موسى: ثنا أبو عامر: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن مسروق، عن عائشة، قالت: "لا يحل دم امرئ مسلم من هذه الأمة إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل فيقتل به، والثيب الزاني، والمفارق للجماعة" أو قال: "الخارج من الجماعة" موقوف. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق: عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن غالب الهمداني الكوفي قال: "دخل الأشتر وهو مالك بن الحارث النخعي الكوفي، وكان أدرك الجاهلية، وكان من شيعة علي - رضي الله عنه -". وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن غالب نحوه. وعن هلال بن العلاء، عن حسين بن علي، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو، عن عائشة به. ولم يرفعه. ص: فهذه الآثار التي ذكرناها تعارض الآثار الأُول؛ لأن النبي -عليه السلام- قد منع في هذه الآثار أن يحل الدم إلا بإحدى الخصال المذكورة فيها، غير أنه قد يحتمل أن تكون هذه الآثار ناسخة للآثار الأول. فنظرنا في ذلك هل نجد شيئًا من الآثار يدل عليه؟ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 91 رقم 4017).

فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه. قال: فثبت الحد ودرئ القتل". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن محمد بن المنكدر حدثه، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في شارب الخمر: إن شرب فاجلدوه -ثلاثًا-، ثم قال في الرابعة: فاقتلوه. فأتي ثلاث مرات برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، ووضع القتل عن الناس". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه حدثه، أنه بلغه عن رسول الله -عليه السلام-، مثله سواء. فثبت بما ذكرنا أن القتل بشرب الخمر في الرابعة منسوخ، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود، وعائشة - رضي الله عنهم - فإنها تعاض الآثار الأُول، وهي الأحاديث التي رواها عن معاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وأبي الرمداء - رضي الله عنهم -. وجه المعارضة بين هذه الأحاديث ظاهر، فإذا وقع التعارض بين الحديثين ينظر هل فيه شيء يدل على النسخ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث جابر المسند، وحديث محمد بن المكندر، وحديث قبيصة المنقطعين تدل على أن قوله -عليه السلام-: "فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" منسوخ. أما حديث جابر فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أصبغ بن الفرج شيخ البخاري، عن حاتم بن إسماعيل، عن شريك بن

عبد الله النخعي، عن محمد بن إسحاق المدني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر ابن عبد الله. وأخرجه النسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعد، ثنا عمي -هو يعقوب بن سعد- نا شريك، عن محمد بن إسحاق. . . . إلى آخره، وقد ذكرناه عن قريب. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬2): أنا ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة، ثنا المنذر بن محمد القابوسي، ثنا أبي، ثنا الحسن بن صالح، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن المنكدر، عن جابر قال: "جلد رسول الله -عليه السلام- نعيمان أربع مرات". فرأى المسلمون حرجًا عظيمًا أن الحد قد وقع وأن القتل قد أُخر". وأما حديث محمد بن المنكدر فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب. . . . إلى آخره. وهؤلاء كلهم رجال الصحيح. وأما حديث قبيصة فأخرجه أيضًا عن يونس، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب. فهؤلاء كلهم أيضًا رجال الصحيح. وقبيصة بن ذؤيب وُلد عام الفتح، وقيل: إنه وُلد أول سنة من الهجرة، ولم يذكر له سماع من النبي -عليه السلام-، وعده الأئمة من التابعين، وذكروا أنه سمع من الصحابة. وإذا ثبت أن مولده في أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون له سماع من النبي -عليه السلام-. وأبوه ذؤيب بن حلحلة، صحابي. والله أعلم. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 257 رقم 5302). (¬2) "مستدرك الحاكم" (4/ 415 رقم 8123)، من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر به.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أنا سفيان، قال الزهري: أنا قبيصة بن ذؤيب، أن النبي -عليه السلام- قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه -في الثالثة أو الرابعة- فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده ورفع القتل، وكانت رخصةً". قوله: "فأتي ثلاث مرات برجل" هو النعيمان أو ابن النعيمان. وقد اعترض ابن حزم في "المحلى" وقال: أما حديث جابر عبد الله فإنه لا يصح؛ لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلًا إلا شريك القاضي عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن ابن المنكدر وهما ضعيفان. وأما حديث قبيصة فمنقطع ولا حجة في منقطع. قلت: لا نسلم أن حديث شريك ضعيف وقد قال يحيى بن معين: شريك صدوق ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة وكان حسن الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقد صحح الحكم وغيره حديثه. وأما حديث زياد بن عبد الله فأخرجه ابن خزيمة، عن محمد بن موسى الجرشي، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وقال: "فإن عاد الرابعة فاقتلوه"، وقال: "فرأى المسلمون أن الحد قد وقع حين ضرب النبي -عليه السلام- نعيمان أربع مرات". وأخرجه البيهقي (¬2) أيضًا من طريق ابن خزيمة. وأما حديث قبيصة وإن كان منقطعًا ولكنه يعتضد بحديث جابر - رضي الله عنه - على أن مولد قبيصة وإن كان أول سنة من الهجرة -على ما قاله بعضهم- يمكن سماعه من النبي -عليه السلام- فيرتفع الانقطاع حينئذٍ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 165 رقم 4485). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 314 رقم 17285).

ص: ثم عدنا إلى النظر في ذلك لنعلم ما هو؟ فرأينا العقوبات التي تجب بانتهاك الحرمات مختلفة، فمنها حد الزنا وهو الجلد في غير الإحصان، فكان من زنى وهو غير محصن فحُدًّ، ثم زنى ثانيةً كان حده كذلك. ثم كذلك حده في الرابعة، فلا يتغير عن حده في أول مرة. وكان مَن سرق ما يجب فيه القطع فحدُّه قطع اليد، ثم ان سرق ثانية فحده قطع الرجل، ثم إن سرق ثالثة ففي حكمه اختلاف بين الناس، فمنهم مَن يقول: تقطع يده. ومنهم مَن يقول: لا تقطع، فهذه حقوق الله -عز وجل- التي تجب فيما دون النفس. وأما حدود الله التي تجب في الأنفس فهي القتل في الردة، والرجم في الزنا إذا كان الزاني محصنًا، فكأن مَن زنى ممن قد أحصن رجم ولم يتتظر به أن يزني أربع مرات، وكان من ارتد عن الإسلام قتل ولم ينتظر به أن يرتد أربع مرات. وأما حقوق الآدميين فمنها أيضًا ما يجب فيما دون النفس، فمن ذلك حد القذف، فكان مَن قذف أربع مرات فحكمه فيما يجب عليه بكل مرة منها هو حكم واحد لا يتغير، ولا يختلف ما يجب من قذفه إياه في المرة الرابعة وما يجب عليه بقذفه إياه في المرة الأولى. فكانت الحدود لا تتغير في انتهاك الحرم، وحكمها كلها حكم واحد، ما كان منها جلد في أول مرة فحكمه كذلك أبدًا، وما كان منها قتل، قتل الذي وجب عليه ذلك بفعله أول مرة ولم يُنتظر به أن يتكرر فعله أربع مرات. فلما كان ما وصفنا كذلك، وكان من شرب الخمر مرةً فحده الجلد لا القتل، كان فى النظر أيضًا عقوبته في شربه إياها بعد ذلك أبدًا كلما شربها الجلد لا القتل، ولا تزيد عقوبته بتكرر أفعاله كما لم تزد عقوبة الذين وصفنا بتكرر أفعالهم. فهذا الذي وصفنا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: وجه هذا القياس والنظر بيِّن جدًّا لا يحتاج إلى مزيد البيان.

قوله: "فمنهم مَن يقول" أي من العلماء من يقول: تقطع يد السارق اليسرى بعد أن سرق ثالثةً، وهو قول مالك، والشافعي. قوله: "ومنهم مَن يقول: لا تقطع" أي في السرقة الثالثة لا يقطع منه شيء، ولكن يُحبس إلى أن يحدث التوبة. وهو قول الزهري، والنخعي، والثوري، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر. وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليسرى، فإن سرق قطعت رجله اليمنى، فإن سرق حبس حتى يحدث توبة. وعن أبي بكر - رضي الله عنه - مثل ذلك، إلا أن عمر - رضي الله عنه - قد روي عنه الرجوع إلى قول علي - رضي الله عنه -.

ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق ش: أي هذا باب في بيان المقدار الذي يجب فيه قطع يد السارق إذا سرقه. ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أتي النبي -عليه السلام- برجل قد سرق حجفة ثمنه ثلاثة دراهم، فقطعه". ش: هذه خمس طرق صحاح: الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عمر بن الخطاب القرشي العمري العدوي المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (¬1): عن مسدد، عن يحيى، عن عبيد الله، حدثني نافع، عن عبد الله قال: "قطع النبي -عليه السلام- في مجن ثمنه ثلاثة دراهم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2493 رقم 6412).

ومسلم (¬1): عن ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم (1): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ الشيخين، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . . نحوه. أخرجه البخاري (¬3): عن إسماعيل، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم". الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس. وأخرجه مسلم (¬4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. والنسائي (¬5): عن قتيبة، عن مالك نحوه. الخامس: عن علي بن معبد، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن إسحاق المدني، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1314 رقم 1686). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 541 رقم 4385). (¬3) "صحيح البخاري" (6/ 2493 رقم 6411). (¬4) "صحيح مسلم" (3/ 1313 رقم 1686). (¬5) "المجتبى" (8/ 76 رقم 4908).

وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا ابن صاعد، ثنا خلاد بن أسلم، ثنا عبد الله بن إدريس، عن يحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق ومالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم". قوله: "في مجن" بكسر الميم، وهو الترس، والميم فيه زائدة، وأصله من جَنَّ يُجن إذا ستر، سمي به لأنه يواري حامله أي يستره، والحجفة -بفتح الحاء المهملة والجيم- الترس أيضًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فكان الذي في هذه الآثار: أن رسول الله قطع في حجفة قيمتها ثلاثة دراهم، وليس فيها أنه لا يقطع فيما هو أقل من ذلك. فنظرنا في ذلك فإذا أحمد بن داود قد حدثنا، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا صالح أبو واقد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن". فعلمنا بهذا أن رسول الله -عليه السلام- وقفهم عند قطعه في المجن، على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن. ش: أراد بهذا الكلام: أن أحاديث عبد الله بن عمر مجرد أخبار عن رسول الله -عليه السلام- أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وهذا لا يدل على أنه لا يقطع فيما هو أقل من ذلك؛ لأنه ليس فيه ما يستلزم نفي ذلك. فإذا كان كذلك، لا تقوم بها حجة لمن يقول: إن شرط القطع أن يكون شيء يساوي ثلاثة دراهم؛ لأن هذا ليس فيه أن لا قطع في أقل من ذلك ولكن حديث سعد بن أبي وقاص يدل على أنه لا يقطع في أقل من قيمة المجن؛ لأنه روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 190 رقم 318).

أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة الليثي المدني -ضعفه يحيى والدارقطني- عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وهيب، ثنا أبو واقد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "يقطع السارق في ثمن المجن". وهذا الحديث يُعلم أنه -عليه السلام- وقف أصحابه عند قطعه في المجن، على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن. ص: فذهب قوم إلى أن السارق يقطع في هذا المقدار الذي قَدَّره ابن عمر في ثمن المجن، وهو ثلاثة دراهم، ولا يقطع فيما هو أقل من ذلك، واحتجوا في ذلك بما رووه عن ابن عمر. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، والليث، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: تقطع يد السارق في ثمن المجن، وهو ثلاثة دراهم، ولا تقطع في أقل من ذلك. واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر المذكور، وبيان مذاهبهم: ما قاله أبو عمر بن عبد البر: وعلى حديث ابن عمر عوّل مالك وأهل المدينة وفقهاء الحجاز وجماعة أصحاب الحديث، فيمن سرق ربع دينار من الذهب أنه يقطع، لكن الشافعي جعل هذا الحديث أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، فإن بلغ العَرْض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه، وهو قول إسحاق وأبي ثور وجماعة من التابعين. وقال الشافعي: ومن سرق فضة وزنها ثلاثة دراهم ليلًا فعليه القطع إذا كانت قيمته ربع دينار؛ لأن الثلاثة دراهم التي قوم بها المجن في حديث ابن عمر، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 862 رقم 2586).

وقوَّم بها عثمان إلا تريجة كانت عندهم في ذلك الوقت من صرف اثني عشر درهمًا بدينار. وكذلك قال أبو داود: القطع في ربع دينار فصاعدًا. والذي عول عليه مالك وجعله أصلًا ترد إليه قيمة العروض المسروقة كلها في هذا الباب هو حديث ابن عمر، فإن كان المسروق ذهبًا عينًا أو تبرًا أو مصوغًا أو غير مصوغ لم ينظر فيه إلى قيمة الثلاثة دراهم، وروعي فيه ربع دينار واعتبر ذلك؛ فإن بلغ ربع دينار وزنًا قطع يد سارقه، وإن كان المسروق فضة اعتبر فيه وزن ثلاثة دراهم كيلًا من وَرِق طيب لا دلسة فيها، وما عدا الذهب والورق فالاعتبار في تقويمه عند مالك وأصحابه الثلاثة دراهم المذكورة دون مراعاة ربع دينار فقف عل هذا فافهمه. وبه قال أحمد بن حنبل. انتهى (¬1). وقال ابن حزم في "المحلى": اختلف الناس في مقدار ما يجب فيه قطع يد السارق، فقالت طائفة: يقطع في كل ما له قيمة، قل أو كثر. وقالت طائفة: أما في الذهب فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا، وأما في غير الذهب ففي كل ما له قيمة، قلت أو كثرت. وقالت طائفة: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار، درهم أو ما يساوي درهمًا. قلت: هذا روي عن الحسن البصري، وهو قول شاذ. وقالت طائفة: لا تقطع إلا في درهمين أو ما يساوي درهمين فصاعدًا. وقالت طائفة: لا تقطع إلا في أربعة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا. وقالت طائفة: لا يقطع إلا في ثلث دينار أو ما يساويه فصاعدًا. وقالت طائفة: لا يقطع إلا في خمسة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا. وقالت طائفة: لا يقطع إلا في دينار ذهب أو ما يساويه فصاعدًا. ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" (14/ 376 - 379).

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في دينار ذهب أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحد العددين فصاعدًا، فإن لم يساو لا دينارًا ولا عشرة دراهم لم يقطع. وقالت طائفة: لا يقطع إلا في عشرة دراهم مضروبة أو ما يساويها فصاعدًا، ولا يقطع في أقل من ذلك. انتهى. وقال الجصاص في "أحكامه": وقال مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي: لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا. قال الشافعي: فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع في ربع دينار، وإن كان ذلك نصف درهم، وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار، وذلك خمسة وعشرون درهما. وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار: لا يقطع في خمسة دراهم، وروي نحوه عن علي وعمر - رضي الله عنه - قالا: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. والله أعلم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأيمن الحبشي وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر؛ فإنهم قالوا: لا يقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا. وروي عن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يقطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة، وروي عن الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة: أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم مما يجوز بين الناس قطع.

وقال أبو عمر: قال الثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم كيلًا، أو دينارًا، أو ذهبًا عينًا أو وزنًا، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل. وقال الكاساني: وروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - مثل مذهبنا. وقال أيضًا: يشترط أن تكون الدراهم المسروقة جياد، حتى لو سرق عشرة دراهم زيوفًا أو نبهرجة أو ستوقة لا يقطع إلا أن تكون كثيرة تبلغ قيمتها عشرة دراهم جيادًا، ويشترط أيضا أن تعتبر عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل، وهل يعتبر أن تكون مضروبة؟ ذكر الكرخي أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة، وهكذا روى بشر، عن أبي يوسف، وابن سماعة، عن محمد: حتى لو كان تبرًا قيمته عشرة دراهم مضروبة لا يقطع، وعن أبي حنيفة: المضروبة وغيرها سواء إذا كانت رائجة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله -عليه السلام- عشرة دراهم". حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو، قالا: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن" قال: وكان يقوم يومئذ دينارًا.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تقطع يد السارق إلا في حجفة"، وقومت يومئذ على عهد رسول الله -عليه السلام- دينارًا أو عشرة دراهم. فلما اختلف في قيمة المجن التي قطع فيه رسول الله -عليه السلام-، احتيط في ذلك، فلم يقطع إلا فيما قد أجمع أن فيه وفاء قيمة المجن التي جعلها رسول الله -عليه السلام- مقدارًا أن لا يقطع فيما هو أقل منها، وهي عشرة دراهم. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأيمن الحبشي، وأم أيمن؛ فإن في أحاديثهم أن قيمة المجن التي قطع فيها رسول الله -عليه السلام- كانت يومئذ دينارًا أو عشرة دراهم، فهذه تخالف ما روي عن ابن عمر أن قيمته كانت ثلاثة دراهم. وروي عن قتادة، عن أنس مرفوعًا أن ثمنه كان ثلاثة دراهم أو خمسة دراهم أو أربعة دراهم، فلما وقع هذا الاختلاف وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق، ولم يثبت الاتفاق فيما دون العشرة، وثبت الاتفاق في العشرة أثبتناها، ولم نثبت ما دونها لعدم الاتفاق فيه. أما حديث ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ إمام أهل الشام، كلاهما عن أحمد بن خالد الوهبي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن العاص المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن السري العسقلاني - ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 136 رقم 4387).

وهذا لفظه وهو أتم- قالا: ثنا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "قطع رسول الله -عليه السلام- يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم". فأن قلت: روى البيهقي هذا الحديث في "سننه" (¬1) وفي كتابه "الخلافيات" من طريق أبي داود، ثم خالفه الحكم، فرواه عن عطاء، ومجاهد، عن أيمن الحبشي، ثم أسنده عن أيمن. فإن كان لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن وأكثر، وكان ثمن المجن يومئذ دينارًا، ثم حكى البيهقي عن البخاري قال: أيمن الحبشي من أهل مكة، مولى ابن أبي عمرة المكي، سمع عائشة، روى عنه ابنه عبد الواحد ثم قال: روايته عن النبي -عليه السلام- منقطعه. قلت: هذان حديثان رواهما عطاء: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أيمن، فلا يعلل أحدهما بالآخر. ولهذا أخرج الحاكم في "المستدرك" (¬2): حديث ابن عباس وقال: صحيح على شرط مسلم، وشاهده حديث أيمن، ثم أخرجه من طريق سفيان، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد، عن أيمن. . . . الحديث. وذكر عبد الرزاق (¬3): عن إبراهيم، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "ثمن المجن الذي يقطع فيه: دينار". قال: وأخبرنيه داود بن الحصين، عن ابن المسيب مثله. وإبراهيم هو ابن أبي يحيى، والشافعي حسَّن الظن فيه. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 257 رقم 16950). (¬2) "مستدرك الحاكم" (4/ 420 رقم 8142، 81432). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 234 رقم 18956).

وقال صاحب "التمهيد" (¬1): ثنا عبد الوارث، ثنا قاسم، ثنا محمد، ثنا يوسف، ثنا ابن إدريس، ثنا محمد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "قوِّم المجن الذي قطع فيه النبي -عليه السلام- عشرة دراهم". وقال النسائي (¬2): ثنا عبيد الله بن سعيد، أنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن شعيب، أن عطاء بن أبي رباح حدثه، أن عبد الله بن عباس كان يقول: "ثمنه عشرة دراهم". وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، كلاهما عن أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وأخرجه النسائي (¬3): أنا خلاد بن أسلم، عن عبد الله -هو ابن إدريس- عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "كان ثمن المجن على عهد رسول الله -عليه السلام- عشرة دراهم". فإن قلت: قد أخرج البيهقي هذا الحديث في "سننه" (¬4) ثم قال: قال الشافعي: هذا رأي من عبد الله بن عمرو. قلت: إذا ذكر الصحابي شيئًا وأضافه إلى زمن النبي -عليه السلام- كان مرفوعًا عندهم، فليس هذا برأي بل هو خبر أخبر به، وهو محمول عندهم على أنه سمعه. وقد أخرج الدارقطني (¬5): من حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم". ¬

_ (¬1) "التمهيد لابن عبد البر" (14/ 380). (¬2) "المجتبى" (8/ 83 رقم 4951). (¬3) "المجتبى" (8/ 84 رقم 4956). (¬4) "سنن البيهقي" (8/ 259 رقم 16955). (¬5) "سنن الدارقطني" (3/ 192 رقم 326).

وفي كتاب "الحجج" لعيسى بن أبان: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال: "مَضَت السنة أن لا تقطع يد السارق إلا في دينار أو عشرة دراهم، ومضت السنة بأن قيمة المجن دينار أو عشرة دراهم". وفي "الحجج" أيضًا: ثنا علي بن عاصم، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو ابن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال: "مضت السنة من رسول الله -عليه السلام- أن لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم". فإن قلت: حكى البيهقي عن الشافعي أنه قال لخصمه: أنت تزعم أن عمرو بن شعيب ليس ممن تقبل روايته. قلت: الحنفية يعملون بروايته ولا يردون شيئًا منها إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، وقد قال البيهقي في "سننه" في باب: مَن قال: يرث قاتل الخطأ: الشافعي كالمتوقف في روايات عمرو بن شعيب إذا لم ينضم إليها ما يؤكدها. وأما حديث أيمن الحبشي فأخرجه: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن معاوية بن هشام القصار الكوفي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن عطاء بن أبي رباح ومجاهد المكي، كلاهما عن أيمن الحبشي المكي. وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه النسائي (¬1): أنا محمود بن غيلان، ثنا معاوية، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عطاء، عن أيمن قال: "لم يقطع النبي -عليه السلام- السارق إلا في ثمن المجن، قال: وثمن المجن يومئذ دينار". أخبرنا محمد بن بشار (¬2)، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن منصور، عن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 82 رقم 4943). (¬2) "المجتبى" (8/ 82 رقم 4944).

مجاهد، عن أيمن قال: "لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله -عليه السلام- إلا في ثمن المجن، وقيمته يومئذ دينار". حدثنا محمد بن بشار (¬1)، ثنا عبد الله بن داود، عن علي بن صالح، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن قال: "لم تقطع اليد في عهد رسول الله -عليه السلام- إلا في ثمن المجن، قال: وثمن المجن يومئذ دينار". وأخرجه النسائي من طرق متعددة (¬2). فإن قيل: حكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: أيمن الذي رواه عنه عطاء رجل حَدَث لعله أصغر من عطاء، روى عنه عطاء حديثًا عن نفيع، عن كعب، فهذا منقطع، فقال خصمه: روى شريك عن مجاهد، عن أيمن ابن أم أيمن، فقال له الشافعي: أخو أسامة، قتل يوم حنين قبل أن يولد مجاهد، ولم يبق بعده -عليه السلام- فيحدث عنه. ثم ذكر البيهقي حديث عطاء عن أيمن مولى ابن الزبير، عن نفيع، عن كعب، ثم قال: وقد أشار البخاري إليه في "التاريخ" واستدل هو وغيره بذلك عل أن حديثه في المجن منقطع. قلت: كلام الشافعي يعطي أن أيمن الذي روى عنه عطاء غير ابن أخي أسامة، وأنهما رجلان. وقد حكاه صاحب "المستدرك" (¬3): عن الشافعي ما صرَّح من هذا، فذكر ما حكيناه عنه من حديث الحكم، عن مجاهد، عن أيمن، ثم قال: سمعت أبا العباس، سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: أيمن هذا هو ابن ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 83 رقم 4946). (¬2) "المجتبى" (8/ 83 رقم 9447، 9450). (¬3) "مستدرك الحاكم" (4/ 420 رقم 8143).

امرأة كعب وليس بابن أم أيمن، ثم قال الحاكم: والدليل على صحة قول الشافعي ما حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى، أنا جرير، عن منصور، عن عطاء ومجاهد، عن أيمن -قال: وكان أيمن رجلًا يذكر منه خيرٌ- قال: "لا تقطع يد السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمن المجن يومئذ دينارًا". فأيمن بن أم أيمن الصحابي أخو أسامة لأمه أجل وأنبل من أن ينسب إلى الجهالة فيقال: كان رجلًا يذكر منه خير إنما تقال مثل هذه اللفظة لمجهول لا يعرف بالصحبة. انتهى كلامه. وظاهر كلام البيهقي أنهما رجل واحد، وقد صرَّح بذلك جماعة، فقال أبو حاتم بن حبان في "الثقات": أيمن بن عبيد الحبشي هو الذي يقال له: أيمن بن أم أيمن مولى النبي -عليه السلام-، نسب إلى أمه، وكان أخًا لأسامة لأمه، ومن زعم أن له صحبة فقد وهم، وحديثه في "القطع" مرسل. وفي "معرفة الصحابة" لابن منده: أيمن بن أم أيمن، وهو ابن عبيد بن عمرو أخو أسامة لأمه، أمهما أم أيمن حاضنة النبي -عليه السلام- ثم ذكر ابن منده عن ابن إسحاق قال: وممن شهد مع رسول الله -عليه السلام- حنينًا من أهل بيته أيمن بن عبيد، وكانت أمه أم أيمن مولاة رسول الله -عليه السلام-، وكان أخًا لأسامة لأمه. وفي كتاب ابن أبي حاتم: أيمن الحبشي مولى أبي عمرو، روى عن عائشة وجابر ونفيع، روى عنه مجاهد، وعطاء، وابنه عبد الواحد. وقال البخاري: روى منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن بن أم أيمن، قال: وأيمن رجل من التابعين لم يدرك النبي -عليه السلام-. ذكر ذلك ابن أبي حاتم في ترجمة واحدة، فهو تصريح بأنهما واحد. وفي "الاستيعاب" لابن عبد البر: أيمن بن عبيد الحبشي هو أيمن بن أم أيمن

مولاة رسول الله -عليه السلام-، أخو أسامة لأمه، كان ممن بقي مع رسول الله -عليه السلام- يوم حنين ولم ينهزم، وذكره ابن إسحاق فيمن استشهد يوم حنين. وذكر الطحاوي أنه صحابي معروف الصحبة، وقال في "أحكام القرآن": ولد في عهده -عليه السلام-، وعاش بعد وفاته -عليه السلام-، وإذا ثبت أنهما واحد وأن أيمن بن أم أيمن من الصحابة، كما عده جماعة منهم، وأنه بقي بعد النبي -عليه السلام- كما ذكره الطحاوي، تحمل رواية مجاهد عنه على الاتصال. فإن قيل: هو صحابي كما زعم الشافعي وغيره فرواية مجاهد عنه مرسلة، وإن كان من التابعين كما زعم البخاري وغيره فروايته مرسلة، والقائل بهذا الحديث يحتج بالمرسل كيف وقد تأيد بحديث ابن عباس الذي صححه صاحب "المستدرك"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه ثان، وصاحب "التمهيد" من وجه ثالث، والنسائي من وجه رابع على ما ذكرناه، وتأيد أيضًا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - المذكور، وبما ذكرنا عن سعيد بن المسيب. وأما حديث أم أيمن مولاة النبي -عليه السلام- فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن -حاضنة النبي -عليه السلام- يقال: اسمها بركة- عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في كتابه "الخلافيات": أنا عبد الواحد بن محمد بن إسحاق بالكوفة، نا أبو هاشم بن عمر -هو الأعمش- نا أبو حفص، نا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تقطع يد السارق إلا في حجفة، وقومت يومئذ على عهد النبي -عليه السلام- دينارًا أو عشرة دراهم". فإن قيل: أيمن هذا عده جماعة من الصحابة، وقالوا: إنه قتل يوم حنين ولم يدركه عطاء، فيكون الحديث منقطعًا.

قلت: قد بسطنا الكلام فيه في الحديث السابق، وملخصه وهاهنا أيضًا: أن أيمن إن كان من الصحابة - رضي الله عنهم - ومات يوم حنين على ما قاله ابن إسحاق يكون الحديث منقطعًا، ولكن تأيد بحديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو، وإن كان تأخر وفاته إلى ما بعد النبي -عليه السلام- كما زعمه الطحاوي يكون الحديث متصلًا، وإن كان من التابعين على زعم الشافعي وغيره، فيكون أيضًا متصلًا لا محالة، فافهم. ص: وذهب آخرون إلى أنه لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا. ش: أي ذهب قوم آخرون إلى أن السارق لا تقطع يده إلا في ربع دينار فصاعدًا، وأراد بهم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق. ولما أخرج الترمذي (¬1) حديث عائشة هذا قال: والعمل على هذا عند بعض فقهاء التابعين، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، رأوا أن القطع في ربع دينار فصاعدًا. فإن قلت: ما ذهب إليه هؤلاء هو بعينه ما ذكره الطحاوي من مذهب أهل المقالة الأولى، فلم ذكر هاهنا أيضًا بقوله وذهب آخرون؟. قلت: لفائدة خفية لا يفهمها إلا مَن له دقة نظر، وهو أن هؤلاء وأصحاب المقالة الأولى لا شك أنهم كلهم يخالفون أصحاب المقالة الثانية، وأنهم كلهم يحتجون بحديث عبد الله بن عمر المذكور في أول الباب، وبحديث عائشة هذا كما يأتي الآن، ولكن لما كان الشافعي وأحمد وإسحاق اعتبروا تقويم الفضة والعروض بربع دينار في وجوب القطع، حتى أن مَن سرق فضة وزنها ثلاثة دراهم لا يجب عليه القطع عندهم إلا إذا كانت قيمتها ربع دينار، أفرد ذكر خلافهم هاهنا أيضًا لذلك المعنى بعد أن كانوا داخلين في أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 50 رقم 1445).

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: كان النبي -عليه السلام- يقطع في ربع دينار فصاعدًا". قيل لهم: ليس في هذا أيضًا حجة على مَن ذهب إلى أنه لا يقطع إلا في عشرة دراهم؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - إنما أخبرت عما قطع فيه رسول الله -عليه السلام-، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه، فكانت قيمته عندها ربع دينار، فجعلت ذلك مقدار ما كان النبي -عليه السلام- يقطع فيه. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة. أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة، فالبخاري (¬1): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة عن النبي -عليه السلام- قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار". ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وأبو داود (¬3): عن ابن السرح، عن ابن وهيب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-. والترمذي (¬4): عن علي بن حُجر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2492 رقم 6407). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1312 رقم 1684). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 136 رقم 4384). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 50 رقم 1445).

والنسائي (¬1): عن أبي صالح، عن ابن أبي حازم، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن ماجه (¬2): عن أبي مروان، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "قيل لهم. . . . إلى آخره" جواب عن حديث عائشة المذكور، وملخصه: أن ذلك إخبار عن عائشة عن قطع رسول الله -عليه السلام- بتقدير منها لثمن المجن اجتهادًا، ولا حظ للاجتهاد مع النص، والدليل عل ذلك أن حماد بن زيد روى هذا الحديث عن أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمرة، عن عائشة موقوفًا. وجواب آخر أنه تعارضه الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الثانية، والعمل بها أولى من حديث عائشة؛ لأن في حديث عائشة يُبيح القطع فيما دون العشرة، وفي أحاديثهم لا يبيح ذلك بل فيه الحظر عما دون العشرة، وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة، فافهم. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". فقالوا: هذا إخبار من عائشة عن قول النبي -عليه السلام-، فدل ذلك أن ما ذكر عنها في الحديث الأول من قطع النبي -عليه السلام- في ربع دينار فصاعدًا أنها إنما أخذت ذلك عن رسول الله -عليه السلام- مما وقفها عليه على ما في هذا الحديث لا من جهة تقويمها لما كان قطع فيه. ش: أي احتج أهل المقالة الثالثة أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة المذكور آنفًا الذي أجاب عنه أهل المقالة الثانية بما أجابوا بحديث عائشة الآخر الذي ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 79 رقم 4928). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 862 رقم 2585).

أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، كلاهما عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1) هكذا كما ذكرنا عن قريب فقالوا: هذا الحديث فيه إخبار عن عائشة عن قول النبي -عليه السلام- أنه قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" فدل حديثها هذا أن ما ذكرت في حديثها الأول إنما كان عن رسول الله -عليه السلام- مما وقفها عليه، ولم يكن من جهة اجتهادها في التقويم لما كان يقطع فيه. ص: قيل لهم: هذا كما ذكرتم لو لم يختلف في ذلك عنها، فقد روى ابن عيينة عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة ما قد ذكرنا في الفصل الأول، فكان ذلك إخبارًا منها عن فعل النبي -عليه السلام- لا عن قوله. ويونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة، فكيف تحتجون بما روى وتدعون ما روى ابن عيينة؟! ش: أي قيل لهؤلاء في جواب ما ذكروا من قولهم: "فدل ذلك أن ما ذكر عنها في الحديث الأول. . . ." إلى آخره. وتقريره أن يقال: كنا نسلم ما ذكرتم من ذلك لو لم يختلف في ذلك عن عائشة - رضي الله عنها -، وقد اختلف كما ذكرنا، ففي رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة عنها إخبار منها عن فعل النبي -عليه السلام- لا عن قوله، وتعيين المقدار اجتهاد منها كما قد ذكرنا، وفي رواية يونس بن يزيد الأيلي إخبار عن قوله -عليه السلام-، ويونس هذا لا يقارب عندكم ولا عند غيركم سفيان بن عيينة، فكيف تحتجون بقول يونس وتتركون قول سفيان؟! فإن قيل: لا نسلم أن يونس لا يقارب سفيان بن عيينة، وقد قال يحيى: ¬

_ (¬1) "تقدم ذكره".

أثبت أصحاب الزهري معمر ويونس، وقال أحمد بن صالح المصري: نحن لا نقدم في الزهري على يونس أحدًا. قلت: سفيان إمام، عالم، ورع، زاهد، حجة، ثقة، ثبت، مجمع على صحة حديثه، وكيف يقاربه يونس بن يزيد، وقد قال ابن سعد: كان يونس حلو الحديث وكثيره، وليس بحجة ربما جاء بالشيء المنكر. ص: قالوا: فقد روي هذا الحديث أيضًا من غير هذا الوجه عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - كما رواه يونس بن يزيد، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". قيل لهم: فكيف تحتجون بهذا وأنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه حرفًا، وإنما روى عنه مرسلًا، وأنتم لا تحتجون بالمرسل، فمما يذكرون مما ينفون به سماع مخرمة من أبيه: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، عن خاله، قال: سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئًا؟ فقال: لا. ش: هذا اعتراض آخر من أهل المقالة الثالثة، بيانه أن يقال: سلمنا أن يونس بن يزيد لا يقارب سفيان بن عيينة، ولكن قد روي هذا الحديث من غير الوجه المذكور عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة على نظير ما رواه يونس بن يزيد، وهو ما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بُكير، عن أبيه بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، عن عائشة. وأخرجه النسائي (¬1): عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عروة، عن عائشة نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 81 رقم 4936).

فأجاب عنه بقوله: "قيل لهم:. . . ." إلى آخره؛ بيانه أن يقال: إن مخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا -وأنتم قائلون به- فيكون حديثه منقطعًا، وأنتم لا تحتجون بمثله، فكيف توردونه حجة على خصمكم؟ قوله: "فمما يذكرون" أي فمن الذي يذكرون ما ينفي سماع مخرمة من أبيه: ما رواه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن خاله موسى بن سلمة المصري، أنه قال: سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئًا؟ فقال: لا. وقال أحمد بن حنبل: مخرمة بن بكير ثقة ولم يسمع من أبيه شيئًا، إنما يروي من كتاب أبيه. وقال يحيى بن معين: مخرمة بن بكير يقال: وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمع منه شيئًا. وعنه: ضعيف. وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا وهو حديث الوتر. وقال ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة موسى بن سلمة: حدثني الحسن بن محمد بن الضحاك الفارسي، ثنا أحمد بن، سعد، ثنا عمي سعيد بن أبي مريم، قال: سمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت عبد الله بن يزيد بن هرمز فسألته أن يحدثني، فقال: ليس ذاك عندي، ولكن إن أردت الحديث فعليك بمحمد بن عمرو بن علقمة، قال: وسمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت مخرمة بن بكير فقلت له: أخرج إليَّ بعض كتب أبيك، فأخرج إليَّ منها، فقلت له: سمعت من أبيك؟ فقال: لا، لم أسمع من أبي شيئًا، قال: وسمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت سفيان الثوري فسألته عن بعض الحديث، قال: فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من مصر، قال: فقال: ما لأهل مصر وللحديث. ص: قالوا: فإنه قد روي هذا الحديث عن عمرة كما رواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد أيضًا.

وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي -عليه السلام- قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". قيل لهم: قد روى هذا الحديث عن يحيى مَن هو أثبت من أبان فأوقفه على عائشة ولم يرفعه إلى رسول الله -عليه السلام-. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "ما طال عَليَّ ولا نسيت، القطعُ في ربع دينار فصاعدًا". حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا الحميدي، عن سفيان، قال: ثنا أربعة، عن عمرة، عن عائشة لم يرفعوه: عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حُكيم الأيلي، ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد، والزهري أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: "ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار فصاعدًا". حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، أنها سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: "القطع في ريع دينار فصاعدًا". فكان أصل حديث يحيى عن عمرة هو ما ذكرنا مما رواه عنه أهل الحفظ والإتقان مالك وابن عيينة، لا كما رواه أبان بن يزيد، فقد عاد حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة إلى نفسها إما لتقويمها ما قد خولفت في تقويمه، وإما لتوقيتها ما قد خولفت في توقيته، ولم يثبت فيه عنها عن النبي -عليه السلام- شيء. وأما ما استدل به ابن عيينة على أن حديث عائشة مما رواه يحيى بن سعيد، عن عمرة عنها مرفوع بقولها: "ما طال عليَّ ولا نسيت" فإن ذلك عندنا لا دلالة فيه على ما قد ذكرتم، وقد يجوز أن يكون معناها في ذلك: ما طال عليَّ ولا نسيت ما قطع فيه رسول الله -عليه السلام- مما كانت قيمته عندها ربع دينار، وقيمته عند غيرها أكثر

من ذلك، فيعود معنى حديثها هذا إلى معنى ما قد رويناه عنها قبل هذا، من ذكرها ما كان النبي -عليه السلام- يقطع فيه، ومن تقويمها إياه بربع دينار. ش: هذه معارضة أخرى من أهل المقالة الثالثة، بيانها أنهم قالوا: قد قلتم في رواية يونس بن يزيد ما قلتم، وقد رواه أيضًا أبان بن يزيد العطار كما رواه يونس بن يزيد الأيلي؛ فإنه روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، أن النبي -عليه السلام- قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". فهذا أيضًا إخبار عن عائشة من قول النبي -عليه السلام-. أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن أبان بن يزيد العطار. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل، أنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبان، نا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، أن النبي -عليه السلام- قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له" بيانه أن يقال: إن هذا الحديث قد رواه عن يحيى بن سعيد مَن هو أثبت من أبان بن يزيد، فأوقفه على عائشة ولم يرفعه إلى رسول الله -عليه السلام-، وهو ما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره. ولا شك أن مالكًا أثبت وأتقن من أبان بن يزيد، ووافقه على ذلك سفيان بن عيينة أيضًا فإنه قال: ثنا أربعة، عن عمرة، عن عائشة لم يرفعوه، وهم: عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، روى له الجماعة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 79 رقم 4923).

ورُزيق -بضم الراء المهملة وفتح الزاي المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قاف- ابن حُكيم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف- الأيلي، عامل عمر بن عبد العزيز على أيلة، وثقه النسائي. ويحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، روى له الجماعة. وأخوه عبد ربه بن سعيد، وثقه يحيى، روى له الجماعة. أخرجه عن محمد بن إدريس المكي وراق الحميدي، عن الحميدي وهو عبد الله بن الزبير بن عيسى شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أنا قتيبة، ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد وعبد ربه، ورزيق -صاحب أيلة- أنهم سمعوا عمرة، عن عائشة قالت: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". قوله: "والزهري أحفظهم كلهم" من تتمة حديث ابن عيينة أن محمد بن مسلم الزهري أحفظ الأربعة المذكورين. وقوله: "كُلِّهم" بالجر على ما لا يخفى. فإن قلت: هذا الكلام من ابن عيينة يدل على أن رفع الحديث المذكور أصح وأثبت؛ لأنه من رواية الزهري، وهو أتقن من الأربعة الذين رووه موقوفًا. قلت: والزهري وإن كان قد رواه مرفوعًا فقد رواه موقوفًا أيضًا. أخرجه النسائي (¬2): من حديث ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا". وهذا يرد على مَن يقول: لا يختلف على الزهري في رفع هذا الحديث، فافهم. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 79 رقم 4926). (¬2) "المجتبى" (8/ 78 رقم 4920).

قوله: "إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع" يعني قول عائشة: "ما نسيت ولا طال عليَّ"، يدل على أنها سمعت قولها: "القطع في ربع دينار فصاعدًا"، عن النبي -عليه السلام-، وهذه دلالة غير صريحة، فلا يحتج بها على الخصم. قوله: "حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض. . . . إلى آخره" إشارة إلى أن أنس بن عياض بن حمزة المدني أيضًا وافق مالكًا على الوقف. أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. . . . إلى آخره. ووافقه أيضًا ابن إدريس على ذلك. فقال النسائي (¬1): أنا محمد بن العلاء، ثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". قال النسائي: هذا الصواب من حديث يحيى، فإذا كان كذلك يكون أصل حديث يحيى: عن عمرة، عن عائشة موقوفًا، كما رواه هؤلاء الأثبات لا كما رواه أبان بن يزيد العطار، فعاد الحديث إلى نفس عائشة إما لكونها قد قومت ما قد خولفت في تقويمه، وإما لكونها وقتت ما قد خولفت في توقيته، ولم يثبت فيه عنها عن النبي -عليه السلام- شيء. وقال بعض المحققين: إذا فتش أصل هذا الحديث فظهر فيه الوقف والرفع والإرسال ويتبين فيه الاضطراب في متنه وفي سنده. قوله: "وأما ما استدل به ابن عيينة. . . . إلى آخره" جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن أصل حديث يحيى عن عمرة: هو ما ذكرنا، يعني أنه موقوف كما رواه أهل الحفظ والإتقان مالك وابن عيينة، لا كما رواه أبان بن يزيد عن يحيى مرفوعًا، وكيف يكون ابن عيينة مع مالك في ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 79 رقم 4925).

الوقف، وقد قال في حديث يحيى ما يدل على الرفع وهو قول عائشة: "ما نسيت وما طال عليَّ، القطع في ربع دينار فصاعدًا". وتقرير الجواب أن يقال: إنه لا دلالة فيه عل ما قد ذكرتم، لأنه يحتمل أن يكون معنى كلامها هذا: ما طال عليَّ ولا نسيت ما قطع فيه رسول الله -عليه السلام- فما كانت قيمة ذلك المسروق عندها باجتهادها ربع دينار ويكون عند غيرها أكثر من ربع دينار؛ لأن تقويم المقومين يختلف في القيمة، فحينئذ يعود معنى حديثها هذا إلى معنى الحديث الذي مَرَّ ذكره قبل ذلك عند قوله: "ليس لهم في هذا أيضًا حجة على مَن ذهب إلى أنه لا يقطع إلا في عشرة دراهم. ص: فإن قالوا: فقد رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة مثل ما رواه أبان بن يزيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني ابن الهاد، عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن الهاد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن محمد بن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه معارضة أخرى من أهل المقالة الثالثة، توجيهها أن يقال: قد قلتم ما قلتم فيما رواه أبان بن يزيد العطار، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة.

فهذا أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد روى عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". فهذا أيضًا مثل ما رواه أبان، وهو إخبار من عائشة - رضي الله عنها - عن قول النبي -عليه السلام-. أخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن محمد بن إدريس المكي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني بشر بن الحكم العبدي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة أنها سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن القرشي الزهري المدني، عن يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا: ثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن مثنى وإسحاق ابن منصور، جميعًا عن أبي عامر العقدي، قال: ثنا عبد الله بن جعفر -من ولد المسور بن مخرمة- عن يزيد بن عبد الله بن الهاد. . . . بهذا الإسناد مثله. الثالث: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح المصري وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1313 رقم 1684). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1313 رقم 1684).

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن هشيم بن بشير، عن محمد بن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد عن عمرة، عن عائشة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث محمد بن إسحاق، عن أبي بكر ابن محمد، عن عمرة، عن عائشة نحوه. ص: قيل لهم: قد روي هذا كما ذكرتم، ولكنه لا يجب على أصولكم أن تعارضوا بهذا الحديث ما روى الزهري ولا ما روى يحيى وعبد ربه ابنا سعيد؛ لأن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ليس له من الإتقان ولا من الحفظ ما لأحد من هؤلاء، ولا لمن روى هذا الحديث أيضًا عن أبي بكر بن محمد -وهو ابن الهاد- ومحمد بن إسحاق عندكم من الإتقان للرواية والحفظ ما لمن روى حديث الزهري ويحيى وعبد ربه ابني سعيد عنهم. ش: هذا جواب المعارضة المذكورة، وبيانه أن يقال: سلمنا ما رويتم من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه كذلك، ولكن هذه المعارضة لا تمشي -على قاعدتكم- بهذا الحديث ما رواه الزهري، عن عمرة، عن عائشة. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. ص: وقد خالف أيضًا أبا بكر بن محمد -فيما روى عن عمرة من هذا- ابنه عبد الله بن أبي بكر. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة قالت: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". ش: هذا جواب آخر، وهو أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وإن كان روى هذا الحديث عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا، فقد خالفه ابنه عبد الله بن أبي بكر هذا، ورواه عن عمرة، عن عائشة موقوفًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 255 رقم 16940).

أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قالت عائشة: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". وأخرجه النسائى (¬1): عن الحارث بن مسكين قراءة عليه وهو يسمع، عن ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة قالت: قالت عائشة: "القطع في ربع دينار فصاعدًا". ص: وقد خالفه في ذلك رزيق بن حكيم، فرواه عن عمرة مثل ما رواه عبد الله بن أبي بكر، ويحيى، وعبد ربه، عنها. ش: أي وقد خالف أبا بكر بن محمد أيضًا في رفعه هذا الحديث رُزَيق -بالراء المهملة المضمومة ثم الزاي المعجمة المفتوحة- ابن حُكَيم -بضم الحاء- الأيلي، فإنه روى هذا الحديث عن عمرة، عن عائشة موقوفًا، مثل ما رواه عبد الله بن أبي بكر بن محمد ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد، عن عائشة. ص: فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة كثرة الرواية؛ فإن من روى حديث عمرة بخلاف ما روى عنها أبو بكر بن محمد أكثر عددًا، وإن كان يؤخذ من جهة الإتقان في الرواية والحفظ؛ فإن لمن روى حديث عمرة عنها -من يحيى وعبد ربه- من الإتقان في الرواية والضبط لها ما ليس لأبي بكر بن محمد. ش: أشار بهذا أن الحديث إذا روي مرفوعًا وموقوفًا لا يخلو إما أن يكون ترجيح أحد النوعين على الآخر من حيث كثرة عدد رواته، أو من حيث إتقان رواته وضبطهم، فإن كان من حيث الكثرة فإن من روى عن عمرة، عن عائشة موقوفًا أكثر عددًا ممن رواه عن عمرة عنها مرفوعًا، وإن كان من حيث ضبط الرواة وإتقانهم فلا شك أن يحيى وعبد ربه ابني سعيد لهما من الضبط والإتقان ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 80 رقم 4930).

ما ليس لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فإذًا لم يقم لهؤلاء المعارضين ما يحتجون به على أهل المقالة الثالثة. ص: فإن قالوا: فقد رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره عن عمرة مثل ما رواه عنها أبو بكر بن محمد، فذكروا في ذلك ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن العلاء بن الأسود بن جارية وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خُنَيْس: "أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها، فقالت: قالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا قطع إلا في ربع دينار". قيل لهم: أما أبو سلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة منه سماعًا، ولا نعلمه لقيه أصلًا، فكيف يجوز أن تحتجوا بمثل هذا على مخالفكم وتعارضون به ما رواه عن عمرة مَن قد ذكرناهم؟! ش: هذه معارضة أخرى، وتوجيهها أن يقال: قد روى هذا الحديث أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف وغيره، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا، كما رواه أبو بكر بن محمد عن عمرة عنها مرفوعًا، وكفى بأبي سلمة حجة. وأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن العلاء بن الأسود بن جارية وأبي سلمة عبد الله، وكثير بن خُنيس -بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة- كذا ذكره البخاري في "تاريخه" في باب الخاء المعجمة، وكذا ابن أبي حاتم في "كتاب الجرح والتعديل". والجواب هو أن يقال: لا نسلم صحة رواية جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة عبد الله، فإنه لم يثبت سماعه منه، ولا علم لقيه إياه أصلًا.

فإذا كان كذلك فكيف يجوز الاحتجاج بمثل هذا الحديث على الخصم؟ أم كيف تجوز به المعارضة لما قد رواه عن عمرة مَن قد مضى ذكرهم من الأثبات. وأما العلاء بن الأسود فقد قال أبو زرعة: شيخ ليس بالمشهور ويقال له: الأسود بن العلاء. قال ابن أبي حاتم: العلاء بن الأسود والأسود بن العلاء كلاهما واحد. وقال ابن ماكولا: وكثير بن خُنَيس سمع عمرة بنت عبد الرحمن، روى عنه الأسود بن العلاء أو العلاء بن الأسود، قاله البخاري. وجارية -بالجيم- وقد وقع في كثير من نسخ الطحاوي: العلاء بن الأسود، والله أعلم. ص: وإن احتجوا في ذلك أيضًا بحديث الزهري، فإنه حدثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: إن رسول الله -عليه السلام- قال: "يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "السارق إذا سرق ربع دينار قطع". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله -عليه السلام-: "تقطع اليد في ربع دينار". ش: أي وإن احتج أهل المقالة الثالثة أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث محمد بن مسلم الزهري، وهذه معارضة أخرى فوجهها أن يقال: قد روى الزهري، عن عمرة، عن عائشة هذا الحديث مرفوعًا وكفى به حجة. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن محمد بن إدريس المكي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه. وأبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- كان يقطع في ربع دينار فصاعدًا". الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬3): عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام-قال قتيبة: كان النبي -عليه السلام- يقطع في ربع دينار فصاعدًا". الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قال النبي -عليه السلام-: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" تابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر، عن الزهري. ص: قيل لهم: قد روينا هذا الحديث عن الزهري في هذا الباب من حديث ابن عيينة على غير هذا اللفظ، مما معناه خلاف هذا المعنى، وهو: "كان رسول الله -عليه السلام- يقطع في ربع دينار فصاعدًا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1312 رقم 1684). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 136 رقم 4383). (¬3) "المجتبى" (8/ 78 رقم 4921). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2492 رقم 6407).

فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختلف عن غيره عن عمرة على ما وصفنا، ارتفع ذلك كله، فلم تجب الحجة بشيء منه إذ كان ينفي بعضه بعضًا، ورجعنا إلى أن الله -عز وجل- قال في كتابه العزيز: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (¬1) فأجمعوا أن الله تعالى لم يعن بذلك كل سارق، وإنما عنى به خاصًّا من السرَّاق لمقدار من المال معلوم، فلا يدخل فيما قد أجمعوا أن الله -عز وجل- عنى به خاصًّا إلا من قد أجمعوا أن الله -عز وجل- عناه، وقد أجمعوا أن الله -عز وجل- قد عنى سارق العشرة دراهم واختلفوا في سارق ما هو دونها، فقال قوم: هو ممن عنى الله -عز وجل-. وقال قوم: ليس هو منهم، فلم يجز لنا -لما اختلفوا في ذلك- أن نشهد على الله تعالى أنه عنى ما لم يجمعوا أنه عناه، وجاز لنا أن نشهد فيما أجمعوا أن الله -عز وجل- عناه، فجعلنا سارق العشرة دراهم فما فوقها داخلًا في الآية فقطعناه، وجعلنا سارق ما دون العشرة خارجًا من الآية فلم نقطعه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي قيل لهؤلاء المعارضين من أهل المقالة الثالثة في جواب معارضتهم، وملخصه: أن حديث الزهري مضطرب سندًا ومتنًا. أما سندًا فظاهر، وأما متنًا فإنه قد روي عنه فيما مضى بمعنى يدل على خلاف ما روي عنه هاهنا، وهو أن فيما مضى إخبار عن فعل رسول الله -عليه السلام- وهو: "كان رسول الله -عليه السلام- يقطع في ربع دينار فصاعدًا"، وهاهنا إخبار عن قوله وهو: قال رسول الله -عليه السلام-: "تقطع اليد في ربع دينار". فلما حصل هذا الاضطراب سندًا ومتنًا، واختلف أيضًا عن غير الزهري، عن عمرة، عن عائشة بالوقف والرفع على ما مرَّ بيانه، ارتفع ذلك كله فلا تجب به الحجة بعد ذلك؛ لأن بعضه ينفي بعضًا وهو معنى قوله: إذ كان ينفي بعضه بعضًا. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [38].

وكلمة "إذ" هاهنا للتعليل، ومنافاة بعضه بعضًا ظاهرة؛ لأن الرفع يخالف الوقف، والإخبار عن الفعل يخالف الإخبار عن القول. فإن قلت: أعمل بالقول والفعل جميعًا فإنه أكد في الفعل بواحد منهما، وإنما تتحقق للمنافاة بين القول والفعل إذا كان الخلاف بينهما في نفس الحكم، وهاهنا ليس كذلك. قلت: هذا إنما يمشي إذا سَلِمَ الحديث من الاضطراب، فافهم. قوله: "ورجعنا إلى أن الله. . . . إلى آخره" تحقيق هذا الكلام أن العمل بعموم اللفظ في آية السرقة غير ممكن بالإجماع؛ لأن اسم السارق يطلق على سارق الصلاة، قال -عليه السلام-: "إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته. . . . الحديث" (¬1)، وأيضًا فهو مجمل من حيث المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إتيانه، فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار، وقد علمنا أن الله -عز وجل- لم يعن بذلك كل سارق، بل إنما عنى به سارقًا خاصًّا لمقدار معلوم من المال، ثم اختلفوا في هذا المقدار الذي يتعلق به قطع يد السارق، فقال قوم: هو العشرة دراهم فما فوقها، وهم أهل المقالة الثانية. وقال قوم: هو ربع دينار، وهم أهل المقالة الثالثة، وقال قوم: هو ثلاثة دراهم، وهم أهل المقالة الأولى، وهذه الأقوال الثلاثة هي التي عمل الناس عليها، وكلهم مجمعون على أن الله عنى سارق العشرة دراهم من هذه الآية، ولكن اختلفوا في سارق ما دون العشرة، فمنهم من قال: هو ممن عنى الله -عز وجل-، ومنهم من يقول: ليس هو منهم. فإذا كان الأمر كذلك لم يجز لنا أن نشهد على الله أنه عنى ما لم يجمعوا أنه عناه، ويجوز لنا أن نشهد فيما أجمعوا عليه أنه -عز وجل- عناه، فلما كان الأمر كذلك، كان سارق العشرة دراهم فما فوقها داخلًا في الآية لتيقننا بإجماعهم على أنه ممن ¬

_ (¬1) تقدم.

عناهم الله فحكمنا عليه بوجوب القطع، وأما سارق ما دون العشرة فجعلناه خارجًا من الآية لوجود الاختلاف فيه هل هو ممن عناهم الله أم لا؟ فلم يترتب عليه حكم القطع، والله أعلم. ص: وقد روي ذلك عن ابن مسعود وعطاء وعمرو بن شعيب - رضي الله عنهم -. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن مسعود قال: "لا تقطع اليد إلا في الدينار أو عشرة دراهم". حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: كان قول عطاء مثل قول عمرو بن شعيب: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم". ش: أي قد روي ما ذكرنا أن سارق العشرة هو الذي يقطع دون سارق ما دونها عن عبد الله بن مسعود، وعطاء بن أبي رباح المكي، وعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. أما ما روي عن عبد الله فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أن عبد الله بن مسعود .. إلى آخره. وهؤلاء كلهم أئمة ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن مبارك ووكيع، عن المسعودي، عن القاسم، عن ابن مسعود أنه قال: "لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم". فإن قلت: هذا منقطع؛ لأن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يُدرك جده. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 476 رقم 28106).

قلت: قد روى ذلك أبو حنيفة عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود: "لا قطع إلا في عشرة". أخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1). فإن قلت: قال البيهقي: قال الشافعي: فقال -يعني خصمه: قد روينا عن ابن مسعود قال: "لا يقطع إلا في عشرة دراهم". قلنا: روى الثوري، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود: "أنه -عليه السلام- قطع سارقًا في خمسة دراهم". وهذا أقرب أن يكون صحيحًا عن عبد الله من حديث المسعودي، عن القاسم، عن عبد الله. وقال البيهقي: حديث ابن مسعود منقطع. يعني حديث المسعودي. قال: وروي عن أبي حنيفة، عن القاسم، عن أبيه، عن ابن مسعود. ورواه المسعودي مرسلًا. والذي في معارضته ليس بأضعف منه -يعني حديث ابن أبي عزة. قلت: حديث المسعودي رواه عنه وكيع والثوري وابن المبارك وغيرهم. والمسعودي ثقة احتجت به الأربعة، واستشهد به البخاري. وهو وإن اختلط فقد ذكر أحمد بن حنبل أن سماع وكيع منه قديم، وأن من سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد. وحديث ابن أبي عزة فيه ثلاث علل: الثوري مدلس، وقد عنعن، وابن أبي عزة ضعفه القطان وذكره الذهبي في كتابه "الضعفاء". والشعبي عن ابن مسعود منقطع ذكره البيهقي في "سننه" في باب: الزنا لا يحرم الحلال، وسكت عنه في باب: ما جاء عن الصحابة فيما يجب فيه القطع، وظهر بهذا أن هذا السند ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 193 رقم 330).

أضعف من سند المسعودي خلافًا لقول البيهقي، والذي روي في معارضته ليس بأضعف منه، وأن سند المسعودي أقرب أن يكون صحيحًا خلافًا لما قاله الشافعي. وأما ما روي عن عطاء فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي. . . . إلى آخره. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: "أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوم في زمانهم دينارًا أو عشرة دراهم". وأخرجه النسائي (¬2): عن حميد بن مسعدة، عن سفيان، عن العرزمي، عن عطاء قال: "أدنى ما يقطع فيه: ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم". وممن روى في هذا الباب من الصحابة: عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. أما ما روي عن ابن عباس فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس: "لا يقطع السارق فيما دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم". وأما ما روي عن علي فأخرجه البيهقي في "سننه" (¬4): من حديث الدارقطني (¬5): ثنا عمر بن الحسن، ثنا جعفر بن محمد بن مروان، ثنا أبي، ثنا عاصم -أظنه ابن عمر- ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة": (5/ 476 رقم 28108). (¬2) "المجتبى" (8/ 83 رقم 4953). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 476 رقم 28104). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 261 رقم 16971). (¬5) "سنن الدارقطني" (3/ 200 رقم 349).

ثنا إسماعيل بن اليسع، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال، عن علي - رضي الله عنه -: "لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم". فإن قلت: قال البيهقي: فيه ضعفاء مجهولون. قلت: روى عبد الرزاق (¬1): عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبة، عن يحيى بن الجزار، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لا يقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم". فهذه الرواية أجود من التي قبلها، فيتعاضدان. واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 233 رقم 18952).

ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع ش: أي هذا باب في بيان الإقرار بالسرقة هل يحتاج فيه إلى التكرار أم بإقرار واحد يجب عليه القطع؟. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سعيد بن عون مولى بني هاشم، قال: ثنا الدراوردي، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أتي بسارق إلى النبي -عليه السلام- فقالوا: يا رسول الله، إن هذا سرق، فقال: ما أخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه ثم ائتوني به، قال: فذهب به، فقطع ثم حُسم، ثم أتي به فقال: تُب إلى الله -عز وجل-، فقال: تُبت إلى الله -عز وجل-، فقال: تاب الله عليك". ش: سعيد بن عون القرشي مولى بني هاشم، قال أبو حاتم: بصري صدوق. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد وهو ثقة. ويزيد بن خصيفة هو يزيد عبد الله بن خصيفة الكندي المدني روى له الجماعة. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): عن أحمد بن أبان القرشي، عن الدراوردي. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "ما أخاله" أي ما أظنه، يقال: خِلت إِخاله بالكسر والفتح، والكسر أفصح، والفتح أكثر استعمالًا، والفتح هو القياس، وقال الجوهري: إخال بكسر الألف هو الأفصح، وبنو أسد يقولون: أخال -بالفتح- وهو القياس. قوله: "ثم حُسم" أي قطع الدم عنه بالكي. ويستفاد منه أحكام: ¬

_ (¬1) عزاه الهيثمي في "المجمع" (6/ 276) للبزار، وقال: رواه البزار عن شيخه أحمد بن أبان القرشي، وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

فيه: فضيلة الستر على المسلمين، ألا ترى أنه -عليه السلام- قال: "ما إخاله سرق"؛ لأنه كره أن يصدقه وهو يجد السبيل إلى ستره، لكن لما تبيَّن له وقوع السرقة منه أقام عليه الحد. وقيل: إنما قال -عليه السلام-: "ما إخاله سرق". ظنًّا منه أنه لا يعرف معنى السرقة. ولعله قال إذا جلس يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فاستثبت الحكم فيه؛ لأن الحدود تسقط إذا وجدت فيها شبهة. وفيه: أن الإمام إذا ثبت عنده ما يوجب الحد لا ينبغي له أن يؤخر الحكم فيه. وفيه: وجوب قطع يد السارق. وفيه: الحسم بعد القطع لئلا يفضي القطع إلى هلاك. وفيه: استتابة الإمام المحدود بعد إقامة الحد عليه. وفيه: أن الإقرار مرةً واحدة يكفي في وجوب القطع كما ذهبت إليه طائفة، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا حسين نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث، أن يزيد بن خصيفة أخبره، أنه سمع محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه ثلاث طرق في الحديث المذكور، وكلها مرسله، ورجالها ثقات. الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن محمد بن إسحاق. . . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث ابن المديني نحوه مرسلًا، ثم قال: قال علي: فحدثنيه عبد العزيز بن أبي حازم، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان. وثنا سفيان، ثنا ابن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان. . . . فذكره مرسلًا. قال علي: لم يسنده واحد منهم. قال: وبلغني عن ابن إسحاق، أنه رواه عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة. ولا أراه حفظه. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن عيينة، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: "أن رجلًا سرق شملةً، فأتي به النبي -عليه السلام-، فقالوا: يا رسول الله، هذا سرق شملةً. فقال: ما إخاله سرق". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك ابن جريج، عن يزيد بن خصيفة. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه: "أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس أتى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله إني سرقت جملًا لبني فلان، قال: فأرسل إليهم رسول الله -عليه السلام- فقالوا: إنا فقدنا جملًا لنا، فأمر به رسول الله -عليه السلام- فقطعت يده. قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين قطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي ظهرني مما أراد أن يدخل جسدي النار". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 271 رقم 17032). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 520 رقم 28577).

ش: ابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال. وثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري الصحابي عداده في أهل مصر. والحديث أخرجه ابن منده في ترجمة عمرو بن سمرة: من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه: "أن عمرو بن سمرة أتى النبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره نحوه. وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (¬1) أيضًا: من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة، عن أبيه. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): ثنا أبو حبيب يحيى بن نافع المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن لهيعة، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه: "أن عمرو بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملًا لبني فلان، فأرسل إليهم رسول الله -عليه السلام-، فقالوا: إنا فقدنا جملًا لنا، فأمر النبي -عليه السلام- فقطعت يده، قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حتى وقعت يده، وهو يقول: الحمد للَّه الذي طهرني بك، أردت أن تدخل جسدي النار". وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن محمد بن يحيى، عن سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة. . . . إلى آخره نحوه. ثم اعلم أنه وقع في رواية الطبراني: عمرو بن حبيب بن عبد شمس، وفي رواية الطحاوي: عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس. والصحيح ما في رواية الطحاوي؛ وقيل: هما واحد، وجعل أبو نعيم لهما ترجمتين؛ لأنه وهم أنهما اثنان. وقال ابن الأثير: لا شك أنهما واحد؛ وذلك لأن عمرو بن سمرة ¬

_ (¬1) "معرفة الصحابة" (4/ 245 رقم 2123). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 86 رقم 1385). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 863 رقم 2588).

هذا هو أخو عبد الرحمن بن سمرة، وسمرة هو ابن حبيب بن عبد شمس بلا خلاف، والله أعلم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أقر بالسرقة مرةً واحدة قطع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والثوري ومالكًا والشافعي؛ فإنهم قالوا: يقطع السارق بإقراره مرةً واحدةً، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك كسائر الإقرارات في الحقوق، قال البيهقي: قال عطاء: "إذا اعترف مرةً واحدةً قطع"، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو يوسف فقالوا: لا يقطع حتى يُقِرَّ مرتين. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سليمان الأعمش، والحسن بن صالح، وأبا يوسف، وأحمد، وزفر بن الهذيل؛ فإنهم قالوا: لا تقطع يد السارق حتى يعترف مرتين. وإليه مال الطحاوي. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن الحجاج ومحمد بن عون الزيادي، قالا: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي: "أن رسول الله -عليه السلام- أُتي بلص اعترف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع، فقال رسول الله -عليه السلام-: ما إخالك سرقت. قال: بلى يا رسول الله، فأعادها عليه رسول الله -عليه السلام- مرتين أو ثلاثًا، قال: بلى، فأمر به فقطع، ثم جيء به، فقال له النبي -عليه السلام-: قل: أستغفر الله وأتوب إليه. قال: أستغفر الله وأتوب إليه، قال: اللهم تُب عليه، اللهم تُب عليه".

ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- لم يقطعه بإقراره مرةً واحدةً حتى أقر ثانية، فهذا أولى من الحديث الأول؛ لأن فيه زيادة على ما في الأول. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي أمية المخزومي؛ فإنه يخبر في حديثه أنه -عليه السلام- لم يقطع ذلك المعترف بالسرقة إلا بعد أن أعاد عليه رسول الله -عليه السلام- مرتين أو ثلاثًا فهذا فيه زيادة على الحديث الأول؛ والأخذ به أولى. وأخرج حديث أبي أمية، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن إبراهيم ابن الحجاج الشامي الناجي البصري شيخ أبي يعلى، قال النسائي: لا بأس به. عن محمد بن عون الزيادي -بالزاي المكسورة وبالياء آخر الحروف- وثقه ابن حبان. عن حماد بن سلمة ثقة مشهور بجلالة القدر، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر الغفاري، قال الخطابي: مجهول. وهو يروي عن أبي أمية المخزومي ويقال: الأنصاري حجازي. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي، أن النبي -عليه السلام-. . . . إلى آخره نحوه، غير أن في روايته: "اللهم تب عليه، ثلاثًا". قوله: "فهذا أولى" أي حديث أبي أمية أولى بالعمل من حديث أبي هريرة وحديث ثعلبة الأنصاري؛ لأن فيه زيادة يخلو عنها حديث أبي هريرة وثعلبة، وهي إعادة النبي -عليه السلام- على ذلك المعترف مرتين أو ثلاثًا. فإن قيل: كيف يكون حديث أبي أمية أولى، وقد قال الخطابي: في إسناد هذا ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 134 رقم 4380).

الحديث مقال. والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به؟. وقال المنذري: كأنه يشير إلى أن أبا المنذر مولى أبي ذر لم يرو عنه إلا إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة من رواية حماد بن سلمة عنه، وكذا قال عبد الحق في "أحكامه": أبو المنذر لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد الله. قلت: حديث أبي هريرة مداره على الإرسال، وحديث ثعلبة ضعيف، فيكون حديث أبي أمية أصح من الحديثين، وهو أولى بالعمل؛ لما فيه من الزيادة والترجيح؛ فافهم. ص: وقد يجوز أن يكون أحدها قد نسخ الآخر، فلما احتمل ذلك رجعنا إلى النظر، فوجدنا السنة قد قامت عن رسول الله -عليه السلام- في المقر بالزنا أنه رده أربع مرات، وأنه لم يرجمه بإقراره مرة واحدة، وأخرج ذلك من حكم الإقرار بحقوق الآدميين التي يقبل فيها إقراره مرة واحدة، وردَّ حكم الإقرار بذلك إلى حكم الشهادة عليه، فلما كانت الشهادة عليه غير مقبولة إلا من أربعة، فكذلك جعل الإقرار به لا يوجب الحد الا بإقراره أربع مرات، فثبت بذلك أن حكم الإقرار بالسرقة أيضًا كذلك يرد إلى حكم الشهادة عليها، فكما كانت الشهادة عليها لا تجوز إلا من اثنين، فكذلك الإقرار لا يقبل إلا مرتين، وقد رأيناهم جميعًا لما رووا عن رسول الله -عليه السلام- في المقر بالزنا لما هرب، فقال النبي -عليه السلام-: "لولا خليتم سبيله" فكان ذلك عندهم على أن رجوعه مقبول، واستعملوا ذلك في سائر حدود الله -عز وجل-، فجعلوا مَن أقرَّ بها ثم رجع قُبِلَ رجوعه، ولم يخصوا الزنا بذلك دون سائر حدود الله -عز وجل-، فكذلك لما جعل الإقرار في الزنا لا يقبل إلا بعدد ما يقبل عليه من البينة؛ ثبت أنه لا يقبل الإقرار بسائر حدود الله -عز وجل- إلا بعدد ما يقبل عليها من البينة. ش: أي قد يجوز أن يكون أحد الحديثين قد نسخ الحديث الآخر، بأن يكون هذا الحديث الذي لم يقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه بإقراره مرة واحدة، ناسخًا لذلك

الحديث الذي أمر فيه رسول الله -عليه السلام- بقطعه بمجرد إقراره في أول الأمر، ولكن لما كان هذا بطريق الاحتمال دون التيقن، أحال الحكم فيه إلى النظر والقياس، وهو معنى قوله: فلما احتمل ذلك رجعنا إلى النظر. . . . إلى آخره. وملخصه: أن الشارع لما أخرج حكم الإقرار بالزنا عن حكم الإقرار بحقوق الناس التي يكتفى فيها بمجرد الإقرار مرة واحدة، وجعل حكمه كحكم الشهادة عليه بالزنا حيث لا تقبل الشهادة فيه إلا من أربعة؛ فالنظر عل ذلك ينبغي أن يكون حكم الإقرار بالسرقة كحكم الشهادة بها حيث لا تجوز إلا من اثنين فلا يترتب عليه القطع إلا بالإقرار مرتين، والجامع بينهما كون كل واحد منهما حدًّا، والباقي ظاهر. ص: فأدخل محمد بن الحسن في هذا على أبي يوسف، فقال: لو كان لا يقطع في السرقة حتى يقربها سارقها مرتين، لكان إذا أقر بها أول مرة صار ما أقر به عليه دَيْنًا ولم يجب عليه القطع بعد ذلك إذ كان السارق لا يقطع فيما وجب عليه بأخذه إياه دَيْنًا. ش: هذا إيراد من جهة محمد على ما ذهب إليه أبو يوسف من اشتراطه في القطع في السرقة مرتين. بيانه أن يقال: لو كان إقراره مرتين شرطًا في القطع لكان المعترف بالسرقة في أول إقراره مقرًّا به دينًا في ذمته، وإقراره بعد ذلك لا يوجب القطع؛ لأنه صار مديونًا، والمقر بما عليه من الدين لا يجب عليه القطع، فحينئذ ينتفي القطع عن كل سارق فينسد باب القطع. ص: فكان من حجتنا لأبي يوسف عليه في ذلك: أنه لو لزم ذلك أبا يوسف في السرقة لزم محمدًا مثله في الزنا أيضًا؛ إذ كان الزاني -في قولهم- لا يحد فيما وجب عليه فيه مهرٌ كما لا يقطع السارق فيما وجب عليه دينًا، فلو كانت هذه العلة التي احتج بها محمد بن الحسن على أبي يوسف يحب بها فساد قول

أبي يوسف في الإقرار بالسرقة؛ للزم محمدًا مثل ذلك في الإقرار بالزنا؛ وذلك أنه لما أقر بالزنا مرة واحدة لم يجب عليه حَدٌّ، وقد أقر بوطء لا يحد فيه بذلك الإقرار، فوجب عليه المهر، فلا ينبغي أن يحد في وطء قد وجب عليه فيه مهر، فإذا كان محمد لم يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالزنا، فكذلك أبو يوسف لا يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالسرقة. ش: أي فكان من دليلنا لأبي يوسف على محمد فيما أورده عليه من ذلك، وأراد بها الجواب عن إيراد محمد على أبي يوسف، وهو إلزام السائل بمثل ما يلزم به المجيب، فمهما كان جواب السائل فيما ألزمه به المجيب يكون هو جواب المجيب فيما ألزمه به السائل؛ فافهم. ص: وقد رد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي أقر عنده بالسرقة مرتين. حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: "أن رجلًا أقر عنده بسرقة مرتين، فقال: قد شهدت على نفسك شهادتين، قال: فأمر به فقطع، وعلقها في عنقه". أفلا ترى أن عليًّا - رضي الله عنه - رد حكم الإقرار بالسرقة إلى حكم الشهادة عليها في عدد الشهود؟! فكذلك الإقرار بحدود الله -عز وجل- كلها لا يقبل في ذلك منها إلا بعدد ما يقبل من الشهود عليها. ش: ذكر هذا تأييدًا لما ذهب إليه أبو يوسف، وتوضيحًا لصحة وجه النظر الذي ذكره من قوله: إن حكم الإقرار بالسرقة كذلك يرد إلى حكم الشهادة عليها، فكما كانت الشهادة على السرقة لا تجوز إلا من اثنين، فكذلك الإقرار لا يقبل ولا يحكم به إلا إذا كان مرتين. وإسناد ما روي عن علي - رضي الله عنه - صحيح.

أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الكوفي، عن علي بن أبي طالب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: و"كنت قاعدًا عند علي - رضي الله عنه -، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد سرقت، فانتهره، ثم عاد الثانية فقال: إني سرقت، فقال له: قد شهدت على نفسك شهادتين، قال: فأمر به فقطعت يده، فرأيتها معلقة، يعني: في عنقه". قوله: "فقطع وعلقها" أي فقطع يده وعلقها في عنقه، وذلك لأجل الاشتهار. وقال ابن أبي شيبة (¬2): ثنا عمر بن علي بن عطاء بن مقدم، عن حجاج، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن فضالة بن عبيد، قال: "سألته عن تعليق اليد في العنق، فقال: السنة، قطع رسول الله -عليه السلام- يد رجل ثم علقها في عنقه". وهذا أخرجه أصحاب السنن الأربعة أيضًا (¬3). وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي، عن الحجاج بن أرطاة. وعبد الرحمن بن محيريز هو أخو عبد الله بن محيريز، شامي، وقال النسائي: الحجاج بن أرطاة ضعيف لا يحتج بحديثه. وقال المنذري: قال بعضهم: وكأنه من باب التطويف والإشارة بذكره ليرتدع به ولو ثبت لكان حسنًا صحيحًا ولكنه لم يثبت. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 483 رقم 28190). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 561 رقم 28973). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 143 رقم 4411)، "جامع الترمذي" (4/ 51 رقم 1447)، "المجتبى" (8/ 92 رقم 4982)، "سنن ابن ماجه" (2/ 863 رقم 2587).

قوله: "أفلا ترى. . . . إلى آخره" توضيح لما ذكره قبله. قوله: فكذلك الإقرار بحدود الله. . . . إلى آخره، هذا كله على أصل أبي يوسف لأنه يقول: إن حد السرقة والشرب خالص حق لله تعالى كحد الزنا، فيلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط في الإقرار كما في الزنا إلا أنه يكتفي في السرقة والشرب بالمرتين، ويشترط الأربع في الزنا؛ استدلالًا بالسنة؛ لأن السرقة والشرب كل منهما يثبت بنصف ما يثبت به الزنا وهو شهادة شاهدين فكذلك الإقرار والله أعلم.

ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا؟

ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يستعير من الناس الحلي ثم يجحده، هل يترتب عليه بذلك قطع أم لا؟ "الحلي" حلي المرأة، من حَلَّيْتُها أُحَلِّيها حَلْيًا -وهو بفتح الحاء وسكون اللام- وهو اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، ويجمع على حُلِيّ -بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء- كثدي وثُدِيّ، والحلية -بكسر الحاء وسكون اللام- هي الحلي أيضًا وتجمع على حلىً بكسر الحاء مثل لِحْية ولحىً، وربما تضم الحاء، وتطلق الحلية على الصفة أيضًا؛ فافهم. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: روي عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن امرأة كانت تستعير الحلي فلا ترده، قالت: فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطعت". حدثنا عبيد بن رجال المصري، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي -عليه السلام -، بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم أسامة النبي -عليه السلام -، فقال النبي -عليه السلام-: يا أسامة لا أراك تكلمني في حد من حدود الله، قال: ثم قام النبي -عليه السلام- خطيبًا فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده إن كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، فقطع يد المخزومية". ش: هذا حديث واحد أخرجه أولًا معلقًا عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة - رضي الله عنها -. ثم أسنده عن عبيد بن محمد بن موسى البزار المؤذن المعروف بابن الرجال، بالجيم.

عن أحمد بن صالح المصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الرزاق صاحب "المصنف"، و"المسند" عن معمر، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا عبد الرزاق قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -عليه السلام- بقطع يدها. . . ." الحديث. وأخرجه مسلم (¬2): عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "أن امرأة مخزومية" هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بنت أخي أبي سلمة زوج أم سلمة. قوله: "فتجحده" أي تنكره. قوله: "إنما أُهْلِك" على صيغة المجهول. قوله: "إن كانت فاطمة بنت محمد" يعني إن كانت السارقة هي فاطمة بنت محمد النبي -عليه السلام-. ص: فذهب قوم إلى أن مَن استعار شيئًا فجحده وجب أن يقطع فيه، وكان عندهم بذلك في معنى السارق، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وجماعة الظاهرية؛ فإنهم قالوا: من استعار ما يجب فيه القطع ثم جحده فعليه القطع، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يقطع، ويضمن. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وأبا يوسف، ومحمدًا، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 132 رقم 4374). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1316 رقم 1688).

وأهل المدينة، وأهل الكوفة فإنهم قالوا: لا قطع على المستعير الجاحد وإنما عليه الضمان؛ لأنه لا يطلق عليه اسم السارق ولا يوجد فيه حد السرقة. ص: وكان من الحجة لهم أن هذا الحديث قد رواه معمر كما ذكروا، وقد رواه غيره فزاد فيه: "أن تلك المرأة التي كانت تستعير الحلي فلا ترده سرقت فقطعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسرقتها". فمما روي في ذلك ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير أخبره، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن امرأة سرقت في عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح، فأمر بها رسول الله -عليه السلام- أن تقطع، فكلمه فيها أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - فتلون وجه رسول الله -عليه السلام- فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله -عليه السلام- فاثنى على الله ما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن قريشًا همهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -عليه السلام-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة. . . ." ثم ذكر مثل معناه. فثبت بهذا الحديث أن القطع كان بخلاف المستعار المجحود. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين: أن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه قد رواه معمر بن راشد كما ذكروا، وقد رواه غير معمر فزاد فيه أن تلك المرأة التي كانت تستعير الحلي وتجحده قد سرقت فقطعها رسول الله -عليه السلام- لأجل سرقتها لا لأجل جحودها فقط.

وقال الجصاص: لم يقطعها رسول الله -عليه السلام- لأجل جحودها العارية، وإنما قطعها لأجل أنها سرقت، وإنما ذكر جحود العارية تعريفًا لها إذ كان ذلك معتادًا منها قد عُرفت به، وذكر ذلك على وجه التعريف، وهذا مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان: "أفطر الحاجم والمحجوم"، فذكر الحجامة تعريفًا لهما والإفطار واقع بغيرها. قوله: "فمما روي في ذلك" أي فمن الذي روى فيما قلنا بزيادة غير معمر فيه: ما حدثنا يونس، فقوله: "ما حدثنا" في محل الرفع على الابتداء. وقوله: "فمما روي في ذلك" مقدمًا خبره. وأخرجه من طريقين صحيحين رجالهما كلهم رجال الصحيح. الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة نحوه سواء. الثائي: عن يونس أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة من هذا الطريق: فالبخاري (¬2): عن سعيد بن سليمان، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله -عليه السلام-، ومَن يجترئ عليه إلا أسامة حبُّ رسول الله -عليه السلام-؟! فكلم رسول الله -عليه السلام-، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب، فقال: يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1315 رقم 1688). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2491 رقم 6406).

سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". ومسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) أربعتهم: عن قتيبة، عن ليث بن سعد. وابن ماجه (¬5): عن محمد بن رمح، عن ليث بن سعد. . . . إلى آخره. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث عن غير عائشة أيضًا، فروي عن مسعود بن الأسود، عن النبي -عليه السلام- قال: "لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث. أخرجه ابن ماجه (¬6). وروي عن جابر بن عبد الله أيضًا: "أن امرأة سرقت، فعاذت بزينب بنت رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث. رواه أبو داود (¬7). وأخرجه مسلم (¬8) والنسائي (¬9) عن جابر، وفي روايتهما: "فعاذت بأم سلمة زوج النبي -عليه السلام-". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1315 رقم 1688). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 132 رقم 4373). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 37 رقم 1430). (¬4) "المجتبى" (8/ 73 رقم 4899). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 851 رقم 2547). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 851 رقم 2548). (¬7) "سنن أبي داود" (4/ 132 رقم 4374). (¬8) "صحيح مسلم" (3/ 1316 رقم 1689). (¬9) "المجتبى" (8/ 71 رقم 4891).

وروي أيضًا عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -عليه السلام- بها فقطعت يدها". أخرجه أبو داود (¬1)، وقال أبو داود: رواه جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، أو عن صفية بنت أبي عبيد، زاد فيه: "وإن النبي -عليه السلام- قام خطيبًا، فقال: هل من امرأة تائبة إلى الله ورسوله؟ ثلاث مرات، وتلك شاهدة، فلم تقم ولم تتكلم". قال أبو داود: ورواه محمد بن عبد الرحمن بن غنج، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد قال فيه: "فشهد عليها". قال البيهقي: والحديث الذي يُروى عن نافع في هذه كما روى معمر مختلف فيه على نافع، فقيل: عنه عن ابن عمر أو عن صفية بنت أبي عبيد. وقيل: عنه عن صفية بنت أبي عبيد، وحديث الليث عن الزهري أولى بالصحة، والله أعلم. فإن قلت: هل هذه قضية واحدة أم هي قضايا مختلفة؟ وهل هي امرأة واحدة أو امرأتان أو أكثر؟ قلت: قد قال بعضهم: إنها امرأة واحدة وقضية واحدة، وأنها سرقت، وأن من روى: "استعارت" قد وهم والدليل على ذلك أن في جمهور هذه الآثار أنهم استشفعوا لها بأسامة بن زيد، وأن رسول الله -عليه السلام- أنكر ذلك عليه، ونهاه أن يشفع في حد من حدود الله تعالى، ومن المحال أن يكون أسامة - رضي الله عنه - قد نهاه رسول الله -عليه السلام- عن أن يشفع في حد من حدود الله تعالى، ثم يعود فيشفع في حد آخر مرة أخرى. قيل: فيه نظر؛ لأن عبد الرزاق روى (¬2): عن ابن جريج، عن أبيه، عن عكرمة بن خالد المخزومي، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 139 رقم 4395). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 203 رقم 18832).

المخزومي، أخبره أن امرأة جاءت أُمًّا له، فقالت: إن فلانة تستعيرك حليًّا وهي كاذبة، فأعارتها إياه فمكثت لا ترى حليها، فجاءت التي كذبت عرفتها فسألتها حليها، فقالت: ما استعرت منك شيئًا، فجاءت الأخرى فسألتها حليها فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئًا، فجاءت النبي -عليه السلام-، فدعاها فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئًا، فجاءت الأخرى فسألتها حليها فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئًا، فقال: اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأُخِذ، وأمر بها فقطعت". قال ابن جريج: وأخبرني بشير بن تميم أنها أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسود. قال ابن جريج: لا أجد غيرها، لا أجد غيرها. قال ابن جريج: فأخبرني عمرو بن دينار، قال: أخبرني الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - قال: "سرقت امرأة فأتي بها النبي -عليه السلام-، فجاءه عمر بن أبي سلمة، فقال للنبي -عليه السلام-: بأبي أنت إنها عمتي، فقال النبي -عليه السلام-: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". قال عمرو بن دينار: فلم أشك حين قال حسن: قال عمر للنبي -عليه السلام-: "إنها عمتي" أنها بنت الأسود بن عبد الأسد. فهذا ابن جريج يحكي عن عمرو بن دينار أنه لا شك أن التي سرقت بنت الأسود بن عبد الأسد. ويخبر عن بُشير التيمي أن التي استعارت هي بنت سفيان بن عبد الأسد وهما ابنتا عم مخزوميتان، عمهما أبو سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة قبل رسول الله -عليه السلام-. قلت: تلك المرأة هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بنت أخي أبي سلمة زوج أم سلمة كما ذكرناه.

ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدفع القطع في الخيانة. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على الخائن ولا المختلس ولا المنتهب قطع". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا ابن جريج. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا عبيد بن رجال، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فلما كان الخائن لا قطع عليه، وفرق رسول الله -عليه السلام- بينه وبين السارق، وأحكمت السنة أمر السارق الذي يجب عليه القطع أنه الذي يسرق مقدارًا من المال معلومًا من حرز، وكان المستعير آخذًا لما استعار من غير حرز؛ ثبت أنه لا قطع عليه في ذلك؛ لعدم الحرز، وهذا الذي ذكرنا -مما صححنا عليه معاني هذه الآثار- قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: هذه حجة أخرى في بيان عدم وجوب القطع على المستعير الجاحد، فنقول: الجاحد لما استعاره خائن، والخائن لا قطع عليه، فالمستعير الخائن لا قطع عليه. أما عدم وجوب القطع على الخائن فلقوله -عليه السلام-: "ليس على الخائن قطع". أخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا علي بن خشرم، قال: أنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- قال: "ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع". قال أبو عيسى: هذا حسن صحيح. وهذا يدل على أن الترمذي تحقق اتصال الحديث؛ فلذلك قال: حسن صحيح. وأخرجه أبو داود (¬2): نا نصر بن علي، قال: أنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن جريج، قال: قال أبو الزبير: قال جابر بن عبد الله: قال رسول الله -عليه السلام-: "ليس على المنتهب قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا". وبهذا الإسناد (¬3) قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على الخائن قطع". حدثنا (¬4) نصر بن علي، قال: أنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. زاد: "ولا على المختلس قطع". قال أبو داود: وهذان الحديثان لم يسمعهما ابن جريج عن أبي الزبير، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: إنما سمعها ابن جريج من ياسين الزيات، وقال النسائي: وقد روى هذا الحديث عن ابن جريج: عيسى بن يونس، والفضل بن موسى، وابن وهب، ومحمد بن ربيعة، ومخلد بن يزيد، وسلمة بن سعيد فلم يقل أحد منهم: حدثني أبو الزبير، ولا أحسبه سمعه من أبي الزبير والله أعلم. قلت: حكم الترمذي عليه بالصحة يدل على الاتصال كما ذكرناه. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 52 رقم 1448). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 138 رقم 4391). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 138 رقم 4392). (¬4) "سنن أبي داود" (4/ 138 رقم 4393).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن جابر. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن ابن بشار، عن أبي عاصم، عن ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن عبيد بن رجال، عن إسماعيل بن سالم الصائغ شيخ مسلم، عن شبابة بن سوار الفزاري المدائني، عن المغيرة بن مسلم القسملي السراج، عن أبي الزبير، عن جابر. وأخرجه النسائي (¬2): عن خالد بن روح الدمشقي، عن يزيد بن خالد، عن عبد الله بن موهب، عن شبابة بن سوار، عن المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ليس على المختلس ولا على المنتهب ولا على الخائن قطع". قوله: "ولا المختلس" من الخُلس -بضم الخاء- وهو الأخذ بسرعة، وقال ابن الأثير: الخلسة ما يؤخذ سلبًا ومكابرةً. قوله: "والمنتهب" هو الذي يأخذ الشيء عيانًا. بغلبة. وقال المنذري: يحتمل أنه أسقط القطع عن المختلس؛ لأن صاحبه قد يمكنه دفعه عن نفسه بمجاهدته وبالاستعانة بالناس، وإذا قصر في ذلك جاز، كأنه أتي من قبل نفسه، والخائن لا يخون حتى يكون مؤتمنًا على الشيء غير محترز عنه، فبه يسقط القطع عنه؛ لأن صاحب المال أعان على نفسه بائتمانه. وقال الإمام أحمد: يجب عليهم القطع. وحكي عن إياس بن معاوية أنه يجب القطع على المختلس، وحكي عن داود أنه كان يرى القطع على من أخذ مالًا لغيره سواء أخذه من حرز أو غيره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1298 رقم 3935). (¬2) "المجتبى" (8/ 89 رقم 4975).

وقال ابن حزم: اختلفوا في المختلس، فقالت طائفة: لا قطع عليه. واحتج لهم بما روى مالك، عن الزهري: "أن رجلًا اختلس طوقًا، فسأل عنها مروان زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فقال: ليس عليه قطع". وعن الشعبي أن رجلًا اختلس طوقًا فأخذوه وهو في حجرته، فرفع إلى [عمار] (¬1) بن ياسر وهو على الكوفة، فكتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فكتب إليه أنه عادي الظهيرة ولا قطع عليه". وعن الحسن البصري في الخلسة: "لا قطع فيها". وهو قول النخعي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم، وبه يقول إسحاق بن راهويه. وقالت طائفة: عليه القطع. ثم روى من طريق ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن هشام أن عدي بن أرطاة رفع إليه رجل اختلس خلسةً فقال إياس بن معاوية: عليه القطع. وإليه مال ابن حزم. والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "علي"، وهو تحريف، والمثبت من "المحلى" (11/ 322).

ص: باب سرقة الثمر والكثر

ص: باب سرقة الثمر والكَثَر ش: أي هذا باب في بيان حكم السرقة في الثمر والكَثَر -بفتح الكاف والثاء المثلثة على وزن مَدَد- وهو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسط النخل. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان: "أن عبدًا سرق وديًّا من حائط رجل فغرسه في حائط سيده، فخرج صاحب الودي يلتمس وديه، فوجده فاستعدى على العبد عند مروان بن الحكم، فسجن العبد وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج - رضي الله عنه - فأخبره أنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: لا قطع في ثمر ولا كَثَر، فقال الرجل: فإن مروان بن الحكم أخذ غلامي وهو يريد قطع يده، وأنا أحب أن تمشي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله -عليه السلام- فمشى معه رافع حتى أتى مروان فقال: أخذت عبدًا لهذا؟ فقال: نعم، قال: ما أنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: إني سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا قطع في ثمر ولا كَثَر. فأمر مروان بالعبد فأرسل". حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان: "أن عبدًا سرق وديًّا من حائط رجل فغرسه في مكان آخر، فأتي به مروان، فأراد أن يقطعه، فشهد رافع بن خديج - رضي الله عنه - أن النبي -عليه السلام- قال: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر". ش: هذان طريقان: الأول: منقطع على ما يأتي: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة. . . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه" (¬1)، وأبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه. وله في رواية أخرى قال: "فجلده مروان جلدات، فخلى سبيله". وإنما قلنا: إنه منقطع؛ لأن محمد بن يحيى لم يسمعه من رافع. الثاني: متصل: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من طريق الشافعي. والترمذي (¬4): عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان، عن عمه واسع بن حبان، أن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر". وكذا أخرجه النسائي (¬5) وابن ماجه (¬6) مختصرًا. وقد خولف ابن عيينة في ذلك ولم يتابع عليه إلا ما رواه حماد بن دليل المدائني، عن سعيد؛ فإنه رواه عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن رافع. كما رواه مالك، وكذلك رواه الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، ويزيد بن هرمز، وأبو خالد الأحمر، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو معاوية. كلهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن رافع ابن خديج. وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: حماد بن دليل ليس به بأس، كان على المدائن قاضيًا، ولا أدري من أين أصله. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 839 رقم 1528). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 136 رقم 4388)، (4/ 137 رقم 4389). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 263 رقم 16980). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 52 رقم 1449). (¬5) "المجتبى" (8/ 87 رقم 4961 - 4967). (¬6) "سنن ابن ماجه" (2/ 865 رقم 2593).

قوله: "وَدِيًّا" بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف، على وزن فَعِيل وهو صغار الفسيل، الواحدة وَدِيَّة، قاله الجوهري، وقال الأصمعي: الوَدِيّ صغار النخل، واحدتها وَدِيَّة، وهو أيضًا للفسيل واحدته فَسِيلة. قوله: "من حائط" الحائط هاهنا البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، ومنه: "على أهل الحوائط حفظها بالنهار" يعني البساتين. قوله: "يلتمس" أي يطلب. قوله: "فاستعدى على العبد" من العدوى وهو طلبك إلى الوالي ليعديك على من ظلمك، أي ينتقم منه، يقال: استعديت الأمير فأعداني، أي استعنت به عليه فأعانني عليه، والاسم منه العدوى وهي المعونة. قوله: "لا قطع في ثمر" أراد به الثمر الذي هو معلق في النخل قبل أن يُجَذَّ ويحرز، وعلى هذا تأوله الشافعي وقال: حوائط المدينة ليست بحرز، وأكثرها تدخل من جوانبها، ومن سرق من حائط من ثمر معلق لم يقطع، فإذا أواه الحربي قطع. قوله: "ولا كَثَر" بفتحتين، وقد فسرناه عن قريب. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أنه لا يقطع في شيء من الثمر ولا من الكَثَر، وسواء عندهم أُخِذَ من حائط صاحبه أو من منزله بعد ما قطعه وأحرزه فيه وقالوا أيضًا: لا قطع في جريد النخل ولا في خشبة؛ لأن رافعًا - رضي الله عنه - لم يسأل عن قيمة ما كان في الودية المسروقة من الجريد، ولا عن قيمة جذعها، ودرأ القطع عن السارق في ذلك؛ لقول النبي -عليه السلام-: "لا قطع في كثر" وهو الجمار. فثبت بذلك أنه لا قطع في الجمار ولا فيما يكون عنه من الجريد والخشب والثمر. وممن قال ذلك: أبو حنيفة -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحكم بن عتيبة، والحسن البصري، وأبا حنيفة، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا قطع في شيء من الثمر والكثر، ولا في جريده ولا خشبه.

وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): قال أبو حنيفة: لا يقطع في شيء من الفواكه الرطبة كانت في الدار أو في الشجر، في حرز كانت أو في غير حرز. وكذلك البقول كلها، وكذلك ما يسرع إليه الفساد من اللحوم والطعام كله كان في حرز أو في غير حرز، ولا قطع في الملح، ولا في التوابل، ولا في الزروع كلها. وإذا يبس الزرع وضم إلى الأندر أو إلى البيوت وجب القطع في سرقة شيء منه إذا بلغ ما يجب فيه القطع. وقال أبو عمر (¬2): ذكر أبو عوانة قال: كنت عند أبي حنيفة، فأتاه رسول صاحب الشرطة، فقال: أرسلني إليك فلان -يعني صاحب الشرطة- أتي برجل سرق وَدِيًّا من أرض قوم، فقال: إن كانت قيمة الودي عشرة دراهم فاقطعه، فقلت له: يا أبا حنيفة ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رافع بن خديج، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر". قال: وما تقول؟ قلت: نعم، أرسل في إثر الرسول؛ فإني أخاف أن يقطع الرجل، فقال: قد مضى الحكم؛ فقطع الرجل. قال أبو عمر: هذا لا يصح عن أبي حنيفة؛ لأن مذهبه المشهور عنه أنه لا قطع في ثمر ولا كثر، ولا في أصل شجرة قلع، ولا في كل ما يبقى من الطعام وخشي فساده؛ لأنه عنده في معنى الثمر المعلق. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: هذا الذي حكاه رافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" هو على الثمر والكثر المأخوذين من الحوائط التي ليست بحرز لما فيها، فأما ما كان من ذلك قد أحرز فحكمه حكم سائر الأموال، ويجب القطع على مَن سرق من ذلك المقدار الذي يجب القطع فيه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (11/ 331). (¬2) "التمهيد" لابن عبد البر (23/ 308).

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الزهري، والثوري، ومالكًا، والشافعي، وأبا يوسف؛ فإنهم قالوا: لا قطع في ثمر وكثر، إذا أخذ من الحوائط -أي البساتين- التي ليست بحرز لما فيها. وأما الذي أحرز منه فحكمه حكم سائر الأموال، فيجب القطع على مَن سرق منه مقدار ما يجب القطع فيه. قال أبو عمر: قال مالك: لا قطع في كثر، ولا في النخلة الصغيرة ولا الكبيرة، ولا في ثمر الأشجار، ولا في الزرع، ولا في الماشية، فإذا آوى الجرين الزرع أو الثمر، وآوى المراح الغنم، فعلى مَن سرق من ذلك قيمة ربع الدينار القطع. وقال ابن المواز: مَن سرق نخلة أو ثمرة في دار رجل قطع؛ بخلاف شجر الحائط والجنان. وقال أبو عمر: لم يختلف مالك ولا أصحابه أن القطع واجب على مَن سرق رطبًا أو فاكهة رطبة إذا بلغت قيمتها ثلاثة دراهم وسرقت من حرز، وهو قول الشافعي. وقال الثوري: لا قطع في الثمر إذا كان في رءوس الشجر، ولكن يعزر. وقال عطاء: يعزر، ولا قطع عليه إلا فيما أحرز الجرين. وقال أبو ثور: إذا سرق ثمر نخل أو شجر أو عنب كرم، وذلك الثمر قائم في أصله، وكان محرزًا تبلغ قيمة المسروق من ذلك ما تُقطع اليد فيه؛ قطعت يده. قال أبو عمر: وأما داود وأهل الظاهر فذهبوا إلى قطع كل سارق إذا سرق ما يجب فيه القطع من حرز ومن غير حرز على عموم قوله -عز وجل- وظاهره: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (¬1)، وظاهر قول النبي -عليه السلام-: "القطع في ربع دينار فصاعدًا" (¬2)، ولم يذكر الحرز، وضعف داود حديث عمرو بن شعيب وحديث رافع بن خديج، ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: [38]. (¬2) تقدم.

وشذَّ في ذلك عن جمهور الفقهاء، كما شذَّ أهل البدع في قطع كل سارق سَرَق قليلًا أو كثيرًا من حرز أو غيره. وذكر ابن خواز منداد أن أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وطائفة لا يعتبرون الحرز في السرقة. قال أبو عمر (¬1): هذا غير صحيح عن أحمد بن حنبل، والصحيح عنه في هذا الباب ما ذكره الخرقي وإسحاق بن منصور قال: القطع فيما أوى الجرين والمراح، قال أحمد: المراح للغنم، والجرين للثمار، قال: وقال إسحاق بن راهويه كما قال. ص: واحتجوا في ذلك بما قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الكتاب في غير هذا الباب، لما سئل عن الثمر المعلق فقال: "لا قطع فيه إلا ما آواه الجرين وبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثلية وجلدات نكال". وقد حدثنا بذلك أيضًا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ففرق رسول الله -عليه السلام- في الثمار المسروقة بين ما آواه الجرين منها وبين ما لم يأوه وكان في شجره، فجعل فيما آواه الجرين منها القطع، وفيما لم يأوه الجرين منها الغرم والنكال. فتصحيح هذا الحديث وما روى رافع عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" أن نجعل ما روى رافع هو على ما كان في الحوائط التي لم يحرز ما فيها على ما في حديث عبد الله بن عمرو ما زاد على ما في حديث رافع فهو خلاف ما في حديث رافع، ففي ذلك القطع، ولا قطع فيما سوى ذلك ليستوي هذان الأثران، ولا يتضادان، وهذا قول أبي يوسف -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (23/ 312).

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. أخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقد أخرجه في باب "الرجل يزني بجارية امرأته" عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد ذكرنا هناك أن النسائي (¬1) أخرجه أيضًا. قوله: "إلا ما آواه الجرين" أي إلا ما ضمه الجرين، والجرين -بفتح الجيم وكسر الراء- هو موضع تجفيف الثمر، ويجمع على جُرُن -بضمتين- قيل: الجرين البيدر، وهو للبُرِّ كالمسطح للتمر، والمِجَن -بكسر الميم- هو الترس، وقد ذكرناه فيما مضى. قوله: "ففيه غرامة مثلية" قد مرَّ أن هذا كان في ابتداء الإسلام فنسخ بنسخ الربا. وقال أبو عمر: لا أعلم أحدًا قال بتضعيف القيمة غير أحمد بن حنبل، وسائر العلماء يقولون بالقيمة أو المثل، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) تقدم.

ص: كتاب الأشربة

ص: كتاب الأشربة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأشربة، وهي جمع شراب، وهو اسم لما يشرب وليس بمصدر؛ لأن المصدر هو الشرب بتثليث الشين، يقال: شرب الماء وغيره شَرْبًا وشُربًا وشِربًا، وقرئ: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (¬1) بالوجوه الثلاثة. قال أبو عبيدة: الشَّرب بالفتح المصدر، وبالخفض والرفع اسمان من شربت. ... ص: باب الخمر المحرمة ما هي؟ ش: أي هذا باب في بيان أحكام الخمر المحرمة ما هي؟ وقد مرَّ الكلام في تفسير الخمر وأساميها في باب حد الخمر. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، وعكرمة ابن عمار، عن أبي كثير. وهشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عقبة بن التوم الرقاشي، قال: حدثني أبو كثير اليمامي، قال: "دخلت من اليمامة إلى المدينة لما أكثر الناس في ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: [55].

الاختلاف في النبيذ لألقى أبا هريرة فاسأله عن ذلك، فلقيته، فقلت: يا أبا هريرة إني أتيتك من اليمامة أسألك عن النبيذ، فحدثني عن النبي -عليه السلام- لا تحدثني عن غيره، فقال: سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "الخمر من الكرمة والنخلة". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي الحافظ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي كثير السحيمي الغبري اليمامي الأعمى، قيل: اسمه يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل يزيد بن عبد الله بن أذينة، وقيل: ابن غفيلة. وثقه أبو حاتم وغيره، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح". وأخرجه الجماعة غير البخاري: فمسلم (¬1): عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن الحجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة". وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن أبي كثير، عن أبي هريرة نحوه. وعن زهير بن حرب، وأبي كريب، عن وكيع، عن الأوزاعي وعكرمة بن عمار، وعقبة بن التوم، عن أبي كثير، عن أبي هريرة. وأبو داود (¬2): عن موسى بن إسماعيل، عن أبان، عن يحيى، عن أبي كثير، به. والترمذي (¬3): عن أحمد بن محمد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي وعكرمة ابن عمار، عن أبي كثير، به. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1573 رقم 1985). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 327 رقم 3678). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 297 رقم 1875).

وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬1): سويد، عن عبد الله، وعن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، جميعًا عن الأوزاعي، عن أبي كثير، به. وعن زياد بن أيوب (¬2): عن ابن علية، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، به. وابن ماجه (¬3): عن يزيد بن عبد الله اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن أبي كثير، به. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد -شيخ البخاري- عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬4) نحوه، وقد ذكرناه. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله القرشي الأموي البصري، عن عقبة بن التوم الرقاشي، عن أبي كثير. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬5) أيضًا نحوه. قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" يقتضي بحسب الظاهر أن تنحصر الخمر على هذين الصنفين؛ لأن قوله: "الخمر" اسم للجنس، فاستوعب بذلك جميع ما سمي خمرًا، فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما يسمى باسم الخمر، ولكن أصحابنا الحنفية خصصوا الخمر بعصير العنب المشتد، فأخرجوا ما يتخذ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 294 رقم 5572). (¬2) "المجتبى" (8/ 294 رقم 5573). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1121 رقم 3378). (¬4) تقدم ذكره. (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1573 رقم 1985).

من التمر من جنس الخمر، وأولوا الحديث بتأويل يأتي ذكره عن قريب مستقصى إن شاء الله. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الخمر من التمر ومن العنب جميعًا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: فقهاء أهل المدينة وأهل الحجاز، ولكن بينهم أيضًا خلاف. فذهبت طائفة إلى أن كل شيء أسكر فهو حرام شربه وملكه وبيعه وشراؤه واستعماله على كل أحد، وسواء كان من العنب أو التمر أو التين أو الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك، وسواء طبخ أو لم يطبخ. وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد أيضًا، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا. وذهبت طائفة إلى أن الرطب والبُسر إذا خلطا فشرابهما خمر محرمة، وكذلك التمر والبسر إذا خلطا. وذهبت طائفة إلى أن عصير العنب إذا أسكر ونقيع الزبيب إذ أسكر ولم يطبخا هو الخمر المحرمة، قليلها وكثيرها، وما عدا ذلك حلال ما لم يسكر منه. وذهبت طائفة إلى أن كل ما عصر من العنب ونبيذ التمر ونبيذ الزبيب والرطب والبُسر والزهو ولم يطبخ فهو خمر محرمة قليلها وكثيرها، فإن طبخ عصير العنب حتى يذهب ثلثاه وطبخ سائر ما ذكرنا فهو حلال أسكر أو لم يُسكر، إلا أن السكر منه حرام. وكل نبيذ وعصير ما سوى ذلك مما ذكرنا فحلال أسكر أو لم يُسكر، طبُخ أو لم يُطبخ، والسكر أيضًا منه ليس حرامًا. وقال ابن حزم: وفي هذا الباب اختلاف قديم وحديث بعد صحة الإجماع على تحريم الخمر قليلها وكثيرها.

وقال ابن قتيبة في كتاب "الأشربة": حرَّم الله -عز وجل- بالكتاب الخمر، وبالسنة السُّكر، وعوضنا منها صنوف الشراب من اللبن والعسل، وحلال النبيذ، وليس في شيء مما وقع فيه الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الأشربة، وكيفية ما حل منها وما حُرِّم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول -عليه السلام- وتوافر الصحابة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم، حتى يحتاج ابن سيرين مع بارع علمه وثاقب فهمه إلى أن يسأل عَبيدة السلماني عن النبيذ، حتى يقول عَبيدة -وقد لحق خيار الصحابة وعلمائهم منهم علي وابن مسعود - رضي الله عنهما -: اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية: "أحدث الناس أشربة كثيرة ما في شراب منذ عشرين سنة إلا لبن أو ماء أو عسل". وإن شيئًا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة؛ لحريُّ أن يشكل على من بعدهم، وتختلف فيه آراؤهم، ويكثر فيه تنازعهم. وقد أجمع الناس على تحريم الخمر إلا قومًا من مُجَّان أصحاب الكلام وفُساقهم ممن لا يعبأ الله بهم؛ فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة، وإنما نهى الله -عز وجل- عن شربها تأديبًا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬1)، وقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬2)، وكقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (¬3). وقالوا: لو أراد تحريم لقال: حرمت عليكم الخمر، كما قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬4) وليس للشغل بهؤلاء وجه، ولا يستبق الكلام بالحجج عليهم معنى؛ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على الإجماع. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: [33]. (¬2) سورة النساء، آية: [34]. (¬3) سورة الإسراء، آية: [29]. (¬4) سورة المائدة، آية: [3].

وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما عدا وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرًا حتى يصير خلًّا، وأنها ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير، وإنما حرمت بغرض دَخَلَها، فإذا زايلها ذلك الغرض عادت حلالًا كما كانت قبل الغليان حلالًا، كالمسك كان دمًا عبيطًا دائمًا ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبًا حلالًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الخمر المحرمة في كتاب الله -عز وجل- هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش العصير وألقى بالزبد. هكذا كان أبو حنيفة يقول. وقال أبو يوسف: إذا نش وإن لم يلق بالزبد فقد صار خمرًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: الخمر التي حرمها الله تعالى في القرآن ونصَّ عليها هي التي من عصير العنب إذا نش، من نَشَّ يَنِشُّ نَشِيشًا، وهو صوت الماء وغيره عند الغليان. ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في الإلقاء بالزبد بعد الغليان، هل هو شرط أم لا؟ فقال أبو حنيفة: شرط، وقال أبو يوسف: ليس بشرط. وقد ذكر صاحب "الهداية" والنسفي وغيرهما محمدًا مع أبي يوسف، وقالوا: قال أبو يوسف ومحمدًا: القذف بالزبد ليس بشرط، لأنه سمي خمرًا قبل ذلك. وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وأما الغليان والشدة فشرط بالإجماع، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء": إن سفيان قال: اشرب العصير ما لم يغل، وغليانه أن يقذف بالزبد، فإذا غلا فهو خمر، وكذلك قال أصحاب الرأي، وهو قول الشافعي، وقال أحمد وإسحاق: يشرب العصير ما لم يغل، أو يأتي عليه ثلاثة أيام، فإذا أتى عليه ثلاثة أيام لم يشرب، غلا أو لم يغل.

واحتجوا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "اشرب العصير ما لم يأخذه شيطانه، قال: في ثلاثة أيام". وقال الشافعي: ما دام العصير حلوًا لم يشتد فهو حلال، وسواء أتى عليه ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر إذا لم يتغير عن حاله، وكان حلوًا مثل أول عصيره. ص: وليس الحديث الذي رويناه عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- في أول هذا الباب مخالف لذلك عندنا؛ لأنه يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يكون كما قال أهل المقالة الأولى، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" إحداهما فعمها بالخطاب وأراد إحداهما دون الأخرى كما قال الله -عز وجل-: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (¬1) وإنما يخرج من أحدهما، وكما قال -عز وجل-: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (¬2) والرسل من الإنس لا من الجن، وكما قال رسول الله -عليه السلام- في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - إذ أخذ على أصحابه في البيعة كما أخذ على النساء أن لا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ثم قال: "فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له". حدثنا بذلك يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام-. وقد علمنا أن مَن أشرك فعوقب بشركه فليس ذلك بكفارة له، فدل ما ذكرنا أنه إنما أراد بقوله -عليه السلام-: "فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به". أنه إنما أراد ما سوى الشرك مما ذكر في هذا الحديث، فلما كانت هذه الأشياء قد جاء ظاهرها على الجميع، وباطنها على خاص من ذلك، احتمل أيضًا أن يكون قوله: "الخمر ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، آية: [22]. (¬2) سورة الأنعام، آية: [130].

من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" ظاهر ذلك عليهما وباطنه على إحداهما، فتكون الخمر المقصودة في ذلك من العنبة لا من النخلة. ويحتمل أيضًا قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" أن يكون عنى به الشجرتين جميعًا، ويكون ما خمر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله- في نقيع الزبيب والتمر، فجعلوه خمرًا. ويحتمل قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" أن يكون أراد أن الخمر منهما وإن كانت مختلفة على أنها من العنب ما قد عقلنا من الخمر، وعلى أنها من التمر ما يسكر، فيكون خمر العنب هي عصير العنب إذا اشتد، وخمر التمر هي المقدار من نبيذ التمر الذي يُسكر. فلما احتمل هذا الحديث هذه الوجوه التي ذكرنا لم يكن الأخذ بأحدها أولى من بقيتها، ولم يكن لمتأول أن يتاوله على أحدها إلا كان لخصمه أن يتأوله على ضد ذلك. ش: لما كان حديث أبي هريرة الذي احتجت به أهل المقالة الأولى بظاهره حجة على أهل المقالة الثانية؛ أجاب عن ذلك نصرةً لهم. تقريره: أن حديث أبي هريرة يحتمل وجوهًا متعددة من المعاني: الأول: أن يكون الكلام على ظاهره كما قاله أهل المقالة الأولى، ويكون الخمر من الشجرتين النخلة والعنبة. الثاني: يحتمل أن يكون ذلك واردًا على المجاز، وهو أن يكون المذكور شيئين ويكون المراد أحدهما، كما في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (¬1) فإن المذكور هاهنا بحران وهما: بحر فارس وبحر هند، وأسند خروج اللؤلؤ والمرجان إليهما، وفي الحقيقة لا يخرجان إلا من بحر فارس. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، آية: [22].

وهذا باب واسع، وله شواهد كثيرة في كلام العرب في النثر والنظم، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (¬1) فإنه خاطب الإنس والجن وأسند إتيان الرسل إليهم، والحال أن الرسل من الإنس لا من الجن، ومن هذا القبيل ما ذكر فيه أشياء وأريد منها واحد، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، فإن المذكور فيه الإشراك والسرقة والزنا، وأما الذي أريد منه فهو: ما سوى الإشراك؛ لأن مَن أشرك فعوقب بسبب شركه فإن ذلك ليس بكفارة له. وإسناد الحديث المذكور صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله. وأخرجه البخاري (¬2): عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه. وعن إسحاق بن منصور (¬3)، عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري. وعن عبد الله بن محمد (¬4)، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري. ومسلم (¬5): عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق ابن راهويه وابن نمير، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري. وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. والترمذي (¬6): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: [130]. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 15 رقم 18). (¬3) "صحيح البخاري" (3/ 1413 رقم 3679). (¬4) "صحيح البخاري" (6/ 2494 رقم 6416). (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1333 رقم 1709). (¬6) "جامع الترمذي" (4/ 45 رقم 1439).

وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب حدثه، عن عبادة، نحوه، ولم يذكر أبا إدريس. وعن يعقوب بن إبراهيم (¬2)، عن غندر، عن معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس نحوه. وعن قتيبة (¬3)، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس، به. وقد طعن بعضهم فيما ذكره الطحاوي فقال: أما الأول: فلا نسلِّم أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين، بل يخرجان من كليهما جميعًا. وأما الثاني: فلأن الجن منهم رسل؛ لأنهم بنص القرآن متعبدون، موعدون بالنار وموعودون بالجنة. ثم ذكر ما رواه مسلم (¬4): عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "فضلت على الأنبياء بستٍّ. . . ." فذكر فيها: "وأرسلت إلى الخلق كافة". وأما الثالث: فلأن قوله: "فمن أصاب من ذلك شيئا. . . . إلى آخره" على العموم؛ وذلك لأن الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين والفساق والكفار وإبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب كلهم في مشيئة الله -عز وجل-، يفعل فيهم ما يشاء من عقوبة أو عفو، إلا أنه تعالى قد بيَّن أنه يعاقب الكفار ولابد، وإبليس ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 141 رقم 4161). (¬2) "المجتبى" (7/ 148 رقم 4178). (¬3) "المجتبى" (7/ 161 رقم 4210). (¬4) "صحيح مسلم" (1/ 371 رقم 523).

وأبا جهل وأبا لهب وفرعون ولابد، ويرضى عن الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين ولابد، وكلهم في المشيئة لا يخرج شيء من ذلك عن مشيئة الله تعالى، مَن عاقب فقد شاء أن يعاقبه، ومَن أدخله الجنة فقد شاء أن يدخله الجنة. قلت: هذا كلام مدخول كله. أما الأول: فلأنه صادر عن عناد؛ لأنه لم ينقل عن أحد أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين جميعًا. وهذا معلوم بالمشاهدة والعيان فلا يحتاج في ذلك إلى إقامة البرهان. وأما الثاني: فلأنه يخالف أقوال الجمهور من أئمة التفسير؛ فإنهم قالوا: لا يجوز كون الرسل إلا من الملائكة إلى الملائكة أو إلى الأنبياء -عليهم السلام-، أو من البشر إلى البشر أو إلى البشر والجن؛ قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (¬1)، وقال تعالى في صفة الرسل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (¬2). والجن لا يأكلون الطعام (¬3) فلا يكون منهم رسول. فالذي ذهب إليه هذا المعترض هو منقول عن مقاتل، وهو مخالف لأقوال أئمة التفسير، وقول ابن عباس أيضًا فإن قوله مثل قول الجمهور. وأما الثالث: فلأنه كلام يُبنى على رأي الفلاسفة يظهر ذلك بالتأمل، ولا يخفى على مَن له يد في علم الكلام. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: [75]. (¬2) سورة الأنبياء، آية: [8]. (¬3) يعكر على هذا الاستدلال قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العظم والروث: "هو طعام إخوانكم من الجن". كما عند البخاري في "صحيحه" (3/ 1401 رقم 3647) من حديث أبي هريرة. ومسلم في "صحيحه" (1/ 332 رقم 450) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

الوجه الثالث من الاحتمالات: يُحتمل أن يكون المراد به الشجرتين جميعًا، ويكون ما خُمِّر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في نقيع الزبيب والتمر، فجعلوه خمرًا. وقال صاحب "التقريب": روى ابن رستم، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: الأنبذة كلها حلال إلا أربعة: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه، ونقيع التمر ونقيع الزبيب. وكان قول أبي يوسف فيما رواه ابن سماعة: أن كل شراب يبقى عشرة أيام بعد بلوغه فلا خير فيه. ثم رجع إلى قول أبي حنيفة. وروى هشام، عن محمد قال: كل ما أسكر كثيره فلا أحرمه، وأحب إليَّ أن لا أشربه. وذكر في "الأصل" قال أبو يوسف: يكره كل شراب يزداد جودةً على طول الترك في الأيام دون عشرة أيام؛ فإن كان يحمض في عشرة أيام أو أقل منه فلا بأس به. وهو قول محمد، ثم رجع أبو يوسف وقال: لا بأس بذلك كله. قلت: الذي ذكره محمد بن رستم عن محمد، عن أبي يوسف عن أبي حنيفة؛ لا يحفظ عن أبي حنيفة، والمحفوظ عنه ما ذكره محمد في "الجامع الصغير": أنا يعقوب، عن أبي حنيفة قال: الخمر قليلها وكثيرها حرام في كتاب الله، والسُّكر عندنا حرام مكروه، ونقيع الزبيب عندنا إذا اشتد وغلى حرام مكروه، والطلاء ما زاد على ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو مكروه، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به. الوجه الرابع: يحتمل أن يكون أراد أن الخمر تكون من هاتين الشجرتين، وإن كانت مختلفة، ولكن يكون المراد من العنب هو الذي يفهم منه، وهو الخمر سواء

كان قليلًا أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكر، ويكون المراد من التمر هو الذي يكون مسكرًا منه، ولا يكون غير المسكر داخلًا فيه، فيكون خمر العنب هي العصير منه إذا غلى واشتد، وخمر التمر هو المقدار الذي يُسكر، لا مطلق ذلك؛ فافهم. فهذه أربع احتمالات ليس الذهاب إلى أحدها أولى من الآخر، ولا لمتأول أن يتأوله على أحدها إلا ولخصمه أن يتأوله على خلاف ذلك. فإن قيل: ما الحاجة إلى هذه التأويلات، فَلِمَ لا يعمل بما يتناوله اللفظ، فما الحاجة إلى العدول عن ذلك؟. قلت: لأن اسم الخمر في الحقيقة يتناول التي من ماء العنب إذا غلى واشتد، وتسمية ماء التمر وغيره من الأشربة المحرمة باسم الخمر بطريق التشبيه بالخمر، والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة، واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من الأشربة غير مستحق لسمة الكفر، فلو كانت خمرًا لكان مستحلها كافرًا خارجًا عن الملة كمستحل المشتد من عصير العنب، فإذا كان كذلك، يحتاج الحديث إلى التأويل، وقد ذكرنا أنه يحتمل تأويلات متعددة. فإن قيل: كل ما أسكر يطلق عليه أنه خمر، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". قلت: المعنى في هذا الخبر وفيما هو مثله من الأخبار: أنه يسمى خمرًا حالة وجود السكر دون غيره، بخلاف ماء العنب المشتد فإنه خمر سواء أسكر أو لم يُسكر، وقد تواترت الأخبار عن جماعة من السلف شربت النبيذ الشديد، منهم: عمر، وعبد الله، وأبو الدرداء، وبريدة في آخرين، فينبغي على قول مَن يُطلق الخمر حقيقة على غير ماء العنب أن يكون هؤلاء قد شربوا خمرًا، وحاشى هؤلاء من ذلك. ص: فإن قال قائل: فما معنى حديث ابن عمر - رضي الله عنه -؟ يريد ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، قال: سمعت ابن إدريس، قال:

سمعت أبا حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - على منبر رسول الله -عليه السلام- يقول: "أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي يومئذٍ من خمسة: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل". ش: توجيه السؤال أن يقال: إنكم قد خصصتم الخمر بالنيء من ماء العنب المشتد، وأولتم حديث أبي هريرة الناطق بأن الخمر هي التي تكون من العنب والتمر بما أولتم فيما مضى، فما تقولون في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ فإنه يصرِّح في حديثه أن الخمر تكون من خمسة أشياء وهي: التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عبد الله بن نُمير الهمداني الكوفي الحافظ شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن عبد الله بن إدريس الزعافري، عن أبي حيان -بالحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- التيمي، واسمه يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عبد الله بن عمر، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا أحمد بن أبي رجاء، ثنا يحيى، عن أبي حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر قال: "خطب عمر - رضي الله عنه - على منبر رسول الله -عليه السلام- فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل. . . ." الحديث. ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عمر والنعمان - رضي الله عنهم -، عن النبي -عليه السلام-. حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن من ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2122 رقم 5266).

العنب خمرًا، ومن العسل خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن الحنطة خمرًا، ومن التمر خمرًا. وأنا أنهاكم عن كل مسكر". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي -عليه السلام- مثله. غير أنه لم يذكر قوله: "وأنا أنهاكم عن كل مسكر. ش: أي قد روي مثل ما روي عن عمر بن الخطاب، عن عبد اللَّه بن عمر والنعمان بن بشير. أما حديث ابن عمر: فأخرجه عن الربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- الأسود بن عبد الجبار المصري راوية ابن لهيعة، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثني أبي، ثنا ابن لهيعة، حدثني أبو النضر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال: "إن من العنب خمرًا، ومن العسل خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، [ومن التمر خمرًا] (¬2)، ومن الحنطة خمرًا، وأنا أنهى عن كل مسكر". وأما حديث النعمان: فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي الكوفي، عن عامر الشعبي، عن النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (12/ 295 رقم 13159). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير".

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا". وأخرجه الترمذي (¬2): نا محمد بن يحيى، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن عامر الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن العسل خمرًا". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. ص: قيل: يحتمل هذان الحديثان جميع المعاني التي شملها الحديث الأول غير معنى واحد، وهو ما احتمله الحديث الأول، حمله عليه مَن ذهب إلى كراهة نقيع الزبيب والتمر؛ فإنه لا يحتمله هذا الحديث؛ لأنه قد قرن مع ذلك خمر الحنطة وخمر الشعير، وهم لا يقولون ذلك؛ لأنهم لا يرون بنقيع الحنطة والشعير بأسًا، ويفرقون بينهما وبين نقيع التمر والزبيب؛ فذلك التأويل لا يحتمله هذا الحديث، ولكنه يحتمل التأويلات الأخرى كما يحتمله الحديث الأول. ش: هذا جواب عن السؤال المذكور، وبيانه أن يقال: يحتمل هذان الحديثان -يعني حديث عمر بن الخطاب، وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - جميع المعاني -أي التأويلات- التي يحتملها الحديث الأول -يعني حديث أبي هريرة- غير معنى واحد وهو التأويل الثالث وهو أن يكون المراد به الشجرتين جميعًا ويكون ما خمر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه في نقيع الزبيب والتمر فجعلوه خمرًا فإن هذا لا يحتمله هذا الحديث؛ لأنه قرن مع ذلك خمر ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 326 رقم 3676). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 297 رقم 1872).

الحنطة وخمر الشعير وهم لا يقولون ذلك -يعني من ذهب إلى كراهة نقيع الزبيب والتمر لا يقولون ذلك- لأنهم لا يرون بنقيع الحنطة والشعير بأسًا، ويفرقون بين هذين النقيعين بين نقيع التمر والزبيب حيث لا يرون ذاك بأسًا ويمنعون هذا، فإذا كان كذلك لا يحتمل هذا الحديث ذلك التأويل، ولكن يحتمل التأويلات الأُخر، وهي التأويلات الثلاث الباقية: الأول: ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر الكلام. الثاني: أن يكون المراد من هذه الأشياء المذكورة هو شيئًا واحدًا، وهو ماء العنب على طريق ذكر أشياء وإرادة شيء واحد، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. الثالث: أن يكون أراد أن الخمر من هذه الأشياء وإن كانت مختلفة ولكن يكون المراد من العنب هو الذي يُفهم منه، وهو الخمر أسكر أو لم يُسكر، ويكون المراد من غيره وهو التمر والعسل والحنطة والشعير هو المقدار المسكر منه. فإذا احتمل هذان الحديثان هذه التأويلات المذكورة؛ لم يكن الأخذ بأحدها أولى منه ببقيتها، وكل مَن يتأوله على أحد هذه المعاني يتأوله خصمه على ضده؛ فافهم. ص: فإن احتج محتج في ذلك بما روي عن أنس - رضي الله عنه -، وهو ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا أبو إسحاق الهمداني، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنا في عهد النبي -عليه السلام- ننتبذ الرطب والبُسر، فلما نزل تحريم الخمر هرقناهما من الأوعية، ثم تركناهما". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس قال: "كان أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن البيضاء وأبي بن كعب عند أبي طلحة - رضي الله عنهم - وأنا أسقيهم من شراب،

حتى كاد يأخذ منهم، قال: فمر بنا مارّ من المسلمين، فنادى: ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت، فوالله ما انتظروا أن أمروني أن أكفئ ما في الآنية ففعلت، فما عادوا في شيء منها حتى لقوا الله -عز وجل-، وإنها لَلْبُسْر والتمر؛ وإنها لخمرنا يومئذٍ". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس مثله. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا ثابت وحميد، عن أنس قال: "كنت أسقي أبا طلحة وسهيل بن بيضاء وأبا عبيدة بن الجراح وأبا دجانة خليط البُسر والتمر حتى أسرعت فيهم، فمر رجل فنادى: ألا إن الخمر قد حرمت، ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أحقًّا ما قال أم باطلًا؟ فقال: أكفئ إناءك يا أنس فكفأتها، فلم ترجع إلى رءوسهم حتى لقوا الله -عز وجل-، قال: وكان خمرهم يومئذٍ البُسر والتمر". حدثنا عبد الله بن خُشَيْش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "إني لأسقي أبا طلحة وأبا دُجانة وسُهيل بن بيضاء خليط بُسر وتمر؛ إذْ حرمت الخمر، فأرقتها وأنا ساقيهم يومئذٍ وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذٍ خمرًا". قالوا: ففي هذه الآثار ما يدل على أن ذلكم أيضًا خمر. ش: أي: فإن استدل مستدل من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه -من أن الخمر تكون من غير العنب أيضًا- بما روي عن أنس - رضي الله عنه -؛ لأنه يخبر في أحاديثه المذكورة أن ما يُعمل من التمر خمر، كالذي يُعمل من العنب. وأخرجها من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، عن بُرَيد -بضم الباء الموحدة وفتح الراء

المهملة وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم مالك بن ربيعة السلولي البصري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أنس بن مالك قال: "كنا ننتبذ الرطب والبُسر على عهد رسول الله -عليه السلام-، فلما نزل تحريم الخمر أهرقناها من الأوعية، ثم تركناها". الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا [إسماعيل بن جعفر] (¬3) عن حميد، عن أنس قال: "كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهل بن بيضاء ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة، فأنا أسقيهم حتى كاد الشراب أن يأخذ فيهم، فأتى آتٍ من المسلمن فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس، اكفئ ما بقي في إنائك. قال: فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذٍ". الثالث: عن علي بن شيبة، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه النسائي (¬4): أنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "حرمت الخمر حين حرمت وإنه لشرابهم البُسر والتمر". الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وحميد الطويل، عن أنس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 92 رقم 24014). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 181 رقم 12892). (¬3) كذا في "الأصل، ك"، وفي "المسند" بدل إسماعيل بن جعفر: يحيى، والباقي سواء بسواء. (¬4) "المجتبى" (8/ 288 رقم 5543).

وأخرجه أبو يعلى (¬1): عن أبي الربيع، عن حماد، عن ثابت، عن أنس قال: "كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادي ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجرت في سكك المدينة، فقال أبو طلحة: أخرج فأرقها. قال: فأهرقتها. . . ." الحديث. الخامس: عن عبد الله بن محمد بن خُشَيْش -بالمعجمات وضم الأول- عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬2): عن يحيى بن أيوب، عن ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا دجانة ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار، فدخل علينا داخل فقال: حدث خبرٌ، نزل تحريم الخمر، فأكفأناها يومئذٍ وإنها لخليط البُسر والتمر". وأخرجه أيضًا (¬3): عن أبي غسان وابن مثنى وابن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال: "إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء من مزادة فيها خليط بسر وتمر. . . ." بنحو حديث سعيد. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا مسلم، ثنا هشام، نا قتادة، عن أنس قال: "إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن البيضاء خليط بُسر وتمر؛ إذْ حرمت الخمر، فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذٍ الخمر". قوله: "كنا ننبذ" بفتح النون، من نبذت التمر والعنب: إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، وانتبذته: اتخذته نبيذًا، وروي في رواية ابن أبي شيبة: "كنا ننتبذ" وفي رواية الطحاوي: "كنا ننبذ" وكلاهما صحيح. ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (6/ 101 رقم 3362). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1571 رقم 1980). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1572 رقم 1980). (¬4) "صحيح البخاري" (5/ 2126 رقم 5278).

قوله: "هرقناهما" أي أرقناهما من الإراقة، والهاء قد تبدل من الهمزة، وفي رواية ابن أبي شيبة: "أهرقناهما" أي أرقناهما، والهاء زائدة. قوله: "من الأوعية" جمع وعاء، وهي الظرف. قوله: "أن أكفئ" من كفأت القِدر إذا كببتها لتفرغ ما فيها، وقال ابن الأثير: يقال: كفأت الإناء، وأكفأته إذا كببته وإذا أملته. قوله: "وانها للبسر" أي وإن الخمر للبسر والتمر، و"اللام" فيه للتأكيد. قوله: "إني لأسقي أبا طلحة" اللام فيه للتأكيد. وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري. وأبو دُجانة اسمه سماك بن خرشة الأنصاري، قتل يوم اليمامة، وهو أحد من قتل مسيلمة الكذاب. ص: قيل له: ليس فيه دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك الشراب نقيع تمر مخمر، فثبت بذلك قول من كره نقيع التمر، ولا يجب بذلك حرمة طبخه، ويحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك لعلمهم أن كثير ذلك يُسكر، فلم يأمنوا على أنفسهم الوقوع فيه لقرب عهدهم به، فكسروه لذلك. وأما قول أنس - رضي الله عنه -: "وإنها لخمرنا يومئذٍ" فيحتمل أن يكون أراد: أن ذلك ما كنا نخمر. ش: أي قيل للمحتج المذكور بأحاديث أنس المذكورة، وأراد بهذا الجواب عن ذلك، تقريره: أن يقال: ليس فيما ذكرتم دليل على كون الخمر من غير العنب؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك الشراب الذي كان أنس يسقيه لأولئك الرهط من الأنصار نقيع تمر مخمر، فأطلق عليه الخمر لذلك لا لكونه خمرًا حقيقة. والتحقيق فيه أن نقول: إنهم اتفقوا على أن عصير العنب النيء المشتد هي الخمر، ولم يخالف أحد في ذلك، ثم بعد ذلك إطلاقهم الخمر على ما يعمل من

التمر ونحوه يكون بطرق التشبيه بالخمر، كالفضيخ -وهو نقيع البُسر ونقيع التمر وإن لم يتناولها اسم الإطلاق- وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة، منها ما روى مالك بن مغول، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" (¬1)، وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع البُسر والتمر وسائر ما يتخذ منها من الأشربة، ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية، فهذا يدل على أن أشربة الخل لم تكن عنده تسمى خمرًا. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ" (¬2). فأخبر أن الفضيخ خمر، وجائز أن يكون سماه خمرًا من حيث إنه كان شرابًا حرامًا. وكذلك ما روي عن أنس: "أنها لَلْبُسر والتمر، وإنها لخمرنا يومئذٍ" (¬3) فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البُسر والتمر، وهذا جائز أن يكون لما كان محرمًا سماه خمرًا، وأن يكون المراد ما كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامه، لا أن ذلك اسم له على الحقيقة، ويدل على ذلك أن قتادة روى عن أنس أنه قال: "وإنا نعدها يومئذٍ خمرًا" (3) فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرًا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر. وروي عن المختار بن فلفل أنه قال: "سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال: "حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمرت من ذلك فهو خمر"، فذكر في حديثه الأول أنه من البُسر والتمر، وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء، فكان عنده أن ما أسكر منه من هذه الأشربة فهو خمر، وهذا يدل على أنه إنما سمى ذلكم خمرًا في حال الإسكار، وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/ 2120 رقم 5257). (¬2) انظر "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 23). (¬3) تقدم.

قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من جواز كون ذلك الشراب نقيع تمر مخمر. "قول مَن كره نقيع التمر"، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه. قوله: "ويحتمل أن يكونوا. . . ." إلى آخره. جواب آخر، وهو ظاهر. ص: والدليل على ذلك أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى: "أن أباه بعثه إلى أنس - رضي الله عنه - في حاجة، فأبصر عنده طلاءً شديدًا" (¬1). والطلاء ما يُسكر كثيره، فلم يكن ذلك عند أنس خمرًا وإن كثيره يسكر، فثبت بما وصفنا أن الخمر لم يكن عند أنس من كل شراب يُسكر، ولكنها من خاص. من الأشربة. ش: أي الدليل على أن أنسًا - رضي الله عنه - قد أراد بقوله: "وإنها لخمرنا يومئذٍ" ما كنا نخمر، ما قد حدثنا فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ الشيخين وأبي داود، عن أبي شهاب الصغير عبد ربه بن نافع الكناني الحناط -بالنون- الكوفي نزل المدائن، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي الكوفي، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن أباه عبد الرحمن بن أبي ليلى بعثه إلى أنس بن مالك - رضي الله عنه - في حاجة، فأبصر عنده طلاءً شديدًا". انتهى. والطلاء ما يُسكر كثيره، فلم يكن ذلك عند أنس خمرًا والحال أن كثيره يُسكر. فثبت بذلك أن الخمر لم يكن عند أنس من كل شراب يُشرب ويُسكر، وإنما هي اسم لشراب خاص من بين الأشربة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 112 رقم 12120)، وأبو يعلى في "مسنده" (7/ 50 رقم 3966).

وهذا الأثر يدل على أن أنسًا كان يشرب الطلاء. قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان ووكيع، عن عبيدة، عن خيثمة، عن أنس - رضي الله عنه - "أنه كان يشرب الطلاء على النصف"، وكذا روي عن البراء وأبي جحيفة، وجرير بن عبد الله، وابن الحنفية، وشريح القاضي، وقيس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشعبي - رضي الله عنهم - (¬2). وقال أصحابنا الحنفية: العصير المسمى بالطلاء إذا طبخ فذهب أقل من ثلثيه يحرم شربه. وقيل: الطلاء هو الذي يذهب ثلثه، وإن ذهب نصفه فهو المنصف، وإن طبخ أدنى طبخة فهو الباذق، والكل حرام إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. وكذا يحرم نقيع الرطب وهو المسمى بالسَّكر إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. وكذلك نقيع الزبيب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. ولكن حرمة هذه الأشياء دون حرمة الخمر، حتى لا يكفر مستحلها، ولا يجب الحد بشربها ما لم يُسكر، ونجاستها خفيفة في رواية، وغليظة في أخرى، ويجوز بيعها عند أبي حنيفة، وتضمن قيمتها بالإتلاف. وقال: لا يحرم بيعها ولا يضمنها بالإتلاف. وقد قال بعضهم: إن الباذق: الخمر المطبوخ. قال ابن التين: هو اسم فارسي عرَّبته العرب. وقال الجواليقي: باذه أي باذق، وهو الخمر المطبوخ. وقال الداودي: هو يشبه الفقاع، إلا أنه ربما يشتد. وقال البخاري (¬3): باب الباذق: ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، عن أبي الجويرية قال: "سألت ابن عباس عن الباذق، فقال: سبق محمد -عليه السلام- الباذق، فما أسكر فهو حرام. قال: الشراب الحلال الطيب؟ قال: ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 94 رقم 24037). (¬2) انظر "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 94 - 95 رقم 24034 - 2045). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2125 رقم 5276).

وقال ابن التين: هو بفتح الذال، وقال أبو الحسن عن بعض الحذاق: لم يُرد ابن عباس أن الباذق اسم حدث بعد سيدنا رسول الله -عليه السلام- وأنه لم يكن قديمًا في العرب. وسئل عن فتح الذال فقال: ما وقفنا عليه، ولكن الذي قرأ بكسرها. وقال ابن بطال: يعني سبق محمد -عليه السلام- بتحريم الخمر قبل تسميتهم لها بالباذق، وهو من شراب العسل، وزعم ابن قرقول أنه طلاء مطبوخ من عصير العنب، كان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر، وكان مسكرًا. والاسم لا ينقلب عن معناه الموجود فيه، وقال ابن سيده: هو الخمر، وقال القزاز: هو ضرب من الأشربة. ص: وقد وجدنا من الأثار ما يدل على ما ذكرنا أيضًا مما تأولنا عليه أحاديث أنس - رضي الله عنه -. حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر بن كدام، عن أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس قال: "حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب". فأخبر ابن عباس - رضي الله عنه - أن الحرمة وقعت على الخمر بعينها، وعلى السكر من سائر الأشربة سواها، فثبت بذلك أن ما سوى الخمر التي حرمت مما يُسكر كثيره قد أبيح شرب قليله الذي لا يُسكر على ما كان عليه من الإباحة المتقدمة لتحريم الخمر، وأن التحريم الحادث إنما هو في عين الخمر خاصة، والسكر مما سواها من الأشربة؛ فاحتمل أن تكون الخمر المحرمة هي عصير العنب خاصة، واحتمل أن يكون كل ما خمر من عصير العنب وغيره، فلما احتمل ذلك وكانت الأشياء قد تقدم تخليلها جملة ثم حدث التحريم في بعضها، لم يخرج شيئا مما قد أجمع على تخليله إلا بالاجماع يأتي على تحريمه، ونحن نشهد على الله -عز وجل- أنه قد حرم عصير

العنب إذا حدثت فيه صفات الخمر، ولا نشهد عليه أنه حرم ما سوى ذلك إذا حدث فيه مثل هذه الصفة، فالذي نشهد على الله -عز وجل- بتحريمه إياه هي الخمر التي آمنا بتأويلها من حيث قد آمنا بتنزيلها، والذي لا نشهد على الله أنه حرمه هو الشراب الذي ليس بخمر، فما كان من الخمر فقليله وكثيره حرام؛ وما كان سوى ذلك من الأشربة فالسكر منه حرام، وما سوى ذلك منه مباح، هذا هو النظر عندنا. ش: أي قد وجدنا من الأحاديث ما يدل على ما ذكرنا من التأويل في أحاديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وهو حديث ابن عباس، أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن مسعر بن كدام، عن أبي عون محمد بن عبد الله بن سعد الأعور الثقفي الكوفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس. وأخرجه قاسم بن أصبغ: ثنا أحمد بن زهير: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال: "حرمت الخمر بعينها، القليل منها والكثير، والسكر من كل شراب". وأخرجه ابن حزم أيضا من هذا الطريق، وقال: هذا خبر صحيح، ثم قال: ولا حجة لهم فيه لأنا رويناه من طريق أحمد بن شعيب يعني النسائي، أنا محمد بن عبد الله: ثنا محمد، وأنا الحسين بن منصور: ثنا أحمد بن حنبل: نا محمد بن جعفر: نا شعبة، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال: "حرمت الخمر بعينها، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب"، ثم قال: وشعبة إلى ثلاث أضبط وأحفظ من أبي نعيم، وقد روي فيه زيادة على ما روى أبو نعيم، وزيادة العدل لا يحل تركها. قلت: أراد بالزيادة: لفظة الميم في "المسكر" في رواية النسائي: "المسكر من

كل شراب" على صيغة اسم الفاعل، وهي رواية شعبة عن مسعر، ورواية أبي نعيم عن مسعر: "والسكر من كل شراب" على صيغة المصدر. وعن هذا قال أبو جعفر النحاس: إثبات الميم فيه هو الصحيح. قلت: تابع أبو نعيم جعفر بن عون؛ فرواه عن مسعر كذلك -يعني على صيغة المصدر- وتابع مسعر الثوري؛ فرواه عن أبي عون كذلك. وأخرجه الطبري: ثنا محمد بن موسى الحرشي: ثنا عبد الله بن عيسى: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: "حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كل شراب". وأخرجه أبو حنيفة - رضي الله عنه - في "مسنده": عن عون بن أبي جحيفة، قال: قال ابن عباس: "حرمت الخمر لعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب"، فهذان وجهان آخران بدون لفظة الميم. فإن قلت: قال الأصيلي: لم يسمع عبد الله بن شداد هذا الحديث من ابن عباس، قاله الإمام أحمد بن حنبل، وقال: قد بينه هشيم، فقال: أخبرني الثقة عن ابن عباس. قلت: قول المثبت أولى من قول النافي، والدليل على صحة رواية الطبري وأبي حنيفة. ثم إن هذا الحديث يدل على شيئين: الأول: أن تحريم الخمر لذاتها ولعينها، فلذلك يستوي فيها القليل والكثير، والسكر وعدمه؛ فصارت كالنجاسة المغلظة لذاتها. الثاني: أن غير الخمر إنما يحرم لأجل الإسكار، حتى إذا لم يسكر لا يحرم، وأشار الطحاوي إلى هذا بقوله: "فثبت بذلك أن ما سوى الخمر التي حرمت. . . . إلى آخره".

قوله: "هذا هو النظر عندنا" أي القياس الصحيح، ووجه ما بينه مستقصى. ص: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- غير نقيع الزبيب والتمر خاصةً فإنهم كرهوه، وليس ذلك عندنا في النظر كما قالوا؛ لأنا وجدنا الأصل المجتمع عليه أن نيء العصير وطبيخه سواء، وأن الطبخ لا يحل ما لم يكن حلالًا قبل الطبخ إلا الطبخ الذي يخرجه من حد العصير إلى أن يصير في حد العسل فيكون بذلك حكمه حكم العسل، ورأينا طبيخ الزبيب والتمر مباحًا باتفاقهم، فالنظر على ذلك أن يكون فيهما كذلك، فيستوي نبيذ التمر والعنب النيء والمطبوخ كما استوى في العصير وطبيخه، فهدا هو النظر. ولكن أصحابنا خالفوا ذلك التأويل الذي تأولوا عليه حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما - اللذين ذكرنا؛ لشيء رووه عن سعيد بن جبير، فإنه حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير، أنه قال في ذلك: "هي الخمر فاجتنبها". والله أعلم. ش: أي الذي ذكرناه من النظر هو قول أبي حنيفة وصاحبيه. قوله: "غير نقيع الزبيب والتمر خاصة" استثناء من الحكم السابق. وإنما استثنى أبو حنيفة وصاحباه نقيع الزبيب والتمر من بين سائر الأشربة المباحة، وألحقوهما بالخمر مع أن وجه النظر والقياس كان يقتضي إلحاقهما بالأشربة المباحة؛ لأجل ما روي عن سعيد بن جبير؛ فإنه قال في ذلك: "هي الخمر فاجتنبها". أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن شبرمة القاضي، عن سعيد بن جبير.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه سئل عن نقيع الزبيب، فقال: الخمر اجتنبوها". نا حفص (¬2)، عن أشعث، عن بكير، عن سعيد بن جبير قال: "لأن أكون حمارًا يستقى عليَّ أحب إليَّ من أن أشرب نبيذ زبيب معتق". والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 76 رقم 23841). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 76 رقم 23842).

ص: باب ما يحرم من النبيذ

ص: باب ما يحرم من النبيذ ش: أي هذا باب في بيان ما يحرم من النبيذ، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والذرة والأرز ونحو ذلك، من نبذت التمر إذا ألقيت عليه الماء ليخرج عليه حلاوته إليه، وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ: خمر. ص: حدثنا يزيد بن سنان وربيع الجيزي، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، عن سفيان بن وهب الخولاني، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام". ش: عبد الله بن مسلمة القعنبي، شيخ البخاري وأبي داود. وعبد الله بن عمر هو ابن غانم الإفريقي قاضيها. وثقه ابن يونس. وروي له البخاري وأبو داود والترمذي (¬1). وعبد الرحمن بن زياد هو ابن أنعم الإفريقي، فيه مقال. ومسلم بن يسار الأنصاري المصري الطُّنْبُذي، وثقه ابن حبان، وروي له مسلم وأبو داود وابن ماجه. وسفيان بن وهب الخولاني الصحابي، عداده في أهل مصر. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (¬2): ثنا أبو خيثمة، نا عبد الله بن يزيد، ثنا عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، عن سفيان بن وهب الخولاني قال: ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" والذي في "تهذيب الكمال" و"تقريب التهذيب" أن الذي روى له هو أبو داود فقط. (¬2) "مسند أبي يعلى" (1/ 213 رقم 248).

سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر حرام". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة. وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن دينار، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عمر - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان، قال: ثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، فذكر بإسناد مثله ولم يرفعه. ش: هذه ثمان طرق كلها صحاح: الأول: عن علي بن معبد بن نوح. . . . إلى آخره.

وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر حرام". وقال: حديث صحيح. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة نحوه. الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد. . . . إلى آخره. وقال الترمذي: وقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعن أبي سلمة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الربيع سليمان بن داود الأزدي الزهراني شيخ الشيخين وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام. . . ." الحديث. الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن الخطاب بن عثمان الفوزي ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 291 رقم 1864). (¬2) "المجتبى" (8/ 297 رقم 5587). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 327 رقم 3679).

الحمصي شيخ البخاري، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي المكي، عن عبد الملك بن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه النسائي (¬1): أنا علي بن ميمون، نا ابن أبي رواد، ثنا ابن جريج، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". السادس: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمد بن عجلان المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه النسائي (¬2): أنا سويد، ثنا عبد الله، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر". السابع: عن محمد بن إدريس المكي وراق الحميدي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه الترمذي (¬3): ثنا يحيى بن درست، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". وقال: حديث حسن صحيح. الثامن: وهو موقوف. وأخرجه مالك في "موطإه": عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا نحوه. ورواه روح بن عبادة، عن مالك مرفوعًا. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 297 رقم 5585). (¬2) "المجتبى" (8/ 297 رقم 5586). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 290 رقم 1861).

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: أنا الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن عامر ابن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره". ش: إسناده صحيح. وسعد هو ابن أبي وقاص أحد المبشرة بالجنة - رضي الله عنهم -. وأخرجه النسائي (¬1): من حديث الوليد بن كثير، عن الضحاك ابن عثمان. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم بن عتيبة، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر". ش: محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري. وعبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي شيخ أحمد، روى له الجماعة. والحسن بن عمرو الفقيمي التميمي، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح. وروي له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والحكم بن عُتيبة -بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- روى له الجماعة. وشهر بن حوشب الأشعري، وثقه أحمد، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره. وأم سلمة أم المؤمنين اسمها هند بنت أبي أمية. والحديث أخرجه أبو داود (¬2): نا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو شهاب ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 301 رقم 5609). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 329 رقم 3686).

عبد ربه بن نافع، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم بن عتيبة، عن شهر ابن حوشب، عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن كل مسكر ومفتر". قلت: "المُفْتِر" الذي إذا شرب أحمى الجسد وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار، يقال: أَفْتَر الرجل فهو مُفْتِر: إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه. ص: حدثنا حسين ويونس، قالا: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -عز وجل- حرَّم الخمر والميسر والكوبة. وقال: كل مسكر حرام". ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره راء- النهشلي الكوفي، وثقه أبو زرعة والنسائي وابن حبان، وروي له أبو داود. والحديث أخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن علي بن يزيد، قال: حدثني قيس بن حبتر النهشلي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "إن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله، فيما نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير ولا في المزفت، وانتبذوا في الأسقية، قالوا: يا رسول الله، فإن اشتد في الأسقية؟ قال: فصبوا عليه الماء، قالوا: يا رسول الله، فقال لهم في -الثالثة أو الرابعة-: أهريقوه، ثم قال: إن الله حرَّم عليَّ -أو حرَّم- الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام". قوله: "والميسر" هو القمار بالقداح، وكل شيء فيه قمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "الشطرنج من الميسر"، وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين: "الميسر: النرد". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 331 رقم 3696).

وقال آخرون: القمار كله من الميسر، وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع فيه، وهو السهام التي يُجَزِّئونها، فمن خرج سهمه يستحق منه ما توجبه علامة السهم، فربما أخفق بعضهم حتى لا يحظى بشيء، ونجح البعض فيحظى بالسهام الفائزة، وحقيقته تمليك المال على المخاطرة، وهو لا يجوز. قوله: "والكوبة" بضم الكاف وسكون الواو وفتح الباء الموحدة، قيل: هي النرد، وقيل: الطبل، وقيل: البَرْبَط. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن عيسى، قال: أنا مالك بن أنس، قال: حدثني الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن البِتع، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب: فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سريج بن النعمان الجوهري، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل شراب أسكر فهو حرام". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا مهدي بن ميمون، عن أبي عثمان الأنصاري، قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن ميمونة، وعن القاسم ابن محمد، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل شراب أسكر فهو حرام". ش: هذه خمس وجوه طرقها كلها صحاح. الأول: عن علي بن معبد، عن إسحاق بن عيسى بن نجيح الطباع شيخ

مسلم، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة. وأخرجه البخاري (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. قوله: "عن البِتْع" بكسر الباء الموحدة وسكون التاء المثناة من فوق وفي آخره عين مهملة، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن، قال ابن الأثير: وقد تحرك التاء كقِمْعٍ وقِمَعٍ. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عائشة تقول: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن البِتْع، فقال رسول الله -عليه السلام-: كل شراب أسكر فهو حرام". الثالث: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سُريج -بضم السين المهملة وفي آخره جيم- ابن النعمان الجوهري، روى له الجماعة إلا مسلمًا. وأخرجه النسائي (¬4): عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره. الرابع: عن علي بن معبد أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن مهدي بن ميمون، ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2121 رقم 5263). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1585 رقم 2001). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1586 رقم 2001). (¬4) "المجتبى" (8/ 297 رقم 5591).

عن أبي عثمان الأنصاري المدني ثم الخراساني قاضي مرو، واسمه عمرو بن سالم، وقيل: ابن سَلْم، وقيل: ابن سُليم، وقيل: ابن سعد، وثقه أبو داود وابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي. وأخرجه الترمذي (¬1) وأبو داود (¬2): ثنا مسدد وموسى بن إسماعيل، قالا: أنا مهدي بن ميمون، قال: أنا أبو عثمان -قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري- عن القاسم، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق فملء الكف منه حرام". قوله: "الفَرَق" بفتح الفاء والراء وفي آخره قاف، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، فأما الفَرْق بسكون الراء فمائة وعشرون رطلًا. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر العقدي واسمه عبد الملك ابن عمرو، عن زهير بن محمد التميمي العنبري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب القرشي المدني، متكلم فيه. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا أحمد بن عبد الملك، نا عبد الله بن عمرو، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن سليمان بن يسار، عن ميمونة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والنقير والجر والمقيرَّ، وقال: كل مسكر حرام". وثنا (¬4) أحمد بن عبد الملك، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 293 رقم 1866). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 329 رقم 3687). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 333 رقم 26867). (¬4) "مسند أحمد" (6/ 333 رقم 26868).

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن وليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي -عليه السلام- قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". ش: هذان طريقان: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق المدني، عن يزيد بن أبي حبيب، عن وليد بن عَبدة -بفتح العين والباء الموحدة- المصري، مولى عمرو بن العاص. وثقه ابن حبان. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو: "أن نبي الله -عليه السلام- نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغُبَيْراء وقال: كل مسكر حرام". قال أبو داود: قال القاسم بن سلام أبو عبيد: الغُبيراء: السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤدب روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وثقه ابن معين وقال: ثبت. عن عمرو بن شعيب وثقه العجلي والنسائي، عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ينسب إلى جده، ذكر البخاري وغيره أنه سمع من جده عبد الله، ووثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 328 رقم 3685).

والحديث أخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى -يعني: ابن سعيد- عن عبيد الله، ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -عليه السلام- قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وأخرجه ابن ماجه (¬2). ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: أنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، قال: سمعت شيخًا يحدث أبا تميم، أنه سمع قيس بن سعد بن عبادة على المنبر يقول: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر حرام". ش: ربيع الجيزي هو ابن سليمان الأعرج، شيخ أبي داود والنسائي، وثقه ابن يونس. وأبو الأسود المصري اسمه النضر بن عبد الجبار، وثقه ابن حبان. وابن لهيعة هو عبد الله المصري، فيه مقال. وابن هبيرة هو عبد الله بن هبيرة السبائي الحضرمي المصري، روى له الجماعة سوى البخاري. وأبو تميم هو عبد الله بن مالك الجيشاني الرعيني المصري وثقه يحيى وغيره. وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي، له ولأبيه صحبة. وهذا الإسناد فيه مجهول وضعيف. وأخرجه الطبراني (¬3): نا بشر بن موسى، نا أبو عبد الرحمن، نا ابن لهيعة، حدثني ابن هبيرة، سمعت شيخًا من حمير يقول: خطبنا قيس بن سعد بن عبادة ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 300 رقم 5607). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1125 رقم 3394). (¬3) "المعجم الكبير" (18/ 352 رقم 898).

الأنصاري فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، عن داود بن بكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". ش: إسناده حسن جيد. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا قتيبة، نا إسماعيل بن جعفر. ونا علي بن حُجر، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، عن داود بن بكر بن الفرات، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا عثمان بن مطر، عن أبي حريز، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "أنهاكم عن كل مسكر". ش: سعيد بن سليمان المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود. وعثمان بن مطر الشيباني البصري، فيه مقال، ضعفه يحيى، وقال: لا يكتب حديثه، وعنه: ليس بشيء. وعن النسائي: ليس بثقة. وأبو حَريز -بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن الحسين الأزدي قاضي سجستان، فعن أحمد: منكر الحديث. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: ثقة. روى له الأربعة. والشعبي هو عامر بن شراحيل. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 292 رقم 1865).

والحديث أخرجه الدارقطني (¬1): من حديث عثمان بن مطر، عن أبي حريز، عن الشعبي، نحوه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن بحر، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: قرأت على فُضيل بن ميسرة أبي معاذ، قال: حدثني أبو حريز، أن الشعبي حدثه، قال: سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يخطب على منبر الكوفة يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "أنهاكم عن كل مسكر". ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر بن موسى القطان شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، عن معتمر ابن سليمان بن طرخان التيمي، عن فضيل بن ميسرة الأزدي المكنى بأبي معاذ، عن أبي حريز عبد الله بن الحسين، عن عامر الشعبي. وأخرجه أبو داود (¬2) بأتم منه: ثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان، قال: ثنا معتمر، قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة، عن أبي حريز، أن عامرًا حدثه، أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر". ص: حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا الحَرِيش ابن سليم الكوفي، عن طلحة اليامي، عن أبي بردة، عن أبي موسىى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام". وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي موسى: "أن النبي -عليه السلام- لما بعث أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن قال أبو موسى: إن شرابًا يصنع في أرضنا من العسل يقال له: البِتعْ، ومن الشعير يقال له: المزر، فقال النبي -عليه السلام-: كل مسكر حرام". ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 252 رقم 33) من طريق فضيل أبي معاذ، عن أبي حريز. (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 326 رقم 3677).

ش: هذان طريقان: الأول: عن مبشر بن الحسن بن مبشر القيسي البصري، وثقه ابن يونس، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي صاحب "المسند"، عن الحَرِيش -بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وفي آخره شين معجمة- بن سليم الجعفي، ويقال: الثقفي، قال أبو داود الطيالسي: ثقة. وقال ابن معين: ليس بثقة. روى له أبو داود والنسائي. وهو يروي عن طلحة بن مصرف اليامي -بالياء آخر الحروف، روى له الجماعة. عن أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي. وأخرجه النسائي (¬1): أنا يحيى بن موسى البلخي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حريش بن سليم، ثنا طلحة الأيامي، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام". الثاني: إسناده صحيح. عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي المصري، عن شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه أبي بردة عامر، عن أبيه أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا قتيبة، ثنا وكيع، عن شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال: "بعثني النبي -عليه السلام- أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، شرابًا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشرابًا يقال له البتع من العسل، فقال: كل مسكر حرام". وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمد بن آدم، عن ابن فضيل، عن الشيباني، عن أبي بردة، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 298 رقم 5597). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1586 رقم 1733). (¬3) "المجتبى" (8/ 300 رقم 5604).

إن بها أشربة يقال لها البتع والمزر، قال: وما البتع والمزر؟ قلت: شراب يكون من العسل، والمزر يكون من الشعير، قال: كل مسكر حرام". وأخرجه أبو داود (¬1): نا وهب بن بقية، عن خالد، عن عاصم بن كليب، عن أبي بُردة، عن أبي موسى قال: "سألت النبي -عليه السلام- عن شراب من العسل، فقال: ذاك البتع. قلت: وينتبذ من الشعير والذرة، قال: ذلك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام". فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ثلاثة عشر نفرًا من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأم سلمة، وعبد الله بن عباس، وعائشة الصديقة وميمونة زوجا النبي -عليه السلام-، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقيس بن سعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله، والنعمان بن بشير، وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن عمر وعائشة وجابر قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو، وعبادة، وأبي مالك الأشعري، وابن عباس، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأنس، والأشج العصري، وديلم، وميمونة، وقيس بن سعد، والنعمان بن بشير، ومعاوية، وعبد الله بن مغفل، وأم سلمة، ويزيد، ووائل بن حجر، وخوَّات بن جبير - رضي الله عنهم -. قلت: وفي الباب أيضًا عن قرة بن إياس، وأم حبيبة، وطلق بن علي، وأبي قتادة، ومعقل بن يسار، ومعاذ بن جبل، وأبي وهب الجيشاني، والضحاك ابن النعمان، وأبي أمامة الباهلي، وأبي بردة بن نيار - رضي الله عنهم -. فهؤلاء كلهم ستة وثلاثون نفرًا من الصحابة قد أخرج الطحاوي عن ثلاثة عشر نفرًا منهم، وقد ذكرناهم فبقي ثلاثة وعشرون نفرًا. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 328 رقم 3684).

الأول: أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أخرج حديثه أحمد بن حنبل (¬1): ثنا هشام بن سعيد، نا فليح، عن محمد بن عمرو بن ثابت، عن ثابت، عن أبيه قال: "مر بي ابن عمر، فقلت: إلى أين أصبحت غاديًا يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إلى أبي سعيد الخدري، فانطلقت معه فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: إني نهيتكم عن لحوم الأضاحي وادخاره بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا فقد جاء الله بالسعة، ونهيتكم عن أشياء من الأشربة والأنبذة فاشربوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فإن زرتموها فلا تقولوا هُجْرًا". الثاني: عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أخرج حديثه ابن ماجه (¬2): ثنا الحسين بن أبي السري، ثنا عبد الله، ثنا سعيد ابن أوس، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن محيريز، عن ثابت بن السمط، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه". الثالث: أبو مالك الأشعري - رضي الله عنه -، قيل: اسمه الحارث، وقيل: عبيد، وقيل غير ذلك: أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا زيد بن الحباب، عن معاوية ابن صالح، قال: ثنا حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، قال: "تذاكرنا الطلاء فدخل علينا عبد الرحمن بن غُنم فتذاكرناه، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري، أن رسول الله -عليه السلام- يقول: يَشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 63 رقم 11624). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1123 رقم 3385). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 68 رقم 23758).

الرابع: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أخرج حديثه عبد الله بن وهب في "مسنده": حدثني شِمر بن نمير، عن حسين ابن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وهذا حديث ضعف. الخامس: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أخرج حديثه الدارقطني (¬1): ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، ثنا العباس بن عبيد الله، ثنا عمار بن مطر، ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل مسكر حرام. قال عبد الله: هي الشربة التي أسكرتك". السادس: أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا ابن إدريس، عن المختار قال: "سألت أنسًا عن النبيذ، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الظروف المزفتة، وقال: كل مسكر حرام". السابع: الأشج العصري واسمه المنذر بن الحارث: أخرج حديثه أبو يعلى في "مسنده" (¬3) بلفظ: "أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفقة من عبد القيس. . . ." الحديث. وفيه: "إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام". أراد أن الاعتبار للسكر لا للظروف ولا لغيرها. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 250 رقم 23). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 67 رقم 23752). (¬3) "مسند أبي يعلى" (12/ 243 رقم 6849).

الثامن: ديلم بن فيروز الحميري: أخرج حديثه أبو داود (¬1): ثنا هناد بن السري، قال: ثنا عبدة، عن محمد -يعني ابن إسحاق- عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن ديلم الحميري قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملًا شديدًا،، وإنا نتخذ شرابًا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال: هل يُسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه. قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم". التاسع: معاوية بن أبي سفيان: أخرج حديثه ابن ماجه (¬2): ثنا علي بن ميمون الرقي، ثنا خالد بن حيان، عن سليمان بن عبد الله بن الزبرقان، عن يعلى بن شداد بن أوس قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مسكر حرام على كل مؤمن". العاشر: عبد الله بن مغفل: أخرجه حديثه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية -أو عن غيره- عن عبد الله بن مغفل، المزني قال: "أنا شهدت رسول الله -عليه السلام- نهى عن نبيذ الجر، وأنا شهدته حين رخص فيه، وقال: اجتنبوا المسكر". الحادي عشر: بُريدة بن الحصيب: ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 328 رقم 3683). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 1124 رقم 3389). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 87 رقم 16850).

أخرج حديثه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اجتنبوا كل مسكر". وأخرجه الطبراني (¬2): عن الدبري، عن عبد الرزاق. الثاني عشر: وائل بن حجر: أخرج حديثه الطبراني (¬3) مطولًا جدًّا: عن يحيى بن عبد الله، عن عمه محمد بن حُجر، عن عمه سعيد بن عبد الجبار، عن أبيه، عن أمه أم يحيى، عن وائل بن حُجر قال: "لما بلغنا ظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجت وافدًا عن قومي حتى قدمت المدينة. . . ." الحديث بتمامه. وفيه "وكل مسكر حرام". الثالث عشر: خوات بن جبير: أخرج حديثه الدارقطني في "سننه" (¬4): ثنا محمد بن هارون، ثنا محمد بن يحيى القطعي، ثنا عبد الله بن إسحاق، قال: حدثني أبي، عن صالح بن خوَّات ابن صالح بن خوات بن جبير الأنصاري، عن أبيه، عن جده عن خوَّات ابن جبير، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". الرابع عشر: قرة بن إياس: أخرج حديثه الطبراني (¬5): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن أبي نعيم، نا محمد بن زياد، عن زياد بن أبي زياد الجصاص، عن معاوية بن قرة، عن أبيه: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن الأوعية فقال: إن الأوعية لا تحرم شيئًا فانتبذوا فيما بدا لكم، واجتنبوا كل مسكر". ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 208، رقم 16957). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 19 رقم 1152). (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 46 رقم 117). (¬4) "سنن الدارقطني" (4/ 254 رقم 44). (¬5) "المعجم الكبير" (19/ 22 رقم 43).

الخامس عشر: عن أم حبيبة - رضي الله عنها -: أخرج حديثها البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو، أن دراجًا حدثه، أن عمرو بن الحكم حدثه، عن أم حبيبة: "أن ناسًا من أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلمهم الصلاة والسنن والفرائض، ثم قالوا: يا رسول الله إن لنا شرابا نصنعه من القمح والشعير، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: "تطعموه، ثم لمَّا كان بعد يومين ذكروه له أيضًا، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: لا تطعموه، ثم لمَّا أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنه، فقال: لا تطعموه". السادس عشر: طلق بن علي: أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ملازم بن عمرو، عن سراج ابن عقبة، عن عمته خالدة بنت طلق، قالت: حدثني أبي قال: "كنا جلوسًا عند نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء صحار عبد القيس، فقال: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه من ثمارنا؟ قال: فأعرض عنه النبي -عليه السلام- حتى سأله ثلاث مرات، ثم قام بنا النبي -عليه السلام- فصلى، فلما قضى الصلاة قال: مَن السائل عن المسكر؟ يا سائلًا عن المسكر لا تشربه، ولا تسقه أحدًا من المسلمين، فوالذي نفس محمد بيده ما يشربه قط رجل ابتغاء لذة سكره؛ فيسقيه الله خمرًا يوم القيامة". السابع عشر: أبو قتادة: أخرج حديثه البخاري (¬3): ثنا مسلم، قال: ثنا هشام، أنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: "نهى النبي -عليه السلام- أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب ولينتبذ كل واحدٍ منهما على حدة". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 292 رقم 17145). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 66 رقم 23743). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2126 رقم 5280).

الثامن عشر: معقل بن يسار: أخرج حديثه الطبراني (¬1): نا يعقوب بن إسحاق المخرمي، ثنا عفان، ثنا المثنى ابن عوف، ثنا أبو عبد الله الجسري، عن معقل بن يسار: "أنه سأله عن الشراب، فقال: كنا بالمدينة وكانت كثيرة التمر، فحرم علينا رسول الله -عليه السلام- الفضيخ". التاسع عشر: معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أخرج حديثه الطبراني (¬2): ثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا هشام بن عمار. (ح). وثنا موسى بن عيسى بن المنذر الحمصي، ثنا محمد بن المبارك الصوري، قالا: ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان: عن شرب الخمر، وعن ملاحاة الرجال". العشرون: أبو وهب الجيشاني، اسمه ديلم بن هوشع، وقيل: ابن الهميسع. أخرج حديثه أبو نعيم (¬3): من حديث محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن أبا وهب الجيشاني سأل النبي -عليه السلام- أن يتخذ شرابًا من هذا المزر، فقال رسول الله -عليه السلام-: كل مسكر حرام". الحادي والعشرون: الضحاك بن النعمان بن سعد: أخرج حديثه أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في كتاب "الأشربة" (¬4): ثنا كثير ابن عبيد، ثنا بقية بن الوليد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن سليمان بن عمرو، ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (20/ 224 رقم 521). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 83 رقم 157). (¬3) "معرفة الصحابة" (6/ 3043 معلقًا بعد رقم 7044). (¬4) وأخرجه في "الآحاد والمثاني" (5/ 173 رقم 2708)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 325 رقم 795) من طريق عبدان بن أحمد، عن كثير بن عبيد، به.

عن الضحاك بن النعمان بن سعد: "أن مسروق بن وائل قدم على رسول الله -عليه السلام- فأسلم وحسن إسلامه، فقال: أحب أن تبعث إلى قومي رجالًا يدعونهم إلى الإسلام، وأن تكتب إلى قومي كتابًا عسى الله أن يهديهم إليه، فأمر معاوية فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الأقيال من حضر موت؛ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة على التبعة ولصاحبها اليتمة، وفي السيوب الخمس، وفي البعل العُشر، لا خلاط، ولا وراط، ولا شغار، ولا جلب، ولا جنب، ولا شناق، والعون للسرايا المسلمين، لكل عشرة ما يحمل القراب، من أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام، فبعث إليه زياد بن لبيد". قلت: "التَّبِعة" بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الباء الموحدة، وهي الأربعون من الغنم، وهذا نصاب الغنم، وقيل: هو اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من كل الحيوان. قوله: "ولصاحبها اليتمة" بالياء آخر الحروف ثم التاء المثناة من فوق، وأراد بها الشاة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى، وقيل: هي الشاة تكون لصاحبها في منزله يحلبها وليست بسائمة. قوله: "وفي السيوب" جمع سَيْب -بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- قال الزمخشري: يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن، وقال أبو عبيد: ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطاء. وقيل: السيوب عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن أي تتكون فيه وتظهر. وقال ابن الأثير: السيوب الركاز. قوله: "وفي البَعْل" بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة، وهو الشجر الذي يشرب بعروقه من الأرض، من غير سقي من سماء ولا من غيرها. قوله: "لا خِلاط" بكسر الخاء مصدر خالطه مخالطة وخلاطًا، وهو أن يخلط الرجلان أصلها فيمنعان حق الله تعالى.

قوله: "ولا وِرَاط" بكسر الواو هو أن يجعل غنمه في وهدة من الأرض لتخفى على المصدق. وقيل: هو أن يغيب إبله وغنمه في إبل غيره وغنمه. قوله: "ولا شِغار" وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته من رجل على أن يزوجه هو أيضًا ابنته إياه أو أخته، ولا مهر بينهما إلا ذاك. قوله: "ولا جَلَب" وهو أن ينزل المصدق موضعًا ويرسل إلى المياه من يجلب إليه الأموال فيأخذ زكاتها، وهو المراد هاهنا. قوله: "ولا جَنَب" وهو أن يُبعد رب المال بماله عن موضعه فيحتاج المصدق إلى الإبعاد في اتباعه. وقيل: الجَلَب والجنب في السباق. قوله: "ولا شِنَاق" بكسر الشين المعجمة وبالنون والقاف، الشَنَق بالتحريك ما بين الفريضتين من كل ما تجب فيه الزكاة، وهو ما زاد على الإبل من الخمس إلى التسع، وما زاد منها على العشر إلى أربع عشرة. أي لا يؤخذ في الزيادة على الفريضة زكاة إلى أن تبلغ الفريضة الأخرى، فمعنى قوله: "لا شناق" أي لا يشنق الرجل غنمه أو إبله إلى مال غيره ليبطل الصدقة، يعني: لا تشانقوا فتجمعوا بين متفرق، وهو مثل قوله: "لا خلاط". قوله: "لكل عشرة ما يحمل القراب" أي من التمر، والقراب: شبه الجراب يطرح فيه الراكب السيف بغمده وسوطه، وقد يطرح فيه زاده من تمر وغيره. قال الخطابي: الرواية بالباء هكذا ولا موضع له هاهنا، وأراه القراف جمع قرف، وهي أوعية من جلود يحمل فيها الزاد للسفر، وتجمع على قروف أيضًا. قوله: "من أجبى" من الإجباء بالجيم وهو بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقيل: هو أن يُغيِّب إبله من المصدق، من أجبأته إذا واريته، والأصل في هذه اللفظة الهمزة، ولكنه روي هكذا غير مهموز، فإما أن يكون تحريفًا من الراوي، أو يكون ترك الهمزة للازدواج بأربى، وقيل: أراد بالإجباء العينة، وهو أن يبيع

من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به. الثاني والعشرون: أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه -، واسمه: صُدَيُّ بن عجلان: أخرج حديثه ابن ماجه (¬1): ثنا العباس بن الوليد الدمشقي، ثنا عبد السلام ابن عبد القدوس، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذهب الأيام والليالي حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها". الثالث والعشرون: أبو بُردة هانئ بن نيار: أخرج حديثه ابن أبي شيبة (¬2): عن أبي الأحوص، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة بن نيار، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا". وأخرجه الطبراني (¬3) من طريق ابن أبي شيبة نحوه. ص: قال أبو جعفر - رحمة الله -: فذهب قوم إلى أن حرَّموا قليل النبيذ وكثيره، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، وطاوسًا، ومجاهدًا، ومالكًا، والشافعي، وأحمد؛ فإنهم حرموا قليل النبيذ وكثيره، وقالوا: كل ما أسكر كثيره فقليله حرام. واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة. وقال صاحب "المغني": كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1123 رقم 3384). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 85 رقم 23940). (¬3) "المعجم الكبير" (22/ 198 رقم 522).

وروي تحريم ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأُبَي بن كعب، وأنس، وعائشة - رضي الله عنهم -. وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فأباحوا من ذلك ما لا يسكر، وحرَّموا الكثير الذي يُسكر. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سويد بن غفلة، وزر بن حبيش، والحسن البصري، وعلقمة بن قيس، وعمرو بن ميمون، ومرة الهمداني، وعامرًا الشعبي وابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف -رحمهم الله-؛ فإنهم أباحوا من النبيذ ما لا يُسكر، وحرَّموا الكثير الذي يُسكر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. وفي "المغني": قال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعًا كان أو مطبوخًا: كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر. فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده، أو طبخ وذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ؛ فهذا يحرم قليله وكثيره. وقال أبو عمر (¬1): أجمع المسلمون في كل عصر وبكل مصر -فيما بلغنا وصح عندنا- أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر، وأنه ما دام على حاله تلك حرام كالميتة والدم، رجس نجس كالبول، إلا ما روي عن ربيعة في نقط من الخمر لم أر لذكره وجهًا؛ لأنه خلاف لإجماعهم، وقد جاء عنه في مثل رءوس الأبر من نقط البول نحو ذلك، وقد روي عن ربيعة ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 245).

والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين أنها طاهرة، وأن المحرم هو شربها، وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسكبها في طرق المدينة. قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، ولنَهى عنه رسول الله -عليه السلام- كما نهى عن التخلي في الطرق، وقد ذكر ابن خواز منداد: أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنها يمكن أن تزال بها الغصص ويطفأ بها الحريق وهذا نقل لا يعرف لمالك -رحمه الله-. قال أبو عمر -رحمه الله- (¬1): اختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة. فقال العراقيون: إنما الحرام منها السكر وهو فعل الشارب، وأما النبيذ في نفسه فليس بحرام ولا نجس؛ لأن الخمر من العنب لا غير، بدليل قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (¬2). وقال أيضًا (¬3): قال أحمد بن شعيب في كتابه: إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي وهذه زلة من عالم، وقد حُذِّرْنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة. وزعمت طائفة أن أبا جعفر الطحاوي -وكان إمام أهل زمانه- ذهب إلى إباحة الشرب من المسكر [ما لم يسكر] (¬4). قال أبو عمر: وهذا لو صح عنه لم يحتج به على مَن ذكرنا قولهم من الأئمة المتَّبَعين في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة. قلت: الطحاوي: لم يذهب إلى إباحة المسكر، وإنما ذهب إلى أن شرب ما لا يُسكر من الأنبذة مباح إلى أن يُسكر، فيحرم حينئذٍ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (1/ 245). (¬2) سورة يوسف، آية: [36]. (¬3) "التمهيد" (1/ 255). (¬4) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد" (1/ 256).

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذه الآثار التي ذكرنا قد رُويت عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، ولكن تأويلها يحتمل أن يكون كما ذهب إليه من حرَّم قليل النبيذ وكثيره، ويحتمل أن يكون على المقدار الذي يسكر منه شاربه خاصةً. فلما احتملت هذه الآثار كل واحد من هذين التأويلين نظرنا فيما سواها لنعلم به أي المعنيين أريد بما ذكر فيها، فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - -وهو أحد النفر الذين روينا عنهم عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام"- قد روي عنه في إباحة القليل من النبيذ الشديد ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان في سفرٍ، فأتي بنبيذ فشرب منه، فقطب ثم قال: إن نبيذ الطائف له غرام -فذكر شدةً لا أحفظها- ثم دعى بماءٍ فصب عليه ثم شرب". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: "شهدت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طعن، فجاءه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، فَاُتِيَ بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون مثله. وزاد: قال عمرو: وكان يقول: "إنا نشرب من هذا النبيذ شرابًا يُقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن يؤذينا. قال: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عامر، عن سعيد بن ذي لعوة قال: "أتي عمر - رضي الله عنه - برجل سكران فجلده، فقال: إنما شربت من شرابك، فقال: وإن كان".

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني أبو إسحاق، عن سعيد بن ذي حُدّان -أو ابن ذي لعوة- قال: "جاء رجل قد ظمئ إلى خازن عمر - رضي الله عنه - فاستسقاه فلم يسقه، فأتى بسطيحة لعمر - رضي الله عنه - فشرب منها فسكر، فأتي به عمر - رضي الله عنه - فاعتذر إليه وقال: إنما شربت من سطيحتك، فقال عمر - رضي الله عنه -: إنما أضربك على السكر، فضربه عمر - رضي الله عنه -". حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن علقمة قال: "أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بنبيذٍ له فصنع في بعض تلك المنازل، فأبطأ عليهم ليلة، فأتي بطعام فطعم، ثم أتي بنبيذ قد أخلف واشتد فشرب منه، ثم قال: إن هذا لشديد، ثم أمر بماء فَصُبَّ عليه ثم شرب هو وأصحابه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا خالد الحذاء، عن أبي المعذل، عن ابن عمر: "أن عمر - رضي الله عنه - انتبذ له في مزادة فيها خمسة عشر أو ستة عشر قائمة، فذاقه فوجده حلوًا، فقال: كأنكم أقللتم عكره". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن أباه عبدالرحمن بن عثمان قال: "صحبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى مكة شرفها الله، فأهدى له ركب من ثقيف بسطيحتين من نبيذ - والسطحِة فوق الإداوة ودون المزادة- قال عبد الرحمن: فشرب عمر - رضي الله عنه - إحداهما، ولم يشرب الأخرى حتى اشتد ما فيه، فذهب عمر يشرب منه فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري. . . . فذكر بإسناده مثله.

قال: فلما ثبت بما ذكرنا من عمر - رضي الله عنه - إباحة قليل النبيذ الشديد، وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مسكر حرام"؛ كان ما فعله من هذا دليلًا أن ما حرَّم رسول الله -عليه السلام- بقوله ذلك عنده من النبيذ الشديد هو السكر منه لا غير. فإما أن يكون سمع ذلك من النبي -عليه السلام- قولًا أو رآه رأيًا، فأقل ما يكون منه في ذلك أن يكون رآه رأيًا، فرأيه ذلك عندنا حجة ولاسيما إذ كان فعله المذكور في الآثار التي رويناها عنه بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فلم يُنكره عليه منهم منكر. فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، أو "اجتنبوا المسكر"، أو نحو ذلك يحتمل أن يكون ذلك على إطلاقها، على معنى أن يحرم قليل المسكر وكثيره كما ذهب إليه هؤلاء. ويحتمل أن يكون المراد: هو القدر الذي يسكر منه شاربه خاصة، ولا يحرم ما دون ذلك. فلما كان الأمر كذلك وجب الرجوع إلى غيرها من الآثار؛ لنعلم به أي المعنيين أريد به، فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أحد الرواة عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام" قد روي عنه من فعله ما يدل على إباحة النبيذ الشديد على المقدار الذي لا يُسكر كما نُبينه الآن إن شاء الله. فدل ذلك أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو السكر منه لا غيره؛ إذ لو كان ذلك على الإطلاق كما زعم الخصم لما شرب عمر - رضي الله عنه - من النبيذ الشديد ما دون الإسكار، ففعله ذلك لا يخلو إما أن يكون بطريق السماع من رسول الله -عليه السلام-، وإما أن يكون برأي نفسه قد رآه ذلك، فأقل الأمرين أن يكون ذلك منه بطريق الرأي، ورأيه حجة لا تدفع خصوصًا وقد كان فعله المذكور عنه في الآثار التي تأتي كان بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلم يُنكر ذلك عليه أحد منهم.

فدل ذلك على موافقتهم إياه في المعنى الذي قصده، والفعل الذي فعله؛ إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك لما وسعهم اتباعهم إياه، ولأنكروا عليه في ذلك، وهذا ظاهر. فإن قيل: هذا يتمشى في قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، ولكن ما تقول في قوله: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" كما مر ذكره في حديث عائشة - رضي الله عنها -؟ وفي رواية عنها أخرجها الدارقطني (¬1): "ما أسكر الفرق فالأوقية منه حرام". وفي رواية عنها أيضًا (¬2): "ما أسكر الفرق فالحسوة منه حرام". وفي رواية (¬3): "ما أسكر الفرق فالجرعة منه حرام". قلت: الكل يرجع إلى معنى واحد، وهو أنه يحرم منه بعد الإسكار ملء الكف والجرعة والحسوة، لا أنه قبل الإسكار يحرم شيء من ذلك. ثم إنه أخرج ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من تسع طرق. الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث النخعي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي، عن عمر - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا. وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام قال: "أتي عمر - رضي الله عنه - بنبيذ زبيب من نبيذ زبيب الطائف. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 254 رقم 46)، (4/ 255 رقم 50). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 255 رقم 52، 54)، (4/ 256 رقم 55). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 255 رقم 53). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 79 رقم 23877).

قال: فلما ذاقه قطب، فقال: إن لنبيذ زبيب الطائف لعرامًا، ثم دعى بماءً فصبه عليه وشرب، وقال: إذا اشتد عليكم فصبوا عليه الماء واشربوا". قوله: "فقطب" من قطب وجهه تقطيبًا: إذا عبس. قوله: "له عُرام" بضم العين المهملة، أي: شدة وقوة. فإن قلت: قال ابن حزم: هذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرًا، ولا أنه كان قد اشتد، وإنما فيه إخبار عمر - رضي الله عنه - بأن نبيذ الطائف له عُرام وشدة، وأنه كسر هذا بالماء ثم شربه، فالأظهر فيه: أن عمر - رضي الله عنه - خشي أن يعرم ويشتد فتعجل كسره بالماء، وهذا موافق لقوله لا لقولهم أصلًا. وقال أبو جعفر النحاس في هذا الحديث: هذا لعمري إسناد مستقيم ولا حجة لهم فيه، بل الحجة عليهم؛ لأنه إنما يقال: قطب لشدة حموضة الشيء، ومعنى قطب في كلام العرب: خالطت بياضه حمرة، مشتق من قطبت الشيء أقطبه: إذا خلطته. قلت: كلام ابن حزم صادر عن غير روية وهو فاسد؛ لأن قوله: لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرًا تعليل فاسد؛ لأنا ما ادعينا أن ذلك النبيذ كان مسكرًا، ولا أحد يقول بذلك، ولا يجوز لأحد أيضًا أن ينسب عمر - رضي الله عنه - إلى شرب النبيذ المسكر، وإنما قلنا: إنه روي عنه إباحة القليل من النبيذ المشتد. وقوله: ولا أنه كان مشتدًا. يُبطله قول عمر - رضي الله عنه -: "إن نبيذ الطائف له عُرام" أي شدة وقوة، وأيضًا لو لم يكن مشتدًا لما قطب عمر - رضي الله عنه -، ولا دعى بماء فصب عليه. وقول النحاس يرده أيضًا ما في رواية ابن أبي شيبة، وهو قوله: "فلما ذاقه قطب" أي عبس وجهه لشدته، ولهذا طلب الماء فصب عليه حتى انكسرت شدته ثم شرب.

فالحاصل أن "قطب" هاهنا بمعنى عبس وجهه لشدته؛ بقرينة طلب الماء لكسر شدته، وبقرينة قوله: "إن نبيذ الطائف له عُرام" وإن كان قطب أيضًا تجيء بمعنى مزج، يقال: قطب الشراب وأقطبه: إذا مزجه. فإن قيل: ذكر الأثرم في كتاب "الناسخ": أن عبد الله بن عمر العمري فسر "قطب" بمعنى كسره بالماء من شدة حلاوته. قال: وكذلك قال الأوزاعي، قال: وأهل العلم أولى بالتفسير. قلت: تفسير قطب بالمعنى المذكور لا يُنكر، ولكنه هاهنا لا يمشي هذا التفسير، لأن قول عمر - رضي الله عنه -: "إن نبيذ الطائف له عُرام" يستدعي كون ذلك النبيذ شديدًا في الحموضة، وهذا ينافي ما ذكره الأثرم؛ فافهم. الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية بن خديج الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي. وهذا أيضًا إسناد صحيح، ورجاله ثقات أثبات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، نحوه. فإن قيل: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن أبا إسحاق لم يقل: حدثنا عمرو، وهو مدلس، فلا تقوم بحديثه حجة حتى يقول: حدثنا، وما أشبهه. قلت: يرد هذا قول ابن حزم: هذا خبر صحيح. مع شدة قيامه في دفع ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية الذين احتجوا بهذا الحديث وأمثاله، وأيضًا فرجاله ثقات، وعدالتهم والاتصال فيما بينهم معروفة، فلا يُرد الخبر بما ذكره النحاس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 80 رقم 23882).

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي، عن عمرو بن ميمون. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا، فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء". وقال ابن حزم: وهذا خبر صحيح، ولا حجة لهم فيه؛ لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد اللفة الذي لا يُسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف، وليس في هذا الخبر أن عمر - رضي الله عنه - شرب من ذلك الشراب الذي شرب منه عمرو بن ميمون، فإذا ليس فيه دليل، فلا متعلق لهم بهذا الخبر أصلًا. قلت: قول عمرو بن ميمون: "وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ". يرد كلام ابن حزم على ما لا يخفى على المتأمل. الرابع: عن روح بن الفرج أيضًا، عن عمرو بن خالد الحراني، شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عامر الشعبي، عن سعيد بن ذي لَعْوَة -بفتح اللام، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وفي آخره هاء- واسم ذي لعوة: عامر بن مالك. وأخرجه أبو جعفر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ" (¬2) ثم قال: وابن ذي لعوة لا يُعرف. وقال ابن حزم: مجهول. وقال ابن حبان: شيخ دجال. وقال البخاري: يخالف الناس في حديثه. وقال ابن الجوزي: وحديثه محال. قلت: روى عنه مثل الشعبي وأبو إسحاق السبيعي، وذكره العجلي في "تاريخه" وقال: كوفي ثقة، وكذا ذكره أبو العرب القيرواني في "تاريخه" عن ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 79 رقم 23875). (¬2) "الناسخ والمنسوخ" (1/ 178).

يحيى بن معين، وذكره أبو أحمد العسكري في كتابه "معرف الصحابة"، وقال: يروي مرسلًا ولا تصح صحبته. الخامس: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص النخعي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن ذي حُدَّان -أو ابن ذي لعوة-. وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات. وقد ذكرنا أن سعيد بن ذي لعوة وثقه العجلي وغيره، ويقال له أيضًا: ابن ذي حُدَّان -بضم الحاء المهملة وتشديد الدال- وقال ابن حبان: وهم مَن قال فيه سعيد بن ذي حُدَّان. قوله: "ظمئ" أي عطش يقال: ظَمِئَ يَظْمَأُ ظَمَأً، قال الله تعالى: {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} (¬1) والاسم الظِمء -بالكسر- وقوم ظِماء أي عطاش. قوله: "بسطيحة" قال ابن الأثير: السطيحة من المزاد: ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه، وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه. وقال الجوهري: السطيحة: المزادة. وحديث ابن ذي لعوة هذا صريح فيما أسكر كثيره، فالشرب من قليله مباح، ولا يحرم عليه من ذلك إلا المسكر، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لذلك الرجل الذي شرب من سطيحته فسكر: "إنما أضربك على السكر". السادس: عن فهد أيضًا، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث النخعي، عن سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت دينار البصري، عن نافع بن علقمة. وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [120].

فإن قلت: كيف تقول بذلك وقد قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث فيه غير علة: منها: أن حبيبًا على محله لا تقوم بحديثه حجة لمذهبه، وكان مذهبه أنه قال: إذا حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقًا. ومن هذا أنه روى عن عروة، عن عائشة حديث القبلة. وقال الشافعي: لا يثبت بهذا حجة لانفراد حبيب به. ومنها: أن نافعًا ليس بمشهور بالرواية، ولو صح الحديث عن عمر - رضي الله عنه - لما كانت فيه حجة؛ لأن اشتداده لا يكون من حموضته. قلت: كيف يقول النحاس: لا تقوم بحبيب حجة وقد قال يحيى بن معين: حبيب بن أبي ثابت ثقة حجة. وقال ابن المبارك: قال سفيان: حدثنا ابن أبي ثابت وكان دعامة -أو كلمةً تشبهها- وكان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان؟!. وقوله: نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرواية غير صحيح؛ لأن أبا عمر بن عبد البر ذكره في كتاب "الاستيعاب" في جملة الصحابة، وقال: سمع النبي -عليه السلام-. قال: وقيل: إن حديثه مرسل، وفي كتاب ابن أبي حاتم: يقال: إنه سمع من النبي -عليه السلام-. قال: وسمعت أبي يقول: لا أعلم له صحبة، ولما ذكره أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة" قال: ذكره ابن شاهين. وأما قوله: لأن اشتداده قد يكون من حموضته. فهو قول بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. قوله: "قد أخلف": أي تغير، يقال: خَلِفَ الطعام واللبن إذا تغير طعمه أو رائحته، وأَخْلَف لغة فيه، يقال: أخلف فوه إذا تغير كما يقال: خَلِف فوه.

السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن أبي المُعَذَّل -بضم الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد الذال المعجمة المفتوحة- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا ابن علية، عن الحذاء، عن أبي المعذل، عن ابن عمر "أن عمر - رضي الله عنه - نُبذ له في ذي خمس عشرة قائمة، فجاء فذاقه، فقال: كأنكم أقللتم عكره". فإن قلتَ: قال ابن حزم: أبو المعذل مجهول، فلا يصح هذا الخبر. قلتُ: قال أبو أحمد الحاكم: أبو المعذل الطفاوي -ويقال البكري- روى عن عبد الله بن عمر وأم سلمة، حديثه في البصريين، روى عنه خالد الحذاء وعوف ابن أبي جميلة الأعرابي وسماه عطية، وكذا قاله أبو العباس بن محمد عن يحيى بن معين، وفي كتاب الدارقطني: روى عن أبويه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزاد في الرواة عنه: سلميان التيمي، فزال بحمد الله جهالة حاله وعينه. قوله: "عكره" العكر -بفتحتين- دُرْدِيّ الشراب. قال الجوهري: عكر الشراب والماء والدهن: آخره وخاثره، والعكر: دُرْدِيّ الزيت ونحوه. الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث شعيب وغيره، عن الزهري، أخبرني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، أن أباه عبد الرحمن بن عثمان قال: "صاحبت عمر - رضي الله عنه - إلى مكة، فأهدى له ركب من ثقيف سطيحتين من نبيذ - ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 305 رقم 17226).

والسطحة فوق الإداوة ودون المزادة- قال عبد الرحمن: فشرب عمر - رضي الله عنه - إحداهما، ثم أهدي له لبن فعدله عن شرب الآخر حتى اشتد ما فيها، فذهب عمر - رضي الله عنه - ليشرب منها فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء". فإن قيل: روى البيهقي هذا فقال: إنما كان اشتداده بالحموضة أو بالحلاوة. قلت: يضعف هذا التأويل ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن ابن جريج، أخبرني إسماعيل: "أن رجلًا عبَّ في شراب نُبذَ لعمر - رضي الله عنه - بطريق المدينة فسكر، فتركه عمر - رضي الله عنه - حتى أفاق، فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه". قال: "ونبذ نافع بن الحارث لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المزاد -وهو عامل له- فاستأخر عمر - رضي الله عنه - حتى عدا الشراب طوره، فدعى به عمر فوجده شديدًا، فأوجعه بالماء ثم شرب وسقى الناس". فقوله. فسكر يضعف تأويل البيهقي. التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. . . . إلى آخره. وأخرج ابن شيبة في "مصنفه" (¬2): عن عبدة بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "أن قومًا من ثقيف لقوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو قريب من مكة، فدعاهم بأنبذتهم، فأتوه بقدح من نبيذ، فقربه من فيه ثم دعى بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثًا، وقال: اكسروه بالماء". قلت: هذا مرسل جيد. ص: وهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وهو أحد النفر الذين رووا عن النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" قد روي عنه عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (9/ 224 رقم 17015). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 80 رقم 23878).

أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن عبد الملك ابن أخي القعقاع بن شور، عن ابن عمر قال: "شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب، فأدناه إلى فيه، فقطب فرده، فقال رجل: يا رسول الله، أحرامٌ هو؟ فرد الشراب ثم دعى بماء فصبه عليه -ذكر مرتين أو ثلاثًا- ثم قال: إذا اغتلمت هذه الأسقية عليكم فاكسروا متونها بالماء". حدثنا وهبان بن عثمان البغدادي، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: حدثني قرة العجلي، قال: حدثني عبد الملك ابن أخي القعقاع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثله. حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد، عن الشيباني، عن عبد الملك بن نافع قال: "سألت ابن عمر فقلت: إن أهلنا ينتبذون نبيذًا في سقاء لو أنهكته لأخذني؟ فقال ابن عمر: إنما البغي على مَن أراد البغي، شهدت رسول الله -عليه السلام- عند هذا الركن، فأتاه رجل بقدح من نبيذ. . . ." ثم ذكر مثل حديث ابن أمية، غير أنه قال: "فاكسروها بالماء". ففي هذا إباحة قليل النبيذ الشديد، وأولى الأشياء بنا إذا كان قد روى هذا عن النبي -عليه السلام-، وروي عنه عن النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" أن يجعل كل واحد من القولين على معنى غير المعنى الذي عليه القول الآخر، فيكون قوله: "كل مسكر حرام" على المقدار الذي يُسكر من النبيذ، ويكون ما في الحديث الآخر على إباحة قليل النبيذ الشديد. ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لصحة التأويل الذي ذكره في قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" وهو أن المراد منه المقدار الذي يُسكر من النبيذ، بيانه: أن عبد الله بن عمر هو أحد الرواة عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام". ثم روي عنه عن النبي -عليه السلام- ما فيه دلالة على إباحة قليل النبيذ الشديد، فدل ذلك أن المراد من قوله: "كل مسكر حرام" هو المقدار المسكر لا ما دون ذلك، كما ذكرناه مستقصًى.

وأخرج ما روي عنه عن النبي -عليه السلام- من ثلاث طرق: الأول: عن أبي أمية عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن عبد السلام بن حرب الملائي، عن ليث بن أبي سُليم القرشي، عن عبد الملك بن نافع الشيباني الكوفي ابن أخي القعقاع بن شور، ويقال: عبد الملك بن القعقاع، ويقال: عبد الملك بن أبي القعقاع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه النسائي (¬1): أنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا العوام، عن عبد الملك بن نافع، قال: قال ابن عمر: "رأيت رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح فيه نبيذ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح، فرفعه إلى فيه فوجده شديدًا، فرده على صاحبه، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: عليَّ بالرجل، فأتي به، فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه، ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضًا فصبه فيه، ثم قال: إذا اغتلمت عليكم هذا الأوعية فاكسروا متونها بالماء". الثاني: عن وَهبان بن عثمان البغدادي، عن [. .] (¬2)، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الأحمسي، عن قرة العجلي، عن عبد الملك بن أخي القعقاع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قرة العجلي، عن عبد الملك بن القعقاع، عن ابن عمر قال: "كنا عند النبي -عليه السلام- فأتي بقدح فيه شراب، فقربه ثم رده. فقال له بعض جلسائه: حرامٌ هو يا رسول الله؟ ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 323 رقم 5694). (¬2) بيض له المؤلف، والذي في السند هو أبو همام، وأبو همام الذي يروي عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة هو: الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه. (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 78 رقم 23867).

قال: فقال: ردوه، فردوه، ثم دعى بماء فصب عليه ثم شرب، فقال: انظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء". الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن أسباط بن محمد القرشي، عن أبي إسحاق سليمان الشيباني، عن عبد الملك بن نافع. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): أخبرني زياد بن أيوب، عن أبي معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الملك بن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -عليه السلام- بنحوه. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات، ثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير، عن أبي إسحاق الشيباني، عن مالك بن القعقاع: "سألت ابن عمر عن النبيذ الشديد فقال: جلس رسول الله -عليه السلام- في مجلس، فوجد من رجل ريح نبيذ، فقال: ما هذه الرياح؟ قال: ريح نبيذ. قال: فأرسل فليؤت منه فأرسل فأتي به فوضع فيه رأسه فشمه ثم رجع فرده، حتى إذا قطع الرجل البطحاء رجع قال: أحرامٌ هو يا رسول الله أم حلال؟ قال: فوضع رأسه فيه فوجده شديدًا، فصب عليه الماء ثم شرب، قال: إذا اغتلمت أسقيتكم فاكسروها بالماء". فإن قيل: قال البيهقي: عبد الملك مجهول، ويقال: ابن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن القعقاع، وقيل: عبد الملك بن نافع. قال البخاري: لم يتابع على حديثه عن ابن عمر في النبيذ. وقال النسائي: ليس بمشهور ولا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني: هو رجل مجهول ضعيف، والصحيح عن ابن عمر عن النبي -عليه السلام-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي "العلل" عن ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع شيخ مجهول. وقال في كتاب "الجرح والتعديل": شيخ مجهول لم يرو إلا حديثًا واحدًا، قطع الشيباني ذلك الحديث فجعله حديثين، لا يثبت حديثه، منكر الحديث. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 324 رقم 5695). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 262 رقم 83).

وقال ابن حزم: أسباط بن محمد وليث بن أبي سُليم وقرة العجلي والعوَّام كلهم ضعفاء. وعن يحيى بن معين: قرة العجلي عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ضعيف لا شيء. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. قلت: أما عبد الملك بن نافع فذكره ابن حبان في "الثقات"، حكى عنه صاحب "الجوهر النقي". وأما أسباط بن محمد القرشي فإنه من رجال الصحيحين، وأخرجت له الجماعة، ووثقه يحيى بن معين ويعقوب بن شيبة، وفي رواية عن يحيى: ثَبْت. وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات". وأما ليث بن أبي سُليم فلا يقال: إنه ضعيف على الإطلاق للاختلاف في حاله، وأكثر الناس وثقوه، فإطلاق الضعف عليه غير مقبول، واحتجت الأربعة بحديثه. وأما قرة العجلي فقد ذكره ابن حبان في "الثقات". قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: "إذا اغتلمت هذه الأسقية" أي إذا جاوزت حدها الذي لا يُسكر إلى حدها الذي يُسكر. وأصله من غلم غلمةً واغتلم اغتلامًا. وهو هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل وغيرهما. والأسقية جمع سقاء وهي الدلو. قوله: "متونها" أي قوتها وشدتها المتون والمتانة بمعنى. قوله: "لو أنهكته" أي: لو بالغت في شربه وكثرت منه لأخذني من شدته وقوته. قوله: "إنما البغي" البغي: مجاوزة الحد. ص: وقد روي عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- نحو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

أخبرنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: "عطش النبي -عليه السلام- حول الكعبة فاستسقى فأُتي بنبيذ من نبيذ السقاية، فشمه فقطب، فصب عليه ماء من ماء زمزم ثم شرب، فقال رجل: أحرام؟ فقال: لا". ش: محمد بن سعيد بن الأصبهاني -شيخ البخاري. ويحيى بن اليمان الكوفي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره. وسفيان هو الثوري. ومنصور هو ابن المعتمر. وخالد بن سعد مولى أبي مسعود الأنصاري، وثقه يحيى وغيره، وروى له البخاري والنسائي وابن ماجه. وأبو مسعود الأنصاري اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة. وأخرجه النسائى (¬1): عن الحسن بن إسماعيل بن سليمان، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، إلى آخره نحوه. وقال النسائي: هذا خبر ضعيف؛ لأن يحيى بن اليمان انفرد به دون أصحاب سفيان، ويحيى لا يحتج به لسوء حفظه وكثرة خطئه. وقال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به؛ لأن ابن يمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه، وابن اليمان ليس بحجة. وأصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي، فغلط يحيى بن يمان فنقل متن حديث إلى حديث آخر، وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي فلم يحتجوا بشيء منه. ولما أخرج ابن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب "الأشربة" قال: لا خلاف بين أهل الحديث والمعرفة أن هذا حديث منكر. ¬

_ (¬1) " المجتبى" (8/ 325 رقم 5703).

ثم خالد بن سعد هو مجهول عندي لا يروي عنه إلا منصور، ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول. حدَّث عن أبي سعيد في "النهاية" وعن أم ولد لأبي مسعود: "أنها كنت تنبذ له في جَرٍّ أخضر". ولم يقل: سمعت أبا مسعود ولا حدثنا أبو مسعود، فأرى أن يكون بينه وبين أبي مسعود إنسان، فوجب أن لا يقبل خبره عن أبي مسعود إلا بأن يقول: حدثنا أو شبهه. وقال أبو أحمد الجرجاني: الذي ينكر على خالد بن سعد حديث النبيذ وحديث "لا تتم على عبد نعمة إلا بالجنة" وفي موضع آخر روى عن أبي مسعود في النبيذ ولا يصح، هو موقوف. وقال الدارقطني: حديث أبي مسعود معروف بيحيى بن يمان، ويقال: إنه انقلب عليه الإسناد واختلط عليه بحديث الكلبي عن أبي صالح، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬1): قال أبو زرعة: هذا إسناد باطل عن الثوري عن منصور، وَهِمَ فيه يحيى، وإنما ذاكرهم سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة مرسل. ولعل الثوري إنما ذكره تعجبًا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث، ومُنْكِرًا عليه. قال: وقال أبي: أخطأ ابن يمان في إسناده، والذي عندي أن يحيى دخل له حديث في حديث رواه الثوري عن منصور، عن خالد مولى أبي مسعود: "أنه كان يشرب نبيذ الجر". وعن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب، عن النبي -عليه السلام-: "أنه كان يطوف بالبيت. . . ." الحديث. فسقط عنه إسناد الكلبي وجعل إسناد منصور، عن خالد، عن أبي مسعود، لمتن حديث الكلبي، وقال أحمد: الكلبي متروك. ¬

_ (¬1) "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 25 - 26 رقم 1550 - 1552).

وأبو صالح اسمه باذان وهو ضعيف، وقال الأثرم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": هذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة له بأصوله، وقد سمعت من أبي عبد الله ومن غيره من أئمة الحديث كلامًا كثيرًا وبعضهم يزيد على بعض في تفسير قصته؛ فقال بعضهم: هذا حديث لا أصل له ولا فرع، قال: وإنما أصله من الكلبي وهو متروك، وكان ابن يمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يكتبه؛ فكان يحدث من حفظه بأعاجيب، وهذا من أنكر ما روي. قلت: هذا الكلام كله على يحيى بن يمان، ويحيى بن يمان من رجال مسلم والأربعة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال ابن المديني: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ثقة، أحد أصحاب سفيان. وذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقًا ثقة. وقال الخليلي: ثقة. وذكره البُستي في جملة "الثقات"، وقال العجلي: كان ثقة جائز الحديث، معروفًا بالحديث صدوقًا. فإذا كان كذلك كيف يقال فيه: يحيى بن يمان لا يحتج به؟! وما بال حديثه يُضعف إذا انفرد. وأما خالد بن سعد فإنه من رجال صحيح البخاري، فكيف يقول ابن أبي عاصم فيه: مجهول لا يروي عنه إلا منصور؟! وهذا فاسد؛ لأن إبراهيم النخعي وأبا حصين عثمان بن عاصم رويا عنه أيضًا، وقال يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبان وابن خلفون في كتاب "الثقات". وخرَّج البخاري حديثه في "صحيحه" على سبيل الاحتجاج به. قوله: "من نبيذ السقاية" وهو ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، وقد

ورد في الحديث "كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلَّا سقاية الحاج وسدانة البيت". قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب. ويستنبط منه: إباحة القليل من النبيذ المشتد؛ لأنه يدل صريحًا عليه. وأن ما أسكر كثيره فقليله يباح ما لم يُسكر، ألا ترى أنه -عليه السلام- قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدًا، ولما سأله ذلك الرجل بقوله: "أحرام هو؟ فقال: لا" فدل أن الشرب من النبيذ المشتد مباح ما لم يُسكر. وقد احترق بعضهم في التشنيع على مَن يذهب إلى هذا الحديث وأمثاله، وقال هؤلاء: زعموا أنه -عليه السلام- شرب من نبيذ السقاية نبيذًا شديدًا، فجعلوه حجةً في تحليل المسكر، وأنه لم يقطب إلا من شدته، فيقال لهم: أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولون: لا. فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أم مطبوخ؟ فيقولون: نقيع. فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه حين زعموا أن النبي -عليه السلام- شرب نقيعًا مشتدًا، وأنه لا يشتد حتى يغلي، وأنه إذا غلى النقيع فهو خمر. فهم يرون بأنه خمر، وهم يزعمون بأن النبي -عليه السلام- قد شربه. قلت: هذا كلام خباط؛ لأنهم متى حللوا المسكر حتى يقيموا عليه حجة: فهل يحلل المسلم المسكر؟! وهل يصدر من مسلم نسبة النبي -عليه السلام- إلى شرب المسكر من النبيذ؟! غاية ما في الباب أنهم قالوا: إن شرب القليل من النبيذ المشتد مباح، وما أسكر كثيره فقليله لا يحرم إلا بالإسكار. ثم احتجوا على ذلك بأنه -عليه السلام- قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدًا، وشربه -عليه السلام- منه ما كان مسكرًا وإنما كان مشتدًا، فلذلك قطب، ثم صب عليه ماء من زمزم. ولكن هؤلاء لفرط تعصبهم وشدة حطهم على مَن يذهب إلى هذا المذهب يتكلمون بالخرافات من غير تروي، ولا مبالاة عما يترتب عليهم من ذلك عند الله تعالى.

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله، إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير أحدهما يقال له: المزر، والآخر يقال له: البِتع، فما نشرب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشربا، ولا تسكرا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- أنا ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: إنك بعثتنا إلى أرض كثير شراب أهلها. فقال: اشربا، ولا تشربا مسكرًا". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الفضيل بن مرزوق، عن أبي إسحاق. . . . فذكر بإسناده مثله. فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - حين سألاه عن البِتع: "اشربا ولا تسكرا" أو: "لا تشربا مسكرًا" كان ذلك دليلًا أن حكم المقدار الذي يسكر من ذلك الشراب خلاف حكم ما لا يُسكر منه، فدل ذلك أن ما ذكر أبو موسى عن رسول الله -عليه السلام- مما ذكرناه عنه في الفصل الأول من قوله: "كل مسكر حرام" إنما هو على المقدار الذي لا يُسكر، لا على العين التي كثيرها يسكر. وقد روينا حديث أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها - في جواب النبي -عليه السلام- للذي سأله عن البِتع بقوله: "كل شيء أسكر فهو حرام". فإن جعلنا ذلك على قليل الشراب الذي يسكر كثيره ضاد جواب النبي -عليه السلام- لمعاذ وأبي موسى، وإن جعلناه على تحريم السكر خاصة لا على تحريم الشراب في عينه وافق حديث أبي موسى. وأولى الأشياء بنا حمل الآثار على الوجوه التي لا تتضاد إذا حملت عليها. ش: أي قد روي أيضًا -فيما ذكرنا من أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر- عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، فإنه

هو ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - لما سألا رسول الله -عليه السلام- عن البِتع قال لهما: "اشربا ولا تسكرا" وفي رواية قال: "اشربا، ولا تشربا مسكرًا" فدل ذلك أن المنهي هو المقدار الذي يُسكر لا مطلق الشراب؛ لأنه أباح لهما الشرب من البتع ونحوه بشرط عدم الإسكار، ودل أيضًا أن ما روى أبو موسى [عن النبي] (¬1) -عليه السلام- من قوله: "كل مسكر حرام" على ما مضى ذكره في هذا الباب إنما هو القدر الذي يُسكر لا مطلق الشراب، فلو لم يذهب إلى هذا التأويل يلزم التضاد بين حديث عائشة الذي فيه جواب النبي -عليه السلام- للذي سأله عن البتع بقوله: "كل شي أسكر فهو حرام" وبين حديث أبي موسى هذا، يظهر ذلك بالتأمل، والأولى -بل الأوجب- تنزيل معاني الآثار على الوجوه التي لا تتضاد إذا حملت عليها. وفيما ذكرنا من التأويل تتفق معاني الآثار، ويطابق بعضها بعضًا. ثم إنه أخرج حديث أبي موسى من ثلاث طرق: الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يونس بن محمد المؤدب البغدادي، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى، عن أبيه أبي موسى الأشعري. وذكره ابن حزم في "المحلى" (¬2) ثم قال: وهذا لا يصح؛ لأنه من طريق شريك، وشريك مدلس وضعيف فسقط. وقد رواه الثقات بخلاف هذا كما روينا من طريق عمرو بن دينار وزيد بن أبي أنيسة وشعبة بن الحجاج، كلهم عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل مسكر حرام، كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام، أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة"، فهذا هو الحق الثابت، لا رواية كل ضعيف ومدلس وكذاب ومجهول. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها. (¬2) "المحلى" (7/ 499).

وقال أبو عمر: هذه اللفظة يعني: "ولا تسكر" إنما رواها شريك وحده، والذي روى غيره: "ولا تشربوا مسكرًا". قلت: قال يحيى بن معين: شريك صدوق ثقة إلا أنه إذا خالف فغيره أحب إلينا. وقال العجلي: كوفي ثقة، كان حسن الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة. وقال الذهبي: شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي الحافظ الصادق، أحد الأئمة. وقال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان، واحتجت به الأربعة. فهذا يرد كلام ابن حزم وغيره. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي عن أبي بردة عامر، عن أبيه أبي موسى. وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن عبد الله بن علي، ثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- أنا ومعاذ إلى اليمن، فقال معاذ: إنك تبعثنا إلى أرض كثير شراب أهلها، فما أشرب؟ قال: اشرب، ولا تشرب مسكرًا". الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن الفضل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، عن أبي إسحاق. . . . إلى آخره. وأخرجه البزار (¬2): ثنا عمرو بن علي، ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: "بعثني رسول الله -عليه السلام- ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: بَشِّرا ولا تنفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا. فقال ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 298 رقم 5596). (¬2) "مسند البزار" (8/ 117 رقم 3119).

معاذ: إنك تبعثنا إلى أرض كثيرة الأشربة، فما نشرب؟ قال: اشربوا، ولا تشربوا مسكرًا". ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبيه، عن لبيد بن شماس، قال: قال عبد الله: "إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم، فما يزالون حتى يحرم عليهم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس: "أنه أكل مع عبد الله بن مسعود خبزًا ولحمًا. قال: فأتينا بنبيذ شديد نبذته امرأته سيرين في جرة خضراء، فشربوا منه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم وغيره، قالوا: أنا جرير، قال: ثنا حجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود عن قول رسول الله -عليه السلام- في المسكر، فقال: الشربة الأخيرة". فهذا عبد الله بن مسعود قد روي عنه في إباحة قليل النبيذ الشديد من فعله وقوله ما ذكرنا، ومن تفسيره قول رسول الله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" على ما وصفنا. ش: أي قد روي عن عبد الله بن مسعود أيضًا فيما ذكرنا من أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر، وأن القليل من النبيذ الشديد مباح؛ وذلك لأنه صرح بقوله: "إن المحرم هو الشربة الأخيرة" في تفسير قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، وفعله أيضًا طابق قوله؛ وذلك لأن علقمة قد حكى عنه أنه شرب نبيذًا مشتدًا كان قد عمل في جرة خضراء، فهذا فعله، وقوله: وتفسيره قول النبي -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" دل على إباحة شرب القليل من النبيذ الشديد، وعلى أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر.

ئم إنه أخرج عن ابن مسعود من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن لبيد بن شماس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن شماس، قال: قال عبد الله: "ما يزال القوم وإن شرابهم لحلال [فما يقومون] (¬2) حتى يصير عليهم حرامًا". فإن قلت: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يصح؛ لأن لبيدًا اختلف في اسمه، فقيل: لبيد بن شماس، وقيل: شماس بن لبيد، وهو لا يعرف، ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق، ولا رُوِيَ عنه إلا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجة. وكذا قال ابن حزم: لبيد مجهول. قلت: لبيد بن شماس هو شماس بن لبيد، وكلاهما واحد، وقد ذكر ابن حبان شماسًا في كتاب الثقات، فزالت الجهالة بذلك. الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن حزم (¬3) وقال: هذا خبر صحيح، وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وفاق إلا هذا الخبر وحده، إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة أوجه. أحدها: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله -عليه السلام-. والثاني: أنه قد صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 80 رقم 23881). (¬2) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف". (¬3) "المحلى" (7/ 489).

مما يُسكر كثيره، وعن غيره من الصحابة أيضًا، وإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة فليس بعضه أولى من بعض. والثالث: أنه قد يحتمل أن يكون قول علقمة نبيذًا شديدًا، أي: خاثرًا لفيفًا حلوًا فهذا ممكن. قلت: يكفينا اعتراف الخصم بصحة ما احتججنا به، ثم قوله: "إلا أنه يسقط. . . ." إلى آخره فيه أشياء: أما الأول: فلأن فعل الصحابي وقوله حجة. وأما الثاني: فقد صح عنه ما ادعينا، وإن كان صح عنه غيره أيضًا. وأما الثالث: فهو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. قوله: "نبذته امرأته سرين". أي امرأة عبد الله بن مسعود، وهي أم أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد المروزي وغيره، عن جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، ثنا العباس ابن عبيد الله، ثنا عمار بن مطر، ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- قال: "كل مسكر حرام، قال عبد الله: هي الشربة التي أسكرتك". قال: وحدثنا عمار بن مطر، ثنا شريك، عن أبي حمزة، عن إبراهيم. قوله: "كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي أسكرتك". وهذا أصح من الذي قبله، ولم يسنده غير الحجاج، واختلف عنه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 250 رقم 23).

وعمار بن مطر ضعيف. وحجاج ضعيف وإنما هو من قول إبراهيم النخعي. حدثنا (¬1) أبو سعيد محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن مشكان المروزي، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا العباس بن زرارة، ثنا جرير، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال: "كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي تُسكرك". حدثنا (¬2) أبو سعيد، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا عبد الكريم بن عبد الله، عن وهب بن زمعة، عن سفيان بن عبد الملك، أنه ذكر عنده حديث ابن مسعود: "هي الشربة التي تسكرك". فقال عبد الله بن المبارك: هذا حديث باطل. ثنا (¬3) أحمد بن محمد بن زياد، ثنا محمد بن حماد بن ماهان، ثنا عيسى بن إبراهيم، ثنا المعافي بن عمران، عن مسعر بن كدام، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في هذا الحديث الذي جاء: "كل مسكر حرام، هو القدح الذي يُسكر منه". هذا هو الصحيح عن حماد أنه من قول إبراهيم انتهى. قلت: صرَّح علقمة بأنه سأل ابن مسعود - رضي الله عنه - عن قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" فأجاب عنه بأنه الشربة الأخيرة. ولئن سلمنا أن هذا من قول إبراهيم النخعي، ففيه كفاية في هذا التفسير. وإبراهيم ليس بقليل. ص: وقد روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على هذا أيضًا: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر قال: "سألت ابن عباس عن الخمر الأبيض والخمر الأحمر؟ فقال: إن أول من سأل النبي -عليه السلام- عن ذلك وفد عبد القيس، فقال: لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير، واشربوا في الأسقية، فقالوا: ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 251 رقم 24). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 251 رقم 25). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 251 رقم 26).

يا رسول الله فإن اشتد في الأسقية؟ فقال: صبوا عليه من الماء. وقال لهم في الثالثة أو الرابعة: فأهريقوه". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس: "أنه سئل عن الجَرّ. . . ." فذكر مثل ذلك. ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- أباح لهم أن يشربوا نبيذ الأسقية وإن اشتد. ش: أي: فقد روي عن ابن عباس أيضًا ما يدل على أن شرب القليل من الشديد مباح؛ فإنه أخبر في حديثه أنه -عليه السلام- أباح الشرب من نبيذ الأسقية وإن كان شديدًا، ودل ذلك على أن معنى قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو المقدار المسكر. وأخرجه من طريقين صحيحين. الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي، عن سفيان الثوري، عن علي بن بذيمة الجزري الحراني، عن قيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة، وفتح التاء المثناة من فوق- التميمي النهشلي الكوفي، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، قال: حدثني قيس بن حبتر النهشلي، عن ابن عباس قال: "إن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله، فيما نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير ولا في المزفت، وانتبذوا في الأسقية. فقالوا: يا رسول الله، فإن اشتد في الأسقية؟ قال: فصبوا عليه الماء. قالوا: يا رسول الله، فقال لهم -في ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 331 رقم 3696).

الثالثة أو الرابعة-: أهريقوه. ثم قال: إن الله حرَّم عليَّ -أو حرَّم- الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام. قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة فقال: الطبل". فإن قيل: كيف تقول: وإسناد هذا صحيح وقد قال ابن حزم: قيس بن حبتر مجهول؟! ولما أخرجه البيهقي في "سننه" قال: إسناده ضعيف، وخالفه أبو جمرة عن ابن عباس، فذكر الكسر بالماء من قول ابن عباس. ثم أخرج من حديث عاصم بن علي، ثنا شعبة، أخبرني أبو جمرة، قال: "كان ابن عباس يُقعدني على سريره. . . ." فذكر الحديث. ثم قال: "قلت: إن عبد القيس ينبذ في مزاد نبيذًا شديدًا. قال: فإذا خشيت شدته فاكسره بالماء، إن عبد القيس لما أتوا رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث. وإنما أراد الكسر بالماء في هذا وفي غيره إذا خشي شدته قبل بلوغه إلى حد الإسكار، بدليل قوله: "كل مسكر حرام" والحرام لا يحله دخول الماء فيه. قلت: أما قول ابن حزم: قيس بن حبتر مجهول فلا يصح عنه ذلك؛ لأن أبا زرعة قال فيه: ثقة كوفي كان يكون بالجزيرة. وقال النسائي وابن حبان: ثقة. وأما قول البيهقي: إسناده ضعيف. فغير مُسَلَّم؛ لأن رجاله ثقات. وأما مخالفة أبي جمرة فلا تضر؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة. الطريق الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن علي بن بذيمة. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس قال: "إن أول من سأل رسول الله عن النبيذ: عبد القيس، أتوه فقالوا: يا رسول الله، إنا بأرض ريف، وإنا نصيب من البقل، فمُرنا بشراب. قال: اشربوا في الأسقية، ولا تشربوا في الجر، ولا في الدباء، ولا ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 303 رقم 17208).

المزفت، ولا النقير، وإني نُهيت عن الخمر والميسر والكوبة -وهي الطبل- وكل مسكر حرام. قالوا: يا رسول الله، فإذا اشتد؟ قال: صُبوا عليه الماء. قال -في الثالثة أو الرابعة-: فإذا اشتد فأهريقوه". قوله: "في الدباء" هي القرع واحدها دباءة، ووزن الدباء فُعَّال ولامه همزة؛ لأنه لم يعرف انقلاب لامه عن واو أو ياء. قاله الزمخشري، وأخرجه الهروي في باب "الدال مع الباء" على أن الهمزة زائدة. وأخرجه الجوهري في المعتل على أن همزته منقلبة، وكأنه أشبه، وكانوا ينتبذون في الدباء فَتُسرع الشدة في الشراب. وتحريم الانتباذ في الظروف المذكورة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهو المذهب، وذهب مالك وأحمد إلى بقاء التحريم. و"المزفت" هو الإناء الذي طلي بالزفت، وهو نوع من القار. و"النقير" هو أصل النخلة يُنقر وسطه، ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء ليصير نبيذًا مسكرًا والنهي واقع على ما يعمل فيه لا على اتخاذ النقير، وهو فعيل بمعنى مفعول. ص: فإن قال قائل: فإن في أمره إياهم بإهراقه بعد ذلك دليل على نسخ ما تقدم من الإباحة. قيل له: وكيف يكون ذلك كذلك؟! وقد روي عن ابن عباس من كلامه بعد رسول الله -عليه السلام-: "حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب" وقد ذكرنا بإسناده فيما تقدم من هذا الكتاب، وهو الذي روي عنه ما ذكرت، فدل ذلك أن التحريم في الأشربة كان على الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها، فكيف يجوز على ابن عباس مع علمه وفضله أن يكون قد روى عن النبي -عليه السلام- ما يوجب تحريم النبيذ الشديد، ثم يقول: حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب، فيعلم الناس أن قليل الشراب من غير الخمر وإن كان كثيره يُسكر حلال؟! هذا غير جائز عليه

عندنا، ولكن معنى ما أراد بإهراق النبيذ في حديث قيس: أنه لم يأمنهم عليه أن يُسرعوا في شربه فيسكروا السكر المحرم عليهم، فأمرهم بإهراقه لذلك. ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران. قوله: "فيما تقدم من هذا الكتاب" ذكره في الباب المتقدم عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن مسعر بن كدام، عن أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقد مرَّ الكلام فيه هناك مستوفىً. ص: وقد روي في مثل هذا أيضًا ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، قال: حدثني أبو القموص زيد بن علي، عن أحد الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وفد عبد القيس إلا يكون قيس بن النعمان فإني قد نسيت اسمه: "أنهم سألوه عن الأشربة، فقال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير، واشربوا في السقاء الحلال الموكأ عليه، فإن اشتد منه فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه". ش: أي وقد روي أيضًا في مثل ما ذكرنا -من أن أمره -عليه السلام- بالإهراق إنما كان خوفًا عليهم أن يسرعوا في شربه فيسكروا السكر المحرم عليهم فأمرهم بإهراقه لذلك لا لأن شرب النبيذ الذي لا يسكر قليله يحرم ككثيره إذا أسكر-: ما حدثنا محمد بن خزيمة بن راشد، عن عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى القصري العبدي البصري مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي القَمُوص -بفتح القاف، وضم الميم- زيد بن علي العبدي، ويقال: الكندي، عن قيس بن النعمان السكوني الصحابي - رضي الله عنه - فيما يحسب عوف الأعرابي. وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا وهب بن بقية، قال: ثنا خالد، عن عوف، عن أبي القموص زيد بن علي، قال: حدثني رجل كان من الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله -عليه السلام- من عبد القيس يحسب عوف أن اسمه قيس بن النعمان فقال: "لا تشربوا في نقير ولا مزفت ولا دباء ولا حنتم، واشربوا في الجلد الموكَأ عليه، فإن اشتد فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه". وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث عثمان بن الهيثم، ثنا عوف، عن أبي القموص زيد بن علي، عن أحد الوفد الذين وفدوا إلى النبي -عليه السلام- من عبد القيس إلا يكون قيس بن النعمان فإني نسيت اسمه، قال: "فقال رجل منا: يا رسول الله، إن أرضنا أرض وَبِيَّة، وإنه لا يوافقها إلا الشراب، فما الذي يحل لنا من الآنية؟ وما الذي يحرم علينا؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا النقير ولا المزفت، واشربوا في الحلال -أو قال: في الجلد الموكَأ عليه- فإن اشتد متنه فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه". قال البيهقي: فالروايات الثابتة عن وفد عبد القيس خالية من هذه اللفظة، وفي إسناده من يجهل. قلت: رجال هذه الرواية كلهم ثقات، والزيادة من الثقات مقبولة، وجهالة الصحابي لا تضر صحة الإسناد على ما عرف. قوله: "في السقاء الحلال" السقاء -بكسر السين-: ظرف الماء من الجلد، وتجمع على أسقية. قوله: "الحلال" منصوب؛ لأنه مفعول "اشربوا" وهو ضد الحرام. قوله: "الموكأ عليه" أي المشدود الرأس؛ لأن السقاء الموكأ قل ما يغفل عنه صاحبه لئلا يشتد فيه الشراب فينشق فيتعهده كثيرًا، يقال: أوكأت السقاء أوكئه إيكاء فهو موكأ. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 331 رقم 3695). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 302 رقم 17206).

قوله: "فإن أعياكم" أي غلبكم من شدته ولم يكسر بالماء. "فأهريقوه" أي أريقوه، من الإراقة، والهاء زائدة. ص: فإن قال قائل: فقد رويت في هذا الباب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما ذكرت من حديث عمرو بن ميمون وغيره. وقد روي عنه خلاف ذلك، فذكر ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني السائب بن يزيد: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج فصلى على جنازة، ثم أقبل على القوم فقال لهم: إني وجدت آنفًا من عبيد الله بن عمر ريح شراب، فسألته عنه فزعم أنه طلاء، وإني سائل عنه فإن كان يُسكر جلدته. قال: ثم شهدت عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك جلد عبيد الله ثمانين في ريح الشراب الذي وجد منه". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر - رضي الله عنه - الحد تامًّا". قال: فهذا عمر قد حَدَّ في الشراب الذي يسكر، فهذا مخالف لما رويتم عن عمرو بن ميمون وغيره، عنه. قيل له: ما هذا مخالف لذلك؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قال في هذا الحديث: "وأنا سائل عما شرب، فإن كان يُسكر جلدته" فقد يحتمل أن يكون أراد بذلك المقدار الذي شرب. أي فإن كان ذلك المقدار يُسكر فقد علمت أنه قد سَكِر ووجب الحد عليه، وهدا أولى ما حمل عليه تأويل هذا الحديث حتى لا يضاد ما سواه من الأحاديث التي قد رويت عن عمر - رضي الله عنه -. ش: هذا السؤال مثل الاعتراض من أهل المقالة الأولى. وهو وجوابه ظاهران. وخرج الأثر المذكور عن عمر من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ

البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن السائب ابن يزيد بن سعيد الكندي الصحابي - رضي الله عنه -. وقد أخرج الطحاوي هذا في باب "حد الخمر" عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن السائب بن يزيد. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). قوله: "طلاء" بالمد، وقد مَرَّ تفسيره مستوفىً. وقد احتج مالك بهذا على وجوب الحد بوجود رائحة الخمر. وهو رواية عن أحمد. وقال ابن قدامة: ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم، منهم: الثوري وأبو حنيفة، والشافعي. وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك. وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - جلد رجلًا وجد منه رائحة الخمر، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إني وجدت من عبيد الله ريح شراب، فأقر أنه شرب الطلاء، فقال عمر: إني سائل عنه، فإن كان يُسكر جلدته". ولأن الرائحة تدل على شربه، فجرى مجرى الإقرار. والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أن تمضمض بها أو حسبها ماءً، فلما صار في فيه مجَّها، أو ظنها لا تُسكر، أو كان مكرهًا، أو أكل نبقًا بالغًا، أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يُدرأ بالشبهات. والحديث حجة لنا؛ فإن عمر - رضي الله عنه - لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 842 رقم 1532).

ص: وقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضًا في هذا ما حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسد بن موسى قال: ثنا مسلم بن خالد قال: حدثني زيد بن أسلم، عن سمي مولى أبي بكر - رضي الله عنه -، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعامًا فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه، فإن سقاه شرابًا فليشرب منه ولا يسأل عنه، فإن خشي منه فليكسره بشيء". ففي هذا الحديث إباحة شرب النبيذ الشديد. ش: أي قد روي عن أبي هريرة أيضًا فيما ذكرنا من إباحة شرب النبيذ القليل من النبيذ المشتد. أخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى صاحب "المسند"، عن مسلم بن خالد المكي المعروف بالزنجي شيخ الشافعي، عن زيد بن أسلم القرشي، عن سُمي القرشي المخزومي المدني مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي صالح ذكوان الزيات المدني، عن أبي هريرة. وهؤلاء كلهم ثقات غير الزنجي شيخ الشافعي فإن فيه مقالًا. وأخرجه الدارقطني (¬1) وقال: قرئ على عبد الله بن محمد بن عبد العزيز وأنا أسمع، حدثكم علي بن الجعد، ثنا الزنجي بن خالد، ثنا زيد بن أسلم، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه، فليأكل من طعامه ولا يسأله، وإن سقاه شرابًا فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه. وإن خشي منه فليكسره بالماء". فإن قيل: هذا حديث ضعيف معلول بالزنجي فكيف يحتج به؟! قلت: كثيرًا ما يحتج الخصم بحديث الزنجي أيضا، فمهما أجاب عنه إذا قيل له: كيف تحتج بحديث الزنجي وهو ضعيف؟! فهو جوابنا هاهنا، على أن هذا الحديث قد شدَّه ما رواه سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 258 رقم 65).

أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: "إذا أطعمك أخوك المسلم طعامًا فكل، وإذا سقاك شرابًا فاشرب، وإن رابك فأشجه بالماء". قال ابن حزم: هذا خبر صحيح. قوله: "فاشججه" بالشين المعجمة والجيمين، من شَجَّ الشراب: إذا مزجه بالماء. فإن قيل: صح عن أبي هريرة من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" فهذا ينافي ما روي عنه من المذكور. قلت: لا منافاة؛ لأنا قد ذكرنا أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو القدر المسكر، ويؤيد ذلك ما رواه وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي لبيد، عن سالم، سمع أبا هريرة يقول: "مَن رابه من نبيذه فليسنّ عليه الماء، فيذهب حرامه ويبقي حلاله"، والله أعلم. ص: فإن قال قائل: إنما أباحه بعد كسره بالماء وذهاب شدته. قيل له: هذا كلام فاسد؛ لأنه لو كان في حال شدته حرامًا لكان لا يحل وإن ذهبت شدته بصب الماء عليه، ألا ترى أن خمرًا لو صُبَّ فيها ماء حتى غلب الماء عليها أن ذلك الماء حرام. فلما كان قد أبيح في هذا الحديث الشراب الشديد إذا كُسر بالماء؛ ثبت بذلك أنه قبل أن يكسر بالماء غير حرام، فقد ثبت بما روينا في هذا الباب إباحة ما لا يُسكر من النبيذ الشديد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث أبي هريرة المذكور لا يدل على إباحة شرب القليل من النبيذ المشتد مطلقًا؛ لأنه إنما أباح -عليه السلام- شربه بعد كسره بالماء وذهاب شدته، فدل على أنه قبل ذلك غير مباح. والجواب ظاهر. قوله: "في هذا الحديث" أراد به حديث أبي هريرة.

ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت ش: أي هذا باب في بيان حكم الانتباذ. . . . إلى آخره. و"الانتباذ": اتخاذ النبيذ؛ لأنه افتعال من نبذت التمر ونحوه، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا. و"الدباء": واحدها دباءة، وهي القرعة. و"الحنتم": بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق، وهي جرار مدهونة خضر كانت تُحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحده حنتمة. و"النقير": بفتح النون وكسر القاف أصل النخلة يُنقر وسطه، ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء؛ ليصير نبيذًا مسكرًا. و"المزفت": الوعاء المطلي بالزفت وهو نوع من القير. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن علي - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدباء والمزفت". ش: إسناده صحيح. والقواريري: هو عبيد الله بن ميسرة، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. وسليمان هو الأعمش. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، حدثني سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن علي - رضي الله عنه -: "نهى النبي -عليه السلام- عن الدباء والمزفت". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2124 رقم 5272).

وأخرجه مسلم (¬1) ثنا سعيد بن عمرو الأشعثي، قال: أنا عبثر (ح) وحدثني زهير بن حرب، قال: ثنا جرير. (ح) وحدثني بشر بن خالد، قال: أنا محمد -يعني ابن جعفر- عن شعبة، كلهم عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن علي - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن ينتبذ في الدباء والمزفت" هذا حديث جرير. وفي حديث عبثر وشعبة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الدباء والمزفت". وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن بشار، عن يحيى القطان، عن سفيان الثوري، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي. قوله: "نهى عن الدباء" أي عن الانتباذ في الدباء، ونهى عن الانتباذ في المزفت. والنهي واقع على ما يعمل فيها، لا عن نفس الدباء والمزفت فافهم. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام الدستوائي، قال: ثنا أيوب، عن سعيد بن جُبير قال: "سئل ابن عمر عن نبيذ الجر فقال: حرمه النبي -عليه السلام-، فأتيتُ ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: صدق. قلت: أي جرّ؟ قال: كل شيء من المدر". حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصيب بن ناصح، قال: ثنا وهيب، عن أيوب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، مثله. ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح. عن علي بن معبد بن نوح، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن أيوب السختياني. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1578 رقم 1994). (¬2) "المجتبى" (8/ 305 رقم 5627).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن هشام بن أبي عبد الله، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: "سألنا ابن عمر عن نبيذ الجر، فقال: حرمه رسول الله -عليه السلام-، فأتيت ابن عباس فقلت: سمعت اليوم شيئًا عجبت منه. قال: ما هو؟ قلت: سألت ابن عمر عن نبيذ الجر، فقال: حرمه رسول الله -عليه السلام-. فقال: صدق ابن عمر. قلت: ما الجر؟ قال: كل شيء من مدر". الثاني: فيه مجهول. عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن أيوب السختياني، عن رجل، عن سعيد بن جبير. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة قال: حدثني قيس بن حبتر قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الجر الأبيض والأحمر، فقال: إن أول مَن سأل النبي -عليه السلام- وفد عبد القيس، فقالوا: إنا نصيب من البقل، فقال: لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير ولا في الجر". ش: هذا أخرجه الطحاوي في الباب السابق، عن أبي بكرة، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، عن سفيان الثوري، عن علي بن بذيمة الجزري، عن قيس بن حبتر النهشلي الكوفي، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬2): عن ابن بشار، عن أبي أحمد. . . . إلى آخره نحوه. وقد ذكرناه هناك. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن يحيى البهراني، قال: سمعت ابن عباس يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 303 رقم 5619). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 331 رقم 3696).

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة، عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- وفد عبد القيس عن الدباء والحنتم والنقير -في حديث شعبة، وربما قال: المقير والمزفت في حديثيهما جميعًا، وفي حديث شعبة-: فاحفظوهن عني، وأخبروا بهن مَن وراءكم". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن زيد وأبو هلال، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- وفد عبد قيس عن الحنتم والنقير والمزفت -وفي حديث حماد-: والدباء" ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق. . . . إلى آخره. و"البهراني" بالباء الموحدة قبل الهاء. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن عمر، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والنقير والمزفت". قوله: "نهى عن الدباء" أي اتخاذ النبيذ في الدباء، ولابد من التقدير؛ لأن النهي ليس عن عين الدباء، ولا عن عين النقير والمزفت. الثاني: عن ربيع بن سليمان. . . . إلى آخره. وأبو جمرة -بالجيم- اسمه نصر بن عمران بن عاصم الضبعي البصري. روي له الجماعة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا عباد بن عباد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس. (ح) ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1580 رقم 17). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1579 رقم 17).

وثنا خلف بن هشام، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: "قدم وفد عبد القيس على رسول الله -عليه السلام-، فقال النبي -عليه السلام- أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمُقير". وفي حديث حماد جعل مكان "المقير" "المزفت". قوله: "المقير" هو المطلي بالقير، وهو المزفت، ويقال: إنما نهى عن الانتباذ في الحنتم لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها. وقيل: لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر، فنهي عنها ليمتنع من عملها، والأول الوجه. الثالث: عن ربيع بن سليمان أيضًا. . . . إلى آخره. وأبو هلال هو الراسبي، واسمه محمد بن سُليم. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1). ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر. فأتيت ابن عباس فقلت: ألا تسمع ما يقول ابن عمر؟ قال: وما يقول؟ قلت: يقول: حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر، فقال: صدق ابن عمر؛ حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر". ش: إسناده صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم الثقفي المكي. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2)، ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم -المعنى- قالا: ثنا جرير، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: "حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر، فخرجت فزعًا من قوله: حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر، فدخلت على ابن عباس، فقلت: أما ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 228 رقم 2020). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 330 رقم 3691).

تسمع ما يقول ابن عمر؟! قال: وما ذاك؟ قال: حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر! قال: صدق، حرَّم رسول الله -عليه السلام- نبيذ الجر". وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: عن شيبان بن فروخ، عن جرير، عن يعلى بن حكيم. . . . إلى آخره نحوه. وفي آخره: "قلت: وما الجر؟ قال: كل شيء يصنع من مدر". قلت: "الجر" بفتح الجيم وبتشديد الراء: جمع جرة. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا الحكم قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبيذ، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر والدباء. قال: وسألت ابن الزبير - رضي الله عنهما -، فقال مثل ذلك. قال: وسألت ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر والدباء والمزفت. قال: فأخبرني أخي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك". ش: إسناده صحيح. وأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو روى له الجماعة، وأبو الحكم اسمه عمران بن الحارث السلمي الكوفي، روى له مسلم والنسائي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يحيى، عن شعبة، حدثني سلمة بن كهيل، سمعت أبا الحكم: "سألت ابن عباس عن نبيذ الجر، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر والدباء، وقال مرة: مَن سره أن يُحرم ما حرَّم الله ورسوله فليحرم النبيذ. قال: وسألت ابن الزبير، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والجر. قال: وسألت ابن عمر، فحدث عن عمر أن النبي -عليه السلام- نهى عن الدباء والمزفت. قال: وحدثني أخي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الجر والدباء والمزفت والبُسر والتمر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1581 رقم 1997). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 27 رقم 185).

وحديث أحمد هذا مشتمل على رواية خمسة من الصحابة وهم: ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وأبوه عمر بن الخطاب، وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهم -. وقد أخرجوا أحاديثهم أيضًا كل واحد بمفرده، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: "قال: فأخبرني أخي" أي قال أبو الحكم: وأخبرني أخي. وأخوه هو مالك بن الحارث السلمي الكوفي، وثقه يحيى وغيره، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن ميمونة. وعن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "لا ينبذ في الدباء والمزفت والنقير والجرار". ش: هذا عن ميمونة وعن عائشة زوجي النبي -عليه السلام-. ورجاله ثقات، غير أن عبد الله بن محمد بن عقيل منكر الحديث. قاله ابن سعد، وعن يحيى: ليس حديثه بحجة. وقال النسائي: ضعيف. وهذا الإسناد بعينه قد مر في باب "ما يحرم من النبيذ" ولكن متن الحديث هناك: "كل شراب أسكر فهو حرام"، والكل حديث واحد وإنما قطعه لأجل التبويب. وأخرجه أحمد (¬1): بتمامه في موضع واحد: ثنا أحمد بن عبد الملك، ثنا عبيد الله ابن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سليمان بن يسار، عن ميمونة زوج النبي -عليه السلام- قالت: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والنقير والجر والمقير. وقال: كل مسكر حرام". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 333 رقم 26867).

وثنا (¬1) أحمد بن عبد الملك، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عما حرَّم رسول الله -عليه السلام- من الأوعية التي ينبذ فيها، فقالت: المزفت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: "سألت عائشة عن الأوعية التي نهى عنها رسول الله -عليه السلام-، فقالت: القرع والمزفت، وهي جرار خمر كان يجاء بها من مصر مزفتة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور قال: سمعت إبراهيم يحدث، عن الأسود قال: "سألت عائشة - رضي الله عنها - عما حرم رسول الله -عليه السلام- من الأوعية التي ينبذ فيها، فقالت: المزفت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، عن شعبة قال: سمعت منصورًا. . . . فذكر بإسناده مثله. "قال: قلت: فالجرار؟ قالت: ما أنا بزائدتك على ما قد سمعت". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شيبان أبو معاوية، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، قال: حدثني عبد الله بن معقل المحاربي، قال: سمعت عائشة تقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن ينتبذ في الدباء والحنتم والمزفت". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: حدثني قتادة، قال: حدثني أربعة رجال، عن أبي سعيد الخدري. وحدثني خمس نسوة عن عائشة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن نبيذ الجر". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبيد الله بن ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (6/ 333 رقم 26868).

عمران -أو عمران بن عبيد الله- قال: سمعت عبيد الله بن شماس يقول: "سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الحنتمة -وهي الجرة- وعن الدباء والمزفت والنقير". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليمان بن معاذ، قال: ثنا الأشعث، قال: سمعت حبة العرني يقول: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". ش: هذه ثمان طرق أخرى عن عائشة، واحد منها عن أبي سعيد الخدري أيضًا. الأول: إسناده صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي العنبري، عن شعبة، عن حماد بن أبي سليمان -شيخ أبي حنيفة- عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1): عن محمد بن حاتم، عن يحيى -وهو القطان- عن سفيان وشعبة، كلاهما عن منصور وسليمان وحماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي -عليه السلام- مثله. الثاني: أيضًا صحيح. وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن مثنى، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم، عن الأسود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والحنتم والمزفت، قالت: الحنتم جرار يجاء بها من مصر يحمل فيها الخمر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1579 رقم 1995). (¬2) "المجتبى" (8/ 305 رقم 5626). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 71 رقم 23790).

الثالث: أيضًا صحيح. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير -قال زهير: ثنا جرير- عن منصور، عن إبراهيم قال: "قلت للأسود: هل سألت أم المؤمنين عما يكره أن ينتبذ فيه؟ قال: نعم، قلت: يا أم المؤمنين، أخبريني عما نهى عنه رسول الله -عليه السلام- أن ينتبذ فيه؟ قالت: نهانا أهلَ البيتِ أن ننتبذ في الدباء والمزفت. قال: قلت له: أما ذكرت الحنتم والجر؟ قال: إنما أحدثك بما سمعت أأحدثك ما لم أسمع؟! ". الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أبي معاوية شيبان بن عبد الرحمن النحوي البصري، عن الأشعث بن أبي الشعثاء، عن عبد الله بن معقل المحاربي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا هاشم، ثنا شيبان، عن الأشعث، قال: حدثني عبد الله بن معقل المحاربي قال: سمعت عائشة تقول. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 187 رقم 6829). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1578 رقم 1995). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 80 رقم 24551).

السادس: إسناده فيه مجاهيل. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن همام بن يحيى العوذي، عن قتادة. . . . إلى آخره. السابع: لا بأس به. عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن عبيد الله بن عمران التميمي القريعي -ويقال له: عمران بن عبيد الله أيضًا- وثقه ابن حبان، عن عبيد الله بن شماس، ذكره ابن أبي حاتم وقال: يروي عن أبيه وعبيد الله بن عمران القريعي، ولم يتعرض إليه بشيء. الثامن: أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سليمان بن قرة بن معاذ الضبي النحوي، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم المحاربي، عن حبَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن جوين العرني البجلي. قيل: إنه رأى النبي -عليه السلام-، ونسبته إلى أحد أجداده عرينة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬1). ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت قال: "قلت لابن عمر - رضي الله عنهما -: أنهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر؟ قال: قد زعموا ذاك". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا هُدْبة بن خالد، قال: أنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: "قلت لابن عمر: أنهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر؟ قال: قد زعموا ذاك". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- خطب في بعض مغازيه فانصرف قبل أن أبلغه، فسألت: ماذا قال؟ قالوا: نهى أن يُنتبذ في الدباء والمزفت". ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (1/ 215 رقم 1531).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن سليمان التيمي، عن طاوس، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن القرع والمزفت". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو حثمة، عن أبي الزبير، عن جابر وابن عمر - رضي الله عنهم -: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن النقير والدباء والمزفت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة (ح). وحدثنا ابن مرزوق أيضًا، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن عقبة -وهو ابن حريث- عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجر والدباء والمزفت، وأمر أن يُنبذ في الأسقية". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والتسبيح والمزفت. قال: ولا أدري أذكر النقير أم لا". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: قلت لابن عمر: "أخبرني ما نهى عنه رسول الله -عليه السلام- من الأوعية وفسره لنا بلغتنا. قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الحنتم وهي التي تسمونها الجرة، ونهى عن الدباء وهي التي تسمونها القرعة، ونهى عن المزفت وهو المقير، ونهى عن النقير وهي النخلة تنسح نسحًا وتنقر نقرًا، وأمر أن ينتبذ في الأسقية". ش: هذه عشر طرق صحاح. الأول: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن حماد بن زيد، عن ثابت. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن هدبة بن خالد شيخ البخاري ومسلم وأبي داود. . . . إلى آخره. الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه مالك في "موطأه" (¬2). ومسلم (¬3) عن يحيى بن يحيى، عن مالك. الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن علية ويزيد ابن هارون، قالا: ثنا سليمان التيمي، عن طاوس: "أن رجلًا أتى ابن عمر فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر؟ فقال: نعم، فقال طاوس: والله إني سمعته منه". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1581 رقم 1997). (¬2) "موطأ مالك" (2/ 843 رقم 1536). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1580 رقم 1997). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 293 رقم 1867).

وأخرجه النسائي (¬1): أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزفت والقرع". السادس: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية ابن خديج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. وأخرجه النسائي (¬2) مقتصرًا على جابر: أخبرنا سوار بن عبد الله، نا خالد بن الحارث، نا عبد الملك، نا أبو الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الدباء والنقير والجر والمزفت". السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عقبة بن حريث التغلبي الكوفي، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عقبة بن حريث، قال: سمعت ابن عمر يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجر والدباء والمزفت، وقال: انتبذوا في الأسقية". الثامن: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن عقبة بن حريث، عن ابن عمر. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا بهز ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة. قال بهز: ثنا عقبة بن حريث: سمعت عبد الله بن عمر، قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجر والدباء والمزفت، فقال: "انتبذوا في الأسقية". التاسع: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 305 رقم 5631). (¬2) "المجتبى" (8/ 310 رقم 5649). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1580 رقم 1997). (¬4) "مسند أحمد" (2/ 44 رقم 5030).

وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن مثنى، وابن بشار، قالا: ثنا شعبة، عن محارب ابن دثار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الحنتم والدباء، قال: سمعته غير مرة". العاشر: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن روح بن عبادة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: حدثني زاذان، قال: قلت لابن عمر: حدثني ما نهى عنه النبي -عليه السلام- من الأشربة بلغتك، وفسره لي بلغتنا، فإن لكم لغة سوى لغتنا، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن الحنتم، وهي: الجر، وعن الدباء، وهي القرعة، وعن المزفت، وهو المقير، وعن النخلة تنسح نسحًا، وتنقر نقرًا، وأمر أن ينبذ في الأسقية. قوله: "تنسح نسحًا" أي: ينحى قشرها، ومادته: نون وسين وحاء مهملتين. قال الجوهري: نسح التراب نسحًا، أذاره. والمعنى هاهنا: أن النخلة يزال قشرها ويملس، ثم ينقر نقرًا، ووقع في كثير من نسخ مسلم بالجيم أيضًا من النسج، وهو تصحيف. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، عن حماد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والمزفت والنقير". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: قال لي أبو الزبير: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجر والمزفت والدباء والنقير". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1580 رقم 1997).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن عبدة بن سليمان، عن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والنقير والمزفت". الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن الحجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم. وأخرجه النسائي (¬2): أنا سويد، أنا عبد الله، عن ابن جريج قراءة، قال: أنا أبو الزبير: سمعت جابرًا يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الجر والمزفت والدباء والنقير". ص: حدثنا علي، قال: ثنا الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو قزعة، أن أبا نضرة وحسنًا أخبراه، أن أبا سعيد الخدري أخبراهما: "أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي -عليه السلام- قالوا: يا نبي الله، جعلنا الله فداك، ما يصلح لنا من الأشربة؟ قال: "لا تشربوا في النقير" قالوا: يا نبي الله، جعلنا الله فداك، لا ندري ما النقير؟ قال: نعن الجذع ينقر وسطه، ولا في الدباء ولا في الحنتمة". ش: إسناده صحيح، وعلي بن معبد، والحجاج هو ابن محمد المصيصي، وابن جريج هو عبد الملك، وأبو قزعة هو سويد بن حجير البصري روى له الجماعة سوى البخاري، وأبو نضرة بالنون والضاد المعجمة اسمه: المنذر بن مالك العبدي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، والحسن هو البصري. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬3): ثنا محمد بن معمر: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو قزعة، ثنا أبو نضرة وحسن، عن أبي سعيد الخدري: "أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله -عليه السلام-، فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 70 رقم 23785). (¬2) "المجتبى" (8/ 309 رقم 5647). (¬3) وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 57 رقم 11561)، والطبراني في "الكبير" (6/ 36 رقم 5439) كلاهما من طريق ابن جريج به.

من الشراب؟ قال: لا تشربوا في النقير، قالوا: وما النقير؟ قال: جذع النخلة ينقر فينتبذ فيه، ولا في الدباء ولا في الحنتم، وعليكم بالموكأة، عليكم بالموكأة". ولا نعلم روى أبو قزعة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد إلا هذا الحديث. وأبو قزعة بصري ليس به بأس، روى عنه شعبة وحماد بن سلمة ومحمد بن جحادة. قال أبو بكر: وحسن -يعني الحسن البصري- روى الحسن عن أبي سعيد حديثين أو ثلاثة، ولم يسمع منه. ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرقام، قال: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "سمعت النبي -عليه السلام- ينهى عن ما يُصنع في الظروف المزفتة وفي الدباء، وقال: كل مسكر حرام". ش: إسناده صحيح. وعياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- هو ابن الوليد الرقام القطان البصري شيخ البخاري وأبي داود. وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني، والزهري هو محمد بن مسلم. وأخرجه مسلم (¬1): عن عمرو، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والمزفت أن يُنتبذ فيه". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت التيمي يحدث، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن نبيذ الجر". حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا أبو زيد النحوي، عن سليمان التيمي. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذان طريقان صحيحان. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1577 رقم 1992).

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن سليمان ابن طرخان التيمي، عن أبي نضرة المنذر بن مالك. وأخرجه مسلم (¬1): عن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الجرِّ أن ينتبذ فيه". الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن أبي زيد النحوي، واسمه سعيد بن أوس ابن بشير شيخ الكشي وأبي حاتم السجستاني، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، عن التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر الأخضر. قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري". ص: حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه أخبره: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الدباء والمزفت أن ينتبذ فيهما". ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح. ويونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم. ويحيى بن عبد الله شيخ البخاري. وأخرجه مسلم (¬3): عن قتيبة، عن ليث. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، قال: أخبرني سليمان الشيباني، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر الأخضر. قال: قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1580 رقم 1998). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 73 رقم 23808). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1577 رقم 1992).

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن سليمان الشيباني، عن ابن أبي أوفى، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن علي بن معبد .. إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، نا عبد الواحد، ثنا الشيباني، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن الجر الأخضر. قلت: أشرب في الأبيض؟ قال: لا". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أبي إسحاق الشيباني، سمعت ابن أبي أوفى يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن أبي شمر الضبعي؛ قال: سمعت عائذ بن عمرو يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والنقير والمزفت والحناتم". ش: إسناده صحيح. وروح هو ابن عبادة. وأبو شمر الضبعي البصري وثقه ابن حبان، وروى له مسلم والنسائي وأحمد. وعائذ بن عمرو المزني الصحابي البصري. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي شمر الضبعي قال: "سمعت عائذ بن عمرو ينهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير، فقلت له: عن النبي -عليه السلام-؟ قال: نعم". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2125 رقم 5274). (¬2) "المجتبى" (8/ 304 رقم 5622). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 64 رقم 20657).

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الحنتم". ش: إسناده صحيح. وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة. وأبو التياح -بفتح التاء المثناة من فوق، وتشديد الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة- واسمه يزيد بن حُميد الضبعي. وحفص هو ابن عبد الله الليثي، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن حفص الليثي، عن عمران بن الحصين: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الحنتم". ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- وفد عبد القيس عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت والمزادة المجبوبة وقال: انتبذ في سقائك واشربه حلوًا طيبًا. فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه -وأشار بيده وفرج بينهما؟ فقال: إذًا تجعلها مثل هذه وأشار بيده أكثر من ذلك". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سريج بن النعمان الجوهري، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، أخبره أبو سلمة، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا تنتبذوا في الدباء ولا في المزفت. ثم يقول أبو هريرة: اجتنبوا الحناتم والنقير". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت الأوزاعي يقول: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن نبيذ الجرار المزفتة والدباء". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 73 رقم 23805).

حدثنا فهد، قال: ثنا النفيلي، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: أنبأني مجاهد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "نهانا رسول الله -عليه السلام- أن ننتبذ في الدباء والمزفت". حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن الجرار والدباء والظروف المزفتة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت". حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سَوَّار، قال: ثنا شعبة، عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه ست طرق صحاح: الأول: عن حسين بن نصر بن المعارك. . . . إلى آخره. ومحمد هو ابن سيرين. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: أنا نوح بن قيس، قال: ثنا ابن عون، عن محمد، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير -والحنتم: المزادة المجبوبة- ولكن اشرب في سقائك وأوكه". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا وهب بن بقية، عن نوح بن قيس، قال: ثنا عبد الله ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عن النقير والمقير والحنتم والدباء والمزادة المجبوبة، ولكن اشرب في سقائك وأوكه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1578 رقم 1993). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 331 رقم 3693).

قوله: "والمزادة المجبوبة" بالجيم من الجَبِّ وهو القطع، وأراد بها المزادة التي قطع رأسها وليس لها عزلاء من أسفلها يتنفس منها الشراب. فإن قلت: ما وجه رواية مسلم: "والحنتمُ المزادة المجبوبة"؟ قلت: قال صاحب "المشارق": و"الحنتمُ": المزادة المجبوبة، كذا لكافتهم برفع الميم من الحنتم على الابتداء و"المزادةُ" خبرُه. وعند الهروي: "والمزادة المجبوبة" بالواو، وفي النسائي وأبي داود: "وعن المزادة المجبوبة" وهو الصواب، لأن الحنتم لا يفسر بالمزادة المجبوبة، وإنما المزادة المجبوبة التي جُبَّ رأسها أي قطع فصارت كالزق، فإذا انتبذ فيها لم يُعلم غليانه. الثاني: عن علي بن معبد بن نوح البصري عن سريج -بضم السين المهملة، وفي آخره جيم- بن النعمان الجوهري، عن سفيان الثوري (¬1)، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره نحوه. وفي الأطراف لابن عساكر ورواه ليث عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه -. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي، شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا إسحاق بن موسى الخطمي، ثنا الوليد بن مسلم، ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وهو وهم من المؤلف -رحمه الله-، فإن سريج بن النعمان لم يذكروا في شيوخه الثوري وإنما يروي عن ابن عيينة، وكذا الزهري لم يذكروا في تلاميذه الثورى وإنما ذكروا ابن عيينة، فالراجح أنه ابن عيينة، والله أعلم. (¬2) "المجتبى" (8/ 305 رقم 5630). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1128 رقم 3408).

ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن ينتبذ في الجرار". الرابع: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن علي بن نُفيل النفيلي الحراني، شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن مجاهد المكي، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن معمر، ثنا روح بن عبادة، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: "نُهي عن الدباء والحنتم والمزفت". الخامس: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني، شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار أيضًا: عن محمد بن مسكين، عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الدباء والمزفت". السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك .. إلى آخره. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سَوَّار، قال: ثنا شعبة، عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ش: إسناده صحيح. وعبد الرحمن بن يعمر له صحبة، عداده في أهل الكوفة. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 843 رقم 1537).

ويعمر -بفتح الياء آخر الحروف، وسكون العين المهملة، وضم الميم، وفي آخره راء. والديلي -بكسر الدال- نسبة إلى ديل بن عمرو. والحديث أخرجه الترمذي في "العلل" (¬1) عن عبد الله بن أبي زياد وغير واحد، عن شبابة، عن شعبة، عن بُكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، به نحوه. وقال: غريب من قبل إسناده؛ لا نعلم أحدًا حدث به عن شعبة غير شبابة. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن أبان البلخي، عن شبابة، به. وابن ماجه (¬3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعباس العنبري، عن شبابة، به. ص: حدثنا علي، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن وِقاء بن إياس، عن علي بن ربيعة، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والحنتم والمزفت". ش: علي هو ابن معبد بن نوح المصري. ووِقاء -بكسر الواو، وبالقاف- ابن إياس الأسدي الوالبي الكوفي أبو يزيد. قال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في الثقات، روى له أبو داود في "القدر"، والنسائي. وعلي بن ربيعة الوالبي، روى له الجماعة. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (¬4): ثنا الحسن بن يحيى -من أهل مرو- وعلي ابن إسحاق، قالا: أنا ابن المبارك، عن وِقاء بن إياس، عن علي بن ربيعة -قال علي ¬

_ (¬1) "علل الترمذي" (1/ 759). (¬2) "المجتبى" (8/ 305 رقم 5628). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 1127 رقم 3404). (¬4) "مسند أحمد" (5/ 17 رقم 20198).

ابن إسحاق: أنا وقاء بن إياس، حدثني علي بن ربيعة- عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: "قام النبي -عليه السلام- فخطب، فنهى عن الدباء والمزفت". ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو، عن عبد الله بن الديلمي، عن أبيه قال: "أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزل تحريم الخمر، فقلنا: يا رسول الله، إنا بأرض فيها أعناب وكرم، وقد أنزل الله تحريم الخمر، فماذا نصنع بها؟ فقال: تتخذونه زبيبًا. قلنا: يا رسول الله، نصنع بالزبيب ماذا؟ قال: تصنعونه على غدائكم، وتشربونه على عشائكم، وتصنعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم. قالوا: يا رسول الله، ألا نؤخره حتى يشتد؟ قال: لا تجعلوه في القلال والدباء". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وإسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- قال دحيم: هو غاية في الشاميين. ويحيى بن أبي عمرو السيباني -بالسين المهملة- الشامي الحمصي، وثقه أحمد وغيره، وروى له الأربعة. وعبد الله بن الديلمي هو عبد الله بن فيروز الديلمي، وثقه العجلي وغيره، وروى له الأربعة. وأبوه فيروز الديلمي -ويقال: ابن الديلمي- اليماني، له صحبة، وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب. والحديث أخرجه النسائي (¬1): أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، ثنا بقية، حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو، عن عبد الله بن الديلمي، عن أبيه فيروز قال: "قدمت على رسول الله -عليه السلام-، فقلت: يا رسول الله، إنا أصحاب كرم، وقد أنزل الله -عز وجل- تحريم الخمر، فماذا نصنع؟ قال: تتخذونه زبيبًا. قلت: فنصنع ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 332 رقم 5735).

بالزبيب ماذا؟ قال: تنقعونه على غدائكم وتشربونه على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم. قلت: أفلا نؤخره حتى يشتد؟ قال: لا تجعلوه في القلل، واجعلوه في الشنان؛ فإنه إن تأخر صار خلًّا". فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ستة عشر نفرًا من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبو سعيد الخدري، وميمونة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى، وعائذ بن عمرو، وعمران بن حصين، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن يعمر الديلي، وسمرة بن جندب، وفيروز الديلمي - رضي الله عنهم -. ولما أخرج الترمذي حديث ابن عمر قال: وفي الباب عن ابن أبي أوفى وأبي سعيد وسويد وعائشة وابن الزبير وابن عباس وعمر وعلي وأبي هريرة وعبد الرحمن بن يعمر وسمرة وأنس وعمران بن حصين وعائذ بن عمرو والحكم الغفاري وميمونة. فالطحاوي قد أخرج لهم كلهم ما خلا سويدًا وعمر والحكم الغفاري. قلت: وفي الباب عن عبد الله بن المغفل، وزينب ربيبة النبي -عليه السلام-، وعمير ابن جودان العبدي، وأبي أيوب الأنصاري ورجل من ثقيف، وعبد الله بن جابر العبدي، وأبي قتادة، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -. أما حديث سويد بن المقرن فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، عن أبي حمزة -جار لهم- قال: سمعت هلالًا -رجلًا من بني مازن- يحدث، عن سويد بن مقرن قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- بنبيذ في جرة فسألته، فنهاني عنه، فأخذت الجرة فكسرتها". وأما حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬2): ثنا ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 73 رقم 23807). (¬2) قال الهيثمي في "المجمع": رواه أبو يعلى في "الكبير" ورجاله ثقات.

أبو سعيد، نا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا الحكم قال: "سئل ابن عمر عن نبيذ الجر، فقال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يحدث، أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الدباء والجر والمزفت". وأما حديث الحكم الغفاري فأخرجه الطبراني (¬1): نا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا يحيى الحماني. (ح). وحدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عاصم بن علي، قالا: نا قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، عن سوادة بن عاصم، عن الحكم الغفاري -وكان من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير". وأما حديث عبد الله بن مغفل فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول، عن فضيل بن زيد قال: "كنا عند عبد الله بن مغفل فتذاكرنا الشراب، فقال: الخمر حرام. فقلت: الخمر حرام في كتاب الله، قال: فأي شيء تريد؟ تريد ما سمعت من رسول الله -عليه السلام-؟ سمعت رسول الله -عليه السلام- ينهى عن الدباء والحنتم والمزفت". وأما حديث زينب ربيبة النبي -عليه السلام- فأخرجه ابن أبي شيبة (¬3) أيضًا: نا أحمد ابن إسحاق، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: نا كليب بن وائل، قال: حدثتني ربيبة النبي -عليه السلام- أحسبها زينب قالت: "نهى النبي -عليه السلام- عن الدباء والحنتم، وأرى فيه النقير". وأما حديث عمير بن جودان فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (¬4): ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أشعث بن عمير، عن أبيه قال: "أتى النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 209 رقم 3152). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 72 رقم 23795). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 72 رقم 23796). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 72 رقم 23791).

وفد عبد القيس، فلما أرادوا الانصراف قالوا: قد حفظتم عن النبي -عليه السلام- كل شيء سمعتموه، فاسألوه عن النبيذ، فأتوه فقالوا: يا رسول الله، إنا بأرض وخمة لا يصلحنا فيها إلا الشراب؟ قال: فقال: وما شرابكم؟ قالوا: النبيذ. قال: في أي شيء تشربونه؟ قالوا: في النقير. قال: فلا تشربوه في النقير. . . ." الحديث. وأما حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أحمد بن رشدين المصري، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيرًا حدثه، أن أبا إسحاق مولى بني هاشم حدثه: "أنهم ذكروا يومًا ما ينتبذ فيه، فتنازعوا في القرع، فمر بهم أبو أيوب الأنصاري، فأرسلوا إليه إنسانًا، فقال أبو أيوب: سمعت النبي -عليه السلام- يَنهى عن كل مزفت ينُبذ فيه، لم يزد عليه". وأما حديث رجل من ثقيف فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا علي بن عاصم، أنا المغيرة، عن شباك، عن عامر، قال: أخبرني فلان الثقفي قال: "سألنا رسول الله -عليه السلام- عن ثلاث. . . ." الحديث وفيه: "وسألناه أن يرخص لنا في الدباء، فلم يرخص لنا فيه". وأما حديث عبد الله بن جابر العبدي فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬3): من حديث الحارث بن مرة، عن نفيس -رجل من أهل البصرة- عن عبد الله بن جابر العبدي قال: "كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله -عليه السلام- مع أبي، فنهاهم عن الشرب في الأوعية: الدباء والحنتم والنقير والمزفت". وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي فأخرجه. . . . (¬4). وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فأخرجه أحمد في "مسنده" (¬5): ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 158 رقم 4000). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 310). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 446 رقم 23805). (¬4) بيض له المؤلف -رحمه الله-. (¬5) "مسند أحمد" (2/ 211 رقم 6979).

ثنا أسود بن عامر، ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا من الأوعية: الدباء والمزفت والحنتم. . . ." الحديث. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ذهب قوم إلى أن الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير حرام. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وجابر بن زيد، ومالك بن أنس، وأحمد وإسحاق؛ فإنهم كرهوا الانتباذ في القرع والجرة والنقير، وفي كل وعاء مطلي بزفت، وذهبوا في ذلك إلى الأحاديث المذكورة ورأوها غير منسوخة، وروي ذلك أيضًا عن عبد الله بن عمر. قال أبو عمر: كان عبد الله بن عمر يرى أن النهي عن الانتباذ في الظروف نحو الدباء والمزفت غير منسوخ، وكان مالك يذهب إلى هذا، وتابعه طائفة من أهل العلم، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت، ولا يكره غير ذلك. وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فأباحوا الانتباذ في الأوعية كلها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، ومحمد بن الحنفية، ومسروقًا، والأسود، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وشريحًا، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا يوسف، ومحمدًا، فإنهم قالوا: الانتباذ في سائر الأوعية مباح وفي "المصنف" (¬1) أن معاذًا، وزيد بن أرقم، وأبا مسعود البدري، وابن مسعود وأبا برزة، وعلي بن أبي طالب، ومعقل بن يسار، وقيس بن عباد، وأنس بن مالك، وأسامة بن زيد، وأبا وائل، وابن عباس، وعمران بن الحصين، وأبا رافع، وسعدًا، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن الحنفية، ومسروقًا، ¬

_ (¬1) "المصنف" لابن أبي شيبة (5/ 78 - 85 رقم 23865 - 23939).

والشعبي، وهلال بن يساف، والأسود، والضحاك، وأبا عبيدة بن عبد الله، كانوا يشربون نبيذ الجر. وفي "المحلى" (¬1): والانتباذ في الحنتم والنقير والمزفت والمقير، والدباء، والجرار البيض والسود والحمر والخضر، والصفر، والموشاة، وغير المدهونة، والأسقية، وكل ظرف حلال، والشرب في كل ذلك حلال إلا إناء ذهب وفضة، أو إناء لأهل كتاب، أو جلد ميتة غير مدبوغ، أو إناء مأخوذ بغير حق. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذه الآثار التي رويناها منسوخة كلها، فمما روي في نسخها: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر عبدة بن عمرو بن أبي الحجاج، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا علي بن زيد، قال: حدثني النابغة بن مخارق بن سليم، قال: حدثني أبي، أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إني كنت نهيتكم عن الأوعية، فاشربوا فيها ما بدا لكم، وإياكم وكل مسكر". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن نابغة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى كلها منسوخة، فلا يصح الاحتجاج بها، والدليل على ذلك أن أحاديث أخرى وردت تدل على صريح النسخ، فمن ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "المحلى" (7/ 514 - 515).

أخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو ابن أبي الحجاج ميسرة المنقري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد، عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف، عن النابغة بن مخارق بن سليم الشيباني عن أبيه مخارق بن سليم الشيباني، قيل: له صحبة، وذكره ابن حبان في "الثقات" التابعين، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- قال: "كنت نهيتكم عن هذه الأوعية، فاشربوا فيها واجتنبوا كل مسكر". الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه النابغة بن مخارق، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "الأشربة": من حديث علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- قال: "نهيتكم عن الأوعية، فاشربوا فيها واجتنبوا كل مسكر". الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور وعن الأوعية، وأن تحبس لحوم الأضاحي بعد ثلاث، ثم قال: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة، ونهيتكم عن الأوعية ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 69 رقم 23770). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 145 رقم 1235).

فاشربوا فيها واجتنبوا كل ما أسكر، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تحبسوها بعد ثلاث فاحبسوا ما بدا لكم" انتهى. وهذا الحديث لا يخلو إسناده عن الاضطراب؛ لأن الراوي عن علي - رضي الله عنه - في الطريق الأول هو مخارق بن سُليم والد النابغة، والراوي عن مخارق هو ابنه النابغة، والراوي عن النابغة هو علي بن زيد. وفي الطريق الثاني والثالث الراوي عن علي هو النابغة، والراوي عن النابغة هو ابنه ربيعة، والراوي عن ربيعة هو علي بن زيد. وقال ابن أبي حاتم: نابغة بن مخارق يروي عن علي - رضي الله عنه - ويقال: يروي عن أبيه عن علي، روى عنه ابنه ربيعة بن نابغة. وربيعة بن نابغة وثقه ابن حبان، وقال ابن الأثير في ترجمة مخارق: له أحاديث مضطربة. وذكر ابن أبي حاتم النابغة بن مخارق في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه. ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا ابن جريج، عن أيوب ابن هانئ، عن مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي -عليه السلام- مثله. وزاد "ألا إن وعاءً لا يحرم شيئًا". حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن زيد، قال: ثنا فرقد السبخي، قال: ثنا جابر بن يزيد، أنه سمع مسروقًا يحدث، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام-. مثل حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام-. ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وأخرجه من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن

عبد الملك بن جريج المكي، عن أيوب بن هانئ الكوفي، قال أبو حاتم: شيخ كوفي صالح. وقال الدارقطني: يعتبر به. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا عبد الله بن وهب، أنا ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إني كنت نهيتكم عن هذه الأوعية، ألا إن وعاءً لا يحرم شيئًا، كل مسكر حرام". وهذا كما رأيت قد اشترك الطحاوي مع ابن ماجه في تخريج هذا الحديث عن شيخ واحد وهو يونس بن عبد الأعلى المصري، شيخ مسلم في الصحيح أيضًا. الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن حماد بن زيد، عن فرقد بن يعقوب السبخي البصري، يُنسب إلى سَبخة البصرة، فيه مقال، فعن أحمد: رجل صالح ليس بقوي في الحديث. وعن يحيى: ليس بذاك. وعنه: ثقة. وعن النسائي: ليس بثقة. وهو يروي عن جابر بن يزيد وليس هو جابر الجعفي. قاله ابن أبي حاتم، ثم قال: سئل أبو زرعة عنه فقال: لا يعرف، يروي عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن زيد، نا فرقد السبخي، ثنا جابر بن يزيد، أنه سمع مسروقًا، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم أن تحبسوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث فاحبسوا، ونهيتكم عن الظروف فانتبيذوا فيها واجتنبوا كل مسكر". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 1128 رقم 3406). (¬2) "مسند أحمد" (1/ 452 رقم 4319).

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن الصباح الدولابي، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "سئل رسول الله -عليه السلام-" عن الأوعية، فقال: لا تنتبذوا في الدباء والحنتم والنقير. فقال أعرابي: لا ظروف لنا. فقال النبي -عليه السلام-: اشربوا ما حلَّ لكم، واجتنبوا كل مسكر". ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن الصباح الدولابي البغدادي البزاز شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن زياد بن فياض الخزاعي الكوفي من رجال مسلم، عن أبي عياض عمرو بن الأسود العنسي -بالنون- الشامي الدمشقي ويقال: الحمصي، روى له الجماعة إلا الترمذي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو قال: "ذكر النبي -عليه السلام- الأوعية: الدباء والحنتم والمزفت والنقير، فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا. فقال: فاشربوا ما حل". وفي رواية له (¬2): "فاجتنبوا ما أسكر". وأخرجه البخاري (¬3): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم الأحول، عن مجاهد، عن أبي عياض، أن عبد الله بن عمرو قال: "لما نهى النبي -عليه السلام- عن الأسقية، قيل للنبي -عليه السلام-: ليس كل الناس يجد سقاء، فرخص لهم في الجر غير المزفت". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 332 رقم 3700). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 332 رقم 3701). (¬3) "صحيح البخاري" (5/ 2124 رقم 5271).

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر، عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن أبي عياض. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى القطان، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "لما نهى رسول الله -عليه السلام- عن الأوعية، قالت الأنصار: إنه لابد لنا منها، فقال النبي -عليه السلام- فلا إذًا". حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا نافع بن يزيد، قال: حدثني أبو حَزْرة يعقوب بن مجاهد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إني كنت نهيتكم أن تنتبذوا في الدباء والحنتم والمزفت، فانتبذوا، ولا أُحل مسكرًا". ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة ما روي عن جابر بن عبد الله. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن محمد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا يوسف بن موسى، نا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم، عن جابر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الظروف، فقالت الأنصار: إنه لابد لنا منها، قال: فلا إذًا". الثاني: عن إسماعيل بن إسحاق، عن سعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن نافع بن يزيد الكلاعي المصري من رجال مسلم، عن أبي حَزْرة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي المعجمة، ثم راء مهملة- يعقوب بن مجاهد المدني القاص، من رجال مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1585 رقم 2000). (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2123 رقم 5270).

عن عبد الرحمن بن جابر الأنصاري، روى له الجماعة. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث سعيد بن الحكم. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد، أن محمد بن يحيى بن حَبَّان أخبره، أن واسع بن حَبَّان حدثه، أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - حدثه، عن رسول الله -عليه السلام- نحوه. ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: ما روي عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وحَبَّان -بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة-. وأخرجه البيهقي في سننه (¬2): من حديث أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن واسع بن حبان حدثه، أن أبا سعيد الخدري حدثه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "نهيتكم عن النبيذ ألا فانتبذوا، ولا أحل مسكرًا". ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن معبد ويحيى بن عبد الحميد، قالا: ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن أبي بردة بن نيار، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا". ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: ما روي عن أبي بُردة هانئ بن نيار. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (8/ 310 رقم 17261). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 211 رقم 17264).

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن معبد بن شداد ويحيى ابن عبد الحميد، كلاهما عن أبي الأحوص. . . . إلى آخره. وكل هؤلاء ثقات. وأخرجه الدارقطني (¬1): ثنا أبو القاسم بن زكرياء المحاربي، ثنا عبد الأعلى بن واصل، ثنا أبو غسان، نا أبو الأحوص، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بُردة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اشربوا في المزفت ولا تُسكروا". قال الدارقطني: وَهِمَ فيه أبو الأحوص في متنه وإسناده، وقال غيره: عن سماك، عن القاسم، عن ابن بُريدة، عن أبيه: "لا تشربوا مسكرًا". حدثنا (¬2) عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا يحيى بن عبد الباقي، نا لوين، ثنا محمد ابن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "نهيتكم عن الظروف، فاشربوا فيما شئتم ولا تسكروا". رواه غيره عن محمد بن جابر فقال: "ولا تشربوا مسكرًا" قال ذلك يحيى بن يحيى النيسابوري -وهو إمام- عن محمد بن جابر. حدثنا (¬3) به علي بن أحمد بن الهيثم، ثنا أحمد بن إبراهيم القوهستاني، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا محمد بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: "كنا نهيناكم عن الشرب في الأوعية فاشربوا في أي سقاء شئتم ولا تشربوا مسكرًا". وهذا هو الصواب. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬4): سألته -يعني أبا زرعة- عن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 259 رقم 66). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 259 رقم 67). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 259 رقم 68). (¬4) "علل ابن أبي حاتم" (2/ 24 رقم 1549).

حديث الأحوص، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة يرفعه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا". فقال: وَهِم أبو الأحوص. فقال: عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن أبي بردة؛ قلب في الإسناد موضعًا، وصحف في موضع: أما القلب فقوله: عن أبي بردة وإنما هو ابن بريدة، عن أبيه ثم احتاج أن يقول: ابن بريدة عن أبيه؛ فقلب الإسناد بأسره وأفحش في الخطأ. وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه "اشربوا في الظروف ولا تسكروا" وقد روى الحديث عن ابن بريدة أبو سنان ضرار بن مرة وزُبيد الياميّ ومحارب بن دثار وسماك والمغيرة بن سبيع وعلقمة بن مرثد والزبير بن عدي وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل. كلهم عن ابن بُريدة، عن أبيه، عن سيدنا رسول الله -عليه السلام-: "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرًا". وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم يقل أحد منهم: "ولا تسكروا". فقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه. وقال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام. فأما الإسناد فإن شريكًا وأيوب ومحمد بن جابر رَوَوْه عن سماك، عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرًا". قال أبو زرعة: وكذا أقول. وقال ابن أبي عاصم: لا اختلاف فيه أنه خطأ، وَهِمَ فيه أبو الأحوص، وقد

رواه شريك، عن سماك، عن القاسم، عن ابن بُريدة، عن أبيه فقال: "اجتنبوا ما أسكر، وكل مسكر حرام". وقال الأثرم: هذا الحديث له علل بينة، وقد طعن فيه أهل العلم قديمًا، فبلغني أن شعبة طعن فيه، وسمعت أبا عبد الله يذكر أن هذا الحديث إنما رواه سماك عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعًا "نهيتكم عن ثلاث. . . ." الحديث. قال: فدَرَسَ كتابُ أبي الأحوص، فلقنوه الإسناد والكلام فقلب الإسناد والكلام، ولم يكن أبو الأحوص يقول: أبو بردة بن نيار. كان يقول: أبو برزة وإنما هو ابن بريدة، فلقنوه أبا بُردة بن نيار فقاله. وقال صاحب "الاستذكار": هذه اللفظة -يعني: ولا تسكروا- أنما رواها شريك وحده، والذي روى غيره: "ولا تشربوا مسكرًا". قلت: هذا التشنيع كله لأجل هذه اللفظة وهي قوله: "لا تسكروا"؛ وذلك لكونها حجة للحنفية في قولهم: أن ما لا يُسكر من النبيذ مباح وإنما الحرام هو السكر لا غير. وأبو الأحوص ثقة ثبت متقن فَرَدّ حديثه بهذا الوجه غير موجه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- نحوه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن زبيد، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم. (ح) وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قالا: ثنا معرف بن واصل، قال: حدثني محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله.

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن زبيد اليامي، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة -قال زهير أُراه- عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -. وأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، وهو سليمان بن بريدة. كذا صرَّح به في رواية الترمذي (¬1) وقال: عن علقمة، عن سليمان بن بريدة. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا حجاج بن الشاعر، قال: ثنا ضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- قال: "نهيتكم عن الظروف، وإن الظروف -أو ظرفًا- لا يحل شيئًا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد الخراساني شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن زُبَيد -بضم الزاي المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث اليامي، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه. وأخرجه النسائي (¬3): أنا محمد بن معدان الحراني، نا الحسن بن أعين، نا زهير، نا زبيد، عن محارب، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 295 رقم 1869). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1585 رقم 977). (¬3) "المجتبى" (7/ 234 رقم 4429).

"إني كنت نهيتكم عن ثلاث: زيارة القبور فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا منها ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم، ولا تشربوا مسكرًا". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن معرف بن واصل، عن محارب بن دثار. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن معرف بن واصل، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم؛ فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرًا". الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن معرف بن واصل. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2). الخامس: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن زهير. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬3): عن أحمد بن عبد الملك، عن زهير، عن زُبيد بن الحارث، عن محارب بن دثار، عن ابن بُريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إني كنت نهيتكم عن الأشربة في الأوعية؛ فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرًا". ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية وغيره، عن عبد الله بن المغفل قال: "شهدت رسول الله -عليه السلام- ين نهى عن نبيذ الجر، وشهدته حين أمر بشربه، فقال: اجتنبوا المُسكر". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1585 رقم 977). (¬2) "مسند أحمد" (5/ 350 رقم 23008). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 355 رقم 23053).

ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: حديث عبد الله بن المغفل -بضم الميم وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء- من أصحاب الشجرة. أخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن أبي جعفر الرازي مولى بني تميم، قيل: اسمه عيسى، وعن يحيى: كان ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ ثقة صدوق. روى له الأربعة. وهو يروي عن الربيع بن أنس البصري، ويقال: الحنفي البصري ثم الخراساني، قال العجلي: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. روى له الأربعة. عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، روى له الجماعة، وقد أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي -عليه السلام- بسنتين، روى له الجماعة. والحديث أخرجه الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، قال: ثنا أبو نعيم، عن أبي جعفر. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما قفل وفد عبد القيس قال النبي -عليه السلام-: كل امرئ حسيب نفسه؛ لينتبذ كل قوم فيما بدا لهم". ش: من جملة ما يدل على انتساخ الآثار المتقدمة: حديث أبي هريرة. أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا عبد الصمد، قال: ثنا حماد، ثنا خالد، عن شهر، عن أبي هريرة قال: "لما قدم وفد عبد القيس، قال رسول الله -عليه السلام-: كل امرئ حسيب نفسه، ليشرب كل قوم فيما بدا لهم". ¬

_ (¬1) ورواه في "الأوسط" (1/ 270 رقم 880) من طريق أبي جعفر به، ورواه أحمد في "مسنده" (4/ 87 رقم 16850)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 68 رقم 23764) وغيرهم. (¬2) "مسند أحمد" (2/ 327 رقم 8318).

فإن قيل: قال ابن حزم: شهر بن حوشب ساقط. قلت: هذا لا يقبل منه؛ فقد قال أحمد فيه: ليس به بأس. وأثنى عليه، وقال: ما أحسن حديثه، وذكره ابن شاهين في كتاب الثقات، وقال البزار: تكلم فيه شعبة، ولا نعلم أحدًا ترك الرواية عنه. وقال أبو الحسن القطان: لم أسمع لمضعِّفِهِ حجة. وصحح الترمذي وأبو علي الطوسي حديثه عن أم سلمة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي. . . ." (¬1) الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وطرق حديثه صالحة رواها الشاميون. وفي "تاريخ نيسابور": وثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي، وقال البخاري: حسن الحديث وقوي أمره. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة. فأي سقوط مع ثناء هؤلاء الأئمة الكبار إن هذا لعجيب؟! فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الفصل عن تسعة نفر من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو ابن العاص وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو بُردة بن نيار، وبُريدة ابن الحصيب، وعبد الله بن المغفل، وأبو هريرة. وقال الترمذي: وفي الباب عن ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله ابن عمرو. قلت: وفي الباب أيضًا عن عائشة وعمران بن حيان، عن أبيه، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وابن الرسيم عن أبيه، وصحار بن عياش - رضي الله عنهم -. أما حديث عائشة فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا خلف بن خليفة، عن العلاء بن المسيب، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كان يُنبذ لرسول الله -عليه السلام- في جرٍّ أخضر". ¬

_ (¬1) جامع الترمذي (5/ 699 رقم 3871) وقال: حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 84 رقم 23932).

وأما حديث عمران بن حيان عن أبيه فأخرجه أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في كتاب "الأشربة" (¬1): ثنا دحيم، قال: ثنا مروان بن معاوية، ثنا حميد بن علي الرقاشي، عن عمران بن حيان الأنصاري، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- خطب يوم خيبر، فأحل لهم ثلاثة أشياء كان نهاهم عنها؛ أحل لهم لحوم الأضاحي، وزيارة القبور، والأوعية". قلت: حيان هذا -بفتح الحاء وتشديد الياء آخر الحروف- هو ابن نملة الأنصاري، ذكره البخاري في الصحابة، وخالفه غيره. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه ابن حزم في "المحلى" (¬2) من طريق المشمعل بن ملحان، عن النضر بن عبد الرحمن، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "انتبذوا فيها -يعني في الظروف- فإن الظروف لا تحل شيئًا ولا تحرمه، ولا تسكروا". إسناده ضعيف ومعلول بالنضر بن عبد الرحمن. وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا أبو الأحوص عن يحيى بن الحارث، عن عمرو بن عامر، عن أنس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الأنبذة في الأوعية، ثم قال بعد: إني نهيتكم عن الأنبذة في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم". وأما حديث ابن الرُّسَيم عن أبيه فأخرجه الطبراني (¬4) -رحمه الله-، نا محمد بن عبد الله الحضرمي وعبيد بن غنام، قالا: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن يحيى بن غسان التيمي، عن ابن ¬

_ (¬1) وأخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 35 رقم 3573) من طريق دحيم به. (¬2) "المحلى" (7/ 482). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 86 رقم 23943). (¬4) "المعجم الكبير" (5/ 77 رقم 4634) وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه" (5/ 86 رقم 23946).

الرُّسَيم، عن أبيه -وكان من أهل هجر، وكان فقيها-: "أنه انطلق إلى رسول الله -عليه السلام- في وفد بصدقة يحملها إليه، فنهاهم عن النبيذ في هذه الظروف، فرجعوا إلى أرضهم وهي أرض تهامة حارَّة فاستوخموا، فرجعوا إليه العام الثاني في صدقاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إنك نهيتنا عن هذه الأوعية فتركناها، فشق ذلك علينا، فقال: اذهبوا فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا ما أوكئ سقاؤه على إثم". قلت: رُسَيم بضم الراء وفتح السين المهملتين، كذا قاله محمد بن نقطة من خط أبي نعيم. وقال ابن ما كولا: وأما رسيم بفتح الراء وكسر السين وسكون الياء آخر الحروف فهو رَسِيم له صحبة، روى عنه ابنه حديثًا رواه يحيى بن غسان التيمي، عن ابن الرسيم، عن أبيه. وأما حديث صحار بن عياش فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الضحاك بن يسار، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الرحمن بن صحار، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، إني رجل مسقام، فأذن لي في جرة أنتبذ فيها؛ فأذن لي". قلت: صحار -بضم الصاد- بن عياش بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة. وقيل: عباس بالباء الموحدة والسين المهملة. ص: فثبت بهذه الآثار نسخ ما تقدمها مما قد روينا في هذا الباب من تحريم الانتباذ في الأوعية المذكورة فيها، وثبت إباحة الانتباذ في الأوعية كلها. وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فثبت بهذه الأحاديث المذكورة في الفصل الثاني انتساخ الأحاديث المذكورة في الفصل الأول الناطقة بتحريم الانتباذ في الأوعية المذكورة فيها. وقال الحازمي: إنما كان النهي عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ، ولا يشعر بذلك صاحبها، فيكون على غرر من شربها. ¬

_ (¬1) "مصنف بن أبي شيبة" (5/ 85 رقم 23933).

قلت: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحظر كان في مبتدأ الأمر، ثم رفع وصار منسوخًا، ودلت الأحاديث الثابتة على أن النهي كان مطلقًا عن الظروف كلها، ودل بعضها أيضًا على السبب الذي لأجله رخص فيها وهو أنهم شكوا إليه الحاجة إليها، فرخص لهم في ظروف الأدم لا غير، ثم إنهم شكوا إليه أن ليس كل أحد يجد سقاء، فرخص لهم في الظروف كلها ليكون جمعًا بين الأحاديث كلها. ص: ومما يدل على ذلك أيضًا: أن فهدًا حدثنا، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قال: "دخلت على أنس، فرأيت نبيذه في جرة خضراء". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، قال: "دخلت على أنس بن مالك بواسط القصب، فرأيت نبيذه في جرة خضراء يُنتبذ له فيها". فهذا أنس بن مالك ينتبذ في الظروف، وهو أحد من روى عن رسول الله -عليه السلام- النهي عن الانتباذ فيها؛ فدل ذلك على ثبوت نسخ ذلك عنده، والله أعلم. ش: أي ومن الذي يدل على نسخ الأحاديث المتقدمة: ما روي عن أنس بن مالك؛ فإنه كان ينتبذ له في الظروف، والحال هو أحد الرواة عنه -عليه السلام- أنه نهى عن الانتباذ فيها، فلو لم يثبت عنده نسخ ذلك لما انتبذ له في الظروف. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن أبي جعفر الرازي، قيل: اسمه عيسى عن الربيع بن أنس البصري البكري. الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ثعلبة قال: "دخلت على أنس بن مالك فأكلنا عنده، ثم دعى بجريرة خضراء فيها نبيذ فسقانا". قوله: "بواسط القصب" هي مدينة اختطها الحجاج بين الكوفة والبصرة في أرض كسكر، وهي نصفان على شطي دجلة وبينهما جسر من سفن؛ وإنما سميت واسطًا لأن منها إلى البصرة خمسين فرسخًا، ومنها إلى الكوفة خمسين فرسخًا، ومنها إلى الأهواز خمسين فرسخًا، ومنها إلى بغداد خمسين فرسخًا. وإنما أضيفت إلى القصب لأن أرضها كانت مقصبةً، وفيها قصب كثيرة، وأقلام مشهورة تنسب إليها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 83 رقم 23910).

ص: كتاب الوصايا

ص: كتاب الوصايا ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الوصايا، وهي جمع وصية من أوصى يوصي إيصاءً ووصيةً، ووصى يوصي توصيةً وذلك موصى إليه، وأوصى لفلان بكذا أي جعل له من ماله وذلك موصى له، والوَصَاية -بفتح الواو- بمعنى الوصية، وبكسرها مصدر، وأوصى إلى فلان بكذا أي جعله وصيًّا وذلك موصى إليه. قال الجوهري: أوصيت له بشيء وأوصيت إليه، إذا جعلته وصيك، والاسم الوصاية بفتح الواو وكسرها، وواصيته ووصيته إيصاءً وتوصيةً بمعنى. والاسم الوصاءة. قلت: الوصية في الشرع: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت.

ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق ش: أي هذا باب في بيان ما يجوز فيه الوصية من الأموال، وبيان ما يوصي المريض في مرض موته من الهبة والصدقة والعتق. ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: "مرضت عام الفتح مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله -عليه السلام- يعودني، فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال الثلث، والثلث كثير". حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال ثنا الحسين بن علي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "عادني رسول الله -عليه السلام- فقلت: أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالنصف؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال سعد. . . . ثم ذكر نحوه. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه الجماعة، فالبخاري (¬1): عن أبي نعيم، نا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص قال: "جاء النبي -عليه السلام- ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1006 رقم 2591).

يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويُضَرُّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة". وأخرجه أيضًا (¬1): عن محمد بن عبد الرحيم، عن زكرياء بن عدي، عن مروان، عن هاشم بن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، قال: أنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: "عادني رسول الله -عليه السلام- في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، قلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث والثلث كثير. . . ." الحديث. وأبو داود (¬3): عن عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عامر، به نحوه. والترمذي (¬4): عن ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن الزهري به. وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬5): عن عمرو بن عثمان، عن سفيان، عن الزهري. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1007 رقم 2593). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1250 رقم 1628). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 112 رقم 2864). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 430 رقم 2116). (¬5) "المجتبى" (6/ 241 رقم 3626).

وابن ماجه (¬1): عن هشام بن عمار والحسين بن الحسن المروزي وسهل بن أبي سهل الرازي، عن سفيان، عن الزهري به. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي شيبة، عن الحسين ابن علي بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد التجيبي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص. وأخرجه مسلم (¬2): عن القاسم بن زكرياء، عن حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "عادني النبي -عليه السلام- فقلت: أوصي. . . ." إلى آخره نحوه. الثالث: عن فهد أيضًا، عن أبي بكر بن أبي شيبة أيضًا، عن محمد بن فضيل ابن غزوان الضبي، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3). قوله: "مرضت عام الفتح" أراد به فتح مكة شرفها الله، وهذا انفرد به ابن عيينة، عن ابن شهاب حيث قال: "عام الفتح" وغيره كلهم قالوا فيه: عن ابن شهاب "عام حجة الوداع" قالوا: هو الأصوب، ذكره يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني. قال أبو عمر (¬4): روى عفان بن مسلم، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عمرو القاري، عن أبيه، عن جده عمرو القاري: "أن رسول الله -عليه السلام- قدم مكة فخلَّف سعدًا مريضًا حين خرج إلى حنين، ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 903 رقم 2708). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1252 رقم 1628). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 227 رقم 30929). (¬4) "التمهيد" (8/ 277).

فلما قدم ومن الجعرانة دخل عليه وهو وجع مغلوب، فقال سعد: يا رسول الله، إن لي مالًا وإنني أورث كلالة؛ أفأوصي بمالي كله أو أتصدق به، قال: لا. . . ." وذكر الحديث. فهذا يعضد ما قال ابن عيينة وفيه: "أفأوصي بمالي كله أو أتصدق" على الشك. وأما حديث ابن شهاب فلم يختلف عنه أصحابه لا ابن عيينة ولا غيره أنه قال فيه: "أفأتصدق" ولم يقل: "أفأوصي". فإن قلت: هذه اللفظة: "أفأتصدق" كان في ذلك حجة قاطعة لما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم في هبات المريض وصدقاته وعتقه، أن ذلك كله من ثلثه لا من جميع ماله ماله. قوله: "أشفيت منه" أي أشرفت من أجله على الموت، من الإشفاء وهو الإشراف على الشيء. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فتكلم الناس في الرجل هل يسعه أن يوصي بثلث ماله أو ينبغي أن يقصر عن ذلك؟ فقال قوم: له أن يوصي بالثلث كاملًا فيما أحب مما يجوز فيه الوصايا، واحتجوا في ذلك بإجازة النبي -عليه السلام- لسعد - رضي الله عنه - أن يوصي بثلث ماله بعد منعه إياه أن يوصي بما هو أكثر من ذلك على ما ذكرنا في هذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: شريحًا القاضي، ومحمد بن سيرين، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: للرجل أن يوصي بثلث ماله كله لا فيما أحب مما يجوز فيه الوصايا. واحتجوا فيه ذلك بحديث سعد بن أبي وقاص. ص: وبما حدثنا يونس بن عبد الأعلى وبحر بن نصر، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم من آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم".

ش: أي واحتجوا أيضًا بما حدثنا يونس. . . . إلى آخره، وهؤلاء كلهم ثقات غير أن طلحة بن عمرو الحضرمي المكي فيه مقال، فعن البخاري: ليس بشيء. وعن النسائي: متروك الحديث. وعن أبي داود: ضعيف. والحديث أخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادةً لكم في أعمالكم". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2): من طريق ابن وهب، نحوه. فإن قيل: هذا حديث ضعيف لا يصح الاستدلال به. وقال أبو عمر: استحبت جماعة الوصية بالثلث، واحتجوا بحديث ضعيف عن النبي -عليه السلام- أنه قال: "جعل الله في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهو حديث انفرد به طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة، وطلحة ضعيف، روى عنه هذا الخبر وكيع وابن وهب وغيرهما. قلت: الاستدلال بحديث سعد المذكور الذي اتفق على صحته كاف. والحديث الضعيف إذا قرن بالصحيح يزداد قوةً ويرتفع اعتضادًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي للموصي أن يقتصر في وصيته عن ثلث ماله؛ لقول رسول الله -عليه السلام-: "الثلث والثلث كثير". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ومطرفًا، والضحاك، وطاوسًا، ومالكًا، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: ينبغي للرجل أن يقتصر في وصيته عن ثلث ماله؛ لأن قوله -عليه السلام-: "الثلث والثلث كثير" دليل على أنه الغاية التي تنتهي إليها الوصية، فالتقصير عنها أفضل لقوله: "والثلث كثير". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 904 رقم 2709). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 269 رقم 12351).

ص: فمما روي في ذلك عن مَن ذهب إليه من المتقدمين ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن عروة قال: كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "استقصروا عن قول رسول الله -عليه السلام- إنه لكثير". ش: أي فمن الذي روي في اقتصار الوصية عن الثلث ما روي عن عبد الله ابن عباس. أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قال: الثلث كثير". ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حميد، عن بكر بن عبد الله قال: "أوصيت إلى حميد بن عبد الرحمن الحميري فقال: ما كنت لأقبل وصية رجل له ولد يوصي بالثلث". ش: إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن علية، عن حميد، عن بكر، قال حميد بن عبد الرحمن: "ما كنت لأقبل وصية رجل يوصي بالثلث وله ولد". ص: من الحجة لأهل المقالة الأولى على أهل هذه المقالة: أن الوصية بالثلث لو كان جورًا إذًا لأنكر رسول الله -عليه السلام- ذلك على سعد، ولقال له: قصِّر عن ذلك، فلما ترك ذلك كان قد أباحه إياه، وفي ذلك ثبوت ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى. وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فمن الدليل والبرهان لأهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، وأراد بهذا: الجواب عما قاله أهل المقالة الثانية. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 226 رقم 30914). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 226 رقم 30920).

واعلم أن هذا فيما إذا كان له وارث، وأما إذا لم يكن له وارث فله أن يوصي بجميع ماله إن شاء. صح ذلك عن ابن مسعود وغيره. وهو قول الحسن البصري، وأبي حنيفة وأصحابه، وشريك القاضي، وإسحاق، وعبيدة السلماني، ومسروق. واختلف في ذلك قول أحمد وهو المشهور عنه. وقال مالك وابن شبرمة، والأوزاعي، والحسن بن حي، والشافعي، وأبو سليمان: له أن يوصي بأكثر من الثلث كان له وارث أو لم يكن. قاله ابن حزم في "المحلى". وقال أبو عمر: أجمع فقهاء الأمصار: أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت، وإن لم يجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث. وقال أهل الظاهر: الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز؛ أجازها الورثة أو لم تجزها. وهو قول عبد الله بن كيسان، وإليه ذهب المزني. وقال الجصاص في "أحكامه" (¬1): قد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة قبل الموت؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح، وعبيد الله بن الحسن: إذا أجازوه في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت، وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود وشريح وإبراهيم. وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي: ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت، وهي جائزة عليهم. وقال مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه، والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله؛ فإنهم ليس لهم أن يرجعوا. وأما امرأته وبناته اللاتي لم يَبِنَّ منه وكل مَن في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا، وكذلك العم وابن العم. وبه قال الليث بن سعد. ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 208).

ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه، وروي عن طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم. ص: ثم تكلم الناس بعد هذا في هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه ذلك. فقال قوم -وهم أكثر العلماء-: هي من الثلث كسائر الوصايا. وممن ذهب إلى ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جمهور العلماء من التابعين وبعدهم منهم: الليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأصحابهم، وعامة أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: هبات المريض وصدقاته وعتقه من ثلث ماله لا من جميع ماله. ص: وقالت فرقة: هو من جميع المال كأفعاله وهو صحيح. وهذا قول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله. ش: أراد بهؤلاء الفرقة: داود الظاهري ومن تبعه، قيل: وعطاء أيضًا؛ فإنهم قالوا: كل ذلك يعتبر من جميع المال. وهؤلاء شذوا عن أقوال السلف، وخالفوا الجمهور، فلا يقبل منهم. ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "نحلني أبو بكر - رضي الله عنه - جداد عشرين وسقًا من ماله بالعالية فلما مرض قال: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي بالعالية فلو كنت جددته وحزته كان لكِ وإنما هو اليوم مال وارث، فاقسموه بينكم على كتاب الله تعالى". فأخبر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أنها لو قبضت ذلك في الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض قبضًا يتم لها به ملكه، وجعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها، ولم تُنكر ذلك عائشة على أبي بكر - رضي الله عنهما -، ولا سائر أصحاب النبي -عليه السلام-، فدل ذلك أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، فلو لم يكن لمن ذهب إلى ما ذكرنا من الحجة لقوله الذي ذهب إليه إلا ما في هذا الحديث، وما ترك

أصحاب رسول الله -عليه السلام- من الإنكار في ذلك على أبي بكر، لكان فيه أعظم الحجة، فكيف وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على ذلك؟! حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين: "أن رجلًا أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله -عليه السلام- بينهم فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين. وقتادة وحميد وسماك بن حرب، عن الحسن، عن عمران بن حصين. . . . فذكر مثله. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد وسليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. فهذا رسول الله -عليه السلام- قد جعل العتاق في المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات. ش: ذكر حديث عائشة المذكور في باب: "الرجل ينحل بعض بنيه دون بعض" مسندًا عن يونس، عن ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: "إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحلها جَدّ عشرين وسقًا من ماله بالعالية. . . ." الحديث. وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. قوله: "جداد عشرين" أي قطعها من الجد وهو القطع.

قوله: "بالعالية" أي في العالية، وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. وتجمع على عوالي. قوله: فكيف وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على ذلك" أي على ما ذكرنا من أن العتاق والهبات والصدقات في المرض تكون من الثلث، وهو حديث عمران بن حصين فإنه -عليه السلام- قد جعل هذه الأشياء في المرض من الثلث. وأخرجه من ست طرق صحاح: الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن الحسن البصري، عن عمران بن الحصين. وأخرجه النسائي (¬1): عن علي بن حجر، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران، نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬2): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين: "أن رجلًا من الأنصار أعتق رؤسًا ستة عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله -عليه السلام- فأغلظ له، فدعى بهم رسول الله -عليه السلام- فأقرع بينهم فأعتق اثنين وردَّ أربعةً في الرق". الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، عن عمران بن حصين. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (4/ 64 رقم 19658). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 428 رقم 19858).

وأخرجه أحمد (¬1): عن عفان، عن حماد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، عن عمران، نحوه. الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن أيوب، عن محمد ابن سيرين، عن عمران. الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن قتادة وحميد الطويل وسماك بن حرب، عن الحسن، عن عمران. وأخرجه أحمد (1): عن عفان، عن حماد، عن حبيب ويونس وقتادة وسماك ابن حرب، عن الحسن، عن عمران، عن النبي -عليه السلام-: "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، ليس له مال غيرهم؛ فأقرع النبي -عليه السلام- بينهم، فرد أربعة في الرق وأعتق اثنين". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا: عن ابن بشار، عن حجاج بن منهال، عن حماد، عن قتادة وحميد وسماك، عن الحسن، عن عمران. السادس: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد وسليمان بن حرب -شيخي البخاري- كلاهما عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي المهلب الجرمي عم أبي قلابة -قيل: اسمه عمرو بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا إسحاق بن راهويه وابن أبي عمر، قالا: عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين: "أن رجلًا أوصى ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 445 رقم 20015). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 187 رقم 4977). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1288 رقم 1668).

عند موته فأعتق ستة مملوكين لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله -عليه السلام- فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة وقال له قولًا شديدًا". وأخرجه أبو داود (¬1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب به. وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (¬3): عن قتيبة، عن حماد بن زيد. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن نصر بن علي ومحمد بن المثنى، عن عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، نحوه. ص: وقد احتج بعض من ذهب إلى هذه المقالة أيضًا بحديث الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه: "أن رسول الله -عليه السلام- عاده في مرضه، فقال: أتصدق بمالي كله؟ فقال: لا، حتى رده إلى الثلث". على ما قد ذكرنا في أول هذا الباب. قال: ففي هذا الحديث أنه جعل صدقته في مرضه من الثلث كوصاياه بعد موته، فيدخل مخالفه عليه أن مصعب بن سعد روى هذا الحديث عن أبيه أن سؤاله رسول الله -عليه السلام- عن ذلك إنما كان على الوصية بالصدقة بعد الموت، على ما ذكرنا عنه في أول هذا الباب أيضًا، فليس ما احتج به هو من حديث عامرٍ بأولى مما احتج به عليه مخالفه من حديث مصعب. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 28 رقم 3958). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 645 رقم 1364). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 187 رقم 4974). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 786 رقم 2345).

ش: أي استدل بعض العلماء ممن ذهبوا إلى المقالة الثانية بحديث محمد بن مسلم الزهري الذي رواه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو المذكور في أول الباب، وقد ذكرنا أن هذا الحديث روي على ثلاثة أوجه. الأول: ما رواه الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. وفيه: "أتصدق بمالي كله". الثاني: ما رواه مصعب بن سعد، عن أبيه. وفيه: "أوصي بمالي كله". الثالث: ما رواه عمرو القاري. وفيه: "أفأوصي بمالي كله أو أتصدق به" على الشك، ورد الطحاوي على هذا المُسْتَدِل بقوله: فيدخل مخالفه عليه. . . . إلى آخره. وهو ظاهر. ص: ثم تكلم الناس بعد هذا فيمن أعتق ستة أعبد له عند موته ولا مال له غيرهم فأبى الورثة أن يجيزوا، فقال قوم: يعتق منهم ثلثهم ويسعون فيما بقي من قيمتهم. وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: الواو في قوله: "ولا مال له" للحال، أي: والحال أنه لا مال لهذا المعتق غير هؤلاء العبيد الستة. وأراد بالقوم هؤلاء: سفيان الثوري، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا في هذه الصورة: يعتق من كل واحد من العبيد ثلثه ويجب عليه السعي في الباقي. ص: وقال آخرون: يعتق منهم ثلثهم ويكون ما بقي منهم رقيقًا لورثة المعتق. ش: أي وقال قوم آخرون، وأراد بهم: مالكًا، وأحمد في رواية، وطائفة من الشافعية، فإنهم قالوا: يعتق من العبيد ثلثهم ويكون الباقي على الرقبة.

وقال ابن حزم في "المحلى" (¬1): قال مالك: من أوصى بعتق جزء من عبده لم يعتق منه إلا ما وصى بعتقه ورق باقيه، سواء حمله الثلث كله أو قصر عنه، فإن لم يحمل الثلث ما وصى بعتقه منه لم يعتق منه إلا ما حمل الثلث مما أوصى بعتقه منه ورق سائره، فإن أوصى بعتق عبيده أو دبرهم فإنه يعتق من كل واحد منهم ما حمله الثلث فقط ويرق سائره، فلو دبَّر في صحته أو في مرضه؛ بدئ بالأول فالأول على رتبته في تدبيره لهم، فإذا تم الثلث رقَّ الباقون ورقَّ ما بقي ممن لم يحمل الثلث جميعه. ص: وقال آخرون: يقرع بينهم فيعتق منهم من قرع من الثلث، ويرق من بقي. ش: أي: وقال قوم آخرون، وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا في الصورة المذكورة: يقرع بينهم، فيعتق منهم من قرع -يعني من خرجت له القرعة- من الثلث، ويرق الباقون. ص: واحتجوا في ذلك بما ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام- في حديث عمران - رضي الله عنه -. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون وهم أهل المقالة الثالثة فيما ذهبوا إليه بما روي عن عمران بن الحصين المذكور في هذا الباب، وهو ما رواه الحسن البصري عنه: "أن رجلًا أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم فأقرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً". ص: فكان من الحجة لأهل المقالتين الأوليين على أهل هذه المقالة: أن ما ذكروا من القرعة المذكورة في حديث عمران منسوخ؛ لأن القرعة قد كانت في بدء الإِسلام تستعمل في أشياء فيحكم بها فيها، ويجعل ما قرع منها وهو الشيء الذي كانت القرعة من أجله لعينه. ¬

_ (¬1) "المحلى" (9/ 345).

ش: أي فكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الأولى والثانية على أهل المقالة الثالثة وهم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وأراد بهذا: الجواب عن حديث عمران الذي احتجوا به فيما ذهبوا إليه من الاقتراع، وبيانه أنه منسوخ؛ لأن القرعة قد كانت في ابتداء الإِسلام وكانوا يحكمون بها في أشياء، ثم نسخ ذلك وردت الأشياء إلى المقادير المعلومة التي فيها التعديل. ص: من ذلك ما كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حكم به في زمن رسول الله -عليه السلام- باليمن، فإنه حدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي، قال: ثنا جعفر بن عون أو يعلى بن عبيد -أنا أشك- عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبيد الله بن الخليل الحضرمي، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "بينا أنا عند رسول الله -عليه السلام-؛ إذ أتاه رجل من اليمن وعليّ - رضي الله عنه - يومئذٍ بها، فقال: يا رسول الله أتى عليًّا ثلاثة نفر يختصمون في ولد قد وقعوا على امرأة في طهرٍ واحد، فأقرع بينهم، فقرع أحدهم فدفع إليه الولد، فضحك رسول الله -عليه السلام- حتى بدت نواجذه أو قال: أضراسه". فهذا رسول الله -عليه السلام- لم ينكر على علي - رضي الله عنه - ما حكم به بالقرعة في دعوى النفر بالولد، فدل ذلك أن الحكم كان حينئذ كذلك، ثم نسخ ذلك بعد باتفاقنا واتفاق هذا المخالف لنا، ودل على نسخه ما قد رويناه في باب القافة من حكم علي - رضي الله عنه - في مثل هذا بأن جعل الولد بين المدعيين جميعًا يرثهما ويرثانه. فدل ذلك أن الحكم كان يوم حكم علي - رضي الله عنه - بما حكم في كل شيء، مثل النسب الذي يدعيه النفر، أو المال الذي يوصي به للنفر بعد أن يكون قد أوصى به لكل واحد على حدة، أو العتاق الذي يعتق به العبيد في مرض معتقهم أن يقرع بينهم؛ فأيهم قرع استحق ما ادعى وما كان وجب بالوصية والعتاق، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا، إذ رُدَّت الأشياء إلى المقادير المعلومة التي فيها التعديل الذي لا زيادة فيه ولا نقصان. ش: أشار بهذا إلى أن القرعة كان يعمل بها في ابتداء الإسلام، ثم نسخ لما

نسخ حكم الربا، وبيَّن ذلك بقوله: "من ذلك ما كان علي بن أبي طالب حكم به" أي بالاقتراع لما كان في اليمن، وكان -عليه السلام- أرسله حاكمًا. أخرج ذلك عن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الكوفي المعروف بترنجة، عن جعفر بن عون الكوفي أو يعلى بن عبيد الإيادي الكوفي، والشك فيه من الطحاوي، عن الأجلح بن عبد الله الكوفي، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل الحضرمي الكوفي، عن زيد بن أرقم. وهؤلاء ثقات غير أن ابن الخليل قد قال البخاري فيه: لا يتابع على حديثه. قال أحمد: حديث القافة أحب إليَّ من هذا الحديث، وقد تكلم بعضهم فيه. وقال البيهقي: الأجلح قد روى عنه أئمة لكن ما احتج به الشيخان، وعبد الله ابن الخليل ينفرد به، قال البخاري: عبد الله بن الخليل عن زيد في القرعة لم يتابع عليه. قلت: لم يلزم من ترك الشيخين الاحتجاج بالأجلح تضعيفه؛ ولهذا أخرجه الحاكم هذا الحديث في "مستدركه" (¬1) وصححه. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم قال: "كنت جالسًا عند النبي -عليه السلام-، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال للاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا، فغليا، ثم قال للاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله -عليه السلام- حتى بدت أضراسه، أو قال: نواجذه". ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (2/ 225 رقم 2829). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 281 رقم 2269).

وأخرجه أيضًا (¬1): عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن سلمة، سمع الشعبي، عن الخليل أو ابن قال: "أتي علي - رضي الله عنه - في امرأة ولدت من ثلاثة. . . ." نحوه. ولم يذكر النبي -عليه السلام- ولا زيدًا فيه". وأخرجه النسائي (¬2): عن علي بن حُجر، عن علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، عن ابن الخليل، عن زيد نحوه. وأخرجه أيضًا (¬3): عن إسحاق بن شاهين، عن خالد، [عن الشيباني، عن الشعبي، عن رجل من حضرموت، عن زيد بن أرقم قال: "بعث رسول الله عليًّا إلى اليمن، فأُتي بغلام تنازع فيه ثلاثة. . . ." وساق الحديث] (¬4). وقال الخطابي: في هذا الحديث دليل على أن الولد لا يلحق بأكثر من أب واحد، وفيه إثبات القرعة في أمر الولد، وممن ذهب إلى ظاهر هذا الحديث: إسحاق بن راهويه وقال: هو السنة في دعوى الولد. وبه قال الشافعي في القديم. قلت: حكم هذا الحديث منسوخ وبين ذلك الطحاوي بقوله: ودلَّ على نسخه ما قد رويناه في باب "القافة" من حكم علي - رضي الله عنه -. . . . إلى آخره. وهو ظاهر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 281 رقم 2271). (¬2) في "الأصل، ك" أيضًا وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه ووقع في "تحفة الأشراف" (3/ 196 رقم 3669) كما أثبتناه، والحديث أخرجه النسائي في "المجتبى" (6/ 182 رقم 3489) من هذا الطريق والذي بعده. (¬3) "المجتبى" (6/ 183 رقم 3491). (¬4) كذا وقع في تحفة الأشراف (3/ 196 رقم 3669)، وكذا أخرجه النسائي في السنن الكبرى أيضًا (3/ 380 رقم 5685)، و (3/ 496 رقم 6037). ووقع في "الأصل، ك": سمعت الشعبي يحدث، عن أبي الخليل -أو ابن الخليل-: "ثلاثة نفر اشتركوا في طهر. . . ." فذكر نحوه ولم يذكر زيدًا ولا رفعه. اهـ كذا وقع ولعله انتقال نظر من المؤلف حيث وقع هذا الجزء من الكلام في تحفة الأشراف تحت هذا الحديث المذكور، ولكن من طريق محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل أو ابن الخليل. . . . إلى آخره. والله أعلم

ص: وبعد هذا فليس يخلو ما حكم به رسول الله -عليه السلام- -من العتاق في المرض من القرعة وجعله إياه من الثلث- من أحد وجهين: إما أن يكون حكمًا دليلًا على سائر أفعال المريض في مرضه من عتاقه وهباته وصدقاته، أو يكون ذلك حكمًا في عتاق المريض خاصةً دون سائر أفعاله من هباته وصدقاته، فإن كان خاصًّا في العتاق دون ما سواه فينبغي أن لا يكون ما جعل النبي -عليه السلام- في هذا الحديث من العتاق في الثلث دليلًا على الهبات والصدقات أنها كذلك؛ فثبت قول الذي يقول: إنها من جميع المال إذْ كان النظر يشهد له، وإن كان هذا لا يدرك فيه خلاف ما قال إلا بالتقليد، ولا شيء في هذا الباب يقلده غير هذا الحديث، فإن كان جعل النبي -عليه السلام- ذلك العتاق في الثلث دليلًا لنا على هبات المريض وصدقاته كذلك، فكذلك هو دليل لنا على أن القرعة قد كانت في ذلك كله جارية محكومًا بها، ففي ارتفاعها عندنا وعند هذا المخالف لنا من الهبات والصدقات دليل على ارتفاعها أيضًا في العتاق؛ فبطل بذلك قول من ذهب إلى القرعة، وثبت أحد القولين الآخرين. ش: هذا جواب آخر عن حكم حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -: السَّبْر والتقسيم، وهو ظاهر لا يحتاج إلى كثير الكلام. ص: فقال مَن ذهب إلى تثبيت القرعة: وكيف تكون القرعة منسوخة وقد كان رسول الله -عليه السلام- يعمل بها فيما قد أجمع المسلمون على العمل بها فيه من بعده، فذكروا ما حدثنا يونس قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عروة وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة. ويحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة مثله. حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سعيد بن عيسى بن تليد، قال: ثنا المفضل بن فضالة القِتباني، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمه عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثتني خالتي عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة مثله. قالوا: فهذا ما ينبغي للناس أن يفعلوه إلى اليوم وليس بمنسوخ، فما تُنكرون أن تكون القرعة في العتاق في المرض أيضًا كذلك؟. ش: أراد بقوله: "من ذهب إلى تثبيت القرعة" أهل المقالة الثالثة، وهم: الشافعي وأحمد وإسحاق، حاصله أنهم ادعوا بقاء حكم القرعة، وأنكروا النسخ، وقالوا: إذا كانت القرعة ثابتةً في المسافرة بإحدى زوجاته، فلا يُنكر أن يكون الحكم كذلك في العتاق في المرض، وذكروا في ذلك حديث عائشة. أخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله ابن عمرو الرقي، عن إسحاق بن راشد الجزري، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص العتواري المدني، أربعتهم عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (¬1) مطولًا جدًّا في حديث الإفك: ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1517 رقم 3910).

وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام- حين قال لها أهل الإفك ما قالوا. . . . الحديث. وفيه قالت عائشة: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله -عليه السلام-". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يونس بن زيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة، عن عائشة. وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا مطولًا: ثنا حبان بن موسى، أنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة، وفيه قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث. الثالث: عن فهد أيضًا، عن يوسف بن بهلول التميمي الأنباري شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة. وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة. أما رواية الزهري عن عروة، عن عائشة فأخرجها أبو داود (¬2): عن ابن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "كان النبي -عليه السلام- إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2129 - 2130 رقم 2770). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 243 رقم 2138).

وأما رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله، ثلاثتهم عن عائشة. فأخرجها البخاري (¬1) ومسلم (1) وقد ذكرناها. وأما رواية عمرة، عن عائشة فأخرجها أحمد في "مسنده" (¬2): عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن ما خرج سهمها خرج بها". الرابع: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني المصري شيخ البخاري، عن المفضل بن فضالة القتباني المصري، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -. ص: قيل لهم: قد ذكرنا ذلك في موضعه ما يغني، ولكن نذكر هاهنا أيضًا ما فيه دليل أن لا حجة لكم في هذا إن شاء الله تعالى. أجمع المسلمون أن للرجل أن يسافر إلى حيث أحب وإن طال سفره ذلك وليس معه أحد من نسائه، وأن حكم القسم مرتفع عنه بسفره، فلما كان ذلك كذلك كانت قرعة النبي -عليه السلام- بين نسائه في وقت احتياجه إلى الخروج بإحداهن ليُطَيِّب نفس من لا يخرج بها منهن، وليُعلم أنه لم يحاب التي خرج بها عليهن؛ لأنه لما كان له أن يخرج ويخلفهن جميعًا كان له أن يخرج ويخلف من شاء منهن. فثبت بما ذكرنا أن القرعة إنما تستعمل فيما لمستعملها تركها، وفيما له أن يمضيه بغيرها. ¬

_ (¬1) "تقدم ذكره". (¬2) "مسند أحمد" (6/ 269 رقم 26357).

ش: هذا جواب عما قاله من ذهب إلى تثبيت القرعة، وحاصله أن قرعة النبي -عليه السلام- في حديث عائشة إنما كانت لتطييب قلوب نسائه ولم تكن واجبةً عليه، ونحن أيضًا نقول بذلك على هذا الوجه. قوله: "في موضعه" أراد به باب: "القافة" فإنه استوفى الكلام فيه هناك. ص: ومن ذلك: الخصمان يحضران عند الحاكم فيدعي كل واحد منهما على صاحبه دعوى، فينبغي للقاضي أن يقرع بينهما، فأيهما قرع بدأ بالنظر في أمره، وله أن ينظر في أمر من شاء منهما بغير قرعة، فكان أحسن به لبعد الظن به، في هذا استعمال القرعة كما استعملها رسول الله -عليه السلام- في أمر نسائه. ش: أي ومن القبيل المذكور -وهو استعمال القرعة لتطييب القلوب-: الخصمان يحضران عند القاضي ويتخاصمان في شيء، فإن القاضي له أن يقرع بينهما في البداءة بالنظر في أمرهما، فمن خرجت قرعته بدأ بالنظر في أمره، فإن ذلك أيضًا لتطييب قلبهما ومع هذا له أن ينظر في أمر من شاء منهما بغير قرعة، وهذا لا خلاف فيه. فدل أن القرعة ليست بواجبة. ص: وكذلك عَمِلَ المسلمون في أقسامهم بالقرعة بما عدلوه بين أهلهم، فيما لو أمضوه بينهم لا عن قرعة كان ذلك مستقيمًا، فأقرعوا بينهم لتطمئن به قلوبهم، وترتفع الظنة عمن تولى لهم قسمته، ولو أقرع بينهم على طوائف من المتاع الذي لهم قبل أن يعدل ويسوي قيمته على أملاكهم منه كان ذلك القسم باطلًا، فثبت بذلك أن القرعة إنما فعلت بعد أن تقدمها ما يجوز القسم به، وأنها إنما أريدت لانتفاء الظن لا بحكم يجب بها، فكذلك نقول: كل قرعة تكون كمثل هذا فهي حسنة، وكل قرعة يراد بها وجوب حكم وقطع حقوق متقدمة، فهي غير مستعملة. ش: أي وكذلك -لتطييب القلوب- عمل المسلمون في أقسامهم بالقرعة وهو جمع قِسْم بكسر القاف.

وملخص هذا الكلام: أن القرعة إذا أريد بها تطييب القلوب ودفع التهمة كان ذلك حسنًا، ونحن نقول به أيضًا، وإذا أريد بها وجوب حكم أو قطع حق فلا نقول بها حينئذٍ؛ لأن هذا إنما كان ثم نسخ، فافهم. ص: ثم رجعنا إلى القولين الآخرين، فرأينا رسول الله -عليه السلام- قد حكم في العبد إذا كان بين اثنين فأعتقه أحدهما أنه حر كله ويضمن إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا ففي ذلك من الاختلاف ما قد ذكرنا في كتاب العتاق، ثم وجدنا في حديث أبي المليح الهذلي عن أبيه: "أن رجلًا أعتق شقصًا له في مملوك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو حر كله، ليس لله شريك". فبيَّن رسول الله -عليه السلام- العلة التي لها عتق نصيب الشريك الذي لم يتولّ العتاق لما عُتق نصيب صاحبه، فدل ذلك أن العتاق متى وقع في بعض العبد انفش في كله. وقد رأينا رسول الله -عليه السلام- أيضًا حكم في العبد بين اثنين إذا أعتقه أحدهما ولا مال له يحكم عليه فيه بالضمان بالسعاية على العبد في نصيبه الذي لم يعتق، فثبت بذلك أن حكم هؤلاء العبيد المعتقين في المرض كذلك وأنه لما استحال أن يجب على غيرهم ضمان ما جاوز الثلث الذي للميت أن يوصي به، ويُمَلِّكه في مرضه من أحب من قيمتهم، وجب عليه السعاية في ذلك للورثة. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أراد بالقولين الآخرين: قول أهل المقالة الأولى وهم: أبو حنيفة ومن معه، وقول أهل المقالة الثانية وهم: مالك ومَن معه. وحديث أبي المليح الهذلي أخرجه الطحاوي في باب: "العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما" عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه.

وأخرجه أبو داود (¬1): عن أبي الوليد، عن همام، وعن محمد بن كثير، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه: "أن رجلًا أعتق شِقيصًا من غلام، فذكر ذلك للنبي -عليه السلام-، فقال: ليس لله شريك". وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن المثنى عن أبي الوليد وعن محمد بن معمر، عن حبان بن هلال، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه نحوه. وأبو المليح اسمه عامر، وقيل: زيد، روى عن أبيه أسامة بن عمير الهذلي الصحابي البصري - رضي الله عنه -، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 23 رقم 3933). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 186 رقم 4970).

ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، من هم؟

ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الوصية للقرابة، وبيان أن القرابة مَن هم؛ حتى يصرف إليهم ما يوصي به لهم. القرابة في الأصل مصدر، سميت الأقارب بها، كالصحابة فإنها في الأصل مصدر، وسميت أصحاب رسول الله -عليه السلام- بها. قال الجوهري: القرابة: القربى في الرحم، وهو في الأصل مصدر، تقول: بيني وبينه قَرَابة وقُرْبٌ وقُرْبَى ومَقْرُبة وقُرْبة وقُرُبة بضم الراء، وهو قَرِيبي وذو قَرَابتي، وهم أَقْرِبائي وأَقَارِبي، والعامة تقول: هم قرابتي، وهم قراباتي. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: اختلف الناس في الرجل يوصي بثلث ماله لقرابة فلان، مَن القرابة الذين يستحقون تلك الوصية؟. فقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: هم كل ذي رحم محرم من فلان من قِبَل أبيه أو من قِبَل أمه، غير أنه يبدأ في ذلك مَن كانت قرابته من قِبَل أبيه على مَن كانت قرابته من قِبَل أمه. وتفسير ذلك أن يكون الموصي لقرابته عمٌ وخال فقرابة عمه من قبل أبيه كقرابة خاله منه من قبل أمه فيبدأ في ذلك عمه على خاله فتجعل الوصية له. ش: إذا أوصى رجل بثلث ماله لقرابة فلان فمن هم قرابته الذين يستحقون ذلك الثلث الموصى به؟ فقد اختلفت العلماء فيه على أقوال: الأول: قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وهو أن الوصية تكون للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم من فلان، ولا يدخل الوالدان والولد. أما اعتبار الأقرب فلأن الوصية أخت الميراث وفيه يعتبر الأقرب فالأقرب، حتى لو كان لفلان عمان وخالان فالوصية للعمين، ولو كان له عم وخالان فللعم النصف وللخالين النصف، ولو كان له عم واحد فله نصف الثلث، ولو

كان له عم وعمة وخال فالوصية للعم والعمة سواء لاستوائهما في القرابة وهي أقوى من الخولة والعمة، وإن لم يكن وارثه يستحق الوصية بلفظة القرابة كما لو كان القريب عبدًا أو كافرًا، وأما عدم دخول الوالدين والولد؛ فلأن الله تعالى عطف الأقربين على الوالدين، والمعطوف يُغاير المعطوف عليه، ولأن الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفًا وحقيقة أيضًا؛ لأن الأب أصل والولد فرعه وجزءه، والقريب من يقرب من غيره لا من نفسه، فلا يتناوله اسم القريب. فإن قلت: إذا لم يدخل الوالد والولد في هذه الوصية فهل يدخل فيها الجد وولد الولد؟ قلت: ذكرنا في الزيادات أنهما يدخلان، ولم نذكر فيه خلافًا. وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنهما لا يدخلان. وهكذا روي عن أبي يوسف وهو الصحيح؛ لأن الجد بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد. ص: وقال زفر -رحمه الله-: الوصية لكل من قرب منه من قِبَل أبيه أو من قِبَل أمه دون من كان أبعد منهم، وسواء في ذلك بين مَن كان منهم ذا رحم محرم وبين من كان ذا رحم غير محرم. ش: هذا هو القول الثاني، وهو قول زفر بن الهذيل -رحمه الله-، وهو أن الوصية تكون لكل من قرب من فلان من قِبَل أبيه أو من قِبَل أمه دون مَن كان أبعد من فلان منهم، وسواء كان من ذوي الرحم المحرم أو كان من ذوي الرحم غير المحرم، حتى لو كان لفلان عمان وخالان فالوصية بينهم أرباعًا، ولو كان له عم وخالان فالوصية بينهم أثلاثًا وعلى هذا. . . . ص: وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-: الوصية في ذلك لكل من جمعه وفلانًا أب واحد، منذ كانت الهجرة من قبل أبيه أو من قبل أمهن، وسَوَّيَا في ذلك بين مَن بعد منهم ويبن من يقرب، وبين من كانت رحمه محرمة وبين مَن كانت رحمه غير محرمة، ولم يفصلا في ذلك مَن كانت رحمه من قبل الأب على مَن كانت رحمه من قبل الأم.

ش: هذا هو القول الثالث. وهو قول أبي يوسف ومحمد وهو أن الوصية تكون لكل من جمع بين الفلان وبين رحمه أبٌ واحد، سواء كان أقصى أب له في الإسلام وهو أول أب أسلم أو أول أب أدرك الإسلام وإن لم يسلم على حسب ما اختلف فيه المشايخ، حتى لو أوصى للعلوية والعباسية بصرف الثلث إلى من اتصل بعلي وعباس - رضي الله عنهما - لا إلى مَن فوفهما من الآباء وهما يقولان: إن القريب مشتق من القرب فيتناول الرحم المحرم وغيره، والقريب والبعيد، وصار كما لو أوصى لإخوة فلان أنه يدخل الإخوة لأب وأم، والإخوة لأب والإخوة لأم فدلَّ على أن الاسم يتناول كل قريب إلا أنه لا يمكن العمل بعمومه لتعذر إدخال أولاد آدم -عليه السلام- فيه فيعتبر النسبة إلى أقصى أب في الإسلام؛ لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بالإسلام والشرف به، فصار الجد المسلم هو النسب فشرفوا به، فلا يعتبر من كان قبله. ص: وقال آخرون: الوصية في ذلك لكل من جمعه وفلانًا أبوه الرابع إلى ما هو أسفل من ذلك. ش: أي قال قوم آخرون. وهو القول الرابع من الأقوال المذكورة وهو أن الوصية تكون لكل من جمعه وفلانًا أبوه الرابع، إلى ما هو أسفل من ذلك، وهو قول طائفة من أهل الحديث وجماعة من الظاهرية. ص: وقال آخرون: الوصية في ذلك لكل من جمعه وفلانًا أبٌ واحد في الإسلام أو في الجاهلية ممن يرجع بآبائه أو بأمهاته إليه أبا عن أب أو أمًّا عن أم إلى أب يلقاه بما تثبت به المواريث وتقوم به الشهادات. ش: أي وقال قوم آخرون وهو القول الخامس، وهو قول مالك والشافعي وأحمد: إن الوصية في ذلك لكل من جمعه وفلانًا أبٌ واحد في الإسلام أو في الجاهلية. وتحقيق مذهب الشافعي ما ذكره في الروضة: إذا أوصى لأقارب زيد، دخل فيه الذكر والأنثى، والفقير والغني، والوارث وغيره، والمحرم وغيره، والقريب والبعيد، والمسلم والكافر، لشمول الاسم.

ولو أوصى لأقارب نفسه ففي دخول ورثته وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الوارث لا يوصى له، فعلى هذا يختص بالباقين. وبهذا قطع المتولي ورجحه الغزالي، وهو محكي عن الصيدلاني. والثاني: الدخول؛ لوقوع الاسم ثم يبطل نصيبهم ويصح الباقي لغير الورثة. وهل يدخل في الوصية لأقارب زيد أصوله وفروعه؟ فيه أوجه: أصحها عند الأكثرين: لا يدخل الوالدان والأولاد، ويدخل الأجداد والأحفاد. والثاني: لا يدخل أحد من الأصول والفروع. والثالث: يدخل الجميع. وبه قطع المتولي، ولو أوصى لأقارب حُسَنِيُّ أو أوصى حُسَنيٌ لأقارب نفسه لم يدخل الحُسَنِيون، وكذلك وصية المأموني لأقاربه، والوصية لأقارب المأمون لا يدخل فيها أولاد المعتصم وسائر العباسية، والوصية لأقارب الشافعي في زمانه تصرف إلى أولاد شافع ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس - رضي الله عنهما - وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد، انتهى. وفي "الجواهر" للمالكية: ولو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث والمحرم وغير المحرم، ويدخل فيه كل قريب من جهة الأب والأم، ويؤثر ذو الحاجة، ولا يؤثر الأقرب على الأبعد، بل يؤثر الأحوج على غيره. ص: وإنما جوَّز أهل هذه المقالات الوصية للقرابة على ما ذكرنا من قول كل واحد منهم إذا كانت تلك القرابة قرابة تحصى وتعرف، فإن كانت لا تحصى ولا تعرف فإن الوصية لها باطلة في قولهم جميعًا، إلا أن يوصي بها لفقرائهم فتكون جائرةً لمن رأى الوصي دفعها إليه منهم، وأقل من يجوز له أن يجعلها له منهم اثنان فصاعدًا في قول محمد بن الحسن -رحمه الله-. وقد قال أبو يوسف: إن دفعها إلى واحد منهما أجزأه ذلك. ش: أراد بأهل هذه المقالات: المقالات الخمس المذكورة مفصلة، والمعنى أن أصحاب هذه المقالات على اختلاف أقوالهم إنما جوزوا الوصية للقرابة إذا كانوا

يُحْصَون ويعرفون، وإلا تكون الوصية باطلةً لجهالة الموصى إليهم، اللهم إلا إذا عينها للفقراء منهم فتصح حينئذٍ كما في الوصية إلى فقراء المسلمين، فالوصي حينئذٍ يدفعها إلى مَن شاء منهم، وأقل من يجوز أن يجعلها له منهم اثنان فصاعدًا عند محمد؛ لأن الفقراء اسم جمع وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، إلا أنه قام الدليل على أن الاثنين في باب الوصية يقومان مقام الثلاث؛ لأن الوصية أخت الميراث، والله تعالى أقام البنتين من البنات مقام الثلاث منهن في استحقاق الثلثين، وكذا الاثنان من الإخوة والأخوات يقومان مقام الثلاث في نقص حق الأم من الثلث إلى السدس. ومذهب أبي يوسف أنه إذا دفعها إلى واحد منهم أجزأه ذلك؛ لأن هذا النوع من الوصية وصية بالصدقة وهي إلزام المال حقًّا لله تعالى وجنس الفقراء مصرف ما يجب لله تعالى من الحقوق المالية فكان ذكر الفقراء لبيان المصرف لا لإيجاب الحق لهم فيجب الحق لله ثم يصرف إلى ما ظهر رضا الله تعالى بصرف حقه المالي إليه، وقد جعل يصرفه إلى فقير واحد ولهذا جاز صرف ما وجب من الصدقات الواجبة بإيجاب الله تعالى إلى فقير واحد، وإن كان المذكور بلفظ الجماعة فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬1). ص: فلما اختلفوا في القرابة مَن هم؟ هذا الاختلاف، وجب أن ننظر في ذلك لنستخرج من أقاويلهم هذه قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك، فكان من حجة الذين ذهبوا إلى أن القرابة هم الذين يلتقون هم ومن يقاربونه عند أبيه الرابع فأسفل من ذلك إنما قالوا ذلك فيما ذكروا، لأن رسول الله -عليه السلام- لما قسم سهم ذوي القربى؛ أعطى بني هاشم وبني المطلب وإنما يلتقي هو وبنو المطلب عند أبيه الرابع لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والآخرون بنو المطلب بن هاشم بن عبد مناف يلتقون هم وهو عند عبد مناف وهو أبوه الرابع. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [60].

ش: أي فلما اختلف أصحاب هذه المقالات الخمس المذكورة في القرابة مَنْ هُم؟ هذا الاختلاف، وجب أن ينظر في ذلك إلى دليل كل واحد منهم الذي يعتمد عليه فيما ذهب إليه ليعرف أي قول أصح من بين هذه الأقوال، فذكر الطحاوي أولًا حجة أهل المقالة الرابعة وهم الذين قالوا: إن مَن أوصى إلى قرابة فلان تكون الوصية لكل من جمعه وفلانًا أبوه الرابع، وبيَّن حجتهم بقوله، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوي القربى. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. ص: فمن الحجة عليهم في ذلك للآخرين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أعطى بني هاشم وبني المطلب قد حرم بني أمية وبني نوفل، وقرابتهم منه كقرابة بني المطلب، فلم يحرمهم لأنهم ليسوا قرابةً، ولكن لمعنى غير القرابة، فكذلك مَن فوقهم لم يحرمهم لأنهم ليسوا قرابة ولكن لمعنى غير القرابة. ش: أي فمن الدليل والبرهان على أهل المقالة الرابعة فيما ذهبوا إليه للآخرين أي لأصحاب المقالات الأربع. وأراد بذلك منع استدلالهم بقسمة رسول الله -عليه السلام- سهم ذوي القربى. بيانه: أنه -عليه السلام- لما أعطى بني هاشم وبني المطلب حرم بني أمية وبني نوفل ولم يعط لهم شيئًا، والحال أن قرابتهم منه -عليه السلام- كقرابة بني المطلب، وليست العلة في عدم صرفه -عليه السلام- إليهم عدم كونهم قرابة، بل هم قرابته ولكن حرمهم لمعنى آخر، وهو معنى قوله: فلم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابةً، يعني فلم يحرم النبي -عليه السلام- بني أمية وبني نوفل لكونهم غير قرابة وإنما حرمهم لمعنى غير ذلك. قوله: "فكذلك مَن فوقهم" أبي من فوق بني أمية وبني نوفل. ص: ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في القرابة من غير هذا الوجه ما قد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا حميد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا

تُحِبُّونَ} (¬1) قال: أو قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬2) جاء أبو طلحة - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، حائطي الذي مكان كذا وكذا له تعالى، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه فقال: اجعله في فقراء قرابتك أو فقراء أهلك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني أبي، عن ثمامة، قال: قال أنس - رضي الله عنه -: "كانت لأبي طلحة أرض، فجعلها لله -عز وجل- فأتى النبي -عليه السلام- فقال له: اجعلها في فقراء قرابتك، فجعلها لحسان وأُبَيٍّ - رضي الله عنهما -". قال أبي، عن ثمامة، عن أنس قال: "وكانا أقرب إليه مني". فهذا أبو طلحة - رضي الله عنه - قد جعلها لأُبيّ وحسان، وإنما يلتقي هو وأبي عند أبيه السابع؛ لأن أبا طلحة اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وأُبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فلم ينكر رسول الله -عليه السلام- على أبي طلحة ما فعل من ذلك، فدل ما ذكرنا على أن مَن كان يلقى الرجل إلى أبيه الخامس أو السادس أو إلى مَن فوق ذلك من الآباء المعروفين؛ قرابة له، كما أن من يلقاه إلى أب دونهم قرابة أيضًا. ش: أي روي عن النبي -عليه السلام- في معنى القرابة غير ما ذكر من الوجه المذكور، وأراد بذلك منع ما قال مَن قال: القرابة هم الذين يلتقون هم ومن يقاربونه عند أبيه الرابع فأسفل من ذلك. وجه المنع: أن حديث أنس هذا يدل على أن من كان يلقى الرجل إلى أبيه الخامس أو السادس أو إلى مَن فوق ذلك من الآباء المعروفين؛ قرابة له. وأخرجه من طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [92]. (¬2) سورة البقرة، آية: [245]، سورة الحديد، آية: [11].

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله ابن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضيها، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا إسحاق بن منصور، قال: أنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا حميد، عن أنس قال: "لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬2) قال: أو قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬3) قال أبو طلحة: وكان له حائط فقال: يا رسول الله، حائطي لله، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه، فقال: اجعله في قرابتك أو أقربتك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬4): عن حفص، عن حميد، عن أنس نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن عبد الله الأنصاري المذكور، عن أبيه عبد الله بن المثنى، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك البصري قاضيها، عن جده أنس بن مالك. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬5): من حديث أبي حاتم، ثنا محمد بن عبد الله، حدثني أبي، عن عمه ثمامة، عن أنس قال: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ. . . .} الآية و {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (3) قال أبو طلحة: يا رسول الله، حائطي بكذا وكذا وهو لله، وإن استطعت أن أسره لم أعلنه. قال: اجعله في فقراء أهلك، فجعله في حَسَّان وأُبَي - رضي الله عنهما -". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 224 رقم 2997). (¬2) سورة آل عمران، آية: [92]. (¬3) سورة البقرة، آية: [245]، سورة الحديد، آية: [11]. (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 214 رقم 30786). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 280 رقم 12427).

قوله: "حائطي"، الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه جدار، ويجمع على حوائط. قوله: "مكان كذا وكذا" قد سماه ذلك في رواية البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئرًا تسمى بيرحاء كانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله -عليه السلام- يدخلها ويشرب من ماء كان فيها طيب، فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬1). . . ." الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2): عن موسى، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا سألنا من أموالنا، فإني أشهدك أني جعلت أرضي بأريحاء له، فقال رسول الله -عليه السلام- اجعلها في قرابتك، فقسمها بين حسان بن ثابت وأُبي بن كعب". وأخرجه مسلم (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا نحوه. قوله: "بأريحاء" بفتح الباء الموحدة، بعدها ألف ساكنة، وبراء مكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وبحاء مهملة ممدودة، والمشهور بيرحاء، وقد اختلفوا في ضبطها اختلافًا شديدًا، فقال القاضي: هو حائط يسمى بهذا الاسم وليس اسم بئر، وكان بقرب المسجد، ويقال: هذا موضع يعرف بقعر بني جديلة قبل المسجد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين وأن القرابة يراعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: [92]. (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 131 رقم 1689). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 694 رقم 998). (¬4) "المجتبى" (6/ 231 رقم 3602).

بعيد؛ لأنه -عليه السلام- أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين، فجعلها في أُبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع. ص: وقد أمر الله نبيه -عليه السلام- أن ينذر عشيرته الأقربين، فروي عنه في ذلك ما حدثنا محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، قال: ثنا عباد بن يعقوب، قال: ثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله: قال: قال علي - رضي الله عنه -: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) قال لي رسول الله -عليه السلام-: يا علي اجمع لي بني هاشم وهم أربعون رجلًا أو أربعون إلا رجلًا. . . ." ثم ذكر الحديث. ش: أراد بهذا الحديث وما بعده أن ما كان يلقى الرجل إلى أبيه الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع وإلى ما فوق ذلك من الآباء المعروفين؛ قرابة. ففي هذا الحديث قصد بني أبيه الثالث. أخرجه عن محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، عن عباد بن يعقوب الأسدي الكوفي شيخ البخاري والترمذي وابن ماجه، عن عبد الله بن عبد القدوس التميمي السعدي، فيه مقال كثير، فقال أحمد: ليس بشيء رافضي خبيث. وعن أبي داود: ضعيف الحديث. وعن النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعفاء. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: ربما أغرب. وهو يروي عن سليمان الأعمش، عن المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي عن عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن شريك، عن الأعمش عن المنهال، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي - رضي الله عنه - نحوه. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا محمد بن عبد الله بن مخلد، قال: ثنا محمد بن حميد الرازي، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [214].

عن عبد الغفار بن قاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي - رضي الله عنهم -، عن النبي -عليه السلام- مثله. غير أنه قال: "اجمع لي بني عبد المطلب، قال: وهم أربعون رجلًا يزيدون رجلًا أو ينقصونه". ففي هذا الحديث أنه قصد بني أبيه الثاني. ش: أي وقد روي عن النبي -عليه السلام- أيضًا فيما ذكرنا من معنى القرابة في الأب الثاني. وأخرجه عن محمد بن عبد الله بن مخلد الأصبهاني، عن محمد بن حميد بن حيان الرازي شيخ الترمذي وابن ماجه، عن سلمة بن الفضل الأبرش الأزرق الرازي قاضي الري، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن قاسم بن قيس الأنصاري، فيه مقال كثير حتى نسب إلى الوضع. وهو يروي عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث البصري نسيب محمد ابن سيرين وختنه على أخته عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1) بأتم منه: ثنا علي بن حرب الكندي، ثنا إسحاق بن إبراهيم ختن سلمة بن الفضل، عن سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي - رضي الله عنهم - قال: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬2) قال رسول الله -عليه السلام-: يا علي، اصنع رِجْل شاة بصاع من طعام، واجمع لي بني هاشم -وهم يومئذٍ أربعون رجلًا أو أربعين غير رجل- قال: فدعى رسول الله -عليه السلام- بالطعام فوضعه بينهم، فأكلوا حتى شبعوا -وإن منهم مَن يأكل الجذعة بإدامها- ثم تناول القدح فشربوا منه حتى رووا -يعني من اللبن- فقال بعضهم: ما رأينا كالسحر. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (2/ 104 رقم 455). (¬2) سورة الشعراء، آية: [214].

يرون أنه أبو لهب الذي قاله -فقال: يا علي اصنع رجل شاة بصاع من طعام واعدد قعبًا من لبن. قال: ففعلت، قال: يا علي اجمع لي بني هاشم فجمعتهم، فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيكم يقضي عني ديني؟ قال: فسكت وسكت القوم، فأعاد رسول الله -عليه السلام- المنطق، فقلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت يا علي أنت يا علي". ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو، قالا: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) انطلق رسول الله -عليه السلام- إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها، ثم قال: يا بني عبد مناف إني نذير". ففي هذا أنه قصد بني أبيه الرابع. ش: أي: وقد روي عن النبي -عليه السلام- أيضًا في معنى القرابة في الأب الرابع. وأخرجه بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان عبد الرحمن ابن مل النهدي، عن قبيصة بن مخارق الهلالي الصحابي وزهير بن عمرو الهلالي الصحابي - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو كامل، ثنا يزيد بن زريع، عن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن قبيصة وزهير قالا: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) انطلق نبي الله -عليه السلام- إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها، ثم قال: يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه". ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [214]. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 193 رقم 207).

قوله: "إلى رضمة" الرضمة واحدة الرضم والرضام وهي دون الهضاب، وقيل: صخور بعضها على بعض. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود وحيان بن غالب، قالا: ثنا ضمام، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "يا بني هاشم، يا بني قصي، يا بني عبد مناف، أنا النذير، والموت المغير، والساعة الموعود". ففي هذا الحديث أنه دعا بني أبيه الخامس. ش: أي وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في معنى القرابة في الأب الخامس. وأخرجه عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي، وحسان بن غالب بن نجيح المصري ضعيف ومتروك، كلاهما عن ضمام -بكسر الضاد المعجمة- بن إسماعيل البصري الثقة، عن موسى بن وردان القرشي المصري القاضي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذا الحديث عند المصريين. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد وعفان، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) قام نبي الله -عليه السلام- فنادى: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها". ففي هذا الحديث أنه دعى معهم بني أبيه السابع لأب، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [214].

ش: أي: قد روي عن النبي -عليه السلام- أيضًا في معنى القرابة في الأب السابع. أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، وعفان بن مسلم الصفار، شيخ أحمد، كلاهما عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى ابن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (¬1): نا قتيبة وزهير بن حرب، قالا: ثنا جرير، عن عبد الملك ابن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬2) دعى رسول الله -عليه السلام- قريشًا فاجتمعوا، فَعَمَّ وخَصَّ، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها". وأخرجه أيضًا (1): عن القواريري، عن أبي عوانة. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي. وأخرجه الترمذي (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. قوله: "أنقذوا" من الإنقاذ وهو التخليص والإنجاء، يقال: أنقذه من فلان واستنقذه منه وينقذه بمعنى، أي نجَّاه وخلَّصه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1/ 192 رقم 204). (¬2) سورة الشعراء، آية: [214]. (¬3) "جامع الترمذي" (5/ 338 رقم 3185). (¬4) "المجتبى" (6/ 248 رقم 3644).

قوله: "سأبلها ببلالها" أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئًا. والبلال جمع بلل، وقيل: هو كل ما بلَّ الحلق من ماء أو لبن أو غيره. قال عياض في "شرح مسلم": رويناه بكسر الباء. قال أبو عمر: يقال: بللت رحمي بلًّا وبلالًا وبللًا. قال الأصمعي: وصلتها ونديتها بالصلة، وقال الخطابي: بِبَلالها بالفتح كالمِلَال، وقال الهروي: البلال جمع بَلَل كجمل وجمال. ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما أنزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) صعد رسول الله -عليه السلام- على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني فلان، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر. وجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". ففي هذا الحديث أنه دعى بطون قريش كلها. ش: أي: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا في معنى القرابة في الآباء القريبة والبعيدة كلهم. أخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن عمرو بن مرة. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [214]. (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 193 رقم 208).

نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) ورهطك منهم المخلصين" خرج رسول الله -عليه السلام- حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال: فقال أبو لهب: تبًّا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟! ثم قام، فنزلت هذه السورة "تبت يدا أبي لهب وقد تب" (¬2) كذا قراءة الأعمش .. إلى آخر السورة". ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. حدثنا يونس، قال: ثنا سلامة بن روح، قال: ثنا عقيل، حدثني الزهري قال: قال سعيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله -عليه السلام- حين نزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1): يا معشر قريش استبرءوا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف استبرءوا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا". حدثثا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد وأبو سلمة، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-. . . . ثم ذكر مثله، غير أنه قال: "يا صفية، يا فاطمة". ففي هذا الحديث أيضًا أن رسول الله -عليه السلام- لما أمره الله -عز وجل- أن ينذر عشيرته الأقربين دعى عشائر قريش، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثاني، وفيهم من يلقاه ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: [214]. (¬2) سورة المسد، آية: [1].

عند أبيه الثالث، وفيهم من يلقاه عند أبيه الرابع، وفيهم من يلقاه عند أبيه الخامس، وفيهم من يلقاه عند أبيه السادس، وفيهم من يلقاه عند أبائه الذين فوق ذلك إلا أنه ممن جمعته وآبائه قريش، فبطل بذلك قول أهل هذه المقالة، وثبتت إحدى المقالات الأخرى. ش: أي: وقد روي مثل ما روي عن ابن عباس عن أبي هريرة. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عمه عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬1): عن محمد بن خالد، عن بشر بن شعيب، عن أبيه، عن الزهري، عنهما نحوه. الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله -عليه السلام- حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬3): يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئًا". ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 249 رقم 3647). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 192 رقم 206). (¬3) سورة الشعراء، آية: [214].

قوله: "اشتروا أنفسكم من الله" قد تكون بمعنى بيعوا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} (¬1) وقد يكون على وجه: أن أنقذوها من عذابه. ص: فنظرنا في قول من بدأ منهم مَن قرب رحمه على مَن هو أبعد رحمًا منه؛ فوجدنا رسول الله -عليه السلام- لما قسم سهم ذوي القربى عمَّ به بني هاشم وبني المطلب، وبعض بني هاشم أقرب إليه من بعض، وبعض بني المطلب أيضًا أقرب إليه من بعض، وبنو هاشم أقرب إليه من بني المطلب، فلما لم يقدم رسول الله -عليه السلام- في ذلك مَنْ قَربت رحمه منه على مَن هو أبعد إليه رحمًا منه، وجعلهم كلهم قرابة له يستحقون ما جعل الله -عز وجل- لقرابته فكذلك من قربت رحمه في الوصية لقرابة فلان لا يستحق بقرب رحمه منه شيئًا مما جعل الله لقرابته إلا كما يستحق سائر قرابته ممن رحمه منه أبعد من رحمه؛ فهذه حجة. ش: لما أبطل الطحاوي -رحمه الله-: المقالة الرابعة بقوله: فبطل بذلك قول أهل هذه المقالة. وأشار إلى ثبوت إحدى المقالات الأخر بقوله: وثبت إحدى المقالات الأخر وهي المقالة الأولى والثانية والثالثة والخامسة؛ بيَّن هاهنا تلك المقالة الصحيحة التي كان نص عليها مجملًا؛ وذلك بطريق الاستنباط من الأحاديث المذكورة فنص أن المقالة الصحيحة من تلك المقالات الخمس هي المقالة الخامسة وهي التي ذهب إليها مالك والشافعي وأحمد، وأوضح بطلان بقية المقالات التي ذهب إليها أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وغيرهم، وهذا الذي سلكه هو طريق المجتهدين المستنبطين للأحكام من الكتاب والسنة، ألا ترى أن اجتهاده لما أدى إلى ما نص عليه بطريق الاستنباط الصحيح من الأحاديث المذكورة ترك تقليده لأبي حنيفة وصاحبيه. وأيضًا فهذا يدل على أنه لا يقلد أحدًا إلا فيما وافق اجتهاد ذلك المقلَّد اجتهاده، حتى إذا كان اجتهاد ذلك المقلَّد خلاف ما أدى إليه اجتهاده ترك ذلك ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: [111].

وصار الاجتهاد بنفسه فهذه هي غاية درجات المجتهدين ممن يقتدى بهم في الدين، -رضي الله عنهم- أجمعين. ص: وحجة أخرى: أن أبا طلحة - رضي الله عنه - لما أمره رسول الله -عليه السلام- أن يجعل أرضه في فقراء قرابته جعلها لحسان وأُبي، وإنما يلتقي هو وأُبي عند أبيه السابع، ويلتقي هو وحسان عند أبيه الثالث؛ لأن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وأبا طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، فلم يقدِّم أبو طلحة في ذلك حسانًا لقرب رحمه منه على أُبي - رضي الله عنه - لبعد رحمه منه، ولم يرَ واحدًا منهما مستحقًا بقرابته منه في ذلك إلا لما يستحق منه الآخر فثبت بذلك أيضًا فساد هذا القول. ش: أي: ودليل آخر في بطلان قول أهل المقالة الرابعة: أن أبا طلحة زيد بن سهل - رضي الله عنه -. . . . إلى آخره. وهو ظاهر. وأشار بقوله: "فساد هذا القول" إلى القول المنسوب لأهل المقالة الرابعة. ص: ثم رجعنا إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - فرأينا رسول الله -عليه السلام- لما قسم سهم ذوي القربى أعطى بني هاشم جميعًا، وفيهم من رحمه منه رحم محرمة، وفيهم من رحمه منه رحم غير محرمة، وأعطى بني المطلب معهم، وأرحامهم جميعًا منه غير محرمة. وكذلك أبو طلحة أعطى أبيًّا وحسانًا ما أعطاهما على أنهما قرابة ولم يخرجهما من قرابته ارتفاع الحرمة من رحمهما منه، فبطل بذلك أيضًا ما ذهب إليه أبو حنيفة -رحمه الله-. ش: بطلان ما ذهب إليه أبو حنيفة في هذا الباب ظاهر؛ لأن قسمة النبي -عليه السلام- سهم ذوي القربى، وإعطاء أبي طلحة أُبيًّا وحسانًا على الوجه المذكور يفسدان ما ذهب إليه من أن القرابة هم كل ذي رحم محرم من فلان، من قبل أبيه أو من قبل أمه، غير أنه يبدأ في ذلك من كانت قرابته منه من قبل أبيه على مَن كانت قرابته من قبل أمه.

ص: ثم رجعنا إلى ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد، فرأينا رسول الله -عليه السلام- أعطى سهم ذوي القربى بني هاشم وبني المطلب، ولا يجتمع هو وواحد منهم إلى أب منذ كانت الهجرة، إنما يجتمع هو وهم عند أباء كانوا في الجاهلية، وكذلك أبو طلحة وأُبَي وحسان لا يجتمعون عند أب إسلامي إنما يجتمعون عند أب كان في الجاهلية، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا له قرابة فيستحقون ما جعل للقرابة، فكذلك قرابة الموصي لقرابته لا يمنعهم من تلك الوصية أن لا يجمعهم واياه أب منذ كانت الهجرة، فبطل بذلك قول أبي يوسف ومحمد، وثبت القول الآخر، فثبت أن الوصية في ذلك لكل مَن توقف على نسبه أبا عن أب، أو أمًّا عن أم، حتى يلتقي هو والموصي لقرابته إلى جد واحد في الجاهلية أو في الإسلام، بعد أن يكون أولئك الآباء آباء قد يستحق بالقرابة لهم المواريث في حال، وتقوم بالإنسان منهم الشهادات على سياقه ما بين الموصي لقرابته وبينهم من الآباء أو من الأمهات. فهذا القول عندنا هو أصح ما وجدناه في هذا الباب. ش: بطلان ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد أيضًا ظاهر على ما لا يخفى، فافهم.

ص: كتاب الفرائض

ص: كتاب الفرائض ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الفرائض، وهو جمع فريضة معني مفروضة، والمراد بها السهام المقدرة، وذكر هذا الكتاب عقيب كتاب الوصية رعاية لمناسبة لطيفة، وهي أن الوصية أخت الميراث؛ لأن كلاًّ منهما تمليك للمال بعد الموت، وإنما أخر الفرائض عن الوصية لأن علمها متعلق بأحكام الموت وهي متأخرة عن أحكام الأحياء. * * * ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها ش: أي: هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً، كيف يكون ميراثه؟ والعصبة في اللغة تشتمل على معنى الإحاطة يقال: عَصَبَ القوم بفلان: أحاطوا به، وعَصَبت رأسه بالعصابة وهي ما يعصب به الرأس، واعتصب فلان بالتاج والعمامة وبه سميت العَصَبة، وهم قرابة الإنسان لأبيه يحيطون به قربًا وحراسةً وديًّا، فالابن طرف، والأب طرف، والأخ جانب، والعم جانب. وفي اصطلاح الفرضيين: العَصَبة: كل من يأخذ الباقي من الفريضة مع صاحب الفرض، ويحوز الجميع عند الانفراد، والعَصَبة الحقيقية: هو العَصَبة بنفسه، ويسمى من يشابهه: عصبةً مجازًا. ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "ألحقوا المال بالفرائض، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أمية بن بسطام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مثله. ولم يذكر ابن عباس. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا معمر وسفيان، عن ابن طاوس. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه خمس طرق: الأول: إسناده صحيح. أخرجه البخاري (¬1): ثنا سليمان بن حرب، نا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا وهيب، قال: نا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". وقال الترمذي: هذا حديث حسن. الثاني: أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أمية بن بسطام العيشي البصري شيخ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2478 رقم 6356). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 418 رقم 2098).

البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم العنبري، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أمية بن بسطام العيشي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر". وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا أحمد بن صالح ومخلد بن خالد -وهذا حديث مخلد وهو أشبع- قالا: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اقسم المال -يعني أهل الفرائض- على كتاب الله -عز وجل-، فما تركت الفرائض فَلأَولى ذكر". الثالث: مرسل عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬3): نحوه مرسلا؛ عن أحمد بن سليمان، عن أبي داود، عن الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه عن النبي -عليه السلام-. وقال النسائي: حديث الثوري أشبه بالصواب. الرابع: أيضًا مرسل. وأخرجه الترمذي (¬4) معلقًا قال: وقد رواه بعضهم عن ابن طاوس، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- مرسل. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1233 رقم 1615). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 122 رقم 2898). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 71 رقم 6332). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 418 رقم 2098).

الخامس: أيضًا مرسل. عن علي بن زيد بن عبد الله الفرضي، عن عبدة بن سليمان المروزي صاحب ابن المبارك، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد وسفيان الثوري، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن النبي -عليه السلام-. قوله: "ألحقوا المال بالفرائض" هكذا وقع هذا اللفظ أيضًا في رواية الدارقطني (¬1): من حديث ربيعة بن صالح، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: "ألحقوا المال بالفرائض فما تركت فلأولى ذكر" أي بأصحاب الفرائض والمضاف محذوف، ولا يستقيم المعنى إلا بذلك، والمعنى: أعطوا مال الميت لأصحاب الفرائض الذين بينهم الله -عز وجل- في كتابه العزيز، وهم الذين لهم سهام مقدرة وهم اثني عشرة نفرًا عشرة من النسب واثنان من السبب. أما العشرة من النسب فثلاثة من الرجال وسبع من النساء. وأما الاثنان من السبب فالزوج والزوجة. وأما الثلاثة من الرجال فهم الأب والجد الصحيح والأخ لأم. وأما السبع من النساء فهن: البنت، وبنت الابن، والأم والجدة الصحيحة كأم الأم وأن علت، وأم الأب وإن علا، والأخوات لأب وأم، والأخوات لأب، والأخوات لأم، فهؤلاء أصحاب الفروض. قوله: "فما أبقت الفرائض" أي: فما أبقت أصحاب الفرائض، والمضاف محذوف. قوله: "فلأولى رجل ذكر" فيه حذف أيضًا أي: فهو لأولى رجل ذكر أي الباقي مما أحدثه أصحاب الفرائض المقدرة، لأولى رجل أي لأقرب رجل من الميت، والمعنى: أقرب العَصَبات إلى الميت يكون أحق بما أبقته أصحاب ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 70 رقم 10).

الفرائض كالأخ والعم؛ فالأخ أولى لأنه أقرب إلى الميت، وكالعم وابن العم؛ فالعم أولى لأنه أقرب من ابن العم. وقال الخطابي: ومعنى أولى: أقرب من الوَلي وهو القرب، ولو كان معنى قوله: أولى بمعنى أحق لبقي الكلام منهما لا يستفاد منه بيان الحكم؛ إذ كان لا يدرى من الأحق ممن ليس بأحق فعلم أن معناه: قرب النسب. واستفيد من هذا الحديث أحكام: الأول: أن أصحاب الفرائض يقدمون على العَصَبَات وإن كانت العصوبة أقوى سببًا وذلك لأن المراد من قوله: فلأولى رجل ذكر: هو العصبة، والدليل عليه ما جاء في بعض الروايات: "فلأولى عصبة ذكر". فإن قلت: ما فائدة توصيف الرجل بِذَكَر، وكذلك قوله: عصبة ذكر، والرجل لا يطلق إلا على الذكور؟ قلت: لأن الرجل ذكر من بني آدم جاوز حد الصغر، فوصفه بالذكورة ليدخل غير البالغين؛ لأن صفة الذكورة أعم من صفة الرجلية. فإن قلت: إذا حلف لا يكلم رجلًا فكلم صبيًّا يحنث؟ قلت: مبنى اليمين على العرف. فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} (¬1) فإن اسم الرجل يصدق هاهنا على الصبي؟. قلت: يجوز أن يطلق الرجل ويراد به الذكر ليعم الصبي والبالغ، أو تقول: إن التوصيف بالذكورة يكون من قبيل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬2) وقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (¬3) فافهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [12]. (¬2) سورة البقرة، آية: [196]. (¬3) سورة الأنعام، آية: [38].

الثاني: احتجت به أصحابنا في المسألة التي تلقب مشركة وحمارية وهي: زوج وأم، وأخوان لأم، وأخوان لأب وأم. فللزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوين لأم الثلث، ولا شيء للأخوين لأبوين؛ لأن ظاهر قوله -عليه السلام-: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" يقتضي الحكم هكذا؛ وذلك لأن الله تعالى فرض للزوج النصف عند عدم الولد، وللأم السدس عند وجود الإخوة، وفرض لقوم الأم فرضًا مقدرًا وهو السدس حالة الانفراد، والثلث حالة الاجتماع، سواء اتسع المال أو لا فوجب أن لا ينقص عن فروضهم شيء في الحالين؛ عملًا بظاهر الحديث. فإذا أخذ الزوج النصف والأم السدس والأخوان لأم الثلث، لم يبق شيء حتى يأخذ الأخوان لأبوين. الثالث: مسألة الكتاب على ما يجيء الآن. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن رجلًا لو مات وترك بنته، وأخاه لأبيه، وأمه، وأخته لأبيه، وأمه؛ كان لابنته النصف، وما بقي فلاخيه لأبيه وأمه دون أخته لأبيه وأمه. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا أيضًا: لو لم يكن مع البنت أخ وكانت معهما أخت وعَصَبة كان للابنة النصف، وما بقي فللعَصَبة وإن بعدوا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان ومسروقًا وإسحاق بن راهويه، والظاهرية؛ فإنهم قالوا في الصورة المذكورة: إن الأخت لا ترث شيئًا، وإنما البنت تأخذ النصف بحق الفرض والأخ الشقيق يأخذ النصف الباقي بطريق التعصيب، ولا يبقى شيء للأخت الشقيقة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم -. ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن ابن عباس، كما حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس قال: أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قال: "قال الله -عز وجل-: {إِنِ امْرُؤٌ

هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬1) قال ابن عباس: فقلتم أنتم: لها النصف؛ وإن كان له ولد". ش: أي: واحتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه أيضًا بحديث ابن عباس. أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف، قيل لابن عباس: "ترك ابنته، وأخته لأبيه وأمه، فقال ابن عباس: لابنته النصف، وليس لأخته شيء مما بقي، وهو لعصبته، فقال له السائل: إن عمر - رضي الله عنه - قضى بغير ذلك: جعل للابنة النصف وللأخت النصف، فقال ابن عباس: أأنتم أعلم أم الله؟! قال معمر: فذكرت ذلك لابن طاوس، فقال لي ابن طاوس: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1) قال ابن عباس: فقلتم أنتم: لها النصف وإن كان له ولد". فوجه استدلالهم بالحديث ظاهر، وهو أنه -عليه السلام- عيَّن ما أبقته أصحاب الفرائض لأولى رجل ذكر، وهاهنا البنت صاحبة الفرض وهو النصف، والباقي وهو النصف الآخر يكون للأخ الشقيق؛ لأنه أولى رجل ذكر -يعني أقرب إلى الميت- وبأثر ابن عباس ظاهر أيضًا؛ لأن الله تعالى أعطى للأخت النصف إذا لم يكن للميت ولد؛ فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل للابنة النصف، وما بقي فبين ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [176]. (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 254 - 255 رقم 19023).

الأخ والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يكن مع البنت غير الأخت كان للابنة النصف وللأخت ما بقي. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم شريحًا القاضي، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأبا حنيفة وأبا يوسف، ومحمدًا، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء من التابعين ومَن بعدهم، فإنهم قالوا: للابنة النصف، وما بقي فبين الأخ والأخت أثلاثًا وإن كان الميت خلف ابنةً وأختًا فقط كان للبنت النصف وللأخت النصف. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن حديث ابن عباس الذي ذكروا على ما قد ذكرناه في أول هذا الباب ليس معناه عندنا على ما حملوه عليه، ولكن معناه عندنا -والله أعلم- على ما أبقت الفرائض بعد السهام فلأولى رجل ذكر كعمٍّ وعمة فالباقي للعم دون العمة؛ لأنهما في درجة واحدة متساويان في النسب، وفضل العمُّ على العمَّة في ذلك بأن كان ذكرًا، فهذا معنى قوله: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" وليس الأخت مع أخيها داخلين في ذلك، والدليل على ما ذكرنا من ذلك أنهم قد أجمعوا في بنت وبنت ابن، وابن ابن. أن للابنة النصف، وما بقي فبين ابن الابن وابنة الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، ولم يجعلوا ما بقي بعد نصيب الابنة لابن الابن خاصةً دون ابنة الابن، ولم يكن معنى قول رسول الله -عليه السلام-: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" على ذلك إنما هو على غيره. فلما ثبت أن هذا خارج منه باتفاقهم، وثبت أن العم والعمة داخلان في ذلك باتفاقهم، إذ جعلوا ما بقي بعد نصيب البنت للعم دون العمة. ثم اختلفوا في الأخت مع الأخ، فقال قوم: هما كالعمة والعم. وقال آخرون: هما كابن الابن وابنة الابن؛ فنظرنا في ذلك لنعطف ما اختلفوا فيه منه على ما أجمعوا عليه؛ فرأينا الأصل المتفق عليه أن ابن الابن وبنت

الابن لو لم يكن غيرهما كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا كانت معهما ابنة، كان لها النصف، وكان ما بقي بعد ذلك النصف بين ابن الابن وابنة الابن على مثل ما يكون لهما من جميع المال لو لم يكن معهما ابنة، وكان العم والعمة لو لم يكن معهما ابنة كان المال باتفاقهم للعم دون العمة، فإذا كانت هناك ابنة كان لها النصف وما بقي بعد ذلك فهو للعم دون العمة، فكان ما بقي بعد نصيب البنت للذي كان يكون له جميع المال لو لم تكن بنت. فلما كان ذلك كذلك وكان الأخ والأخت لو لم يكن معهما ابنة كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، فالنظر على ذلك أن يكونا كذلك إذا كانت معهما ابنة، فوجب لها نصف المال لحق فرض الله -عز وجل- لها، وأن يكون ما بقي بعد ذلك النصف بين الأخ والأخت كما كان يكون لهما جميع المال لو لم تكن بنت؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك. ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه. وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس المذكور في أول الباب، وهو ظاهر. قوله: "ثم اختلفوا" أي الفريقان المذكوران فيما إذا خَلَّف الميت أخاه وأخته مع بنته، فقال قوم، وهم أهل المقالة الأولى: هما كالعم والعمة، يعني الأخ يأخذ ما بقي بعد نصيب البنت ولا تأخذ الأخت شيئًا، كما إذا خلف بنته وعمه وعمته فإن العم يأخذ ما بقي بعد نصيب البنت ولا تأخذ العمة شيئًا. وقال آخرون -أي قوم آخرون- وهم أهل المقالة الثانية: هما كابن الابن وابنة الابن -يعني الأخت مع الأخ كابن الابن مع بنت الابن مثلًا- إذا خلف بنتًا وابن ابنة وبنت ابنة، فالبنت لها النصف، والباقي بين ابن الابن وبنت الابن؛ للذكر مثل حظ الأنثيين. وباقي الكلام ظاهر. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- أيضًا ما قد دل على ما ذكرنا.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، وعبيد الله بن موسى العبسي. وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قالوا: أنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل: "أُتي سليمان بن ربيعة وأبو موسى الأشعري في ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقالا: للابنة النصف، وللأخت النصف، ثم قالا: ائت عبد الله بن مسعود فإنه سيتابعنا، فأتاه فقال عبد الله: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين ولكن سأقضي فيها بما قضي به رسول الله -عليه السلام-؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي قيس، عن هزيل مثله. ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- جعل الأخوات من قبل الأب مع الابنة عصبة، فصرن مع البنات في حكم الذكور مع الإخوة من قِبَل الأب، فصار قول رسول الله -عليه السلام- "فما أبقت الفرائض فلأولى ذكر رجل" لأنه عَصَبَة ولا عَصَبَة أقرب منه، فإذا كانت هناك عَصَبة هي أقرب من ذلك الرجل فالمآل لها، وعلى هذا ينبغي أن يحمل هذا الحديث حتى لا يخالف حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - هذا ولا يضاده، وسبيل الآثار أن تحمل على الاتفاق ما وجد السبيل إلى ذلك، ولا تحمل على التنافي والتضاد، ولو كان حديث ابن عباس على ما حمله عليه المخالف لنا لما وجب -على مذهبه- أن يضاد به حديث ابن مسعود؛ لأن حديث ابن مسعود هذا مستقيم الإسناد صحيح المجيء، وحديث ابن عباس مضطرب الإسناد؛ لأنه قطعه من ليس بدون مَن قد رفعه على ما قد ذكرنا في أول هذا الباب. ش: أشار بهذا إلى صحة ما قاله من وجه النظر في توريث الأخت مع البنت في الصورة المتنازع فيها، وتأكيد ذلك بالآثار الصحيحة، فمن ذلك حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه صريح في أنه -عليه السلام- قد جعل الأخوات مع البنات عصبةً.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي وعبيد الله ابن موسى العَبْسي -بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، وبالسين المهملة شيخ البخاري، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي قيس عبد الرحمن ابن ثروان الأودي الكوفي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي الكوفي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل قال: "جاء رجل إلى أبي موسى وسليمان بن ربيعة، فسألهما عن ابنة، وابنة ابن، وأخت لأب، وأم، فقال: للابنة النصف، وما بقي للأخت، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا. قال: فأتى الرجل ابن مسعود فسأله، وأخبره بما قالا، قال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، ولكن سأقضي بما قضى به رسول الله -عليه السلام-؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت". الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬2): ثنا الحسن بن عرفة، ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل قال: "جاء رجل إلى أبي موسى وسلمان بن ربيعة. . . . إلى آخره". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬3): ثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي قيس الأودي. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 8 رقم 29051). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 415 رقم 2093). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 909 رقم 2721).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن عامر بن زرارة، قال: حدثني علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال: "جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة. . . ." إلى آخره نحوه. الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قيس، عن هزيل. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه البخاري (¬2): ثنا آدم، ثنا شعبة، ثنا أبو قيس، سمعت هزيل بن شرحبيل قال: "سئل أبو موسى عن ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود - رضي الله عنه - وأُخْبِر بقول أبي موسى - رضي الله عنه - فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي -عليه السلام-؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم". قوله: "لقد ضللت إذًا" أراد به الإنكار على أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فإنهما أفتيا بخلاف ما حكم به رسول الله -عليه السلام-، ولهذا قال ابن مسعود: لقد ضللت إذًا. يعني إذا أفتيت بخلاف ما حكم به رسول الله -عليه السلام- كنت من الضالين، ثم يبين لهم حكم رسول الله -عليه السلام- وبيَّن أن الأخوات يصرن عصبة مع البنات ويرثن معهن. وهو قول جماعة الصحابة والتابعين والفقهاء إلا ابن عباس؛ فإنه خالف عامة الصحابة في ذلك وكان يقول في رجل، وأخته لأبيه، وأمه: النصف للابنة، وليس للأخت شيء. وذهبت إليه طائفة شاذة كما قدمناه. قوله: "فصار قول رسول الله -عليه السلام-: فما أبقت الفرائض. . . . إلى آخره". إشارة إلى وجه التوفيق بين حديث ابن عباس هذا وبين حديث ابن مسعود، وقد أشار ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 120 رقم 2890). (¬2) "صحيح البخاري" (6/ 2477 رقم 6355).

إليه بقوله: وعل هذا المعنى ينبغي أن يحمل هذا. . . . الحديث، يعني حديث ابن عباس المذكور في أول الباب. قوله: "ما وجد السبيل" أي ما دام السبيل موجودة. قوله: "لأنه قطعه". أي لأن حديث ابن عباس قطعه مَنْ ليس بدون من رفعه أي من ليس أدنى حالًا من الذي وصله، وذلك أن سفيان الثوري قد رواه عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، وهو مقطوع وإنما وصله وهيب ابن خالد عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-. وكذلك وصله روح بن القاسم ومعمر بن راشد، وسفيان ليس بدون هؤلاء بل هو أجل مرتبة منهم وأضبط، ولهذا قال النسائي: حديث الثوري أشبه بالصواب. ص: وأما ما احتجوا به من قول الله -عز وجل- {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬1)، فقالوا: فإنما ورث الله -عز وجل- الأخت إذا لم يكن له ولد، فالحجة عليهم في ذلك أن الله -عز وجل- قد قال أيضًا: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (1)، وقد أجمعوا على أنها لو تركت بنتها وأخاها لأبيها كان للابنة النصف، وما بقي فللأخ؛ فإن معنى قوله -عز وجل-: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (1) إنما هو على ولد يحوز كل الميراث لا على الولد الذي لا يحوز كل الميراث، فالنظر على ذلك أيضًا أن يكون قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1) هو على الولد الذي يحوز جميع الميراث لا على الولد الذي لا يحوز جميع الميراث. ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1)، بيان احتجاجهم بهذه الآية الكريمة أن الله تعالى ورث الأخت إذا لم يكن للهالك ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [176].

ولد، وفيما نحن فيه الهالك له بنت، فلا ترث أخته لوجود البنت، وإنما ترث عَصَبته، وشرط توريث الأخت فقدان الولد، والولد يشمل الذكور والإناث. وبيان الجواب أن يقال: إن المراد من قوله: {لَيسَ لَهُ وَلَدٌ} أي ليس له أبناء، فإن المراد بالولد الذكور دون الإناث. وقال الخطابي: وجه ما ذهب إليه الصحابة من الكتاب مع بيان السنة التي رواها ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن الولد المذكور في الآية إنما هو الذكور من الأولاد دون الإناث، وهو الذي يسبق إلى الأفهام ويقع في المعارف عندما يقرع السمع، فقيل: ولد فلان، وإن كان الإناث أيضًا في الحقيقة كالذكور، يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى حكاية عن بعض الكفار: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (¬1)، وقوله: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} (¬2) و {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬3) فكان معلومًا أن المراد بالولد في هذه الآي كلها الذكور دون الإناث، إذ كان مشهورًا من مذاهب القوم أنهم لا يكترثون بالبنات ولا يرون فيهم موضع نفع وعز، وكان من مذاهبهم وَأْدهن ودفنهن أحياء والتعفية لآثارهن، وجرى التخصيص في هذا الاسم كما يجري ذلك في اسم المال إذا أطلق الكلام فإنما يختص عرفًا بالإبل دون سائر أنواع المال، ومشهور في كلامهم أن يقال غدا مال فلان وراح، يريدون سارحة الإبل والمواشي دون ما سواها من أصناف الأموال. وإذا ثبت أن المراد بالولد الذكور في قوله سبحانه: {لَيسَ لَهُ وَلَدٌ} (¬4) الذكور من الأولاد دون الإناث، لم يمنع الأخوات الميراث مع البنات؟ ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية: [77]. (¬2) سورة الممتحنة، آية: [3]. (¬3) سورة التغابن، آية: [15]. (¬4) سورة النساء، آية: [176].

فإن قيل: قد قال ابن حزم: والعجب من تجاهر بعض القائلين هاهنا: إنه إنما عنى ولدًا ذكرًا، وهذا إقدام على الله بالباطل وقولٌ عليه بما لا يعلم، بل ما يعلم أنه باطل، وليت شعري أي فرق بين قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} (¬1) وبين قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (¬2)، وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (2)، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬3). فلم يختلفوا في جميع هذه الآيات في أن الولد سواء كان ذكرًا أو أنثى، أو ولد الولد كذلك، فالحكم واحد، ثم بدا لهم في ميراث الأخت أن الولد إنما أريد به الذكر. قلت: ابن حزم قد حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء ولم يقل أحد أن الولد لا يطلق إلا على الذكور خاصة، وإنما يطلق على الذكور والإناث كما في الآيات التي ذكرها ابن حزم، ولكن قد يخص ويقيد في بعض المواضع بالذكور، بدليل يقوم عليه كما في الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (1) وقد قام الدليل هاهنا أن المراد بالولد هاهنا الذكور خاصة، وهو شيئان: الأول: نسق التلاوة في قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَآ} (1) يعني الأخ يرث الأخت إن لم يكن لها ولد، ومعناه ولدٌ ذكر عند الجميع إذ لا خلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - أنها إذا تركت ولدًا أنثى وأخًا أن للبنت النصف والباقي للأخ، والولد المذكور هاهنا هو المذكور بذا في أول الآية، وأيضًا قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (3) معناه عند الجميع ولد ذكر؛ لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء أنه لو ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [176]. (¬2) سورة النساء، آية: [12]. (¬3) سورة النساء، آية: [11].

ترك ابنةً من أبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي للأب؛ فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس فدل قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (¬1) على أنه ولد ذكر، وكذلك لو ترك أبا وابنةً كان للبنت النصف، وللأب النصف، فقد أخذ في هاتين المسألتين أكثر من السدس مع الولد. الثاني: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه بين أن المراد من الولد في قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (¬2) أي ولد ذكر، وليس هذا من قبيل البيان؛ لأن الآية ليست مجملة، بل هو من قبيل التخصيص والتقييد. فإن قلت: تقييد الكتاب بخبر الواحد نسخ وذا لا يجوز. قلت: هذا خبر قد تلقته الأمة بالقبول فلحق بالمشهور، فافهم. فإن قيل: الوجه الأول فيه نظر؛ لأن الذكور في الموضعين شرطان كل واحد منهما ذكر في حادثة على حدة، فبقيام الدليل على أن المراد من أحدهما الذكر لا يتبين أن المراد من الثاني الذكر. قلت: بل هما شرط واحد، بيانه أنه ذكر أولًا كون الأخ هو الميت فجعل للأخت النصف، ثم قلب القضية فجعل الأخت ميتة والأخ هو الوارث فجعل له جميع المال، فتبين أن الشرط واحد وهو عدم الولد، ثم إن المراد في أحد الموضوعين الذكر دون الأنثى، فكذا في الموضع الآخر، ولئن سلمنا أن المراد مطلق الولد ولكن عدم الولد شرط أخذ الأخت النصف والأختين الثلثين فرضًا، وبه نقول؛ لأنا لا نورثهن مع البنت فرضًا، بل تعصيبًا، حتى لو لم يبق لهن شيء بعد فرض دون الفروض لم يكن لهن شيء، كما إذا تركت زوجًا، وأمًّا، وبنتين، وأختًا لأب، وأم، أو لأب؛ لأن المسألة عالت إلى ثلاثة عشر؛ فافهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [11]. (¬2) سورة النساء، آية: [176].

ص: وأما ما احتجوا به من مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك، فإنه قد خالفه فيه سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواه، فمما روي عنهم في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عقيل، أنه سمع ابن شهاب يخبر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زيد بن ثابت: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قسم الميراث بين الابنة والأخت نصفين". حدثنا علي بن زيد الفرائضي، قال: ثنا عَبْدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: أنا يزيد بن أبي حبيب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قسم المال شطرين بين الابنة والأخت". حدثنا علي، قال: ثنا عَبْدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، عن علي وعبد الله - رضي الله عنه -: "في ابنة وأخت: للابنة النصف وللأخت النصف. وقال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك إلا ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم -. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون وأبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله: "في ابنة وأخت وجد، قال: من أربعة". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، قال: سمعت الأسود بن يزيد يقول: "قضى فينا معاذ - رضي الله عنه - باليمن في رجل ترك ابنته وأخته، فأعطى الابنة النصف، وأعطى الأخت النصف" قال شعبة: وأخبرني الأعمش، قال: سمعت إبراهيم يحدث، عن الأسود قال: "قضى فينا معاذ باليمن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ. . . ." فذكر مثله. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد قال: "قضى ابن الزبير - رضي الله عنهما - في ابنة وأخت، فأعطى الابنة النصف وأعطى العَصَبة سائر المال، فقلت له: إن معاذ - رضي الله عنه - قضى فينا باليمن، فأعطى الابنة النصف وأعطى الأخت النصف، فقال عبد الله

ابن الزبير: فأنت رسول إلى عبد الله بن عتبة فتحدثه بهذا الحديث، وكان قاضي أهل الكوفة". فهذا عبد الله بن الزبير قد رجع عن قوله الذي وافق فيه ابن عباس - رضي الله عنهم - في هذا إلى قول الآخرين. حدثنا صالح بن عبد الرحمن صروح بن الفرج، قالا: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد قال: "قدم معاذ - رضي الله عنه - إلى اليمن، فسئل عن ابنة وأخت، فأعطى الابنة النصف، والأخت النصف". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن معبد بن خالد، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - في ابنتين وبنات ابن وبني ابن، وفي أختين لأب وأم، وإخوة وأخوات لأب، أنها أشركت بين بنات الابن وبني الابن، وبين الأخوة والأخوات من الأب فيما بقي. قال: وكان عبد الله لا يشرك بينهم". ش: هذا جواب ما احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من مذهب ابن عباس، بيانه أن يقال إن ابن عباس - رضي الله عنهما - وإن كان روى غير ما احتجوا به، فقد خالفه سائر أصحاب رسول الله -عليه السلام-، ذكر منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهم -. أما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأخرج عنه من طريقين. الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن زيد بن ثابت الأنصاري الصحابي، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -.

الثاني: عن علي بن زيد الفرائضي نزيل طرسوس، عن عبدة بن سليمان المروزي نزيل المصيصة، عن عبد الله بن المبارك المروزي، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا زيد بن حباب، قال: حدثني يحيى ابن أيوب المصري، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن أبي سلمة: "أن عمر - رضي الله عنه - جعل المال بين الابنة والأخت نصفين". فإن قيل: الطريق الأول معلول بابن لهيعة، والطريق الثاني منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قلت: كل واحدة من الطريقين تأيدت بالأخرى، والأولى بَيَّنَت أن بين أبي سلمة وعمر بن الخطاب زيد بن ثابت الأنصاري، وأبو سلمة سمع منه، على أن هذا من التوابع للروايات الأخرى. وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأخرج عنه، عن علي بن زيد الفرائضي أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن إسرائيل بن يونس، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن علي بن أبي طالب. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: "كان علي وابن مسعود ومعاذ - رضي الله عنهم - يقولون في ابنة وأخت: النصف والنصف، وهو قول أصحاب محمد -عليه السلام- إلا ابن الزبير وابن عباس - رضي الله عنهم -". وأما عبد الله بن مسعود فأخرج عنه بطريق صحيح، عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، وأبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، كلاهما عن سفيان ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 242 رقم 31072). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 243 رقم 31075).

الثوري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة (¬1): عن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله: "في أخت وجدٍّ: النصف والنصف". وأخرج أيضًا (¬2): عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله: "أنه قال في ابنة وأخت وجدٍّ: أعطى الابنة النصف، وجعل ما بقي بين الجد والأخت له نصف، ولها نصف". قلت: هذا تفسير لما في رواية الطحاوي من قوله: "من أربعة" وهو أن الصورة المذكورة يقسم الميراث بها من أربعة أسهم سهمان وهو النصف للبنت، والباقي -وهو سهمان- بين الأخت والجدِّ، لكل واحد منهما سهم. وأما معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فأخرج عنه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم المحاربي الكوفي، عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث أبي داود، عن شعبة، عن الأشعث ابن أبي الشعثاء، سمعت الأسود بن يزيد يقول: "قضى فينا معاذ - رضي الله عنه - باليمن في رجل ترك ابنته وأخته، فأعطى الابنة النصف، والأخت النصف". قال أبو داود: قال شعبة: وأخبرني الأعمش، سمعت إبراهيم يحدث، عن الأسود قال: "قضى فينا معاذ - رضي الله عنه - باليمن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ في رجل ترك ابنته وأخته، فأعطى الابنة النصف والأخت النصف". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 261 رقم 31231). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 264 رقم 31248). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 233 رقم 12111).

قال والأول أصح وهو رواية غندر. وأخرجه البخاري (¬1): من حديث شيبان، عن أشعث موقوفا. الثاني: عن ابن مرزوق، عن أبي داود سليمان الطيالسي، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن معاذ - رضي الله عنه -. الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن وروح بن الفرج القطان المصري، كلاهما عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سُليم الكوفي، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد قال: "قضى معاذ - رضي الله عنه - باليمن في ابنة، وأخت لأب وأم: للأخت النصف، وللابنة النصف". وأما عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فأخرج عنه من طريق صحيح، عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد قال: "قضى عبد الله بن الزبير. . . .". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث الثوري، عن أشعث. . . . إلى آخره نحوه، وفي آخره: "وكان قاضيًا على الكوفة". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن الأسود قال: "كان ابن الزبير - رضي الله عنهما - لا يعطي للأخت مع الابنة شيئًا، حتى حدثته أن معاذًا - رضي الله عنه - قضى باليمن في ابنة وأخت لأب وأم: للابنة النصف وللأخت النصف، فقال: أنت رسولي إلى ابن عتبة، فَمُرْهُ بذلك". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (6/ 2477 رقم 6353). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 242 رقم 31068). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 233 رقم 12112). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 242 رقم 31070).

وهذا يدل على أن ابن الزبير - رضي الله عنهما - قد رجع عن قوله الذي يوافق قول ابن عباس في منع الأخت من الميراث مع البنت إلى أقوال سائر الصحابة - رضي الله عنهم -. وأشار إليه بقوله: "فهذا عبد الله بن الزبير قد رجع عن قوله الذي وافق فيه ابن عباس - رضي الله عنه - في هذا إلى قول الآخرين" أي إلى قول الجماعة الآخرين من الصحابة - رضي الله عنهم -. وعبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي هو ابن أخي عبد الله بن مسعود، أدرك زمان النبي -عليه السلام-، وهو والد عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان قاضيًا على الكوفة لابن الزبير - رضي الله عنهم -. وأما عائشة - رضي الله عنها - فأخرج عنها من طريق صحيح، عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سفيان الثوري، عن معبد بن خالد الجدلي القيسي، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن معبد بن خالد، عن مسروق، عن ابن مسعود: "أنه كان يجعل للأخوات والبنات الثلثين، وجعل ما بقي للذكور دون الإناث، وأن عائشة - رضي الله عنها - أشركت بينهم، فجعلت ما بقي بعد الثلثين للذكر مثل حظ الأنثيين". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الثوري، عن معبد بن خالد، عن مسروق، عن عائشة: "في ابنتين، وبنات ابن، وبني ابن، وأختين لأبوين، وإخوة وأخوات لأب: أنها أشركت بين بنات الابن وبني الابن، وبين الإخوة والأخوات لأب فيما بقي -يعني للذكر مثل حظ الأنثيين- قال: وكان عبد الله لا يشرك بينهم، يجعل ما بقي للذكور". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 243 رقم 31079). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 230 رقم 12094).

ص: وقد قال قوم في بنت وعَصَبَة: إن للابنة جميع المال، ولا شيء للعصبة، فكفى بهم جهلًا في تركهم قول كل الفقهاء إلى قول لم نعلم أن أحدًا قال به قبلهم من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ولا مِن تابعيهم، مع أن ما ذهبوا إليه من ذلك يدفعه نص القرآن؛ لأن الله -عز وجل- قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1). فبين الله -عز وجل- لنا بذلك كيف حكم الأولاد في المواريث إذا كانوا ذكورًا وإناثًا. ثم قال -عز وجل-: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (1) فبين لنا تبارك وتعاك حكم الأولاد إذا كانوا نساء. ثم قال -عز وجل-: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (1) فبين لنا ميراث الابنة الواحدة. فلما بيَّن لنا مواريث الأولاد على هذه الجهات؛ علمنا بذلك أن حكم ميراث الواحدة لا يخرج عن هذه الجهات الثلاث، واستحال أن يسمي الله -عز وجل- للابنة النصف وللبنات الثلثين ولهن أكثر من ذلك إلا لمعنى آخر بينه في كتابه أو على لسان رسوله -عليه السلام-، كما أبان في مواريث ذوي الأرحام. ولو كانت الابنة ترث المال كله دون العصبة لما كان لذكر الله -عز وجل- النصف معنى، ولأهمل أمرها كما أهمل أمر الابن، فلما بيَّن لها ما ذكرنا كان توقيفًا منه -عز وجل- إيانا على أن ما سمى لها من ذلك هو سهمها كما كان ما سمى للأخوات من قبل الأم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬2). فكان ما بقي بعد ما سمى لهن للعَصَبَة وكذلك ما سمي للزوج والمرأة فما بقي ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [11]. (¬2) سورة النساء، آية: [12].

بعد الذي سمى لهما للعَصَبَة فكذلك البنت ما بقي بعد الذي سمى لها للعَصَبَة. هذا دليل قائم صحيح في هذه الآية، ثم رجعنا إلى قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} (¬1) فلم يبين لنا هاهنا مَن ذلك الولد؟ فدلنا ما تقدم من قوله في الآية التي ذكرنا التي وقفنا فيها على أنصباء الأولاد؛ أن ذلك الولد هو بخلاف الولد الذي سمي له الفرض في الآية الأخرى. ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا أيضًا ما حدثنا يونس بن عبد الأعلى وبحر بن نصر، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني داود بن قيس، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله: "أن امرأة سعد بن الربيع أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن سعدًا قُتل معك وترك ابنتيه وأخاه فأخذ أخوه ماله، وإنما تتزوج النساء لما لهن، فدعاه رسول الله -عليه السلام- فقال: أعط امرأته الثُمن، وابنتيه الثلثين، ولك ما بقي". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، عن النبي -عليه السلام- مثله. فقد وافق هذا أيضًا ما ذكرنا، وبهذا كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمدٌ -رحمهم الله- يقولون به، وبه يقول أيضًا أكثر الفقهاء. ش: أراد بالقوم هؤلاء [. .] (¬2) فإنهم قالوا: إذا مات رجل وخلف بنته وعَصَبَة، المال كله للبنت دون العصبة. وهذا مذهب فاسد، وقد بيَّن فساده بقوله: يكفي بهم جهلًا. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: "ثم رجعنا إلى قوله -عز وجل-: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ} (1). . . . إلى آخره". أشار بهذا الكلام إلى بيان الفرق بين الولد المذكور في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [176]. (¬2) بيض له المؤلف -رحمه الله-.

{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} وبين الولد المذكور في قوله -عز وجل-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1)؛ وذلك لأن توقيف الله تعالى إيانا في هذه الآية على أنصباء الأولاد يدل على أن الولد المذكور في قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} هو الولد الذكور خاصةً دون الإناث؛ لأنه بيَّن في تلك الآية أنصباء الأولاد الذكور والإناث بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (1). ثم إذا قلنا: إن المراد من الولد في الآية الأخرى الذكور والإناث جميعًا؛ للزم أن تكون أنصباء الأولاد الذكور والإناث قد بينت على نوعين مختلفين وليس كذلك. فدل أن المراد من الولد في قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} (¬2) الذكور دون الإناث؛ فافهم. والله أعلم. قوله: "ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا .. إلى آخره". ذكره تأكيدًا لصحة ما بينه من بطلان المذهب المذكور، ولصحة ما ذهب إليه الجمهور من توريث العصبة مع البنت. ثم إنه أخرج حديث جابر - رضي الله عنه - من طريقين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري وبحر بن نصر بن سابق الخولاني، كلاهما عن عبد الله بن وهب، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن عبد الله بن محمد عقيل بن أبي طالب القرشي -فيه مقال- عن جابر بن عبد الله. وأخرجه أبو داود (¬3): ثنا ابن السرح، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن قيس وغيره من أهل العلم، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدًا هلك وترك ابنتين. . . . الحديث" نحوه. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [11]. (¬2) سورة النساء، آية: [176]. (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 121 رقم 2892).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا عبد بن حميد، قال: أخبرني زكرياء بن عدي، أنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحُد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية المواريث، فبعث رسول الله -عليه السلام- إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك". قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وقد رواه شريك أيضًا عن عبد الله بن محمد بن عقيل". قوله: "إن امرأة سعد". هو سعد بن الربيع بن عمرو الأنصاري قتل يوم أحد شهيدًا، وامرأته النوار بنت مالك بن مخرمة من بني عدي بن النجار، وهي أم زيد بن ثابت الأنصاري، وذكر في بعض كتب الفرائض وشروحها: "أن امرأة سعد بن الربيع لما استشهد يوم بدر، وفي شرح جواهر زاده: "يوم أحد" وهو الأصح على ما نصَّ عليه الترمذي في روايته. وقيل: كان هذا أول ميراث قسم في الإسلام. قوله: "وبهذا كان أبو حنيفة". أي بما ذكرنا من قول أهل المقالة الثانية أخذ أبو حنيفة. . . . إلى آخره. وهو قول جماهير العلماء من التابعين ومَن بعدهم والله أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 414 رقم 2092).

ص: باب مواريث ذوي الأرحام

ص: باب مواريث ذوي الأرحام ش: أي هذا باب في مواريث ذوي الأرحام، والمواريث جمع ميراث، والأرحام جمع رحم وهو خلاف الأجنبي، وهو في الأصل منبت الرجل، ثم سميت القرابة والوصلة من جهة الولادة رحمًا لهذا. وفي الشريعة عبارة عن كل قريب ليس بذي سهم ولا عَصَبَة، وقال ابن الأثير في "النهاية": ذو الرحم: الأقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب، ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: "أن رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، رجل هلك وترك عمته وخالته، فسأل النبي -عليه السلام- وهو واقف على حماره، فوقف ثم رفع يديه وقال: اللهم مات رجل وترك عمته وخالته فيسأله الرجل ويفعل النبي -عليه السلام- ذلك -ثلاث مرات- ثم قال: لا شيء لهما". حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني حفص بن ميسرة وهشام بن سعد وعبد الرحمن بن زيد، عن زيد بن أسلم: "أن رسول الله -عليه السلام- دعي إلى جنازة من الأنصار، حتى إذا جاءها قال لهم رسول الله -عليه السلام-: ما ترك؟ قالوا: ترك عمته وخالته، ثم تقدم فقال: قفوا الحمار، فوقف فقال: اللهم رجل ترك عمته وخالته فلم ينزل عليه شيء، فقال رسول الله -عليه السلام-: لا أجد لهما شيئًا". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم ومحمد بن عبد الرحمن بن المجبرَّ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: "أتى رجل من أهل العالية رسول الله -عليه السلام-، فقال:

يا رسول الله، إن رجلًا هلك وترك عمته وخالته، فانطلق يقسم ميراثه، فتبعه رسول الله -عليه السلام- على حمار، فقال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم سار هنيَّة ثم قال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم سار هنيَّة، ثم قال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم قال: لا أرى ينزل عليَّ شيء؛ لا شيء لهما". ش: هذه ثلاث طرق منقطعة: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره، ورجاله ثقات. وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬1): نا عبد الله بن مسلمة، نا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن زيد بن أسلم، عن عطاء: "أن رسول الله -عليه السلام- ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما". الثاني: عن بحر بن نصر. . . . إلى آخره. وعبد الرحمن بن زيد هو ابن زيد بن أسلم، ضعفه جماعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: "دعي رسول الله -عليه السلام- إلى جنازة رجل من الأنصار، فجاء على حمار فقال: ما ترك؟ قالوا: ترك عمةً وخالةً، قال رسول الله -عليه السلام-: رجل مات وترك عمةً وخالةً، ثم سار، ثم قال: رجل مات وترك عمةً وخالةً، ثم قال: لم أجد لهما شيئًا". الثالث: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره. ومحمد بن مطرف -ويقال: ابن طريف، ومطرف أصح- أبو غسان الليثي المدني روى له الجماعة. ومحمد بن عبد الرحمن بن المجبر -بالجيم والباء الموحدة- فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به. ¬

_ (¬1) "المراسيل لأبي داود" (1/ 263 رقم 361). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 249 رقم 31123).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث محمد بن مطرف .. إلى آخره نحوه. قوله: من "أهل العالية". قد ذكرنا غير مرة أن العالية أماكن بأعلى أرض المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وتجمع على عوالي. قوله: "هنية" أي قليلًا من الزمان، وهو تصغير هنة، ويقال له: هنيهة أيضًا. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا مات وترك ذا رحم ليس بعَصَبَة ولم يترك عَصَبَةً غيره أنه لا يرث من ماله شيئًا. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب، ومكحولًا، والأوزاعي، ومالكًا، والشافعي، وأهل المدينة، وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا ميراث لذوي الأرحام، فمن مات ولم يخلف وارثًا ذا فرض أو عَصَبَة فماله لبيت المال، إلا أن أصحاب الشافعي يفتون اليوم بتوريث ذوي الأرحام على قول أهل التنزيل لفساد بيت المال، ونقلوا مذهبهم ذلك عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: يرث ذو الرحم إذا لم يكن عصبة بالرحم التي بينه وبين الميت، كما يورث بالرحم التي يُدْلي بها، فيكون للعمة الثلثان، وللخالة الثلث؛ لأنها تدلي برحم الأم. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي، والنخعي وشريحًا القاضي، ومسروق بن الأجدع، وعلقمة بن الأسود، وطاوسًا، والثوري، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ويحيى بن آدم، وضرار بن صرد، ونوح بن دراج، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه؛ فإنهم قالوا بتوريث ذوي الأرحام، وهو قول عامة الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس في أشهر الروايتين، ومعاذ بن ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 212 رقم 11983).

جبل، وأبو الدرداء، وأبو عبيدة بن الجراح، وحكى القاضي أبو خازم أنه مذهب الخلفاء الأربعة. ثم اعلم أن القائلين بتوريث ذوي الأرحام ثلاث فرق: الأولى: يسمون أهل القرابة وهم: أبو حنيفة وصاحباه، وزفر، وعيسى بن أبان؛ وسموا بذلك؛ لأنهم يقدمون الأقرب فالأقرب، والأقوى فالأقوى. الثانية: يسمون أهل التنزيل وهم: الشعبي، ومسروق، والنخعي، ونعيم ابن حماد، وأبو نعيم، وابن أبي ليلى، ومحمد بن سالم، والثوري، وضرار بن صرد، ويحيى بن آدم، والحسن بن زياد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وشريك؛ وسموا بذلك لأنهم ينزلون المدلى منزلة المدلى به في الاستحقاق، وهو مذهب علي وابن مسعود أيضًا. الثالثة: يسمون أهل الرحم، منهم: نوح بن دراج؛ سموا بذلك لأنهم سووا بين القريب والبعيد، والذكر والأنثى؛ فورثوا بالرحم وعلقوه بأصل الرحم. قوله: "فيكون للعمة الثلثان وللخالة الثلث". مذهب أهل التنزيل؛ فإنهم رووا عن علي وعبد الله بن مسعود في عمة وخالة: أن المال بينهما أثلاثًا: ثلثاه للعمة وثلثه للخالة، إقامةً لهما مقام من يدليان به. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث الذي احتج به عليهم مخالفهم حديث منقطع، ومن مذهب هذا المخالف لهم أن لا يحتج بالمنقطع، فكيف يحتج عليهم بما لو احتجوا به عليهم لم يسوغُهم إياه؟!. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، وأراد بها الجواب عن الحديث المذكور الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه أن يقال: إن هذا الحديث منقطع؛ لأنه رواية عطاء بن يسار عن النبي -عليه السلام-، وهؤلاء المخالفون لا يحتجون بالمنقطع لأنفسهم، فكيف يحتجون هاهنا على حجتهم بما لو احتج به هؤلاء عليهم لما سوغوه ذلك؟!

فإن قيل: قد أخرجه الحاكم موصولًا (¬1) وقال: أنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التميمي، ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، نا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله -عليه السلام- ركب حمارًا إلى قباء فقال: أستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأوحى الله إليه أن لا ميراث لهما". قلت: ذكر هذا البيهقي في "الخلافيات" وقال: والصحيح أن الحديث مرسل، وسكت عن ضرار بن صرد وهو متروك الحديث، كذا قال النسائي، وكان ابن معين يكذبه، ثم وإن سلمنا اتصاله وصحته، فمعناه ما ذكره عبد الحق في "أحكامه" بعد ذكر هذا الحديث فقال: قال أبو داود: معناه لا سهم لهما، ولكنهم يورثون للرحم. فإن قيل: قد روى الدارقطني في "سننه" (¬2): ثنا إسماعيل بن علي الحطني، ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري، ثنا الربيع بن ثعلب، نا مسعدة بن اليسع الباهلي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن ميراث العمة والخالة، فقال: لا أدري حتى يأتيني جبريل -عليه السلام-، ثم قال: أين السائل عن ميراث العمة والخالة؟ قال: فأتى الرجل، فقال: سارني جبريل -عليه السلام- أنه لا شيء لهما". قلت: قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. فإن قيل: روي البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث شريك بن أبي نمر، أخبرني الحارث بن عبد: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن ميراث العمة والخالة فسكت، فنزل عليه جبريل -عليه السلام-، فقال: حدثني جبريل -عليه السلام- أن لا ميراث لهما". ¬

_ (¬1) "المستدرك على الصحيحين" (4/ 381 رقم 7998). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 99 رقم 98). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 212 رقم 11984).

قلت: قد اختلف في هذا الحديث. فرواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن شريك، عن النبي -عليه السلام-. . . . الحديث من غير ذكر الحارث بن عبد. وكذا ذكره الدارقطني في "سننه" (¬2). ثم إن الحارث هذا لا يعرف حاله ولا له ذكر في شيء من الكتب التي بأيدي الناس سوى "المستدرك" للحاكم؛ فإنه مذكور فيه في هذا الحديث مستشهدًا به، وابن أبي نمر فيه كلام كثير. ص: ثم لو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه أيضًا عندنا حجة في دفع مواريث ذوي الأرحام؛ لأنه قد يجوز "لا شيء لهما" أي لا فرض لهما مسمى كما لغيرهما من النسوة اللاتي يرثن، كالبنات والأخوات والجدات، فلم ينزل عليه شيء، فقال: "لا شيء" على هذا المعنى، ويحتمل أيضًا "لا شيء لهما" لا ميراث لهما أصلًا؛ لأنه لم يكن نزل عليه حينئذٍ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬3)، فلما نزل ذلك جعل لهما الميراث، فإنه قد روي عنه في مثل هذا أيضًا ما حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال: "توفي ثابت بن الدحداح وكان أَتِيًّا وهو الذي ليس له أصل يعرف، فقال: رسول الله -عليه السلام- لعاصم بن عدي - رضي الله عنه -: هل تعرفون له منكم نسبا؟ قال: لا يا رسول الله، فدعى رسول الله -عليه السلام- أبا لبابة بن عبد المنذر ابن أخته، فأعطاه ميراثه". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد ورَّت أبا لبابة بن ثابت برحمه التي بينه وبينه، فثبت ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 249 رقم 31125). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 99 رقم 99). (¬3) سورة الأحزاب، آية: [6].

بذلك مواريث ذوي الأرحام، ودلَّ سؤال رسول الله -عليه السلام- ربه -عز وجل- في حديث عطاء بن يسار عن العمة والخالة هل لهما ميراث أم لا؟ أنه لم يكن نزل عليه في ذلك فيما تقدم شيء، فثبت بما ذكرنا تأخر حديث واسع هذا عن حديث عطاء بن يسار؛ فصار ناسخًا له. فإن قلتم: إن حديث واسع هذا منقطع. قيل لكم: وحديث عطاء بن يسار منقطع أيضًا، فمن جعلكم أولى بتثبيت المنقطع فيما يوافقكم، من مخالفكم فيما يوافقه. ش: هذا جواب بطريق التسليم، وهو على وجهين: الأول: أن هذا لا يدل على منع ذوي الأرحام من الميراث، لأن معنى قوله: "لا شيء لهما" يحتمل أن يكون لا فرض لهما، فسمى مقدرًا كما كان لغيرهما من النساء الوارثات كالبنات والأخوات والجدات، ولم يكن نزل على النبي -عليه السلام- شيء في ذلك إلى هذا الوقت، فلذلك قال: "لا شيء لهما" على المعنى المذكور. الثاني: يحتمل أن يكون معناه: لا ميراث لهما أصلًا؛ لأنه لم يكن نزل عليه شيء في ذلك، فلما نزل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬1) جعل -عليه السلام- لهما الميراث، والدليل على ذلك، أنه روي عن النبي -عليه السلام- في توريث ذوي الأرحام، وهو حديث واسع بن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة. أخرجه بإسناد رجاله ثقات. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال: "هلك ابن دحداحة وكان ذا رأي فيهم، فدعى رسول الله -عليه السلام- عاصم بن عدي ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [6]. (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31132).

فقال: هل كان له فيكم نسبٌ؟ قال: لا، قال: فأعطى رسول الله -عليه السلام- ميراثه ابن أخته أبا لبابة بن عبد المنذر". وقال أيضًا (¬1): حدثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال: "كان ثابت بن الدحداح رجلًا أَتِيًّا -يعني طارئًا- وكان في بني أنيف أو بني العجلان، فمات ولم يدع وارثًا إلا ابن أخته أبا لبابة بن عبد المنذر، فأعطاه النبي -عليه السلام- ميراثه". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث الثوري، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن واسع بن حبان: "أن ثابت بن الدحداح -وكان رجلًا أَتِيًّا في بني أنيف أو في بني العجلان- مات فسأل النبي -عليه السلام-: هل له وارث؟ فلم يجدوا له وارثًا، فدفع ميراثه إلى ابن أخته وهو أبو لبابة بن عبد المنذر". قوله: "توفي ثابت بن الدحداح" وقيل: الدحداحة بن نعيم، يكنى أبا الدحداح، ويقال: أبا الدحداحة. قوله: "وكان أتِيًّا" بفتح الهمزة وكسر التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف، ومعناه كان غريبًا يقال: رجل أَتِيّ وأتاوي، وقد فسره في الحديث بقوله: "وهو الذي ليس له أصل يعرف". قوله: "لعاصم بن عدي" هو عاصم بن عدي بن الجد بن عجلان العجلاني. قوله: "أبا لبابة". بضم اللام وبالباءين الموحدتين، وهو أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري المدني، قال الزهري: وخليفة بن خياط: اسمه بشير بن عبد المنذر. قوله: "فإن قلتم: إن حديث واسع هذا منقطع. . . . إلى آخره". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31134). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 215 رقم 11997).

سؤال من جهة المخالفين الذين يحرمون ذوي الأرحام عن الميراث، وهو وجوابه ظاهران، وحاصله: إنه مرسل صحيح يقتضي الاحتجاج به. وقال البيهقي: أجاب الشافعي عنه في القديم فقال: ثابت قتل يوم أحد قبل أن تنزل الفرائض، ثم روى من حديث شعيب، عن الزهري، عن ابن المسيب في قصة ذكرها قال: "فلم يلبث ابن الدحداحة إلا يسيرًا حتى جاءه كفار قريش يوم أحد، فخرج مع النبي -عليه السلام- فقاتلهم، فقتل شهيدًا". ثم قال: قال الشافعي: نزلت الفرائض فيما بينت أصحابنا في بنات محمود بن مسلمة قتل يوم خيبر. وقيل: نزلت بعد أحد في بنات سعد بن الربيع. وهذا كله بعد أمر ثابت بن الدحداحة. قلت: ذكر صاحب "الاستيعاب" عن الواقدي قال: وبعض أصحابنا الرواة للعلم يقولون: إن ابن الدحداحة برئ من جراحاته ومات على فراشه من جرح أصابه، ثم انتقص به مرجع النبي -عليه السلام- من الحديبية. وشهد لهذا القول ما أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2) والنسائي (¬3) والترمذي (¬4) عن جابر بن سمرة قال: "أتي النبي -عليه السلام- بفرس معرورًا فركبه حتى انصرف من جنازة ابن الدحداح، ونحن حوله". وقال ابن الجوزي في "الكشف لمشكل الصحيحين": اختلفت الرواة في موته، فقال بعضهم: قتل يوم أحد في المعركة، وقال آخرون: بل جرح وبرئ ومات على فراشه مرجع رسول الله -عليه السلام- من الحديبية. وهذا أصح؛ لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 664 رقم 965). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 205 رقم 3178). (¬3) "المجتبى" (4/ 85 رقم 2026). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 334 رقم 1013).

وأما ما نقله عن الشافعي أن آية الفرائض نزلت في بنات محمود بن مسلمة فليس هذا معروف ولا ذكره أحد في كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول، وإنما المذكور فيها أنها نزلت في جابر أو ابنتي سعد بن الربيع. وفي "الصحيحين" (¬1) في حديث جابر فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬2). ص: وقد روي مثل هذا عن رسول الله -عليه السلام- في آثار متصلة الأسانيد منها: ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان (ح). وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم ابن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف: "أن رجلًا رمى رجلًا بسهمٍ فقتله وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله -عليه السلام- قال: الله ورسوله مولى مَن لا مَولى له، والخال وارث مَن لا وارث له". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الخال وارث مَن لا وارث له". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم. . . . فذكر بإسناده مثله، ولم يرفعه. حدثنا أبو يحيى عبد الله بن أحمد بن زكرياء بن الحارث بن أبي ميسرة المكي، قال: ثنا أبي، قال: حدثني هشام بن سليمان، عن ابن جريج. . . . فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4/ 1669 رقم 4301)، و"صحيح مسلم" (3/ 1234 رقم 1616). (¬2) سورة النساء، آية: [11].

قال أبو يحيى: أراه قد رفعه. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال بديل بن مسرة العقيلي: أخبرني علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام بن معدي كرب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك كلًّا فعليَّ -قال شعبة: وربما قال: فإليَّ- ومَن ترك مالًا فلورثته، وأنا وارث مَن لا وارث له، أَعقل عنه وأرثه، والخال وارث مَن لا وارث له، يعقل عنه ويرثه". حدثنا ابن أبي مسرة، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن بديل. . . . فذكر بإسناده مثله، إلا أنه قال: "فإليَّ، أرث ماله وأفك عانه، والخال وارث مَن لا وارث له، يرث ماله ويفك عانه". حدثنا ابن أبي مسرة، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني راشد بن سعد، أنه سمع المقدام بن معدي كرب يحدث عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، يرث ماله ويفك عُنُوَّه، والخال وارث مَن لا وارث له يرث ماله ويفك عُنُوَّه". فهذه آثار متصلة تواترت عن رسول الله -عليه السلام- بما يوافق ما روى الواسع بن حبان وتخالف ما روى عطاء بن يسار، وقد شد ذلك كله وثبته قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). ش: أي وقد روي مثل حديث واسع بن حبان عن رسول الله -عليه السلام- في أحاديث متصلة الإسناد في توريث ذوي الأرحام، ولما كان حديث واسع بن ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [6].

حبان منقطعًا لا يراه الخصم حجةً؛ أورد أحاديث متصلة الإسناد في تورثة ذوي الأرحام، ليقطع بها شغب المخالف، وأخرجها عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين والمقدام بن معدي كرب. أما حديث عمر - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -هو إسحاق بن راهويه شيخ الجماعة غير ابن ماجه- عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن أبي ربيعة -واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف بن واهب الأنصاري المدني، عن ابن عم أبيه أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري. وأخرجه النسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن ماجه (¬2): أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد كلاهما عن وكيع، عن سفيان. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3). الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه الترمذي (¬4): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف قال: "كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 76 رقم 6351). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 914 رقم 2737). (¬3) "صحيح ابن حبان" (13/ 400 رقم 6037). (¬4) "جامع الترمذي" (4/ 421 رقم 2103).

إلى أبي عبيدة: أن رسول الله -عليه السلام- قال: الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث قبيصة، ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف بن أبي أمامة بن سهل قال: "كتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي عبيدة - رضي الله عنه -: أن علِّموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. قال: وكانوا يختلفون بين الأغراض، فجاء سهم غَربٌ فأصاب غلامًا فقتله في حجر خال له لا يُعلم له أصل، قال: فكتب أبو عبيدة إلى عمر - رضي الله عنه - يسأله إلى من يدفع عقله؟ قال: فكتب إليه عمر: أن رسول الله -عليه السلام- كان يقول: الله ورسوله مولى مَن لا مَولى له، والخال وارث مَن لا وارث له" انتهى. ولفظة "المولى" تقع على معاني كثيرة: بمعنى الرب، والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيلة، والصهر، والولي، والعبد، والمُعتَق، والمنعَم عليه، وأكثرها قد جاء في الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، فالمولى هاهنا في حق الله تعالى، بمعنى الرب والمالك والسيد وفي حق النبي -عليه السلام- بمعنى الولي على معنى أنه -عليه السلام- ولي مَن لا ولي له، يرثه ويعقل عنه. فإن قيل: المذكور هنا شيئان وهما الله ورسوله، وهما مرفوعان بالابتدائية، والخبر مفرد ولابد من تطابق الخبر والمبتدأ في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث. قلت: خبر المبتدأ الأول محذوف، اكتفى بذكر خبر الثاني عنه، والتقدير: الله ولي مَن لا ولي له، ورسوله ولي مَن لا ولي له، وإنما لم يقل موليان مَن لا مولى له؛ لئلا يلزم الاشتراك، فافهم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 214 رقم 11988).

وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق: الأول: مرفوع وإسناده صحيح، عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد -شيخ البخاري- عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن مسلم الجَنَدي -بفتح الجيم والنون- من رجال مسلم، عن طاوس بن كيسان، عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا إسحاق بن منصور، قال: أنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخال وارث من لا وارث له". الثاني: موقوف: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، ولم يرفعه. وأخرجه البيهقي (¬2) نحوه: من حديث أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، قالت: "الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، والخال وارث مَن لا وارث له". ثم قال: تابعه عبد الرزاق. الثالث: مرفوع أيضًا من طريق أبي يحيى عبد الله بن أحمد المكي، روى عنه الطحاوي، عن أبيه أحمد بن زكريا بن الحارث، عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد المكي، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي -عليه السلام-. وأخرجه النسائي (¬3): عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد بن يزيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم. . . . إلى آخره نحوه. فإن قلت: بم حكمت في حديث عائشة هذا؟ ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 422 رقم 2104). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 215 رقم 11995). (¬3) النسائي الكبرى (4/ 76 رقم 6353).

قلت: بالصحة؛ لثقة رواته وصحة اتصاله ورفعه. فإن قلت: قال البيهقي في "سننه": عمرو بن مسلم فيه كلام فحكي عن ابن حنبل وابن معين أنهما قالا فيه: ليس بالقوي. وذكر أيضًا أنه روي موقوفًا أيضًا، قال: والرفع غير محفوظ، وقال النسائي أيضًا: عمرو بن مسلم ليس بذاك القوي، وقد اختلف عن ابن جريج فيه. قلت: الرفع زيادة ثقة فوجب قبوله. وقد أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬1) مرفوعًا، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وعمرو بن مسلم احتج به مسلم في "صحيحه"، وقال الذهبي: قواه ابن معين. وأما حديث المقدام بن معدي كرب فأخرجه من خمس طرق: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن بديل بن مسرة العُقيلي -بضم العين- البصري، عن علي بن أبي طلحة سالم الهاشمي، عن راشد بن سعد المقرائي الحمصي، عن أبي عامر عبد الله بن نجي الهوزني الحمصي، عن المقدام بن معدي كرب بن عمرو الكندي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة، ونا محمد بن الوليد، نا محمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، حدثني بُديل بن ميسرة العقيلي، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام بن كريمة -رجل من أهل الشام من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك مالًا فلورثته، ومَن ترك كلًّا فإلينا -وربما قال: فإلى الله ¬

_ (¬1) "المستدرك" (4/ 383 رقم 8004). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 914 رقم 2738).

وإلى رسوله- وأنا وارث مَن لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث مَن لا وارث له يعقل عنه ويرثه". الثاني: عن أبي يحيى عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة المكي، عن بدل بن المحبر -بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- التميمي شيخ البخاري، عن شعبة، عن بديل بن ميسرة، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر، عن المقدام. وأخرجه أبو داود (¬1): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن بديل. . . . إلى آخره. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بُديل. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا سليمان بن حرب، في آخرين، قالوا: ثنا حماد، عن بُديل -يعني ابن ميسرة- عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام الكندي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينًا أو ضيعةً فإليَّ، ومن ترك مالًا فلورثته، وأنا مولى مَن لا مولى له أرث ماله وأفك عانه، والخال مولى مَن لا مولى له، يرث ماله ويفك عانه". قال أبو داود: وضيعة معناه: عيال. الرابع: عن أبي يحيى عبد الله بن أحمد، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بديل، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 137 رقم 2899). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 137 رقم 2900).

وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن حماد، عن بديل، عن علي، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام نحوه. الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي، عن راشد بن سعد المقرائي، عن المقدام بن معدي كرب الكندي. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن عبد الرحيم بن البرقي، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، حدثني راشد بن سعد، أنه سمع المقدام. . . . نحوه مرفوعًا. فإن قلت: بم حكمت في حديث المقدام هذا؟ قلت: بالصحة؛ لثقة رواة الطرق الخمسة المذكورة، وصحة اتصالها، ورفعها. ولهذا أخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬3): من طريق راشد، عن أبي عامر، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬4) وقال: إن راشدًا سمعه من أبي عامر، عن المقدام، ومن أبي عائذ عنه، فالطريقان محفوظان، والمتنان متباينان. وقال أبو داود: رواه الزبيدي، عن راشد، عن أبي عائذ، عن المقدام. ورواه معاوية بن صالح، عن راشد، سمعت المقدام. وذكر الدارقطني في "علله" أن شعبة وحمادًا وإبراهيم بن طهمان رووه عن بديل، عن ابن أبي طلحة، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام. وأن معاوية بن صالح خالفهم فلم يذكر أبا عامر بين راشد والمقدام. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 77 رقم 6355). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 90 رقم 6419). (¬3) "المستدرك" (4/ 382 رقم 8002). (¬4) "صحيح ابن حبان" (3/ 400 رقم 6036).

ثم قال الدارقطني: والأول أشبه بالصواب. وقال ابن القطان: وهو على ما قال؛ فإن ابن أبي طلحة ثقة، وقد زاد في الإسناد من يتصل به فلا يضره إرسال من قطعه وإن كان ثقة، فكيف وفيه مقال؟! فنرى هذا الحديث صحيح. انتهى كلام ابن القطان. وما ذكره أبو داود صريح في أنه لا إرسال في رواية معاوية، فإن راشد صرح فيها بالسماع، وراشد قد سمع ممن هو أقدم من المقدام كمعاوية وثوبان، فيحمل على أنه سمعه من المقدام مرةً بلا واسطة، ومرة بواسطة أبي عامر، ومرة بواسطة أبي عائذ. وكذلك في رواية الطحاوي صرح بسماع راشد عن المقدام حيث قال: حدثني راشد بن سعد أنه سمع المقدام - رضي الله عنه -. قوله: "من ترك كلًّا" بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو العِيال قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} (¬1). قوله: "أعقل عنه" أي أؤدي الدية عنه وهو من العقل وهو الدية. قوله: "ويفك عانه" أي عانيه وهو الأسير فحذفت الياء، وفي رواية "عُنِيَّه" بضم العين، وكسر النون وتشديد الياء، يقال: عَنَا يَعْنو عُنُوًّا وعُنِيًّا، ومعنى الأسر هاهنا: ما يلزمه ويتعلق به بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة. قوله: "ويفك عُنُوَّه" بضم العين والنون وتشديد الواو، وقد ذكرنا أنه مصدر من عَنَا يَعْنُو، وكذلك العُنِيّ، والمعنى: ويفك أسره. واعلم أن هذا الحديث روي عن أبي هريرة أيضًا. ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية: [76].

أخرجه الدارقطني في "سننه" (¬1): ثنا ابن صاعد، ثنا محمد بن عمارة بن صبيح، ثنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن ليث، عن أبي هبيرة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الخال وارث". وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه" (¬2) ثم قال: ليث بن أبي سليم غير محتج به. قلت: ليث أخرج له مسلم في "صحيحه"، واستشهد به البخاري في كتاب الطب. والله أعلم. ص: فقال المخالف لنا: لا دليل لكم في هذه الآية على ما ذهبتم إليه من هذا؛ لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني، كما تبنى رسول الله -عليه السلام- زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، وكان من فعل هذا ورث المتبنِّي ماله دون سائر أرحامه، وكان الناس يتعاقدون في الجاهلية على أن الرجل يرث الرجل، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬3) دفعًا لذلك وردًّا للمواريث إلى ذوي الأرحام، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬4). وذكر في ذلك ما حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال أنا ابن المبارك، قال: أنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث قال: "كانت لأخي شريح بن الحارث جارية، فولدت جاريةً فشبَّت، فزوجها فولدت غلامًا، وماتت الجدة، فاختصم شريح والغلام إلى شريح، قال: فجعل شريح يقول: ليس له ميراث في كتاب الله إنما هو لابن بنت، فقضى للغلام، فقال: {وَأُولُو ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 86 رقم 62) لكن من طريق ليث عن ابن المنكدر، عن أبي هريرة، وأما رواية أبي هبيرة عن أبي هريرة فهي في الحديث الذي قبل هذا رقم (61). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 215 رقم 11993). (¬3) سورة الأحزاب، آية: [6]. (¬4) سورة الأحزاب، آية: [5].

الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1)، قال: فركب ميسرة بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فحدثه بالذي قضى شريح. قال: فكتب ابن الزبير - رضي الله عنهما - إلي شريح: أن ميسرة حدثني أنك قضيت بكذا وكذا، وقلت عند ذلك: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) وإنما كانت تلك الآيات في العصبات في الجاهلية، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: ترثني وأرثك، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك. قال: فقدم الكتاب على شريح فقرأه، وقال: إنما أعتقها حيتان بطنها، وَأَبَى أن يرجع عن قضائه". ش: أراد بهذا المخالف: الشافعي، فإنه قال: لا دليل لكم في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) ولما استدل أبو حنيفة وأصحابه في توريث ذوي الأرحام بهذه الآية؛ لأنها نزلت في ميراث ذوي الأرحام، ولهذا نسخت الموالاة والهجرة التي كانت مشروعة، فشرع لهم التوارث من غير فصل بين ذي رحم له فرض وتعصيب أو ليس له ذلك، فتناول الكل، منع الشافعي هذا الاستدلال، وقال: ليس لكم فيما ذهبتم إليه؛ لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني. . . . إلى آخره وهو ظاهر. و"التَّبَنِّي" بفتح التاء المثناة من فوق والباء الموحدة وتشديد النون بعدها، من "البنوة" بالباء الموحدة قبل النون. قوله: "وذكر في ذلك"، أي وذكر هذا المخالف فيما قاله من المنع ما حدثنا علي بن زيد الفرائضي. . . . إلى آخره. وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك. وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، يروي عن عيسى ابن الحارث [. .] (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [6]. (¬2) بيض له المصنف في "الأصل، ك".

ص: فكان من الحجة للآخرين على أهل هذه المقالة: أن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قد أخبر في حديثه هذا أنهم كانوا يتوارثون بالتعاقد دون الأنساب، فأنزل الله -عز وجل- ردًّا لذلك: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1) فكان في هذه الآية دفع الميراث بالمعاقدة وإيجابه لذوي الأرحام دونهم، ولم يبين لنا في هذه الآية أن ذوي الأرحام هم العَصَبَة أو غيرهم، فقد يحتمل أن يكونوا هم العَصَبَة، وقد يحتمل أن يكون كل ذي رحم على ما جاء في تفصيل المواريث في غير هذا الحديث، فلما كان ما ذكرنا كذلك، ثبت أن لا حجة لأحد الفريقين في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث حجة على ذاهب لو ذهب إلى ميراث المتعاقدين بعضهم من بعض لا غير ذلك، فهذا معنى حديث ابن الزبير - رضي الله عنهما -. ش: أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين، وأراد بها الجواب عما احتج به الشافعي في منع استدلال أبي حنيفة ومن تبعه بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1). بيانه: أن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - أخبر في حديثه المذكور أن هذه الآية الكريمة نزلت في منع الميراث بالمعاقدة وإيجابه لذوي الأرحام، ولكن لم يبين في الآية أن ذوي الأرحام هم العَصَبَة أو غيرهم، وفيها احتمال للمعنيين. فإذا كان كذلك لا يكون فيها حجة لأحد الفريقين على الآخر في الصورة المتنازع فيها، وإنما يكون حجة عل مَن يذهب إلى ميراث المتعاقدين بعضهم من بعض لا غير ذلك. قلت: يمكن أن نقول: لما بينت الآية التوارث لذوي الأرحام من غير فصل بين ذي رحم له فرض وتعصيب أو ليس له ذلك، تناولت الكل بطريق العموم والشمول، واعترض عليه بأن المراد به من له فرض أو تعصيب بقوله: {فِي ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [6].

كِتَابِ اللَّهِ} (¬1) لأنه إذا أُطِلق كتاب الله يراد به القرآن عرفًا فينصرف إليه، وإنما ذكر فيه من له فرض أو تعصيب. وأجيب بأن المراد به: في حكم الله تعالى، يدل عليه قوله -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" (¬2) أي ليس في حكمه؛ لأن غير ما ذكره -عليه السلام- من الأحكام ليس بمذكور في القرآن، بل بعضه فيه وبعضه في السنة؛ لأنها كتاب الله لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬4). ص: وقد ذهب أهل بدر إلى مواريث ذوي الأرحام، فمما روي عنهم في ذلك ما قد ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا، عن عمر - رضي الله عنه - في كتابه إلى أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - فلم ينكر أبو عبيدة ذلك عليه، فدل أن مذهبه فيه كان كمذهبه. وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: "أُتي زياد في رجل مات وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر - رضي الله عنه - فيها؟ قالوا: لا، قال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر - رضي الله عنه - فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين والخالة الثلث". حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا يزيد بن إبراهيم والمبارك بن فضالة، عن الحسن، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث". حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: [6]. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (6/ 183 رقم 25543) وابن ماجه في "سننه" (2/ 842 رقم 2521) وغيرهما من حديث عائشة - رضي الله عنها -، والحديث عند البخاري ولكن بلفظ آخر (2/ 981 رقم 2584). (¬3) سورة النجم، آية: [3]. (¬4) سورة الحشر، آية: [7].

مسروق، قال: "أتي عبد الله - رضي الله عنه - في إخوة لأم وأم، فأعطى الإخوة لأم الثلث، وأعطى الأم سائر المال، وقال: الأم عَصَبَة من لا عَصَبَة له، وكان لا يرد على إخوة لأم مع أم، ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخوات لأب مع أخت لأب وأم، ولا على امرأة، ولا على جدة، ولا على زوج". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد، قال: أنا قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله قال: "الخالة والدة". حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد: "أن عمر - رضي الله عنه - قضى للعمة الثلثين والخالة الثلث". حدثنا علي، قال ثنا يزيد، قال: أنا حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله، عن عمر - رضي الله عنه - مثله. حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا سفيان الثوري عن منصور، عن فُضيل، عن إبراهيم قال: "كان عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - يورثان الأرحام دون الولاء. قلت: أَفكان عَلِيّ - رضي الله عنه - يفعل ذلك؟ قال: كان علي - رضي الله عنه - أشدهم في ذلك". حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا عبيدة، عن حيان الجعفي، عن سويد بن غفلة، أن رجلًا مات وترك ابنته وامرأته ومولاه، قال سويد: "إني لجالس عند علي - رضي الله عنه - إذ جاءته مثل هذه الفريضة، فأعطى ابنته النصف، وامرأته الثمن، ثم ردَّ ما بقي على ابنته ولم يعط المولى شيئًا". حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن حيان الجعفي، قال: كنا عند سويد بن غفلة. . . . ثم ذكر مثله. حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شريك، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: "كان علي يرد بقية المواريث على ذي السهام من ذوي الأرحام".

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، قال: "أتي زياد في عم لأم وخالة، فقال: ألا أخبركم بقضاء عمر - رضي الله عنه - فيهما؟ أعطى العم للأم الثلثين، وأعطى الخالة الثلث". حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة، عن سليمان، قال: قال عبد الله بن مسعود: "للعمة الثلثان، وللخالة الثلث، فقلت: أسمعته من إبراهيم؟ فقال: هو أول ما سمعته منه". حدثنا علي قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. فهؤلاء أهل بدر قد وَرثَّوا ذوي الأرحام بأرحامهم وإن لم يكونوا عَصَبَة، فإن كان إلى التقليد فتقليد هؤلاء أولى. وإن كان إلى ما روي عن رسول الله -عليه السلام- فقد ذكرنا ما روي عنه في هذا الباب. وإن كان إلى النظر فإنا قد رأينا العَصَبَة يُورِثِّون إذا كانوا ذكورًا، ورأينا بعضهم إذا كان لهم من القرب ما ليس لبعض كان بذلك القرب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه وكان المسلمون إذا لم يكن للميت عَصَبَة يرثونه جميعًا، فإذا كان بعضهم أقرب إليه من بعض فالنظر على ما ذكرنا أن يكون من قرب منه أولى بالميراث ممن هو أبعد منه فمن من المتوفى من المسلمين. فثبت بالنظر أيضًا ما ذكرنا وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا الكلام إلى أن مذهب من يرى بتوريث ذوي الأرحام أقوى المذاهب، وأحقها بالعمل وأحراها بالقبول؛ وذلك لأنه مذهب أهل بدر المغفور لهم، نحو: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم -، ووردت به السنة أيضًا، وشهد له النظر أيضًا، وأشار إلى ذلك بقوله: فإن كان إلى التقليد. . . . إلى آخره.

أي فإن كان الأمر في مثل هذا راجعًا إلى تقليد أحد، فتقليد مثل هؤلاء السادات من الصحابة أولى، وإن كان الأمر في ذلك إلى السنة فقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة على ما مضى ذكرها في هذا الباب، وإن كان الأمر في ذلك إلى النظر والقياس فوجه النظر أيضًا يشهد لذلك وهو قوله: فإنا قد رأينا العَصَبَة. . . . إلى آخره. ثم إنه أخرج عن البدريين من ثلاثة عشر وجهًا: الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عامر الشعبي، قال: "أتي زياد. . . ." وهو زياد بن حدير الأسدي أبو المغيرة الكوفي. هذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا ابن إدريس، عن داود، عن الشعبي، عن زياد، قال: "إني لأعلم ما صنع عمر - رضي الله عنه -، جعل العمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث يزيد، نا داود بن أبي هند، عن الشعبي: "أتي زياد في رجل توفي وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر - رضي الله عنه -؟ قالوا: لا، فقال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر - رضي الله عنه - فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ، والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين، والخالة الثلث". وقال: ورواه الحسن، وأبو الشعثاء، وبكر بن عبد الله: "أن عمر - رضي الله عنه - جعل للعمة الثلثين، وللخالة الثلث". وهذه مراسيل، ورواية المدنيين عن عمر أولى. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 248 رقم 31114). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 216 رقم 12000).

قلت: رواية زياد، عن عمر - رضي الله عنه - صحيحة متصلة. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه قسم المال بين عمته وخالته". وهذا أيضًا سند صحيح متصل. وقال صاحب "الاستذكار": ولم يختلف أهل العراق أنه وَرَّثهما، واختلفوا فيما قسمه لهما. الثاني: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن يزيد بن إبراهيم التستري البصري، والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي، كلاهما عن الحسن البصري، عن عمر - رضي الله عنه -. وهذا منقطع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): نا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، عن عمر - رضي الله عنه - قال: "للعمة الثلثان، وللخالة الثلث". الثالث: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن مسروق، قال: "أتي عبد الله في أم وإخوة لأم، فأعطى الأم السدس، والإخوة الثلث، ورد ما بقي على الأم، وقال: الأم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 248 رقم 31113). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 248 رقم 31115). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 253 رقم 31167).

عَصَبَة من لا عَصَبَة له، وكان ابن مسعود لا يرد على أخت لأب مع أخت لأب وأم، ولا على ابنة ابن مع ابنة صلب". الرابع: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي -فيه مقال كثير- عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عثمان بن عاصم الأسدي، عن يحيى بن وثاب الأسدي الكوفي المقرئ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث يزيد بن هارون، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله، قال: "الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب، وابنة الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم بمنزلة الرحم التي تليه إذا لم يكن وارث ذو قرابة". الخامس: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن حبيب بن أبي حبيب الجرمي النصري -صاحب الأنماط- عن عمرو بن هرم الأزدي البصري، عن جابر بن زيد اليحمدي الجوفي -بالجيم والفاء- عن عمر - رضي الله عنه -. وهذا منقطع؛ لأن جابر بن زيد هو أبو الشعثاء لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي معلقًا (¬2). السادس: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني البصري، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهذا أيضًا منقطع؛ لأن بكرًا لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي معلقًا (¬3). ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 217 رقم 12001). (¬2) "السنن الكبرى" (8/ 58 رقم 15845). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 216 بعد رقم 12000).

السابع: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن فضيل بن عمرو الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن عمر. وهذا أيضًا منقطع. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا جرير، عن منصور، عن فضيل، عن إبراهيم، قال: "كان عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - يعطيان الميراث ذوي الأرحام. قال فضيل: قلت لإبراهيم: فعلي - رضي الله عنه -؟ قال: كان أشدهم في ذلك أن يعطي ذوي الأرحام". الثامن: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن عَبِيَدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن حميد الكوفي، عن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن سليمان الجعفي، عن سويد بن غفلة. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن حيان الجعفي، عن سويد بن غفلة: "أن عليًّا - رضي الله عنه - أتي في ابنة وامرأة وموالي، فأعطى الابنة النصف، والمرأة الثمن، ورد ما بقي على الابنة، ولم يعط الموالي شيئًا". التاسع: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان المروزي، عن عبد الله ابن المبارك المروزي، عن سفيان الثوري، عن حيان الجعفي، عن سويد. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث أبي عوانة، عن منصور، عن حيان -بيَّاع الأنماط- قال: "كنت جالسًا مع سويد بن غفلة. . . .". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 252 رقم 31158). (¬2) "مصنف بن أبي شيبة" (6/ 252 رقم 31161). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 242 رقم 12171 - 12172).

ومن حديث الثوري، عن حيان الجعفي، قال: "كنت عند سويد، فأتي في ابنة وامرأة ومولى، فقال: كان علي - رضي الله عنه - يعطي الابنة النصف، والمرأة الثمن، ويرد ما بقي على الابنة". العاشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شريك بن عبد الله، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. وهذا إسناد منقطع ومعلول بجابر الجعفي. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: "أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يرد على ذوي السهام من الأرحام". الحادي عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن مطرف بن طريف الحارثي، عن عامر الشعبي، قال: "أتي زياد وهو زياد بن حدير". وهذا إسناد صحيح. الثاني عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن سليمان الأعمش، قال: قال عبد الله بن مسعود. وهذا منقطع. قوله: "فقلت: أسمعته من إبراهيم؟ " أي: قال شعبة: فقلت لسليمان الأعمش: أسمعت هذا من إبراهيم النخعي؟. وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا سعيد بن عمرو، ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: "للعمة الثلثان، وللخالة الثلث". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 253 رقم 31170). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 248 رقم 31119).

الثالث عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الله بن مسعود. وهذا أيضًا منقطع. ص: وقد ذكرنا في هذه الآثار التي قد رويناها عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- اختلافا بينهم في بعضها، بعد إجماعهم فيها على الوراثة بالأرحام التي لا تعصب أهلها. فمما اختلفوا فيه من ذلك في ميراث ذوي الأرحام دون الموالي، فقد ذكرنا ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله - رضي الله عنهم -. ش: أراد بهذه الآثار التي أخرجها عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم -. وأراد بالاختلاف في بعضها هو اختلافهم في حكم الولاء، والاختلاف في حكم الرد، ومع هذا هم مجمعون على توريث ذوي الأرحام كما ذكرنا. وقد مرَّ فيما مضى عن عمر، وعلي، وابن مسعود أنهم كانوا يورثون الأرحام دون الولاء، ومذهب جمهور الصحابة -منهم زيد بن ثابت- أن الولاء مقدم على ذوي الأرحام، وعلى الرد أيضًا، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وبه قال الشعبي، وعطاء، وابن أبي ليلى. واحتجوا في ذلك بقضية ابنة حمزة - رضي الله عنهما - على ما نذكرها الآن إن شاء الله تعالى. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك. حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا أبان بن تغلب، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد بن الهاد: "أن ابنة حمزة - رضي الله عنهما - أعتقت مولى لها، فمات المولى وتركها وترك ابنته، فأعطاها النبي -عليه السلام- النصف، وأعطى بنت حمزة النصف".

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة، عن الحكم، قال: "سمعت عبد الله بن شداد يقول: هي أختي. . . .". ثم ذكر مثله. حدثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: "انتهيت إلى عبد الله بن شداد وهو يحدث القوم، وهو يقول: هي أختي، فسألتهم فقالوا: ذكوان وهو مولى لابنة حمزة - رضي الله عنه -. . . . ثم ذكر مثله. حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد، عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا جرير بن حازم، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وأبي فزارة، قالا: ثنا عبد الله بن شداد. . . . فذكر مثله ثم قال: "هل تدرون ما بيني وبينها؟ هي أختي من أمي، كانت أمنا أسماء بنت عميس الخثعمية". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد ورَّث ابنة حمزة من مولاها ما بقي بعد نصيب ابنته بحق فرض الله -عز وجل- لها، ولم يرد ما بقي على البنت، فدلت هذه الآثار أن مولى العتاقة أولى بالميراث من الرحم الذي ليس بعَصَبَة. ش: أي وقد روي عن النبي -عليه السلام- خلاف ما روي عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - في حكم الولاء، وهو أن مولى العتاقة أولى بالميراث من الرحم الذي ليس بعصبة، ألا ترى أن النبي -عليه السلام- قد ورَّث ابنة حمزة من مولاها ما بقي بعد نصيب بنته وهو النصف ولم يردّ ذلك على البنت. وأخرجه من خمس طرق: الأول: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن أبان بن تغلب الربعي الكوفي، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني: "أن ابنة حمزة. . . ." إلى آخره.

وهذا إسناد رجاله ثقات، ولكنه منقطع. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد: "أن ابنة حمزة أعتقت غلامًا لها، فتوفي وترك ابنة وابنة حمزة، فزعم أن النبي -عليه السلام- قسم لها النصف ولابنته النصف". وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن وكيع، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. وابنة حمزة اسمها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب القرشية الهاشمية ابنة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: اسمها أمامة، وقيل: عمارة، قاله أبو نعيم، وتكنى أم الفضل، وقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر: هي أخت عبد الله بن شداد لأمه، وكذا جاء في رواية أخرى على ما يجيء عن الحكم، قال: سمعت عبد الله ابن شداد يقول: هي أختي. وقال البيهقي: روي عن سلمة والشعبي عن عبد الله بن شداد، والحديث منقطع. وابن شداد أخو بنت حمزة من الرضاعة. قلت: هذا غلط، بل أخوها لأمها. قد أخرج أبو داود في "المراسيل" (¬3) بسند صحيح عنه أنه قال: "أتدرون ما ابنة حمزة مني؟ قال: كانت أختي لأمي". وكذا في رواية الطحاوي -رحمه الله-، وقال ابن سعد: أم عبد الله بن شداد سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس كانت تحت حمزة - رضي الله عنه - فولدت له عمارة، وقيل: فاطمة، وقتل عنها يوم أحد، فتزوجها شداد بن الهاد، فولدت له عبد الله. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 241 رقم 12165). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31137). (¬3) "مراسيل أبي داود" (1/ 266 - 267 رقم 364).

قلت: أم عبد الله بن شداد سلمى بنت عميس الخثعمية، أخت أسماء بنت عميس وكانتا أختي ميمونة بنت الحارث زوج النبي -عليه السلام-، وأختي أم الفضل بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب، وأختى لبابة الصغرى بنت الحارث لأمهن، وأمهن هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير. وكانت أمه تحت حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، فولدت له ابنته عمارة، ويقال: فاطمة، ويقال: أمامة، ويقال: أم الفضل، وقتل عنها يوم أحد، فتزوجها شداد بن الهاد فولدت له عبد الله بن شداد وهو أخو فاطمة بنت حمزة لأمه، وابن خالة عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد، وعبد الله بن جعفر - رضي الله عنهم -. الثاني: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: سمعت عبد الله بن شداد. وهذا أيضًا سند صحيح ولكنه منقطع. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) نحوه: عن وكيع، عن شعبة. الثالث: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن شداد. وهذا أيضًا مثل ما قبله من صحة السند وانقطاعه. الرابع: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد. وهذا مثل ما قبله. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث سفيان، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد، قال: "مات مولى لابنة حمزة وترك ابنةً وابنة حمزة، فجعل رسول الله -عليه السلام- لابنته النصف، ولابنة حمزة النصف". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31137). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 241 رقم 12166).

الخامس: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن جرير بن حازم، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب التميمي الضبي، وعن أبي فزارة راشد بن كيسان العبسي الكوفي، كلاهما عن عبد الله بن شداد. وهذا أيضًا مثل ما قبله. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1) نحوه: ثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عبيد بن أبي الجعد، عن عبد الله بن شداد قال: لا تدري ما ابنة حمزة مني؟ هي أختي لأمي، أَعْتَقَت رجلًا فمات، فقسم ميراثه بين ابنته وبينها، قال: على عهد رسول الله -عليه السلام-". ص: وقد روي مثل هذا أيضًا عن علي - رضي الله عنه -، حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا فطر، عن الحكم بن عتيبة، قال: "قضى عليٌّ - رضي الله عنه - في أناسٍ منا فيمن ترك ابنته ومولاته، فأعطى ابنته النصف ومولاته النصف". حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: "رأيت المرأة التي ورَّثها علي - رضي الله عنه - من أبيها النصف وورَّث مولاها النصف". فهذا هو النظر عندنا أيضًا؛ لأنا رأينا المولى إذا لم يكن معه بنت ورث بالتعصيب كما ترث العصبة من ذوي الأرحام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو إذا كانت معه بنت يرث معها كما ترث العصبة من ذوي الأرحام. فهذا هو النظر في هذا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي وقد روي مثل ما روي عن النبي -عليه السلام-من تقديم مولى العتاقة في الميراث على الرحم الذي ليس بعصبة- عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقد مرَّ أنه روي عن علي تقديم ذوي الأرحام على الولاء، وروي عنه أيضًا تقديم الولاء على ذوي الأرحام كما هو مذهب جمهور الصحابة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31135).

وأخرج عنه في ذلك من طريقين رجالهما ثقات ولكنهما منقطعان. الأول: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن فطر بن خليفة، عن الحكم بن عتبة. الثاني: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" هذا من ثلاث طرق متصلة: الأول (¬1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الحكم، عن شموس الهندية، قالت: "قاضيت إلى علي - رضي الله عنه - في أبي، مات ولم يترك غيري ومولاه، فأعطاني النصف ومولاه النصف". الثاني (¬2): عن إدريس، عن الشيباني، عن الحكم، عن شموس، عن علي مثله. الثالث: (¬3) ثنا علي بن مسهر، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن أبي الكنود، عن علي: "أنه قضى في ابنة ومولى، أعطى البنت النصف، والمولى النصف". ص: وأما ما ذكرنا أيضًا عن عبد الله - رضي الله عنه - أنه كان لا يرد على إخوة لأم مع أم شيئًا، ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخوات لأب مع أخوات لأب وأم. فقد ذكرنا عن علي - رضي الله عنه - خلاف ذلك، وأنه كان يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام، فإن النظر عندنا في ذلك أيضًا ما ذهب إليه علي - رضي الله عنه -؛ لأنهم جميعًا ذووا أرحام، وقد رأيناهم في فرائضهم التي قد فرضها الله -عز وجل- لهم قد ورثوها جميعًا بأرحام مختلفة، ولم يكن بعضهم بقرب رحمه أولى بالميراث من غيره منهم ممن بَعُدَ رحمه، فالنظر على ذلك أن يكونوا جميعًا فيما يرد عليهم من فضول ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 250 رقم 31139). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 251 رقم 31140). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 251 رقم 31141).

المواريث كذلك، وأن لا يقدم منهم مَن قرب رحمه على مَن كان أبعد رحمًا من الميت منه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان الاختلاف في حكم الرد، وقد ذكر فيما مضى أن عبد الله بن مسعود كان لا يرد على هؤلاء المذكورين، وأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام. وأشار أيضًا إلى صحة قول علي - رضي الله عنه - بشاهد النظر والقياس، وأشار أيضًا إلى أنه هو قول أبي حنيفة وصاحبيه وهو قول جمهور الصحابة - رضي الله عنهم -، والحاصل أن مذهب جمهور الصحابة جواز الرد على ذوي الفروض بقدر حقوقهم إلا على الزوجين، وبه أخذ أصحابنا. وذكر صاحب "الغنية" أنه يرد على الزوجين في زماننا لفساد بيت المال، وقال زيد بن ثابت: الفاضل لبيت المال، وبه أخذ مالك، والشافعي، وروي عن عثمان - رضي الله عنه -: "أن الرد لا يجوز أصلًا" ولم يثبت هذا عن عثمان، وروي عن ابن عباس أنه قال: "لا يرد إلا على ثلاثة: على الزوجين مطلقًا، وعلى الجدة إذا كان معها ذو فرض ممن يرث بالرحم وإن لم يكن في المسألة ذو فرض آخر يرث بالرحم كأحد الزوجين أو مولى العتاقة أو مولى الموالاة، حينئذٍ يرد على الجدة دون أحد الزوجين. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - يرد إلا على ستة نفر: ثلاثة هؤلاء، والرابع: بنت الابن مع بنت الصلب، والخامس: الأخت لأب مع الأخت لأبوين، والسادس: أولاد الأم معها، فيرد الباقي بعد أصحاب الفرائض على البنت والأخت لأبوين والأم. ص: وقد روي عن إبراهيم فيما ذكرناه عن رسول الله -عليه السلام- في إعطائه ابنة حمزة النصف، وبنت مولاها النصف، أن ذلك إنما كان طعمة من رسول الله -عليه السلام- لابنة حمزة.

حدثنا بذلك فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حسن بن صالح، عن منصور، عن إبراهيم. وهذا عندنا كلام فاسد؛ لأن ابنة مولى بنت حمزة إن كان قد وجب لها ميراث أبيها برحمها منه فمحال، أن يطعم النبي -عليه السلام- شيئًا قد وجب لها ابنة حمزة، وإن كان ذلك لم يجب لها كله، وإنما وجب لها نصفه فما بقي بعد ذلك النصف راجع إلى مَن أعتقه وهي ابنة حمزة - رضي الله عنه -، فاستحال ما ذكر إبراهيم في ذلك، وثبت أن ما دفع رسول الله -عليه السلام- إلى ابنة حمزة كان بالميراث لا بغيره. ش: ذكر هذا ليكون جوابًا عن سؤال مقدر، تقرير السؤال أن يقال: كيف تستدلون بقضية ابنة حمزة - رضي الله عنهما - في تقديم الولاء على ذوي الأرحام، وقد قال إبراهيم النخعي - رضي الله عنه -: إن النصف الذي أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنة حمزة حين مات مولاها وترك ابنته إنما كان طعمة أطعمها رسول الله -عليه السلام- إياها ولم يكن ذلك بحق الولاء؟. أخرجه الطحاوي، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن حسن بن صالح بن حي الهمداني، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، عن عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: "ذكر عنده حديث ابنة حمزة أن النبي -عليه السلام- أعطاها النصف، فقال: إنما أطعمها إياه رسول الله -عليه السلام- طعمة". وأجاب عنه بقوله: "وهذا عندنا فاسد. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر. وقال البيهقي في هذا الموضع: إن هذا غلط، وقد قال شريك: تقحمًا إبراهيم هذا القول تقحمًا إلا أن يكون سمع شيئًا فرواه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 251 رقم 31144).

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في توريث مَن ليس بعصبة ولا رحم، فذكر ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عوسجة مولى ابن عباس يحدث، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رجلًا مات على عهد رسول الله -عليه السلام- ولم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه، فأعطاه النبي -عليه السلام- ميراثه". قال: فهذا رسول الله -عليه السلام- قد ورث المولى الأسفل من المولى الأعلى، وأنتم لا تقولون بهذا. قيل له: إنه ليس في هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه أنه دفع ميراثه -وهو تركته- إليه، وليس مما روي عنه في الحال أنه وارث من لا وارث له، فقد يحتمل وجوهًا. منها أن يكون دفعه إليه؛ لأنه ورَّثه إياه بما للميت عليه من الولاء. ويحتمل أن يكون مولاه ذا رحم له فدفع إليه ماله بالرحم وورثه به لا بالولاء، ألا تراه يقول في الحديث: "ولم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه" فأخبر أن العبد كان قرابةً له فورثه بالقرابة. ويحتمل أن يكون دفع إليه ميراثه؛ لأن الميت كان أمر بذلك، فوضع رسول الله -عليه السلام- ماله حيث أمر بوضعه فيه، كما قد روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. فإنه حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن الشعبي، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنه ليس حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان، فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب". قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: حدثني همام بن الحارث، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله.

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله مثله. حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله. حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن سلمة، قال: سمعت أبا عمرو السيباني يحدث عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: "السائبة يضع ماله حيث أحب". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عمرو، عن عبد الله نحوه. حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن سلمة، عن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله مثله. ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- أطعمه المولى الأسفل؛ لفقره كما للإمام أن يفعل ذلك فيما في يده من الأموال التي لا ربَّ لها. وقد سمعت أن ابن أبي عمران يذكر أن هذا التأويل الأخير قد روي عن يحيى بن آدم، فلما احتمل هذا الحديث ما ذكرنا لم يكن لأحد أن يحمله على تأويل منها إلا بدليل يدل عليه، إما من كتاب الله -عز وجل-، وإما من سنة، وإما من إجماع. ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم تقدمون الولاء على ذوي الأرحام، وتورثون المولى الأعلى بالولاء، فما بالكم لا تورثون المولى الأسفل من المولى الأعلى وقد ورث رسول الله -عليه السلام- المولى الأسفل من المولى الأعلى على ما في حديث ابن عباس؟.

أخرجه عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عوسجة المكي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه الأربعة. فأبو داود (¬1): عن إسماعيل بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن عوسجة. والترمذي (¬2): عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو، عن عوسجة بمعناه، وقال: حسن. والنسائي (¬3): عن قتيبة، عن سفيان به. وابن ماجه (¬4): عن إسماعيل بن موسى، عن ابن عيينة به. فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: قد حسنه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. وقال النسائي في عوسجة: ليس بالمشهور، ولا نعلم أحدًا يروي عنه غير عمرو. وقال البخاري: لم يصح حديثه. وقال البيهقي (¬5): رواه حماد بن سلمة، وابن عيينة، عن عمرو، عن عوسجة، عن ابن عباس: "أن رجلًا مات. . . . إلى آخره". وخالفهما (¬6) حماد بن زيد، فرواه عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس: "أن رجلًا مات. . . ." الحديث. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 124 رقم 2905). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 423 رقم 2106). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 88 رقم 6409). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 915 رقم 2741). (¬5) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 242 رقم 12174). (¬6) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 242 رقم 12175).

وكذلك (¬1) أرسله روح بن القاسم، عن عمرو، عن عوسجة، وقال: قال البخاري: عوسجة روى عنه عمرو ولم يصح حديثه، وروى عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهو خطأ. وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يكون في الحديث دلالة على توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى؛ لأنه لم يقل فيه: أنه -عليه السلام- قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه: أعطاه النبي -عليه السلام- ميراثه -يعني تركته- وهو يحتمل وجوهًا: الأول: يحتمل أن يكون دفعه المال إلى العبد بسبب ما كان للميت عليه من الولاء. الثاني: يحتمل أن يكون كان المولى ذا رحم للعبد، فدفع إليه ماله بسبب الرحم لا لأن المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى بسبب الولاء. والدليل على هذا الاحتمال أنه أخبر في الحديث: "أنه لم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه". فحينئذٍ يكون توريثه بالقرابة لا بالولاء. الثالث: يحتمل أن يكون الميت قد أوصى بأن يدفع ماله إليه لعدم وارثه، فأنفذ رسول الله -عليه السلام- وصيته، ووضع ماله حيث أمر بوضعه فيه، وذلك كما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: "إنه ليس حي من العرب. . . ." الحديث. الرابع: يحتمل أن يكون كان النبي -عليه السلام- جعل ماله لعبده من بعده؛ طعمةً له لأجل فقره واستحقاقه؛ لأنه مال ليس له صاحب، والإمام له الخيار فيه حيث يتصرف فيه كيف يشاء، فرأى صرف ذلك إليه مصلحةً، لا لكونه يستحق ذلك بسبب الولاء. فإذا كان هذا الحديث يحتمل هذه الاحتمالات، لم يكن لأحد أن يحمله على ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 242 رقم 12176).

تأويل واحد منها فيحتج به إلا بدليل يدل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإذا كان كذلك فقد سقط الاحتجاج به، فلا يصح توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى. وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء من التابعين ومَن بعدهم، وروي عن الحسن البصري والحسن بن زياد أنهما قالا: يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى، واحتجا على ذلك بالحديث المذكور، وقالا أيضًا: إن كان الولاء سبب يوجب الميراث من أحد الجانبين؛ فيجب أن يوجب من الجانب الآخر كما في النكاح. والصحيح قول العامة لقوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق"، ولقول علي وزيد - رضي الله عنهما -: "لا ميراث للمعتق". وقد أجاب بعضهم عن حديث ابن عباس أنه منسوخ بهذا، والله أعلم. والقياس على النكاح فاسد لأنه أصل القرابات. ثم إنه أخرج أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - من سبع طرق رجاله كلهم ثقات. الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الجرار الفاخوري، عن سليمان الأعمش، عن عامر الشعبي، عن عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة بن الحجاج، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني -بفتح السين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى سيبان بن الغوث بن سعد. وأبو عمرو هذا اسمه زرعة، وثقه ابن حبان. الثالث: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله.

الرابع: عن سليمان أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن سلمة ابن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، عن ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، قال: قال عبد الله: "السائبة يضع ماله حيث شاء" انتهى. "السائبة" هو العبد؛ لقول مولاه إذا أعتقه: هو سائبة. فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وفي كلام ابن مسعود أن العبد الذي يعتق سائبة لا يكون ولاؤه لمعتقه، ولا وارث له فيضع ماله حيث شاء، وهو الذي ورد النهي عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه: المولى الأعلى يرث من الأسفل سواء كان أعتقه لوجه الله تعالى، أو لوجه الشيطان، أو أعتقه سائبةً، أو شرط أن لا الولاء عليه؛ لعموم قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق" (¬2). وقال مالك: إن أعتقه لغير وجه الله لا يرث؛ لأن هذه صلة شرعية، فإنما يستحق هذه الصلة من يعتق لوجه الله، وأما من أعتق لوجه غير الله فَجَانٍ في قصده، فيحرم هذه الصلة، وهو محجوج عليه بإطلاق الحديث. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن بكر التنيسي أحد مشايخ الشافعي، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله. السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن بشر بن بكر، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 283 رقم 31434). (¬2) تقدم.

السابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو زرعة السيباني -بالسين المهملة- عن عبد الله. قوله: "وقد سمعت ابن أبي عمران" هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي أحد أصحاب أبي حنيفة. ويحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي الفقيه الثقة، روى له الجماعة. ص: وقد روي في نحو من هذا ما حدثنا يونس ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا شريك، عن أبي بكر بن أحمر، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: "توفي رجل من خزاعة، فأتي النبي -عليه السلام- بميراثه، فقال: اطلبوا له وارثًا أو ذا قرابة -هكذا قال يونس، وقال محمد بن خزيمة: أو ذا رحم- فطلبوا فلم يجدوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادفعوا إلى أكبر خزاعة". فهذا عندنا -والله أعلم- على ما قال يحيى بن آدم في الحديث الذي قبل هذا. ش: أي قد روي في مثل ما روي عن ابن عباس المذكور آنفًا الذي فيه: "أعطى النبي -عليه السلام- ميراث المولى الأعلى للمولى الأسفل"، وهو حديث بريدة بن الحصيب. أخرجه بإسناد جيد: عن يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن خزيمة بن راشد، كلاهما عن عمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي بكر بن أحمر -واسمه جبريل الجملي الكوفي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: نا المحاربي، عن جبريل بن أحمر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: "أتى النبي -عليه السلام- رجلٌ، فقال: إن عندي ميراث رجل من الأزد، ولست أجد أزديًّا أدفعه إليه، قال: فاذهب فالتمس أزديًّا حولًا، قال: فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول الله، إني لم ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 124 رقم 2903).

أجد أزديًّا أدفعه إليه، قال: فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه، فلما ولى قال: عَلَيَّ الرجلَ، فلما جاء قال: انظر كُبْرَ خزاعة فادفعه إليه". وقال أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا الحسن بن الأسود العجلي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا شريك، عن جبريل بن أحمر أبي بكر، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: "مات رجل من خزاعة، فأتي النبي -عليه السلام- بميراثه، فقال: التمسوا له وارثًا أو ذا رحم، فلم يجدوا له وارثًا ولا ذا رحم، فقال رسول الله -عليه السلام-: أعطوه الكبر من خزاعة". قال يحيى: قد سمعته مرة يقول في هذا الحديث: "انظروا أكبر رجل من خزاعة". وأخرجه النسائي (¬2) وقال: جبريل بن أحمر ليس بالقوي والحديث منكر. قلت: أبو داود قد سكت عنه، فذا دليل رضاه به، وجوابه أنه محمول على ما ذكره يحيى بن آدم في الحديث السالف. ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن مجاهد، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن مولى للنبي -عليه السلام- وقع من نخلة فمات، فقال النبي -عليه السلام-: انظروا هل له وارث، فقالوا: لا، قال: أعطوه بعض القرابة". فقد يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- أراد بذلك قرابته هو، لا قرابة الميت فأراد أن يجعله فيهم صلةً منه لهم، والله أعلم. ش: ذكر هذا الحديث الذي هو أيضًا من جنس الحديث الذي قبله ليجيب عنه. وأخرجه بإسناد جيد: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره. ومجاهد هذا هو ابن وردان المدني وليس هو بمجاهد بن جبر المكي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 124 رقم 2904). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 85 رقم 6395 - 6397).

وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد قال: ثنا يحيى، قال: ثنا شعبة، المعنى. وثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن سليمان، جميعًا عن ابن الأصبهاني، عن مجاهد بن وردان، عن عروة، عن عائشة: "أن مولى للنبي -عليه السلام- مات وترك شيئًا ولم يدع ولدًا ولا حميمًا، فقال النبي -عليه السلام-: أعطوا ميراثه رجلًا من أهل قريته". وحديث سفيان أتم. وقال مسدد: فقال النبي -عليه السلام-: "هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه ميراثه". وأخرجه الترمذي (¬2): عن بندار، عن يزيد بن هارون، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن مجاهد وهو ابن وردان، عن عروة، عن عائشة: "أن مولى للنبي -عليه السلام- وقع من عذق نخلة فمات، فقال النبي -عليه السلام-: انظروا هل له مِن وارث، قالوا: لا، قال: فادفعوه إلى بعض أهل القرية". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وأخرجه النسائي (¬3): عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة. وعن عبد الله بن محمد، عن سفيان، جميعًا عن عبد الرحمن، به. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، به نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 123 رقم 2902). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 422 رقم 2105). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 84 رقم 6391). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 913 رقم 2733).

وأخرجه البيهقي (¬1): من طريق سفيان أيضًا نحوه، ثم قال: هذا يحتمل أن يكون مولى له بغير العتاق فلم يأخذ ميراثه، وجعله في أهل قريته على طريق العالة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 243 رقم 12180).

ص: كتاب المزارعة

ص: كتاب المزارعة ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام المزارعة، وهي مفاعلة من الزرع والزراعة، وهي الحرث والفلاحة، وتسمى مخابرة، ومحاقلة، ويسميها أهل العراق: القراح. وفي الشرع: هي عقد على زرع ببعض الخارج. ص: حدثنا علي بن شيبة وفهد بن سليمان، قالا: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رافع بن خديج يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزارعة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمعت ابن عمر يقول: "كنا نخابر ولا نرى بأسًا، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المخابرة، فتركناها". حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله: "أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه فقال: يا ابن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله -عليه السلام- في كراء الأرض؟ فقال: سمعت عمَّيَّ -وكانا قد شهدا بدرًا- يحدثان أهل الدار: أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله -عليه السلام-، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله -عليه السلام- أحدث في ذلك شيئًا لم يكن عليه، فترك كراء الأرض". ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن شيبة وفهد، كلاهما عن أبي نعيم. . . . إلى آخره. وفيه رواية صحابي عن صحابي.

وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر نحوه. وأبو داود (¬2): عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "ما كنا نرى بالمزارعة بأسًا حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن النبي -عليه السلام- نهى عنها". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬3): عن هشام بن عمار، ومحمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر نحوه. قوله: "كنا نخابر" من المخابرة وهي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما، والخُبرة: النصيب، وقيل: هو من الخبار، وهي الأرض اللينة، وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبي -عليه السلام- أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل: خابرهم أي: عاملهم في خيبر. الثالث: عن نصر بن مرزوق، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح -وراق الليث وشيخ البخاري- عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم. . . . إلى آخره. وفيه رواية صحابي عن صحابي عن صحابيين، الأول: عبد الله بن عمر، والثاني: رافع بن خديج، والثالث والرابع عمَّا رافع، وهما: ظهير وآخر لم يسم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1179 رقم 1547). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 257 رقم 3389). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 819 رقم 2450).

والحديث أخرجه مسلم (¬1): حدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني سالم بن عبد الله: "أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله، فقال: يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله -عليه السلام- في كراء الأرض؟ قال رافع ابن خديج لعبد الله: سمعت عمَّيَّ وكانا شهدا بدرًا يحدثان أهل الدار أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله -عليه السلام- أن الأرض تكرى! ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله -عليه السلام- أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه، فترك كراء الأرض". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا: عن ابن بكير، عن الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سالم. . . . إلى آخره نحوه. ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الحقل". قال شعبة: قلت للحكم: ما الحقل؟ فقال: أن تكري الأرض -أراه قال-: بالثلث أو الربع. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن مجاهد، عن رافع بن خديج قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن أمرٍ كان لنا نافعًا، وأمرُ رسول الله أنفع لنا، قال: مَن كانت له أرض فَلْيَزرَعْها أو ليُزرِعْها". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سمعت مجاهدًا، يقول: ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1181 رقم 1547). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 825 رقم 2219).

حدثني أسيد ابن أخي رافع بن خديج، قال: قال رافع بن خديج. . . . فذكر مثله، غير أنه قال: "فَلْيَزْرَعْها، فإن عجز عنها فَلْيُزْرِعْها أخاه". حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، قال: "أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج، فحدثه عن أبيه، عن رسول الله -عليه السلام-: أنه نهى عن كراء الأرض. فأتى طاوس فقال: سمعت ابن عباس يقول: لا نرى بذلك بأسًا". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة والمحاقلة، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أخاه أرضًا فهو يزرع ما مُنح منها، ورجل اكترى أرضًا بذهب أو فضة". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم والمعلى بن منصور، قالا: ثنا أبو الأحوص. . . . ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانت له أرض فَلْيَزرَعْها، أو ليُزرِعْها أخاه، ولا يكريها بالثلث ولا بالربع ولا بطعام مسمى". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا بكير بن عامر، عن ابن أبي نعيم، قال: حدثني رافع بن خديج: "أنه زرع أرضًا، فمر به النبي -عليه السلام- وهو يسقيها، فسأله: لمن الزرع ولمن الأرض؟ فقال: زرعي ببذري وعملي، لي الشطر ولبني فلان الشطر، فقال: أربيت، فَرُد الأرض إلى أهلها وخذ بنفقتك". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا بكير، عن الشعبي، عن رافع مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو النجاشي مولى رافع بن خديج، قال: "قلت لرافع: إن لي أرضًا أكريها، فنهاني رافع، وأراه قال لي: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن كراء الأرض، وقال: إذا كان لأحدكم أرضًا فليزرعها أوليُزرِعْها أخاه، فإن لم يفعل فليدعها ولا يكريها بشيء، فقلت: أرأيت إن تركتها فلم أزرعها ولم أكرها بشيء فزرعها قوم فوهبوا إليَّ من نباتها شيئًا آخذه؟ قال: لا". ش: هذه عشر طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد المكي، عن رافع بن خديج. وأخرجه النسائي (¬1): عن ابن مثنى ومحمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن رافع: "نهى النبي -عليه السلام- عن الحقل". قوله: "عن الحقْل" بفتح الحاء المهملة وسكون القاف وفي آخره لام، وقد فسره في الحديث. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد المصري ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن مجاهد، عن رافع. وأخرجه الترمذي (¬2): عن هناد، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن حصين، عن مجاهد، عن رافع. . . . إلى آخره نحوه. قال: وفيه اضطراب، يروى هذا الحديث عن رافع، عن عمومته، ويروى عنه عن ظهير بن رافع أحد عمومته، وقد روي هذا الحديث عنه على روايات مختلفة. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 35 رقم 3870). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 667 رقم 1384).

قوله: "فليزرعها" من زرع الأرض. وقوله: "أو ليزرعها" من أزرعه أرضه، والمعنى ليزرعها بنفسه، أو ليجعلها لغيره مزرعة، يقال: أزرعه أرضًا إذا فعلت ذلك معه. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيار الشعيري، عن عبد الواحد بن زياد العبدي المصري، عن سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء وآخر الحروف- قاضي الري، عن مجاهد، عن أُسَيد -بضم الهمزة وفتح السين- ابن أخي رافع بن خديج. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬1): نحوه عن إبراهيم بن يعقوب، عن عفان، عن عبد الواحد ابن زياد، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن مجاهد، حدثني أسيد بن أخي رافع بن خديج، قال: قال رافع. . . . الحديث. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، أن أسيد بن ظهير قال: "جاءنا رافع بن خديج، فقال: إن رسول الله -عليه السلام- ينهاكم عن أمر كان لكم نافعًا، وطاعة رسول الله -عليه السلام- أنفع لكم، إن رسول الله -عليه السلام- ينهاكم عن الحقل، وقال: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو يدع". قال أبو داود: هكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل عن منصور. وقال شعبة: أسيد بن أخي رافع بن خديج. قلت: قال ابن منده وأبو نعيم: أسيد بن ظهير عم رافع بن خديج. وقال ابن الأثير: وليس كذلك، وإنما هو ابن عمه؛ لأن رافع بن خديج بن رافع بن عدي، وظهير بن رافع بن عدي. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 34 رقم 3866). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 260 رقم 3398).

وهذا كما ترى قد وقع في رواية الطحاوي، والنسائي، وأبي داود في رواية شعبة: أسيد ابن أخي رافع بن خديج، وفي رواية أبي داود من طريق سفيان: أسد بن ظهير، وكذا في إحدى روايات النسائي. وهذا أيضًا يعني أن أسيدًا هو ابن عم رافع بن خديج مثلما قال ابن الأثير، وهذا كما ترى لا يخلو عن اضطراب. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد قال: "أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج"، واسمه رفاعة بن رافع، ذكره ابن حبان في "الثقات". وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا حماد بن زيد، عن عمرو: "أن مجاهدًا قال لطاوس: انطلق بنا إلى ابن رافع بن خديج فاسمع منه الحديث عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- قال: فانتهره، قال: إني والله لو أعلم أن رسول الله -عليه السلام- نهى عنه ما فعلته، ولكني حدثني مَن هو أعلم به منهم -يعني ابن عباس - رضي الله عنهما -- أن رسول الله -عليه السلام- قال: لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا". الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الأحمسي الكوفي، عن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج. وأخرجه أبو داود (¬2): ثنا مسدد، قال: نا أبو الأحوص، قال: ثنا طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة، وقال: إنما يزرع ثلاثة. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1184 رقم 1550). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 281 رقم 3400).

قوله: "عن المزابنة" هي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، وإنما نهي عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة. قوله: "والمحاقلة" والمحاقلة مختلف فيها، قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، هكذا جاء مفسرًا في الحديث، وهو الذي يسميه الزَّرَّاعون: المحارثة، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما، وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقيل: هي بيع الزرع قبل إدراكه. وإنما نهي عنها لأنها من المكيل، ولا يجوز فيه إذا كانا من جنس واحد إلا مثلًا بمثل ويدًا بيد، وهذا مجهول لا يدرى أيهما أكثر، وفيه النسيئة، والمحاقلة: مفاعلة من الحقل، وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه، وقيل: هي من الحقل وهي الأرض التي تزرع، ويسميه أهل العراق: القراح. قوله: "منح أخاه أرضًا" أي: أعارها إياه، وقد تقع المنحة على الهبة مطلقًا لا قرضًا ولا عارية، وهاهنا معناه العارية. السادس: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وعن المعلى بن منصور الرازي أحد أصحاب أبي حنيفة، كلاهما عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج. وأخرجه النسائي (¬1): عن قتيبة، عن سعيد، عن أبي الأحوص. . . . إلى آخره نحوه. وابن ماجه (¬2): عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص نحوه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 40 رقم 3890). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 762 رقم 2267).

السابع: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم الثقفي المكي، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج. وأخرجه مسلم (¬1) نحوه: عن أبي الطاهر، عن عبد الله بن وهب، عن جرير ابن حازم، عن يعلى بن حكيم. . . . إلى آخره. وأبو داود (¬2) وابن ماجه (¬3) أيضًا. الثامن: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن بكير بن عامر البجلي الكوفي، عن عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكوفي العابد، عن رافع. وأخرجه أبو داود (¬4): عن هارون بن عبد الله، عن الفضل بن دكين، عن بكير بن عامر، عن ابن أبي نعم نحوه. قوله: "أربيت" أي فعلت الربا. التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن بكير بن عامر، عن عامر الشعبي، عن رافع بن خديج. العاشر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عمر بن يونس بن القاسم الحنفي اليمامي، عن عكرمة بن عمار العجلي اليمامي، عن أبي النجاشي عطاء بن صهيب مولى رافع بن خديج الأنصاري. وأخرجه مسلم (¬5): عن محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عكرمة بن عمار، عن أبي النجاشي، عن رافع بن خديج نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1181 رقم 1548). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 259 رقم 3395). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 823 رقم 2465). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 261 رقم 3402). (¬5) "صحيح مسلم" (3/ 1182 رقم 1548).

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال. (ح) وحدثنا محمد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان بن مسلم، قالا: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، قال: حدثني عبد الله بن السائب، قال: "سألت عبد الله بن معقل عن المزارعة، فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك أن النبي -عليه السلام- نهى عن المزارعة". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، قال: أنا عبد الله بن السائب، فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال البصري، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن أبي إسحاق سليمان الشيباني، عن عبد الله بن السائب الكندي، ويقال: الشيباني الكوفي، عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني، عن ثابت بن الضحاك بن أمية الأنصاري الصحابي. وأخرجه مسلم (¬1): نا يحيى بن يحيى، قال: أنا عبد الواحد بن زياد. ونا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا علي بن مسهر، كلاهما عن الشيباني، عن عبد الله بن السائب، قال: "سألت عبد الله بن معقل عن المزارعة، فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك، أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزارعة" وفي رواية ابن أبي شيبة: "نهى عنها"، وقال: سألت ابن معقل ولم يُسم عبد الله. الثاني: عن محمد بن علي بن داود، عن عفان بن مسلم الصفار، عن عبد الواحد بن زياد. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1183 رقم 1549).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا محمد بن العباس المؤدب، نا عفان بن مسلم، نا عبد الواحد بن زياد، نا سليمان الشيباني، ثنا عبد الله بن السائب، قال: "سألت عبد الله بن معقل عن المزارعة، فقال: ثنا ثابت بن الضحاك، أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزارعة". الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن علي بن مسهر القرشي الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان الشيباني، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن معقل، عن ثابت بن الضحاك نحوه. ص: حدثنا ربيع المؤذن، ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: "كان لرجال منا فضول أرضين على عهد رسول الله -عليه السلام-، فكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع، فقال رسول الله -عليه السلام-: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنح أخاه، فإن أبى فليمسك". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: ثنا عطاء، عن جابر مثله. حدثنا سليمان بن سعيد، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، قال: قيل لعطاء: "هل حدثك جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يؤاجرها؟ فقال عطاء: نعم". حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا همام، قال: سأل سليمانُ بن موسى عطاءً وأنا شاهد. . . . ثم ذكر بإسناده مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان الفوزي، قال: ثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . ." ثم ذكر مثله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (2/ 76 رقم 1342).

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال ابن خثيم: حدثني عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله -عز وجل-". حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا يحيى بن سليم الطائفي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، فذكر بإسناده مثله، وزاد: "من الله ورسوله". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سَلِيم بن حيان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كان له فضل ماء أو فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها، ولا تبيعوها، قال سَلِيم: فقلت له: يعني الكراء؟ قال: نعم". ش: هذه ثمان طرق صحاح: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري. وأخرجه البخاري (¬1): عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، عن عطاء. . . . إلى آخره نحوه. ومسلم (¬2): عن الحكم بن موسى، قال: ثنا هِقْل -يعني: ابن زياد- عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: "كان لرجال فضول أرضين من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: من كانت له فضل أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه". قوله: "أو ليمنح أخاه" أي أو ليعر أرضه أخاه، والمنحة وإن كان معناها الهبة فقد تطلق على العارية أرضًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 927 رقم 2489). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1176 رقم 1536).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه ابن ماجه (¬1): من حديث عطاء، عن جابر نحوه. الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، قال: قيل لعطاء، وهو عطاء بن أبي رباح. وأخرجه أحمد (¬2): عن عفان، عن همام. . . . إلى آخره نحوه. الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا همام، قال: سأل سليمان بن يونس عطاء، فقال: "أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي -عليه السلام- قال: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟ قال: نعم". الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الفوزي -بفتح الفاء وسكون الواو وبالزاي المعجمة- نسبة إلى فوز قرية من قرى حمص. عن ضمرة بن حبيب الحمصي، عن عبد الله بن شوذب الخراساني نزيل بيت المقدس، عن مطر بن طهمان الوراق الخراساني، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه مسلم (3): ثنا عبد بن حميد، نا محمد بن الفضل لقبه عارم، وهو ابن النعمان السدوسي، قال: ثنا مهدي بن ميمون، قال: نا مطر الوراق، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 819 رقم 2451). (¬2) "مسند أحمد" (3/ 363 رقم 14960). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1177 رقم 1536).

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن معين، عن عبد الله ابن رجاء المكي أبي عمران -وليس هو عبد الله بن رجاء الغداني، وكلاهما من رجال الصحيح، يروي عن ابن خثيم -وهو عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري من القارة- أبو عثمان المكي. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي. والحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن يحيى بن معين عن عبد الله ابن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه. وقد مرَّ تفسير المخابرة مرة. السابع: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن يحيى بن سليم القرشي الطائفي الخزاز -بالراء المهملة ثم الزاي المعجمة- الحذاء المكي، أحد مشايخ الشافعي. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الجراح بن مخلد، ثنا يحيى بن سليم، نا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله". الثامن: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَلِيم -بفتح السين وكسر اللام- ابن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن بسطام الهذلي، عن سعيد بن ميناء، عن جابر - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬2): حدثني حجاج بن الشاعر، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: ثنا سَلِيم بن حيان، قال: ثنا سعيد بن ميناء، قال: سمعت ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 262 رقم 3406). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1177 رقم 1536).

جابر بن عبد الله، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "مَن كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا تبيعوها" فقلت لسعيد: ما: لا تبيعوها، يعني الكراء؟ قال: نعم". ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار وكرهوا بها إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء، ومجاهدًا، ومسروقًا، والشعبي، وطاوس بن كيسان، والحسن، ومحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وزفر؛ فإنهم قالوا: تكره إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها، كالثلث والربع. اعلم أن هاهنا مذاهب للناس، فقال أبو عمر: لا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام، مأكولًا كان أو مشروبًا على حال؛ لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئة، وكذلك لا يجوز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولًا ولا مشروبًا سوى الخشب، والقصب، والحطب؛ لأنه في معنى [المزابنة] (¬1). هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه، وذكر ابن سحنون عن المغيرة بن عبد الرحمن: أنه لا بأس بكراء الأرض بطعام لا يخرج منها، وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة يقول: لا تكرى الأرض بشيء إذا أُعِيدَ فيها نَبَت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل، خرج منها أو لم يخرج منها، قال: وكان ابن نافع يقول: لا بأس أن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره، خرج منها أو لم يخرج منها، ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة. وأجمع مالك وأصحابه كلهم أن الأرض لا يجوز كراؤها على بعض ما يخرج منها مما يزرع فيها ثلثًا كان أو ربعًا، أو جزافًا كان؛ لأنه غرر ومحاقلة. ¬

_ (¬1) في "الأصل، ك": "المراقبة"، والمثبت من "التمهيد" (4/ 486).

وقال جماعة من أهل العلم: معنى المحاقلة: دفع الأرض على الثلث والربع، وعلى جزء مما يخرج منها؛ لأنه مجهول ولا يجوز الكراء إلا معلومًا. قالوا: وكراء الأرض بالذهب والورق وبالعروض كلها الطعام وغيره مما ينبت في الأرض وما لا ينبت فيها جائز، كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد، هذا كله قول الشافعي ومَن تابعه. وهو قول أبي حنيفة وداود، وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك. وقال الليث بن سعد، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد بن حنبل: لا بأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع. وقال القاضي عياض: اختلف الناس في منع كراء الأرض على الإطلاق، فقال به طاوس والحسن؛ أخذًا بظاهر النهي عن المحاقلة، وفسرها الرازي بكراء الأرض، فأطلق. وقال جمهور العلماء: إنما يمنع على التقييد دون الإطلاق، واختلفوا في ذلك، فعندنا: إن كراها بالجزء لا يجوز من غير خلاف، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال بعض الصحابة وبعض الفقهاء بجوازه تشبيهًا بالقراض، وأما كراؤها بالطعام مضمونًا في الذمة فأجازه أبو حنيفة والشافعي. وقال ابن حزم في "المحلى": لا يرى عطاء، ومجاهد، ومسروق، والشعبي، وطاوس، والحسن، وابن سيرين والقاسم بن محمد كراء الأرض أصلًا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك، وقال أيضًا: وممن أجاز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، وابن عمر، وسعد، وابن مسعود، وخباب، وحذيفة، ومعاذ - رضي الله عنهم -. وهو قول عبد الرحمن بن يزيد بن موسى، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن المنذر.

واختلف فيها عن الليث، وأجازها أحمد، وإسحاق، إلا أنهما قالا: إن البذر يكون من عند صاحب الأرض، وإنما على العامل البقر والآلة والعمل. وأجازها بعض أصحاب الحديث ولم يبال ممن جعل البذر منهما. وقال أيضًا: واتفق أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، وأبو سليمان، على جواز كراء الأرض، واختلفوا فيه أيضًا وفي المزارعة، فأجاز كل من ذكرنا -حاشى مالكًا وحده- كراء الأرض بالذهب والفضة، وبالطعام المسمى كيله في الذمة ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه الأرض، وبالعروض كلها. وقال مالك بمثل ذلك إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها كالعسل والملح والمري، ونحو ذلك. وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها. ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه، وقال مالك: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون أرض شجر، فيكون مقدار البياض من الأرض مقدار ثلث الجميع، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع فيجوز حينئذٍ أن يعطى بالثلث أو الربع أو النصف على ما يعطى به ذلك السواد. وقال الشافعي: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن تكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها، فيجوز حينئذٍ إعطاؤها بثلث أو ربع أو نصف على ما تعطي به الشجر، وقال أبو بكر بن داود: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها، إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة، فيجوز ذلك حينئذٍ، والله أعلم. ص: وهذه الآثار فقد جاءت على معاني مختلفة، فأما ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -، فروى عن النبي -عليه السلام- نهى عن المزارعة، ولم يبيِّن أي مزارعة هي؟

فإن كانت هي المزارعة على جزء معلوم مما تخرج الأرض، فهذا الذي يختلف فيه هؤلاء المحتجون بهذه الآثار ومخالفوهم. وإن كانت تلك المزارعة التي نهي عنها هي المزارعة على الثلث والربع، وشيء غير ذلك مما يخرج مما يزرع في موضع من الأرض بعينه، فهذا مما يجمع الفريقان جميعًا على فساد المزارعة عليه، وليس في حديث ثابت هذا ما ينفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد معنى من هذين المعنيين بعينه دون المعنى الآخر. وأما حديث جابر بن عبد الله فإنه قال فيه: "كان لرجال منا فضول أرضين، وكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع، فقال رسول الله -عليه السلام-: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبي فليمسك". ففي هذا الحديث أنه لم يُجز لهم إلا أن يزرعوها بأنفسهم أو يمنحوها من أحبوا، ولم يُبح لهم في هذا الحديث غير ذلك، فقد يحتمل أن يكون ذلك النهي كان على أن لا تؤاجر بثلث ولا بربع ولا بدراهم ولا بدنانير ولا بغير ذلك، فيكون المقصود إليه بذلك النهي: هو إجارة الأرض، وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارة الأرض بالذهب والفضة. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: "كان طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة". فهذا طاوس يكره كراء الأرض بالذهب والفضة، ولا يرى بأسا بدفعها ببعض ما تخرج، وسنخبر بذلك فيما بعد إن شاء الله. فإن كان النهي الذي في حديث جابر وقع على الكراء أصلًا بشيء مما تخرج وبغير ذلك، فهذا معنًى يخالفه الفريقان جميعًا. وقد يحتمل أن يكون النهي وقع لمعنًى غير ذلك، فنظرنا هل روى أحد عن جابر في ذلك شيئا يدل على المعنى الذي كان من أجله كان النهي؟

فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن نافع المدني، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- بلغه أن رجالا يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها، وبثلثه بالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله -عليه السلام-: مَن كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسكها". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، أن أبا الزبير المكي حدثه، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "كنا في زمن رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -عليه السلام- فنصيب من كذا، فقال: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليجريها أخاه وإلا فليدعها". فأخبر أبو الزبير في هذا عن جابر بالمعنى الذي وقع النهي من أجله، وأنه إنما هو لشيء كانوا يصيبونه في الإجارة، فكأن النهي من قِبَل ذلك جاء، وقد يحتمل أن يكون معنى حديث ثابت بن الضحاك الذي ذكرنا كذلك، والله أعلم. وأما حديث رافع بن خديج فقد جاء بألفاظ مختلفة اضطرب علينا من أجلها. فأما حديث ابن عمر عنه فهو مثل حديث ثابت بن الضحاك: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المزارعة"، فهو يحتمل أيضًا ما وصفنا من معاني حديث ثابت على ما ذكرنا وبيَّنا، وأما مَن رواه على مثل ما روى جابر، فيحتمل أيضًا ما وصفنا مما يحتمله حديث جابر - رضي الله عنه -. ش: لما أخرج الأحاديث المذكورة عن أربعة أنفس من الصحابة وهم: رافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وثابت بن الضحاك، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -، وكانت مختلفة الألفاظ متباينة المعاني، ولم يكن بُيِّنَ فيها ما الذي نهى عنه، ولا

المعنى الذي وقع النهي لأجله، فلذلك كثر اختلاف أقاويل العلماء فيه، شرع الآن يبين معنى كل واحد منها، فقال: وأما ثابت بن الضحاك. . . . إلى آخره، وأكثره ظاهر. فقوله: "هؤلاء المحتجون" إشارة إلى ما ذكره من قوله: "فذهب قوم إلى هذه الآثار" وهم: عطاء، ومجاهد، ومسروق، ومَن ذكرناهم معهم. قوله: "ومخالفوهم" أراد بهم: الليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وأبا يوسف، ومحمدًا، ومَن ذكرنا معهم. قوله: "وقد ذهب قوم إلى كراهة إجارة الأرض" أراد بهم: عطاء، وطاوس بن كيسان، ومجاهدًا، والقاسم بن محمد، وآخرين؛ فإنهم كرهوا إجارة الأرض بالنقدين. وأخرج في ذلك لبيان مذهب طاوس بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار المكي، عن طاوس. وأخرجه النسائي (¬1) فقال: أنا محمد بن عبد الله بن المبارك، نا زكرياء بن عدي، أنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، قال: "كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة، ولا يرى بالثلث والربع بأسا. . . ."، وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال ابن حزم: وهذا نص قولنا. قوله: "فإذا يونس. . . ." إلى آخره أخرج هذا من ثلاث طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن نافع المدني -فيه مقال- عن هشام بن سعد المدني، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 36 رقم 3873).

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث هشام بن سعد، أن أبا الزبير حدثه، سمعت جابرًا يقول: "كنا في زمان رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فقام رسول الله -عليه السلام-، فقال: مَن كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها". قوله: "وبالماذيانات" قال الإِمام: الماذيانات ما ينبت على الأنهار الكبار، وليس بالعربية، ولكنها سَوَادِيَّة، والسواقي دون الماذيانات. وقال القاضي: ضبطنا هذا الحرف في كتاب مسلم بكسر الذال، وضبطناه عن بعض شيوخنا في غير مسلم بفتحها، قيل: هي مسالات المياه، وقال سحنون: الماذيانات ما نبتت على حافتي سبيل الماء، وقيل: ما نبتت حول السواقي من الخصب. الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي الطاهر وأحمد بن عيسى جميعًا، عن ابن وهب -قال ابن عيسى: ثنا عبد الله بن وهب- قال: حدثني هشام بن سعد، أن أبا الزبير المكي حدثه، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: "كنا في زمن رسول الله -عليه السلام- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع، بالماذيانات، فقام رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فقال: مَن كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها". الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 130 رقم 11492). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1177 رقم 1536).

وأخرجه مسلم (¬1) أيضًا: نا أحمد بن يونس، قال: نا زهير، قال: نا أبو الزبير، عن جابر، قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله -عليه السلام- فنصيب من القصري ومن كذا، فقال رسول الله -عليه السلام-: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليجريها أخاه وإلا فليدعها". قوله: "نخابر" من المخابرة وهي المزارعة. قوله: "من القِصرِي" بكسر القاف والراء وصاد مهملة. وعن الطبري: بفتح القاف والراء مقصور. وعن ابن الحذاء: بضم القاف مقصور، والصواب الأول، قال أبو عبيد: القصارة ما بقي من الحبوب في السنبل، وقال ابن دريد: القصارة ما بقي في السنبل بعد ما يداس، وأهل الشام يسمونه: القِصْرِي. ص: ثم نظرنا بعد ذلك هل نجد عن رافع معنى يدلنا على وجه النهي عن ذلك لِمَ كان؟ فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة، أن يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرهم، عن خالد بن قيس الزُرَقي، عن رافع بن خديج قال: "كنا بني حارثة أكثر أهل المدينة حقلا، وكنا نكري الأرض على أن ما سقى الماذيان والربيع فلنا، وما سقت الجداول فلهم، فربما سلم هذا وهلك هذا، وربما سلم هذا وهلك هذا، ولم يكن عندنا يومئذٍ ذهب ولا فضة فنعلم ذلك، فسألنا رسول الله -عليه السلام- عن ذلك فنهانا". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أنا حنظلة بن قيس الزرقي، أنه سمع رافع بن خديج يقول: "كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكنا نقول للذي نخابره: لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة تزرعها لنا، فربما أخرجت هذه القطعة ولم تخرج هذه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1177 رقم 1536).

شيئًا، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه شيئًا، فنهانا رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، فأما بِوَرِق فلم ينهنا عنه". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا ابن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: "كنا نحاقل على عهد رسول الله -عليه السلام-والمحاقلة أن يكري الرجل أرضه بالثلث أو الربع، أو طعام مسمى- فبينا أنا ذات يوم إذ أتى بعض عمومتي، فقال: نهانا رسول الله -عليه السلام- عن أمر كان لنا نافعًا، وطاعة رسول الله -عليه السلام- أنفع، قال: من كانت له أرض فليمنحها أخاه ولا يكريها بثلث ولا ربع، ولا طعام مسمى". فبيَّن رافع في هذا كيف كانوا يزارعون، فرجع معنى حديثه إلى معنى حديث جابر - رضي الله عنه -، وثبت أن النهي في الحديثين جميعًا، إنما كان لأن كل فريق من أرباب الأرضين والمزارعين كان يختص بطائفة من الأرض، فيكون له ما خرج منها مَن زرع، إن سلم فله، وإن عطب فعليه، وهذا مما أجمع على فساده، فهذا قد خرج معنى حديث رافع على أن النهي المذكور فيه كان للمعنى الذي وصفنا لا لإجارة الأرض بجزء مما يخرج منها. ش: لما لم يكن في أحاديث رافع المتقدم ذكرها ما يدل على وجه النهي في ذلك لأي شيء كان؟ أتى هاهنا بأحاديث أخرى رويت عنه، فيها بيان معنى النهي، ووجهه ما ذكره الطحاوي. وأخرج ذلك من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير -شيخ أبي داود وابن ماجه- عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حنظلة بن قيس الزرقي المدني، عن رافع بن خديج.

وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): ثنا يوسف القاضي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن حنظلة بن قيس، عن رافع بن خديج، قال: "كُنَّا بني حارثة أكثر أهل المدينة حقلًا، وكنا نكري الأرض ونشترط على الإكراء أن ما سقى الماذيانات والربيع فلنا، وما سقي بالجداول فهو لكم، فربما هلك هذا وسلم هذا، وربما سلم هذا وهلك هذا، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، ولم يكن عندنا يومئذٍ ذهب ولا فضة فنعلم ذلك". قوله: "بني حارثة" نصب على التخصيص، وهذا من قبيل قوله: "إنا معشر الأنبياء لا نورث". قوله: "حقلًا" أي زرعًا، وهو بسكون القاف: الزرع الذي يتشعب ورقه قبل أن تغلظ سوقه. و"الربيع" هو النهر الصغير ويجمع على أربعاء. و"الجداول" جمع جدول، وهو النهر الصغير أيضًا. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن حامد بن يحيى البلخي شيخ أبي داود، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حنظلة بن قيس، عن رافع. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا عمرو الناقد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن حنظلة الزرقي، أنه سمع رافع بن خديج، يقول: "كنا أكثر الأنصار حقلًا، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا". الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن المنهال -شيخ ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 260 رقم 4337). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1183 رقم 1547).

البخاري ومسلم وأبي داود- عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم الثقفي، عن سليمان بن يسار، عن رافع. وأخرجه مسلم (¬1): حدثني علي بن حجر السعدي، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: نا إسماعيل -وهو ابن علية- عن أيوب، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: "كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله -عليه السلام- فنكريها بالثلث والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله -عليه السلام- عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها بالثلث والربع، والطعام المسمى، وأَمَرَ رَبَّ الأرض أن يَزْرَعْها أو يُزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك". وأخرج أيضًا (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة، عن ابن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم بهذا الإسناد مثله. قوله: "كنا نحاقل" من المحاقلة، وفي تفسيرها أقوال، وقد ذكرنا بعضها، وقد فسرها في الحديث بقوله: "والمحاقلة أن يكري. . . ." إلى آخره. قوله: "إذ أتى بعض عمومتي" وهو ظهير بن رافع، والعمومة: جمع عَمّ، كالخئولة: جمع خال. ص: وقد أنكر آخرون على رافع ما روى من ذلك، وأخبروا أنه لم يحفظ أول الحديث. فحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن الوليد بن أبي الوليد، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، قال: "يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله كنت أعلم بالحديث منه، إنما جاء رجلان ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1181 رقم 1548). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1182 رقم 1548).

من الأنصار إلى رسول الله -عليه السلام- قد اقتتلا، فقال: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع قوله: لا تكروا المزارع". فهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يخبر أن قول النبي -عليه السلام-: "لا تكروا المزارع" النهي الذي قد سمعه رافع لم يكن من النبي -عليه السلام- على وجه التحريم، وإنما كان لكراهية وقوع الشر بينهم. ش: أي وقد أنكر جماعة آخرون على رافع بن خديج، وأراد بهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وطاوس بن اليمان - رضي الله عنهم -، فإنهم أنكروا على رافع ما روى من الحديث المذكور، وقالوا: إنه لم يحفظ أول الحديث، وإنما لحق من النبي -عليه السلام- آخر الحديث، وقد فاته أوله، فروى القدر الذي وقف عليه، وبيَّن ذلك بقوله: فحدثنا علي بن شيبة. . . . إلى آخره، بالفاء التفسيرية. أخرجه عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن بشر بن المفضل بن لاحق البصري الثقة الحجة، عن عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني -المختلف فيه- عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر العنسي، ذكره ابن أبي حاتم، وقال: سمعت أبي يقول: هو لا يسمى وهو منكر الحديث. يروي عن الوليد بن أبي الوليد، واسمه عثمان القرشي المدني مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقيل: مولى عثمان بن عفان. وثقه أبو زرعة وابن حبان. يروي عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن علية. وثنا مسدد، قال: نا بشر -المعنى- عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن الوليد بن أبي الوليد، عن عروة بن الزبير، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 257 رقم 3390).

قال: قال زيد بن ثابت: "يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان -قال مسدد: من الأنصار- قد اقتتلا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع". وأخرجه النسائي (¬1): عن حسين بن محمد البصري، عن ابن علية. . . . بإسناده نحوه. وعن (¬2) عمرو بن علي، عن يزيد بن زريع. وعن (¬3) إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي عبيدة بن محمد، عن الوليد، عن عروة، به. وخالفا ابن علية في قوله: الوليد بن أبي الوليد. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن إسماعيل بن علية. . . . فذكره. ص: وقد روي عن ابن عباس من ذلك شيء. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان وحماد بن سلمة وحماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، قال: قلت له: "يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله -عليه السلام- نهى عنها، فقال: أخبرني أعلمهم -يعني ابن عباس- أن رسول الله -عليه السلام- لم يَنْه عنها، ولكنه قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ منها خراجًا معلومًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو. . . . فذكر بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 50 رقم 3927). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 106 رقم 4659). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 106 رقم 4660). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 822 رقم 2461).

فبيَّن ابن عباس أن ما كان من النبي -عليه السلام- في ذلك لم يكن للنهي؛ وإنما أراد الرفق بهم. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس من المعنى الذي ذكره زيد بن ثابت في حديث رافع بن خديج شيء. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة والحمادين، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان. . . . إلى آخره. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن عمرو وابن طاوس، عن طاوس: "أنه كان يخابر، قال عمرو: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، لو تركت هذه المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي -عليه السلام- نهى عن المخابرة، فقال أي عمرو: أخبرني أعلمهم بذلك -يعني ابن عباس- أن النبي -عليه السلام- لم ينه عنها، إنما قال: يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا". وأخرجه البخاري (¬2) أيضًا نحوه. وقال البيهقي: كأن ابن عباس وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - أنكروا إطلاق النهي، وعنى ابن عباس بما "لم ينه عنه" من ذلك كراءها بالذهب والفضة، وبما لا غرر فيه، وقد قيد بعض الرواة عن رافع الأنواع التي وقع النهي عنها، وبيَّن علة النهي وهي ما يخشى على الزرع من الهلاك، وذلك غرر في العوض، فوجب فساد العقد، وإن كان ابن عباس عنى بما "لم ينه عنه" كراءها ببعض ما يخرج منها ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1184 رقم 1550). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 821 رقم 2205).

فقد روينا عمن سمع نهيه عنه، فالحكم له دونه، وقد روينا عن زيد بن ثابت ما يوافق رواية رافع وغيره، فدل أن ما أنكره غير ما أثبته، ومن العلماء من على ما لو وقعت بشروط فاسدة كالجداول والماذيانات وهي الأنهار، ونحو شرط القصارة وهي ما بقي من الحب في السنبل بعد الدرس، ويقال فيه: القِصْرِي، ونحو شرط ما سقى الربيع وهو النهر الصغير والسرى ونحوه. وجمع الربيع أربعاء. قالوا: وكانت هذه شروطًا بعد الشرط على الثلث أو النصف، فنرى أنه -عليه السلام- نهى عن المزارعة لهذه الشروط؛ لأنها مجهولة، فإذا كانت الحصص معلومة نحو النصف والثلث والربع، وعدمت الشروط الفاسدة؛ صحت المزارعة، وإلي هذا ذهب أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وغيرهم. ومن أهل الرأي: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. والأحاديث التي وردت في معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع حجة لهم في هذه المسألة. وضعف أحمد حديث رافع وقال: هو كثير الألوان. وقال الخطابي: وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرج الأرض، فإنما أراد بذلك أن يتمانحوا أراضيهم وأن يَرْفق بعضهم بعضًا، وقد ذكر رافع في رواية أخرى عنه في هذا الباب النوع الذي حُرِمَ منها، والعلة التي من أجلها نُهي عنها، وذلك قوله: "كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله -عليه السلام- على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع. . . ." الحديث. فأعلمك في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها شروطًا فاسدة، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول، ويكون خاصًّا لرب الأرض والمزارعة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة، وقد يَسلم ما على السواقي والجداول، ويهلك سائر الزرع، فيبقى

المزارع ولا شيء له، وهذا خطر، وإذا شرط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة فسدت المضاربة؛ فهذا وذلك سواء، وأصل المضاربة في السنة: المزارعة أو المساقاة، فكيف يجوز أن تصح الفروع وتبطل الأصول. وقال أيضًا: وقد أنعم محمد بن إسحاق بن خزيمة وجوَّد وصنف في المزارعة مسألة ذكر فيها علل الأحاديث التي وردت فيها. ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون كره لهم أخذ الخراج؛ لما وقع بين الرجلين في حديث زيد فقال: "لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ منه خراجًا معلومًا؛ لأن ما كان وقع بين ذينك الرجلين من الشر إنما كان في الخراج الواجب لأحدهما على صاحبه، فرأى أن المنحة التي لا تجري بينهم فيها ذلك خير لهم من المزارعة التي توقع بينهم مثل ذلك". ش: هذا وجه آخر في معنى النهي الوارد في حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، وهو ظاهر. ص: وقد جاء بعضهم بحديث رافع على لفظ حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - هذا. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت مجاهدًا، عن رافع بن خديج قال: "نهانا رسول الله -عليه السلام- عن أمرٍ كان لنا نافعًا، وأمرنا بخير منه، فقال: مَن كان له أرض فليزرعها أو ليمنحها، قال: فذكرت ذلك لطاوس، فقال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله -عليه السلام- ليمنحها أخاه خير له أو يمنحها خير له. فيحتمل أن يكون وجه هذا الحديث على ذلك أيضًا، فيكون في قوله: "نهانا عن أمر كان لنا نافعًا" يريد ما ذكر زيد بن ثابت أن رافعًا سمعه وأمرنا بكذا، فأما ابن عباس فلم يكن لجميع ما سمع في الحقيقة نهيٌ لكراء الأرض بالثلث والربع. ش: أي بعض الرواة من المحدثين، وأشار بهذا إلى بيان أن جميع ما سمع

رافع بن خديج في هذا الباب ليس له حقيقة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع؛ لأن حديثه الذي روي من لفظ حديث ابن عباس يدل على هذا. أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري الكوفي الزراد، عن مجاهد المكي، عن رافع بن خديج. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (¬1): قال: ثنا يوسف القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، وثنا محمد بن عبدوس، ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن مجاهد، عن رافع بن خديج قال: "خرج علينا رسول الله -عليه السلام- فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا، وأمر رسول الله -عليه السلام- خير، قال: مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أو ليذرها، فذكرنا ذلك لطاوس، فقال: إن ابن عباس كان أعلم. قال: قال ابن عباس: لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خيرٌ له". قوله: "ليمنحها أخاه خيرٌ له" أي ليعرها أخاه. وارتفاع "خير" على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ليمنحها أخاه، ومنحها إياه خير له، وكذلك التقدير في قوله: "أو يمنحها خير له". ص: وقد روي عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر - رضي الله عنهم - في النهي عن ذلك: أنه إنما كان لبعض المعاني التي تقدم ذكرنا لها. حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن لُبَيْبة، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "كان الناس يُكرون المزارع بما يكون على السواقي وبما سُعِدَ بالماء مما حول البئر، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، وقال: اكروها بالذهب والوَرِق". ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 265 رقم 4366).

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا حسان بن غالب، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن رافع بن خديج أخبر عبد الله بن عمر وهو متكئ على يدي: "أن عمومته جاءوا إلى رسول الله -عليه السلام- ثم رجعوا، فقالوا: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن كراء المزارع. فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يُكريها على عهد رسول الله -عليه السلام- على أن له ما في ربيع السواقي الذي تفجر منه الماء، وطائفة من التبن، ولا أدري ما هو". فبيَّن سعد - رضي الله عنه - في هذا الحديث نهي النبي -عليه السلام- لم كان؟ وأنه كان لأنهم قد كانوا يشترطون ما على ربيع الساقي وذلك فاسد في قول الناس جميعًا، وحمل ابن عمر النهي على أنه قد يجوز أن يكون على ذلك المعنى أيضًا، وزاد حديث سعد على غيره من هذه الأحاديث إباحة النبي -عليه السلام- إجارة الأرض بالذهب والورق، فقد بان بنهي رسول الله -عليه السلام- عن المزارعة في الآثار المتقدمة لم كان؟ وما الذي نهى عنه من ذلك؟ ولم يثبت في شيء منها النهي عن إجارة الأرض ببعض ما يخرج إذا كان ثلثًا أو ربعًا أو ما أشبه ذلك. ش: أي قد روي عن سعد، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - في النهي عن المزارعة أنه إنما كان لبعض المعاني الذي مضى ذكره، وهو إدخال الشرط الفاسد، وهو أنهم كانوا يشترطون ما على ربيع الساقي، وهذا الشرط فاسد في قول العلماء جميعًا، وإليه أشار بقوله: "فبيَّن سعد - رضي الله عنه - في هذا الحديث نهي النبي -عليه السلام- لم كان؟ ". يعني بيَّن علة النهي في ذلك، وهي ما ذكرناه. وكذلك حديث ابن عمر على هذا المعنى، فهذان الحديثان بيَّنا وجه النهي عن ذلك في الأحاديث المتقدمة؛ لأن الأحاديث بعضها يُفسر بعضًا، ومع هذا لم يثبت في شيء من الأحاديث المذكورة النهي عن إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها إذا كان ثلثًا أو ربعًا أو ما أشبه ذلك. وأخرج حديث سعد: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال.

عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي المدني، عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة -ويقال: ابن أبي لبيبة- ويقال: لبية أمه وأبو لبية أبوه، واسمه وردان -قال يحيى: ليس حديثه بشيء. وذكره ابن حبان في "الثقات". وهو يروي عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن سعيد بن المسيب، عن سعد قال: "كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع، وما سُعد بالماء منها، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة". وأخرجه النسائي (¬2) أيضًا. وأخرج حديث ابن عمر، عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي، عن حسان بن غالب بن نجيح الرعيني المصري، وثقه ابن يونس، وضعفه آخرون. عن يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد المدني القارِّي، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن رافع بن خديج. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا عبدان بن أحمد، ثنا أبو الأشعث، ثنا الفضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع: "أن رافع بن خديج أخبر عبد الله بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 258 رقم 3391). (¬2) "المجتبى" (7/ 41 رقم 3894) بنحوه. (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 256 رقم 4318).

عمر وهو متكئ على يدي، أن عمومته جاءوا إلى النبي -عليه السلام-، ثم رجعوا إلى رافع بعده، ورووا أن النبي -عليه السلام- نهى عن كراء المزارع". وأخرجه النسائي (¬1) بمعناه. قوله: "وبما سُعِدَ بالماء" أي وبما جاء من الماء سَيْحًا لا يحتاج إلى دالية. وقيل: معناه ما جاء من غير طلب، قال الأزهري: السعيد: النهر، مأخوذ من هذا وجمعه سُعُد، ومنه الحديث: "كنا نزارع على السعيد" والسواعد مجاري الماء في النهر أو في البحر، ومجاري المخ في العظم. قوله: "والوَرِق" بفتح الواو وكسر الراء، وهو الفضة. قوله: "ما في ربيع الساقي" من إضافة الموصوف إلى الصفة أي النهر الذي يسقي الزرع. ص: وقد احتج قوم في ذلك لأهل المقالة الأولى بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن هرمز، عن أسيد بن رافع بن خديج، سمعه يذكر: "أنهم منعوا من المحاقلة، وهي أن تكرى أرضٌ على بعض ما فيها". حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله -عليه السلام- نهى عنها، فتركناها من أجل قوله". حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن مسلم الطائفي، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المخابرة، والمزابنة، والمحاقلة. فالمخابرة: على الثلث ¬

_ (¬1) "المجتبى" (7/ 45 رقم 3908).

والربع والنصف من بياض الأرض. والمزابنة: بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، وبيع العنب في الشجر بالزبيب. والمحاقلة: بيع الزرع قائمًا على أصوله بالطعام". حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليم بن حيان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة". حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا سعيد بن عُفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمه واسع بن حَبَّان، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس بن القاسم، قال: ثنا أبي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن رسول -عليه السلام- مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن حفص الأصفهاني، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدثني عمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. قال: "والمحاقلة: الشرك في الزرع. والمزابنة: التمر بالتمر في رءوس النخل. قالوا: فقد نهى النبي -عليه السلام- عن المحاقلة وهي كراء الأرض بالثلث والربع. ونهى أيضًا عن المخابرة وهي كذلك أيضًا. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أصحاب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي، وزفر بن الهذيل؛ فإنهم احتجوا في فساد المزارعة نصرةً لأهل المقالة الأولى الذين ذكرناهم فيما مضى بأحاديث رويت عن أسيد بن رافع بن خديج،

وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. فإن النبي -عليه السلام- نهى عن المحاقلة والمخابرة في أحاديثهم، وهي كراء الأرض بالثلث والربع ونحو ذلك. أما حديث أُسَيْد، بضم الهمزة وفتح السين، كذا قاله ابن ماكولا، وقال: أخرجه البخاري في باب أَسِيد وأُسَيْد -يعني بفتح الهمزة وضمها- وقال الدارقطني: والصواب الضم. فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أسيد بن رافع بن خديج. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن أسيد بن رافع، عن أبيه قال: "نهانا النبي -عليه السلام- أن نكري الأرض ببعض ما فيها". وأما حديث ابن عمر فأخرجه: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن حامد بن يحيى البلخي شيخ أبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، وأبو الربيع العتكي -قال أبو الربيع: ثنا، وقال يحيى: أنا- حماد بن زيد، عن عمرو، قال: سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 266 رقم 4371). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1179 رقم 1547).

يقول: "كنا لا نرى بالخَبر بأسًا حتى كان عام أول؛ فزعم رافع أن نبي الله -عليه السلام- نهى عنه". وأخرجه أيضًا (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد عنه، وزاد: "فتركناه من أجله". وأما حديث جابر فأخرجه من أربع طرق صحاح: الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن مسلم الطائفي المكي، عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي نزيل مكة، عن عمرو بن دينار، عن جابر. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن عامر، عن شريح، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو به، نحوه. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سَلِيم -بفتح السين وكسر اللام- بن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- الهذلي، عن سعيد بن ميناء -بكسر الميم- المكي، عن جابر. وأخرجه مسلم (¬3): ثنا عبد الله بن هاشم، قال: ثنا بهز، قال: ثنا سَليم بن حيان، قال: ثنا سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، وعن بيع الثمرة حتى تشقح. قال: قلت لسعيد: وما تشقح؟ قال: تحمارّ وتصفارّ، ويؤكل منها". الثالث: عن ربيع الجيزي، عن سعيد بن كثير بن عفير شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب المصري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي وأبي الزبير محمد بن مسلم المكي، كلاهما عن جابر. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1179 رقم 1547). (¬2) "المجتبى" (7/ 48 رقم 3920). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1175 رقم 1536).

وأخرجه مسلم (¬1): عن عبد بن حميد، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، أنهما سمعا جابر بن عبد الله يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة. . . ." الحديث. الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- عن عمه واسع بن حَبَّان، عن جابر. وأخرج البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى ابن حَبَّان، عن عمه واسع، عن جابر: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة، والمزابنة. . . ." الحديث. وأما حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: فأخرجه عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه الترمذي (¬3): عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المحاقلة، والمزابنة، إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرجها". قال أبو عيسى: حديث زيد بن ثابت هكذا روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وروى أيوب وعبيد الله بن عمر ومالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المحاقلة والمزابنة". وبهذا الإسناد عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، عن النبي -عليه السلام-: "أنه رخص في العرايا". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1174 رقم 1536). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 311 رقم 10449). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 594 رقم 1300).

وهذا أصح من حديث محمد بن إسحاق. وأما حديث أنس بن مالك: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عمر بن يونس بن القاسم الحنفي اليمامي، عن أبيه يونس بن القاسم الحنفي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن زيد بن سهل الأنصاري المدني، عن أنس بن مالك. وأخرجه البخاري (¬1): من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقد مرَّ هذا مرةً بغير هذا الإسناد في باب "بيع الثمار قبل أن تتناهى". وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن حفص الأصبهاني، عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن عمر بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه أبي سلمة، عن أبي هريرة. وعمر بن أبي سلمة ليس بالقوي. وأخرجه النسائي (¬2): عن عمرو بن علي، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ص: قيل لهم: أما ما ذكرتم عن النبي -عليه السلام- من نهيه عن المحاقلة فقد صدقتم، ونحن نوافقكم على صحة ذلك، وأما تأويلكم إياه على أنه المزارعة بالثلث والربع فهذا تأويل منكم، وليس عندكم عن النبي -عليه السلام- في ذلك دليل يدل أن تأويله كما تأولتم، وقد يحتمل عندنا ما ذكرتم، ويحتمل أن يكون كما قال مخالفكم: إنه بيع الحنطة كيلًا بحنطة هذا الحقل الذي لا يدرى ما كيله، فهذا عندنا وعندكم فاسد، وهذا أشبه لأنه مقرون بالمزابنة، والمزابنة هي بيع الثمر المكيل بما في رءوس النخل من الثمر. فهذا الحديث يحتمل ما تأوله الفريقان جميعًا عليه، ولا حجة فيه لأحد الفريقين على الآخر. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 768 رقم 2093). (¬2) "المجتبى" (7/ 39 رقم 3884).

ش: أي قيل للقوم الذين احتجوا بالأحاديث المذكورة لأهل المقالة الأولى، وأراد به الجواب عما قالوه، وحاصله أن الأحاديث المذكورة تحتمل ما تأوله هؤلاء، وتحتمل ما تأوله خصمهم، ولا ترجيح لأحد التأويلين على الآخر، فلا يكون حجةً لأحد الفريقين على الآخر؛ لأن أحدهم إذا احتج بأحد التأويلين، يحتج خصمه بالتأويل الآخر، فلا تبقى حجة لهما، فافهم. ص: وقد جاءت آثار غير هذه الآثار فيها إباحة المزارعة بالثلث والربع، فمنها: ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، عن الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن أبي القاسم مقسم، عن ابن عباس قال: "أعطى رسول الله -عليه السلام- خيبر بالشطر، ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم". حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع وابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- عامل أهل خيبر بشطر ما تخرج من الزرع". حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: "كانت المزارع تكرى على عهد رسول الله -عليه السلام- على أن لرب الأرض ما على ربيع الساقي من الزرع وطائفة من التبن، لا أدري كم هو؟ قال نافع: فجاء رافع بن خديج وأنا معه فقال: إن رسول الله -عليه السلام- أعطى خيبر يهودًا على أنهم يعملونها ويزرعونها بشطر ما تُخرج من ثمر أو زرع". حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عون الزيادي -وهو محمد بن عون- قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: "أفاء الله -عز وجل- خيبر، فأقرهم رسول الله -عليه السلام- كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث ابن رواحة فخرصها عليهم". حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن سابق، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر مثله.

ففي هذه الآثار دفع النبي -عليه السلام- خيبر بالنصف من ثمرها وزرعها، فقد ثبت بذلك جواز المزارعة والمساقاة ولم يضاد ذلك ما تقدم ذكرنا له من خبر جابر، ورافع، وثابت - رضي الله عنهم - لما قد ذكرنا من حقائقها. ش: أي قد جاءت أحاديث عن النبي -عليه السلام- خلاف الأحاديث المذكورة فيها إباحة المزارعة بالثلث والربع، وهي حجة على أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى فساد المزارعة بجزء مما يخرج من الأرض، وهي عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر - رضي الله عنهم -. أما حديث ابن عباس: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي القاسم مقسم بن بجرة، عن ابن عباس. وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا إسماعيل بن توبة، نا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- أعطى خيبر أهلها على النصف؛ نخلها وأرضها". قوله: "بالشطر" أي بالنصف. قوله: "ثم أرسل ابن رواحة" وهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري. وأما حديث ابن عمر فأخرجه من طريقين: الأول: إسناده صحيح عن محمد بن عمرو بن يونس، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع". ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 824 رقم 2468). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 262 رقم 3408).

وأخرجه الترمذي (¬1): عن إسحاق بن منصور، عن يحيى به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن ابن الصباح وسهل بن أبي سهل وإسحاق بن منصور، عن يحيى، به. الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي، عن عبد الله بن نافع فيه مقال. عن أبيه نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه الطبراني (¬3): ثنا أحمد بن رشدين، نا عبد الأعلى بن عبد الواحد الكلاعي، ثنا يزيد بن شعيب، عن أسامة بن زيد، عن نافع: "أن ابن عمر لما سمع حديث رافع بن خديج: نهى رسول الله -عليه السلام- عن كراء الأرض، قال ابن عمر: إنما كنا نكريها على ربيع الساقي وببعض ما يخرج منها من التبن". وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عون الزيادي -بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف- البصري، شيخ أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين. عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر. وأخرجه أبو داود (¬4): عن محمد بن أبي خلف، عن محمد بن سابق، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أفاء الله على رسوله -عليه السلام- خيبر، فأقرهم رسول الله -عليه السلام- كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 666 رقم 1383). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 824 رقم 2467). (¬3) "المعجم الكبير" (4/ 255 رقم 4313). (¬4) "سنن أبي داود" (3/ 264 رقم 3414).

الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن محمد بن سابق التميمي البزار الكوفي، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -. قوله: "أفاء الله" من الفيء وهو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وأصل الفيء الرجوع يقال: فاء يفيء فيئة وفُيُوءًا، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. قوله: "فخرصها" من خَرَص النخل والكرمة يَخْرِصُها خرصًا إذا حزر ما عليهما من الرطب تمرًا، ومن العنب زبيبًا، وهو من الخرص: الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن، والاسم الخِرص -بالكسر- والفاعل الخارص. قوله: "ولم يضاد ذلك" أي المذكور من الأحاديث ما قد تقدم ذكرنا له من حديث جابر بن عبد الله، ورافع بن خديج، وثابت بن الضحاك - رضي الله عنهم -. وهذا في الحقيقة جواب عما يقال: إن بين أحاديث ابن عباس وابن عمر وجابر المذكورة هاهنا وبين أحاديث جابر ورافع وثابت تضادًّا ظاهرًا؛ لأن أحاديث ابن عباس وابن عمر وجابر هذه تخبر بإباحة المزارعة بالثلث والربع، وأحاديث هؤلاء تمنع عن هذا. وتحقيق الجواب يفهم مما ذكره من معاني هذه الأحاديث وتنزيلها على تأويلات صحيحة. ص: فاحتج محتج في ذلك، فقال: قد عورضت هذه الآثار أيضًا بما روي عن النبي -عليه السلام- من النهي عن بيع الثمار قبل أن تكون بما قد وصفنا في باب "بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها"، قال: فإذا نهى النبي -عليه السلام- عن الابتياع بالثمار قبل أن تكون، دخل في ذلك الاستئجار قبل أن يكون، فكما كان البيع بها قبل كونها باطلًا؛ كان الاستئجار بها قبل كونها كذلك أيضًا.

ألا ترى أن النبي -عليه السلام- قد نهى عن بيع ما ليس عندك، فكان الاستئجار بذلك غير جائز، إذ كان الابتياع به غير جائز، فكذلك كما كان الابتياع بما لم يكن غير جائز كان الاستئجار به أيضًا غير جائز. ش: أي احتج محتج من أهل المقالة الأولى في فساد المزارعة بجزء مما يخرج منها، وقال: قد عارض هذه الأحاديث المروية عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - ما روي من الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الثمار قبل أن تكون، وقد مرت في باب: "بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها"، فإذا نهي عن شراء الثمار قبل كونها، دخل في ذلك الاستئجار أيضًا؛ لأنه بيع أيضًا؛ لأنه بيع المنافع، فإذا بطل بيع الأعيان بطل بيع المنافع أيضًا؛ قياسًا عليه. ص: قيل له: إنه لو لم تُروَ هذه الآثار التي ذكرنا في إجازة المزارعة بالثلث والربع كان الأمر كذلك ما ذكرت، ولكن لما روي عن النبي -عليه السلام- إباحتها، وعمل بها المسلمون بعده؛ احتمل أن لا يكون الاستئجار بما لم يكن داخلًا في الابتياع بما لم يكن، ويكون مستثنى من ذلك، ولئن لم يبين في الحديث، كما قد أبيح السلم ولم يحرمه النهي عن بيع ما ليس عندك، وإنما وقع النهي في ذلك على بيع ما ليس عندك غير السلم، فكذلك يحتمل أن يكون النهي عن بيع الثمار قبل أن تكون ذلك، على ما سوى المزارعة بها والمساقاة. ش: أي قيل لهذا المحتج "أنه"، أي أن البيان، وأراد به الجواب عما قاله هذا المحتج، وهو ظاهر. ص: وقد عمل بالمزارعة والمساقاة أصحاب رسول الله -عليه السلام- من بعده. حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت أبي يذكر عن موسى بن طلحة، قال: "أقطع عثمان - رضي الله عنه - نفرًا من أصحاب النبي -عليه السلام-: عبد الله بن مسعود، والزبير بن العوام، وسعد بن مالك، وأسامة - رضي الله عنهم -؛ فكان جَارَيَّ منهم سعد بن مالك وابن مسعود يدفعان أرضيهما بالثلث والربع".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: نا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: "سألت موسى بن طلحة عن المزارعة، فقال: أقطع عثمان عبد الله أرضًا، وأقطع سعدًا أرضًا، وأقطع خبابًا أرضًا، وأقطع صهيبًا أرضًا، فكلا جاريَّ كانا يزارعان بالثلث والربع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد بن سلمة، أن يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرهم، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث يعلى بن منية إلى اليمن، فأمره أن يعطيهم الأرض البيضاء على أنه إن كان البقر والبذر والحديد من عمر - رضي الله عنه - فله الثلثان ولهم الثلث، وإن كان البقر والبذر والحديد منهم، فلعمر الشطر ولهم الشطر، وأمره أن يعطيهم النخل والكرم، على أن لعمر - رضي الله عنه - الثلثين ولهم الثلث". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا عبد الواحد بن زياد، قال: أنا الحجاج بن أرطاة، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يعطي الأرض على الشطر". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة، أن الحجاج بن أرطاة أخبرهم، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، أنه قال: "كان حذيفة بن اليمان يكري الأرض على الثلث والربع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس: "أن معاذا قدم اليمن وهم يخابرون، فأقرهم على ذلك". حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا حماد بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس: "أن معاذا لما قدم اليمن كان يكري الأرض والمزارع على الثلث والربع، أو قال: قدم اليمن وهم يفعلونه، فأمضى ذلك.

حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد، عن كليب بن وائل، أنه قال: "قلت لعبد الله بن عمر: أتاني رجل له أرض ومال وليس له بذر ولا بقر، أخذت أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري فناصفته، فقال: حسن". ش: ذكر هذه الآثار عن الصحابة شاهدة لقوله: "وعمل بها المسلمون من بعده". الأول: عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأخرجه من طريقين: الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، فيه مقال، قال البخاري: فيه نظر. يروي عن أبيه إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي الكوفي، اختلف فيه ولكن مسلمًا أخرج له. وهو يروي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني الثقة، قال: "أقطع عثمان - رضي الله عنه -. . . .". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي عوانة، نا إبراهيم بن مهاجر، عن موسى بن طلحة: "أن عثمان - رضي الله عنه - أقطع خمسة من أصحاب رسول الله -عليه السلام-: الزبير، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وخبابا، وأسامة بن زيد - رضي الله عنهم -، فرأيت جَارَيَّ سعدًا وابن مسعود يعطيان أرضيهما بالثلث". الثاني: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن إبراهيم بن مهاجر، عن موسى بن طلحة. وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 145 رقم 11575).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سألت موسى بن طلحة فحدثني: "أن عثمان - رضي الله عنه - أقطع خبابًا أرضًا، وعبد الله أرضًا، وسعدا أرضًا، وصهيبًا أرضًا، فكلا جَارَيَّ قد رأيته يعطي أرضه بالثلث والربع؛ عبد الله وسعدًا". قوله: "وأقطع عثمان نفرًا" يعني أعطى لهم من الأرض؛ قطع لينتفعوا بها، والإقطاع بكسر الهمزة، قد يكون تمليكًا وقد يكون غير تمليك؛ بأن يمكن الإِمام رجلًا من قطعة أرض لينتفع بمنافعها زراعة وإجارة ولا يملكه رقبتها، وذلك كما جرت العادة في هذا الزمان في القطائع السلطانية. الثاني: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرج عنه بسند رجاله ثقات، ولكنه مرسل منقطع. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن حماد ابن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، عن إسماعيل بن أبي حكيم القرشي الأموي، عن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -، بعث يعلى بن منية، وهو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة المكي، ومنية اسم أمه، ويقال: جدته؛ وهي منية بنت غزوان أخت عتبة بن غزوان. ويعلى هذا أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينًا وتبوك مع النبي -عليه السلام-. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث حماد بن سلمة، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز: "أن رسول الله -عليه السلام- قال في مرضه الذي مات فيه: قاتل الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب، فلما استخلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجلى أهل نجران إلى البحرانية، واشترى عقرهم وأموالهم، وأجلى أهل فدك وتيماء وأهل خيبر، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 323 رقم 36515). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 135 رقم 11520).

واستعمل يعلى بن منية، فأعطى البياض على إن كان البذر والبقر والحديد من عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلعمر الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث. وأشار إليه البخاري (¬1) في ترجمة الباب، وقال: قال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع". قال البخاري: وزارع عليّ وسعد وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي وابن سيرين. الثالث: عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأخرجه عنه بإسناد مرسل فيه الحجاج بن أرطاة، وفيه مقال. وأبو جعفر هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) بسند أحسن منه وقال: نا ابن أبي زائدة، عن حجاج، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: "عامل رسول الله -عليه السلام- أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع". الرابع: عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أخرج عنه بسند فيه الحجاج بن أرطاة وفيه مقال. وأخرجه ابن حزم (¬3): من طريق حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن موسى بن طلحة: "أن خبابًا وحذيفة بن اليمان وابن مسعود - رضي الله عنهم - كانوا يعطون أرضهم البياض على الثلث والربع". الخامس: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وأخرج عنه من طريقين صحيحين: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 820 رقم 7). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 377 رقم 21231). (¬3) "المحلى" (8/ 216).

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاوس. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بنحو منه: ثنا جرير، عن ليث، عن طاوس، قال: "جاءنا معاذ ونحن نعطي أرضنا بالثلث والربع، فلم يعب ذلك علينا". الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن حماد بن زيد، عن عمرو، عن طاوس. وأخرج ابن حزم (¬2) بنحو منه: من طريق حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، أنه سمع طاوسًا يقول: "قدم علينا معاذ بن جبل فأعطى الأرض على الثلث والربع، فنحن نعملها إلى اليوم". وقال ابن حزم: مات رسول الله -عليه السلام- ومعاذ باليمن على هذا العمل. السادس: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أخرج عنه بسند صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬3): نا يحيى بن أبي زائدة وأبو الأحوص، كلاهما عن كليب بن وائل قال: "قلت لابن عمر: رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر، فأعطاني أرضه بالنصف، فزرعتها ببذري وبقري، ثم قاسمته على النصف، قال: حسن". وأخرجه سعيد بن منصور أيضًا في "سننه": عن أبي الأحوص وعبيد الله بن زياد بن لقيط، كلاهما عن كليب بن وائل، مثله. ص: ثم إنه قد اختلف التابعون من بعدهم في ذلك: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن حماد ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 377 رقم 21229). (¬2) "المحلى" (8/ 215). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 377 رقم 21233).

أنه قال: "سألت سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله ومجاهدًا عن كراء الأرض بالثلث والربع، فكرهوه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن حماد أنه قال: "سألت مجاهدًا وسالمًا عن كراء الأرض بالثلث والربع فكرهاه، وسألت عن ذلك طاوسًا فلم ير به بأسًا، قال: فذكرت ذلك لمجاهد -وكان يشرفه ويوقره- فقال: إنه يزرع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، أنه قال: "كان إبراهيم يكره كراء الأرض بالثلث والربع". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا حماد بن سلمة، أن قيس بن سعد أخبرهم، عن عطاء، مثله. حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد ويونس، عن الحسن: "أنه كان يكره أن يكري الأرض من أخيه بالثلث والربع". ش: أي أن الشأن قد اختلف التابعون من بعد الصحابة - رضي الله عنهم - في حكم المزارعة بالثلث والربع ونحو ذلك، وإنما كان اختلافهم لاختلاف الآثار في هذا الباب. وأخرج في ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومجاهد بن جبر المكي وطاوس بن كيسان اليماني وإبراهيم النخعي والحسن البصري.

وهؤلاء من سادات التابعين، وقد تكرر ذكر الرجال الذين هاهنا وكلهم ثقات. وبشر بن عمر بن الحكم الزهراني روى له الجماعة، وأبو بكرة هو بكار القاضي، وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، وأبو عمر هو حفص بن عمر الضرير البصري، وأبو عوانة هو الوضاح اليشكري، ومنصور هو ابن المعتمر، وحميد هو الطويل، ويونس هو ابن عبيد البصري. ص: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر: فلما قال أهل المقالة الأولى: إن ذلك لا يجوز في المزارعة والمساقاة إلا بالدراهم والدنانير والقروض، وذلك أن الذين أجازوا المساقاة قد زعموا أنهم شبهوها بالمضاربة، وهي المال يدفعه الرجل إلى الرجل على أن يعمل به على النصف أو الثلث أو الربع، فكل قد أجمع على جواز ذلك، وقام ذلك مقام الاستئجار بالمال المعلوم، قالوا: فكذلك المساقاة تقوم النخل المدفوعة مقام رأس المال في المضاربة، ويكون الحادث عنها من الثمر مثل الحادث عن المال من الربح. ش: أي وأما وجه حكم المزارعة من طريق النظر والقياس. . . . إلى آخره. حاصله: أن القياس يشهد لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى الذين قالوا بفساد إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، فإنه أيضًا أخذ في هذا الباب بالقياس ولم يرجح المزارعة ولا المساقاة كما هو مقرر في كتب أصحابنا، وبَيَّنَ وجه ذلك بقوله: وذلك أن الذين أجازوا. . . . إلى آخره، وهو ظاهر. ص: فكانت حجتنا عليهم في ذلك أن المضاربة إنما يثبت فيها الربح بعد سلامة رأس المال ووصوله إلى يد ربِّ المال، ولم نر المزارعة ولا المساقاة فُعِلَ فيهما ذلك، ألا ترى أن المساقاة في قول من يجيزها لو أبرت النخل فجدَّ عنها الثمر، ثم احترقت النخل وسلم الثمر كان ذلك الثمر بين رب النخل والمساقي على ما اشترطا فيهما، ولم يمنع من ذلك عدم النخل المدفوع كما يمنع عدم رأس المال في

المضاربة من الربح، وكانت المساقاة والمزارعة إذا عقدتا إلا إلى وقت معلوم كانتا فاسدتين، ولا تجوز إلا إلى وقت معلوم، وكانت المضاربة تجوز لا إلى وقت معلوم، وكان المضارب له أن يمتنع بعد أخذه المال للمضاربة من العمل به متى أحب، ولا يجبر على ذلك، وكان لرب المال أيضًا أن يأخذ المال من يده متى أحب، شاء ذلك المضارب أو أبى. وليست المساقاة والمزارعة كذلك؛ لأنا قد رأينا المساقي إذا أبى العمل بعد وقوع عقد المساقاة أجبر على ذلك، وإن أراد ربّ النخل أخذها منه وقبض المساقاة لم يكن له ذلك حتى تنقضي المدة التي تعاقدا عليها، فكان عقد المضاربة عقدًا لا يوجب إلزام واحد من رب المال ولا من المضارب، وإنما يعمل المضارب بذلك المال ما كان هو ورب المال متفقين، وكانت المساقاة تجبر على الوفاء بما يوجب عقدها كل واحد من رب النخل والمساقي، فأشبهت المضاربة الشركة فيما ذكرنا، وأشبهت المساقاة الإجارة فيما قد وصفنا. ش: أي فكانت دليلنا وبرهاننا على أهل المقالة الأولى في قياسهم المزارعة والمساقاة على الإجارة في عدم صحة كرائها إلا بالدراهم والدنانير والعروض، وأراد بذلك منع قياسهم المذكور وبيان فساده بقوله: "إن المضاربة إنما ثبت فيها الربح بعد سلامة رأس المال. . . . إلى آخره"، وبين ذلك من أوجه: أشار إلى الوجه الأول بقوله: "إن المضاربة إنما تثبت فيها الربح. . . . إلى آخره". وإلى الثاني بقوله: "وكانت المساقاة والمزارعة إذا عقدتا. . . . إلى آخره". وإلى الثالث بقوله: "وكان المضارب له أن يمتنع بعد أخذه المال للمضاربة. . . . إلى آخره". وإلى الرابع بقوله: "ونقض المساقاة لم يكن له ذلك. . . . إلى آخره". وإلى الخامس بقوله: "وكانت المساقاة تجبر على الوفاء. . . ." إلى آخره. وبين بهذه الوجوه فساد قياسهم المزارعة على المضاربة؛ فافهم.

ص: ثم رجعنا إلى حكم الإجارات كيف هو؟ لنعلم بذلك كيف حكم المساقاة التي قد أشبهها من حيث وصفنا؟ فرأينا الإجارات تقع على وجوه مختلفة، فمنها إجارات على بلوغ مساقاة معلومة بأجر معلوم فهي جائزة، فهذا وجه من الإجارات. ومنها ما يقع على عمل معلوم مثل خياطة هذا القميص، وما أشبه ذلك، بأجر معلوم أيضًا. ومنها ما يقع على مدة معلومة، كالرجل يستأجر الرجل على أن يخدمه شهرًا بأجر معلوم؛ فذلك جائز أيضًا. فاحتيج في الإجارات كلها إلى الوقوف على ما قد وقع عليها منها العقد، فلم يجز في جميع ذلك إلا على شيء معلوم، إما المساقاة معلومة وإما عملا معلومًا، وقد كانت المضاربة تقع على عمل بالمال غير معلوم لا إلى وقت معلوم، فكان العمل فيها مجهولًا، والبدل منه مجهول أيضًا، فقد ثبت في هذه الأشياء التي قد وصفناها في الإجارات والمضاربات أن حكم كل واحد منهما حكم بدله، فما كان بدله معلومًا فلا يجوز أن يكون ذلك في نفسه إلا معلومًا، وما كان في نفسه غير معلوم، فجائز أن يكون بدله غير معلوم، ثم رأينا المساقاة والمزارعة لا تجوز واحدة منهما إلا إلى وقت معلوم في شيء معلوم، فالنظر على ذلك أن لا يجوز البدل منهما إلا معلومًا، وأن يكون حكمها كحكم البدل منها، كما كان حكم الأشياء التي ذكرنا في الإجارات والمضاربات حكم أبدالها. فقد ثبت بالنظر الصحيح أن لا تجوز المزارعة ولا المساقاة إلا بالدراهم والدنانير وما أشبهها من العروض، وهذا كله قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ش: لما قال: أشبهت المساقاة الإجارة فيما قد وصفنا، بَيَّنَ حكم الإجارة كيف هو؟ حتى نعلم بذلك حكم المساقاة التي قد أشبهها، وبَيَّنَه بقوله: "فرأينا الإجارات. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر.

ص: وأما أبو يوسف ومحمد فذهبا إلى جوازهما جميعًا وتركا النظر في ذلك، واتبعا ما روينا في هذا الباب من الآثار عن رسول الله -عليه السلام- وعن أصحابه بعده، وقلداها في ذلك والله أعلم. ش: أي إلى جواز المزارعة والمساقاة جميعًا وتركا النظر أي القياس الذي أخذ به أبو حنيفة، واتبعا في ذلك الأحاديث التي وردت في هذا الباب الناطقة بجوازهما، وقلدا ما روي عن الصحابة بعد النبي -عليه السلام- وعن التابعين - رضي الله عنهم -، وهو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وعليه العمل اليوم، والله أعلم.

ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك

ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك ش: أي هذا باب في بيان حكم من زرع في أرض غيره بغير إذنه كيف يكون الحكم فيه؟ وفي بيان ما روي عن النبي -عليه السلام- في هذا الباب. ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن رافع بن خديج، أنه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من زرع زرعًا في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وترد عليه نفقته". ش: رجاله ثقات، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه أبو داود (¬1): عن قتيبة، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته". والترمذي (¬2): عن قتيبة أيضًا نحوه، وقال: حسن غريب، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وقال: لا أعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من رواية شريك. وابن ماجه (¬3): عن عبد الله بن عامر بن زرارة، عن شريك، بإسناده مثله. قال الخطابي: حديث رافع هذا لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث، وحدثني الحسن بن يحيى، عن موسى بن هارون الحمال أنه كان ينكر هذا الحديث ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 261 رقم 3403). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 648 رقم 1366). (¬3) "سنن ابن ماجه" (2/ 824 رقم 2466).

ويضعفه ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك، ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق، وعطاء لم يسمع من رافع شيئًا. وضعفه البخاري أيضًا، ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك، ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق، وشريك يهم كثيرًا أو أحيانًا. وقال البيهقي: قال الشافعي في كتاب "البويطي": هو منقطع؛ لم يلق عطاء رافعًا. وقال ابن عدي: كنت أظن أن عطاء عن رافع مرسل حتى تبين لي أن أبا إسحاق أيضًا عن عطاء مرسل. قلت: ذكر صاحب "الكمال": أن عطاء سمع رافع بن خديج. وقال الترمذي: هذا الحديث حسن، وسأل عنه البخاري وحسنه. وأخرج البخاري (¬1) في كتاب الحج في "صحيحه": من حديث أبي إسحاق قال: سألت مسروقًا وعطاء ومجاهدًا فقالوا: "اعتمر رسول الله -عليه السلام- في ذي الحجة قبل أن يحج". وهذا تصريح بسماع أبي إسحاق من عطاء. ص: فذهب قوم إلى أن من زرع في أرض قوم زرعًا بغير إذنهم كان ذلك الزرع لأرباب الأرض، وغرموا للمزارع ما أنفق فيه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل وإسحاق؛ فإنهم قالوا: من زرع في أرض غيره بغير إذنه كان ذلك الزرع لرب الأرض وغرم رب الأرض للزارع ما أنفق فيه. وقال الخطابي: قال أحمد: إن كان الزرع قائمًا فهو لرب الأرض، وإن حُصِدَ فإنما تكون له الأجرة. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 631 رقم 1689).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أصحاب الأرض بالخيار: إن شاءوا خلوا بين الزارع وأخذ زرعه ذلك، وضمنوه نقصان أرضهم إن كان زرعه نقصها شيئًا. وإن شاءوا منعوا الزارع من ذلك، وغرموا له قيمة زرعه مقلوعًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم عامة الفقهاء، ومنهم: أبو حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: أصحاب الأرض بالخيار. . . . إلى آخره. قال الخطابي: الزرع في قول عامة الفقهاء لصاحب البذر؛ لأنه تولد من عين ماله ويكون منه، وعلى الزارع كراء الأرض. ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث قد روي على غير ما ذكروا. حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن رافع بن خديج أنه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته، وليس له من الزرع شيء". وقد روى هذا الحديث أيضًا يحيى بن آدم، عن شريك وقيس، جميعًا عن أبي إسحاق، وقد ذكر ذلك عنهما في كتاب "الخراج". كما قد حدثني أحمد بن أبي عمران أيضًا، لا كما قد حدثناه فهد بن سليمان. فمعنى هذا الحديث عندنا غير معنى ما قد روى الحماني؛ لأن ما روى الحماني هو قوله: "فليس له من الزرع شيء، وترد عليه نفقته". فوجه ذلك: أن غيره يعطيه النفقة التي أنفقها في ذلك، فيكون له الزرع لا بما يعطى من ذلك. وهذا محال عندنا؛ لأن النفقة التي قد خرجت في ذلك الزرع ليست قائمة، ولا لها بدل قائم، وذلك أنها إنما دفعت في أجر عمال وغير ذلك مما قد فعله الزارع بنفسه، فاستحال أن يجب له ذلك على رب الأرض لا بعوض يتعوضه منه رب الأرض في ذلك.

ولكن أصل الحديث عندنا والله أعلم: إنما هو على ما قد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، لا على ما رواه الحماني، ووجهه عندنا على أن الزارع لا شيء له في الزرع يأخذه لنفسه فيملكه كما يملك الزرع الذي يزرعه في أرض نفسه، أو في أرض غيره ممن قد أباحه الزرع فيها، ولكنه يأخذ نفقته وبذره ويتصدق بما بقي، هكذا وجه هذا الحديث عندنا، والله أعلم. وقد حكى ذلك يحيى بن آدم عن حفص بن غياث. ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه، وأراد بها الجواب عن الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه. بيان ذلك: أن هذا الحديث مضطرب، وأصله على ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة. أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، عن شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو بكر في "مصنفه" (¬1). قوله: "وقد روى هذا الحديث أيضًا يحيى بن آدم" وهو يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الأموي أبو زكرياء الكوفي شيخ أحمد ويحيى بن معين، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، وهو أحد أصحاب أبي حنيفة. يروي عن شريك بن عبد الله النخعي، وقيس بن وهب الهمداني، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن رافع بن خديج. قوله: "وقد ذكر ذلك عنهما" أي عن شريك وقيس في كتاب "الخراج"، وأراد به كتاب "الخراج" لأبي يوسف، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 492 رقم 22443).

ص: والدليل على صحة ذلك أيضًا ما قد روي عن رسول الله -عليه السلام-. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن عروة بن الزبير أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق". قال عروة: فلقد حدثني هذا الرجل الذي قد حدثني بهذا الحديث: "أنه قد رأى نخلًا يقطع أصولها بالفئوس". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن رجل من بني بياضة: "أن رسول الله -عليه السلام- قد أمر بقطع النخل المغروس في غير حق بعدما قد نبت في الأرض، ولم يجعل ذلك لأرباب الأرض، فيوجب عليهم غرم ما أنفق فيه". فدل ذلك أن الزرع المزروع في الأرض أحرى أن يكون كذلك، وأن يقلع ذلك فيدفع إلى صاحب الزرع، كالنخل التي قد ذكرناها؛ إلا أن يشاء صاحب الأرض أن يمنع ذلك ويغرم له قيمة الزرع والنخل منزرعين مقلوعين، فيكون له ذلك. ش: أي الدليل على صحة ما ذكرنا من معنى الحديث المذكور على الوجه الذي شرحناه: ما قد روي عن النبي -عليه السلام-. أخرجه من طريقين رجالهما ثقات. الأول: مرسل: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان صاحب محمد بن الحسن، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، عن محمد بن إسحاق المدني، عن يحيى بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، أن رسول الله -عليه السلام-.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، قال رسول الله -عليه السلام-: "من أحيا أرضًا ميتة لم تكن لأحد قبله فهي له، وليس لعرق ظالم حق، فلقد حدثني صاحب هذا الحديث أنه أبصر رجلين من بياضة يختصمان إلى رسول الله -عليه السلام- في أجمة لأحدهما، غرس فيها الآخر نخلًا، فقضى رسول الله -عليه السلام- لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله عنه، قال: فلقد رأيته يضرب في أصول النخل بالفئوس، وإنه لنخل عُمٌّ". قال يحيى بن آدم: العُمُّ، قال بعضهم: الذي ليس بالقصير ولا بالطويل. وقال بعضهم: العُمُّ: القديم. وقال بعضهم: الطويل. وروي عن أبي إسحاق قال: العُمُّ: الشباب. وأخرجه أبو داود (¬2): حدثنا هناد السري، قال: ثنا عبدة، عن محمد -يعني: ابن إسحاق- عن عروة، عن أبيه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق، قال: ولقد أخبرني الذي حدّث أن رجلين اختصما إلى رسول الله -عليه السلام-، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها تضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عُمّ، حتى أخرجت منها". وقال (¬3): ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، قال: ثنا وهب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بإسناده ومعناه، إلا أنه قال عند قوله: "فكان الذي حدثني هذا"، "فقال رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-وأكبر ظني أنه أبو سعيد الخدري-: فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول النخل". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 142 رقم 11556). (¬2) "سنن أبي داود" (3/ 178 رقم 3074). (¬3) "سنن أبي داود" (3/ 178 رقم 3705).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن رجل من بني بياضة، عن رسول الله -عليه السلام-. وأخرجه [. .] (¬1). قوله: "وليس لعرق ظالم حق" الرواية بالتنوين في قوله: "لعرقٍ"، وهو على حذف المضاف، أي: وليس لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالما، والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب الحق، وإن روي "عرق" بالإضافة فيكون الظالم صاحب الحق، والحق للعرق، وهو أحد عروق الشجرة، ومعناه: أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله، فيغرس فيها غرسًا غصبًا يستوجب به الأرض. قوله: "بالفئوس" بضم الفاء جمع فأس وهو الذي يشق به الحطب. قوله: "وإنه لنخل عُمّ" بضم العين وتشديد الميم، أي: تامة في طولها والتفافها، وهو جمع عميمة، فلما جمع قيل: عُمَم، فسكن وأدغم. ص: وقد دل على ما ذكرنا في ذلك أيضًا، ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، عن واصل بن أبي جميل، عن مجاهد قال: "اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله -عليه السلام-، فقال أحدهم: علي البذر، وقال الآخر: عليّ العمل، وقال الآخر: عليّ الأرض، وقال الآخر: علي الفدان، فزرعوا ثم حصدوا، ثم أتوا إلى النبي -عليه السلام- فجعل رسول الله -عليه السلام- الزرع لصاحب البذر، وجعل لصاحب العمل أجرًا، وجعل لصاحب الفدان درهما في كل يوم، وألغى الأرض". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لما أفسد هذه المزارعة لم يجعل الزرع لصاحب الأرض، بل جعله لصاحب البذر. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-.

ش: أي قد دل على ما ذكرنا من الوجه المذكور في الحديث المذكور أيضًا: ما حدثنا. . . . إلى آخره. وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، وواصل بن أبي جميل الشامي أبو بكر السلاماني، من أهل جبل الجليل من أعمال صيدا وبيروت من ساحل دمشق، وثقه ابن حبان. وهذا حديث مرسل. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن الأوزاعي، عن واصل بن أبي جميل، عن مجاهد قال: "اشترك أربعة رهط على عهد رسول الله -عليه السلام- في زرع، فقال أحدهم. . . ." إلى آخره نحوه. قوله: "عليَّ الفَدَّان" بفتح الفاء وتشديد الدال، قال الجوهري: الفدان آلة الثورين للحرث، وهو فَعَّال بالتشديد، وقال أبو عمر: وهي البقر التي تحرث، والجمع الفدادين مخفف. وقد استفيد من هذا الحديث: أن الأرض إذا كانت من واحد والبقر من آخر، والبذر من آخر، والعمل من آخر فسدت المزارعة، وكذا إذا كانت الأرض والبقر لواحد، والبذر والعمل للآخر، وهذا في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف جوازها في هذه الصورة. وكذا فسدت إذا كان البذر من واحد والباقي من الآخر. وقال الطحاوي في كتابه "اختلاف العلماء": حدثنا جعفر بن أحمد، قال: أنا بشر بن الوليد، قال: قال أبو يوسف في المزارعة: إذا كان البذر من عند رب الأرض، ومن عند الرجل الآخر البقر، والعمل بالنصف فهو جائز، وإن كان من عند رب الأرض البقر والأرض، ومن عند الدخيل البذر والعمل فهو جائز، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 504 رقم 22563).

وإن كان من عند رب الأرض البقر والعمل بنفسه، ومن عند الدخيل العمل بنفسه والبذر، فهذا فاسد والزرع لصاحب الأرض، ولصاحب الأرض أجر مثله، وأجر مثل بقره، والله أعلم. ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد حكم به أصحاب رسول الله -عليه السلام- وتابعوهم من بعده، فيمن بنى في أرض قوم بغير إذنهم بناء، فروي عنهم في ذلك ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: أنا حماد بن سلمة، أن عامرًا الأحول أخبرهم، عن عمرو بن شعيب: "أن عمر بن الخطاب قال في رجل بني في دار بناء، ثم جاء أهلها فاستحقوها، قال: إن كان بنى بأمرهم فله بيته، وإن كان بنى بغير إذنهم فله نقضه". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا أبو عوانة، عن جابر الجعفي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مثله. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا أبو عوانة، عن جابر الجعفي، عن شريح. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: قال حماد بن سلمة: عن حميد الطويل أخبرهم: "أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قد كتب مثل ذلك فيمن بني بدار قوم، وفيمن غرس في أرض قوم". أفلا نرى أنهم قد جعلوا النقض لصاحب البناء، ولم يجعلوه لصاحب الأرض، فالزرع في النظر أيضًا كذلك، والذي قد حملنا عليه معنى حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - الذي رويناه في هذا الباب أولى مما حمله عليه من خالفنا؛ ليتفق ذلك وما رواه البياضي عن رسول الله -عليه السلام- ولا يتضادان، وقد روينا عن رافع بن خديج في باب "المزارعة" الذي قبل هذا الباب: "أن رسول الله -عليه السلام- قد مر بزرع له، فسأله عنه، فقال: هو زرعي، والأرض لآل فلان، والبذر من قبلي بنصف ما يخرج، فقال له رسول الله -عليه السلام-: لقد أربيت، خذ نفقتك".

فلم يكن ذلك على معنى خذ نفقتك من رب الأرض؛ لأن رب الأرض لم يأمره بالإنفاق لنفسه، ولكن معنى ذلك خذ نفقتك مما خرج من الزرع وتصدق بما بقي. فما قد رويناه عن رافع عن رسول الله -عليه السلام- فيمن قد زرع في أرض غيره وفي جعله له نفقته كذلك أيضًا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أي وقد دل على ما ذكرنا من جعل الزرع لصاحب البذر دون صاحب الأرض أيضًا ما قد حكمت به الصحابة والتابعون من بعد النبي -عليه السلام- فيمن بنى في أرض قوم. . . . إلى آخره. وأخرج في ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وشريح القاضي، وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم -. أما عن عمر فأخرجه بسند رجاله ثقات ولكنه منقطع. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير. وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) نحوه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: عن حفص، عن أشعث، عن علي بن عبيد الله الغطفاني عنه. وأما عن عبد الله بن مسعود: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري عن جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن جده عبد الله بن مسعود. وهذا أيضًا منقطع؛ لأن القاسم لم يدرك عبد الله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 494 رقم 22462).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر، عن شعبة، عن جابر، عن القاسم، عن شريح وعبد الله: "كانا يقولان في رجل بنى في فناء قوم بغير إذنهم أن له النقض، وإن بنى بإذنهم فله النفقة". وأما عن شريح القاضي: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): عن وكيع، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن شريح قال: "من بني في حق قوم بغير إذنهم فله نقضه، ومن بني في حق قوم بإذنهم فله نفقته". وأما عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. وبنحوه روى ابن أبي شيبة عن الشعبي (¬3) والنخعي (¬4). قوله: "أفلا ترى" توضيح لما ذكره من قبل. قوله: "من خَالَفَنَا" بفتح اللام والفاء. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 494 رقم 22461). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 494 رقم 22463). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 494 رقم 22464). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 494 رقم 22465).

ص: كتاب الإجارات

ص: كتاب الإجارات ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإجارات، وهو جمع إجارة، وهي فِعَالة أو إِعَالة على تقدير حذف فاء الفعل، وهي في الشرع بيع منفعة معلومة بأجر معلوم. ... ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستئجار على تعليم القرآن، هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن عامر الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه أنه قال: "أقبلنا من عند رسول الله -عليه السلام- فأتينا على حي من أحياء العرب، فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الحبر بخير، فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوهًا في القيود؟ فقلنا: نعم، فجاءوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي ثم أتفل، فكأنما نُشِطَ من عقال، فأعطوني جعلًا، فقلت: لا، حتى أسأل رسول الله -عليه السلام-، فسألته فقال: كُلْ، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق". ش: إسناده جيد حسن، وعبد الله بن أبي السفر -بفتح السين المهملة والفاء- واسمه سعيد بن يحمد الثوري الكوفي، روى له الجماعة. وخارجة بن الصلت بن صحار التميمي، وثقه ابن حبان. وعمه علاقة بن صحار السليطي الصحابي.

وأخرجه أبو داود في البيوع في باب "كسب المعالجين من الطب" (¬1): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه: "أنه مر بقوم فأتوه، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فَارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنما نشط من عقال، فأعطوه شيئًا، فأتى النبي -عليه السلام- فذكر له، فقال رسول الله -عليه السلام-: كُلْ، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق". وأخرجه أيضًا (¬2) في الطب في باب "كيف الرقى": حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن جابر بن الصلت التميمي، عن عمه قال: "أقبلنا من عند رسول الله -عليه السلام- فأتينا على حي من العرب، فقالوا: إنا أنبئنا أنكم قد جئتم من عند هذا الرجل بخير، فهل عندكم من دواء أو رقية، فإن عندنا معتوهًا في القيود؟ قال: فقلنا: نعم، قال: فجاءوا بالمعتوه في القيود، فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي ثم أتفل، قال: فكأنما نشط من عقال، فأعطوني جعلًا، فقلت: لا، حتى أسأل رسول الله -عليه السلام-، فقال: كُلْ، فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق". وقال أبو داود (¬3) أيضًا: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: حدثني عامر، عن خارجة بن يزيد بن الصلت التميمي، عن عمه: "أنه أتى رسول الله -عليه السلام- فأسلم، ثم أقبل راجعًا من عنده، فمر على قوم عندهم مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: إنا حُدِّثْنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير، فهل عندكم شيء نداويه به؟ فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطوني مائة شاة، فأتيت رسول الله -عليه السلام- فأخبرته، ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (3/ 266 رقم 3420). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 14 رقم 3901). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 13 رقم 3896).

فقال: هل إلا هذا؟ -وقال مسدد في موضع آخر: هل قلت غير هذا؟ - قلت: لا، قال: خذها، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق". وأخرجه النسائي (¬1) في "اليوم والليلة": عن عمرو بن علي، عن غندر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "على حي"، وهي الجماعة النازلون على موضع. قوله: "من عند هذا الحَبْر" بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة، أي العالم، وفي رواية أبي داود: "من عند هذا الرجل". قوله: "أو رقية" بضم الراء، وهي العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات. قوله: "معتوهًا" المعتوه: المجنون المصاب بغفلة، وقد عُتِهَ فهو مَعْتُوه، وفي الحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي، والنائم، والمعتوه" (¬2). قوله: "ثم أتفل" من تَفَلَ يَتْفُلُ ويَتْفِلُ من باب ضَرَبَ يَضْرِب ونَصَرَ يَنْصُر، وهو بالتاء المثناة من فوق، من التَّفْل وهو البزق، وهو أقل من البزق، أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ، قال الجوهري: ومنه تفل الراقي. قوله: "فكأنما نشط من عقال" قال ابن الأثير: وكثير ما يجيء في الرواية كأنما نشط من عقال، وليس بصحيح، والصحيح كأنما أنشط أي حل من عقال، يقال: نَشَطْتُ العقدة إذا عقدتها، وأنشطتها وانتشطتها: إذا حللتها، و"العقال" بكسر العين وهو الحبل الذي يعقل به البعير، أي: يربط ويقيد. قوله: "جُعْلًا" بضم الجيم وسكون العين، وهو الأجرة على الشيء فعلًا أو قولًا، وكذلك الجعالة. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 365 رقم 7534). (¬2) رواه أبو داود في "سننه" (2/ 545 رقم 4402)، والترمذي في "جامعه" (4/ 32 رقم 1423)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 323 رقم 7345)، وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

قوله: "فقال: كل" أي كل الجعل الذي أُعطيتَه. قوله: "فَلَعَمْري" قسم، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والمعنى: لعمري قسمي، يعني أحلف ببقائي ودوامي، وأحلف بحياتي و"اللام" فيه للتأكيد، والعين فيه مفتوحة. قوله: "لقد أكلت برقية حق" جواب القسم. وقوله: "لمن أكل برقية باطل" جملة معترضة بين القسم وجوابه، كذا قيل، والصواب أن جواب القسم هو قوله: "لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق" فالجميع هو جواب القسم. وقوله: "من أكل" كلمة "من" فيه تتضمن معنى الشرط، وجوابه قوله: "لقد أكلت برقية حق" كما جاء في حديث آخر: "من أخذ برقية باطل، فقد أخذت برقية حق". ويستنبط منه أحكام: جواز أخذ الأجرة على القرآن، وهو مسألة الباب كما يجيء تفصيلًا إن شاء الله تعالى، وإباحة الرقية بذكر الله وأسمائه. فإن قلت: ثبت في "الصحيح" (¬1): "لا يسترقون ولا يكتوون". قلت: ورد أيضًا: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة" (¬2) أي اطلبوا لها من يرقيها، ووجه الجمع بينهما: أن الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يعتقد أن الرقيا نافعة لا محالة فيتكل عليها، وإياها أراد بقوله: "ما توكل من استرقى" (¬3)، ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى، والرقى المروية. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 2170 رقم 5420)، و"صحيح مسلم" (1/ 198 رقم 218) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5/ 2176 رقم 5407) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه الترمذي (4/ 393 رقم 2055)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 378 رقم 7605).

وفيه إباحة الطب والعلاج؛ وذلك أن الرقية والقراءة والتفل فعل من الأفعال المباحة، وقد أباح له أخذ الأجرة عليها، فكذلك ما يفعله الطبيب من قول ووصف فعل لا فرق بينهما. وفيه فضيلة فاتحة الكتاب، وجواز الرقية بها، وجواز الحلف على تأكيد القول والفعل، والله أعلم. ص: حدثنا أبو العوام محمد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: أنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل فيكم من راقٍ، فإن سيد الحي قد لدغ، أو قد عُرِضَ له؟ قال: فرقاه رجل بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطي قطيعًا من الغنم فأبى أن يقبله، فسأل عن ذلك رسول الله -عليه السلام-، فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب، قال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال رسول الله -عليه السلام-: خذوها، واضربوا لي معكم بسهم فيها". ش: إسناده صحيح، ويحيى بن حسان بن حيان التنيسي أحد مشايخ الشافعي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، وهشيم هو ابن بشير، وأبو بشر هو جعفر بن إياس اليشكري، وأبو المتوكل الناجي اسمه علي بن داود أو دؤاد روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك. والحديث أخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن محمد بن الفضل، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد. ومسلم (¬2): عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن أبي بشر. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 795 رقم 2156). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1727 رقم 2201).

وأبو داود (¬1): عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل. والترمذي (¬2): عن ابن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت أبا المتوكل. . . . فذكر نحوه. والنسائي (¬3) في "اليوم والليلة": عن زياد بن أيوب، عن هشيم. وعن بندار (¬4)، عن غندر، عن شعبة، جميعًا عن أبي بشر. وابن ماجه (¬5): عن أبي كريب، عن هشيم، عن أبي بشر بمعناه، وأوله: "بعثنا في ثلاثين راكبًا. . . .". ص: فاحتج قوم بهذه الآثار، فقالوا: لا بأس بالجعل على تعليم القرآن. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا قلابة، وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا بأس بأخذ الأجرة على تعليم القرآن. وقال البيهقي: روينا عن عطاء وأبي قلابة: "كانا لا يريان بتعليم القرآن بالأجر بأسًا"، وعن الحسن: "إذا قاطع المعلم ولم يعدل كتب من الظلمة". وقال ابن حزم في "المحلى" (¬6): والإجارة جائزة على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلم مشاهرة، وعلى الرقى، وكل ذلك جائز، وعلى نسخ المصاحف، ونسخ كتب العلم، وهو قول مالك والشافعي وابن سليمان. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 286 رقم 3418). (¬2) "جامع الترمذي" (4/ 399 رقم 2064). (¬3) "عمل اليوم والليلة" (1/ 562 رقم 1029). (¬4) "عمل اليوم والليلة" (1/ 561 رقم 1028). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 729 رقم 2156). (¬6) "المحلى" (8/ 193).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فكرهوا الجعل على تعليم القرآن كما يكره الجعل على تعليم الصلاة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن شقيق، والأسود بن ثعلبة، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن يزيد، وشريح بن الحارث القاضي، والحسن بن حي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يكره أخذ الأجرة على تعليم القرآن، كما يكره على تعليم الصلاة، والجامع أن كلًّا منهما عبادة يتعين على الناس إقامتها. ص: وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى: أن الآثار الأول لم يكن الجعل المذكور فيها على تعليم القرآن، وإنما كان على الرقى التي لم يقصد بالاستئجار عليها إلى القرآن، فكذلك نقول نحن أيضًا: لا بأس بالاستئجار على الرقى والعلاجات كلها، وإن كنا نعلم أن المستأجر على ذلك قد يدخل فيما يرقي به بعض القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، فإذا استؤجروا على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه جاز ذلك، وتعليم القرآن على الناس واجب أن يعلمه بعضهم بعضًا؛ لأن في ذلك التبليغ عن الله -عز وجل-، إلا أن مَنْ علمه منهم فقد أجزأ ذلك عن بقيتهم كالصلاة على الجنائز هي فرض على الناس جميعًا إلا أن من فعل ذلك منهم فقد أجزأ عن بقيتهم، ولو أن رجلًا استأجر رجلًا ليصلي على ولي له مات لم يجز ذلك؛ لأنه إنما استأجره على أن يفعل ما عليه أن يفعله، فلذلك تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا هو عليهم فرض، إلا أن من فعله منهم أجزأ فعله ذلك عن بقيتهم، فإذا استأجر بعضهم بعضًا على تعليم ذلك كانت إجارته تلك واستئجاره إياه باطلًا؛ لأنه إنما استأجره على أن يؤدي فرضًا هو عليه لله تعالى وفيما يفعله لنفسه؛ لأنه يسقط عنه الفرض بفعله إياه، والإجارات إنما تجوز وتملك بها الأبدال فيما يفعله المستأجرون للمستأجرين.

ش: أي وكان لهؤلاء الآخرين من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وخلاصة هذا: أن استدلالهم بالحديثين المذكورين على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ليس بصحيح؛ لأن الجُعْل المذكور فيهما ليس على تعليم القرآن، وإنما كان على الرقية من غير قصد إلى الإجارة عليها إلى القرآن، ونحن أيضًا نقول به، وكلامنا في عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والباقي من الكلام ظاهر. ص: فإن قال قائل: فهل روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك شيء يدل على ما ذكرت في المنع من الاستعجال على تعليم القرآن؟ قيل له: نعم، قد روي عن النبي -عليه السلام- في ذلك أنه قال: "لا تأكلوا بالقرآن". وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: "قد كنت أقرئ أناسًا من أهل الصفة القرآن فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا على أن أقبلها في سبيل الله، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام-، فقال: إن أردت أن يطوقك الله بها طوقًا من نار فاقبلها". وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا في باب: "التزويج على سورة من القرآن في كتاب النكاح". ش: الاستجعال: طلب الجُعْل. قوله: "لا تأكلوا بالقرآن" هذا حديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) مسندًا: حدثنا عفان بن مسلم، نا أبان بن يزيد العطار، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن زيد هو ابن أبي سلام ممطور الحبشي، عن أبي راشد الحراني، عن عبد الرحمن بن شبل، سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "تعلموا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 168 رقم 7742) ولكن عن وكيع، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن شبل، به.

وأخرجه الطحاوي أيضًا في باب التزويج على سورة من القرآن: عن إبراهيم ابن مرزوق، عن أبي عامر العقدي، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "ولا تغلوا" من الغلو -بالغين المعجمة- وهو التشدّد والمجاوزة عن الحد. قوله: "ولا تجفوا عنه" أي تَعَاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته، وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء. قوله: "ولا تأكلوا به" أي بمقابلة القرآن، أراد: لا تجعلوا له عوضًا من سحت الدنيا. قوله: "وعن عبادة بن الصامت. . . . إلى آخره" أخرجه الطحاوي هناك أيضًا: عن أبي أمية، عن أبي عاصم، عن المغيرة بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا والحاكم في "مستدركه" (¬2) وصححه. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه المطرف بن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: "قال لي رسول الله -عليه السلام-: اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". فكره رسول الله -عليه السلام- الأذان بالأجر. ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام- في أخذ الأجرة عن العبادة القولية مثل الأذان وقراءة القرآن. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 285 رقم 3416). (¬2) "المستدرك" (2/ 48 رقم 2277).

أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، والجريري -بضم الجيم وفتح الراء الأولى- نسبة إلى جُرير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. و"الشِّخِّير" بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة. وأخرجه أبو داود (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سعيد الجريري عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: "قلت يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". وأخرجه النسائي (¬2) وابن ماجه أيضًا (¬3). قوله: "اتخذ مؤذنًا" يعني اجعل مؤذنًا لا يأخذ على الأذان أجرة، وكلمة: "على" هاهنا للتعليل كاللام، والمعنى لا يأخذ لأجل أذانه أجرًا، نحو قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬4) أي لهدايته إياكم، وهذا قول أكثر العلماء. وكان مالك يقول: لا بأس به، وترخص فيه، وقال الأوزاعي: الإجارة مكروهة ولا بأس بالجعل. ومنع منه إسحاق بن راهويه، وقال الحسن: أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله، وكرهه الشافعي، وقال: لا يَرزُق الإمامُ المؤذنَ إلا من خمس الخمس سهم النبي -عليه السلام-؛ فإنه مرصد لمصالح الدين، ولا يرزقه من غيره، وكذلك عندنا أخذ الأجرة على الحج والإمامة وتعليم القرآن والفقه، ولكن المتأخرين جوزوا على التعليم والإمامة في زماننا لحاجة الناس إليه، وظهور التواني في الأمور الدينية، وكسل الناس في الاحتساب، وعليه الفتوى. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 201 رقم 531). (¬2) "المجتبى" (2/ 23 رقم 672). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 316 رقم 987). (¬4) سورة البقرة، آية: [185].

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ما قد حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن يحيى البكاء: "أن رجلًا قال لابن عمر: إني أحبك في الله، فقال له ابن عمر: لكني أبغضك في الله؛ لأنك تبغي في أذانك أجرًا، وتأخذ على الأذان أجرًا". ش: أي وقد روي في كراهة أخذ الأجرة على الأذان أيضًا عن عبد الله بن عمر. أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، وعبيد الله بن محمد التيمي البصري المعروف بالعيشي وبابن عائشة شيخ أبي داود، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن مسلم البكاء البصري -فيه مقال-: "أن رجلًا قال لابن عمر. . . ." إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن عمارة ابن زاذان، عن يحيى البكاء قال: "كنت آخذ بيد ابن عمر وهو يطوف بالكعبة، فلقيه رجل من مؤذني الكعبة، فقال: إني لأحبك في الله، فقال ابن عمر: إني لأبغضك في الله؛ إنك تحسن صوتك لأخذ الدراهم". ص: فثبت بما ذكرنا كراهة الاستجعال على الأذان، والاستجعال على تعليم القرآن كذلك أيضًا؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قد أُمِرَ بالتبليغ عن الله -عز وجل-، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2)، وأوجب النبي -عليه السلام- على أمته التبليغ عنه. ش: أي ثبت بما ذكرنا من الحديث المرفوع والحديث الموقوف كراهة طلب الجعل على الأذان، وأخذ الأجرة على تعليم القرآن ملحق به؛ لأنه -عليه السلام- أمرنا بالتبليغ عن الله، وأمر النبي -عليه السلام- أمته بالتبليغ عنه، فكان واجبًا عليهم، وأخذ الأجرة على الواجب لا يجوز، ومن جملة التبليغ: الأذان، وتعليم القرآن. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 207 رقم 2372). (¬2) سورة المائدة، آية: [67].

ص: وقد قال رسول الله -عليه السلام- في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق جميعًا، قالا: ثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". فأوجب رسول الله -عليه السلام- على أمته التبليغ كما أوجب الله -عز وجل- التبليغ عنه، فكما لا يجوز للنبي -عليه السلام- أخذ الأجرة، فكذلك لا يجوز لأمته، ثم فرق رسول الله -عليه السلام- بين التبليغ عنه والحديث عن غيره، فقال: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، أي ولا حرج عليكم أن لا تحدثوا عنهم، فالاستجعال على ذلك استجعال على الفرض، لأن من استجعل جعلًا على عمل يعمله فيما قد افترض الله عمله عليه فذلك عليه حرام؛ لأنه إنما يعمل ذلك لنفسه ليؤدي بذلك فرضًا عليها، ومن استجعل جعلًا على عمل يعمله لغيره من رقية أو غيرها وإن كانت بالقرآن أو علاج أو ما أشبه ذلك فذلك جائز، والاستجعال عليه حلال، فيصح بما ذكرنا معاني ما قد روي عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب من النهي ومن الإباحة، ولا يتضاد ذلك فيتنافى، وهذا كله رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أي وقد قال -عليه السلام- في وجوب التبليغ عنه ما حدثنا أبو بكرة بكار القاضي. . . . إلى آخره. وأبو عاصم الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وأبو كبشة السلولي الشامي لا يعرف له اسم. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه الترمذي (¬1): عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة، به. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 40 رقم 2669).

وعن (¬1) ابن بشار، عن أبي عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان نحوه. وقال: حديث صحيح. قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل" هذا أمر إباحة أمرهم به ليعتبروا بما جرى لبني إسرائيل في أيامهم من العجائب والغرائب، وليقتدوا بما كان من ذلك من الخير، ويجتنبوا عما كان من الشر. قوله: "ولا حرج" أي ولا إثم عليكم، وقد فسر الطحاوي معناه بقوله: "أي ولا حرج عليكم أن لا تحدثوا عنهم"، وذلك لأن التحديث عنهم ليس بواجب عليهم حتى يكون عليهم حرج بتركه. قوله: "فليتبوأ" أي فليتخذ مقعده، أي: منزله من النار. قوله: "فالاستجعال" أي طلب الجعل، وباقي الكلام ظاهر. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 40 رقم 2669).

ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا؟

ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم أخذ الأجرة على الحجامة هل يجوز ذلك للحجام أم لا يجوز؟ والجُعْل -بالضم- هو ما يأخذه الرجل في مقابلة عمله، وكذلك الجعالة. و"الحِجامة" بكسر الحاء. قال الجوهري: الحجم فعل الحاجم، وقد حَجَمَه يَحْجِمه، فهو محجوم، والاسم الحِجامة، والحَجْم والمحجم والمحجمة: قارورته. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، أن السائب بن يزيد حدثه، أن رافع بن خديج حدثه، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن كسب الحجام خبيث". حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، قال: حدثني السائب بن يزيد، قال: سمعت رافع بن خديج يحدث، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . مثله. ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق. . . . إلى آخره. و"الخزاز" بالمعجمات، وفيه رواية صحابي عن صحابي، الأول: السائب بن يزيد الكندي، والثاني: رافع بن خديج الأنصاري. وأخرجه مسلم في كتاب البيوع (¬1): عن محمد بن حاتم، عن يحيى القطان، عن محمد بن يوسف، قال: سمعت السائب بن يزيد يحدث، عن رافع بن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1199 رقم 1568).

خديج، عن النبي -عليه السلام- يقول: "شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام". وأخرج أيضًا (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد، قال: حدثني رافع بن خديج، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث". الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬2): عن موسى بن إسماعيل، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله -يعني: ابن قارظ- عن السائب، عن رافع قال: قال النبي -عليه السلام-: "كسب الحجام خبيث. . . ." الحديث. وأخرجه الترمذي (¬3): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى، عن إبراهيم، به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الصيد (¬4): عن شعيب بن يوسف، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، نحوه. ص: حدثنا يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، قالا: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من السحت: كسب الحجام". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1199 رقم 1568). (¬2) "سنن أبي دواد" (2/ 287 رقم 3421). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 574 رقم 1275). (¬4) "المجتبى" (7/ 190 رقم 4294).

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. ش: هذان طريقان: الأول: إسناده صحيح، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وعطاء هو ابن أبي رباح. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن ثابت، نا أبو عامر، نا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن النبي -عليه السلام- قال: "السحت: كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب". الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن ابن شهاب الأصغر عبد ربه بن نافع الحناط -بالنون- الكوفي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه مقال، عن عطاء بن أبي رباح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن كسب الحجام". ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا وهب بن بيان الواسطي، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، قال: حدثني عبد العزيز بن زياد، عن أنس ابن مالك قال: "حرم رسول الله -عليه السلام- كسب الحجام". ش: وهب بن بيان بن حيان -بفتح الحاء وتشديد الياء آخر الحروف- الواسطي شيخ أبي داود والنسائي، ثقة. ويحيى بن سعيد العطار -بالعين المهملة وفي آخره راء- الحمصي، فيه مقال كثير، حتى قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 347 رقم 20908).

وعبد العزيز بن زياد [. .] (¬1). ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: أنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: "قد اشترى أبي حجامًا فكسر محاجمه، فقلت له: يا أبه، لم كسرتها؟ فقال: إن رسول الله -عليه السلام- قد نهى عن ثمن الدم". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وأبو جحيفة اسمه وهب بن عبد الله السُّوَائي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (¬2): عن أبي موسى، عن غندر، عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة قال: "اشترى أبي عبدًا حجامًا، فأمر بمحاجمه فكسرت، وقال: إن رسول الله -عليه السلام- نهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، وثمن الدم، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا ومؤكله، ولعن المصور". وأخرجه أبو داود أيضًا (¬3). ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: وليس في هذا الحديث دليل على تحريم كسب الحجام، ولكنا إنما أتينا بذلك لئلا يتوهم متوهم أنا قد أغفلنا ذلك، وإنما في هذا الحديث هو كراهية أبي جحيفة ذلك فقط، فأما ما في ذلك من رسول الله -عليه السلام- من نهيه عن ثمن الدم، فهو ما يباع به الدم لا غير ذلك. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقال العراقي في "ذيل الميزان" رقم (534): عبد العزيز بن زياد، أرسل وروى عن أنس، وروى عن قتادة، روى عنه مضاء بن الجارود الدينوري، قال أبو حاتم: مجهول. قلت: الذي قال فيه أبو حاتم: مجهول هو عبد العزيز بن زياد العمي البصري، الوزان. ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه في "الجرح والتعديل" (5/ 382) قال: أثنى عليه عبيد الله بن سعيد أبو قدامة السرخسي خيرًا. وكذا فعل البخاري في "تاريخه الكبير" (6/ 28) وقال: أثنى عليه عبيد الله بن سعيد خيرًا، سمع قتادة، كان عنده حديثان، منقطع. وقال ابن حبان في "الثقات": من أهل البصرة، يروي عن قتادة المقاطيع، روى عنه البصريون. (¬2) "صحيح البخاري" (5/ 2223 رقم 5617). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 301 رقم 3483) مختصرًا.

فذهب قوم إلى كراهة كسب الحجام، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بهذا الحديث: حديث أبي جحيفة، يعني: لا يقال: هذا الحديث لا يدل على تحريم كسب الحجام، فَلِمَ ذكره هاهنا في معرض استدلال أهل المقالة الأولى؟ لأنا إنما أتينا به هاهنا لئلا يتوهم متوهم أنا قد تركنا ذلك. . . . إلى آخره. وأراد بالقوم في قوله: فذهب قوم: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، ومنصورًا، وعون بن أبي جحيفة؛ فإنهم ذهبوا إلى كراهة كسب الحجام، واستدلوا على ذلك بالأحاديث المذكورة، وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا. وقال ابن حزم (¬1): وروينا عن أبي هريرة تحريم أجرة الحجام، وروي عن عثمان أيضًا، وعن غيره من الصحابة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: كسب الحجام كسب دنيء دنس، فيكره للرجل أن يدنس نفسه، فأما أن يكون في نفسه حرامًا فلا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عكرمة وسالمًا والقاسم وابن سيرين والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: كسب الحجام ليس بخبيث ولكنه دنيء، فيكره للرجل أن يدنس نفسه بالدناءة، وذكر ابن وضاح قال: سمعت أبا جعفر السبتي يقول: لم يكن النهي عن كسب الحجام للتحريم؛ وإنما كان على التنزيه، وكانت قريش تكره أن تأكل من كسب غلمانها من الحجامة. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس والربيع المؤذن، قالا: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس قال: "قد احتجم رسول الله -عليه السلام- فأعطى الحجام أجره". وحدثنا الحسين بن الحكم الجبري، قال: ثنا عفان بن مسلم. ح ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 193).

وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قالا: ثنا وهيب. . . . فذكر بإسناده مثله، عن رسول الله -عليه السلام-. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن جابر الجعفي، قال: قد سمعت الشعبي يحدث، عن عبد الله بن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- قد أرسل إلى غلام فحجمه، فأعطاه أجره مدًّا ونصف مد، ولو كان حرامًا لم يعطه". وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي قال: ثنا سفيان، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس قال: "احتجم رسول الله -عليه السلام- وأعطى الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه". وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي طالب، عن ابن عباس: "أن حجامًا كان يقال له: أبو طيبة حجم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاه رسول الله -عليه السلام- أجره، وحط من غلته -أو وضع عنه أهله طائفة من غلته- فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو كان حرامًا ما أعطاه رسول الله -عليه السلام-". ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس. وأخرجه من ستة طرق: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى وربيع بن سليمان المؤذن، كلاهما عن يحيى بن حسان، عن وهيب -بالتصغير- ابن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عفان بن مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1204 رقم 1203).

ونا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا المخزومي، كلاهما عن وهيب، قال: نا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- احتجم وأعطى الحجام أجره، واستعط". وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: عن عثمان، عن أحمد بن إسحاق، عن وهيب. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: أيضًا صحيح: عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحبري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى بيع الحِبَر جمع حِبْرَة. عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) عن عفان. . . . إلى آخره. الثالث: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سهل بن بكار الدارمي شيخ البخاري وأبي داود، عن وهيب. . . . إلى آخره. الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال، عن عامر الشعبي. وأخرجه الترمذي في "الشمائل" (¬3): عن هارون بن إسحاق، عن عبدة، عن سفيان الثوري، عن جابر الجعفي. . . . إلى آخره نحوه. الخامس: عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري، عن جابر الجعفي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 399 رقم 3867). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 355 رقم 20985) من طريق ابن سيرين، عن ابن عباس (4/ 355 رقم 20988) من طريق يزيد بن إبراهيم، عن ابن عباس. (¬3) "الشمائل" (1/ 300 رقم 363).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): عن هاشم بن قاسم، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس قال: "احتجم رسول الله -عليه السلام- وأعطى الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه، وكان يحتجم في الأخدعين، وكان يحجمه عبد لبني بياضة، وكان يؤخذ منه كل يوم مد ونصف، فَتَشَفَّعَ له النبي -عليه السلام- إلى أهله فجعله مدًّا". السادس: عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن عبد الله الأنصارى. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح. وأبو طالب الحجام الضبعي، لا يعرف له اسم، وثقه أبو زرعة وغيره، وأبو طبية ذكره في معجم البغوي، وقال: اسمه ميسرة. ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله -عليه السلام- احتجم، فأمر للحجام بصاع من طعام، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من الخراج شيئًا". حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- دعا أبا طيبة فحجمه، فسأله: كم ضريبتك؟ فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعًا". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، عن رسول الله -عليه السلام-. . . . فذكر بإسناده مثله. ش: هذه ثلاث طرق: الأول: إسناده صحيح. ويحيى بن أيوب هو الغافقي المصري. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 324 رقم 2981).

وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي. الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (¬1): نا عبد الواحد بن غياث، نا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، قال: "بعث رسول الله -عليه السلام- إلى أبي طيبة فحجمه. . . ." إلى آخره نحوه. وقد علل بعضهم هذا الحديث بأن أبا بشر لم يسمع من سليمان بن قيس؛ وذلك لأن سليمان بن قيس هذا قد مات في حياة جابر - رضي الله عنه -. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح، عن أبي بشر جعفر، عن سليمان بن قيس، عن جابر. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (¬2) نحوه. ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا ورقاء بن عمر، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "احتجم رسول الله -عليه السلام-، وأعطى الحجام أجره، ولو كان به بأس لم يعطه". ش: إسناده حسن جيد، وأبو جميلة الطهوي الكوفي اسمه ميسرة، وثقه ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬3): ثنا وكيع، قال: ثنا أبو جناب، عن أبي جميلة الطهوي قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقول: "احتجم رسول الله -عليه السلام- وأعطى أجرة، ولو كان به بأس لم يعطه". ¬

_ (¬1) "مسند أبي يعلى" (4/ 47 رقم 2057). (¬2) "مسند الطيالسي" (1/ 238 رقم 1723). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 355 رقم 20987) بنحوه.

ص: حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قال في كسب الحجام: اعلفه الناضح، أو قال: اعلف ذلك ناضحك". ش: إسناده صحيح، والحميدي هو عبد الله بن الزبير شيخ البخاري، وسفيان هو ابن عيينة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا سفيان، عن أبي الزبير، سمع جابرًا يقول: "إن النبي -عليه السلام- سئل عن كسب الحجام فقال: اعلفه ناضحك". "الناضح": واحدة النواضح، وهي الإبل التي يُستقى عليها، وهذا يدل على أن النهي عن كسب الحجام نهي تنزيه لا تحريم إذ لو كان حرامًا لما أمره أن يطعمه الناضح؛ لأنه -عليه السلام- لم يأمر أحدًا بإطعام الحرام، والدليل عليه ما جاء في حديث ابن محيصة: "أنه -عليه السلام- أمره أن يعلفه نواضحه، ويطعمه رقيقه"، فلو كان حرامًا لم يأمره أن يطعمه رقيقه؛ لأنه متعبد فيه كما يتعبد في نفسه. وقال أبو عمر (¬2): هذا قول الشافعي وأتباعه، وأظن بالكراهة منهم في ذلك لأنه ليس يخرج مخرج الإجارة؛ لأنه غير مقدر ولا معلوم، فربما لم تطب نفس العامل بما يعطيه المعمول له وهكذا دخول الحمام عند بعضهم إلا بشيء معلوم وإناء معلوم وشيء محدود يوقف عليه من تناول الماء وغيره، وهذا شديد جدًّا، وفي تواتر العمل بالأمصار في دخول الحمام وأجرة الحجام ما يرد قولهم. ص: وحدثنا إبراهيم بن أبي داود، ثنا عمرو بن عون. ح وحدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، قال: ثنا المعلى بن منصور، قالا: ثنا خالد بن عبد الله، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أنه قال: "احتجم رسول الله -عليه السلام-، وأعطى الحجام أجره". ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (3/ 307 رقم 14329). (¬2) "التمهيد" (2/ 225 - 226).

وحدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا القاسم بن مالك، عن عاصم، عن أنس: "أن أبا طيبة قد حجم النبي -عليه السلام- وهو صائم، فأعطاه أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه ذلك". وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: ثنا حميد الطويل، أنه قال: "سئل أنس بن مالك عن كسب الحجام، فقال: قد احتجم رسول الله -عليه السلام-، حجمه أبو طيبة الحجام، فأمر له رسول الله -عليه السلام- بصاعين من الطعام، وكلم مواليه ليخففوا عنه من غلته شيئًا، ففعلوا ذلك". وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني سفيان الثوري، أن حميد الطويل قد حدثهم، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام-، مثل ذلك سواء. وحدثنا يونس، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جبر، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ش: هذه سبع طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزار شيخ البخاري في كتاب الصلاة، عن خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، عن يونس بن عبيد البصري، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (¬1): عن عبد الحميد بن بيان، عن خالد بن عبد الله، عن يونس، عن ابن سيرين، عن أنس، نحوه. الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن المعلى بن منصور الرازي، عن خالد بن عبد الله الطحان. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (2/ 732 رقم 2164).

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إسحاق بن شاهين الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله الواسطي، ثنا يونس، عن ابن سيرين، عن أنس: "أن النبي -عليه السلام- احتجم، وأعطى الحجام أجره". قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن يونس، عن ابن سيرين، عن أنس إلا خالدًا، وإنما يعرف عن السامري عن ابن عباس. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن القاسم بن مالك المزني الكوفي، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أنس - رضي الله عنه -. الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه مسلم (¬1): ثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر، قالوا: ثنا إسماعيل -يعنون: أبا جعفر- عن حميد قال: "سئل أنس بن مالك عن كسب الحجام، فقال: احتجم رسول الله -عليه السلام-، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه. . . ." الحديث. الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن حميد، عن أنس بن مالك. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، نا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن حميد، عن أنس قال: "حجم أبو طيبة النبي -عليه السلام-، فأعطاه صاعًا أو صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه من غلته". السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن حميد، عن أنس. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1204 رقم 1577).

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن حميد، عن أنس، أنه قال: "احتجم رسول الله -عليه السلام-، حجمه أبو طيبة، فأمر له رسول الله -عليه السلام- بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه". السابع: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن حميد، عن أنس. وأخرج الترمذي (¬2): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، قال: "سئل أنس عن كسب الحجام، قال أنس: احتجم رسول الله -عليه السلام-، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه. . . ." الحديث. وقال: هذا حديث حسن صحيح. ص: ففي هذه الآثار إباحة كسب الحجام، فاحتمل أن يكون ذلك تأخر عن النهي الذي ذكرناه، أو تقدمه. فنظرنا في ذلك فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن يوسف. ح وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن ابن عفير الأنصاري، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري، عن محيصة بن مسعود الأنصاري: "أنه كان له غلام حجام يقال له: نافع أبو طيبة، فانطلق إلى رسول الله -عليه السلام- يسأله عن خراجه، فقال: لا تقربه، فردد على رسول الله -عليه السلام-، فقال: اعلف به الناضح، اجعلوه في كرشه". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا طارق بن عبد الرحمن: "أن رفاعة بن رافع -أو رافع بن رفاعة الشك منهم- جاء إلى مجلس الأنصار، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن كسب الحجام، وأمرنا أن نطعمه ناضحنا". ¬

_ (¬1) "الموطأ" (2/ 974 رقم 1754). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 576 رقم 1278).

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة، عن محيصة رجل من بني حارثة كان له حجام، واسم الرجل محيصة: "سأل رسول الله -عليه السلام- عن ذلك فنهاه أن يأكل كسبه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله -عليه السلام-: اعلف كسبه ناضحك، وأطعمه رقيقك". حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة الحارثي، عن أبيه: "أنه سأل رسول الله -عليه السلام-. . . ." ثم ذكر مثله. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن حرام بن محيصة، حدثني حارثة، عن أبيه. . . . فذكر مثله. فدل ما ذكرنا أن ما كان من رسول الله -عليه السلام- من الإباحة في هذا إنما كان بعد نهيه عنه نهيًا مطلقًا، على ما في الآثار الأُوَل، وفي إباحة النبي -عليه السلام- أن يطعمه الرقيق والناضح دليل على أنه ليس بحرام، ألا ترى أن المال الحرام الدي لا يحل للرجل كله لا يحل له أيضًا أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه؟ لأن رسول الله -عليه السلام- قد قال في الرقيق: "أطعموهم مما تأكلون"، فلما ثبت إباحة النبي -عليه السلام- لمحيصة أن يعلف ذلك ناضحه، ويطعم رقيقه من كسب حجامه، دل ذلك على نسخ ما كان تقدم من نهيه عن ذلك، وثبت حل ذلك لغيره، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهذا هو النظر أيضًا عندنا؛ لأنا قد رأينا الرجل يستأجر الرجل ليفصد له عرقًا أو يبزغ له حمارًا فيكون ذلك جائزًا، والاستئجار على ذلك جائزًا، والحجامة أيضًا كذلك.

ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث المذكورة -يعني الأحاديث المذكورة تدل على إباحة كسب الحجام، ولكن يحتمل أن تكون متأخرة عن النهي الوارد فيه أو متقدمة، فنظرنا في ذلك فوجدنا أحاديث تدل على أن ما كان من الإباحة فيه إنما كان بعد نهيه نهيًا مطلقًا، فثبت أن أحاديث النهي منسوخة والقياس أيضًا يشهد بإباحته، أشار إليه بقوله: "لأنا قد رأينا الرجل يستأجر الرجل. . . . إلى آخره". قوله: "أو يبزغ له حمارًا" من البزغ بالباء الموحدة والزاي والغين المعجمة، وهو الشرط بالشرط، وهو المبزغ، وبزغ دمه: أي أساله. أما الأحاديث الدالة على تأخر الإباحة عن النهي؛ فأخرجها من وجوه ستة: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي -شيخ البخاري- وعن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- عن شعيب بن الليث، كلاهما -أعني عبد الله وشعيبًا- عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري الحارثي الأوسي، عن محيصة بن مسعود الأنصاري الصحابي، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "يقال له نافع" بالنون والفاء، ويقال: اسمه دينار، ويقال: ميسرة، وكنيته: أبو طيبة بفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة. قوله: "اعلف به الناضح" قد ذكرنا أنه واحدة النواضح، وهي الإبل التي يستقى عليها. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (9/ 237 رقم 19292).

قوله: "في كرشه" الكرش لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان، تؤنثها العرب، وفيها لغتان: كِرْش وكرش، مثل كبد وكبد. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عمر بن يونس بن القاسم الحنفي، عن عكرمة بن عمار اليمامي، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الأحمسي الكوفي، عن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا هاشم بن القاسم: ثنا عكرمة -يعني ابن عمار-: حدثني طارق بن عبد الرحمن القرشي، قال: جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار، فقال: "لقد نهانا رسول الله -عليه السلام- عن شيء كان يرفق بنا، نهانا عن كراء الأرض، ونهانا عن كسب الحجام، وأمرنا أن نطعمه نواضحنا، ونهانا عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها، وقال هكذا بأصابعه: نحو الخبز والغزل والنقش". وهذا كما رأيته قد أخرجه أحمد عن رافع بن رفاعة بلا شك. وفي رواية الطحاوي بالشك، رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة، فهو صحابي بلا خلاف، وهو ممن شهد بدرا، وأبوه أيضًا صحابي بدري، وكان نقيبا يومئذ. وأما رافع بن رفاعة، فقد قال أبو عمر بن عبد البر: لا تصح صحبته. والحديث المروي في كسب الحجام في إسناده غلط، ولكن رواية أحمد والطحاوي تدل على أن له صحبة، والله أعلم. والثالث: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أمير مصر لهشام بن عبد الملك مولى الليث بن سعد من فوق، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حرام ضد حلال بن سعد بن محيصة الأنصاري، عن جده محيصة بن مسعود رجل من بني حارثة. وهذا إسناد صحيح متصل؛ لأن حرام بن سعد أدرك جده وروى عنه، وجده صحابي كما ذكرنا غير مرة.

الرابع: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام الشافعي، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار المدني، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة الحارثي، عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الإسناد رجاله ثقات، ولكن فيه نظر وقد نسب إلى الغلط، وذلك لأن أبا حرام ليس له صحبة، ولا حرام له صحبة، وإنما الصحبة لمحيصة فقط الذي هو جد حرام، فالحديث في الحقيقة مرسل وليس بمتصل؛ فافهم. وكذا أخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يزيد، أنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه: "أنه سأل النبي -عليه السلام- عن كسب الحجام، فنهاه عنه، فذكر له حاجة، فقال: اعلفه نواضحك". وأخرجه الطبراني (¬2) متصلًا على سنن الصواب: ثنا محمد بن علي الصائغ المكي، نا حسن بن علي الحلواني، ثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن حرام بن ساعدة بن محيصة بن مسعود، عن أبيه، عن جده محيصة قال: "كان لي غلام حجام يقال له: أبو طيبة، فكسب كسبًا كثيرًا، فلما نهى رسول الله -عليه السلام- عن كسب الحجام، استرخص رسول الله -عليه السلام- فأبى عليه، فلم يزل يكلمه ويذكر له الحاجة حتى قال له: أَلْقِ كسبه في باطن ناضحك". الخامس: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أسد بن موسى، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حرام بن سعد، عن أبيه أنه سأل رسول الله -عليه السلام-. وهذا إسناد أيضًا مثل ما قبله. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (5/ 436 رقم 23748). (¬2) "المعجم الكبير" (20/ 312 رقم 743).

السادس: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن حرام بن محيصة، عن أبيه، أنه سأل رسول الله -عليه السلام-. هذا أيضًا مثل ما قبله. وأخرجه مالك في "موطإه": عن ابن شهاب، عن ابن محيصة، عن أبيه، هذا في رواية ابن وهب ومطرف وابن بكير وابن نافع والقعنبي. وفي رواية يحيى بن يحيى (¬1): عن مالك عن ابن شهاب، عن ابن محيصة الأنصاري، حدثني حارثة: "أنه استأذن رسول الله -عليه السلام- في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل به يستأذنه ويسأله حتى قال له: "اعلفه نضاحك" يعني رقيقك". وقال أبو عمر (¬2): هكذا قال يحيى في هذا الحديث: "عن ابن محيصة أنه استأذن رسول الله" وتابعه على ذلك ابن القاسم، وذلك من الغلط الذي لا إشكال فيه عند أهل العلم، وليس لسعد بن محيصة صحبة. فكيف لابنه حرام، وهذا كله مرسل في رواية مالك. وقال أيضًا: قال القعنبي في هذا الحديث: "اعلفه ناضحك ورقيقك"، وهو يشبه رواية يحيى، وقال ابن بكير: "نضاحك"، وقال ابن القاسم في تفسير النضاح: الرقيق، قال: ويكون في الإبل. وقال الليث وغيره من أصحاب ابن شهاب في هذا الحديث: "فلم يزل به حتى قال: أطعمه رقيقك، واعلفه ناضحك"، وهذا هو الصواب، قال الخليل: والناضح: الجمل يستقى عليه. ص: وقد روي عمن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أيضًا ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني موسى بن عُلَي بن رباح اللخمي، ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 974 رقم 1756). (¬2) "التمهيد" (11/ 77).

عن أبيه أنه قال: "كنت عند عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، فأتته امرأة فقالت: إن لي غلامًا حجامًا، وإن أهل العراق يزعمون أني آكل ثمن الدم، فقال لها عبد الله بن عباس: لقد كذبوا، إنما تأكلين خراج غلامك". وما قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي: "أن الحجامين قد كانت لهم سوق على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث، أنه قال: أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري: "أن المسلمين لم يزالوا مقرين بأجرة الحجام، فلا ينكرونها". ش: أي قد روي عن الصحابة والتابعين أيضًا في إباحة أجرة الحجام، وأخرج في ذلك عن ثلاثة أنفس، وهم: عبد الله بن عباس، وربيعة الرأي شيخ مالك، ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني. والرجال المذكورون كلهم ثقات. وموسى بن عُلَي، بضم العين وفتح اللام. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) أيضًا وقال: ثنا موسى بن عُلَي بن رباح، عن أبيه قال: "كنت عند ابن عباس، فأتته امرأة فقالت: إني امرأة من أهل العراق، ولي غلام حجام، ويزعم أهل العراق أني آكل ثمن الدم، فقال: إنهم لا يزعمون شيئًا، إنما تأكلين خراج غلامك، ولست تأكلين ثمن الدم". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 355 رقم 20989).

ص: كتاب اللقطة والضالة

ص: كتاب اللقطة والضالة ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام اللقطة والضالة. "اللُّقَطة" بضم اللام وفتح القاف، اسم المال المأخوذ أي الموجود، والالتقاط أن تعثر على الشيء من غير قصد وطلب. وقال بعضهم: اللقطة اسم كالضحلة والهمزة، وأما المال الملقوط فهو بسكون القاف والأول أكثر وأصح، والضالة بفتح اللام هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره، يقال: ضل الشيء إذا ضاع، وضل عن الطريق إذا حاد، وهي في الأصل فاعلة، ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة، وتقع على الذكر والأنثى، والاثنين والجمع، وتجمع على ضوال، وقد تطلق الضالة على المعاني، كما في قوله -عليه السلام-: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن" (¬1)، وفي رواية: "ضالة كل حكيم" (¬2)، أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته. ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضالة المسلم حَرَقُ النار". حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن يزيد أخي مطرف، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود، عن النبي -عليه السلام-، مثله. ش: هذان طريقان: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في "جامعه" (5/ 51 رقم 2687)، وابن ماجه في "سننه" (2/ 1395 رقم 4169) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المدني المخزومي، وهو متروك. (¬2) "مسند الشهاب" (1/ 65 رقم 52).

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم الجذمي -بفتح الجيم والذال المعجمة- نسبة إلى جذيمة عبد القيس، لا يعرف اسمه، قال ابن حزم: هو مجهول. يروي عن الجارود بن المعلى العبدي، واسمه بشر، والجارود لقب عليه، لُقِّبَ به لأنه أغار في الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم وجردهم، وفد على رسول الله -عليه السلام- سنة عشر في وفد عبد القيس، فأسلم وكان نصرانيًّا، ففرح النبي -عليه السلام- بإسلامه، وأكرمه وقربه. والحديث أخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن أبي داود، عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود نحوه. الثاني: عن محمد بن علي بن داود، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أخي مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود. وأخرجه الطبراني (¬2): نا علي بن عبد العزيز، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن يزيد أخي مطرف، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود، عن النبي -عليه السلام- قال: "ضالة المسلم حَرَقُ النار". وقد مر تفسير الضالة آنفًا، و"الحرق" بفتحتين، وقد تسكن الراء، وحرق النار لهيبها، والمعنى: أن ضالة المسلم إذا أخذها إنسان ليتملكها أدته إلى النار، وهذا تشبيه بليغ، وحرف التشبيه محذوف لأجل المبالغة، وهو من قسم تشبيه المحسوس بالمحسوس. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 415 رقم 2114). (¬2) "المعجم الكبير" (2/ 265 رقم 11575).

ص: حدثنا محمد بن علي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثني حميد، قال: ثنا الحسن، عن مطرف بن الشخير، عن أبيه أنه قال: "كنا قدمنا على رسول الله -عليه السلام- في نفر من بني عامر، فقال: ألا أحملكم؟ فقلت: إنا نجد في الطريق هوامي الإبل، فقال النبي -عليه السلام-: إن ضالة المسلم حرق النار". ش: إسناده صحيح. وحميد هو الطويل، والحسن هو البصري، ومطرف هو ابن عبد الله بن الشخير البصري روى له الجماعة، وأبوه عبد الله بن الشخير الجرشي البصري الصحابي. وأخرجه النسائي (¬1): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن حميد، عن الحسن، عن مطرف، عن أبيه نحوه. وابن ماجه (¬2): عن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن حميد الطويل، عن الحسن، عن مطرف، عن أبيه مختصرًا: "ضالة المسلم حَرَقُ النار". قوله: "هوامي الإبل" أراد بالهوامي المهملة من الإبل التى لا راعي لها ولا حافظ، وقد هَمَتْ تَهْمِي فهي هامية: إذا ذهبت على وجهها، وكل ذاهب وجاءٍ من حيوان أو ماء فهو هام، ومنه همى المطر، ولعله مقلوب هام يَهِيم. ص: فذهب قوم إلى أن الضوال حُرِّم أخذها على كل حال؛ لتعريف أو لغيره، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا ظبيان، والوليد بن سعد، وسعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، وشريح بن الحارث القاضي، ومجاهدًا، وجابر بن زيد، وعطاء بن أبي رباح؛ فإنهم قالوا: يحرم أخذ الضوال مطلقًا. وروي ذلك عن ابن عمرو ابن عباس - رضي الله عنهم -. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 414 رقم 5790). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 836 رقم 2502).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لم يُرِد النبي -عليه السلام- بما قد ذكرنا من هذه الآثار تحريم أخذ الضالة للتعريف، وإنما أراد أخذها لغير ذلك، وقد بين ما ذهبوا إليه من ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم، عن الجارود أنه قال: "قد كنا أتينا رسول الله -عليه السلام- ونحن على إبل عجاف، فقلنا: يا رسول الله، إنا قد نمر بالجُرف فنجد إبلًا فنركبها، فقال: إن ضالة المسلم حَرَقُ النار". فكان سؤالهم النبي -عليه السلام- عن أخذها لأن يركبوها، لا لأن يعرفوها، فأجابهم بأن قال: ضالة المسلم حرق النار، أي أن ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى تؤدى إلى صاحبها، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا لغير ذلك، فبان بذلك معنى هذا الحديث، وأن ذلك على ما قد ذكرنا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري، والنخعي، والثوري، وأبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا يحرم أخذ الضوال. وعن الشافعي في قول، وأحمد في رواية: ندب تركها، وعن الشافعي في قول: يجب رفعها. وقال ابن حزم: قال أبو حنيفة ومالك: كلا الأمرين مباح، والأفضل أخذها. وقال الشافعي مرة: أخذها أفضل. ومرة قال: الورع تركها. قوله: "فقالوا: لم يُرد النبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره، جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى بالأحاديث المذكورة؛ وهو ظاهر. قوله: "وقد بين ما ذهبوا إليه من ذلك" أي وقد بين ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من قولهم: لم يُرد النبي -عليه السلام- تحريم أخذ الضالة في الأحاديث المذكورة للتعريف، وإنما أراد أخذها لغير ذلك يعني للركوب ونحوه. وقوله: "ما حدثنا إبراهيم" في محل الرفع على أنه فاعل لقوله: "وقد بَيَّن".

وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا: عن أبي داود، عن سعيد بن عامر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي مسلم، عن الجارود أنه قال: "أتينا النبي -عليه السلام- ونحن على إبل عجاف، فقلنا: نمر عل موضع قد سماه، ونجد إبلًا فنركبها، قال ضالة المؤمن حَرَقُ النار". قوله: "إبل عجاف" أي مهزولة من كثرة الأسفار، وهو جميع عجيف. قوله: "بالجُرف" بالضم وهو اسم موضع قريب من المدينة، وأصله ما تجرفه السيول من الأودية. ص: وكان مما احتج به من حرّم أخذ الضالة أيضًا من ذلك: ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا أبو حيان التيمي، عن الضحاك ابن منذر، عن المنذر أنه قال: "كنت بالبوازيج، فراحت البقر فرأى فيها جرير بقرة أنكرها، فقال للراعى: ما هذه البقرة؟ فقال: بقرة لحقت بالبقر لا أدري لمن هي، فأمر بها جرير فطردت حتى توارت، ثم قال: قد سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يأوي الضالة إلا ضال". قالوا: فهذا الحديث أيضًا يحرّم أخذ الضالة. ش: أي وكان من الذي استدل به أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى تحريم أخذ الضالة مطلقًا: حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -. أخرجه عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعلى بن عبيد الطنافسي وثقه يحيى، عن أبي حَيَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي روى له الجماعة، عن الضحاك بن منذر بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي وثقه ابن حبان، وقال ابن أبي حاتم: قال بعضهم: الضحاك هذا خال المنذر بن جرير. يروي عن المنذر بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي وثقه ابن حبان. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 414 رقم 5794).

يروي عن أبيه جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد، عن أبي حيان التيمي، عن المنذر بن جرير قال: "كنت مع جرير بالبوازيج، فجاء الراعي بالبقر، وفيها بقرة ليست منها، فقال له جرير: ما هذه؟ قال: لحقت البقر، لا ندري لمن هي؟ فقال جرير: أخرجوها، سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يأوي الضالة إلا ضال". وأخرجه النسائي (¬2): عن حسين بن جعفر، عن إبراهيم بن عيينة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة بن عمرو، عن المنذر، به. وعن أبي قدامة (¬3): عن يحيى بن سعيد، عن أبي حيان، حدثني الضحاك خال المنذر بن جرير، عن المنذر، به. وعن يعقوب بن إبراهيم (¬4)، عن ابن علية، عن أبي حيان، عن الضحاك، عن ابن أخته المنذر، به مختصرًا. وعن محمد بن بشار (4): عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد التيمي، عن رجل، عن المنذر بن جرير، به. وأخرجه ابن ماجه (¬5): عن ابن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمى، عن الضحاك خال المنذر بن جرير، عن المنذر، به. قوله: "كنت بالبوازيج" بفتح الباء الموحدة، وكسر الزاي المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره جيم، وهي بوازيج الأنبار، فتحها جرير بن عبد الله ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 537 رقم 1720). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 415 رقم 5799). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 416 رقم 5800). (¬4) انظر "تحفة الأشراف" (2/ 432 رقم 3233). (¬5) "سنن ابن ماجه" (3/ 836 رقم 2503).

البجلي - رضي الله عنه -، وبوازيج أخرى تسمى بوازيج الملك بين تكريت وأربل مشهورة، ينسب إليها جماعة من أهل العلم. قوله: "فراحت البقر" من الرواح وهو العود إلى البيوت آخر النهار. قوله: "توارت" أي غابت. قوله: "لا يأوي" من الإيواء. ص: فكان من الحجة عليهم للآخرين في ذلك: أنه قد يحتمل أن يكون ذلك الإيواء الذي لا تعريف معه، وقد بَيَّن ذلك ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة قد أخبره، عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يُعَرِّفْهَا". وحدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال: ثنا عمرو بن الحارث. . . . فذكر بإسناده مثله. فَبَيَّن رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث من الذي يكون بإيوائه الضالة ضالًّا، وأنه الذي لا يعرفها، فعاد معنى هذا الحديث إلى معنى حديث الجارود، وعبد الله بن الشخير أيضًا. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى للقوم الآخرين، وهم أهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث جرير بن عبد الله، وبيانه أن يقال: المراد من الإيواء المذكور في حديث جرير هو الإيواء الذي لا يقصد به التعريف، وقد بَيَّن ذلك حديث زيد بن خالد الجهني. أخرجه من طريقين بإسناد مصري صحيح. الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن أبي الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب، عن بكر بن سوادة الجذامي المصري، عن أبي سالم سفيان بن هانئ الجيشاني

-بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة- نسبة إلى جيشان بن عيدان بن حجر بن ذي رعين الحميري، وثقه ابن حبان. عن زيد بن خالد الجهني المدني الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرجه الطبراني (¬1): عن أحمد بن رشدين المصري، عن سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث. . . . إلى آخره. وأخرجه النسائي (¬2): عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم به نحوه. قوله: "من الذي" مفعول لقوله: "فَبَيَّن". وقوله: "الضالة" مفعول المصدر المضاف إلى فاعله، أعني قوله: "بإيوائه". وقوله: "حالا" خبر يكون في قوله: "من الذي يكون"؛ فافهم. ص: وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن عيينة، عن وائل بن داود، عن الزهري، عن محمد بن سراقة، عن أبيه سراقة بن مالك: "أنه جاء إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، أرأيت الضالة ترد على حوض إبلي ألي أجر إن سقيتها؟ فقال: وفي الكبد الحرى أجر". وقد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن مالك ابن جعشم، عن أبيه، أن أخاه سراقة بن مالك قال: "قلت: يا رسول الله. . . ." ثم ذكر مثله. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (5/ 258 رقم 5281). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 417 رقم 5806).

قال أبو جعفر -رحمه الله-: وهو في حال سقيه إياها مؤوي لها، فلم ينهه النبي -عليه السلام- عن ذلك الإيواء؛ إذ كان إنما يريد به منفعة صاحبها وبقاءها على ربها، والثواب فيها؛ فثبت بذلك أن الإيواء المكروه في حديث جرير - رضي الله عنه - إنما هو الإيواء الذي يراد به خلاف حبسها على صاحبها وطلب الثواب فيها". ش: ذكر حديث سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الصحابي - رضي الله عنه -؛ لبيان معنى الإيواء المذكور في حديث جرير بن عبد الله، وأن المراد ليس الإيواء المطلق، وأنه الإيواء الذي لا تعريف معه، وقد بَيَّن ذلك بقوله: قال أبو جعفر: وهو في حاله سقيه. . . . إلى آخره. وأخرج حديث سراقة من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحسين بن مهدي بن مالك البصري شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق، عن سفيان بن عيينة، عن وائل بن داود التيمي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن محمد بن سراقة بن مالك، عن أبيه سراقة. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1). الثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن ربيع بن سليمان القسري شيخ الجماعة غير الترمذي، عن عبد الله بن إدريس الزعافري، عن محمد بن إسحاق المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه مالك بن مالك بن جعشم، عن أخيه سراقة بن مالك بن جعشم. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نمير، ثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: "سألت رسول الله -عليه السلام- عن ضالة ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 457 رقم 19692). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2/ 457 رقم 19692).

الإبل تغشى حياض قد لُطتَها لإبلي، فهل لي من أجر إن سقيتها؟ فقال: نعم في كل ذات كبد حرى أجر". واعلم أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم يروي عن أبيه، وأبوه يروي عن أخيه سراقة، وهو عم عبد الرحمن المذكور، ووقع في رواية الطحاوي سراقة بن مالك، وفي رواية ابن ماجه: سراقة بن جعشم، وليس بينهما خلاف؛ لأن في رواية ابن ماجه نُسب سراقة إلى جده لأنه سراقة بن مالك بن جعشم، ولما ذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" ترجمة مالك أخي سراقة قال: مالك بن جعشم المدلجي أخو سراقة بن جعشم يروي عن أخيه، روى عنه ابنه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، فنسب كل واحد من مالك وسراقة إلى جده، ولم ينسبهما إلى أبويهما، وقد ذكرنا أن مالكًا أبا عبد الرحمن هو مالك بن مالك بن جعشم، وسراقة هو ابن مالك بن جعشم، فافهم. قوله: "أرأيت" معناه: أَخْبِرْني. قوله: "أَلِيَ أجر" الهمزة فيه للاستفهام، والمعنى: هل لي في ذلك ثواب. قوله: "وفي الكبد الحرى" وزنه فعلى: من الحرّ، وهو تأنيث حران، وهما للمبالغة يريد أنها لشدة حرها قد عطشت ويبست من العطش، والمعنى: أن في سقي كل ذي كبد حرا أجر، وفي حديث آخر: "في كل كبد حرى رطبة أجرًا"، ومعنى رطبة: قيل: إن الكبد إذا طبخت ترطبت، وكذا إذا ألقيت على النار، وقيل: كنى بالرطوبة عن الحياة، فإن الميت يابس الكبد، وقيل: وصفها بما يئول أمرها إليه، والله أعلم. ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ومالك وسفيان الثوري، أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- وأنا معه، فسأله عن اللقطة،

فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب قال: فضالة الإبل؟ قال: معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد الفهمي، قال: أنا سليمان بن بلال، قال: حدثني يحيى بن سعيد وربيعة عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن لقطة الذهب والوَرِق؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفع بها، ولتكُنْ وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر، فأدها إليه. . . ." ثم ذكر في الحديث مثل ما في حديث يونس. حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث، أنه سمع زيد بن خالد الجهني يحدث، عن رسول الله -عليه السلام- مثله، غير أنه قال: لم يقل: "ولتكن وديعة عندك". حدثنا علي بن عبد الرحمن قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث أنه سمع زيد بن خالد يقول. . . . فذكر عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني، عن النبي -عليه السلام- مثله، غير أنه لم يقل: "ولتكن وديعة عندك". حدثنا فهد بن سليمان وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني محمد بن عجلان، قال: حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه سئل عن ضالة الغنم؟ فقال: لك أو لأخيك أو للذئب، وسئل عن ضالة الإبل؟ فقال: ما لك

وله؟ معه سقاؤه وحذاؤه، دعه حتى يجده ربه، قالوا: ففي هذا الحديث أنه نهاه عن أخذ ضالة الإبل، وأمره بتركها؛ فذلك أيضًا دليل على تحريم أخذ الضالة. ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه من تحريم أخذ الضالة بحديث زيد بن خالد الجهني وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، وجه استدلالهم به: أنه -عليه السلام- نهى ذلك الرجل عن أخذ ضالة الإبل وأمره بتركها؛ فهذا يدل عل تحريم أخذ الضالة. أما حديث زيد بن خالد فأخرجه من خمس طرق صحاح: الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وأخرجه الجماعة: فالبخاري (¬1): عن إسماعيل، عن مالك. وعن عبد الله بن يوسف (¬2)، عن مالك. وعن عمرو بن العباس (¬3)، عن ابن مهدي، عن سفيان. وعن الفريابي (¬4) عن سفيان. وعن قتيبة (¬5)، عن إسماعيل بن جعفر. وعن محمد (¬6)، عن إسماعيل بن جعفر. كلهم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد، عن خالد. ومسلم (¬7): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 836 رقم 2243). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 856 رقم 2297). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 855 رقم 2295). (¬4) "صحيح البخاري" (2/ 859 رقم 2306). (¬5) "صحيح البخاري" (2/ 858 رقم 2304). (¬6) "صحيح البخاري" (5/ 2265 رقم 5761). (¬7) "صحيح مسلم" (3/ 1346 رقم 1722).

وعن أبي الطاهر (¬1)، عن ابن وهب، عن مالك والثوري وعمرو بن الحارث وغيرهم، عن ربيعة، عن يزيد، بهذا. وعن يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر (1)، عن إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة. وأبو داود (¬2): عن ابن السرح، عن ابن وهب، عن مالك، عن ربيعة. وعن قتيبة (¬3): عن إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة، عن يزيد، عن زيد، به. والترمذي (¬4): عن قتيبة، عن إسماعيل، عن ربيعة. . . . إلى آخره. وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (¬5): عن قتيبة، عن إسماعيل به نحوه. وعن (¬6) محمد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك عن ربيعة. . . . إلى آخره، وأخرجه من طرق أخرى. وابن ماجه (¬7): عن إسحاق بن إسماعيل بن العلاء، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ربيعة، عن يزيد، عن زيد بن خالد نحوه. الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عبد الله بن محمد بن إسحاق الفهمي المصري، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، كلاهما عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1346 رقم 1722). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 533 رقم 1705). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 533 رقم 1704). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 655 رقم 1372). (¬5) انظر "تحفة الأشراف" (3/ 242 رقم 3763). (¬6) "السنن الكبرى" (3/ 419 رقم 5814). (¬7) "سنن ابن ماجه" (2/ 836 رقم 2504).

وأخرجه مسلم (¬1): عن أحمد بن عثمان، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد، عن زيد. . . . نحوه. الثالث: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن عبد الرحمن. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬2). . . . نحوه. الرابع: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد، عن زيد بن خالد. وأخرجه مسلم (¬3): عن عبد الله بن مسلمة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره نحوه. الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة. . . . إلى آخره. وأخرجه البخاري (¬4): ثنا عبد الله بن محمد، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا سليمان بن بلال المديني، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، عن يزيد مولى المنبعث المدني، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -: "أن النبي -عليه السلام- سأله رجل عن اللقطة، فقال: اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها- وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه، قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه، أو قال: احمر وجهه، فقال: ما لك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها، قال: فضالة الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب". ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1348 رقم 1722). (¬2) "مسند أحمد" (4/ 116 رقم 17091). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1349 رقم 1722). (¬4) "صحيح البخاري" (1/ 46 رقم 91).

وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فأخرجه بإسناد صحيح. عن فهد بن سليمان وعلي بن عبد الرحمن كلاهما عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمد بن عجلان المدني، عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن مسكين، نا سعيد بن أبي مريم، نا يحيى بن أيوب. . . . إلى آخره نحوه. وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى من حديث القعقاع عن أبي صالح إلا من حديث يحيى بن أيوب. قوله: "اعرف" أمر من عَرَفَ يَعْرِفُ، كضَرَبَ من ضَرَبَ يَضْرِبُ، و"العفاص": بكسر العين المهملة وبالفاء وفي آخره صاد مهملة، وهو الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد أو خرقة وغير ذلك، من العفص وهو الثني والعطف، وبه سمي الجلد الذي يجعل على رأس القارورة: عفاصًا. وقال الخطابي: أصل العفاص الجلد الذي يلبس رأس القارورة. و"الوكاء" بكسر الواو وبالمد: الذي يشد به رأس القربة، يقال: أوكأت القربة أوكئه إيكاء فهو موكى؛ أي شددت رأسها بالوكاء. قوله: "ثم عرفها سنة" من عرف الضالة إذا ذكرها وطلب من يعرفها، وهو أن ينادي في الأسواق والشوارع والمساجد: من ضاع له شيء فليطلبه عندي. قوله: "وإلا فشأنك بها" أي وإن لم يجيء صاحبها فانتفع بها، وشأنكَ منصوب بإضمار فعل، والتقدير: اصنع شأنك، أو افعل أو نحو ذلك، والشأن بمعنى الأمر والحال، ويجوز رفعه على الابتداء، أي: وإلا فشأنك بها جائز أو مباح أو نحو ذلك.

قوله: "لك أو لأخيك أو للذئب" اللام في لك للتمليك كما في قوله: "أو للذئب" فإن الذئب لا يملك شيئًا، وكذلك الملتقط لا يملك اللقطة، وإنما المعنى لك أن تأخذها فتكون في يدك لتردها إلى صاحبها أو يجدها ربها فيأخذها، أو تخليها فيذهب الذئب فيأكلها. قوله: "سقاؤها" بكسر السين؛ وهو الدلو، شبهها بمن كان معه حذاء وسقاء، وهو الدلو في سفره، والحذاء بالمد: النعل، أراد أنها تقوى على المشي وقطع الأرض وعلى قصد المياه وورودها، ورعي الأشجار والامتناع عن السباع المفترسة. قوله: "ربها" أي صاحبها، والرب يطلق على غير الله بالتقيد. ويستنبط منه أحكام: الأول: فيه أن عفاص اللقطة ووكاءها إحدى علامات اللقطة وأدلها عليه. وقال ابن حزم: تدفع اللقطة إلى من عرف العفاص والوكاء والعدد والوعاء، وبه قال مالك وأبو سليمان، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يدفعها إليه بذلك، فإن فعل ضمنها؛ لأنه قد يسمع غير صاحبها بصفتها فيعرفها صفتها. قلت: مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أن رب اللقطة إذا جاء وأقام البينة أنها ملكه؛ أخذها وإن لم يقم بينة ولكنه ذكر العلامة بأن وصف عفاصها ووكاءها ووزنها وعددها يحل للملتقط أن يدفعها إليه، وإن شاء أخذ منه كفيلا؛ لأن الدفع بالعلامة مما ورد به الشرع في الجملة، إلا أنه هناك يجبر على الدفع وهاهنا يجبر الدفع بمجرد الدعوى بالإجماع، فجاز ألا يجبر على الدفع بالعلامة ولكن يحل له الدفع، وله أن يأخذ كفيلا لجواز أن يجيء آخر فيدعيها ويقيم البينة. وقال أبو عمر: قال مالك: يستحق من جاء بالعلامة أن يأخذها، ولا يحتاج إلى بينة، فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة، لم يضمن الملتقط شيئًا. قال مالك: وكذا اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم وادعوها وليست لهم بينة يتلوم السلطان في ذلك، فإن لم يأت غيرهم، دفعها إليهم، وكذلك الآبق.

وهو قول الليث والحسن بن حي: أنها تدفع لمن جاء بالعلامة. فإن قلت: ما جواب الحنفية والشافعية عن قوله -عليه السلام-: "اعرف عفاصها ووكاءها"؟ قلت: معناه عندهم يعرف عفاصها ووكاءها حتى يؤديها مع اللقطة، وليعلم أيضًا إذا وضعها في ماله أنها لقطة. الثاني: أن اللقطة إذا لم تكن تافهًا يسيرًا أو شيئًا لا بقاء له؛ فإنه يعرفها حولًا كاملا، واختلفوا في التافه اليسير، هل يعرف حولًا أَم لا؟ فقال مالك: إن كان تافهًا يسيرًا تصدق به قبل الحول. قال ابن حبيب: كدرهم ونحوه. وذكر ابن وهب عن مالك أنه قال في اللقطة مثل المحلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك: أنه إن كان في طريق؛ وضعه في أقرب الأماكن إليه ليعرف، وإن كان في مدينة؛ انتفع به وعرفه، وإن تصدق به كان أحب إلي، فإن جاء صاحبه كان عليه حقه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ما كان عشرة دراهم فصاعدًا عرفها حولًا، وما كان دون ذلك عرفها على قدر ما يرى. وقال الحسن بن حي نحوه؛ إلا أنه قال: ما دون عشرة دراهم عرفه ثلاثة أيام. وقال الثوري في الذي يجد الدراهم: يعرفه أربعة أيام، رواه عنه أبو نعيم. وقال الشافعي: يعرف القليل والكثير حولًا كاملًا، ولا تنطلق يده على شيء منه إلا بعد الحول؛ فإذا عرفه حولًا أكله بعد ذلك، أو تصدق به؛ فإن جاء صاحبه كان غريمًا في الموت والحياة، قال: إن كان طعامًا لا يبقى، فله أن يأكله ويغرمه لربه. قال ابن حزم: قد روينا عن عمر - رضي الله عنه -: التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد، ثم سنة، وبه يقول الليث بن سعد، ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب: أنا يزيد بن محمد، عن عبد الصمد: ثنا علي بن عياش: حدثني

الليث بن سعد: حدثني من أرضى، عن إسماعيل بن أمية، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن رجل من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، عن النبي -عليه السلام- أنه قد قال وقد سئل عن الضالة: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها". قال ابن حزم (¬1): هذا حديث هالك؛ لأن الليث لم يسم من أخذ عنه، وقد يرضى الفاضل من لا يُرضي، هذا سفيان الثوري يقول: لم أر أصدق من جابر الجعفي. وجابر مشهور بالكذب. ثم هو خطأ؛ لأنه قال فيه: عن عبد الله بن يزيد، وإنما هو: عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد، وقال أيضًا: روينا عن مالك، والشافعي، وأبي سليمان، والأوزاعي: تعريف اللقطة سنة، وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة، وقد روي عنه خلافه، ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضًا تعريف اللقطة ثلاثة أشهر، وروي عنه أربعة أشهر، وقال الحسن بن حي وأبو حنيفة -في رواية هشام بن عبيد الله الرازي، عن محمد بن الحسن عنه- في عشرة دراهم فصاعدًا فإنه يعرف سنة، واختلفا فيما كان أقل، فقال الحسن بن حيّ: يعرف ثلاثة أيام، وقال أبو حنيفة: يعرف على قدر ما يرى الملتقط. الثالث: أن صاحب اللقطة إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت أنه صاحبها. الرابع: أن الملتقط إذا أكلها بعد الحول، وأراد صاحبها أن يضمنه كان ذلك له، وإن كان قد تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن يترك على أجرها. وقال ابن حزم (¬2): وقد صح ذلك عن عمر وعن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه رأى تمرة مطروحة في السكة فأخذها وأكلها". وعن ¬

_ (¬1) "المحلى" (8/ 262). (¬2) "المحلى" (8/ 266).

علي - رضي الله عنه -: "أنه التقط حب رمان فأكله". وعن ابن عباس: "من وجد لقطة من سقط المتاع -سوطًا أو نعلين أو عصا- أو يسيرًا من المتاع فليستمتع به ولينشده، وإن كان ودكًا فليأتدم به ولينشده، وإن كان زادًا فليأكله ولينشده، فإن جاء صاحبه فليغرم له". وهو قول يروى أيضًا عن طاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء في آخر قوليه والشافعي وأبي سليمان وغيرهم. وقالت طائفة: يتصدق بها، فإن عرفت خُيِّر صاحبها بين الأجر والضمان، روينا ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وعن طاوس أيضًا وعكرمة وهو قول أبي حنيفة والحسن بن حي وسفيان الثوري. الخامس: قال أبو عمر (¬1): أجمعوا أن أخذ ضالة الغنم في المواضع المخوف عليها له أكلها، واختلفوا في سائر ذلك، فمن ذلك أن في حديث زيد بن خالد دليلًا عل إباحة اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلًا، وقال مالك في ضالة الغنم: ما قرب من القرى فلا يأكلها، ويضمها إلى أقرب القرى ويعرف فيها، ولا يأكلها واجدها ولا من تركت عنده حتى تمر بها سنة كاملة. وقال ابن وهب (¬2): فإن كان لها لبن أو صوف فليبعه وليدفع ثمنه لصاحب الشاة إن جاء. وقال مالك: ولا أرى بأسًا أن يصيب من نسلها ولبنها بنحو قيامه عليها، وإن كان تيسًا فلا بأس أن يتركه ينزو على غنمه ما لم يفسده ذلك، وأما ما كان في الفلوات والمهامة (¬3) فإنه يأخذها ويأكلها ولا يعرفها، فإن جاء صاحبها فليس له شيء؛ لأنه -عليه السلام- قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال: والبقر بمنزلة الغنم إذا خيف عليها السباع، وإن لم يخف عليها السباع فبمنزلة الإبل. ¬

_ (¬1) "التمهيد لابن عبد البر" (3/ 108). (¬2) "التمهيد" (3/ 124). (¬3) "التمهيد" (3/ 123).

وقال في الإبل: إذا وجدها في فلاة فلا يعرض لها، فإن أخذها فعرفها فلم يجيء صاحبها خَلَّاها في الموضع الذي وجدها فيه، قال: والخيل والبغال والحمير يعرفها ثم يبيعها فيتصدق بثمنها؛ لأنها لا تؤكل، وقال مالك: لا تباع ضوال الإبل، ولكن يردها إلى موضعها الذي أصيبت فيه، وكذلك فعل عمر بن الخطاب. واتفق مالك وأصحابه أن الإِمام إذا كان غير عدل ولا مأمون لم تؤخذ ضوال الإبل وتركت مكانها؛ فإن كان الإِمام عدلًا كان له أخذها وتعريفها، فإن جاء صاحبها وإلا ردها إلى المكان، هذه رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك. وقال أشهب: لا يردها ويبيعها ويمسك ثمنها؛ على ما روي عن عثمان - رضي الله عنه -. وقال الشافعي: تؤخذ الشاة ويعرفها آخذها، فإن لم يجيء صاحبها أكلها ثم ضمنها إن جاء صاحبها، قال: ولا يتعرض للإبل والبقر، فإن أخذ الإبل ثم أرسلها ضمن. قلت: وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فيجوز الالتقاط سواء كان شاة أو بقرًا أو إبلًا أو فرسًا، وسيجيء الدليل عل ذلك، والجواب عما احتج به المانعون إن شاء الله تعالى. السادس: في قوله: "اعرف عفاصه ووكاءها" دليل بَيِّن على إبطال قول كل من ادعى علم الغيب في الأشياء كلها من الكهنة وأهل التنجيم وغيرهم؛ لأنه -عليه السلام- لو علم أنه يوصل إلى علم ذلك من هذه الوجوه لم يكن لقوله في معرفة علاماتها وجه. ص: قيل لهم: ما في ذلك دليل على ما ذكرتم، ولكن فيه أمر النبي -عليه السلام- إياه بترك ضالة الإبل؛ لأن من شأنها طلب الماء حتى تقدر عليه، ولا يخاف عليها الضياع لذلك؛ لأنها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، فتركها أفضل من أخذها وليس من أخذها ليحفظها على صاحبها بمأثوم، وقد سئل النبي -عليه السلام- في هذا الحديث أيضًا عن ضالة الغنم؟ فقال: "لك أو لأخيك أو للذئب" أي: لك

أن تأخذها لنفسك فتكون في يدك لأخيك، أو تخليها فيأخذ الذئب فيأكلها، أو يجدها ربها فيأخذها، ففي ذلك إباحته لأخذها. ش: أي قيل لأهل المقالة الأولى في جواب احتجاجهم بالأحاديث المذكورة، وهو جواب بطريق المنع ووجهه ظاهر. قوله: "الضَّياع" بفتح الضاد. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي -عليه السلام-: ما حدثنا يونس، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أنا عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا من مزينة أتى رسول الله -عليه السلام- فسأله كيف ترى في ضالة الغنم؟ فقال: طعام مأكول، لك أو لأخيك أو للذئب، احبس على أخيك ضالته، قال: يا رسول الله، فكيف ترى في ضالة الإبل؟ فقال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ولا يخاف عليها الذئب، تأكل الكلأ، وترد الماء، دعها حتى يأتي طالبها". ففي هذا الحديث إباحة أخذ الضالة التي يخاف عليها الضياع وحبسها لربها، فدل ذلك أن معنى قوله -عليه السلام-: "ضالة المسلم حرق النار"، وقوله -عليه السلام-: "لا يؤوي الضالة إلا ضال" إنما أراد بذلك الإيواء والأخذ اللذين هما ضد الحبس على صاحب الضالة حتى يتفق معنى هذا الحديث، ومعنى ذينك الحديثين ولا تتضاد. فيما بَيَّن -عليه السلام- في الإبل بقوله: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ولا يخاف عليه الذئب" دليل على أنه لم يطلق له أخذها؛ لعدم الخوف عليها، وفي إباحته أخذ الشاة لخوفه عليها من الذئب دليل على أن الناقة كذلك إذا خيف عليها من غير الذئب أنَّ أخذها لصاحبها وحفظها عليه أولى من تركها وذهابها. ش: أي قد روي فيما ذكرنا من أن أخذ ضالة الإبل للحفظ على صاحبها ليس بمأثوم، ومن إباحة ضالة الغنم وأن أخذها أولى من تركها عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.

وأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وقد تقدم الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب أنه صحيح ورجال الإسناد إليه من الثقات. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا يعلى، نا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله -عليه السلام-، قال: يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل؟ قال: معها حذاؤها وسقاؤها، تأكل الشجر وترد الماء، فَدَعْها حتى يأتيها باغيها. قال: الضالة من الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب. . . ." الحديث بطوله، وبقية الكلام ظاهر. ص: وقد جاء عن النبي -عليه السلام- ما يدل على أن حكم الضالة حكم اللقطة: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي العلاء، عن عياض بن حماد: "أن النبي -عليه السلام- سئل عن الضالة، فقال: عرفها، فإن وجدت صاحبها، وإلا فهي مال الله -عز وجل-". ففي هذا الحديث أن تعريفها واجب، ومعرفها في حال تعريفه إياها ممسك بها لصاحبها، ولم يؤمر بترك ذلك، فدل هذا أن الإمساك المنهي عنه في غير هذا الحديث إنما هو الإمساك الذي يفعله الممسك لنفسه لا لرب الضالة، فهذا ما في الضوال من الأحكام عن النبي -عليه السلام-. ش: إسناد حديث عياض صحيح، وأخرجه من وجهين: الوجه الأول: هذا عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي التميمي - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (2/ 203 رقم 6891).

وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا علي بن عبد العزيز، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، أنا خالد الحذاء، عن أبي العلاء، عن مطرف بن عبد الله، عن عياض بن حمار: "أنه سأل النبي -عليه السلام- عن اللقطة، فقال: تعرف ولا تغيب ولا تكتم، فإن جاء صاحبها، وإلا فمال الله يؤتيه من يشاء". وهذا كما رأيت بَيْن أبي العلاء وبين عياض مطرف بن عبد الله، وليس هذا في رواية الطحاوي، وكل منهما قد روى عن عياض. وفي هذا الحديث حجة لأصحابنا في قولهم: يجوز الالتقاط في كل شيء سواء كان من الصوامت والنواطق؛ لأن اللقطة أعَمُّ من الضالة وغيرها. فإن قلت: كان أبو عبيد القاسم بن سلام يفرق بين اللقطة والضالة، فقال: الضالة لا تكون إلا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان، وقال أبو عبيد: إنما الضوال ما ضل بنفسه، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة، ولا يجوز لأحد أخذ الضالة. قلت: قد قال جمهور أهل العلم: إن اللقطة والضالة سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء، وكان الطحاوي يذهب إلى هذا أيضًا، وأنكر على أبي عبيد في قوله: "الضالة ما ضل بنفسه". وقال: هذا غلط؛ لأنه قد روي في حديث الإفك قوله للمسلمين: "إن أمكم ضلت قلادتها" فأطلق ذلك على القلادة، وأجاب أصحابنا عن الأحاديث المتقدمة التي ظاهرها المنع عن التقاط الإبل بأن ذلك فيما إذا كان صاحبه قريبًا منه، ألا ترى أنه قال: "حتى يلقاها ربها"، وإنما يقال ذلك إذا كان قريبا أو كان رجاء اللقاء ثابتًا ونحن نقول به، ولا كلام فيه، والدليل عليه: أنه لما سئل عن ضالة الغنم فقال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" ندبه إلى الأخذ، ونبه على المعنى، وهو خوف الضيعة، وأنه موجود في الإبل، فالنص الوارد فيها يكون واردًا في الإبل وسائر البهائم دلالة، إلا أنه -عليه السلام- فصل بينهما في الجواب من حيث ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (17/ 358 رقم 985).

الصورة؛ لهجوم الذئب على الغنم إذا لم يلقاها ربها عادة بعيدًا كان أو قريبًا، ولا كذلك الإبل؛ لأنها تذب عن نفسها عادة. ص: وقد روي في اللقطة عن النبي -عليه السلام- أنه قد أمر بالإشهاد عليها وترك كتمانها، فمما قد روي في ذلك: ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن يزيد بن الشخير، عن مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي -عليه السلام- قال: "من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغير، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا مال الله يؤتيه من يشاء". فلما كان أخذ اللقطة على هذا الوجه مباحًا؛ كان كذلك أخذ الضالة، وإنما يكره أخذهما جميعًا إذا كان يراد ضد ذلك. ش: هذا هو الوجه الثاني من حديث عياض، أخرجه بإسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن خالد الطحان. وعن موسى، عن وهيب، جميعًا عن خالد الحذاء، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله، عن مطرف بن عبد الله، عن عياض به. وأخرجه النسائي (¬2): عن ابن بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عياض. وقد احتج أبو حنيفة ومحمد بهذا الحديث أن الإشهاد في اللقطة شرط، حتى إذا لم يشهد عليها ثم هلكت ضمنها، وبه يقول زفر، وقال أبو يوسف: الإشهاد ليس بشرط، وبه قال مالك والشافعي وعبد الله بن شبرمة، والحديث حجة عليهم. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 136 رقم 1709). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 418 رقم 5809) من طريق آخر عن أبي العلاء به.

ص: ولقد استحب أُبي بن كعب - رضي الله عنه - أخذ اللقطة وأن لا تترك للسباع؛ فحدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة قال: "خرجت حاجًّا فأصبت سوطًا فأخذته، فقال زيد بن صوحان: دعه، فقلت: لا أدعه للسباع، لآخذنه فلأستنفعن به، فلقيت أبي بن كعب فذكرت ذلك له، فقال: أحسنت، وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله -عليه السلام- فأخذتها، فذكرتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عرفها حولًا، فإن وجدت من يعرفها فادفعها إليه، وإلا فاستنفع بها". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت سويد بن غفلة. . . . فذكر نحو حديث علي بن شيبة، وزاد: "قال أبي - رضي الله عنه -: فأتيت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك، فقال: عرفها حولًا، قال: فعرفتها حولًا فلم أجد من يعرفها، قال: فأتيت النبي -عليه السلام- فقال: عرفها حولا، فعرفتها حولًا، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته الثالثة، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها حولًا فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستنفع بها" ثم قال شعبة: ثم إن سلمة شك فلا يدري أثلاثة أعوام أم عامًا واحدًا؟ قال سلمة: فأعجبني هذا الحديث، فقلت لأبي صادق ذلك، فقال شعبة: من أبي بن كعب كما سمعته من سويد. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر المنقري، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "التقطت على عهد رسول الله -عليه السلام- مائة دينار، فأتيت بها النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال: عرفها سنة، فعرفتها سنة فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقلت: قد عرفتها سنة فلم أجد من يعرفها، فقال: عرفها سنة، فعرفتها سنة فلم أجد أحدًا يعرفها، فأتيته فقلت: قد عرفتها سنة فلم أجد من يعرفها، فقال: اعلم عددها ووكاءها، ثم استمتع بها". ش: أخرج حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة بن عوسجة الجعفي الكوفي، أدرك الجاهلية وروي عنه أنه قال: أنا لدة رسول الله -عليه السلام-، ولدت عام الفيل. قَدِمَ المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الترمذي (¬1): ثنا الحسن بن علي الخلال، قال: ثنا عبد الله بن نمير ويزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة قال: "خرجت مع زيد بن صوحان وسليمان بن ربيعة فوجدت سوطًا -قال ابن نمير في حديثه: فالتقطت سوطًا- فأخذته، قالا: دعه، فقلت: لا أدعه لا يأكله السباع، لآخذنه فلأستمتعن به، فقدمت على أبي بن كعب فسألته عن ذلك، وحدثته الحديث، فقال: أحسنت، وجدت على عهد النبي -عليه السلام- صرة فيها مائة دينار، قال: فأتيته بها، فقال لي: عرفها حولًا، فعرفتها، ثم أتيته فقال: عرفها حولًا آخر، فعرفتها، ثم أتيته فقال: عرفها حولًا آخر، فقال: احص عددها ووكاءها ووعاءها، فإذا جاء طالبها فأخبرك بعدتها ووعاءها ووكاءها فادفعها إليه، وإلا فاستمتع بها". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي عن شعبة بن الحجاج، عن سلمة بن كهيل. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة. ح وثنا أبو بكر بن نافع -واللفظ له- قال: ثنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت سويد بن غفلة قال: "خرجت أنا وزيد بن صوحان وسليمان بن ربيعة غازين، فوجدت سوطًا فأخذته، وقالا لي: دعه، فقلت: لا، ولكني أعرفه، فإن جاء صاحبه وإلا استمتعت به، قال: فأبيت عليهما، فلما رجعنا من غزاتنا قضي لي أني حججت فأتيت المدينة، فلقيت أبي بن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 658 رقم 1374). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1350 رقم 1723).

كعب فأخبرته بشأن السوط وبقولهما، فقال: إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله -عليه السلام-، فأتيت بها رسول الله -عليه السلام-، فقال: عرفها حولًا، قال: فعرفتها حولًا فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولًا، فعرَّفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولًا، فعرَّفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها، فاستمتعت بها فلقيته بعد ذلك بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدًا". وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: عن محمد بن كثير، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، قال: "حججت مع زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة، فوجدت سوطًا. . . ." الحديث. وأخرجه بقية الجماعة (¬2). الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو ابن أبي الحجاج المنقري البصري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن جحادة الأودي، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة. . . . إلى آخره. وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" (¬3): حدثني أحمد بن أيوب بن راشد البصري، ثنا عبد الوارث، نا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي بن كعب قال: "التقطت على عهد رسول الله -عليه السلام- مائة دينار، فأتيت بها رسول الله -عليه السلام-، فقال: عرفها سنة، فعرفتها سنة ثم أتيته، فقلت: قد عرفتها سنة، قال: عرفها سنة أخرى، قال: فعرفتها سنة أخرى، ثم أتيته في الثالثة فقال: احص عددها ووكاءها واستمتع بها". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 134 رقم 1701). (¬2) البخاري (2/ 859 رقم 2305)، ومسلم (3/ 1350 رقم 1723)، والترمذي (3/ 658 رقم 1374)، والنسائي في "السنن الكبرى" (3/ 422 رقم 5822)، وابن ماجه (2/ 837 رقم 2506). (¬3) "مسند أحمد" (5/ 127 رقم 21207).

قوله: "فقال زيد بن صُوحان" بضم الصاد، هو زيد بن صوحان بن حجر ابن الحارث الربعي العبدي عده جماعة من الصحابة، وذكره ابن حبان في التابعين الثقات. قوله: "دعه" أي اتركه. قوله: "فقلت لأبي صادق" اسمه: مسلم بن يزيد، ويقال عبد الله بن ناجذ الأزدي الكوفي، قال أبو حاتم: صدوق مستقيم الحديث. ثم في هذا الحديث من الفقه: أن أخذ اللقطة جائز، وأنه -عليه السلام- لم ينكر أخذها على أبي - رضي الله عنه -. وفيه: أن اللقطة إذا كانت مما لا يسرع إليه الفساد فيتلف قبل مضي السنة، فإنها تعرف سنة كاملة، وقد اختلفت الرواية في تحديد المدة فقال فيها: "لا ندري ثلاثة أعوام أم عامًا واحدًا"، وفي خبر زيد بن خالد: "عرفها حولًا واحدًا" من غير شك، وهو مذهب عامة الفقهاء. ص: وقد روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: ما قد حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير أنه قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن عمرو وعاصم ابني سفيان بن عبد الله بن ربيعة، أن أباهما سفيان بن عبد الله وجد عَيْبَةَ فأتى بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: عرفها سنة، فإن عرفت فذاك، وإلا فهي لك، قال: فعرفتها سنة فلم تعرف، فأتى عمر - رضي الله عنه - العام القابل في الموسم فأخبره بذلك، فقال: هي لك، وقال: إن رسول الله -عليه السلام- أمرنا بذلك، فأبى سفيان أن يأخذها فأخذها منه عمر - رضي الله عنه - فجعلها في بيت مال المسلمين". ش: إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات، وأبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد الكوفي، وعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو وعاصم ابنا سفيان بن عبد الله بن ربيعة ثقتان، وسفيان بن عبد الله الثقفي الطائفي الصحابي - رضي الله عنه -.

وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬1): من حديث أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، حدثني عمرو بن شعيب، عن عمرو وعاصم ابني سفيان بن عبد الله بن ربيعة، أن أباهما وجد عَيْبَة فأتى بها عمر - رضي الله عنه -، فقال: عرفها سنة، فإن عرفت فذاك، وإلا فهي لك، فلم تعرف، فلقيه بها القابل في الموسم، فذكرها له، فقال عمر - رضي الله عنه -: هي لك، فإن رسول الله -عليه السلام- أمرنا بذلك، قال: لا حاجة لي فيها، فجعلها في بيت المال". وأخرجه النسائي (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن الوليد بن كثير -قال عيسى: وكان ثقة- عن عمرو بن شعيب، عن عاصم وعمرو ابني سفيان بن عبد الله. . . . فذكره بطوله عمرو. قوله: "عَيْبَة" بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة، وهي ما يجعل فيه الثياب، وهي بالفارسية حامه دان. ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن الحسين اللهبي، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني: "أن رسول الله -عليه السلام- سئل عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه". ش: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن الحسين اللهبي المدني من ولد أبي لهب بن عبد المطلب الهاشمي الثقة المأمون، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار المدني، عن الضحاك بن عثمان بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني الكبير، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية المدني، عن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- ابن سعيد المدني العابد، عن زيد بن خالد الجهني. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 187 رقم 11839). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 421 رقم 5819).

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح قال: أخبرني عبد الله بن وهب، قال: حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قال: "سئل رسول الله -عليه السلام- عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن لم تعرف فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه". وأبو داود (¬2): عن محمد بن رافع وهارون بن عبد الله، عن ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، به. والترمذي (¬3): عن ابن بشار، عن أبي بكر الحنفي، عن الضحاك بن عثمان، حدثني سالم أبو النضر، عن بسر بمعناه. وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. والنسائي (¬4): عن هارون بن عبد الله، عن ابن أبي فديك وأبي بكر الحنفي، عن الضحاك، عن أبي النضر، عن بسر به. وعن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن الضحاك بن عثمان نحوه. وابن ماجه (¬5): عن ابن بشار، عن أبي بكر الحنفي، وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، جميعًا عن الضحاك، به. قوله: "فإن جاء باغيها" أي طالبها، من بَغَى ضالته إذا طلبها، والبُغية: الحاجة. ص: أفلا ترى أن النبي -عليه السلام- لم يعنف أبيًّا في أخذه الدنانير حين أخذها، وقد صوب أبي - رضي الله عنه - سويدًا في أخذه السوط ليحفظ على صاحبه، ولا يدعه للسباع، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1349 رقم 1722). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 135 رقم 1706). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 656 رقم 1373). (¬4) "السنن الكبرى" (3/ 419 رقم 5811) من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الضحاك، به. وانظر "تحفة الأشراف" (3/ 230 رقم 3748). (¬5) "سنن ابن ماجه" (2/ 838 رقم 2507).

وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث سفيان بن عبد الله: "هي لك، أمرنا رسول الله -عليه السلام- بذلك، فلما أبى سفيان ذلك جعلها عمر - رضي الله عنه - في بيت المال". فقد أجاز رسول الله -عليه السلام- أخذ اللقطة والضالة؛ لأن يحفظها على صاحبها. ش: هذا توضيح للمعاني التي تتضمنها أحاديث أُبي وعمر وزيد بن خالد - رضي الله عنهم - الدالة على جواز الالتقاط للحفظ على صاحبها، وعلى إباحة استعمالها للملتقط بعد التعريف المحدود، وعلى وضعها في بيت المال إن لم يستمتع بها الملتقط لأنها مال ضائع ومحله بيت مال المسلمين، كسائر الأموال التي لا أصحاب لها. ص: وقد روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- في ذلك أيضًا ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن ثابت بن الضحاك وجد بعيرًا، فقال له عمر - رضي الله عنه -: عرفه، فعرفه ثلاث مرار، ثم جاء إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: قد شغلني عن ضيعتي، فقال عمر - رضي الله عنه -: انزع خطامه ثم أرسله حيث وجدته. وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد. . . . فذكر مثله، وزاد: "أن ثابت بن الضحاك حدثه أنه وجد بعيرًا على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -". حدثنا يونس، قال: أنا أنس، قال: ثنا يحيى، قال: سمعت سليمان بن يسار، فذكر بإسناده مثله. فهذا عمر - رضي الله عنه - قد حكم للضالة بحكم اللقطة. ش: أخرج ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ الشيخين وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان بن يسار الهلالي المدني، أن ثابت بن الضحاك بن أمية الأنصاري الصحابي. . . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره. وأخرجه مالك (1): عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، أن ثابت بن الضحاك الأنصاري أخبره: "أنه وجد بالحرة بعيرًا فعقله، ثم ذكره لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأمره عمر بن الخطاب أن يعرفه ثلاث مرات، فقال له ثابت: إنه قد شغلني عن ضيعتي، فقال له عمر: أرسله حيث وجدته". الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث يزيد بن هارون، أنا يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن ثابت بن الضحاك: "أنه وجد بعيرًا، فأتى به عمر - رضي الله عنه -، فأمره أن يعرفه، ثم إنه رجع إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: إنه قد شغلني عن عملي، فقال له: اذهب فأرسله من حيث أخذت". وقال البيهقي: ليس فيه ما يدل على سقوط الضمان عنه إذا أرسلها فهلكت. وقال الذهبي في "مختصر السنن": هو دال على إرسال البعير الذي ليس له أن يلتقط؛ لأنه معه سقاؤه وحذاؤه حتى يلقاه صاحبه. قلت: في كلا القولين نظر؛ أما قول البيهقي فإنه أطلق القول في ذلك وهو على التفصيل، وهو أنه إذا أخذ اللقطة ولم يبرح عن ذلك المكان حتى وضعها في موضعها أو كانت ضالة فأرسلها في موضعها، لا ضمان عليه إذا هلكت، وأما إذا ذهب بها عن ذلك المكان ثم عاد ووضعها أو أرسلها فإنه يضمن. فإن قلت: كلام البيهقي مبني على مذهب إمامه، فإن إمامه قال: يضمن مطلقا سواء ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب؛ لأنه لما أخذها عن مكانها فقد التزم حفظها ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 759 رقم 1447). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 191 رقم 11859).

بمنزلة قبول الوديعة، فإذا ردها إلى مكانها فقد ضيعها بترك الحفظ الملتزم. قلت: حديث عمر - رضي الله عنه - حجة عليه في هذا الإطلاق، والصحيح التفصيل، وذلك لأنه إذا لم يذهب بها لم يكن متعديًا فلا ضمان عليه إذا هلكت؛ لأنه كان متبرعًا في أخذها ليحفظها، فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع من الأصل، فصار كأنه لم يأخذها أصلًا، بخلاف ما إذا ذهب بها ثم ردها لأنه حينئذ يصير متعديًا، فيجب عليه الضمان. وأما قول الذهبي فغير صحيح؛ لأنه لو كان الإرسال واجبًا عليه لعدم جواز التقاط الضالة لكان عمر - رضي الله عنه - أمره بالإرسال في الأول، ولم يأمره بالتعريف، فحيث أمره بالتعريف دل على جواز التقاط الضالة، ودل أيضًا أن حكم الضالة كحكم اللقطة، وأنهما سواء. ص: وكذلك روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في ذلك أيضًا: ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا العوام بن حوشب، قال: حدثني العلاء بن سهيل: "أنه سمع عبد الله بن عمر سئل عن الضالة من القدح والشيء يجده الإنسان، فقال: اتق خيرها بشرها، وشرها بخيرها، ولا تضمها؛ فإن الضالة لا يضمها إلا ضال". وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود وبشر بن عمر، قالا: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قال: "سمعت رجلًا سأل ابن عمر عن الضالة، فقال: ادفعها إلى السلطان". وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا همام، عن نافع وأنس بن سيرين: "أن رجلًا سأل ابن عمر - رضي الله عنه - فقال له: إني أصبت ناقة، فقال: عرفها، فقال: قد عرفتها فلم تعرف، فقال: ادفعها إلى الوالي". وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: "سمعت ابن عمر وسئل عن الضالة، فقال: ادفعها إلى السلطان أو إلى الأمير".

ش: هذه أربع طرق جياد حسان: الأول: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن العوام بن حوشب العتباني الواسطي، عن العلاء بن سهيل بن عمرو، عن عبد الله بن عمر. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان الطيالسي وبشر بن عمر بن الحكم الزهراني، كلاهما عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، نحوه. الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن همام بن يحيى، عن نافع مولى ابن عمر وأنس بن سيرين، كلاهما عن ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2) نحوه: ثنا أبو الأحوص، عن زيد بن جبير قال: "كنت قاعدًا عند ابن عمر، فأتاه رجل فقال: ضالة وجدتها، فقال: أصلح إليها وانشد. . . .". الرابع: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، "سمع ابن عمر وسئل عن اللقطة، قال: ادفعها إلى الأمير". قوله: "من القدح" يجوز أن يكون بفتح القاف والدال وهو الذي يؤكل فيه، ويجوز أن يكون بكسر القاف وسكون الدال وهو الذي يرمى به عن القوس، يقال للسهم أول ما يقطع: قِطْعٌ، ثم يُنْحَتُ ويُبْرَى فيسمى بَريًّا ثم يقوم فيسمى قِدْحًا، ثم يُراش ويُرَكَّب نصله فيسمى سَهْمًا. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 414 رقم 21633). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 12 رقم 23239). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 189 رقم 11844).

فإن قلت: أثر ابن عمر - رضي الله عنه - يدل على أن التقاط الضالة لا يجوز، كما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، فما وجه إيراده هنا؟. قلت: وجه إيراده هاهنا أنه يدل على أن حكم الضالة كحكم اللقطة، وأن الضالة واللقطة تطلق كل واحدة منهما على الأخرى، ألا ترى كيف قال: سئل عن الضالة من القدح والشيء يجده الإنسان، وأما قوله فإن الضالة لا يضمها إلا ضال فمحمول على من يلتقط الضالة لنفسه لا لأجل حفظها ليردها إلى صاحبها؛ فافهم. ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك أيضًا: ما قد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية: "أن امرأة سألت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: إني أصبت ضالة في الحرم، وإني عرفتها فلم أجد أحدًا يعرفها، فقالت: استنفعي بها". ش: إسناده صحيح، والرِّشْك -بكسر الراء وسكون الشين المعجمة، وفي آخره كاف- ومعناه القسام يلقب به يزيد بن أبي يزيد الضبعي البصري. وفيه: دلالة على جواز التقاط الحرم؛ خلافًا لمن منعه، وأن حكمه بمثل حكم الالتقاط من الحل. وقال الشافعي وأحمد: يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها. ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود في ذلك أيضًا: ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، قال: "اشترى عبد الله - رضي الله عنه - خادمًا بسبعمائة درهم، فطلب صاحبها فلم يجده، فعرفها حولًا فلم يجد صاحبها، فجمع المساكين فجعل يعطيهم ويقول: اللهم عن صاحبها، فإن أبى ذلك فَعَنِّي وعليّ الثمن، ثم قال: هكذا يفعل بالضال". ش: إسناده صحيح عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله، عن عامر بن شقيق بن جمرة -بالجيم والراء- الأسدي الكوفي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: "اشترى عبد الله جارية بسبعمائة درهم، فغاب صاحبها، فأنشده حولًا -أو قال: سنة- ثم خرج إلى المسجد، فجعل يتصدق ويقول: اللهم فله، فإن أبى فعليّ، ثم قال: هكذا افعلوا باللقطة أو بالضالة". واعلم أن هذا وقع في رواية الشافعي: عن عامر، عن أبيه، عن عبد الله: "أنه اشترى جارية فذهب صاحبها، فتصدق بثمنها، وقال: اللهم عن صاحبها فإن كره فلي وعلي الغرم". وأخرجه البيهقي (¬2): وهذا قد التبس على الراوي وقال: عن عامر عن أبيه، وليس كذلك، فإن عامرًا هذا هو ابن شقيق بن جمرة كما ذكرنا، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة، فلما توافق اسم أبي وائل واسم أبي عامر في شقيق، ظنَّ من قال: عن عامر عن أبيه أن أبا وائل هو أبوه، وليس الأمر كذلك. صِ: فقد روينا عن رسول الله -عليه السلام-، وعمن روينا عنه من أصحابه ممن ذكرنا في هذا الباب التسوية بين حكم اللقطة والضالة جميعًا، فدل أن ما جاء في هذه الآثار مما فيه ذكر أحدها فهو فيها وفي الأخرى، وأن حكمهما حكم واحد في جميع ذلك. ش: أراد أن الأحاديث التي رواها عن النبي -عليه السلام-، والآثار التي رواها عن الصحابة - رضي الله عنهم - كلها تقتضي التسوية بين حكم اللقطة والضالة، وهذه حجة على من يفرق بين حكميهما. ص: فإن قال قائل: إن الضال ما ضل بنفسه، واللقطة ما سوى ذلك من الأمتعة وما أشبهها. قيل له: وما دليلك على ما ذكرت؟ بل قد رأينا اللغة قد أباحت أن نسمي ما ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 335 رقم 20776). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (6/ 187 رقم 11841).

لا نفس له ضالًّا، وقد قال رسول الله -عليه السلام- في حديث الإفك: "إن أمكم ضلت قلادتها". ش: تقرير السؤال أن يقال: لا نسلم التسوية بين اللقطة والضالة؛ فإن الضال ما ضل بنفسه، واللقطة ما سوى ذلك من الأمتعة، يعني الضال يكون من الحيوان فقط، واللقطة أعم من ذلك، وهذا الفرق منقول عن أبي عبيد القاسم بن سلام الفقيه البغدادي صاحب التصانيف المشهورة. وقد رد عليه الطحاوي بقوله: "قيل له. . . . إلى آخره" ووجهه ظاهر؛ لأنه -عليه السلام- أطلق اسم الضالة على قلادة عائشة وهي مما لا نفس له، وقد مر الكلام فيه فيما مضى. ص: وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - في الضالة أيضًا أن حكمها مثل حكم اللقطة. حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن العالية قالت: "كنت عند عائشة، فأتتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين، إني وجدت ضالة فكيف تأمريني أن أصنع بها؟ قالت: عرفيها واعلفي واحتلبي، قالت: ثم عادت فسألتها، فقالت عائشة: تريدين أن آمرك أن تبيعيها أو تذبحيها؟ ليس ذلك لك". فقد ثبت بما ذكرنا التسوية بين حكم الضوال واللقطة، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: إسناده صحيح، وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وأبو إسحاق عمر بن عبد الله السبيعي، يروي عن امرأته العالية بنت أيفع، وثقها ابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن العالية قالت: "كنت جالسة عند عائشة - رضي الله عنها -، فأتتها امرأة فقالت: وجدت شاة، فكيف تأمريني أن أصنع بها؟ فقالت: عرفي واحتلبي واعلفي، ثم عادت، فقالت عائشة: تأمريني أن آمرك أن تذبحيها أو تبيعيها؟! فليس لك ذلك". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 11 رقم 23238)، (4/ 416 رقم 21658).

وأخرجه عبد الرزاق (¬1): عن معمر، عن الثوري، عن أبي إسحاق معناه. واستفيد من هذا: أن حكم الضالة مثل حكم اللقطة حيث أمرت عائشة تلك المرأة التي وجدت الشاة أن تعرفها فهذا حكم اللقطة. وأن الملتقط ينبغي أن ينفق على اللقطة ولكن ينبغي أن يكون بإذن الإِمام حتى لو أنفقها بغير إذنه يكون متطوعًا، وله أن يحبس اللقطة بالنفقة كما يحبس المبيع بالثمن، وإن أبى أن يؤدي النفقة باعها القاضي ودفع إليه قدر ما أنفق، هذا إذا لم يحصل شيء من اللقطة، فإن كان لها لبن أو صوف، ينفق عليها من ثمنها، أو كانت مما يؤجر يؤجرها وينفق عليها من أجرتها. وفيه أن اللقطة لا يجوز بيعها ولا ذبحها إلا إذا مضت مدة التعريف؛ فإن كان فقيرًا يصرفها إلى نفسه، وإن كان غنيًا يصرفها للفقراء، والله أعلم. ص: وقد روي عن النبي -عليه السلام- في لقطة مكة -شرفها الله تعالى- ما حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا الدراوردي، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله -عليه السلام- قال في وصف مكة: لا تلتقط ضالتها إلا لمنشد". وحدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-: مثله. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، قال: ثنا يحيى، فذكر بإسناده، مثله. قال أبو جعفر -رحمه الله-: وكان النضر بن شُمَيْل فيما بلغني عنه يقول: معنى ذلك أنه لا ينبغي أن تلتقط ضالة في الحرم؛ إلا أن يسمع رجل يطلبها وينشدها فيرفعها إليه ليراها، ثم يردها من حيث أخذها. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (10/ 139 رقم 18634).

ش: هذه ثلاث طرق صحاح: الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم -شيخ البخاري- عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده" بأتم منه: ثنا محمد بن بشار: ثنا عبد الوهاب: نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف عام الفتح بالحجون فقال: والله إنك لآخر أرض الله، وأحب أرض الله إلي الله تعالى، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام ساعتي هذه، لا يعضد شجرها، ولا يحتش كلؤها، ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد، قال: فقال رجل -زعم أنه عباس: يا رسول الله إلا الإذخر؛ فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إلا الإذخر". الثاني: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري مطولًا (¬1): عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن خزاعة قتلوا رجلًا. . . . الحديث"، وفيه: "لا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد". وأخرجه البخاري أيضًا (¬2): عن يحيى بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحو رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 53 رقم 112). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 857 رقم 2302).

وأخرجه مسلم (¬1): عن زهير وعبد الله بن سعيد، عن الوليد، عن الأوزاعي. وعن إسحاق بن منصور، عن عبد الله بن موسى عن شيبان، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي (¬3): عن العباس بن الوليد، عن أبيه. وعن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مسهر جميعًا، عن الأوزاعي، نحوه. الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد، عن يحيى، عن أبي سلمة. وأخرجه الطيالسي في "مسنده". ص: وقد روي هذا الحديث عن رسول الله -عليه السلام- بغير هذا اللفظ. حدثنا أبو داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا أبو يوسف، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -عليه السلام- في مكة: "ولا ترفع لقطتها إلا لمنشدها". ش: أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور، يعني: روى عن عبد الله بن عباس هذا الحديث بغير اللفظ المذكور. أخرجه عن: إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا يوسف بن موسى، نا جرير عن يزيد بن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 988 رقم 1355). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 616 رقم 2017). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 434 رقم 5855).

أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها ولا يخاف صيدها ولا ترفع لقطتها إلا لمنشد، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله؛ فإنه لا غنى بأهل مكة عنه؟ قال: إلا الإذخر". قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عباس من غير وجه، وعن غير ابن عباس بألفاظ مختلفة ومعانيها قريبة. وفي هذا الحديث ألفاظ ليس في حديث غيره، قد ذكرناه من أجل ذلك، ويزيد بن أبي زياد قد ذكرناه في غير هذا الحديث بأنه ليس بالقوي، ولا نعلم أحدًا ترك حديثه من المحدثين لا شعبة ولا الثوري ولا أحد من أهل العلم، وإنما كان يؤتى لأنه كان في حفظه سوء. ص: وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال في مكة: "ولا ترفع لقطتها إلا المنشد بها". ش: هذا طريق آخر من حديث أبي هريرة هو أيضًا صحيح، وهو مثل حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فلذلك فَصَلَ بينه وبين الطرق الثلاثة المذكورة بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. ص: فهذا الحديث يمنع من أخذها إلا للإنشاد بها، فقد أباح هذا الحديث أخذ لقطة الحرم لمُعَرِّف، فاحتمل أن يكون يراد به أن تنشد ثم ترد في مكانها، واحتمل أن تنشد كما تنشد اللقطة الموجودة في سائر الأماكن، فوجدنا عن عائشة - رضي الله عنها - ما قد رويناه عنها في هذا الباب، أنها سئلت عن ضالة الحرم، وأن التي سألتها أخبرتها أنها قد عرفتها فلم تجد من يعرفها، فقالت لها: "استنفعي بها". فدل ذلك أن حكم اللقطة في الحرم كحكمها في غير الحرم.

ش: أشار به إلى حديث أبي هريرة هذا، وأنه يدل على شيئين: أحدهما: منع أخذ اللقطة إلا لمنشدها. والثاني: إباحة أخذ لقطة الحرم لمعرف. ولكن لما كان لا يحتمل معنيين، والمعنى الثاني هو المرجح بدلالة حديث عائشة، بين ذلك بقوله "فاحتمل أن يكون. . . . إلى آخره" تنبيهًا في ذلك على تسوية حكم اللقطة في الحرم والحلِّ جميعًا، فافهم. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في لقطة الحاج أيضًا: ما قد حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن أسامة بن زيد، عن بكير بن عبد الله، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن لقطة الحاج، فمعنى هذا عندنا -والله أعلم- على اللقطة التى لا تنشد ولا يعرف بها؛ لأن لقطة الحرم لما أبيحت للإنشاد، وقد تكون للحاج وغير الحاج، كانت لقطة الحاج فى غير الحرم أحرى أن تكون كذلك، والله أعلم. ش: لما كان هذا الحديث يخبر بالنهي عن لقطة الحاج، وأنه خالف الأحاديث المتقدمة، ذكره هاهنا ليجيب عنه بقوله: "فمعنى هذا عندنا. . . . إلى آخره" وهو ظاهر. وإسناده صحيح. عن روح بن الفرج، عن أبي المصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث الزهري الفقيه المدني قاضيها شيخ الجماعة سوى النسائي، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن أسامة بن زيد الليثي المدني، عن بكير بن عبد الله بن الأشج القرشي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، عن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي الصحابي، أسلم يوم الحديبية، وقتل يوم الفتح، وكان يقال له: شارب الذهب.

وأخرجه مسلم (¬1): حدثني أبو الطاهر، أنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن لقطة الحاج". وأخرجه أبو داود (¬2): عن يزيد بن خالد بن موهب وأحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن عمرو، عن بكير، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان، به. وأخرجه النسائي (¬3): عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، بإسناده مثله. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1351 رقم 1724). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 139 رقم 1719). (¬3) "السنن الكبرى" (3/ 417 رقم 5805).

ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار ش: أي هذا كتاب في بيان الزيادات التي زادها على أصل الكتاب، وكان -رحمه الله- بعد أن كمل كتابه معاني الآثار هذا ظفر بهذه الزيادات، وهي تسعة أبواب ألحقها بالكتاب لتتميم الفوائد، ولم يراع فيها الترتيب؛ لأن المقصود ليس معرفة المناسبة بين الكتب والأبواب، وإنما المقصود معرفة معاني الآثار، ووجوه الاستنباط من معانيها، وتصحيحها على وجه ينافي التضاد والتخالف بينها. ... ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم التكبير في صلاتي العيدين كيف هو؟ وكم هو؟ والعيد أصله: العِود، لا من العَوْد سمي به لأنه يعود في كل سنة مرتين، قلبت الواو ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها، ويجمع على أعياد. ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الثقفي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- كبر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة سوى تكبيرتي الصلاة". ش: أبو بكرة بكار القاضي، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الثقفي الطائفي. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا مسدد، نا المعتمر، قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "التكبيرات في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى، والقراءة بعدهما كلتيهما". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 1151).

وأخرجه ابن ماجه (¬1): ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، ثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يعلى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي -عليه السلام-: "كبر في صلاة العيدين سبعًا وخمسًا". وأخرجه الدارقطني (¬2) نحو رواية الطحاوي: ثنا أبو بكر بن مجاهد المقرئ، نا أحمد بن الوليد الفحام، ثنا أبو أحمد الزبيري، نا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الثقفي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين الأضحى والفطر ثنتي عشرة تكبيرة، في الأولى سبعًا، وفي الآخرة خمسًا، سوى تكبيرة الصلاة". ورواه البيهقي (¬3) أيضًا: وقال حديث عبد الله بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في هذا الباب صحيح، وقال النووي في "الخلاصة": قال الترمذي في "العلل": سألت البخاري عنه، فقال: هو صحيح. قلت: هذا الحديث من جملة مستندات الشافعي، فلذلك تكلف البيهقي في صحته، ولم يلتفت إلى ما قيل في الطائفي، ولا في عمرو بن شعيب، وقال ابن القطان: والطائفي هذا ضعفه جماعة، منهم: ابن معين. وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن التكبير في صلاة العيدين كذلك، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور، فإنهم قالوا: تكبيرات العيدين: سبع في الأولى، وخمس في الثانية. غير أن الشافعي قال: غير تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام. وغيره منهم يقولون: سبع في الأولى إحداهن تكبيرة الإحرام. ¬

_ (¬1) "سنن ابن ماجه" (1/ 407 رقم 1278). (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 47 رقم 20). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 285 رقم 5966).

وقال ابن حزم: وأما مالك فإنه جعل سبعًا في الأولى بتكبيرة الإحرام، وخمسًا في الثانية دون تكبيرة القيام، وهذا غير محفوظ عن أحد من السلف. ص: وبما حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي واقد الليثي وعائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس يوم الفطر والأضحى، فكبر في الأولى سبعًا وقرأ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (¬1) وفي الثانية خمسًا، وقرأ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬2) ". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يكبر في العيدين سبعًا وخمسًا سوى تكبيرتي الركوع". حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عُقيل، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا حرملة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: أي واحتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي واقد الليثي وعائشة - رضي الله عنهما -. وأخرجه عن أربع طرق: الأول: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن سعيد بن كثير بن عُفير شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن ¬

_ (¬1) سورة ق، آية: [1]. (¬2) سورة القمر، آية: [1].

العوام، عن أبي واقد الليثي صاحب رسول الله -عليه السلام- قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. وعن عائشة أم المؤمنين كلاهما قالا: إن رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، ثنا سعيد بن عُفير، ثنا ابن لهيعة. . . ." إلى آخره نحوه سواء. وأخرج الجماعة غير البخاري حديث أبي واقد: فقال مسلم (¬2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله -عليه السلام- في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (¬3)، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬4) ". وأخرجه أيضًا (¬5) عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر العقدي، عن فليح، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي واقد الليثي قال: "سألني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عما قرأ به رسول الله -عليه السلام- في يوم العيد؟ فقلت: بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (4)، و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (3). وقال أبو داود (¬6): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ضمرة. . . . إلى آخره نحوه. وقال الترمذي (¬7): ثنا إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك به. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 246 رقم 3298). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 607 رقم 891). (¬3) سورة ق، آية: [1]. (¬4) سورة القمر، آية: [1]. (¬5) "صحيح مسلم" (2/ 607 رقم 891). (¬6) "سنن أبي داود" (1/ 300 رقم 1154). (¬7) "جامع الترمذي" (2/ 415 رقم 534).

وقال النسائي (¬1): أنا قتيبة، عن مالك، عن ضمرة. . . . نحوه. وأخرج أيضًا (¬2): عن أحمد بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي واقد قال: سألني عمر - رضي الله عنه -. . . . فذكره نحو رواية مسلم. وقال ابن ماجه (¬3): ثنا محمد بن الصباح، ثنا سفيان، عن ضمرة بن سعيد، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "خرج عمر - رضي الله عنه - يوم عيد فأرسل إلى أبي واقد الليثي، بأي شيء كان النبي -عليه السلام- يقرأ في مثل هذا اليوم؟ قال: بقاف واقتربت". واعلم أن رواية مالك مرسلة؛ لأن عبيد الله لا سماع له من عمر - رضي الله عنه -. فإن قلت: كيف سأل عمر - رضي الله عنه - عن هذا ومثله لا يخفى عليه هذا؟ قلت: لعله اختبار له هل حفظ ذلك أم لا؟ أو يكون دخل عليه شك، أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك: بـ "سبح" و"الغاشية"، فأراد عمر - رضي الله عنه - الاستشهاد عليه بما سمعه أيضًا أبو واقد. فإن قلت: ما الحكمة في قراءته -عليه السلام- بهاتين السورتين؟ قلت: لكونهما مشتملتين على الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث، وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر. الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد المصري الإسكندراني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬4): ثنا ابن السرح، أنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن ابن شهاب. . . . فذكره. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (6/ 475 رقم 11550). (¬2) "السنن الكبرى" (6/ 475 رقم 11551). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 408 رقم 1282). (¬4) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 1150).

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه أبو داود (¬1) أيضًا: ثنا قتيبة، أنا ابن لهيعة، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات". الرابع: عن يحيى بن عثمان بن صالح المصري، عن حرملة بن يحيى التجيبي المصري شيخ مسلم وابن ماجه، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة. وأخرجه ابن ماجه (¬2): ثنا حرملة بن يحيى، نا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد وعقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة "أن رسول الله -عليه السلام- كبر في الفطر والأضحى سبعًا وخمسًا سوى تكبيرتي الركوع". وأخرجه الحاكم في "مستدركه" (¬3) وقال: تفرد به ابن لهيعة، وقد استشهد به مسلم في موضعين، قال: وفي الباب عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله ابن عمرو، والطرق إليهم فاسدة. وذكر الدارقطني في "علله" أن فيه اضطرابًا، فقيل: عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن الزهري. وقيل: عنه، عن عقيل، عن الزهري. وقيل: عنه، عن أبي الأسود، وعن عروة، عن عائشة. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 1149). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 407 رقم 1280). (¬3) "مستدرك الحاكم" (1/ 428 رقم 1108).

وقيل: عنه، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال: والاضطراب فيه من ابن لهيعة. وقال الترمذي في "علله الكبرى" (¬1): سألت محمدًا عن هذا الحديث، فضعفه وقال: لا أعلم رواه غير ابن لهيعة. قلت: ابن لهيعة ضعفه جماعة، وقال البيهقي (¬2) في باب: "منع التطهير بالنبيذ": ضعيف الحديث لا يحتج به. والعجب منه أنه مع اعترافه بهذا القدر يروي حديثه أيضًا في باب الاحتجاج لمذهبه في تكبيرات العيدين!. ص: حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا عبدوس العطار، عن الفرج بن فضالة، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي -عليه السلام- أنه قال في تكبيرات العيدين: "في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمس تكبيرات". ش: عبدوس لقب عبد الصمد بن سليمان العطار الحافظ شيخ الترمذي، وعبد الله بن عامر فيه مقال كثير. وأخرجه الدارقطني (¬3): ولكن في روايته يحيى بن سعيد موضع، عبد الله بن عامر، فقال: ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، نا أحمد بن علي الخزاز، نا سعيد بن عبد الحميد، ثنا فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات، وفي الآخرة خمس تكبيرات". ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: كتب إليّ كثير بن عبد الله بن عمرو يحدثني، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت النبي -عليه السلام- كبر في الأضحى سبعًا وخمسًا، وفي الفطر مثل ذلك". ¬

_ (¬1) "علل الترمذي الكبرى" (1/ 190). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 10). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 48 رقم 24).

ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو عبد الله، وجد عبد الله هو عمرو بن عوف المزني الصحابي. وأخرجه الترمذي (¬1): عن أبي عمرو مسلم بن عمرو، عن عبد الله بن نافع، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده: "أن النبي -عليه السلام- كبر في العيدين في الأولى سبعًا وفي الثانية خمسًا". وأخرجه ابن ماجه (¬2): عن محمد بن عبد الله بن عبيد، عن محمد بن خالد، عن كثير نحوه. وأخرجه الدارقطني (¬3) ثم البيهقي (¬4)، ثم قال البيهقي، قال الترمذي: سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من هذا، وبه أقول. قلت: كثير بن عبد الله بن عمرو المذكور قال فيه الشافعي: ركن من أركان الكذب. وقال أبو داود: كذاب. وقال ابن حبان يروي عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حنبل: منكر الحديث ليس بشيء، وقال عبد الله بن أحمد: ضرب أبي على حديثه في "المسند"، ولم يحدث عنه. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقال في حديثه هذا: ليس في هذا الباب شيء أصح من هذا؟!. فإن قلت: لا يلزم من هذا الكلام صحة الحديث، بل المراد منه أنه أصلح شيء في هذا الباب، وكثيرًا ما يريدون بهذا الكلام هذا المعنى. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2/ 416 رقم 536). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 407 رقم 1279). (¬3) "سنن الدارقطني" (2/ 48 رقم 23). (¬4) "سنن البيهقي" (3/ 286 رقم 5968).

قلت: الذي يفهم من كلام البيهقي أنه أراد الصحة، وكذا قال عبد الحق في "أحكامه" فقال عقيب حديث كثير هذا: صحح البخاري هذا الحديث. ولئن سلمنا أنه أراد به أنه أصلح شيء في هذا الباب، ولكن ليس الأمر كذلك أيضًا، بل حديث عمرو بن شعيب أصلح منه؛ فافهم. وقال ابن [دحية] (¬1): في "العلم المشهور": وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية منها هذا الحديث -أعني حديث كثير- عن أبيه، عن جده، فإن الحسن عندهم ما نزل درجة الصحيح، ولا يرد عليه إلا من كلامه؛ فإنه قال في "علله" التي في كتابه "الجامع": والحديث الحسن عندنا ما روي من غير وجه ولم يكن شاذًا ولا في إسناد من يتهم بالكذب. ص: قالوا: وقد روي أيضًا عن غير واحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع قال: "شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك وصخر بن جويرية، عن نافع، عن أبي هريرة مثله. قالوا: فبهذه الآثار نقول، وإليها نذهب. ش: أي قال هؤلاء القوم وهم أهل المقالة الأولى: وقد روي أيضًا عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - مثل ما ذهبنا إليه، فذكروا في ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع. ¬

_ (¬1) في "الأصل": ابن ماجه، وهو تحريف أو سبق قلم من المؤلف -رحمه الله-، وقع في "نصب الراية" (2/ 217) على الصواب، والمؤلف -رحمه الله- قد نقل هذا المقطع كله منه.

وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1). الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن مالك وصخر بن جويرية، عن نافع. وأخرجه البيهقي (¬2): من حديث مالك وشعيب، عن نافع قال: "شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة -وزاد شعيب في روايته- وهي السنة". ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل التكبير في العيدين تسع تكبيرات، خمس في الأولى، وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين". ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والثوري والنخعي وقتادة وسعيد بن المسيب ومسروق بن الأجدع ومحمد بن سيرين والأعمش وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر، فإنهم قالوا: تكبيرات العيدين تسع، خمس في الأولى قبل القراءة، وأربع في الأخرى بعد القراءة، وهو قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من الآثار التي ذكرنا: أن حديث عبد الله بن عمرو إنما يدور على عبد الله بن عبد الرحمن -وليس عندهم بالذي يحتج بروايته- ثم هو أيضًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذلك عندهم أيضًا ليس سماع، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج به عليهم لم يسوغوه ذلك؟! وأما حديث ابن لهيعة فبين الاضطراب، مرة يحدث عن عُقيل، ومرة عن خالد بن يزيد عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب، ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة وأبي واقد، قد ذكرنا ذلك كله في هذا الباب. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (1/ 180 رقم 434). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 288 رقم 5974).

وبعد فمذهبهم في ابن لهيعة ما قد شرحناه في غير موضع من هذا الكتاب، وأما حديث عبد الله بن عمر فإنما يدور على ما رواه على عبد الله بن عامر وهو عندهم ضعيف، وإنما أصل هذا الحديث عن ابن عمر نفسه. حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم، عن نافع، عن ابن عمر مثله، ولم يرفعه. فهذا هو أصل هذا الحديث. وأما حديث كثير بن عبد الله فإنما هو عن كتابه إلى ابن وهب، وهم لا يجعلون ما سمع منه حجة فكيف ما لم يسمع منه؟!. ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى في الأحاديث التي احتجوا بها عليهم. . إلى آخره وأراد بها الجواب عن الأحاديث المذكورة، فإنها لا تصلح للاحتجاج، بيانه: أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فيه علتان: الأولى: أنه يدور على عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي، وهو ضعيف، وقد ذكرنا عن قريب ما قالوا فيه. الثانية: أنه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فحديثه عندهم صحيفة ليس بسماع، فكيف يحتجون به على الخصم؟!. وأما حديث أبي واقد وعائشة ففيه علتان أيضًا: الأولى: أنه مضطرب، وقد بينته في الكتاب. الثانية: أن في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف عندهم. وأما حديث عبد الله بن عمر ففيه علتان أيضًا: الأولى: أن في سنده عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف متروك الحديث، قاله أبو زرعة، وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال أيضًا: ليس بشىء ضعيف الحديث.

والثانية: أن أصله موقوفًا على ابن عمر، وأخرجه عن يحيى بن عثمان، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، عن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد الفقيه المصري رواية المسائل عن مالك وهو ثقة مأمون. يروى عن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أحد القراء السبعة، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا خالد بن مخلد، قال: نافع بن أبي نعيم، قال: سمعت نافعًا قال: قال عبد الله بن عمر: "التكبير في العيدين سبع وخمس". وأما حديث كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، فقد استوفينا الكلام فيه عن قريب. ص: فلما انتفى أن يكون في هذه الآثار شيء يدل على كيفية التكبير في العيدين لما بينا من وهائها وسقوطها، نظرنا في غيرها هل فيه ما يدل على شيء من ذلك؟ فإذا علي بن عبد الرحمن ويحيى بن عثمان قد حدثانا، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، عن يحيى بن حمزة قال حدثني الوضين بن عطاء، أن القاسم أبا عبد الرحمن حدثه، قال: حدثني بعض أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "صلى بنا النبي -عليه السلام- يوم عيد، فكبر أربعًا وأربعًا، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف، فقال: لا تنسوا، كتكبير الجنائز، وأشار بأصابعه وقبض إبهامه". فهذا حديث حسن الإسناد، وعبد الله بن يوسف ويحيى بن حمزة والوضين والقاسم كلهم أهل رواية معروفون بصحة الرواية، ليسوا كمن روينا عنه الآثار الأُوَل، فإن كان هذا الباب من طريق الإسناد يؤخذ فإن هذا أولى أن يؤخذ به مما خالفه، غير أنه ذكر فيه أن رسول الله -عليه السلام- كبر في كل ركعة أربعًا، وأخبرهم أن ذلك كتكبير الجنازة، فاحتمل أن تكون الأربع سوى تكبيرة الافتتاح، فيكون ذلك قد وافق قول الذين احتججنا بهذا الحديث لقولهم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 496 رقم 5721).

واحتمل أن يكون ذلك على أربع بتكبيرة الافتتاح فيكون مخالف لقولهم. فنظرنا فيما روى من الآثار في هذا الباب سوى هذا الأثر أيضًا، فإذا محمد بن أحمد الجوزجاني قد حدثنا، قال: ثنا غسان بن الربيع، قال: ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، أنه سمع مكحولا يقول: حدثني أبو عائشة، أن سعيد بن العاص دعا أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم -، فسألهما: كيف كان رسول الله -عليه السلام- يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى أربعًا كتكبيره على الجنائز، وصدقه حذيفة، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر لأهل بصرة إذ كنت أميرا عليهم". فلم يكن في هذا أيضًا زيادة على ما في الحديث الأول. فنظرنا في ذلك أيضًا، فإذا يحيى بن عثمان قد حدثنا، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن النعمان بن المنذر، عن مكحول، قال: حدثني رسول حذيفة وأبي موسى الأشعري: "أن رسول الله -عليه السلام- كان يكبر في العيدين أربعًا أربعًا" سوى التكبيرات المذكورات في حديث الحواري، وفي حديث علي بن عبد الله، ويحيى بن عثمان. فهذا ما ثبت عندنا في العيدين عن رسول الله -عليه السلام-، ولم نعلم شيئًا روي عنه مما يثبت مثله يخالف شيئًا من ذلك. ش: لما بين أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى واهية لا يصح الاحتجاج بها، احتاج أن يبين ما يصح به الاحتجاج في هذا الباب. وأخرج في ذلك عن بعض أصحاب النبي -عليه السلام-: أن تكبيرات العيدين أربع أربع. رواه عن علي عبد الرحمن الكوفي المعروف بعلان، ويحيى بن عثمان بن صالح المصري كلاهما، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري، عن

يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الدمشقي القاضي، عن الوضين بن عطاء بن كنانة الدمشقي، عن القاسم بن عبد الرحمن المكنى بأبي عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي -عليه السلام-. وهذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. أما عبد الله بن يوسف فإنه أحد مشايخ البخاري في "صحيحه" وقال البخاري: كان أثبت الشاميين. وأما يحيى بن حمزة بن واقد الدمشقي القاضي من بيت لهيا، فإن الجماعة قد رووا له، ووثقه ابن معين وغيره. وأما الوضين بن عطاء فإن أحمد وثقه وكذلك يحيى ودحيم وأبو داود. وأما القاسم بن عبد الرحمن الشامي الدمشقي مولى آل أبي سفيان بن حرب الأموي؛ فإن يحيى قال فيه: ثقة الثقات. وقال الجوزجاني: كان حبرا فاضلا، أدرك أربعين رجلًا من المهاجرين والأنصار. وقال العجلي ويعقوب بن سفيان والترمذي: ثقة. واحتجت به الأربعة، وقد أشار الطحاوي أيضًا إلى هذا بقوله: فهذا حديث حسن الإسناد وعبد الله بن يوسف ويحيى بن حمزة والوضين والقاسم .. إلى آخره. قوله: "غير أنه ذكر فيه. . . . إلى آخره" أشار به إلى أن الحديث قد بين أن تكبيرات العيدين أربع كأربع الجنازة، ولكنه ساكت عن أن الأربع هل هي خارجة عن تكبيرة الافتتاح أم هي معها؟ فلم يبين ذلك فيه. ثم أخرج في ذلك عن مكحول من طريقين: الأول: مثل الحديث الأول لم يزد فيه شيئًا. والثاني: بين فيه أن تكبيرة الافتتاح خارجة عن الأربع، فثبت بذلك أن تكبيرات العيدين أربع سوى تكبيرة الافتتاح.

أما الطريق الأول: فأخرجه عن محمد بن أحمد بن عبد الله الجواربي الواسطي، عن غسان بن الربيع الأزدي الموصلي، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العبسي الدمشقي الزاهد، عن أبيه ثابت بن ثوبان الشامي الدمشقي، عن مكحول الشامي، عن أبي عائشة القرشي الأموي جليس أبي هريرة ومولى سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص بن أحيحة القرشي الأموي الصحابي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا عبد الرحمن ابن ثوبان، عن أبيه، أن مكحولا قال: حدثني أبو عائشة وكان جليسا لأبي هريرة قال: "شهدت سعيد بن العاص ودعا أبا موسى الأشعري وحذيفة، فسألهما عن التكبير في العيدين، فقال أبو موسى: كان رسول الله -عليه السلام- يكبر في العيدين كما يكبر على الجنازة، قال: وصَدَّقه حذيفة، قال: فقال أبو موسى: وكذلك كنت أصلي بأهل البصرة وأنا عليها، قال أبو عائشة وأنا حاضر ذلك فما نسيت قوله: "أربعًا كالتكبير على الجنازة". وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمد بن العلاء وبن أبي زياد المعنى قريب، قالا: ثنا زيد بن حباب، عن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، أخبرني أبو عائشة. . . . إلى آخره نحوه. وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" (¬3). فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟ قلت: استدل به ابن الجوزى في "التحقيق" للحنفية ثم أعله بعبد الرحمن بن ثوبان وقال: قال ابن معين: هو ضعيف. وقال أحمد: لم يكن بالقوي، وأحاديثه مناكير. قال: وليس يروى عن النبي -عليه السلام- في تكبير العيدين حديث صحيح، وقال ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 493 رقم 5695). (¬2) "سنن أبي داود" (1/ 299 رقم 1153). (¬3) "مسند أحمد" (4/ 416 رقم 19749).

في "التنقيح": عبد الرحمن بن ثوبان وثقة غير واحد، وقال ابن معين: ليس به بأس ولكن أبو عائشة قال ابن حزم فيه: مجهول، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. وقال البيهقي (¬1): خولف راويه في موضعين: في رفعه، وفي جواب أبي موسى، والمشهور أنهم أسندوه إلى ابن مسعود فأفتاهم بذلك، ولم يسنده إلى النبي -عليه السلام-، كذا رواه السبيعي عن عبد الله بن موسى -أو ابن أبي موسى- أن سعيد بن العاص أرسل. . . . إلى آخره، وعبد الرحمن بن ثابت ضعفه ابن معين. قلت: سكوت أبي داود يدل على أنه مرفوع؛ لأن مذهب المحققين أن الحكم للرافع، لأنه زاد، وأما جواب أبي موسى فيحتمل أنه تأدب مع ابن مسعود فأسند الأمر إليه مرة، وكان عنده فيه حديث عن النبي -عليه السلام- فرواه مرة أخرى، وعبد الرحمن بن ثابت اختلف على ابن معين فيه، قال صاحب "الكمال" قال عباس عن ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن المديني وأبو زرعة وأحمد بن عبد الله: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث، وقال المزي وثقه دحيم وغيره. وأما أبو عائشة فإن أبا دواد أخرج له وسكت عنه، وأدنى مراتبه أن يكون حديثه حسنًا. وأما الطريق الثاني: فأخرجه عن يحيى بن عثمان، عن نعيم بن حماد المروزي الفارض الأعور، عن محمد بن زيد الواسطي القلاعي، عن النعمان بن المنذر الغساني الدمشقي، عن مكحول الشامي إلى آخره. وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه البيهقي (¬2) من حديث النعمان بن النذر، عن مكحول، عن رسول ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 289 رقم 5978). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 289 رقم 5978).

أبي موسى وحذيفة، عنهما مرفوعًا ولم يسم الرسول وقال: "سوى تكبيرة الافتتاح والركوع". وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن ابن عون، عن مكحول: "أخبرنا من شهد سعيد بن العاص أرسل إلى أربعة نفر من أصحاب الشجرة، فسألهم عن التكبير في العيد، فقالوا: ثمان تكبيرات، فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: صدق ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة". ص: وأما ما احتجوا به من حديث نافع عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم -، فإنه قد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- خلاف ذلك، منهم: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يكبر في النحر خمس تكبيرات ثلاث في الأصل وثنتين في الثانية، لا يوالى بين القرائتين" فكهذا كان علي - رضي الله عنه - يكبر في النحر. ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من أثر أبي هريرة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، بيانه أن يقال: إن كنتم تستدلون بما روي عن أبي هريرة وابن عمر فمخالفكم أيضًا يستدل بما روي عن غيرهما من الصحابة، فإنه روي عن جماعة منهم خلاف ما روي عن أبي هريرة وابن عمر، منهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. أخرج عنه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي فيه فقال، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ص: وقد كان يكبر في الفطر خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 493 رقم 5696).

حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - "أنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة واحدة ثم يقرأ، ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ، ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن". ثم ذكر عنه فيما كان يكبر في الأضحى نحوًا مما ذكره أبو بكرة، فهكذا كان علي - رضي الله عنه - يكبر في الفطر، ودل ما ذكر يحيى في حديثه هذا على أن ترك علي - رضي الله عنه - الموالاة بين القراءتين إنما هو لأنه كان يكبر بعض التكبير الذي كان يكبره في الركعة الأولى قبل القراءة وبعضه بعد القراءة، وأنه كان يبتدئ بالقراءة في الركعة الثانية قبل التكبير الذي كان يكبره فيها. ش: أي وقد كان علي - رضي الله عنه - يكبر في عيد الفطر غير ما كان يكبر في عيد النحر. أخرج ذلك عن يحيى بن عثمان، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث الأعور، عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي أنه كان يكبر في الفطر إحدى عشرة: ستًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة، يبدأ بالقراءة في الركعتين. وخمسًا في الأضحى: "ثلاثًا في الأولى، وثنتين في الآخرة يبدأ بالقراءة في الركعتين". ص: وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - خلاف ذلك أيضًا: حدثنا يحيى، قال: ثنا العباس بن طالب قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عامر: "أن عمر وعبد الله - رضي الله عنهما - اجتمع رأيهما في تكبير العيدين على تسع تكبيرات: خمس في الأولى، وأربع في الآخرة ويوالى بين القراءتين". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5700).

ش: أي قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلاف ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. أخرجه بإسناد منقطع؛ لأن الشعبي لم يسمع عمر بن الخطاب ولا عبد الله بن مسعود. عن يحيى بن عثمان المصري، عن العباس بن طالب الأزدي البصري نزيل مصر، غمزه يحيى بن معين. عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي، عن عامر الشعبي، أن عمر وعبد الله - رضي الله عنهما -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن وكيع، عن محل، عن إبراهيم. وعن إسماعيل، عن الشعبي، عن عبد الله: "أنه كان يكبر في الفطر والأضحى تسعًا تسعًا، خمس في الأولى، وأربع في الآخرة، ويوالى بين القراءتين". وأخرج عن (¬2) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بخلاف ذلك ثنا جعفر بن عون عن الأفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع: "أن عمر بن الخطاب كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة: سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة". قلت هذا ضعيف ومنقطع. ص: وقد روى خلاف ذلك أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة وخالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث: "أنه صلى خلف ابن عباس في العيد، فكبر أربعًا ثم قرأ، ثم كبر فركع، ثم قام في الثانية فقرأ، ثم كبر ثلاثًا ثم كبر فركع". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5698). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5718).

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس مثله. ش: أي وقد روي عن عبد الله بن عباس خلاف ما روي عن عمر وعلي وعبد الله - رضي الله عنهم -. وأخرجه من طريقين صحيحين. الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة بن دعامة وخالد الحذاء، كلاهما عن عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري نسيب محمد بن سيرين: "أنه صلى خلف ابن عباس. . . ." إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬1) من طريق شعبة، عن خالد الحذاء وقتادة كلاهما، عن عبد الله بن الحارث -هو ابن نوفل- قال: "كبر ابن عباس يوم العيد في الركعة الأولى أربع تكبيرات ثم قرأ، ثم ركع، ثم قام فقرأ، ثم كبر ثلاث تكبيرات سوى تكبيرة الصلاة". قال ابن حزم هذا إسناد في غاية الصحة وبهذا تعلق أبو حنيفة. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬2): ثنا هشيم، قال: أنا خالد، عن عبد الله بن الحارث قال: "صلى بنا ابن عباس يوم عيد فكبر تسع تكبيرات، خمسًا في الأولى، وأربعًا في الآخرة، ووالى بين القراءتين". ص: وقد روي عن ابن عباس أيضًا ما يخالف هذا القول وقول أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 83). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5708).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: "أنه كان يكبر يوم الفطر ثلاث عشرة تكبيرة: سبعًا في الأولى قبل القراءة، وستًّا في الآخرة بعد القراءة. حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا عبد الملك وحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس مثله، ولم يذكر القراءة. ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس ما يخالف ما روى عنه عبد الله بن الحارث ويخالف قول أهل المقالة الأولى أيضًا. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1): عن وكيع، عن ابن جريج، عن عطاء: "أن ابن عباس كبر في عيدٍ ثلاث عشرة: سبعًا في الأولى، وستًّا في الآخرة". ولم يذكر ابن أبي شيبة في روايته: "قبل القراءة". الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، والحجاج بن أرطاة النخعي، كلاهما عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس نحوه، ولم يذكر القراءة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا هشيم، عن حجاج وعبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس: "أنه كان يكبر ثلاث عشرة تكبيرة". ص: وقد روي عن ابن عباس أيضًا في ذلك من قوله ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: "من شاء كبر سبعًا ومن شاء كبر تسعًا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5702). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5701).

فهذا ابن عباس قد روى عنه عكرمة ما ذكرنا، فدل ذلك على أنه كبر على ما روى عنه كل واحد من عبد الله بن الحارث وعطاء، وله أن يكبر على ما رواه عنه الفريق الآخر. وقد اختلفا عنه في موضع القراءة فروى عنه كل واحد منهما ما قد ذكرناه في حديثه، فاحتمل أن يكون الحكم في ذلك عنده أن يفعل من هذين ما شاء، واحتمل أن يكون كان الحكم عنده فيمن كبر تسعًا أن يوالي بين القراءتين، وفيمن كبر ثلاث عشرة أن يخالف بين القراءتين". ش: أي قد روي أيضًا عن عبد الله بن عباس في تكبيرات العيد من قوله: ما حدثنا أبو بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن حزم (¬1): من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس في التكبير في العيدين قال: "يكبر تسعًا أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة". قال: وهذا سند صحيح. ص: وقد روي خلاف ذلك أيضًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن عبد الله بن قيس، عن أبيه: "أن سعيد بن العاص دعاهم يوم عيد، فدعا الأشعري وابن مسعود وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - فقال: إن اليوم عيدكم فكيف أصلي؟ فقال حذيفة: اسأل الأشعري، وقال الأشعري: اسأل عبد الله، فقال عبد الله: تكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، ثم تكبر بعدها ثلاثًا ثم تقرأ، ثم تكبر تكبيرة تركع بها، ثم تسجد ثم تقوم فتقرأ ثم تكبر ثلاث تكبيرات، ثم تكبر تكبيرة تركع بها". ¬

_ (¬1) "المحلى" (5/ 84).

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي موسى، عن عبد الله: "في التكبير يوم العيد. . . .". فذكر نحو ذلك. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال: "خرج الوليد بن عقبة بن أبي معيط على ابن مسعود - رضي الله عنه - وحذيفة والأشعري - رضي الله عنهم - فقال: إن العيد غدًا، فكيف التكبير؟ فقال ابن مسعود. . . ." فذكر نحو ذلك، وزاد: "فقال الأشعري وحذيفة: صدق أبو عبد الرحمن" فهذا حذيفة وأبو موسى الأشعري قد وافقا عبد الله على ما ذهب إليه من التكبير، وكيفية صلاة العيد. ش: وقد روي أيضًا عن عبد الله بن مسعود خلاف ما روي عن ابن عباس وغيره ممن تقدم ذكرهم. وأخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن إبراهيم بن عبد الله بن قيس بن سليم -وهو ابن أبي موسى الأشعري- ولد في حياة النبي -عليه السلام- وسماه وحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة، عداده في الكوفيين التابعيين الثقات. وهو يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، أن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة الصحابي دعاهم يوم عيد. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بغير هذا الإسناد: ثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن معبد بن خالد، عن كردوس قال: "قدم سعيد بن العاص في ذي الحجة فأرسل إلى عبد الله وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري وأبي موسى الأشعري، فسألهم عن التكبير، فأسندوا أمرهم إلى عبد الله، فقال عبد الله: تقوم ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5706).

فتكبر، ثم تكبر، ثم تكبر، ثم تكبر فتقرأ، ثم تكبر فتركع، وتقوم فتقرأ، ثم تكبر، ثم تكبر، ثم تكبر، ثم الرابعة تركع". الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن أبي موسى، ويقال عبد الله بن موسى، عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي موسى وعن حماد، عن إبراهيم: "أن أميرًا من أمراء الكوفة -قال سفيان: قال أحدهما: سعيد بن العاص، وقال الآخر: الوليد بن عقبة- بعث إلى عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن قيس، فقال: إن هذا العيد قد حضر، فما ترون؟ فأسندوا أمرهم إلى عبد الله، فقال: يكبر تسعًا: تكبيرة يفتتح بها الصلاة، ثم يكبر ثلاثًا ثم يقرأ سورة ثم يكبر ثم يركع ثم يقوم فيقرأ سورة، ثم يكبر أربعًا يركع بإحداهن. الثالث: عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): من حديث هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "التكبير في العيدين: خمس في الأولى، وأربع في الثانية". وقال البيهقي: فهذا رأى عبد الله، والمرفوع أولى مع عمل الناس. قلت: هذا لا يثبت بالرأي، وقال أبو عمر: مثل هذا لا يكون إلا توقيفًا؛ لأنه لا فرق بين سبع وأقل وأكثر من جهة الرأي والقياس. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 494 رقم 5699). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (3/ 291 رقم 5980).

وقال ابن رشد في "القواعد": معلوم أن فعل الصحابة في ذلك بتوقيف إذ لا يدخل القياس في ذلك. وأخرج محمد في "آثاره" (¬1): أنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الله بن مسعود: "أنه كان قاعدًا في مسجد الكوفة ومعه حذيفة بن اليمان وأبو موسى الأشعري، فخرج عليهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أمير الكوفة ومعه حذيفة بن اليمان وأبو موسى الأشعري يومئذ فقال: إن غدًا عيدكم فكيف أصنع؟ فقال: أخبره يا أبا عبد الرحمن كيف يصنع؟ فأمره عبد الله بن مسعود أن يصلي بغير أذان ولا إقامة، وأن يكبر في الأولى خمسًا وفي الثانية أربعًا، وأن يوالي بين القراءتين، وأن يخطب بعد الصلاة على راحلته". قال محمد: وبه نأخذ. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود: "أن ابن مسعود كان يكبر في العيدين تسعًا تسعًا: أربعًا قبل القراءة ثم يكبر فيركع، وفي الثانية يقرأ، فإذا فرغ كبر أربعًا ثم ركع". وعن معمر (¬3)، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود: "سأل سعيد بن العاص حذيفة وأبا موسى عن تكبير العيدين؟ فقال حذيفة: سل ابن مسعود، فسأله، فقال: تكبر أربعًا ثم تقرأ، ثم تكبر فتركع، ثم تقوم في الثانية فتقرأ، ثم تكبر أربعًا". ص: وقد روي خلاف ذلك أيضًا عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج قال: يوسف بن ماهك أخبرني: "أن ابن الزبير لم يكن يكبر إلا أربعًا سوى تكبيرتين للركعتين، سمع ذلك منه زعم". ¬

_ (¬1) "الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 259 رقم 200). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 293 رقم 5686). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (3/ 293 رقم 5687).

فقد يحتمل أن تكون الأربع التي كان يكبرهن في الركعة الأولى سوى تكبيرة الافتتاح، فيكون ما فعل من ذلك موافقًا لما ذهب إليه ابن مسعود وحذيفة وأبو موسى، ويحتمل أن تكون تكبيرة الافتتاح داخلة فيهن فيكون ذلك مخالفًا لمذهبهم، وأولى بنا أن نحمله على ما وافق قولهم لا على ما خالفه. ش: أي خلاف ما تقدم من الأقوال. وأخرجه بإسناد جيد، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن يوسف بن ماهك بن بهزاد الفارسي المكي، عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، والباقي ظاهر. ص: وقد روي خلاف ذلك أيضًا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا الأشعث، عن محمد، عن أنس بن مالك أنه قال: "تسع تكبيرات: خمس في الأولى، وأربع في الآخرة، مع تكبيرة الصلاة". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، عن جده أنس بن مالك قال: إذا كان في منزله بالطف فلم يشهد العيد إلى مصر جمع مواليه وولده يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فيصلي بهم كصلاة أهل المصر. . . ." فذكر مثل حديث عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس الذي ذكرناه في هذا الباب سواء. ش: أي خلاف ما تقدم من الأقوال. أخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن الأشعث بن عبد الملك الحمراني البصري، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): نا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن محمد بن سيرين، عن أنس: "أنه كان يكبر في العيد تسعًا. . . ." فذكر مثل حديث عبد الله. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، عن جده أنس بن مالك. وأخرجه ابن منصور في "سننه" عن هشيم نحوه. قوله: "بالطفِّ" بفتح الطاء المهملة وتشديد الفاء هو اسم موضع بناحية الكوفة بينه وبين الكوفة فرسخان، وكان له فيه قصر، وتوفي أنس فيه ودفن هناك. ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله خلاف ذلك أيضًا. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله ومسروق وسعيد بن المسيب أنهم قالوا: "عشر تكبيرات مع تكبير الصلاة، وبه يأخذ قتادة". ش: أي خلاف ما تقدم من الأقوال. أخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬2): ثنا أبو أسامة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب قالا: "تسع تكبيرات ويوالي بين القراءتين". وأراد بالتسع غير تكبيرة الصلاة، فبتكبير الصلاة تكون عشرًا كما هو في رواية الطحاوي. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5711). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5707).

ص: وقد خالف ذلك أيضًا غيرهم من أصحاب رسول الله -عليه السلام-. حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال ثنا ابن عون، عن مكحول، قال: حدثني من أرسله سعيد بن العاص، فاتفق له أربعة من أصحاب النبي -عليه السلام- على ثمان تكبيرات". فهذا الحديث هو الحديث الذي قد رويناه فيما تقدم من هذا الباب، وفي الأربعة أبو موسى وحذيفة، وقد صدَّقُوا أبا عبد الرحمن فيما أفتى به الوليد بن عقبة، وفيما أفتى به أن تكبيرة الافتتاح سوى هذه الثمان تكبيرات، فثبت بذلك أن التكبيرات التي في هذا الحديث وفي حديث الجوزجاني غير تكبيرة الافتتاح، فهذا ما روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام- في تكبير العيدين. ش: أي وقد خالف ما ذكر من الأقوال غيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -. أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عبد الله بن عون، عن مكحول الشامي. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا هشيم، عن ابن عون، عن مكحول، قال: "أخبرني من شهد سعيد بن العاص أرسل إلى أربعة نفر من أصحاب الشجرة، فسألهم عن التكبير في العيد؟ فقالوا: ثمان تكبيرات، قال: فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: صدق، ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة". قوله: "فثبت بذلك" أي بما أفتى به أن تكبيرة الافتتاح سوى هذه الثمان تكبيرات، أي التكبيرات التي في هذا الحديث، أي في حديث مكحول، وفي حديث أحمد بن محمد الجوزجاني -الذي رواه عن غسان بن الربيع، عن عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه، عن مكحول، عن أبي عائشة. . . . إلى آخره- غير تكبيرة الافتتاح، فبتكبيرة الافتتاح تصير تسع تكبيرات، وإلي هذا المعنى أشار ابن سيرين في رواية ابن أبي شيبة بقوله: "صدق ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة". ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 493 رقم 5696).

ص: وقد روي عن تابعيهم في ذلك اختلاف، فمما روي عنهم في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف: "أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان يكبر سبعًا وخمسًا". فقال أهل المقالة الأولى: فهذا عمر بن عبد العزيز قد وافق مذهبنا مذهبه. قيل لهم: فقد روي عن أكثر التابعين خلاف هذا: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم: "أن مسروق بن الأجدع كان يكبر في العيدين تسع تكبيرات". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت منصورًا يحدث، عن إبراهيم، عن الأسود ومسروق: "أنهما كانا يكبران في العيدين تسع تكبيرات". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا أشعث، عن الحسن قال: "تسع تكبيرات: خمس في الأولى، وأربع في الآخرة مع تكبيرة الصلاة". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي قال: قال: "تسع تكبيرات". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد، قال: سمعت حمزة أبا عمارة، قال: سمعت الشعبي قال: "ثلاثًا ثلاثًا سوى تكبيرة الصلاة". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: نا محمد -وهو ابن سيرين- في تكبير العيدين. . . . فذكر مثل حديث ابن مسعود، ووافقه أيضًا على الموالاة بين القراءتين. وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، عن ابن عون، عن محمد بنحوه، فهذا أكثر من روينا عنه من التابعين قد وافق قوله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -. ش: أي وقد روي عن تابعي الصحابة - رضي الله عنهم - في عدد تكبيرات العيدين اختلاف فمن ذلك الاختلاف: ما حدثنا أبو بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة،

عن عتاب بن بشير الجزري الحراني، عن خصيف -بالفاء في آخره- بن عبد الرحمن الجزري الحراني. . . . إلى آخره. وهؤلاء ثقات، ولكن روي عن أحمد أن أحاديث عتاب عن خصيف منكرة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1) بغير هذا الإسناد: نا خالد بن مخلد، قال: أنا ثابت بن قيس قال: "صليت خلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الفطر، فكبر في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة". وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬2): عن أبي أويس المدني، عن ثابت بن قيس، نحوه. قوله: "فقال أهل المقالة الأولى" وهم الذين ذهبوا إلى أن التكبيرات الزوائد في العيدين: سبع في الأولى، وخمس في الثانية قبل القراءة فيهما، فهذا عمر بن عبد العزيز قد وافق مذهبه مذهبنا. فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل لهم: فقد روي عن أكثر التابعين خلاف هذا" أي خلاف ما روي عن عمر بن عبد العزيز. وأخرج في ذلك عن مسروق والأسود والحسن البصري وإبراهيم النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين. أما ما روي عن مسروق بن الأجدع: فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق. وأما ما روي عن الأسود بن يزيد: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود ومسروق. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 496 رقم 5723). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (2/ 289 رقم 5977).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا غندر وابن مهدي، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود ومسروق: "أنهما كانا يكبران في العيد تسع تكبيرات". وروي (¬2) عن إسحاق الأزرق، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أن أصحاب عبد الله كانوا يكبرون في العيدين تسع تكبيرات". وأما ما روي عن الحسن البصري: فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري، عن الحسن. وأخرج ابن أبي شيبة (¬3): عن إسحاق الأزرق، عن هشام، عن الحسن ومحمد: "أنهما كانا يكبران تسع تكبيرات". وأما ما روي عن إبراهيم النخعي: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن إبراهيم. وأما ما روي عن عامر الشعبي: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن سعيد، عن أبي عمارة حمزة بن حبيب الزيات القارئ الكوفي قال: سمعت عامرًا الشعبي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬4): عن إسحاق بن منصور، عن أبي كدينة، عن الشيباني، عن الشعبي والمسيب قالا: "الصلاة يوم العيدين تسع تكبيرات خمس في الأولى، وأربع في الثانية ليس بين القراءتين تكبير". أما ما روي عن محمد بن سيرين: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح من طريقين: ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5710). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5712). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5716). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 496 رقم 5725).

الأول: عن أبي بكرة بكار، عن الحجاج بن منهال، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن محمد بن سيرين. الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن عبد الله بن عون المزني البصري، عن محمد بن سيرين. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن أبي قلابة نحوه: عن الثقفي، عن خالد عنه. وأخرج (¬2) عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: "أنه كان يفتي بقول عبد الله بن مسعود في التكبير في العيدين". ص: فلما اختلف في التكبير في صلاة العيدين هذا الاختلاف، أردنا أن ننظر في ذلك لنستخرج من أقاويلهم هذه قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك فلم يرو عن أحد منهم أنه فرق بين الصلاة في الفطر والأضحى غير علي - رضي الله عنه -، وكانت صلاة الفطر وصلاة النحر صلاتي عيد مفعولتان لمعنى واحد، وهما مستويتان في ركوعهما وسجودهما؛ فكان النظر أن تكونا لا اختلاف بين إحداهما وبين الأخرى في سائر حكمهما؛ فثبت بما ذكرنا التسوية بين الصلاتين في يوم النحر ويوم الفطر، ثم نظرنا في عدد التكبير فيهما، فرأينا سائر الصلوات خالية من هذا التكبير، ورأينا صلاة العيدين قد أُجْمِع أن فيها تكبيرًا زائدًا على غيرها من الصلوات، فكان النظر أن لا يزاد في الصلاة للعيدين على ما في سائر الصلوات غيرها إلا ما اتفق على زيادته، فكل قد أجمع على زيادة التسع تكبيرات على ما ذهب إليه ابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو موسى، ومن سمينا معهم - رضي الله عنهم -. واختلفوا على الزيادة على ذلك فزدنا في هذه الصلاة ما اتفق على زيادته فيها، ونفينا عنها ما لم يتفق على زيادته فيها، فثبت بذلك ما ذهب إليه أهل هذه المقالة. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5713). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 495 رقم 5714).

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية في عدد تكبيرات العيدين هو أولى بالعمل من جهة النظر والقياس. وذلك أن القياس كان يقتضي أن لا يزاد شيء من التكبير في صلاتي العيدين قياسًا على سائر الصلوات، ولكن وردت الآثار أن فيهما تكبيرًا زائدًا وقع عليه الإجماع أيضًا، وكل الصحابة والتابعين قد أجمعوا عل زيادة تسع تكبيرات على ما ذهب إليه عبد الله بن مسعود ومن وافقه في ذلك من الصحابة والتابعين، واختلفوا في الزيادة على التسع، فالنظر أن يعمل بما وقع الاتفاق على زيادته، وينفي عنه ما لم يتفق عليه؛ لأنه لا نزاع فيما وقع عليه الاتفاق، والنزاع قائم فيما لم يقع فيه الاتفاق، فالأخذ بما لا نزاع فيه أولى من جهة النظر والعقل. فافهم. ص: ثم نظرنا في موضع القراءة منها، فقال الذين ذهبوا إلى أنها في الركعة الأولى بعد التكبير، وفي الثانية كذلك، قد رأيناكم اتفقتم ونحن أن القراءة في الركعة الأولى مؤخرة عن التكبير، فالنظر أن تكون في الثانية كذلك. ش: أي ثم نظر في موضع القراءة في صلاة العيدين، فقال الذين ذهبوا، وهم أهل المقالة الأولى، فإنهم قالوا: القراءة في الركعتين جميعًا عقب التكبيرات الزائدة، وقالوا: هذا هو النظر والقياس لأنكم اتفقتم معنا أن القراءة في الركعة الأولى مؤخرة عن التكبير، فالنظر والقياس أن تكون في الركعة الثانية كذلك. ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأخرى: أن التكبير ذِكْرٌ يفعل في الصلاة، وهو غير القراءة، فنظرنا في موضع الذكر من الركعة الأولى في الصلاة ومن الركعة الثانية أين موضعه؟ فوجدنا الركعة الأولى فيها الاستفتاح والقعود على ما رويناه في غير هذا الموضع من كتابنا هذا عن رسول الله -عليه السلام-، وعمن روينا عنه من أصحابه -عليه السلام-، فكان ذلك في أول الصلاة قبل القراءة، فثبت بذلك أن كذلك موضع التكبير في صلاة العيدين في الركعة الأولى، هو ذلك الموضع منها، ووجدنا القنوت في الوتر يفعل في الركعة الآخرة في صلاة الوتر، فكل قد أجمع أنه

بعد القراءة، وأن القراءة مقدمة عليه، وإنما اختلفوا في تقديم الركوع عليه وفي تقديمه على الركوع، فأما في تأخيره عن القراءة فلا. فثبت بذلك أن موضع التكبير في الركعة الأخيرة من صلاة العيد هو بعد القراءة؛ ليستوى موضع سائر الذكر في الصلوات، ويكون موضع كل ما اخْتُلف في موضعه منه كموضع ما قد أُجْمع على موضعه، وكل ما بينا في هذا الباب فهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فكان من الدليل والبرهان على الذين ذهبوا إلي أنها في الركعة الأولى بعد التكبير وفي الثانية كذلك، وأراد بها الجواب عما قالوا من وجه النظر والقياس لما ذهبوا إليه. بيانه ملخصًا أن يقال: إن التكبير ذِكْرٌ يفعل في الصلاة وهو غير القراءة، فمحل الذكر نحو الاستفتاح والتعوذ والتوجه في رأس الركعة الأولى بلا خلاف، فالنظر على ذلك أن تكون التكبيرات في أول الركعة الأولى في صلاة العيدين، وفي أول الركعة الأخيرة أيضًا؛ ليتساوى مواضع سائر الأذكار في الصلوات، ولاسيما وقع ذلك في رأس الركعة الأولى بلا خلاف، وينبغي أن تكون الثانية كذلك قياسًا ونظرًا. قوله: "فكل قد أجمع أنه" أي فكل العلماء والفقهاء قد أجمعوا أن القنوت بعد القراءة وإنما كان اختلافهم في أنه هل هو بعد الركوع كما ذهب إليه الشافعي وأحمد، أو قبل الركوع كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، وليس بينهما اختلاف أنه بعد القراءة، والقنوت أيضًا ذِكْرٌ يفعل في الصلاة بعد القراءة بلا خلاف، ومحله الركعة الأخيرة، فكذلك ينبغي أن تكون التكبيرات بعد القراءة في الركعة الأخيرة. فهذا هو النظر والقياس الصحيح، والله أعلم.

ص: باب حكم المرأة في مالها

ص: باب حكم المرأة في مالها ش: أي هذا باب في بيان حكم المرأة في مال نفسها، هل يجوز لها التصرف فيه بغير إذن زوجها أم لا؟ ص: حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الليث، عن عبد الله بن يحيى الأنصاري، عن أبيه، عن جده: "أن جدته أتت إلى رسول الله -عليه السلام- بحلي لها فقالت: إني تصدقت بهذا، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنه لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت زوجك؟ فقالت: نعم، فبعث رسول الله -عليه السلام- إليه فقال: هل أذنت لامرأتك أن تتصدق بحليها؟ فقال: نعم، فقبله منها رسول الله -عليه السلام-". ش: يونس هو ابن عبد الأعلى المصرى شيخ مسلم والنسائي. ويحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي المصري شيخ البخاري، والليث هو ابن سعد المصرى. وعبد الله بن يحيى [. . . .] (¬1). ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله- في "الأصل، ك" وعبد الله بن يحيى الأنصاري هو السُّلمي المدني من ولد كعب بن مالك، ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 59)، وقال المزي في "تهذيب الكمال" (16/ 297): روى له ابن ماجه حديثًا واحدًا. وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 525) ما روى عنه سوى الليث وقد وُثِّق. وقال الحافظ في "التقريب": مجهول، وكذا قال العيني في "معاني الأخيار"، وأبوه قال عنه الحافظ في "التقريب": مجهول. وجدته هي خيرة امرأة كعب بن مالك كما في "سنن ابن ماجه"، و"معاجم الطبراني" الكبير والأوسط. والحديث أخرجه ابن ماجه في "سننه" (2/ 798 رقم 2389). والطبراني في "المعجم الكبير" في مسند خيرة امرأة كعب بن مالك (24/ 256 رقم 654)، وكذا هو في "المعجم الأوسط" (8/ 293 رقم 8676)، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه": في إسناده يحيى وهو غير معروف في أولاد كعب، فالإسناد ضعيف.

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يجوز للمرأة هبة شيء من مالها ولا الصدقة به دون إذن زوجها. ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث وجماعة من أهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تهب بشيء من مالها ولا أن تتصدق به إلا بإذن زوجها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فأجازوا أمرها كله في مالها، وجعلوها في مالها كزوجها في ماله واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1) فأباح الله -عز وجل- ما طابت به نفس امرأته وبقوله -عز وجل-: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (¬2) فأجاز الله -عز وجل- عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد فدل ذلك على جواز أمر المرأة في مالها وعلى أنها في مالها كالرجل في ماله. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور الفقهاء من التابعين ومَنْ بعدهم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها كما يجوز للرجل، ولا تحتاج في ذلك إلى إذن الزوج. قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بقول الله -عز وجل- {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) وهو جمع صدقة، وهو مهر المرأة، والصُدُق بضمتين جمع صداق، والصداق -بفتح الصاد وكسرها- هو المهر. قوله: "نحلة" وهي العطية الخالية عن العوض، وقال ابن العربي: اختلف في المراد بها هاهنا على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [4]. (¬2) سورة البقرة، آية: [236].

الأول: معناه طيبوا أنفسًا بالصداق كما تطيبون بسائر النحل والهبات. الثاني: معناه: نحلة من الله للنساء؛ فإن الأولياء كانوا يأخذونها في الجاهلية [فانتزعها الله سبحانه منهم ونحلها النساء. الثالث: أن معناه عطية من الله فإن الناس كانوا يتناكحون في الجاهلية] (¬1) ينكحون بالشغار ويخلون النكاح من الصداق، ففرضه الله سبحانه ونحله إياهن. وقال الجصاص في "أحكامه": روي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬2) قالا: فريضة، كأنهما ذهبا إلى نحلة الدين، وأن ذلك فرض فيها قوله تعالى: {عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} (2) أي من المهر، وقد دلت الآية على جواز هبة المرأة مهرها للزوج والإباحة للزوج في أخذه ولا حاجة في ذلك إلى استئمار من أحد. قوله: " {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} " (¬3) المس هاهنا كناية عن الجماع، والواو في قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} (3) للحال. قولة: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (3) أي: النساء، وفيه هن ضمير مستكن، وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث، ويفرق في التقدير. ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يوافق هذا المعنى أيضًا وهو ما قد رويناه عنه في كتاب "الزكاة" في امرأة عبد الله بن مسعود حين أخذت حليها لتذهب به إلى رسول الله -عليه السلام- لتتصدق به. فقال عبد الله: "هلمي فتصدقي به عليَّ، فقالت: لا حتى استأذن رسول الله -عليه السلام-، فجاءت رسول الله -عليه السلام- فاستأذنته في ذلك فقال: تصدقي به عليه وعلى الأيتام الذين في حجره فإنهم له موضع". ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 316). (¬2) سورة النساء، آية: [4]. (¬3) سورة البقرة، آية: [236].

فقد أباحها رسول الله -عليه السلام- الصدقة بحليها عل زوجها وعلى أيتامه، ولم يأمرها باستئماره فيما تتصدق به على أيتامه. وفي هذا الحديث أيضًا أن رسول الله -عليه السلام- وعظ النساء فقال: "تصدقن" ولم يذكر في ذلك أمر أزواجهن، فدل ذلك أن لهن الصدقة بما أردن من أموالهم بغير أمر أزواجهن. ش: أشار بقوله: "هذا المعنى" إلى ما ذكره بقوله: "فدل ذلك على جواز أمر المرأة في مالها. . . ." إلى آخره. قوله: "عنه" أي عن رسول الله -عليه السلام-، وباقي الكلام ظاهر. ص: وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، قال: سمعت أيوب يحدث، عن عطاء قال: أشهد على ابن عباس - رضي الله عنهما - أو أحدث به عن ابن عباس -قال: أشهد على رسول الله -عليه السلام- "أنه خرج يوم الفطر فصلى، ثم خطب، ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس قال: قلت لابن عباس: "شهدت العيد مع رسول الله -عليه السلام-؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته من صغري، خرج رسول الله -عليه السلام- يوم العيد فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء مع بلال فوعظهن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى رقبتها، والمرأة تهوي بيدها إلى أذنها فتدفعه إلى بلال، وبلال يجعله في ثوبه، ثم انطلق به مع النبي -عليه السلام- إلى منزله". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: حدثني الحسن ابن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "شهدت الصلاة مع رسول الله -عليه السلام- ومع أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، قال فنزل نبي الله -عليه السلام- فكأني أنظر إليه يُجْلس الرجال بيده ثم أقبل يشُقُّهم حتى أتى النساء ومعه بلال، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا

يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (¬1) إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال حين فرغ: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة لم تجبه غيرها: نعم يا رسول الله، قال: فتصدقن قال: فبسط بلال ثوبه، ثم قال لهن: ألقين، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال". حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: "إن النبي -عليه السلام- قام يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله -عليه السلام- قام فأتى النساء، فذكرهن وهو يتوكأ على بلال، وبلال باسط ثوبه فجعل النساء يلقين فيه صدقاتهن". حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا عبيد بن هشام الحلبي قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن زيد بن رفيع عن حزام بن حكيم، عن حكيم بن حزام قال: "خطب النبي -عليه السلام- النساء ذات يوم فأمرهن بتقوى الله -عز وجل- والطاعة لأزواجهن وأن يتصدقن". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد أمر النساء بالصدقات، وقبلها منهن، ولم ينتظر في ذلك رأي أزواجهن. ش: هذه الأحاديث دلت على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وفساد ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وأخرجها عن ثلاثة من الصحابة: الأول: عن ابن عباس، وأخرج عنه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن أيوب السختياني، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬2): نا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر -قال أبو بكر-: نا سفيان بن عيينة، قال: نا أيوب، قال: سمعت عطاء، قال: سمعت ابن عباس ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، آية: [12]. (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 602 رقم 884).

يقول: "أشهد على رسول الله -عليه السلام- ليصلي قبل الخطبة، فرأى أنه لم يُسمع النساء، فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وبلال قائل بثوبه، فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخرص والشيء". وأخرجه بقية الجماعة (¬1) غير الترمذي. الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة النخعي. وأخرجه البخاري (¬2): نا مسدد، قال: نا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس قيل له: "أشهدت العيد مع النبي -عليه السلام-؟ قال: نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته". الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن الحسن بن مسلم بن يناق المكي، عن طاوس، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬3): حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد جميعًا عن عبد الرزاق -قال ابن رافع: نا عبد الرزاق- قال: أنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "شهدت صلاة الفطر مع رسول الله -عليه السلام- ¬

_ (¬1) البخاري في "صحيحه" (2/ 525 رقم 1381). وأبو داود في "سننه" (1/ 297 رقم 1143)، والنسائي في "السنن الكبرى" (1/ 545 رقم 1766)، (3/ 450 رقم 5894)، وابن ماجه في "سننه" (1/ 406 رقم 1273). (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 331 رقم 934). (¬3) "صحيح مسلم" (2/ 602 رقم 884).

وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، فكلهم يصليها قبل الخطبة، ثم يخطب قال فنزل نبي الله -عليه السلام- كأني أنظر إليه حين يُجْلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء ومعه بلال - رضي الله عنه - فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ} (¬1) فتلا هذه الآية حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة لم تجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله، لا ندري حينئذ من هي، قال: فتصدقن، فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلُمَّ فدىً لكنَّ أبي وأمي فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال". وأخرجه البخاري (¬2): من حديث ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس نحوه. قوله: "تهوي بيدها" من أهوى بيده إليه، أي مدها نحوه وأمالها إليه، يقال: أهوي يده وبيده إلى الشيء ليأخذه. قوله: "يُجْلس الرجال" من الإجلاس. قوله: "الفَتَخ" بفتح الفاء والتاء المثناة من فوق وفي آخره خاء معجمة: جمع فَتَخَة بالتحريك، وهي حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، وقيل: هي الخواتيم الكبار، وقيل: الفَتَخَة: حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها، وربما اتخذ لها فص كالخاتم، وقيل: خلخل لا جرس له، وقال ابن السكيت: تلبس في أصابع اليد. وقال ثعلب: قد تكون في أصابع الرجل. قوله: "الخواتيم" جمع خاتم، والخاتم فيه أربع لغات: فتح التاء، وكسرها، وخاتام، وخيتام. الثاني: عن جابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، آية: [12]. (¬2) "صحيح البخاري" (4/ 1857 رقم 4613).

أخرجه عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): حدثني إسحاق بن إبراهيم بن نصر، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: "قام النبي -عليه السلام- يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكَّرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه تلقي فيه النساء الصدقة". وأخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) أيضًا. قوله: "فذكَّرهن" بتشديد الكاف أي: وعظهن. قوله: "صدقاتهن" بفتح الدال جمع صدقة. الثالث: عن حكيم بن حزام بن خويلد القرشي الأسدي الصحابي. أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبيد بن هشام الحلبي القلانسي شيخ أبي داود، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري، عن زيد بن رفيع الجزري ضعفه الدارقطني، ووثقه ابن حبان. عن حزام -بكسر الحاء المهملة بعدها الزاي المعجمة- ابن حكيم القرشي المدني، عن أبيه حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 332 رقم 935). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 603 رقم 885). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 297 رقم 1141). (¬4) "السنن الكبرى" (3/ 451 رقم 5895).

وأخرجه الطبراني (¬1): نا محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي المصري، نا عبيد بن هشام الحلبي، نا عبيد الله بن عمرو. . . . إلى آخره نحوه سواء. ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك أيضًا: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا بكير بن الأشج، عن كريب مولى ابن عباس قال: سمعت ميمونة زوج النبي -عليه السلام- تقول: "أعتقتُ وليدة على عهد رسول الله -عليه السلام- تقول فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: "لو أعطيتها أختك الأعرابية كان أعظم لأجرك". حدثنا الربيع، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمد بن خازم، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة مثله. ش: أي قد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما يدل على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وهو حديث ميمونة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه من طريقين: الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن كريب مولى ابن عباس قال: سمعت ميمونة. وأخرجه النسائي (¬2): عن أحمد بن يحيى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله. . . . إلى آخره. وأخرجه أحمد (¬3): عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن بكير. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (3/ 196 رقم 3109). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 1749 رقم 4932). (¬3) "مسند أحمد" (6/ 332 رقم 26865).

الثاني: عن ربيع أيضًا، عن أسد بن موسى، عن محمد بن حازم [. . .] (¬1) عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة، مثله. وأخرجه الطبراني (¬2): نا مطلب بن شعيب الأزدي، نا عبد الله بن صالح، نا الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة بنت الحارث أخبرته: "أنها أعتقت وليدة لها، ولم تستأذن رسول الله -عليه السلام-، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي فلانة؟ فقال: أو قد فعلت؟ قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتها أخواتك كان أعظم لأجرك". ص: فلو كان أمر المرأة لا يجوز في مالها بغير إذن زوجها لرد رسول الله -عليه السلام- عتاقها، وصرف الجارية إلى الذي هو أفضل من العتاق، فكيف يجوز لأحد ترك آيتين من كتاب الله -عز وجل- وسنن ثابتة عن رسول الله -عليه السلام- متفق على صحة مجيئها؛ إلى حديث شاذ لا يثبت مثله؟!. ش: أراد بالأمر: الشأن والحكم، وأراد بالآيتين: قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬3)، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ. . .} الآية (¬4)، وأراد بالسنن الثابتة: أحاديث ابن عباس وجابر بن عبد الله وحكيم بن حزام - رضي الله عنهم -، وأراد بالحديث الشاذ: الحديث الذي ذكره في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف في "الأصل، ك"، ومحمد بن خازم، هذا هو أبو معاوية الضرير روى له الجماعة. (¬2) "المعجم الكبير" (23/ 440 رقم 1067). (¬3) سورة النساء، آية: [4]. (¬4) سورة البقرة، آية: [237].

ص: ثم النظر من بعد يدل على ما ذكرنا، وذلك أنا رأيناهم لا يختلفون في وصاياها من ثلث مالها أنها جائزة من ثلثها كوصايا الرجل فلم يكن لزوجها عليها سبيل، وبذلك نطق الكتاب قال الله -عز وجل-: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1)، فإذا كانت وصاياها في ثلث مالها جائزة بعد وفاتها، فأفعالها في مالها في حياتها أجوز من ذلك؛ فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي ثم وجه النظر والقياس من بعد ما ذكرنا، يدل على ما ذكرنا من صحة تصرف المرأة بالصدقة والهبة من غير أمر زوجها، وبَيَّنَ وجه النظر بقوله: "وذلك أنا رأيناهم. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر. قوله: "أجوز" أي أشد جوازًا، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [12].

ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى ش: أي هذا باب في بيان ما يفعله المصلي بعد رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى هل يقعد مطمئنًا أو ينهض قائمًا؟. ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، أنه كان يقول لأصحابه: "ألا أريكم كيف كانت صلاة رسول الله -عليه السلام-؟ وان ذلك لفي غير حين الصلاة، فقام فأمكن القيام ثم ركع فأمكن الركوع، ثم رفع رأسه وانتصب قائمًا هنيهة ثم سجد، ثم رفع رأسه فتمكن في الجلوس، ثم انتظر هنيهة ثم سجد، فقال أبو قلابة: فصلى كصلاة شيخنا هذا -يعني عمرو بن سلمة- قال: فرأيته يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها، استوى قاعدًا ثم قام". حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، عن أبي قلابة قال: أنا مالك بن الحويرث: "أنه رأى النبي -عليه السلام- إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا". ش: هذان طريقان صحيحان. الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني الأزدي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن مالك بن حويرث بن خشيش الليثي الصحابي - رضي الله عنه -. وأخرج البخاري (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أبي قلابة قال: "جاءنا مالك فقال: إني لأصلي بكم ولا أريد الصلاة، ولكني أريد أن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 283 رقم 790).

أريكم صلاة رسول الله -عليه السلام-، فقلت لأبي قلابة: كيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا -يعني عمرو بن سلمة-. . . ." الحديث. وعمرو بن سلمة -بفتح السين وكسر اللام-[أبو بريدة] (¬1) الجرمي الصحابي - رضي الله عنه -. الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن مالك بن الحويرث. وأخرجه البخاري (¬2): عن محمد بن الصباح، عن هشيم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث أنه قال: "رأيت النبي -عليه السلام- يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا". وأخرجه أبو داود (¬3): عن مسدد، عن هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة. . . . إلى آخره نحوه. والترمذي (¬4): عن علي بن حجر، عن هشيم به، وقال: حسن صحيح. والنسائي (¬5): عن علي بن حجر. . . . نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله- فذهب قوم إلى أن الرجل إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة قعد حتى يطمئن قاعدًا، ثم يقوم بعد ذلك، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل، ك" وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة" (4/ 643): يكنى أبا يزيد، واختلف في ضبطه، فقيل: بموحدة ومهملة -يعني بريد- وقيل: بتحتانية وزاي، وزن عظيم. (¬2) "صحيح البخاري" (1/ 283 رقم 789). (¬3) "سنن أبي داود" (1/ 223 رقم 844). (¬4) "جامع الترمذي" (2/ 79 رقم 287). (¬5) "المجتبى" (2/ 234 رقم 1152).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء والحسن البصري، وأبا قلابة والشافعي؛ فإنهم قالوا: إذا رفع المصلي رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة قعد حتى يطمئن قاعدًا؛ ثم يقوم بعد ذلك، وعند الظاهرية هذا فرض، حتى لو تركه تفسد صلاته. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يقوم منها ولا ينتظر أن يستوي قاعدًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي، والثوري، والأوزاعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: بل يقوم من السجدة ولا ينتظر أن يستوي قاعدًا. قال أبو عمر: روي ذلك أيضًا عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -. وقال النعمان بن أبي عياش: "أدركت غير واحد من أصحاب النبي -عليه السلام- يفعل ذلك". وقال أبو الزناد: "ذلك السنة" وقال أحمد: وأكثر الأحاديث على هذا، قال الأثرم: ورأيت أحمد ينهض بعد السجود على صدور قدميه، ولا يجلس قبل أن ينهض. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثني به غير واحد من أصحابنا، منهم: علي بن سعيد بن بشير، عن أبي همام الوليد بن شجاع السكوني، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو خيثمة، قال: ثنا الحسن بن حر، قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، حدثني مالك، عن عباس -أو عياش- بن سهل الساعدي - رضي الله عنه - وكان في مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، وفي المجلس أبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدي والأنصار: "أنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله -عليه السلام-، اتبعت ذلك من رسول الله -عليه السلام-، قالوا: فأرنا، فقام يصلي وهم ينظرون فكبر ورفع

يديه في أول التكبير. . . ." ثم ذكر حديثًا طويلًا ذكر فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك. فلما جاء هذا الحديث على ما ذكرنا، وخالف الحديث الأول احتمل أن يكون ما فعله رسول الله -عليه السلام- في الحديث الأول لعلة كانت به فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة كما قد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يتربع في الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: إن رجلي لا تحملني فكذلك يحتمل أن يكون ما فعله رسول الله -عليه السلام- من ذلك القعود كان لعلة أصابته حتى لا يضاد ذلك ما روي عنه في الحديث الآخر ولا يخالفه، وهذا أولى بنا من حمل ما روي عنه على التضاد والتنافي، وفي حديث أبي حميد أيضًا: فيه حكاية أبي حميد ما حكى بحضرة جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكر ذلك عليه أحد منهم، فدل ذلك أن ما عندهم في ذلك غير مخالف لما حكاه لهم. وفي حديث مالك بن الحويرث من كلام أيوب أن ما كان عمرو بن سلمة يفعل من ذلك لم يكن يرى الناس يفعلونه، وهو فقد رأى جماعة من أجلة التابعين، فذلك حجة في دفع ما روي عن أبي قلابة، عن مالك أن يكون سنة. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عباس بن سهل الساعدي. أخرجه عن جماعة منهم: علي بن سعيد بن بشر بن مهران الرازي نزيل مصر، عن أبي همام الوليد بن شجاع اليشكري الكندي شيخ مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه، أبيه أبي بدر شجاع بن الوليد، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية بن حديج، عن الحسن بن حُرّ بن الحكم النخعي الكوفي، عن عيسى بن عبد الله بن مالك الدار مولى عمر بن الخطاب، عن محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة المدني، عن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة، أو عياش بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن سهل الساعدي المدني، وأبوه سهل بن سعد الساعدي الصحابي.

وهؤلاء كلهم ثقات. وأخرجه أبو داود (¬1): بهذا الإسناد، ثنا علي بن الحسين بن إبراهيم، نا أبو بدر، نا زهير أبو خيثمة، نا الحسن بن حُرّ، قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، حدثني مالك، عن عباس -أو عياش- بن سهل الساعدي: "أنه كان في مجلس فيه أبوه وكان من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي. ." بهذا الخبر يزيد وينقص، قال فيه: "ثم رفع رأسه -يعني من الركوع- فقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه، ثم قال: الله أكبر، فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد، ثم كبر فجلس فتورك ونصب قدمه الأخرى، ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام ولم يتورك. . . ." ثم ساق الحديث، قال: "جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة، ثم ركع ركعتين أخريين. . . ." ولم يذكر التورك في التشهد. وأخرجه أبو داود أيضًا من طرق أخرى بوجوه مختلفة، وكذلك الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد استوفينا الكلام فيه في هذا الحديث بوجوهه المختلفة في كتاب الصلاة (¬2)، فالطحاوي أخرجه هناك بطرق أخرى. قوله: "أبو أسيد" بضم الهمزة وفتح السين، اسمه مالك بن ربيعة الساعدي. و"أبو حميد" بضم الحاء وفتح الميم، الساعدي، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد. قوله: "فلما جاء هذا الحديث على ما ذكرنا وخالف الحديث الأول. . . . إلى آخره" إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين الحديثين وبَيَّنَ ذلك بوجهين: الأول: هو قوله: احتمل أن يكون ما فعله رسول الله -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 195 رقم 733). (¬2) سبق تخريجه هناك.

والثاني: هو قوله: وفي حديث أبي حميد أيضًا. . . . إلى آخره، وكل ذلك ظاهر. ص: ثم النظر من بعد هذا يوافق ما روى أبو حميد، وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج من صلاته من حال إلى حل استأنف ذكرًا. من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبر وخر راكعًا، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، وإذا خر من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع رأسه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفع رأسه إلى أن يستوي قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدل ذلك أنه ليس بين سجوده وقيامه جلوس ولو كان بينهما جلوس لاحتاج أن تكون تكبيرة بعد رفع رأسه من السجود للدخول في ذلك الجلوس، ولاحتاج إلى تكبير آخر إذا نهض للقيام، فلما لم يؤمر بذلك ثبت أن لا قعود بعد الرفع من السجدة الأخيرة والقيام إلى الركعة التي بعدها؛ ليكون ذلك حكم سائر الصلاة مؤتلفًا غير مختلف، فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي ثم وجه النظر والقياس من بعد ذلك يوافق ما روى أبو حميد، وبَيَّنَ ذلك بقوله: "وذلك أنا رأينا الرجل. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر، والله أعلم.

ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام ش: أي هذا باب في بيان أحكام ما يجب على الرجل لأجل من ملكت يمينه من الكسوة والطعام. ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد. ح وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا مهدي بن جعفر، قالا: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا يعقوب بن مجاهد المدني أبو حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: "خرجت أنا وأبي نطلب هذا العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله -عليه السلام- ومعه غلام له وعليه بردة معافري، وعلى غلامه بردة معافري، قال: فقلت له: يا عم لو أخذت بردة غلامك فأعطيته معافريك، أو أخذت معافريه وأعطيته بردك، فكانت عليك حلة وعليه حلة، قال: فمسح رأسي وقال: اللهم بارك فيه، ثم قال: يا ابن أخي، أبصرت عيناي هاتان وسمعت أذناي هاتان، ووعاه قلبي من رسول الله -عليه السلام-، وهو يقول: أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، فكان إن أعطيته من متاع الدنيا أحب إلي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأبو حزرة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، بعدها الراء، من رجال مسلم. وأبو اليسر -بفتح الياء آخر الحروف، والسين المهملة، وفي آخره راء- واسمه كعب بن عمرو بن عباد السلمي الأنصاري الصحابي. وأخرجه مسلم (¬1): عن هارون بن معروف ومحمد بن عباد، عن حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة قال: "خرجت أنا وأبي نطلب العلم، فكان أول من لقينا: أبو اليسر. . . ." إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (4/ 2301 رقم 3006).

قوله: "عليه بُردة" بضم الباء الموحدة: وهي الشملة المخططة وقيل: كساء أسود مربع فيه صفر، تلبسه الأعراب، ويجمع على بُرُد. و"مَعافِري" بفتح الميم: بُرد منسوب إلى مَعافر قبيلة باليمن، والميم زائدة. و"الحُلة" واحدة الحلل، وهي برود اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. ص: حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، قال: "خرجنا حجاجًا أو معتمرين فلقينا أبو ذر - رضي الله عنه - بالربذة عليه برد وعلى غلامه برد مثله، فقلنا له: يا أبا ذر لو أخذت هذا البرد إلى بردك لكانت حلة، وكسوته بردًا غيره، فقال أبو ذر: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: إخوانكم جعلهم الله -عز وجل- تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فَلْيُعِنْه". حدثنا ابن مرزوق، عن أبي عامر العقدي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر عن النبي -عليه السلام-: "مَنْ لاءمكم مِنْ خدمكم فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تكسون، ومَنْ لا يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله -عز وجل-". ش: هذان طريقان صحيحان: الأول: عن محمد بن سنان الشيرازي، عن عيسى بن عبد الوهاب بن نجدة الشامي الجبلي شيخ أبي داود وثقه ابن حبان، والحوطي [. . . .] (¬1) عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان الأعمش، عن المعرور -بالعين المهملة- بن سويد الأسدي الكوفي، عن أبي ذر، واسمه جندب بن جنادة. ¬

_ (¬1) بيض له المؤلف -رحمه الله-، وقال السمعاني في "الأنساب" (2/ 289): الحوطي: بفتح الحاء والطاء المكسورة المهملتين بينهما الواو الساكنة، هذه النسبة إلى حوط وظني أنها من قرى حمص أو جبلة -مدينتان بالشام.

وأخرجه مسلم (¬1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع قال: نا الأعمش، عن المعرور بن سويد قال: "مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه برد مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي -عليه السلام- فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". وأخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن المعرور، بمعناه. وأخرجه الترمذي (¬3): عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن واصل، عن المعرور. وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأعمش، نحو رواية مسلم. قوله: "حجَّاجًا" جمع حاجّ، وانتصابه على الحال التي يقال لها: الحال المقدرة، والمنتظرة أيضًا. قوله: "أو معتمرين" عطف عليه. قوله: "بالرَّبذَة" بفتح الراء والباء والموحدة والذال المعجمة، قرية من قرى المدينة، بينها وبين المدينة قدر مرحلة، وكان أبو ذر - رضي الله عنه - يكون بها، وبها قبره. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1282 رقم 1661). (¬2) "سنن أبي داود" (4/ 340 رقم 5158). (¬3) "جامع الترمذي" (4/ 334 رقم 1945). (¬4) "سنن ابن ماجه" (2/ 1216 رقم 3690).

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن مورق بن مشمرج العجلي الكوفي، عن أبي ذر. وأخرجه أبو داود (¬1): عن محمد بن عمرو الرازي، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن مورق. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "مَنْ لاءمَكُم" من الملاءمة وهي الموافقة، يقال: هو يلائمني -بالهمز- ثم يخفف فيصير ياء، و"الخدم" جمع خادم، يتناول الذكور والإناث. ص: فذهب قوم إلى أن على الرجل أن يسوي بين مملوكه وبين نفسه في الطعام والكسوة، واحتجوا في ذلك بما رويناه في هذا الباب، وبما رويناه من مذهب أبي اليسر الذي ذكرناه في ذلك. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأعمش، ومورق بن مشمرج وأهل الظاهر؛ فإنهم قالوا: يجب على الولي أن يسوي بينه وبين مملوكه في الطعام والكسوة. وقال ابن حزم في "المحلى" (¬2): وفرض على المولى أن يطعم عبده مما يأكل ولو لقمة وأن يكسوه مما يلبس ولو في العيد، ويجبر على ذلك، فإن أبى أو أعسر، بيع من ماله ما ينفق به على ما ذكرنا، ثم استدل على ذلك بالأحاديث المذكورة، ثم قال: فهذا أبو اليسر يرى هذا الأمر فرضًا. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الذي يجب للمملوك على مولاه هو طعامه وكسوته لا غير ذلك مما يوسع به الرجل على نفسه. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الجمهور من التابعين ومَنْ بعدهم، منهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وآخرون؛ فإنهم قالوا: الواجب على ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4/ 341 رقم 5161). (¬2) "المحلى" (10/ 98).

المولى لعبده طعامه وكسوته لا غير ذلك مما يوسع به على نفسه، وقالوا: إن الأمر في الحديث المذكور على الندب والاستحباب؛ لأن السيد إذا أطعم عبده أدنى مما يأكله، وألبسه أقل مما يلبسه صفة وقدرا لم يذمه أحد من أهل الإِسلام إذا قام بواجبه عليه ولا خلاف في ذلك، وإنما موضع الذم إذا منعه مما يقوم به أوده ويدفع به ضرورته كما نص -عليه السلام- بقوله: "كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوتهم" وإنما هذا على جهة الحض على مكارم الأخلاق وإرشاد الإنسان إلى سلوك طريق التواضع، حتى لا يرى لنفسه مزية على عبده؛ إذا الكل عبيد الله تعالى، والمال مال الله؛ ولكن سَخَّرَ بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا؛ إتمامًا للنعمة وتنفيذًا للحكمة. ص: واحتجوا بما حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا سفيان بن عيينة، قال: ثنا ابن عجلان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عجلان أبي محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". قالوا: فهذا الذي يجب للمملوك على سيده، وكان أولى الأشياء بنا لما روي هذا عن رسول الله -عليه السلام- أن نحمل ما روينا قبله في هذا الباب على ما وافقه، ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، فكان قول رسول الله -عليه السلام-: "أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون" قد يحتمل أن يكون أراد بذلك الخبز والأدم، والثياب من الكتان والقطن، فإذا شاركوا مواليهم في ذلك فقد أكلوا مما يأكلون ولبسوا مما يلبسون فوافق معنى ذلك معنى حديث أبي هريرة، وإنما تجب المساواة لو قال: أطعموهم مثل ما تأكلون، واكسوهم مثل ما تلبسون، فلو كان قال هذا لم يجز للموالي أن يفضلوا أنفسهم على عبيدهم في كسوة ولا في طعام، ولكنه إنما قال: "أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون" فلم يكن في ذلك وجوب المساواة بينهم وبينهم في الكسوة والطعام، وإنما فيه وجوب الكسوة مما يلبسون ووجوب الطعام مما يأكلون، وإن كانوا في ذلك غير متساويين.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة. أخرجه بإسناد صحيح: عن خاله إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإِمام محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان المدني، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عجلان المدني والد محمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه مسلم (¬1): عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو، عن بكير، عن عجلان، عن أبي هريرة، نحوه. قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء الآخرون: فهذا الذي يجب للمملوك على مولاه، وهذا القدر لا خلاف فيه، والقدر الواجب من ذلك ما يدفع به ضرورته، وما زاد على ذلك مندوب إليه. قوله: "وكان أولى الأشياء بنا. . . . إلى آخره" إشارة إلى وجه التوفيق بين حديث أبي هريرة هذا وبين حديث أبي اليسر المذكور في أول الباب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر غني عن بسط الكلام. قوله: "ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا" أي ما دمنا نجد إلى وجه التوفيق بين الحديثين المتعارضين بحسب الظاهر سبيلًا. ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني قال: ثنا محمد بن إدريس، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه فليجلسه فليأكل معه، فإن أبى فليأخذ لقمة فليروغها ثم ليطعمها إياه". حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1284 رقم 1662).

فإن لم يجلسه فليناوله أُكلة أو أُكلتين -أو قال-: لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه ودخانه". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد وسع على المولى أن يطعم عبده من طعامه -الذي قد ولي صنعته له عبده- لقمة ثم يستأثر هو بما بقي من الطعام بعد تلك اللقمة، فدل ذلك أن معنى ما أراد بقوله: "أطعموهم مما تأكلون" لم يرد به المساواة وكذلك معنى قوله: "واكسوهم مما تلبسون"، وأما ما فعل أبو اليسر فعلى الإشفاق منه والخوف لا على غير ذلك، وهذا الذي صححنا عليه هذه الآثار قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهم الله-. ش: أي وقد دل على ما ذكرنا من وجه التوفيق: حديث أبي هريرة أيضًا، وأخرجه من طريقين صحيحين: الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد بالنون عبد الله بن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن أبان وخلف بن خليفة، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كفى أحدكم خادمه صنيع طعامه، وكفاه حره ودخانه فليجلس معه، فإن أبى فليأخذ لقمة فليطعمها إياه". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن محمد بن زياد القرشي المدني، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم بغير هذا الإسناد (¬1): ثنا القعنبي، قال: ثنا داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إذا صنع لأحدكم ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (3/ 1284 رقم 1663).

خادمه طعامه، ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه؛ فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلًا؛ فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين". قال داود: يعني لقمة أو لقمتين. قوله: "فليروغها" أي: فليشربها من دسم الطعام، ثم ليطعمها إياه، ومادته: راء مهملة، وواو، وغين معجمة. قال الهروي: يقال: روغ فلان طعامه ومرغه وسغبله، إذا رواه دسمًا. قوله: "أُكلة" بضم الهمزة: اللقمة. قوله: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه" جواب إذا محذوف تقديره: إذا أتى أحدكم خادمه بطعام، فليجلسه معه فليناوله أكلة. والجملة الثانية انتصبت قريبة على الحذف؛ فافهم. قوله: "أفلا ترى. . . . إلى آخره" توضيح للمعنى الذي ذكره فيما سبق. قوله: "ثم يستأثر هو" أي: يخص نفسه بما بقي من الطعام بعد اللقمة التي تناولها منه عبده. قوله: "وأما ما فعل أبو اليسر" جواب عن قوله: "وبما رويناه من مذهب أبي اليسر"؛ فافهم، والله أعلم.

ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

ص: باب إنشاد الشعر في المساجد ش: أي: هذا باب في بيان حكم إنشاد الشعر في المساجد، هل يجوز أم لا؟ والإنشاد من أنشد الشعر: إذا قاله، والنشيد: الشعر، والشعر: كلام موزون مقفى على طريق القصد. ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني الليث، قال: حدثني محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنشد الأشعار في المساجد، وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة". ش: رجاله ثقات، وقد تقدم الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، والصحيح: أنه إذا كان رجال سنده ثقات فهو صحيح. والحديث أخرجه الأربعة. فقال أبو داود (¬1): ثنا مسدد: نا يحيى، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة". وقال الترمذي (¬2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة". وقال النسائي (¬3): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1/ 351 رقم 1079). (¬2) "جامع الترمذي" (2/ 139 رقم 322). (¬3) "المجتبى" (2/ 48 رقم 715).

وأخرجه أيضًا (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، وليس فيه إنشاد الشعر. وقال ابن ماجه (¬2): ثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد". قوله: "السِّلَع" بكسر السين وفتح اللام، جمع سلعة. قوله: "وأن يتحلق فيه" أي: ونهى أيضًا عن التحلق في المسجد، وهو: اتخاذ الحلقة، وفي رواية: "ونهى عن الحَلَق" بفتح الحاء وفتح اللام، جمع الحَلْقة بسكون اللام، مثل هَضَبَة وهضب. وفي "المحكم": الحلقة: كل شيء استدار كحلقة الحديد والذهب والفضة، وكذلك هو في الناس، والجمع حِلاق على الغالب، وحِلَق على النادر. والحَلَق عند سيبويه: اسم للجمع، ليس يجمع؛ لأن فَعْلَة ليست مما يُكَسَّر على فَعَل، وقد حكى سيبويه في الحَلْقة: فتح اللام، وأنكرها ابن السكيت وغيره. وقال اللحياني: حَلْقة الباب وحَلَقته، بإسكان اللام وفتحها، وقال كراع: حَلْقة القوم وحَلَقتهم. وحكى يونس عن أبي عمرو: حَلَقَة في الواحد بالتحريك، والجمع حلقات. وقال الجوهري: الجمع حَلَق، على غير قياس، وقال كراع: الجمع حَلق وحِلق وحِلَاق. ويستفاد من الحديث: النهي عن تناشد الأشعار في المساجد، وسيجيء مزيد الكلام فيه. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (2/ 47 رقم 714). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 247 رقم 749).

والنهي عن بيع السلع فيها؛ لأنها لم تبن لذلك، وقال الشيخ محيي الدين: ويتعلق به ما في معناه من نحو الإجارة، وعقد المضاربة، والمزارعة، ونحو ذلك من العقود. والنهي عن التحلق فيها قبل الصلاة، وذلك حتى يتأهبوا للصلاة، وسواء كان التحلق للعلم والمذاكرة أو غير ذلك، ولا يكره التحلق بعد الفراغ من الصلاة، ومورد الحديث في التحليق قبل الصلاة يوم الجمعة، ولهذا بوب أبو داود رحمة الله عليه قال: باب: "التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة"، ثم روى الحديث المذكور. وفيه النهي عن إنشاد الضالة، يقال: أنشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها. وقد ثبت: "من سمع من ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا". وكذا يكره رفع الصوت في المسجد، وقال القاضي: قال مالك وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره. وأجاز أبو حنيفة، ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولابد لهم منه. ص: فذهب قوم إلى كراهة إنشاد الشعر في المساجد، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: مسروق بن الأجدع، والحسن البصري، وعمرو بن شعيب؛ فإنهم كرهوا إنشاد الشعر مطلقًا ولاسيما في المساجد. قال القاضي: قوله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا" احتج به وشبهة من نهى عن الشعر ومنعه جملة، قليله وكثيره، وإليه ذهب الحسن، ومسروق، وعبد الله بن عمرو بن العاص في آخرين، والكافة على خلافه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بأسًا بإنشاد الشعر في المساجد إذا كان ذلك الشعر مما لا بأس بروايته، وإنشاده في غير المساجد. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا بأس بإنشاد الشعر في المساجد وغيرها إذا كان مما ليس فيه فحش، ولا هجو لمسلم، ولا تعريض لامرأة معينة، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، وقال ابن حزم: وإنشاد الشعر في المسجد مباح. ص: واحتجوا في ذلك بما روينا عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الموضع، أنه وضع لحسان - رضي الله عنه - منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر، ومما رويناه من ذلك من حديث حسان حين مر به عمر - رضي الله عنه - وهو ينشد الشعر في المسجد فزجره عمر، فقال: قد كنت أنشد فيه الشعر مع من هو خير منك، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكر عليه أحد منهم، ولا أنكره عليه أيضًا عمر - رضي الله عنه -. ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- في غير هذا الموضع؟ أراد به: باب: "رواية الشعر؛ هل هي مكروهة أم لا؟ " فإنه روى فيه عن ابن أبي عمران، عن أبي إبراهيم الترجمان، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله -عليه السلام- وضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر". وأخرجه أبو داود، والترمذي، وقد ذكرناه هناك. قوله: "قد رويناه" أي: واحتجوا أيضًا بما قد رويناه مع ذلك من حديث حسان - رضي الله عنه -. . . . إلى آخره. أخرج ذلك في باب "رواية الشعر": عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرّ على حسان وهو يُنشد في مسجد رسول الله -عليه السلام-

فانتهره عمر - رضي الله عنه -، فأقبل عليه حسان فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانطلق عنه عمر - رضي الله عنه -. . . ." الحديث. وأخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) وقد ذكرناه هناك. ص: وكان حديث يونس الذي قد بدأنا بذكره في أول هذا الباب قد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه أن ينشد في المسجد، هو الشعر الذي كانت قريش تهجوه به. ويجوز أن يكون من الشعر الذي تؤبن فيه النساء وترزأ فيه الأموات، على ما قد ذكرناه في باب "رواية الشعر" من جواب الأنصاري من أصحاب رسول الله -عليه السلام- لابن الزبير بذلك حين أنكر عليهم إنشاد الشعر حول الكعبة. وقد يجوز أن يكون أراد بذلك: الشعر الذي يغلب على المسجد حين يكون كل من فيه -أو كثر من فيه- متشاغلًا بذلك، كمثل ما تأول عليه ابن عائشة وأبو عبيد قول رسول الله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا" على ما قد ذكرنا ذلك عنهما في غير هذا الموضع. فيكون الشعر المنهي عنه في هذا الحديث هو خاص من الشعر، وهو الذي فيه معنى من هذه المعاني الثلاثة التي ذكرنا؛ حتى لا يضاد ذلك ما قد رويناه عن رسول الله -عليه السلام- من إباحة ذلك، وما عمل به أصحابه من بعده. ش: أشار بذلك إلى وجه التوفيق بين الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وبين الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الثانية لوجود التعارض بينهما ظاهرًا، وبَيَّنَ ذلك من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3/ 1176 رقم 3040). (¬2) "صحيح مسلم" (4/ 1932 رقم 2485). (¬3) "سنن أبي داود" (4/ 303 رقم 5013). (¬4) "المجتبى" (2/ 48 رقم 716) و"السنن الكبرى" (1/ 262 رقم 795)، (6/ 51 رقم 9999).

الأول: هو قوله: "قد يجوز أن يكون رسول الله -عليه السلام- أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه. . . ." إلى آخره. والثاني: هو قوله: "ويجوز أن يكون من الشعر الذي تؤبن فيه النساء" من: أَبَنَهُ يأْبُنْهُ إذا رماه بخلة سوء. قوله: "وترزأ" أي: تنتقص فيه الأموات ويعابون فيه، من الرزأ، والازدراء هو الاحتقار والانتقاص، ومادته زاي معجمة ثم راء ثم همزة، وفي بعض النسخ: وبذر فيه الأموال. قوله: "من جواب الأنصاري من أصحاب رسول الله -عليه السلام-" أراد به ما ذكره في باب "رواية الشعر": عن سليمان بن شعيب، عن يحيى بن حسان، عن إبراهيم بن سليمان التيمي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال: "كنا جلوسًا بفناء الكعبة -أحسبه قال-: مع ناس من أصحاب رسول الله -عليه السلام- فكانوا يتناشدون الأشعار، فوقف بنا عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فقال: في حرم الله وحول كعبة الله تتناشدون الأشعار؟! فقال رجل منهم: يا ابن الزبير، إن رسول الله -عليه السلام- إنما نهى عن الشعر إذا أبنت فيه النساء وتزدرى فيه الأموات". وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه، وفي روايته: "وبذر فيه الأموال". والثالث: هو قوله: "وقد يجوز أن يكون أراد بذلك الشعر الذي يغلب على المسجد. . . ." إلى آخره. قوله: "كمثل ما تأول عليه ابن عائشة وأبو عبيد" أراد بابن عائشة عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي، شيخ أبي داود، وأراد بأبي عبيد: القاسم بن سلام [. . . .] (¬2) صاحب التصانيف المشهورات، أنهما أوَّلا قوله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ." الحديث، على [. . . .] (2) من الشعر بحيث لا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره؛ فإن هذا هو الداخل في قوله -عليه السلام-، وأما ما [. . . .] (2) ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 243 رقم 20930). (¬2) طمس في "الأصل، ك".

القرآن والشعر مع ذلك فليس ممن امتلئ جوفه شعرًا، فهو خارج من قوله -عليه السلام-: "لأن يمتلئ جوف. . . ." الحديث. قال الطحاوي في باب "رواية الشعر": سمعت ابن أبي عمران أيضًا وعلي بن عبد العزيز يذكران ذلك عن أبي عبيد. والله أعلم. ص: فإن قال قائل فإذا كان كما ذكرت فلم قصد إلى المسجد؟ والذي ذكرت من هجي النبي -عليه السلام- والذي أبنت فيه النساء ورزأت فيه الأموات مكروه في غير المسجد كما هو مكروه في المسجد، ولو كان كما ذكرت لم يكن لذكره المسجد معنى؟ قيل له: قد يجيء الكلام كثيرًا بذكر معنى فلا يكون ذلك المعنى بذلك الحكم الذي جرى في ذلك الذكر مخصوصًا، من ذلك: قول الله -عز وجل-: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (¬1) فذكر الربيبة التي كانت في حجر ربيبها فلم تكن ذلك على خصوصيتها لأنها كانت في حجره بذلك الحكم، وأخرجها منه إذا لم تكن كانت في حجره، ألا ترى أنها لو كانت أكبر منه أنها عليه حرام كحرمتها لو كانت صغيرة في حجره؟ وقال -عز وجل- في الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬2) فأجمع العلماء -إلا من شذ منهم- أن قتله إياه ساهيًا كذلك في وجوب الجزاء، فلم تكن ذكره ما ذكرنا من هاتين الآيتين بموجب خصوص الحكم، فكذلك ما رويناه من ذكر المسجد في الشعر المنهي عن روايته ليس فيه دليل على خصوصية المسجد بذلك، وكذلك أيضًا ما نهى عنه من البيع في المسجد هو البيع الذي يعمه أو يغلب عليه حتى يكون كالسوق فذلك مكروه، فأما ما سوى ذلك فلا. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [23]. (¬2) سورة المائدة، آية: [95].

ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان المنهي عنه من الشعر ما فيه أبن النساء وانتقاص الأموات والفحش والخنى ونحو ذلك يستوي فيه المسجد وغيره، وكذلك ما أبيح منه مما ليس فيه ما ذكرنا يستوي فيه المسجد وغيره، فما الفائدة من ذكر المسجد وتخصيصه بالذكر في الحديث المذكور؟. وتقرير الجواب أن يقال: إن ذكر المسجد هاهنا لا يتعلق به الحكم كما أن ذكر الجمهور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ. . . .} (¬1) الآية، لا يتعلق به تحريم الربائب، وكما لا يتعلق الحكم بقوله: متعمدًا في قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬2) فإن أكثر العلماء أن ربيبة الرجل تحرم عليه وإن لم تكن في حجره فلا يشترط كونها في الحجر كما لا يشترط تربيته إياها، ألا ترى أنها لو كانت أسن منه تحرم عليه كما لو كانت صغيرة، وهي في حجره. فإن قيل: إذا لم يتعلق بذكر الحجر حكم، فما الفائدة في ذكره؟ قلت: هو كلام خرج على الأعم الأغلب من كون الربيبة في حجر الزوج، وهذا كما في قوله -عليه السلام-: "في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون"، وليس كون المخاض أو اللبن شرطًا في المأمور، وإنما ذكره لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كانت بأمها مخاض، وإذا دخلت في الثالثة كانت بأمها لبن وإنما أخرج الكلام على غالب الحال، كذلك قوله تعالى: {فِي حُجُورِكُمْ} (1) على هذا، وكذلك قيد العمدية في الآية ليس لكونها شرطا بل لكون الغالب الأعم في العمد أو يكون بأن ورد النص فيمن تعمد وألحق به الخطأ للتغليظ وكذلك ذكر المسجد ليس لأنهم كانوا في غالب الأحوال يتناشدون في المساجد بما فيه الفحش والخنى وأبن النساء ورزأ الأموات فغلب النهي لذلك، فافهم. ص: وقد روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على إباحة العمل الذي ليس من القرب في المسجد. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [23]. (¬2) سورة المائدة، آية: [95].

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن منصور، عن ربعي بن حراش عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلًا امتحن الله به الإيمان، يضرب رقابكم على الدين، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: "لا" فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد، قال: وكان قد ألقى إلى علي - رضي الله عنه - نعله يخصفها". أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لم ينه عليًّا عن خصف النعل في المسجد، وأن الناس لو اجتمعوا حتى يعموا المسجد بخصف النعال كان ذلك مكروهًا، فلما كان ما لا يعم المسجد من هذا غير مكروه، وما يعمه منه أو يغلب عليه مكروهًا كان كذلك البيع وإنشاد الشعر والتحلق فيه قبل الصلاة، ما عمه من ذلك فهو مكروه، وما لم يعمه منه ولم يغلب عليه فليس بمكروه. ش: ذكر حديث علي - رضي الله عنه - شاهدًا لصحة قوله: "وكذلك أيضًا ما نهى عنه من البيع. . . ." إلى آخره. وأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وفي آخره شين معجمة. وأخرجه الترمذي (¬1): نا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن منصور، عن ربعي بن حراش، قال: ثنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالرحبة فقال: "لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله خرج إليك من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين [وإنما خرجوا فرارًا من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا. قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين] (¬2) سنفقههم، فقال ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (5/ 634 رقم 3715). (¬2) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "جامع الترمذي".

النبي -عليه السلام-: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل. وكان أعطى عليًّا - رضي الله عنه - نعله يخصفها، قال: ثم التفت إلينا عليّ - رضي الله عنه - فقال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار في "مسنده" (¬1): ثنا صالح بن محمد وأحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو غسان، قال: ثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن منصور، عن ربعي، عن علي - رضي الله عنه - قال: "اجتمعت قريش إلى النبي -عليه السلام- فقالوا: إن أرقاءنا لجئوا إليك ودخل معك في هذا الأمر من ليس له بأهل؛ ارددهم إلينا، فغضب رسول الله -عليه السلام- حتى رؤي الغضب في وجهه ثم قال: لتنتهن يا معشر قريش أو ليبعثن الله رجلًا منكم امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على الدين، فقيل: يا رسول الله، أبو بكر؟ قال: لا. قيل: فعمر؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل الذي في الحجرة، قال علي - رضي الله عنه -: فكنت أنا خاصف النعل، قال علي: فاستفظع الناس ذلك من عليّ، فقال: أما إني سمعته يقول: لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ متعمدًا فليلج النار". قوله: "امتحن الله -عز وجل- قلبه للإيمان" يعني صفى قلبه وهذبه للإيمان، ومنه ما جاء في الحديث: "فذلك الشهيد الممتحن" أي المصفى المهذب، من محنت الفضة إذا صفيتها وخلصتها بالنار. قوله: "ولكنه خاصف النعل" من خصف النعل إذا خرزها، والخصف: الضم والجمع، ومن هذا سمي علي - رضي الله عنه - خاصف النعل، وهي نعل النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "مسند البزار" (3/ 118 رقم 905).

وفي الحديث من الدلالة البينة على فضيلة علي - رضي الله عنه -، وقد احتج به الشيعة على تفضيل علي - رضي الله عنه - على أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وسائر الصحابة، [. . . .] (¬1) ومذهب أهل السنة: أن أفضل الناس بعد نبينا -عليه السلام- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنه -، ومنهم من يفضل علي على غيره. قوله: "أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره" توضيح لما ذكره من المعنى؛ وباقي الكلام ظاهر، فافهم. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك".

ص: باب شراء الشيء الغائب

ص: باب شراء الشيء الغائب ش: أي هذا باب في بيان حكم شراء الشيء الغائب هل يجوز أم لا؟ ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، قال: حدثني أبي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن الملامسة والمنابذة". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا حسان بن غالب ويحيى بن عبد الله ابن بكير، قالا: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- مثله. ش: هذه خمسة أسانيد صحاح: أحدها عن أنس، واثنان عن أبي سعيد الخدري، واثنان عن أبي هريرة. الأول: أخرجه بعينه في باب: "بيع الثمار قبل أن تتناهى" بأتم منه، فقال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة والمخاضرة والملامسة والمنابذة. . . ." الحديث. وأخرجه البخاري (¬1)، وقد استوفينا الكلام فيه هناك. ¬

_ (¬1) تقدم.

وإسنادان عن أبي هريرة: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1): عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- نهى عن الملامسة والمنابذة". وأخرجه البخاري (¬2): عن إسماعيل، عن مالك. ومسلم (¬3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك. والنسائي (¬4): عن قتيبة، عن مالك. والترمذي (¬5): عن أبي كريب ومحمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد، به، وقال: حسن صحيح. الثاني: عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن حسان بن غالب بن نجيح الرعيني، وعن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، كلاهما عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري المدني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة. وحسان بن غالب وإن كان فيه مقال، ولكنه ذكر متابعة، فلا يضر صحة الإسناد، على أنه قد وثقه ابن يونس. والحديث أخرجه مسلم (¬6): عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن الملامسة والمنابذة". ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 666 رقم 1346). (¬2) "صحيح البخاري" (2/ 754 رقم 2039). (¬3) "صحيح مسلم" (3/ 1151 رقم 1511). (¬4) "المجتبى" (7/ 259 رقم 4509). (¬5) "جامع الترمذي" (3/ 601 رقم 1310). (¬6) "صحيح مسلم" (3/ 1152 رقم 1511).

وإسنادان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أولهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك. وأخرجه البخاري (¬1): عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن لبستين وبيعتين: الملامسة والمنابذة". وأخرجه مسلم (¬2): عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. . . . إلى آخره، نحوه. والثاني: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد. وأخرجه البخاري (¬3) من حديث معمر، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد - رضي الله عنه -. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا ابتاع ما لم يره، لم يجز ابتياعه إياه، وذهبوا في ذلك إلى تأويل تأولوه في هذا الحديث، فقالوا: الملامسة ما لمسه مشتريه بيده من غير أن ينظر إليه بعينه، قالوا: والمنابذة هي من هذا المعنى أيضًا، وهو قول الرجل للرجل: انبذ إليَّ ثوبك وأنبذ إليك ثوبي، على أن كل واحد منهما مبيع لصاحبه من غير نظر من كل واحد من المشتريين إلى ثوب صاحبه، وممن ذهب إلى هذا التأويل مالك بن أنس -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 754 رقم 2037). (¬2) "صحيح مسلم" (3/ 1152 رقم 1512). (¬3) "صحيح البخاري" (2/ 754 رقم 2040).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وأبا الزناد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق فإنهم قالوا: إذا اشترى الرجل ما لم يره، فشراؤه فاسد. وعن مالك وأحمد: يصح بالوصف، ويثبت له الخيار إذا لم يكن بهذه الصفة. وهو قول الشافعي في القديم، وهو مختار الشافعية. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من اشترى شيئًا غائبًا عنه فالبيع جائز، وله فيه خيار الرؤية، إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وذهبوا في تأويل الحديث الأول أن الملامسة المنهي عنها فيه هي بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه فيما بينهم، فكان الرجلان يتراوضان على الثوب، فإذا لمسه المساوم به كان بذلك مبتاعًا له، ووجب على صاحبه تسليمه إليه. وكذلك المنابذة كانوا أيضًا يتقاولون في الثوب وفيما أشبهه، ثم يرميه ربه إلى الذي قاوله عليه، فيكون ذلك بيعًا منه إياه ثوبه، ولا يكون له بعد ذلك نقضه، فنهى رسول الله -عليه السلام- عن ذلك، وجعل الحكم في البياعات أن لا يجب إلا بالمعاقدات المتراضى عليها، فقال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فجعل إلقاء أحدهما إلى صاحبه الثوب قبل أن يفارقه غير قاطع لخياره، ثم اختلف الناس بعد ذلك في كيفية تلك الفرقة، على ما قد ذكرنا من ذلك في موضعه من كتابنا هذا، وممن ذهب إلى هذا التأويل أبو حنيفة - رضي الله عنه -. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والنخعي والزهري وابن شبرمة والحسن وابن سيرين ومكحولًا وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر -رحمهم الله-، فإنهم قالوا: يجوز للرجل أن يشتري شيئًا غائبًا، وله خيار الرؤية إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا، إلا أنهم قالوا: إذا اشترى بالصفة ثم وجده كما وصف له فالبيع لازم، وإن وجده بخلاف ذلك فلا بيع بينهما إلا بتجديد صفقة أخرى برضاهما جميعًا. قوله: "وذهبوا في تأويل الحديث الأول" أي ذهب هؤلاء الآخرون في تأويل الحديث الأول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو ما رواه أنس وأبو هريرة

وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهم -: "أنه -عليه السلام- نهى عن الملامسة، والمنابذة" وقالوا: إن المنابذة التي نهى عنها -عليه السلام- هي بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه فيما بينهم، وكان الرجلان يتراوضان على الثوب، وهو من المراوضة، وهو التجاذب في البيع والشراء، وهو ما يجري بين المتابعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحدٍ منهما يروض صاحبه، من رياضة الدابة. وقيل: هو المواصفة بالسلعة، وهو أن يصفها ويمدحها عنده، ومنه حديث ابن المسيب: "أنه كره المراوضة". وهو أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك، وسمي بيع المواصفة. قوله: "ثم اختلف الناس بعد ذلك في كيفية الفرقة" أي الفرقة المفهومة من قوله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فقال إبراهيم النخعي والثوري وربيعة وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: المراد به هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما خيار بعد ذلك، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار العيب أو الرؤية أو خيار الشرط، وقال أبو يوسف وعيسى بن أبان: هي الفرقة بالأبدان وذلك أن الرجل إذا قال لآخر: قد بعتك عبدي بألف درهم، فللمخاطَب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارقه صاحبه فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل. وقال سعيد بن المسيب، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي ذئب، وابن عيينة، والأوزاعي، والليث بن سعد، وابن أبي مليكة، والحسن البصري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو سليمان، ومحمد بن جرير الطبري، وأهل الظاهر: الفرقة المذكورة في الحديث هي الفرقة بالأبدان فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان، وقد استوفينا الكلام فيه باب: "خيار البيعين حتى يتفرقا". ص: ولما اختلفوا في ذلك أردنا أن ننظر فيما سوى هذا الحديث من الأحاديث، هل فيه ما يدل على أحد القولين اللذين ذكرناهما؟ فنظرنا في ذلك، فإذا إبراهيم

ابن محمد الصيرفي قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد". فدل على إباحة بيعه بعدما يشتد وهو في سنبله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال حتى يشتد ويرى في سنبله، فلما جعل العلة في البيع المنهي عنه هي شدته ويبوسته؛ دل ذلك أن البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه في البدء. فلما جاز بيع الحب المغيب في السنبل الذي لم يَيْنعَ دَلَّ هذا على جواز بيع ما لم يراه المتبايعان إذا كانا يرجعان إلى معلوم كما يرجعان في الحنطة المبيعة المغيبة في السنبل إلى حنطة معلومة، فأولى الأشياء بنا في مثل هذا إذا كنا قد وقفنا على تأويل هذا الحديث واحتمل الحديث الآخر موافقته أو مخالفته؛ أن نحمله على موافقته لا على مخالفته. وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب في تفسير الملامسة والمنابذة قال: "كان القوم يتبايعون السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، والمنابذة أن يتنابذ القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها؛ فهذا من أبواب القمار". حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ربيعة قال: "كان هذا من أبواب القمار، فنهى عنه رسول الله -عليه السلام-". فهذا الزهري وهو أحد من روي عنه هذا الحديث قد أجاز للرجل أن يشتري ما قد أخبر عنه، وإن لم يكن عاينه، ففي ذلك دليل على جواز ابتياع الغائب. ش: أي ولما اختلف أهل المقالة الأولى، وأهل المقالة الثانية في الحكم المذكور أردنا أن ننظر هل نجد حديثًا غير هذا الحديث المذكور؛ يدل على صحة أحد القولين؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أنس - رضي الله عنه - يدل على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية.

أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن محمد الصيرفي المصري شيخ أبي القاسم البغوي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس. وأخرجه الطحاوي بهذا الإسناد بعينه في باب: "بيع الثمار قبل أن تتناهى". وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه، وقد ذكرناه هناك مستوفى. ووجه استدلالهم بهذا قد بينه مشروحًا. قوله: "الذي لم يينع" من يَنَعَ الثمر يَيْنَع وأَيْنَع يُوِنعُ فهو يَانع ومُونِع: إذا أدرك ونضج، وأَيْنَع أكثر استعمالًا. قوله: "وقد حدثنا يونس. . . . إلى آخره". أخرجه من طريقين صحيحين شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من التأويل الذي أولوه: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. والثاني: عن يونس أيضًا نحوه، ولكن عن ربيعة الرأي شيخ مالك -رحمه الله-، والباقي ظاهر. ص: فقال قائل ممن ذهب إلى التأويل الذي قدمنا ذكره في أول هذا الباب: من أين أجزتم بيع الغائب وهو مجهول؟ قيل له: ما هو مجهول في نفسه؛ لأنه متى رجع إليه رجع إلى معلوم بنفسه، كبيع الحنطة في سنبلها المرجوع منها إلى حنطة معلومة، وإنما الجهل في هذا هو جهل البائع والمشتري، فأما المبيع في نفسه فغير مجهول، وإنما المجهول الذي لا يجوز بيعه هو المجهول في نفسه الذي لا يرجع منه إلى معلوم كبعض طعام غير ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 305 رقم 10403).

مسمى باعه رجل من رجل، فذلك البعض غير معلوم وغير مرجوع منه إلى معلوم، فالعقد على ذلك غير جائز، وقد وجدنا البيع يجوز عقده على طعام بعينه على أنه كذا وكذا قفيزًا والبائع والمشتري لا يعلمان حقيقة كيله، فيكون من حقوق البيع وجوب الكيل للمشتري على البائع ولا يكون جهلهما به يوجب وقوع العقد على شيء مجهول، إذا كانا يرجعان منه إلى طعام معلوم فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن -رحمهم الله-. ش: أراد بالقائل المذكور: الشافعي؛ فإنه قال: بيع الغائب كيف يجوز وهو مجهول؟! فأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل. . . . إلى آخره وهو ظاهر. فإن قلت: قد نهى -عليه السلام- عن بيع ما ليس عند الإنسان. قلت: نعم والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده؛ لأنه لا خلاف في لغة العرب صدق من يقول: عندي ضياع وعندي دور وعندي رقيق، والحال أنها ليست عنده، والمراد من الحديث ما ليس في ملكه. وقال ابن حزم: والبرهان على فساد قول الشافعي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) فبيع الغائب داخل فيما أحل الله وفي التجارة التي يتراضى بها المتبايعان، وكل ذلك حلال إلا بيعًا حرمه الله، على لسان رسوله -عليه السلام- في القرآن أو في سنة ثابتة، وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفًا. ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا: "أن عثمان وطلحة - رضي الله عنهما - تبايعا مالًا بالكوفة فقال عثمان - رضي الله عنه -: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة - رضي الله عنه -: لي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: [275]. (¬2) سورة النساء، آية: [29].

الخيار لأني ابتعت ما لم أر، فحكَّما بينهما جبير بن مطعم - رضي الله عنه - فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان". فاتفق هؤلاء الثلاثة بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- على جواز بيع شيء غائب عن بائعه ومشتريه. ش: أخرج الطحاوي في باب: "تلقي الجلب" في كتاب البيوع: عن أبي بكرة ومحمد بن شاذان، قالا: ثنا هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: "اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان بن عفان - رضي الله عنهما - مالًا، فقيل لعثمان: إنك قد غيبت وكان المال بالكوفة، قال: وهو مال آل طلحة الآن بها، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر، فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان". وأخرجه البيهقي (¬1) نحوه. قوله: "فاتفق هؤلاء الثلاثة" أراد بهم: عثمان وطلحة وجبير بن مطعم، وأشار بهذا إلى أن هؤلاء الثلاثة لما اتفقوا بحضرة الصحابة على جواز بيع شيء غائب، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، وقع موقع الإجماع، فلا يجوز خلافه. ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني سالم: "أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ركب يومًا مع عبد الله بن بحينة -وهو رجل من أزد شنوءة حليف لبني عبد المطلب وهو من أصحاب النبي -عليه السلام- إلى أرض له بريم، فابتاعها منه عبد الله بن عمر على أن ينظر إليها، وريم من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا". فهذا عبد الله بن عمر، وعبد الله بن بحينة قد تبايعا ما هو غائب عنهما، ورأيا ذلك جائزًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (5/ 268 رقم 10204).

ش: ذكر هذا تأييدًا لصحة: ما ذكره من قبل من جواز بيع شيء غائب. وأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره. وعبد الله بن بُحَيْنة -بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون- وهي أمه، وهي بحينة بنت الأرت، وعبد الله هو ابن مالك بن القشب الأزدي الصحابي. قوله: "بريم" أي في ريم -بكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ميم- وقد فسره في الحديث بقوله: وريم من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا. ص: فإن قال قائل: إنما جاز ذلك لاشتراط ابن عمر الخيار. قيل له: إن ذلك الخيار لم يجب لابن عمر من جهة الاشتراط، ولو كان من جهة الاشتراط وجب؛ لكان البيع فاسدًا، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى من رجل عبدًا أو أرضًا على أنه بالخيار فيها لا إلى وقت معلوم كان البيع فاسدًا؟ وابن عمر - رضي الله عنهما - في الحديث الذي رويناه عنه لم يشترط خيار الرؤية إلى وقت معلوم، فدل ذلك أن الخيار الذي اشترطه هو خيار يجب له بحق العقد، وهو خيار الرؤية الذي ذهب إليه طلحة وجبير - رضي الله عنهما - فيما رويناه عنهما، لا خيار شرط. ش: تقرير السؤال أن يقال: جواز البيع في حديث عبد الله بن عمر ليس على ما ذكرتم من بيع شيء غائب، وإنما هو لأجل اشتراط عبد الله بن عمر الخيار وجوابه ظاهر. ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنا إذا تبايعنا، كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعين، قال: فتبايعت أنا وعثمان - رضي الله عنه - فبعته مالًا لي بالوادي بمال له بخيبر، قال: فلما بايعته طفقت أنكص على عقبي القهقرى خشية أن يترادَّني في البيع عثمان قبل أن أفارقه.

فهذا عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - قد تبايعا ما هو غائب عنهما، ورأيا ذلك جائزًا، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام- فلم ينكره عليهما مُنكِرٌ. ش: ذكر هذا شاهدًا لصحة جواز بيع الغائب عن المتبايعين أو عن أحدهما. أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. وأخرجه البخاري (¬1) معلقًا، وقال: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر قال: "بعت من عثمان مالًا بالوادي بماله بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادَّني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا". وأخرجه البيهقي (¬2) من طريق ابن زنجويه والرمادي والفسوي، قالوا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث بهذا. ثم قال: ورواه أبو صالح أيضًا ويحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، بمعناه. قوله: "طفقت أنكص على عقبي القهقرى" أي أخذت أتأخر وأرجع إلى ورائي، وطفقت من أفعال المقاربة يقال: طَفِقَ الرجل يفعل كذا، يعني أخذ في الفعل، وجعل يفعل. قوله: "أنكص" من النكوص وهو الرجوع إلى الوراء وهو القهقرى، والقهقرى هنا منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله: "أنكص" من قبيل قولك: قعدت جلوسًا. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 745 رقم 2010). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (5/ 271 رقم 10230).

ص: وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن محمد بن عمير قال: قال أبو هريرة: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيعتين: أن يقول الرجل للرجل: انبذ إليَّ ثوبك وأنبذ إليك ثوبي، من غير أن يقلبا أو يتراضيا، أو يقول: دابتي بدابتك من غير أن يقلبا أو يتراضيا". ففي هذا الحديث: إجازة البيع بالتراضي، ودليل على أن المنابذة المنهي عنها ما ذهب إليه أبو حنيفة لا ما ذهب إليه مخالفه. ش: ذكر هذا الحديث بيانًا أن تفسير المنابذة التي نهى عنها رسول الله -عليه السلام- هو ما ذهب إليه أبو حنيفة لا ما ذهب إليه مخالفه، وهو الشافعي ومن معه؛ وشاهدًا لإجازة البيع بالتراضي وإن كان المبيع غائبًا عنهما أو عن أحدهما. وأخرجه بإسناد صحيح: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم الكوفي، عن محمد بن عمير المحاربي، عن أبي هريرة. ومحمد بن عمير وثقه ابن حبان، وقال ابن أبي حاتم في ترجمته: روى عن أبي هريرة، قال: "نهى النبي -عليه السلام- عن بيعتين". وسكت عنه.

ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها؟

ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها؟ ش: أي هذا باب في بيان حكم تزويج الابنة إذا أراد أبوها أن يزوجها، هل يحتاج في ذلك إلى أن يستأذنها؟ ص: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وان أنكرت لم تكره". ش: إسناده صحيح. وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وأبو بردة اسمه عامر بن عبد الله ابن قيس، وقيل: اسمه الحارث، روى له الجماعة، وأبوه أبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس. وأخرجه الطبراني (¬1): ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا عيسى بن يونس، قال: سمعت أبي، سمع أبا بردة يحدث، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال: "تستأمر اليتيمة فإن سكتت فهو إذن، وإن أنكرت لم تكره". ثنا سعيد بن أبي إسرائيل القطيعي، ثنا حِبَّان بن موسى المروزي، نا ابن المبارك، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره نحوه. قوله: "تستأمر" أي تستأذن، واليتيمة من اليتم، واليتم -بالضم والفتح-: الانفراد، وقيل: الغفلة، وقد يَتِمَ الصبي -بالكسر- وييتم فهو يتيم، والأنثى ¬

_ (¬1) وأخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 185 رقم 2185)، والدارقطني في "سننه" (3/ 241 رقم 74)، وابن حبان في "صحيحه" (9/ 396 رقم 4085)، والحاكم في "مستدركه" (2/ 180 رقم 2702) من طريق يونس بن أبي إسحاق، به.

يتيمة، وجمعها أيتام ويتامى، وقد يجمع اليتيم على يُتَامى كأسير وأسارى، وإذا بلغا زال عنهما اسم اليتم حقيقة وقد يطلق عليهما مجازًا بعد البلوغ باعتبار ما كان، كما كانوا يسمون النبي -عليه السلام- وهو كبير يتيم أبي طالب؛ لأنه ربَّاه بعد موت أبيه. وأراد باليتيمة هاهنا البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها، فلزمها اسم اليتم، فدعيت به وهي بالغة مجازًا، وقيل: المرأة لا يزول عنها اسم اليتم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت ذهب عنها، ومنه حديث الشعبي: "أن امرأة جاءت إليه، فقالت: إني امرأة يتيمة، فضحك أصحابه، فقال: النساء كلهن يتامى" أي ضعائف ثم معنى اليتم بين الناس فقد الصبي أباه قبل البلوغ، وفي الدواب فقد الأم. ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اليتيمة تستأمر، فإن رضيت فلها رضاها، وان أنكرت فلا جواز عليها". حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما قد ذكروا غير مرة، وأبو سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا أبو كامل، ثنا يزيد بن زريع. ونا موسى بن إسماعيل، نا حماد -المعني قال يزيد-: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "تستأمر اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهذا إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها". وأخرجه الترمذي (¬2): عن قتيبة، عن عبد العزيز الدراوردي، عن محمد بن ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 231 رقم 2093). (¬2) "جامع الترمذي" (3/ 417 رقم 1109).

عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اليتيمة تستأمر، في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها". وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن. وأخرجه النسائي (¬1): عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- نحوه. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن للرجل أن يزوج ابنته البكر البالغ بغير أمرها ولا استئذانها ممن رأى، ولا رأي لها في ذلك معه عندهم، قالوا: ولما قصد النبي -عليه السلام- في الأثرين المذكورين في أول هذا الباب بما ذكرنا فيهما من الصمات والمحكوم له بحكم الإذن إلى اليتيمة، وهي التي لا أب لها، دَلَّ ذلك على أن ذات الأب في ذلك بخلافها، وأن أمر أبيها عليها أوكد من أمر سائر أوليائها بعد أبيها، وممن ذهب إلى هذا القول مالك بن أنس -رحمه الله-. ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وإبراهيم النخعي والليث بن سعد وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: يجوز للرجل أن يزوج ابنته البكر البالغ رضيت بذلك أو لم ترض، وممن قال بذلك: مالك بن أنس. وقال أبو عمر (¬2): أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة ولا يشاورها؛ لتزويج رسول الله -عليه السلام- عائشة - رضي الله عنها - وهي بنت ست سنين، إلا أن العراقيين قالوا: لها الخيار إذا بلغت، وأبى ذلك أهل الحجاز، واختلفوا في الأب هل يجبر ابنته الكبيرة على النكاح أم لا؟ فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: إذا كانت المرأة بكرًا؛ كان لأبيها أن يجبرها على النكاح ما لم يكن ضررًا بيِّنًا، وسواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ وبه قال أحمد وإسحاق. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (6/ 87 رقم 3270). (¬2) "التمهيد" (19/ 98).

وقال ابن قدامة (¬1): قال ابن المنذر: أجمع كل من حفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوجها من كفؤ، يجوز له تزويجها مع كراهتها وامتناعها، وأما البكر البالغة العاقلة فعن أحمد روايتان: إحداهما: له إجبارها على النكاح، ويزوجها بغير إذنها كالصغيرة، وهذا مذهب مالك، وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق. والثانية: ليس له ذلك، واختارها أبو بكر، وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي وابن المنذر. وفي "المحلى" (¬2) قال ابن شبرمة: لا يجوز إنكاح الأب ابنته الصغيرة إلا حتى تبلغ وتأذن، ورأى أمر عائشة - رضي الله عنها - خصوصًا للنبي -عليه السلام-. قوله: "وقالوا" أي هؤلاء القوم، وهذا إشارة إلى وجه استدلالهم بحديث أبي موسى وأبي هريرة المذكورين فيما مضى فيما ذهبوا إليه، وهو استدلال بالمفهوم المخالف، وهو ليس بحجة فافهم. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس لولي البكر أبًا كان أو غيره أن يزوجها إلا بعد استئمارها. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والثوري والحسن بن حَيّ وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية، وهي اختيار أبي بكر من أصحابه- وأبا عبيد، وأبا ثور وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: ليس للأب أن يجبر ابنته البالغة على زواجها، ولا يزوجها إلا بإذنها، وكذلك غير الأب من أوليائها، والأصل في هذا الموضع أن علة الإجبار الصغر عند هؤلاء، والبكارة عند أهل المقالة الأولى، فتُجْبر البكر عندهم وإن كانت بالغة، ولا تُجْبر الثيب وإن كانت صغيرة، وأما البكر الصغيرة فتجبر إجماعًا، والثيب الكبيرة لا تجبر إجماعًا. ¬

_ (¬1) "المغني" (7/ 379). (¬2) "المحلى" (9/ 459).

ص: وقالوا: ليس في قصد النبي -عليه السلام- في الأثرين المرويين في ذلك في أول هذا الباب إلى اليتيمة ما يدل أن غير اليتيمة في ذلك على خلاف حكم اليتيمة، قد يجوز أن يكون أراد بذلك سائر الأبكار اليتامى وغيرهن، وخص اليتيمة بالذكر؛ إذ كان لا فرق بينها في ذلك وبين غيرها؛ ولأن السامع ذلك منه في اليتيمة البكر يستدل به على حكم البكر غير اليتيمة، وقد رأينا مثل هذا في القرآن، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما حرم من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (¬1) فذكر الربيبة التي في حجر الزوج، فلم يكن ذلك على تحريم الربيبة التي في حجر الزوج دون الربيبة التي هي أكبر منه، بل كان التحريم عليهما جميعًا، فكذلك ما ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام- في البكر اليتيمة ليس على اليتيمة البكر خاصة، بل هو على البكر اليتيمة وغير اليتيمة، وكان ما سمع أصحاب رسول الله -عليه السلام- من ذلك في اليتيمة البكر دليلًا لهم أن ذات الأب فيه كذلك، إذا كانوا قد علموا أن البكر قبل بلوغها إلى أبيها عقد البياعات على أموالها وعقد النكاح على بِضْعِها، ورأوا بلوغها يرفع ولاية أبيها عليها في العقود على أموالها، فكذلك يرفع عنها العقود على بِضْعها. ش: أي قال هؤلاء الآخرون. . . . إلى آخره، وهذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى في الحديثين [. . . .] (¬2). ص: ومع هذا فقد روى أهل هذا المذهب لمذهبهم آثارا احتجوا له بها، غير أن في بعضها طعنا على مذهب أهل الآثار وأكثرها سليم من ذلك، وسنأتي بها كلها وبعللها وفساد ما يفسده أهل الآثار منها في هذا الباب إن شاء الله تعالى. فمما روي في ذلك مما طعن فيه أهل الآثار: ما حدثنا أبو أمية ومحمد بن علي بن داود، قالا: ثنا الحسين بن محمد المروزي، قال: ثنا جرير بن ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: [23]. (¬2) طمس في "الأصل، ك".

حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رجلًا زوج ابنته وهي بكر وهي كارهة، فأتت النبي -عليه السلام- فخيرها". فكان من طعن من يذهب إلى الآثار والتمييز بين رواتها وتثبيت ما روى الحافظ منهم وإسقاط ما روى من هو دونه: أن قالوا: هكذا روى هذا الحديث جرير بن حازم، وهو رجل كثير الغلط، وقد رواه الحفاظ عن أيوب على غير ذلك، منهم سفيان الثوري وحماد بن زيد وإسماعيل بن علية، فذكروا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن ابن عبد الوهاب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أيوب السختياني، عن عكرمة: "أن النبي -عليه السلام- فرق بين رجل وبين امرأته زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبًا". فثبت بذلك عندهم خطأ جرير في هذا الحديث من وجهين: أما أحدهما: فإدخاله ابن عباس فيه، وأما الآخر: فذكره أنها كانت بكرًا، وإنما كانت ثيبًا. ش: أي ومع ما ذكرنا من الدليل لأهل المقالة الثانية "فقد روى أهل هذا المذهب" وأراد بهم: أهل المقالة الثانية "لمذهبهم آثارًا"، أي أحاديث "احتجوا له"، أي لمذهبهم "بها" أي بهذه الآثار، وأراد بذلك أنهم لم يكتفوا بالجواب عن حديثي أبي موسى وأبي هريرة وبمنعهم استدلال أهل المقالة الأولى بذلك، بل مع هذا رووا أحاديث وآثارًا لما ذهبوا إليه من عدم جواز إجبار الأب ابنته البالغة على زواجها. قوله: "غير أن في بعضها" أي في بعض الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الثانية "طعنا على مذهب أهل الآثار" وأراد بذلك من جهة حال الإسناد والمتن، فإن أهل الآثار مذهبهم في هذين الفصلين بخلاف مذهب الفقهاء؛ فإن أكثرهم يحتجون بالآثار ولا يتعرضون للإسناد ولا للمتن، فلذلك قال: "على مذهب أهل الآثار". قوله: "وأكثرها سليم من ذلك" أي وأكثر الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الثانية سليم من الطعن على مذهب أهل الآثار، وإن كانوا قد طعنوا في بعضها.

قوله: "وسنأتي بها" أي بالآثار والأحاديث التي رويت في هذا الباب "مع بيان عللها وبيان فساد ما يفسده أهل الآثار منها" أي من الآثار المروية "في هذا الباب إن شاء الله تعالى". قوله: "فمما رووا في ذلك" أي فمن الآثار التي روى أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه مما طعن فيه أهل الآثار: ما حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، ومحمد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، كلاهما عن الحسين بن محمد المروذي نزيل بغداد روى له الجماعة، نسبته إلى مروالروذ، يروي عن جرير بن حازم البصري روى له الجماعة، عن أيوب السختياني روى له الجماعة، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره، عن ابن عباس. وأخرجه أبو داود (¬1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا حسين بن محمد، قال: ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن جارية بكرًا أتت النبي -عليه السلام- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها". قوله: "فكان من طعن. . . . إلى آخره" إشارة إلى بيان طعن أهل الآثار في الحديث المذكور. قوله: "أن قالوا" في محل النصب على أنه خبره و"أن" مصدرية. وقوله: "من هو دونه" أي دون الحافظ، وحاصل هذا الطعن في حديث ابن عباس المذكور من وجهين: أحدهما: أن جرير بن حازم رجل كثير الغلط، وقد أدخل في هذا الحديث ابن عباس فجعله متصلًا، وهو مرسل منقطع، أشار إليه بقوله: "وقد رواه الحفاظ عن أيوب على غير ذلك" أي على غير ما رواه جرير بن حازم يعني رواه الحفاظ منقطعًا، منهم: سفيان الثوري، وحماد بن زيد، وإسماعيل ابن علية؛ فإنهم رووه عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 232 رقم 2096).

أما الذي رواه سفيان، عن أيوب، عن عكرمة عن النبي -عليه السلام-: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الرحمن بن عبد الوهاب البصري، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أيوب، عن عكرمة: "أن النبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره. وأما الذي رواه حماد بن زيد عن أيوب: فأخرجه أبو داود (¬1): ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي -عليه السلام- بهذا الحديث، ولم يذكر ابن عباس. قال أبو داود: وكذلك يروى مرسلًا معروف. الوجه الثاني: أن جريرًا ذكر أن المرأة المذكورة كانت بكرًا، وإنما كانت ثيِّبًا، وقد أشار إلى الوجهين المذكورين بقوله: "فثبت بذلك عندهم خطأ جرير في هذا الحديث من وجهين". ولما أخرج البيهقي هذا الحديث في "سننه" (¬2) قال: أخطأ فيه جرير على أيوب، والمحفوظ مرسل. قال: وروي أيضًا (¬3) موصولًا: أنا طلحة بن علي، أنا الشافعي، نا محمد بن سعيد القاضي بعسقلان، ثنا أبو سلمة المسلم بن محمد الصنعاني، ثنا عبد الملك ابن عبد الرحمن الذماري، ثنا الثوري عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان". قال الدارقطني (¬4): هذا وهم والصواب عن يحيى، عن المهاجر، عن عكرمة مرسل، وَهِمَ فيه الذماري وليس بالقوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 232 رقم 2097). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 117 رقم 13447). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 117 رقم 13449). (¬4) "سنن الدارقطني" (3/ 234 رقم 53).

قال البيهقي (¬1): وهو في "جامع الثوري" مرسلًا، وكذا رواه عامة أصحابه عنه، وكذا رواه غير الثوري عن هشام. قلت: هذا الذي ذكره الطحاوي عنهم وسكت عن ذلك فكأنه رضي به أو لم يظفر بما يرد به عليهم، فنقول: جرير بن حازم ثقة جليل من رجال "الصحيح" وقد زاد الرفع فلا يضره إرسال من أرسله، وكيف وقد تابعه الثوري وزيد بن حبان فروياه عن أيوب كذلك مرفوعًا، كذا قال الدارقطني. وأخرج رواية زيد كذلك النسائي (¬2) وابن ماجه (¬3) في "سننهما" من حديث معمر بن سليمان، عن زيد، عن أيوب. والرواية التي ذكرها البيهقي (¬4) عن طلحة بن علي تشهد لهذه الرواية بالصحة. على أن في سند الرواية الذماري، وقد قال البيهقي عن الدارقطني: إنه ليس بالقوي. قلت: الذماري روى له الحاكم في "مستدركه" وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر صاحب "الكمال" عن عَمْرو بن علي أنه وثقه [. . . .] (¬5) هذا متصلًا من طريق النسائي، عن محمد بن داود، عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس. . . الحديث، وحكم له بالصحة. ص: ومما روي في ذلك أيضًا ما حدثنا أحمد بن أبي عمران، وإبراهيم بن أبي داود، وعلي بن عبد الرحمن، قالوا: ثنا أبو صالح الحكم بن موسى، قال: ثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلًا زوج ابنته وهي بكر بغير أمرها، فأتت النبي -عليه السلام- ففرق بينهما". ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 117 رقم 13450). (¬2) "السنن الكبرى" (3/ 284 رقم 5388). (¬3) "سنن ابن ماجه" (1/ 602 رقم 1873). (¬4) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 117 رقم 13449). (¬5) طمس في "الأصل، ك".

ش: أي ومن الذي روي في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله أخرجه [. .] (¬1). وأخرجه الدارقطني (¬2): نا أبو محمد بن صاعد، نا الحسن بن محمد الزعفراني وأحمد بن منصور والعباس بن محمد وأبو إبراهيم الزهري. وحدثنا ابن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري، وأحمد بن صالح الصوفي وغيرهم، قالوا: نا الحكم بن موسى، نا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر: "أن رجلًا زوج ابنته بكرًا ولم يستأذنها، فأتت النبي -عليه السلام- فرد نكاحها". لفظ أبي بكر: وقال ابن صاعد: "وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي -عليه السلام- ففرق بينهما". ص: فكان من حجة من يذهب في ذلك إلى تتبع الأسانيد: أن هذا الحديث لا نعلم أن أحدًا ممن رواه عن شعيب ذكر فيه جابرًا غير أبي صالح هذا، فممن رواه فأسقط منه جابرًا: علي بن معبد. حدثنا محمد بن عباس، عن علي بن معبد، عن شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن النبي -عليه السلام- مثله، ولم يذكر جابرًا. وقد رواه عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، فبين من فساد هذا الحديث أكثر من هذا. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، عن النبي -عليه السلام- بذلك. . . . فصار هذا الحديث عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء. وإبراهيم بن مرة هذا ضعيف الحديث، ليس عند أهل الآثار من أهل العلم أصلًا. ¬

_ (¬1) طمس في "الأصل، ك". (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 233 رقم 48).

ش: أي فكان من دليل أهل التتبع في أسانيد الأحاديث: أن هذا الحديث مرسل منقطع، لا نعلم أن أحدًا من الرواة الذين رووا عن شعيب بن إسحاق ذكر فيه جابر بن عبد الله غير أبي صالح الحكم بن موسى، وبَيَّن ذلك بقوله: "فممن رواه فأسقط منه جابرًا: علي بن معبد بن شداد الرقي". أخرجه عن محمد بن عباس، عن علي بن معبد، عن شعيب بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن النبي -عليه السلام- نحوه، ولم يذكر جابر بن عبد الله. وكذا أخرجه أبو المغيرة، عن الأوزاعي. قال الدارقطني (¬1): ثنا عبد الغافر بن سلامة، ثنا عيسى بن خالد، ثنا أبو المغيرة، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال: "فرق رسول الله -عليه السلام- بين امرأة وزوجها، وهي بكر أنكحها أبوها وهي كارهة" وأشار الطحاوي إلى فسادٍ آخر: في إسناده ضعف أقوى من الأول بقوله: "وقد رواه عمرو بن أبي سلمة. . . . إلى آخره". أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة الدمشقي، عن عطاء، عن النبي -عليه السلام- نحوه. وأخرجه الدارقطني (¬2): ثنا ابن مخلد، نا أبو بكر بن صالح، نا نعيم بن حماد، ثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح: "أن رجلًا زوج ابنته. . . ." فذكر نحوه، ثم قال الدارقطني: الصحيح مرسل، وقول شعيب وَهْم. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 234 رقم 52). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 233 رقم 49).

وقال البيهقي (¬1): وسئل أبو علي عن حديث شعيب بن إسحاق، فقال: لم يسمعه الأوزاعي من عطاء، وهو في الأصل مرسل، رواه الثقات عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء مرسلًا، وذكره الأثرم لأحمد فأنكره. ص: ومما رووا في ذلك مما لا طعن لأحد فيه: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره. وحدثنا إبراهيم بن مرزوق وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا القعنبي عبد الله بن مسلمة. وحدثنا محمد بن العباس، قال: ثنا القعنبي وإسماعيل بن سلمة، قالا: ثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها". وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا يوسف عدي، قال: ثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن عبد الله بن موهب، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس عن النبي -عليه السلام- مثله. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن موهب. . . . فذكر بإسناده مثله. وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، سمع نافع بن جبير يحدث، عن ابن عباس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها". ش: أي ومما روى أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من الأحاديث التي لا طعن لأحد فيها لأجل صحة إسناده ومتنه: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 117 رقم 13452).

وأخرجه من ستة طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه مالك (¬1) في "موطإه". وابن ماجه (¬2): عن إسماعيل بن موسى السدي، عن مالك. الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق وصالح بن عبد الرحمن الأنصاري، كلاهما عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك. وأخرجه أبو داود (¬3): عن القعنبي، عن مالك. الثالث: عن محمد بن العباس بن الربيع المصري، عن إسماعيل بن مسلمة ابن قعنب القعنبي وعبد الله بن مسلمة المذكور، عن مالك. وأخرجه الترمذي (¬4) والنسائي (¬5) كلاهما عن قتيبة، عن مالك. الرابع: عن الحسين بن نصر، عن يوسف بن عدي. . . . إلى آخره. وأخرجه الطحاوي في باب: "النكاح بغير ولي" بعين هذا الإسناد، وقد ذكرنا هناك أن الطبراني أخرجه بهذا الإسناد (¬6). ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 524 رقم 1092). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 601 رقم 1870). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 232 رقم 2098). (¬4) "جامع الترمذي" (3/ 416 رقم 1108). (¬5) "المجتبى" (6/ 84 رقم 3260). (¬6) تقدم تخريجه.

وأخرجه الدارقطني (¬1) أيضًا: ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا العباس بن محمد، ثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الأيم أحق بأمرها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وصمتها إقرارها". الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن عبيد الله بن عبد الله بن موهب، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس عن النبي -عليه السلام-، نحوه. السادس: عن ربيع أيضًا، عن أسد، عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، الخراساني نزيل مكة، عن عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬2): نا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، سمع نافع بن جبير يخبر، عن ابن عباس، أن النبي -عليه السلام- قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها سكوتها"، وفي رواية له: "والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها"، وربما قال: "وصمتها إقرارها". وأخرجه أبو داود (¬3): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان، عن زياد بن سعد، عن ابن الفضل، نحوه. والنسائي (¬4): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن زياد بن سعد. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 242 رقم 78). (¬2) "صحيح مسلم" (2/ 1037 رقم 1421). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 232 رقم 2099). (¬4) "المجتبى" (6/ 85 رقم 3264).

وقال أبو عمر: اختلف في لفظ هذا الحديث، فبعضهم يقول: "الأيم أحق بنفسها"، وبعضهم يقول: "الثيب"، والذي في "الموطأ": "الأيم"، وقد يمكن أن يكون من قال: "الثيب"، قد جاء به على المعنى، وهذا موضع اختلف فيه العلماء وأهل اللغة، فقال قائلون: الأيم هي التي آمت من زوجها بموته أو طلاقه، وهي الثيب وبه قال الشافعي، واحتجوا بقول الشاعر: فقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساءٌ كئيرةٌ ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم قالوا: يعني ليست منهن من قتل زوجها. وهذا الشعر لرجل من بني أسد قاله يوم القادسية حين كان سعد بن أبي وقاص عليلًا مقيمًا في قصره لم يقدر على النزول، ولم يشرف على القتال. وقال يزيد بن الحكم الثقفي: كلُّ امرئ ستئيم منـ ... ـه العرِسُ أو منها يئيمُ يريد سيموت عنها أو تموت عنه. وقال الآخرون الأيم كل من لا زوج لها من النساء، وكذلك رجل لا امرأة له أيم وهذا قول مالك وأبو حنيفة وقال آخرون: الأيم امرأة لا زوج لها بكر كانت أو ثيبًا، واستشهدوا بقول الشاعر وهو أمية بن أبي الصلت: لله دَرُّ بَنِي علي ... أيم منهم وناكح إن لم يغيروا غارةً ... شعواء بحجر كل نابحٍ وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب: "النكاح بغير ولي عصبة". ص: فلما كانت الأيم المذكورة في الحديث هي التي وليها أيّ ولي كان من أب أو غيره، كانت كذلك البكر المذكورة فيه هي البكر التي وليها أي ولي كان من أب أو غيره.

ش: أراد أن لفظة الأيم بعمومها تتناول من كان وليها أباها أو غيره فكذلك لفظة البكر بعمومها تتناول من كان وليها أباها أو غيره فإذا كان كذلك فالثيب البالغة لا يجبرها أحد مطلقًا على زواجها، وكذلك البكر البالغة، كما مر مستقصى مع بيان الخلاف فيه. ص: وقد روى هذا الحديث صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير بلفظ غير هذا اللفظ. حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للأب مع الثيب أمر، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها". فهذا معناه ومعنى الأول سواء، والبكر المذكورة في هذا الحديث هي البكر ذات الأب، كما الثيب المذكورة فيه كذلك، فهذا ما روي لنا في هذا الباب عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-. ش: أشار بهذا الحديث إلى حديث ابن عباس المذكور. أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان. . . . إلى آخره. وأخرجه أبو داود (¬1): عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن صالح، عن نافع، عن ابن عباس. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر. . . . إلى آخره. وأخرجه البيهقي (¬3): من حديث ابن المبارك، عن معمر، نحو رواية الطحاوي، ثم قال: قال الدارقطني (¬4) وغيره: أخطأ فيه معمر، واستدل عل خطئه برواية ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 233 رقم 2100). (¬2) "المجتبى" (6/ 85 رقم 3263). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 118 رقم 13458). (¬4) "سنن الدارقطني" (3/ 239 رقم 65).

ابن إسحاق وسعيد بن سلمة، عن صالح، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: "الأيم أحق بنفسها من وليها، واليتيمة تستأذن في نفسها، وإذنها السكوت". وقال الدارقطني في "سننه" (¬1): صالح لم يسمعه من نافع بن جبير، وإنما سمعه من عبد الله بن الفضل عنه، اتفق على ذلك ابن إسحاق وسعيد بن سلمة، عن صالح. قلت: سماع صالح بن كيسان عن نافع بن جبير صحيح، ذكره صاحب "الكمال" وغيره، ومعمر بن راشد ثقة جليل حتى قيل: إنه أثبت في الزهري من ابن عيينة، فلا يستدل عل خطئه برواية من هو دونه. ثم اعلم أن قوله -عليه السلام-: "البكر تستأمر" صريح في أن الأب لا يجبر البكر البالغة، ويدل عليه أيضًا حديث جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، المذكور فيما مضى. وترك الشافعي منطوق هذه الأدلة واستدل بمفهوم حديث الثيب أحق بنفسها، وقال: هذا يدل على أن البكر بخلافها، وقال ابن رشد: العموم أولى من المفهوم بلا خلاف؛ لاسيما وفي حديث مسلم: "البكر يستأمرها أبوها" وهو نص في موضع الخلاف. وقال ابن حزم (¬2): لا نعلم لمن أجاز على البكر البالغة إنكاح أبيها لها بغير رضاها متعلقًا أصلًا. وذهب ابن جرير الطبري أيضًا إلى أن البكر البالغة لا تجبر، وأجاب عن حديث: "الأيم أحق بنفسها" بأن الأيم من لا زوج لها، رجلًا كان أو امرأة، بكرًا أو ثيبًا، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬3) وكرر ذكر البكر ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 239 رقم 66). (¬2) "المحلى" (9/ 461). (¬3) سورة النور، آية: [32].

بقوله: "والبكر تستأمر وإذنها صماتها" للفرق بين الإذنين: إذن الثيب، وإذن البكر، ومن أول الأيم بالثيب أخطأ في تأويله، وخالف سلف الأمة وخلفها في إجازتهم لوالد الصغيرة تزويجها بكرًا كانت أو ثيبًا من غير خلاف. وقال صاحب "التمهيد": قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن حيّ وأبو ثور وأبو عبيد: لا يجوز للأب أن يزوج ابنته البالغة بكرًا كانت أو ثيبًا إلا بإذنها والأيم التي لا بعل لها وقد تكون إن بكرًا أو ثيبًا، لحديث: "الأيم أحق بنفسها" وحديث: "لا تنكح البكر حتى تستأذن" على عمومها، خص منها الصغيرة لعقد عائشة - رضي الله عنها -. فإن قيل: قال البيهقي (¬1): حديث ابن عباس: "يستأمرها أبوها" يبين أن الأمر إلى الأب في البكر، وقال الشافعي: زاد ابن عيينة في حديثه: "البكر يزوجها أبوها" والمؤامرة قد تكون على استطابة النفس؛ لأنه يروى أن النبي -عليه السلام- قال: "وأَمِّروا النساء في بناتهن" ثم رواه من حديث معاوية بن هشام عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية، حدثني الثقة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَمِّرُوا النساء في بناتهن". قلت: "يزوجها أبوها" ليس في شيء من الحج المتداولة، ولم يذكر الشافعي سنده لننظر فيه، وحمل المؤامرة على استطابة النفس خروج عن الظاهر من غير دليل، بل قوله: "يستأمرها أبوها" خبر في معنى الأمر، وحديث: "لا تنكح البكر حتى تستأمر" يدل على ذلك، وكذا قوله -عليه السلام-: "إنكاح الأب" في حديث جرير بن حازم وغيره، ولو ساغ هذا التأويل لساغ في قوله -عليه السلام- في "الصحيح": "لا تنكح الثيب حتى تستأمر" وأما حديث: "وأمروا النساء في بناتهن" فليس بحجة عند أهل الحديث حتى يسمى الثقة الذي في سنده، ولو صح فقد عدل فيه عن الظاهر للإجماع، فلا يعدل عن الظاهر في غيره من الأحاديث. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (7/ 115 رقم 13441).

ص: وأما عائشة - رضي الله عنها - فقد روي في ذلك عنها عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ذكوان مولى عائشة: سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول: "سألت رسول الله -عليه السلام- عن الجارية ينكحها أهلها أتستامر أم لا؟ قال: نعم تستأمر، فقلت: فإنها تستحي فتسكت، قال: فذاك إذنها إذا هي سكتت". فهذا رسول الله -عليه السلام- قد سوى بين أهل البكر جميعًا في تزويجها ولم يفصل في ذلك بين حكم أبيها ولا بين حكم غيره من سائر أهلها. ش: إسناده صحيح، وأبو بشر الرقي عبد الملك بن مروان، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله ابن أبي مليكة المكي، وذكران أبو عمرو مولى عائشة من رجال الصحيحين. والحديث أخرجه مسلم (¬1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج. ونا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، جميعًا عن عبد الرزاق -واللفظ لابن رافع- قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا ابن جريج. . . . إلى آخره نحوه. ص: وأما أبو هريرة - رضي الله عنه - فروي عنه في ذلك عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن، قالوا: وكيف إذنها يا رسول الله؟ قال: الصمت". حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الوهاب، عن وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير. . . . فذكر بإسناده مثله. حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2/ 1037 رقم 1420).

وحدثنا محمد بن الحجاج وربيع المؤذن، قالا: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله -عليه السلام- مثله. ش: أخرج حديث أبي هريرة من أربع طرق صحاح: الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري (¬1): عن معاذ بن فضالة وعن مسلم بن إبراهيم، كلاهما عن هشام، عن يحيى. . . . إلى آخره نحوه. الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الرحمن بن عبد الوهاب العمي البصري، عن وكيع بن الجراح، عن علي بن المبارك الهنائي، عن يحيى بن أبي كثير. . . . إلى آخره. وأخرجه مسلم (¬2): عن خالد بن الحارث، عن هشام، عن يحيى نحوه. والنسائي (¬3) عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن هشام، عن يحيى نحوه. الثالث: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن ماجه (¬4): عن دحيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5/ 1974 رقم 4843). (¬2) "صحيح مسلم" (1/ 1036 رقم 1419). (¬3) "المجتبى" (6/ 86 رقم 3267). (¬4) "سنن ابن ماجه" (1/ 601 رقم 1871).

يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت". الرابع: عن محمد بن الحجاج الحضرمي وربيع بن سليمان المؤذن كلاهما، عن بشر بن بكر التنيسي، عن الأوزاعي، عن يحيى. وأخرجه الترمذي (¬1): عن إسحاق بن منصور، عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، عن يحيى. . . . إلى آخره. ص: فقد جمع في ذلك بين سائر الأولياء ولم يجعل للأب في ذلك حكمًا زائدًا على حكم من سواه منهم، فدل أن المعنى الذي ذكرناه في حديث أبي هريرة الذي رويناه عن محمد بن عمرو في أول هذا الباب كما ذكرنا؛ ليوافق معناه معنى هذا الحديث ولا يضاده، ولئن كان هذا الأمر يؤخذ من طريق فضل بعض الرواة على بعض في الحفظ والإتقان والجلالة، فإن يحيى بن أبي كثير أجل من محمد بن عمرو وأتقن وأحج، لقد فضله أيوب السختياني على أهل زمان ذكره فيه. حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل المنقري، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: سمعت أيوب يقول: "ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير". وليس محمد بن عمرو عندهم في هذه المرتبة ولا قريب منها، بل قد تكلم فيه جماعة منهم مالك، فروي عنه ما حدثني أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن داود المنقري، قال: ثنا عبد الرحمن بن عثمان البكراوي، قال: كنت عند مالك بن أنس فَذُكِرَ عنده محمد بن عمرو، فقال: حمّلوه -يعني الحديث- فتحمل. ش: أي فقد جمع هذا الحديث في الحكم المذكور بين سائر الأولياء؛ لأن اللفظ عام شامل للكل. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3/ 415 رقم 1107).

قوله: " فدل أن المعنى الذي ذكرناه في حديث أبي هريرة" أشار به إلى وجه التوفيق بين حديثي أبي هريرة: أحدهما: ما رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. والآخر: ما رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قوله: "ولئن كان هذا الأمر" أي الاستدلال بالأحاديث، والباقي ظاهر. ص: وأما عدي الكندي فروي عنه في ذلك عن النبي -عليه السلام- ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني الليث بن سعد، عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه عدي، عن رسول الله -عليه السلام- قال: "الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها". حدثنا بحر، عن شعيب، عن الليث. . . بإسناده نحوه. حدثنا يحيى بن عثمان، قال: ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عدي بن عدي، عن أبيه، عن العُرس وهو ابن عميرة، وكان من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، عن رسول الله -عليه السلام-، مثله. فهذا كنحو ما روى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي -عليه السلام-. فهذا تصحيح الآثار في هذا الباب، فدل أن أب البكر لا يزوجها بعد بلوغها إلا كما يزوجها سائر أوليائها بعده، وقد قدمنا من ذكر النظر في ذلك في أول هذا الباب ما يغنينا عن إعادته هاهنا، فبذلك كله نأخذ -أي لا يزوج أب البكر ابنته البكر البالغ إلا بعد استئماره إياها في ذلك، وعند صماتها عند ذلك الاستئمار، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: عدي هو ابن عميرة الكندي أبو زرارة له صحبة.

وأخرج حديثه من ثلاث طرق: الأولان: عن نفسه عن النبي -عليه السلام-. والثالث: عنه عن أخيه العرس بن عميرة الكندي وهو أيضًا صحابي. أما الأول: فأخرجه (¬1). بإسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال، وإبراهيم بن نعيم بن عبد الله النحام وثقه ابن حبان، وأبوه نعيم بن عبد الله النحام القرشي العدوي الصحابي، والنَّحَّام -بفتح النون وتشديد الحاء المهملة- لقب عبد الله، وإنما سمي به لأن النبي -عليه السلام- قال: "دخلت الجنة فسمعت نحمة من نعيم" والنحمة السعلة وقيل: النحنحة الممدود آخرها، فبقى عليه. قوله: "لأترب لحمى" من ترب الشئ إذا لطخه بالتراب. قوله: "مكان هوى أمها" أي ميلها. ص: قيل لهم: لو كان هذا الحديث صحيحا ثابتا على ما روينا، وكيف يكون ذلك كذلك وقد رواه الليث بن سعد فخالف عبد الله بن لهيعة في إسناده ومتنه. حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن إبراهيم بن صالح بن عبد الله -واسمه الذي يعرف به: نعيم النحام، ولكن سماه رسول الله -عليه السلام- صالحًا- أنه أخبره أن عبد الله بن عمر قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "اخطب عليَّ ابنة صالح، فقال له: إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - ليخطب عليه، فانطلق زيد إلى صالح فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال: لي يتامى ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، إني أشهدك أني قد أنكحتها فلانا، وكان هوى أمها في عبد الله بن ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل، ك" بمقدار لوحة.

عمر، فأتت رسول الله -عليه السلام-: يا نبي الله، خطب عبد الله بن عمر ابنتي فأنكحها أبوها يتيمًا لي في حجره ولم يؤامرها، فأرسل رسول الله -عليه السلام- إلى صالح فقال: أنكحت ابنتك ولم تؤامرها؟ فقال: نعم، فقال رسول الله -عليه السلام-: أشيروا على النساء في أنفسهن وهن بكر، فقال: إنما فعلت هذا لما يصدقها ابن عمر؛ فإن لها في مالي مثل ما أعطاها". ففي هذا الحديث خلاف ما في الحديث الأول من الإسناد ومن المتن جميعًا؛ لأن هذا الحديث إنما هو موقوف على إبراهيم بن صالح، والأول قد جوز به إبراهيم بن صالح إلى أبيه وإلى ابن عمر، فقد كان ينبغي على مذهب هذا لمخالف لنا أن يجعل ما رواه الليث بن سعد في هذا أولى مما روى عبد الله بن لهيعة لتثبت الليث وضبطه، وقلة تخليط حديثه ولما في حديث عبد الله بن لهيعة من ضد ذلك. وأما ما في متن هذا الحديث مما يخالف حديث عبد الله بن لهيعة: فإن فيه أن رسول الله -عليه السلام- قال لنعيم لما بلغه ما عقد على ابنته من النكاح بغير رضاها: "أشيروا على النساء في أنفسهن" فكان بذلك رادًّا على نعيم؛ لأن نعيما لم يشاور ابنته في نفسها؛ فهذا خلاف ما في حديث عبد الله بن لهيعة. ش: أي قيل لهولاء القوم، وأراد به الجواب عن الحديث المذكور، وهو في الحقيقة على وجهين: الأول: بطريق المنع، وهو أن يقال: هذا الحديث في سنده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف عندكم، فحديثه ليس بصحيح، فلا يتم به استدلالكم. الثاني: على طريق التسليم، وهو أن يقال: قد روى هذا الحديث من هو أضبط وأثبت وأقوى من ابن لهيعة فخالفه في متنه وإسناده، وهو الليث بن سعد. أخرجه عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن أبيه

الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن إبراهيم بن صالح بن عبد الله، وصالح بن عبد الله هذا هو نعيم بن عبد الله النحام المذكور، وكان اسمه نعيمًا فسماه النبي -عليه السلام- صالحًا ولكن شهرته بنعيم النحام، أنه أخبره، أن عبد الله بن عمر. . . . إلى آخره، وبقية الكلام ظاهرة لا تخفى. وأخرج البيهقي (¬1): من حديث محمد بن راشد، عن مكحول، عن سلمة بن أبي سلمة، عن أبيه: "أن ابن عمر - رضي الله عنهما - خطب إلى نعيم بن النحام ابنته وهي بكر، فقال له نعيم: إن في حجري يتيمًا لي لست مؤثرًا عليه أحدًا فانطلقت أم الجارية امرأة نعيم إلى رسول الله -عليه السلام-، فقالت: إن ابن عمر خطب ابنتي، وإن نعيمًا رده، وأراد أن ينكحها يتيمًا له، فأرسل إلى نعيم فقال له النبي -عليه السلام-: ارضها وارض بنتها". قال البيهقي (¬2): ورويناه، عن عروة، عن ابن عمر. قال الشافعي: لم يختلف الناس أنه ليس لأمها أمر، لكن على معنى استطابة النفس. قلت: هذا كلام عدل به عن حقيقته بلا دليل، فلا يسمع. قوله: "والأول قد جوز به إبراهيم بن صالح" أراد أنه عَدَّى الحديث عنه إلى أبيه وإلى ابن عمر، فكان مرفوعًا. ص: فإن قال قائل: فليس في هذا الحديث أن النبي -عليه السلام- فسخ النكاح. قيل له: ذلك عندنا والله أعلم لأن ابنة نعيم لم تحضر إلى النبي -عليه السلام- فتسأله ذلك، وإنما كان الذي حضر أمها لا عن توكيل منها إياها بذلك، حتى كانت عند النبي -عليه السلام- يجب لها به الكلام عنها، فكان من رسول الله -عليه السلام- ما كان من الكلام لنعيم على جهة التعليم، فلم يفسخ النكاح إذ كان ذلك من جهة القضاء، وإن كان القضاء لا يجب إلا لحاضر، باتفاق المسلمين جميعًا. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي" (7/ 116 رقم 13443). (¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 116 رقم 13443).

ولقد روى الوليد بن مسلم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا زوج ابنته وهي بكر وهي كارهة، فرد النبي -عليه السلام- نكاحه عنها". فكيف يجوز أن يحمل حديث نعيم النحام على ما رواه عبد الله بن لهيعة، إذ كان قد رده إلى عبد الله بن عمر، وهذا نافع فقد روى عن ابن عمر خلاف ذلك. ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تستدلون بحديث الليث بن سعد المذكور على ما ذهبتم إليه؟ وليس فيه أنه -عليه السلام- فسخ النكاح، ولو كان الأمر كما قلتم لكان -عليه السلام- فسخ النكاح. والجواب عنه ما ذكره بقوله: "قيل له. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر. قوله: "ولقد روى الوليد بن مسلم. . . . إلى آخره" ذكره تأييدًا لفساد حديث عبد الله بن لهيعة. أخرجه معلقًا عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأخرجه الدارقطني (¬1): حدثني عمر بن محمد بن القاسم الأصبهاني، ثنا محمد بن أحمد بن راشد، ثنا موسى بن عامر، ثنا الوليد، قال: قال ابن أبي ذئب: أخبرني نافع، عن ابن عمر: "أن رجلًا زوج ابنته بكرًا فكرهت ذلك، فأتت النبي -عليه السلام- فرد نكاحها، وقال الدارقطني: لا يثبت هذا عن ابن أبي ذئب، عن نافع. والصواب: حديث ابن أبي ذئب، عن عمر بن حسين، عن نافع، عن ابن عمر. وقال (¬2): ثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وأحمد بن الفرج بن سليمان أبو عتبة الحمصي، قالا: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا ابن أبي ذئب، عن عمر بن حسين، عن نافع، عن ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (3/ 236 رقم 59). (¬2) "سنن الدارقطني" (3/ 229 رقم 35).

عبد الله بن عمر: "أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى رسول الله -عليه السلام-، وقالت: إن ابنتي تكره ذاك، فأمره النبي -عليه السلام- أن يفارقها ففارقها، وقال: لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإذا سكتن فهو إذنها، فتزوجها عبد الله بن المغيرة بن شعبة". ص: ثم قد وجدنا حديثًا قد روي في أمر ابنة نعيم النحام يدل على أنها كانت أيمًا: حدثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: أنا حاتم بن إسماعيل، عن الضحاك بن عثمان، عن يحيى بن عروة، عن أبيه: "أن عبد الله بن عمر أتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني خطبت ابنة نعيم النحام، وأريد أن تمشي معي فتكمله لي، فقال عمر - رضي الله عنه -: إني أعلم بنعيم منك، إن عنده ابن أخ له يتيمًا، ولم يكن لينقض لحوم الناس وَيُترِّب لحمه، فقال: إن أمها قد خطبت إليّ، فقال عمر - رضي الله عنه -: إن كنت فاعلًا فاذهب بعمك زيد بن الخطاب، قال: فذهبا إليه فكلماه، قال: فكأنما سمع مقالة عمر - رضي الله عنه -، فقال: برضائك وأهلًا، وذكر من منزلته وشرفه، ثم قال: إن عندي ابن أخ لي يتيمًا، ولم أكن لأنفض لحوم الناس وأترِّب لحمي. قال: فقالت أمها من ناحية البيت: والله لا يكون هذا حتى يقضي به علينا رسول الله -عليه السلام- أتحبس أيمًا بني عدي على ابن أخيك سفيه، قال: أو ضعيف، قال: ثم خرجت حتى أتت رسول الله -عليه السلام- فأخبرته الخبر، فدعا نعيمًا فقص عليه كما قال لعبد الله بن عمر، فقال رسول الله -عليه السلام- لنعيم: صل رحمك وارض أيمك وأمها؛ فإن لهما من أمرهما نصيبًا". ففي هذا الحديث أن ابنة نعيم النحام كانت أيمًا؛ لذلك أبعد أن يكون رسول الله -عليه السلام- أجاز نكاح أبيها عليها وهي كارهة. ش: أخرجه بإسناد صحيح، عن القاسم بن عبد الله بن مهدي بن يونس

الأنصاري المصري، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري قاضي مدينة الرسول -عليه السلام- وشيخ الجماعة سوى النسائي، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن الضحاك بن عثمان بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني الكبير، عن يحيى بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وأخرجه البيهقي (¬1): من حديث عروة، عن ابن عمر، نحوه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "سنن البيهقي الكبرى" (7/ 116 رقم 13443).

ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة ش: أي هذا باب في بيان مقدار المال الذي يملكه الرجل فيحرم عليه أخذ الصدقة. ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، قال: حدثني سهل بن الحنظلية، قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم". قلت: يا رسول الله وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم". حدثنا الربيع المرادي، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. . . . ثم ذكر مثله بإسناده. ش: هذان طريقان: الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أيوب بن سويد أبي مسعود الحميري السسيباني -بالسين المهملة- قال أحمد: ضعيف. وقال يحيى: ليس بشيء يسرق الأحاديث. وقال النسائي: ليس بثقة. يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي الدمشقي روى له الجماعة، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي روى له الجماعة، عن أبي كبشة السلولي الشامي، وثقه العجلي، وقال: تابعي شامي ثقة. وقال أبو حاتم: لا أعلم أنه سُمي. روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. يروي عن سهل بن عمرو الأنصاري، والحنظلية أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل: أم جده، واسمها أم إياس بنت أبان.

وأخرجه أبو داود (¬1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا مسكين، نا محمد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، نا سهل بن الحنظلية، قال: "قدم علي رسول الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألاه فأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي -عليه السلام- مكانه، فقال: يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس؟ فأخبر معاوية بقوله رسول الله -عليه السلام-، فقال رسول الله -عليه السلام-: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار -وقال النفيلي في موضع آخر- من جمر جهنم، فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ -وقال النفيلي في موضع آخر وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ - قال: قدر ما يغديه ويعشيه، -وقال النفيلي في موضع آخر- أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم". الثاني: عن الربيع بن سليمان المؤذن المرادي المصري صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي، عن ربيعة بن يزيد. . . . إلى آخره. وأخرجه الطبراني (¬2): عن يحيى بن عبد الباقي المصيصي، عن محمد بن مصفى، عن عمر بن عبد الواحد، عن ابن جابر، عن ربيعة بن يزيد قال: "قدم أبو كبشة السلولي دمشق فسأله عبد الله بن عامر اليحصبي: ما الذي أقدمك، لعلك أردت أن تسأل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: والله لا أسأل أحدًا شيئًا، بعد الذي حدثني سهل بن الحنظلية، قال: كنت عند رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث بطوله، وفيه: "من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم. فقلت: يا رسول الله، وما ظهر الغنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو يعشيهم". ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2/ 117 رقم 1629). (¬2) "المعجم الكبير" (6/ 96 رقم 5620).

ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن من ملك هذا المقدار حرمت عليه الصدقة ولم تحل له المسألة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل، روى عنه ذلك أبو عمر، وقال: ومِنْ أحسن ما رأيت من مذهب أهل الورع ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يُسأل عن المسألة متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغديه ويعشيه، على حديث سهل بن الحنظلية، قيل له: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر، قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له، ثم قال: لا أظن أحدًا يموت من الجوع، الله يأتيه برزقه. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من ملك أوقية من الورق وهي أربعون درهمًا أو عدلها من الذهب حرمت عليه الصدقة ولم تحل له المسألة، ومن ملك ما دون ذلك لم تحرم عليه الصدقة. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الحسن البصري، وأبا عبيد ومالكًا في رواية الوليد عنه، فإنهم قالوا: من ملك أربعين درهمًا أو ما يساويها من الذهب حَرُمت عليه الصدقة، وهو معنى قوله: "أو عدلها من الذهب" بفتح العين وبكسرها بمعنى المثل، وقيل: هو بالفتح ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: "أتيت رسول الله -عليه السلام- فسمعته يقول لرجل يسأله: من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا، والأوقية يومئذ أربعون درهمًا". وبما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك. . . . فذكر بإسناده مثله.

وبما حدثنا يزيد، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم. . . . ثم ذكر بإسناده مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الرجل الأسدي. أخرجه من ثلاث طرق صحاح: الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد. وأخرجه مالك في "موطإه" (¬1) بأتم منه: عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: "نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله -عليه السلام- فسله لنا شيئًا نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله -عليه السلام- فوجدت عنده رجلًا يسأله ورسول الله -عليه السلام- يقول: لا أجد ما أعطيك، فتولّى الرجل وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت، فقال رسول الله -عليه السلام-: إنه ليغضب عليّ أني لا أجد ما أعطيه؟! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا، فقال الأسدي: للقحتنا خير من أوقية، قال: والأوقية أربعون درهمًا، قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله -عليه السلام- بعد ذلك بشعير وزيت، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله". الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك. وأخرجه أبو داود (¬2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم. . . . إلى آخره نحوه. الثالث: عن يزيد أيضًا، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد. ¬

_ (¬1) "موطأ مالك" (2/ 999 رقم 1816). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 116 رقم 1627).

وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا". قوله: "وعنده أوقية" قد مر الكلام فيه مستوفى في كتاب الزكاة، وقال أبو عمر: الأوقية إذا أطلقت فإنما يراد بها الفضة دون الذهب وغيره، هذا قول العلماء، والأوقية أربعون درهمًا وهي بدراهمنا اليوم ستون درهمًا أو نحوها. قوله: "أو عدلها" يريد قيمتها، يقال: هذا عَدْل الشيء، أي: ما يساويه في القيمة، وهذا عِدْله -بكسر العين- أي: نظيره ومثله في الصورة والهيئة. قوله: "إلحافًا" من ألحف في المسألة: إذا بالغ فيها وألح، يقال: ألح وألحف، وقيل: ألحف شمل بالمسألة، ومنه اشتق اللحاف. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من ملك خمسين درهمًا أو عدلها من الذهب حرمت عليه الصدقة، ولم تحل له المسألة، ومن ملك ما دون ذلك لم تحرم عليه الصدقة. ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وسفيان الثوري والحسن بن حي وعبد الله بن المبارك ومالكًا في رواية وأحمد في الأصح والشافعي في قول وإسحاق؛ فإنهم قالوا: تحرم الصدقة على من يملك خمسين درهمًا أو عدلها من الذهب. وقال ابن قدامة: قال مالك والشافعي: لا حَدَّ للغنى معلومًا، وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة، وهو اختيار أبي الخطاب من أصحابنا، وعن أحمد مثله. وقال أبو عمر: قال الشافعي: يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى حد الغنى، كان ذلك يجب فيه الزكاة أو لا، ولا أحدُّ ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (4/ 36 رقم 16458).

لذلك حدًّا. ذكره المزني والربيع عنه ولا خلاف عنه في ذلك، وكان الشافعي يقول أيضًا: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه، ولا غنية الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي. وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قالا: ثنا سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شيئًا أو كدوحًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، وما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب". حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: ثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان الثوري. . . . فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "كدوحًا في وجهه" ولم يشك، وزاد: فقيل لسفيان: لو كان غير حكيم؟ فقال: حدثنا زبيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه من ثلاث طرق: الأول: عن حسين بن نصر، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن يزيد النخعي الكوفي، عن أبيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه أحمد في "مسنده" (¬1): ثنا وكيع، نا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "مسند أحمد" (1/ 441 رقم 4207).

"من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوحًا في وجهه، قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب". الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه الدارمي في "مسنده" (¬1): أنا أبو عاصم ومحمد بن يوسف، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي -عليه السلام-. . . . بنحوه. الثالث: عن أحمد بن خالد البغدادي، عن أبي هشام محمد بن يزيد بن محمد ابن كثير الرفاعي شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره. وأخرجه الأربعة من هذا الطريق: فقال أبو داود (¬2): حدثنا الحسن بن علي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو كدوح أو خدوش في وجهه، فقيل: يا رسول الله وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب". قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال الترمذي (¬3): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره نحوه. ¬

_ (¬1) "سنن الدارمي" (1/ 473 رقم 1641). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 116 رقم 1626). (¬3) "جامع الترمذي" (3/ 41 رقم 651).

وقال النسائي (¬1): أنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره نحوه. وقال ابن ماجه (¬2): حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره. فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟ قلت: قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. وقال ابن حزم: حكيم بن جبير ساقط، ولم يسنده زبيد، ولا حجة في مرسل. وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا: أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده، وإنما قال فيه: فقد حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قال أحمد: فكأنه أرسله أو كره أن يحدث به. وقال النسائي: لا نعلم أحدًا قال في هذا الحديث: زبيد، عن يحيى بن آدم، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم ضعيف، وسئل شعبة عن حديث حكيم فقال: أخاف النار، وقد كان روى عنه قديما، وسئل يحيى بن معين، هل يرويه أحد غير حكيم؟ فقال: نعم يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد، ولا أعلم أحدًا يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم لو كان كذا لحدث الناس به جميعًا عن سفيان، ولكنه منكر. قوله: "إلا جاءت شينًا" الضمير في جاءت يرجع إلى المسألة، وقوله "شينًا" نصب على الحال، و"الشَّيْن" بفتح الشين المعجمة، خلاف الزيْن. قوله: "أو كُدوحًا" عطف عليه، وهو بضم الكاف بمعنى الخدوش، وكل أثر من خدش أو عضٍّ فهو كدح، ويجوز أن يكون الكدوح مصدرًا سُمِّي به الأثر القبيح في الوجه، وأن يكون جمع كدح. ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 97 رقم 2592). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 589 رقم 1840).

و"الخدوش" من خدشت المرأة وجهها إذا خمشتها بظفر أو حديد، وهو أيضًا إما مصدر أو جمع خدش. قوله: "فقيل لسفيان" قد فسر هذا القائل في رواية أبي داود: أنه عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري. قوله: "حدثناه زُبيد" بضم الزاي وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وهو زبيد بن الحارث الكوفي الأيامي روى له الجماعة. ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من ملك مائتي درهم، حرمت عليه المسألة، ومن ملك دونها لم تحرم عليه المسألة، ولم تحرم عليه الصدقة أيضًا. ش: أي خالف الفرق الثلاثة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن شبرمة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يحرم السؤال على من ملك نصابًا من ذهب أو فضة، وإذا ملك أقل من ذلك لا يحرم عليه السؤال ولا الصدقة عليه أيضًا. ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني أبي، عن رجل من مزينة: "أنه أتى أمه فقالت: يا بني لو ذهبت إلى رسول الله -عليه السلام- فسألته، قال: فجئت إلى النبي -عليه السلام- وهو قائم يخطب الناس، وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافًا". ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الرجل المزني. أخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي بكر الحنفي واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد روى له الجماعة، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري الأوسي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن أبيه جعفر بن عبد الله بن الحكم بن شيبان بن رافع الأنصاري الأوسي المدني روى له الجماعة عن رجل من مزينة - رضي الله عنه -.

وجه الاستدلال به: أنه يخبر أن السؤال إنما يحرم إذا كان عنده عدل خمس أواق -أي قيمة خمس أواق- يريد ما يساوي خمس أواق في القيمة، وقد قلنا: إن الأوقية إذا أطلقت فالمراد بها أن تكون من الفضة، والأوقية أربعون درهمًا، فخمس أواق تكون مائتي درهم. ص: فلما اختلفوا في ذلك وجب الكشف عما اختلفوا فيه؛ لنستخرج من هذه الأقوال قولًا صحيحًا، فرأينا الصدقة لا تخلو من أحد وجهين: إما أن تكون حرامًا لا يحل منها إلا ما يحل من الأشياء المحرمات عند الضرورة إليها، أو تكون تحل إلى أن يملك مقدارًا من المال الحرام فتحرم على مالكه، فرأينا من ملك دون ما يغديه أو دون ما يعشيه كانت الصدقة له حلالًا باتفاق الفرق كلها، فخرج بذلك حكمها من حكم الأشياء المحرمات التي تحل عند الضرورة، ألا ترى أن من اضطر إلى الميتة أي الذي يحل له منها هو ما يمسك به نفسه لا ما يشبعه، حتى تكون له غداء أو حتى تكون له عشاء، فلما كان الذي يحل له من الصدقة هو بخلاف ما يحل من الميتة عند الضرورة، ثبت أنها إنما تحرم على مالك مقدار، فأردنا أن ننظر في ذلك المقدار ما هو؟ فرأينا من ملك دون ما يغدي أو دون ما يعشي لم يكن بذلك غنيًّا وكذلك من ملك أربعون درهمًا أو خمسين درهمًا أو ما هو دون مائتي درهم، فإذا ملك مائتي درهم كان بذلك غنيًّا؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قال لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - في الزكاة: "خذها من أغنيائهم واجعلها في فقرائهم" فعقلنا بذلك أن مالك المائتين غني، وأن مالك ما دونها غير غني، فثبت بذلك أن الصدقة حرام على مالك المائتي درهم فصاعدًا، وأنها حلال لمن يملك ما دون ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فلما اختلف أصحاب هذه المقالات الأربع في الحكم المذكور، وجب الكشف عن جهة اختلافهم فيه حتى يستخرج من أقوالهم القول الصحيح الذي يُعتمد عليه، وبين ذلك بقوله: "فرأينا الصدقة. . . . إلى آخره" وكل ذلك ظاهر،

غير أن ابن حزم اعترض فيه بشيء لا يَرِد أصلًا، وملخص ما قاله: أن لا حجة لهم فيما ذكروا من وجوه: الأول: أنهم يقولون بالزكاة على من له خمس من الإبل أو أربعون شاة، فمن أين وقع لهم أن يجعلوا حد الغنى بمائتي درهم دون خمس من الإبل أو دون أربعين شاة؟!. الثاني: أنه يلزمهم أن من له الدور العظيمة والجوهر ولا يملك مائتي درهم أن يكون فقيرًا يحل له أخذ الصدقة. الثالث: أنه ليس في قوله -عليه السلام-: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" دليل ولا نص بأن الزكاة لا تؤخذ إلا من غني ولا ترد إلا على فقير، وإنما فيه أنها تؤخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء فقط، وتؤخذ أيضًا بنصوص أخر من المساكين الذين ليسوا أغنياء، وترد على أغنياء كثيرين كالعامل، والغارمين، والمؤلفة قلوبهم، وفي سبيل الله، وفي ابن السبيل وإن كان غنيًّا في بلده؛ فهذه خمس طبقات أغنياء لهم حَقٌّ في الصدقة، وتؤخذ الصدقة من المسكين الذي ليس له إلا خمس من الإبل وله عشرة من العيال، وممن لم يصب إلا خمسة أوسق لعلها لا تساوي خمسين درهمًا، وله عشرة من العيال في عام سنة. قلت: هذه كلها تخاليط صادرة عن غير تروٍّ: الأول: أن قولهم: إن مالك المائتي درهم هو غني، ليس المراد منه أن يملك عين المائتين حتى يعد غنيًّا، بل الغني هو الذي يملك مائتي درهم أو ما يساوي مائتي درهم؛ فإنه يصير بذلك غنيًّا فتحرم عليه الصدقة، ألا ترى إلى ما قال في الحديث: "وله عدل خمس أواق" أي وله ما يساوي مائتي درهم، ومن ملك خمس من الإبل السائمة وأربعين شاة يصير غنيًّا فتحرم عليه الصدقة وتجب عليه الزكاة. الثاني: أن من له الدور العظيمة إذا لم يملك مائتي درهم وكان محتاجًا إلى المسكن في دوره لا يصير به غنيًّا، فيجوز له أخذ الصدقة وقد روي عن الحسن أنه قال: "يعطى من الصدقة الواجبة من له الدار والخدم إذا كان

محتاجًا". وعن إبراهيم نحو ذلك، وعن سعيد بن جبير: "يعطى منها من له الفرس والدار والخدم". وعن مقاتل بن حيان: "يعطى منها من له العطاء في الديوان وله فرس". وهذا كله إذا كانت هذه الأشياء صاحبها محتاجًا إليها، حتى إذا كان غنى عنها فاضلًا عن حاجته الأصلية، وكان يساوي مائتي درهم يعد بذلك غنيًّا، فتحرم عليه الصدقة حينئذ، وأما الجوهر فلا يشبه هذه الأشياء؛ لأنه أعز الأموال وأنفسها، وليس هو من الحوج الأصلية، فصاحبه يعد غنيًّا إذا كان يساوي نصابًا. والثالث: تخليط أعظم من الأولين؛ وذلك لأن الذين عندهم أغنياء كالعامل ونحوه، ثم قال: تصرف إليهم الزكاة وهم أغنياء فليس كذلك. أما العامل فلأنه لا تصرف إليه الزكاة لكونه فقيرًا بل لأجل عمله حتى لا تصرف إليه إلا مقدار عمله، فيصير هذا في نفس الأمر جعالة إلا إذا كان العامل فقيرًا، فحيئنذ تصرف إليه أكثر من عمله. وأما الغارم فهو المديون المستغرق وهو فقير بل أشد الفقراء. وأما المؤلفة قلوبهم فقد سقطوا عن الزكاة، وأما الذي في سبيل الله فهو إما منقطع الحاج، أو منقطع الغزاة، وكل منهما في ذلك الوقت فقيرًا محتاجًا. وأما ابن السبيل، فإنه فقير بلا شك، وإن كان غنيًّا بالنسبة إلى ماله الغائب عنه. وأما الذين عندهم فقراء ثم قال: تؤخذ منهم الزكاة فليس كذلك؛ لأن من له خمس من الإبل السائمة أو خمسة أوسق تجب عليه الزكاة، فكيف يكون فقيرًا؟! والفقير من لا شيء له أو من له أدنى شيء؟ وهذا معه نصاب شرعي، فكيف يعد فقيرًا؟ ولو كان عنده عائلة مستكثرة، ألا ترى أنه لا تسقط عنه الزكاة لكثرة عياله؛ فافهم.

ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة ش: أي هذا باب في بيان فرض الزكاة في الإبل السائمة إذا زادت على مائة وعشرين، وهذا آخر أبواب الزيادات التي ألحقها بالكتاب، وبه نختم الكتاب إن شاء الله تعالى. ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حبيب بن أبي حبيب، قال: ثنا عمرو بن مرة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: "لما استُخلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله -عليه السلام- في الصدقات، وكتاب عمر - رضي الله عنه -، فوجد عند آل عمرو بن حزم كتاب رسول الله -عليه السلام- إلى عمرو بن حزم في الصدقات، ووجد عند آل عمر - رضي الله عنه - في الصدقات مثل كتاب رسول الله -عليه السلام- فنسخا، فحدثني عمرو أنه طلب محمَّد بن عبد الرحمن أن ينسخ ما في ذينك الكتابين، فنسخ له ما في هذا الكتاب، فقال مما في ذلك الكتاب: إن الإبل إذا زادت على تسعين واحدة ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا بلغت عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها دون العشر شيء، فإذا بلغت ثلاثين ومائة فيها بنتا لبون وحقة إلى أن تبلغ أربعين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حُقَّتان وابنة لبون إلى أن تبلغ خمسين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق، ثم أجرى الفرض كذلك حتى تبلغ ثلاث مائة، فإذا بلغت ثلاثمائة ففيها من كل خمسين حقة، ومن كل أربعين ابنة لبون". ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وحبيب بن أبي حبيب الجرمي البصري صاحب الأنماط، وإن كان تُكلم فيه فقد أخرج له مسلم في "صحيحه". وعمرو بن حزم الأزدي البصري من رجال مسلم أيضًا.

ومحمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري أبو الرجال روى له الجماعة (¬1). والحديث أخرجه الدارقطني في "سننه" (¬2): نا إسماعيل بن محمَّد الصفار، نا محمَّد بن عبد الملك الدمشقي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هَرِم، أن محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري حدثه: "أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - حين اسْتُخلف أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله -عليه السلام-. . . ." الحديث إلى آخره نحوه. وأخرجه البيهقي في "سننه" (¬3): أيضًا من حديث يزيد بن هارون، أنا حبيب بن أبي حبيب، نا عمرو بن هَرِم، حدثني محمَّد بن عبد الرحمن -يعني أبا الرجال- قال: "لما استخلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. . . ." إلى آخره نحوه. قوله: "حقتان" الحقة والحُقُّ هو الذي استكمل السنة الثانية؛ قاله الهروي، وقال غيره: هو ما كان ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرابعة، وقيل: هو ما دخل في السنة الرابعة إلى آخرها، وسميت حقة لأخها استحقت أن يضربها الفحل، وقيل: لأن أمها استحقت الحمل والركوب، وقيل: لأن أمها استحقت الحمل من العام المقبل، وطروقة الفحل معناها زوجة الفحل، وكل امرأة طروقة زوجها، وكل ناقة طروقة فحلها، واشتقاقها من الطرق وهو ماء الفحل، وقيل: هو الضراب، ثم سمي به الماء، واستطراق الفحل: استعارته للضراب، وإطراقه: إعارته. قوله: "ففيها بنتا لبون" هي ولد الناقة إذا استكملت الثانية ودخلت في الثالثة؛ لأن أمها قد وضعت غيرها فصار لها لبن. ¬

_ (¬1) لم يرو له أبو داود ولا الترمذي شيئًا، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال". (¬2) "سنن الدارقطني" (2/ 117 رقم 5). (¬3) "سنن البيهقي الكبرى" (4/ 91 رقم 7050).

ويستفاد منه أحكام: الأول: أن الإبل إذا زادت على تسعين واحدة ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، ولا خلاف في هذا. الثاني: أن الإبل إذا بلغت مائة وعشرين وزادت عليه ففيه خلاف، فقال مالك: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة لا يجب في الزيادة شيء إلى تسع بل تجعل التسعة عفو، ويجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فيجب في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون إلى مائتين، فإن شاء أدى من المائتين أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون فتدار النصب على الخمسينات والأربعينات، والواجب يدور على الحقاق وبنات اللبون، وذهب مالك في ذلك إلى الحديث المذكور. الثالث: أن الإبل إذا بلغت ثلاثمائة ففيها في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، فيدور على الخمسينات والأربعينات. ص: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا به. ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن إسحاق صاحب المغازي ومالك بن أنس وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأحمد في رواية؛ فإنهم ذهبوا في فرض الإبل بعد المائة والعشرين إلى ما ذكر في الحديث المذكور. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما زاد على العشرين والمائة ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وتفسير ذلك: أنه إذا زادت الإبل بعيرًا واحدًا على عشرين ومائة وجب بزيادة هذا البعير حكم ثان غير حكم العشرين والمائة، فوجب في كل أربعين ابنة لبون، ثم يجرون ذلك كذلك حتى تبلغ الزيادة

تمام المائة والثلاثين، فيجعلون فيها حقة وابنتي لبون، ثم يكون ذلك كذلك حتى تتناهى الزيادة إلى أربعين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة كان فيها حقتان وابنة لبون إلى خمسين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة كان فيها ثلاثة حقاق، ثم يجرون الفرض في الزيادة على ذلك كذلك أبدًا. ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وقال ابن قدامة: ظاهرًا أنها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، وقد بين ذلك بقوله: "وتفسير ذلك. . . . إلى آخره" وهو ظاهر. ص: واحتجوا في ذلك من الآثار بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثني أبي، عن ثمامة بن عبد الله، عن أنس - رضي الله عنه -: "أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما اسْتُخْلِف وَجَّهَ أنس بن مالك إلى البحرين فكتب له هذا الكتاب: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -عليه السلام- على المسلمين التي أمر الله -عز وجل- بها رسوله، فمن سُئِلَها من المؤمنين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه، فكان في كتابه ذلك: أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: "أرسلني ثابت البناني إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس الأنصاري ليبعث إليه بكتاب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس بن مالك حين بعثه مصدقًا، قال حماد: فدفعه إليّ، فإذا عليه خاتم رسول الله -عليه السلام-، فإذا فيه ذكر فريضة الصدقات. . . ." ثم ذكر مثل حديث ابن مرزوق. وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحكم بن موسى أبو صالح، قال: ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد

ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، ثم ذكر فيما زاد على العشرين والمائة من الإبل كذلك أيضًا". وحدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن عمارة بن غزية الأنصاري، عن عبد الله بن أبي بكر الأنصاري، أخبره أن هذا كتاب رسول الله -عليه السلام- لعمرو بن حزم في الصدقات، فذكر فيما زاد على العشرين والمائة من الإبل كذلك أيضًا. وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- كتب لعمرو بن حزم فرائض الإبل. . . ." ثم ذكر فيما زاد على العشرين والمائة كذلك أيضًا. وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: "نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، فوعيتها على وجهها، وهي التي نسخ عمر بن عبد العزيز من سالم وعبد الله ابني ابن عمر حين أُمِّرَ على المدينة، وأمر عماله بالعمل بها. . . ." ثم ذكر هذا الحديث. قالوا: وقد عمل بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فذكروا في ذلك ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن أسماء، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يأخذ على هذا الكتاب، فذكر فرائض الإبل، وفيما ذكر منها: أن ما زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة". ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بآثار وهي سبعة: الأول: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضيها وشيخ البخاري، عن أبيه

عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضيها، عن جده أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري (¬1): ثنا محمَّد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنسًا حدثه، أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -عليه السلام- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئِلَها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطي، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستة وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت يعني ستًّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. . . ." الحديث بتمامه. وأخرجه ابن ماجه (¬2) أيضًا نحوه. الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره. وهذا أيضًا إسناد صحيح. وأخرجه أبو داود (¬3) مطولًا جدا: نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، قال: ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2/ 527 رقم 1386). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1/ 575 رقم 1800). (¬3) "سنن أبي داود" (2/ 96 رقم 1567).

"أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابًا زعم أن أبا بكر- رضي الله عنه - كتب لأنس وعليه خاتم رسول الله -عليه السلام- حين بعثه مصدقًا، وكتب له، فإذا فيه: فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله -عليه السلام- على المسلمين، التي أمر الله بها نبيه -عليه السلام-، فمن سُئِلَها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئِلَ فوقها فلا يعطه: فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسًا وثلاثين، فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستًّا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستًّا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. . . ." الحديث. وأخرجه النسائي (¬1) أيضًا. الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح الحكم بن موسى البغدادي شيخ مسلم وأبي داود، عن يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الدمشقي، عن سليمان بن داود الخولاني الدمشقي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد. . . . إلى آخره. وقد تكلموا في هذا الحديث بسبب سليمان بن داود، قال ابن المديني: سليمان بن داود الذي يروي عن الزهري حديث عمرو بن حزم في الديات منكر الحديث. وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه إذا انفرد. والحديث أخرجه النسائي في "سننه" (¬2) وقال: أخبرنا عمرو بن منصور، ¬

_ (¬1) "المجتبى" (5/ 18 رقم 2447)، (5/ 27 رقم 2455). (¬2) "المجتبى" (8/ 57 رقم 4853) القسم الخاص بالديات، أما الزكاة فلم يخرجه، وإنما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (14/ 501 رقم 6559) بنفس هذه الألفاظ.

قال: أنا الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود الخولاني، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله -عليه السلام- كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم: بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قَيْلِ ذي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد: فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار وما سقت السماء وكان سيحًا أو كان بعلًا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعًا وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض، فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمسًا وثلاثين، فإذا زادت ففيها ابنة لبون، إلى أن يبلغ خمسًا وأربعين، فإذا زادت ففيها حقة طروقة الجمل، إلى أن تبلغ ستين، فإذا زادت ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسًا وسبعين، فإذا زادت ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زاد على العشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل. . . ." الحديث. الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عمارة بن غزية الأنصاري، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أخبره أن هذا كتاب رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره. وأخرجه ابن وهب في "مسنده". وابن لهيعة فيه مقال. الخامس: عن أحمد بن داود بن موسى المكي، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن عبد الله بن أبي بكر. . . . إلى آخره.

وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (¬1): عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر. . . . إلى آخره. السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب، قال: نسخت كتاب رسول الله -عليه السلام-. . . . إلى آخره. وهذا إسناد صحيح ولكنه مرسل. وأخرجه أبو داود (¬2): نا محمَّد بن العلاء، أنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: "هذه نسخة كتاب رسول الله -عليه السلام- الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من عبد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -. . . ." فذكر الحديث. قال: "فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها ابنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعًا وثلاثين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعًا وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها: ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعًا وخمسين ومائة، فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وستين ومائة، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعًا وسبعين ومائة، فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وابنتا لبون حتى تبلغ تسعًا وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وابنة لبون حتى تبلغ تسعًا وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أَيُّ السنين وجدت. . . ." الحديث. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (4/ 4 رقم 6793). (¬2) "سنن أبي داود" (2/ 98 رقم 1570).

السابع: عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح موقوف. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا وكيع، نا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". قوله: "هذه فريضة الصدقة" معنى الفرض الإيجاب؛ وذلك أن الله تعالى أوجبها وأحكم فرضها في كتابه العزيز، ثم أمر رسوله بالتبليغ، فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء إليه، وحمل الناس عليه، وقد فرض الله طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله فرضًا على هذا المعنى. وقد قيل: معنى الفرض هاهنا بيان التقدير، ومنه فرض نفقة الأزواج، وفرض أرزاق الجند، ومعناه راجع إلى قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2). وقيل: معنى الفرض هنا: السنة، ومنه ما روي: "أنه -عليه السلام- فرض كذا" أي سَنَّهُ. قوله: "فمن سئلها" أي من سئل الصدقة من الزكاة، من المسلمين على وجهها أي على حسب ما سَنَّ رسول الله -عليه السلام- من فرض مقاديرها. قوله: "ومن سئل فوقها" أي فوق الفريضة فلا يعطيه، والمعنى لا يعطي الزيادة على الواجب، وقيل: لا يعطي شيئًا من الزكاة لهذا المصدق؛ لأنه خان بطلبه فوق الواجب، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. قوله: "حين بعثه مُصَدِّقًا" نصب على الحال من الضمير المنصوب في بعثه، والمصدِّق -بكسر الدال المشددة- وهو عامل الزكاة الذي يستوفيها من أربابها، ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 359 رقم 9893). (¬2) سورة النحل، آية: [44].

يقال: صدقهم يصدقهم، وقد جاءت اللغة مشددة الصاد والدال معًا، وكسر الدال في طالب الصدقة، وأنكره ثعلب، وقال الخطابي: المصدِّق بتخفيف الصاد: العامل. قوله: "فإذا عليه خاتم رسول الله -عليه السلام-" أي طابعه وعلامته؛ لأن خاتم الكتاب يصونه ويمنع الناظرين عما في باطنه، وتفتح تاؤه وتكسر على اللغتين. ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: "ما زاد على العشرين من الإبل استؤنفت فيه الفريضة، فكان في كل خمس منهن شاة حتى تتناهى الزيادة إلى خمس وعشرين، فيكون فيها ابنة مخاض إلى تسع وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق، ثم كذلك الزيادة ما كان دون الخمسين ففيها فرائض مستأنفات على حكم أول فرض الإبل، فإذا أكملت خمسين ففيها حقة". ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله-؛ فإنهم قالوا: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنف فيها الفرض ففي الخمس شاة، وفي العشرين شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض إلى تسع وأربعين ومائة، فإذا صارت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق في كل خمسين حقة، ثم يستأنف الفرض فلا شيء في الزيادة ما لم تبلغ خمسًا فيكون فيها شاة وثلاث حقاق وفي العشر شاتان وثلاث حقاق وفي خمسة عشر ثلاث شياه وثلاث حقاق، وفي عشرين أربع شياه وثلاث حقاق، فإذا بلغت مائة وخمسة وسبعين ففيها بنت مخاض وثلاث حقاق، فإذا بلغت مائة وستة وثمانين ففيها بنت لبون وثلاث حقاق إلى مائة وستة وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين، فإن شاء أدى منها أربع حقاق في كل خمسين حقة، وإن شاء أدى خمس بنات لبون في كل أربعين بنت لبون، ثم يستأنف الفرض أبدا في كل خمسين كما استؤنف في مائة وخمسين إلى مائتين فيدخل فيها بنت مخاض وبنت لبون مع الحقة والشاة.

ص: واحتجوا في ذلك من الآثار: بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: قلت لقيس بن سعد: "اكتب لي كتاب أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، فكتبه لي في ورقة، ثم جاء بها وأخبرني أنه أخذه من أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وأخبرني أن النبي -عليه السلام- كتبه لجده عمرو بن حزم - رضي الله عنه - في ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فكان في ذلك: أنها إذا بلغت تسعين ففيها حقتان إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، فما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، فما كانت أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة". وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد بن سلمة. . . . ثم ذكر مثله. ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من الآثار بما حدثنا .. إلى آخره. وأخرجه من طريقين رجالهما ثقات. الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخَصِيب بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، قال: قلت لقيس بن سعد، وهو: قيس بن سعد أبو عبد الملك المكي، قال أحمد وأبو زرعة وابن سعد: ثقة. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (¬1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال حماد: قلت لقيس بن سعد: "خذ لي كتاب محمَّد بن عمرو، فأعطاني كتابًا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن عمرو بن حزم، أن النبي -عليه السلام- كتب لجده يقرأ به، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل -فقص الحديث إلى أن بلغ- عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، ما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة، ليس فيها ذكر ولا هرمة ولا ذوات عوار من الغنم". ¬

_ (¬1) "المراسيل" لأبي داود (1/ 128 رقم 106).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ أبي داود وابن ماجه، عن حماد بن سلمة. وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده": من حديث حماد. . . . نحوه. فإن قيل: قال ابن الجوزي: هذا الحديث مرسل، وقال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهري وابن المبارك وأبو أويس؛ كلهم عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: مثل قولنا. ثم لو تعارضت الروايتان عن عمرو بن حزم، بقيت روايتان عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهي في "الصحيح" وبها عمل الخلفاء الأربعة، وقال البيهقي: هذا حديث منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي -عليه السلام-، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة وإن كانا من الثقات؛ فروايتهما هذه تخالف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره. وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ويتجنبون ما ينفرد به، وخاصة عن قيس بن سعد وأمثاله. قلت: الأخذ من الكتاب حجة، صرح البيهقي نفسه في كتاب "المدخل": أن الحجة تقوم بالكتاب وإن كان السماع أولى منه بالقبول، والعجب من البيهقي أن يصرح بمثل هذا القول ثم ينفيه في الموضوع الذي تقوم عليه الحجة. وقوله: "وبها عمل الخلفاء الأربعة" غير مسلم؛ لأن ابن أبي شيبة روى في "مصنفه": عن يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، يستقبل بها الفريضة"، وعن يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله، فإن قلت قال البيهقي: قال الشافعي في كتابه القديم: راوي هذا مجهول عن علي - رضي الله عنه -، وأكثر الرواة عن ذلك المجهول، يزعم أن الذي روى هذا عنه غلط عليه وأن هذا ليس في حديثه.

قلت: الذي رواه عن علي هو عاصم بن ضمرة كما ذكرنا، وهو ليس بمجهول، بل هو مشهور روى عنه الحكم وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما، ووثقه ابن المديني والعجلي، واحتجت به الأربعة. وأن مراد الشافعي بقوله: "يزعم" أن الذي روى هذا عنه غلط عليه أبا إسحاق السبيعي، فلم يقل أحد غيره أنه غلط. وقد ذكر البيهقي وغيره عن يعقوب الفارسي وغيره من الأئمة أنهم أحالوا بالغلط على عاصم. وأما قول البيهقي: "وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخره عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما خالف فيه". فكلام صادر عن نفيسة وتمحل؛ لأنه لم ير أحد من أئمة هذا الشأن ذكر حمادًا بشيء من ذلك، والعجيب منه أنه اقتصر فيه على هذا المقدار؛ لأنه ذكره في غير هذا الموضع بأسوأ منه. وقوله: "وخاصة عن قيس بن سعد" باطل؛ وما لقيس بن سعد؟! فإنه ثقة، وثقه كثيرون. ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما اختلفوا في ذلك، وجب النظر لنستخرج من هذه الأقوال الثلاثة قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك فرأيناهم جميعًا قد جعلوا العشرين والمائة نهاية لما وجب فيما زاد على التسعين، وقد رأينا ما جعل نهاية فيما قبل ذلك إذا زادت الإبل عليه شيئًا وجب بزيادتها فرض غير الفرض الأول، من ذلك أنا وجدناهم جعلوا في خمس من الإبل شاة، ثم بينوا لنا أن الحكم كذلك فيما زاد على الخمس إلى التسع، فإذا زادت واحدة أوجبوا بها حكمًا مستقلًا، فجعلوا فيها شاتين، ثم بينوا لنا أن الحكم كذلك فيما زاد إلى أربع عشرة، فإذا زادت واحدة أوجبوا بها حكمًا مستقلًا؛ فجعلوا فيها ثلاث شياه، ثم بينوا لنا أن الحكم كذلك فيما زاد إلى العشرين؛ فإذا كانت عشرين ففيها أربع

شياه، ثم أجروا الفرض كذلك إلى عشرين ومائة، كلما أوجبوا شيئًا بينوا أنه الواجب فيما أوجبوه فيه إلى نهاية معلومة، فكلما زاد على تلك النهاية شيء انتقض به الفرض الأول إلى غيره أو إلى زيادة عليه، فلما كان ذلك وكانت العشرون والمائة قد جعلوها نهاية لما أوجبوه في الزيادة على التسعين، ثبت أن ما زاد على العشرين يجب به شيء إما زيادة على الفرض الأول وإما غير ذلك، فثبت بما ذكرنا فساد قول أهل المقالة الأولى، وثبت تغير الحكم بالزيادة على العشرين والمائة، ثم نظرنا بين أهل المقالة الثانية والمقالة الثالثة فوجدنا الذين يذهبون إلى المقالة الثانية يوجبون بزيادة البعير الواحد على العشرين والمائة رد حكم جميع الإبل إلى ما يجب فيه بنات اللبون في قولهم، وهو ما ذكرنا عنهم أن في كل أربعين ابنة لبون، فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الثالثة: أنا رأينا جميع ما يزيد على النهايات المسماة في فرائض الإبل فيما دون العشرين والمائة يتغير بتلك الزيادة الحكم وأن لتلك الزيادة حصة فيما وجب بها، من ذلك: أن في أربع وعشرين أربعًا من الغنم، فإذا زادت واحدة كانت فيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون، فكانت ابنة المخاض واجبة في الخمس والعشرين لا في بعضها، وكذلك ابنة اللبون واجبة في الستة والثلاثين كلها لا في بعضها، وكذلك سائر الفرض في الإبل حتى يتناهى إلى عشرين ومائة، لا ينتقل الفرض بزيادة لا شيء فيها بل ينتقل بزيادة فيها شيء، ألا ترى أن في عشر من الإبل شاتين، فإذا زادت بعيرًا فلا شيء فيه، ولا يتغير بزيادته حكم العشر التي كانت قبله، فإذا كانت الإبل خمس عشرة كانت فيها ثلاث شياه، فكانت الفريضة واجبة في البعير الذي كمل به ما يجب فيه ثلاث شياه، وفيما قبله، فلما كان ما ذكرنا كذلك وكانت الإبل إذا زادت بعيرًا واحدًا على عشرين ومائة بعير فكل قد أجمع أنه لا شيء قى هذا البعير؛ لأن الذين أوجبوا استئناف الفروض لم يوجبوا فيها شيئًا ولم يغيروا به حكمًا، والذين لم يوجبوا استئناف الفريضة من أهل المقالة الثانية جعلوا في كل أربعين

من العشرين والمائة ابنة لبون، ولم يجعلوا في البعير الزائد على ذلك شيئًا، فلما ثبت أن الفرض فيما قبل العشرين والمائة لا ينتقل إلا بما يجب فيه جزء من الفرض الواجب به، وكان البعير الزائد على العشرين والمائة لا يجب فيه شيء من فرض، ثبت أنه غير مغير فرض غيرها عما كان عليه قبل حدوثه؛ فثبت بما ذكرنا قول من ذهب إلى المقالة الثالثة، وممن ذهب إليها أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-. ش: أي فلما اختلف أصحاب المقالات الثلاثة في الحكم المذكور؛ وجب النظر فيه ليستخرج من الأقوال الثلاثة قول يعول عليه، ويرجع إليه. قوله: "فرأيناهم" أي أصحاب المقالات الثلاثة، والباقي كله ظاهر. والتحقيق في هذا، أن هذا باب لا يجري فيه قياس ولا يعرف فيه بالاجتهاد والترجيح في مثل هذا بين الأقوال، يكون بقوة الأثر، ولما كان وجوب الحقتين في المائة والعشرين ثابتا باتفاق الأخبار وإجماع الأمة لا يجوز إسقاطه إلا بمثله، وبعد المائة والعشرين اختلفت الآثار، فلا يجوز إسقاط ذلك الواجب عند اختلاف الأقاويل بالعمل بحديث عمرو بن حزم، على أنا قد عملنا بما استدل به الخصم لأنا أوجبنا في الأربعين بنت لبون، فإن الواجب في الأربعين ما هو الواجب في ست وثلاثين، وكذلك أوجبنا في خمسين حقة وحديث الخصم لا يتعرض لنفي الواجب عما دونه، وإنما عمل الخصم بمفهوم النص، فنحن عملنا بالنصين، وهو أعرض عن العمل بما ذهبنا إليه. ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل الكوفي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيب، عن أبي عبيدة وزياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "في فرائض الإبل إذا زادت على تسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا بلغت العشرين والمائة استقبلت

الفريضة في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين فرائض الإبل؛ فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة. ش: أي وقد روي فيما ذهب إليه أهل المقالة الثالثة عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه بإسناد صحيح: عن إسماعيل بن إسحاق الكوفي المعروف بترنجة نزيل مصر الصدوق، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن عبد السلام بن حرب الملائي، عن خصيف -بالفاء في آخره- بن عبد الرحمن الجزري، عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود وزياد ابن أبي مريم الجزري كلاهما، عن ابن مسعود. فإن قلت: قال الترمذي: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا. قلت: قال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين، وهذا سن التمييز ووقت الأمر للصبي بالصلاة، فالسماع في هذا جائز صحيح، والإثبات أولى من النفي لوجود القرينة، على أن هذا الأثر ذكر فيه أبو عبيدة متابعة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): ثنا عبد السلام، عن خصيف، عن أبي عبيدة وزياد بن أبي مريم، عن عبد الله نحوه. ص: وقد روي ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي، حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: أنا أبو عوانة، عن منصور بن المعتمر، قال: قال إبراهيم النخعي: "إذا زادت الإبل عن عشرين ومائة ردت إلى أول الفرض". ش: أي قد روي ذلك الحكم المذكور أيضًا عن إبراهيم بن يزيد النخعي. أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 359 رقم 9888).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬1): عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله. ص: فإن احتج أهل المقالة الثانية لمذهبهم، فقالوا: معنا الآثار المتصلة شاهدة لقولنا، وليس ذلك مع مخالفنا، قيل لهم: أما على مذهبكم فأكثرها لا تجب لكم به حجة على مخالفكم؛ لأنه لو احتج عليكم بمثل ذلك لم تسوغوه إياه، ولجعلتموه باحتجاجه بذلك عليكم جاهلًا بالحديث، فمن ذلك أن حديث ثمامة بن عبد الله إنما وصله عبد الله بن المثنى وحده، لا نعلم أحدًا وصله غيره، وأنتم لا تجعلون عبد الله بن المثنى حجة، ثم قد جاء حماد بن سلمة وقدره عند أهل العلم أجل من قدر عبد الله بن المثنى وهو ممن يحتج به فروى هذا الحديث عن ثمامة منقطعًا، فكان يجيء على أصولكم أن يكون هذا الحديث يجب أن يدخل في معنى المنقطع ويخرج من معنى المتصل، لأنكم تذهبون إلى أن زيادة غير الحافظ على الحافظ غير ملتفت إليها. وأما حديث الزهري عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم فإنما رواه عن الزهري سليمان بن داود وقد سمعت أن أبي يقول: سليمان بن داود هذا وسليمان بن داود الحراني عندهم ضعيفان جميعا، وسليمان بن داود الذي يروي عن عمر بن عبد العزيز عندي ثبت، ومما يدل على وهاء هذا الحديث: أن أصحاب الزهري المأخوذ علمًا عنهم مثل يونس وممن روى عن الزهري في ذلك شيئًا إنما روى عنه الصحيفة التي عند آل عمر - رضي الله عنه - أفترى الزهري يكون عنده فرائض الإبل عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده وهم جميعًا أئمة علم مأخوذ عنهم، فيسكت عن ذلك ويضطره إلى الرجوع إلى صحيفة غير مروية فيحدث الناس بها، هذا عندنا مما لا يجوز على مثله. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 361 رقم 9912).

ش: أهل المقالة الثانية هم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، فإنهم قالوا: نحن استدللنا فيما ذهبنا إليه بالأحاديث المتصلة، وأنتم معكم آثار منقطعة، فأجاب عنه الطحاوي بقوله: "قيل لهم. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر. قال البيهقي معترضا عليه في كتابه "المعرفة": هذا حديث صحيح موصول؛ إلا أن بعض الرواة قصر به فرواه كذلك -يعني مسندًا- أبي داود، ثم إن بعض من يدعي معرفة الآثار يعلق عليه، وقال: هذا منقطع، وأنتم لا تثبتون المنقطع، وإنما وصله عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس، وأنتم لا تجعلون ابن المثنى حجة، ولم يعلم أن يونس بن محمَّد المؤدب قد رواه عن حماد بن سلمة، عن ثمامة، عن أنس بن مالك، وقد أخرجناه في كتاب "السنن" وكذلك سريج بن النعمان، عن حماد بن سلمة به، ورواه إسحاق بن راهويه وهو إمام عن النضر بن شميل وهو أتقن أصحاب حماد، قال: ولا نعلم أحدًا استقصى في انتقاد الرواة واستقصاء محمد بن إسماعيل البخاري مع إمامته في معرفة علل الأحاديث وأسانيدها وهو قد اعتمد على حديث ابن المثنى وأخرجه في "صحيحه" وذلك لكثرة الشواهد له بالصحة. قلت: فيا للعجب من البيهقي حيث جعل العمدة في كلامه على حماد بن سلمة وقال في "سننه" في باب "من صلى وفي ثوبه أو نعله أذى" (¬1): حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، كل منهم مختلف في عدالته، وأما عبد الله بن المثنى فقد قال الساجي فيه: ضعيف منكر الحديث. وقال أبو داود: لا أخرج حديثه. وقال ابن الجوزي في كتابه "الضعفاء": أبو سلمة كان ضعيفًا في الحديث. ثم البيهقي كيف يقول: وروينا الحديث من حديث ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس من أوجه صحيحة، وقد قال الدارقطني في كتاب "التتبع على ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 402 رقم 3890).

الصحيحين": إن ثمامة لم يسمعه من أنس ولا سمعه عبد الله بن المثنى من ثمامة؟ وفي "الأطراف" للمقدسي: قيل لابن معين: حديث ثمامة عن أنس في الصدقات؟ قال: لا يصح، وليس بشيء، ولا يصح في هذا حديث في الصدقات. قوله: "وأما حديث الزهري، عن أبي بكر .. إلى آخره" إشارة إلى أن هذا الحديث الذي يرويه سليمان بن داود الخولاني عن الزهري غير صحيح، وقد بين علته. فإن قلت: قال البيهقي: أثنى على سليمان الخولاني هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان الدارمي وجماعة من الحفاظ، ورأوا هذا الحديث موصول الإسناد حسنًا. قلت: قال عبد الغني: قال الدارقطني: قد روي عنه -يعني سليمان- عن الزهري، عن أبي بكر بن حزم الحديث الطويل، لا يثبت عنه. وقال ابن المديني: منكر الحديث وضعفه. وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه إذا انفرد. وروى النسائي (¬1) هذا الحديث: من حديث يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري. ثم رواه من حديث يحيى، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، ثم قال: وهذا أشبه بالصواب. وسليمان بن أرقم متروك الحديث. وقال ابن معين: سليمان الخولانى لا يعرف، والحديث لا يصح. وقال مرة: ليس بشيء. ومرة: شامي ضعيف. وقال ابن حنبل: ليس بشيء. وفي "التمهيد" لابن عبد البر: قال أحمد بن زهير: سمعت ابن معين يقول: سليمان بن داود الذي يروي عن الزهري حديث الصدقات والديات مجهول لا يعرف. قوله: "وقد سمعت ابن أبي داود" وهو إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وقد ذكر هاهنا ثلاث أنفس اسم كل واحد سليمان واسم أبيه داود: ¬

_ (¬1) "المجتبى" (8/ 58 رقم 4854).

الأول: سليمان بن داود الخولاني الدمشقي، وقد سمعتَ الآن ما قالوا فيه وفي حديثه. والثاني: سليمان بن داود الحراني الملقب: ثومة، يروي عن الزهري، قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به. الثالث: سليمان بن داود الذي روى عن عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت. قوله: "وما يدل على وهاء هذا الحديث" أي على سقوطه وذهابه. ص: فإن قال قائل: فإن حديث معمر عن عبد الله بن أبي بكر حديث متصل لا مطعن لأحد فيه. قيل له: ما هو بمتصل؛ لأن معمرًا إنما رواه عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، وجده محمَّد بن عمرو، وهو لم ير النبي -عليه السلام-، ولا ولد إلا بعد أن كتب رسول الله -عليه السلام- هذا الكتاب لأبيه؛ لأنه إنما ولد بنجران قبل وفاة النبي -عليه السلام- سنة عشر من الهجرة، ولم ينقل إلينا في الحديث أن محمَّد بن عمرو روى هذا الحديث عن أبيه. فقد ثبت انقطاع هذا الحديث أيضًا، فأنتم لا تحتجون به، فقد ثبت أن كل ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب منقطع، فإن كنتم لا تسوغون لمخالفكم الاحتجاج بالمنقطع في غير هذا الباب، فَلِمَ تحتجون عليه به في هذا الباب؟! ولئن وجب أن يكون عدم الاتصال في موضع من المواضع يزيل قبول الخبر؛ إنه ليجب أن يكون كذلك هو في كل المواضع، ولئن وجب أن يقبل الخبر وإن لم يتصل إسناده لثقة من صمد به إليه في باب واحدٍ؛ إنه ليجب أن يقبل في كل الأبواب. ش: السؤال والجواب ظاهران. قوله: "فقد ثبت أن كل ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في هذا الباب منقطع" أشار به إلى أن الخصم ليس له حجة يقوم بها على دعواه فيما ذهب إليه؛ لأنه لا يرى المنقطع حجة، فكيف يحتج به؟! وقال يحيى بن معين: لا يصح في هذا الباب حديث.

قوله: "لثقة من صَمَدَ إليه" أي لثقة من قصد به إليه، من: صمده يَصْمده صمدًا: إذا قصده. ص: فإن قال قائل: أما حديث عمرو بن حزم فقد اضطرب واختلف فيه، فلا حجة فيه لواحد من أهل هذه المقالات، وغيره مما روي في هذا الباب أولى منه. قيل له: من أين اضطرب حديث عمرو بن حزم، أما قيس بن سعد فقد رواه عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم على ما قد ذكرناه عنه، وقيس حجة حافظ. وأما حديث الزهري الذي خالفه، فإنما رواه عن الزهري من لا تقبلون أنتم روايته عن الزهري لضعفه عندكم. وأما حديث معمر فالذي رواه عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، وعبد الله بن أبي بكر فليس في الثبت والإتقان كقيس بن سعد. ولقد حدثني يحيى بن عثمان، قال: سمعت ابن الوزير يقول: سمعت الشافعي يقول: سمعت سفيان ابن عيينة يقول: "كنا إذا رأينا الرجل يكتب الحديث عن واحد من أربعة -ذكر منهم: عبد الله بن أبي بكر- سخرنا منه؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الحديث، فلما لم يكافئ عبد الله بن أبي بكر قيسًا في الضبط والحفظ صار الحديث عندنا ما رواه قيس؛ لاسيما وقد ذكر قيس أن أبا بكر بن محمَّد كتبه له، وبالله التوفيق. هذا آخر كتاب الزيادات. ش: حاصل السؤال أن يقال: إنا إذا سلمنا انقطاع الأحاديث المذكورة، فنقول: حديث عمرو بن حزم الذي احتججتم به أنتم أيضا لا يصلح للاحتجاج؛ لاضطرابه والاختلاف فيه، فإذًا لا تقوم به حجة لأحد منا ومنكم، ويكون غير حديث عمرو بن حزم أولى منه؛ لعدم الطعن المذكور. والجواب عنه ظاهر، وهو في الحقيقة جواب عن طريق المنع، وبَيَّنَ ذلك بقوله: "أما قيس .. إلى آخره".

قوله: "وعبد الله بن أبي بكر فليس في الثبت والإتقان .. إلى آخره" أي: الإحكام، من: أتقن في الأمر: إذا أحكمه. فإن قلت: عبد الله بن أبي بكر احتج به الشيخان، وقيس بن سعد لم يخرج له البخاري شيئًا. قلت: لا يلزم من عدم تخريج البخاري له أن يكون أدنى من عبد الله بن أبي بكر، وقد أخرج له مسلم، وكفى في كون عبد الله بن أبي بكر أقوى من قيس في الحفظ والإتقان ما رواه يحيى بن عثمان بن صالح المصري شيخ الطحاوي والطبراني وابن ماجه، عن محمَّد بن الوزير المصري، عن الإِمام الشافعي، عن سفيان بن عيينة الإِمام في الحديث ما قاله عنه. فافهم. والله أعلم. وهذا آخر ما نقحناه من "نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار" ونقلنا فيه من قرائح الصدور ونتائج الأفكار، والحمد لله أولًا وآخرًا على تمامه وكماله، والصلاة على نبيه محمَّد وآله. (¬1) ¬

_ (¬1) كتب المؤلف -رحمه الله- هنا: تم تحرير هذا الجزء الثامن من المكمل للكتاب بعون الملك الوهاب، على يد مؤلفه العبد الفقير إلى الله تعالى: بدر الدين أبي محمَّد محمود بن أحمد العيني، عامله ربه ووالاه بلطفه الجلي والخفي، وقت الأذان يوم الجمعة المبارك الخامس والعشرين من جمادى الآخرة عام تسعة عشر وثمانمائة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات وأكمل التحيات.

§1/1